شَمسُ الأُصُول المجلد 4

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

آیة الله العظمی الحاج الشیخ شمس الدين الواعظي

دار المحجة البيضاء

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه

وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

مباحث القطع

اشارة

ص: 5

ص: 6

المبحث الأول: في القطع

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل :في ذاتيّة حجّيّة القطع وعدم قبولها للجعل والمنع:

اعلم: أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة له، وأنّ حجّيّة كلّ شيء لابدّ وأن تنتهي إلى القطع، أمّا الطريقيّة فهي من لوازم ذاتها كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة؛ فعلم أنّ جعل القطع بالجعل التشريعيّ لا يكاد يكون ممتنعاً؛ لأنّه يكون - حينئذٍ - من قبيل تحصيل ما هو الحاصل تكويناً بالتشريع؛ إذ لا معنى لأن يقال: إنّي جعلت النار حارّة تشريعاً.

وهذا خلافاً لما أفاده المحقّق الأصفهاني !من أنّ وجوب الإطاعة والمنجّزيّة للقطع قابلة للجعل؛ لأنّها من الاُمور الجعليّة (1).

ص: 7


1- نهاية الدراية 2: 35. قال): «وحيث عرفت أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة من اللّوازم الجعليّة العقلائيّة، فبناءً على أنّ جعل العقاب من الشارع، يصحّ القول بجعل المنجّزيّة للقطع شرعاً من دون لزوم محذور».

فإن قلت: إنّ القول بعدم قابليّة حجّيّة القطع للجعل وقياسه على اللّازم والملزوم في غاية البطلان؛ ضرورة أنّ اللّازم الذاتيّ لا ينفك عن ملزومه، فليس هناك أربعة ليست بزوج، فلو كانت الحجّيّة ذاتيّةً للقطع لما انفكت عنه، والتالي باطل؛ لأنّنا نرى أنّ القطع قد يصيب وقد لا يصيب، فالملزوم مثله.

قلت: نعم، لكنّه بنظر القاطع يكون مصيباً، ولذا كان قطع القطّاع حجّة للقاطع نفسه، فلا يجوز سلب الحجّيّة والطريقيّة عن القطع لامتناع سلب ما هو من لوازم الذات عنها.

وعليه: فلو قطع المكلّف بكون شيء خمراً وورد أنّ كلّ خمر حرام شربه، فيحصل من ضمّ هذه الصغرى إلى الكبرى علمه بحرمة شرب ما قطع بخمريّته، ولا يمكن نفي الحجّيّة عن مثل هذا القطع، وإلّا، لزم اجتماع الضدّين، أو النقيضين، بحسب اعتقاد القاطع؛ كما إذا تعلّق قطعه بحرمة شرب ماء الشعير - مثلاً - مع فرض حلّيّته واقعاً، فإنّ مقتضى هذا القطع هو حرمة شربه بحسب اعتقاده، فإذا ردع الشارععن حجّيّته، كان مقتضى ردعه جواز شربه، ومن المعلوم: أنّ الحرمة والجواز متضادّان، فلا يمكن صدورهما من الشارع.

ولا يخفى: أنّه ليس المراد من الحجّيّة هنا معناها المنطقيّ الذي هو عبارة عن الحدّ الأوسط الذي يكون بينه وبين الكبرى علاقة العلّيّة والمعلوليّة، كالتغيّر بالنسبة إلى حدوث العالم، ولا يكون القطع حجّة

ص: 8

بهذا المعنى، فلا يقال: هذا معلوم الخمريّة، وكلّ معلوم الخمريّة حرام، فهذا حرام؛ لأنّه حينئذٍ قياس غير منتج؛ وذلك لعدم ارتباط معلوم الخمريّة بالكبرى، لا بارتباط العلّيّة والمعلوليّة، ولا بارتباط التلازم، بداهة أنّ معلوم الخمريّة يمكن أن يكون خمراً، ويمكن أن لا يكون كذلك، فلا يكون معلوم الخمريّة حدّاً وسطاً، فلا يكون مثل هذا القطع حجّة باصطلاح المنطقيّ.

وحاصل الكلام: أنّ حجّيّة القطع لا تقبل الجعل، لأنّه إنّما يكون في المحمولات القابلة للانفكاك، أمّا المحمولات التي هي من لوازم الذات، فلا يمكن سلب الحجّيّة عنها، لا تكويناً ولا تشريعاً؛ لأنّها ثابتة لها من دون جعل، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة، فلا معنى لجعل الحجّيّة لها.

فانقدح: أنّ مورد الجعل التأليفيّ هو إثبات شيءٍ لشيءٍ لم يكن ثابتاً قبل الجعل، كالحرمة للخمر، فجعل الحجّيّة للقطع مع كونها من لوازمه الذاتيّة يلزم منه الخلف وتحصيل للحاصل، وكذا يلزم الخلف من سلبها عنه؛ لأنّه بعد فرض كون الحجّيّة من لوازم القطع، فكما لا يمكن إثبات الحجّيّة له بالجعل، فكذلك لا يمكن نفيها عنه، وإلّا، لزم أن لا تكون من لوازم ذات القطع، وهذا خلاف الفرض.

وكذلك انقدح: أنّ حجّيّة كلّ شيء لابدّ وأن تكون بالقطع، وأمّا حجّيّة القطع فإنّما تكون بنفسه، كما ذكرنا.

ص: 9

ثمّ إنّ الحجّيّة كما لا تكون حجّة باصطلاح المنطقيّ؛ لما مرّ، فهي - كذلك - لا تكون حجّة باصطلاح الاُصوليّ؛ لأنّ الضابط في المسألة الاُصوليّة هو - كما تقدّم مراراً - أن تقع نتيجتها كبرىً لقياسٍ، يُنتج، بعد ضمّ الصغرى إليها حكماً شرعيّاً كلّيّاً.وبعبارة ثانية: فإنّ الحجّة عند الاُصوليّ عبارة عن الأدلّة الشرعيّة من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلّقاتها بحسب الجعل الشرعيّ، من دون أن يكون بينها وبين المتعلّقات أيّة علقة ثبوتيّة بوجه من الوجوه، فإنّ متعلّقاتها: إن كانت من الموضوعات الخارجيّة، فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح؛ إذ لا علقة بين الظنّ بالخمريّة وبين نفس الخمر.

وكذا لا ثبوت للعلقة - أيضاً - إذا كانت المتعلّقات من الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة مترتّبة على موضوعاتها الواقعيّة، لا على ما أدّى إليه الدليل، وإلّا، لزم التصويب.

فظهر: أنّ مثل قولنا: (هذا مظنون الخمريّة، وكلّ مظنون الخمريّة فيجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه)، ليس قياساً حقيقيّاً، بل إنّما هو قياس صوريّ، لا واقع له.

وأمّا القطع، فهو لمّا لم تكن حجّيّته قابلة لأن تنالها يد الجعل التشريعيّ، علم - حينئذٍ - أنّه لا يقع وسطاً، ولا يتألّف القياس منه، حتى ولو كان صوريّاً؛ ضرورة أنّ الشارع لم يجعل القطع طريقاً إلى إثبات متعلّقه.

ص: 10

فإذا لم يكن القطع قابلاً للجعل، لم يكن مجعولاً بالجعل التشريعيّ، وإذا لم يكن مجعولاً كذلك فلا يكون حجّة، لا بالمعنى المنطقيّ، ولا بالمعنى الاُصوليّ، نعم، يكون حجّة بالمعنى اللّغويّ.

فظهر من ذلك: أنّ البحث عن القطع يكون بحثاً خارجاً عن مسائل علم الاُصول؛ لعدم وقوعه في قياس الاستنباط - كما هو الضابط والمعتبر في المسألة الاُصوليّة - بداهة أنّه لا يكون طريقاً لإثبات الحكم الشرعيّ، وإنّما هو عين معرفته.

ومن هنا يظهر الوجه في ما ذكره صاحب الكفاية! من أنّ القطع خارج عن مسائل علم الاُصول، وليس هو حجّة بمعنى الوسط في القياس (1).هذا إذا كان القطع طريقيّاً.

وأمّا إذا كان موضوعيّاً: فلا ريب في إمكان وقوعه وسطاً في للقياس، كما يقال - مثلاً -: (هذا مقطوع الخمريّة، وكلّ مقطوع الخمريّة يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه.

فالمتعلّق الذي هو معلوم الخمريّة، وإن لم يكن علّة حقيقيّةً للحكم الذي هو وجوب الاجتناب؛ إذ العلم لا يكون علّة للحكم، إلّا أنّه بمنزلة العلّة له لعدم انفكاك الحكم عن الموضوع.

ص: 11


1- انظر: كفاية الاُصول: 257.

الأمر الثاني:

اشارة

أنّ القطع إمّا أن يكون طريقيّاً محضاً، أو جزء الموضوع، كما إذا قطع المكلّف بحرمة الخمر أو قطع بالموضوع الخارجيّ، مثل أنّ المائع الكذائيّ خمر.

وإمّا أن يكون موضوعيّاً، وذلك فيما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلّق به العلم ذا حكم شرعيّ، فإمّا أن يكون العلم تمام الموضوع، بحيث يكون الحكم دائراً مدار العلم وجوداً وعدماً، أو يكون العلم جزء الموضوع، بحيث يكون الموضوع مركّباً من القطع ومن شيء آخر، وهو في كلّ من القسمين: إمّا أن يؤخذ على نحو الصفتيّة، أو على نحو الطريقيّة.

والمراد من صفتيّة القطع: كونه صفة قائمة بالنفس، كالجود والبخل والشجاعة، كما أنّ المراد من طريقيّته: كونه حاكياً وكاشفاً عن متعلّقه.

ولا يذهب عليك: أنّ القطع الصفتيّ ليس من الصفات الإضافيّة المحضة، كالاُبوّة والبنوّة، ولا من الصفات الحقيقيّة كذلك، كالحياة والجود، بل هو من الصفات الحقيقيّة الإضافيّة، فيكون له واقعيّة من جهة، وإضافة إلى ما يتعلّق به من جهة اُخرى، كقولك: العلم نور بنفسه، وبإضافته إلى ما يتعلّق به منوّر لغيره.وإذا كان العلم من الصفات المتأصّلة، فلا جرم يحتاج في تحقّقه

ص: 12

إلى المعلوم، كاحتياج القدرة إلى المقدور؛ في قبال الصفات الحقيقيّة المحضة، وهي الصفات المتأصّلة القائمة بالنفس التي لا تحتاج في تحقّقها إلى إضافتها إلى شيء آخر، كالجود والحياة، وفي قبال الصفات الانتزاعيّة، كالفوقيّة، فإنّها لا وجود لها في الخارج وإنّما الوجود لمنشأ انتزاعها.

ثمّ إنّ الملحوظ حين الجعل:

تارةً: يكون هو العلم باعتبار كونه صفة قائمة بالنفس، واُخرى: هو العلم باعتبار كونه حاكياً عن متعلّقه؛ لما عرفت من أنّ القطع كالنور، له جهتان لا تنفكّان عنه.

وقد أنكر المحقّق النائيني! إمكان أخذ القطع - إذا كان تمام الموضوع - على وجه الطريقيّة؛ «من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقيّة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن في كلّ طريق، حيث إنّ لحاظه طريقاً يكون في الحقيقة لحاظاً لذي الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع» (1).

وبالجملة: فأخذه تمام الموضوع يستدعي أن يكون النظر إليه

ص: 13


1- فوائد الاُصول 3: 11.

استقلاليّاً، كما إذا حصر نظره إلى المرآة فإنّ نظره إليها بما هي، لا بما هي حاكية عن وجهه، فلا يراه. وأخذه على نحو الطريقيّة يجعل النظر إليه - في الحقيقة - نظراً إلى الواقع المنكشف بالعلم، فيكون القطع ملحوظاً باللّحاظ الآليّ، كالنظر إلى المرآة لرؤية وجهه.

فلو كان القطع تمام الموضوع مع كونه على وجه الطريقيّة للزم اجتماع اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ في تصوّر واحد؛ واللّازم باطل؛ بداهة اقتضاء اللّحاظ الاستقلاليّ قصر النظر على القطع، وعدم لحاظمتعلّقه، واقتضاء اللّحاظ الآليّ قصر النظر على المتعلّق، وعدم لحاظ نفس القطع، فالملزوم مثله.

الأمر الثالث: في عدم قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ.

حاصل الكلام: أنّه قد يؤخذ القطع في بعض الموارد على نحو القطع الموضوعيّ مع كونه طريقاً وكاشفاً، وذلك كأخذ العلم بعدالة إمام الجماعة دخيلاً في جواز الائتمام به، فإنّه أخذ موضوعاً لجوازه كاشفاً وطريقاً، لا صفةً.

أمّا أخذه على نحو الموضوعيّة: فلعدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الخلاف.

وأمّا أخذه على نحو الطريقيّة: فلقيام الأمارات والاُصول مقامه.

لا يقال: هذا، على تقدير تماميّته، يلزمه - أيضاً - محذور اجتماع

ص: 14

اللّحاظين الآليّ والاستقلاليّ، بناءً على أخذ القطع جزءاً للموضوع مع كونه على نحو الطريقيّة.

لأنّه يقال: بل هذا الإشكال إنّما يرد فيما إذا كان القطع الطريقيّ تمام الموضوع، بخلاف ما إذا لاحظه الحاكم مع هذا الكشف التامّ موضوعاً لحكم آخر كما إذا جعله موضوعاً لجواز الشهادة، فإنّه لا مانع منه.

الأمر الرابع: أقسام القطع الموضوعيّ:

أنّ القطع المأخوذ في الموضوع على ثلاثة أقسام؛ لأنّه:

إمّا أن يكون متعلّقاً بالحكم، أو بموضوع ذي الحكم، أو بموضوعٍ بلا حكم؛ وعلى التقديرين الأوّلين: فإمّا أن يقع موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به أو بموضوعه، أو موضوعاً لمثله، أو لضدّه، أو لخلافه.

وقد عرفت فيما سبق: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، فكلّما استحال التقييد استحال الإطلاق، من غير عكس، ولذا لم يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم وجوب قصد القربة أو عدم العلم أوالقطع به؛ بداهة أنّ تقييد الخطاب بالعلم مستلزم للدور، كما بيِّن في محلّه، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق.

وكذا الأمر فيما نحن فيه، فإنّه لا يمكن أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم؛ لاستلزامه الدور، فلا يمكن أن يقال - مثلاً -: (إذا علمت بوجوب الجمعة فهي واجبة عليك بعين ذلك الوجوب). وكذلك يستحيل أخذ

ص: 15

القطع بالحكم موضوعاً؛ لأنّه حينئذٍ:

إمّا أن يكون موضوعاً لمثل ذلك الحكم، كأن يقال: (إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة تجب عليك بوجوب آخر)، وهو باطل؛ للزومه اجتماع المثلين؛ أو يكون موضوعاً لحكم آخر ضدّ ذلك الحكم، كما لو قيل: (إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة، فهي حرام عليك)، فيلزم اجتماع الضدّين.

نعم، لا مانع من أخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر يخالفه، كما لو قال المولى: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة، فيجب عليك التصدّق).

وأمّا القطع المتعلّق بموضوعٍ ذي حكم، فلا إشكال في جواز أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم، كأن يقال: (إذا علمت بحرمة مائع فهو حرام عليك بعين تلك الحرمة)؛ وكذا يجوز أخذه في موضوع مثله، كما إذا قيل: (إذا علمت بحرمة مائع فهو حرام بمثل تلك الحرمة)؛ وفي موضوع ضدّه كأن يقال: (إذا علمت بخمريّة مائعٍ فهو واجب)؛ وفي موضوع مخالفه، كأن يقال: (إذا علمت بخمريّة مائع فيجب عليه التصدّق).

وأمّا القطع المتعلّق بموضوع بلا حكم: فيمكن أن يكون مأخوذاً في موضوع أيِّ حكم كان، كما إذا قال المولى: (إذا علمت أنّ هذا بول وجب الاجتناب عنه)؛ إذ إنّ الحكم إنّما ورد على مقطوع البوليّة.

ص: 16

الأمر الخامس:

أنّ القطع قد يكون مطابقاً للواقع، وقد لا يكون كذلك، فيكون جهلاً مركّباً إذا لم يكن القاطع ملتفتاً إلى خطأ قطعه.

الأمر السادس:

ينقسم القطع باعتبار منشأ حصوله إلى قسمين، لأنّه:

إمّا أن يكون حاصلاً للشخص بنحوٍ غير متعارف، كما إذا حصل له القطع بشيءٍ من أمرٍ لا يوجبه، كمثل طيران الطير، كما مرّ، ويسمّى القطع - حينئذٍ - ﺑ (قطع القطّاع)؛ أو لا، بأن يكون القطع حاصلاً بالنحو المتعارف، ومن سبب متعارف، وهو القطع العاديّ.

وفي كلا الفرضين، لا يفرّق العقل في وجوب متابعته، فيكون حجّة بعد حصوله من أيّ سبب، ومن أيّ شخص كان، وفي أيّ زمان كان، خلافاً لما نسب إلى بعض الأخباريّين من عدم حجّيّة القطع الحاصل من مقدّمات عقليّة، فلا يجب العمل به عقلاً، وإن كان طريقاً محضاً.

أمّا إذا كان موضوعاً، فهو كسائر الموضوعات، يعني أنّ كلّ قطع يحصل للفقيه من خبر العادل لا للعامّيّ - الذي قد يحصل له القطع من خبر الفاسق - ويكون حصوله في زمان البلوغ دون الصغر، من الروايات والأدلّة، دون مثل الجفر والرمل، يصحّ أن يكون موضوعاً.

ص: 17

قال صاحب الكفاية!: «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً، ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعليّ فيما أصاب باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً فيما أخطأ قصوراً» (1).

ففي نظره الشريف: أنّ القطع له أثران عقليّان:

الأوّل: وجوب متابعته، ولو كان من قبيل قطع القطّاع.

والثاني: منجّزيّته، بمعنى: استحقاق العقاب على مخالفته.وقد أوضحه المحقّق الأصفهاني! بما نصّه: «لا يذهب عليك: أنّ المراد بوجوب العمل عقلاً، ليس إلّا إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلّق به القطع [أي:المقطوع] ، لا أنّ هناك بعثاً وتحريكاً من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به [أي: نحو المقطوع» (2)؛ إذ ليس شأن القوّة العاقلة إلّا إدراك الأشياء، وليس من شأنها التحريك والبعث.

ثمّ إنّ تأثير القطع في تنجّز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمراً ذاتيّاً قهرياً، بل هو أمر جعليّ عقلائيّ؛ وذلك لأنّ استحقاق المكلّف للعقاب على المخالفة الواصلة، إنّما هو من باب خروجه عن زيّ الرقّيّة والعبوديّة،

ص: 18


1- كفاية الاُصول: 258.
2- نهاية الدراية 2: 31

حيث كان الواجب عليه هو الإطاعة، فتكون المخالفة هتكاً للمولى وظلماً له، وليس حسن العدل وقبح الظلم - بمعنى استحقاق المدح والذمّ عليه - من الأحكام العقليّة الواقعيّة، بل من الأحكام العقلائيّة، وهي ما تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظها للنظام.

ويعبّر عن ذلك ﺑ (القضايا المشهورة)، في قبال المدركات العقليّة الداخلة في القضايا البرهانيّة.

وقد علّل المحقّق المذكور) عدم دخول هذا الحكم العقليّ في القضايا البرهانيّة بما حاصله:

أنّ مواد القضايا البرهانيّة منحصرة في الضروريّات الستّ، وهي: الأوّليّات والحسّيّات والفطريّات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات، وليس حسن العدل وقبح الظلم من أحدها بشيء، فيتعيّن أن يكون داخلاً في القضايا المشهورة.

قال): «أنّ حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة، بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها،ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته، وهو ظلم عليه، والظلم قبيح، أي: ممّا يوجب الذمّ والعقاب عند العقلاء، فدخْل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظلم بنحو الشرطيّة، جعليّ عقلائيّ، لا ذاتيّ قهريّ،

ص: 19

كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة» (1).

ولكن فيه: أنّ الحسن والقبح ذاتيّان للعدل والظلم، ولو لم يكونا مخلّين بالنظام، فما ذكره من أنّ حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائيّة، وممّا تطابقت عليه آراء العقلاء، حفظاً للنظام، في غير محلّه.

الأمر السابع: في الاطمئنان وأنّ حجّيّته من باب حجّيّته العلم أو من باب حجّيّته الأمارات.

أمّا أصل حجّيّة الاطمئنان: فممّا لا شكّ فيه؛ ضرورة أنّ السيرة من البشر جميعاً في أعمالهم - سواء ما يرتبط بتشخيص الأحكام أو الموضوعات - جارية على الأخذ به، ولولا ذلك، لم يكن لهم طريق إلى تحصيل اُمورهم؛ وبهذا تثبت حجّيّة الاطمئنان لدى الشارع، إذ لو كان للشارع طريق آخر غير الاطمئنان، لكان عليه نصبه وبيانه، ولكنّنا لم نرَ منه طريقاً آخر غير الاطمئنان، ولو كان لبان.

فظهر: أنّ حجّيّة الاطمئنان لو كانت جعلّيّة، بأن كانت ببناء العقلاء، لم تصلح الآيات الناهية عن العمل بغير العلم لأن تكون رادعةً عنه، بخلاف مثل خبر الواحد؛ لوجود غيره من الطرق التي يمكن من خلالها تشخيص مراد المتكلم، كما هو أوضح من أن يخفى.

ص: 20


1- نهاية الدراية 2: 35

وظهر أيضاً: أنّ حجّيّة الاطمئنان هي كحجّيّة الظهور في عدم صلوح الآيات الناهية للردع عنها.وإذا قد ثبتت حجّيّة الاطمئنان بلا كلام، فإنّ الخلاف في أنّ حجّيّته هل هي بحكم العقل، كحجّيّة القطع، أو ببناء العقلاء، كالحجّيّة في باب الأمارات؟ لا يعدو أن يكون خلافاً علميّاً، لا جدوى في البحث عنه؛ لخلوّه عن الثمرة العملية.

الأمر الثامن: انقسام القطع إلى تفصيليّ وإجماليّ:

اشارة

اعلم: أنّه لا معنى للقول بكون القطع مجملاً؛ لأنّ ذلك يستلزم اجتماع الضدّين؛ فإنّ حقيقة القطع هي الانكشاف التامّ لدى القاطع، فالقطع بخمريّة أحد الإناءين قطع لا إجمال فيه، وذلك لأنّ النسبة الملحوظة بين الحكم وموضوعه الذي هو عنوان المنكشف عند القاطع معلومة له.

نعم، الإجمال إنّما هو في تطبيق المقطوع المنكشف - وهو خمريّة أحد الإناءين - على أحد المصداقين بخصوصه، فلابدّ حينئذٍ من فرض كون العلم الإجماليّ مركّباً من علم وجهل.

فظهر: أنّ العلم الإجماليّ هو العلم المتعلّق بالعنوان - وهو أحد الإناءين - وتطبيقه على عنوان خاصّ مجهول بسبب تردّده.

وهل العلم الإجماليّ كالتفصيليّ في الرتبة أم أنّه متأخّر عنه رتبة أم متقدّم عليه؟

ص: 21

حاصله: أنّه إذا فرض تعلّق العلم الإجماليّ بأحد الفعلين، فإنّ حاله لا يخلو من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: لزوم فعلهما معاً، ويسمّى بالموافقة القطعيّة.

الثاني: لزوم تركهما معاً، ويسمّى بالمخالفة القطعيّة.

والثالث: لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر، ويسمّى بالموافقة الاحتماليّة.

فإن كان الأوّل: يكون العلم الإجماليّ مؤثّراً في الإيجاب وعلّة تامةً لتنجّز متعلّقه، فتلزم الموافقة القطعيّة؛ وحينئذٍ: يكون حاله حال العلم التفصيليّ في عدم تجويز الشارع ترك البعض، فضلاً عن ترخيصه بترك الكلّ.وإن كان الثاني: يكون العلم الإجماليّ بمنزلة المقتضي بالنسبة إلى كلا الطرفين، فيصحّ له الترخيص في ترك كلا الطرفين، فلا يكون العلم الإجماليّ - حينئذٍ - كالعلم التفصيليّ، أي: علّة تامة لتنجّز التكليف، بل يكون حاله حال الشكّ البدويّ، في عدم العلّيّة التامّة، فضلاً عن جواز الترخيص في الترك.

وإن كان الثالث: يكون له أن يرخّص في ترك البعض والإتيان بالبعض الآخر، وهو مفاد الموافقة الاحتمالية كما تقدم.

والتحقيق الذي يتقضيه النظر الدقيق: أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجّز متعلّقه، فهو في رتبة العلم التفصيليّ، فلا يمكن القول بالترخيص،

ص: 22

لا بترك كلا الطرفين، ولا بترك أحدهما فقط.

فإن قلت: إنّ العلم الإجماليّ، وإن كان كشفاً تامّاً، كالعلم التفصيليّ، ولكن لا ينكشف به التكليف تمام الانكشاف كما ينكشف بالعلم التفصيليّ، بل مرتبة الحكم الظاهريّ، وهو الشكّ والجهل، محفوظة مع العلم الإجماليّ في كلّ طرف من الأطراف بالخصوص، فلا يعلم أنّ هذا واجب أو ذاك، أو أنّ هذا حرام أو ذاك، فلا مانع من الإذن في المخالفة الاحتماليّة بالترخيص في بعض الأطراف، بل في المخالفة القطعيّة، بأن يرخّص في تمام الأطراف.

قلت: إنّ مجرّد عدم انكشاف التكليف بالعلم الإجماليّ تمام الانكشاف، وبقاء الشكّ والجهل في كلّ طرف من الأطراف بالخصوص، ممّا لا يسوّغ الإذن في الأطراف، كلّاً أو بعضاً؛ وذلك لجواز دعوى لزوم التضادّ مع التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال.

وإذا اتّضح ذلك، يظهر: أنّ العلم الإجماليّ بمنزلة العلم التفصيليّ في أنّه علّة تامّة لتنجّز التكليف، فلا يجوز للعقل بعد قطعه بالحكم الإذن في مخالفته.

قال صاحب الكفاية):

«لا يخفى: أنّ التفصّي عن المناقضة على ما يأتي لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعيّ ما لم يصر فعليّاً والحكم الظاهريّ الفعليّ،كان الحكم الواقعيّ في موارد الاُصول والأمارات المؤدّية إلى خلافه لا محالة

ص: 23

غير فعليّ، فحينئذٍ: فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقلّ مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزوم موافقته وإطاعته.

نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليّته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلّاً بالنظام، فلا تنجّز حينئذٍ، لكنّه لأجل عروض الخلل في المعلوم، لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام، [يعني: به في مورد العلم التفصيليّ للعسر]، فإنّه - أيضاً - موجب للخلل في المعلوم، لا المنع عن تأثير العلم شرعاً» (1).

وحيث قد عرفت فعلّيّة العلم الإجماليّ:

فلا يقال: إنّ الحكم الواقعيّ فعليّ، بمعنى: أنّه لو تعلّق به العلم لتنجّز، والحكم الظاهريّ فعليّ منجّز، وأنّ الواقعيّ ما لم يبلغ مرتبة التنجّز لم يبلغ مرتبة البعث والزجر؛ فلا يتنافى الحكم الواقعيّ مع الحكم الظاهريّ المجعول على خلافه؛ وعليه: فحال العلم الإجماليّ كحال الشبهة البدويّة، فكما جاز للشارع الإذن والترخيص في الشبهات البدويّة وكان ذلك كاشفاً عن عدم الإرادة والكراهة على طبق الحكم الواقعيّ، فكذلك جاز للشارع الإذن والترخيص في أطراف العلم الإجماليّ.

ص: 24


1- كفاية الاُصول: 272, الهامش رقم 7.

لأنّه يقال: ما ذكر غير تامّ؛ ضرورة أنّ العلم الإجماليّ منجّز بالنسبة إلى أطرافه فعلاً، فلا يجوز جعل الحكم على خلافه على الإطلاق، ولا في بعض الأطراف، خلافاً لمن ذهب إلى أنّ العلمَ الإجماليّ لمّا كان علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة، لم يكن من الممكن الترخيص في تمام الأطراف بأجمعها، ولكنّه لمّا كانمقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعيّة، فيمكن الترخيص في بعض الأطراف على البدل.

قال المحقّق النائيني!: «فالأقوى وجوبها [أي: وجوب الموافقة القطعية] أيضاً؛ لأنّه يجب عقلاً الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال، وهو لا يحصل إلّا بالاجتناب عن جميع الأطراف؛ إذ لو لم يجتنب المكلّف عن الجميع وارتكب البعض، فلا يأمن من مصادفة ما ارتكبه لمتعلّق التكليف المعلوم في البين، فيكون قد ارتكب الحرام بلا مجوّز عقليّ أو شرعيّ، فيستحقّ العقوبة، وذلك كلّه واضح بعد البناء على أنّ العلم الإجماليّ كالتفصيليّ يقتضي التنجيز.

نعم، للشارع الإذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر كما سيأتي بيانه، ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامة المتكفّلة لحكم الشبهات، من قبيل قوله(علیه السلام): (كلّ شيء لك حلال) أو: (كلّ شيء طاهر) وقوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، وقوله-: (رفع ما لا يعلمون)، وغير ذلك من أدلّة الاُصول العمليّة؛ لأنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدٍّ سواء، ولا يمكن أن تجري

ص: 25

في الجميع لأنّه يلزم المخالفة القطعيّة، ولا في الواحد المعيّن؛ لأنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح، ولا في الواحد لا بعينه؛ لأنّ الاُصول إنّما تجري في كلّ طرف بعينه» (1).

ثمّ إنّه يقع الكلام: في أنّه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال فهل يكفي العلم الإجماليّ بالامتثال أم لا؟ فإذا علم - مثلاً - بوجوب أحد الأمرين: إمّا الظهر وإمّا الجمعة في الشبهة الحكميّة، أو بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة في الشبهة الموضوعيّة، فهل يكفي العلم الإجماليّ بالامتثال بإتيان كلّ من الظهر والجمعة أو بإتيان الصلاة إلى كلّ واحدة من الجهات الأربع، مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال باستعلام الحال، أو بالسؤال عنالموضوع، ومعرفة الواجب بعينه على التفصيل، والإتيان به بخصوصه، أم أنّ الإتيان بالواجب بنحو الإجمال لا يكون كافياً إلّا عند تعذّر العلم التفصيليّ به؟

وفي مقام الجواب نقول: الواجب: تارةً: يكون توصّلياً، واُخرى: يكون تعبّدياً، فإن كان توصّلياً: يحصل المقصود منه بمجرد حصول الواجب التوصّليّ في الخارج، كيف ما اتّفق، سواء كان يعلم حين الإتيان به بأنّه هو الواجب بخصوصه أم لم يكن يعلم، فيجوز الإتيان به ولو مع التمكّن من العلم التفصيليّ.

ص: 26


1- فوائد الاُصول 4: 24 - 25.

قال الشيخ الأعظم!: «أمّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح» (1).

وكذا يحصل المقصود من الواجب بمجرّد حصوله في الخارج إذا كان تعبّديّاً، ولم يكن محتاجاً إلى التكرار، كما إذا تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر، كتردّد الصلاة - مثلاً - بين فاقد السورة وواجدها، فإنّ الاحتياط حينئذٍ بإتيان الأكثر جائز.

وإنّما الكلام في الواجب التعبّديّ المحتاج إلى التكرار، كما إذا دار أمره بين المتباينين، كالظهر والجمعة، أو كالصلاة إلى الجهات الأربع.

والذي يظهر من الشيخ الأعظم!: هو جواز الاحتياط في العباديّات مطلقاً، حتى فيما احتاج إلى التكرار، فضلاً عمّا لا يحتاج إليه، حيث قال! - بعد عبارته المتقدّمة آنفاً - ما لفظه:

«وأمّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة [يعني به العباديات] فالظاهر أيضاً تحقّق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.

ودعوى: أنّ العلم بكون المأتيّ به مقرّباً معتبر حين الإتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه: ممنوعة؛ إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الإطاعة بغير ذلك أيضاً، فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بأداءالعبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيليّ، لكن الظاهر كما هو

ص: 27


1- فرائد الاُصول 1: 71.

المحكي عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة» - إلى أن قال -:

«وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءاً، فالظاهر: عدم ثبوت اتّفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيليّ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك» (1)، يعني به المنع.

وأمّا صاحب الكفاية! فقد اختار - هو أيضاً - جواز الاحتياط في العبادات فيما لا يحتاج إلى التكرار نظراً إلى عدم إخلاله بشيء ممّا اعتبر أو يحتمل اعتباره فيها من قصد القربة والوجه والتمييز.

نعم، يخلّ فقط بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته كالسورة في المثال المتقدّم على تقدير جزئيّتها بقصد الجزئيّة، قال!:

«واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية» (2).

ومراده من الإخلال بقصد الجزئيّة هو الإخلال بقصد العنوان المعتبر في كلّ جزء من أجزاء الصلاة قطعاً، وهذا ضعيف؛ فإنّ مشكوك الجزئيّة عندما يؤتى به برجاء جزئيّته، فهو - على تقدير كونه جزءاً واقعاً - فقد أتى به بقصد جزئيّته، كما أنّه إذا أتى به برجاء وجوبه، فهو على تقدير وجوبه

ص: 28


1- فرائد الاُصول 1: 71 - 72.
2- كفاية الاُصول: ص 274.

واقعاً قد أتى بقصد الوجه والقربة جميعاً.

ويمكن أن يكون مراده من الإخلال بقصد الجزئيّة هو الإخلال بالتمييز؛ فإنّه إذا لم يعلم أنّ الواجب هل هو الأقلّ أو الأكثر، لم يمكن الإتيان بالمشكوك الزائد على الأقلّ بقصد الجزئيّة.والحقّ: جواز الاحتياط في العباديّات مطلقاً سواءً حصل تكرار أم لا؟ خلافاً لما ذكره جمع من الفقهاء من أنّ الاحتياط في العبادات يستلزم الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط مع التمكّن منهما.

وقد حكي عن بعضهم: عدم كفاية قصد الوجه، بل لابدّ - مع ذلك - من قصد الجهة التي اقتضت وجوب العبادة أو استحبابها.

والتحقيق: أنّه لا يعتبر في صحّة العبادة لا قصد الوجه، ولا العلم بالأجزاء الواجبة والمستحبّة، بل يكفي قصد امتثال أمرها الواقعيّ، ولا يعتبر العلم بوجوبه أو استحبابه، ولا العلم بواجبات الأجزاء ومستحبّاتها، فضلاً عن قصد ذلك؛ لأنّ صدق العبادة والطاعة لا يتوقّف على هذه الاُمور عقلاً، ولا يتوقّف الامتثال عليها عرفاً، ولا يدلّ على اعتبارها دليل بالخصوص.

قال المحقّق النائيني!: «فلأنّه لم نعثر فيما بأيدينا من الأخبار على ما يدلّ على اعتبار شيء من ذلك في العبادة، مع أنّ المسألة ممّا تعمّ به البلوى، ويتكرّر الحاجة إليها ليلاً ونهاراً، وليست من المرتكزات في

ص: 29

أذهان العامّة حتى يصحّ للشارع الاتّكال على ذلك، بل هي من المسائل المغفول عنها غالباً، وما هذا شأنه يلزم على الشارع التأكيد في بيانه، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم، ويصحّ لنا دعوى القطع بعدم اعتبار هذه الأمور في العبادة» (1).

فيكون المقام من باب (لو كان لبان) إذا بحثنا عنه ولم نجده، فيكشف ذلك عن عدم وجوده، لا من باب أنّ (عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود).

وأمّا ما ذكر من أنّه لعب بأمر المولى، ففيه:

أوّلاً:

أنّه ليس تكراراً للأمر بل للماُمور به، والتكرار إنّما يكون لعباً إذا لم يترتّب عليه غرض عقلائيّ، فلا يحكم المولى بعبثيّة كلّ تكرار؛ نعم، قد يكون قبيحاً إذا كان موجباً للوسواس.

وأمّا ما نصّ عليه المحقّق النائيني! - حيث قال: «إنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم قصد الوجه والتمييز ونحو ذلك.

نعم: يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم التمكّن من إزالة الشبهة، فإنّ مراتب الامتثال عقلاً أربعة: الأوّل: الامتثال التفصيليّ، الثاني: الامتثال الإجماليّ، الثالث: الامتثال الظنّيّ، الرابع: الامتثال الاحتماليّ.

ص: 30


1- فوائد الاُصول 4: 268.

ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللّاحقة إلّا بعد تعذّر المرتبة السابقة، فإنّه فيما عدا المرتبة الاُولى لايمكن قصد امتثال الأمر التفصيليّ حال العمل، ويعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم القدرة على الطاعة التفصيليّة، ولا يحسن من المكلّف في مقام الطاعة قصد الأمر الاحتماليّ مع التمكن من قصد الأمر القطعيّ التفصيليّ؛ لأنّ حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه، وتحرّكه عن تحريكه، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك نحو العمل، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلّف، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثاً، فلا يكاد يتحقّق حقيقة الطاعة والامتثال إلّا بعد العلم بتعلّق البعث نحو العمل ليكون الانبعاث عن البعث» (1) - من أنّ «هذا البرهان يقتضي عدم صحّة الامتثال والطاعة الاحتماليّة مطلقاً؛ لأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل ليس حقيقة انبعاثاً» (2).

«نعم، الانبعاث عن البعث المحتمل أيضاً مرتبة من العبوديّة ونحو من الطاعة والامتثال، إلّا أنّه يتوقّف حسن ذلك على عدم التمكّن منالانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة؛ فمع التمكّن من الامتثال التفصيليّ لا يحسن من العبد الامتثال الاحتماليّ» (3).

ص: 31


1- فوائد الاُصول 4: 269.
2- فوائد الاُصول 4: 269: هامش رقم 1.
3- فوائد الاُصول 4: 269 - 270.

فالحقّ: أنّ العلم - مطلقاً - طريق إلى إتيان الواقع بعد صدق الانبعاث من قبل الآمر، تارةً جزماً واُخرى رجاءً؛ وأنّ المناط هو إتيانه على أي وجه اتّفق، فإنّ التحريك في الثاني يكون بمجرّد احتماله، وأمّا في الأوّل بواسطة أمره الجزميّ، ولذا قالوا بصحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والاكتفاء بالامتثال الإجماليّ مع التمكّن من التفصيليّ.

وأمّا إذا فرض الشكّ في اعتبار قصد الوجه والتميز: فمذهب المحقّق النائيني! أنّ مقتضى الأصل مع الشكّ في اعتبار الامتثال التفصيليّ مع التمكّن منه في تحقّق الامتثال هو الاحتياط وعدم الاكتفاء بالامتثال الإجماليّ، كما يستفاد ذلك من تقريرات بحثه الشريف، حيث قال:

«وبالجملة: الأمور التي اعتبرها العقل في الطاعة ويحتمل اعتبارها فيها عقلاً، وإن كانت قابلةً للتصرّف شرعاً كأن يحكم الشارع بدليل مخصوص بكون الامتثال الاحتماليّ في عرض الامتثال التفصيليّ، وليس وزان ذلك وزان ما لا يقبل للتصرّف الشرعيّ أصلاً كطريقيّة القطع وأمثالها، إلّا أنّ حديث الرفع ليس ناظراً إلّا على رفع الأحكام المجعولة شرعاً إمضاء أو تأسيساً، فيكون قاصراً عن الشمول لما يحتمل اعتباره في الطاعة عقلاً.

وبذلك يفرّق بين المقام وبين الشكّ في اعتبار نيّة الوجه ومعرفيّته في صحّة العبادة، فإنّ الشكّ هناك لرجوعه إلى الشكّ في اعتبار أمر زائد

ص: 32

على ما هو معتبر عند العقل شرعاً، يكون مورد الحديث الرفع، بخلاف المقام، فإنّ الشكّ فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعةالعقليّة؛ ضرورة أنّ حسن الاحتياط من الأحكام التي يستقلّ العقل بها، ومع الشكّ في تحقّقه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع الناظر إلى رفع الأحكام المجعولة الشرعيّة: إمضاءً أو تأسيساً، وإذا لم يمكن التمسّك بحديث الرفع، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ» (1).

وقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم! بما حاصله:

أنّ الامتثال التفصيليّ، لو كان دخيلاً في الغرض، لكان على المولى بيانه؛ لأنّه ممّا يغفل عنه غالباً، ولكنّه لم يبيّنه، فيدلّ على عدم دخالته في الغرض؛ لأنّ استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم، فلا يجب الاحتياط، بل لا وجه له؛ لأنّ عدمه لا يضرّ عدمه في صحّة العمل.

وهاك نصّ كلامه!: «فالشكّ في اعتبار شيء يرجع إلى قصد القربة، وإن لم يكن مجرى للبراءة، إلّا أنّه يستكشف عدم اعتباره من عدم البيان، لكونه ممّا يغفل عنه نوع المكلّفين، فعلى تقدير الاعتبار كان على المولى البيان والتنبيه عليه، فمع عدم البيان، يستكشف عدم اعتباره لا محالة،

ص: 33


1- أجود التقريرات 2: 45.

فتحصّل أنّ الصحيح في هذه المسألة - أيضاً - كفاية الامتثال الإجماليّ والإتيان بما يحتمل وجوبه رجاء، كما هو المشهور» (1).

وخلاصة الكلام: أنّه عند الشكّ في اعتبار قصد القربة يمكن التمسّك بالإطلاق المقامي لرفعه؛ ضرورة أنّه لو سلّم استحالة التقييد بالقصد، فإنّه إنّما يكون مانعاً عن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ دون المقاميّ.

وفيه: أنّ هذا المحذور في غير محلّه؛ لأنّ الشارع بعد ما كان بصدد بيان حقيقة أمر عباديّ كالصلاة، وشرح ماهيّته، وتوضيح كلّ ما لهدخل في تلك العبادة من الأجزاء والشرائط والموانع، ومع ذلك، لم يبيّن اعتبار قصد الوجه بوجهٍ من الوجوه، نستكشف من ذلك عدم اعتباره في العبادة.

ودعوى: أنّ اعتبار القصد إنّما هو بحكم العقل، فيحكم بأنّ حصول الغرض متوقّف عليه، فيستغني الشارع في مقام بيان حقيقة العبادة عن ذكره بسبب حكم العقل.

مدفوعة: بأنّه، وإن كان كذلك، ولكنّه ليس من المستقلّات العقليّة التي يفهمها كلّ أحد، فلا يمكن للشارع الاستغناء عن ذكره، إذ المفروض الشكّ في اعتباره فيحتاج إلى ذكره وبيان دخله فيها، ومن عدم ذكره يستكشف عدم اعتباره.

ص: 34


1- مصباح الاُصول 1: 91، (المجلّد 47 من موسوعة الإمام الخوئي!).

بل يمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ أوّلاً؛ لإمكان تقييدها بنتيجة الإطلاق - كما مرّ في فصل التعبّديّ والتوصّليّ - لا بالإطلاق اللّحاظيّ، فإذا لم يقيّد الشارع العبادة باعتباريّة قصد الوجه، ولم ينبّه على كونه دخيلاً في حقيقتها، فيصحّ التمسّك - حينئذٍ - بالإطلاق لبيان عدم دخله.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي! صحّح إمكان التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ بشكلين آخرين:

الأوّل: أن يكون المنشأ في الأمر بالصلاة - مثلاً - هي الطبيعة الكلّيّة لوجوب الصلاة، لا الفرد منه، فتشمل طبيعة الوجوب جميع الأفراد العرضيّة والطوليّة لطبيعة الصلاة، فكما أنّ طبيعة وجوب الصلاة السارية إلى جميع أفراد الصلاة تسري إلى جميع الأفراد العرضيّة على البدل، فكذلك تسري إلى جميع الأفراد الطوليّة منها، ولا شكّ أنّ الصلاة مع قصد الوجه، كالصلاة مع قصد الأمر، هي من الأفراد الطوليّة لطبيعة الصلاة، فتكون مشمولة لها، وبهذا الشكل، يمكن تعلّق الوجوب الكلّيّ المنشأ بذلك الإنشاء الشخصيّ بالصلاة المقيّدة بقصد الوجه أو القربة أو ما شابه ذلك من قصد التمييز.والثاني: تعلّق الخطاب بالحصّة التوأمة من طبيعة الصلاة مع قصد الوجه، بحيث يكون المتعلّق نفس تلك الحصّة من طبيعة الصلاة، ويكون القيد وما هو التوأم خارجاً عن الطلب، فلا يلزم محذور تقدّم

ص: 35

المتأخّر وتأخّر المتقدّم، فالداخل هو واقع التوأميّة (1).

وثانياً:
اشارة

أنّ العقل لا يحكم إلّا بلزوم الإطاعة، وليس معنى الإطاعة إلّا الإتيان بالماُمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعاً أو عقلاً، فإذا جيء بجميع ما له دخل في المصلحة والغرض، يحصل الغرض ويسقط الأمر؛ لأنّ سقوط الأمر إنّما يكون باُمور ثلاثة:

الأوّل: بالعصيان.

والثاني: بفقدان الماُمور به بعد وجوده، كما إذا أخذ السيل الميّت فيسقط وجوب تكفينه وتغسيله والصلاة عليه.

ص: 36


1- انظر: نهاية الأفكار 3: 50 - 51، ونصّ كلامه! كما يلي: «ويمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ - أيضاً - بما بيّنّاه في مبحث التعبّديّ والتوصّليّ من إمكان أخذ قيد دعوة الأمر في متعلّقه بالتزام أنّ الحكم المنشأ بالإنشاء الوارد في الخطاب الشخصيّ هو سنخ الحكم الساري في ضمن أفرادٍ طوليّة بعضها محقّق لموضوع الآخر بنحوٍ قابلٍ للانحلال إلى خطابات متعدّدة بعدد الأفراد ...»، إلى أن قال: «ويمكن تقريب الإطلاق بوجه آخر، حتى على فرض كون المنشأ بالخطاب حكماً شخصيّاً، بتقريب: أنّه وإن يقطع بعدم إمكان تقييد المأمور به بمثل قصد الوجه؛ لامتناع أخذ ما هو من شؤون الأمر في متعلّقه، ولكنّه لا شبهة في أنّه في فرض اعتباره في الغرض لا يكون له إطلاق - أيضاً - يشمل حال فقده، بل هو - حينئذٍ - عبارة عن الحصّة الخاصّة التوأمة مع قصد الوجه على نحو نتيجة التقييد، كما أسلفنا، وحينئذٍ: فلو شكّ في دخله في الغرض، يكون مرجع الشكّ المزبور - لا محالة - إلى الشكّ في إطلاق المأمور به وعدم إطلاقه الراجع إلى الحصّة التوأمة..»، إلى آخر كلامه«.

والثالث: الامتثال، أي: إتيان الماُمور به بجميع أجزائه وشرائطه وترك موانعه، أو فقل: الإتيان بجميع ما له دخل في حقيقة الماُمور به.

والحقّ: عدم تمامية مثل هذا الكلام؛ ضرورة أنّه لم يعلم أنّ قصد الوجه ممّا حكم به الشرع أم لا؟ ولم يحكم به العقل وإلّا لما شكّ الإنسان دخالته.

وإذا قد عرفت هذا، يقع الكلام في أنّه هل يمكن إثبات التكليف بالعلم الإجماليّ كما يثبت بالعلم التفصيليّ أم لا؟والصحيح: أنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ علّة تامّة لثبوت التكليف في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة؛ لأنّ العقل لا يفرق في تنجّز متعلّق العلم به بين كونه تفصيليّاً أو إجماليّاً، فكما أنّ العلم التفصيليّ إذا تعلّق بحكم شرعيّ أو موضوع ذي حكم شرعيّ فالعقل يحكم بلزوم إطاعته والخروج عن عهدته بالامتثال، فكذلك هو يحكم في العلم الإجماليّ بلزوم الإطاعة والخروج عن عهدة المعلوم بالإجمال بالامتثال، - بعد أن قطعنا بالوجدان بفعلّيّة التكليف الذي لا يحتمل الخلاف - غاية الأمر: أنّ المتعلّق لمّا كان معلوماً تفصيلاً في العلم التفصيليّ، فلا يكون هناك ترديد فيه، وأمّا في العلم الإجماليّ، فحيث إنّ متعلّق التكليف غير معلوم تفصيلاً، فالعقل يحكم بإتيان جميع محتملاته في الشبهة الوجوبيّة، وترك الجميع في الشبهة التحريميّة، حتى يحصل القطع بالامتثال.

ص: 37

فالعلم الإجماليّ علّة تامّة بالنسبة إلى طرفي المخالفة والموافقة، وليس للشارع الترخيص ببعض أطرافه فضلاً عن جميعها، وإلّا لزم التناقض إمّا قطعاً أو احتمالاً؛ لأنّ الترخيص إن كان في تمام الأطراف فالتناقض قطعيّ؛ إذ المفروض أنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة، فلا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة، وإن كان في بعضها فالتناقض احتمالي؛ لأنّ فعلّيّة الترخيص مع احتمال التكليف من باب احتمال اجتماع النقيضين، وهو في الاستحالة كالتناقض، فلا يجوز الترخيص في المخالفة الاحتماليّة.

فظهر ممّا بيّنّاه: أنّ التفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة وبين وجوب الموافقة القطعيّة بأنّ العلم الإجماليّ علّة تامة بالنسبة إلى الأوّل، ومقتضٍ بالنسبة إلى الثاني، في غير محلّه، بل هو علّة تامّة بالنسبة إلى كليهما، وحينئذٍ: فالعقل - لا محالة - يحكم بوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.

ومن ذلك ظهر حال الأقوال في المسألة.

ثمّ إنّ ها هنا اُموراً لابدّ من بيانها:

الأمر الأوّل:

أنّ المراد من الحكم الذي يعلم بالتفصيل مرّةً وبالإجمال اُخرى هو الحكم المنشأ بداعي البعث والزجر، وهو إنّما يكون صالحاً للبعث والتحريك إذا كان واصلاً إلى العبد، بخلاف الحكم الذي يكون منشأ

ص: 38

بداعي الامتحان، فإنّ العلم به لا يصلح للتحريك، وكذا بخلاف الحكم المنشأ بداعي البعث ولكن لم يصل إلى المكلّف بحجّة من علم أو علمي، فلا يصلح للتحريك مثل: (اسكتوا عمّا سكت اﷲ عنه)؛ ضرورة أنّ الأحكام بوجوداتها الواقعيّة ما لم تقم عليها حجّة معتبرة لا تصل إلى مرتبة الفعليّة، ولا يجب بالتالي التحريك نحوها.

الأمر الثاني:

أنّ كلّاً من الحكم الحاصل بالعلم التفصيليّ والحاصل بالعلم الإجماليّ سواء من حيث صلوحهما للعبث والتحريك؛ ضرورة أنّ المدار في العمل بالحكم هو وصوله إلى المكلّف، وهو متحقّق حتّى في العلم المردّد بين هذا المصداق أو ذاك؛ لأنّ الترديد إنّما هو متعلّق الحكم، والبعث والتحريك يتعلّقان بنفس الحكم، ومثاله: ما لو علمت بوجوب إكرام شخصٍ، وكان مردّداً بين أن يكون عالماً أو جاهلاً، فلابدّ من التحرّك نحوه، وكونه مردّداً لا يقدح بالعلم بالحكم، فلا يمكن ادّعاء المعذّريّة بدعوى أنّ إجمال المتعلّق علّة لترك العمل بالعلم.

لا يقال: إنّ حال العلم الإجماليّ كحال الشبهة البدويّة؛ لأنّ تنجيز العلم للتكليف وتقبيح العقل مخالفته قد اعتبِر فيه تميّز المتعلّق عن غيره خارجاً ومعرفة خصوصيّاته حال الارتكاب لا بعده، وحينئذٍ لا يكون العلم الإجماليّ سبباً لتنجّز التكليف كما لا تكون الشبهة البدويّة كذلك، فيجوز المخالفة في كليهما بخلاف العلم التفصيليّ.

ص: 39

لأنّا نقول: لا وجه لقياس العلم الإجماليّ بالشبهات البدويّة؛ لأنّ هناك فرقاً بينهما، لوصول التكليف إلى المكلّف في الأوّل، ولذايصدق التمرّد على المولى بارتكاب بعض الأطراف فيه، دون الثاني، فيحكم العقل بقبح المخالفة وحسن المؤاخذة عليها، وليس هذا إلّا لتنجّز الحكم ووصوله إلى المكلّف بنفس العلم به ولو مع تردّد متعلّقه وعدم تميّزه، ولذا لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في العلم الإجماليّ، دون الشبهات البدويّة؛ فالقياس على الشبهات البدويّة قياس مع الفارق.

الأمر الثالث:

أنّ الملاك في الحرمة واستحقاق العقوبة هو التمرّد والطغيان على المولى وهتك حرمته، فيخرج بذلك عن العبوديّة، وهذا ظلم عليه وكفران بنعمته، وهذا الملاك مفقود مع الجهل بالحكم، فلو ارتكب المكلّف ما هو مبغوض عند المولى مع الجهل بمبغوضيّته لم يخرج عن زيّ العبوديّة، ولا يعدّ فعله هذا ظلماً للمولى وطغياناً عليه.

وهذا بخلاف العلم بالحكم، فإنّ عدم المبالاة به - سواء كان متعلّقه مميّزاً ومفصّلاً لدى المكلّف أو كان مردّداً مجملاً - هتك لحرمة المولى وظلم عليه، فإذا علم به اشتغلت ذمّته به، والاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة، ولا فرق في حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة عمّا اشتغلت به الذمّة قطعاً بين كون الاشتغال ثابتاً بالعلم التفصيليّ أو الإجماليّ.

ص: 40

الأمر الرابع:

أنّ هناك فرقاً بين الظلم والكذب، وهو أنّ الظلم قبيح ذاتاً؛ لأنّه بنفسه وبعنوانه محكوم بالقبح، بخلاف الكذب، فإنّه مقتضٍ للقبح لا علّة تامّة له، ولذا قد يطرأ عليه عنوان الحسن كالإصلاح بين المؤمنين وإنقاذ نفس محترمة، وليس كذلك الظلم فإنّ وصف القبح لا يكاد ينفكّ عنه.

وإذا كان العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ منجّزاً للحكم وعلّة تامّة بالنسبة إلى التكليف، فلا يجوز الترخيص في جميع أطرافه - أي: تركالمعلوم بالإجمال - وكذا لا يجوز الترخيص ببعض أطرافه - وهو المحتمل بالإجمال - للزوم القطع بالتناقص على الأوّل، واحتماله على الثاني.

فإن قلت: كيف لا يجوز الترخيص في الأطراف مع أنّه إذا قامت أمارة أو أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف موافقة للمعلوم بالإجمال، ويكون بمقدار المعلوم بالإجمال بحيث يكون انطباق المعلوم بالإجمال عليه ممكناً محتملاً، فإنّ العلم الإجماليّ ينحل - حينئذٍ - ويجري الأصل - بنفي وجوب الطرف الآخر - بلا معارض، والحال أنّ احتمال الوجوب في الطرف المنفيّ ما زال موجوداً، فيكشف هذا عن إمكان ورود الترخيص ولو ببعض الأطراف مع وجود احتمال التناقض، ويسمّى هذا ﺑ (الانحلال الحكميّ) في قبال (الانحلال الحقيقيّ) وهو صيرورة المعلوم بالإجمال معلوماً بالتفصيل في بعض الأطراف.

ص: 41

قلت: لا فرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ في علّيّتهما التامّة للحكم، فكما أنّه في العلم التفصيليّ بالتكليف قد يجعل الشارع بدلاً في مقام الامتثال، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة وغيرها، فكذلك في العلم الإجماليّ، فيجعل ذلك الطرف الذي قامت الحجّة على وجود التكليف فيه بدلاً عن التكليف الواقعيّ، وهذا نوع توسعة وتصرّف في مقام إسقاط التكليف كما في مثل: (الطواف بالبيت صلاة)، فتفريغ الذمّة حينئذٍ: إمّا بإتيان نفس الماُمور به الواقعيّ، أو بإتيان بدله.

ومعنى العلّيّة التامّة: أنّه لا يمكن الترخيص في طرف ما دام لم يجعل الطرف الآخر بدلاً، ولذا لايجري الأصل المرخّص إذا كان منافياً للأطراف بعدما قلنا بأنّه علّة تامّة؛ لأنّ احتمال التناقض متحقّق وإن لم لكن لهذا الأصل معارض.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ مقتضٍ لا علّة تامّة، فإنّه حينئذٍ يجري الأصل المرخّص.فاتّضح: أنّه مع التمكّن من الظنّ التفصيليّ يجوز الإتيان بالعلم الإجماليّ بطريق أولى؛ لأنّ مرجع حجّيّة الظن إلى ترتيب آثار العلم بحيث يصحّ إسناد المؤدّى إلى اﷲ تعالى وتحقّق الامتثال به جزماً.

فلو قلنا بعدم تقدّم العلم التفصيليّ مع التمكّن منه، لا وجه - حينئذٍ - لما هو محكيّ عن الحلّيّ) في مسألة اشتباه الثوب الطاهر بالنجس: من

ص: 42

تقديم الامتثال التفصيليّ على الشرط، حيث ذهب إلى وجوب الصلاة عارياً وعدم جواز تكرارها في الثوبين المشتبهين (1).

فحيث لم يتمكّن من العلم التفصيليّ، يسقط اعتبار امتثاله، فلا يزاحم الشرط أو الجزء المتمكّن منه، ولو بالتكرار، فإنّه متمكّن من حصول الصلاة في الثوب الطاهر، فيلزم الدور؛ لأنّ التمكّن من الامتثال التفصيليّ واعتباره يتوقّف على التمكّن منه. والتمكّن منه متوقّف على سقوط الشرط، فيلزم الدور.

ص: 43


1- حكاه عنه في فوائد الاُصول, انظر: 4: 272 - 273.

ص: 44

المبحث الثاني: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع

اشارة

وها هنا اُمور لابدّ من بيانها:

الأمر الأول: أنّ المراد من الاُصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مقام القطع - على ما نبّه عليه جملة من المحقّقين كالمحقّقالنائيني! (1) - ليس هو مطلق الاُصول، بل خصوص الاُصول التنزيليّة، أي: الاُصول التي تكون متكفّلة لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وهو البناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر، كالاستصحاب وأصالة الصحّة، دون أصالة الطهارة والبراءة والاشتغال.

الأمر الثاني: هو ما ذكره المحقّق النائيني! حيث قال:

«قد عرفت أنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات إضافة، ولأجل ذلك

ص: 45


1- فوائد الاُصول 3: 15 - 16.

يجتمع في القطع جهات ثلاث:

الجهة الاُولى: جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات، ولمكان انطباقها على ذي الصورة يكون ذيها معلوماً بتوسط تلك الصورة، فالمعلوم أولاً وبالذات هي الصورة، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم، وهذا من غير فرق بين أن نقول: إنّ العلم من مقولة الكيف، أو من مقولة الفعل، أو من مقولة الانفعال، أو من مقولة الإضافة - على اختلاف الوجوه والأقوال - فإنّه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم، فهذه أوّل جهات العلم.

الجهة الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيّته له وإراءته للواقع المنكشف، وهذه الجهة مترتّبة على الجهة الاُولى؛ لما عرفت من أنّ إحراز الواقع وكشفه إنّما يكون بتوسّط الصورة.

الجهة الثالثة: جهة البناء والجري العمليّ على وفق العلم، حيث إنّ العلم بوجود الأسد مثلاً في الطريق يقتضي الفرار عنه، وبوجود الماء يوجب التوجّه إليه إذا كان العالم عطشاناً، ولعلّه لذلك سمّيالعلم اعتقاداً، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العمليّ عليه.

ص: 46

فهذه الجهات الثلاث كلّها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم، حيث إنّ حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيّته وجداني والبناء العمليّ عليه قهري.

ثمّ إنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم، وفي باب الاُصول المحرزة هي الجهة الثالثة، وتوضيح ذلك: هو أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقيّة والمحرزيّة والكاشفيّة، بناءً على ما هو الحقّ عندنا من تعلّق الجعل بنفس الطريقيّة، لابمنشأ انتزاعها» (1).

وبعبارة أُخرى: فلمّا كان للأمارات مقدار من الكشف والطريقيّة، فقد تمّم الشارع المقدّس كشفه هذا، وجعله كشفاً محرزاً للواقع، فكأنّه جعل الظنّ علماً من حيث الكاشفيّة، بلا تصرّف - أصلاً - في الواقع والمؤدّى، بل المؤدّى باقٍ على ما هو عليه، سواء صادفت الأمارة الواقع أم خالفته؛ وذلك لترتّب عدّة محاذير فاسدة عليه، كلزوم التصويب المعتزليّ الباطل، أو التصويب الأشعريّ المحال، ولزوم اجتماع الضدّين، وكذا لزوم الإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة، والحكومة الواقعيّة لأدلّة اعتبار الأمارات والاُصول على أدلّة الأحكام الواقعيّة، من قبيل: (الصلاة بالبيت طواف) أو (لا شكّ لكثير الشكّ)، حيث يوجب التوسعة أو

ص: 47


1- فوائد الاُصول 3: 16 - 17.

التضييق في موضوعات الأحكام الواقعيّة، حتى يتحقّق موضوع حكمٍ آخر مقابل لموضوع الحكم الواقعيّ، مع أنّ الحكومة هنا ظاهريّة، بل التحقيق: أنّ المجعول هو نفس المحرزيّة، وأمّا المنجزيّة والمعذّريّة هما من لوازمها العقلية، فليس هناك حكم ظاهريّ في مقابل الحكم الواقعيّ، بل هو ظاهر الحكم.

وفي هذا يقول المحقّق النائيني!:«وأمّا المجعول في باب الاُصول التنزيليّة فهي الجهة الثالثة من العلم، وهو الجري والبناء العمليّ على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقيّة، إذ ليس للشكّ الذي أخذ موضوعاً في الاُصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظنّ فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الاُصول الطريقيّة والكاشفيّة، بل المجعول فيها هو الجري العمليّ والبناء على ثبوت الواقع عملاً الذي كان ذلك في العلم قهريّاً وفي الاُصول تعبّدياً» (1).

وخلاصة ما تقدّم: أنّ المجعول في باب الاُصول ليس إلّا البناء العمليّ وعمل الواقع المحرز للشيء المجهول، فليس فيها أيّة جهة كشف أو طريقيّة، إلّا البناء على ثبوت الواقع عملاً، ومن دون النظر إلى الواقع أصلاً.

ص: 48


1- فوائد الاُصول 3: 19.

فتحصّل: إمكان قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ بنفس دليل حجّيّتها، والمراد من كونها تقوم مقامه: أنّ أثره يترتّب عليها، فيثبت للأمارات بحكم العقل نفس ما ثبت للقطع من المنجزّية في صورة الإصابة والمعذّريّة في صورة الخطأ، بلا فرق بين كون حجّيّتها من باب الجعل التكليفي - أي: وجوب العمل على طبقه - أو من باب تتميم الكشف.

فكلّما قام دليل على حجّيّة الأمارات واعتبارها، قامت هي مقام القطع الطريقيّ المحض، ولأجل ذلك، فكما يكون القطع منجّزاً عند الإصابة، ومعذّراً عند الخطأ، وموضوعاً لحكم العقل بوجوب المتابعة، ولزوم المشي على وفقه، فكذلك تكون الأمارة الظنّيّة، بعد أن صارت حجّة معتبرةً عند الشارع، منجّزةً ومعذّرة، وموضوعاً لحكم العقل بوجوب المتابعة ولزوم السير.نعم، منجّزيّة القطع ومعذّريّته ثابتة له بنفسه؛ لأنّ العقل يستقلّ بوجوب متابعته، وهذا بخلاف الأمارة التي لا تكتسب حجّيّتها إلّا بعد قيام الدليل عليها.

فالقطع إن كان كان طريقيّاً: يترتّب أثره بتنجّز المؤدّى عند الإصابة وتعذّره عند الخطأ، وإن كان موضوعيّاً: يترتّب أثره بتنجّز المؤدّى على كلّ حال، طابق الواقع أم خالفه.

ولكن مع ذلك، فلا يمكن للأمارة أن تقوم مقام القطع الذي أخذ على

ص: 49

نحو الصفتيّة، وقد ذهب العلّامة الأنصاريّ! (1) إلى قيامها مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ دون الصفتيّ.

وقد تابعه على ذلك المحقّق النائيني! حيث قال: «فاعلم: أنّ الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق والأمارات والاُصول التنزيليّة مقام القطع ثلاثة:

الأوّل: قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا أُخذ موضوعاً على نحو الصفتيّة.

الثاني: عدم قيامها مقام ما أخذ في الموضوع مطلقاً ولو على نحو الطريقيّة والكاشفيّة.

الثالث: قيامها مقام القطع الطريقيّ مطلقاً ولو كان مأخوذاً في الموضوع، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي، وهذا هو الأقوى» (2).

وذلك لأنّ القطع بما هو صفة يكون كسائر الموضوعات في عدم الإحراز للواقع، فإذا فرض أنّ الشارع أخذ العلم في موضوع جواز

ص: 50


1- قال! في الرسائل: «ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة وبعض الاُصول العمليّة مقامه في العمل, بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة؛ فإنّه تابع لدليل الحكم. فإن ظهر منه، أو من دليل خارج، اعتباره على وجه الطريقيّة للموضوع، كالأمثلة المتقدّمة، قامت الأمارات وبعض الاُصول مقامه. وإن ظهر منه اعتبار القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّةً قائمة بالشخص، لم يقم مقامه غيره». انظر: فرائد الاُصول 1: 33 - 34.
2- فوائد الاُصول 3: 21.

الشهادة بما هو صفة خاصة كما ورد عن النبي- أنّه قال - وقد سئل عن الشهادة -: «هل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع» (1)، فلا يقوم شيء من الأمارات أو الظنون مقامه إلّا بدليل خاصّ، كرواية حفص بن غياث (2) الدالّة على جواز الشهادة استناداً إلى اليد.

وكذا لا يقوم شيء من الأمارات والظنون مقام موضوع حكم الركعتين الأُوليين فيما لو فرض أخذ العلم فيه إلّا بدليل خاصّ.

وقد ظهر من عدم قيام الأمارة - بمجرّد دليل اعتبارها - مقام القطع الموضوعيّ الصفتيّ، عدم قيامها كذلك مقام القطع الموضوعيّ الذي يكون مأخوذاً على وجه الطريقيّة.

وقد أنكر صاحب الكفاية! قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ بأقسامه، فإنّه بعد أن نفى قيام الأمارة مقام القطع الصفتيّ، عطف عليه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ، ونفاه بعين ما نفي به قيامها مقام القطع الصفتيّ.

وهذا نصّ كلامه!: «لا ريب في عدم قيامها [أي: الأمارة] بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة من تلك الأقسام - إلى أن قال - ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في

ص: 51


1- وسائل الشيعة 27: 342، الباب 20 من أبواب الشهادات، الحديث 3.
2- انظر: وسائل الشيعة 27: 292، باب 25 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح2.

الموضوع على نحو الكشف» (1).

وإنّما امتنع قيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ الطريقي؛ لأنّ أدلّة حجّيّة الأمارات لا تثبت لها أزيد من كونها كالقطع بلحاظ الكشف عن الواقع، فإذا كان للقطع حيثيّات اُخرى، فإنّ دليل اعتبار الأمارة يكون قاصراً عن إثبات هذه الحيثيّات لها أيضاً، فأدلّة الأمارات لا تثبت إلّاالطريقيّة والكشف عن الواقع، حكماً كان الواقع أو موضوعاً، فإثبات الموضوعيّة يحتاج إلى دليل آخر.

والسرّ في ذلك: أنّ قضيّة الحجّيّة والاعتبار إنّما هي ترتيب ما يكون للقطع من الآثار، بما هو حجّة، لا بما هو موضوع.

فانقدح بذلك: عدم قيام الطرق والأمارات - بمجرّد الدليل القائم على حجّيّتها واعتبارها - مقام القطع المأخوذ في الموضوع بما هو كاشف وحاكٍ.

وأمّا ما قد يقال: في تقريب قيام الأمارة مقام القطع الطريقيّ والموضوعيّ بنحو الطريقيّة: من أنّ دليل الاعتبار يتكفّل نفي احتمال الخلاف، فهو ينزّل الأمارة منزلة العلم، ومقتضى إطلاقه تنزيل الأمارة منزلة العلم من جهة كونه طريقاً ومن جهة كونه موضوعاً، فتقوم الأمارة مقام القطع الطريقيّ والموضوعيّ.

ص: 52


1- كفاية الاُصول: 263.

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّه يؤدّي إلى لزوم اجتماع النقيضين؛ وذلك لأنّ دليل الاعتبار لا يكفي إلّا لتنزيل الواحد؛ إذ لابدّ في التنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظ القطع والأمارة في تنزّلهما منزلة القطع الطريقيّ لحاظ آليّ؛ لأنّ النظر في الحقيقة إنّما هو إلى نفس الواقع والمؤدّى، ولحاظهما في تنزيلها منزلة القطع الموضوعيّ استقلاليّ؛ لأنّ النظر - حينذاك - إلى نفسيهما؛ فيلزم من كون الدليل الواحد متكفّلاً لكلا التنزيلين أن يجتمع اللّحاظان: الآليّ والاستقلاليّ، على شيء واحد، وهو محال ضرورةً.

ومعه: فلابدّ أن يكون الدليل متكفّلاً لأحدهما فقط، وهو معنى: تنزيلها منزلة القطع الطريقيّ.

وفي ذلك يقول!:

«فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين، حيث لابدّ في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظهما في أحدهما آليّ، وفي الآخر استقلاليّ.بداهة أنّ النظر في حجّيّته وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما» (1).

ص: 53


1- كفاية الاُصول: 264.

ثمّ أضاف إلى ذلك - ما لفظه -:

«ولا يخفى: أنّه لولا ذلك، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد - دالّ على إلغاء احتمال خلافه - مقام القطع بتمام أقسامه، ولو فيما أخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة» (1).

ولكنّ المحقّق النائيني! خالف في ذلك، حيث ذكر أنّ حكومة الأمارات على أدلّة الأحكام الواقعيّة حكومة ظاهريّة، لا واقعيّة، وأنّ المجعول في باب الأمارات هو الكاشفيّة التامّة والمحرزيّة، وأنّ الدليل الدالّ على اعتبارها يتكفّل بتنزيلها منزلة القطع من جهة كاشفيّته عن الواقع ومحرزيّته له، فعبّر! عنها:

تارةً: بالحكومة في مقام الإثبات في قبال الحكومة الواقعيّة، وهي الحكومة في مقام الثبوت، باعتبار أنّ دليل الأمارة لا يتكفّل التوسعة أو التضييق في الواقع بل في طريق إحرازه.

واُخرى: بأنّها ما كانت في طول الواقع، باعتبار أنّ حكومة دليل الأمارة بلحاظ وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، لا بلحاظ التوسعة في رتبة الواقع نفسه.

ثمّ ذكر! أنّ إشكال صاحب الكفاية إنّما يتأتى بناء على مسلك جعل المؤدّى في باب الأمارة، وأمّا بناءً على ما اختاره من جعل المحرزيّة

ص: 54


1- المصدر نفسه: 265.

والوسطيّة في الإثبات فلا يتم ما ذكره!؛ ضرورة أنّه لم يلحظ الواقع والمؤدّى في مقام التنزيل حتى يرد عليه أنّه يستلزم اجتماع اللّحاظين، بل لم يلحظ سوى الأمارة والقطع، ودليل الاعتبار يتكفّلجعل الأمارة بمنزلة القطع في المحرزيّة، فتقوم مقام القطع الطريقيّ المحض والموضوعيّ إذا كان بنحو الطريقيّة (1).

وأمّا قيام الطرق والاُصول مقام العلم الطريقيّ فهو كما ذكر المحقّق النائيني!:

«لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين [حتى يقال: إنّه لا يمكن بجعل واحد اجتماع لحاظي الآلي والاستقلاليّ] بل نفس أدلّة حجّيّتها تفي بذلك بعدما كانت حجّيّتها عبارة عن وسطيّتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزةً له - كما هو الشأن في الطرق العقلائيّة - بل الظاهر أنّه ليس للشارع طريق مخترع، بل الطرق الشرعيّة كلّها إمضاء لما

ص: 55


1- انظر: فوائد الاُصول 3: 21، قال): «الثالث: قيامها مقام القطع الطريقيّ مطلقاً، ولو كان مأخوذاً في الموضوع، وعدم قيامها مقام القطع الصفتيّ، وهذا هو الأقوى، فإنّ ما ذكر مانعاً عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقيّة - من استلزام الجمع بين اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ في لحاظٍ واحد - ضعيف غايته؛ فإنّ الاستلزام المذكور مبنيّ على جعل المؤدّى الذي قد تبيّن فساده. وأمّا على المختار، من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفيّة والمحرزيّة والوسطيّة في الإثبات، فيكون الواقع لدى من قامت عنده الطرق محرزاً، كما كان في صورة العلم..». إلى آخر كلامه«.

في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤديّاتها، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهريّة؛ ويستقيم حينئذ جميع ما فرّع على ذلك ممّا يقتضيه اُصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة.

وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدّى، فإنّه يكون من الحكومة الواقعيّة، ولابدّ حينئذ من القول بالإجزاء، ويكون ذلك من التصويب المعتزليّ» (1).

وأمّا الاُصول العمليّة ممّا عدا الاستصحاب:فلا معنى لقيامها مقام القطع بدليل حجّيّتها؛ لأنّ القيام مقام القطع ليس إلّا ترتيب ما للقطع من الآثار، من المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّريّة عند الخطأ وحكم العقل بوجوب المتابعة.

أمّا الاُصول العمليّة كمثل قاعدة الطهارة والحلّ والبراءة:

فهي ليست سوى وظائف مقرّرة للجاهل في ظرف الجهل والحيرة، بلا فرق بين أن تكون البراءة عقليّةً أو شرعيّة.

وأمّا الاستصحاب:

فإنّه لمّا كان له جهة كشف ونظر إلى الواقع، صحّ - حينئذٍ - أن يقوم مقام القطع؛ نظراً لوجود سنخيّة بينه وبين القطع من ناحية الكشف والطريقيّة، بخلاف باقي الاُصول العمليّة، حيث لا تسانخ بينها وبين الواقع أصلاً.

ص: 56


1- فوائد الاُصول 3: 30.

فظهر من ذلك: صحّة الدعوى القائلة: بأنّ كلّ أصل عمليّ تثبت له جهة كشف ما ونظر إلى الواقع، فيمكن أن يقوم مقام القطع واليقين، كأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، بناءً على القول بأنّها اُصول عمليّة، لا أمارات.

الكلام في الظنّ الطريقيّ والموضوعيّ:

لا شكّ في أنّ الظنّ كالقطع في كونه مثله ينقسم إلى طريقيّ تارةً، وموضوعيّ أُخرى.

فالظنّ الطريقيّ هو الظنّ الذي يكون طريقاً محضاً إلى الواقع، من دون أن يكون مأخوذاً في موضوع الحكم كالقطع الطريقيّ.

والفرق بين القطع الطريقيّ وبين الظنّ الطريقيّ يكمن في أنّ طريقيّة القطع ذاتيّة وغير قابلة للجعل الشرعيّ، كما تقدّم، بخلاف الظنّ؛ فإنّ طريقيّته مجعولة من الشارع، إمّا إحداثاً وتأسيساً، أو إمضاءً من قبل الشارع لما عند العقلاء، كحجّيّة الأمارة شرعاً بنحو الطريقيّة، بعدما لم تكن تلك الحجّيّة ذاتيّةً له كالقطع.قال في الكفاية!: «لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع في كون الحجّيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلّيّة، بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجّيّة عقلاً، بناءً على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومةوذلك

ص: 57

لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّيّة بدون ذلك ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً [أي: امتثالاً] وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل» (1).

فهو - إذاً - محتاج إلى الجعل على كلّ حال، وإلّا، لزم أن يكون حدوث الحادث بلا علّة.

ثمّ إنّ الظنّ:

تارةً: يكون طريقاً محضاً إلى موضوعٍ، أو حكم شرعيّ، وضعيّ أو تكليفيّ، تماماً كما في القطع.

واُخرى: يكون مأخوذاً في موضوع حكم، أي: يكون دخيلاً فيه، وهنا: فإمّا أن يؤخذ فيه على نحو الطريقيّة أو على نحو الصفتيّة.

والأقسام المتصوّرة في القطع الموضوعيّ بعينها، تجري هنا - أي: في الظنّ الموضوعيّ - فإنّ الحكم المأخوذ في الموضوع: إمّا أن يكون نفس الحكم الذي تعلّق به الظنّ أو حكماً آخر يماثله أو يضادّه أو يخالفه، والمأخوذ في موضوع كلّ واحد منها: إمّا أن يكون هو الظنّ المعتبر أو غير المعتبر.

أمّا أخذ الظنّ موضوعاً في حكم نفس الحكم الذي يكون ذلك

ص: 58


1- كفاية الاُصول: 275.

الحكم متعلّق - سواء كان تمام الموضوع أو جزؤه، على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة، معتبراً كان الظنّ أو غير معتبر - فغير ممكن يقيناً كما مرّ ذلك عند الكلام على القطع؛ لأنّ الظنّ متأخّر رتبةً عن متعلّقه، فلو أنّه أخذ فيه، للزم أن يصير المتأخّر متقدّماً، وهو ظاهر الاستحالة.وأمّا أخذ الظنّ في موضوع مماثل أو مضادّ: فإن كان ظنّاً غير معتبر فهو جائز قطعاً، فيجوز للمولى أن يقول - مثلاً -: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة من إخبار الصبيّ، يجب أو يحرم عليك صلاة الجمعة)؛ لأنّ الظنّ في مفروض المسألة غير منجّز على المكلّف، وهو الصبيّ؛ لعدم حجّيّة ظنّه، فالحكم المرتّب على ظنّه حكم ظاهريّ، فلا يكون هناك تنافٍ بينه وبين الحكم الواقعيّ، كما في مورد الشك.

وهذا بخلاف ما إذا كان الظنّ معتبراً شرعاً، فلا يجوز أن يقال: (إذا أخبرك العدل بوجوب صلاة الجمعة يجب أو يحرم عليك صلاة الجمعة)؛ لأنّ الواقع منجّز في حقّه حينئذٍ، والحكم المرتّب على الظنّ فعليٌّ، فيلزم اجتماع المثلين أو الضدّين: إمّا في الواقع أو في نظر الظانّ.

فإن قلت: لا مانع من أخذ الظنّ في موضوع حكم مماثل بحيث يكون ذلك الجعل الثاني تأكيداً له، كما هو كذلك في الاُمور التي تكون قابلة للاشتداد، وذلك فيما إذا كان له مرتبة ضعيفة ثمّ جاءت مرتبة اُخرى من نفس العرض، فإنّها تشتدّ وتقوى تدريجيّاً، كما في الكيفيّات المحسوسة

ص: 59

التي يكون حصولها في موضوعاتها تدريجيّاً، مرتبة بعد مرتبة، وتسمّى بالحركة في الكيف، كالحلاوة التي توجد في التمر والعنب.

قلت: لا معنى للتأكيد والاشتداد في الأحكام الشرعيّة؛ بداهة أنّها من الاُمور الاعتباريّة التشريعيّة، لأجل تحريك العبد نحو الفعل أو الترك، وليست من سنخ الكيفيّات والأعراض الخارجيّة حتى تكون قابلةً للاشتداد.

وأمّا أخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر لا يضادّ حكم متعلّقه، ولا يماثله - سواء كان الظنّ حجّة وطريقاً معتبراً إلى متعلّقه أم لا -: فلا مانع منه بالنسبة إلى جميع أقسامه، بلا فرق بين أن يكون أخذه لموضوع الحكم الآخر على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة، سواء كانت الصفتيّة هي تمام حكم الموضوع أو جزأه، وسواء كان الموضوع في كلٍّ من هذه الثلاثةهو الظنّ المجعول حجّة شرعيّة لمتعلّقه أم الظنّ غير المجعول كذلك.

ص: 60

التجرّي

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى التجرّي.

الظاهر: أنّ التجرّي أعمّ من العصيان بحسب اللّغة، كما أنّ الانقياد أعمّ من الإطاعة.

وأمّا بحسب الاصطلاح، فهو مباين للعصيان، كمباينة الانقياد للإطاعة؛ وذلك لأنّه يطلق عندهم على خصوص مخالفة الحجّة غير المصيبة للواقع، فيما يطلق العصيان على مخالفة الحجّة المصيبة للواقع، وأمّا موافقة الحجّة، فإن كانت - هي - مصيبةً للواقع، سمّيت إطاعةً، وإلّا، انقياداً.

ومن ثمّ وقع البحث في أنّ المتجرّي هل هو كالعاصي في استحقاق العقاب عقلاً أم لا؟

ص: 61

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

لا يخفى: إمكان عدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة تارةً، ومن المسائل الفقهية ثانيةً، وثالثةً من المسائل الكلاميّة؛ بداهة اختلاف الجهة المبحوث عنها بحيث تصبّ في الغرض التدوينيّ لكلّ فنّ.وكذا لا يخفى: عدم جواز بحثها - ها هنا - إلّا من جهة كونها اُصوليّة؛ ضرورة أنّه لا معنى لالتزام الاستطراد فيها فيما لو بحثت من جهتها الكلاميّة أو الفقهيّة مع إمكان عدّها من مسائل هذا الفن.

فأمّا صحة كونها مسألة كلاميّة: فلأنّه يقع البحث في علم الكلام عن استحقاق العقاب وعدمه، فتندرج - حينئذٍ - مسألة أنّ المتجرّي هل هو كالعاصي في استحقاق العقاب أو لا؟ تحت مسائل علم الكلام.

وليس البحث عنها من هذه الجهة بحثاً اُصوليّاً، كما قد يتوهّم؛ ضرورة أنّ المناط في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرى في قياسٍ تُنتج من ضمّ الصغرى إليها حكماً شرعيّاً كلّيّاً، والبحث في كون المتجرّي مستحقّاً للعقاب كالعاصي أو لا، لا يستنتج منه هذا الحكم الكلّيّ.

وكذا ليست مسألةً فقهيّة؛ لأنّ البحث عنها في علم الفقه إنّما يكون من جهة أنّ القطع بمبغوضيّة شيء أو محبوبيّته هل يكون سبباً لاتّصافه بالحرمة أو الوجوب؛ لأنّها إذ ذاك تندرج تحت فعل المكلّف من حيث اتّصافه بأحد الأحكام التكليفيّة الخمسة، كما هو موضوع علم

ص: 62

الفقه، والبحث عن التجرّي من جهة استحقاق العقاب وعدمه أجنبيّ عن موضوع علم الفقه فيكون خارجاً عن مسائله لما هو واضح من أنّ موضوع كلّ علم هو الجامع بين موضوعات مسائله.

نعم، مسألة التجرّي إنّما تكون اُصوليّةً إذا كان البحث عنها من جهة أنّ قيام الأمارة والحجّة غير المصادفة للواقع هل توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في الفعل بحيث تقتضي وجوبه أو حرمته، أو أنّ الفعل بعدها يكون باقياً على المحبوبيّة والمبغوضيّة الموجودة فيه واقعاً، فلا يكون لتعلّق الحجّة به أثر في تغيّر حكمه، بل هو باقٍ على حكمه الواقعيّ.

وعليه: فلا يكون نفس شرب الماء - مثلاً - مبغوضاً عند الشارع وإن تعلّق به القطع بخمريّته، وكذا لا يكون قتل ولد المولى محبوباً، وإن قطع العبد بكونه عدوّاً له.

الأمر الثالث:

وهو في أنّ التجرّي، هل هو من أفعال القلب، حيث إنّه عنوان ينطبق على إرادة الشخص المتجرّي، أو لا؟

فإن كان من أفعال القلب، فمعناه: العزم على العصيان والقصد على مخالفة المولى مع إتيان ما يعتقد بكونه معصيةً.

وإن لم يكن منها، بل كان عنواناً ينطبق على الفعل الخارجيّ، فمعنى التجرّي - حينئذٍ - هو العمل الذي يعتقد أنّه مخالفة لأمر المولى.

ص: 63

فعلى الأوّل: يكون قبحه عقليّاً؛ لأنّه من جهة سوء سريرته وخبث باطنه وسوء قصده وإرادته.

وعلى الثاني: القبح فعليّ؛ لأنّه من جهة مذموميّة عمله.

ومن ثمّ يقع البحث في أنّ كلا القبحين هل يكون موجباً للحرمة الشرعيّة أو لا؟

قد يقال: إنّ فعل المتجرّي معصية وموجب للعقاب، إمّا لأنّ الخطابات الأوّليّة تشمل صورة المصادفة وعدم المصادفة، أو باعتبار حدوث خطابٍ آخر بواسطة طروّ عنوان التجرّي على الفعل المتجرّى به.

أمّا الأوّل: فمرجعه إلى أنّ الخطابات الأوّليّة ﻛ (صلِّ) و(لا تشرب الخمر) إنّما تتعلّق بالوجود الواقعيّ للشيء، فالخمر بوجوده الواقعيّ دخيل وشرط في التكليف، ولا دخل للعلم والجهل فيه.

فعُلِم من ذلك: أنّ الأحكام تتعلّق بنفس موضوعاتها الواقعيّة سواء قامت عليها الحجّة أم لا؟ ولكن لمّا كان الغرض من الأمر والنهي هو الانبعاث إلى الماُمور به، والانزجار عن المنهيّ عنه، والانبعاث إنّما يكون دخيلاً بوجوده العلميّ لا الواقعيّ.

ففي الحقيقة: ليس الأمر إلّا عبارة عن طلب اختيار المكلّف وانبعاثه نحو فعل الشيء، كما أنّ النهي ليس إلّا طلب اختيار المكلّف ترك الشيء وانزجاره عن فعله، وقد عرفت: أنّه لا يعقل اختيار فعل الشيءبعنوان

ص: 64

انبعاثه عن الأمر أو اختيار تركه بعنوان انزجاره عنه بواسطة النهي، من دون قيام الحجّة من علمٍ أو علميّ، بلا فرقٍ بين ما إذا كانت تلك الحجّة مصادفةً للواقع أم لا.

وإذا كان متعلّق التكليف هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع، فهو موجود في كلتا الصورتين: الموافقة والمخالفة، وحينئذٍ: فلابدّ من القول بأنّ الأمر والنهي، وإن كانا يتعلّقان بحسب ظاهر الأدلّة بنفس الواقع، ولكن لا أثر لوجود التكليف من دون العلم وقيام الحجّة، بل يكون لغواً، فلابدّ من تقييدها بقيام الحجّة، ولا شكّ أنّ قيام الحجّة على حرمة الخمر ممّا يشمل المتجرّي أيضاً.

والحاصل: أنّه بعدما ثبت أنّ الواجب والحرام هو الذي قامت الحجّة على وجوبه وحرمته، علميّةً كانت أو ظنّيةً، وأنّ المصادفة وعدمها ليست تحت قدرة المكلّف، فلا يمكن تخصيص الموضوع بخصوص الحجّة التي تكون مصادفة للواقع؛ ضرورة أنّ هذا التخصيص ليس إلّا إحالةً إلى أمر غير مقدور؛ إذاً فلابدّ أن يكون موضوع التكاليف الأوّليّة الواقعيّة هو مطلق ما قامت الحجّة على حرمته أو على وجوبه، سواء كانت هذه الحجّة مطابقةً للواقع، كما في المعصية والإطاعة، أم مخالفة له، كما في التجرّي والانقياد.

ويمكن الجواب عن هذه المغالطة: بأنّ الأحكام الواقعيّة تابعة للمصالح والمفاسد، حيث إنّ الشارع لا ينهى عن شيء إلّا إذا رأى فيه

ص: 65

مفسدةً، وكذا لا يأمر بما ليس فيه مصلحة. وإذا كان كلٌّ من التكليف والإرادة تابعين للمفسدة والمصلحة من حيث السعة والضيق، فلا يمكن أن تكون دائرتهما أوسع ممّا فيه المصلحة والمفسدة، وإلّا، ترتّب على ذلك تالٍ فاسد، وهو أن يتخلّف المعلول عن علّته.

وحينئذٍ: فإن فرض أنّ العلم كانت له مدخليّة ما في المفسدة والمصلحة، كان لابدّ من أخذه في الموضوع، إمّا تماماً، أو جزءاً، وهذا خارج عن مفروض الكلام.وأمّا لو لم يكن كذلك، بل كان المتعلّق فيه هو نفس المصلحة أو المفسدة، من دون أن يكون للعلم دخل فيهما - أصلاً - فلا يمكن فرض تعلّق الإرادة بالمقيّد بالعلم أو العلميّ؛ ذلك أنّ تبعيّة الإرادة لما هو ذو المصلحة أو المفسدة ثابتة بحكم العقل، وإلّا، لزم تخلّف المعلول عن علّته.

فإذا فرضنا أنّ المفسدة قائمة بذات شرب الخمر - مثلاً - فكيف يمكن أن يقال - عندئذٍ - بأنّ متعلّق التكليف هو شرب الخمر المعلوم؟!

فإن قلت: إنّ الغرض من التكليف ليس إلّا الانبعاث، وهو غير ممكن إلّا إلى ما هو معلوم وواصل.

قلت: العلم يكون شرطاً في التنجّز فيما لم يصل إليه التكليف ولم يحرزه، فيكون معذوراً ولا يعاقب على مخالفته، فيكون الوصول شرطاً في تنجّز التكليف، لا في تحقّقه.

ص: 66

ثمّ لو سلّمنا أنّ الموضوعات الواقعيّة القائمة بها المصالح والمفاسد كانت مقيّدة بصورة الوصول إلى المكلّف، فالنتيجة - حينئذٍ - أنّ الخمر الحرام هو الواصل - أي: الخمر الذي قامت الحجّة على خمريّته - لا مطلق ما قامت الحجّة على خمريّته، ولو لم يكن خمراً في الواقع. فلا يمكن إثبات حرمة التجرّي بواسطة دعوى اختصاص الحكم بالعالم بالخمريّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ! أفاد في الكفاية:

«أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون فعلاً اختياريّاً، فإنّ القاطع لا يقصده، إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعيّ الاستقلاليّ، لا بعنوانه الطارئ الآليّ، بل لا يكون - غالباً - بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب والحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبةً لذلك إلّا إذا كانت اختياريّة» (1).والذي يظهر من كلامه هذا: هو أنّه! قائل بنفي الحرمة عن الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع، وأنّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل اختياريّ أصلاً؛ نظراً لأنّ ما وقع لم يُقصد وما قُصد لم يقع.

وأمّا ما قد يقال: من حدوث خطابٍ تحريميّ متعلّق بالفعل المتجرّى

ص: 67


1- كفاية الاُصول: 260.

به بواسطة عنوان التجرّي، بحيث يكون طروّ هذا العنوان جهة وحيثيّة تعليليّة لحدوث ذلك الخطاب الذي هو متعلّق بنفس الفعل المتجرّى به، فتقريبه بأن يقال:

لا شكّ في أنّ من الأفعال ما هو قبيح في نفسه ولا يقبل التغيير، كالظلم، ومنها ما هو قبيح كذلك، ولكنّه يقبل التغيير، كالكذب إذا اندرج تحت عنوان الإصلاح.

وكذا لا شكّ في أنّ من الأفعال ما لا حسن فيه في حدّ ذاته، ولا قبح فيه كذلك أيضاً، كالقيام، ولكنّه يكون بحيث إذا تعنون بعنوان الاحترام يحسن، كما أنّه إذا تعنون بعنوان الهتك يقبح.

وفيما نحن فيه، فشرب الماء - مثلاً - فعل من الأفعال التي لا قبح ولا حسن فيها في حدّ ذاتها، إلّا أنّه إذا فرض صدوره من المكلّف بعد قطعه بكونه خمراً، أو فقل: بعد أن تعنون لديه بعنوان مقطوع الخمريّة، فيمكن أن تحدث فيه مفسدة، توجب هذه المفسدة له القبح عقلاً والحرمة شرعاً.

هذا فيما يتعلّق بمقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فمقتضى قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع - وهي القاعدة القائلة بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع - أنّه إذا حكم العقل بقبح الفعل المتجرّى به، فلابدّ أن يحكم الشرع بحرمته - أيضاً -.

ص: 68

ولكن فيه: أنّ إمكان ذلك ليس هو محلّ الكلام، وإنّما الكلام في أنّ قيام القطع، أو قيام سائر الحجج، هل هو من هذا القبيل أيضاً أم لا؟ فإذا قامت الحجّة على أنّ المائع الفلانيّ خمر، مع عدم كونه خمراًواقعاً، فهل يكون هذا القيام موجباً لحدوث المفسدة في المتعلّق، بحيث يستتبع حكماً شرعيّاً بالحرمة، أو لا يكون موجباً له؟

والكلام في القطع الطريقيّ المحض:

والظاهر: أنّ قيام الحجّة ليس من شأنه إلّا إظهار ذلك الموضوع أو الحكم. وأمّا تغييره عمّا هو عليه، بأن يجعل ما ليس فيه مصلحة ذا مصلحة، أو ما ليس فيه مفسدة ذا مفسدة، فلا يمكن استفادته منها.

وما قد يقال: من أنّ قيام الحجّة على وجوب شيء يوجب إحداث مفسدة أو مصلحة فيه، ولو لم يكن هو واجباً أو حراماً في الواقع.

فممّا يحتاج إلى دليل، بل هو باطل؛ لأنّه بناءً على عدم كونه رافعاً للحكم الواقعيّ، يلزم منه التصويب المعتزليّ المجمع على بطلانه، وبناءً على كونه رافعاً يلزم منه التصويب الأشعريّ الذي نقول باستحالته.

فإن قلت: إنّ محذور اجتماع المثلين أو الضدّين أو التصويب، إنّما يلزم فيما لو قلنا بأنّ قيام الحجّة من علمٍ أو علميّ هي التي توجب حدوث المصلحة أو المفسدة في المتعلّق، وليس كذلك؛ بل نقول: إنّ عنوان التجرّي هو الذي يوجب حصول المفسدة أو المصلحة في الفعل

ص: 69

الذي تتحقّق به المخالفة، ثمّ يستتبع تلك المفسدة الحرمة الشرعيّة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

قلت: إنّ مخالفة الحجّة لو كانت موجبة لحدوث المفسدة فيما يتحقّق به المخالفة في الحجّة غير المصادفة للواقع، تكون موجبة في المصادفة أيضاً بطريقٍ أولى؛ لأنّ مخالفة اليقين - وهو المصادفة - أشدّ وأعظم من مخالفة الجهل المركّب - وهو المخالفة -.

فظهر ممّا بيّنّاه: أنّه لو قامت حجّة ودلّت على الحرام الواقعيّ، ثمّ خالفها المكلّف، فإنّه يكون قد ارتكب معصيتين اثنتين؛ إذ المفروض أنّ هناك مفسدتين، وأنّ كلّ واحدةٍ منهما تستتبع حرمةً شرعيّة، فيترتّب على ذلك: لزوم اجتماع المثلين.ولا يذهب عليك: أنّه لا يمكن القول بالتأكّد ها هنا؛ لمكان أنّ الرتبة في المفسدتين والحكمين ليست واحدة، بل هي مختلفة؛ لأنّ إحداهما واقعة في الرتبة السابقة على العلم، والاُخرى متأخّرة عنه وعن مخالفته.

والسرّ في ذلك: هو أنّ المقام ليس من قبيل (أكرم العالم)، و(أكرم عالماً هاشميّاً)، حيث إنّ كلّاً من هذين الحكمين لمّا كان صالحاً بذاته للباعثيّة، ولو في موارد افتراقهما، كان لابدّ من القول بلزوم التأكّد في صورة الاجتماع؛ إذ لا مانع من تشريع الحكمين. وإنّما مفروض المقام هو ترتب وجوب الاجتناب على ذات الخمر.

ص: 70

وحينئذٍ: يمتنع القول بالتأكد؛ لأنّه، وإن فرض للخمر حكم، ولمفروض الخمريّة حكم، إلّا أنّه متى ما علمنا بحرمة شيء منهما علمنا - أيضاً - بوجوب الاجتناب عنه، لمكان فرض ترتّبه على ذات الخمر، كما عرفت، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب، بينما يصبح الحكم الآخر - الذي هو بحسب الفرض مترتّب على معلوم الخمريّة - لغواً؛ لأنّه لا يكون باعثاً ولا محرّكاً.

فاتّضح: أنّ العلم بالخمريّة في نظر العالم يكون ملازماً دائماً لوجوب الاجتناب المترتّب على الخمر الواقعيّ، بعد أن كانت المخالفة غير محتملة لديه، فلا يمكن توجّه خطاب آخر إلى معلوم الخمريّة؛ وذلك لامتناع القول بالتأكّد؛ ضرورة أنّ تصوير حصول التأكّد مع فرض الاختلاف في الرتبة لا يكاد يكون ممكناً البتّة.

ويبطله: أنّ القول باختلاف الرتبة لا يصلح جهة اجتماع المثلين أو الضدّين، لأنّ المفروض أنّ المخالفة جهة تعليلية لا تقييدية، وأنّ الحرمة ترد ذات الفعل ونفسه، فسواء في صورة الموافقة أو المخالفة يلزم من اجتماع مفسدتين حصول حرمتين على ذات الشيء، فيلزم اجتماع الضدين أو المثلين.

أمّا صاحب الكفاية! فقد ذهب إلى بقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه من الحسن والقبح، والمبغوضيّة والمحبوبيّة، بلا تغيّرٍ فيه بواسطةالقطع؛ لوضوح أنّ القطع بالعنوان المحرّم ليس من العناوين الموجبة

ص: 71

للحسن والقبح، أو المبغوضيّة والمحبوبيّة.

مضافاً إلى أنّ القطع في مقام الجعل يلحظ طريقاً إلى الواقع لا مستقلّاً، فالإرادة والقصد إنّما يتعلّقان بشرب الخمر لا بشرب معلوم الخمريّة، بل المعلوميّة مما لا يلتفت إليها غالباً.

ومعه: فلا يمكن تعلّق الإرادة فيها لأنّها فرع الالتفات، وإذا لم يكن الفعل المتجرىّ به اختياريّاً لم يعد من موجبات الحسن والقبح؛ لأنهما من صفات الأفعال الاختياريّة.

وهذا نصّ كلامه !:

«ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعاً، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا يغيّر جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلاً؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعاً؛ ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنّه عدوّه، وكذا قتل عدوه مع القطع بأنّه ابنه، لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً.

هذا مع أنّ الفعل المتجرى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريّاً، فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من

ص: 72

عنوانه الواقعيّ الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآليّ، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن والقبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختياريّة» (1).والحقّ في المسألة: أنّ العقل إنّما يحكم بتساوي المتجرّي والعاصي في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية.

ومن هنا يظهر الوجه: في فساد ما قد يقال: من استحقاق المتجرّي للعقاب؛ لأنّ المناط في إيجاب المعصية الحقيقيّة لاستحقاق العقاب ليس إلّا هتك المولى ومبارزته والتمرّد عليه، ولا ريب في تحقّق ذلك كلّه في مورد التجرّي بشهادة العقلاء كافة، فيتشكّل قياس من الشكل الأوّل، حاصله: التجرّي هتك للمولى، وكلّ هتك له يوجب استحقاق العقاب، فينتج: أنّ التجرّي يوجب استحقاق العقاب.

وجه الفساد: أن المناط في الحرمة هو وجود مفسدة في الفعل، والهتك والتمرّد على المولى إنّما يشكّلان ملاكاً للحرمة فيما لو تحقّق الهتك والتمرد حقيقةً، والحال أنّ المتجرّي لم يهتك مولاه ولم يخالفه، غاية الأمر أنّه خالف ما يعتقد بأنّه أمر المولى.

ص: 73


1- كفاية الاُصول: 259 - 260.

وأمّا ما قد يستدلّ به على عدم حرمة التجرّي، من أنّ الأخبار التي دلّت على المؤاخذة على قصد المعصية إنّما تصلح دليلاً على الحرمة فيما لو فرض أنّ المتجرّي قصد المعصية حقيقة، وليس كذلك، بل إنّما قصد ما يعتقد بكونه معصية، وهذا معفوّ عنه بطريق أولى.

وقد يستشهد لما ذكر من استحقاق المتجرّي العقاب بمثل قوله تعالى: ﴿وَ إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَ يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ﴾ (1).

وكذلك الحديث الوارد عن رسول اﷲ6: «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّةٍ، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول اﷲ، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتلاً» (2).ولكنّ كلّ ذلك وارد فيما إذا قصد الحرام لا إذا قصد ما قطع بحرمته ولم يكن حراماً واقعاً.

وتحقيق الحال بأن يقال:

إنّ للفعل المتجرّى به عناوين ثلاثة:

الأوّل: عنوان الشرب، من حيث هو شرب، وبلا إضافته إلى أيّ شيء آخر.

ص: 74


1- البقرة: الآية 284.
2- راجع - مثلاً -: وسائل الشيعة 15: 148، باب 67 من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه، ح1.

الثاني: كون هذا الشرب مضافاً إلى الخمر، بحيث يصحّ أن يحمل عليه بالحمل الشائع عنوان (شرب الخمر) الذي هو عنوان مبغوض لدى المولى.

الثالث: كونه مخالفة لما نهاه الشارع عنه، بعد فرض تنجّزه عليه.

ولا يخفى: عدم إمكان القول بأن استحقاق العقاب مترتّب على صدق عنوان الشرب من دون إضافته إلى مائع خاصّ؛ لأنّه لو كان كذلك، للزم استحقاق العقاب على شرب كلّ مائع؛ لصدق عنوان الشرب بما هو شرب على تناول كل مائع، وهو بديهيّ الفساد.

وكذلك، فليس مناط استحقاق العقاب هو العنوان الثاني، أعني: كون هذا الشرب مضافاً إلى الخمر بحيث يحمل عليه عنوان شرب الخمر بنحو الحمل الشائع؛ ضرورة استحقاق العقاب - حينئذٍ - على هذا الشرب، وإن كان المكلّف جاهلاً بخمريّته، لصدق عنوان الشرب في الجميع.

وأمّا العنوان الثالث: وهو شرب ما تعلّق به النهي، فهو - أيضاً - لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب؛ لأنّه لم تتحقّق مخالفة المولى، إذ المفروض أنّ ما شربه لم يكن خمراً حقيقة، فليس هناك من نهيٍ من قبل المولى حتّى يصدق عليه عنوان المخالفة.

نعم، هذا لا ينافي كون المتجرّي مستحقّاً للمذمّة واللّوم على ما قد

ص: 75

انكشف من سوء سريرته وتحدّيه للمولى، وأمّا نفس الفعل فلا يترتّب عليه شيء أصلاً.ومن هنا يظهر: بطلان ما ذكره صاحب الكفاية! من أنّ المتجرّي يستحقّ العقاب إذا صار بصدد مخالفة قطعه (1).

ومذهب الشيخ الأنصاريّ! أنّه لا يوجد في مورد التجرّي سوى سوء السريرة، وهو غير ملازم للعقاب؛ لأنّ العقاب إنّما يترتّب على القبح الفعليّ لا الفاعليّ.

قال! ما لفظه: «لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل، ومن المعلوم أنّ الحكم العقليّ باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلّق بالفعل، لا بالفاعل» (2).

وفي قباله ذهب صاحب الكفاية! إلى أنّ العقاب لا يثبت في مورد التجرّي إلّا على الجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النفس، والذي عبّر عنه بالقصد إلى العصيان.

قال):«العقاب إنّما يكون على قصد العصيان، والعزم على الطغيان،

ص: 76


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 259, وإليك نصّ كلامه«: «الحقّ: أنّه يوجبه [أي: استحقاق العقوبة]؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته, وذمّه على تجريه, وهتكه لحرمة مولاه وخروجه عن رسوم عبوديته, وكونه بصدد الطغيان, وعزمه على العصيان».
2- فرائد الاُصول 1: 40.

لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار» (1).

والحقّ: صحّة ما ذهب إليه الشيخ!، من أنّ التجرّي من الصفات النفسيّة غير الاختياريّة، وأنّ نفس الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحاً؛ وذلك لخلوّه عن المفسدة، فلا يكون معصية، ومن الواضح: أنّه لا معنى - أصلاً - للعقاب على الصفة النفسيّة.نعم، غاية ما يمكن أن يقال: إنّه يستحقّ الذم؛ لأنّ تجرّيه كاشف عن سوء سريرته وهي صفة نفسانيّة قبيحة، لا لأنّ الذم من جهة نفس الفعل المتجرّى به، فلا يكون العقاب ملازماً للفعل؛ بل لأنّه إنّما يكون ملازماً للقبح الفعليّ دون الفاعليّ.

قال الآخوند!

في حاشيته على الرسائل ما نصّه:

«وبالجملة: صفتا التجرّي والانقياد ما دامتا كامنتين في العبد ولم يصر بصدد إظهارهما وترتيب الأثر عليهما لم يستحق إلّا اللوم والمدح كسائر الصفات الذميمة والأخلاق الحسنة، وإذا صار بصدد الإظهار استحق - مضافاً إلى ذلك - العقوبة والمثوبة على أوّل مقدّمة اختياريّة من المقدّمات التي يفعلها القلب ويتوقف عليها صدور الأفعال بالاختيار ...» (2).

ثمّ إنّه يلزم ممّا ذكره الآخوند! - من استلزام القصد إلى المعصية

ص: 77


1- كفاية الاُصول 260.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 38.

للعقاب - أن يحكم العقل في مورد المعصية الحقيقية باستحقاق عقابين؛ لحصول سببين له، وهما: القصد إلى المعصية، ونفس المعصية، وهو ممّا لم يقل به أحد.

وعلى فرض القول بتعدّد العقابين، لا يعود لما ذكره صاحب الفصول من تداخل العقابين معنى محصّل (1)، بل ولا يلزم اجتماع المثلين؛ بداهة اختلاف الجهتين حينئذٍ، فإنّ جهة الطغيان التي هي مورد الاستحقاق غير جهة واقع الفعل المتجرّى به ولا ربط بينهما.

ولا يذهب عليك: فساد ما قد يدّعى من انعقاد الإجماع على حرمة التجرّي؛ ضرورة أنّ هذه الإجماعات منقولة، فتسقط عن الحجّيّة، مضافاً إلى عقليّة هذه المسألة، فلا معنى لادّعاء الاجماع فيها.وبهذا ظهر الوجه: فيما ذكره الاُستاذ المحقّق! من أنّ مسألة التجرّي يبحث فيها هنا من جهة فقهيّة وهي ثبوت الحرمة ولا ثبوتها.

قال): «وأُخرى يقع التكلّم عنه باعتبار أنّ الفعل المتجرّى به، أو نفس التجرّي، حرام أم لا؟ سواء كان دليله الإجماع أو شيئاً آخر، ولا شكّ في أنّه بهذا الاعتبار مسألة فقهيّة، وذلك واضح» (2).

فلا معنى للقول - بعد إمكان التمسّك بالإجماع - باُصوليّتها وعقليّتها،

ص: 78


1- انظر: الفصول الغرويّة: 87، قال): «فإنّ التحقيق أنّ التجرّي على المعصية معصية أيضاً، لكنّه إن صادفها تداخلا وعُدّا معصيةً واحدة».
2- منتهى الاُصول 2: 31.

بمعنى أنّ التجرّي هل يوجب القبح والعقاب في المتجرّى به أم لا؟ ولو بدليل الملازمة بين حكم العقل والشرع؛ ضرورة أنّه يتكلّم فيها عن الحرمة رأساً. وعلى فرض التنزّل، فالمسألة محلّ خلاف كما ذكرنا، فلا معنى لادّعاء الإجماع فيها.

وكيف كان، فقد ادُّعي الإجماع على كون التجرّي حراماً في موردين:

المورد الأوّل: فيمن سلك طريقاً مظنّون الضرر، فإنّهم ادعوا الإجماع على أنّ سفره سفر المعصية فيستحق العقاب، ولذا رتّبوا عليه وجوب إتمام الصلاة. ولو انكشف بعد ذلك عدم الضرر فيه فقالوا إنّ هذا لا يتم إلّا بناء على حرمة التجرّي.

والتحقيق: أنّ الظنّ هنا مأخوذ على نحو الموضوعيّة؛ لأنّ سلوك الطريق المظنّون الضرر قبيح بنفسه عقلاً، وإن فرض خلوّه عنه في الواقع، فيكون حراماً شرعاً بنفسه بقاعدة الملازمة، ولا يكون لانكشاف الخلاف معنى، وحينئذٍ يكون هذا المورد خارجاً عن مسألة التجرّي.

المورد الثاني: فيمن ظنّ ضيق الوقت وأخّر الصلاة ثمّ تبيّن سعة الوقت، فادّعوا الإجماع على استحقاق العقاب، ومعلوم أنّ هذا لا يتمّ إلّا بناءً على استحقاق المتجرّي للعقاب، وإلّا فإنّه أدرك الوقت ولم يخالف الواقع.

وجوابه: أنّ الظنّ هنا قد أخذ على نحو الموصوف، فتمام الموضوع لاستحقاق العقاب من جهة التأخير هو خوف ضيق الوقت، أو يقال: إنّ

ص: 79

تمام موضوع حرمة التأخير هو ظنّ ضيق الوقت لا عدم إدراك الوقت في الواقع. وحينئذٍ: متى ظنّ ضيق الوقت تجب المبادرة إلى الصلاة، سواء كان الوقت في الواقع ضيّقاً كذلك، أم كان واسعاً.

فانقدح: خروج هذا المورد أيضاً عن مسألة التجرّي، بل الظانّ المزبور لو تأخّر يكون عاصياً وإن انكشف سعة الوقت فيما بعد.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني! تعرّض إلى بيان تقريب استحقاق المتجرّي للعقاب بمقدّمات أربع:

الاُولى: أنّ الحكم بوجوب الإطاعة عقليّ، لا شرعيّ.

الثانية: أن الحكم العقليّ بوجوب الإطاعة معلول للحكم الشرعيّ، فهو يختلف عن مثل حكم العقل بقبح الظلم، فإنّه علّة للحكم الشرعيّ.

الثالثة: أنّ تمام موضوع الحكم بوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب هو العلم، سواء صادف الواقع أم لم يصادفه.

الرابعة: أنّ القبح الفاعليّ هو ملاك استحقاق العقاب لا القبح الفعليّ، وهو موجود في صورة التجرّي، فيثبت العقاب في مورده - أيضاً -.

وإليك نصّ كلامه - بتلخيص منّا - قال):

«الاُولى: أنّه لا إشكال في أنّ وظيفة المولى هو جعل الأحكام وإيصالها إلى المكلّفين بالطرق المتعارفة من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وأمرهم بتبليغها إلى أوصيائهم، وأمرهم بالتبليغ إلى الرواة، وهكذا، إلى أن تنتهي الأحكام إلى المكلّفين بها، وبالوصول إليهم تنتهي سلسلة البعث، ويحكم

ص: 80

العقل بوجوب الانبعاث. وحكم العقل بذلك - أعني: حكمه بوجوب الطاعة وحسنها وقبح المعصية وحرمتها - حكم استقلاليّ يستحيل وجود حكمٍ شرعيّ في مورده؛ إذ المفروض أنّ مرتبة حكمه هي مرتبة الانبعاث، ففرض البعث في هذه المرتبة خلف محال، فوجوب الانبعاث عن تكاليف المولى - المنحلّ إلى وجوب الطاعة وحرمة المعصية - هو الوجوب الذاتيّ الذي ينتهي إليه وجوب كلّ واجب، كما أنّ طريقيّة القطع كانت ذاتيّة، وإليها كانت تنتهي طريقيّة كلّ طريق.الثانية: أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية يغاير الأحكام العقليّة الأُخر، مثل حكمه بقبح التشريع وقبح التصرّف في مال الغير، ونحوهما، في أنّ مرتبة هذا الحكم العقليّ هي مرتبة المعلول من الحكم الشرعيّ؛ ضرورة أنّ مرتبة الانبعاث من البعث هي مرتبة المعلول من العلّة، وأمّا بقيّة الأحكام العقليّة، فمرتبتها من الأحكام الشرعيّة مرتبة العلّة من معلولها.

الثالثة: أنّ العلم المأخوذ في موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، لابدّ وأن يكون هو تمام الموضوع، صادف الواقع أم لا.

الرابعة: أنّ الملاك لحكمه بوجوب الطاعة إذا استحال كونه هو القبح الفعليّ، وإلّا لزم استحقاق العقاب في موارد الجهل أيضاً، فلابدّ وأن يكون الملاك له هو القبح الفاعليّ؛ لانحصار الملاك في أحدهما وعدم قابليّة

ص: 81

شيءٍ آخر للملاكيّة، وإذا كان هو الملاك، فلابدّ من الالتزام باستحقاق المتجرّي للعقاب كالعاصي؛ لثبوت القبح الفاعليّ في كليهما...» (1).

انتهى كلامه« ملخّصاً.

ولكنّ الحقّ: كفاية المقدّمة الثالثة لإثبات الحرمة، وهي أنّ موضوع استحقاق العقاب هو القطع، صادف الواقع أم لم يصادفه.

فقد عرفت بما لا مزيد عليه: أنّ العقاب مترتّب على نفس الخمر الواقعيّ لا على معلوم الخمريّة، وأنّ القبح المستلزم له لابدّ أن يكون في الفعل، لا في الفاعل، من غير فرق بين كونه من جهة صدور الفعل عن خبث في الباطن، أو من جهة نفس سوء السريرة وخبث الباطن، ولذا نفى الشيخ! العقاب عليه؛ لأنّه وصف غير اختياريّ.

ثمّ إنّ بعضهم حكم باستحقاق المتجرّي للعقاب بحكم العقل من دون أن يكون هناك أيّ خطاب شرعيّ في البين، لا على عنوان التجرّي،ولا على نفس الفعل المتجرّى به، وأنّ العقل لا يفرّق في حكمه باستحقاق العقاب بين المعصية الحقيقية والتجرّي؛ لوحدة المناط فيهما؛ لأنّ مناط حكم العقل باستحقاق العقاب في المعصية الحقيقيّة ليس إلّا مخالفة العبد لما اعتقد أنّه الماُمور به أو المنهي عنه.

فبعد وصول أمر المولى أو نهيه إليه - إمّا من جهة قطعه أو قيام أمارة

ص: 82


1- أجود التقريرات 2: 28 - 29.

أو حجّة اُخرى عليهما - يتنجز كلا الحكمين من الوجوب أو الحرمة عليه، ويحكم العقل باستحقاقه العقاب لو هتك حرمة المولى وتجرأ عليه، فكلما أحرز إرادة المولى لشيء أو كراهته له حكم العقل بلزوم الامتثال وعدم جواز المخالفة، سواء كان ذلك الإحراز مطابقاً للواقع أم لا، فإحراز أمر المولى ونهيه هو تمام الموضوع عند العقل في حكمه بلزوم الامتثال وعدم جواز المخالفة.

وفيه: أنّ حكم العقل بقبح المعصية إنّما هو من جهة مخالفة المكلّف لمولاه المنعم وعدم اعتنائه بأمره أو نهيه. وأمّا إذا لم يكن من قِبَله أمر أو نهي بل كان هناك مجرد تخيل للأمر والنهي كما هو مفروض التجرّي، فليس للعبد أيّة مخالفة تسجل في حقه فلا يكون مستحقاً للعقاب؛ بداهة أنّ صرف تخيل الأمر والنهي غير كونهما موجودين في حقّه واقعاً.

نعم، في صورة وجودهما واقعاً وعدم اعتنائه بهما بعد وصولهما إليه، يكون كافراً بنعمة مولاه غير شاكر له، بعد حكم العقل بوجوب شكر المنعم، فيكشف هذا عن سوء سريرته وخبث باطنه ولكن لا يكون هناك أي مخالفة وعصيان؛ لعدم وجود أمر من قبل المولى أو نهيٍ كذلك حتى يصدق في حقّه مخالفته.

فظهر: أنّ مناط المعصية في نظر العقل إنّما هو مخالفة الحكم الواقعيّ التي لا يمكن تحقّقها في التجرّي بحال.

ولا يخفى هنا: أنّ الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد سعةً وضيقاً،

ص: 83

بلا فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي، فإن كان في متعلّق الحكم مصلحة أو مفسدة لتعلّق أمر أو نهي من غير فرق بين كونهما ملزمتينأو لا، خلافاً للأشاعرة الذين أنكروا الحسن والقبح العقليّين، فالحسن عندهم ما حسّنه الشارع والقبح ما قبّحه كذلك، فجوّزوا الترجيح بلا مرجّح الذي هو اختيار أحد الشيئين بلا مرجّح، بل - أيضاً - جوّزوا الترجّح بلا مرجّح، وهو إيجاد الشيء بلا سبب، والأوّل عندنا ممكن، ولكنّه قبيح عقلاً، وأمّا الثاني فمحال.

ولو قلنا باستحالة الترجيح بلا مرجّح، فهل يكفي الترجيح النوعيّ أم لابدّ من الترجيح الشخصي؟

حاصل الكلام: أنّهم قد اختلفوا في إمكان الحسن والقبح العقليين، فنفاه الأشاعرة بدعوى أنّه ليس للأفعال في حدّ ذاتها حسن ولا قبح في نظر العقل قبل حكم الشارع بحسنها أو قبحها.

ولذا اشتهر بينهم أنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبح ما قبحه كذلك، كما عرفت، وأثبتته العدليّة، ذاهبين إلى أنّ للأفعال حسناً وقبحاً بحسب ذواتها، وقبل حكم الشارع.

وفي هذه المرتبة وقع النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في أنّه لو فرض للأحكام حسن وقبح بحسب ذواتها - كما هو مختار العدليّة - فهل للعقل أن يدرك هذا الحسن أو القبح مستقلّاً ومن دون بيان الشارع لهما أم لا؟

نُسِب إلى بعض الأخباريّين أنّهم ذهبوا إلى إنكار إدراك العقل للحسن

ص: 84

والقبح العقليّين بنحو الموجبة الجزئيّة.

إلّا أنّ القبول بمثل هذا الكلام محلّ إشكال؛ ضرورة أنّه بعد فرض حكم العقل بأنّ للأحكام حسناً وقبحاً، وأنّ له أن يدرك ذلك، وبعد فرض الملازمة بين الحكمين، أي: بعد القول بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، إذ العقل هو رسول الباطن، كما أنّ الشرع هو الرسول الظاهر، تصبح هناك ملازمة بين ما استقلّ العقل بحسنه ووجود المصلحة الملزمة فيه وبين ما استقلّ العقل بقبحه وبين المفسدة الملزمة فيه.

وبعد ثبوت الملازمة وحصول القطع بأنّ الشارع لابدّ أن يحكم على طبق ما حكم به العقل، يقع الكلام في حجّيّة هذا القطع وعدمه.وبعبارة اُخرى: هل يمكن للشارع النهي عن حجّيّة هذا القطع أم لا؟ بل تكون حجّيّته ذاتيّة لا تقبل الجعل ولا الرفع.

فعلى تقدير إمكان النهي عن تلك الحجّيّة فهل نهى عنها فعلاً أم لا؟ كما ورد في الخبر: «إنّ دين اﷲ لا يصاب بالعقول» (1).

وعلى تقدير عدم الإمكان، فهل معنى حكم العقل بذلك هو إدراكه بأنّ الفعل مما ينبغي فعله أو تركه، أم هو أمره ونهيه.

قال الاُستاذ المحقّق!:

«الإنصاف أنّ عزل العقل بالمرّة عن درك الحسن والقبح ليس كما

ص: 85


1- مستدرك الوسائل 17: 262، باب 6 من أبواب ما صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح25.

ينبغي، بل ربّما يلزم منه إفحام الانبياء؛ إذ بناءً على هذا: يمكن صدور المعجزة على يد الكاذب، ولا قبح فيه، فلا يكون صدور المعجزة منه وعلى يده دليلاً على نبوّته، هذا مع أنّ بداهة العقل والفطرة تحكم بحسن بعض الأفعال، كإطاعة المنعم وشكره، وقبح بعضها الآخر، كعصيانه وكفرانه، فإذا عزلنا العقل بالمرّة عن الإدراك، فينسدّ باب إثبات الصانع، ويبطل جميع العلوم العقليّة، بل النقليّة أيضاً» (1).

والحاصل: أنّك عرفت أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح، وقد ذهب المحقّقون من الأشاعرة إلى أنّه لابدّ لترجيح أحد الشيئين على الآخر من مرجِّح، ولكنّهم اكتفوا بالترجيح النوعي، وكفاية المفسدة أو المصلحة النوعيّة القائمة بالطبيعة في تعلّق الحكم ببعض الأفراد، وإن كان هذا الترجيح بلا مرجّح شخصي.

واستدلّوا له برغيفي الجوعان وكأسي العطشان وطريقي الهارب، وإن لم يكن في نفس الرغيف والكأس والطريق المختار أيّ مرجّح شخصيّ؛ إذ المفروض أنّهما متساويان وليس لأحدهما مرجّح فيحصول الغرض، بل المرجّح فيهما نوعيّ وهو رفع العطش أو الجوع الذي هو قائم بالطبيعة، والجامع بين الكأسين كافٍ في اختيار أحدهما و ترجيحه على الآخر.

ص: 86


1- منتهى الاُصول 2: 46.

والحقّ: عدم تفريق العقل في قبح الترجيح بلا مرجح بين كون المرجّح نوعيّاً أو شخصيّاً؛ لوحدة المناط فيهما، فلا يمكن أن تتعلّق الإرادة التكوينيّة بما لا مصلحة فيه.

وبهذا يظهر: فساد ما قد يقال: من أنّه لو سلّم تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، ولكن تكفي المصلحة والمفسدة النوعيّة؛ لما عرفت من أنّ النوعية والشخصية سواء في الاستحالة والقبح.

ومثله في الفساد: ما قد يدّعى من كفاية وجود مصلحة ومفسدة للأوامر والنواهي في أنفسها من دون أن يكون هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، ومثّلوا لها بالأوامر الامتحانيّة؛ وذلك غير تامّ:

أوّلاً: لأنّ معنى كون المصلحة أو المفسدة في نفس الأمر أو النهي هو أنّ المصلحة الناشئة من الأمر معلولة له، وكذا تكون المفسدة معلولة للنهي، فكيف يمكن أن تكون المصلحة مقتضيةً للأمر والمفسدة مقتضية للنهي؟ فإنّه - حينئذٍ - يلزم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدم.

وثانياً: لو كانت المصلحة موجودة في الأمر، للزم تحقّق الغرض بمجرد وجود الأمر، وبالتالي: سقوط الأمر من دون الامتثال، وهو كما ترى.

فظهر: أنّ المصلحة ليست قائمة بنفس الأمر في إظهار العبد الاطاعة وكونه بصدد امتثال الأوامر الصادرة من المولى، وهذا لا يكون إلّا بالجري على طبق ما تعلّق به الأمر.

ص: 87

فانقدح: أنّه لا إشكال في أنّ المصالح والمفاسد التي تكون الأحكام تابعة لها إنّما هي المصالح والمفاسد الموجودة في المتعلّق بحدّ ذاتها مع قطع النظر عن ورود الأمر أو النهي من الشارع، كما لا إشكال في إدراك العقل لحسن الشيء وقبحه ولو بنحو الموجبة الجزئيّة، فإنّ عزل العقل بالمرّة - كما ذكره اُستاذنا المحقّق! فيما نقلناه عنه سابقاً- موجب لورود الإشكال في أصل إثبات الصانع ونبوّة النبي كما مر، فينهدم أساس الشريعة.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل:

لو قلنا بثبوت العقاب في التجرّي، وكان القطع مصادفاً للواقع، ففي المسألة أقوال أربعة:

الأوّل: مختار صاحب الكفاية! من وحدة العقاب لوحدة سببه وهو كون العبد في مقام الطغيان. قال! ما لفظه:

«ثمّ لا يذهب عليك: أنّه ليس في المعصية الحقيقية إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهّم، مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة» (1).

ص: 88


1- كفاية الاُصول: 262.

الثاني: ما ربما يستظهر من كلام المحقّق الأصفهاني! من وحدة العقاب لوحدة سببه، وهو الهتك المعنون به الفعل، سواء في التجرّي أو المعصية الحقيقيّة.

قال!: «ثمّ إنّ استحقاق العقوبة هل هو على الفعل، أو على مقدّماته، كالعزم والإرادة - وهذا الترديد جارٍ في المعصية الواقعيّة؛ لوحدة الملاك على الفرض -؟

والتحقيق: هو الأوّل؛ لأنّ العزم على الظلم من دون تحقّق الظلم ليس بظلم؛ إذ ليس مخلّاً بالنظام، ولا ذا مفسدة نوعيّة توجب تطابق آراء العقلاء على قبحه.

وبالجملة: العبد بفعل ما أحرز أنّه مبغوض للمولى يخرج عن رسم العبوديّة وزيّ الرقّيّة، لا بمجرّد عزمه على الفعل. ويؤيّده: أنّ الهتك أمر قصديّ؛ وإلّا، لم يستحقّ عليه العقاب، ولم يتّصف بالقبح؛ لأنّهمن صفات الأفعال الاختياريّة، فلو انطبق الهتك على مجرّد العزم والقصد، لزم: إمّا عدم كون الهتك قصديّاً، أو كون القصد قصديّاً، وإمكان كونه كذلك، وكفايته في ذلك لا يوجب الوقوع دائماً، مع أنّه يستحقّ العقاب على هتكه في جميع موارد التجرّي» (1).

الثالث: وحدة العقاب مع تعدّد السبب من باب التداخل وهو

ص: 89


1- نهاية الدراية 2: 44 - 45، مع شيءٍ من التلخيص والتصرّف.

المنسوب إلى صاحب الفصول (1)، ولعلّ الذي دعاه إلى هذا القول: أنّه رأى أنّه لا توجد إلّا معصية واحدة، وغفل عن أنّ وحدة المسبّب تكشف بدليل الإنّ عن وحدة السبب.

الرابع: تعدّد العقاب لتعدّد سببه.

التنبيه الثاني: في الثمرة العمليّة لهذا البحث:

والحاصل: أنّه بناءً على قبح التجرّي ومبعديّته وانطباقه على نفس العمل المتجرّى به، لو قامت أمارة على حرمة شيء ذاتاً، كما لو قامت على حرمة صوم هذا اليوم، كيوم العيد، فلا يمكن الإتيان بهذا العمل برجاء المطلوبيّة واقعاً؛ لعدم صلاحية القبيح لأن يكون مقرّباً، إذ الإتيان به تجرٍ فلا يصلح للمقربية ولا يقع عبادة.

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه الشيخ! من أنّه لا قبح في الفعل المتجرّى به، وإنّما القبح في الصفة الكامنة في النفس التي يكشف عنها التجرّي وهي خبث السريرة وسوء الباطن: فلا مانع من الإتيان بالصوم برجاء المطلوبيّة.

التنبيه الثالث:

وحاصله: أنّ القبح الفاعليّ للتجرّي مسلّم لدى جميع العقلاء،

ص: 90


1- الفصول الغروية: 87, التنبيه الرابع من مقدمة الواجب، وقد نقلنا نصّ الكلام سابقاً.

ولا يزول بعروض عنوان حسن أرجح منه مع كونه ملتفتاً إليه؛ فإنّ قبح التجرّي ذاتيّ له.

ومن هنا يظهر: عدم تمامية ما ذكره صاحب الفصول! (1) من أنّه إذا «اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل - كالكافر الحربيّ مثلاً - فحسب أنّه ذلك الكافر، فتجرّأ، ولم يقدم على قتله، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلاً عند من انكشف له الواقع» وذلك لتدارك قبح تجرّيه بحسن حفظ النفس؛ فإنّ التجرّي لا يكاد يعقل أن تعرضه الصفة المحسّنة له من الجهات الواقعيّة أبداً؛

ضرورة أنّ قبحه قد نشأ من القطع بالحرمة، وهذا الطغيان قد صدر منه عن عمد واختيار، فلا يعقل ارتفاع هذا القبح بجهة من الجهات الواقعيّة المجهولة المغفول عنها؛ فإنّ حفظ النفس المحترمة ما دام مغفولاً عنه وغير ملتفت إليه لا يوجب الحسن واستحقاق المدح، فلا يترجّح على القبيح الصادر بالعمد والاختيار، فإنّ الكذب المنجي من الهلكة إنّما يكون محسّناً فيما إذا علم صدوره منه على سبيل الإنجاء، وإلّا لم يرتفع به قبح صدوره أصلاً.

التنبيه الرابع:

للتجرّي ستّ مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف:

ص: 91


1- الفصول الغروية: 431.

الاُولى: مجرّد القصد.

الثانية: القصد مع ارتكاب بعض المقدّمات.

الثالثة: الإتيان بما يعتقد كونه حراماً.

الرابعة: تحقّقه بمجرّد عدم مبالاته بالدين.

الخامسة: ارتكاب محتمل الحرمة برجاء إصابة الحرام.السادسة: ارتكاب محتمل الحرمة برجاء عدم الإصابة.

نسب إلى الشيخ الكبير! (1) القول بعدم حجّيّة قطع القطّاع، وهو القطع الذي يكون حاصلاً من أسباب وطرق لا تستلزم القطع عند متعارف الناس، وبحسب العادة، كمثل طيران الطير.

والصواب: أنّه لا فرق في حصول القطع فيما إذا كان طريقيّاً بين جميع أفراده وأسبابه، وإن كان قطّاعاً، فيحكم العقل في حجّيّته في جميعها، وإلّا لزم تخصيص حكم العقل.

وإذا كانت الحجّيّة ذاتيّة للقطع، لم يكن من الممكن وضعها ولا رفعها، وذلك لامتناع انفكاك الذاتيّ عن ذاته، فتثبت - حينئذٍ - الحجّيّة لقطع القطّاع أيضاً؛ لما عرفت من أنّ المناط في حجّيّة القطع هو انكشاف الواقع به، وهو حاصل للقطّاع، بحسب نظره، كحصوله لغيره تماماً.

ص: 92


1- انظر: كشف الغطاء: 1: 308، قال!: «وكثير الشكّ عرفاً - ويعرف بعرض الحال على عادة الناس - لا اعتبار بشكّه، وكذا من خرج عن العادة في قطعه وظنّه؛ فإنّه يلغو اعتبارهما في حقّه».

فعلم ممّا بيّنّاه: أنّ القطع حجّة من أيّ سبب حصل، وفي أيّ زمان كان، ولأيّ شخص حصل، وفي أيّ مورد من الفقه كان، ولذا حكموا بوجوب الإتيان بما قطع بوجوبه، وأنّه لا يبرّر تركه احتمال كون القطع ناشئاً من سبب غير متعارف.

وكذا حكموا بمعذّريّته، فإذا قطع بما يخالف الواقع، فإنّه يكون معذوراً في تلك المخالفة، وليس للمولى الاحتجاج على القاطع الذي عمل بقطعه الذي كان قد حصل له من الأسباب غير المتعارفة.

فإن قلت: إنّ القطع الطريقيّ المحض لا يحصل من الاُمور العقليّة، إذ لم تكن محاطة بالواقعيّات.

قلت: أوّلاً: هذا على خلاف الوجدان، فلا يمكن القول بسلبه بنحو كلّيّ.

وثانياً: لا نسلّم كون الخطأ فيه أكثر من غيره.وأمّا ما قد يقال: في الاستدلال على عدم اعتباره، ولو حصل منها، بأنّه لم يقرّره الشارع.

ففيه: أنّه - كما لا يخفى - ينافي ما تقدّم من كون الحجّيّة ذاتيّة للقطع، فلا معنى لمثل هذا الكلام، بل هو مخالف للطريقة العقلائيّة التي تقضي بوجوب اتّباع القطع من أيّ طريق اتّفق حصوله له.

نعم، ذكر الشيخ! أنّه لو كان القطع مأخوذاً على نحو الموضوع؛ فإنّه «يُتّبع في اعتباره - مطلقاً، أو على وجه خاصّ - دليل ذلك الحكم الثابت،

ص: 93

الذي اُخذ العلم في موضوعه، فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به، بمعنى: انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف، كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوباً لمولاه، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضاً؛ فإنّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة أو المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده، وكما في حكم الشرع بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته - بناءً على أن الحرمة والنجاسة الواقعيّين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم لا في نفس الأمر كما هو قول بعض -.

وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ، أو شخص خاصّ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريّين من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسنّة، وما ذهب إليه البعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى». انتهى كلامه« (1).

وتوضيحه: أنّ القطع المأخوذ على نحو الموضوع لا يكون حجّة إلّا إذا كان حاصلاً من الأسباب المتعارفة؛ لأنّ المدار في حجّيّة القطع الموضوع - تعميماً أو تخصيصاً - إنّما هو دليل اعتباره، وهو غير ظاهر فيما كان حاصلاً من الأسباب غير المتعارفة.

ص: 94


1- فرائد الاُصول 1: 31 - 32.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشكّ أو الظنّ، فإنّ الدليل الدالّ على اعتبارهما وأخذهما في الموضوع منصرف عن شكّ كثير الشكّ وظنّ كثير الظنّ.

قد يقال: بما أنّ القطّاع غير ملتفت حين قطعه إلى أنّه كذلك، فمن الجائز - حينئذٍ - توجيه خطاب إليه مفاده: أنّ قطعك الحاصل من مثل هذا السبب، والذي لا يحصل قطع متعارف الناس عادةً منه، ليس مأخوذاً في الموضوع. وكذلك، فيمكن أن يخاطب كثير الشكّ بما مضمونه: أنّ شكّك هذا غير معتبر.

وجوابه: أنّ القطّاع - غالباً - يكون ملتفتاً إلى كون قطعه حاصلاً من الأسباب غير المتعارفة، غاية الأمر: أنّ قطعه هذا يتضمّن اعتراضاً على غيره، من جهة أنّه لِمَ لا يحصل لهم القطع من هذه الأسباب أيضاً؟

فظهر من مطاوي ما ذكرنا: فساد ما قد حكي عن كاشف الغطاء) من عدم اعتبار قطع القطّاع مطلقاً، وأنّ القطع الطريقيّ المحض حجّة مطلقاً.

وهل القطع الحاصل من الأحكام العقليّة حجّة في الأحكام الشرعيّة؟

المنسوب إلى غير واحد من الأخباريّين هو القول بعدم حجّيّة القطع في باب الأحكام الشرعيّة إذا كان هذا القطع حاصلاً من مقدّمات عقليّة، وأنّ المدرك في الشرعيّات منحصر في السماع عن أهل بيت العصمة والطهارة(.

ص: 95

ولعلّ وجه المنع عندهم يعود إلى أنّهم منعوا من ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وأنّ العقل قاصر عن إدراك العلّة التامّة للحكم، غاية الأمر: أنّه قادر على أن يدرك بعض الجهات المقتضية للحكم، ومن المعلوم: عدم كفاية ذلك في العلم بالحكم، بل هو يتوقّف - مضافاً إلى ذلك - على العلم بعدم المانع من جعله، كما هو واضح.

وأيضاً: إنّ الأحكام الشرعيّة مقيّدة، وأنت خبير بأنّ للعقل القدرة على إدراك بعض العلل، ولو على نحو الموجبة الجزئيّة، فلا يمكن - لذلك -أن يُصار إلى عزله بالكلّيّة، وإلّا، لزم إفحام الأنبياء(، وغير ذلك من المفاسد.

وقد يعلّل المنع - أي: منع حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية في الأحكام الشرعيّة - عندهم بتوجيه ثانٍ، وهو عدم جواز الاستناد في الأحكام الشرعيّة إلى المقدّمات العقلية؛ لعدم إفادتها العلم، فتكون شرعيّة أخذ الحكم - حينئذٍ - منحصرةً بطريقٍ واحد، وهو السماع عنهم(.

قال المحقّق النائيني! في المقام ما هذا لفظه:

«وكما يصحّ أخذ العلم بالحكم شرطاً في ثبوت الحكم، كذلك يصحّ أخذ العلم بالحكم من وجه خاصّ وسبب خاصّ مانعاً عن ثبوت الحكم واقعاً بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب، كما في باب القياس، حيث إنّه قام الدليل على أنّه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق

ص: 96

القياس، كما في رواية أبان في مسألة دية أصابع المرأة؛ حيث نهى(علیه السلام) عن العمل بالقياس، مع أنّ أبان كان عالماً بأن في قطع أربعة من أصابع المرأة يثبت أربعين من الإبل من طريق القياس.

ومن هنا، تعجّب من حكم الإمام(علیه السلام) بأنّه يثبت ثلاثين من الإبل، ومع ذلك، نهى الإمام(علیه السلام) عن العمل بعلمه، فقد أخذ العلم بالحكم من طريق القياس مانعاً.

وليس هذا في الحقيقة نهياً عن العمل بالعلم حتى يقال: إنّ ذلك لا يعقل؛ من جهة أنّ طريقيّة العلم وكاشفيّته ذاتيّة لا يمكن نفيها في عالم التشريع، ولا يعقل التصرّف في ناحية العلم بوجه من الوجوه، بل مرجع ذلك إلى التصرّف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع. فالتصرّف يرجع إلى ناحية المتعلّق، لا إلى ناحية العلم، وبعد الالتفات إلى هذا التصرّف، لا يمكن أن يحصل للمكلّف علم بالحكم من طريق القياس؛ إذ الحكم الواقعيّ قيّد بغير ما أدّى إليه القياس، فكيف يمكن أن يحصل له العلم بالواقع من ذلك الطريق.نعم، لو لم يلتفت إلى هذا التصرّف يحصل له العلم، كما حصل لأبان العلم بالحكم قبل نهي الامام(علیه السلام)» (1).

وحاصل ما أرادوه: أنّ العقل، وإن كان يمكنه أن يدرك بمقدّماته

ص: 97


1- فوائد الاُصول 3: 13.

جميع الجهات المقتضية للحكم الشرعيّ، إلّا أنّها لا تفيد إلّا الظنّ به دون القطع، والظنّ ممّا لا يجوز الاعتماد عليه سواء كان حصوله من المقدّمات العقليّة، أم من غيرها.

وأمّا ما قد يذكر: من عدم جواز الاعتماد على الأدلّة الظنّية في إثبات الاحكام الشرعيّة، وأنّ عدم جواز الخوض في المقدّمات العقليّة إنّما هو لأجل إفادتها الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً.

ففيه: أنّه لا يتمّ إن اُريد به التفصيل بين الحكم الصادر من المقدّمات العقليّة وبين الحكم الصادر من غيرها، بالقول بحجّيّة الثاني، دون الأوّل، بل إنّما يتمّ لو اُريد منه بيان عدم حجّيّة غير القطع.

ومّما يُنسب إلى الأخباريّين - أيضاً - قولهم بعدم حجّيّة الحكم الذي يصل إلى المكلّف من غير طريق تبليغ أولياء اﷲ(، وعلى هذا الأساس، فقد أنكروا حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية، وادّعوا وجود الأخبار الكثيرة الدّالّة على أنّ أحداً لو قام ليله، وصام دهره، ولم يكن ذلك بدلالة وليّ اﷲ، وبولايته، فلن يقبل منه صوم ولا صلاة (1).

وتلك الروايات التي استدلّ بها الأخباريّون إنّما هي في بيان أنّ الإيمان شرط في صحة العبادات، وسواء فرض عدم اعتقادهم بالملازمة أو لانحصار حجّيّة الأحكام بالوصول عن طريق السماع عن الأئمة(، فلا دليل عليه، ويمكن القول بوجوده على خلاف مدّعاهم.

ص: 98


1- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 1: 118 - 125، باب 29 من أبواب مقدّمة العبادات.

مباحث الأمارات غير العلميّة

اشارة

والكلام يقع فيها في اُمور:

الأمر الأوّل: في عدم كون الحجّيّة من لوازم الأمارات:

أنّ الحجّيّة في باب الأمارات غير العلميّة، كخبر الثقة وظواهر الكلام والإجماع المنقول، وغير ذلك، ليست من لوازم الأمارات، كما هو الحال في باب القطع، لا بنحو العلّيّة، ولا بنحو الاقتضاء؛ إذ لو كان في الأمارة غير العلميّة اقتضاء الحجّيّة لكان يكفي في اعتبارها وجواز الأخذ بها مجرّد عدم ثبوت المنع عنها، بأن لا يرد من الشارع المقدّس ما يدلّ على منعه عن العمل بها، وذلك لوجود المقتضي - حينئذٍ - وفقد المانع من تأثيره.

مع أنّ مجرّد عدم ثبوت المنع عن العمل والأخذ بها لا يكفي قطعاً، كما لا يخفى، بل يحتاج جواز ذلك إلى جعلٍ من الشارع، أو إلى طروء بعض الحالات التي تكون مستلزمةً لحجّيّتها عقلاً، بناءً على القول

ص: 99

بالحكومة في نتيجة دليل الانسداد؛ لأنّ الظنّ - بناء على القول بالكشف - يكون طريقاً مجعولاً من قبل الشارع.

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الامتثال وسقوط الحكم:

فقد يقال: بإمكان الاكتفاء بالظنّ بالفراغ، نظراً إلى عدم لزوم دفع الضرر المحتمل.

وفي هذا يقول صاحب الكفاية!:

«أحدها: أنّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع في كون الحجّيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية، بلمطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجّيّة عقلاً، بناء على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّيّة بدون ذلك ثبوتاً، بلا خلاف، ولا سقوطاً، وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل» (1).

ولعلّ الوجه في ما أمر به! من التأمّل، هو أنّ الاكتفاء بالظنّ بالفراغ بدعوى عدم لزوم دفع الضرر المحتمل لا ربط له - أصلاً - بحجّيّة الظنّ في مقام السقوط، فإنّ شأن الحجّة أن يقطع معها بعدم الضرر، لا أنّه يحتمل معها الضرر، ولا يجب دفعه بحكم العقل.

ص: 100


1- كفاية الاُصول: 275.

الأمر الثاني: في إمكان التعبّد بالأمارات.

اشارة

اعلم أنّ الإمكان على أقسام:

الأوّل: الإمكان الذاتيّ: وهو الذي لا ينافي الوجود والعدم بحسب ذاته، ويقابله الامتناع الذاتيّ، كاجتماع الضدّين وارتفاع النقيضين.

الثاني: الإمكان الوقوعيّ: والمراد منه ما لا يلزم من فرض وجوده محذور عقليّ، كما يقال: المعراج الجسمانيّ أو المعاد الجسمانيّ ممكنان، فإنّ وقوعه في الخارج يكون أقوى دليل على إمكانه. ويقابل الإمكان الوقوعيّ: الامتناع الوقوعيّ، وهو الذي يلزم من وقوعه محذور عقليّ، إمّا بسبب كونه ممتنعاً ذاتاً: كاجتماع الضدّين أو ارتفاع النقيضين، أو عرضاً: كامتناع الظلم، بالنسبة إلى الحكيم جلّ وعلا.الثالث: الإمكان الاحتماليّ، والمراد منه ما يحتمل وقوعه، ومن هنا ما يقال: «كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يقم عليه ساطع البرهان» (1).

ولا يخفى: أنّ الإمكان بالمعنى الأوّل خارج عن حيّز البحث

ص: 101


1- هذه العبارة بحسب الأصل للشيخ الرئيس ابن سينا، وهي مشهورة على ألسنة المحصّلين باللّفظ الذي أثبتناه في المتن، ولكنّ نصّها الصحيح، على ما في كتاب الإشارات، كالتالي: «وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما لم تتبرهن استحالته لك، فالصواب أن تسرّح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنه قائم البرهان». انظر: الإشارات والتنبيهات: 161.

الاُصوليّ؛ إذ لم يحتمل أحد كون التعبّد بغير العلم عين اجتماع الضدّين أو المثلين حتى يكون ممتنعاً ذاتاً، فيبقى النزاع فيه من شأن أهل الفلسفة والمعقول.

وكذلك، فليس المراد من الإمكان ها هنا الإمكان الاحتماليّ، وهو أن يكون الترديد والشكّ حاصلاً لشخصٍ وغير حاصل لآخر؛ لأنّ احتمال الإمكان جارٍ في الكلّ، وهذا غير مفيد.

وإنّما الكلام في مقتضي الشكّ في الإمكان فيما إذا لم يقع دليل على الإمكان ولا على الاستحالة، فإنّ الشيخ! بعد ما نقل كلام ابن قبة على عدم جواز التعبّد بخبر الواحد، قال - ما لفظه -:

«واستدلّ المشهور على الإمكان بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال» (1).

ومراده بذلك: أنّ الإمكان أصل عند العقلاء - في حدّ ذاته - مع احتمال الامتناع وعدم قيام الدليل عليه، فيرتّب العقلاء آثار الممكن على مشكوك الامتناع.

واعترض عليه صاحب الكفاية باعتراضين:

الأوّل: منع سيرة العقلاء على الحكم بالإمكان وترتيب آثاره عند الشك، ومنع حجّيّة سيرتهم لو سلّم ثبوتها كذلك.

ص: 102


1- فرائد الاُصول 1: 106.

الثاني: عدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها، وأمّا الدليل الظنّيّ كذلك: فهو لو قام، فإنّما يكون دليلاً على إمكانه، وعلى أنّه لا يستلزم أيّ محذور؛ إذ لو كان ممتنعاً لما وقع، والوقوع من طرق إثبات الإمكان، وحينئذٍ: فيكون من الممكن في مقام الاستدلال على الإمكان أن يستدلّ بالوقوع - أي: بوقوع التعبّد بالأمارات غير العلميّة - وإذا لم يكن هناك دليل على الوقوع، فلا ثمرة في البحث عن إمكانه.

ونصّ كلامه! كالتالي:

«وليس الإمكان بهذا المعنى، بل مطلقاً، أصلاً متّبعاً عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشكّ فيه، ومنع حجّيّتها - لو سلّم ثبوتها - لعدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها، والظنّ به، لو كان، فالكلام الآن في إمكان التعبّد بها وامتناعه، فما ظنّك به؟» (1).

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني! في مناقشة أصالة الإمكان: من أنّ «المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعيّ، بمعنى: أنّ التعبّد بالأمارة هل يلزم منه محذور في عالم التشريع أم لا؟ وليس المراد منه الإمكان التكوينيّ المختصّ بالاُمور الخارجيّة حتى يبحث في أنّ الأصل العقلائيّ هل هو الحكم بالإمكان حتى يثبت الامتناع

ص: 103


1- كفاية الاُصول: 276.

أم لا؟ كما هو واضح» (1).

فقد ردّ عليه بعض المحقّقين المعاصرين بما لفظه:

«فهو مما لا نكاد نفهمه بأكثر من صورته اللّفظيّة، وذلك فإنّ التشريع وجعل الحكم فعل تكوينيّ للمولى كسائر الأفعال التكوينيّة لهوإن اختصّ باسم التشريع، فيقع البحث في أنّه يستلزم المحال أو لا ومع الشكّ ما هو الأصل والقاعدة؟» (2).

وفيه: فإنّ الاُمور التشريعيّة والجعليّة وعاؤها الاعتبار، وعلى هذا الأساس: فهي إنّما تكون واقعيّةً بعد الجعل والاعتبار، وليست هي اُموراً تكوينيّة؛ لأنّ الاُمور التكوينيّة إنّما تحتاج إلى جعلٍ تكوينيّ، لا اعتباريّ.

وكيف كان، فقد استدلّ المانع بوجهين:

الأوّل: أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ-، لجاز التعبّد به في الإخبار عن اﷲ تعالى، والتالي باطل بالإجماع، فيكون المقدّم مثله في البطلان.

وفيه: أنّه قياس مع الفارق جدّاً؛ ضرورة أنّ الإخبار عن النبيّ- ممكن لكلّ أحد، وأمّا الإخبار عن اﷲ تعالى فهو مختصّ بأصحاب الأنفس القدسيّة.

الثاني: أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم

ص: 104


1- انظر: أجود التقريرات 2: 62.
2- منتقى الاُصول 4: 142.

الحلال، والتعبّد بغير العلم لا يكون دائم الإصابة؛ إذ لا يأمن أن يكون ما أخبر بحلّيّته حراماً واقعاً، وبالعكس، فيلزم منه نقض الغرض.

وفيه: أنّ القطع أيضاً ليس دائم الإصابة، فما يرد هنا يراد هناك.

وقد ذكر صاحب الكفاية! في بيان تصوير استحالة التعبّد بالظنّ وجوهاً ثلاثة بقوله:

«فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم من المحال أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور:

أحدها: اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين - مثلاً - فيما أصاب، أو ضدّين من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين، بلا كسر وانكسار في البين، فيما أخطأ، أو التصويب، وأن لا يكون هناك غير مؤدّيات الأمارات أحكام.ثانيها: طلب الضدّين فيما إذا أخطأ وأدّى إلى وجوب ضدّ واجب.

ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوماً بسائر الأحكام» (1).

والمراد من قوله!: «ما قيل» هو إشكال ابن قبة، ومن قوله: «من المحال» لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين، ومن «الباطل» الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة.

ص: 105


1- كفاية الاُصول: 276 - 277.

وتوضيح هذه الوجوه مجملةً بأن يقال:

إنّه لما كانت الأحكام التكليفية الخمسة متضادّة فيما بينها ولا يمكن اجتماعها في مورد واحد، فحينئذٍ نقول: لو فرض جواز التعبّد بخبر الواحد ووجوب العمل به، وقامت الأمارة - مثلاً - على وجوب صلاة الجمعة: فلا يخلو:

فإمّا أن يكون مفادها مخالفاً للواقع، بأن كانت صلاة الجمعة محرّمة.

وإمّا أن يكون موافقاً له.

فعلى الأوّل: يلزم اجتماع الوجوب والحرمة على موضوع واحد، وهو صلاة الجمعة، أو فقل: يلزم اجتماع الحبّ والبغض، أو المصلحة والمفسدة، في مورد واحد، وهو من اجتماع الضدّين.

وعلى الثاني: يجتمع عليها وجوبان - وجوب ظاهريّ، وآخر واقعيّ - فيلزم اجتماع المثلين، فيكون المحال لازماً على كلا الشقّين.

بل وحتى لو فرض عدم الاستحالة، كما في صورة اجتماع المصلحة والمفسدة، فلا أقلّ من لزوم البطلان؛ وذلك لأنّ الأمارة إن كانت تؤدّي إلى إباحة ما هو المحرّم واقعاً، كان ذلك من الإلقاء في المفسدة، وإن كانت تؤدّي إلى جواز ترك ما هو الواجب واقعاً، لزم منه تفويت المصلحة، وكلاهما باطل، كما هو واضح.

وقد أجاب صاحب الكفاية! عن هذه الوجوه بما لفظه:«إنّ ما ادّعي لزومه: إمّا غير لازم، أو غير باطل؛ وذلك لأنّ التعبّد

ص: 106

بطريقٍ غير علميّ إنّما هو بجعل حجّيّته، والحجّيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكامٍ تكليفيّة بحسب ما أدّى إلى الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة.

فلا يلزم اجتماع حكمين، مثلين أو ضدّين، ولا طلب الضدّين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته، فلا محذور فيه أصلاً، إذا كانت في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء» (1).

وحاصله: أنّ الأماريّة هنا بمعنى الطريقيّة، وليس المجعول في موارد الأمارة حكماً شرعيّاً، فهي - لذلك - تكون كاشفةً عن الواقع، ولا تكون سبباً لحدوث مصالح ومفاسد في متعلّقاتها وراء المصالح والمفاسد الواقعيّة.

وإذا اتّضح أنّه ليس هناك أيّ حكم ظاهريّ مجعول في مورد الأمارات، وأنّها ليس لها إلّا أن تنجّز أو تعذّر، فلا يعود هناك حكمان مجتمعان، من وجوبين، أو من وجوب وحرمة، حتى يلزم من اجتماعهما محذور.

ص: 107


1- كفاية الاُصول: 277.

فإن قلت: هذا لا يدفع محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، كما إذا دلّت الأمارة على الإباحة وكان الحكم في الواقع هو الوجوب، أو دلّت على عدم حرمة صلاة الجمعة وكانت حراماً واقعاً.

قلت: هذان المحذوران يرتفعان بوجود المصلحة الموجودة في التعبّد بالظنّ، وهي غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.هذا كلّه، فيما إذا كانت الأمارات بمعنى الطريقيّة، وأمّا لو كانت بمعنى السببيّة، فلا محيص عن ورود الإشكال وتأتّيه؛ بداهة أنّ معنى السببيّة ليس إلّا أنّ قيام الأمارة يكون سبباً لحدوث مصالح ومفاسد في متعلّقات الأحكام غير المصالح والمفاسد الواقعيّة.

ثمّ إنّ القائلين بالسببيّة فريقان:

فبين فريقٍ يذهب إلى أنّ المصالح والمفاسد تستتبعها أحكام شرعيّة من دون أن يكون للجاهل أحكام واقعيّة ما وراء المؤدّيات. وعلى هذا: تكون الأحكام الواقعيّة مختصة بالعالمين بها دون الجاهلين.

وبين فريق آخر يقول بأنّ قيام الأمارة يكون سبباً وموضوعاً لحدوث مفاسد أو مصالح في متعلّقات الأحكام، تكون هذه المصالح والمفاسد مستتبعة لجعل أحكام شرعيّة على طبقها، مع الاعتراف بأنّ هناك تكاليف وأحكاماً واقعيّةً يشترك فيها العالم والجاهل، إلّا أنّ هذه التكاليف الواقعيّة تكون فاقدةً لفعليّتها لدى قيام الأمارة على خلافها.

ص: 108

وقد يورد على الأوّل بجملة من الإشكالات:

الأوّل: شمول الأحكام الواقعيّة للعالم والجاهل، وهما فيها سواء.

الثاني: لزوم الدور؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة لو كانت مختصّة بالعالمين، للزم أن يتوقّف وجودها على العلم بها، توقّف كلّ حكم على موضوعه، مع أنّ العلم بها متوقّف عليها.

الثالث: أنّه من التصويب الباطل عند الإماميّة.

الرابع: لو فرض أنّه لا حكم واقعيّ للجاهل، فعن ماذا يبحث المجتهد حال اجتهاده؟ وفي أيّ شيء يجتهد؟

ويورد على الثاني:

بأنّ حجّيّة الأمارات - كما ذكرنا - لا تكون إلّا بمعنى الطريقيّة، فلا يرد شيء من تلك الإشكالات، ولا يكون هناك حكم في مورد الأمارات أصلاً، بل هو منحصر بالواقع، فالحكم، سواء في صورة الإصابة أم في صورة عدمها، يكون واحداً، ولا موضوع للمثلين أو الضدّين، فلا يكون من التصويب في شيء.فانقدح: أنّ الأحكام الواقعيّة الإنشائيّة البالغة مرتبة الإبلاغ والإعلام موجودة في الواقع ومشتركة بين الجاهل والعالم، وورود أمارات على خلافها غير مزاحمة لها بما هو أهمّ منها وأقوى كذلك غاية ما يوجبه هو سقوط تلك الأحكام عن التنجّز لا سقوطها من أوّل.

وكذا لو قلنا بوجود حكمٍ ظاهريّ تكليفيّ في مورد الأمارات، إمّا

ص: 109

بادّعاء أنّ جعل الحجّيّة مستتبع لذلك، أو بمعنى أنّ جعل الحجّيّة ليس إلّا جعل الحكم التكليفيّ؛ فلا يرد شيء من المحذور المزبور، أعني: لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين من الإرادة والكراهة والوجوب والحرمة.

وقد حاول الشيخ الأعظم! رفع هذا المحذور بما حاصله:

أنّ الموضوع في الحكم الظاهريّ مغاير لموضوع الحكم الواقعيّ؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهريّ هو الشكّ في الحكم الواقعيّ، والحكم الواقعيّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، واختلاف الموضوع يوجب رفع التضادّ والتناقض من البين.

قال) في الفرائد في أوّل مباحث التعادل والتراجيح - على ما في بعض النسخ -:

«ومنه يعلم: أنّه لا تعارض بين الاُصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة؛ لأنّ موضوع الحكم في الاُصول: الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم، وفي الدليل: نفس ذلك الشيء من دون ملاحظة ثبوت حكمٍ له، فضلاً عن الجهل بحكمه، فلا منافاة بين كون العصير المتّصف بجهالةٍ حكمه حلالاً على ما هو مقتضى الأصل، وبين كون نفس العصير حراماً، كما هو مقتضى الدليل الدالّ على حرمته» (1).

ص: 110


1- فرائد الاُصول 4: 11 - 12.

وردّه المحقّق النائيني! بما نصّه:

«وفيه: أنّ الحكم الواقعيّ وإن لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، إلّا أنّه محفوظ في حالة الشكّ، ولو بنتيجة الإطلاق، كانحفاظه في حالة العلم،فإنّ الحكم الواقعيّ إذا كان مقيّداً بغير صورة الشكّ فيه - ولو بنتيجة التقييد - رجع ذلك إلى التصويب الباطل، ولم يكن وجه لتسمية مؤدّيات الأمارات والاُصول ﺑ (الأحكام الظاهريّة)، بل كانت من الأحكام الواقعيّة، إذ المفروض أنّه لا حكم في الواقع إلّا المؤدّيات.

والحاصل: أنّ الإشكال إنّما هو بعد فرض انحفاظ الحكم الواقعيّ في حالة الشكّ، فيلزم اجتماع الضدّين في تلك الحالة» (1).

ولكن يمكن أن يقال: بعدم وجود التضادّ في المقام؛ وذلك لاختلاف الموضوع؛ فإنّ الحكم إنّما هو الواقع بما هو واقع، والموضوع إنّما هو ملاحظة المصالح الظاهريّة، وإذا كان الموضوعان متغايرين، فلا تضادّ؛ لأنّه إنّما يكون في موضوع واحد، بل بناءً على قول بعض المصوّبة من سقوط الحكم الواقعيّ أو تبدّله، لا يكون هناك اثنينيّة في البين، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدّين.

وبعبارة اُخرى: الحكم الظاهريّ حكم طريقيّ ناشئ عن مصلحة في نفسه، والحكم الواقعيّ حكم فعليّ ناشئ عن مصلحة في متعلّقه، والأوّل

ص: 111


1- فوائد الاُصول 3: 100 - 101.

يكون منجّزاً، والثاني فعليّ غير منجّز، وحينئذٍ: ترتفع غائلة اجتماع الضدّين؛ لاختلاف مورد الإرادة والكراهة الناشئتين عن المصلحة والمفسدة؛ لأنّ ما فيه المصلحة في الحكم الظاهريّ هو نفس الحكم، وما فيه المفسدة في الحكم الواقعيّ هو متعلّق الحكم.

نعم، يرد عليه أنّه لو كانت المصلحة أو المفسدة في متعلّق الفعل، لا في نفسه، للزم تحقّقها بمجرّد إنشائها وجعلها من دون لزوم الإتيان بمتعلّقاتها، علماً بأنّ المقصود من جعلها في مورد الأمارات ليس إلّا الوصول بسببها إلى الواقعيّات، ولذا سمّيت بالطريقيّة.

فظهر: أنّ المصلحة في الأحكام الظاهريّة الطريقيّة لو كانت في متعلّق الفعل، كالمصلحة النفسيّة التي أوجبت إنشاء الأحكام الواقعيّة،فيلزم على فرض إصابتها للواقع اجتماع المثلين، وعلى فرض المخالفة اجتماع الضدّين، واللّازم باطل، فكذا الملزوم.

وأمّا ما قد يدّعى من حمل الأحكام الواقعيّة على الشأنيّة أو الإنشائيّة، وحمل الأحكام الظاهريّة على الفعليّة، فقد ردّه المحقّق النائيني! بما لفظه:

«أمّا الشأنية: فإن كان المراد منها أنّه في مورد قيام الأمارة على الخلاف ليس في الواقع إلّا شأنيّة الحكم ومجرّد ثبوت المقتضي فتكون الأحكام الواقعيّة اقتضائيّة محضة، فهو بمكان من الضعف، فإنّه إن رجع إلى أنّ في مورد الأمارة ليس في الواقع أحكام حقيقيّة بل

ص: 112

مجرّد الملاكات وقيام الأمارة على خلافها مانع عن تأثيرها وتشريع الأحكام على طبقها، فهذا يرجع إلى التصويب الباطل؛ لأنّه يلزم خلو الواقع عن الحكم.

وإن رجع إلى أن في مورد قيام الأمارة على الخلاف يكون في الواقع أحكام اقتضائيّة، فنحن لا نتعقل للأحكام الاقتضائية معنى؛ لأنّ الإهمال الثبوتي لا يعقل في الأحكام بالنسبة إلى الانقسامات السابقة ولا بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة، بل الحكم بالنسبة إلى جميع الانقسامات إمّا مطلق، أو مقيّد بالإطلاق والتقييد اللّحاظيّ، أو بنتيجة الإطلاق والتقييد، ومن جملة الانقسامات اللّاحقة قيام الأمارة على الخلاف.

والحكم الواقعيّ المترتّب على موضوعه الواقعيّ، إمّا أن يكون مطلقاً بالنسبة إلى قيام الأمارة على الخلاف، وإمّا أن يكون مقيّداً بعدم قيام الأمارة على ذلك. فعلى الأوّل: يلزم التضادّ بين الحكم الواقعيّ والحكم الجائي من قبل الأمارة. وعلى الثاني: يلزم التصويب» (1).

فانقدح بذلك: أنّه ليس في الأمارات حكم حتى ينافي الحكم الواقعيّ، فلا يرد إشكال التضادّ أو التماثل أو التصويب، بل ليس حال الأمارةالمخالفة للواقع إلّا كحال العلم المخالف كذلك، فلا وجود إلّا للحكم الواقعيّ فقط، بلا فرقٍ بين صورتي إصابة الطريق للواقع وخطئها، فإنّه

ص: 113


1- فوائد الاُصول 3: 101, 102.

عند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعيّ فقط، كالعلم المصيب للواقع، فيوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذة عليه. وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذّرية، وعدم صحّة المؤاخذة عليه، كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول.

هذا كلّه في الأمارات.

وأمّا الاُصول:

فهي على قسمين: تنزيليّة وغير تنزيليّة.

أمّا الاُصول التنزيليّة: فهي - أيضاً - خالية عن حكمٍ آخر في قبال الحكم الواقعيّ، هذا إذا قلنا بأن المجعول فيها هو البناء العمليّ على أنّ المؤدّى هو الواقع، وإلّا، كان إشكال التضادّ وارداً.

أمّا في باب الاُصول المحرزة فإنّ الهوهويّة المجعولة فيه هي الهوهويّة العمليّة، أي: البناء العمليّ على كون المؤدّى هو الواقع، وهي لا تستلزم جعل حكم في المؤدّى، حتى يأتي إشكال التضادّ أو التماثل أو التصويب.

وبهذا يظهر الوجه في ارتفاع الإشكال عن الاُصول غير المحرزة، كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة؛ ضرورة أنّ المجعول فيها هو مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه، حيث يحكم على أحد طرفي الشكّ بالرفع، كأصالة البراءة، أو الوضع، كأصالة الاحتياط.

ص: 114

فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلّيّة المجعولة في أصالة الحلّ، تكون مناقضة مع الحلّيّة والحرمة الواقعيّة على تقدير مخالفة الأصل للواقع.

وأمّا دعوى: ارتفاع إشكال التضادّ بين الحكمين؛ بسبب اختلافهما في الرتبة، وأنّ رتبة الحكم الظاهريّ هي رتبة الشكّ في الحكم الواقعيّ،والشكّ في الحكم الواقعيّ متأخّر رتبةً عن نفس وجوده. فيكون الحكم الظاهريّ في طول الحكم الواقعيّ لا في عرضه.

ففي غير محلّها: لأنّ الحكم الظاهريّ وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ الحكم الواقعيّ يكون في رتبة الحكم الظاهريّ؛ لانحفاظ الحكم الواقعيّ في مرتبة الشكّ فيه، فإنّ تأخر رتبة الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ لا يرفع غائلة التضادّ مع شمول الحكم الواقعيّ لجميع حالات العلم و الظنّ والشكّ.

ولكنّ الصحيح: هو أنّ البراءة - أيضاً - ليست بمعنى جعل الحكم في عرض الحكم الواقعيّ المجعول، حتى يلزم التضادّ، بل هي بمعنى سقوط العقاب على ترك الواجب المجهول، وهو مستلزمٌ للترخيص والإباحة الظاهريّة.

قال المحقّق النائيني!: «هذا كلّه إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجاب الاحتياط. وإن لم تكن المصلحة الواقعيّة تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمّيّة بحيث يلزم

ص: 115

للشارع رعايتها كيفما اتّفق، فللشارع جعل المؤمّن: كان بلسان الرفع كقوله-: (رفع ما لا يعلمون)، أو بلسان الوضع كقوله-: (كلّ شيء لك حلال).

فإنّ المراد من الرفع في قوله-: (رفع ما لا يعلمون)، ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله-: (رفع ما لا يعلمون) نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فكما أنّ الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافي الحكم الواقعيّ ولا تضادّه، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله(علیه السلام): (رفع ما لا يعلمون)؛ والسرّ في ذلك: هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعيّ ومتأخّر رتبتها عنه» (1).ولكنّ هذا الجواب منه! غير تامّ؛ والسرّ في ذلك:

أنّ الحكم الظاهريّ وإن كان في رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ هذه الرتبة لا تفيد في رفع غائلة التضادّ؛ لأنّ الحكم الواقعيّ يشمل بنتيجة الإطلاق مرتبة الحكم الظاهريّ، فلا تكون الطوليّة في طرفٍ واحد كافية لرفع التضادّ.

ص: 116


1- فوائد الاُصول 3: 118.

وقد أجاب عنه المحقّق العراقي! بأنّ تصوّر الطوليّة في الحكمين على نحوين:

«أحدهما: طوليّة الحكمين في ذات واحدة محفوظة في مرتبة نفسه، كما هو الشأن في عنوان الخمر ومشكوك الخمريّة.

وثانيهما: طوليّة الحكمين الثابتين للذّاتين في رتبتين، كما هو الشأن في فرض الجهل بالحكم من الجهات التعليليّة؛ لطروّ الحكم الظاهريّ على الذات، فإنّه - حينئذٍ - تُرى الذات في رتبتين، بخلاف ما إذا كان الجهل من الجهات التقييدية؛ لأنّ الذات في هذه الصورة لا تُرى إلّا في رتبة واحدة موضوعاً لحكمين طوليّين، وحينئذٍ: فالذي يثمر لرفع التضادّ هو الطوليّة بالمعنى الثاني، دون الأوّل.

والسرّ فيه: أنّ الذات في هذه الصورة لمّا كان واحداً لا يتحمّل حكمين ولو طوليّين، متماثلين أو متضادّين.

وأمّا في فرض أخذ الذات في رتبتين، فلا يُرى - حينئذ - إلّا ذاتان، وحيث إنّ معروض الحكم في كلّيّة المقامات هو نفس العنوان لا المعنون، فوحدة المعنون لا يضرّ في تعدّد الحكم لكلٍّ منهما بعنوانٍ غير الآخر...» (1).

ص: 117


1- انظر: فوائد الاُصول 3: 118 - 119، الهامش رقم 1، بتصرّفٍ يسير.

ص: 118

تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة

اشارة

والكلام يقع في اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ المراد من الإمكان هو الإمكان الوقوعيّ كما مر، أي: الذي لا يلزم من إمكان تعبدّه محال، في مقابل الامتناع الوقوعي الذي يستلزمه، وليس المراد منه الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي.

الأمر الثاني:

أن المراد به هو انتسابه إلى الشارع، لا بالنسبة إلى مرحلة الاقتضاء، ضرورة أنّه لا معنى في هذه المرحلة للقول بجريان الأصل فيما فيه الاقتضاء.

ص: 119

الأمر الثالث:

قد استُدلّ لحرمة التعبد بالأمارة التي لم يعلم التعبّد بها بوجوه أربعة:

الأوّل: الكتاب، قال تعالى: ﴿قُلْ ءآللهُ أَذنَ لَ-كُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (1).وليس المراد من الافتراء: إسناد الشيء إلى الشارع مع العلم بعدم كونه منه كما ربّما ينسبق إلى بعض الأوهام، بل يعمّ صورة عدم العلم بكونه منه كما يظهر من الآية: ﴿ءآللهُ أَذنَ لَ-كُمْ﴾، فتدل على أنّه ما لم يأذن اﷲ فهو افتراء، مضافاً إلى أنّ العرف يعتبر الكلام المنسوب إلى شخص لم يقله افتراءً وإن لم يكن الناسب عالماً بكذبه.

الثاني: السنّة: كقوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحق وهو لا يعلم» (2).

وفي هذه الرواية إشكالان:

الأوّل: قصور السند؛ لأنّها مرفوعة، والانجبار بالعمل غير مفيد.

والثاني: أنّ هذه الرواية إنّما تصلح للاستدلال إذا ثبت أنّ المراد من القضاء فيها: القضاء بما لا يعلم، ولكنّها ظاهرة بمعنى آخر، هو: التصدّي للقضاء مع عدم كونه أهلاً لذلك.

وما ذكر في مقام بيان التفصيل بين قضاة الجور والعدل من أنّ المراد من قوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»: من لا يعتقد الحقّ، ومن

ص: 120


1- يونس: الآية 59.
2- الوسائل 27: 22, الباب 4 من أبواب صفات القاضي, ح 6.

قوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم»: من يعتقده؛ مخالف لظاهر الرواية، والمعنى حينئذٍ: إذا قضى الرجل بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، سواء كان من قضاة الجور أو العدل؛ لأنّه افتراء على اﷲ.

الثالث: الإجماع، وقد نسب إلى المحقق البهبهاني! أنّ حرمة العمل بما لا يعلم من البديهات عند العوام فضلاً عن العلماء.

وقد عرفت مراراً حال هذه الإجماعات من النقل واحتمال المدركيّة، فليس إجماعاً تعبدياً.

الرابع: العقل، وحاصله: أنّ الاستناد إلى شيء ونسبته إلى شخص أمر قبيح بين العقلاء ما دام لم يعلم أنّه منه، فيكون الشك في الحجيّة والاعتذار كافياً في عدمها، تماماً كما أنّ الشك في صحة الانتساب كافٍ في عدمها عند العقلاء.ومذهب الآخوند! أصالة عدم الحجيّة، ببيان: أنّ آثار الحجيّة إنّما تترتّب على الاعتبار بوجوده العلمي، فمع الشك في الاعتبار يقطع بعدم ترتب الآثار على المشكوك للقطع بعدم الموضوع.

أمّا انحصار ترتّب آثار الحجّة في نظره! على الحجّة المعلومة: فلأنّه بدون العلم باعتبار الأمارة لا يتنجّز بها التكليف عقلاً، فلا يصح للمولى العقاب استناداً إليها، كما لا تكون معذّرة للعبد (1).

ص: 121


1- راجع: كفاية الاُصول: 279.

وقد استدلّ كلّ من الشيخ! والمحقق النائيني! على نفي حجّية المشكوك بما دلّ على عدم جواز الاستناد والإسناد مع عدم العلم (1).

قال المحقّق النائيني!: «ومن العقل: إطباق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على تشريعه وإسناده إلى المولى ما لا يعلم أنّه منه، فإنّ ذلك تصرّف في سلطنة المولى، وخروجٌ عما يقتضيه وظائف العبوديّة.

وبالجملة: لا إشكال ولا كلام في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة» (2).

ثمّ إنّ صاحب الكفاية! ناقش الشيخ! بأنّ جواز الاستناد والإسناد ليس من آثار الحجيّة، بل بينهما عموم من وجه، فقد تثبت الحجّيّة ولا يجوز الاستناد، كموارد الظنّ الانسداديّ، بناء على حجّيّته عقلاً على تقرير الحكومة، كما أنّه لو فرض صحة الاستناد مع الشكّ شرعاً لم يثبت به حجّيّة الظن، وإليك نصّ كلامه!:

«وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام، وصحّة نسبته إليه تعالى، فليسا من آثارها، ضرورة أنّ حجّيّة الظنّ عقلاً - على تقريرالحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحّتهما شرعاً مع الشكّ في التعبّد به لما كان يجدي في الحجيّة شيئاً ما لم يترتّب عليه ما ذكر من

ص: 122


1- فرائد الاُصول 1: 131.
2- فوائد الاُصول 3: 120.

آثارها، ومعه لما كان يضر عدم صحّتهما أصلاً» (1).

وبعبارة أُخرى: إنّ صحّة الالتزام بما أدّى إليه الظنّ من الأحكام، وصحّة نسبته إليه تعالى، ليسا من آثار الحجّيّة حتى إذا لم يصح الاستناد كشف بطريق الإنّ عن عدم الحجّيّة، كما هو كذلك بالنسبة إلى الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة؛ فإنّه حجّة عقلاً لنفس العلم في حال الانفتاح مع عدم صحّة نسبته إليه جلّ وعلا؛ وذلك لأنّ المفروض عدم القول بالكشف، فإنّه ليس الظنّ طريقاً منسوباً إلى الشرع حتى يصح الالتزام بمؤدّاه، بل هو حجّة عقلاً.

ولو فرض صحّة الالتزام والنسبة فيما شكّ في اعتباره، لم يُفد ذلك في إثبات حجيّته، ما لم يترتّب عليه آثار الحجيّة من المنجّزيّة والمعذريّة، ومع الترتّب المزبور لم يضرّ عدم صحّتهما، كما في الانسداد على تقرير الحكومة؛ إذ المدار - فيما هو الحجيّة وعدمها - إنّما هو على ترتّب الآثار وعدم ترتّبها، لا على صحّة الاستناد وعدمها.

وعليه: فمناقشة صاحب الكفاية! للشيخ! تكمن في بيان أمرين:

أحدهما: كلّيّة أنّ عدم الاستناد لا يلازم عدم الحجّيّة.

والثاني: تطبيق هذه الكلّيّة على موارد الظنّ الانسداديّ، بناءً على الحكومة.

ص: 123


1- راجع: كفاية الاُصول: 280.

وناقشه المحقق النائيني! في كلتا الجهتين:

أمّا في الأُولى: فبما محصّله (1): إنّ عدم الاستناد يلازم عدم الحجيّة، واستناده يلازم الحجيّة؛ لأنّ معنى الحجيّة في الأمارة هوكونها وسطاً في إثبات متعلّقها، فتكون كالعلم، فيترتّب عليها جواز الاستناد كما يترتّب على العلم. وإذا ثبت أنّ جواز الاستناد من لوازم الحجيّة فانتفاؤه يكون كاشفاً عن انتفاء الحجيّة.

وأمّا الثانية: فببيان أنّ مرجع حجّيّة الظن على الحكومة ليس جعل الظنّ حجّة من قبل العقل، بل حقيقته: هي حكمه بجواز الاكتفاء في امتثال التكاليف المعلومة بالظنّ، فيقع الظنّ بناءً على هذاالالتزام في طريق إسقاطه.

وتوضيحه كما عن المحقّق النائيني!:

«ليس من وظيفة العقل جعل الظنّ حجّة مثبتاً لمتعلّقه، بل شأن العقل هو الإدراك وليس من وظيفته التشريع، وحكمه باعتبار الظنّ في حال الانسداد ليس معناه كون الظنّ حجّة مثبتاً لمتعلّقه، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنّيّة للأحكام المعلومة بالإجمال عند تعذّر الإطاعة العلميّة، وهذا المعنى أجنبيّ عن معنى الحجّيّة؛ فإنّ الحجّة تقع في طريق إثبات

ص: 124


1- انظر: فوائد الاُصول 3: 122.

التكاليف، والظن بناءً على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف» (1).

وهل يمكن استصحاب عدم الحجّيّة فيما إذا شُكَّ في حجيّته؟ قد يقال بإمكانه؛ لأنّ حجيّة الأمارة من الحوادث، فهي مسبوقة بالعدم.

ومنعه الشيخ الأنصاري! بما ملخّصه:

أنّه لا ثمرة لجريان هذا الاستصحاب؛ لأنّ عدم المنجّزية لما كان مترتباً على نفس الشكّ في الحجيّة، فيكون إجراء الاستصحاب فيه من باب تحصيل الحاصل، والاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشك (2).واعتبره المحقق النائيني! أسوأ حالاً من تحصيل الحاصل؛ «فإنّ تحصيل الحاصل إنّما هو فيما إذا كان المحصّل والحاصل من سنخ واحد: كلاهما وجدانيّان، أو كلاهما تعبّديّان، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد» (3)؛ فإن عدم المنجّزية أمر وجدانيّ، فلا حاجة ولا معنى لإحرازه بالتعبد.

والحقّ هو ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«الحقّ: صحّة جريان استصحاب عدم الحجّيّة، وليس هو من تحصيل الحاصل.

ص: 125


1- فوائد الاُصول 3: 123.
2- فرائد الاُصول 1: 130, 131.
3- فوائد الاُصول 3: 129.

وبيان ذلك: أنّ تحصيل الحاصل إنّما يلزم لو كان المترتّب على الاستصحاب نفس الأثر المترتّب على الشكّ، أمّا إذا كان غيره وإنْ كانا من سنخ واحد، فلا يلزم تحصيل الحاصل، وما نحن فيه كذلك؛ فإنّ عدم المنجّزيّة المترتّب على الشكّ في الحجّيّة غير عدم المنجّزيّة المترتّب على عدم الحجّة؛ فإنّ الأوّل بملاك الشكّ وعدم قابليّة الموجود للمنجّزيّة، والآخر بملاك عدم الموضوع وعدم المنجّز، ولذا يعبّر بأنّه من باب السالبة بانتفاء الموضوع» (1)... إلى آخر كلامه!.

وإذا كان الاستصحاب في أحدهما غير الاستصحاب في الآخر، فلا يكون مستلزماً لتحصيل الحاصل، كما في نظير المقام بين قبح العقاب المترتّب على الشكّ في التكليف في البراءة الشرعيّة دون قبح العقاب المترتّب على البراءة العقليّة؛ فإنّ الأوّل بملاك عدم المخالفة لعدم التكليف، والثاني بملاك قبح العقاب بلا بيان.

وهنا أمور لابدّ من التنبيه عليها:

الأوّل: أنّ المراد من التشريع ما مرّ من انتساب ما لم يصدر منه إليه، بلا فرق بين ما إذا كان قد صدر منه في الواقع أم لا، بين إذا كان المنسوب إليه قولاً أو عملاً، بعنوان أنّه من الدين بقصد جزميّ.

ولذا لم يكن ما يؤتى به برجاء المطلوبيّة لدى الشارع من التشريع،

ص: 126


1- منتقى الاُصول 4: 200.

وكذا ما يترك رجاء المبغوضيّة لديه ليس منه.

وإنّما كان التشريع حراماً لأنّه ظلم وتقوّل على المولى، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ (1).

الثاني: هل حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح المعصية مما لا تناله يد الجعل الشرعيّ، ولا يستتبع خطاباً مولوياً بحرمته؟ أو أنّ حكمه بقبح التشريع يستتبع بالحكم الشرعيّ بحرمته ولو بقاعدة الملازمة؟

اختار المحقق الخراساني! الأوّل، وحمل ما ورد في الكتاب والسنّة في هذا البحث على الإرشاد، نظير قوله سبحانه: ﴿أَطِيعُوا الله َ وَرَسُولَهُ﴾ (2).

وظاهر كلام الشيخ! هو الثاني حيث استدلّ على حرمة التشريع بالأدلّة الأربعة (3).

وبعبارة أُخرى: إذا كان العقل حاكماً بقبح التشريع فهل يحكم بحرمته أيضاً أم لا؟

فالمحقّق النائيني! على العدم تبعاً للشيخ! حيث قال:«وهو الأقوى - أي: ما ذهب إليه الشيخ! - لأنّ الأحكام العقليّة التي لا تستتبع الخطابات الشرعيّة إنّما هي فيما إذا كانت واقعة في سلسلة

ص: 127


1- الحاقّة: الآيات: 44، 45، 46.
2- الأنفال: الآية 20.
3- انظر: فرائد الاُصول 1: 346، ونصّ عبارته! كالتالي: «أنّ العمل بالظنّ والتعبّد به من دون توقيف من الشارع تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة».

معلولات الأحكام كقبح المعصية وحسن الطاعة، لا فيما إذا كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقليّ الناشئ عن إدراك المصالح والمفاسد؛ فإنّ الأحكام العقليّة الراجعة إلى هذا الباب كلّها تكون مورداً لقاعدة الملازمة، ويستتبعها الخطابات الشرعيّة، ومسألة قبح التشريع من هذا الباب؛ لأنّ حكم العقل بقبحه ليس واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام، بل هو حكم ابتدائيّ من العقل لما فيه من المفسدة من تصرف العبد فيما ليس له. وإن شئت قلت: إنّ التشريع من أفراد الكذب الذي يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته» (1).

وخالف في ذلك المحقق العراقي! فاختار الأوّل، قال ما نصّه:

«لا غرو في دعوى أنّ التشريع المتجرّي نحوُ طغيان على المولى وجسارة موجبة بنفسه للعقوبة بلا احتياج إلى حكم مولوي، كيف، ولا أظن من ينكر الملازمة كلّيّة إنكار عدم استحقاق المشرّع للعقاب نظير الافتراء على المولى، فتأمّل» (2).

وقد عرفت: أنّه ليس في باب التجرّي إلّا القبح الفاعليّ دون الفعليّ، فلا يكون حراماً، وهنا أيضاً كذلك؛ فإنّ التشريع من أفراد الكذب الذي يستقلّ العقل بقبحه فقط، نعم يحكم الشرع بحرمته.

ص: 128


1- فوائد الاُصول 3: 120, 121.
2- فوائد الاُصول 3: 121، الهامش رقم 1.

الثالث: أنّ التشريع هل يغيّر الفعل المتشرّع به ولو لم يكن الفعل بنفسه قبيحاً، لكن يسري إليه قبح التشريع فيجعله قبيحاً عقلاً حراماً شرعاً؟ أو أنّه لا يسري كذلك بل يكون من المقبحات العقلية والآثام القلبية مع بقاء الفعل المتشرّع به على حاله؟مختار المحقّق الخراساني! هو الثاني، وظاهر كلام الشيخ! هو الأوّل، بتقريب: أنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه، فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عما هو عليه.

وهذا التقريب منه! غير تامّ؛ لأنّه مجرّد إمكان.

نعم، يمكن استفادة حرمة القضاء واستحقاق العقوبة من ظاهر قوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم».

ص: 129

ص: 130

في حجّيّة الظواهر

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّ المراد من الظهور هو انكشاف المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذهن بحيث إذا أُلقي اللّفظ إلى العرف حملوه عليه، وإن لم يكن هناك ظنّ بالمراد؛ لأنّ تحقّق الظهور لا يدور مدار الظنّ بالمراد، كما أنّ الظنّ بالمراد ممّا لا يدور مدار الظهور.

فبينهما نسبة العموم وخصوص من وجه؛ إذ يمكن أن يتحقّق الظهور من دون أن يكون هناك ظنّ بالمراد، كما لو كان للّفظ ظهور بحسب الانفهام العرفيّ، كما أنّه قد يحصل الظنّ بالمراد، ولو من الخارج، مندون أن يكون للّفظ ظهور فيه أصلاً، وقد يجتمعان، فصدقت ضابطة العموم والخصوص الوجهيّ.

ص: 131

وقد عبّر الشيخ! عن الظهورات ﺑ «الاُصول المعمولة لتشخيص مراد المتكلّم»، قال! ما لفظه:

«منها: - أي: من الاُمور الخارجة عن تحت أصالة حرمة العمل بما سوى العلم - الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة، وهي على قسمين:

القسم الأوّل: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادة خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والإطلاق.

ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة، وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشايع بناءً على عدم وصوله إلى حدّ الوضع، وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهل اللّسان في محاوراتهم كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر» (1).

والذي يظهر من كلامه):

أنّه أرجع هذه الاُصول اللّفظيّة إلى أصالة عدم القرينة، وأنّه ليس للعقلاء إلّا بناء واحد، هو اتّباع الظهور، فلا يكون عندنا سوى أصالة الظهور، لا أنّهم يبنون على أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي

ص: 132


1- فرائد الاُصول 1: 135.

يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة.

الأمر الثاني:

اعلم أنّ البحث عن الظواهر:

تارةً: يكون صغرويّاً، كحصول الظهور من الوضع، أو من القرائن: الشخصيّة أو النوعيّة، كوقوع الأمر عقيب الحظر الموجب لظهوره فيالإباحة، والاستثناء عقيب الجمل المتعدّدة ممّا يوجب انعقاد ظهور لمفردات الكلام، أو غلبة وجوده في الخارج الموجب لانصراف اللّفظ إليه.

وأُخرى: يكون كبرويّاً كالبحث عن حجّيّة أصل الظهور بعد فرض انعقاده في الكلام.

الأمر الثالث: هل الظهور من مسائل علم الاُصول؟

الظاهر: كونه كذلك؛ بداهة ما عرفت من أنّ المناط في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرىً لقياس يستنتج منه حكم فرعيّ كلّيّ.

ثمّ إنّه قد تقدّم في باب الأوامر والنواهي الحديث عن الظواهر صغرويّاً. فالكلام عنها هنا ينعقد كبرويّاً ليس غير، فيقع البحث في أنّ الظهور بعد انعقاده هل يكون حجّة أو لا؟

بمعنى: أنّ ما يظهر من الكلام، هل يكون هو المراد النفس الأمريّ

ص: 133

للمتكلّم - بدعوى: أنّ الكلام بظاهره موضوع لأجل إفادة المعنى، وعليه بناء العقلاء وأهل العرف مطلقاً، حيث يدور عليه رحى معاشهم ونظامهم - أم أنّه لا يكون كذلك؟

قال المحقّق الخراساني! في المقام ما لفظه:

«لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة اُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح» (1).

وحاصله: أنّ الشارع لم يردع عن اتّباع الظهور والأخذ به؛ لأنّه لو ردع عن ذلك، لكان عليه أن يخترع طريقة اُخرى لنفسه، فعدم اختراعه هذا يكون كاشفاً - لا محالة - عن عدم ردعه.

واستدلّ الشيخ الأعظم! على حجّيّة الظواهر بما نصّه:«أمّا القسم الأوّل: وهو ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم - عند احتمال إرادة خلاف ذلك - فاعتباره في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف؛ لأنّ المفروض كون تلك الأمور معتبرة عند أهل اللّسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم.

ومن المعلوم بديهةً أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده

ص: 134


1- كفاية الاُصول: 281.

للمخاطبين لم يكن طريقاً مخترعاً مغايراً لطريق محاورات أهل اللّسان في تفهيم مقاصدهم» (1).

الأمر الرابع: في أنّ للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفيّة.

اشارة

بمعنى: أنّ كلّ ما لا يكون مجملاً فهو ظاهر، حتى يصل إلى مرتبة النصوصيّة، وحينئذٍ: فإن قلنا بحجّيّة الظهور لدى العقلاء، فيكون هذا الظاهر حجّة عندهم بجميع مراتبه.

وكيف كان، فبعد ما عرفت من أنّ الشارع قد جرى على طريقة العقلاء دون أن يختار لنفسه طريقاً خاصّاً مغايراً لطريقتهم، نقول:

ينبغي أن يُعلم: أنّ الطريقة المعمول بها عند العقلاء تتمثّل في أنّ الكلام لو كان ظاهراً في معنى، أخذوا بهذا الظاهر، بحيث لو احتملوا عدم إرادة المتكلّم لما هو الظاهر من كلامه، فلا يعتنون بهذا الاحتمال، ولا يبالون به؛ ضرورة أنّ احتمال خلاف الظاهر منشؤه:

إمّا احتمال غفلة المتكلّم عن نصب قرينةٍ على الخلاف، أو احتمال عدم إرادته استيفاء مراده من الكلام، أو نحو ذلك ممّا يوجب احتمال عدم إرادة المتكلّم لظاهر الكلام.

ولكنّ جميع هذه الاحتمالات مدفوعة بالاُصول العقلائيّة التي جرت عليها طريقتهم، وهي اُصول لم يردع عنها الشارع المقدّس، بل إنّه أقرّهم

ص: 135


1- فرائد الاُصول 1: 137.

عليها، بل وقد اتّخذها طريقةً له - هو أيضاً - لمكان أنّه أحدالعقلاء، بل هو سيّدهم ورئيسهم، فليس له طريق خاصّ في بيان مراداته، بل إنّما يتكلّم على وفق طريقتهم المعمول بها عندهم، ولا يعتني بالاحتمالات التي توجب الشكّ في أنّه قد أراد ظاهر كلامه.

وممّا ذكرنا يتّضح: أنّه لا فرق بين ظاهر الكتاب وغيره، بل ولا فرق - أيضاً - بين مطلق كلام الشارع ومطلق كلام غيره، في كونه معتبراً في تعيين المراد، وكذا لا فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد كذلك؛ وذلك خلافاً لما ذهب إليه الأخباريّون من التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيره، حيث منعوا من حجّيّة ظواهر الكتاب، دون ظواهر غيره.

وقد ذكر صاحب الكفاية! لهذا المنع وجوهاً خمسة، إذ قال):

«وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجّيّة ظاهر الكتاب:

إمّا بدعوى: اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.

أو بدعوى: أنّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه تعالى، مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء؟!

أو بدعوى: شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، لا أقلّ من

ص: 136

احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى: أنّه وإن لم يكن منه ذاتاً، إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجماليّ بطروء التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحدٍ من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى: شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنىً على إرادة ذلك المعنى» (1).

وحاصل هذه الوجوه كالتالي:

الأوّل:

الإخبار باختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، وهم النبيّ- والأئمّة ( (2).

الثاني:

دعوى احتواء القرآن على مستوى عالٍ من المطالب العالية والمضامين الشامخة التي لا يصل إليها فهم كلّ أحد؛ لاشتماله على علم ما كان وما هو كائن وما سيكون.

الثالث:
اشارة

دعوى كون المتشابه، والذي دلّ الدليل على المنع عن اتّباعه، شاملاً للظاهر؛ ولا أقلّ من احتمال شموله له، وهو كافٍ في المنع عن العمل به.

ص: 137


1- كفاية الاُصول: 281 - 282.
2- انظر - مثلاً -: روضة الكافي: 361, الحديث: 485.

ولا بأس هنا بنقل كلام السيّد الصدر) شارح الوافية على ما لخّصه الشيخ الأعظم! في فرائده، قال):

«إن المتشابه كما يكون في أصل اللّغة، كذلك يكون في الاصطلاح، مثل أن يقول أحد: (أنا أستعمل العمومات وكثيراً ما أريد الخصوص من غير قرينة، وربّما اُخاطب أحداً وأريد غيره)، ونحو ذلك. والقرآن من هذا القبيل؛ لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ».

إلى أن قال: «قال سبحانه: ﴿مِنْهُ آي-َاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ الآية (1).. ذمّ على اتّباع المتشابه ولم يبيّن لهم المتشابهات ما هي وكم هي، بل لم يبين لهم المراد من هذا اللّفظ، وجعل البيان موكولاً إلى خلفائه».

ثمّ قال):

«لا يقال: إنّ الظاهر من المحكم، ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ.لأنّا نمنع الصغرى؛ إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ، وأمّا شموله للظاهر، فلا».

إلى أن قال:

«لا يقال: إنّ ما ذكرتم، لو تمّ، لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضاً؛ لما فيها من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه،

ص: 138


1- آل عمران: الآية 7.

والعامّ المخصَّص، والمطلق المقيَّد.

لأنّا نقول: إنّا لو خُلّينا وأنفسنا، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة، مع عدم نصب القرينة على خلافها، ولكن مُنعنا من ذلك في القرآن؛ للمنع من اتّباع المتشابه، وعدم بيان حقيقته، ومنعنا رسول اﷲ6 عن تفسير القرآن، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير.

وأيضاً: ذمّ اﷲ تعالى على اتّباع الظنّ، وكذا الرسول6 وأوصياؤه(، ولم يستثنوا ظواهر القرآن».

إلى قوله:

«وأمّا الأخبار، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة( كانوا عاملين بأخبار الآحاد من غير فحصٍ عن مخصّصٍ أو معارضٍ ناسخٍ أو مقيّد، ولولا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار - أيضاً - من المتوقّفين» (1).

والذي يظهر من كلامه:

أوّلاً: أنّه لم يدّعِ شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، وإنّما احتمل شموله لتشابه المتشابه.

وثانياً: أنّه لم يرَ جواز العمل بظواهر الكتاب والسنّة مطلقاً، وإنّما جواز العمل بظاهر الأخبار اتّباعاً للأئمّة( حيث عملوا بأخبار الآحاد من دون فحصٍ عن مخصّص أو معارض أو ناسخ أو مقيّد.

ص: 139


1- فرائد الاُصول 1: 150 - 153.

الرابع: من وجوه منع الأخباريّين الأخذ بظواهر الكتاب:

دعوى العلم الإجماليّ بطروء التقييد والتخصيص والتجوّز في غير واحدٍ من ظواهر الكتاب، وهو كافٍ لعدم إمكان العمل به، وإجراءأصالة الظهور في كلّ ظاهر لا يمكن، كما هو ظاهر؛ لمكان حصول المعارضة.

قال الشيخ!: «الثاني من وجهي المنع: أنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور» (1).

الخامس:

دعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنىً على إرادة هذا المعنى.

قال! في الفرائد: «وعن مجمع البيان: أنّه قد صحّ عن النبي- وعن الأئمّة( القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح والنصّ الصريح.

وقوله(علیه السلام): (ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه)» (2).

ص: 140


1- فرائد الاُصول 1: 149.
2- فرائد الاُصول 1: 140 - 141. والرواية في تفسير العياشيّ «يتصرّف على وجوه»، انظر: تفسير العيّاشي 1: 11، في تفسير الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه، ح2، وقريب منه ما في وسائل الشيعة 27: 192- 193، باب 13 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح 41.

وهذه الوجوه كلّها مردودة:

أمّا الأوّل:

فلبداهة أنّ في القرآن ما لا يختصّ علمه بهم(، كيف؟! وقد وقع في غير واحدٍ من الروايات الإرجاع إلى الكتاب، كما في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة، أنّه قال: «يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اﷲ عزّ وجلّ،قال اﷲ تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (1)، امسح عليه» (2).

وأمّا الثاني:

فلأنّ اشتمال القرآن على مطالب عالية ومضامين شامخة إنّما هو ببعض آياته، لا بتمامها، ولا ينافي غموض بعض الآيات حجّيّة ظهور غيرها.

وأمّا الثالث:

فلأنّ هناك فرقاً شاسعاً بين المتشابه والظاهر؛ إذ الأوّل هو المجمل الخفيّ معناه، بخلاف الظاهر، فإنّه قسيمه، وإذا كان كذلك، فلا يمكن أن يكون الظاهر بمعنى المتشابه، كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا الرابع:

فلأنّه وإن سلّمنا بطروء ما يخالف الظاهر، من مخصّص وغيره، إلّا أنّه ممّا لا يوجب إجمال الظواهر وعدم الأخذ بها والعمل على طبقها؛

ص: 141


1- الحجّ: الآية 78.
2- وسائل الشيعة 1: 464، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح5.

ضرورة أنّه مع الفحص عمّا يخالف الروايات، ينحلّ العلم الإجماليّ من أصله إلى العلم التفصيليّ، فلا يعود هناك مانع من الأخذ به.

وأمّا الخامس:
اشارة

فلأنّ الممنوع عنه إنّما هو التفسير بالرأي، وحمل الكلام على ظاهره ليس تفسيراً؛ لأنّ التفسير هو كشف القناع، ولا قناع على الظاهر.

على أنّه لو سلّم كونه تفسيراً، فليس تفسيراً بالرأي؛ إذ المراد بالرأي ليس إلّا هو الاعتبارات والاستحسانات الظنّيّة.

هذا كلّه فيما يتعلّق بظواهر الكتاب.

وأمّا بالنسبة إلى من قصد إفهامه بالكلام، ومن لم يقصد كذلك، فيظهر من كلمات بعضهم اختصاص الأوّل بحجّيّة الظهور دون من لم يقصدإفهامه (1)؛ وذلك لأنّ حجّيّة الظاهر هي من باب إفادة الظنّ النوعيّ بالمراد، بحيث لو خلّي وطبعه لكان مفيداً للظنّ، فإذا كان مقصود المتكلم إفهام المخاطب شيئاً ما، فلابدّ له أن يلقي الكلام إليه بنحوٍ لا يوجب أن يفهم المخاطب من الكلام خلاف مراده، فلو فرض أنّ المخاطب فهم

ص: 142


1- انظر: قوانين الاُصول 1: 398، قال): «ومن جميع ذلك ظهر: أنّ حجّيّة ظواهر القرآن على وجوه، فبالنسبة إلى بعض الأحوال معلوم الحجّيّة، مثل حال المخاطبين بها، وبالنسبة إلى غير المشافهين مظنون الحجّيّة..»، وانظر أيضاً 1: 403، من الكتاب نفسه، قال): «ولمّا كان الأخبار أيضاً من باب الخطابات الشفاهيّة، فكون دلالتها على حجّيّة الكتاب إنّما هو للمشافهين بتلك الأخبار، وطروء حكمها بالنسبة إلينا - أيضاً - لمّا لم يعلم دليل عليه بالخصوص، فيدخل - حينئذٍ أيضاً - في القسم الآخر...».

خلاف ما أراده المتكلم، فيكون ذلك لأجل أحد احتمالين:

إمّا لأنّ المخاطب غفل عن القرائن المكتنفة بالكلام، والتي قد نصبها المتكلّم فعلاً على تبيين ما أراده.

وإمّا لأنّ المتكلّم - نفسه - قد غفل عن نصب القرينة التي تعيّن مقصوده ومراده.

ولكنّ كلا الاحتمالين - كما مرّت إليه الإشارة - يكون منفيّاً بالأصل.

هذا بالنسبة إلى المخاطب ومن قصد إفهامه.

وأمّا بالنسبة إلى غيره، فلا يشمله هذا البيان؛ لعدم انحصار الأمر في الاحتمالين المتقدمين، بل ثمّة احتمال ثالث، وهو احتمال وجود قرائن حاليّة أو مقاليّة، كانت موجودة، ولكنّها خفيت عليه، إمّا اختياراً: لداعٍ من دواعي الإخفاء، أو قهراً.

ومع هذا الاحتمال، فلا يمكن البناء على حجّيّة ظاهر الكلام بالنسبة إليه؛ إذ لا دافع لمثل هذا الاحتمال عند العقلاء.

وعليه: فنقول: إنّ أغلب الروايات التي بأيدينا هي من هذا القبيل؛ لأنّها لمّا كانت مختصّة بالمشافهين، حيث كانت واردةً في مقام الجواب عن أسئلة خاصّة، فلا يكون ظاهرها حجّة بالنسبة إلينا.فليست تلك الخطابات كالتأليف والتصنيف اللّذين يقصد بهما إفهام كلّ من يطّلع عليهما، لا خصوص المخاطبين بهما.

ولمّا لم نكن نحن من المقصودين بالإفهام، فلا يكون الظاهر حجّة

ص: 143

بالنسبة إلينا، إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت بدليل الانسداد.

قال الشيخ الأعظم) في بيان هذا التفصيل:

«كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمّة( الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز، بناءً على عدم كونه خطاباته موجّهةً إلينا، وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين، فالظهور اللّفظيّ ليس حجّةً - حينئذٍ - لنا إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم» (1).

والصحيح في مقام الجواب:

أنّ هذا الاحتمال الثالث، هو كالاحتمالين السابقين في انتفائه واندفاعه بالاُصول العقلائيّة؛ فإنّ جميع المحتملات التي تقتضي عدم إرادة المتكلّم ظاهر كلامه تكون منفيّة بالأصل، والاُصول العقلائيّة جارية بالنسبة إلى جميع هذه الاحتمالات، فلا يمكن استفادة كونه مختصّةً بغفلة المتكلّم عن نصب قرينة على المراد.

وأمّا احتمال القرائن المنفصلة، الناشئ من قبيل اعتياد المتكلّم أن ينصب قرينة على مراده: فهو، وإن كان احتمالاً راجحاً، إلّا أنّه لا يكون سبباً لنفي حجّيّة الظواهر، بل هو سبب لوجوب الفحص، وبعد الفحص وعدم تبيّن أيّة قرينةٍ خلافيّة، فلا محيص عن اندفاعه، وإمكان الأخذ بالظواهر.

ص: 144


1- فرائد الاُصول 1: 160.

قال المحقّق الأنصاريّ!:

«ولكنّ الإنصاف: أنّه لا فرق في العمل بالظهور اللّفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد، فإنّ جميع ما دل من إجماع العلماء وأهل اللّسان على حجّيّة الظاهربالنسبة إلى من قصد إفهامه جارٍ فيمن لم يقصد؛ لأنّ أهل اللّسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب، يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها، ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه.

فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخص إلى شخص بيد ثالثٍ، فلا يتأمل في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه إلى المكتوب إليه، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى، وهذا واضح لمن راجع الأمثلة العرفية.

هذا حال أهل اللّسان في الكلمات الواردة إليهم.

وأمّا العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن، الموجّهة من متكلّم إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الأحكام الجزئيّة كالوصايا الصادرة عن الموصي المعين إلى شخص معين، ثمّ مسّت الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه.

فإنّ العلماء لا يتأمّلون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام

ص: 145

الموجّه إلى الموصى إليه المفقود، وكذا في الأقارير؛ أم كان في الأحكام الكلّيّة كالأخبار الصادرة عن الأئمّة( مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لا غير، فإنّه لم يتأمّل أحد من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذراً بعدم الدليل على حجّيّة أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد إفهامه» (1).

هذا.

وقد استدلّوا للمنع من الأخذ بالظواهر بدعوى:أنّ علمنا الإجماليّ بوقوع التحريف في القرآن يكون مانعاً عن العمل بظواهر الكتاب وعن الأخذ والتمسّك به.

ولكنّ صاحب الكفاية! أجاب عن هذه الدعوى بما حاصله:

أنّ مجرّد العلم الإجماليّ بالتحريف سواء كان بالإسقاط أو بالتصحيف لا يستوجب خللاً في الأخذ بالظواهر لاحتمال عدم كون تلك الظواهر المستوجبة للخلل متعلقة بالأحكام الشرعيّة التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب.

ثمّ إنّ وقوعها طرفاً للعلم الإجماليّ منحلّ؛ لأنّ ما وقع عليه العلم الإجماليّ مستوجبٌ للخلل، وهو غير الأحكام فيكون خارجاً عن محل الابتلاء، وبهذا يثبت أنّ أصالة الظهور حجّة بالنسبة إلى ظواهر الأحكام وبلا معارض.

ص: 146


1- المصدر نفسه 1: 163 - 165.

هذا فيما إذا كان الخلل المنحلّ من القرائن المنفصلة.

وأمّا إذا كان من القرائن المتّصلة: فإنّه يخلّ بالحجّيّة؛ لعدم انعقاد الظهور مع احتمال القرينة المتّصلة؛ لأنّ احتمال وجود القرينة وإن لم يكن مخلاً بالظهور، ولكن احتمال قرينية الموجود ممّا يخلّ به لعدم انعقاد الظهور معه (1).

وأمّا الاختلاف في القراءة:

فقد ذكر الشيخ الأعظم!:«أنّه إذا اختلفت القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّىَ يَطْهُرْنَ﴾ (2)، حيث قُرئ بالتشديد: من التطهّر الظاهر في الاغتسال، وبالتخفيف: من الطهارة الظاهرة في النقاء عن الحيض، فلا يخلو: إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها، كما هو المشهور، خصوصاً فيما كان الاختلاف في المادة، وإما أن لا نقول، كما هو مذهب جماعة.

ص: 147


1- انظر: كفاية الاُصول: 284 - 285، وإليك نصّ ما أفاده في المقام: «ودعوى العلم الإجماليّ بوقوع التحريف فيه بنحو: إمّا بإسقاط, أو تصحيف, وإن كانت غير بعيدة, كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار, إلّا أنّه لا يمنع عن حجية ظواهره, لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك أصلاً. ولو سلّم, فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام, والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها, لعدم حجّيّة ظاهر سائر الآيات, والعلم الإجماليّ بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيّتها إذا كانت كلها حجة, وإلّا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك, كما لا يخفى, فافهم. نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به, لأخلّ بحجّيته؛ لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ, وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله».
2- البقرة: الآية 222.

فعلى الأوّل: فهما بمنزلة آيتين تعارضتا، لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ، أو على الأظهر، ومع التكافؤ، لابدّ من الحكم بالتوقّف والرجوع إلى غيرهما.

وعلى الثاني: فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة، كان الحكم كما تقدّم وإلّا فلابدّ من التوقّف في محل التعارض والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجّح، أو مطلقاً بناء على عدم ثبوت الترجيح» (1).

ولكنّ الآخوند الخراساني! اعترض:

على الشقّ الأوّل من كلام الشيخ! بما يرجع إلى إنكار صحّة القول بتواتر القراءات.

وعلى الشقّ الثاني : بعدم جواز الاستدلال بها، بدعوى: أنّه لا يوجد ملازمة بين جواز القراءة وبين جواز الرجوع إليها والاستدلال بها.

وإليك نصّ كلامه):

«ولم يثبت تواتر القراءات، ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى» (2).

ص: 148


1- فرائد الاُصول 1: 157 - 158.
2- كفاية الاُصول: ص 285.

حجّيّة قول اللّغويّ

اشارة

قد عرفت ثبوت الحجّيّة للظواهر، فإن كانت هذه الحجّيّة قد أحرزت بالقطع، فلا كلام.

وأمّا إذا لم يحرز المفهوم العرفيّ للكلام، ولم يحصل العلم بما هو الموضوع لغة، فهل يكفي الظنّ بذلك أم لا؟

لا يخفى: عدم حجّيّة الظنّ في تعيين الموضوع له؛ لعدم وجود دليل على اعتباره.

إلّا أنّه نسب إلى المشهور القول بحجّيّة قول اللّغويّ بالخصوص في تعيين الأوضاع (1).

وهو غير تامّ؛ لأنّ ما هو حجّة هو الظاهر، لا الظنّ به.

وكيف كان، فقد يستدلّ على حجّيّته بوجوه:

ص: 149


1- نسبه إليهم الشيخ الأعظم) في الفرائد 1: 173، قال): «فإنّ المشهور كونه من الظنون الخاصّة التي ثبتت حجّيّتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة».

منها:

اتّفاق العلماء، بل العقلاء، على الرجوع إلى قول اللّغويّ في تشخيص وضع اللّفظ، واستشهادهم بأقوالهم في مقام المحاجّة، الأمر الذي يدلّ على أنّ فصل النزاع إنّما هو قول اللّغويّ.

وفيه:

أوّلاً: منع حصول مثل هذا الاتّفاق.وثانياً: ما أورده صاحب الكفاية! من أنّه لو سلّم لا يفيد؛ إذ لم يعلم رجوعهم إلى قول اللّغويّ فيما يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، ككلمة (الصعيد) الدائر أمرها بين مطلق وجه الأرض والتراب الخالص، بل الثابت هو الرجوع إليهم في الموارد التي لا يترتّب عليها أثر عمليّ شرعيّ، كفهم الأشعار والخطب ونحوها.

قال!: «وفيه: أنّ الاتّفاق، لو سلّم اتّفاقه، فغير مفيد، مع أنّ المتيقّن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة» (1).

ومنها:

دعوى الإجماع، ونسبه الشيخ! إلى السيّد! (2).

والفرق بين إجماع العلماء واتّفاقهم هو أنّ الأوّل إجماع قوليّ، بمعنى:

ص: 150


1- كفاية الاُصول: 286.
2- انظر: فرائد الاُصول 1: 174.

تصريحهم في كتبهم بحجّيّة قول اللّغويّ، والثاني إجماع عملي، بمعنى: جريان سيرتهم على الرجوع إلى قول اللّغويّ واستعلام والاستشهاد بقولهم في مقام المخاصمة والاحتجاج.

واعترضه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّ الإجماع المحصّل غير حاصل في المقام؛ لأنّه لم تذكر هذه المسألة في كتب الأعلام فلا يمكن نسبة القول بالحجّيّة إليهم، وأنّ الإجماع المنقول غير مقبول، خاصّة في مثل المسألة ممّا يحتمل كونه مدركاً للإجماع:

وهو أن يكون مستند المجمعين اعتقادهم بأنّ المورد من مصاديق ما اتّفقت عليه السيرة العقلائيّة من الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ صنعة، فلا يكون مثل هذا الإجماع إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم، فلا يستقلّ الإجماع في الدليليّة، بل لابدّ من ملاحظة هذا المستند.وإليك نصّ ما أفاده):

«والإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ، هو اعتقاد أنّه ممّا اتّفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعةٍ فيما اختصّ بها» (1).

ص: 151


1- كفاية الاُصول: 286 - 287.

ومنها:

دعوى: أنّ صحّة الرجوع إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم هي ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان، واللّغويّ من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، فيصحّ الرجوع إليه للسيرة.

واعترض عليه صاحب الكفاية! بما يرجع إلى اعتراضين، فقال:

«والمتيقّن من ذلك إنّما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللّغويّ وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللّغويّ من أهل خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال» (1).

وحاصل الاعتراضين:

الأوّل: أنّ المتيقّن من سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة فيما اختصّوا به إنّما هو فيما إذا كان الرجوع ممّا يوجب الوثوق والاطمئنان، وهما غير متحقّقين بقول اللّغويّ.

والثاني: أنّ اللّغويّ ليس من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، بل إنّما هو من أهل الخبرة في موارد الاستعمال، بلا نظر إلى تعيين الحقيقة من المجاز؛ إذ ليس هذا همّه، وهذا كلّه على فرض التسليم بأنّ قوله

ص: 152


1- المصدر نفسه.

موجب للوثوق والاطمئنان كما تقدّم في الاعتراض الأول.ومنع المحقق النائيني! - بعدما ذكر أنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو حجّيّة أهل الخبرة فيما إذا حصل الوثوق من قولهم - من وقوع الصغرى بما هذا لفظه:

«وأمّا الصغرى: وهي كون اللّغويّ من أهل الخبرة بمعاني الألفاظ وتعيين حقائقها ومجازاتها، فللمنع عنه مجال؛ لأنّ أهل اللّغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي بل هو من الأمور الحسيّة.

نعم، في استخراج المعنى الموضوع له من بين المعاني المستعمل فيها اللّفظ قد يحتاج إلى إعمال نحو من الرأي والاجتهاد، وبهذا الاعتبار يمكن اندارج قول اللّغويّ في ضابط أهل الخبرة، إلّا أنّ الغالب في اللّغة هو بيان موارد الاستعمالات، مع أنّه لو فرض أنّه عين معنى الموضوع له ففي حصول الوثوق من قول لغوي واحد محل منع.

فالإنصاف أنّ كون اللّغويّ من أهل الخبرة واعتبار قوله لذلك دون إثباته خرط القتاد» (1).

ومنها:

دعوى أنّ طرح قول اللّغويّ غير المفيد للعلم في الكتاب والسنّة

ص: 153


1- فوائد الاُصول 3: 143.

مستلزم لانسداد باب العلم في غالب الأحكام، فلابدّ من جريان مقدّمات الانسداد في الأحكام لكي تثبت حجّيّة مطلق الظنّ الذي من جملته قول اللّغويّ.

والتحقيق: عدم إمكان إثبات قول اللّغويّ بجريان مقدّمات الانسداد؛ ضرورة أنّ انسداد باب العلم في بعض ما يتوقّف العلم بالحكم عليه لا يوجب انسداده في جميع الأحكام، فانسداد باب العلم بتفاصيل اللّغات لا يوجب انسداده في جميعها. كيف؟! وموارد الحاجة إلى قول اللّغويّ قليلة جدّاً، فإنّ الغالب هو انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ.فلا يكون الاحتياط وعدم العمل بالظنّ فيما لا يعلم مستوجباً للمحذور المزبور.

لا يقال: بناءً على عدم حجّيّة قول اللّغويّ لا يعود هناك فائدة في الرجوع إلى اللّغة.

لأنّا نقول: هو مع ذلك لا يخلو من فائدة، إذ قد يحصل العلم بالمعنى اللّغويّ بسبب الرجوع إليها، كما إذا اتّفق اللّغويّون جميعاً على أنّ وضع لفظ ما للمعنى الكذائيّ.

بل قد يحصل بسبب الرجوع إلى اللّغة العلم بالظهور أيضاً، كما إذا شككنا في معنى لفظ في آية أو رواية، فراجعنا اللّغة ولكن ظفرنا فيها بمعنيين أو أكثر، وكان بعض تلك المعاني متناسباً مع المورد؛ فإنّ هذا الرجوع يوجب انعقاد ظهور للّفظ فيه، وإن لم يوجب ذلك الظهور القطع

ص: 154

بالمراد، لعدم تصريحهم بذلك وتنصيصهم عليه.

وهنا لابدّ من البحث في اُمور ترتبط بالإجماع:

الأمر الأوّل: في معنى الإجماع وتحديده.

اعلم أنّ الإجماع أصل للعامّة، وهم أصل له، لأنّهم من خلاله يثبتون صحّة ما يزعمونه أحقّيّة أبي بكر بالخلافة.

وهو - عندهم - دليل برأسه وباستقلاله، في مقابل الكتاب والسنّة، وقد نقلوا عن النبيّ-: «لا تجتمع اُمّتي على خطأ» أو «على ضلالة»، واشترطوا فيه اتّفاق الكلّ. وعرّفه الغزاليّ بأنّه «اتّفاق اُمّة محمّد- خاصّةً على أمر من الأمور الدينيّة» (1).

وما ذكره غير تامّ، وذلك:

أوّلاً: لعدم حصول هذا الإجماع في أيّ زمان حتى في صدر الإسلام؛ بداهة عدم اجتماع الاُمّة كلّها على خلافة أبي بكر؛ لمخالفة كثير من الأصحاب، كما أثبتته كتب التاريخ.وثانياً: لعدم اختصاص الإجماع بعصر دون عصر، ولا باُمّة دون اُمّة، وملّة دون ملّة، بل هو حاصل بالنسبة إلى كلّ عصر، وبالنسبة إلى كلّ اُمّةٍ صنعت اتّفاقاً على أمر.

وأمّا عند الخاصّة: فليس له حجّيّة بنفسه، وإنّما يكون حجّة عندنا

ص: 155


1- راجع: المستصفى من علم الاُصول 1: 171.

لدخول المعصوم(علیه السلام) فيه؛ لأنّه حينئذٍ يكون كاشفاً عن قوله(علیه السلام).

فظهر من ذلك: أنّه ليس للإجماع عندنا موضوعيّة في الفقه في مقابل الكتاب والسنّة، وأنّ الحجّيّة إنّما هي لقول المعصوم(علیه السلام) الذي يكشف الإجماع عنه.

الأمر الثاني: في مفاد الإجماع:

وحاصله: أنّ نقل الإجماع: تارةً يكون نقلاً للسبب، واُخرى يكون نقلاً للمسبّب.

والمراد من الأوّل: نقل أقوال العلماء وفتاواهم الكاشفة عن رأي المعصوم(علیه السلام)، فيكون إخباراً عن الحسّ؛ ومن الثاني: رأيه، فيكون راجعاً إلى الحدس.

فإن كان الإجماع من قبيل الأوّل دخل في عموم أدلّة حجّيّة خبر الواحد.

وإن كان من الثاني كان مجرّد حدس، ولا دليل على حجّيّة هكذا إجماع.

الأمر الثالث: في مدركه:

اختلف العلماء في طريق استكشاف مدرك الإجماع على خمسة أقوال:

القول الأوّل: الإجماع الدخوليّ، وهو دخول الإمام(علیه السلام) بنفسه،

ص: 156

وبشخصه المبارك في المجمعين، وهو ما اختاره السيّد المرتضى!.قال): «والصحيح الذي نذهب إليه: أنّ قولنا (إجماع)، إمّا أن يكون واقعاً على جميع الاُمّة، أو على المؤمنين منهم، أو على العلماء فيما يراعى فيه إجماعهم. وعلى كلّ الأقسام: لابدّ من أن يكون قول الإمام المعصوم داخلاً فيه...».

إلى أن يقول: «لأنّنا نعلّل كون الإجماع حجّةً بأنّ العلّة فيه اشتماله على قول معصومٍ قد علم اﷲ سبحانه أنّه لا يفعل القبيح منفرداً ولا مجتمعاً...» (1).

إلّا أنّ مثل هذا الإجماع إنّما يكون ممكناً في عصر الحضور، حيث يفرض أنّ الإمام(علیه السلام) يجالس الناس ويجتمع بهم، ولا سبيل له في عصر الغيبة، كما هو واضح.

القول الثاني: قاعدة اللّطف، والمراد منها أنّ اﷲ بما له من العناية الخاصّة واللّطف بخلقه في إيصال الممكنات إلى الغايات التي أعدّها لهم، أرسل الرسل ونزّل الكتب لتبيّن شريعته التي إذا التزم بها العبد وصل إلى الكمال المطلق، وقد تمّم تلك الحجّة وكمّلها على لسان نبيّه الأكرم- «اليوم أكملت لكم دينكم»، وحينئذٍ: كيف يمكن أن تجتمع الاُمّة على خطأ مع فرض كمال الدين وعدم خلوّ الأرض من حجّة؟

ص: 157


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 2: 604 - 605.

فيكون إجماع الاُمّة دائماً كاشفاً عن الواقع.

قال شيخ الطائفة) في العدّة:

«والذي نذهب إليه أنّ الاُمّة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وأنّ ما يجمع عليه لا يكون إلّا حجّة؛ لأنّ عندنا أنّه لا يخلو عصر من الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع، يكون قوله حجّة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول-، وقد دللنا على ذلك في كتابنا (تلخيص الشافي) واستوفينا كلّ ما يسأل عن ذلك من الأسئلة.وإذا ثبت ذلك، فمتى اجتمعت الاُمّة على قول فلابدّ من كونها حجّة لدخول الإمام المعصوم في جملتها» (1).

وقال صاحب المعالم):

«ونحن لمّا ثبت عندنا بالأدلّة العقليّة والنقليّة - كما حُقّق مستقصىً في كتب أصحابنا الكلاميّة أنّ زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه - فمتى اجتمعت الاُمّة على قول كان داخلاً في جملتها؛ لأنّه سيّدها، والخطأ مأمون على قوله، فيكون ذلك الاجماع حجّة» (2).

وقال صاحب الفصول! في مقام ذكر طرق الأصحاب في حجّيّة الإجماع ما لفظه:

ص: 158


1- العدّة 2: 602.
2- معالم الدين: 173.

«الأوّل: ما ذكره العلاّمة وجماعة، وهو أن الاُمّة إذا قالت بقول، فقد قال المعصوم به أيضاً؛ لأنّه من الاُمّة بل سيّدها ورئيسها، والخطأ مأمون عليه» (1).

فحاصل هذا القول: أنّه كلّما انعقد إجماع من الاُمّة، فالمعصوم(علیه السلام) داخل في أشخاصهم، وقوله داخل في أقوالهم. ولو كان ما أجمعت عليه الاُمّة خالياً عن حكم اﷲ ومخالفاً لما أراده، لكان على الإمام(علیه السلام) إلقاء الخلاف بين الاُمّة.

وفيه: أنّ وظيفة الإمام(علیه السلام) هي إيصال الأحكام بالطرق المتعارفة، وقد أدّاها، والاختفاء لبعض المصالح ليس من قبله حتى يقال بوجوب إلقاء الخلاف.القول الثالث: قاعدة الحدس، وهي الملازمة بين آراء المرؤوسين ورأي رئيسهم، وأنّ رأي الرئيس داخل في ضمن آرائهم.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا كان عن تواطئهم على ذلك، وأمّا إذا حصل بنحو الاتّفاق فلا تصحّ الملازمة.

القول الرابع: أنّ تراكم الظنون من آراء الأعلام ممّا يوجب القطع بموافقة الإمام(علیه السلام).

ولكنّ هذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه أيضاً؛ لأنّ للظنون مراتب،

ص: 159


1- الفصول الغرويّة: 243.

فالإرجاع إلىه إرجاع إلى المجهول؛ لاختلافه باختلاف الموارد والأشخاص، فقد يحصل من الظنّون القطع بالنسبة إلى شخص دونه بالنسبة إلى آخر.

القول الخامس: أنّ اتّفاق العلماء كاشف عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا كان الإجماع تعبّديّاً، كما إذا فرض أنّ الإمام(علیه السلام) قد أودع جملة من الأحكام عند الخواصّ من أصحابه، ثمّ قاموا هم بدورهم بإيداعها عند طبقة منهم، حتى وصلت إلى عصرنا، وأصبحت مجمعاً عليها، من دون أن يكون لها مدرك بالخصوص.

وأمّا إذا كان مدركيّاً، كما إذا كان مورد الإجماع أصلاً أو قاعدة أو دليلاً يحتمل أن يكون مدركاً للمجمعين ومستنداً لاتّفاقهم؛ فإنّه لا يكشف اتّفاقهم عن دليل آخر وراء ذلك، فلا يكون حجّة لذلك.

ص: 160

في حجّيّة الشهرة

اشارة

وهي على ثلاثة أقسام:الأوّل: الشهرة الفتوائيّة، وهي اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء.

الثاني: الشهرة الروائيّة، وهي أن تكون الرواية مشهورة بين الرواة وأصحاب الحديث وقد نقلوها بكثرة. وهذه الشهرة معتبرة ومرجّحة عند التعارض، وهي المقصودة بقوله(علیه السلام): «خذ ما اشتهر بين أصحابك ودع ما ندر» (1).

الثالث: الشهرة العمليّة، وهي اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الإفتاء.

وهل هذه الشهرة جابرة وكاسرة لضعف الرواية على الإطلاق؟ أو ليست كذلك على الإطلاق؟ أو أنّ هناك تفصيلاً بين الشهرة العمليّة عند قدماء الأصحاب، وبينها عند المتأخّرين؟

ص: 161


1- انظر: عوالي اللآلي 3: 129، باب الخمس، ح12، والرواية عن الإمام الصادق(علیه السلام).

قال المحقّق النائيني!: «وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحّتها إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور، لمعرفتهم بصحّة الرواية وضعفها. ولا عبرة بالشهرة العمليّة إذا كانت من المتأخّرين، خصوصاً إذا خالفت شهرة القدماء» (1).

ثمّ إنّ الشهرة التي هي محلّ بحثنا هي الشهرة بالمعنى الأوّل، أعني: الشهرة الفتوائيّة.

ولا يخفى: أنّ البحث عن حجّيّة الشهرة تعبّداً مختصّ بصورة عدم حصول اليقين أو الوثوق الشخصيّ بالحكم من الشهرة، وإلّا فلا إشكال في حجّيّة الوثوق واليقين.

وكيف كان، فقد استدلّ لحجّيّة الشهرة بوجوه:

الوجه الأوّل:

اشارة

مقبولة عمر بن حنظلة التي جاء فيها: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» (2).

ووجه الاستدلال: أنّ المراد من المجمع عليه هو المشهور بين

ص: 162


1- فوائد الاُصول 3: 153.
2- وسائل الشيعة 27: 107، باب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح1.

الأصحاب، لا إجماع الكلّ بقرينة قوله(علیه السلام): «ويترك الشاذّ»، فيرجع مفاد التعليل إلى أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه.

وعموم التعليل يشمل الشهرة الفتوائيّة، وإن كان المورد هو الشهرة الروائيّة.

وكذا مرفوعة زرارة: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» (1)؛ فإنّ عموم الموصول وهو (ما) مما يشمل الشهرة الفتوائيّة أيضاً.

وقد أجاب صاحب الكفاية! عن الرواية الثانية بأنّ المراد من الموصول هو الرواية، لا المطلق، فلا يعمّ الفتوى (2).

وأيضاً تعرّض الشيخ! في فرائده إلى فساد الاستدلال بكلا الروايتين بما هذا لفظه:

«أمّا الاُولى: - يعني بها المرفوعة - فيرد عليها مضافاً إلى ضعفها، حتى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدّث البحرانيّ، أنّ المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور.

ص: 163


1- مستدرك الوسائل 17: 303، باب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به, ح2.
2- انظر: كفاية الاُصول: 292، ونصّ كلامه) كالتالي: «وفي الثانية - (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به)، هو الرواية، لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى».

ألا ترى أنّك لو سُئِلت عن أيِّ المسجدين أحب إليك، فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّمكان يكون الاجتماع فيه أكثر، بيتاً كان أو خاناً أو سوقاً. وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين، فقلت: ما كان أكبر.

والحاصل: أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرواية ممّا لا يظنّ بأدنى التفات» (1).

وقال المحقّق النائيني!:

«وأمّا الموصول: فلا يعم الشهرة الفتوائيّة، بل هو خاصّ بالشهرة الروايتيّة، وليس ذلك من جهة تخصيص العام بالمورد حتى يقال: إنّ المورد لا يخصص العامّ، بل من جهة عدم العموم» (2).

وقد أجاب الشيخ الأعظم! عن التمسّك بالمقبولة بما حاصله:

أنّ لفظ (المشهور) في المقبولة ليس بمعناه المصطلح الحادث بين الاُصوليّين، وهو في قبال (المتّفق عليه) كي يكون إطلاقه على المُجمع عليه في قوله(علیه السلام): «ويترك الشاذّ» الذي ليس بمشهور، أو في قول الراوي: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين» قرينة على صرف المجمع عليه عن معناه الحقيقيّ؛ بل هو بمعناه اللّغوي العرفيّ، وهو: المعروف الواضح.

ص: 164


1- فرائد الاُصول 1: 234.
2- فرائد الاُصول 1: 234.

ومنه: (شهر فلان سيفه) فلا يصرف المجمع عليه عن معناه الحقيقيّ، وهو ما اتّفق عليه الكلّ، فلا يتمّ الاستدلال حينئذٍ.

ونصّ كلامه):

«ومن هنا يُعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة، وأنّه لا تنافي بين إطلاق (المجمع عليه) على المشهور وبالعكس حتى تصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر؛ فإنّ إطلاق (المشهور) في مقام (الإجماع) إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاُصوليّين، وإلّا، فالمشهور هو الواضح المعروف.ومنه: (شهر فلان سيفه) و(سيف شاهر)، فالمراد أنّه يُؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم، ويُترك ما لا يعرفه إلّا الشاذّ، ولا يعرفه الباقي..» إلى آخر ما جاء في كلامه« (1).

وكذا قال المحقق النائيني! في مقام الجواب:

«أمّا التعليل: فلأنّه ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّيّة التي يتعدّى عن موردها، فإنّ المراد من قوله: (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه):

إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائيّة.

وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله(علیه السلام): (ممّا لاريب فيه)

ص: 165


1- فرائد الاُصول 1: 235.

عليه بقول مطلق، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله.

وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرىً كلّيّة؛ لأنّه يعتبر في الكبرى الكليّة صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها، كما في قوله: (الخمر حرام لأنّه مسكر)، فإنّه يصحّ أن يقال: (لا تشرب المسكر) بلا ضمّ الخمر إليه.

والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك؛ لأنّه لا يصحّ أن يقال: (يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله)، وإلّا لزم الأخذ بكلّ راجحٍ بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها.

فالتعليل أجنبيّ عن أن يكون من الكبرى الكلّيّة التي لا يصحّ التعدّي عن مورده» (1).

فانقدح ممّا تقدّم:

عدم إمكان التمسّك بالخبرين المزبورين للاستدلال على حجّيّة الشهرة، وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ الموصول عبارة عن خصوص الخبر، فلا يشمل الشهرة.

والثاني: أنّه لو سلّمنا عموميّته، فالاشتهار ليس إلّا عبارة عن الوضوح،

ص: 166


1- فوائد الاُصول 3: 154, 155.

لا الشهرة بحسب الاصطلاح.

فعُلم بذلك: أنّ الشهرة إنّما تكون مرجّحة وليست حجّةً مستقلّة.

الوجه الثاني:

التمسّك بقوله تعالى في آية النبأ: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (1)؛ فإنّها تدلّ على أنّ الاعتماد على الشهرة ممّا لا سفه فيه.

وفيه: أنّه ليس لهذه الآية أيّ مفهوم، فلا تكون نظير قوله: (الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، حيث استفيد منه المفهوم، وهو أنّه إذا لم يكن الماء قدر كرّ فينجّسه كلّ شيء، بل هي من قبيل: (لا تأكل الرمّان؛ لأنّه حامض)؛ فإنّه لا يمكن استفادة المفهوم منه، وهو جواز أكل كلّ ما ليس بحامض.

بل غاية ما تدلّ عليه الآية هو عدم جواز الأخذ بكلّ ما يقتضي الجهالة والسفاهة، خبراً كان أم غيره، وهذا لا يقتضي وجوب الأخذ بكلّ ما خلا عنهما.

الوجه الثالث:

الاستدلال بأنّ الظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد.

ص: 167


1- الحجرات: الآية 6.

وفيه: أنّ الملاك في حجّيّة خبر الواحد ليس هو إفادته للظنّ، وإنّما دلّ الدليل على ذلك؛ بداهة أنّه في كثير من الأحيان يكون الخبر حجّة مع كونه لا يفيد الظنّ.

ص: 168

في حجّيّة خبر الواحد

اشارة

والكلام يقع فيها في اُمور:

الأمر الأوّل: في موضوع البحث:

وحاصله: أنّ من جملة ما يتوقف عليه إثبات الحكم الشرعيّ بالخبر والواحد هو الوثوق بالصدور، والمراد به: الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وهو محلّ بحثنا.

أمّا إحراز جهة الظهور، فقد تقدّم البحث عنها في مبحث حجّيّة الظواهر.

وأمّا جهة الصدور، فيبحث فيها عن أنّ الخبر إنّما صدر لأجل بيان الحكم الواقعيّ، وليس لأجل التقيّة ونحوها، وهذا هو ما عليه بناء العقلاء؛ إذ هم يحملون الكلام الصادر من المتكلّم على مراده الجدّيّ الواقعيّ، ويبنون على أنّ مؤدّى كلام المتكلّم هو ما مقصوداً له، ما لم يثبت خلاف ذلك.

ص: 169

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

لا ينبغي النزاع في اُصوليّة البحث عن حجّيّة خبر الواحد؛ ضرورة ما عرفته مراراً من أنّ الملاك في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرىً في قياس استنباط الحكم الشرعيّ، وهذه المسألة - بلا ريب - كذلك.

الأمر الثالث:

اشارة

نسب الشيخ الأعظم! إلى كلٍّ السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن ادريس) القول بعدم حجّيّة خبر الواحد (1).

وقد استدلّوا لقولهم هذا باُمور:

الأوّل: الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم.

قال الشيخ!: «أمّا حجّة المانعين: فالأدلّة الثلاثة:

أمّا الكتاب: فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم، والتعليل المذكور في آية النبأ على ما ذكره أمين الإسلام من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد» (2).

وتلك الآيات هي:

قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُول-ئِكَ

ص: 170


1- فرائد الاُصول 1: 240.
2- فرائد الاُصول 1: 242.

كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (1).

وقوله: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (2).وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (3).

وكذلك قوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (4).

وفيه: أنّ الظاهر كون هذه الآيات واردةً في باب الاُصول الاعتقاديّة، فيكون ظاهرها إفادة النهي عن اتّباع الظنّ في اُصول الدين.

ويمكن أن يكون المراد بالعلم ما تطمئنّ به النفس ويسكن إليه العقلاء، والخبر الواحد كذلك.

ولو سلّم شموله لفروع الدين؛ فإنّه يخصّص بما دلّ على حجّيّة خبر الواحد.

ولكنّ الآخوند الخراسانيّ! ناقش في دلالة الآيات المذكورة على مدّعاهم بوجوه:

منها: أنّها ظاهرة في النهي عن اتّباع غير العلم في اُصول الدين، كما يظهر من ملاحظة سياقها.

ومنها: أنّه لو سلّم عدم ظهورها في خصوص الاُصول، فإنّ القدر

ص: 171


1- الإسراء: الآية 36.
2- يونس: الآية 36.
3- النجم: الآية 28.
4- الحجرات: الآية 6.

المتيقّن منها هو ذلك، ومعه: فتكون مجملةً، ولا ظهور لها في العموم للفروع.

ومنها: أنّه حتى لو سلّم عمومها لفروع الدين، فإنّ ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد يكون مخصّصاً لعمومها (1).فيما ذهب المحقّق النائيني) إلى أنّ دليل الحجّيّة حاكم على الآيات، حيث قال ما نصّه:

«نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص، بل نسبة الحكومة؛ فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمّه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص، لكي يقال: إنّ مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص» (2).

الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بما ليس عليه شاهد من كتاب اﷲ، كما عبّروا بأنّ ما خالف قول ربّنا لم نقله، وما لم يكن موافقاً للقرآن لا نقبله.

ص: 172


1- انظر: كفاية الاُصول: 295. قال): «والجواب: أمّا عن الآيات، فبأنّ الظاهر منها أو المتيقّن من إطلاقاتها هو اتّباع غير العلم في الاُصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروع الشرعيّة، ولو سلّم عمومها لها، فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار».
2- فوائد الاُصول 3: 161.

واعترض عليه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّه لا مجال للاستدلال بأيٍّ منها؛ لأنّها أخبار آحاد، فيلزم من الاستدلال بها على عدم حجّيّة خبر الواحد الخلف. وليست تلك الأخبار متواترة لفظاً ولا معنى.

نعم، هي متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالي بصدور إحداها، ولكن مقتضى ذلك هو الالتزام بأخصّها من حيث المضمون للقطع بصدوره عن المعصوم(علیه السلام)، ولازمه: عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب والسنّة لأنّه مما توافقت عليه الروايات، وهو لا ينفع في نفي حجّيّة خبر الواحد بنحو السلب الكلّي؛ ضرورة أنّ الالتزام به في مقام التعارض ممّا لا محيص عنه (1).والتحقيق: أنّ الكلام إنّما هو في أصل حجّيّة الخبر الواحد، لا في حجّيّة مقام التعارض؛ ضرورة أنّ الخبرين في مورد التعارض هما في ذاتهما حجّة لولا تعارضهما، فلا يضرّ التعارض بكون كلٍّ منهما حجّة في نفسه.

ص: 173


1- انظر: كفاية الاُصول: 295, وإليك نصّ كلامه!: «وأمّا عن الروايات: فبأنّ الاستدلال بها خال عن السداد, فإنّها أخبار آحاد. لا يقال: إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى, إلّا أنّها متواترة إجمالاً, للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة. فإنّه يقال: إنّها وإن كانت كذلك, إلّا أنّها لا تفيد إلّا فيما توافقت عليه, وهو غير مفيد في إثبات السلب كلياً, كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام, وإنّما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة, والالتزام به ليس بضائر, بل لا محيص عنه في مقام المعارضة».

وقد ذكر الشيخ الأعظم! أنّ المراد بالمخالفة غير المخالفة بالعموم والخصوص، أو الإطلاق والتقييد، بل المراد منها هو المخالفة بنحو التباين، أو بضميمة المخالفة بنحو العموم من وجه.

واستند) في ذلك إلى عدم صدق المخالفة عرفاً على التخصيص أو التقييد، وإلى القطع بصدور التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته بضميمة إباء عمومات النهي عن العمل بالمخالف للكتاب عن التخصيص (1).

قال المحقّق النائيني!:

«ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الردّ على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسّونها في كتب الأصحاب هدماً للشريعة المطهّرة، حتى نقل عن بعضهم أنّه قال بعدما استبصر ورجع إلى الحقّ: (إنّي قد وضعت اثني عشر ألف حديثاً).

فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين؛

ص: 174


1- راجع: فرائد الاُصول 1: 247- 248, حيث قال! ما لفظه: «إنّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم - خصوصاً مثل هذه العمومات - مخالفة؛ وإلّا لعدّت الأخبار الصادرة يقيناً عن الأئمة( المخالفة لعمومات الكتاب والسنة النبوية, مخالفة للكتاب والسنة, غاية الأمر ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب الله وسنة نبيّه-, فتخرج عن عموم أخبار العرض, مع أنّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنة يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص».

لأنّه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلّيّ، حتى أنّ من يريد الوضع والدسّ في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلّي؛ لأنّه يُعلَم أنّه من الموضوع.

ولا يبعد - أيضاً - حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر، ونحو ذلك. ويمكن أيضاً حمل بعضها علىصورة التعارض بين الروايات، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له.

وكيف كان، لابدّ من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل، لما عرفت من أنّه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام» (1).

وعلى هذا الأساس: فتكون الأخبار المتقدّمة مطلقة، ومن مصاديقها الردّ على الملاحدة، وحملها على الجبر والتفويض، وكذا يصحّ حمل بعضها على صورة التعارض.

ولكن لا يخفى: عدم إمكان التمسّك بها للاستدلال على عدم حجّيّة الخبر الواحد؛ وإلّا، لزم تعطيل كثير من الأحكام كما مرّ.

هذا بالإضافة إلى أنّ هذه الأخبار - هي بنفسها - من أخبار الآحاد، فيلزم من الاستدلال بها الخلف.

ص: 175


1- فوائد الاُصول 3: 163.

الثالث: الإجماع المحكيّ عن السيّد المرتضى) (1).

وفيه: أنّ هذا الإجماع غير متحقّق، والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد.

مضافاً إلى أنّه معارض بما عن الشيخ - المعتضدة بدعوى جماعة اُخرى - من الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في الجملة، وتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخرين.

الرابع: حكم العقل بلزوم التعبّد به تحليل الحرام وتحريم الحلال، وقد مرّ جوابه عند الكلام على الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

وأمّا المثبتون لحجّيّة خبر الواحد:

فهم - كذلك - استدلّوا بالأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.

أمّا الكتاب:

فبآيات عدّة:

ص: 176


1- انظر: رسائل السيّد المرتضى (أجوبة المسائل التبانيات) 1: 24، قال!: «ولا شكّ أنّ علماء الشيعة الإماميّة يذهبون إلى أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة، ولا التعويل عليها، وأنّها ليست بحجّة ولا دلالة، وقد ملأوا الطوامير وسطّروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم. ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنّه مستحيل من طريق العقول أن يتعبّد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس...».
الاستدلال بآية النبأ:

منها: آية النبأ، قال تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتبيّنوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (1).

والاستدلال بهذه الآية تارةً يكون بمفهوم الشرط، واُخرى بالوجوب النفسيّ للتبيّن:

أمّا الاستدلال بمفهوم الشرط:

فقد ذهب المحقّق الخراساني! إلى أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ المجيء به على كون الجائي به فاسقاً، يقتضي انتفاءه عند انتفائه، وعليه: فلا يكون الشرط مسوقاً لبيان تحقّق الموضوع.

وهذا نصّ كلامه«:

«نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر» (2).وقد صوّر المحقّق النائيني! الاستدلال «بمفهوم الشرط ببيان: أنّه

ص: 177


1- الحجرات: الآية 6.
2- كفاية الاُصول: 296.

تعالى علّق وجوب التبيّن عن الخبر بمجيء الفاسق به، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلاً، ينتفي وجوب التبيّن عن خبره، وإذا لم يجب التبيّن عن خبر العادل، فإمّا أنْ يردّ، وإمّا أن يقبل، ولا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّه يلزم أن يكون العادل أسوأ حالاً من الفاسق، فيتعيّن الثاني، وهو المطلوب؛ لأنّه لا نعني بحجّيّة الخبر الواحد إلّا قبوله.

ولعلّ أخذ هذه المقدّمة الأخيرة وهي: أنّه (لو لم يجب قبول قوله يلزم أنّه يكون أسوأ حالاً من الفاسق) مبنيّ على كون التبيّن واجباً نفسيّاً، ولو كان وجوبه شرطاً للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدّمة» (1).

وإذا كان احتمال الوجوب النفسيّ ساقطاً، فلا محيص عن كونه الوجوب في الآية شرطيّاً كما هو ظاهر التعليل؛ فإنّ إصابة القوم بجهالة إنّما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقاً، ولو كان عادلاً.

وكيف كان، فحاصل الاستدلال بهذه الآية بناءً على مفهوم الشرط هو أنّ وجوب التبيّن عند العمل معلّق على مجيء خبر الفاسق، فإذا انتفى الشرط ينتفي المشروط، فلا يجب التبيّن عند العمل بخبر العادل.

ثمّ إنّه هل لهذه الآية مفهوم أو لا؟

ذهب الشيخ الأعظم! إلى أنّ المفهوم في الآية من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ لأنّ الآية قد سيقت لبيان الموضوع، فيكون الشرط هو مجيء الفاسق بنبأ.

ص: 178


1- فوائد الاُصول 3: 164- 165.

وظاهر: أنّ عدم التبيّن عند عدم مجيئه لهو من باب عدم وجود ما يتبيّن. وحينئذٍ: فيكون انتفاء الحكم بانتفائه أمراً تكوينيّاً، على حدّ قولك: (إن رزقت ولداً فاختنه)، فالشرط هنا شرط لتحقّق الموضوع به عقلاً بحيث لا يتصوّر بقاء الموضوع بانتفائه.وقد تقرّر في محلّه: أنّ مثل هذه الشروط لا يثبت لها مفهوم، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الشرط عن الموضوع الذي ثبت له الحكم عند وجود الشرط.

ومن الواضح: أنّ هذا يستدعي أن يكون الموضوع موجوداً عند انتفاء الشرط، كما كان موجوداً في حال وجوده، فإذا فرض أنّ الشرط كان مقوماً للموضوع عقلاً كان انتفاؤه ملازماً لانتفاء الموضوع فلا مفهوم (1).

ص: 179


1- فرائد الاُصول 1: 257- 258. قال!: mففيه: أنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبأ, وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبين, فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقق الموضوع, كما في قول القائل: (إن رزقت ولداً فاختنه)- إلى أن قال - إنّ الحكم إذا ثبت لخبر الفاسق بشرط مجيء الفاسق به, كان المفهوم - بحسب الدلالة العرفيّة أو العقليّة - انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه, ففرض مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ - لا يوجب انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به؛ لأنّه لم يكن مثبتاً في المنطوق حتى ينتفي في المفهوم, فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع, وليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أو لانتفاء الموضوع».

هذا. ويمكن أن يقال:

إنّ القضيّة الشرطيّة في الآية الشريفة وإن فرض المجيء بها لبيان تحقّق الموضوع، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع التبيّن بخصوص نبأ الفاسق.

ومقتضى هذا الانحصار: أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مكانه كنبأ العادل لم يجب التبيّن عنه، فتأمّل.

وقد خالف الشيخَ! فيما ذهب إليه صاحبُ الكفاية! ذاهباً إلى ثبوت مفهوم للآية في حدّ نفسه، وذلك بافتراض أنّ موضوع الحكم هوالنبأ، وهو جهة إضافيّة للفاسق؛ فإنّ الشرط - حينئذٍ - لا يكون مقوّماً للموضوع؛ لأنّ النبأ كما يضاف إلى الفاسق فهو - أيضاً - يضاف إلى غيره.ثمّ ذكر! أنّ الموضوع لو كان هو طبيعيّ النبأ، وكان الشرط مجيء الفاسق بنحو يكون المجيء دخيلاً فيه، لم يكن للقضيّة مفهوم، أو أنّه يكون لها مفهوم، ولكن بنحو السالبة بانتفاء الموضوع (1).

ص: 180


1- كفاية الاُصول: 296، قال!: «ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه: أظهرها: أنّه من جهة مفهوم الشرط، وأنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفائه، ولا يخفى: أنّه على هذا التقرير لا يرد: أنّ الشرط في القضيّة لبيان تحقّق الموضوع، فلا مفهوم له، أو مفهوم السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم. نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضيّة الشرطيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع».

وأمّا الإشكالات التي أوردوها على حجّيّة خبر العادل:

فعمدتها: أنّ صدر الآية وإن كان دالاً بمفهومه على حجّيّة خبر العادل، إلّا أنّ التعليل يدلّ على وجوب التبيّن في كلّ خبر غير مفيد للعلم.

فالمراد من الجهالة في قوله: ﴿أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ هو عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع، فالتعليل - إذاً - بمنزلة أن يقال: إن جاءكم خبر لا يُعلم صدقه وكذبه فتبيّنوا فيه، وهو - كما لا يخفى - مشترك بين خبر العادل والفاسق على حدٍّ سواء.

وإذا كان عموم التعليل بوجوب الفحص شاملاً لخبر العادل، فإذا تعارض المفهوم وعموم التعليل يرجّح عموم التعليل؛ لأنّه أقوى ظهوراً من القضيّة الشرطيّة في المفهوم، بعد ما عرفت من إباء هذا التعليل عن التخصيص.

على أنّه لو سلّم عموم مقتضى التعليل وقبوله للتخصيص بالمفهوم كما هو حال سائر العمومات.

ففيه: أنّ تقديم الخاصّ على العامّ إنّما يكون فيما إذا كان الأمر دائراً بين طرح دليل الخاصّ بالمرّة وبين طرح عموم العامّ، فلا إشكال - حينئذٍ - في حمل العامّ على الخاصّ؛ لأنّه جمع بين الدليلين وطرح لعموم العام.

ولكنّ بحثنا ليس من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ الأخذ بالعموم طرح للمفهوم، وهو بعض مدلول القضيّة، هذا من جهة.ومن جهة ثانية، فإنّ طرح العموم مترتّب على المفهوم. فحينئذٍ:

ص: 181

يقع التعارض بين ظهورين، وهما: ظهور القضيّة الشرطيّة في المفهوم، وظهور التعليل في العموم.

ولا يخفى: أنّ ظهور التعليل في العموم أقوى وآكد من دلالة القضيّة على المفهوم، فيقدّم عموم التعليل؛ لمكان أظهريّته، بل إنّه يصلح لأن يكون قرينة صارفة عن أصل انعقاد ظهورٍ للقضيّة الشرطيّة في المفهوم.

فانقدح مما تقدّم: أنّ المفهوم مخصّص لعموم العلّة، وعموم العلّة مستلزم لإلقاء المفهوم، لكون العلّة متّصلةً بالكلام؛ أو فقل: إنّه لا يبقى للكلام مفهوم أصلاً حتى يكون موجباً لتخصيص العامّ.

ويمكن الإجابة عن ذلك: بأنّ الجهالة في الآية ليست بمعنى عدم العلم ليقال حينئذٍ: بأنّه كما يجب التبيّن في خبر الفاسق فيجب التبيّن في خبر العادل أيضاً.

بل الجهالة هنا إنّما هي بمعنى السفاهة، وليس العمل بخبر العادل - كما هو واضح - سفهاً أو عملاً غير عقلائيّ، فيجوز لا محالة الركون والاعتماد عليه.

ولكن، قال المحقّق العراقيّ في تعليقته على الفوائد:

«أمكن أن يقال: إنّ السفاهة يوجب الملامة لا الندامة، بل ما يوجب الندامة جارٍ في كل أمارة مخالفة للواقع، فضلاً عن مجرّد عدم العلم به إذا كان المقصود به حفظ الواقع، خصوصاً في الأمور المهمة، كما هو مورد الآية الشريفة؛ وحينئذ فلا غرو في دعوى كون الجهالة مطلق عدم العلم.

ص: 182

ومن هذا البيان ظهر أيضاً: أنّ العلّة جارية حتى في صورة العمل بما هو حجّة لديهم من خبر الثقة والعدل؛ لأنّ العمل بمثله في مثل حفظ النفوس والأعراض يوجب الندامة وإن لم يوجب الملامة، فإذا شمل العلّة بهذه القرينة ما هو حجّة لديهم أيضاً، كان لازمه بمقتضى عموم العلّة ردعهم عن مثل هذا العمل مطلقاً، ومع هذاالتعميم لايبقى مجال لحكومة المفهوم على عموم العلّة، بل عموم العلّة موجب لمنع المفهوم» (1).

والتحقيق: أنّه ليس معنى الجهالة في الآية هو السفاهة، بل ما يلازمها، وهو العمل الصادر من الإنسان بنحو التسرّع ومن دون رويّة وبصيرة، فإنّه - حينئذٍ - يكون عملاً سفهيّاً.

ويؤيّده: ما ذكره الطبرسيّ« في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله ِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ الله ُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله ُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (2)، في المرويّ عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام):

«كلّ ذنب عمله العبد، وإن كان عالماً، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اﷲ تعالى قول يوسف لإخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ (3)، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم

ص: 183


1- فوائد الاُصول 3: 171 - 172 الهامش رقم 1.
2- النساء: الآية 17.
3- فوائد الاُصول 3: 171 - 172 الهامش رقم 1.

بأنفسهم في معصية اﷲ» (1).

وكيف كان، فقد تحصّل: أنّ المراد من الجهالة، بقرينة قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبونَ مِنْ قَرِيب﴾، ليس ما يقابل العلم؛ لأنّ العمل الصادر عن عدم العلم ليس محرّماً ولا مفتقراً إلى التوبة، بل المراد بها: صدور ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتأمّل في عواقب الاُمور، والمعنى: إنّ الذي عمل بسفاهة ثمّ ندم وتاب يتوب اﷲ عليه.

وبعبارة ثانية: فليس الظاهر من التعليل هو عدم جواز مطلق الإقدام بغير علم: فاسقاً كان أو عادلاً، بل خصوص الإقدام الذييحصل منه ندامة. وليس في الإقدام الذي يكون عن حجّة واطمئنان ندامة، كما لا يخفى، فلا منافاة بين المفهوم والعلّة.

قال بعض المحقّقين المعاصرين:

«وممّا يشهد لإرادة هذا المعنى من الجهالة في الآية الكريمة دون مطلق عدم العلم، هو أنّ إقدام المسلمين على محاربة من أخبر الوليد (لعنه اﷲ) بكفرهم، لم يكن مع الترديد والتشكيك في ردّتهم وإلّا لتوقفوا في حربهم، بل كانوا واثقين من ذلك بسبب إخبار الوليد (لعنه اﷲ) بسبب غفلتهم وبساطتهم بحيث كانوا يصدقون كلّ أحد بمجرّد كونه مسلماً أو نحو ذلك. ففي الآية تنبيه على هذا المعنى وأنّه ينبغي التروي والتبصر في

ص: 184


1- انظر: مجمع البيان 3: 43.

الأمور وعدم الإقدام على ما لا ينبغي أن يقدم عليه العقلاء في اُمورهم، وهو الاعتماد على خبر الفاسق المتهم بالكذب في اخباره» (1).

ولكن في كلام المحقّق النائيني! ما يصلح لأن يكون جواباً عنه، بما لفظه:

«إنّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدمَ العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم» (2).

وبعبارة اُخرى: فإنّ غاية ما يدل عليه التعليل هو لزوم التبيّن عمّا ليس بعلم، دون أن يتعرّض لبيان ما هو علم وما هو ليس كذلك؛ ضرورة أنّ الحكم لا يتعرّض إلى إثبات موضوعه بنحو من الأنحاء، بل يكون ثابتاً بعد ثبوت موضوعه فالمفهوم يقضي أن يكون خبر العادل علماً بعد إلغاء احتمال خلافه للواقع.وحينئذٍ: يكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل، ولكن لا لأجل تخصيصه لكي يقال: إنّ عموم العلّة آبٍ عن التخصيص، بل لأجل حكومته، والمحكوم لا يعارض الحاكم، فلا يقع التعارض بينهما، وإن فرض أنّ ظهور المحكوم كان أقوى من ظهور الحاكم، فإنّه مع ذلك يجب تقديم الحاكم.

ص: 185


1- منتقى الاُصول 4: 267.
2- فوائد الاُصول 3: 172.

ثمّ إنّ هناك إشكالات أُخرى لا تختصّ بالاستدلال على الحجّيّة بمفهوم آية النبأ:

منها: إشكال شمول أدلّة الحجّيّة للأخبار الحاكية لقول الإمام(علیه السلام) بواسطة أو بوسائط، كإخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن الصفّار عن العسكري(علیه السلام)، بقول الصفّار - مثلاً -: (كتبت إلى العسكري(علیه السلام))، فهي منصرفة عن الإخبار مع الواسطة.

وجوابه:

أوّلاً: بمنع هذا الانصراف.

وثانياً: بأنّ الحكم المستفاد من أدلّة الاعتبار هو تصديق العادل، ونسبته إلى الموضوع نسبة العرض إلى المعروض، فلا يمكن إثبات الموضوع بالحكم، بل لابدّ من وجود الموضوع أولاً ثم يعرض عليه الحكم؛ لأنّ العرض لا يوجد معروضه.

فإذا قال الشيخ - مثلاً -: (حدّثني المفيد، قال: حدّثني الصدوق) فحجّيّة خبر المفيد تابعة لدليل حجّيّة قول الشيخ: (صدّق خبر العادل)، فكيف يجعل خبر المفيد الذي تحقّق تعبّداً بواسطة قول الشارع

موضوعاً لهذا الحكم؟ فهو نظير ما يقال: (كلّ خبري صادق) حيث يشمل نفس هذا الخبر.

ومنها: أنّ الخبر لا بد له من حكم شرعيّ، ولا أثر لخبر الشيخ والمفيد والصدوق إلّا نفس وجوب تصديق العادل حتى يصح اعتبار التعبّد بإخباره، فعلم: أنّه لا أثر للمخبريّة غير وجوب التصديق والحجّيّة، فيلزم

ص: 186

اتّحاد الحكم والموضوع.وبتعبير آخر: فإنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية الشريفة هو وجوب تصديق كلّ مخبر، وليس معنى تصديقه إلّا ترتيب الآثار الشرعيّة عليه. فإذا قال المخبر: (إنّ زيداً عادل)، فليس معنى وجوب تصديقه إلّا ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدالة زيد، من قبول شهادته وجواز الاقتداء به ونحو ذلك من الآثار، على أنّ الآثار المترتّبة ليست مختصّة بالآثار الثابتة في نفس الآية.

أمّا الجواب عن الأوّل:

فبأنّ هذا الإشكال إنّما يتأتّى فيما لو فرض أنّ الحكم مثبت لموضوع نفسه وشخصه، وأمّا إثباته لموضوع حكم آخر فلا مانع منه.

ومقامنا من قبيل الثاني، فإن خبر المفيد إنّما يثبت بوجوب تصديق الشيخ! في إخباره عنه الذي فرض أنّه محرز بالوجدان، وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليه وجوب التصديق، ومن وجوب تصديق المفيد) يثبت خبر الصدوق! فيعرض عليه وجوب التصديق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أوّل سلسلة الوسائط.

فكلّ حكم لموضوع مثبت لموضوع آخر يترتّب عليه حكم آخر، فيكون هناك موضوعات متعددة لأحكام متعدّدة، غايته: أنّ الأحكام تكون من سنخ واحد.

وأجاب عنه صاحب الكفاية) بما حاصله:

إنّ الملحوظ في الموضوع هو طبيعيّ الأثر، لا شخصه، أعني: وجوب

ص: 187

تصديق العادل، وعليه: فيختلف الحكم عن الموضوع (1).

واستشكل عليه بعضهم بما لفظه:«إنّ القضيّة الطبيعيّة ما كان الحكم فيها وارداً على نفس الطبيعة بما هي بملاحظة تجرّدها عن الوجود الخارجي بحيث لا يسري المحمول إلى الخارج، كالنوعيّة في مثل: (الإنسان نوع).

وقضايا الأحكام ليست كذلك؛ إذ هي ترتبط بالماهيّة بلحاظ وجودها الخارجي، والحكم يعرض على الموضوع الموجود في الخارج» (2).

وفيه: أنّ الحكم قد ورد على الطبيعة باعتبارها قنطرة إلى الخارج لا بما هي في الذهن، فيتعدّد الموضوع والحكم ولا يكون الحكم مأخوذاً في موضوع نفسه.

وأمّا الجواب عن الثاني:

فبأنّ الآثار الشرعيّة للقضايا لا يجب أن تكون في نفس مؤدّاها، بل يكفي انتهاء تلك القضايا إلى أثر ولو بألف واسطة، كما في محلّ الكلام، فجعل الحجّيّة والطريقيّة في أقوال السلسلة صحيح؛ لانتهائه قول المعصوم.

ص: 188


1- كفاية الاُصول: 297, قال!: «ويمكن ذبّ الإشكال بأنّه إنّما يلزم إذا لم يكن القضيّة طبيعيّة, والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر, بل بلحاظ أفراده, وإلّا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده, بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع».
2- منتقى الاُصول 4: 271.

ويمكن أن يقال أيضاً: إنّما يكون تحقّق الجعل متوقّفاً على الأثر العمليّ فيما لو كان الأثر العمليّ من مقوّماته، وليس كذلك، بل يكفي في تحقّق الجعل أن يكون على صورةٍ تُخرجه عن اللّغْوية، وذلك فيما إذا كانت أخبار الوسائط متّصلة بالإمام؛ فإنّه - حينئذٍ - يصبح كل خبر من تلك الوسائط ذا فائدة وأثر عملي؛ لاتّصاله بما له أثر عملي وهو خبر الإمام(علیه السلام)، فلا يكون جعلها لغواً.

وممّا يدلّ عليه: أنّه لولا حجّيّة تلك الأخبار لم يمكن إثبات حجّيّة الخبر المتّصل بالإمام؛ لعدم وصوله إلينا وجداناً، فلا تترتّب عليه الحجّيّة مع قطع النظر عن حجّيّة الوسائط.

فانقدح: أنّ إثبات الحجّيّة للخبر المتّصل بالإمام(علیه السلام) من دون حجّيّة الوسائط، لا يكاد يكون ممكناً.

الاستدلال بآية النفر:

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد: آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (1)، حيث تدلّ على وجوب الحذر، وهو ترتّب الأثر على قول المنذرين، وليس معنى حجّيّة الأثر إلّا ذلك.

ص: 189


1- التوبة: الآية 122.

ويمكن تقريب الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة خبر الواحد من وجوه:

الوجه الأوّل: ظهور كلمة (لعلّ) في الترجّي الحقيقيّ، وهو مستحيل في حقّه تعالى بالدليل، فلابدّ أن يكون المراد منه في مقام الاستعمال معنى المحبوبيّة، فتكون الآية دالّةً على محبوبيّة الحذر، وإذا ثبتت محبوبيّته فقد وجب عقلاً؛ لأنّ مقتضي الحذر إن كان موجوداً فقد وجب الحذر؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته، وإلّا، فلا يحسن من أصله، بل يكون مستحيلاً؛ لأنّ المعلول عدم عند عدم علّته.

الوجه الثاني: أن الإنذار واجب بظاهر الآية الشريفة؛ لأنّه غاية للنفر الواجب بدلالة الآية، بمقتضى (لولا) التحضيضيّة، فإذا وجب النفر وجب الإنذار فيه، وإذا وجب الإنذار وجب التحذّر كذلك، وإلّا كان وجوب الإنذار لغواً.

الوجه الثالث: أنّ التحذّر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة، وهو واجب، وغاية الواجب واجبة، فيكون التحذّر واجباً.

وقد استشكل صاحب الكفاية!:

على الأوّل: بأنّ حسن التحذّر غير منحصر بالعقاب، إذ قد يكون للخوف من فوت المصلحة والوقوع في المفسدة، كما هو كذلك بالنسبة إلى الشبهات البدويّة التي لا حجّة فيها على التكليف من علم أو علميّ،فإنّ التحذّر فيها لأجل إدراك الواقع وعدم الوقوع في فوت المصلحة أو درك المفسدة وإن كان حسناً إلّا أنّه ليس واجباً.

ص: 190

وعلى الثاني: بعدم انحصار فائدة الإنذار بوجوب التحذّر تعبّداً؛ إذ من الممكن أن يكون لأجل زيادة المنذرين فيحصل العلم من قولهم.

وأيضاً: بمنع الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر على نحو الإطلاق، نعم إنّما تتحقّق فيما لو حصل العلم بقول المنذر.

وعلى الثالث: بأنّه لا يوجد في المقام إطلاق يقتضي وجوب الحذر على الإطلاق عند الإنذار؛ إذ ليست الآية في مقام بيان غاية التحذّر حتى يتمسّك بإطلاق الكلام، بل هي مسوقة لبيان وجوب النفر (1).

ص: 191


1- انظر: كفاية الاُصول: 298 - 299, حيث قال! ما لفظه: «ويشكل الوجه الأوّل, بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته, من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة, حسن, وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف, ولم يثبت هاهنا عدم الفصل, غايته عدم القول بالفصل. والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذر تعبداً, لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق؛ ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر, لا لبيان غايتية التحذر, ولعل وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بكونه مشروطاً به, فإنّ النفر إنّما يكون لأجل التفقه وتعلّم معالم الدين, ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين-, كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين, على الوجهين في تفسير الآية, لكي يحذروا إذا أنذروا بها, وقضيته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها, كما لا يخفى. ثمّ إنّه أشكل أيضاً, بأنّ الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر, حيث إنّه ليس شأن الراوي إلّا الإخبار بما تحمّله, لا التخويف والإنذار, وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد».

وهل وجوبه مشروط بما إذا حصل العلم من قول المنذر؟

قال المحقّق النائيني! - بعدما ذهب إلى أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى: (ليتفقّهوا) و(لينذروا) و(يحذرون) هو الجمع الاستغراقيّ - ما هذا لفظه:

«ليس المراد من الحذر: مجرّد الخوف والتحذّر القلبي، بل المراد منه هو التحذّر الخارجي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون.

وليس المراد أيضاً: الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله تعالى: (لينذروا) هو وجوب الحذر مطلقاً، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل؛ غايته:أنّه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلاً، لقيام الدليل على عدم وجوب العمل بقول الفاسق، كما هو مفاد منطوق آية النبأ.

وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن يشكّك أحد في دلالة الآية الشريفة على حجّيّة خبر العدل» (1).

وإن شئت فقل: ليست الآية في مقام بيان وجوب الحذر عند الإنذار بحيث إذا شُكّ في اشتراط وجوبه بشيء أمكن التمسّك بالإطلاق لنفي اشتراطه به، بل هي في مقام بيان وجوب نفر طائفة من كلّ فرقة.

ص: 192


1- فوائد الاُصول 3: 186, 187.

ويحتمل - قويّاً - أن تكون الغاية هي الحذر عند حصول العلم، فيثبت - حينئذٍ - بمعونة القرينة الخارجيّة: أنّ الحذر إنّما يكون واجباً عند حصول العلم؛ ضرورة أنّ التفقّه الواجب ليست سوى معرفة الاُمور الواقعيّة من الدين التي تفقّه فيها وتعلّمها بواسطة النفر والحذر، فلا يكون الحذر واجباً إلّا عقيب الإنذار، أمّا لو شك في أنّه صادق في خبره أو لا، فإنّ شكّه هذا شكّ في كون إخباره عن اُمور الدين أو لا، فلا يجب.

فظهر بهذا التقريب: انحصار وجوب الحذر بما إذا علم صدق المنذر في إنذاره.

ولم يرتضه المحقّق النائيني!، بل أجاب عنه بقوله:

«وهذا الإشكال يتلو السابق في الفساد، فإنّ نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام؛ لأنّ قول المنذر إذا جعل طريقاً إليها ومحرزاً لها فيجب اتباع قوله والبناء على أنّه هو الواقع، كما هو الشأن في سائر الأدلّة الدالّة على اعتبار الطرق والأمارات، فانّ نتيجة دليل الاعتبار كون مؤدى الطريق هو الواقع، لا يجعل المؤدّى حتى يرجع إلى التصويب بل جعل الطريقيّة يقتضي ذلك؛ ومن هنا، كانت أدلّتها حاكمة على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعيّة؛ فالآية بنفسها تدلّ على أنّ ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعيّة».ثمّ قال!: «ومنها: - أي: ومن الإشكالات على التمسّك بآية النفر - أنّ

الحذر إنّما يجب عقيب الإنذار، والإنذار ليس مطلق الإخبار عن الحكم،

ص: 193

بل هو الإخبار المشتمل على التخويف، والتخويف ليس من شأن الراوي، بل هو من شأن المفتي والواعظ - كأن يقال: أيّها الناس اتّقوا اﷲ في أكل الربا فإنّي سمعت المعصوم(علیه السلام) يقول: (من أكل الربا فكأنّما زنى في الكعبة)، أو (فهو مجرم يوجب استحقاق العقاب)، فالأوّل إفتاء بلفظ الخبر، وأمّا الثاني فإفتاء محض - فالآية تدلّ على حجّيّة قول المفتي، لا قول الراوي» (1).

وأمّا ما يمكن أن يقال في دفع هذا الإشكال:

من أنّ الإنذار وإن كان بمعنى الإخبار المشتمل على التخويف، لكنّه أعمّ من الصراحة والضمنيّة؛ إذ يصدق على الإخبار المتضمّن للتخويف وإن لم يصرّح به المنذر، ولولا ذلك لما صدق الإنذار على فتوى المفتي؛ لأنّه ليس في فتواه تصريح بالتخويف، هذا مع اعتراف المستشكل بصدق الإنذار على الفتوى.

فقد أجاب المحقّق العراقي! عنه بقوله:

«عمدة نظر المستشكل إلى احتياج الإنذار والتخويف من شخص إلى الالتفات بلازم تخويفه وبعنوانه، ومثل هذا المعنى لا يصدق على العامي البحت الحاكي لمسموعاته من الإمام(علیه السلام)، فتعميم التخويف إلى

ص: 194


1- فوائد الاُصول 3: 188.

الصراحة والضمنيّة أجنبي عن جهة الإشكال» (1).

والحقّ أن يقال:

إنّ الإنذار في الآية الشريفة ليس من قبيل وعظ الواعظين، بل هو فيها من المتفقّه في الدين إلى الجاهل بالأحكام، فيكون من قبيل إرشاد المرشدين.وإذا كان الإبلاغ مع التخويف حجّة - بمقتضى الآية الشريفة - بحيث يجب التحذّر والتخوف عقيبه شرعاً، كان الإبلاغ بلا تخويف حجّة أيضاً؛ ضرورة القطع بأنّ التخويف ممّا لا دخل له في حجّيّة كلام المبلغ، وإن كان يحصل له مع التخويف من العزم على الامتثال ما لا يحصل له من مجرّد الإبلاغ بلا تخويف.

الاستدلال بآية الكتمان:

وممّا استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد - أيضاً -: آية الكتمان، وهي قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَ-ئِكَ يَلعَنُهُمُ الله ُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (2).

وحاصل الاستدلال بها: أنّ حرمة الكتمان لو لم تستلزم وجوب القبول لكانت لغواً.

ص: 195


1- فوائد الاُصول 3: 188, هامش رقم 3.
2- البقرة: الآية 159.

وأورد عليه صاحب الكفاية! منع لزوم اللّغويّة؛ «لعدم انحصار الفائدة - أي: فائدة حرمة الكتمان - بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلّا يكون للناس على اﷲ حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة» (1).

وإن شئت فقل:

إنّ حرمة الكتمان لمّا كانت لأجل أن يكثر المظهرون فيتّضح الحقّ ويحصل العلم من قولهم، علم - حينئذٍ - أنّ ترتّب وجوب القبول عليها إنّما هو لأجل حصول العلم بالواقع.

وأورد عليه الشيخ الأعظم! بعين ما أورده على الاستدلال بآية النفر من دعوى: إهمال الآية وعدم تعرّضها لوجوب القبول مطلقاً، ولو مع عدم حصول العلم؛ وكذا دعوى: اختصاص وجوب القبول في الأمر الذي يجب إظهاره ويحرم كتمانه وهو الحقّ والواقع، بتقريب:أنّ ظاهر الأمر ههنا وأمثاله هو أنّ المقصود فيه هو عمل الناس بالحقّ، وليس المقصود منه جعل قول المظهر حجّة تعبّداً، وإذا لم يحرز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل ولا يثبت وجوب القبول (2).

ص: 196


1- كفاية الاُصول: 300.
2- فرائد الاُصول 1: 287, وهذا نصّ كلامه!: «ويرد عليها: ما ذكرنا من الإيرادين الأوّلين في آية النفر, من سكوتها وعدم التعرض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلم عقيب الإظهار, أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره؛ فإنّ من أمر غيره بإظهار الحق للناس ليس مقصوده إلّا عمل الناس بالحق, ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجيّة قول المظهر تعبداً ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحق».

واسشكل الآخوند الخراسانيّ! على كلا الإيرادين بما هذا لفظه:

«ولا يخفى: أنّه لو سلّمت هذه الملازمة - بين حرمة الكتمان ووجوب القبول - لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم» (1).

فظهر: أنّه لا يمكن الإشكال على الاستدلال بالآية إلّا بمنع أصل الملازمة، بنفس البيان المتقدّم في آية النفر من عدم انحصار فائدة الإظهار بإيجاب القبول تعبّداً، ووجوب الإظهار إنّما هو لأجل أن يكثر المظهرون فيحصل العلم من قولهم، فلولا إفادة قول المظهرين العلم لم يعمل به.

وذهب المحقّق الأصفهاني! إلى أنّ الآية ظاهرة في حرمة كتمان وستر ما فيه مقتضى للظهور لولا الستر، بقرينة قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ (2)، فلا نظر فيها إلى وجوب الإعلام، بل غاية ما تدل عليه هو لزوم الكشف عمّا بيّنه اﷲ تعالى وأظهره.وعلى هذا: تكون آية الكتمان أجنبيّة بالكلّيّة عن حجّيّة خبر الواحد بالمرّة (3).

ص: 197


1- كفاية الاُصول: 300.
2- البقرة: الآية 159.
3- راجع: نهاية الدراية 2: 226, قال!: «لا يخفى عليك أنّ الآية أجنبية عمّا نحن فيه؛ لأنّ موردها ما كان فيه مقتضى القبول لولا الكتمان لقوله تعالى: (مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ), فالكتمان حرام في قبال إبقاء الواضح والظاهر على حاله لا في مقابلة الإيضاح والإظهار».
الاستدلال بآية السؤال:

وممّا استدلّ به على حجّيّة الخبر الواحد أيضاً آيةُ السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿فَاسْأَل--ُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (1).

وحاصل الاستدلال بها: أنّ وجوب السؤال لو لم يكن مستلزماً لوجوب القبول لكان لغواً.

وقال العلّامة الأنصاريّ! في تقريب الاستدلال بها:

«بناءً على أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب، وإلّا لغا وجوب السؤال، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ويقع جواباً له؛ لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعاً» (2).

وإذا حصل القطع بأنّ خصوصيّة السؤال ممّا لا دخالة لها في وجوب القبول، ظهر - حينئذٍ - أنّ الموضوع هو نفس الجواب في حدّ ذاته، وليس هو جواب سؤال يجب قبوله.

وهنا، لابدّ من التعرّض إلى ما ذكره الثقة الطبرسيّ) في تفسير هذه الآية من أنّ في معنى (أهل الذكر) أقوالاً ثلاثة:

ص: 198


1- النحل: الآية 43, الأنبياء: الآية 7.
2- فرائد الاُصول 1: 288.

الأوّل: أنّ المعنيّ بذلك هم أهل العلم بأخبار من مضى من الاُمم، سواء كانوا مؤمنين أو كفّاراً.الثاني: أنّ المراد بأهل الذكر أهل الكتاب، أي: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل إن كنتم لا تعلمون.

الثالث: أنّ المراد بهم أهل القرآن؛ لأنّ الذكر هو القرآن، قال ابن زيد: ويقرّب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال: نحن أهل الذكر، وقد سمّى اﷲ رسوله ذِكراً. وقال في موضع ثانٍ: روي عن علي(علیه السلام) أنّه قال: (نحن أهل الذكر) (1).

وأيّاً كان، فإنّ الآية أجنبيّة عن حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ المراد منها هو حصول العلم لا القبول تعبّداً؛ ولأنّها وردت في معرفة النبيّ- وعلاماته، وأنّ معرفته من اُصول الدين فلا ينفع فيها التقليد.

فظهر: أنّ الآية لا تتكفّل حجّيّة قول المخبر على الإطلاق.

وكذا لو كان المراد من أهل الذكر أهل العلم؛ لأنّ وجوب قبول قولهم إنّما هو لأجل أنّهم أهل العلم بمناسبة الحكم والموضوع، فلا تشمل أخبار المخبر الذي ليس ديدنه إلّا نقل الرواية التي صدرت عن المعصوم(علیه السلام) دون أن يكون له معرفة بكلامهم(.

وممّا ذكرنا ظهر: الوجه في ما ذكره صاحب الكفاية! في مقام

ص: 199


1- انظر: مجمع البيان 6: 159.

الجواب عن هذا الإيراد من:

«أنّ كثيراً من الرواة - أي: رواة الصدر الأوّل - يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام(علیه السلام) كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنّه السؤال عن أهل الذكر والعلم، ولو كان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً؛ لعدم الفصل جزماً» (1).وذهب المحقّق الأصفهاني! إلى أنّ العلم بالحكم لا يحتاج في بعض الموارد إلى إعمال نظر أو رأي، فقبول قوله في مثل ذلك متمحّض في جهة خبريّته. وبضميمة عدم الفصل بينه وبين غيره يثبت المطلوب (2).

فإن قلت: إنّا نفرض الراوي من أهل العلم، وإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالإجماع المركّب.

قلت: سؤال أهل العلم من الألفاظ التي سمعها من الإمام(علیه السلام) وليس سؤالاً عن أهل العلم.

أو فقل: ليس السؤال عن أهل العلم بما هم كذلك أهل علم، بل بما هم رواة، فلا تكون الآية شاملة له. فظهر: عدم نفع آية السؤال في

ص: 200


1- كفاية الاُصول: 300.
2- نهاية الدراية 2: 225, و 228.

الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد.

الاستدلال بآية الاُذن:

ومن الآيات التي استدلّ بها - كذلك - على حجّيّة الخبر:

آية الاُذن، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَي-ُؤْمِنُ لِلْمُؤْم-ِنِينَ﴾ (1).

فإنّ الآية ظاهرة في أنّه تعالى مدح نبيّه- لتصديقه المؤمنين، وقرنه بتصديقه تعالى، ولولا حسنه لما مدحه، وإذا كان حسناً فقد وجب.

قال الشيخ الأعظم! في البحث عن الاستدلال بآية النفر:

«إنّه لا معنى لندب الحذر، إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن» (2).وفيه: أنّه إنّما مدحه لأنّه- سريع القطع - كما هو معنى الاُذن والاعتقاد -، وليس له أيّ تأمّل يورثه التشكيك، لا لأنّه- يعمل تعبّداً بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدق القائل.

فمدحه - إذاً - إنّما هو لحُسْن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم فوراً، وهذا أجنبيّ عن الأخذ بقول الغير.

والتحقيق: أنّه ليس المراد من الاُذن في الآية سريع الاعتقاد، بل

ص: 201


1- التوبة: الآية 61.
2- فرائد الاُصول 1: 277.

المراد أنّه- يسمع كلام كلّ أحد ويقبله منه، وهو لا يستلزم الاعتقاد؛ فإنّ تسريع الاعتقاد مذموم؛ لأنّه من الصفات البلهاء والسفهاء، فالمراد بتصديقهم إنّما هو تصديقهم فيما ينفعهم ولا يضرّ غيرهم، لا جعل المخبريّة واقعاً، وترتّب جميع آثاره عليه، وإلّا لما كان أُذن خيرٍ لجميع الناس، كما لو أخبره أحد بزنا رجل أو شربه أو ارتداده، فقتله النبي-؛ فإنّه - حينئذٍ - لا يكون اُذن خيرٍ على الإطلاق، حتى بالنسبة إلى المخبر عنه، بل هو شرّ محض بالنسبة إليه، خصوصاً فيما لو كان خبره كاذباً، وإن كان خيراً للمخبر نفسه من حيث متابعته.

فظهر: أنّ مدح النبي- على التصديق في الآية لأجل تأليفه القلوب، لا لترتيبه الأثر، فالتصديق هنا بمعنى التصديق الوارد في الخبر:

«يا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذبهم، لا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه» (1).

وأمّا الاستدلال بالسنّة:

فلا يذهب عليك أنّ الأخبار التي يمكن أن يستدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد متواترة تواتراً معنويّاً وإن لم تأتي على لفظ واحد.قال! في الكفاية: «إلّا انّه يشكل الاستدلال بها على حجّيّة أخبار

ص: 202


1- الكافي 8: 147, الحديث رقم 125.

الآحاد بأنّها أخبار آحاد؛ فإنّها غير متّفقة على لفظ ولا على معنى، فتكون متواترة لفظاً أو معنى» (1).

وقد أطال الشيخ الأعظم! البحث فيها، فصنّف الروايات إلى أصناف متعدّدة.

فمنها: ما دلّ على إرجاع بعض الرواة إلى بعض أصحابهم ( كإرجاعه إلى زرارة ومحمّد بن مسلم وأبان بن تغلب وأبي بصير وزكريّا بن آدم (2).

ومنها: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور، والتخيير عند التساوي (3).

ومنها: ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء، كرواية الاحتجاج وغيرها (4).

ومنها: ما دلّ على الأمر بحفظ الحديث وكتابته وتداوله (5).

ولا يخفى: أنّ استفادة حجّيّة خبر الواحد من هذه الأخبار محل تأمّل؛ أما ما دلّ على حسن حفظ الحديث وكتابته: فلأنّه من المحتمل قويّاً أن

ص: 203


1- كفاية الاُصول: 302.
2- انظر: وسائل الشيعة 27: 138، 143، 144، 146، 147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي, الأحاديث: 4, 19, 23, 27, 33.
3- وسائل الشيعة 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي, ح 1.
4- وسائل الشيعة 27: 140 الباب 11 من أبواب صفات القاضي, ح 9.
5- وسائل الشيعة 27: 77 - 78، الباب 8 من أبواب صفات القاضي.

يكون الأمر بذلك لأجل ما في الحفظ والكتابة من إبقاء الحقّ وحفظ الأحكام عن الزوال.وأمّا ما ورد في الخبرين: فلأنّها لا تدل على حجّيّة خبر الواحد مطلقا، بل في خصوص صورة المعارضة.

قال المحقّق النائيني!:

«والقدر المتيقّن دلالتها على حجّيّة الخبر الموثوق به صدوراً أو مضموناً كما يدل على الأوّل الترجيح باشتهار الرواية بين الرواة أو وثاقة الراوي وعدالته، فإنّ هذه المرجّحات كلها ترجع إلى اعتبار الخبر الموثوق صدوره، وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة» (1).

ولكن يمكن أن يقال: ليس القدر المتيقن هو مطلق الوثوق، بل عدالة الراوي بجميع طبقاته وهو المعبّر عنه عند أرباب الحديث بالصحيح الأعلائي.

فإن قلت: ما ورد في تعابير الإمام(علیه السلام): (خذ بأوثقها)، يدل على كفاية وثاقة الخبر.

قلت: قد يكون المراد منها في تلك التعابير العدالة، لا مطلق من يخبر عن الكذب وإن كان فاسقاً، فإثبات حجّيّة الثقة من هذه الروايات مشكل لولا السيرة والإجماع العمليّ على ذلك في مقام استنباط الأحكام، مع

ص: 204


1- فوائد الاُصول 3: 189, 190.

العلم بعدم كفاية أخبار العدل بجميع طبقاته في استنباط معظم الأحكام.

والحقّ: أنّ المناط في الحجّيّة هي الوثاقة، كما يظهر من بعض الروايات من إرجاع الإمام(علیه السلام) إلى كتب بني فضّال. فتثبت بذلك حجّيّة خبر الواحد، لكن لا مطلقاً، بل في خصوص صورة التعارض.

والعمدة من هذه الأخبار: إرجاعهم( إلى أشخاص معيّنين؛ فإنّه يكشف عن حجّيّة خبر الثقة.ويؤيّده: ما ورد عنهم(: «فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقات شيعتنا» (1).

وفيما رواه عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام):

قال: «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني فقال(علیه السلام): نعم» (2).

ودعوى: أنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، فلا يمكن الاستدلال بها على حجّيّة الخبر.

مدفوعة بأنّها متواترة تواتراً إجماليّاً، فإنّها ما إن يُتأمّل فيها حتى يحصل القطع بحجّيّة الخبر الواحد.

ص: 205


1- وسائل الشيعة 27: 149 - 150، الباب 11 من أبواب صفات القاضي, ح 40.
2- وسائل الشيعة 27: 147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي, ح 33.
الاستدلال بالإجماع:

وأمّا الإجماع: فعلى قسمين: قوليّ وعمليّ.

أمّا الإجماع القوليّ: فهو عبارة عن اتّفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعيّ أو اُصوليّ، فيحصل بموجب هذا الاتّفاق القطع برضا الإمام(علیه السلام).

قال الشيخ الطوسي! في العدّة:

«فأمّا ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن النبي- أو عن واحد من الأئمة(، وكان ممّن لا يطعن في روايته، ويكون سديداً في نقله، ولم تكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر؛ لأنّه إنكانت هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم - كما تقدّمت القرائن -، جاز العمل به.

والذي يدلّ على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اُصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه» (1).

وقال الشيخ الأعظم!:

«وممّن نقل الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد: السيّد الجليل رضيّ

ص: 206


1- انظر: العدّة 1: 126.

الدين بن طاووس، حيث قال في جملة كلام له يطعن فيه على السيّد!: ولا يكاد تعجّبي ينقضي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة لا تعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة؟

ومن اطّلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين، كما ذكر محمّد ابن الحسن الطوسي في كتاب العدة، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنفين» - إلى أن قال: - «وممّن نقل الإجماع أيضاً: العلاّمة في النهاية حيث قال: (إنّ الإخباريّين منهم لم يعوّلوا في اُصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد، والاُصوليّين منهم - كأبي جعفر الطوسيّ وغيره - وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم). انتهى.

وممّن ادّعاه أيضاً: المحدّث المجلسي! في بعض رسائله، حيث ادّعى (1) تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد» (2).واعترض عليه صاحب الكفاية!: بأنّ فتاوى العلماء في حجّيّة الخبر

ص: 207


1- انظر: بحار الأنوار 86: 232.
2- فرائد الاُصول 1: 332 - 333.

مختلفة من حيث الخصوصيّات المعتبرة في الحجّيّة، ومعه: فلا يمكن استكشاف رضا الإمام(علیه السلام)؛ لعدم اتّفاقهم على أمر واحد.

نعم، لو علم اجتماعهم على حجّيّة الخبر الواحد في الجملة، وأنّ الاختلاف إنّما هو في الخصوصيّات المعتبرة فيها، بحيث يكون القول بحجّيّة الخبر الخاصّ بنحو تعدّد المطلوب، لا وحدته، لتمّ ذلك، ولكن أنّى لهم إثبات ذلك (1)؟!

وأمّا الإجماع العملي: فهو إجماع العلماء بل كافّة المسلمين واتّفاقهم على العمل بخبر الواحد.

والفرق بين الإجماع القوليّ والعمليّ:

أنّ الثاني لا يكون إلّا في المسائل الاُصوليّة، والأوّل يكون فيها وفي الفرعيّة.

واستشكل صاحب الكفاية! على هذا الإجماع - أيضاً - بما حاصله:

إنّه لم يعلم أنّ اتّفاقهم كان من جهة تديّنهم، بل قد يكون من جهة عقلانيّتهم وإن لم يلتزموا بدين؛ فإنّ العلماء يعملون بخبر الثقة مطلقاً ولو لم يكن من أمر دينيّاً.

ص: 208


1- كفاية الاُصول: ص 302, وإليك نصّ كلامه!: «ولا يخفى: مجازفة هذه الدعوى؛ لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات, ومعه: لا مجال لتحصيل القطع برضاه(علیه السلام) من تتبّعها, وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة, اللّهمّ إلّا أن يدعى تواطؤها على الحجّيّة في الجملة, وإنّما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها, ولكن دون إثباته خرط القتاد».
الاستدلال بسيرة العقلاء:

وكيف كان، فمن جملة ما استدلّوا به على حجّيّة خبر الواحد سيرة العقلاء، وهو عمدة الوجوه بل عمدة الأدلّة التي أقيمت على حجّيّة خبر الواحد بعد الأخبار بطوائفها الأربع.

بل الظاهر من شدّة اهتمام صاحب الكفاية! بهذا الوجه أنّه يعتبره عمدة الأدلّة وأهمّها، حتى بالنسبة إلى الأخبار.

قال الشيخ الأعظم! ما هذا لفظه:«الرابع: استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة في أمورهم العاديّة، ومنها: الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد. فنقول: إنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو، وإلّا وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة، كما ردع في مواضع خاصة، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك؛ لأنّ اللّازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعدّ طاعة في العرف وترك ما يعد معصية كذلك» (1).

وإن شئت فقل: هو عبارة عن استمرار عمل العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممّن لا يلتزمون بالدين - سواء كان هذا الاستمرار ممّا عليه طريقتهم في المسائل الاُصوليّة أو الفرعيّة أو لا - إلى زمان الشارع

ص: 209


1- فرائد الاُصول 1: 345, 346.

بحيث يكون هذا الاستمرار على مرأى منه ومسمع، فإذا لم يردع عنها مع تمكّنه منه صحّ - حينئذٍ - الاعتماد عليه والأخذ به.

ومن الواضح: أنّه لم يردع عن مثل هذا الاستمرار، وإلّا، لاشتهر وبان، فيكشف كشفاً قطعيّاً عن رضاهم(.

وبعبارة أُخرى: فلا حاجة في اعتبار طريقة العقلاء إلى إمضاء من الشارع، بل يكفي عدم ردعه عنه، وحيث لم يردع مع تمكّنه منه يكشف عن اعتباره لطريقتهم، وإلّا، لردع عنه، كما ثبت أنّه فعل ذلك تجاه الكثير من بناءات الجاهليّة.

وأمّا ما يمكن أن يقال: من كفاية الآيات الناهية عن العمل بغير علم في الردع، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (1)، وقوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلّا ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (2)،فشمول الآيات للسيرة يكشف عن عدم دليليّة السيرة على حجّيّة الخبر الواحد؛

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية! بوجوه:

الأوّل: أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اُصول الدين.

الثاني: أنّ المتيقّن من الآيات الناهية والمنصرف من إطلاقها هو الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة.

ص: 210


1- الإسراء: الآية 36.
2- يونس: الآية 36.

الثالث: أنّ رادعيّة الآيات الناهية عن سيرة العقلاء دوريّ؛ ضرورة أنّ الردع عن السيرة بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وعدم التخصيص يتوقّف على رادعية الآيات عنها، وإلّا كانت مخصّصة.

ثمّ أورد! على نفسه بما حاصله:

إنّ عدم رادعيّة الآيات عن السيرة أيضاً دوريّ؛ لأنّ عدم رادعيّتها يتوقّف على مخصصيّة السيرة لها، وإلّا كانت الآيات رادعة عنها، ومخصّصيّة السيرة لها تتوقّف على عدم رادعيّتها عنها، وإلّا، لم تكن مخصّصة لها، وهو دور محال.

ثمّ أجاب عنه: بأنّه يكفي في اعتبار خبر الواحد بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها، لا عدم الردع واقعاً عنها، وتخصيص السيرة وإن كان دوريّاً، كالردع بالآيات، ولكن يكفي في عدم ثبوت الردع إحراز عدم الردع بالفحص (1).

وأيّاً ما كان، فإنّ من تأمّل في طريقة العقلاء حصل له القطع بخروج خبر الثقة عن عموم العمل بالظنّ، وإن كان في الحقيقة من أفراده، فيكون من العمل بالعلم بالسيرة، وإن كان بلحاظ نفسه عملاً بغير العلم، فلا يكون العمل به عملاً بالظن.

ص: 211


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 303.

ومن هنا نجد: أنّ المحقّق العراقي) قد نفى رادعية الآيات عن السيرة، ببيان أنّ عمل العقلاء بخبر الواحد يرجع إلى إلغاء احتمالالخلاف بنظرهم ورؤيته علماً، فلا تشمله آيات الردع عن غير العلم لخروجه موضوعاً عنها وانصرافها عنه بعد عدم التفات العقلاء إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع.

وكذا اعترف! بعدم صحّة دعوى دوريّة مانعيّة الآيات عن السيرة فيما لو أغمض عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعاً عن الآيات الناهية (1).

وقد ادّعى المحقّق النائيني! حكومة السيرة على الآيات، لاعتبار الخبر علماً لدى العقلاء فتترتّب عليه آثاره.

قال): «ومنه يظهر: أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة حتى يتوهّم أنّها تكفي للردع عن الطريقة العقلائيّة؛ لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من

ص: 212


1- نهاية الأفكار 3: 138, قال! ما لفظه: «والآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم غير صالحة للردع عن بنائهم بعد كون عملهم به من باب تتميم الكشف وكونه من أفراد العلم الموجب لعدم التفاتهم إلى احتمال الخلاف إذ لا يكاد يرون العمل به - حينئذٍ - من باب العمل بغير العلم كي يصلح الآيات للردع عن ذلك, فلابدّ حينئذٍ في فرض عدم رضائه بذلك من ردعهم ببيان آخر. نعم: إنّما تصلح الآيات الناهية للردع إذا لم يكن بناؤهم من باب تتميم الكشف, وأمّا إشكال الدور فقد عرفت الجواب عنه في طيّ أدلة النافين».

أفراد العمل بالعلم؛ لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرّت عليه عادتهم، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعاً، فلا تصلح لأن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعةً عن العمل بخبر الثقة، بل الردع عنه يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص، بل لابدّ من تشديد النكير على العمل به، كما شدّد النكير على العمل بالقياس؛ لاشتراك العمل بالقياس مع العمل بخبر الثقة في كونه ممّا استقرّت عليه طريقة العقلاء وطبعت عليه جبلّتهم» (1).

الاستدلال بالعقل:
وأمّا العقل:

فالاستدلال به بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار المشتملة على أحكام شرعيّة، وهذا العلم الإجماليّ منّجز، ونحن مكلّفون بالعمل بما تضمّنته تلك الأخبار، فمقتضى هذا العلم الإجماليّ: لزوم الاحتياط في جميع الأحكام، وهو إمّا غير ممكن أو متعسّر، ولا يمكن العمل بالاُصول العمليّة؛ لمنافاتها للعلم الإجماليّ، فينتج وجوب العمل بمظنون الصدور.

ص: 213


1- فوائد الاُصول 3: 195.

وقد اعترض العلّامة الأنصاري! على هذا الوجه باعتراضات ثلاثة:

الاعتراض الأوّل:

أنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل وجوب امتثال أحكام اﷲ الواقعيّة المدلول عليها بتلك الأخبار، فالعمل بالخبر الصادر عن الإمام(علیه السلام) إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اﷲ الواقعيّ لا من حيث هو خبر.

فالعلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار يرجع في الواقع إلى وجود تكاليف واقعيّة، ولا تنحصر أطرافه بما بين أيدينا من الأخبار، بل تشمل الأمارات الظنيّة كالشهرة والإجماع المنقول والأولويّة الظنيّة. وحينئذٍ: مقتضى هذا العلم الإجمالي: إمّا الاحتياط إن أمكن، أو العمل بكل ما حصل من التعبّد بالظنّ بالحكم الشرعيّ - خبراً كان أم غير خبر -، فلا اختصاص له في إثبات حجّيّة الخبر.

ثمّ تعرّض! إلى نفي دعوى انحلال العلم الإجماليّ الكبير - الذي تكون أطرافه مطلق الأمارات الظنّيّة - بالعلم الإجماليّ الصغير الذي تكون أطرافه خصوص الأخبار فقط؛ وذلك لأنّ هذا الانحلال إنّما يتصوّر فيما إذا لم يبق العلم الإجماليّ الكبير لو فرض عزل المقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجماليّ الصغير.أمّا إذا فرض بقاء العلم الإجماليّ بين الباقي من أطراف العلم

ص: 214

الإجماليّ الصغير وبين سائر أطراف العلم الإجماليّ الكبير: فلا يكون العلم الإجماليّ الصغير موثّراً في انحلال العلم الإجماليّ الكبير، فيكون الكبير منجّزاً.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّه لو عزلنا من الأخبار طائفة بمقدار معلوم صدوره من الأخبار، وكان هناك علم إجماليّ بوجود أحكام واقعيّة بين باقي الأخبار وسائر الأمارات الظنيّة كما يشهد به الوجدان؛ إذ لا يمكن لأحد إنكار عدم مطابقة جميع هذه الأطراف للواقع، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ الكبير بالصغير، فيكون منجّزاً، وحينئذٍ: يجب العمل بكلّ مظنونٍ من الأخبار، فلو كان العلم الإجماليّ مختصّاً بالأخبار فقط، لانحلّ العلم الإجماليّ بمجرّد عزل مقدارٍ منه بمقدار المعلوم بالإجمال فيه، وإن انضمّ إلى الباقي.

الاعتراض الثاني:

أنّ اللّازم من هذا العلم الإجماليّ هو العمل بالخبر الذي يظنّ بمضمونه، لا العمل بالظنّ في صدور تلك الأخبار؛ وذلك لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اﷲ الذي يجب العمل به، فحينئذٍ: كلّما ظنّ بمضمون الخبر ولو من جهة الشهرة على طبقه أُخِذ به ولو لم يكن مظنون الصدور. وكلّ خبر لم يحصل الظنّ بكون مضمونه حكم اﷲ تعالى لا يؤخذ به وإن كان مظنون الصدور، فالمناط فيه هو الظنّ، لا الصدور.

ص: 215

الاعتراض الثالث:

أنّ هذا الدليل يقتضي وجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف دون الخبر النافي له، ومقتضى العمل به يكون من باب الاحتياط، فلا تثبت به حجّيّة الأخبار بنحو تصلح لصرف ظواهر الكتاب والسنّة القطعيّة، مع أنّ المقصود في حجّيّة الخبر هو إثبات كونه دليلاً متّبعاً في قبالالاُصول اللفظيّة والعمليّة، من غير فرق بين أن يكون مثبتاً للتكليف أو نافياً له كذلك (1).

أمّا صاحب الكفاية! فقد نقل هذا الوجه بنحوٍ لا يرد عليه الاعتراضان الأوّلان من اعتراضات الشيخ!.

فظهر بذلك: أنّ ورود الاعتراض الثالث عنده ممّا لا محيص عنه؛ فإنّه لما كان هناك علمان إجماليّان: علم إجماليّ صغير في خصوص الأخبار، وآخر إجماليّ كبير موجود في مجموع ما في أيدينا من الأخبار وسائر الأمارات؛ كان لابدّ من مراعاة العلم الإجماليّ الكبير، والنتيجة حينئذٍ: حجّيّة كلّ أمارة وإن لم تكن خبراً؛ وقد قرّبه! بما لفظه:

«إنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار( بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة

ص: 216


1- انظر: فرائد الاُصول 1: 358 - 360.

تفصيلاً، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة» (1).

وذلك بعد التتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم والتأمّل في كيفيّة اهتمام أرباب الكتب من المشايخ الثلاثة ومن تقدمهم في تنقيح ما أودعوه في كتبهم، إلى غير ذلك ممّا ذكر عند الاستدلال بهذا الوجه.

فظهر: أنّه بعد انحلال العلم الإجماليّ الكبير قهراً إلى العلم الإجماليّ الصغير في خصوص الأخبار، يجب: إمّا الاحتياط، أو التنزّل إلى الظن في خصوص الأخبار المثبتة، وأمّا النافي منها: فإن كان على خلافهأصل يثبت التكليف لم يجز العمل به، بل يلزم الرجوع إلى الأصل، وإن لم يكن على خلافه أصل مثبت للتكليف جاز العمل به.

الوجه الثاني: ما نسب إلى صاحب الوافية! مستدلاً به على حجّيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر، وهو:

«أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما بالاُصول الضروريّة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي،

ص: 217


1- كفاية الاُصول: ص 304, 305.

بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنّما ينكره باللّسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان» (1).

وأورد عليه الشيخ! ما نصّه:

«إنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، ومجرّد وجود العلم الإجماليّ في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجماليّ، كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل؛ وإلّا لما أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم الإجماليّ في الباقي، كأخبار العدول مثلاً، فاللّازم حينئذٍ: إمّا الاحتياط والعمل بكل خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته، وإمّا العمل بكل خبر ظُنّ بصدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة» (2).

وأجاب عنه صاحب الكفاية!:

بأنّ العلم الإجماليّ وإن كان حاصلاً في بادئ الأمر بين جميع الأخبار، ولكن لمّا كان العلم الإجماليّ الصادر هو بقدر الكفاية بين تلكالأخبار المشروطة بما ذكره صاحب الوافية)، كان انحلال العلم الإجمالي الكبير الموجود في جميع الأخبار منحصراً بالعلم الإجمالي

ص: 218


1- الوافية: ص 159.
2- فرائد الاُصول 1: 361, 362.

الصغير المختص بالأخبار المشروطة التي ذكرها صاحب الوافية!، فيجب حينئذ الاحتياط في المجموع، إلّا أن يمنع عن ذلك، ويدّعى عدم الكفاية فيما علم بصدوره في تلك الكتب (1).

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الحاشية)، وحاصله:

أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع، وهذه التكاليف باقية إلى يوم القيامة بالأدلّة المذكورة، وحينئذٍ: فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بالحكم الواقعيّ تعيّن ذلك، وإلّا، فالمتّبع من الرجوع إلى الظنّ بالصدور أو الاعتبار هو قول المعصوم(علیه السلام) وفعله وتقريره، فلزوم الرجوع إليه غير مختصّ بما إذا ثبت بالخبر، بل يجب بكلّ ما ثبت: خبراً كان أو غيره.

وإليك نصّ كلامه):

«السادس: إنّه قد دلّت الأخبار القطعيّة والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة، بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الاُمّة،

ص: 219


1- كفاية الاُصول: ص 306، ونصّ كلامه) كالتالي: «قلت: يمكن أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ، وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار، إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم( بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذلك العلم الإجماليّ، وصيرورة غيرها خارجةً عن طرف العلم، كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل، اللّهمّ إلّا أن يمنع عن ذلك، وادّعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادّعي العلم بصدور أخبارٍ أُخر بين غيرها، فتأمّل».

وإن وقع الخلاف بين الخاصّة والعامّة في موضوع السنّة، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام، وحينئذٍ نقول: إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعيّ من الرجوع إليهما في الغالب، تعيّن الرجوع إليهما على الوجه المذكور، حملاً لما دلّ على الرجوع إليهما على ذلك، وإن لم يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفيّة الرجوع إليهما تعيّن الأخذ به، وكان بمنزلة الوجه الأوّل.

وإن انسدّ سبيل العلم به - أيضاً - وكان هناك طريق ظنّيّ في كيفيّة الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه، وإن لم يفد الظنّبالواقع، تنزّلاً من العلم إلى الظنّ مع عدم المناص عن العمل، وإلّا، لزم الأخذ بهما والرجوع إليهما على وجهٍ يظنّ منهما بالحكم على أيّ وجهٍ كان، لما عرفت من وجوب الرجوع إليهما - حينئذٍ - فيتنزّل إلى الظنّ.

وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظنون المتعلّقة بذلك على بعض، يكون مطلق الظنّ المتعلّق بهما حجّةً، فيكون المتّبع - حينئذٍ - هو الرجوع إليهما على وجهٍ يحصل الظنّ منهما» (1).

وحينئذٍ: إذا لم يحصل به العلم تعيّن الرجوع إلى كلّما يحصل به الظن من خبر وغيره، وإن كان المراد به الأخبار الحاكية عن

ص: 220


1- هداية المسترشدين 3: 374.

قول المعصوم (علیه السلام) أو فعله أو تقريره فهو - مضافاً إلى كونه خلاف الاصطلاح - راجع إلى القول الأوّل بلزوم الرجوع إلى الأخبار، وإن لم يحصل الظنّ منها برأي المعصوم، فإذا كان منشؤه العلم الإجماليّ بمطابقة بعضها للأحكام الواقعيّة رجع هذا الوجه إلى دليل الانسداد (1).

وخلاصة تلك المناقشة: أنّ هذا الوجه ليس دليلاً برأسه؛ لأنّه على تقديرٍ يرجع إلى القول الأول، وعلى آخر يرجع إلى دليل الانسداد.

وأجاب عنه صاحب الكفاية بما هذا نصّه:

«إنّ ملاكه إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه» (2).

فلا يكون هذا الوجه من القول الأوّل، ولا من دليل الانسداد بشيء.

ص: 221


1- انظر: فرائد الاُصول 1: 363 - 364.
2- كفاية الاُصول: ص 307.

ص: 222

في حجّيّة مطلق الظنّ

اشارة

وأدلّته أربعة:

الدليل الأوّل:

وحاصله: أنّ الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالضرر على مخالفته، ودفع الضرر المظنون لازم عقلاً، يعني: أنّ العقل ممّا يستقلّ بلزوم دفع الضرر المظنون، بل الضرر المشكوك والموهوم كذلك إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأخرويّ.

فها هنا صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فلأنّ مخالفة التكليف تستلزم العقوبة، كما تستلزم الوقوع في المفسدة بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، فالظنّ بالتكليف ملازم للظنّ بالعقوبة والمفسدة في مخالفته.

وأمّا الكبرى: فلحكم العقل بدفع الضرر المظنون، وحكمه

ص: 223

بذلك لا يستند إلى حكمه بالحسن والقبح، بل مع إنكار التحسين والتقبيح العقليّين يلتزم بثبوت لزوم دفع الضرر المظنون؛ إذ لا ينكر الأشعريّ المنكر لهما عدم إقدام العاقل على مظنون الضرر، خلافاً للحاجبيّ ومن تبعه، على ما نسب إليه من منع الكبرى، وأنّ دفع الضرر المظنون بناءً على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين مستحسن وليس واجباً.

واعترض عليه صاحب الكفاية) بما حاصله:أنّ ملاك حكم العقل غير منحصر بالتحسين والتقبيح كي يبتني استقلاله بدفع الضرر المظنون على القول بهما، واستشهد لذلك بأنّ كافّة العقلاء مع اختلافهم في التحسين والتقبيح سواء في إيجابهم دفع الضرر المظنون (1).

الدليل الثاني:

وحاصله: أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ للزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

ص: 224


1- كفاية الاُصول: 308, قال! ما هذا لفظه: «وأمّا الكبرى: فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون, ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح, لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما, بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح, مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه إذا قيل باستقلاله, ولذا أطبق العقلاء عليه, مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح, فتدبر جيداً».

فإن قلت: العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان.

قلت: حكمه كذلك ليس على نحو الإطلاق، بل إنّما هو في خصوص ما إذا فحص المكلّف عن مراد المولى ولم يعثر عليه، فيقبح - حينئذٍ - عقابه، من غير فرق بين ما إذا كان للمولى مراد في الواقع أو لم يكن؛ ضرورة أنّ المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب إنّما هو البيان الواصل إلى العبد، لا البيان الواقعيّ، فليس للبيان الواقعيّ أثر، ولا يكون سبباً لتحرّك العضلات ما لم يصل إلى العبد.

ثمّ إنّ كون المراد من البيان ما هو أعمّ من الحكم الواقعيّ والبيان الواصل إنّما يصحّ فيما لو كانت قاعدة قبح العقاب بلا بيان مستفادة من دليل لفظيّ؛ فإنّه - إذ ذاك - يمكن أن يحكم بإطلاقها؛ لإطلاق دليلها، ولكنّها ليست كذلك، بل هي حكم عقليّ.

نعم، إذا عمل العبد بوظيفته من الفحص والسؤال ولم يعثر على مراد المولى، يقبح عقابه، من غير فرق بين ما إذا كان القصور من جانب المولى لكونه قد أخلّ بوظيفته ولم يبيّن مراده بأيّ طريق يمكن أن يصلإلى العبد، أو كان المولى قد بيّن مراده ولكن لم يصل إلى العبد لأجل تقصير الوسائط في إيصال مراده إليه.

وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل إنّما يكون في موردين:

الأوّل: مورد العلم الإجماليّ.

والثاني: في الشبهات البدويّة قبل الفحص، أي: إذا لم يعمل العبد

ص: 225

بوظيفته من الفحص والسؤال.

ومنع صاحب الكفاية! من وقوع الصغرى ببيان أنّ الظنّ بالتكليف لا يستلزم الظنّ بالضرر (1).

وأجاب عنه الشيخ! بما لفظه: «وربما يجاب عنه: بمنع قبح ترجيح المرجوح على الراجح، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط، فالأخذ به حسن عقلاً» (2).

ثمّ أورد! على الجواب المذكور بما حاصله:

أنّ العمل بالمرجوح المطابق للاحتياط يكون جمعاً بين الراجح والمرجوح، لا ترجيحاً للمرجوح على الراجح، فإذا ظنّ بعدم وجوب شيء، فإنّ الإتيان به احتياطاً لا يكون أخذاً بالوهم وطرحاً للظنّ حتى يكون من باب ترجيح المرجوح على الراجح، بل هو جمع بينهما.

الدليل الثالث:

ما عن الطباطبائي!، من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك هو وجوب الاحتياط التامّ بالإتيان

ص: 226


1- نفس المصدر السابق, وهاك نص كلامه!: «والصواب في الجواب هو منع الصغرى, أمّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته؛ لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته, وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها, لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها».
2- فرائد الاُصول 1: 380.

بكلّ ما يحتمل الوجوب، ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكنّ مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوبالاحتياط، فيقتصر على الاحتياط في المظنونات فقط دون المشكوكات والموهومات؛ لئلّا يلزم الإتيان بالعسر الأكيد والحرج الشديد، على أنّ الجمع بين القاعدتين على غير هذا الوجه يكون باطلاً بالإجماع (1).

ولكن فيه: أنّه انسداد ناقص، فلابدّ من ضم مقدّمات اُخرى إليه، كانسداد باب العلم والعلميّ، وعدم جواز الرجوع إلى الاُصول العمليّة والتقليد؛ وإلّا لم يكن منتجاً.

ولكن مع ضمّها لا يكون دليلاً برأسه، بل يرجع إلى دليل الانسداد التالي، كما قال صاحب الكفاية:

«ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته، ومعه لا يكون دليل آخر، بل ذاك الدليل» (2).

الدليل الرابع: دليل الانسداد.

وهنا اُمور لابدّ من بيانها:

الأوّل: أنّ الإطاعة العمليّة هي التمكّن من الإتيان بكلّ واجب واقعيّ

ص: 227


1- انظر: فرائد الاُصول 1: 382، مع اختلاف بينها وبين عبارة الفرائد.
2- كفاية الاُصول: ص 311.

وترك كلّ حرام واقعيّ.

الثاني: أنّ الإطاعة العلميّة الإجماليّة هي الاحتياط التامّ في المشتبهات بإتيان كلّ ما ظنّ أو شك أو وهم وجوبه، وترك كلّ ما ظنّ أو شكّ أو وهم حرمته.

الثالث: أنّ الإطاعة الظنّيّة هي الإتيان بكل ما ظنّ وجوبه وترك كلّ ما ظنّ حرمته من بين المشتبهات، في قبال الإطاعة الشكّيّة والوهميّة.هذا. ولا يخفى: أنّه مع العلم بوجوب الواجبات أو ترك المحرّمات أو العلميّ كذلك، لا تصل النوبة إلى العمل بالظنّ، كما لا يخفى: أنّ الاحتياط التامّ - وهو العمل بكلٍّ من المظنونات والمشكوكات - يوجب الإخلال بالنظام أو العسر والحرج.

وكذا العمل بالمشكوكات والموهومات وترك المظنونات، فإنّه من باب ترجيح المرجوح على الراجح، وهو كما ترى.

الرابع: أنّ الانسداد تارةً يكون بمعنى الكشف، وأُخرى بمعنى الحكومة.

فعلى الأوّل: مقتضى مقدّمات الانسداد هو استكشاف كون الظنّ طريقاً منصوباً من قبل الشارع، فحاله حال الظنون الخاصّة الوافية بمعظم الأحكام عند الانفتاحيّ.

وعلى الثاني: يحكم العقل بعد تماميّة مقدّماته بحجّيّة الظنّ في حال

ص: 228

الانسداد كاستقلاله بحجّيّة العقل في حال الانفتاح.

وقد ذهب في الكفاية إلى أنّ دليل الانسداد مؤلّف من مقدّمات خمس، إذا تمّت يستقلّ العقل بكفاية الإطاعة الظنّيّة حكومة أو كشفاً، وإلّا، فلا. وهذه المقدّمات هي:

الاُولى: أنّا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في مجموع المشتبهات، وهذه التكاليف فعليّة في الشريعة.

الثانية: أنّه قد انسدّ باب العلم والعلمي، أي: الظنّ الذي قام الدليل القطعيّ على اعتباره وثبتت حجيّته بالعلم واليقين، ويعبّر عنه بالظنّ الخاص.

الثالثة: أنّه لا يجوز إهمال تلك الأحكام وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً، والاكتفاء في الإطاعة بالتكاليف المعلومة بالتفصيل، و بالظنّ الخاصّ القائم مقام العلم.

الرابعة: أنّه لا يجب الاحتياط في أطراف هذا العلم، بل لا يجوز في الجملة؛ ضرورة أنّه موجب للعسر أو الإخلال بالنظام، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة، ولا إلى مجتهد آخر انفتاحيّ.الخامسة: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، فإذا دار الأمر في مقام امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال بين الأنحاء الثلاثة من الظنّ والشكّ والوهم، تعيّن الامتثال الظنّيّ؛ لرجحانه على الشكّيّ والوهمي.

ص: 229

هذا هو مختار صاحب الكفاية« (1).

وأمّا المحقّق النائيني! فهو قد أسقط مقدّميّة وجود العلم الإجماليّ بثبوت التكاليف الفعلية في الشريعة، فجعل المقدّمات أربعاً تبعاً للشيخ الأعظم!، فقال:

«وعلى كلّ حال: دليل الانسداد يتألّف من مقدّمات أربع. وقيل: إنّها خمس، بجعل العلم بالتكاليف من جملة المقدّمات، والشيخ! أسقط هذه المقدّمة نظراً إلى أنّ المراد من العلم بثبوت التكاليف، إن كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدّها من المقدّمات، فإنّ العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع.

وإن كان المراد من العلم بثبوت التكاليف العلم الإجماليّ بثبوتها في الوقايع المشتبهة التي لا يجوز إهمالها، فهو أيضاً ليس من مقدّمات دليل الانسداد، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التي تبتني عليها المقدّمة الثانية،

ص: 230


1- كفاية الاُصول: ص 311, قال!: «وهي: خمس: أولها: أنّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة. ثانيها: أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها. ثالثها: أنّه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً. رابعها: أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا, بل لا يجوز في الجملة, كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة, من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط, ولا إلى فتوى العالم بحكمها. خامسها: أنّه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً».

فالاُولى الاقتصار على ما ذكره الشيخ! من المقدّمات الأربع» (1).

واستشكل المحقّق الأصفهاني! في حذف هذه المقدّمة من قبل الشيخ! بأنّ إسقاط هذه المقدّمة «إن كان لأجل عدم المقدّميّة، فمن الواضح أنّهلولاها لم يكن مجال للمقدّمات الأخر إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن كان لوضوح هذه المقدّمة لدلالة سائر المقدّمات عليها، فمن الواضح أنّ وضوحها لا يوجب عدم مقدّميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها، وإلّا كان بعضها الآخر كذلك، بل بعضها أوضح» (2).

ولا يخفى: أنّ هذا النزاع بينهم لفظيّ؛ فإنّ دخالة العلم الإجماليّ بوجود الأحكام وتأثيره في تماميّة الدليل ممّا لا ينكره أحد، وإنما وقع الخلاف في أنّه هل هو مقدّمة برأسه، أم هو يستفاد من طيّ الكلام؟

وذهب المحقّق العراقي! إلى أنّ أخذ العلم الإجماليّ في جملة المقدّمات ينتج ما لا ينتجه الغضّ عنه وإهماله من المقدّمات، حيث ذهب إلى أنّه إذا فرض أخذ العلم الإجماليّ كانت النتيجة هي التبعيض

ص: 231


1- فوائد الاُصول 3: 226.
2- نهاية الدراية 2: 256.

في الاحتياط، لا حجّيّة الظنّ - حكومةً أو كشفاً -، وهذا بخلاف ما إذا لم يؤخذ العلم الإجماليّ في المقدّمات، فإنّ النتيجة - حينئذٍ - هي حجّيّة الظنّ، لا التبعيض في الاحتياط.

وملخّص ما ذكره! في بيان عدم إمكان الانتهاء إلى حجّيّة الظنّ لو أخذ العلم الإجماليّ بالتكليف في جملة المقدّمات، هو أنّه لو كانت النتيجة هي حجّيّة الظنّ لزم الوقوع في محذورين:

الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ منجّز لأطرافه، فقيام الحجّة على بعض أطرافه محال؛ وذلك لاستلزامه تنجّز المنجّز، مع أنّ المتنجّز لا يتنجّز ثانياً، فلا يمكن أن يكون الظنّ حجّة في أطراف العلم الإجماليّ.

الثاني: أنّ الظنّ إذا كان حجّةً كان مستلزماً لانحلال العلم الإجماليّ وارتفاعه، وهو منافٍ لفرض كونه مقدّمة لحجّيّة الظنّ، كما لا يخفى (1).وأمّا الاستدلال على تلك المقدّمات:

فأمّا المقدّمة الاُولى: فهي بالنسبة إلى باب العلم الوجدانيّ مسلّمة لا كلام فيها؛ وذلك لأنّ ما يوجب العلم الوجدانيّ التفصيليّ بالحكم من الخبر النصّ المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعيّة من جهة الظهور والصدور مع سائر ما يتوقّف عليه الاستنباط، لا يفي إلّا بقليل قليلٍ من الأحكام.

ص: 232


1- نهاية الأفكار 3: 146.

وأمّا بالنسبة إلى باب العلميّ فالمحقّق النائيني! على أنّه:

«للمنع عنه مجال واسع، فإنّ ما تقدّم من الأدلّة الدالة على حجّيّة الخبر الموثوق به ظهوراً وصدوراً - سواء حصل الوثوق به من وثاقة الراوي أو من سائر الأمارات الأخر - ممّا لا سبيل إلى الخدشة فيه، بل ينبغي عدّها من الأدلّة القطعيّة؛ ومعها لا يبقى مجال لدعوى انسداد باب العلميّ في معظم الفقه؛ لأنّ الخبر الموثوق به (بحمد اﷲ) وافٍ بمعظم الأحكام، بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الاُصول العمليّة في الشبهات التي لم يكن على طبقها خبر موثوق به محذورُ الخروج من الدين أو مخالفة العلم الإجماليّ وغير ذلك» (1).

وقال صاحب الكفاية ما هذا لفظه:

«أمّا المقدّمة الاُولى: فهي وإن كانت بديهيّة إلّا أنّه قد عرفت انحلال العلم الإجماليّ بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين( التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص ما في الروايات» (2).

ومن الواضح: أنّ الاحتياط في موردها بمعنى الأخذ بكلّ خبر منها دلّ على التكليف من الوجوب أو الحرمة ممّا لا يستلزم العسر والحرج، فضلاً عن الاختلال.

ص: 233


1- فوائد الاُصول 3: 228, 229.
2- كفاية الاُصول: ص 312.

وأمّا المقدّمة الثانية: فهي من أهمّ مقدّمات الانسداد، حتى ادّعى البعض أنّها كافية لوحدها لإثبات حجّيّة الظنّ المطلق بلا حاجة إلى سائر المقدّمات، كما ادّعى أيضاً أنّها ضروريّة.

واستدلّوا عليها بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: دعوى الإجماع القطعيّ على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة، وكذا عدم جواز الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في جميع الموارد المشتبهة، وهذا الإجماع يصلح لأن يكون مدركاً مستقلّاً في مقام الدليل على الخروج من الدين.

ودعوى: أنّ هذا الإجماع ليس محصلاً؛ لأنّ المسألة لم تكن تكون مدوّنة عند العلماء أجمع.

مدفوعة بما أفاده المحقّق النائيني! من «أنّه يكفي الإجماع التقديري، فإنّه ربّ مسألة لم يقع البحث عنها فى كلمات الأصحاب، إلّا أنّه ممّا يعلم إجماعهم واتفاقهم عليها، فإنّه لا يكاد يمكن إسناد جواز الاعتماد على أصالة العدم وطرح جميع الأحكام في الوقائع المشتبهة إلى أحد من أصاغر الطلبة فضلاً عن أرباب الفتوى» (1).

الوجه الثاني: أنّه يلزم من الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في الوقائع المشتبهة الخروج عن الدين؛ لقلّة الأحكام المعلومة بالتفصيل،

ص: 234


1- فوائد الاُصول 3: 231.

فالاقتصار عليها وترك التعرض للوقائع المشتبهة غير تامّ؛ لاستلزامها المخالفة الكثيرة القطعيّة.

الوجه الثالث: العلم الإجماليّ بثبوت التكاليف الوجوبيّة والتحريميّة في الوقائع المشتبهة، والعلم الإجماليّ - كالعلم التفصيليّ - يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة، فهذه الصورة غير مشمولة لأدلّة البراءة.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه هو: أنّ الثاني مبنيّ على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة، وهو المعبّر عنه ﺑ (الخروج من الدين)، وأمّا هذاالوجه، فهو يستند إلى منجّزيّة العلم الإجماليّ وعدم جواز جريان الاُصول النافية في أطرافه.

وهل تختلف النتيجة من حيث الكشف والحكومة بالنسبة إلى الوجوه الثلاثة أم لا؟ الظاهر ذلك.

فإن كان المدرك والمستند بالنسبة إلى عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة وعدم جواز الرجوع إلى الاُصول العمليّة هو الوجه الأوّل والثاني، فالنتيجة هي الكشف؛ وذلك لأنّه لمّا كان مآل الإجماع إلى لزوم الخروج من الدين، وأراد الشارع المقدّس من العباد التعرّض للوقائع المشتبهة ولم يرخّصهم بإهمالها: يحكم العقل حينئذٍ - بالضرورة - بأنّ للشارع أن ينصب طريقاً للمكلّفين يمكّنهم من امتثال تلك التكاليف في دائرة الوقائع المشتبهة، ولابدّ أن يكون ذلك الطريق واصلاً إليه: إمّا

ص: 235

بنفسه، أو بطريقه، والطريق الذي يصحّ جعله في حال انسداد باب العلم والعلميّ إنّما هو الاحتياط ليس غير.

وحال هذا المورد - هو بعينه - حال الدماء والفروج، فكما أنّ الاحتياط يكون مجعولاً فيها من قبل الشارع فهنا كذلك.

فظهر: أنّ هذا الاحتياط شرعيّ لا عقليّ؛ ضرورة أنّ الاحتياط العقليّ هو ما يحكم به العقل، فيكون في أطراف العلم الإجماليّ.

وعُلم ممّا ذكرناه: أنّه إذا كان المدرك هو الإجماع أو الخروج من الدين، كان الاحتياط طريقاً مجعولاً من قبل الشارع؛ لأنّه لا طريق واصل إلى العباد غيره.

نعم، إذا فرض استلزام الاحتياط للعسر والحرج، وأنّ الشارع لم ينصب الاحتياط طريقاً، تكون النتيجة هي حجّيّة الظنّ طريقاً شرعيّاً.

وأمّا إذا كان المدرك هوالعلم الإجماليّ فالنتيجة هي العقل.

وأمّا المقدّمة الثالثة: فقد عرفت فيها أنّ الرجوع إلى الطرق المقرّرة للجاهل من التقليد - أي: الرجوع إلى فتوى غير العالم بالحكم - غير جائز.وكذا لا يجوز الرجوع في كلّ شبهة إلى الأصل الجاري فيها، من البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير.

كما لا يمكن - أيضاً - الاحتياط في الوقائع كلّها بالجمع بين المحتملات، فإنّهما من الطرق المقرّرة للجاهل كالتقليد.

ص: 236

وها هنا لابدّ من بيان بطلان هذه الطرق الثلاثة، فنقول:

أمّا بطلان التقليد: فلا يخفى: أنّ التقليد إنّما يكون جائزاً فيما لو لم يكن الشخص معتقداً ببطلان المدرك الذي استند إليه العالم، ومن هنا لم يجز للمجتهد أن يقلّد مجتهداً آخر، وإلّا، كان من باب رجوع العالم إلى الجاهل. وفي محلّ بحثنا، فمن يرى انسداد باب العلم والعلميّ فلا يجوز له الرجوع إلى من يرى انفتاح بابيهما؛ فإنّ القول بحجّيّة ظواهر الكتاب من جهة الصدور والظهور عند من يرى ذلك لا يفيد من يرى انسداد البابين المذكورين شيئاً، ومعه: فكيف يجوز له الرجوع إلى غير القائل بالانفتاح؟

وأمّا بطلان الرجوع إلى الاُصول: فله صورتان؛ لأنّ هذه الاُصول تارة تكون من قبيل الاُصول العدميّة النافية، واُخرى من قبيل الاُصول المثبتة.

أمّا الصورة الاُولى: فيلزم من إعمالها المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ بثبوت التكليف في موردها، وقد قلنا: إنّ العلم الإجماليّ هو كالعلم التفصيليّ بلحاظ تنجّز التكليف.

وأمّا بالنسبة إلى الاُصول الوجوديّة المثبتة للتكليف، كما في الاحتياط والاستصحاب - إذا كانت المسألة من أطراف العلم الإجماليّ في الأوّل، ولم تكن كذلك في الثاني -: فالرجوع إليها إنّما كان باطلاً لما يلزم من إعمالها من العسر والحرج المنفيّين لكثرة المشتبهات.

ص: 237

وقد منعه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّ الاحتياط التامّ في أطراف العلم الإجماليّ إذا كان عسره بمقدار يصل إلى الإخلال بالنظام، فهذا غير واجب بلا كلام، بل هو ممنوع. وأمّا إذا كان دون ذلك، بأن كان الاحتياط ممّا يوجب العسر فقط بلاإخلال بالنظام، فعدم وجوبه محلّ نظر، بل منع؛ نظراً إلى أنّ أدلّة الحرج، وهكذا أدلّة الضرر، وإن كانت حاكمةً على أدلّة التكليف والوضع، ورافعةً لهما إذا كانا حرجيّين أو ضرريّين، وموجبة لحصرهما بما إذا لم يلزم منهما حرج أو ضرر، ولكنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان نفس متعلّق التكليف حرجيّاً أوضرريّاً، كالوضوء والغسل بالماء في البرد الشديد.

وأمّا إذا لم يكن متعلّق التكليف بنفسه حرجيّاً، بل كان في كمال السهولة، وإنّما الحرج والعسر يأتيان من جهة الجمع بين محتملات التكليف والاحتياط، كما إذا تردّد الماء المطلق للوضوء بين ألف إناء.

فمذهب الآخوند! أنّ أدلّة الحرج ليست حاكمةً على أدلّة الاحتياط؛ ضرورة أنّ العسر هنا مسبّب عن حكم العقل، من جهة الجمع بين المحتملات بعد العلم الإجماليّ بالتكليف، وليس لازماً من جهة التكليف الشرعيّ لكي يُصار إلى رفعه بالحرج والضرر.

نعم، لو كان الاحتياط من جهة الحكم الشرعيّ ولكثرة الأطراف، أمكن - حينئذٍ - أن يقال بسقوطه؛ لأدلّة العسر؛ لأنّ العسر ينشأ حينئذٍ من التكاليف المجهولة، فيرفعها دليل نفي الحرج، ومعه: فلا يبقى مجال

ص: 238

أصلاً لقاعدة الاحتياط (1).

وأمّا ما ذكره! من دعوى انحلال العلم الإجماليّ بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الاُصول المثبتة، ثمّ أورد عليه بأنّ العلمالإجماليّ إذا انحلّ ولم يكن منجّزاً، لم تصحّ المؤاخذة على مخالفته؛ لأنّ العقاب حينئذ يكون عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان (2).

فقد ردّه المحقّق النائيني! بما لفظه:

«والإنصاف: أنّ دعوى انحلال العلم الإجماليّ المتعلّق بأحكام الشريعة بهذا المقدار من الاُصول المثبتة والمعلومات التفصيليّة بمكانٍ من الغرابة، عهدتها على مدّعيها» (3).

ص: 239


1- راجع: كفاية الاُصول: ص 313, وإليك نصّ كلامه!: «وأمّا المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام, فيما يوجب عسره اختلال النظام, وأمّا فيما لا يوجب, فمحل نظر بل منع, لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط, وذلك لما حققناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر, من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما, هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما, فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل, لعدم العسر في متعلق التكليف, وإنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطاً. نعم, لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر حينئذٍ يكون من قبل التكاليف المجهولة, فتكون منفية بنفيه».
2- انظر: كفاية الاُصول: ص 312, 313.
3- فوائد الاُصول 3: 236.

والتحقيق: أنّ الحرج والضرر مرفوعان مطلقاً، من غير فرق بين كونهما ناشئين من نفس متعلّق التكليف، أو من الجمع بين محتملاته بحكم العقل؛ لأنّهما على كلّ حال متوجّهان من ناحية التكليف الشرعيّ، وإلّا لم يحكم العقل بوجوب الجمع بين محتملاته كي يلزم منه الحرج والضرر.

ثمّ إنّه بعد صحة جميع مقدّمات الانسداد، واقتضائها لحجّيّة الظنّ، فهل نتيجتها هي حجّيّة الظنّ بالواقع أو الطريق أو كلاهما؟

والمراد من حجّيّة الظنّ بالواقع هو حجّيّة الظنّ بالحكم الشرعيّ الفرعيّ، مثل أن يحصل الظنّ بوجوب غسل الجمعة أو وجوب الاستعاذة في الصلاة. كما أنّ المراد من حجّيّة الظنّ بالطريق الظنّ بالمسألة الاُصوليّة، كأن يحصل الظنّ بحجّيّة خبر الثقة أو حجّيّة الظواهر.

قال المحقّق النائيني!:

«إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد وإن كانت أعم من الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق، إلّا أنّ ذلك فرع سلامة المقدّمات ووصول النوبة إلى أخذ النتيجة، والكلام بعد في سلامة المقدّمة الثالثة، فإنّه لم يثبت بطلانالاحتياط رأساً في جميع الوقائع لينتقل إلى المقدّمة الرابعة، لتكون النتيجة اعتبار الظنّ مطلقاً سواءً تعلّق بالواقع أو بالطريق» (1).

وهذا هو مختار صاحب الكفاية والشيخ"؛

ص: 240


1- فوائد الاُصول 3: 269.

أمّا صاحب الكفاية! فخلاصة ما أفاده:

هو أنّه لا فرق بين القطع والظنّ في نظر العقل، فكلّما كان القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح، كان الظنّ به مؤمّناً في حال الانسداد، وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح كان كلاً من القطع بإتيان المكلّف به الواقعيّ والقطع بإتيان بالمكلّف به الظاهريّ الجعليّ - بمعنى: مؤدّى الطريق المجعول من قبل الشارع -، وكذلك يحكم العقل بأنّ المؤمن في حال الانسداد هو كلّ من الظنّ بإتيان المكلّف به الواقعيّ والظنّ بإتيان المكلّف به الظاهريّ الجعليّ، ومقتضى ذلك هو حجّيّة الظنّ في كلّ من الواقع والطريق معاً (1).

وأمّا الشيخ! فملخّص كلامه:

أنّه لا فرق في الامتثال الظنّيّ بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الواقعيّ، كأن يحصل من شهرة القدماء الظنّ بنجاسة العصير العنبيّ، وبين تحصيل

ص: 241


1- كفاية الاُصول: ص 315, 316, قال! ما لفظه: «والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة, من العقوبة على مخالفتها, كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها, وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمناً في حال الانفتاح كان الظن به مؤمناً حال الانسداد جزماً, وإنّ المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك, لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق ومتعلق العلم, وهو طريق شرعاً وعقلاً, أو بإتيانه الجعلي؛ وذلك لأنّ العقل قد استقل بأنّ الإتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو, لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعاً, كيف؟ وقد عرفت أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثاً وإمضاء, إثباتاً ونفياً. ولا يخفى أنّ قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق».

الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ، كأن يحصل من الأمارة الظنّ بحجّيّة أمر يكون سبباً لحصول الظنّ كالقرعة، فإذا ظنّبحجّيّة القرعة حصل الامتثال الظنّيّ في مورد القرعة وإن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعيّ (1).

واختار صاحب الفصول! القول الأوّل - أعني: حجّيّة الظنّ في المسائل الاُصوليّة - تبعاً لأخيه المحقّق! فقال: «إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع أو بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع على قيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقاً مخصوصة وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالرجوع إليها في معرفتها.

ص: 242


1- فرائد الاُصول 1: 437, وهذا نص كلامه!: «إنّك قد عرفت أنّ قضية المقدمات المذكورة وجوب الامتثال الظني للأحكام المجهولة, فاعلم: أنّه لا فرق في الامتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الواقعي - كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي - وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري, كأن يحصل من أمارة الظن بحجية أمر لا يفيد الظن كالقرعة مثلاً, فإذا ظنّ حجيّة القرعة حصل الامتثال الظني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظن بالحكم الواقعي, إلّا أنّه حصل ظنٌ ببراءة ذمة المكلّف في الواقعة الخاصة, وليس الواقع بما هو واقع مقصوداً للمكلّف إلّا من حيث كون تحققه مبرئً للذمة. فكما أنّه لا فرق في مقام التمكن من العلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق عُلم كون سلوكه مبرئً للذمة في نظر الشارع, فكذا لا فرق عند تعذّر العلم بين الظن بتحقق الواقع وبين الظن ببراءة الذمة في نظر الشارع.

ومرجع هذين القطعين - عند التحقيق - إلى أمر واحد، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل لنا غالباً إلى تحصيلها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طرقه كذلك مقام القطع، ولو بعد تعذّره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين الطرق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيّته؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه» (1).

ثمّ قال المحقّق النائيني! - تعليقاً على كلام صاحب الفصول! -:«ولعلّ الذي دعاه إلى اختيار اعتبار خصوص الظنّ بالطريق، هو ما زعمه: من أنّ الوجوه التي استدل بها على حجّيّة الخبر الواحد لو لم تفد القطع بحجيّته بالخصوص فلا أقل من كونها تفيد الظنّ بها، فيكون الخبر الواحد ممّا ظنّ اعتباره طريقاً، ومع تعذّر العلم بكون الشيء طريقاً يتنزّل إلى الظنّ بكونه طريقاً؛ لانّه أقرب إلى العلم» (2).

هذا. ويمكن أن يقال: إنّ الذي دعا صاحب الفصول! إلى القول باعتبار خصوص الظنّ بالطريق هو أنّه قد جعل دليل الانسداد من جملة الأدلّة الدالة على حجّيّة الخبر الواحد.

ص: 243


1- الفصول الغروية: 277.
2- فوائد الاُصول 3: 281.

كما ورد في ذيل كلامه!: «ولا ريب أنّ الخبر الواحد إن لم يكن من الطرق القطعيّة فهو من الطرق الظنّيّة؛ للوجوه التي ذكرناها، فيجب العمل به، وهو المطلوب» (1).

واعترض عليه الشيخ! بجملة إشكالات:

منها: أنّه لو سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّيّة من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّيّة، إلّا أنّ لزوم الرجوع إليها لا يختصّ بما إذا ثبت بالخبر، بل إمّا بكلّ طريق من الطرق، أو بالأخذ بالقدر المتيقّن، فإن وفى معظم الأحكام اقتصر عليه، وإلّا، فالمتيقّن من الباقي مثلاً: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقّن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات؛ إذ لم يقل أحد بحجّيّة الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقّن (2).

ثمّ قال! في تقريب الإشكال الخامس ما هذا لفظه:«سلّمنا العلم الإجماليّ بوجود الطريق المجعول وعدم المتيقّن وعدم وجوب الاحتياط، لكن نقول: إنّ ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط بل هو مجوّز له، كما يجوز العمل بالظنّ في

ص: 244


1- الفصول الغروية: 278.
2- انظر: فرائد الاُصول 1: 444.

المسألة الفرعيّة» (1).

ويقرب منه ما ذكره صاحب الكفاية! من أنّه لو سلّمنا أنّ مقتضى الدليل المذكور هو لزوم التنزّل إلى الظنّ في تعيين الطرق المعلومة بالإجمال، إلّا أنّه لا وجه لحصر الحجّيّة بالظنّ بالطريق فقط، فإنّه ليس أقرب من الظنّ بكونه مؤدى طريق معتبر إجمالاً من دون ظنّ في الخارج بحجّيّة طريق على التفصيل أصلاً، ولا هو أقرب من الظنّ بالواقع (2).

ثمّ إنّ مقدّمات الانسداد بعد سلامة الجميع وصحة الكل هل اقتضاؤها لحجّيّة الظنّ على نحو القضيّة المهملة أو على نحو القضيّة الكلّيّة؟

والمراد من إهمال النتيجة: أن تكون القضيّة مهملة من حيث السبب والمورد والمرتبة على نحو تحتاج النتيجة إلى معمّم يعمّمها إلى جميع الأسباب والأمارات وإلى جميع مراتب الظنّ: الضعيف والقوي والأقوى، أو إلى مخصّص يخصّصها ببعض الأسباب والموارد والمراتب.

كما أنّ المراد من كلّيّة النتيجة أن تكون القضيّة بحيث لا تحتاج في التعميم إلى شيء أصلاً.

ص: 245


1- نفس المصدر السابق: 446.
2- كفاية الاُصول: 318, حيث قال!: «وثانياً: لو سلّم أنّ قضيته لزوم التنزل إلى الظن, فتوهّم أنّ الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعاً, وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع, من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجيّة طريق أصلاً, ومن الظن بالواقع, كما لا يخفى».

فها هنا وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن تكون النتيجة كلّيّة مطلقاً.

الثاني: أن تكون مهملة مطلقاً.الثالث: التفصيل، بأن تكون النتيجة مهملة بالنسبة إلى المرتبة، وكلّيّة بالنسبة إلى السبب والمورد. أو تكون كلّيّة بالنسبة إلى السبب، ومهملة بالنسبة إلى المورد.

ولا يخفى: أنّ معنى إهمال النتيجة هو أنّ القدر المتيقّن الذي تقتضيه المقدّمات هو الجزئيّة، فلا ينافيه كونها قابلة للكلّيّة.

وبعبارة ثانية: إنّ احتمال كون القضيّة مهملة إلى الآخر بلا معمّم يعمّمها أو مخصّص يخصّصها، أو فقل: من دون أن يكون هناك قدر متيقّن على الإطلاق: ممّا لم يقل به أحد؛ لأنّه يستلزم لغوية دليل الانسداد من أوّل.

وقد ذهب المحقّق القمّي! إلى كلّيّة النتيجة من الجهات الثلاث؛ لأنّ بناءه على بطلان الاحتياط في كلّ مسألة مسألة، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك.

ومذهب صاحب الكفاية قدس سره:

اشارة

أنّه إذا كانت نتيجة المقدّمات هي الحكومة، فلا إهمال في النتيجة أصلاً، لا من حيث السبب ولا المورد ولا المرتبة؛ لأنّه لا إهمال في حكم العقل لكي يشتبه في سعة الحكم و ضيقه:

ص: 246

أمّا بالنسبة للأسباب: فالنتيجة كلّيّة في جميعها؛ لعدم تفاوتها في نظر العقل.

وأمّا بحسب الموارد: فالنتيجة جزئيّة فيها؛ لأنّ العقل يحكم بحجّيّته في خصوص الموارد التي لا يهتمّ به، بخلاف الموارد التي له فيها مزيد الاهتمام، كما يقال بالنسبة إلى الدماء والفروج، فيستقلّ العقل بوجوب الاحتياط فيها.

وأمّا بحسب المراتب: فجزئيّة أيضاً؛ لأنّ العقل لا يستقلّ إلّا بلزوم التنزّل إلى مرتبة الاطمئنان من الظنّ بعدم التكليف، والخروج عن عهدة التكليف ظنّاً بعد عدم إمكان الخروج عنها علماً، ولا دخلللأسباب المفيدة للظنّ عند العقل كما لا دخل للمراتب كذلك، فمن أيّ سبب حصل الظنّ بالامتثال كان مجزياً عند العقل (1).

نعم، إذا حصل الظنّ الاطمئنانيّ بالنسبة إلى بعض المراتب وكان

ص: 247


1- كفاية الاُصول: 322, قال! ما لفظه: «فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلّا على نحو الحكومة دون الكشف, وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلاً, سبباً ومورداً ومرتبة, لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل, كما لا يخفى. أمّا بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها. وأمّا بحسب الموارد, فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية, إلّا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام, واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام, كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر. وأما بحسب المرتبة, فكذلك لا يستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف, إلّا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر».

وافياً بالمعلوم بالإجمال، كان حينئذٍ مقدّماً عند العقل على غيره؛ بداهة أنّ الظنّ الاطمئنانيّ أقرب إلى العلم.

وهذا بخلاف الموارد، فإنّه لما علم أنّ للشارع مزيدَ اهتمام بها كالفروج والدماء، كان لابدّ من رعايته والحفاظ عليه بأيّ نحو كان، ولذا لابدّ من الاحتياط لحصول الامتثال العلميّ.

فإن قلت: قد تقدّم أنّ الاحتياط باطل، وأنّ حصول نتيجة الانسداد مبنيّة على القول ببطلانه كذلك: إمّا من جهة العسر والحرج، أو غير ذلك.

قلت: بطلان الاحتياط هناك في كلّ مورد مورد إنّما هو من حيث كون المورد محتمل الوجوب أو الحرمة.

وأمّا إذا كان المورد بنفسه ممّا تجري فيه أصالة الحرمة فلا محيص عن الاحتياط فيه، ولا يكفي - حينئذ - الامتثال الظنّيّ، وإن قلنا بالكشف - كما سيأتي - أيضاً، فإنّ الظنّ في هذه الموارد لا يكون حجّة؛ ضرورة أنّ العقل بعد العلم باهتمام الشارع بتلك الموارد يمنع من اعتبار الظنّ في المقدّمات شرعاً.

أمّا بناءً على الكشف: فإنّ حال الظنّ المطلق بعد حجّيّته هي حال الظنّ الخاصّ الذي قام الدليل بالخصوص على حجّيّته، فيتبع في العموم والخصوص دليل اعتباره، وحيث إنّ دليل حجّيّة الظنّ المطلق ليس إلّامقدّمات الانسداد، فإنّ العقل يستكشف من هذه المقدّمات جعل الشارع الحجّيّة للظنّ، وهي لا تقتضي جعله حجّة في الجملة وفي بعض الموارد

ص: 248

أو من بعض الأسباب أو بعض المراتب، بل في جميع الموارد والأسباب؛ لأنّ بطلان الاحتياط والبراءة في كلّ مسألة مسألة يقتضي التعميم بالنسبة إلى المسائل، والتعميم فيها مستلزم للتعميم بالنسبة إلى الأسباب والمراتب.

وأمّا بالنسبة إلى الموارد: فحكمه حكم حجّيّة الظنّ بناء على الحكومة؛ لما تقدّم من عدم حجّيّة الظنّ فيما إذا كان للشارع مزيد اهتمام بالنسبة إلى الأعراض والنفوس والأموال، فيمنع العقل من استكشاف حجّيّة الظنّ فيها ولو بنظر الشرع.

وبعبارة ثانية: فإنّ عموميّة الأسباب إنّما هي لأجل عدم رجحان بعض الظنون على بعض، فلابدّ من التعميم، وإلّا، لزم الترجيح بلا مرجّح، ولكن هذا إنّما ينفع فيما يصلح للترجيح من الوجوه الثلاثة، من كون بعض الظنون متيقّناً بالنسبة إلى غيره، وكون بعضها أقوى من بعض، وكون بعضها مظنون الحجّيّة.

أمّا الوجه الأوّل:

فقد ذكر صاحب الكفاية! أنّ النتيجة لو لم يكن فيها ما هو المتيقّن «فلابدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها أو مظنونه» (1)، وهذا البعض ممّا يقطع باعتباره في حال الانسداد، فيكون هو الحجة ويجب الأخذ به دون غيره.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ ويكون حجّة في حال الانسداد إذا كان وافياً بمعظم

ص: 249


1- كفاية الاُصول: 323.

الفقه، على وجهٍ لا يكون الرجوع إلى الاُصول العمليّة في بقيّة الموارد التي لم تقم عليها المحاذير التي مرّت، ونحن نرى: أنّه ليس في أقسام الظنون ما يكون بهذه المثابة؛ لأنّ المتيقّن الاعتبار هو الصحيح الأعلائيّ، أو فقل: لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هوالخبر الذي زكّي جميع رواته الموجودين في السلسلة بعدلين، ولم يكن في سلسلة السند من هو مشترك بين الضعيف والثقة، ولم يعمل في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعاً من سائر الأمارات الاُخر، ولم يوهن لمعارضة شيء منها، وكان ممّا اعتمد عليه الأصحاب كلّهم أو جلّهم، وكان مع ذلك مفيداً للظنّ الاطمئنانيّ.

فانقدح: أنّ الحجّة إنّما تكون في الخبر الواحد بهذا الاعتبار، وهو الخبر الذي يكون متيقّن الاعتبار بالإضافة إلى غيره من الأمارات في حال الانسداد، وأنت خبير: بأنّه ليس بأيدينا من تلك الأخبار ما يكون بهذه المثابة إلّا أقلّ القليل، وهو غير وافٍ بمعظم الفقه.

وأمّا الوجه الثاني:

وهو كون بعض الظنون أقوى من البعض، فلا بد من الأخذ بما هو أقوى.

وفيه: أنّ القوّة والضعف من الاُمور الإضافيّة، فلا يكاد يمكن ضبط مرتبة خاصّة منها حتى يمكن الإرجاع إليه.

ثمّ إن كانت النتيجة هي الكشف فلا يمكن جعل الظنّ القويّ هو

ص: 250

الحجّة، إذ لعلّ الشارع جعل الضعيف حجّة من دونه، فالنتيجة جزئيّة لا كلّيّة. نعم، توجد مرتبة خاصّة، وهي الظنّ الاطمئنانيّ الملحق بالعلم حكماً، لكنّه نادر التحقّق.

وأمّا الوجه الثالث:

فالنتيجة هي حجّيّة الظنّ المظنون الحجّيّة؛ لأنّه اُولى من غيره، وتكون النتيجة جزئيّة مع أنّه قد تقدّم أنّ نتيجة الانسداد كلّيّة. وأمّا أولويّة مظنون الحجّيّة والاعتبار: فإمّا لأنّه أقرب إلى الحجّيّة، فيجب صرف القضيّة المهملة إلى ما هو الأقرب؛ أو: لأنّه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع؛ لأنّ الظنّ بحجّيّة ظنّ، من الأمارات التي تفيد الظنّ بالواقع، فيكون ما ظنّ بحجيته للواقع أقرب إلى الواقع.

قال المحقّق النائيني!:«لأنّ الظنّ بحجّيّة ظنّ يلازم الظنّ بحصول المصلحة السلوكيّة على تقدير مخالفته للواقع، فيكون احتمال فوات الواقع وبدله موهوماً في موهوم؛ وهذا بخلاف الظنّ الحاصل من أمارة لم يظنّ بحجيّتها، فإنّه ليس فيه إلّا الظنّ بمطابقة الواقع فقط؛ ولا إشكال أنّه لو دار الأمر بين العمل بما يظنّ معه إدراك الواقع أو بدله وبين العمل بما يظنّ معه إدراك الواقع فقط، يتعيّن العمل بما يظنّ معه إدراك الواقع أو بدله، فتكون النتيجة خصوص مظنون الحجّيّة لا كلّ ظنّ» (1).

ص: 251


1- فوائد الاُصول 3: 313.

وقد اعترض الشيخ الأعظم! على هذا الوجه بما حاصله: أنّ ما ذكر من اعتبار مظنون الحجّيّة لا يقتضي تعيين العمل بخصوص مظنون الحجّيّة، بل أقصى ما يفيده هو أنّ العمل بما يظنّ حجيّته اُولى من العمل بما لا يظنّ حجيّته، لا أنّه يتعيّن ذلك (1).

فظهر ممّا تقدّم: أنّ كلاً من الوجوه الثلاثة لا تخلو من خدشة، فالأقوى كون النتيجة هي التعميم.

الإشكال في خروج القياس عن عموم النتيجة:

والكلام فيه مبنيّ على الكشف تارةً، واُخرى على الحكومة.

فأمّا تعميم النتيجة بناء على الكشف: فالقياس حينئذٍ يكون خارجاً عن الحجّيّة؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس توجب كون أدلّة الانسداد بمعنى نصب الطريق غير الشامل للقياس المحرّم.

وأمّا تعميمه بناءً على الحكومة: فقد قال في الكفاية:

«قد اشتهر الإشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة» (2).وذلك أنّ العقل يستقلّ في الحكم بحجّيّة الظنّ، فحاله كحال حجّيّة

ص: 252


1- فرائد الاُصول 1: 476, قال!: «وأمّا المرجّح الثالث, وهو الظن باعتبار بعض فيؤخذ به لأحد الوجهين المتقدّمين, ففيه - مع أنّ الوجه الثاني لا يفيد لزوم التقديم, بل أولويته - : أنّ الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوة والضعف...»
2- كفاية الاُصول: 325.

العلم في حال الانفتاح، وحينئذٍ: يقع الإشكال في خروج القياس عن عموم حكم العقل بحجّيّة الظنّ، والحال أنّ حكم العقل لا يقبل التخصيص، فلا يمكن رفع حكمه عن موضوعه وإن كان ينتفي الحكم بانتفاء الموضوع.

والعلّة في عدم قبول حكم العقل للتخصيص هي التناقض، فإنّه لو كان حكم العقل على نحو العموم بحيث يشمل الفرد القياسي بعينه، فلو خصّصنا حكمه ورفعناه عن هذا الفرد، يقع التناقض بين حكمه وبين التخصيص.

وأمّا بالنسبة إلى العمومات اللّفظيّة، فالتخصيص فيها لا يستلزم التناقض؛ لأنّ العموم فيها صوريّ، فكذلك التناقض يكون صوريّاً.

ثم أجاب ! عن هذا الإشكال بما لفظه:

«وأنت خبير بأنّه لا وقع لهذا الإشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلّقاً على عدم نصب الشارع طريقاً وأصلاً» (1).

والحاصل: أنّه لا إشكال في أنّ نصب الشارع طريقاً خاصاً - وإن لم يكن مقيّداً للظنّ - لا ينافي الانسداد، فتجب متابعة هذا الطريق لكونه منصوباً من قبل الشارع، ولا يعتنى بالظنّ بالخلاف الحاصل في مورده من أمارة اُخرى؛ لما عرفت من تعليق حكم العقل بحجّيّة الظنّ على عدم

ص: 253


1- المصدر نفسه.

النصب، فإذا نهى الشارع عن الظنّ الحاصل من سبب خاصّ، كالظنّ القياسيّ، يرتفع - حينئذٍ - موضوع حكم العقل، فلا يبقى له حكومة ولا استقلال بالحجّيّة أصلاً، كما هو مقتضى التعليق.

وربّما أشكل بأنّه كيف يجوز النهي عن الظنّ القياسيّ، ويُخرَج عن عموم نتيجة دليل الانسداد مع احتمال إصابته للواقع؟

وجوابه بما عن المحقّق النائيني! حيث قال:«وحل الإشكال إنّما يكون بأحد أمرين: إمّا الالتزام بأن الأحكام الواقعيّة مقيّدة بما إذا لم يؤد إليها القياس، فلا يكون الحكم الواقعيّ في مورد القياس على طبق ما أدّى إليه القياس فيكون النهي عن العمل به من باب الموضوعيّة.

وإمّا الالتزام بالمفسدة السلوكيّة على عكس المصلحة السلوكيّة التي كانت في باب الطرق والأمارات، فيكون النهي عنه لمكان أنّ في العمل بالقياس وسلوكه وأخذه طريقاً مفسدة غالبة على مصلحة الواقع فتأمّل» (1).

هذا. ولا يخفى: أنّ الروايات الواردة في المنع عن القياس موهن قويّ له، فهي موجبة لارتفاع الظنّ.

نعم، قد يحصل من العمل بالقياس القطع، وهو المسمّى عندهم بتنقيح المناط القطعيّ، كما أنّ العمل بالقياس لا يكون دائماً موقعاً في المفسدة، ولكنّ إثباته - كما لا يخفى - يحتاج إلى دليل.

ص: 254


1- فوائد الاُصول 3: 321.

في الظنّ المانع والممنوع

اعلم أنّ الظنّ الممنوع تارة يكون ممّا احتمل المنع عنه، واُخرى مما ظنّ كذلك.

قال الشيخ!: «وفي وجوب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط وجوه، بل أقوال» (1).والحاصل: أنّ الظنّ الممنوع لمّا كان حاله حال الظنّ القياسي مما قام الدليل القطعيّ على المنع عنه وعدم اعتباره، وهو الظنّ المانع؛ فإنّه مما تعمّه نتيجة دليل الانسداد، فيقتصر عليه - دون الظنّ الممنوع - بعد القطع بعدم المنع عنه بالخصوص.

قال المحقّق النائيني!:

«فيكون حال الظنّ المانع والممنوع حال الأصل السببيّ والمسبّبيّ، وسيأتي في محلّه: أنّ الأصل السببيّ يمنع عن جريان الأصل المسبّبيّ، ولا

ص: 255


1- فرائد الاُصول 1: 532.

يمكن العكس؛ لأنّ اندراج الأصل السببيّ في عموم قوله(علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) لا يحتاج إلى مؤونة، بخلاف اندراج الأصل السببيّ، فإنّ شمول خطاب (لا تنقض اليقين) له يتوقّف على خروج الأصل السببيّ عن العموم.

ومن المقرّر في محلّه: أنّه إذا توقّف شمول العام لفرد على خروج فرد آخر عنه فالعامّ لا يشمل ذلك الفرد، لا أنّه يشمله ويخرج ما يكون داخلاً فيه بلا مؤونة؛ فإنّ العام إنّما يشمل الأفراد التي تكون متساوية الأقدام بالنسبة إلى اندراجها تحت عنوان العام» (1).

ثمّ علّق عليه المحقّق العراقي! بما هذا لفظه:

«أقول: الاُولى بناءً على تعليقيّة حكم العقل في باب الانسداد أن يقال: إنّ المقتضي في الظنّ الممنوع تعليقيّ وفي المانع تنجيزيّ، إذ لا مانع عنه غير الظنّ الممنوع الذي لا يشمله الدليل باقتضائه إلّا في ظرف عدم تأثير المقتضي في المانع، وكلّ مورد كان من هذا القبيل يستحيل مانعيّته؛ لأنّه دوريّ، فمقتضي التنجيزيّ يؤثّر أثره» (2).

فانقدح من مطاوي ما ذكرنا: أنّ وجوب العمل إنّما هو بالظنّ المانع دون الظنّ الممنوع، ولا تساقط في المقام؛ لأنّ مفاد دليل الانسداد

ص: 256


1- فوائد الاُصول 3: 322.
2- المصدر نفسه, هامش رقم 1.

ونتيجته هي اعتبار كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر، والظنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر، وهو الظنّ المانع، لما عرفت من ثبوت اعتباره بدليل الانسداد.

وحينئذٍ: فإن أخذنا بالظنّ المانع كان الظنّ الممنوع خارجاً تخصّصاً؛ ضرورة عدم شمول العموم له؛ لقيام الدليل على المنع عنه، فلا يشمله عموم دليل الانسداد.

وإن أخذنا بالظنّ الممنوع مع طرح المانع، لزم التخصيص بلا مخصّص؛ بداهة أنّه لا مخصّص لخروج الظنّ المانع عن عموم النتيجة.

هذا. ولا يخفى: أنّه إذا دار الأمر بين التخصّص وبين التخصيص بلا مخصّص، فالمتيقّن هو الأوّل.

ص: 257

ص: 258

مباحث الاُصول العمليّة

اشارة

ص: 259

ص: 260

الكلام في الاُصول العمليّةوهنا اُمور لابدّ من بيانها:

الأوّل: في الفرق بين الاُصول والأمارات:

للأمارات جهة كاشفيّة وحكاية ما عن الواقع، وأمّا الاُصول العمليّة: فهي مجرّد وظيفة للجاهل في ظرف الشكّ، وهي على قسمين؛ لأنّه: إمّا أن لا يكون لها جهة كشف وحكاية، كما في قاعدة الطهارة والحلّيّة والبراءة ونحوها، أو يكون لها، ولكن لم يعتبرها الشارع، كما في الاستصحاب.

وبعبارة ثانية: فإنّ كلاً من الأمارات والاُصول وإن كان يصدق عليه أنّه وظيفة مقرّرة للجاهل في ظرف الشكّ، إلّا أنّ الجهل والشكّ قد أخذ في لسان دليل الاُصول، ولم يؤخذ في لسان دليل الأمارات.

ولا يخفى: أنّ الحكم الظاهريّ واقع في طول الحكم الواقعيّ الثابت

ص: 261

بالدليل، علميّاً كان هذا الدليل أو ظنيّاً؛ بداهة أنّ موضوع الحكم الظاهريّ هو الشكّ بالواقع، فهو متأخّر عن الواقع، تأخّر كلّ متعلِّقٍ عن متعلَّقه.

الأمر الثاني:

أنّ الشكّ في موارد الاُصول قد أخذ قيداً في اعتبارها، فلو قامت حجّة على الواقع فلا يعود للأصل أثر؛ لانتفاء الشكّ وليس الأمر كذلك في الأمارات؛ لأنّ الشكّ علّة للجعل، وليس علّة للمجعول حدوثاً وبقاءً، فظهر: أنّ الأمارات حجّة حتى في صورة إمكان تحصيل العلم بالواقع.

الأمر الثالث:

أنّ المراد بالحكم الظاهريّ - في حقيقة الأمر - هو ظاهر الحكم، أي: الحكم الثابت في فرض الشكّ في الواقع، ويكون بعنوان تعيين الوظيفة بالنسبة إلى الواقع المشكوك.

الأمر الرابع:

أنّ موارد الاُصول العمليّة هو ما إذا كان الشكّ ثابتاً ومستقرّاً، ولا يحصل ذلك إلّا بعد الفحص عن الحجّة واليأس منها، من غير فرق بين ما إذا كان منشأ حصول الجهل بالواقع هو فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه، فالمرجع في الجميع بعد الفحص وعدم وجود الحجّة هو البراءة؛ فإنّه لما كانت الأمارات حاكمةً على الاُصول، فلا يكون العمل

ص: 262

بالأصل في مورد الشكّ ممكناً ما دام وجود الأمارة محتملاً.

نعم، يمكن ذلك في صورة الفحص واليأس من وجود الأمارة، من غير فرق بين أن تكون الشبهة حكميّة أو لا، وجوبيّة أو تحريميّة، نفسيّة أو غيريّة.

الأمر الخامس:

اعلم أنّ متعلّق الشكّ قد يكون حكماً وقد يكون موضوعاً، والحكم قد يكون كلّيّاً وقد يكون جزئيّاً. وما هو مدار البحث إنّما هو الحكم الكلّيّ، وليس البحث عن الحكم الجزئيّ والموضوع الخارجيّ إلّا استطراداً خارجاً عن حقيقة علم الاُصول؛ لأنّ الاُصول إنّما تتكفّل الكلّيّات.

الأمر السادس:

قد نسب المحقّق النائيني! إلى الشيخ! بأنّ ظاهر كلامه في المقام وفي مبحث التعادل والتراجيح هو أنّ الوجه في التنافي بين الأمارات والاُصول العمليّة هو نفسه الوجه في التنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وأنّ ما هو المناط في الجمع بين الأمارات والاُصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ.

ثمّ استشكل! عليه بما هذا لفظه:

«والتحقيق: أنّ التنافي بين الأمارات والاُصول غير التنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمعبين هذين، فإنّ

ص: 263

التنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ إنّما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة و الوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكيّة والخطابيّة المتقدّمة، وقد تقدّم طريق الجمع بينهما، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والاُصول؟ فإنّه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشكّ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلّا الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى» (1).

ولم يرتضه المحقّق العراقي! فقال:

«أقول: ما هو صريح كلمات شيخنا العلّامة! في المقام وفي باب التعادل والتراجيح هو أنّ مفاد الاُصول حكم ثابت في ظرف الشكّ بالحكم الواقعيّ ومفاد الأمارة نفس الحكم الواقعي، فقهراً يكون مفاد الاُصول بحسب الرتبة متأخّرة عن مفاد الأمارة، ولازم هذا التأخر: أنّه لو فرض قيام دليل على الأمارة كان رافعاً لموضوع الأصل إن كان علميّاً وجدانياً، وإلّا كان حاكماً عليه.

ومن هذا البيان ظهر: أنّه! ما التزم بالتنافي بين مفاد الأصل ومفاد نفس الأمارة وبين حكم الواقعيّ والظاهريّ من جهة اختلاف الرتبة، وأنّ هذا الاختلاف يوجب الحكومة أو الورود بين دليليهما، فجعل وجه

ص: 264


1- فوائد الاُصول 3: 326.

الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ نفس اختلاف الرتبة، ووجه الجمع بين دليليهما حكومة أحدهما على الآخر بلا اشتراك بين المقامين في وجه الجمع وتناف بين المدلولين بنفسهما مع قطع النظر عن دليليهما» (1).والحقّ: أنّ نظر الشيخ الأعظم! إنّما هو إلى عدم التنافي بين الدليلين، لا إلى التنافي بينهما وبين الحكم الظاهريّ والواقعيّ حتى يقال: إنّ الحكم في باب الأمارة مجعول فيضادّ الوظيفة المجعولة لحال الشكّ.

الأمر السابع:

أنّ المراد بالجهل والشكّ اللّذين هما مورد لجريان الاُصول العمليّة: هو أنْ لا تكون هناك حجّة معتبرة، فيكونان شاملين لمورد وجود الظنّ غير المعتبر، فإنّه مماّ تجري فيه الاُصول أيضاً.

الأمر الثامن:

أنّ الاُصول العمليّة منحصرة عندهم في أربعة؛ لأنّها هي المهمّة عندهم، وإلّا، كانت قاعدة الطهارة الجارية عند الشكّ في طهارة الأرنب - مثلاً - مندرجةً في باب الاُصول العمليّة؛ لأنّها ممّا يستنبط منها حكم شرعيّ، ولكنّهم - كما يبدو لمن لاحظ - لم يتعرّضوا لها في هذا الباب، وذلك لأمرين ذكرهما صاحب الكفاية!:

ص: 265


1- فوائد الاُصول 3: 326, 327, هامش رقم 1.

الأوّل: أنّ محلّ الخلاف بين الأصحاب منحصر في تلك الأربعة، ولذا احتاجوا إلى تنقيح مجاريها، وأطالوا الكلام في النقض والإبرام فيها؛ وهذا بخلاف قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة فإنّه لا خلاف في جريانها، فلا تحتاج إلى مزيد بحث.

والثاني: أنّ الاُصول الأربعة - أعني: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب - اُصول عامّة جاءت في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات، وأمّا قاعدة الطهارة فمختصّة ببعض أبوابها (1).

ص: 266


1- انظر: كفاية الاُصول: 337, وإليك نصّ كلامه!: «والمهم منها أربعة, فإنّ مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية, وإن كان مما ينتهى إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته, إلّا أنّ البحث عنها ليس بمهم, حيث إنّها ثابتة بلا كلام, من دون حاجة إلى نقض وإبرام, بخلاف الأربعة, وهي: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب, فإنّها محل الخلاف بين الأصحاب, ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان, هذا مع جريانها في كل الأبواب, واختصاص تلك القاعدة ببعضها, فافهم».

في البراءة

ولا يخفى: انحصار البحث فيها في الشبهة الوجوبيّة والتحريمية، دون الاستحبابيّة والكراهيّة.

قال الشيخ!: «وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام، أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به، ولو فرض شموله للمستحبّ والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام، فلا حاجة إلى تعميم العنوان» (1).

والحاصل: أنّه إذا شكّ في كون التكليف واجباً أو حراماً ولم يقم دليل على خصوص أحدهما لأجل فقدان النصّ، وقع النزاع - حينئذٍ - بين الاُصوليّين والأخباريّين - كما سيأتي في البحث عن الشبهة التحريميّة - فاختار الاُصوليّون البراءة، فيما ذهب الأخباريّون إلى القول بالاحتياط.

ص: 267


1- فوائد الاُصول 3: 326.

هذا، ولا يذهب عليك أنّ النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في الشبهات التحريميّة الحكميّة نزاع صغرويّ، وليس كبرويّاً؛ لاتّفاقهما جميعاً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ هي من الفطريّات العقلائيّة، غاية ما في الأمر: أنّ الأخباريّين يدّعون صلاحيّة أخبار الاحتياط للبيانيّة، فيما يثبت الاُصوليّون عدم الصلاحيّة، فيعود النزاع صغرويّاً.ثمّ إنّ للشبهة الوجوبيّة والتحريميّة أقساماً ثمانية، أشار إليها الشيخ ! بما هذا لفظه:

«ثمّ إنّ متعلّق التكليف المشكوك: إمّا أن يكون فعلاً كليّاً متعلّقاً للحكم الشرعيّ الكلّي، كشرب التتن المشكوك في حرمته، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه. وإمّا أن يكون فعلاً جزئيّاً متعلّقاً للحكم الجزئيّ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمراً.

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني: اشتباه الأمور الخارجيّة. ومنشؤه في الأوّل: إمّا أن يكون عدم النصّ في المسألة، كمسألة شرب التتن، وإمّا أن يكون إجمال النصّ، كدوران الأمر في قوله تعالى: (حتى يطهرْنَ) (1) بين التشديد والتخفيف مثلاً. وإمّا أن يكون تعارض النصّين، ومنه الآية المذكورة بناءً على تواتر القراءات.

ص: 268


1- البقرة: الآية 222.

إلى أن قال: فالمطلب الأول فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب - يعني به الشبهة التحريميّة - وقد عرفت أنّ متعلّق الشكّ تارة: الواقعة الكلّيّة كشرب التتن، ومنشأ الشك فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه، واُخرى: الواقعة الجزئيّة. فهنا أربع مسائل» (1).

ولم يعقد صاحب الكفاية! للبراءة سوى مسألة واحدة جمع فيها بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، ولم يشر إلى الشبهة الموضوعيّة أصلاً، فقال!:«وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا مساس لها بالمسائل الاُصوليّة، بل فقهيّة، فلا وجه لبيان حكمها في الاُصول إلّا استطراداً، فلا تغفل» (2).

وإذا قد عرفت هذا، فاعلم أنّه قد استدلّ للبراءة بالأدلّة الأربعة:

فأمّا الكتاب: فبآيات:

منها:

قوله تعالى: ﴿وَمَا كُ-نَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَ-بْعَثَ رَسُولاً﴾ (3)؛ فإنّ المراد من بعث الرسول إمّا قيام الحجّة، فلا عذاب قبلها، أو بيان التكاليف وانجلاؤها للمكلّف.

ص: 269


1- فرائد الاُصول 2: 18 - 19.
2- كفاية الاُصول: ص 338, هامش رقم 1.
3- الإسراء: الآية 15.

وإنّما اُريد البيان من بعث الرسول لكونه يحصل بسببه غالباً، كما يكون دخول الوقت بأذان الموذّن.

وهذا البيان: قد يكون بالعقل؛ لأنّه الرسول الباطن، وقد يكون بالنقل، والمراد به البيان النقليّ الذي يأتي به الرسول الظاهر.

ولا يخفى: عدم كفاية إرسال الرسول وبعثه في استحقاق العقاب، بل لابدّ أن يكون له طريقيّة في إيصال الأحكام وتبليغها، فلو لم يبلّغها أو بلّغ بعضها دون بعض، أو بلّغ بعض الناس دون بعض، لم يحسن العقاب بالنسبة إلى البعض الذي لم يبلغ، وكذا لو بلّغ جميع الأحكام في عصره إلى جميع الناس فانقطع الوصول في الأعصار المتأخرة، فلا يجوز عقابهم؛ لأنّ العقاب والعذاب إنّما يكون بالنسبة إلى التكليف الواصل والفرض عدمه.فظهر: أنّه إنّما يجوز تعذيب الجميع إذا كانت الحجّة تامّة بالنسبة إليهم على السواء، وأنّ التعذيب مع عدم البيان وإتمام الحجّة منافٍ لمقامه الشامخ. وهو أجلّ من أن يرتكب مثل هذا الأمر، وليس معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا ك---ُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ إلّا هذا، أي: ليس من ديدننا ذلك؛ لأنّه خلاف العدل ومناف للرأفة والعطف.

وكيف كان، فقد استشكل على دلالة الآية على البراءة من وجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم!، وهذا نصّه:

«وفيه: أنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فيختص

ص: 270

بالعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة» (1).

وإذا لم تكن الآية في مقام بيان نفي العذاب الاُخرويّ، فلا تصلح دليلاً على البراءة.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية!، وحاصله:

أنّه قد استدلّ الأخباريّون بالآية الشريفة لنفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، بدعوى: أنّ ما حكم به العقل قبل بعث الرسول مثل وجوب قضاء الدين وردّ الوديعة وحرمة الظلم ونحو ذلك، لو كان الشرع يحكم به - أيضاً - لكان عذاب قبل بعث الرسول، وحيث لا عذاب قبل البعث فلا حكم للشارع قبله، فيثبت - حينئذٍ - التفكيك بين حكم العقل وحكم الشارع في الخارج (2).

وردّه الاُصوليّون: بأنّ الاستدلال المزبور إنّما يتمّ فيما إذا كانت الآية مسوقة لنفي استحقاق العقاب قبل البعث؛ فإنّه - حينئذٍ - يستكشف به عدم حكم الشرع قبله؛ وليس كذلك، بل هي مسوقة لنفي فعليّة التعذيب، وهو أعمّ من نفي الاستحقاق، ولعلّهم كانوا مستحقّين له فلم يعذّبهم

ص: 271


1- فرائد الاُصول 2: 23.
2- انظر: كفاية الاُصول: 339, وإليك نصّ كلامه!: «ولو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية, لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً, مع وضوح منعه؛ ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه, وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه, فافهم».

تعالى منّةً منه عليهم، فإذا كانوا مستحقّين له كفى ذلك في ثبوت حكم الشرع على طبق ما حكم به العقل.

والتحقيق: أنّ من أمعن النظر في الآية الكريمة لم يَرْتب في أنّ المراد منها نفي الاستحقاق، وأنّها جارية على طبق السنّة للقطع بعدم الفرق بين الاُمم السابقة واللّاحقة بحكم العقل، ومناسبة الحكم والموضوع قاضية بأنّ التعذيب قبل البيان ممّا لم ولن يقع.

وذهب المحقّق العراقي!: إلى أنّه لا ظهور للآية في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلّم، بل هي ظاهرة في إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول- وقيام الحجّة، فلا عذاب قبلها، فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن اﷲ تعالى وسنّته في باب العذاب، وأنّه ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجّة (1).

وذهب المحقّق النائيني! إلى أنّ الاستدلال بالبراءة متوقّف على نفي الاستحقاق في ارتكاب الشبهة لا على في فعليّة العذاب، أو فقل: الاستدلال بالبراءة متوقّف على أن يكون المراد من نفي العذاب هو نفي الاستحقاق، وهو منافٍ لما ذكره الأخباريّون من عدم الملازمة بين حكم

ص: 272


1- نهاية الأفكار 3: 205, قال! ما لفظه: «وفيه: أنّه مبني على جعل المضي في (وما كنّا معذبين) بلحاظ حال الخطاب, وهو خلاف ظاهر الآية؛ بداهة ظهورها في كونه بلحاظ زمان البعث وإتمام الحجة لا بلحاظ زمان الحال والخطاب كما كان في الاستقبال في بعث الرسول أيضاً بلحاظ العذاب المنفي لا بلحاظ زمان الخطاب».

الشرع وحكم العقل، حيث ذهبوا: إلى أنّ المراد من نفي العذاب هو نفي الفعليّة لا الاستحقاق.

فظهر: أنّ «الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعليّة التعذيب لا استحقاقه» (1).

ثمّ قال!: «وإلى ذلك ينظر كلام المحقّق القمّي! حيث قال: (إنّ من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريّين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين)» (2).ولكن يمكن أن يقال: إنّ النزاع بين الأخباريّين والاُصوليين ليس من جهة استحقاق العقاب وعدمه، بل من جهة المؤمّن في ارتكاب الشبهات وعدمه.

وبعبارة ثانية: لابدّ للقائل بالبراءة وجواز شرب التتن المشتبه حكمه من الاعتماد في تجويزه على مؤمّن شرعيّ أو عقليّ؛ وإلّا لكان في شربه محذور، من غير فرق بين عدم العقوبة الفعليّة أو نفي الاستحقاق.

وعليه: فالاستدلال بالآية على جواز الشرب إنّما كان لرفع العقوبة، كما يستدلّ بحديث الرفع على البراءة، أعني: رفع المؤاخذة لا نفي الاستحقاق. وحينئذٍ: تكون الآية أجنبيّة عن المقام؛ لأنّ البحث عن

ص: 273


1- فوائد الاُصول 3: 334.
2- المصدر نفسه: 335.

الاستحقاق وعدمه خارج عن دائرة نزاع الفريقين، فلا تضادّ.

وأمّا ما يمكن أن يقال: من أنّ لفظة (كنّا) في الآية ظاهرة في الزمان الماضي عن وقت التكلّم، فيكون نظر الآية إلى خصوص العذاب الدنيويّ، ولا ربط لها بالعذاب الاُخرويّ.

فجوابه: ما قد عرفته من عدم اختصاص العذاب الدنيويّ بمن تقوم عليه الحجّة، بل يشمل المؤمن والفاسق والصغير والكبير، فإنّه إذا نزل البلاء عمّ.

نعم، إنّما يكون المراد من العذاب العذاب الاُخرويّ فيما إذا كان معلقاً على قيام الحجّة؛ لأنّ العذاب منوط بها، وأمّا العذاب الدنيويّ فقد يكون لمصالح شخصيّة أو نوعيّة.

ولو فرض أنّ العذاب الحقير الذي لا دوام لمدّته متوقّف على قيام الحجّة، فتوقّف العذاب الجليل عليها حاصل بطريق أولى.

فظهر: أنّ الآية تدل مطلقاً على نفي استحقاق العقاب ومن قيام الحجّة.

ثمّ إن كان المراد من نفي الاستحقاق نفي فعليّة العذاب، فهل تدل على البراءة أم لا؟وجوابه: أنّه - بعد ثبوت الملازمة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق - فالآية - حينئذٍ - تكون دليلاً على رد الأخباريّين القائلين باستحقاق العقاب في ارتكاب الشبهة.

ص: 274

ولكن ناقش فيه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّه لو سلّم، فيكون اعترافاً بأنّه كلّما انتفت الفعليّة انتفى الاستحقاق، فإنّه مع ذلك، لا يصحّ الاستدلال بالآية إلّا جدلاً، ومن باب الإلزام لا من باب الإقناع، فلا يقتنع بها إلّا المستدلّ نفسه بعد وضوح عدم الملازمة عندة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق عقلاً (1).

بل يمكن أن يقال: بمنع الملازمة بين نفي استحقاق العقاب ونفي الفعليّة؛ ضرورة أنّه لو كان هناك ملازمة بين النفيين لحصل الملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، مع وضوح عدمها بينهما، فإنّ مشتبه الحرام، كشرب التتن الذي يحتاط فيه ليس بأعظم من الحرام القطعيّ؛ لإمكان المغفرة، ولأنّ الوعيد بالعقاب فيه قد لا يصبح فعليّاً؛ لإمكان التوبة أو شفاعة الشفعاء،

وإذا لم يكن هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، فلا ملازمة بين منفيّيهما.

وبملاحظة ما ورد من عددٍ من النصوص والأخبار من الأمر بالتوقّف والاحتياط، كما رُوي من قوله(علیه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام

ص: 275


1- كفاية الاُصول: 339, قال!: «ولو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية, لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً, مع وضوح منعه».

في الهلكة» (1)، مع كون تلك الأخبار في مقام بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجّة، يُعلم:

أنّه لا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة؛ لأنّها إنّما تدلّ على انتفاء العذاب والعقاب إذا لم يكن هناك حجّة، وقد عرفت حجّيّة تلك النصوص والروايات، فتكون واردة على الآية.ولعلّه إلى ذلك أشار الشيخ الأعظم! فيما ذكره من أنّ هذه الآيات تكون مورداً لدليل الاحتياط لو تمّ، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل (2).

ومن الآيات:

قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا مَا آت-َاهَا﴾ (3).

والحاصل: أنّه لا يخلو:

إمّا أن يكون المراد من كلمة (ما): إمّا خصوص المال بقرينة قوله

ص: 276


1- وسائل الشيعة 27: 119, الباب 9 من أبواب صفات القاضي, ح 35.
2- فرائد الاُصول 2: 25, وهذا نصّ كلامه!: «ويرد على الكلّ: أنّ غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعاً, فلا ينافي ورود الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم, ومعلومٌ أنّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلّا عن دليل علميّ, وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل, بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه, كما لا يخفى».
3- الطلاق: الآية 7.

تعالى في صدر الآية: ﴿ل--ِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾، فتكون الآية خارجة عن محلّ الاستدلال؛ لأنّ معناها - حينئذٍ - أنّه لا يكلّف نفساً إلّا إنفاق ما أعطاه من المال.

أو: مطلق الفعل، فيكون المعنى: إنّ اﷲ لا يكلّف اﷲ نفساً إلّا بالفعل الذي قدّرها عليه وكان ممّا تطيقه، إذ الإنفاق مع التقتير في الرزق من مصاديق ما لم يقدّر اﷲ عبده عليه.

فإذا كان المراد هو مطلق الفعل كما تقدّم، وكان الإيتاء بمعنى إعطاء القدرة، فأيضاً لا تكون الآية شاملة لمورد البراءة؛ لأنّها على هذا التقدير من مصاديق نفي التكليف بغير المقدور.

أو يكون المراد منها: خصوص الحكم الشرعيّ، فيكون الإيتاء حينئذٍ بمعنى الإعلام.

أو أنّ المراد: ما هو أعمّ من الفعل والحكم، فيكون المراد بالإيتاء الإعلام بالنسبة إلى الحكم والإقدار بالنسبة إلى الفعل، فإنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه. فتلك احتمالات أربعة.ولا يخفى: أنّ الآية - على هذين التقديرين الأخيرين - ممّا تقع مورداً للاستدلال بها على ثبوت أصالة البراءة.

وقد يُستشكل على الاحتمال الثالث:

بأنّه يتنافى مع مورد الآية الكريمة؛ لأنّ موردها الإنفاق بما يملك من المال، فلا يمكن الالتزام به.

ص: 277

واستشكل الشيخ! على التقدير الرابع بما حاصله:

أنّ تعلّق الفعل في الآية وهو (يكلّف) بالحكم يختلف عن نحو تعلّقه بالفعل، فإنّ تعلّقه بالحكم والنسبة بينهما نسبة المفعول المطلق، ونسبته إلى الفعل نسبة المفعول به، ولا جامع بين النسبتين، فإرادتهما معاً تستلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، وهو كما ترى (1).

وصححّ المحقّق العراقي! إرادة الجامع للفعل والحكم من الموصول بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ إشكال استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يرد إذا فرض إرادة الخصوصيّات المذكورة من نفس الموصول. وأمّا إذا استعمل الموصول في معناه الكلّيّ العامّ، واُريدت تلك الخصوصيّات من دوال اُخر خارجيّة، فلا يكون هناك محذور؛ لأنّ تعلّق الفعل بالموصول يكون بنحو واحد، والتعدّد إلى نحوين إنّما حصل بالتحليل، وتعدّده كذلك لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول، وعليه: يمكن التمسّك بإطلاق الآية على البراءة؛ لإمكان إرادة الأعم من الموصول.

الوجه الثاني: أنّه ليس المراد من التكليف في الآية الشريفة هو المعنى الاصطلاحيّ، وهو الحكم لكي يلزم منه كون نسبته إلى الحكم نسبة

ص: 278


1- فرائد الاُصول 2: 22. قال!: «وإرادةُ الأعم منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين, إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه, فافهم».

المفعول المطلق؛ لأنّه لو كان كذلك للزم اختصاص الأحكام الواقعيّة بالعالمين بها؛ لتكفّل الآية نفي التكليف واقعاً في حقّ الجاهل،وهو مما لا يمكن الالتزام به؛ بل المراد بالتكليف معناه اللغوي، وهو الكلفة والمشقّة، وحينئذٍ: يكون تعلّقه بالموصول بمعناه الجامع بنسبة المفعول به أو المفعول منه.

والمعنى على الأوّل: أنّه تعالى لا يوقع عباده في كلفة حكم أو فعل إلّا الحكم والفعل الذي آتاه المكلّف.

وعلى الثاني: أنّه تعالى لا يوقع عباده في كلفة إلّا من قبل حكم أو فعل آتاه إياهم.

وإذا كانت نسبة الفعل والحكم إلى الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العامّ منه واستفادة الخصوصيّات من دوالّ خارجيّة اُخرى، لم يكن مانع من التمسّك بإطلاق الآية لاستفادة البراءة منها.

وهذا الاستدلال - مع ذلك - لا يخلو عن إشكالات ثلاثة:

الأوّل: أنّ القدر المتيقّن بقرينة السياق هو المال، وهو مانع من التمسّك بإطلاق الموصول.

الثاني: أنّ مفاد الآية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ أدلّة الاحتياط بيان، فتنفي الكلفة من قبل التكليف مع عدم وصوله، فأدلّة الاحتياط على تقدير تماميّتها واردة عليها؛ لأنّها تفيد إيجاب الاحتياط فيكون واصلاً.

ص: 279

وإن شئت فقل: الاحتياط حجّة على الواقع بمقتضى دليله، فيرتفع به موضوع الآية، ولا يضر الأخباريّ التمسّك بالآية.

الثالث: أنّ الإيتاء لمّا كان منسوباً إليه عزّ وجل، فهو عن عبارة عن إعلامه بالتكليف بالسبب العادي المتعارف، أي: إعلامه بطريق الوحي إلى الأنبياء وأمرهم بتبليغ الحكم، فما لم يعلمه يكون عبارة عمّا لم يبلّغه لأنبيائه، أو هو عبارة عمّا أمرهم عدم تبليغهم. فمفاد الآية هو مفاد قوله(علیه السلام):

«إنّ اﷲ سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً، فلا تتكلفوها رحمةً من اﷲ لكم» (1).فلو فرض تماميّة تلك الإشكالات لم يكن للآية ربط بما نحن فيه ممّا لم يصل الينا من جهة خفائه من قبل الظالمين أو بسببهم (2)، لولا أنّ في كلامه موارد للإشكال.

والعمدة في عدم إمكان التمسّك بالآية في المقام إنّما هو نفس سياقها؛ لظهور قوله تعالى في صدر الآية: ﴿فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله﴾، في أنّ المراد من الموصول هو خصوص المال.

وأمّا إرادة الحكم من الموصول فمتوقّفة على أن يكون الإيتاء بمعنى الإعلام، وهو خلاف الظاهر؛ لبداهة ظهور الإيتاء في معنى الإعطاء،

ص: 280


1- نهج البلاغة: قصار الحكم: 105.
2- انظر: نهاية الأفكار 3: 202.

فالآية أجنبيّة عن مورد البراءة.

وقد استدلّ للبراءة بآيات اُخرى، لا تخلو كلّها عن قصور في الدلالة، وقد ذكرها الشيخ الأعظم! الواحدة تلو الاُخرى.

وأمّا الاستدلال على البراءة بالسنّة:

فبأخبار:

منها :حديث الرفع:

وهو رواية حريز بن عبد اﷲ عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:

«قال رسول اﷲ-: رفع عن اُمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة» (1).

والكلام فيه في اُمور:الأوّل: في سنده، قال المحقّق النائيني!:

«واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغني عن التكلّم في سنده، مع أنّه من الصحاح» (2).

فالمهمّ - إذاً - هو بيان دلالته وما يستفاد منه.

ص: 281


1- وسائل الشيعة 15: 369, الباب 56 من أبواب جهاد النفس, ح 1.
2- فوائد الاُصول 3: 336.

الثاني: في بيان معنى الرفع والدفع، والقول بتغايرهما أو اتحادهما في المعنى.

والحاصل: أنّ الرفع خلاف الوضع؛ فإنّ الرفع هو ما يمنع من المقتضي في مرحلة البقاء كقوله(علیه السلام): «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» (1)، وذلك لعدم وجود المقتضي. والدفع ما يمنع من المقتضي في مرحلة الوجود.

واختار المحقّق النائيني! اتّحادهما في الحقيقة، وأنّ الرفع دفع؛ لأنّه يمنع من تأثير المقتضي في الزمان اللّاحق؛ فإنّ بقاء الشيء - كحدوثه - محتاج إلى علّة.

إلى أن قال!: «وممّا ذكرنا من معنى الرفع والدفع يظهر: أنّه لا مانع من جعل الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع في جميع الأشياء التسعة المرفوعة؛ ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة، ولا في الإسناد.

أمّا عدم المجازيّة في الإسناد: فلما سيأتي من أنّ إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار.

وأمّا في الكلمة: فلمّا عرفت من أنّ حقيقة الرفع هي الدفع، فيكون من رفع التسعة دفع المقتضي عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة» (2).

ص: 282


1- وسائل الشيعة 1: 45.
2- فوائد الاُصول 3: 337.

والتحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق:أنّ مفهوم الرفع مغاير لمفهوم الدفع؛ لما ذكرنا من عدم استعمال أحدهما مكان الآخر.

نعم، هو بمعناه في الحدث؛ إذ من المعلوم عدم وضع الأحكام في هذه الموارد، لا أنّها وضعت ثمّ ارتفعت.

الثالث: لا يخفى: أنّ الحديث لمّا كان في مقام الامتنان على الاُمّة، فهو كلّيّ، ومقتضى كلّيّته وعمومه: شموله لكلّ ما أمكن رفعه في الشريعة؛ لأنّ الشريعة سهلة سمحاء، والباري عزّ وجل في مقام التسهيل على الاُمّة.

من غير فرق في ذلك بين أن يكون الحكم تكليفيّاً أو وضعيّاً، نفسيّاً أو غيريّاً، تأسيسيّاً أو إمضائيّاً، وسواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة. وغير ذلك من الموارد، فيرفع كلّ أثر شرعيّ من الإلزام والصحّة والجزئيّة والشرطيّة والسببيّة والقضاء والإعادة، إلّا ما خرج بالدليل.

وعليه: فما ذكر من أنّ المراد من الموصول بقرينة الأخوات وسائر الفقرات هو خصوص فعل المكلّف غير المعلوم، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب خمر: في غير محلّه، بل المراد منه ما يشمل كلا الموردين.

ومن هنا يظهر الوجه في ما اختاره صاحب الكفاية! من كون المراد من الموصول خصوص الحكم المجهول، سواءً كان من الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة، كما يفهم ذلك من قوله!:

ص: 283

«ثمّ لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعيّة في (ما لا يعلمون)، فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقاً كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً...» (1).

وليس المراد من الرفع هو الرفع التكويني حتى يكون منافياً للتحقّق الخارجي في بعض الفقرات، بل المراد: الرفع التشريعيّ التنزيلي، وهو لا ينافي بقاء الرفع التكويني، كما أنّ وجود الضرر خارجاً لا ينافيانتفاءه تشريعاً، كما في قوله: «لا شك في النافلة»، «ولا شكّ لكثير الشكّ»؛ فإنّ نفيه بلحاظ الآثار الشرعيّة أو العقاب.

فما قد يُستشكل من أنّ ظاهر الأخبار نفي وجود ما هو موجود في الخارج بالضرورة.

مدفوع بأنّ ضرورة صون كلام الحكيم عن اللّغوية تقتضي أن يكون في الحديث تقدير، وأنّ هذا التقدير هو المؤاخذة.

ولكنّ تقدير المؤاخذة إنّما يصح في (ما لا يطاق) و(ما اضطرّوا إليه) و(ما أُكرِهوا عليه).

وأمّا (ما لا يعلم): فإن اُريد منه الشبهة الموضوعيّة والمجهول من ناحية المصداق، صحّ تقديرها فيه كذلك، وأمّا إن أريد منه الأعمّ أو نفس الحكم المجهول، فتقدير المؤاخذة فيه يحتاج إلى عناية.

ص: 284


1- كفاية الاُصول: 340.

فانقدح: أنّه إنّما كانت دلالة الاقتضاء مقتضية للتقدير؛ لأنّ المرفوع في تلك الأخبار كالخطأ والنسيان وغيرهما لمّا كان موجوداً في الخارج بشهادة الحسّ والوجدان، اقتضت ضرورة صون الكلام الحكيم عن اللغوية أن يكون المرفوع غيرها، وهو المقدّر.

الرابع: في بيان ما هو المقدّر.

قيل: هو المؤاخذة والعقاب، وقيل: عموم الآثار، وقيل: ظهور الآثار.

وذهب المحقّق النائيني! إلى عدم الحاجة إلى التقدير، وأنّ «التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّف تصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الكلام إخباراً عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعاً تكوينيّاً، فلابدّ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب.

وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعيّاً: فالكلام صحيح بلا تقدير، فإنّ الرفع التشريعيّ كالنفي التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعيّ بنفس الرفع والنفي، كقوله-:(لا ضرر ولا ضرار)، وكقوله: (لا شكّ لكثير الشكّ) ونحو ذلك ممّا يكون متلواً لنفي أمر ثابت في الخارج» (1).

وفيه: أنّ المراد من الرفع التشريعيّ إن كان هو رفع هذه الاُمور

ص: 285


1- فوائد الاُصول 3: 342 - 343.

حقيقةً، فهو غير معقول. وإن كان هو عدم جعلها في موارد أحكامه، فهو رفع حقيقي، لكن لا مطلقاً، بل في دائرة أحكامه، فهو يناسب مع الأخباريّة.

وحيث إنّا نعلم عدم رفع الشارع هذه الاُمور حقيقة في عالم التشريع، فلا يكون هناك فرق بين الرفع التكوينيّ والتشريعيّ في عدم معقوليّة كليهما.

فظهر: أنّ دعوى: كون الغرض هو إنشاء الحكم وتشريعه لا الإخبار عن الواقع - كما ذكره! - حتى لا يلزم الكذب؛ فاسدة؛ ضرورة أنّ الإخبار بداعي الإنشاء لا يجعله إنشاءً، ولا يسلخه عن الأخباريّة بل هو باقٍ علىها وإن كان الداعي هو البعث والإنشاء.

فما ذكره المحقّق المذكور! من أنّ دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديراً في الكلام، فلا حاجة حينئذٍ للبحث عمّا هو المقدّر؛ غير تام.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) هو الموضوع المشتبه لا الحكم المشتبه المجهول؛ لأنّ المراد من الموصول في (ما أُكرهوا) (وما اضطرّوا إليه) (وما لا يطيقون) هو الفعل الذي أُكرهوا عليه واضطرّوا إليه ولم يطيقوه؛ لأنّ هذه العناوين الثلاثة إنّما تعرض للموضوع الخارجي، ولا تعرض للحكم الشرعيّ، فيكون الحديث فيها مختصاً بالشبهات الموضوعية.

هذا، مضافاً إلى عدم إمكان فرض جامع بين الشبهات الموضوعيّة

ص: 286

والحكميّة، يكون هو المراد من الموصول فيشمل كلتا الشبهتين؛ وذلك لأنّ المرفوع في الشبهة الحكمية هو الحكمالشرعيّ الذي هو متعلّق الجهل في (ما لا يعلمون)، فالموصول الذي تعلّق الجهل به قابل للوضع والرفع الشرعيّين.

أمّا في الشبهات الموضوعيّة: فالذي تعلّق الجهل به أوّلاً وبالذات هو الموضوع الخارجي، وهو غير قابل للرفع والوضع الشرعيّين. ولولا وحدة السياق لقلنا: إنّ الحديث مختص بالشبهات الحكميّة؛ لأنّها هي التي تكون قابلة للرفع شرعاً، غيرأنّها تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة.

وأجاب عنه المحقّق النائيني! بما هذا لفظه:

«فإنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعيّ، وإضافة الرفع في غير (ما لا يعلمون) إلى الأفعال الخارجيّة إنّما هو لأجل أنّ الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنّما يعرض الأفعال، لا الأحكام، وإلّا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعيّ، كما أنّ المرفوع في (ما لا يعلمون) أيضاً هو الحكم الشرعيّ، وهو المراد من الموصول والجامع بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

ومجرّد اختلاف منشأ الجهل - وأنّه في الشبهات الحكميّة إنّما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصّين، وفي الشبهات الموضوعيّة يكون المنشأ اختلاطَ الأمور الخارجيّة - لا يقتضي الاختلاف فيما اُسند الرفع إليه،

ص: 287

فإنّ الرفع قد اُسند إلى عنوان (ما لا يعلم)، ولمكان أنّ الرفع التشريعي لابدّ وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعيّ، فالمرفوع إنّما يكون هو الحكم الشرعيّ، سواء في ذلك الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، فكما أنّ قوله (علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) يعمّ كلا الشبهتين بجامع واحد، كذلك قوله-: (رفع عن اُمتي تسعة أشياء)» (1).

وأمّا ما استشكل في المقام من أنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد حقيقي؛ لأنّه إسناد إلى ما هو له، وإسناده إلى الموضوع مجازيّ؛ لأنّهإسناد إلى غير ما هو له؛ لأنّ المرفوع حقيقة هو الحكم لا الموضوع، فإرادة الأعم منهما من الموصول تستلزم استعمال النسبة الكلاميّة الواحدة في نسبتين مختلفتين، وهو ممنوع؛ لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى مع عدم إمكان فرض جامع بينهما؛

فجوابه: أنّ الإسناد حقيقيّ في كليهما؛ لأنّ كون الرفع إنّما هو بملاحظة ما يمكن رفعه، وهو الحكم الشرعيّ، أي: الرفع التشريعيّ لا التكوينيّ، فإرادة الجامع لا تستلزم تعدّد النسبة بل في الواقع لا يكون هناك إلّا نسبة واحدة.

وإذ قد عرفت أنّ المراد من المرفوع هو الحكم، من غير فرق بين كونه كلّياً أو جزئيّاً، ومن غير فرق بين كون الجهل ناشئاً من جهة إجمال النص

ص: 288


1- فوائد الاُصول 3: 345.

أو عدمه أو تعارض النصّين أو من الاُمور الخارجيّة؛ فهو حينئذٍ: لا شكّ يشمل كلا الشبهتين: الحكمية والموضوعية، كما هو مختار صاحب الكفاية!.

فإن قلت: حمل الموصول على خصوص الحكم في (ما لا يعلمون ينافي وحدة السياق).

قلت: وحدة السياق إنّما تلزم إذا أمكنت، فإن لم تكن ممكنة كما في (ما لا يعلمون) حيث لا يمكن حمل الموصول على الموضوع؛ لأنّه لا يعرض عليه الجهل بنفسه، كان لابدّ من حمله على الحكم خاصة.

وكذلك الاضطرار، فإنّه لمّا لم يكن يعرض إلّا للموضوع، كان لابدّ من حمل الموصول فيه على الموضوع خاصة.

الخامس: لا يخفى: أنّ الأحكام الواقعيّة مقتضيات محضة، ووصولها إلى مرتبة الفعليّة يحتاج إلى اجتماع الشرائط وفقد الموانع، وحديث الرفع كسائر القواعد في طول الأحكام الواقعيّة ومتقدّم عليها، فإن كان بمنزلة فقد الشرط بالنسبة إلى الأدلّة الواقعيّة أو فقد المانع من فعليّة الأحكام الواقعيّة، كان تقدّمه عليها تقدّم حكومة أو ورود من غير أن يلزم النسخ أو التصويب.أمّا النسخ؛ فلأنّه عبارة عن زوال مدّة التشريع، وحديث الرفع يبيّن قيد الحكم المشروع في مرتبته الفعليّة، لا أنّه تزول مدّته، فلا ربط له بالنسخ.

ص: 289

وأمّا التصويب؛ فلأنّه عبارة عن حدوث الحكم والمصلحة بتمام مراتبه، وليس مقامنا من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ الواقع متحقّق اقتضاءً ومصلحةً، نعم الجهل بالحكم يمنع الفعليّة وسقوط الآثار عن المؤاخذة وغيرها.

السادس: أنّ حديث الرفع يرفع الحكم ظاهراً في مورد يكون وضعه بيده، ففي المقام: الحكم موضوع برفع وجوب الاحتياط؛ بداهة أنّ وضعه في مرحلة الحكم الظاهريّ إنّما يكون بجعل الاحتياط. أمّا الحديث: فلا يشمل موارد العلم الإجماليّ؛ لأنّ ثبوته ليس بيد الشارع، والحديث إنّما يرفع ما يكون ثبوته بيد الشارع، فهو منصرف إلى موارد يكون وضعه ومنعه بيد الشارع.

وأمّا في موارد العلم الإجماليّ حيث يكون الحكم الواقعي فيها منجّزاً بالفعل أو غير منحصر بالشارع، فعلى فرض شموله لمورد العلم الإجماليّ لم يفد في نفي وجوب الاحتياط؛ لأنّ غاية مدلول الحديث هو أنّ الشارع لم يجعل الاحتياط في مورد العلم الإجمالي، ولكنّه لا ينافي تنجيز الواقع بطريق آخر وهو العقل.

ولذا: لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأقل والأكثر، يشكل حينئذٍ جريان البراءة الشرعيّة فيه كما ذهب إليه صاحب الكفاية!؛ لأنّ حديث الرفع: إمّا قاصر، فلا يشمل المورد، أو يشمله، فلا ينافي شمول

ص: 290

المورد الاحتياط العقليّ الذي هو ثابت في مورد العلم الاجمالي (1).

السابع: قد عرفت أنّ الحديث يرفع ما في رفعه منّة على العباد، ولا يرفع ما يكون رفعه مستوجباً للصدق. وكذا عرفت أنّ الحديثيوقع الأثر الذي يكون ووضعه ورفعه بيد الشارع، فلا يكون الأثر العقليّ مشمولاً له.

فاعلم أنّ الأثر الذي يرفعه الحديث إنّما هو الأثر المترتّب على الموضوع من دون طرو العناوين المذكورة والموجودة فيه، بأن لا يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ أو النسيان مثلاً، وإلّا لم يكن مرفوعاً بحديث الرفع، فإذا أخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من العناوين الخمسة، فلا يشمل ذلك الأثر مشمولاً لحديث الرفع.

الثامن: قال المحقّق النائيني!:

«الأحكام المترتبة على أفعال العباد، إمّا أن تكون وضعية - كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك - وإمّا أن تكون تكليفية؛ وهي إمّا أن تكون مترتّبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر. وإمّا أن تكون مترتّبة عليه بلحاظ مطلق

ص: 291


1- كفاية الاُصول: 363, قال!: «والحق أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر, لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلا».

الوجود بحيث كلّما وجد الفعل كان الأثر مترتّباً عليه.

ثمّ إنّ معروض الحكم والأثر، إمّا أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أنّ الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إنّ خطاب (لا تشرب) متوجّه إلى شخص الشارب، وإمّا أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علّة لتوجّه حكم إلى غير الفاعل، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر، حيث إنّ شرب الخمر من شخص يكون علّة لتوجّه خطاب (إقامة الحد) إلى الحاكم المقيم للحدّ» (1).

فتارةً: يكون المجهول هو الحكم التكليفيّ الاستقلاليّ كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.وأُخرى: يكون الجهل متعلّقاً بالحكم الضمنيّ كالشك في وجوب السورة في الصلاة. ويصطلح على مثل هذه الموارد بموارد الأقل والأكثر.

أمّا إذا كان الجهل جهلاً بالحكم الاستقلاليّ، فهو المتيقّن من حديث الرفع، ولا شبهة في شموله له، وإنّما الكلام في شمول الحديث للشكّ الضمنيّ، وهو الأقل، وسيأتي الكلام فيه في محلّه.

أمّا الأحكام الوضعيّة: فتارة تكون في غير المعاملات كالنجاسات والطهارات، واُخرى تكون في المعاملات.

ص: 292


1- فوائد الاُصول: 3: 351 - 352.

أمّا الطهارة والنجاسة: فليستا من الاُمور الموضوعيّة بل هي اُمور واقعيّة تكوينيّة، وإذا لم يكن وضعهما بيد الشارع لم يمكن رفعهما من قبله، فليسا قابلين للوضع والرفع التشريعي؛ لأنّ الرفع فيهما لابدّ أن يكون من قبيل الوضع فيهما، فكل ما يمكن وضعه يمكن رفعه، وبما أنّهما من الاُمور التكوينيّة فتدور مدار وجودها التكويني فمتى تحقّقت وجدت، فلا تقبل الرفع التشريعيّ، لأنّ رفعها لابدّ أن يكون من سنخ وضعها.

ولا يخفى: أنّ لازم كونهما من الاُمور التكوينيّة عدم وجوب الجنابة وعدم وجوب التطهير منها فيما لو أكره عليها.

ولكنّ الجنابة المكره عليها وإن لم تكن قابلةً للرفع التشريعيّ، إلّا أنّها باعتبار ما لها من الأثر - وهو الغسل - قابلة للرفع؛ فإنّ الجنابة والنجاسة حيث كانا أمرين وجوديّين قد أمر الشارع بهما، فلا فرق بين حصولهما باختيار أو بغير اختيار.

وأمّا الأحكام الوضعيّة التي تكون في باب المعاملات، وهي الاُمور الاعتباريّة التي لها حقيقة في وعائها، ولكن ليس لها ما بحذائها في وعاء الخارج شيء، فهل هي قابلة للرفع أم لا؟

فالحاصل: أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين: عقود وإيقاعات.

أمّا العقود: كالبيع، فلا يشملها رفع الإكراه والاضطرار؛ لما عرفت من أنّ الرفع يقع في مكان قابل للوضع، وهو إنّما يكون في محلّ فيهنقل، ولا نقل في الحكم الوضعيّ، مثل صحّة البيع إذا لوحظ بذاته؛ لأنّ

ص: 293

المكلّف قد يرغب في تحقيقه بطرق شتّى.

ثمّ إنّ هذا الحديث قد ورد في مقام الامتنان على المكلّفين، فهو متوجّه إلى عامّة المكلّفين، مع أنّ الخطاب يكون لمكلّف خاص، فإنّما يجوز ارتفاع العقود بالاضطرار والإكراه مثلاً فيما لو كانت مجعولة على مضطرّ أو مكره خاصّين، وليس الجعل فيها كذلك.

أضف إلى ذلك: أنّ رفع الصحّة للبيع بالنسبة إلى المضطرّ خلاف الامتنان، مع أنّ الحديث - كما عرفت - وارد في مقام الامتنان.

وكذلك، فإنّ شمول الإكراه للمعاملات الماليّة كالبيع ونحوه مستلزم لتحصيل الحاصل؛ ضرورة أنّ الصحّة فيها مقيّدة بصورة عدم الإكراه، بأن يكون حصول المعاملة عن رضا وطيب نفس، فتكون الصحّة منتفية حتى ترفع بحديث الرفع.

وهذا الحكم جارٍ - أيضاً - بالنسبة إلى المعاملات الإيقاعيّة، فلا يشملها حديث الرفع.

وهل يشمل الحديث الترك أيضاً؟

ذهب المحقّق النائيني! إلى عدم شموله لمورد الترك، حيث قال!:

«وإن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل: ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال. مثلاً: لو نذر أن يشرب من ماء دجلة، فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصّة

ص: 294

بصورة تعمّد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة والتفات؛ فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً، والمفروض أنّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً وجعله كالشرب، حتّى يقال: إنّه لم يتحقّق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة.والحاصل: أنّه فرق بين الوضع والرفع، فإنّ الوضع يتوجّه على المعدوم فيجعله موجوداً ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع، والرفع يتوجّه على الموجود فيجعله معدوماً ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع» (1).

وخلاصة ما أفاده!: أنّ الحديث في مقام التنزيل؛ لأنّ الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم، فلو كان شاملاً للترك، لكان معناه: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهذا في الحقيقة وضع وليس رفعاً.

وعليه: فلو كان هناك عبادة فاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لإكراهٍ أو نسيان، فلا يمكن تصحيح تلك العبادة وجعلها منزلة الكاملة، وكذا بالنسبة إلى الجزء المنسيّ؛ لخلوّها من صفحة الوجود.

ص: 295


1- فوائد الاُصول 3: 352, 353.

ولكنّ هذا الإشكال منه! إنّما يتم فيما لو كان حديث الرفع في مقام التنزيل، وليس كذلك، بل نظره في رفع ما يعرض على هذه العناوين حقيقة من غير فرق بين أن يكون فعلاً أو تركاً.

ولو سلّم كونه في مقام التنزيل، فليس معناه أنّه ينزل المعدوم منزلة الموجود، حتى يرد أنّه وضع وليس رفعاً؛ بل المعنى أنّه ينزّله منزلته في عدم ترتّب أثر المعدوم عليه، لا في ترتّب أثر الموجود.

والكلام نفسه يجري في النسيان، فيتعلّق بالترك كما يتعلّق بالفعل.

وأمّا ما قد يُقال: في تقريب عدم شمول الحديث للجزء من جهة النسيان والاكراه من أنّ شموله له خلاف الامتنان؛ لأنّ جريانه يقتضي الكلفة؛ إذ مقتضى اضطراره إلى ترك الجزء هو سقوط الوجوب عن الكلّ؛ لانتفاء المركّب بانتفاء جزئه، فينتفي الكلّ بارتفاع الأمر الضمنيّ المتعلّق بالجزء، ومقتضى رفع جزئيّته في حال الاضطرار بالحديث هو لزوم الإتيان بالباقي؛ لأنّه هو المركب التام في الاضطرار، فيكون حديث الرفع مقتضياً للوضع وهو خلاف الامتنان.ففيه: أنّه غير تامّ بالنسبة إلى الناسي؛ ضرورة أنّه إذا أتى ونسي الجزء فأتى بالمركّب الناقص غير ملتفت إلى نسيانه، فعمله صحيح.

نعم، لو أتى به كذلك، ولكن التفت إليه بعد زوال النسيان، فعدم رفع جزئيّته للجزء المنسي تقتضي الإعادة؛ للإخلال بما أتى به، فلا شبهة في كون شمول الحديث موافقاً للامتنان.

ص: 296

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الجزئيّة غير قابلة للرفع؛ لأنّها ليست مجعولة، نعم، هي باعتبار كونها جزءاً من المركّب، والأمر بالمركّب يترشّح إلى أجزائه، فتكون منتزعة من تعلّق الأمر بالمركّب، فهي - بهذا المعنى - قابلة للوضع والرفع شرعاً، ولكنّ قبولها للرفع إنّما هو بلحاظ رفع منشأ انتزاعها، وهو الأمر المتعلّق بالجزء الذي يكون ضمنيّاً.

ولمّا لم يكن للأمر الضمنيّ استقلال وانفراد عن سائر الأوامر الضمنيّة المتعلّقة بسائر الأجزاء، فلا يمكن رفعه وحده، بل هو لا يرتفع إلّا بارتفاع الأمر بالكلّ، فلا يكون رفع الجزئيّة ممكناً إلّا برفع الأمر بالكلّ؛ إذ لا دليل على ثبوت الأمر بالباقي.

ويمكن أن يُجاب عنه: بأنّ الامر بالجزء وإن كان أمراً ضمنيّاً، ولكنّه استقلاليّ، فلا يكون ارتفاعه مربوطاً بارتفاع بقيّة الأجزاء.

وعليه: فما قد يُذكر من مخالفة الامتنان غير تامّ؛ لأنّ مقتضى الاضطرار إلى ترك الجزء ليس معناه: سقوط الوجوب عن الكلّ بارتفاع الأمر الضمني المتعلّق بالجزء، ومقتضى رفع الجزئيّة هو: كفاية الإتيان بالباقي، ولا حاجة - حينئذٍ - إلى الإعادة بعد رفع الاضطرار أو النسيان؛ لأنّه امتنان.

أمّا صاحب الكفاية! فقد أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله:

أنّ هناك دليلاً على الأمر بالكلّ، ودليلاً يرشد إلى جزئيّة أمرٍ كقوله-:

ص: 297

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (1)، وهذا يشمل بمقتضى إطلاقه جزئيّة الفاتحة في مطلق الأحوال.وأمّا حديث الرفع فهو يتكفّل عدم جزئيّة الفاتحة في حال الاضطرار أو الجهل، فيخصص دليل الجزئيّة، فحاله حال المستثنى المتّصل الدالّ على عدم الجزئيّة في مورد الجهل، فكأنّه ورد الأمر هكذا: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب في حال عدم الجهل، ومعناه: أنّه في مورد الجهل لا أمر هناك، فظهر أنّ الأمر بالباقي ثابت بعد تخصيص دليل الجزئيّة بحديث الرفع (2).

ومنها: حديث الحجب:

عن زكريا بن يحي عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام): «ما حجب اﷲ علمه عن العباد، فهو موضوع عنهم» (3).

وفيه اُمور لابدّ من بيانها:

الأوّل: أنّ المراد بالحجب هل هو ما حجب عن مجموع المكلّفين،

ص: 298


1- عوالي اللّآلي 1: 196، الفصل التاسع، ح2.
2- كفاية الاُصول: ص 367, وإليك نصّ كلامه!: «لا يقال: إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه, وهو الأمر الأول, ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه. لأنّه يقال: نعم, وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه, إلّا أنّ نسبة حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء, وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلّا مع الجهل بها, كما لا يخفى, فتدبّر جيداً».
3- وسائل الشيعة 27: 163, الباب 12 من أبواب صفات القاضي, الحديث: 33.

أو عن كلّ فرد فرد، أو المراد: كلّ علم حجبه اﷲ عن شخص فهو مرفوع عن ذلك الشخص، سواء كان معلوماً لغيره أم لا.

والظاهر من الحديث هو الأخير.

الثاني: أنّ المراد: هو المرفوع ظاهراً، وإن كان ثابتاً في الواقع.

الثالث: اختلفوا في إمكان التمسّك بعموم حديث الحجب وشموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة - فيكون كحديث الرفع - وعدمه.

والحقّ: عدم إمكان الاستدلال بهذا الحديث على جريان الرفع في الشبهات الموضوعية؛ ضرورة أنّ بيان الأفعال غير المعلومة - كالفعلالذي لا يعلم أنّه شرب خمر أو خلّ ليس من شأن المولى -، فلا يصدق عليها أنّها ممّا حجب اﷲ علمه عن العباد وإن لم تكن معلومة.

فالمراد من الموصول - إذاً -: هو خصوص الحكم المجهول الذي من شأن المولى بيانه، كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وعلى هذا: فالحديث مختصّ بالشبهات الحكميّة، دون الموضوعيّة.

وقد استشكل العلّامة الأنصاريّ! على الاستدلال بالحديث بما لفظه:

«وفيه: أنّ الظاهر ممّا حجب اﷲ علمه ما لم يبيّنه للعباد، لا ما بيّنه واختفى عليهم بمعصية مَن عصى اﷲ في كتمان الحق أو ستره؛ فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام): (إنّ اﷲ تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائضَ فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت

ص: 299

عنها نسياناً فلا تتكلّفوها، رحمةً من اﷲ لكم)» (1).

ولكن الحقّ: أنّ معنى الرفع المستفاد من قوله (موضوع عنهم) هو رفع ما هو مجعول بحسب الواقع، لا ما لم يجعل وسكت عنه تعالى من أوّل الأمر.

فليس المراد به: ما لم تعلّقت عنايته بمنع اطّلاع العباد عليه؛ إذ لم يبيّنه لرسله، أو بلّغها إليهم ولكن لم يأمرهم بتبليغها، ولو كان الحجب مساوقاً لقوله(علیه السلام): (وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً)، لما كانت تلك الاُمور المحجوبة موضوعة أصلاً، فلا حاجة إلى البيان.

فظهر: أنّ المراد من الحجب: الحجب الخارج عن اختيار المكلّف، لا المستند إلى تقصيره وعدم فحصه، بل المراد: كلّ حجب لم يكن مستنداً إلى تقصيره، فيشمل ضياع الكتب وطول الزمان وقصور البيان وغير ذلك.فإن قلت: الجهل بالحكم بالنحو الثاني - وهو فيما إذا كان الحكم مبيّناً للناس من قبل اﷲ تعالى ولكنّه خفي عليهم - لم يكن سببه اﷲ تعالى؛ إذ هو أمر بتبليغه وبلّغ، وإنّما نشأ عن إخفاء الظالمين للأحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلّسين وغير ذلك من الأسباب الخارجيّة، بخلاف الجهل بالمعنى الأوّل - وهو فيما لو لم يبيّنه المولى للناس لبعض

ص: 300


1- فرائد الاُصول 2: 41.

المصالح -؛ فإنّه ناشئ من عدم أمر اﷲ تعالى بتبليغه وبيانه.

وعليه: فلا يصح نسبة الحجب إلى اﷲ سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو الثاني، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأوّل، فلابدّ من حمل الحديث على إرادة النحو الأوّل من الأحكام.

قلت: إنّ الأسباب الخارجيّة التي تكون سبباً لخفاء النحو الثاني من الأحكام:

تارةً: لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد، بل من الأسباب التكوينيّة، كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماويّ أو نحو ذلك.

وتارةً أُخرى: تكون من الأفعال الاختياريّة، كوضع الوضّاعين وإتلاف الظالمين لكتب الحقّ.

ولا يخفى: أنّه يصحّ نسبة الحجب إلى اﷲ تعالى إذا كان سبب الخفاء هو العوارض السماويّة ونحوها ممّا لا تتدخل فيها إرادة العباد.

وأمّا إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياريّ للعبد، فتصحّ نسبته إلى اﷲ تعالى - بناءً على ما هو المذهب الحقّ من الالتزام بالأمر بين الأمرين -؛ فإنّ الفعل الصادر من العبد كما تكون له نسبة إلى العبد، فكذلك تكون له نسبة إلى اﷲ سبحانه، فتصحّ - حينئذٍ - نسبة الحجب إلى اﷲ بالمعنى الثاني.

ثمّ ها هنا وجه آخر لعدم شمول حديث الحجب لمحلّ البحث، وحاصله:

ص: 301

أنّه وإن فرض صحّة نسبة الحجب إلىه تعالى، لكنّ الظاهر العرفيّ من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الإخفاءبأمره؛ إذ لا يسند الحجب إليه عرفاً إذا كان الإخفاء على خلاف أمره، بل إذا كان بواسطة الظلم؛ لأنّه يكون محرّماً ومبغوضاً بالنسبة إليه، فيختصّ الحديث - حينئذٍ - بالوجه الأوّل فقط.

ولكن قد عرفت جوابه: وهو أنّ معنى الموضوع في الحديث هو المرفوع، وهو غير ممكن قبل ثبوت الحكم في نفسه في الواقع؛ فإنّ ظاهر الحديث هو أنّه للحكم الذي له تقرّر وثبوت في الواقع، فهو موضوع ومرفوع عنهم، رفقاً بهم، وتسهيلاً عليهم.

فالحكم القابل للرفع - في الحقيقة - هو الحكم الفعليّ المبيّن للعباد وإن خفي عنهم بعد ذلك؛ فإنّ هذا هو الذي يكون قابلاً للرفع الظاهريّ في حال الجهل بجعل الاحتياط.

وأمّا الحكم المختصّ به تعالى، أو غير المختصّ المبيّن من قبله للرسل والأنبياء والأئمة( ولكن من غير أن يأمرهم بتبيينه للناس، لمصلحة اقتضت ذلك، فهذا لمّا لم يكن قابلاً للوضع، فهو أَولى بأن لا يقبل الرفع كذلك. بل لو فرض علم العباد به، فهم لا يكونون مكلّفين بإتيانها، وهذا لا يسمّى حكماً عند العرف.

فانقدح بهذا البيان: أنّه لا مجال للقول بعدم دلالة الحديث على البراءة، بل الظاهر: شموله للشبهة الموضوعيّة أيضاً؛ لإطلاق الحكم.

ص: 302

ومنها: حديث الحلّ:

وهو قوله(علیه السلام): «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة» (1).وقد استدلّ صاحب الكفاية! بهذه الرواية على حليّة ما لم تعلم حرمته مطلقاً: موضوعيّة كانت، وهي التي قد ينشأ الشكّ فيها من اشتباه الاُمور الخارجيّة، أو حكميّة، وهي التي قد ينشأ الشكّ فيها من عدم الدليل أو غيره (2).

واستشكل المحقّق النائيني! في شموله للشبهة الحكميّة، وذلك بملاحظة:

«ظهور كلمة (فيه) و(منه) و(بعينه) في الانقسام والتبعيض الفعلي - أي كون الشيء بالفعل منقسماً إلى الحلال والحرام - بمعنى أن يكون قسم منه حلالاً، وقسم منه حراماً، واشتبه الحلال

ص: 303


1- وسائل الشيعة 17: 89, الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.
2- كفاية الاُصول: ص 341, قال!: «حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً, ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته».

منه بالحرام ولم يعلم أنّ المشكوك من القسم الحلال أو الحرام، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكّى، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر، فإنّ اللحم أو المايع بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالاً وإلى ما يكون حراماً، وذلك لا يتصوّر إلّا في الشبهات الموضوعيّة.

وأمّا الشبهات الحكميّة: فليس القسمة فيها فعليّة، وإنّما تكون القسمة فيها فرضية - أي: ليس فيها إلّا احتمال الحل والحرمة - فإنّ شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالاً أو حراماً ليس له قسمان: قسم حلال وقسم حرام، بل هو إمّا أن يكون حراماً وإمّا أن يكون حلالاً، فلا يصح أن يقال: إنّ شرب التتن فيه حلال وحرام، إلّا بضرب من التأويل والعناية» (1).

فكلّ من كلمتي (فيه) و(بعينه) ظاهرتان في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعيّة.ولكن يمكن أن يقال: إنّ معنى معرفة الحرام بعينه أو بنفسه هو تشخيص الحرام من الحلال، لا تشخيصه خارجاً، فلا يكون الحديث - حينئذٍ - مختصّاً بالموضوعيّة، إلّا أنّ العمدة في الإشكال هي شمول الرواية للحكميّة، كما يظهر ذلك من الأمثلة المذكورة في ذيلها.

ص: 304


1- فوائد الاُصول 3: 41.

قال في الوسائل بعد ذكر الحديث الشريف ما هذا لفظه:

«هذا مخصوص بما يشتبه فيه موضوع الحكم ومتعلّقه كما مثّل به في هذا الحديث وغيره بقرينة الأمثلة وذكر البيّنة والتصريحات الآتية، لا نفس الحكم الشرعيّ كالتحريم» (1).

وذهب صاحب الكفاية! إلى شمول الرواية للشبهة الوجوبية، وإن كانت بحسب ظهورها الأوّلي مختصة بالشبهة التحريميّة، على أنّ هذا الشمول مستفاد من عدم بالفصل بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبيّة؛ ضرورة أنّه إمّا أن بالاحتياط في الشبهات التحريميّة فقط كما عليه الأخباريّون، أو نقول بالبراءة فيها وفي الشبهات الوجوبيّة جميعاً كما هو مختار المجتهدين، فظهر: أنّ القول بالبراءة في الشبهة التحريميّة فقط دون الوجوبيّة قول ثالث ينفيه عدم القول بالفصل بالإجماع المركّب (2).

بل يمكن تقريب شمول الحديث للوجوبيّة من دون التمسّك بعدم القول بالفصل؛ وذلك لأنّ ترك الواجب حرامٌ، فلو شكّ مثلاً في وجوب

ص: 305


1- وسائل الشيعة 17: 90.
2- كفاية الاُصول: 341. وإليك نصّ كلامه!: «حيث دلّ على على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً, ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته, وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية, يتم المطلوب».

الدعاء عند رؤية الهلال، فقد شكّ في حرمة تركه، والترك على تقدير الوجوب محرّم، فيصير حلالاً ببركة الحديث الشريف.

ويمكن أن يُجاب عن كلا التقريبين:

أمّا عن الأول: فبأنّ الاستدلال بعدم القول بالفصل إنّما يتمّ فيما إذا كان منشؤه الكشف عن رأي المعصوم(علیه السلام)، وليس مقامنا من هذا القبيل،فتكون حجّيّة الإجماع المركّب محتاجة إلى الدليل، وحيث لا دليل عليها لا يمكن العمل بها.

وأمّا عن الثاني: فلأنّه لا يصدق على الترك في مورد الوجوب أنّه حرام عرفاً، كما لا يصدق على الشك فيه أنّه شك في الحرام.

ومنها: حديث السعة:

وهو قوله-: «إنّ الناس في سعةٍ ما لم يعلموا» (1).

والحاصل: أنّ لفظة (ما) إمّا موصولة، فالمعنى: الناس في سعةِ الذي لا يعلمون، أو مصدريّة ظرفيّة، ومعناها حينئذٍ: الناس في سعةٍ ما داموا لا يعلمون.

ص: 306


1- عوالي اللّآلي 1: 424، المسلك الثالث من الباب الأوّل في الفصل العاشر، ح 109. وانظر - أيضاً - : وسائل الشيعة 3: 493، باب 50 من أبواب النجاسات، ح 11، والحديث هنا عن أمير المؤمنين(علیه السلام)، وبلفظ: «هم في سعة حتى يعلموا»، وفي الكفاية: «ومنها قوله(علیه السلام): الناس في سعة ما لا يعلمون». انظر: كفاية الاُصول: 342.

ولذا قال صاحب الكفاية!: «فهم في سعة ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم» (1).

وهل لهذين التقديرين مدخليّة في دلالة الحديث على البراءة، فتستفاد

البراءة على أحدهما دون الآخر أو لا؟ فالخبر دالّ على البراءة بأيٍّ أخذنا؟

الظاهر: ممّا تقدّم من كلمات صاحب الكفاية! هو القول بعدم الفرق، فسواء كانت (ما) موصولة وأضيف إلى السعة، ولم تكن السعة منويّة، أو كانت مصدرية ظرفيّة بمعنى (ما دام)، فإنّ الحديث يدلّ على البراءة، أي: الناس في سعة من جهة التكليف الذي لا يعلمونه، أو ما داموا لا يعلمونه، فالحديث معارض لأدلّة الاحتياط.هذا وقد ذكر بعضهم الحديث بشكل تتعيّن فيه (ما) للموصولية، حيث قال: «الناس في سعة مما لم يعلموا».

وأمّا ما قد يقال: من أنّ أدلّة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط، فتكون واردة على هذا الحديث.

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية! بأنّه يقع التعارض بين الدليلين؛ ضرورة أنّ دليل الاحتياط طريقيٌّ فيستوجب ضيق ما لم يعلم من الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الواقع، وهذا الحديث يثبت سعة ما لم

ص: 307


1- كفاية الاُصول: ص 342.

يعلم كذلك، فيتعارضان (1).

فليس معنى أدلّة الاحتياط هو العلم حتى يكون وارداً على الحديث؛ بداهة أنّ العلم بوجوب الاحتياط ليس علماً بالواقع، إذ هو عبارة عن الطرق العقلائيّة والشرعيّة إلى الواقع الكاشف عنه، وليس الاحتياط من تلك الطرق. ويشهد لذلك أنّه لو أفتى المفتي من جهة قيام الأمارة عليه، فإنّه يقال: (أفتى بالعلم) لا بغير علم، بخلاف ما إذا أفتى بالوجوب من جهة الاحتياط فإنّه يقال: أفتى بغير علم.

ويبقى: أنّ تعارض الحديث مع أدلّة الاحتياط لا يكفي لوحده للاستدلال على البراءة، فتبقى مفتقرة إلى دليل يثبتها.

ومنها: مرسلة الصدوق:

«كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (2).

ص: 308


1- كفاية الاُصول: 342, وإليك نصّ كلامه!: «لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط. فإنّه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد, فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه, لكنّه عرفت أن وجوبه كان طريقيّاً, لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام, فافهم».
2- انظر: وسائل الشيعة 27: 173 - 174, الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 67.

وواضح: أنّ كون الرواية مرسلة، يشكّل مانعاً من قبول حجّيّتها من جهة الصدور.وقد حاول بعض المحقّقين المعاصرين! الاستدلال على حجّيّة الرواية بقوله:

«وإسناد الصدوق متن الحديث إليه بصورة الجزم والقطع شهادة منه على صحّة الرواية وصدورها عنهم( في نظره الشريف، وهذا الإرسال بهذه الصورة - من دون أن يقول: وعن الصادق - حاكٍ عن وجود قرائن كاشفة عن صحّة الحديث ومعلوميّة صدوره عنده كما لا يخفى» (1).

ومحاولته غير تامّة؛ لعدم كفاية صحّة الحديث في نظره، نعم لو حصل لنا العلم بتلك القرائن وحصل منها الاطمئنان لكنّا قلنا بصحّته كما هو المبنى المختار.

ومثله في الفساد ما ذكره بعضهم من أنّ المناقشة فيه بالإرسال مع اعتماد الفقهاء عليه واعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرّقة وسهولة الشريعة المقدّسة ممّا لا وجه لها؛

لأنّا نقول: أمّا ما ذكره من اعتماد الفقهاء واعتضاده فإن حصل منهما الاطمئنان بالصدور تثبت حينئذٍ له الحجّة من جهة السند، لأنّه أمر عقلائي. وأمّا ما ذكره من سهولة الشريعة: فلا معنى له؛ لأنّها إنّما كانت من جهة الحكم لا من جهة السند.

ص: 309


1- تهذيب الاُصول 2: 243.

وأمّا فقه الحديث: ففيه احتمالات:

فإمّا أن يكون المراد من الشيء عنوانه الأوّلي ومن حيث هو، فيرجع البحث حينئذٍ إلى مسألة الحظر والإباحة، ويكون أجنبيّاً عن مسألة إثبات البراءة لمجهول الحكم.

وإمّا أن يكون المراد به مجهول الحكم، وبالورود: مطلق التشريع، فتكون أدلّة الاحتياط في الشبهة التحريميّة الحكميّة متقدّمة عليه؛ لأنّها تكفي لتشريع الحكم، فتكون المرسلة حينئذٍ مؤيّدة لما قالهالأخباريّون من الاحتياط في الشبهات التحريمية فقط، وتصلح دليلاً على مدّعاهم.

ويحتمل أن يكون المراد به مطلق مجهول الحكم حتى يرد الحكم الثابت غير القابل للمناقشة، فإنّها حينئذٍ تكون دليلاً على البراءة.

وكيف كان، فقد ذهب الشيخ! إلى أنّ دلالة هذا الحديث على المطلب أوضح من الكلّ (1).

وتوقّف صاحب الكفاية! في دلالته على المدّعى بما حاصله أنّه ليس معنى الورود هو الوصول المساوق للعلم بالنهي، بل هو الصدور من الشارع وإن خفي علينا لبعض الأسباب والدواعي، ومن المعلوم: أنّا نحتمل الصدور في كل شبهة حكميّة.

ص: 310


1- فرائد الاُصول 2: 43, قال!: «ودلالته على المطلب أوضح من الكل, وظاهره عدم وجوب الاحتياط».

وعليه: فلا يمكن التمسّك بالحديث؛ لأنّه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقيّة، ومفاد الحديث حينئذٍ: إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة الى أن يرد فيه النهي لا الحظر والتوقّف (1).

وحاول المحقّق الأصفهاني! إثبات دلالة الحديث على المدّعى - وهو الإباحة الظاهريّة في مورد الشك في صدور الحرمة وعدم وصولها للمكلّف - بما هذا لفظه:

«تحقيق المقام: أنّ المراد بقوله (علیه السلام): (حتى يرد فيه نهي) تارةً هوالورود في نفسه المساوق للصدور واقعاً، وأُخرى هو الورود على المكلّف المساوق للوصول إليه. والنافع في المقام هي إباحة ما لم يصل حرمته إلى المكلّف، لا إباحة ما لم يصدر فيه نهي واقعاً،فإنّه دليل إباحة الأشياء قبل الشرع لا الإباحة في ما لم يصل وإن صدر فيه نهي واقعاً» (2).

وتوضيحه: أنّ الإباحة على قسمين:

الأول: الإباحة المالكيّة، ومعناها: اللاحرج من قبل المولى في قبال

ص: 311


1- كفاية الاُصول: ص 342, قال!: «ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه, بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد, مع أنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد, وقد خفي على من لم يعلم بصدوره».
2- نهاية الدراية 2: 453.

الحظر العقليّ، لكونه عبداً مملوكاً فيكون فعله تصرّفاً في سلطان المولى، فينبغي أن يكون وروده وصدوره عن رأي مالكه.

والثاني: الإباحة الشرعيّة، وهي الترخيص المجعول من قبل الشارع، في قبال الحرمة الشرعيّة الناشئة عن المفسدة الباعثة للمولى على زجره عمّا فيه المفسدة.

ثمّ الإباحة الشرعيّة على قسمين؛ لأنّها تارة تكون إباحة واقعيّة ثابتة لذات الموضوع ناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع لخلوه عن المصحلة والمفسدة.

وتارةً اُخرى تكون إباحة ظاهريّة ثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحليّة ناشئة عمّا يقتضي التسهيل على المكلّف بجعله مرخّصاً فيه.

وعليه: فالمراد من الإطلاق إمّا الإباحة الشرعيّة الواقعيّة أو الظاهريّة أو الإباحة المالكيّة.

فإن كان الأوّل، بأن كان المراد منه: أنّ كل شيء لم يتعلّق به نهي فهو مباح واقعاً، وكلّ ما ورد فيه نهي فليس بمباح واقعاً؛ فإن كان بنحو المعرّفيّة، فلا محالة: يكون حمل الخبر عليه حملاً على ما هو كالبديهيّ، وهو لا يناسب شأن الإمام(علیه السلام)، لأنّه لوضوحه لا يحتاج إلى بيان.

وإن كان بمعنى: تقييد موضوع أحد الضدّين بعدم الضدّ الآخر، أو فقل: أخذ عدم الحرمة في موضوع الإباحة، فهو غير معقول؛ بداهة عدم شرطيّة أحد الضدّين في وجود ضدّه، بل هما متلازمان، وليس

ص: 312

معنى تقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهي حقيقة إلّا كونه شرطاً في تحقّقه.

وأمّا الإباحة الظاهريّة: فجعلها مغياة أو محدّدة ومقيّدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعاً فاسد من وجوه:

الأوّل: استلزامها تخلّف الحكم عن موضوعه؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الجهل، فلو كان مقيّداً بعدم صدور النهي، للزم انتفاء الحكم الظاهري مع تحقّق موضوعه وهو الشك؛ ضرورة أنّه يكون النهي صادراً ومشكوكاً.

الثاني: أن موضوع الاباحة حيث إنّه مغيّىً بصدور النهي واقعاً أو محدد بعدم صدروه فهو مشكوك، فلا يمكن إثبات الإباحة الظاهريّة في مورد الشك؛ لأنّه من التمسّك بالدليل مع الشك في موضوعه، فلا محالة: يحتاج إلى أصالة عدم صدوره؛ لفعليّة الإباحة.

على أنّ التمسّك باستصحاب عدم الصدور لا يجدي في المقام؛ إمّا لكفايته بنفسه وإن لم يكن هذا الخبر فلا استدلال به، أو لا يكون كافياً إن أردنا ترتيب مضمون الخبر عليه تعبّداً فلا يصحّ كذلك.

الثالث: أنّ جعل ورود النهي في الخبر غاية رافعة للإباحة الظاهرية يرجع إلى عدم الحرمة حدوثاً، ومقتضاه: عدم الشك في الحليّة والحرمة من أوّل الامر، وحينئذٍ: لا معنى لجعل الإباحة الظاهرية.

وأمّا الإباحة المالكيّة بمعنى: اللّاحرج العقليّ، مع كون المراد من

ص: 313

الصدور هو الورود، فلا مناص من حمل الإباحة على إباحة الأشياء قبل الشرع بمعنى اللّاحرج الفعليّ، فإنّها محدودة ومغياة بعدم صدور الحرمة الشرعيّة، فيكون الخبر دليلاً على هذه الإباحة، لا الإباحة الشرعيّة الظاهريّة التي هي محلّ البحث.

ثمّ قال!: «إلّا أنّ حمل الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيدٌ غير مناسب للإمام(علیه السلام) المعد لتبليغ الأحكام، خصوصاً بملاحظة أنّ الخبر مروي عن الصادق(علیه السلام) بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة خصوصاً في المسائل العامة البلوى التييقطع بصدور حكمها عن الشارع، فلا فائدة في الإباحة مع قطع النظر عن الشرع.

وعليه: فالمراد من الورود، هو الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه، والمراد بالإطلاق هو الترخيص الشرعيّ الظاهري وعدم تقيّد المكلّف ظاهراً بطرف الترك أو بطرف الفعل فيكون دليلاً على المسألة، والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل وغيره» (1).

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي! في تقريب دلالتها من أنّها تشمل الجاهل الملتفت غير القادر على الفحص، وبضميمة عدم الفصل تثبت

ص: 314


1- نهاية الدراية 2: 456.

المعذوريّة بالنسبة للجاهل الذي لا يعرف شيئاً خاصاً الذي هو محل الكلام فيما نحن فيه (1).

ففيه - مضافاً إلى عدم تسليمه في نفسه -: أنّه حمل للكلام على خلاف ما هو ظاهر فيه، ولا يخفى: أنّ الكلام إنّما هو في ظهور الحديث، لا فيما يمكن حمله عليه.

ومنها:

قوله(علیه السلام) «أيّ رجلٍ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» (2).

وتقريب الاستدلال به واضح.واستشكل الشيخ! في دلالته، وذلك بدعوى: ظهوره في كون المراد هو الجاهل بالجهل المركّب، والغافل عن الواقع رأساً، لا الجاهل بالجهل البسيط المتردّد الذي هو محلّ الكلام في أصالة البراءة (3).

ص: 315


1- نهاية الأفكار 3: 229, قال!: «اللّهم إلّا أن يمنع اختصاصه بالغافل بدعوى شموله - أيضاً - للجاهل بمجموع الأحكام الملتفت إليها مع كونه غير قادر على الفحص عنها لكونه ممّن يصدق عليه أنّه لا يعرف, فإذا استفيد من قوله(علیه السلام) في الجواب لا نفي العقوبة بنفي منشئها الذي هو وجوب الاحتياط يتعدّى إلى الجاهل ببعض الأحكام بعد الفحص لعدم الفصل بينهما».
2- وسائل الشيعة 8: 248, الباب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 1.
3- فرائد الاُصول 2: 42, وهذا نصّ كلامه!: «وفيه: أنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك: (فلان عمل بكذا بجهالة) هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع, فلا يعمّ صورة التردد في كون فعله صواباً أو خطأً).

ويؤيّده: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ (1).

وقوله تعالى: ﴿ كَتَبَ رَب-ُّ-كُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَن--َّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَن--َّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (2).

وما عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال: «كلّ ذنب عمله العبد وإن كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اﷲ تعالى قول يوسف(علیه السلام) لإخوته: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ (3) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اﷲ» (4).

ثمّ أيّد الشيخ! كلامه بقوله:

«إنّ تعميم الجهالة لصورة التردّد يُحوِج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر، وسياقه يأبى عن التخصيص، فتأمّل» (5).

وردّ عليه المحقّق العراقي! بما حاصله:أنّ السبب في الارتكاب في مورد الجهل البسيط هو الجهل أيضاً،

ص: 316


1- النساء: الآية 17.
2- الأنعام: الآية 54.
3- يوسف: الآية 89.
4- بحار الأنوار 6: 32.
5- فرائد الاُصول 2: 42.

كما هو مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا ضير بها كون الباء للسببيّة (1).

ويؤيّد شموله لموارد الجهل البسيط: ما ورد عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال لرجل أعجميّ أحرم في قميصه: «فأخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحجّ من قابل، أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» (2).

فظهر من هذا الحديث: أنّ المراد بالجهالة ما يقابل العلم، لا السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.

ومنها:

رواية عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اﷲ (علیه السلام) قال:

«سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة، أهي ممّن لا تحلّ له أبداً، فقال(علیه السلام): لا، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعدما تنقضي عدّتها،

ص: 317


1- نهاية الدراية 3: 229, قال! ما لفظه: «وأمّا ما أفاده في وجه التخصيص بالجاهل المركب والغافل بكونه مقتضى ظهور الباء في السببية, ففيه: أنّه كذلك في الجهل البسيط أيضاً لكونه هو السبب في الارتكاب بمقتضى حكم عقله بقبح العقاب بلا بيان. ودعوى أنّ الباء ظاهر في السببية بلا واسطة فلا يشمل الجهل البسيط؛ لأنّ سببيته للارتكاب إنّما هو بتوسيط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان كما ترى».
2- وسائل الشيعة 12: 489, الباب 45 من أبواب الإحرام، ح 3.

وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأيّ الجهالتين يعذر بجهالته: أنّ ذلك محرم عليه؟ أم بجهالته أنّها في عدة؟ فقال(علیه السلام): إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى: الجهالة بأنّ اﷲ حرّم ذلك عليه، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأُخرى معذور؟ قال(علیه السلام): نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها..» (1).فإنّه يفهم من إطلاق هذه الرواية أنّ الجاهل معذور، سواء كان جهله جهلاً بالحكم أم جهلاً بالموضوع، فلا شكّ - حينئذٍ - في أنّها تكون دالّة على ثبوت البراءة، وهو المطلوب.

وقد ناقش فيه الشيخ الأعظم! بما محصّله: أنّ موضوع السؤال: إن كان هو الجاهل بالجهل المركّب، أو الغافل، فهو خارج عمّا نحن فيه.

وإن كان هو الملتفت: فإن كان الشكّ في أصل انقضاء العدّة مع العلم تشريعها ومقدارها، كانت الشبهة موضوعيّة، فتخرج كذلك.

وإن كان الشكّ في مقدار العدّة، فالشبهة - حينئذٍ - من الشبهة المفهومية.

أو كان في أصل تشريعها، فالشبهة حكميّة.

وهذه الأخيرة هي - فقط - محلّ بحثنا، مع أنّه يمكن أن يقال بعدم جريان البراءة فيها؛ لأنّ مقتضى الاستصحاب المرتكز في الأذهان هو

ص: 318


1- وسائل الشيعة 20: 450 - 451, الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ح 4.

بقاء العدّة، وهو متقدّم على البراءة، فلا يكون معذوراً.

وكذا لا يكون معذوراً في الشبهة المفهوميّة؛ ضرورة أنّه يلزمه السؤال وتحصيل العلم، وبتركه يكون مقصّراً، فمقتضى الأصل بقاء العدّة وترتّب أحكامها.

وإنّما لا يكون معذوراً في الشبهة الحكمية؛ لأجل تقصيره في السؤال خصوصاً مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل لا قصوره، مضافاً: إلى اقتضاء أصالة عدم ترتّب الأثر على العقد للحكم بفساده (1).

فظهر: عدم إمكان الالتزام بالمعذوريّة من حيث الحكم التكليفيّ في جميع الصور، فلابدّ من الالتزام بها من حيث الحكم الوضعيّ، وهو الحرمة الأبديّة، كما وقع التصريح به، من غير نظر إلى المؤاخذة وعدمها.والحاصل: أنّ الشيخ! يرى أنّ لزوم التفكيك بين الجهالتين إشكال مستحكم على الرواية؛ ضرورة أنّ المكلّف إن كان جاهلاً بالحكم، فالاحتياط غير مقدور له، وإن كان ملتفتاً، كان ممّا يقدر عليه، كما لو كان جاهلاً بالموضوع، ومعه: فلا وجه للتفكيك بين الجهالتين.

ويمكن أن يُجاب عنه: بأنّ الغالب في الجهل بحرمة النكاح هو الغفلة واعتقاد الخلاف حين التزويج، بخلاف ما إذا علم حرمته وجهل العدّة فيكون على العكس؛ لأنّ الغالب - حينئذٍ - هو الالتفات إليه وعدم الغفلة

ص: 319


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 44 - 45.

عنه عند الزواج بسؤاله عن خصوصيّات الزوجة عادة، فإذا تحقّق الجهل بها كان من الجهل البسيط.

ومنها:

قوله(علیه السلام): «إنّ اﷲ يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم» (1).

وناقشه الشيخ! بما هذا لفظه: «وفيه: أنّ مدلوله - كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار - ممّا لا ينكره الأخباريّون» (2).

يعني: أنّها لا تنافي دعوى الأخباريّين حيث ذهبوا إلى أخبار الاحتياط، وهو احتجاج بما آتهم، فدليل الاحتياط كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهاديّ، يرتفع به موضوعه، وهو: اللّابيان، فعلى مدّعي البراءة ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما دلّ على الرخصة.

وبهذا تمّ الاستدلال على البراءة بالأخبار.

وأمّا الاستدلال عليها بالإجماع:

فهو إنّما يفيد فيما لو انعقد إجماع العلماء كافّةً على البراءة، وليس كذلك؛ فإنّ أكثر الأخباريّين على القول بوجوب الاحتياط؛ مضافاً إلى أنّ هذا الإجماع ليس تعبّديّاً؛ لأنّه محتمل المدركيّة، بل متيقّنها؛ فإنّه قد تظافرت الأدلة النقليّة به، وكذا حكم العقل.

ص: 320


1- الكافي 1: 164, باب حجج الله على خلقه, ح 4.
2- فرائد الاُصول 2: 43.

وأمّا الاستدلال عليها بالدليل العقليّ:

قال المحقّق الأصفهاني!: «توضيح المقام: أنّ هذا الحكم العقليّ حكم عقليّ عمليّ بملاك التحسين والتقبيح العقليّين، وقد بيّنّا في مباحث القطع والظنّ مراراً: أنّ مثله مأخوذ من الأحكام العقلائيّة التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، وهي المسمّاة ﺑ-(القضايا المشهورة) المعدودة في الصناعات الخمس من علم الميزان» (1).

وهل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حكم عقليّ منفرد عن سائر الأحكام العقليّة العملية؟ أو هو داخل في حكم العقل بقبح الظلم؟

قال!: «ومن الواضح: أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقليّاً عمليّاً منفرداً عن سائر الأحكام العقليّة العمليّة، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن زيّ الرقّية ورسم العبوديّة وهو ظلم من العبد إلى مولاه فيستحقّ منه الذمّ والعقاب» (2).ولكنّ هذا إنّما يكون تمرّداً وهتكاً لحرمة المولى وخروجاً عن العبوديّة في فرض العلم بالحكم، وأمّا مع الجهل به فتكون كلّها مفقودة،

ص: 321


1- نهاية الدراية 2: 461.
2- المصدر نفسه.

فلو ارتكب ما هو المبغوض عند المولى مع الجهل بمبغوضيّته له لم يخرج بذلك عن زيّ العبوديّة.

كما أنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم؛ إذ ليس من زيّ الرقّية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع ونفس الأمر، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة خروجاً عن زيّ الرقّية حتى يكون ظلماً، وحينئذ: فالعقوبة عليه ظلم من المولى تجاه عبده؛ بداهة أنّ الذمّ على ما لا يذمّ عليه، والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض، وإيذاء بحت، بلا موجب عقلائيّ، فهو ظلم، والظلم بنوعه يؤدي إلى فساد النوع واختلال النظام، وهو قبيح من كلّ أحد، ولو من المولى إلى عبده.

ولكن الحقّ: أن يقال: إنّ العقل ينفرد ويستقل بوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته ويحكم باستحقاق المخالف للعقوبة، من غير مدخليّة لعنوان الظلم فيه، بل يحكم به العقل مع الغفلة عن الظلم.

فالحكم بالبراءة إنّما يكون لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان، أعني: بلا بيان واصل إلى المكلّف، بعد فرض اشتغاله بوظيفته، من الفحص عن الحكم المشتبه واليأس عن الظفر به في مظانّ وجوده.

ولا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعيّ، وإن لم يصل إلى المكلّف؛ لأنّ وجود البيان الواقعيّ حاله حال عدمه بالنسبة إلى فاقده، فلا يقبل المحرّكيّة والباعثيّة.

فإن قلت: البيان الوارد في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان

ص: 322

إنّما هو البيان الواقعي بلا فرق بين ما وصل إلى العبد وما لم يصل.

قلت: إن فرض عدم استقلال العقل بذلك؛ لمكان عدم تماميّة مبادئ الأمر، إذاً: فلا إرادة في الواقع، فلا مقتضي لاستحقاق العقاب؛ إذ لم يحصل تفويت لمراد المولى في الواقع.وهذا بخلاف البيان الذي لم يصل؛ فإنّه - حينئذٍ - لا يحصل مراد المولى ولا يتحقّق مطلوبه.

ولكنّ فواته هذا لم يستند إلى المكلّف؛ إذ المفروض: أنّه قد فحص وعمل بوظيفته، بل فواته إمّا يكون من قبل المولى نفسه؛ لأنّه لم يستوفِ مراده بإيصاله إلى العبد، أو لسببٍ موجب لاختفاء مراده عن المكلّف. وعلى كلّ حال: فالفوت لا يكون مستنداً إلى العبد، فلا يستحقّ العقوبة.

فانقدح مما تقدّم: أنّ المناط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إنّما هو عدم البيان الواصل إلى المكلّف، لا مطلقاً.

وبعبارة ثانية: لا ملازمة بين مخالفة التكليف الواقعيّ واستحقاق الذمّ والعقاب، وإنّما الملازمة بين التكليف الذي قامت عليه الحجّة وبين استحقاق الذمّ والعقاب.

لا يقال: حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وارد على حكمه بقبح العقاب بلا بيان؛ بداهة أنّ الأوّل بيان، فيصير العقاب عقاباً مع البيان.

لأنّا نقول: هذا لا يتّم فيما لو كان المراد به الضرر الأخرويّ.

ص: 323

قال المحقّق النائيني!:

«وإن كان المراد منه الضرر الأخرويّ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل، بل الموهوم، إنّما يكون إرشاداً محضاً ليس فيه شائبة المولويّة، ولا يمكن أن يستتبع حكماً شرعيّاً؛ لأنّ حكم العقل في ذلك إنّما يكون واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام، فلا يكون مورداً لقاعدة الملازمة - كما أوضحناه في محلّه -، ولكنّ ذلك فرع احتمال العقاب، ومع عدم وصول التكليف بوجه: لا تفصيلاً ولا إجمالاً، لا يحتمل العقاب؛ لقبح العقاب بلا بيان، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حاكم ووارد على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل» (1).فظهر: أنّ قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل تختصّ بأطراف العلم الإجماليّ أو الشبهة البدويّة قبل الفحص.

وأمّا الشبهة البدويّة بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب، فلا تشملها قاعدة دفع الضرر المحتمل؛ فحكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده إنّما هو على فعلٍ لم يُطلِعه على تحريمه.

وخلاصة البحث أمران:

الأوّل: أنّ المراد من عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم البيان الواصل بنفسه، بل عدم البيان الذي

ص: 324


1- فوائد الاُصول 3: 367.

يمكن أن يصل إليه ولو بالفحص عنه؛ فإنّ مجرّد عدم الوصول مع احتمال إيجاده لو فحص عنه لا يكفي لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

الثاني: أنّ المراد من عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل هو عدم البيان الواقعيّ المجهول، فلا يشمل عدم الاحتياط؛ لما عرفت من وروده على دليل الاحتياط.

وأمّا إذا كان الضرر دنيويّاً، فلا يجب دفعه على الإطلاق، إلّا أن يحتمل العقاب.

لا يقال: الارتكاب مع احتمال الضرر ممّا يحكم العقل بقبحه، فتثبت حرمته بحكم الملازمة.

لأنّا نقول: ارتكاب الضرر إنّما يكون قبيحاً إذا لم يكن هناك داعٍ عقلائيّ إليه، فإن فُرض أنّ لوجوده الواقعيّ تأثيراً في القبح فلابدّ من العلم به، والعلم به يشكل موضوعاً للقبح، وهذا لا يُخرج احتمال الضرر عن كونه قبيحاً في نفسه.

ص: 325

ص: 326

في أدلة الأخباريّين على وجوب الاحتياط

واستدلّوا له بالكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الكتاب: فبآيات:

منها:

ما دلّ على حرمة الإلقاء في التهلكة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَي-ْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُ-كَةِ﴾ (1).

وفيه: أنّه إن كان المراد من التهلكة هو العقاب الأخروي فهو منفيّ بدليل البراءة، وهو وارد على الآية كوروده على قاعدة دفع الضرر المحتمل. وحينئذٍ: يقبح العقاب مع عدم البيان، ولا يمكن إثبات البيان بنفس النهي؛ لأنّ موضوعه التهلكة، ولا يمكن إثبات الموضوع بواسطة بالحكم.

ص: 327


1- البقرة: الآية 195.

وبعبارة ثانية: لابدّ من إثبات التهلكة قبل النهي عن الإلقاء فيها، وإثباتها بنفس النهي دور باطل.

وإن كان المراد من التهلكة المفاسد المترتّبة على فعل الحرام وترك الواجب، فهذا لم يقل به أحد إلّا الأوحدي، بل البعض لا يلتزم بتعلّق الأحكام بالمصالح والمفاسد، ويكتفي بوجود مصلحة في السلوك، وعليه: لا يمكن حمل هذه الخطابات على المعنى الدقيق الذي لا يعرفه إلّا الأوحدي بمقتضى البرهان العقليّ.

فلا تحمل التهلكة في الاُخرى على الضرر الدنيوي؛ ضرورة أنّه ليس كلّ ضرر دنيوي يعد تهلكة، ولا على الأخروي؛ لنهوض الدليل على جواز الارتكاب.ومنها:

ما دلّ على النهي عن القول بغير علم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (1)، حيث إنّ الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم.

ولكنّ الحقّ: أنّ القول بالبراءة إذا استند إلى دليل فإنّه لا يكون قولاً بغير علم، بل قول بالدليل والحجّة.

ومنها:

ما دلّ على لزوم التقوى وجهاد النفس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ

ص: 328


1- الإسراء: الآية 36.

اتَّقُواْ الله َ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ (1)، ومعلوم: أنّ الاقتحام في الشبهات منافٍ للتقوى الماُمور بها.

وفيه: أنّ العمل على طبق البراءة إنّما يكون منافياً للتقوى إذا لم يكن دليلها تاماً، والمفروض تماميّته كما عرفناه في المباحث السابقة.

فتحصّل: أنّ القول بالبراءة إن كان مستنداً إلى الحجّة المعتبرة وهي قبح العقاب بلا بيان، لم يكن من القول بغير علم، ولا من الإلقاء في الهلكة، ولا من المخالفة للتقوى بشيء؛ فإنّ معنى التقوى إنّما هو الإتيان بما أمر به من الواجباب والمحرمات، ولا يمكن إثبات أصل الحكم بأدلة التقوى؛ لاستلزامه الدور، كما مرّ في آية التهلكة.

وأمّا السنّة: فبطوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالتوقف:

وادّعى المحقّق النائيني! تواترها حيث قال: «وهي كثيرة مستفيضة، بل تبلغ حدّ التواتر» (2).وهذا عجيب منه !؛ فإنّ الظاهر أنّها لم تبلغ حدّ الاستفاضة فضلاً عن التواتر.

ص: 329


1- آل عمران: الآية 102.
2- فوائد الاُصول 3: 372.

منها: ما رُوي من قول أبي عبد اﷲ (علیه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (1).

ومنها: رواية مسعدة بن زياد عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه( عن النبي - أنّه قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة - إلى أن قال: - فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (2).

ومنها: خبر أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (3)، وغيرها من الروايات.

الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط:

وهي - أيضاً - كثيرة:

فمنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال: لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد، قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدرِ ما عليه، فقال:إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (4).

ص: 330


1- وسائل الشيعة 27: 119, الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 35.
2- وسائل الشيعة 27: 159, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 15.
3- وسائل الشيعة 27: 154 - 155, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2.
4- وسائل الشيعة 27: 154, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 1.

ومنها: موثّقة عبد اﷲ بن وضّاح أنّه كتب إلى العبد الصالح (علیه السلام) يسأله عن وقت المغرب والإفطار، فكتب إليه: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك» (1).

ومنها: ما عن أبي هاشم داوود بن القاسم الجعفري عن الرضا (علیه السلام) أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال لكميل بن زياد: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (2).

ومنها: قوله(علیه السلام): «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط» (3).

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث:

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اﷲ (علیه السلام) في حديث قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» (4).

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة أيضاً عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حديث

ص: 331


1- وسائل الشيعة 27: 166 - 167, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 42.
2- وسائل الشيعة 27: 167, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 46.
3- فرائد الاُصول 2: 78, قال!: أرسلها الشهيد الثاني!.
4- وسائل الشيعة 27: 106, الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.

قال: «وإنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمربيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اﷲ ورسوله-، قال رسول اﷲ-: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» (1).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المقام.

ولا يذهب عليك: أنّ احتمالات وجوب الاحتياط أربعة:

1- الوجوب النفسيّ المولويّ، كوجوب الصلاة وأمثالها.

2- الوجوب الغيريّ المقدّمي.

3 - الوجوب الطريقيّ المحض.

4 - الإرشاد إلى حسن الاحتياط.

ولا ينبغي الشكّ في أنّه ليس المراد من الوجوب هنا هو الوجوب النفسيّ المولويّ الذي يستتبع الثواب والعقاب؛ ضرورة أنّ المتبادر عندهم هو الطريقيّة المحضة كما هو حال جميع الطرق والأمارات.

قال المحقق الأصفهاني! ما هذا لفظه:

«لا مجال للنفسيّة وإلّا لترتب العقاب على مخالفته من حيث هو زيادة على العقاب على مخالفة التكليف الواقعيّ المفروض ثبوته من

ص: 332


1- وسائل الشيعة 27: 157, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 9.

حيث ظهور الهلكة في العقوبة، فيلزم أن يكون ارتكاب الشبهة أسوأ من ارتكاب الحرام المعلوم» (1).

وأمّا الوجوب الغيريّ المقدّميّ: فمتوقّف على وجوب ذي المقدّمة، وهو منحصر بأطراف العلم الإجمالي أو الشبهة البدويّة قبل الفحص، وليس مقامنا هكذا، كما لا يخفى.

وأمّا الوجوب النفسيّ الطريقيّ المحض: فقد عرفت عدم وجود ملاك النفسيّة فيه بوجه.والتحقيق: أنّ وجوبه إرشاد محض إلى حسن الاحتياط، وهذا الحسن قد يصل إلى حدّ الوجوب، كما في الشبهات البدويّة قبل الفحص، أو أطراف العلم الإجمالي، وقد لا يصل، فيبقى على حسنه، كما في المقام.

فظهر: أنّ طريقيّة الاحتياط لا تزيد عن طريقيّة الأمارات.

فإن قلت: كيف لا يبيّن(علیه السلام) الواقع ويأمر بالاحتياط مع كونه عالماً به؟ فكتمان الواقع ليس من شأنه؛ لاستلزامه الجهل بالواقع.

قلت: لعلّ عدم بيانه في الخبر لمصلحةٍ أقوى من مصلحة البيان، أو لأجل عدم إمكان البيان؛ لقصور في فهم المخاطب أو غير ذلك.

أمّا الجواب عن الطائفة الاُولى من الروايات:

فعن شيخنا الأنصاري! أنّ المراد من «التوقّف المطلق السكون

ص: 333


1- نهاية الدراية 2: 474.

وعدم المضيّ، فيكون كناية عن عدم الحركة» (1) وعدم الإقدام على الفعل، فهو بمعنى: وجوب الاحتياط في موارد الشبهة، وعدم التحرّك نحو الفعل المحتمل حرمته؛ فإنّه موجب للاقتحام في الهلكة والعقاب الأخرويّ. فالإقدام على الفعل المحتمل حرمته موجب لثبوت العقاب وإن لم يكن حراماً في الواقع؛ لأنّه تجرٍّ حينئذٍ.

وفيه: أنّه لا عموميّة لهذا الخبر وأمثاله، فلا تكون تلك الأوامر المتعلّقة بالتوقف موجبة لثبوت العقاب؛ لمجيئها من قبل الهلكة كما هو مقتضى التعليل في الأخبار، فلو كان الحكم الجائي من قبلها منشأً لثبوتها للزم الدور.

ومن هنا يظهر: اختصاص هذه الطائفة من الأخبار بموارد قيام الحجّة على الواقع على تقدير ثبوتها، كالشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ، والشبهة البدويّة قبل الفحص. وأمّا الشبهات البدويّة بعد الفحص وعدم وجدان الدليل فلا يعدّ ارتكابها اقتحاماً في الهلكة، فلا يجب التوقّف.

وأمّا الطائفة الثانية:

فالجواب عن الرواية الاُولى منها هو أنّ قوله(علیه السلام) «إذا أصبتم مثل هذا» فهو أنّه لابدّ من تحقيق أنّ الإشارة فيه هل هي إشارة إلى نفس الواقعة أو إلى حكمها؟ وأنّ المراد من المثل هل هو كون الشبهة وجوبيّة

ص: 334


1- فرائد الاُصول 2: 64

على الإطلاق؟ أو أنّها وجوبيّة دائرة بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أو الارتباطيّين؟ فالأوّل: بناءّ على لزوم القيمة في جزاء الصيد، والثاني: بناء على وجوب البدنة. وحينئذٍ: لا يمكن شمول الاستدلال بها للشبهة التحريميّة.

قال بعض المحقّقين المعاصرين! في المقام:

«ثمّ لو قلنا بكون المشار إليه هو حكم الواقعة، إمّا أن يراد من قوله(علیه السلام): (فعليكم الاحتياط)، الاحتياط في الفتوى، أو الفتوى بالاحتياط، أو الفتوى بالطرف الذي هو موافق للاحتياط. ومع ذلك فبما أنّه(علیه السلام) ذيّل قوله: (فعليكم بالاحتياط) بقوله(علیه السلام): (فلم تدروا)، وقوله(علیه السلام) (حتى تسألوا عنه فتعلموا)، فالمتبادر من الأمر بالاحتياط هو الاحتياط في الفتوى وعدم التقوّل على اﷲ تعالى، ولأجل ذلك يترجّح حمل الرواية على الفتوى قبل الفحص، مع إمكان التفحص عن مورده، كما هو مفروضها، ودلالتها على مقالة الأخباري يتوقف على مطلق الشبهات: تحريمية أو وجوبية، ثمّ إخراج الوجوبية منها لقيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها، مع أنّه من قبيل إخراج المورد المستهجن، كما لا يخفى» (1).

وأفاد الشيخ! ما حاصله:

أنّ المشار إليه في قوله(علیه السلام): (بمثل هذا)، هو إمّا الموضوع المشتبه

ص: 335


1- تهذيب الاُصول 2: 265

حكمه، أي: نفس واقعة الصيد ، أو السؤال عن حكم ما لا يعلم حكمه، نظراً إلى أنّ فرض الخبر هو أنّ الراوي يجهل حكم الصيد المذكور.فعلى الأوّل: إمّا أن يكون المورد من قبيل الشكّ في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، أو الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

فإن كان هو الأوّل، نظير الدين الذي يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ففيه:

أوّلاً: أنّه ممّا اتفق الفريقان: الأخباريّون والاُصوليّون، على عدم وجوب الاحتياط فيه؛ لأنّ هذا المورد من الشبهات الوجوبية، فلا يجب الاحتياط فيها بالاتّفاق.

وثانياً: لو سلّم الاحتياط في موارد الدوران بين المتباينين، يصبح وجوب الاحتياط - حينئذٍ - أجنبيّاً عن محلّ البحث؛ ضرورة انتفاء التكليف رأساً، فلا يكون مورد الرواية ممّا ثبت التكليف فيه في الجملة.

وإن كان من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيّين: فهو بالإضافة إلى كونه محلّ خلاف بين الاُصوليّين - حيث ذهب بعضهم إلى الاشتغال فيه - خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ الكلام إنّما هو في مورد الشكّ في التكليف، لا في المكلّف به مع إحراز أصل التكليف.

وأمّا إذا كان المشار إليه هو السؤال عما لم يعلم حكمه: فإمّا أن يراد بالاحتياط: الفتوى بالاحتياط، أو الاحتياط بالفتوى بأنْ لا يفتي بشيء

ص: 336

احتياطاً.

والرواية - على كلا التقديرين - أجنبيّة عن محلّ البحث؛ إذ ظاهر الرواية هو التمكّن من استعلام حكم الواقعة فيما بعد بالسؤال والتعلّم، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصيّة.

وأين هذا من محلّ البحث؟! حيث لا مجال للتعلّم فيما بعد، بعد تحقّق الفحص بالمقدار اللّازم على المكلّف وعدم الوصول إلى نتيجة معلومة.

ثمّ لو سلّم كون المورد من الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، وأنّ الوظيفة هي الاحتياط، فهي - أيضاً - خارجة عن محلّ البحث؛ بداهة أنّ التكليف بالأكثر - حينئذٍ - يكون معلوماً في الجملة، ووجوب الاحتياط فيه إنّماهو بمقتضى الرواية، فلا يمكن تعديته إلى الشبهة البدويّة التي يكون التكليف فيها مجهولاً.

فانقدح: أنّ ما ذكره الشيخ! من الاحتياط بالأكثر هو التام الذي يقتضيه نظر الأعلام، وإلّا كان موارد انحلال التكليف، فيكون الأكثر مشكوكاً فيه والأقل متيقناً، فلا يمكن تعديته من محل الرواية إلى الشبهة البدوية التي لا يعلم بها ولو إجمالاً (1).

ص: 337


1- انظر: رجال النجاشي: 184، تحت عنوان: سليمان بن داود المنقريّ.

وأمّا الرواية الثانية - وهي موثقة عبد اﷲ بن وضاح - ففيها:

أنّها وإن وصفها الشيخ! بالموثّقة (1) إلّا أنّ في سندها سليمان بن داوود، وهو مردّد بين الخفّاف والمروزي المجهولين. وأمّا المنقري فقد وثّقه النجاشي (2).

ثمّ إنّ هذه الرواية إنّما تدلّ على الاحتياط بقول مطلق فيما إذا كان قوله(علیه السلام): «وتأخذ بالحائطة لدينك» تعليلاً لقوله(علیه السلام): «أرى لك أن تنتظر»؛ فإنّها - حينئذٍ - تدلّ على الاحتياط في عامّة الشبهات، وسجّل عليها الشيخ اعتراضات ثلاثة:

الأوّل: ظهور الرواية في استحباب الاحتياط دون وجوبه، كما هو مفاد كلمة (أولى).

الثاني: ظهورها في الاحتياط في خصوص الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّ ارتفاع الحمرة فوق الجبل مشكوك في أنّها هل هي علامة على عدم استتار القرص حقيقة؟ فلا يتحقّق الغروب ما زالت الحمرة موجودة، أو لا؟ فيتحقّق.

ولا يمكن أن يكون مورد الرواية هي الشبهة الحكمية؛ وذلك لأنّه لو كان المشكوك هو أن الغروب شرعاً هل هو عبارة عن استتار القرصالمفروض تحقّقه؟ أو هو الحمرة المشرقيّة؟ لكان على الإمام(علیه السلام) رفعه،

ص: 338


1- فرائد الاُصول 2: 76, قال!: «ومنها: موثّقة عبد الله بن وضّاح على الأقوى».
2- نظر: فرائد الاُصول 2: 78, 79.

وليس من شأنه أن يأمر بالاحتياط في مثل هذا المورد.

فحيث لم يظهر منه(علیه السلام) بيان حقيقة الغروب شرعاً نستكشف منه عدم كون الشكّ في مورد الرواية شكاً في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم، فلابدّ - حينئذٍ - من حمل الرواية على الشبهة الموضوعيّة؛ على أنّ الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة غير واجب باتّفاق الفريقين، فاستفادة وجوبه تفتقر إلى خصوصيّة تقتضيه وهي: أنّ المورد هو استصحاب بقاء الوقت، أو أنّ الاشتغال اليقينيّ هو بمعنى: اشتغال الذمة بالتكليف مع الشكّ في الخروج منه، فإنّ الإفطار عند استتار القرص يوجب - لا محالة - الشكّ في فراغ الذمّة من الصوم المعلوم اشتغال الذمّة به قطعاً، فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما لا يشترك معه في الخصوصيّة المزبورة ممّا لا وجه له (1).

ص: 339


1- فرائد الاُصول 2: 79 - 80, وإليك نصّ كلامه!: «وأمّا عن الموثّقة: فبأنّ ظاهرها الاستحباب, والظاهر: أنّ مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية؛ لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارة عليها؛ لأنّ إرادة الاحتياط في الشبهة الحكمية بعيدة عن منصب الإمام(علیه السلام)؛ لأنّه لا يقرر الجاهل بالحكم على جهله, ولا ريب أنّ الانتظار مع الشك في الاستتار واجب؛ لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل, والاشتغال بالصوم, وقاعدة الاشتغال بالصلاة. فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاكّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة, ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه يقيناً, لا مطلق الشاكّ؛ لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقّن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتّفاق من الأخباريّين أيضاً».

الثالث: لو سلمّ أن الشكّ فيها شكّ في مورد الشبهة الحكمية، وأن وظيفته(علیه السلام) رفع هذه الشبهة، وفرض أنّ الغروب شرعاً هو زوال الحمرة المشرقية، ولكن لم يتصدّ(علیه السلام) لبيان هذا الحكم لأجل التقيّة من المخالفين حيث كان الغروب عندهم هو استتار القرص، فأراد(علیه السلام) أن يوصل الحكم الواقعي ولو بصورة غير مستقيمة، فأوجب الاحتياط لكي يتوهّم المخالفون أنّ الانتظار إنّما هو لأجل العلم باستتار القرص في حين أنّه بحسب الواقع لأجل زوال الحمرة المشرقية المحققة للغروب شرعاً.ففيه مع بعده: أنّه لا يدلّ - حينئذٍ - إلّا على رجحان الاحتياط، لا على وجوبه، لمكان قوله(علیه السلام): «أرى لك» الدالّة على الاستحباب، مضافاً إلى أنّ الرواية حينئذٍ تكون مختصة في موردها فلا تدلّ على وجوب الاحتياط في جميع التقادير (1).

ص: 340


1- المصدر السابق: ص 80, قال!: «هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب, وكون الحمرة غير الحمرة المشرقية, ويحتمل بعيداً أن يراد من الحمرة الحمرة المشرقيّة التي لابدّ من زوالها في تحقق المغرب. وتعليله حينئذٍ بالاحتياط وإن كان بعيداً عن منصب الإمام(علیه السلام) كما لا يخفى, إلّا أنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقيّة؛ لإيهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه, لا أنّ المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار, كما أنّ قوله(علیه السلام): (أرى لك) يستشم منه رائحة الاستحباب, فلعلّ التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقية, وحينئذٍ: فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلّا على رجحانه».

وأمّا الرواية المنقولة عن أمير المؤمنين(علیه السلام):

فالجواب عنها - مضافاً إلى ضعفها سنداً - بما أفاده الشيخ الأعظم! وذلك:

أوّلاً: أنّ الأمر بالاحتياط في الرواية يدور أمره بين الحمل على الإرشاديّة أو المولويّة الجامع بين الوجوب والاستحباب؛ ضرورة أنّ حمله على الوجوب نحو كلّي مستلزم للتخصيص بالأكثر، وهو مستهجن.

بيان الملازمة: أنّ الشبهات الموضوعيّة مطلقاً والشبهة الحكمية والوجوبية خارجة، فكذا تخرج الشبهات الوجوبية؛ للاتفاق على عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد، ولا يمكن الحمل على الاستحباب؛ لوجوب الاحتياط في بعض الفروض كما في موارد العلم الإجمالي، فلابدّ - حينئذٍ - من حمله على الإرشاد، فيكون اللّزوم وعدمه تابعين للمرشد إليه كما مرّت الإشارة إليه سابقاً؛ أو يحمل على الجامع بين الوجوب والاستحباب، والنتيجة: أنّه لا دلالة لها على العموم والوجوب بالكلّيّة.

وثانياً: ظهور كون الأمر بالاحتياط في الرواية أمراً استحبابياً مولويّاً، بقرينة قوله(علیه السلام) فيها: «بما شئت»، فإنّها تستعمل في موردين:المورد الأوّل: التخيير في مراتب الشيء، والتخيير في مقامنا في مراتب الاحتياط، كما يقال: (قل ما شئت)، أي: أنت في الخيار في ما تقول قليلاً كان أو كثيراً.

ص: 341

المورد الثاني: بيان المرتبة العالية من الشيء، كما تقول (هذا الكلام كان حسناً)، أي: كان في مرتبة الحسن، والمرتبة في مقامنا هي المرتبة العالية من الاحتياط.

فإن اُريد بقوله(علیه السلام): «ما شئت» التخيير: كان اللّازم هو حمل الأمر بالاحتياط إمّا على الإرشاد أو على الجامع بين الوجوب والاستحباب - أي: مطلق الرجحان -؛ لأنّ بعض مراتب الاحتياط يكون واجباً دون البعض، فلا يمكن حمله على الوجوب التخييريّ في جميع المراتب.

وإن كان الثاني: لم يكن من حمله على الاستحباب مانع؛ ضرورة عدم تماميّة حمله على الوجوب حينئذٍ؛ لأنّ المرتبة العالية من الاحتياط لم تكن واجبةً قطعاً، وتشبيهه الدين بالأخ في قوله(علیه السلام): «أخوك دينك» يقتضي الحمل على الثاني، إذ الإخوة هم أعلى مراتب الاحتياط بين أفراد البشر، لقوّة الصلة بينهما، فجعل الدين بمنزلة الأخ معناه رجحان المراتب العالية من الاحتياط بشأن الدين (1).

وأمّا الرواية الرابعة:

فمضافاً إلى ضعف سندها أيضاً، لا يمكن الحكم عليها بالعموم، وإلّا لجرت في الشبهة الوجوبيّة مع اتّفاقهم على عدم الوجوب فيها.

ص: 342


1- أنظر: فرائد الاُصول: 2: 80 - 81.

وأمّا الطائفة الثالثة:

وهي ما دلّ على التثليث من استشهاد الإمام(علیه السلام) بكلام رسول اﷲ-: «حلالٌ بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك..».

فأمّا البيّن من الحلال والحرام، فمتّفق على حلّيّته وحرمته.

وأمّا الشبهات التي بين ذلك فتفيد فيها رجحان الاحتياط بالاجتناب.ويشهد لذلك: تعليله(علیه السلام) في ذيل الحديث: «فمن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات»، حيث جعل الأخذ بالشبهات أخذاً بالمحرّمات؛ وذلك لأنّ ارتكاب الشبهة مظنة للوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم، فهو سبب للجرأة على ارتكاب للمحرمات.

هذا، ولا يخفى أن ارتكاب الشبهات ليس محرماً بنفسه، بل بما هو سببٌ لارتكاب المحرّم، ولذا كان الاحتياط فيه أولى، وهذا نظير تشبيهه(علیه السلام) في بعض الروايات مرتكب الشبهات بالراعي حول الحمى، فإنّه لا يؤمَن من هجوم القطيع على الحمى، وإلّا، فالرعي حول الحمى من دون دخوله ممّا ليس فيه شبهة الحرام.

قال المحقّق النائيني!: «إن الأمر فيها لا يصلح إلّا للإرشاد، فإنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): (ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات) هو الملازمة بين التعرض للشبهات والوقوع في المحرمات، فالأخذ بالشبهات بنفسه ليس من المحرمات، بل يستلزم ذلك الوقوع فيها، فيكون النهي عن الأخذ بالشبهات للإرشاد إلى عدم الوقوع في المحرمات؛ لأنّ

ص: 343

التجنب عن الشبهات يوجب حصول ملكة الردع عن المحرمات، كما أنّ الاقتحام فيها يوجب التجرّي على فعل المحرمات.

وذلك هو الظاهر من قوله-: (فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم)، فمفاد أخبار التثليث أجنبيّ عن مقالة الأخباريّين» (1).

وأمّا العقل:

اشارة

فبوجهين:

الوجه الأوّل:

أنّا نعلم إجمالاً بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة المقدّسة، وعلمنا هذا حاصل لكلّ أحد قبل مراجعة الأحكام، ولا طريق لإنكاره إلّا المكابرة.

ومقتضاه: الاحتياط في كلّ شبهة سواء كانت وجوبية أو تحريمية، ومقتضى الاشتغال اليقيني البراءة اليقينية بحكم العقل، وهو لا يحصل إلّا بترك كلّ ما عُلِم أو شكّ في حرمته حتى يحصل له العلم القطعيّ بالامتثال. وإنّما خرج عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية لأجل الدليل، وأمّا الشبهة التحريمية فتبقى على ما يقتضىه العلم الإجمالي.

ص: 344


1- فوائد الاُصول 3: 377 - 378.

إذاً فعندنا علمان وقطعان:

أحدهما: العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة.

والثاني: القطع بأنّ الشارع لا يرضى بارتكابها.

وتحصيل اليقين بالبراءة لا يحصل إلّا بترك معلوم ومشكوك الحرمة.

قال الشيخ الأنصاري!:

«وأمّا العقل فتقريره بوجهين:

أحدهما: أنّا نعلم إجمالاً قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَان-تَ-هُوا﴾ (1) ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتفاق المجتهدين والأخباريين، وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعيّة، فلابدّ من اجتناب كلّ ما احتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ يدلّ على حلّيّته، إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعاً» (2).وقال صاحب الكفاية!: «ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب» (3).

ص: 345


1- الحشر: الآية 7.
2- فرائد الاُصول 2: 87.
3- كفاية الاُصول: ص 346.

ونسبه الشيخ! إلى المشهور حيث قال: «فالحق فيه: وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقاً للمشهور، وفي المدارك (1): أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب، ونسبه إلى المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب (2)، وعن المحقق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية: دعوى الإجماع صريحاً (3)، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه (4)، وحكي عن بعض القرعة» (5).

وأجاب صاحب الكفاية! عنه بما هذا لفظه:

«إنّ العقل وإن استقلّ بذلك، إلّا أنّه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحلّ ها هنا، فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً، كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذٍ: لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاُصول العمليّة» (6).وبعبارة ثانية: بعد قيام الأدلّة على الواجبات والمحرّمات بالمقدار

ص: 346


1- مدارك الأحكام 1: 107.
2- الفوائد الحائرية: ص 348.
3- الوافي في شرح الوافية: 210.
4- الذخيرة: ص 138, والقوانين 2: 25.
5- فرائد الاُصول 2: 210.
6- كفاية الاُصول: ص 346.

المعلوم بالإجمال، ينحلّ العلم الإجماليّ إلى العلم التفصيليّ والشكّ البدويّ؛ لأنّه بعد الإتيان بما دلّت الأدلّة على وجوبه وترك ما دلّت على تركه، لم يبقَ بعد العلم بالتكليف إلّا ما علم تفصيلاً، ويحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.

لا يقال: هو إنّما يتم فيما لو اطلّع على الأدلة قبل العلم الإجمالي، أو مقارناً له.

وعليه: فتارة يكون العلم الإجمالي مقدماً؛ لقيام الطرق، واُخرى مؤخرّاً، وثالثة: يكون مقارناً، وما هو سبب للانحلال هو الصورتان الأخيرتان، دون الاُولى؛ ضرورة أنّه ليس هناك إلّا ما علم تفصيلاً لاحتمال الانطباق.

وأمّا إذا حصل العلم الإجمالي بعد الاطلاع على الأدلة، فلا يكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مداليل الأدلة كافياً؛ بداهة أنّ العلم الإجمالي حينئذٍ يكون منجّزاً، فيجب الامتثال القطعي بحكم العقل.

لأنّه يقال: يشترط لتأثير العلم الإجمالي بقاؤه في الزمان الثاني أيضاً، فلو لم يوجد فيه، بأن انعدمت بعض أطرافه، أو خرج عن محلّ الابتلاء وغير ذلك، لم يكن له أثر، كما إذا شكّ في الزمان الثاني في ثبوت التكليف في الزمان الأوّل، فلم يبق أثر للعلم الأوّل؛ فإنّه - حينئذٍ - إن تقدّم العلم الإجمالي على أدلّة ورود الأحكام وكان ثابتاً في الزمان الأوّل

ص: 347

مع كون دلالة تلك الأدلّة على ثبوت الأحكام من أوّل الأمر، فحينئذٍ: لابدّ في الزمان الحاضر من البناء على مضمون الأدلّة؛ ضرورة انتفاء العلم الإجمالي في الزمان لما تقدّم من ثبوت التكليف في مورد الأدلّة من أوّل الأمر، فيشكّ في الزائد من أوّل الأمر.

فظهر: أنّه لا فرق في انحلال العلم الإجماليّ بين أن يكون مقدّماً على الأمارات، أو مؤخّراً، أو مقارناً كذلك، فحال الأمارات حال ما إذا علم بالتكاليف الواقعيّة من أوّل الأمر، فإنّها توجب الانحلال وإن كان الإتيان بالأمارات الشرعيّة متأخّراً عنها.ثمّ اعلم أنّ للعلم الإجماليّ صوراً ثلاث:

الاُولى: العلم الإجمالي الحقيقي التكويني، وانحلاله بواسطة العلم التفصيلي، كما إذا كان هناك إناءان، ووقع في أحدهما قطرة دم، ثمّ علم تفصيلاً بوقوع القطرة في هذا الإناء المعيّن، فينحل العلم الإجمالي ويزول قهراً؛ لانتفاء التردّد بعد العلم التفصيلي.

الثانية: الانحلال الحكمي، وهو أن يبقى العلم الإجمالي بنفسه ولكن يزول أثره من جهة التنجيز، كما إذا قامت الأمارة وعيّنت المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى أحد الطرفين، فإنّه لا يكون حينئذٍ منجزاً بالنسبة إلى الطرف الآخر.

الثالثة: الانحلال الحقيقيّ، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بكأسين أحدهما محلٌ للابتلاء دون الآخر، فيزول هذا العلم الإجمالي بمجرّد

ص: 348

زوال أثره وهو التنجّز.

وبعبارة اُخرى: العلم الإجمالي بدوي لحدوثه كذلك، فإذا كان أحد طرفيه أو أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء لم يكن مقدوراً، فلا يتعلّق التكليف الفعلي به، فيزول وينكشف أنّه لا علم إجمالي من أول الأمر، فليس في هذه الصورة انحلال وإن سميّت انحلالاً ، بل يزول العلم الإجمالي فيها بعد انكشاف الخلاف. وكلّ هذه الموارد للعلم الإجمالي غير منجّزة.

وأشار صاحب الكفاية! إلى الانحلال التكويني الحقيقي بقوله:

«هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلّا، فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال» (1).

وتوضيحه: أنّ العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في ضمن المشتبهات ينحل بالعلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية في موارد الطرق الشرعية بمقدار المعلوم بالإجمال، فينحلّ العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجماليالصغير، ولا يتنجّز سوى موارد الطرق الشرعية دون المشتبهات التي لم يقم طريق شرعي عليها.

كما أنّه! التزم بالانحلال الحقيقيّ، وبيانه:

أنّ قيام الأمارة والطريق الشرعيّ على الحكم يمنع من فعليّة الواقع في

ص: 349


1- كفاية الاُصول: ص 347.

موردها؛ لامتناع اجتماع حكمين فعليين كما بيّن ذلك في محله.

فمع قيام المنجّز في أحد طرفي العلم الإجمالي - سواء كانت أمارة أو أصلاً - يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثّرية بالنسبة إلى جميع الأطراف، حتى في الطرف الذي خرج عن قابليّة التأثير.

وأورد عليه الآخوند!:

أنّ الانحلال الحكمي إنّما يكون موجباً للانحلال إذا قلنا بجعل الأحكام الظاهرية في الطرق، وأنّ قيامها سبب في حدوث تكاليف ظاهرية طريقية على طبق مؤدياتها، ويقابله القول أنّ قيامها بسبب حدوث مصلحة نفسية أو مفسدة كذلك موجبة لجعل حكم واقعي نفسي على طبقها، وهو التسبيب.

وأمّا بناءً على أن المجعول هو المنجّزية عند الإصابة والمعذّرية عند الخطأ كما هو رأيه! كما هو كذلك في العلم - والفرق بين المنجّزيّة في العلم والأمارات أنّها في العلم ذاتيّة، وفي الأمارات بجعل من الشارع - فلا يكاد ينحلّ العلم الإجمالي بها؛ لعدم زوال فعليّة الواقع بقيام الأمارة؛ إذ لا حكم مجعول في موردها على طبق مؤدّاها كي توجب انحلاله.

ثمّ أجاب! عنه بما حاصله:

أنّ هذا الانحلال حكمي، فقيام الحجة على التكاليف على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف مما يوجب انحلال العلم

ص: 350

الإجمالي ولو تعبّداً، ويستلزم صرف تنجز المعلوم بالإجمال إلىما قامت عليه الحجة إن طابقت العلم الإجمالي، وهي ناقلة لاستحقاق العقاب عليه إلى ما قامت عليه الحجة وخالفها (1).

وأمّا إذا اخطأت وكان ما قامت عليه الحجّة غير المعلوم بالإجمال فهو معذور وإن فات المعلوم بالإجمال، فهو نظير ما إذا علم إجمالاً بوجود غنم موطوء في القطيع، ثمّ قامت الحجّة على أنّ هذا الغنم موطوء، فإنّها تكون سبباً لصرف تنجّز المعلوم بالإجمال إليه، فتنقل استحقاق العقاب من المعلوم بالإجمال إلى هذا الغنم، وأما إذا تكن مصيبة للواقع فتكون معذّرة حيث لم يجتنب عن المعلوم بالإجمال.

ص: 351


1- كفاية الاُصول: ص 347, وإليك نصّ كلامه!: «إن قلت: إنّما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجباً لثبوته فعلاً, وأمّا بناء على أنّ قضية حجيّته واعتباره شرعاً ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً, وهو تنجّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه, فلا انحلال لما علم بالإجمال أولاً, كما لا يخفى. قلت: قضية الاعتبار شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلته - وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث, إلّا أنّ نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون عقلاً بحكم الانحلال, وصرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف, والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف, مثلاً إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين, وقامت البينة على أنّ هذا إناؤه, فلا ينبغي الشك في أنّه كما إذا علم أنّه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر, ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية, ضرورة أنّها تكون كذلك بسبب حادث, وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية».

الوجه الثاني:

أنّ الأصل في الأفعال غير الضرورية والتي لا يتوقف عليها حفظ النظام هو الحظر، فلا يجوز الاقتحام فيه ما لم يرد ترخيص من الشارع فيه؛ بداهة أنّه تصرف في سلطان المولى، وهو ممّا يحكم العقل بقبحه؛ لأنّه خروج عن زيّ الرقية ومقتضى العبدوية.

قال الشيخ!: «الوجه الثاني: أنّ الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر، كما نسب إلى طائفة من الإمامية، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة، ولم يرد الإباحة في ما لا نص فيه. وما ورد - على تقدير تسليم دلالته - معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط، فالمرجع إلى الأصل.ولو تنزّلنا عن ذلك فالوقف، كما عليه الشيخان" - المفيد والطوسي (1) -. واحتجّ عليه في العدّة: بأنّ الإقدام على ما لا يومن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة» (2).

وأجاب صاحب الكفاية! عنه:

أوّلاً: بأنّ المسألة خلافية، بل قد ادّعي الإجماع على خلافها، وإلّا لأمكن التمسك بالبراءة بناءً على أنّ الأصل هو الإباحة الحظر، فكما لا يمكن التمسك بالبراءة بناء على أصالة الإباحة في الأشياء على ما هو

ص: 352


1- التذكرة باُصول الفقه 9: 43؛ والعدة 2: 742.
2- فرائد الاُصول 2: 90.

المنسوب إلى الصدوق!، فكذلك لا يمكن التمسك بالاحتياط بناءً على القول بأصالة الحظر.

وثانياً: لو سلّم أصالة الحظر والوقف في الأفعال غير الضرورية، إلّا أنّه قد ورد الترخيص فيها، كما في الأدلّة المتقدمة الدالة على البراءة كحديث الرفع وأمثاله، فإنّها قد دلّت على الإباحة ولم تدل على الاحتياط، فلا تُعارض ما دلّ على الإباحة.

وثالثاً: أنّه لا ربط لهذه المسألة فيما نحن فيه؛ لأنّه البحث فيها هو عن حكمها قبل الشرع، والكلام في البراءة والاحتياط إنّما هو عن حكمها بعد تكميل الشريعة وانتفاء الدليل على الحكم، والقول بالوقف في تلك المسألة لا يلازم القول به في هذه المسألة، فيحكم العقل بالبراءة مستنداً إلى قبح العقاب بلا بيان (1).فاتّضح مما تقدّم: قصور ما استدلّوا به على وجوب الاحتياط، فلا يمكن الاستدلال بها على نفي البراءة، لا في موارد الشبهات الوجوبية ولا التحريميّة.

ص: 353


1- كفاية الاُصول: 348, قال! ما لفظه: «وفيه أولاً: أنّه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال, وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة. وثانياً: أنّه ثبتت الإباحة شرعاً, لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط, للمعارضة لما دل عليها. وثالثاً: أنّه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة, للقول بالاحتياط في هذه المسألة, لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان».

ص: 354

في تنبيهات البراءة

اشارة

وهي سبعة:

التنبيه الأوّل:

أنّ الاُصول الموضوعيّة مقدّمة على الاُصول الحكمية: إمّا حكومة أو وروداً، فلا يجري الأصل الحكميّ مع وجود الأصل الموضوعيّ لوروده عليه وارتفاع موضوعه - الذي هو الشكّ - بسببه، فلو شكّ في حلية حيوان بسبب الشكّ في قبوله للتذكية، حُكِم عليه بالحرمة؛ لأصالة عدم التذكية؛ لأنّها مشروطة بقابليّة المحلّ، والفرض أنّها مشكوكة، فيحكم بعدمها، فيكون الحيوان ميتة بناء على المشهور.

التنبيه الثاني:

أنّه لا فرق في تقدّم الأصل الموضوعي على الحكمي بين كونه مخالفاً له - كما مثّلنا - أو موافقاً كذلك، فإذا كان هناك حيوان جلّال وشككنا في

ص: 355

الجلل كان هذا الشكّ موجباً لارتفاع قابليته للتذكية فيحرم، فاستصحاب قابليته للتذكية من قبل زمان الجلل يوجب حليته، فلا يبقى مجال لجريان أصالة البراءة وإن كان الأصلان متوافقين في النتيجة.وكذا الحال بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّه بعد الفراغ عن كون الجلل في الحيوان ممّا يرفع قابليّته للتذكية فيحرم، فإذا شككنا في حصول الجلل ووطئه استصحب العدم، ولم يبقَ مجال لجريان أصالة الحلّ والإباحة، وإن توافقتا معه في النتيجة.

التنبيه الثالث:

أنّ المراد من الميتة هل هو الميّت حتف أنفه؟ أو الأعمّ منه فتشمل مطلق غير المذكّى على الوجه الشرعي؟

الظاهر من الآية الشريفة هو الأوّل، دون مطلق غير المذكى، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله ِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذكَّ-يْتُمْ﴾ (1)، فإنّ إفراد التذكية بالذكر يدلّ على أنّ غير المذكّى ليس بميتة.

التنبيه الرابع:

أنّ لمعنى التذكية ثلاثة احتمالات:

ص: 356


1- المائدة: 3.

الأوّل: أن تكون أمراً بسيطاً متحصلاً من فري الأوداج بالحديد إلى القبلة والتسمية مع كون الذابح مسلماً والحيوان قابلاً للذبح.

الثاني: أن تكون مركّبة من مجموع تلك الاُمور.

الثالث: أنّها عبارة عن مجرّد الأفعال الخاصّة، ولكن بقيد ورودها على المحل القابل، فالقابلية مأخوذة بنحو الشرطيّة وخارجة عن مفهوم التذكية.

التنبيه الخامس:

أن الشبهة على قسمين: موضوعية وحكمية، والحكمية تنشأ تارةً عن قابليّة الحيوان للتذكية، فلذلك يشكّ في حلّيته، كالحيوان المتولّد من الغنم والكلب ولم يشبه أحدهما، فلا يلحق أيّاً منهما بالاسم.

وتارةً أُخرى تكون قابلية الحيوان للتذكية معلومة كما في الأرنب، ولكن يقع الشكّ في حلّيّة أكل لحمه ذاتاً أو لا.

وكذلك الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّه تارة يُشكّ في حلّيّة لحم الحيوان لأجل الشكّ في تحقّق التذكية، وأُخرى يُشكّ في أنّ اللّحم هل هو من الحيوان المحلّل أكله كالغنم، أو لا، مع علمنا بقبولهما التذكية.

التنبيه السادس:

أنّ جريان هذا الأصل يكون في موردين:

الأوّل: إذا كان هناك عموم أو إطلاق دالّ على قبول كل حيوان للتذكية،

ص: 357

وإلّا لكفى التمسّك بهذا العموم لإثبات قابليّة ما شكّ في قابليّته.

الثاني: إذا فرض أنّ موضوع حرمة اللّحم أمر عدميّ، وهو غير المذكّى، ولا يجري فيما لو كان الموضوع وجوديّاً، كالميتة، بناء على القول بأنّها أمر وجوديّ.

والحاصل: أنّ في المسألة ثلاثة أقوال:

الأوّل: أنّ موضوع النجاسة والحرمة أمر وجوديّ وهو الميتة.

الثاني: أنّ موضوعهما أمر عدميّ.

الثالث: التفصيل بين حرمة الأكل وبين النجاسة، فموضوع الحرمة عدمي، وموضوع النجاسة وجودي، ولذا ذهب اُستاذنا الأعظم! في مثل اللّحوم المستوردة المشكوك في تذكيتها، إلى أنّه يجوز شرب مائها إذا طبخها، ولكن لا يجوز أكلها؛ لأصالة عدم التذكية، فإنّها لا تثبت الميتة؛ لأنّها أمر وجوديّ، اللّهمّ إلّا إذا قلنا بالأصل المثبت، ولا نقول به (1).وأمّا إذا كان موضوع الحرمة أمراً وجوديّاً، فلا تثبت الحرمة ولا النجاسة؛ لأصالة عدمهما.

فإن قلت: إنّ في الماء دسومة وأجزاء صغيرة من اللّحم، فكيف لا يحرم شربه؟

قلت: تشخيص الموضوع تابع لما يراه العرف، وهو يراه ماءً وإن

ص: 358


1- انظر: مصباح الاُصول 2: 362.

لم يكن كذلك بالدقّة العقليّة، ولذا نسب إلى بعضهم القول بحرمة أكل الحيوان المتولّد من حيوانين: أحدهما محلّل الأكل كالغنم، والآخر: محرّمه كالكلب، ما لم يلحق ذلك المتولد أحدهما في الاسم، مع القول بطهارته أيضاً.

أمّا إذا فرض أنّ موضوع الحرمة أمر وجودي، فلا تنفع أصالة عدم التذكية - على تقدير جريانها - لإثبات الحرمة إلّا بناءً على الأصل المثبت. فلابدّ لترتّب الحرمة من فرض أنّ الموضوع هو عدم التذكية.

التنبيه السابع:

أنّ من الحيوانات ما ليس لتذكيته أثر، لا في الحلّيّة ولا في الطهارة، بل يكون حراماً ونجساً وإن ذكّي كالكلب.

ومنها: ما لتذكيته أثر في الطهارة دون الحليّة، كالسباع.

ومنها: ما لتذكيته أثر في الطهارة والحليّة، كالأنعام الثلاثة وغيرها، فإنّها تنجس بالموت ويحرم أكلها إلّا أن تذكّى فيجوز وتطهر.

وعليه: فلو كان معنى التذكية بسيطاً، وشكّ في حصول التذكية من جهة الشكّ في اعتبار كونها بالحديد أو إسلام الذابح وبلوغه أو لا، ولم يكن في المقام إطلاق، فإنّه - حينئذٍ - تجري أصالة عدم التذكية؛ للشكّ في حصول ذلك المعنى البسيط. ويظهر من الآية الشريفة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ...﴾ أنّ الشارع لم يُبح إلّا ما ذكي.

ص: 359

ولا تجري أصالة عدم التذكية فيما لو أريد من التذكية نفس الاُمور التي تقدّم ذكرها؛ لعدم وجود حالة سابقة.وأمّا لو قيل بجريان استصحاب العدم الأزلي؛ لعدم الملازمة بين حكم الشرعيّ وملاكه، فلا يترتّب الحكم بإثبات الملاك، بل إنّما يترتب بين الموضوع والحكم، فمتى وجد وجد.

وكذا لا تجري أصالة عدم التذكية فيما ليس قابلاً لها؛ لعدم الحالة السابقة كذلك، بل تجري أصالة استصحاب الحرمة؛ ضرورة أنّ حرمة أكل اللحم قبل التذكية مسلّمة.

وممّا يدلّ على ذلك: موثّقة عمار بن موسى عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حديث: «أنّه سأله عن الشاة تذبح فيموت ولدها في بطنها؟ قال: كلْه فإنّه حلال لأنّ ذكاته ذكاة أمه، فإن هو خرج وهو حيّ فاذبحه وكل، فإن مات قبل أن تذبحه فلا تأكله وكذلك البقر والإبل» (1).

فإنّ أمر الإمام(علیه السلام) بذبح الولد الخارج حيّاً ظاهر في حرمة أكل الحيوان حيّاً. هذا، ولا يقاس الحديث على جواز أكل السمك الصغير حيّاً؛ لأنّ ذكاته هي إخراجه من الماء حياً.

فإن قلت: الاستصحاب متعذّر هنا؛ لعدم كون الموضوع موجوداً في كلا الحالتين؛ ضرورة أنّ حرمة أكله حياً ثابتة للحيوان المتقوم بالحياة،

ص: 360


1- وسائل الشيعة 24: 35, الباب 18 من أبواب الذبائح ح 8.

وما شك في حليته هو اللحم، وهو غير الحيوان.

قلت: الموضوع هنا هو اللّحم، وأما الموت والحياة فهما من الحالات المتبادلة، فيجري الاستصحاب.

فانقدح: أنّ ما ذكره اُستاذنا المحقق! من أنّه لا وجه للتفكيك بين النجاسة وحرمة الأكل بل «إذا جرت أصالة عدم التذكية، فيُحكم بالنجاسة وحرمة أكل لحمه، وإن لم تجرِ فالمرجع قاعدة الحلّ والطهارة، ولا وجه للتفكيك بينهما، فما ذهب إليه بعض الأساطين من التفكيك بينهما والقول بالطهارة وحرمة الأكل لا يستقيم، لا مع جريان أصالة عدم التذكية، ولا مع عدم جريانها»؛ في غير محله.هذا إذا كان الكلام في الشبهة الحكمية مع فقدان النصّ، أمّا في إجمال النص:

فالكلام هو الكلام؛ لعمومية الأدلّة. وأمّا في صورة تعارض النصّين: فإن كان هناك مرجّح في أحد الطرفين أخذ به وترك الآخر، كما إذا كان هناك خبران دلّ أحدهما على حرمة لحم الأرنب، والثاني على حليته، فحينئذٍ: لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، ولمّا كان الخبر الدال على الحرمة موافقاً للمشهور مخالفاً للعامة، وكان كلاهما من المرجحات المنصوصة، لا جرم وجب الأخذ به وطرح الخبر الآخر.

فإن لم يكن هناك ترجيح، فمقتضى القاعدة هو التخيير، كما في باب الأمارات بناءً على الطريقيّة.

ص: 361

وإن قيل بالتساقط، كان مجراه الأصل؛ لفقدان النصّ حينئذٍ.

هذا، وقد يقال: إنّ تعارض النصّين في الشبهة التحريمية يكون مجرىً للاحتياط، كما ورد في الحديث: «أخوك دينك فاحتط لدينك»، ولكن لمّا كانت الرواية مرفوعة ولم يكن الكتاب معتبراً، لم يمكن الأخذ به.

أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية - وهي التي يكون الشكّ فيها في الاُمور الخارجيّة - فالمآل هو الأصل أيضاً باتّفاق كلا الفريقين: من الأخباريّ والاُصوليّ.

ثمّ إنّ وجوب الفحص مختصّ بالشبهات الحكمية، وأمّا الشبهات الموضوعية: فلا يجب الفحص في الشبهة التحريمية إجماعاً، إلّا في بعض فروع النكاح، كما إذا لم يعلم أنّ هذه زوجته أو زوجة غيره.

وأمّا الشبهات الوجوبيّة: فالظاهر عدم وجوب الفحص فيها أيضاً، إلّا إذا توقّف امتثال التكليف غالباً على الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف من الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلّا بالفحص عنه. كالاستطاعة في الحجّ والنصاب في الزكاة؛ فإنّ العلم بحصول أوّل مرتبة الاستطاعة لمن كان فاقداً لها يتوقّف دائماً على الفحص، وفيمثل هذا يبعد القول بعدم وجوب الفحص؛ لأنّه لو لم يفحص لوقع في مخالفة التكليف كثيراً.

وعلى هذا: يمكن دعوى الملازمة بين تشريع مثل هذه الحكم وبين

ص: 362

إيجاب الفحص عن موضوعه، فإطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية في غير محلّه، بل الأقوى: وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالباً على الفحص.

ثم إنّ عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنّما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع - كطلوع الفجر - إلى أزيد من النظر إلى تلك المقدمات. فإنّه حينئذ: يجب النظر ولا يجوز الاقتحام، بل لا يجوز الأكل والشرب اعتماداً على الاستصحاب، ولذا لو شككنا في المائع الموجود في الإناء بين كونه خلّاً أو خمراً، فإنّ حصول العلم به متوقف على النظر فلا يجوز - حينئذٍ - الاقتحام أيضاً، بل لابدّ من النظر والسؤال.

نعم، يمكن القول بعدم وجوب الفحص في خصوص باب النجاسة والطهارة؛ وذلك لما علم من التوسعة فيها التي لا تكون في غيرها.

وأمّا مقدار الفحص، فليس عليه من الشارع دليل، والظاهر: أنّ الواجب منه هو حصول اليأس عن الظفر بالدليل، فإنّ العطشان يفحص عن الماء حتّى يحصل له اليأس عنه، وهكذا سائر الموضوعات.

ولا يذهب عليك: أنّ أصالة الطهارة في الحيوان، وأصالة استصحاب الحرمة، إنّما تجريان فيما إذا لم يكن هناك أمارة تدل على التذكية من يد مسلم أو سوق المسلمين. فإن وجدت كانت حاكمة على الأصلين.

ص: 363

والفرق بين الأمارة والأصل في المقام: هو أنّ في الأمارة جهتين ليستا في الأصل:

الاُولى: الكاشفيّة الذاتية الموجودة فيها، فإن ما لا يكون كاشفاً بذاته، ليس للشارع إعطاؤه صفة الكاشفية، لأنّها صفة تكوينية.والثانية: أنّ اعتبارها إنّما هو لأجل كاشفيّتها، فتكون متمّمة للكشف. وأمّا الأصل فليس له كاشفية أصلاً، كأصالة البراءة والحل، أو له، ولكن اعتباره ليس من جهتها، بل تكون كاشفيّته ملغاةً في نظر الشارع، ولذا لو شُكّ في كونه أمارة أو أصلاً مع العلم بجهة الاعتبار يحمل حينئذٍ على أنّه أصل وإن لم يعلم ذلك من الدليل.

وتشارك الأمارة الأصل في إثبات المؤدّى.

نعم، لما كانت الأمارات مثبتات وكانت لوازمها حجة دون الأصل، فالشك في الزائد شك في إثبات اللوازم والملزومات، فتجري أصالة البراءة دون الأمارة.

وكيف كان فقد استدلوا على حجيّة الأمارة بوجوه:

الأوّل: الإجماع.

وفيه: أنّه محتمل المدركية، وليس إجماعاً تعبدياً.

الثاني: السيرة العقلائية.

الثالث: السيرة المتشرعية.

الرابع: الأخبار المستفيضة، الدالّة عليه عموماً أو خصوصاً، من غير

ص: 364

فرق بين يد المسلم والكافر، إلّا في اللحوم وما يتعلّق بها؛ فإنّه لا عبرة بيد الكافر فيها، ولا يحكم له بالملكيّة.

فمن تلك الأخبار: صحيحة البزنطي قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ فقال(علیه السلام): نعم ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر(علیه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك» (1).ومنها: ما عن الحلبي قال: «سألت أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنّه ميت بعينه» (2).

ومنها: ما عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح (علیه السلام) أنّه قال: «لا بأس بالصلاة في الفرا اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» (3).

فظهر: أنّ بناء العقلاء وعمل الناس كان على اعتبار اليد وترتيب آثار الملكيّة على ما في اليد لصاحبها، وليس في طريقتهم هذه ما يقتضي التعبد بالملكيّة، بل عملهم على ذلك إنّما هو لكشف اليد في نوعها على الملكية؛ ضرورة أنّ الغالب في موردها هو الكشف عن ملكيّة صاحب اليد، حيث يتصرف في ما يستولي عليه تصرف المالك، ويكون احتمال

ص: 365


1- وسائل الشيعة: 3: 491, الباب 50 من أبواب التيمّم ح 3.
2- وسائل الشيعة: 3: 490 - 491 الباب 50 من أبواب التيمّم ح 2.
3- وسائل الشيعة: 3: 491 - 492 الباب 50 من أبواب التيمّم ح 5.

غصبيّة ذي اليد لما في يده احتمالاً ملغىً في نظرهم، فيتعاملون معه معاملة سائرالطرق العرفيّة والكواشف العقلائية.

فانقدح: أنّ ما ورد من الدليل على حجّيّة اليد عند الشارع إنّما هو إمضاء لما عليه عمل الناس طريقتهم، وليس مفاد تلك الأدلّة تأسيس أصل عملي بحيث يلاحظ فيه الشارع جهة الكاشفية، فإنّه بعيد غاية البعد.

فقوله(علیه السلام): «لولا هذا ما قام للمسلمين سوق» ليس إلّا إمضاءً لما عليه العقلاء، وليس مسوقاً لبيان التعبّد، ومن أمعن النظر في طريقة العقلاء في باب اليد قطع - لا محالة - بأنّها من الأمارات لا من الاُصول.وحينئذٍ: تكون اليد حاكمة على الاستصحاب، ولو سلّم فإنّها تكون مقدّمة عليه لورودها مورد الاستصحاب غالباً، والموارد التي لا يكون الاستصحاب فيها مخالفاً لليد قليلة جداً، فلو قدّم الاستصحاب لم يبق مورد لليد، فنقع في مخالفة التعليل الوارد في الآية من أنّه: لولاها لما قام للمسلمين سوق.

ثمّ إنّ اليد التي لا يعلم حالها تكون موجبة لنقل ما في اليد من الأملاك القابلة للنقل في حدّ نفسها، من غير حاجة إلى أمر يكون هو الموجب للنقل والانتقال، كما لو لم يكن ما في اليد من الأراضي الموقوفة ولا من الأراضي المأخوذة عنوة العامرة حال الفتح، فإنّها لا يجوز نقلها، إلّا إذا رأى ولي المسلمين المصلحة في نقلها.

ص: 366

فتحصّل: أنّ اليد إن كانت مجهولة الحال من أوّل حدوثها بحيث لم يعلم أنّها يد مالكة أو عادية أو يد أمانة شرعيّة، كاللقطة، أو أمانة مالكيّة، كالإجارة والعارية والوديعة، ولم يقرّ ذو اليد بخروجها عن ملكيّته، كانت حجّيّة اليد - حينئذٍ - من المسلّمات؛ لاحتمال انتقالها إلى ملكه.

وهذا القسم هو المتيقّن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك لصاحبه؛ لأنّه استصحاب مثبت، ولا يثبت استصحاب بقاء الملك دليليّة اليد على ملك الغير.

هذا فيما كانت اليد من الاُصول.

وأمّا إذا كانت من الأمارات، فلا إشكال في عدم وصول النوبة إلى الاستصحاب؛ لأنّ حالها - حينئذٍ - يكون كحال سائر الأمارات في حاكميّتها على الاستصحاب.

وأمّا إذا كان حالها معلوماً من الأوّل، أنّها يد عارية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك، ثمّ احتمل انتقال المال إليه من أول حدوث يده عليه، فحينئذٍ قد يقال: لا إشكال في سقوط اليد والعمل على ما يقتضيه الاستصحاب؛ بداهة أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك فيما إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بأحد العنوين المزبورة من الإجارة ونحوها، واستصحابحال اليد يوجب تعنونها بأحدها فلا تكون كاشفة عن الملكية، ولا يبقى مجال لحكومتها باعتبار أماريّتها.

ولكن يمكن أن يقال: هذا إنّما يتم إذا كانت اليد من الاُصول، وكان

ص: 367

دليلها شاملاً لمجهول العنوان، فإنّه يصبح معلوم الغصبية أو الأمانية ببركة الاستصحاب.

وأما على القول بأماريّتها، بأن كانت اليد من الأول يد أمانة أو غصب، ولكن احتمل انتقاله إليه، فإنّ لازم أماريتها إذ ذاك هو رفع دليل اعتبارها، ومقتضى رفع الجهل عن ملكية ما في يده هو تطبيق الملكية وبيان عدم غصبيتها ولا أمانتها كذلك، فيرتفع الاستصحاب لارتفاع موضوعه وهو الشك.

ثمّ إنّه قد تقدّم أنّ الملك تارة يكون من قبيل المفتوح عنوة، واُخرى يكون وقفاً.

أمّا في الصورة الأُولى: فإذا حصل الشك في الملكية لصاحب اليد بواسطة انتقالها إلى ذي اليد بنقل شرعي كان لذي اليد حينئذٍ أمارة شرعية ظاهراً.

وهذا بخلاف الصورة الثانية حيث يكون الملك من الأوّل وقفاً، فلا تكون اليد أمارة على الملكية؛ لما عرفته من أنّها إنّما تكون كذلك فيما إذا كان المال بطبعه قابلاً للنقل والانتقال فعلاً، فلابدّ لثبوت الملكيّة حينئذٍ من طرو أحد الاُمور التي يجوز معها النقل والانتقال. فظهر أنّ استصحاب عدم طرو ما يجوز معه النقل يقتضي بقاء الملك على مالكه الأوّل وسقوط اعتبار اليد.

فإن قلت: قد يكون الوقف قابلاً للبيع في بعض الموارد، فيتحقق

ص: 368

الشك.

قلت: لا يخفى ضعفه لندرة مثل تلك الموارد.

فإن قلت: إنّ اليد وإن كانت أمارة على ذيها، إلّا أنّ لازم ذلك طروّ ما يسوّغ النقل إليه، وشأن الأمارة إثبات اللوازم والملزومات، فاليد كما تثبت النقل تثبت طروّ المجوّز للنقل أيضاً.قلت: إنّما يتمّ إذا كانت قابلية النقل والانتقال من اللوازم، والحق أنها بمنزلة الموضوع، والأمارة لا تثبت الموضوع. ولذا لو كان في اليد مائع ولم نعلم أنّه خل أو خمر، مع علمنا أنّه كان خمراً سابقاً، فلا تثبت الأمارة الخلية؛ لأنّ اليد أمارة على الملك، وليس الخمر ممّا يملك، فيكون خلّاً؛ لأنّها الأمارة تثبت اللوازم.

وهذا يدلّ على أنّ المالية ليست من اللّوازم، بل هي موضوع، فاستصحاب بقاء الخمرية في المقام حاكم على اليد، وكذا استصحاب بقاء الوقفية.

فإن قلت: فأيّ فرق بين الوقف والأراضي المفتوحة عنوة؟ مع أنّه لو كان ما في اليد من الأراضي المفتوحة عنوة وادّعى الملكية تقرّ يده عليه، ولا يجري استصحاب بقائها على الحالة السابقة.

قلت: الفرق أنّ الأراضي المفتوحة عنوة وإن كانت ملكاً للمسلمين إلّا أنّها قابلة للنقل والانتقال بالفعل، غاية الأمر أنّ المصلحة العامة اقتضت أن يكون المتصدي للنقل هو ولي أمر المسلمين .

ص: 369

أما الوقف فلا يقبل النقل والانتقال وإن فرض بأنّه ملك للموقوف عليه، إلّا بعد طروّ مسوّغ كما عرفت.

ثمّ إذا لم يدّعِ أحد الملكية في مقابل ذي اليد، ترتبت آثار الملكية وجاز الشراء منه قطعاً. فإن ادّعى في مقابله: فإن أتى ببينة على طبق ما يدّعي أو لم يأت ولكن اعترف صاحب اليد بأنّها للمدعي: اُخذ المال من ذي اليد واُعطي للمدّعي.

وأمّا مع فقد البينة واعتراف صاحب اليد بأنّها كانت للمدّعي أوّلاً ثمّ انتقلت إليه بناقل شرعي، فهل ينتزع المال من ذي اليد ويسلم إلى المدعي أم لا؟ بل هناك تفصيل فتارة ان المال تثبت ملكيته باقرار ذي اليد واعترافه واُخرى تثبت بالبينة وثالثاً بحكم الحاكم.

ذهب المحقق النائيني! إلى الأوّل حيث قال ما هذا لفظه:

«فالأقوى - وفاقاً للمحكيّ عن المشهور - انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي؛ لأنّه بإقراره تنقلب الدعوى ويصير المدعيمنكراً والمنكر مدعياً، فإنّه عند إقراره بأنّ المال كان للمدعي إمّا أن يضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه، وإمّا أن لا يضم إلى إقراره ذلك، بل يدعي الملكية الفعلية مع إقراره بأنّ المال كان للمدعي.

فإن لم يضمّ إلى إقراره دعوى الانتقال، يكون إقراره مكذباً لدعواه الملكية الفعلية، فإنّه لا يمكن خروج المال عن ملك من كان المال ملكاً له ودخوله في ملك ذي اليد بلا سبب، فدعواه الملكية الفعلية

ص: 370

تكون مناقضة لإقراره، ومقتضى الأخذ بإقراره بطلان يده وعدم سماع دعواه» (1).

ولكن يمكن أن يقال: عدم ضمّ دعوى الانتقال لا يقتضي مكذبية إقراره ليده، وإنّما المكذب له هو دعوى عدم الانتقال، لا عدم دعوى الانتقال، إذ يكفي لصحة هذه مجرد احتمال الانتقال إليه واقعاً، وهو غير دعوى الانتقال. فلا يمكن في هذه الصورة دعوى عدم انتزاع المال من يده لعدم منافاة إقراره مع اليد الكاشفة عن الملكية الفعلية.

ثم قال!: «وإن ضمّ إلى إقراره دعوى الانتقال إليه تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعياً للانتقال إليه، فإنّه يخالف قولُه الأصلَ المعوّل عليه في المسألة - وهو أصالة عدم الانتقال إليه - فينطبق على ما ذكرناه في محله في تشخيص المدّعي والمنكر من أنّ المدّعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة من بينهما، فإنّ ارتفاع الخصومة من البين إنّما هو لأجل كون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة الموافق لقول أحدهما» (2).

ولكن يمكن أن يقال: إنّ مجرد عدم أماريّة اليد على الانتقال لا تسقط اليد عن الأمارية على نحو الإطلاق، أو فقل: لا يسقطها عن الأمارةعلى

ص: 371


1- فوائد الاُصول 4: 611 - 612.
2- فوائد الاُصول 4: 612 - 613.

الملكية الصرفة، فتبقى اليد على حجيتها ولا يمكن انتزاع المال من يد ذي اليد.

فإن قلت: إنّ أصالة عدم الانتقال لا تكفي للمدعى.

قلت: لكن يكفي لذي اليد استمساك المال أيضاً، فيكون دليلاً على الملكية، ولا تكون إحدى الحجّتين رافعة للاُخرى، كما لا تفيد دعوى الانقلاب في رفع هذه الشبهة، غايته: أنّ أصالة عدم الانتقال تجعل مدّعيه مدّعياً على خلاف الحجّة في دعواه، ولكن هذا المقدار لا يقتضي انتزاع المال من يد من بيده المال؛ لعدم قصور اليد عن الحجيّة على صرف الملكيّة وإن لم يثبت الانتقال. وحينئذٍ: لا يمكن انتزاع المال بأصالة عدم الانتقال ما لم تنضمّ إليها مقدّمة اُخرى.

نعم، بناءً على الإجماع والشهرة على الانقلاب، يكونان سبباً لحجّية أصالة عدم الانتقال؛ ضرورة أنّ جريان هذا الأصل يجعل المدعي منكراً، فحجيّته بلحاظ ترتب أثر عدم الانتقال من بقاء الملكية عليه. فإذا قامت الأمارة على ملكية الغير لم يترتب الأثر المزبور، ومع عدم ترتبه لا معنى لحجية أصالة عدم الانتقال.

فيستكشف من الشهرة والإجماع عدم حجية اليد، فينتزع المال من ذي اليد، ومع عدم اقتران الأصل بدعوى الانقلاب تبقى اليد على حجيتها، ولازمه عدم حجية الأصل.

ثم إنّ المحقق النائيني! بعد أن ذكر أنّه لا إشكال في أنّ ذا اليد لو ترك

ص: 372

دعواه الانتقال إليه بعد إقراره بأن المال كان للمدعي ترتفع الخصومة من البين، وكان المرجع بعد الإقرار أصالة عدم الانتقال ولا يجوز التعويل على اليد؛ لسقوطها بالاقرار...

قال! ما إليك نصّه:

«ربما يتوهم المنافاة بين ما ذكرنا: من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي اليد بأنّ المال كان للمدعي، وبين ما ورد في محاجّة أمير المؤمنين(علیه السلام) مع أبي بكر في قصة فدك على ما رواه فيالاحتجاج (1) مرسلاً عن مولانا الصادق(علیه السلام) في حديث فدك: (إنّ أمير المؤمنين(علیه السلام): قال لأبي بكر تحكم فينا بخلاف حكم اﷲ في المسلمين؟ قال لا، قال(علیه السلام): فإن كان في يد المسلمين شيءٌ يملكونه ادّعيت أنا فيه، مَنْ تسأل البينة؟ قال: إيّاك كنت أسأل على ما تدعيه، قال(علیه السلام): فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي! وقد ملكته في حياة رسول اﷲ- وبعده! ولم تسأل المؤمنين على ما ادّعوا عليّ! كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم!) الخبر» (2).

فإنّ مقتضى تلك القاعدة: أنّ على الزهراء الإتيان بالبيّنة؛ لأنّها انقلبت من منكرة إلى مدّعية، مع أن أمير المؤمنين(علیه السلام) نفى في الخبر كون

ص: 373


1- الاحتجاج 1: 122.
2- فوائد الاُصول 4: 613 - 614.

البينة عليها، بعد البناء على أنّ ما تركه النبي- لم ينتقل إلى وارثه بل يكون صدقة للمسلمين لما رووه عنه- من قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهماً ولا ديناراً» (1).

فيكون المسلمون بمنزلة الوارث له-، وحيث إنّ أبا بكر ولي المسلمين كان له حق مطالبة البيّنة من الصدّيقة على ما ادّعته من أنّ رسول اﷲ- قد ملّكها فدكاً في أيّام حياته.

وحينئذٍ: تكون البيّنة على الطرف الآخر وهو أبو بكر، فبما أنّه يدعي ولاية المسلمين لابدّ له من الإتيان بالبيّنة، فاحتج الأمير(علیه السلام) على هذه الدعوى.

ولكنّ المحقّق النائيني! بعد ادّعائه الانقلاب، أفاد: أنّ الحكم لا ينقلب هنا، بل يكون أبو بكر هو المدّعي، فإقرارها أنّ فدك كان ملكاًللنبي- لا يوجب انقلاب الدعوى بعد أن بين أنّ انتقال المال إلى المسلمين ليس كانتقال المال من المورث إلى الوارث؛ ضرورة أن انتقال الملك إلى الوارث يكون بتبدلّ الملك الذي هو أحد طرفي الإضافة، وانتقاله إلى المسلمين إنّما هو بتبدّل أصل الإضافة؛ فإنّ الملكيّة عبارة عن الإضافة الخاصة القائمة بين المالك والمملوك.

فللملكيّة طرفان: طرف المالك وطرف المملوك، ففي البيع تبدل

ص: 374


1- نقلاً عن: مسند أحمد بن حنبل 1: 4.

الإضافة يكون من طرف المملوك أما الملك فيبقى على ما حاله من الملكية، غايته: أنّ طرف الإضافة قبل البيع هو المثمن، وبعده هو الثمن، فيقوم مقامه ويصبح هو طرف الإضافة (1).

وأمّا في الإرث، فالتبدّل يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على حاله، غايته: أنّ طرف الإضافة قبل موت المورث هو نفس المورّث، وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصبح هو طرف الإضافة.

وقد يكون بتبدّل أصل الإضافة بمعنى انعدام الإضافة القائمة بين المالك والمملوك، وتحدث إضافة اُخرى لمالك آخر كما في الهبة، فإن انتقال المال إلى المتّهب بالهبة ليس كانتقال المال إلى الوارث ولا من قبيل انتقاله بالبيع، بل انتقاله إليه يكون بإعدام الإضافة بين الواهب والموهوب وحدوث إضافة اُخرى بين المتهب والموهوب.

فظهر: أنّه بناء على ثبوت الخبر المجعول، فلا يكون انتقال المال إلى الوارث كانتقاله إلى المسلمين، بل يكون كانتقال المال من الواهب إلى المتهب والموصى له والموصى به؛ لأنّ المسلمين لم يرثوا المال من النبي حتى يكون سبيلهم سبيل الوارث.

وبعد قيام الوارث منزلة المورث، لا يكون إقرار فاطمة بأن الملك كان لرسول اﷲ- إقراراً بأنه ملك للمسلمين؛ لوضوح عدم قيام

ص: 375


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 615.

المسلمين مقام النبي-، بل غايته أنّه يصرف في شؤونهم، فلا ينتزع عن يده، فتبقى أصالة عدم الانتقال وهذا محكوم باليد.ثمّ هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصولية، أم هي من القواعد الفقهية.

لا يخفى: عدم اُصوليّة هذه المسألة؛ لعدم وقوعها كبرى في قياس الاستنباط - على ما هي الضابطة في القاعدة الاُصولية - بل تستنتج منها الملكيات الشخصية وغيرها من الاُمور الجزئية التي تثبت لذي اليد كالسلطة على الطفل الصغير، فحالها حال سائر القواعد المستعملة في الأحكام الجزئية كالبيّنة وأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ والتجاوز وبقيّة الموضوعات الخارجية التي يستنبطها الفقيه ويفتي بها ثمّ يطبّقها المقلّد ويعمل بمضمونها.

وأنت خبير: بأنّه لا حظّ للمقلّد في تطبيق المسألة الاُصوليّة، بل إنّما تطبيقها بيد المجتهد؛ مضافاً إلى تعلّق المسألة الاُصوليّة بكيفية العمل مع الواسطة، بخلاف المسألة الفقهيّة حيث تتعلّق بها بلا واسطة.

ص: 376

الكلام في قاعدة اليد

في معاني اليد:

الحاصل: أنّ لليد معان:

فمنها: العضو المعروف. ومنها: القوة. ومنها: السلطنة. ومنها: القدرة. ومنها: النعمة. ومنها: الاستيلاء. ومنها: الملك. ومنها: السلطان. ومنها: الطاعة. ومنها: الجماعة.

وقد استدلّوا على الحجية والحقيقة في جميعها، والحقّ: أنّها حقيقة في العضو المعروف.ويرد على ما استدلّوا به: أنّه ليس من ديدن اللّغويين إلّا بيان موارد الاستعمالات، من غير أن يتعرّضوا إلى بيان الحقيقيّ منها وتمييزه عن المعاني المجازيّة.

واستدلّ على وضعها للعضو المعروف بالتبادر، وعدم صحّة السلب.

وكيف كان، فإنّ المراد من اليد في محلّ البحث إنّما هو الاستيلاء

ص: 377

والسلطنة على شيء، بلا فرقٍ بين تحقّقه بالملك أو الأمانة أو الإجارة أو العارية، أو كان تحقّقه بالتربية كسلطة الأب والأم على الطفل بإخبارهم بنجاستهم وطهارتهم، وكذا الفراش وأثاث البيت بالنسبة الى من في يده كالزوجة أو الخادمة. و كذا سلطة الإمام والفقيه لما يقع تحت سيطرتهم وحكومتهم.

فما ورد في رواية عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعاً عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام):

«فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول اﷲ- وبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادعوا عليّ» (1): ليس مراد باليد فيها إلّا الاستيلاء.

وكذا رواية حفص بن غياث عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:

«قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل، يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟

ص: 378


1- وسائل الشيعة 27: 293, الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم، ح 3.

ثمّ قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام) لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (1).ومنها: ما روي عن الصادق(علیه السلام) في حديث فدك أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) قال لأبي بكر:

«أتحكم فينا بخلاف حكم اﷲ في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال(علیه السلام): فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول اﷲ - وبعده، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا علي كما سألتني البيّنة على ما ادعيت عليهم - إلى أن قال - وقد قال رسول اﷲ-: البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر» (2).

ومنها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:

«سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة» (3).

ص: 379


1- وسائل الشيعة 27: 292, الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم، ح 2.
2- وسائل الشيعة 27: 293, الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم ح 3.
3- وسائل الشيعة 17: 89, الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 4.

ومنها: رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي قال:

«سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرا، لا يعلم أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة» (1).

ومنها: رواية عبد الرحمن بن حجاج قال:«قلت لأبي عبد اﷲ(علیه السلام): إنّي أدخل سوق المسلمين - أعني: هذا الخلق الذين يدعون الإسلام - فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكية؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكية، قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته» (2).

فإنّه يظهر من إطلاق هذه الرواية أنّ عدم التذكية يصدق عليه الميتة، خلافاً لما تقدّم من رأي اُستاذنا الأعظم! من أنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت الميتة؛ لأنّها أمر عدمي، والميتة أمر وجودي.

ومنها: رواية حمزة بن حمران، قال:

«قلت لأبي عبد اﷲ(علیه السلام): أدخل السوق وأريد اشتري جارية فتقول: إنّي حرّة، فقال: اشترها إلّا أن يكون لها البينة» (3).

ص: 380


1- وسائل الشيعة 3: 491, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 3.
2- وسائل الشيعة 3: 503, الباب 61 من أبواب النجاسات ح 4.
3- وسائل الشيعة 18: 250, الباب 5 من أبواب بيع الحيوان ح 2.

ثمّ هل يعتبر في قول ذي اليد العدالة والوثاقة؟

لا يخفى: عدم اشتراط الإسلام والإيمان في قبول قول ذي اليد، فأولى بذلك عدم اشتراط العدالة والوثاقة.

في تعارض اليد مع الأمارات والاُصول:

اعلم أنّه إذا تعارضت البينة مع ذي اليد، تقدّمت عليه؛ لأقوائيتها، كما ذكر في باب القضاء والدعاوى، وإلّا لم يبق لمدّعي الملكية دليل حتى في مقابل الغاصب.

وإذا تعارضت اليد مع أمارة اُخرى، فلا تكون اليد حجّة؛ لأنّها وإن كانت أمارة، إلّا أنّ أماريّتها مشروطة بأن لا توجد أمارة على خلافها،كما لو كانت الأرض في يد شخص وادّعى ملكيّتها، وشاع أنّها وقف، سقطت اليد بذلك عن الحجّيّة، ودخلت في باب التعارض؛ لتعارضها مع أمارة أُخرى، وحينئذٍ: يؤخذ بأقواهما إن وجد وإلّا تساقطا.

هذا إذا كانت البيّنة مستندة إلى العلم، وأمّا إذا استندت إلى الأصل، فتكون اليد مقدّمة عليها مطلقاً، فتأمّل.

وأما إذا كان الملك تحت يده فأقرّ بأنّه ليس له، أو بأنّه لفلان، فيقدّم الإقرار على ذي اليد؛ بداهة أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ، فتسقط يده عن الملكيّة؛ لحكومة الأمارة ولو ضعيفة على الأصل.

ص: 381

هذا، ولا يخفى: عدم تساوي الأمارات في الإقدام، فربّ أمارة أقوى من أمارة اُخرى، فتتقدّم عليها.

ولا شكّ في أنّ البيّنة العادلة أقوى دلالةً على الملكيّة من اليد؛ لأنّ اليد وإن كانت بطبعها الأوّليّ مقتضية للملكية، إلّا أنّه إذا وجد دليل أقوى منها يدلّ على انحرافها عن طبعها واستعمالها في غير محلّها، كان لابدّ من الركون إليه، وهذا نظير تقديم الأظهر على الظاهر.

وأمّا في صورة تعارض اليدين، كما إذا وجد شخصان مسلّطان على شيء واحد، فأخبر أحدهما بنجاسته والآخر بطهارته، فحينئذٍ: يتعارضان، فيتساقطان، ويحكم بالطهارة للأصل.

وإذا كان هناك يدان على شيء واحد، إحداهما قديمة والثانية جديدة، قدّمت اليد الثانية؛ لأنّه ذو اليد فعلاً، ولأنّ فعل المسلم يحمل على الصحّة، خصوصاً إذا كان يتصرّف فيه تصرّف الطهارة، كما إذا اخبر بأنّه طاهر؛ هذا مع علم صاحب اليد الثانية بالنجاسة سابقاً.

وأمّا إذا قال بالطهارة مع عدم علمه بالنجاسة فيقدّم قول الأوّل؛ لاستصحاب النجاسة.

وإذا تعارض قول المالك وذو اليد كالزوجة في طهارة ما هو تحت يدها من الأثاث الظاهر، قُدّم قولها؛ لأنّها هي ذو اليد بالنسبة إلى هذه الاُمور.وإذا تعدّدت الأيدي على مال، فهل تتعارض فتتساقط؟ أم أنّ تعدّدها

ص: 382

يكون أمارةً على أنّ كلّ يدٍ مالكة لجزء من المال، فإن كانت يدين فلكل واحد منهما النصف، أو ثلاثة: فالثلث، كما هو المشهور بين الفقهاء، والعرف يرى ذلك.

واعترض عليه: بأنّ مقتضى حجية اليد هو أماريتها على ملكية تمام ما في يده، فالنتيجة هي التعارض والتساقط حيث لا مرجّح، فيرجع إلى الأصل؛ مع أنّا نرى استحالة كون كلّ واحدة من الأيدي مستقلّة في جميع المال، خاصّة بعد تفسيرها بالاستيلاء؛ لأنّ الاستيلاء التامّ هو أن يكون للشخص سلطنة باستقلاله بالنسبة إلى التصرّف ومنع الغير من ذلك، ومثله لا يكاد يتحقّق على فرض تعدّد الأيدي.

وقد يقال: إنّ لكلّ واحدة من تلك الأيدي استيلاءً تامّاً بالنسبة لما في يده، ولكن على نحو المشاع، فلو كانت اثنتين فالمشاع هو النصف؛ أو أنّ لكلّ واحدٍ منهم في الواقع يداً ناقصة، ولكن يحسبها العقلاء كاليد التامّة المستقلّة، فتكون كالشركة القهريّة، كما إذا اختلط الدهن الذي لأحد الشخصين بالدهن الذي للآخر قهراً أو مع الاختيار.

ولذا نرى أنّه لو باع أحدهم النصف المشاع أو وهبه لم يكن متعدّياً ولم يحتج إلى إجازة من الآخر، وهو معدود عند العرف أنّه تصرّف في ماله، كما أنّه لا يجوز له أن يبيع أكثر من النصف إلّا مع إقرار الشريك أو قيام البينة على دخولها كلّها تحت ملكه؛ وإلّا عدّ تعدّياً في نظر العرف.

ص: 383

فهذا التصرّف وجواز النقل والانتقال منه دليل على أنّه ليس من حقّه الاستيلاء على جزء معيّن، فضلاً عن استيلائه على المجموع إذا كانت الأيدي متعدّدة، بل على الجزء المشاع خاصّةً.

في أماريّة يد الكافر على عدم التذكية

اشارة

ويلحق بهما سوق الكفّار وأرض الكفر.هل يد الكافر بنفسها أمارة على عدم التذكية كما أنّ يد المسلم أمارة كذلك على التذكية؟ أم لا، بل الحكم بعدم التذكية إنّما هو من جهة التمسّك بأصالة عدم التذكية؟ وكذا الحال في سوق الكفّار وأرض الكفر، فهل هما - أيضاً - بأنفسهما أمارتان على عدم التذكية أم لا؟

ويمكن أن يفرض ثمرة لهذا البحث في العديد من الموارد:

منها: ما إذا تعارضت الأمارتان، أعني: سوق المسلمين ويد الكافر، بأن كان اللّحم في يد الكافر بائع في سوق المسلمين؛ فإنّه إذا حكمنا بعدم تذكية ما في يد الكافر تمسّكاً بأماريّة يده السوق ويد الكافر يحصل التعارض بين الأمارتين؛ فإنّ المفروض ثبوت الأماريّة على التذكية لسوق المسلمين.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الحكم المذكور - أعني: عدم التذكية - كان مستفاداً من أصالة عدم التذكية، ولا أماريّة ليد الكافر، فيكون من التعارض بين الأمارة والأصل، فإنّ السوق له أمارية بحسب الفرض، ولا أماريّة لليد،

ص: 384

وفي مثله: تكون الأمارة مقدّمة على الأصل بلا كلام.

ومنها: ما إذا كانت يد المسلم على جزء من الحيوان ويد الكافر على جزء آخر منه؛ فإنّه إذا أردنا أن نحكم بالتذكية وعدمها فلابدّ أن يكون ذلك بالنسبة إلى تمام الحيوان ومجموعه، لا بالنسبة إلى خصوص الجزء الذي هو كائن بيد المسلم؛ فإنّ المتصوّر من أماريّة التذكية أو من عدمها إنّما هي التذكية أو عدمها بالنسبة إلى الحيوان كلّه، لا تذكية جزء خاصّ منه، هو الجزء الذي بيد المسلم خاصّةً.

وهنا: إن قلنا بأن يد الكافر أمارة على عدم التذكية فتتعارضان، وأمّا إذا قلنا بعدم أماريّته، وإنّما استفيد الحكم من جهة أصالة عدم التذكية فتقدّم يد المسلم لا محالة؛ لأنّها أمارة، والأمارات مقدّمة على الاُصول، ومن بينها: أصالة التذكية.

ومنها: ما إذا كانت الذبيحة بيد المسلم قبلاً، ولكنّها فعلاً بيد الكافر، فلو قلنا بأنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية فتتعارض الأمارتان؛ لأنّ يد المسلم من حين حدوثها كانت أمارةً على التذكية حدوثاً وبقاءً.وأمّا على القول بعدم أماريّتها، فيد المسلم بما أنّها أمارة على التذكية تكون مقدّمة على أصالة عدم التذكية، فيحكم بكون هذه الذبيحة مذكّاة حينئذٍ.

ثمّ إنّه قد استدلّ لأماريّة يد الكافر وأرض الكفر وسوق الكفار بأدلّة:

ص: 385

الدليل الأوّل:

مصحّح إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح(علیه السلام) أنّه قال: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليمانيّ وفيما صُنع في أرض الاسلام. قُلْتُ: فإن كان فيها غير أهل الاسلام، قال(علیه السلام): إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» (1).

وتقريب الاستدلال به: هو أنّه يدلّ - بمفهوم الشرط - حيث إنّه علّق عدم البأس على غلبة المسلمين. فيدلّ بالمفهوم على ثبوت البأس إذا لم تكن الغلبة للمسلمين في تلك الأرض، أو في ذلك البلد.

ولكنّك خبير: بأنّ ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين أجنبيّ عن إثبات الأماريّة لسوق الكفر، بل هي في مقام بيان المراد من سوق المسلمين وأرض الإسلام وتحديد أن يكون جميع من فيها أو غالبهم من المسلمين، ومعه: فالبأس عند عدم غلبة المسلمين إنّما يثبت بحكم أصالة الحرمة في اللّحوم؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية جارٍ، وكذلك، فالرواية ليست في مقام إثبات الأماريّة لسوق الكافرين، ولا لأراضيهم على عدم التذكية.

وقد يُقرّب الاستدلال بهذه الرواية - أيضاً - بمفهوم الوصف، بأن يُقال: إنّه(علیه السلام) علّق الحكم بنفي البأس على الغلبة الموصوفة بغلبة

ص: 386


1- وسائل الشيعة 3: 491 - 492, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 5.

المسلمين، ومقتضاه: ثبوت البأس عند ثبوت الغلبة الموصوفة بأنّها غلبة غير المسلمين، فيكون المراد - حينئذٍ -: أنّه إذا كان الغالب عليهاغير المسلمين، ففيه بأس، وهذا معنى ثبوت الأماريّة لها على عدم التذكية، وهو المطلوب.

ولكن أجاب عنه بعض المحقّقين! - وهو نعم الجواب - بقوله: «وهذا الوجه غير سديد؛ لما حُقّق في محلّه: من عدم حجّيّة مفهوم الوصف، وعدم اعتباره شرعاً» (1).

الدليل الثاني:

رواية إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الجلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال(علیه السلام): عليكم أنتم إن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا بأس» (2).

وتقريب الاستدلال به كما أفاده اُستاذنا المحقّق!: «أنّه (علیه السلام) أمر بالسؤال إذا كان البائع مسلماً غير عارف بأنّ ما باعه ميتة أم لا، وكان هناك في البلد والسوق مشركون يبيعون ذلك، ومن المحتمل: أن يكون هذا المسلم اشترى منهم، ونتيجة السؤال: هو أنّه لو تبيّن أن البائع الأوّل

ص: 387


1- منتقى الاُصول 7: 77.
2- وسائل الشيعة 3: 492, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 7.

مشرك، وهذا البائع الثاني المسلم اشترى من ذلك المشرك، يجب الاجتناب عنه، وإلّا يلزم أن يكون الأمر بالسؤال لغواً، ومعلوم: أن معنى هذا: أن يد الكافر أمارة عدم التذكية، وتعارض يد المسلم التي هي أمارة التذكية وتكون مقدّمةً عليها، فيدلّ على اختصاص أماريّة يد المسلم على التذكية بما لا يعلم تقدم يد الكافر عليها» (1).

نعم، إذا كان تقدم يد الكافر معلوماً، يتعارضان، فنرجع إلى أصالة عدم التذكية بعد تساقطهما.ولكنّ الحقّ - كما يظهر من الرواية - أنّ الحكمة من إلقاء هذا السؤال إنّما هي طلب فهم أمارة على التذكية؛ ومع سبق يد الكافر، فلا محالة: لا ينعقد للجواب دلالة - أصلاً - على أماريّة يد الكافر على عدم التذكية. فتأمّل جيّداً.

قبول قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة

هل يقبل قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أم لا؟

قال في الحدائق: «ظاهر الأصحاب الاتّفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونحوهما ونجاستهما» (2).

ومن هنا قد يُجعل الإجماع من أدلّة المسألة.

ص: 388


1- القواعد الفقهيّة 1: 158.
2- الحدائق الناضرة 5: 252.

ولكن لا يخفى: وجه الإشكال في حجّية أمثال هذه الإجماعات؛ فإنّها:

أوّلاً: من الإجماعات المنقولة التي سبيل إلى تحصيلها.

وثانياً: هي محتملة المدركيّة؛ إذ من المحتمل قويّاً، بل من المظنون، أنّ المفتين بذلك استندوا في فتواهم هذه إلى دعوى قيام السيرة المستمرّة على قبول قوله في ذلك، أو إلى الأخبار التي ذكروها في هذا الباب.

ومن هذه الأخبار والروايات:

صحيح معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج ويقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنّه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال(علیه السلام): لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يُخبرنا أن عندهبختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال(علیه السلام): نعم» (1).

حيث يظهر من هذه الرواية: حجّيّة قول ذي اليد ولو لم يكن من أهل المعرفة بالحقّ. نعم، لا يكون قوله حجّة إذا كان هناك ما يوهن صحّة إخباره؛ لأنّ شربه على النصف - كما في صدر الصحيحة - قد أسقط حجّيّة إخباره، وهذا لا يدلّ على أنّ إخبار ذي اليد من حيث هو ليس بحجّة.

ص: 389


1- وسائل الشيعة 25: 293, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 4.

وصحيحة معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن البختج فقال: إذا كان حلواً يخضب الإناء وقال: صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث فاشربه» (1).

قد يقال: لا تدلّ هذه الرواية على قبول قول ذي اليد بما هو حجّة، حيث قيّد فيها القبول بأنّه يخضب الإناء، فنحتاج في حجّيّتها إلى أمارة أُخرى تنضمّ إليها.

قلنا: الظاهر أنّ هذا القيد إنّما هو لأجل رفع الوهن في الدلالة؛ لأنّ عدم خضبه للإناء يكون موهناً لإخباره بذهاب الثلثين، بعدما كان هناك ملازمة عاديّة بين ذهاب الثلثين وبين خضبه للإناء.

ومنها: ما ورد في بيع الدهن المتنجّس من لزوم إعلام المشتري (2)؛ فإنّها صريحة في حجّيّة قول ذي اليد ولزوم قبوله والأخذ به، وإلّا، لو لم يكن حجّة، فما الفائدة في إخباره وإعلامه؟

هذا. ولكن هناك خبران يمكن التمسّك بهما لتقييد حجّيّة قول ذي اليد واعتباره بما إذا كان ذو اليد من أهل الإيمان:أوّلهما: موثّق عمّار عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حديث أنّه سُئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث، قال(علیه السلام): «إن كان مسلماً

ص: 390


1- وسائل الشيعة 25: 293, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.
2- وسائل الشيعة 17: 98, الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 3 و4.

ورعاً مؤمناً فلا بأس أن يشرب» (1).

والثاني: صحيح ابن جعفر: «لا يصدّق إلّا أن يكون مسلماً عارفاً» (2).

حيث دلّا على تقييد حجّيّة قول ذي اليد على أن يكون من أهل الإيمان، بل وعلى أن يكون ورعاً أيضاً.

ولكن الحقّ: أنّه لابدّ من حمل هذين الخبرين على كراهية تصديق ذي اليد، وكراهية العمل بأخباره إذا لم يكن مؤمناً ورعاً؛ فإنّ الصحيحة نصّت صراحةً على اعتبار قول ذي اليد في حدّ نفسه؛ لأنّ فيها تصريحاً باعتبار قول من ليس من أهل المعرفة، ولو لم يكن مؤمناً ورعاً.

قال اُستاذنا المحقّق!: «ولا يخفى: أنّ دلالة هذه الأخبار على حجّيّة إخبار ذي اليد في الطهارة والنجاسة مبنيّ على نجاسة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين، وإلّا، فلا يدلّ إلّا على حجّيّة إخباره بالنسبة إلى الحلّيّة، لا بالنسبة إلى الطهارة التي هي محلّ الكلام» (3).

ولكن الحقّ: أنّها تدلّ على حجّيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى الطهارة؛ إذ لا تكون لإخباراته بالنسبة إلى الحلّيّة خصوصيّة.

ومع ذلك، فيمكن الاستدلال على حجّيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى

ص: 391


1- وسائل الشيعة 25: 294, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 6.
2- وسائل الشيعة 25: 294, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 7.
3- القواعد الفقهيّة 1: 161 - 162.

الطهارة بما تقدّم من رواية إسماعيل بن عيسى: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الجلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسألعن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال(علیه السلام): عليكم أنتم إن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا بأس» (1).

فإنّه صريح في حجّيّة قول المسلم، دون المشرك.

إلى غير ذلك من الأخبار والروايات.

وقد يُستدلّ - أيضاً - لحجّيّة قول ذي اليد بالسيرة العمليّة للمسلمين، من المتديّنين الذين يُعهد منهم الالتزام بالشريعة - دون العوامّ الذين لا يكترثون بمخالفة أحكام الشريعة - فإنّهم إذا أخبر ذو اليد بطهارة طعام يأكلونه، ولو كان مستصحب النجاسة، وإذا أخبرهم بالنجاسة اجتنبوا عن أكله.

وهل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض - أيضاً - أم لا؟

بحيث يقال: بما أنّ المرأة كانت تحت يده، بمعنى: أنّها في بيته، أو كان الصبي كذلك، فهل لهذا الاستيلاء دلالة على أنّها زوجة له، وأنّ الولد ولده، بحيث لو نازعه شخص فيها أو في الصبيّ يقبل قوله أم لا؟

الحقّ: أنّ الكلام ينبغي أن يقع أوّلاً في الصغرى، بالنسبة إلى مثل

ص: 392


1- وسائل الشيعة 3: 492, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 7.

الزوجة والابن؛ فإنّه لا يخفى: أنّ صدق الاستيلاء على الزوجة والابن محلّ إشكال، بل منع.

وقال اُستاذنا المحقّق!: «والأقوال في المسألة مضطربة ولكنّ الأقوى - بناءً على ما ذكرنا من أنّ مدرك هذه القاعدة هو بناء العقلاء -: استقرار بنائهم على أماريّة اليد في هذه المواضع؛ لأنّ الظنّ الحاصل من الغلبة ها هنا أقوى بمراتب من الظنّ الحاصل في باب الأملاك؛ لأنّ الغصب في باب الأملاك كثير، بخلافه ها هنا؛ فإنّ غصب أحدهم زوجةالآخر أو ولده في غاية القلّة، بل الندرة. نعم، لو كان مدرك القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فشمولها لمثل المقام في غاية الإشكال» (1).

ولكنّ ما ذكره! بالنسبة إلى الأوّل مشكل؛ لما عرفت من الإشكال في صدق الاستيلاء في مورد الإنسان، بل إنّما هو مختصّ بالملك.

وأمّا بالنسبة إلى الأخير فما أفاده! تامّ.

ص: 393


1- القواعد الفقهيّة 1: 153.

ص: 394

قاعدة التسامح في أدلّة السنن

اشارة

الظاهر: أنّه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات إلى أن يتعلّق أمر بها حتى يُقصد، بل يكفي في جريان الاحتياط فيها نفس الأمر المحتمل؛ إذ إنّ قوام الاحتياط هو أن يؤتى بالفعل برجاء مطلوبيّته وموافقته للأمر الواقعيّ المحتمل، قال صاحب الكفاية!:

«وقد انقدح بذلك أنّه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلّق أمرٍ بها، بل لو فُرض تعلّقه بها، لما كان من الاحتياط بشيءٍ، بل كسائر ما عُلِم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى» (1).

وهو) بذلك يشير إلى ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم)، حيث قال« ما لفظه:«ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبراً ضعيفاً، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وكلفة إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون

ص: 395


1- كفاية الاُصول: ص 351- 352.

الإرشاد العقليّ، لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب» (1).

والأخبار التي يشير إليها الشيخ! عديدة:

منها: صحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام)قال:

«من بلغه عن النبيّ - صلّى اﷲ عليه وآله وسلّم - شيء من الثواب، فعمله، كان أجر ذلك له، وإن كان رسول اﷲ - صلّى اﷲ عليه وآله وسلّم - لم يقله» (2).

ومنها: ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال:

«من بلغه عن النبيّ- شيء من الثواب، ففعل ذلك طلب قول النبيّ-، كان له ذلك الثواب وإن كان النبيّ- لم يقله» (3).

ومنها: المرويّ عن صفوان، عن الصادق(علیه السلام) قال:

«من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول اﷲ- لم يقله» (4).

ومنها: خبر محمّد بن مروان، قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) يقول:

ص: 396


1- فرائد الاُصول 1: 383.
2- وسائل الشيعة 1: 81، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح3.
3- وسائل الشيعة 1: 81، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح4.
4- وسائل الشيعة 1: 80، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح1.

«من بلغه ثواب من اﷲ تعالى على عملٍ، ففعله التماس ذلك الثواب أُوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (1).إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة والمتقاربة مضموناً...

وقد استفاد المشهور من هذه الأخبار ونحوها القول بحجّيّة خبر الضعيف، وأنّها تثبت الاستحباب للفعل.

فلابدّ من إيقاع الكلام - أوّلاً - فيما هو مفاد هذه الأخبار، لنرى أنّها هل تدلّ على ما اختاره المشهور، أم أنّها مسوقة لبيان معنىً آخر:

فهل يستفاد منها أنّ الثواب يترتّب على ذات العمل، بتقريب: أنّ هذه الروايات دلّت على أنّ اﷲ تعالى تفضّل على العباد بجعل بلوغ الثواب - بمجرّده - كافياً في ترتّب الثواب على العمل المأتيّ به، ليكون المناط على الإتيان بنفس العمل الذي وعد عليه الثواب، فلا يكون متوقّفاً على الإتيان به بقصد الأمر؟

أم أنّه يستفاد منها مجرّد الدلالة على حسن الانقياد شرعاً، وأنّه لو أتى المكلّف بالفعل بداعي احتمال الأمر به، فإنّه يترتّب عليه الثواب؟

وبناءً على الأوّل: فهذه الأخبار تدلّ على استحباب ذات العمل؛ لأنّه لا يكون هناك وجه لترتّب الثواب على العمل المأتيّ به سوى تعلّق الأمر المحتمل به.

ص: 397


1- وسائل الشيعة 1: 82، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح7.

وأمّا بناءً على الثاني: فلا تكون دالّةً على استحباب العمل وحده بدون إضافته إلى اﷲ عزّ وجلّ، ونحتاج في إثبات ترتّب الثواب عليه إلى أكثر من ذلك. أو فقل: الثواب لا يكون - بناءً على هذا الاحتمال - مترتّباً على ذات العمل، بل على العمل المقيّد بداعي احتمال الأمر.

وما يمكن أن يُستدلّ به لإثبات دلالة هذه الأخبار على أنّ الثواب مترتّب على العمل مقيّداً بداعي احتمال الأمر، لا على ذات العمل وحده، هو ظهور حرف (الفاء) في قوله: «فعمله»، في كون العمل متفرّعاً على البلوغ، فيكون ظاهراً في ترتّب الثواب على العمل المأتيّ به بداعي الأمر المحتمل الذي بلغه بالخبر الضعيف، أو فقل: إنّمقتضى هذا التفريع هو داعويّة تحصيل الثواب الذي بلغه لتحقّق العمل، وهو المطلوب.

ولكنّ المحقّق الأصفهانيّ) ناقشه بما لفظه:

«أمّا التفريع، فهو على قسمين:

أحدهما: تفريع المعلول على علّته الغائيّة، ومعناه هنا: انبعاث العمل عن الثواب البالغ المحتمل.

ثانيهما: مجرّد الترتيب الناشئ من ترتّب الثواب على فعل ما بلغ فيه الثواب، فالعمل المترتّب عليه الثواب، حيث كان متقوّماً ببلوغ الثواب عليه، فلذا رتّبه على بلوغ الثواب، فيكون نظير من سمع الأذان فبادر إلى المسجد، فإنّ الداعي إلى المبادرة فضيلة المبادرة لاستماع الأذان، وإن كان لا يدعوه فضيلة المبادرة إلّا في موقع

ص: 398

دخول الوقت المكشوف بالأذان، فلا يتعيّن التفريع في الأوّل حتى ينافي الظهور المدّعى سابقاً» (1).

وملخّص هذه المناقشة: أنّه بعد ثبوت القسمين المذكورين للتفريع، فمجرّد كون الفاء ظاهرة في أنّها للتفريع لا يعيّن حمل التفريع المستفاد منها على القسم الأوّل، ومعه: فلا وجه لأن يُستظهر أخذ داعويّة الثواب في موضوع ترتّب الثواب.

ثمّ إنّه )رأى أنّ هذه المناقشة أولى ممّا ناقش به الشيخ الأنصاريّ) بما يرجع إلى إنكار أصل أن تكون الفاء المشار إليها ظاهرةً في إرادة التفريع والسببيّة، بل إنّما هي الفاء العاطفة.

قال الشيخ الأعظم) في رسالة التسامح:

«اللّهمّ إلّا أن يُمنع من دلالة الفاء على ما ذُكر من السببيّة والتأثير، بل هي عاطفة، على نحو قوله: (من سمع الأذان فبادر إلى المسجد كان له كذا)، فالأخبار الخالية عن تعليل الفعل برجاء الثواب غير ظاهرة في مضمون الأخبار المشتملة على التعليل، بلهي ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس الفعل، واللّازم من ذلك كونها مسوقة لبيان استحبابه..» (2).

ص: 399


1- نهاية الدراية 2: 534.
2- انظر: رسائل فقهيّة، رسالة في التسامح في أدلّة السنن: ص 153، وهو المجلّد 23 من موسوعة تراث الشيخ الأعظم الأنصاري).

وقد ردّه المحقّق الأصفهانيّ!بقوله:

«وأمّا ما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاريّ) في رسالة التسامح من منع دلالة الفاء على السببيّة والتأثير، بل هي عاطفة، فخلاف الاصطلاح؛ لعدم التقابل بين السببيّة والعطف، بل العاطفة تارةً للسببيّة، وأُخرى للترتيب، وثالثةً للتعقيب، والأمر سهل» (1).

وخلاصة البحث: أنّ الظاهر من الأخبار التي ذكرناها - بقرينة التفريع - هو: كون الأجر والثواب مترتّبين على العمل المأتيّ به بداعي البلوغ، وإذا كان الإتيان بها برجاء الثواب، لا على نفس العمل بما هو هو، بل الثواب - كما ورد في بعضها - يترتّب عليها مقيّدةً بداعي طلب قول النبيّ- أو التماساً للثواب.

وعلى هذا الأساس: فكون نفس العمل الذي قد بلغ الثواب عليه يصبح بما هو هو مستحبّاً شرعاً بمجرّد بلوغ الثواب، بعيد عن مقتضى ظهور تلك الأخبار، فيبعد لذلك أن يقال: بأنّ بلوغ الثواب على العمل بخبر ضعيف له مدخليّة في التسبّب إلى انقلاب الفعل عمّا هو عليه، وصيرورته مستحبّاً شرعيّاً.

ومقتضى ما قدّمناه: أنّه لابدّ من الالتزام بدلالة هذه النصوص على كون الثواب مترتّباً على العمل المقيّد، وعدم دلالتها على الاستحباب النفسيّ المتعلّق بذات العمل.

ص: 400


1- نهاية الدراية 2: 534.

ولكنّ المحقّق صاحب الكفاية! ذهب إلى أنّ الظاهر من هذه النصوص هو ترتّب الثواب على نفس العمل، ولو فرض بأنّ الفاءكانت للتفريع وظاهرةً في داعويّة الثواب إليه، ولا منافاة بينهما. ومن هنا التزم) بدلالة النصّ على استحباب ذات العمل.

وإليك نصّ ما أفاده!:

«وإتيان العمل بداعي طلب قول النبيّ-، كما قُيّد به في بعض الأخبار، وإن كان انقياداً، إلّا أنّ الثواب في الصحيحة إنّما رتّب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به؛ لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو التماساً للثواب الموعود، كما قيّد به في بعضها الآخر، لاُوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه وزان (من سرّح لحيته أو من صلّى أو صام فله كذا)، ولعلّه لذلك أفتى المشهور بالاستحباب» (1).

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ) فقد قرّب ما قاله صاحب الكفاية! بقوله:

«فحاصل الأخبار: أنّ ترتّب الثواب على نفس العمل، وإن كان على الفرض منبعثاً عن الثواب المحتمل، إلّا أنّ انبعاثه عنه غير دخيل في ترتّب الثواب المجعول بهذه الأخبار عليه» (2).

ص: 401


1- كفاية الاُصول: 353.
2- نهاية الدراية 2: 535، بتصرّف يسير.

وحاصله: أنّ الثواب المترتّب في هذه الأخبار إنّما رُتّب على ما يدعو إليه احتمال، وهو ذات العمل، لا العمل بوصف كونه مقيّداً بالاحتمال، ولا العمل الذي يكون متعنوناً بعنوان الانقياد، فالالتزام بظهور الفاء في إتيان العمل بداعي احتمال الثواب لا ينافي كون هذه النصوص ظاهرة في ترتّب الثواب على ذات العمل المدعوّ إليه، بعد أن لم تكن هذه الدعوة موجبة لتغيّر عنوان المدعوّ إليه من قبل نفس دعوة احتمال الأمر.ولكنّ الحقّ: بعد فرض وحدة السياق في الروايات، فإنّ هذه الوحدة تكون كاشفة عن أنّ جميع هذه الروايات هي بصدد بيان ترتّب سنخٍ واحدٍ من الثواب على سنخٍ واحدٍ من الموضوع، وحينئذٍ: فلمّا كان بعضها مطلقاً، وكان بعضا الآخر مقيّداً، كخبر محمّد بن مروان، الذي اشتمل على قوله(علیه السلام): «ففعل ذلك طلب قول النبيّ-»، وخبره الآخر المشتمل على قوله(علیه السلام): «ففعله التماس ذلك الثواب»، حيث رُتّب الثواب على العمل، لكن لا مطلقاً، بل مقيّداً بالإتيان به بداعي الثواب المحتمل، وكان لابدّ من الحفاظ على وحدة السياق.

فيكون اللّازم في هذه الروايات هو حمل مطلقها على مقيّدها، لمكان التنافي بينهما، حيث إنّ الروايات المطلقة قد رتّبت الثواب المخصوص على العمل مطلقاً، والروايات التي اشتملت على تقييد رتّبته على خصوص العمل المقيّد بالإتيان به بالداعي المذكور.

ص: 402

وهنا ينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل:

أنّه لو فرضنا إمكان استفادة الاستحباب من هذه الأخبار، إمّا مطلقاً، أو - كما ذكرنا - فيما إذا كان الإتيان بالعمل لأجل درك الثواب المحتمل، فهل يمكن - حينئذٍ - أن نرتّب عليه جميع آثار المطلوب الشرعيّ مطلقاً أم لا يمكن ذلك؟

وجهان، بل قولان، أحوطهما الثاني؛ لأنّ شمول الأدلّة لمطلق الآثار، إنّما يكون ممكناً إذا أحرزنا كونها في مقام البيان من هذه الجهة، ولكنّ أخبار من بلغ لم ترد في مقام البيان من جميع هذه الجهات.

وعليه: فلو دلّ خبر ضعيف على ترتّب ثواب على غسل مسترسل اللّحية، وقلنا باقتضائه لثبوت الاستحباب، فغاية ما يستفاد منه - حينئذٍ - هو ترتّب الثواب عليه، وأمّا بقية الآثار، كجواز أخذ الماء من مسترسل اللّحية لو جفّت بلّة يده، ولم يتمكّن من إكمال المسح الواجب في الوضوء بها، فاستفادتها من مثل هذه الخبر الضعيف بمجرّد كونه محقّقاً لعنوان بلوغ الثواب مشكل.

الثاني:

هل تشمل قاعدة التسامح - على القول بثبوتها - ما لو احتمل الاستحباب أو ظنّ بثبوته من مثل فتوى فقيه، أو انعقاد شهرة، أو نقل مجتهد ما للإجماع؟

ص: 403

قال اُستاذنا المحقّق«:

«وأمّا إذا احتمل الاستحباب أو ظنّ به من فتوى فقيه، بل من شهرة أو إجماعٍ منقول، أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّةٍ شرعاً، فليس له أن يفتي بالاستحباب من ناحية أخبار من بلغ؛ لعدم صدق البلوغ وعدم دلالة هذه الأخبار على حجّيّة هذه الأمور على الفرض، بل دلالتها مختصّة بحجّيّة الخبر الضعيف» (1).

وحاصله: أنّه لا شكّ في عدم صدق عنوان بلوغ الثواب والأجر عن المعصومين( بالنسبة إلى مثل فتوى المجتهد والشهرة والإجماع المنقول ونحو ذلك.

والسرّ فيه: أنّ فتوى الفقيه إنّما تكون إخباراً عن رأي ذلك الفقيه، لا عن رأي المعصوم(علیه السلام)، والشهرة أيضاً كذلك، فإنّها عبارة عن إخبار جمع كثيرٍ من الفقهاء عن آرائهم، لا عن قول النبيّ -، فعلى القول بدلالة هذه الأخبار على قاعدة التسامح بمعنى ثبوت الاستحباب للعمل الذي بلغ عليه الثواب، فلا يتحقّق بهما - أعني: الشهرة وفتوى الفقيه - ما قد أُخذ موضوعاً لهذا الاستحباب في أخبار من بلغ.

وأمّا الإجماع المنقول، فعلى القول بأنه حجّة وكاشف عن رأي

ص: 404


1- منتهى الاُصول: 2: 214.

الإمام(علیه السلام)فيكون خارجاً عن محلّ البحث، كما لا يخفى، وأمّا لو قلنا بعدم حجّيّته، كما هو الصحيح، فيكون حاله حال الشهرة، فلا يثبت به الاستحباب؛ لعدم تأديته إلى صدق عنوان البلوغ.اللّهمّ إلّا أن نحرز استناد معقد الشهرة، أو الإجماع المنقول إلى الأخبار، وأنّ فتوى المجمعين أو المشهور تنتهي إلى الأخبار، فحينئذٍ: تشملهما قاعدة التسامح في المندوبات، على القول بثبوتها، خصوصاً إذا قلنا بأنّ أخبار من بلغ دالّة على حجّيّة الخبر الضعيف المشتمل للاستحباب، وثبت ذلك عند المجتهد، فبقيام الخبر الضعيف عنده على الاستحباب يكون قد حصل على حجّة شرعيّة؛ إذ يكون حال الخبر الضعيف في المندوبات بالنسبة إليه كحال الخبر الصحيح في التكاليف الإلزاميّة، فسواء قام عنده خبر صحيح على استحباب العمل، أم خبر ضعيف، أمكن للفقيه أن يفتي باستحباب ذلك العمل، ويكون مستحبّاً في حقّه وفي حقّ مقلّديه أيضاً.

وفي هذا الذي ذكرناه يقول اُستاذنا المحقّق) أيضاً:

«الظاهر: عدم الشمول؛ لأنّ الفقيه يُخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب، وربّما يكون منشأ رأيه وحدسه شيئاً آخر غير الأخبار المرويّة عنهم( من الاستحسانات وتنقيح المناطات بنظره، فلا ربط - حينئذٍ - بين الإخبار عن رأيه وفتواه وبين البلوغ عن النبيّ-.

مع أنّه لو كان منشأ رأيه وفتواه هي الأخبار - أيضاً - لا يفيد؛ لأنّه فرق

ص: 405

بين رأيه المستنبط عن الأخبار، وبين نقل ما قاله النبيّ، فالأوّل ليس إخباراً عن النبيّ-، ولا يصدق عليه البلوغ عن النبيّ، بخلاف الثاني، كما هو واضح» (1).

الثالث:

على القول بقاعدة التسامح، فهل تدلّ هذه الأخبار على كراهة ما دلّ الخبر الضعيف على حرمته أو كراهته أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لأنّ غاية ما يثبت بإجراء قاعدة التسامح بالمعنى المذكور في مورد الخبر الدالّ على الحرمة أو الكراهة هو استفادة استحباب الترك.وأنت خبير: بأنّه لا ملازمة بين هذا الاستحباب وبين كراهة الفعل، بل يمكن أن يكون الفعل أو الترك مستحبّاً، مع عدم كراهة الطرف الآخر، كما يمكن أن يكون الفعل أو الترك مكروهاً مع عدم استحباب الطرف المقابل. هذا.

مضافاً إلى أنّ الداعي إلى الترك في باب المحرّمات هو الفرار من العقاب، فلا تشملها أخبار من بلغ، لظهورها في كون موردها هو خصوص العمل الذي يكون الإتيان به بداعي الثواب.

هذا بالنسبة إلى الحرمة.

ص: 406


1- منتهى الاُصول 2: 218.

وأمّا الكراهة، فلابدّ فيها من التفصيل:

فإن قلنا: إنّها بمعنى أقلّيّة الثواب، فتشملها أخبار من بلغ؛ لإمكان أن يُقال: بأنّه يترتّب على الإتيان بالعمل في موردها الثواب، غاية الأمر: أنّه الثواب الأقلّ.

وإن قلنا: إنّها بمعنى الحزازة، فيكون حكمها حكم الحرمة؛ لأنّ موافقتها - حينئذٍ - تكون بالفرار عن الشيء الذي فيه حزارة، فلا يكون الداعي هو الثواب، فلا تشمل موردها الأخبار؛ لأنّ الغالب فيها ترتّب المفاسد الوضعيّة على الفعل، ولم تكن مورداً للنهي التنزيهيّ، بحيث يتحقّق معه عنوان ترتّب الثواب على الترك.

ثمّ بناءً على ثبوت قاعدة التسامح، فلو كان الخبر الضعيف دالاً على وجوب العمل لا استحبابه؟ فهل يثبت به - أيضاً - استحباب ذلك العمل، حيث إنّ الإخبار عن وجوب العمل يتضمّن الإخبار عن ترتّب الثواب عليه، فلا يفرّق بينه وبين الإخبار عن استحبابه، وحيث يصدق في مورده عنوان بلوغ الثواب على العمل، فيصبح العمل - بمقتضى أخبار من بلغ - مستحبّاً بذلك الخبر، ولا يثبت وجوبه بذلك الخبر الضعيف؛ لأنّ الخبر الضعيف إنّما يكون حجّةً في موارد الاستحباب، دون الوجوب.

ولاسيّما بعد أن كان الداعي للإتيان بالعمل في باب الواجبات عادةً هو الفرار عن المفسدة اللّازمة لتركه، لا طلب الوقوع في المصلحةالمترتّبة على فعله، والتي هي الثواب، وعليه: فالخبر الضعيف الدالّ

ص: 407

على الوجوب لا يثبت به - بناءً على قاعدة التسامح - ما هو أزيد من الاستحباب وأصل الرجحان، دون الرجحان الوجوبيّ والإلزاميّ.

الرابع:

أنّ أخبار من بلغ وقاعدة التسامح - على القول بها - تكون شاملةً للأدعية الواردة التي اشتملت على ذكر الثواب.

وأمّا أخبار الفضائل والمعاجز والأخلاقيّات، وكذا ما ورد لدفع الأوجاع والأمراض، وكذا ما ورد بقضاء الحوائج من الصلوات والأدعية الدنيويّة، فشمول القاعدة لها مشكل.

وما قد يستدلّ على شموله لها من الإجماع.

ففيه: أوّلاً: أنّه إجماع منقول غير محصّل، فليس بحجّة.

وثانياً: أنّه على فرض تحصيله محتمل المدركيّة، إذ لعلّ مدركهم فيه كان هذه الأخبار الروايات.

نعم، بالنسبة إلى أخبار الفضائل، قد يقال بشمول القاعدة لها؛ لأنّ الإخبار عنها إخبار بالملازمة عن استحباب العمل، فتشمله أخبار من بلغ.

الخامس:

ذكر المحقّق العراقيّ) أنّه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللّفظ في المعنى، فمع كونه مجملاً، فلا يصدق البلوغ.

وعليه: فلابدّ أن لا يكون اللّفظ متّصلاً بقرينة تستوجب سلب الظهور

ص: 408

عنه، وأمّا قيام القرينة المنفصلة على الخلاف فغير ضائر في صدق البلوغ، كما لو قام خبر ضعيف على استحباب إكرام كلّ عالم، وقام خبر آخر على عدم استحباب إكرام النحويّين منهم؛ فإنّه بمقتضى أخبار من بلغ يُحكم باستحباب إكرام الجميع، لما عرفنا في محلّه: من أنّ ورود المخصّص المنفصل لا يوجب زوال العامّ عن العموم، وانثلام ظهوره فيه.نعم، هو يستلزم عدم حجّيّته في العموم، مع بقاء أصل ظهوره فيه على حاله، فيصدق أنّه قد بلغ استحباب إكرام الجميع، ولو مع وجود وقيام المخصّص المنفصل.

هذا كلّه فيما لو فرضنا كون الخبر القائم على خلاف الاستحباب غير معتبر في حدّ نفسه.

وأمّا إذا كان حجّة في نفسه، فقد يتوهّم عدم شمول قاعدة التسامح وأخبار من بلغ حينئذٍ للخبر الدالّ على الاستحباب، وذلك بدعوى: أنّ دليل الحجّيّة يتكفّل تتميم الكشف الذي يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف، فيحصل القطع تعبّداً بعدم استحبابه.

ومعه: فلا يصدق عنوان البلوغ الذي هو الموضوع بالنسبة إلى الحكم بالاستحباب، فيكون دليل الحجّيّة حاكماً على أخبار من بلغ.

ولكنّه توهّم فاسد؛ لعدم التنافي بينهما، بعدما لم يكن النفي والإثبات واردين على موضوعٍ واحد؛ فإنّ ما يستفاد من أخبار من بلغ هو استحباب العمل، لا بالعنوان الأوّليّ، بل بالعنوان الثانويّ، وهو عنوان

ص: 409

بلوغ الثواب، وأمّا الخبر المعتبر، فمفاده عدم استحباب العمل بعنوانه الأوّليّ، فلا يكون هناك منافاة بينهما - أصلاً - كما هو ظاهر (1).

السادس:

على القول بالاستحباب، فهل تشمل قاعدة التسامح الأخبار الضعيفة التي تدلّ على مصائب أهل البيت علیهم السلام؟

قد يقال: لا شكّ في أنّ البكاء والتباكي على مصابهم يستتبع أجراً وثواباً، وبما أنّ مفاد هذه الأخبار الضعيفة هو الانتهاء إلى ما فيه الأجر والثواب، فتشملها القاعدة.

ص: 410


1- انظر: نهاية الأفكار 3: 283- 284، ونصّ كلامه) كالتالي: «لا إشكال في أنّه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللّفظ في المعنى المراد، وإلّا، فلا يصدق عنوان البلوغ، وعليه: فيعتبر في صدق البلوغ عدم اتّصال الكلام بما يوجب سلب ظهوره من القرائن الحافّة. نعم، على الانقياد لا بأس بذلك نظراً إلى عدم توقّفه على صدق البلوغ وكفاية مجرّد احتمال المطلوبيّة فيه، ولو مع إجمال اللّفظ وعدم ظهوره في المعنى المراد، إمّا في نفسه أو من جهة اتّصاله بما يوجب إجماله أو صرفه عمّا له من الظهور إلى غيره. نعم، لا اعتبار بقيام القرائن المنفصلة على الخلاف؛ لأنّها - على ما حقّق في محلّه - لا توجب انثلاماً لظهور الكلام كالقرائن المتّصلة، وإنّما غاية اقتضائها هو المنع عن حجّيّته خاصّةً، مع بقاء أصل ظهوره على حاله، فلو قام خبر ضعيف على وجوب إكرام العلماء أو استحبابه وقام خبر آخر على عدم استحباب إكرام النحويّين منهم أو كراهته، فعلى الاستحباب: يجري فيه التسامح، ويُحكم باستحباب إكرام الجميع نظراً إلى تحقّق موضوعه وهو البلوغ، بعد عدم انثلام ظهوره في العموم بواسطة ذاك الخاصّ المنفصل...»، إلى آخر ما أفاده! ممّا قد أوضحناه في المتن أعلاه.

ولكنّ الحقّ: أنّ ترتّب الأجر والثواب على البكاء على مصائبهم أمر مقطوع به، وإنّما الشأن في إثبات تحقّق هذه المصائب في الخارج، ومعلوم: أنّ إثبات وقوعها في الخارج بالخبر الصحيح الواحد مشكل؛ لكونها من الموضوعات الخارجيّة، فضلاً عن الخبر الضعيف.

ومن هنا، فلو نسب إليهم( شيء بمجرّد الاستناد إلى خبر ضعيف؛ فإنّه يُحكم بكونه موجباً لبطلان الصوم؛ لصدق نسبة الكذب إليهم( على مثل هذه النسبة.

ص: 411

ص: 412

دوران الأمر بين المحذورين

اعلم أنّ دوران حكم الواقعة بين الوجوب والحرمة على نحو الشبهة الحكميّة على أنحاء، فهو:

تارةً: لفقدان النصّ وعدم الدليل على تعيين أحدهما بعدم قيام الدليل على أصل الإلزام الدائر بينهما، كما لو اختلفت الاُمّة على قولين، الوجوب والحرمة، مع العلم بعد الثالث.

وثانيةً: لإجمال النصّ، كما إذا ورد أمر بالتحرّز عن أمرٍ مردّد بين فعل الشيء وتركه.وثالثةً: لتعارض النصّين، كما إذا ورد خبران: أحدهما يأمر بالشيء، والثاني ينهى عنه.

وقد يقع دوران الأمر بين المحذورين في الشبهة الموضوعيّة، كما لو وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة، ولم يكن هناك أصل موضوعيّ يدرجه تحت أحد العنوانين.

ص: 413

والحكم المشتبه قد يكون توصّليّاً في كلا الطرفين، أو توصّليّاً في أحدهما تعبّدياً في الآخر، وقد يكون في كليهما تعبّديّاً.

والأوّل: إمّا أن يكون في واقعة واحدة أو في وقائع متعدّدة.

أمّا الصورة الاُولى:

أي: فيما إذا كان الحكمان توصّليّين، أي: يسقطان بمجرّد الموافقة بلا احتياج إلى قصد القربة، وكان الدوران بين المحذورين في واقعة واحدة، كما لو علم بأنّه قد حلف، ولكن لم يدرِ أنّ حلفه كان قد تعلّق بالإتيان بفعل أو بتركه. فالعلم الإجماليّ فيها لا يكون قابلاً لتنجيز معلومه؛ لعدم قدرة المكلّف على الاحتياط في مقام الامتثال والجمع بين المحتملين، فيكون وجوده كعدمه في مقام التنجيز والتأثير بالنسبة إلى كلٍّ من الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة؛ إذ كلاهما لا يكون ممكناً ومقدوراً للمكلّف.

وحينئذٍ: يحكم العقل بكون المكلّف مخيّراً بين الفعل والترك، وليس هذا التخيير حكماً واقعيّاً أو ظاهريّاً صادراً ومجعولاً من قبل الشارع، بل إنّما هو تخيير قهريّ وتكوينيّ؛ لأنّ المكلّف في الخارج إمّا أن يصدر عنه الفعل أو الترك، وظاهر: أنّه ما دام التخيير قهريّاً كذلك، فجعله وتشريعه من قبل الشارع يكون لغواً لا ثمرة فيه؛ ضرورة أنّه - حينئذٍ - لا يعدو أن يكون تحصيلاً لما هو حاصل تكويناً.

ص: 414

وإنّما الكلام في أنّه هل يمكن في مثل المقام جعل الإباحة الظاهريّة أم لا؟قد يقال: بإمكان ذلك؛ لأنّ البراءة العقليّة والنقليّة لا مانع من جريانهما؛ وذلك لأنّ موضوعهما، وهو عدم البيان، متحقّق؛ حيث لم يرد بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة، والمكلّف وإن كان عالماً بأصل الإلزام، إلّا أنّ علمه هذا لم يكن باعثاً ولا زاجراً، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكذا تجري البراءة النقليّة المستفادة من قوله(علیه السلام): «رفع ما يعلمون»، بلا مانعٍ في كليهما؛ فإنّ هاتين القاعدتين لا اختصاص لهما بصورة دوران الأمر بين الحرمة والإباحة، بل هما تشملان المورد أيضاً.

وعلى هذا الأساس: فإمّا أن يقال بارتفاع كلٍّ من الوجوب والحرمة المشكوكين، أو بلزوم تقديم جانب الحرمة؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وقد ذهب الشيخ) إلى لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر بنحو التخيير؛ لأنّ الموافقة القطعيّة لأحد العلمين - أعني: العلم الإجماليّ بوجوب أحد الفعلين، والعلم الإجماليّ الآخر بحرمة أحد الفعلين - تستلزم المخالفة القطعيّة للآخر، فيتعيّن الموافقة الاحتماليّة لكلٍّ منهما؛ لأنّها أولى من الموافقة القطعيّة لأحدهما، والمخالفة القطعيّة للآخر.

ص: 415

قال« في المقام ما لفظه:

«والحكم فيما نحن فيه: وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّراً في ذلك؛ لأنّ الموافقة الاحتماليّة في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعيّة في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر. ومنشأ ذلك: أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع، واﷲ أعلم» (1).

وقد يقال في هذه الصورة: بلزوم تقديم جانب الحرمة وتغليبها على جانب الوجوب، وقد يستدلّ لهذا التقديم بوجوه:الوجه الأوّل: أنّ الحرمة المحتملة فيها احتمال للمفسدة، والوجوب المحتمل فيه احتمال النفع، ولا يخفى: أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب النفع المحتمل، كما أنّ دفع المفسدة المتيقّنة أولى من جلب المنفعة المتيقّنة.

وفيه: أوّلاً: أنّه غير تامّ؛ لأنّ ترك الواجب المحتمل - أيضاً - مظنّة لترتّب المفسدة المحتملة.

وثانياً: أنّه لم يظهر من طريقة العقلاء استقرار بنائهم على ذلك على نحو الإطلاق، أي: حتى ولو كانت المفسدة قليلة والمنفعة كثيرة، بل لم يظهر استقرار بنائهم على ذلك في صورة التساوي بينهما من ناحيّة القلّة

ص: 416


1- فرائد الاُصول 2: 403.

والكثرة أيضاً.

الوجه الثاني: أنّ تقديم جانب الحرمة هو الأصل. وقرّره المحقّق الآشتياني) في شرحه على الرسائل، فقال: «أي: قاعدة الاحتياط عند دوران الأمر بين التخيير والتعيين؛ فإنّ مقتضاها تقديم احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظاهر»، انتهى ما أفاده) في تقرير هذا الوجه (1).

أقول: ومراده: أنّ مقامنا هو من موارد الدوران المذكور، فيكون اللّازم هنا - أيضاً - تقديم احتمال التحريم.

الوجه الثالث: دعوى استقراء حال الشريعة في حالات دوران الأمر بين الحرمة وغيرها؛ فإنّه يستكشف منه: أنّ مذاق الشارع هو تقديم وتغليب جانب الحرمة على ما سواها، ففيما إذا اشتبه الواجب بالحرام - أيضاً - يكون اللّازم هو تقديم جانب الحرمة.

الوجه الرابع: أنّ إفضاء الحرمة إلى المقصود منها يكون أتمّ من إفضاء الوجوب إلى المقصود منه؛ لأنّ المقصود من الحرمة هو ترك الحرام، والترك يجتمع مع كلّ فعل، بخلاف الوجوب؛ فإنّه ليس كذلك؛إذ المقصود منه، وهو فعل الواجب، لا يتأتّى غالباً مع كلّ فعل، فيكون تقديم جانب الحرمة - لذلك - أرجح.

ولكنّ الحقّ: أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ينبغي أن يندرج تحت قواعد باب الأهمّ والمهمّ؛ فالموجب لتقديم أحد الجانبين على

ص: 417


1- بحر الفوائد 2: 83.

الآخر هو أن يكون ملاكه أهمّ.

والمراد بالملاك الأهمّ: ما يكون سبباً لتأكّد الطلب وأشدّيّته بالنسبة إلى الطلب المأخوذ في الجانب الآخر، بحيث لو كان المحتملان معلومين لكان أحدهما المعيّن - لأهمّيّته - مقدّماً على صاحبه عند المزاحمة، كما في مثال إنقاذ الغريق المتوقّف على التصرّف في مال الغير بدون رضاه، فإنّ كلاً من الحكمين - أعني: وجوب الإنقاذ وحرمة - الغصب معلوم للمكلّف، ولابدّ له من امتثاله، وقد اتّفق ابتلاء المكلّف بهما في زمان واحد، فكان لابدّ من تقديم الأهمّ منهما.

وبما أنّ وجوب إنقاذ المؤمن أهمّ من حرمة الغصب، لما يترتّب عليه من حفظ النفس المحترمة، كان اللّازم التصرّف في مال الغير بدون رضاه لأجل إنقاذ الغريق المؤمن. هذا في باب التزاحم.

وكذلك في مقامنا - وهو مقام وجود احتمال حكمين، لا نفس الحكمين الواقعيّين - فإذا كان الوجوب المحتمل أولى وأهمّ من الحرمة المحتملة كان لابدّ من تقديمه على الترك، وإن كان احتمال الحرمة أقوى؛ وذلك لأنّ المدار في الترجيح على أهمّيّة المحتمل، لا على أقوائيّة الاحتمال.

فإذا فرض أنّ احتمال الحرمة كان أقوى من احتمال الوجوب، ولكنّ الوجوب المحتمل كان - على تقدير ثبوته في الواقع - أهمّ وأشدّ من الحرمة، سواء كانت محتملة أم مظنونة؛ فإنّه يجب تقديم احتمال

ص: 418

الوجوب الأهمّ على احتمال الحرمة الأقوى، كالصلاة في أيّام الاستظهار مثلاً، فإنّها يحتمل وجوبها ويحتمل حرمتها؛ لأنّها إن كانت طاهرة تجب عليها الصلاة، وإن كانت حائضاً تحرم عليها الصلاة، فهنا لابدّ لها من تقديم جانب الوجوب على الحرمة؛ لأهمّيّته؛ لأنّ وجوبها -على تقدير ثبوته واقعاً - يكون ذاتيّاً، بخلاف حرمتها، فإنّها - على فرض ثبوتها - تكون حرمة تشريعيّة، فيرجّح الوجوب على الحرمة.

ومن هنا، يحكم بوجوبها عليها في تلك الأيّام، حتى ولو فرض أنّ احتمال حرمتها وكونها حائضاً كان أقوى من احتمال وجوبها؛ لأنّ الملاك الداعي إليه من قبل المولى أقوى وأهمّ بحسب الفرض.

فكما أنّ العلم بشدّة الطلب وأقوائيّة الملاك أو احتمالهما يكون مرجّحاً في باب التكليفين المعلومين المتزاحمين، فكذلك يكون مرجّحاً - أيضاً - في مثل المقام حيث يدور الأمر بين المحذورين المحتملين.

فتحصّل: أنّ محتمل الحرمة ليس دائماً مقدّماً على محتمل الوجوب، بل لابدّ من ملاحظة المصالح والملاكات، وتقديم ما هو الأهمّ ملاكاً، وإلّا، كان اللّازم - بناءً على التمسّك بالقاعدة المذكورة مطلقاً - هو لزوم تقديم صغائر المحرّمات عند دوران الأمر بينها وبين ترك أهمّ الفرائض، مع أنّ المفسدة المترتّبة على ترك ذلك الواجب المحتمل أقوى وأهمّ، ولا يمكن الالتزام به، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى.

ص: 419

وأمّا الصورة الثانية:

وهي ما إذا كان الدوران بين وجوب فعل شيء وبين حرمة ذلك الفعل بعينه في وقائع متعدّدة، فهل يكون التخيير بدويّاً، بمعنى: أنّه ليس له أن يختار في الواقعة اللّاحقة إلّا نفس ما اختاره في الواقعة السابقة، أم أنّه يكون استمراريّاً، بحيث يتخيّر في كلّ واقعةٍ كما لو أنّها الواقعة الأُولى بالنسبة إليه؟

ذهب المحقّق النائيني! إلى أنّه لابدّ في صورة تعدّد الواقعة من القول بالتخيير الاستمراريّ؛ وذلك لعدم منجّزيّة العلم الإجماليّ، فلا مانع من المخالفة القطعيّة، فلو علم - مثلاً - بأنّه حلف بالنسبة إلى امرأته المعيّنة، إمّا على وطئها وإمّا على ترك وطئها في كلّ ليلة جمعة، فإنّه:«لا يكون التكليف منجّزاً في كلّ ليلةٍ من ليالي الجمعة؛ لأنّه في كلّ ليلةٍ منها الأمر دائر بين المحذورين، وكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّل المعلوم بالإجمال، ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين؛ فإنّ متعلّق التكليف إنّما هو الوطء أو الترك في كلّ ليلةٍ من ليالي الجمعة.

ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين، ولا يُلاحظ انضمام اللّيالي بعضها مع بعض حتى يقال: إنّ الأمر فيها لا يدور بين المحذورين؛ لأنّ المكلّف يتمكّن من الفعل في جميع اللّيالي المنضمّة، ومن الترك في

ص: 420

جميعها - أيضاً -، ومن التبعيض، ففي بعض اللّيالي يفعل وفي بعضها الآخر يترك، ومع اختيار التبعيض، تتحقّق المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب عليه إمّا الفعل في الجميع، وإمّا الترك في الجميع؛ وذلك لأنّ اللّيالي بقيد الانضمام لم يتعلّق الحلف والتكليف بها، بل متعلّق الحلف والتكليف كلّ ليلة من ليالي الجمعة مستقلّةً بحيال ذاتها، فلابدّ من ملاحظة اللّيالي مستقلّةً، ففي كلّ ليلةٍ يدور الأمر فيها بين المحذورين، ويلزمه التخيير الاستمراريّ» (1).

ولكنّ الحقّ: عدم جواز التخيير الاستمراريّ هنا أيضاً؛ لأنّ عدم تنجيز التكليف بالعلم الإجماليّ بلحاظ كلّ واقعة بحيالها، لا ينافي حدوث علم إجماليّ حقيقيّ آخر يستلزم تنجيز التكليف بلحاظ تعدّد الواقعة.

وأمّا الصورة الثالثة:

وهي أن يكون الحكم المحتمل في كلا الطرفين تعبّديّاً، فلا شكّ - حينئذٍ - في إمكان المخالفة القطعيّة، بأن يأتي بالفعل أو يتركه بغير قصد القربة. وعندئذٍ: فلا يجوز المخالفة القطعيّة، بل لابدّ له أن يأتي أو يتركبنحوٍ يحقّق الموافقة الاحتماليّة، فالحكم هنا هو التخيير - أيضاً - ولكن يشترط فيه أن يكون بنحوٍ لا يلزم منها حصول المخالفة القطعيّة.

ص: 421


1- فوائد الاُصول 3: 452 - 455.

وهذا هو السرّ في أنّ بعضهم اشترط في مسألة دوران الأمر بين المحذورين أن لا يكون أحدهما المعيّن أو كلاهما تعبّديّين.

ومنه يُعلم: حكم ما لو كان أحدهما المعيّن فقط تعبّديّاً.

وبهذا تمّ الكلام في مسألة دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 422

أصالة الاشتغال

اشارة

الكلام في قاعدة الاحتياط، ويعبّر عنها ﺑ «قاعدة الاشتغال».

ولابدّ قبل الدخول في البحث فيها من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ مجرى هذه القاعدة هو الشكّ في المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف، ولو بجنسه، مع إمكان الاحتياط، بأن لا يكون الأمر دائراً بين المحذورين.

الأمر الثاني: لا فرق - كما أشرنا - في العلم بأصل التكليف، بين أن يكون علماً بنوع التكليف أو بجنسه.

كما أنّ الشكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف قد يكون من جهة المتعلّق، كما إذا علم بأصل الإلزام، مع الشكّ في أنّ متعلّق هذا الإلزام هل هو الدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - أو غسل الجمعة؟ وقد يكون من جهة خصوصيّات المتعلّق، كالشكّ في أنّ متعلّق الوجوب ظهر الجمعة هل هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة؟ كما أنّه قد يكون من جهة الموضوع الخارجيّ، أعني: متعلّق المتعلّق.

ص: 423

الأمر الثالث: أنّ الشبهة قد تكون حكميّة، سواء كان منشؤها فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين، وقد تكون موضوعيّة، ومنشؤها - حينئذٍ - هي الاُمور الخارجيّة.

وفي الجميع، فهي إمّا وجوبيّة وإمّا تحريميّة، وعلى التقادير: فإمّا أن يكون التردّد بين اُمور محصورة، وإمّا أن يكون بين اُمور غير محصورة، وعلى التقادير - أيضاً - فالشبهة قد تكون بين المتباينين وقد تكون بين الأقلّ والأكثر، فأقسام المسألة وصورها في غاية الكثرة.

فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين:

اشارة

قال صاحب الكفاية):

«لا يخفى: أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كان كانا فعل أمر وترك آخر -:

إن كان فعليّاً من جميع الجهات، بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعليّ، مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته. وحينئذٍ: لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصَّصاً عقلاً، لأجل مناقضتها معه.

وإن لم يكن فعليّاً كذلك - ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب

ص: 424

امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته - لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف.

ومن هنا انقدح: أنّه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجماليّ، إلّا أنّه لا مجال للحكم الظاهريّ مع التفصيليّ، فإذا كان الحكم الواقعيّ فعليّاً من سائر الجهات، لا محالة، يصير فعليّاً معه من جميع الجهات، ولهمجال مع الإجماليّ، فيمكن أن لا يصير فعليّاً معه؛ لإمكان جعل الظاهريّ في أطرافه، وإن كان فعليّاً من غير هذه الجهة» (1).

وملخّص ما أفاده!: أنّ التكليف المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين أمرين متباينين:

إن كان فعليّاً من جميع الجهات فيكون التكليف منجّزاً، وتصحّ العقوبة على مخالفته، ومعه: فلابدّ عقلاً من رفع اليد عن عموم دليل أصالة البراءة والإباحة؛ لمناقضته لفعليّة التكليف من جميع الجهات.

وإن لم يكن فعليّاً من جميع الجهات، حتى وإن كان فعليّاً من سائر الجهات غير جهة العلم، لم يكن ثمّة مانع، لا عقلاً، ولا شرعاً، من شمول أدلّة البراءة للأطراف جميعاً.

ولا يخفى: أنّ التكاليف التي تكون ناشئة عن مصلحة ملزمة، أو مفسدة

ص: 425


1- كفاية الاُصول: ص 358 - 359.

كذلك، بحيث لا يرضى المولى بمخالفتها، بل تتعلّق إرادته باستيفائها على نحو الحتم، فعلى المولى أن يعمد إلى إيصال هذا التكليف الملزم إلى المكلّف، ورفع جميع موانع تنجيزه.

وهذا الإيصال: تارةً يكون برفع جهل المكلّف رأساً، بحيث يصير عالماً بالحكم تفصيلاً، وأُخرى: يكون بتعيين له الطريق له إلى ذلك، وثالثةً: بإيجاب الاحتياط تجاهه.

فلو تنجّز التكليف، بأيّ سببٍ من أسباب التنجّز، كانت مخالفته - لا محالة - موجبةً للعقاب، ضرورة أنّ التكليف كما يتنجّز بعد العلم به تفصيلاً، يتنجّز كذلك بعد العلم به إجمالاً، بل في حقيقة الأمر: لا علم هناك إجمالاً، فإنّ العلم ينافي الإجمال والترديد، وإنّما المعلوم هو الذي يكون مجملاً ومردّداً.

وكيف كان، فإذا علم بالتكليف، ولو بنحو العلم الإجماليّ، يصبح التكليف منجّزاً، ويرتفع عذر جهله، فيكون العلم الإجماليّ - بذلك - علّةتامّةً لحرمة المخالفة القطعيّة، ومع تحقّقه: فلا يمكن جعل الحكم الظاهريّ في الأطراف؛ لأنّه موجب للتناقض.

وهذا هو معنى ما أفاده صاحب الكفاية) - كما نقلناه عنه آنفاً - من أنّه لا فرق بين العلمين، فكما أنّ متعلّق العلم التفصيليّ معلوم، فكذلك متعلّق العلم الإجماليّ؛ لأنّ متعلّقه إنّما هو الجامع، وهو معلوم بالتفصيل، والشكّ والترديد إنّما هو في خصوصيّات الأطراف.

ص: 426

وهذا ما جعل المحقّق الأصفهانيّ) يذهب إلى امتناع تعلّق العلم بالمردّد لوجهين:

الأوّل: أنّ الفرد المردّد ليس له ثبوت في أيّ وعاءٍ من الأوعية، ذهناً كان أو خارجاً، ماهيّةً أو هويّة؛ لأنّ كلّ شيء يُفرض فلا يُعقل إلّا يكون معيّناً، وهو هو، لا مردّداً بينه وبين غيره، ولا هو أو غيره.

الثاني: أنّ حضور متعلّق العلم بنفس العلم؛ فإنّ العلم من الصفات التعلّقيّة فلا يمكن دعوى حضور الخصوصيّة؛ لأنّها مجهولة على الفرض، ولا المردّد؛ إذ لا يمكن أن يكون حاضراً في النفس؛ لأنّه خلف تردّده.

قال) في مبحث الواجب التخييريّ - ما لفظه -:

«المردّد بما هو مردّد لا وجود له خارجاً، وذلك لأنّ كلّ موجود له ماهيّة ممتازة عن سائر الماهيّات بامتيازٍ ماهويّ، وله وجود ممتاز بنفس هويّة الوجود عن سائر الهويّات، فلا مجال للتردّد في الموجود بما هو موجود، وإنّما يوصف بالتردّد بلحاظ علم الشخص وجهله، فهو وصف له بحال ما يضاف إليه، لا بحال نفسه...» (1).

وقال - أيضاً - في مبحث أصالة الاشتغال:

«أنّ العلم الإجماليّ المصطلح عليه في هذا الفنّ لا يفارق العلم التفصيليّ في حدّ العلميّة، وليسا سنخين من العلم نظراً إلى تعلّقالعلم

ص: 427


1- نهاية الدراية 1: 494 - 495.

الإجماليّ بالمردّد؛ لما مرّ مراراً أنّ المردّد بما هو مردّد لا ثبوت له ذاتاً ووجوداً، ماهيّةً وهويّةً، فلا يعقل تقوّم العلم الإجماليّ به.

مع بداهة أنّ العلم المطلق لا يوجد، كما أنّ وجوده في اُفق النفس وتعلّق بالخارج عن اُفق النفس غير معقول، بل المقوّم لهذه الصفة الجزئيّة لابدّ من أن يكون في اُفقها، فهو المعلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض.

وعليه: فمتعلّق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس، غاية الأمر: أنّ طرف متعلّقه مجهول، أي: غير معلوم بخصوصيّته، فلم يلزم تعلّق صفةٍ حقيقيّةٍ بالمردّد حتى يكون أصلاً يبتني عليه إمكان إمكان تعلّق سائر الصفات الحقيقيّة وجملة الصفات الاعتباريّة بالمردّد.

وحيث عرفت أنّ تعلّق العلم الإجماليّ بالمردّد غير معقول، وبالواقع بخصوصه غير معقول؛ إذ لا معنى لتعلّقه به إلّا كونه معلوماً به، وهو خلف، فلا محالة، ليس المعلوم إلّا الجامع بين الخاصّين المحتملين، فهو مركّب من علمٍ واحتمالين، بل من علم تفصيليّ بالوجوب، ومن علمٍ آخر بأنّ طرفه ما لا يخرج عن الطرفين...» (1).

وكيفما كان، فإذا لم يكن ثمّة فرق جوهريّ بين العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ، وكان العلم الإجماليّ - أيضاً - علّة تامّة لحرمة المخالفة

ص: 428


1- المصدر نفسه 2: 579 - 580.

القطعيّة، فلا محالة: ينسدّ باب جعل الحكم الظاهريّ بحيث يكون موجباً للوقوع في المخالفة القطعيّة؛ لكونه موجباً للتناقض.

بيان ذلك: أنّ الحكم الواقعيّ محفوظ، ولا يمكن رفع اليد عنه، لمكان أنّ تأثير العلم الإجماليّ في تنجيز متعلّقه المعلوم - وإن كان الترديد في انطباق الحكم على متعلّقه - لا يكون قابلاً لمنع المانع من تنجيزه، لا عقلاً، أي: بإجراء البراءة العقليّة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّه معوجود العلم الإجماليّ فالبيان موجود، فلا يكون العقاب عقاباً بلا بيان، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته.

فإذا عرفت ذلك، فلا يُعبأ بقول من شذّ من الفقهاء ممّن قال بعدم تأثير العلم الإجماليّ للتنجيز على نحو الإطلاق، وأنّه ليس مقتضياً للمنجّزيّة وليس ببيان حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعيّة، بل حال العلم الإجماليّ من هذه الناحية هو حال الشكّ، كما ربّما ينسب هذا القول إلى المحقّقين القمّي والخونساريّ" (1)، وإن ناقش الاُستاذ المحقّق) في صحّة هذه النسبة قائلاً: «وإن كانت هذه النسبة لا تخلو عن إشكال؛ لأنّ الظاهر من كلامهما إجراء البراءة الشرعيّة وانفتاح باب الترخيص الظاهريّ في جميع الأطراف على خلاف المعلوم بالإجمال» (2).

ص: 429


1- راجع: مشارق الشموس: 77؛ وقوانين الاُصول 2: 37.
2- منتهى الاُصول 2: 243.

وقد يقال في توجيه هذا الذي ذهبا إليه: بأنّه عين ما يقتضيه الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فكما أنّه قد ثبت هناك إمكان إجراء أصالة البراءة أو أصالة الحلّ، بالرغم من انحفاظ الحكم الواقعيّ، ولم يلزم التناقض، للأجوبة التي تُذكر في مقام الجمع بين هذين السنخين من الحكم الشرعيّ، فكذلك فيما نحن فيه، بلا فرقٍ بين المقامين أصلاً.

ولكنّ الحقّ: أنّ قياس المقام على موارد الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ قياس مع الفارق؛ إذ في تلك الموارد ليس هناك بيان أصلاً، ولذا لم يتنجّز الحكم الواقعيّ، لا ببركة منجّز واقعيّ وجدانيّ كالقطع، ولا ببركة منجّز تعبّديّ كالاُصول والأمارات، وبالتالي: فلا يحكم العقل هناك بلزوم الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة، فلو أنّ الشارع أراد أن يعاقب على المخالفة لكان عليه أن يوجب عليه الاحتياط، وإلّا، لزم أن يكون عقاباً بلا بيان، وهو قبيح.وهنا يجب التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل :في أنّ وجوب الاحتياط حكم عقليّ:

لا إشكال في أنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ حكم عقليّ إرشاديّ، فلو خالف المكلّف، بأن أتى بأحد الأطراف في مورد الشبهة التحريميّة، أو ترك بعض الأطراف في مورد الشبهة الوجوبيّة، ولم يصادف الواقع، فلا يعاقب على ذلك، وليس هناك إلّا التجرّي.

ص: 430

نعم، لو صادف الواقع، بأن كان ما أتى به حراماً واقعاً في الأوّل، أو كان ما تركه واجباً واقعاً في الثاني، فإنّه يعاقب على العصيان، بعد أن كان الواقع منجّزاً عليه وكان عالماً به بالعلم الإجماليّ.

الأمر الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء:

لا يخفى: أنّ من شرائط فعليّة الحكم أن يكون المكلّف به مقدوراً للمكلّف؛ فالعلم - مطلقاً - تفصيليّاً كان أم إجماليّاً، إنّما يؤثّر في تنجيز ما يتعلّق به فيما إذا كان متعلّقه هو التكليف الفعليّ على جميع التقادير، وفي أيّ طرفٍ كان.

وعلى هذا الأساس، فالعقل يحكم باعتبار القدرة العقليّة في جميع أطراف العلم الإجماليّ، وإلّا، لم يكن منجّزاً له بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، فإذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولم يكن للمكلّف قدرة على ارتكابه في طرف من الأطراف، كان التكليف بالنسبة إليه ساقطاً في هذا الطرف؛ لقبح التكليف بغير المقدور، وحينئذٍ: ففي سائر الأطراف، يصبح الحكم مشكوك الحدوث، فيجري فيها الأصل النافي للتكليف بلا معارض.

فمثلاً: لو كان هناك كأسان، وعلم بأنّ أحدهما كان نجساً، ولكنّ أحد الكأسين كان خارجاً عن محلّ ابتلائه، بحيث لم يكن له قدرة على الوصول إليه عادةً - وإن كان له قدرة عقليّة بالنسبة إليه - فلا يمكنتعلّق

ص: 431

النهي بالشرب منه - مثلاً - لعدم القدرة عليه - وعدم كونه تحت اختياره، وحينئذٍ: فينحلّ العلم الإجماليّ، ويكون الشكّ بالنسبة إلى الكأس الثاني شكّاً بدويّاً.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ القدرة التي هي شرط في التنجّز والفعليّة إنّما هي القدرة العاديّة، أي: يأن يكون له قدرة على ارتكابه عادةً، وليس المدار على القدرة العقليّة، بأن يكون قادراً على ارتكابه ولو بمقدّمات غير عاديّة وبتحمّل الصعوبات والمشاقّ.

ولذا، فلو علم - مثلاً - بأنّ إحدى هاتين المرأتين - المرأة التي يريد تزويجها أو المرأة التي في أقصى بلاد الشرق - محرّمة عليه، فحيث إنّ الغرض من النهي المولويّ إنّما هو زجر العبد عن ارتكاب المنهيّ عنه، فلابدّ أن يكون هذا الارتكاب ممكناً ومقدوراً له بحسب العادة، وإلّا، كان النهي عنه بلا ثمرة ولا فائدة، فيكون لغواً، والمولى حكيم، فلا يعقل أن يصدر عنه مثل هذا النهي عنه، بل يكون مستهجناً.

ولكنّ الحقّ: أنّ ذلك على إطلاقه غير مسلّم، بل إذا كان الفعل يشتمل على مصلحة مهمّة بحيث يلزم تحصيلها، ولو ببذل الغالي والنفيس وتحمّل المشاقّ وتهيئة المقدّمات غير العاديّة في سبيل تحصيله، فهو وإن كان غير مقدور عادةً - بشرط أن يكون مقدوراً عقلاً - فلا يمكن أن يقال - حينئذٍ - بأنّه لا يجوز طلب مثل هذا الفعل، بزعم أنّه غير مقدور، وأنّ الأمر به مستهجن وقبيح؛ إذ مع كون المصلحة على تلك الدرجة

ص: 432

العالية من الأهمّيّة، فلا يكون هناك استهجان من قبل النفس في صدور الخطاب والأمر به من قبل المولى، ولا محذور - حينئذٍ - عقلاً في توجيه التكليف إليه، وإن لم يكن تحت قدرته عادةً.

لا يقال: إنّ هناك اُموراً يتركها العبد من تلقاء نفسه من جهة انزجاره عنها، كنكاح الاُمّهات، أو كشف العورة لذوي المروءة، أو أكل الخبائث والقذارات، ونحو ذلك ممّا تشمئزّ منه النفوس الكاملة وتأبى عن ارتكابها، ومع ذلك، فقد توجّه الخطاب والنهي المولويّ إليهم عنارتكاب مثل هذه الاُمور، مع أنّ مقتضى ما تقدّم، أنّه لا يجوز أن يتوجّه إلى هؤلاء أمثال هذه النواهي والخطابات.

لأنّا نقول: فرق بين أن يكون الشيء غير مقدور عادةً، بحيث يحتاج في تحصيله إلى إيجاد المقدّمات البعيدة والخارجة عن العادة مع تحمل المشاقّ والصعوبات، وبين أن يكون مقدوراً للمكلّف، غاية الأمر: أنّه منفور ومشمئزّ عنه.

ففي القسم الأوّل، يكون الخطاب بالترك مستهجناً بنظر العرف والعقلاء، لعدم قدرة المكلّف عليه.

وأمّا في القسم الثاني، فالعرف والعقلاء لا يرون قبحاً في توجيه خطاب النهي عن الترك إلى المكلّف القادر على الفعل؛ لأنّه وإن كان يشمئزّ منه ولا يرتكبه لمكان هذا النفور والاشمئزاز، إلّا أنّه حيث كان في الفعل مفسدة، وكان ارتكابه مقدوراً له، لم يكن في نهيه عنه قبح

ص: 433

ولا استهجان أصلاً؛ وذلك لأنّ النهي - بنظر العرف والعقلاء - لابدّ أنّ يتوجّه إلى أحد طرفي المقدور، فإذا كان ارتكاب الفعل بنظر غير مقدور، فهو مجبور على الترك، فلا يكون مقدوراً له هو أيضاً، ومعه: فلا مجال للخطاب بالنهي عنه، بل هو مستهجن عندهم.

هذا. ولكن يمكن أن يقال:

بأنّه في الصورة الأخيرة - أيضاً - يقبح النهي، إذ لمّا كان المكلّف مشمئزّاً من ارتكاب الفعل، وتاركاً له قهراً، فيكون النهي عن ارتكابه مندرجاً في باب تحصيل الحاصل، فلا يكون للنهي مجال، لقبحه.

وكيف كان، فحاصل ما تقدّم: أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ أن يكون كلا الطرفين محلاً للابتلاء، وأمّا إذا خرج أحد الأطراف عن محلّ ابتلائه، فلا يكون له علم بثبوت التكليف على كلّ حال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ليس ممّا يصحّ النهي عنه في أيّ طرف كان؛ إذ لا يصحّ النهي عن طرفٍ يكون خارجاً عن محلّ الابتلاء، لعدم القدرة عليه بالبيان المتقدّم، وحينئذٍ: فلا يكون الأصل النافي للتكليف قابلاً للجريان في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء، بعد عدم ترتّب الأثرالعمليّ لهذا الأصل في مورده، فيبقى الطرف الآخر، أي: الطرف الذي هو محلّ الابتلاء، مجرىً لذلك الأصل، وهذا هو معنى: سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ بخروج أحد أطرافه عن محلّ ابتلاء المكلّف.

هذا كلّه، في صورة العلم بأنّ بعض أطراف العلم الإجماليّ خارج عن

ص: 434

محلّ الابتلاء.

وأمّا في صورة الشكّ في كونه خارجاً محلّ الابتلاء أم لا، فهل تجري فيه أصالة البراءة أم أصالة الاحتياط؟

فإنّ الخمر - مثلاً - تارةً: يكون موجوداً في أقصى بلاد الهند (لمن كان بعيداً عنها - فهذا الفرد ممّا يعلم خروجه عن محلّ الابتلاء، فيدخل في صورة العلم، وقد عرفنا أنّه لا يصحّ توجّه الخطاب بالنسبة إليه.

وأُخرى: يكون موجوداً في نفس البلد الذي هو فيه، فيقطع - حينئذٍ - بإمكان الابتلاء به، فلا يكون توجّه الخطاب إليه ونهيه عنه مستهجناً، فيكون العلم الإجماليّ منجّزاً بالنسبة إليه بلا مانع.

وثالثةً: يكون في بلاد متوسّطة، فيشكّ في خروجه عن محلّ الابتلاء وعدم قدرته عليه عادةً أو عقلاً أم لا، فهذا هو محلّ الكلام.

والأقوى في هذه الصورة هو القول بجريان أصالة الاحتياط، لا أصالة البراءة، فيجب الاجتناب عن الطرف الذي هو محلّ الابتلاء؛ والسرّ في ذلك: أنّ الشكّ في القدرة بعد إحراز الملاك التامّ - كما هو المفروض فيما نحن فيه، لعلمنا بعدم مدخليّة القدرة، عاديّةً كانت أم عقليّةً، في الملاك - فيكون المقام من قبيل الشكّ في السقوط، لا الثبوت، وهذا الشكّ - كما هو معلوم - ليس مجرىً لأصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ البراءة إنّما تجري فيما إذا كان هناك قصور في البيان من ناحية المولى، ولا تجري فيما لو كان عدم التكليف مستنداً إلى عجز

ص: 435

العبد عن الامتثال عقلاً أو عادةً؛ إذ في هذه الحالة، فلو علم العبد بعجزه وانتفاء قدرته، فلا تكليف قطعاً، لقبح تكليف العاجز، ولأنّ القدرة شرط في حسن التكليف.وأمّا إذا شكّ في انتفاء القدرة، فالعقل - حينئذٍ - يستقلّ بلزوم الاحتياط والامتثال ورعاية الاحتمال، حتى يتبيّن العجز، تخلّصاً عن احتمال الوقوع في مخالفة الواقع، وعند انكشاف العجز، يكون - عندئذٍ - مورداً لقاعدة دفع الضرر المحتمل، لا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة أُخرى: فكما أنّه عند الشكّ في القدرة العقليّة لا يمكن أن تجري أصالة البراءة، فكذلك إذا شكّ في القدرة العاديّة، فلا يكون له - أيضاً - الرجوع إلى البراءة لدفع الضرر المحتمل، فلو شكّ في مقدوريّة طرفٍ من الأطراف، فليس له أن يجري البراءة عن التكليف إذا كان تحريميّاً، وارتكاب سائر الأطراف، بل يجب الاجتناب حتى عن الطرف الداخل تحت ابتلائه وتحت قدرته.

ولا يمكن قياس حالة الشكّ على ما إذا علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء؛ إذ مع علمنا بخروج أحد الأطراف عن محلّ الابتلاء نعلم بعدم التكليف بالنسبة إلى ذلك الطرف؛ لأنّه - كما تقدّم - غير مقدور، فنجري بالنسبة إلى ما هو محلّ الابتلاء نجري البراءة، ولا يبقى مجال للقول بلزوم الاحتياط بعد انحلال العلم الإجماليّ، بعدما كان وجود المعلوم بالإجمال في هذا الطرف

ص: 436

مشكوكاً، فالعلم الإجماليّ - حينئذٍ - لم يتعلّق بخطاب فعليٍّ في أيّ طرفٍ كان، بل المعلوم بالإجمال تكليف مشكوك، فلا يؤثّر التنجيز، كما أنّ الملاك - أيضاً - لا يؤثّر؛ لأنّ الملاك على تقدير كونه في ذلك الطرف المعلوم الخروج عن محلّ الابتلاء لا يؤثّر قطعاً؛ لأنّه يقطع بعدم التكليف - حينئذٍ -، أعني: التكليف المطلق.

ومعه: فلا يبقى مجال لحكم العقل بلزوم الاحتياط، وتكون الشبهة - حينئذٍ - كالشبهة البدويّة.

وهذا بخلاف ما إذا شكّ في الخروج، فلا يقطع بعدم التكليف المطلق كالصورة السابقة، بل يحتمل وجوده، فيبقى مجال لأن يحكم العقل بالاحتياط لأجل وجود الملاك.وقد ذهب المحقّق النائيني) (1) تبعاً للشيخ الأعظم! إلى التمسّك بالإطلاقات الواردة في باب الأحكام، وحاصله: أنّ النواهي الواردة في الآيات مطلقة تشمل جميع الموارد بحسب الظهور العرفيّ، سواء كانت خارجة عن محلّ الابتلاء أو داخلة فيه، والقدر المتيقّن من تقييد هذه الإطلاقات وتخصيص العمومات هو ما علم بخروجه عن محلّ الابتلاء،

ص: 437


1- فوائد الاُصول 4: 57 - 59. قال) - بعد بيان كلام الشيخ! - ما لفظه: «وبالجملة: لا ينبغي التأمّل في جواز التمسّك بإطلاق أدلّة المحرّمات الواردة في الكتاب والسنّة في كلّ ما شكّ في حصول القدرة العاديّة وعدمها؛ وعليه: يكون حال ما شكّ في خروجه عن مورد الابتلاء حال ما علم دخوله في مورد الابتلاء في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر».

وأمّا ما شكّ فيه، فيبقى داخلاً تحت الإطلاقات والعمومات بمقتضى أصالة الإطلاق والعموم (1).

كما أنّ هناك فرقاً بين حصول العلم الإجماليّ وتنجّزه وخروج أحد الكأسين - مثلاً - عن محلّ الابتلاء، وبين ما إذا كان خروج أحد الكأسين عن محلّ الابتلاء قبل ورود العلم الإجماليّ.

ففي الصورة الأخيرة، فالشكّ بالنسبة إلى ما هو محلّ ابتلائه يرجع - لا محالة - إلى الشكّ البدويّ؛ إذ بعد أن لم يكن العلم الإجماليّ مؤثّراً التنجيز بالنسبة إليه، فينحلّ هذا العلم، والذي يبقى بالنسبة إلى ما هو محلّ ابتلائه إنّما هو الشكّ البدويّ.

وأمّا في الصورة الأُولى، أي: فيما لو فرض أنّ حصول العلم الإجماليّ كان قبل فرض خروج أحد الكأسين عن محلّ الابتلاء، فإنّ هذا الخروج لا يؤثّر في إسقاط العلم الإجماليّ عن أثره في التنجيز، بل يجب - حينئذٍ - رعاية الاحتياط بموافقة الواقع في الباقي من الأطراف

ص: 438


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 237 - 238. ونصّ كلامه« كالتالي: «إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلّق بالابتلاء، كما لو قال: (اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدّام أمير البلد) مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به، أو (لا تصرّف في اللّباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه)، مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلاً ولا عادةً، إلّا أنّه بعيد الاتّفاق، وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات».

في مورد الابتلاء، وإلّا، يلزم ارتكاب بعضالأطراف، أي: أطراف ما علم تحريمه بالإجمال، وهو كما ترى؛ لأنّ فقدان المكلّف به ليس من قيود التكليف، بل وجوده في الخارج أيضاً كذلك، وإن كان مشروطاً بعدمه عقلاً، وإن لم يكن شرطاً شرعيّاً للتكليف.

وبالجملة: فلمّا كان حصول العلم الإجماليّ سابقاً على خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، فيعلم أنّه ممن اشتغلت ذمّته بالتكليف المعلوم بالإجمال يقيناً، فيكون مورداً لجريان أصالة الاشتغال في الأطراف الباقية مورداً للابتلاء.

الأمر الثالث :الاضطرار إلى بعض الأطراف:
اشارة

وتوضيح الحال فيه يقتضي رسم نقاط:

الاُولى: أنّ المراد من الاضطرار هو المشقّة العرفيّة التي توجب ارتكاب بعض الأطراف، وليس بمعنى الإلجاء؛ إذ لو كان المراد منه الإلجاء، لكان رافعاً للتكليف الشرعيّ عقلاً، والتكليف - حينئذٍ - لا يكون قابلاً للوضع حتى يصحّ رفعه بمثل قوله- في حديث الرفع المتقدّم: «رفع ما اضطرّوا إليه».

الثانية: أنّ الاضطرار - مطلقاً - مانع عن فعليّة التكليف والحكم؛ لأنّه من حدوده وقيوده شرعاً كما هو مقتضى الجمع بين أدلّة الأحكام الأوّليّة وأدلّة الأحكام الثانويّة كالضرر والعسر والحرج ونحو ذلك، فإنّ مقتضى

ص: 439

هذا الجمع هو تقييد إطلاق الأحكام الواقعيّة الأوّليّة بعدم طروّ العناوين الثانويّة، فإطلاق حرمة شرب الخمر أو شرب المتنجّس - مثلاً - يقيّد بعدم الضرورة إلى شربه حدوثاً وبقاءً، وهذا هو معنى: أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف يكون مانعاً عن فعليّة الحكم المعلوم، لكونه العناوين الثانويّة.

الثالثة: إذا اضطرّ إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال، فتارةً يكون إلى أحدهما بعينه، وأُخرى يكون إلى أحدهما لا بعينه، وكلّ واحدمنهما، إمّا أن يكون حصول الاضطرار قبل حصول العلم بالتكليف أو بعده أو مقارناً لحصوله.

أمّا صورة الاضطرار إلى أحدهما بعينه، كما إذا كان هناك إناءان، في أحدهما ماء مطلق وفي الآخر ماء الرمّان، وعلم إجمالاً بإصابة قطرة من الدم لأحدهما، واضطرّ إلى شرب الماء لرفع عطشه المضرّ بحاله، أو اضطرّ إلى شرب ماء الرمّان للاستشفاء من مرضٍ يتوقّف الشفاء منه عليه، فإنّ حصول الاضطرار إذا كان قبل العلم الإجماليّ بوقوع النجس في أحدهما، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن المحتمل الآخر أو المحتملات الأُخرى؛ لأنّ العلم الإجماليّ - حينئذٍ - لا يكون مؤثّراً مطلقاً وعلى كلّ حال، وذلك لعدم توجّه التكليف إلى الكأس الذي اضطرّ إليه، حتى ولو كان في الواقع هو النجس المعلوم بالإجمال، لأنّه ممّا يعلم بحلّيّته وارتفاع حرمته بمقتضى قوله-: «رفع ما اضطرّوا

ص: 440

إليه»، وحاله في ذلك - أي: في عدم ترتّب أثرٍ شرعيّ عليه - حال الكأس التالف قبل ورود العلم الإجماليّ.

ومعه: فيكون الطرف الآخر ممّا يشكّ في كونه موضوعاً لخطاب (اجتنب النجس)، فيكون حكمه حكم الشبهة البدويّة، فيرجع فيه إلى أصالة البراءة.

وإذا حدث العلم الإجماليّ بعد الاضطرار، أو مقارناً لحدوث الاضطرار، فلا يكون منجّزاً؛ لعدم كونه متعلّقاً بحكم فعليّ على كلّ تقدير، أي: سواء انطبق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف أو الأطراف الأُخر؛ لأنّه بالنسبة إلى الطرف المضطرّ إليه، فليس هناك حكم أصلاً؛ لأنّ الحكم - كما عرفنا - قد ارتفع بطروّ الاضطرار.

وقد عرفنا أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ لمتعلّقه، وفي تأثيره لوجوب الموافقة القطعيّة أو حرمة المخالفة القطعيّة، أن يكون متعلّقه حكماً فعليّاً على كلّ تقدير، أو ذو حكم فعليّ، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر أو الأطراف الاُخرى بلا معارض.وأمّا إذا حصل الاضطرار بعد حصول العلم الإجماليّ، فبما أنّ العلم قد تنجّز، والتكليف قد حصل، فكلّ واحدٍ من الطرفين يصير محتمل التكليف المنجّز والاضطرار، ولو فرض أنّ الاضطرار يرفع التكليف عن ذلك الطرف الذي اضطرّ إليه، ولكن لا تجري البراءة في الطرف الآخر؛

ص: 441

لأنّه محتمل التكليف، وقد أصبح هذا التكليف منجّزاً في كلّ من الطرفين في رتبة سابقة على طروّ الاضطرار.

والتكليف وإن ارتفع عن الطرف الذي اضطرّ إليه، ولكن لا يجري الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر، فيكون حال الاضطرار إلى أحد الأطراف بعد حصول العلم الإجماليّ حال ما إذا تعرّض بعض الأطراف للتلف بعد حصول العلم الإجماليّ، فكما أنّه إذا تلف بعض الأطراف بعد حصول العلم الإجماليّ لا تجري الاُصول النافية للتكليف في الطرف أو الأطراف الباقية، فكذلك الحال في مورد الاضطرار.

وأمّا إذا كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فهل يمكن قياسه على صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه حتى يجري ما ذكرنا هناك أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لأنّه هناك طرأ الاضطرار على نفس ما هو الحرام الواقعيّ في البين، على تقدير كونه ذلك الفرد الذي اضطرّ إليه بعينه، بخلاف المقام.

وقد حكم الشيخ الأنصاري) هنا بلزوم الاجتناب عن الطرف الآخر في جميع هذه الصور، أي: سواء كان حصول الاضطرار قبل العلم الإجماليّ، أو بعده، أو مقارناً له.

قال): «ولو كان المضطرّ إليه بعضاً غير معيّن، وجب الاجتناب عن الباقي، وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجماليّ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة

ص: 442

واحدٍ من أمورٍ لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي» (1).

وحاصل ما أفاده رحمة الله:

أنّ الاضطرار تعلّق بالجامع بين الحرام والحلال، لا بخصوص الحرام كي ترتفع حرمته بطروّ الاضطرار، فما هو المضطرّ إليه، وهو الجامع، فليس بحرام، وما هو حرام واقعاً، فليس بمضطرّ إليه، فلا وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام الواقعيّ المنجّزة بالعلم الإجماليّ بمجرّد الاضطرار إلى الجامع.

فيكون المقام نظير ما لو اضطرّ إلى الشرب من أحد كأسين مع العلم تفصيلاً بحرمة أحدهما بالخصوص، فإنّه لا شكّ في عدم ارتفاع الحرمة عن الكأس المحرّم الشرب منه المعلوم بالتفصيل بمجرّد الاضطرار إلى الشرب منه أو من الكأس الآخر.

وخلاصة البحث:

أنّ الاضطرار الذي هو عنوان ثانويّ لم يطرأ على ما هو المحرّم واقعاً كي ترتفع حرمته، بل الاضطرار إنّما تعلّق بالجامع، فلابدّ من الاحتياط في الطرف الآخر بعد فرض تنجّزه بالعلم الإجماليّ، بلا فرق في ذلك بين حصول الاضطرار قبل حصول التكليف أم بعده، قبل حصول العلم به أم بعده.

ص: 443


1- فرائد الاُصول 2: 245.

فإذا عرفت هذا، وقلنا بأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تنجيز التكليف المحتمل في كلّ واحدٍ من أطرافه يكون علّة تامّة، فيجب فيه الموافقة القطعيّة، ولا تجري في شيءٍ من أطرافه الاُصول النافية، ولو لم يكن معارض في البين.

نعم، يجوز جريان هذه الاُصول في حالةٍ واحدة، وهي حالة الانحلال وجعل البدل.

فلا يجوز الترخيص الظاهريّ إلّا بالتصرّف في ناحية التكليف بالمعلوم بالإجمال، بأن يقيّده بما إذا لم ينطبق الاضطرار عليه، فلو طبّق المكلّف اضطراره عليه - ولو بتوسّط كونه جاهلاً بالاضطرار -فلا تكليف في البين أصلاً، لا أنّ التكليف يكون موجوداً، غاية الأمر: أنّه غير منجّز.

وذلك لأنّه لا انحلال ولا جعل بدل في البين، فيكون الترخيص - حينئذٍ - من باب التوسّط في التكليف، وهو أن لا يكون التكليف مطلقاً على كلّ حال، بل على تقديرٍ دون تقدير آخر، فالاضطرار إلى أحدهما المعيّن يكون من هذا القبيل؛ لأنّه:

لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان في ذلك الطرف المعيّن الذي اضطرّ إليه، فلا تكليف في البين أصلاً؛ إذ هو يرتفع بطروّ الاضطرار.

ولو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان في الطرف الآخر، فيكون موجوداً، فلا يكون موجوداً مطلقاً، ولا معدوماً مطلقاً، بل معنىً متوسّط، أي: موجود على تقدير غير موجود على تقدير آخر.

ص: 444

نعم، بناءً على القول بالاقتضاء، حيث لا يتنافى بقاء التكليف على إطلاقه في مقام الواقع مع الترخيص الظاهريّ للاضطرار، فلا مناص عن القول بالتوسّط في التنجّز، أي: أنّ التكليف يكون موجوداً مطلقاً، وعلى كلّ حال، ولكنّ تنجّزه إنّما يكون في حالٍ دون حال.

الأمر الرابع :في الشبهة غير المحصورة:
اشارة

وقد اختلفت كلمات الأصحاب(رحمهم الله)كثيراً في تحديدها وتعيين الضابط لها، وورد عنهم في ذلك تحديدات مختلفة:

قال الميرزا النائيني):

«فعن بعضٍ: تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حدّ تعسير عدّها (1)، وزاد بعضهم: قيد (في زمانٍ قليل) (2)، وعن بعضٍ آخر: إرجاعهاإلى العرف،

ص: 445


1- هذا قول صاحب المدارك)، قال: «فالمراد بغير المحصور ما كان كذلك في العادة، بمعنى: تعسّر حصره وعدّه، لا ما امتنع حصره...». انظر: مدارك الأحكام 2: 253. والذي يظهر من عبارة شيخنا الأنصاريّ«: أنّه لا فرق بين هذا الرأي وبين الرأي القائل بإرجاع الضابطة فيها إلى العرف، قال) في الرسائل: «اختلف عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره، فعن الشهيد والمحقّق الثانيين، والميسيّ، وصاحب المدارك: أنّ المرجع فيه إلى العرف، فهو: ما كان غير محصورٍ في العادة، بمعنى: أنّه يعسر عدّه، لا ما امتنع عدّه؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر»، راجع: فرائد الاُصول: 2: 268.
2- نقله الشيخ الأعظم) في الفرائد المحقّق الثاني! في فوائد الشرائع، انظر: فرائد الاُصول 2: 268- 269.

وقد قيل في تحديدها أمور أُخر لا تخفى على المتتبّع، مع ما فيها من عدم الانعكاس والاطّراد» (1).

وأمّا ما اختاره هو!، فحاصله:

أنّ الضابط في الشبهة غير المحصورة عبارة عن اجتماع أمرين:

أوّلهما: عدم إمكان الجمع بين أطرافها عادةً في مقام ارتكاب الأطراف.

والثاني: أن يكون عدم إمكان الجمع هذا مستنداً إلى كثرة أطرافها.

وبهذا الأمر الثاني تختلف الشبهة غير المحصورة عن حالات خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء، بسبب بعد المكان - مثلاً - أو أيّة جهةٍ أُخرى غير كثرة العدد.

قال): «والاُولى أن يقال: إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال: من أكلٍ أو شربٍ أو لبسٍ أو نحو ذلك، وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال.

فتارةً: يعلم بنجاسة حبّةٍ من الحنطة في ضمن حُقّةٍ منها، فهذا لا يكون من الشبهة الغير المحصورة؛ لإمكان استعمال الحقّة من الحنطة بطحنٍ وخبزٍ وأكل، مع أنّ نسبة الحنطة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الالف.

ص: 446


1- فوائد الاُصول 4: 116 - 117.

وأُخرى: يعلم بنجاسة إناءٍ من لبن البلد، فهذا يكون من الشبهة الغير المحصورة، ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف، لعدم التمكّن العاديّ من جمع الأواني في الاستعمال، وإن كان المكلّف متمكّناً من آحادها، فليس العبرة بقلّة العدد وكثرته فقط، إذ ربّ عددٍ كثير تكون الشبهة فيه محصورة، كالحقّة من الحنطة، كما أنّه لا عبرةبعدم التمكّن العاديّ من جمع الأطراف في الاستعمال فقط، إذ ربّما لا يتمكّن عادةً من ذلك مع كون الشبهة فيه - أيضاً - محصورةً، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب...» (1).

ولكن استشكل عليه المحقّق العراقي! - على ما في تعليقته على الفوائد - بما لفظه:

بأنّ هذه الضابطة - أيضاً - لا تخلو عن شبهة؛ «لأنّه ربّما يتمكّن عادةً من الابتلاء بالجميع بطول الزمان وتدريج المضيّ من اللّيالي والأيّام، فلابدّ من أنّ يُحدد مقدار أيضاً، بحيث يصدق عليه كون كلّ واحدٍ محلّ ابتلائه، على وجهٍ لا يصير طول الزمان منشأً لخروجه عنه، كما لا يخفى» (2).

وقد حدّد الشيخ الأعظم) ضابط الشبهة غير المحصورة بشكلٍ آخر، وهو أن تكون كثرة الأطراف بالغةً إلى حدٍّ يكون معه احتمال التكليف

ص: 447


1- فوائد الاُصول 4: 117.
2- المصدر نفسه، الهامش رقم 1.

في كلّ واحدٍ من الأطراف احتمالاً موهوماً لا يعتني به العقلاء، بل يرون الاعتناء به نوعاً من الوسوسة، ولازم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعيّة.

وفي ذلك يقول!:

«ويمكن أن يقال - بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس -: إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجماليّ الحاصل فيها، ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد، فعامل العبد مع واحدٍ من أهل قريةٍ كبيرةٍ يعلم بوجود زيدٍ فيها، لم يكن ملوماً وإن صادف زيداً؟» (1).

ثمّ إنّه - أي المحقّق النائيني! - قال:«وممّا ذكرنا من الضابط: يظهر حكم الشبهة غير المحصورة، وهو عدم حرمة المخالفة القطعيّة، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة» (2).

وهذا على خلاف ما يظهر من الشيخ! من التفصيل بين المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة، بالقول بالحرمة في الاُولى، وبعدم الوجوب في الثانية.

قال!: «والتحقيق: عدم جواز ارتكاب الكلّ [يعني: جميع المشتبهات

ص: 448


1- فرائد الاُصول 2: 271.
2- فوائد الاُصول 4: 118.

في الشبهة غير المحصورة]؛ لاستلزامه طرح الدليل الواقعيّ الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعيّ، كالخمر في قوله: (اجتنب عن الخمر)؛ لأنّ هذا التكليف لا يسقط عن المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات. غاية ما ثبت في غير المحصور: الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات...»، انتهى موضع الحاجة (1).

ولكن هذا غير تامّ؛ والوجه في ذلك: أنّ حرمة المخالفة القطعيّة إنّما تتصوّر في ما إذا تمكّن المكلّف منها تمكّناً عاديّاً، ولكنّه مع التمكّن، لا تكون الشبهة من قبيل الشبهة غير المحصورة.

وعلى أيّ حال، فالظاهر: أنّ أحسن التعريفات لضابطة الشبهة غير المحصورة هي ما أفاده الشيخ الأنصاري! من بلوغ كثرة الأطراف حدّاً تكون معه سبباً لضعف احتمال كون الحرام - مثلاً - في طرف يريد المكلّف ارتكابه.

وقد استدلّ على أنّ الحكم في الشبهة غير المحصورة هو عدم لزوم الاجتناب بوجوه:

الأوّل: الإجماع.ولكن قد عرفت سابقاً حال هذه الإجماعات، وأنّها من الإجماعات المنقولة وغير التعبّديّة.

ص: 449


1- فرائد الاُصول 2: 266- 267.

والثاني: دعوى أنّ الاجتناب مستلزم للمشقّة والعسر والحرج، فيمتنع الإلزام به.

وفيه: أنّه مختصّ بالموارد التي يلزم منها ذلك، فلا يمكن الحكم به على سبيل الإطلاق.

الثالث: ما دلّ من الروايات على حلّيّة كلّ ما لم يعلم حرمته، كصحيحة عبد اﷲ بن سنان قال: قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً، حتى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه» (1)، فقد يقال: بأنّها ظاهرة في أنّ موردها خصوص العلم الإجماليّ، خرج منها الشبهة المحصورة، إمّا بالإجماع أو بالعقل، فتبقى الشبهة غير المحصورة، فلا يلزم فيها الاجتناب، وهو المطلوب.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّها مختصّة بالشبهة البدويّة، فلا تشمل المورد أصلاً.

ثمّ هل يجوز ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة غير المحصورة أم أنّه لابدّ من الإبقاء على مقدارٍ منها؟

فصّل في ذلك الشيخ الأنصاري! فقال بعدم العقاب إذا لم يقصد ارتكاب الجميع من أوّل الأمر، ولكن انجرّ الأمر إليه، وبالعقاب فيما إذا قصد الجميع من أوّله، أو توصّل به إلى ارتكاب الحرام.

ص: 450


1- تهذيب الأحكام 9: 79، باب 2 من كتاب الصيد والذبائح، ح72، ووسائل الشيعة 24: 236، باب 64 من أبواب الأطعمة المحرّمة، ح2.

قال!: «فالأقوى في المسألة: عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أوّل الأمر؛ فإنّ قصده قصدٌ للمخالفة والمعصية، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام» (1).والحقّ: هو التفصيل، فلو شرع المكلّف في الأطراف قاصداً ارتكاب جميعها، ولو في طول سنين متطاولة، لم يكن معذوراً؛ لأنّ التكليف بعد باقٍ على فعليّته، وكذا لو قسّم أطراف الشبهة غير المحصورة إلى أقسامٍ معدودة ومحصورة، وأراد ارتكاب بعض الأقسام الذي تكون نسبته إلى سائر الأقسام نسبةً محصورة، كما لو كانت الأطراف عشرة آلاف - مثلاً - فقسّمها إلى عشرة أقسام، فإنّه يكون حكمها حكم الشبهة المحصورة، ولا يكون معذوراً فيه، فلا يجوز له ارتكاب بعض أطرافه، فضلاً عن جميعه.

الأمر الخامس: في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة:
اشارة

وتحقيق الحال فيه في بيان نقاط:

النقطة الأُولى:

أنّ البحث هنا هل هو مختصّ بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، أم يأتي - أيضاً - في ملاقي بعض أطراف الشبهة غير المحصورة؟

ص: 451


1- فرائد الاُصول 2: 266.

قد يتصوّر: أنّه بملاحظة ما اشتهر على الألسنة، وما اشتهر في كتب الأعلام من عنونة هذه المسألة بأنّ «ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة»، فالبحث لابدّ وأن يكون مختصّاً بها وغير شامل للشبهة غير المحصورة، قال السيّد اليزديّ) في العروة: «ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة، لكنّ الأحوط الاجتناب» (1).

ولكنّ صاحب الكفاية! جعل البحث أعمّ، بحيث يشمل ملاقي بعض أطراف الشبهة، سواء كانت محصورة أم غيرها؛ فإنّ من خصّ البحثبالشبهة المحصورة كان ناظراً إلى أنّ تنجيز العلم الإجماليّ يدور مدار حصر الأطراف.

وأمّا من كان يرى المدار في تنجيزه على فعليّة التكليف، كما هو مختار الآخوند) (2)، فقد عمّم البحث، وجعله متناولاً لملاقي أطراف الشبهة التي تنجّز فيها التكليف، محصورةً كانت أم لا.

والنقطة الثانية:

هل تعدّ الملاقاة سبباً وعلّة لحدوث النجاسة في الملاقي، ليكون حالها حال سائر الأسباب والعلل التكوينيّة التي تترتّب عليها مسبّباتها

ص: 452


1- العروة الوثقى 1: 114- 115، فصل في الماء المشكوك النجاسة، المسألة رقم 6.
2- انظر: كفاية الاُصول: 362، ونصّ كلامه«: «الثالث: أنّه قد عرفت أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورةً وأن تكون غير محصورة...».

ومعلولاتها تكويناً، وبلا حاجةٍ إلى جعل من الشارع؟

من الواضح: أنّه إذا قلنا بذلك، فإنّ الملاقي يكون نجساً بسبب الملاقاة، لا أنّ نجاسة الملاقي تكون حكماً مجعولاً من الشارع مستقلّاً وفي عرض الحكم بنجاسة ما لاقاه.

غير أنّه لا يخفى: أنّ هذا غاية في الضعف والسقوط؛ إذ إنّ نجاسة الملاقي هي، كنجاسة الملاقاة، من الاُمور والمجعولات الشرعيّة، وليست من الأسباب التكوينيّة.

قال الشيخ الأعظم! في رابع تنبيهات الشبهة المحصورة:

«الرابع: أنّ الثابت من كلٍّ من المشتبهين - لأجل العلم الإجماليّ بوجود الحرام الواقعيّ فيهما - هو وجوب الاجتناب؛ لأنّه اللّازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ، أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام فلا تترتّب عليهما».

إلى أن قال: «وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان، مبنيّان على أنّ تنجيس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس».إلى قوله: «أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين» (1)، أي: فعلى الأوّل يجب الاجتناب، وعلى الثاني لا يجب.

والصحيح: هو الثاني؛ فإنّ ظهور مثل: (اجتنب عن النجس)، هو نفس

ص: 453


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 239 - 240.

العنوان، أعني: عنوان الاجتناب عن العين، ولا يستفاد منه المعنى الأعمّ، أي: ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه أيضاً.

ومن هنا ما يقال: من أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) إنّما جاء من قبل وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، أي: أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) هو من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، لا أنّه لا يحصل امتثال الخطاب بالاجتناب عن النجس إلّا بالاجتناب عن ملاقيه، كما يستفاد من استدلال السيّد أبو المكارم ابن زهرة) في الغنية (1) على أنّ الماء القليل يتنجّس بملاقاة النجاسة، بما دلّ على وجوب هجر النجاسة، كمثل قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (2).

فإنّ استدلاله على ذلك لا يتمّ إلّا بناءً على أنّ وجوب الاجتناب يقتضي وجوب نجاسة ملاقيه؛ لما نقلناه من الوجه، وحاصله: أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه، ولو بوسائط.

ولكنّك عرفت، أنّ الذي يظهر من مثل الآية الكريمة إنّما هو وجوب

ص: 454


1- غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع: 46، قال): «فإن تغيّر أحد أوصاف هذا الماء، فهو نجس بلا خلاف، فإن كان الماء راكداً قليلاً، أو من مياه الآبار، قليلاً كان أو كثيراً، تغيّر بالنجاسة أحد أوصافه، أو لم يتغيّر، فهو نجس، بدليل إجماع الطائفة، وظاهر قوله تعالى...»، ثمّ ساق الآية الشريفة وغيرها من الأدلّة.
2- المدّثر: الآية 5.

الاجتناب عن نفس النجس، أمّا الملاقي له فلا؛ لأنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو وجوب الاجتناب عن الرجز، ولا تدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز.ثمّ إنّه لا يمكن أن نجعل عنوان الملاقي للنجس موضوعاً آخر يحكم الشارع عليه بالنجاسة في عرض سائر ما حكم عليه بالنجاسة، كالبول والغائط من حيوانٍ غير مأكول اللّحم، عدا الطيور.

والسرّ في ذلك: أوّلاً: أنّ الفقهاء حينما عدّوا النجاسات لم يعدّوا الملاقي للنجس من جملتها.

وثانياً: أنّ المستفاد من الأدلّة هو أنّ هذه النجاسة آتية من قبل ما لاقاه من النجس، وهذا هو المرتكز في أذهان المتشرّعة.

فإن قيل: إنّ النجاسة تسري من الملاقي إلى ملاقيه، فكأنّ موضوع النجاسة كان قبل الملاقاة ضيّقاً، وبعد الملاقاة صار أوسع، فشمل الملاقي - أيضاً -.

قلت: هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأعراض الخارجيّة، فإنّه - حينئذٍ - يكون ممكناً، بل وواقع كثيراً، فما يكون موجوداً في الشيء من اللّون أو الطعم أو الرائحة أو غير ذلك ربّما يسري من الملاقي إلى الملاقي، فتتّسع دائرة موضوع هذا العرض.

وأمّا في محلّ البحث، فالنجاسة لمّا كانت من المجعولات الشرعيّة، وإن كان جعلها لوجود مفسدة في عدم الاجتناب عنها، إلّا أنّ هذا الجعل

ص: 455

المتعلّق بها هو كسائر الأحكام والمجعولات الشرعيّة يكون ناشئاً عن مفسدةٍ وملاكٍ أوجبه.

نعم، لو قلنا بأنّ النجاسة هي من الموضوعات الخارجيّة التي كشف عنها الشارع، لكان الكلام المذكور صحيحاً بلا إشكال.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا بالسراية، فالنجاسة في الملاقي ليست إلّا حكماً مجعولاً على عنوان الملاقي للنجس، ولكنّ ملاك الجعل إنّما هو جهة تأثير النجس الذي جاء من قبل الملاقي، ومعنى ذلك: أنّه بسبب الملاقاة مع النجس أو المتنجّس - على القول بأنّ ملاقي المتنجّس متنجّس أيضاً - فإنّ أمراً أو مفسدةً ما قد حصلا تكويناً في الملاقي بحيث أوجب حكم الشارع بنجاسته.وأمّا القول بأنّ الملاقاة علّة تكوينيّة لحدوث ملاك جعل النجاسة في الملاقي، أو بانبساط النجاسة في الملاقي على ملاقيه أيضاً، فهو بظاهره غير معقول، إلّا إن كان العرف يرى أنّهما بالملاقاة يصبحان موضوعاً واحداً، ولكنّ هذا معلوم العدم؛ فإنّ الاصبع المتنجّس - مثلاً - إذا لاقاه الماء القليل، فإنّه يتنجّس الماء، مع وضوح عدم وحدة الملاقي - بالكسر - مع الملاقى - بالفتح - فهذا القول واضح الفساد.

وأمّا الأخبار التي يظهر منها السراية، فالمراد منها: أنّ نجاسة الملاقى - بالفتح - تكون منشأ لحصول الملاك والمفسدة التي على أساسها قام الشارع بجعل النجاسة في الملاقي - بالكسر -. ومن هذه

ص: 456

الجهة يطلق عليها اسم السبب والمؤثّر، فإذا كان المقصود من استناد نجاسة الملاقي إلى الملاقى - بالفتح - هو هذا المعنى، فيصحّ.

ولكن مع ذلك، فهذا الكلام لا يأتي في صورة ملاقاة بعض أطراف الشبهة المحصورة، فيما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، وقلنا بأنّ العلم الإجماليّ يكون علّة تامّة لتنجّز التكليف المحتمل في جميع الأطراف، فوجوب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين أو الأطراف بخصوصه، إنّما هو لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الواقعيّ بينهما، ولا يحكم في شيء من الطرفين أو الأطراف بخصوصه بالنجاسة، لا ظاهراً ولا واقعاً.

أمّا واقعاً؛ فلعدم إحراز نجاسته بالخصوص، للجهل بكون النجس الواقعيّ في هذا الكأس أو في ذاك.

وأمّا ظاهراً؛ فلعدم ثبوت النجاسة فيه بخصوصه بأمارة أو أصل. وإنّما يجب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين عقلاً.

وعليه: فمقتضى العلم الإجماليّ بالنجس بين الأطراف هو ترتيب خصوص وجوب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين أو الأطراف بحكم العقل، حتى يحصل العلم بالامتثال، وليس هناك مجعول شرعيّ، ولا حكم بالنجاسة شرعاً، فلا سبيل لترتيب سائر الآثار الشرعيّة المتعلّقةبالحرام أو النجس عليه؛ لعدم إحراز أنّ التنجّس أو المتنجّس هو هذا أو ذاك بالخصوص.

ولذا، فإنّ ارتكاب أحد أطراف الخمر المعلوم إجمالاً لا يوجب

ص: 457

الحدّ، وإن استحقّ العقوبة، إمّا لأجل أنّه قد شرب ما هو خمر واقعاً، أو لأنّه قد أصبح متجرّياً لو لم يكن ما شربه خمراً في الواقع، وإنّما لا يحدّ مع استحقاقه للعقوبة؛ لأنّ موضوع حكم الحاكم الشرعيّ بإقامة الحدّ هو شرب الخمر، ولمّا يُحرز ذلك.

إن قلت: بعد الملاقاة يحصل علم إجماليّ آخر؛ لأنّه يعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو بنجاسة طرف الملاقى - بالفتح -. ولك أن تقول: إنّه بعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة المتلاقيين، أو بنجاسة الطرف الآخر، فيجب الاجتناب عن الجميع.

قلت: ثمّة فرق بين حصول هذا العلم الإجماليّ الآخر بعد العلم الإجماليّ الأوّل، وبين حصوله قبله، فإنّه:

إن حصل بعده، فلا أثر له؛ لفرض انحلاله بالعلم الإجماليّ الأوّل.

وإن حصل قبله، فيجب الاجتناب عن الجميع، الملاقي والملاقى وطرف الملاقى - بالفتح - لأنّه بعد انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر بالعلم الإجماليّ المتقدّم، فلا تأثير لهذا العلم، لما عرفنا من أنّه لو تنجّز أحد أطراف العلم الإجماليّ بمنجّز شرعيّ، من أمارة أو أصلٍ شرعيّ، فينحلّ العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً، وتجري الاُصول المؤمّنة في الطرف أو الأطراف الأُخرى.

النقطة الثالثة:

ينبغي أن يعلم: أنّ هذا البحث مختصّ بما لو كانت الملاقاة مختصّةً

ص: 458

ببعض الأطراف دون بعض، كأحد أطراف العلم الإجماليّ، أو كطرفين إذا كان يدور بين أطراف ثلاثة، ضرورة أنّه لو فرضنا أنّ شيئاً واحداً قد لاقى جميع الأطراف، فإنّه لا إشكال في نجاسته حينئذٍ؛ إذ يكون حكمه، وهو النجاسة، معلوماً تفصيلاً.كما أنّه لا يتمّ إلّا فيما لو لم يكن عدد الملاقي بمقدار عدد الأطراف، وإلّا، يجب اجتناب عن الجميع؛ لأنّه يحصل بهذه الملاقاة علم إجماليّ آخر في عدد الملاقيات أيضاً، فكما يجب الاجتناب عن جميع الأطراف، لتنجّز التكليف فيها بالعلم الإجماليّ، فحيث إنّ الملاقيات صارت أطرافاً لعلم إجماليٍّ آخر، فيجب الاجتناب عن جميعها أيضاً.

النقطة الرابعة:

يشترط في تأتّي هذا البحث أن لا يكون الملاقي - بالكسر - ظرفاً لعلم إجماليّ آخر، فلو كان كذلك، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه.

النقطة الخامسة:

أنّ هذا البحث يتوقّف على أن لا يكون للملاقي جهة أُخرى تكون سبباً لوجوب الاجتناب عنه. وأمّا لو كانت كذلك، بأن كانت نجاسته ثابتةً بعلم تفصيليّ أو بأصل شرعيّ، كاستصحاب النجاسة أو أمارة، فلا إشكال - حينئذٍ - في نجاسة الملاقي ولزوم ترتيب آثار النجس الواقعيّ عليه.

ص: 459

النقطة السادسة:
اشارة

أنّ محلّ البحث إنّما هو في أنّ الملاقاة مع أحد أطراف ما علم نجاسته إجمالاً، الذي يجب الاجتناب عنه من باب المقدّمة العلميّة، هل يحكم بوجوب الاجتناب عن هذا الملاقي، أم لا؟

والجواب: أنّه بناءً على نجاسة الملاقي، فيما لو علمنا بنجاسة الملاقى - بالفتح - تفصيلاً، بالوجدان أو التعبّد بالسراية، بمعنى: الانبساط واتّساع دائرة موضوع النجس، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه، أي: عن الملاقي، فإنّه كما يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - يجب الاجتناب عنه هو أيضاً، ويكون المقام بمثابة ما إذا جعل الكأس الذي هو أحد أطراف العلم الإجماليّ كأسين، فإنّه بعد جعله كأسين، لا يخرج عن كونه طرفاً، بل كلا الطرفين طرف واحد من أطرافه.نعم، لو بنينا على أنّ نجاسة الملاقي من المجعولات الاستقلاليّة، وإن كان منشأ هذا الجعل وملاك المجعول قد حدث فيه بواسطة الملاقاة وتأثيره فيه، فتكون نجاسة الملاقي مشكوكة، ومن هنا ذهب الاُستاذ المحقّق) إلى أنّه تجري فيه - حينئذٍ - قاعدة الطهارة بلا إشكال (1)؛ لعدم تبيّن الملاك.

لا يقال: ففيما لو كشفنا الملاك فيكون الاجتناب واجباً، وإن لم نعلم بورود الأمر.

ص: 460


1- انظر: منتهى الاُصول 2: 271.

فإنّه يقال: قد ذكرنا مراراً أنّه لا سبيل إلى العلم بالملاك إلّا مع وجود الأمر.

في صور الملاقاة:

تارةً: يكون الواجب هو الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وثانيةً: بالعكس، وثالثةً: يجب الاجتناب عن كليهما، فالصور ثلاث:

وملخّص البحث في هذه الصور:

أنّ العلم بنجاسة بالملاقي، إن حصل قبل العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي وصاحبه، فإنّه يدخل في أطراف العلم الإجماليّ، فتقع المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي وبين الأصل الجاري في الطرف الآخر، أي: طرف الملاقى.

وإذا حصلت الملاقاة بعد العلم الإجماليّ، فإنّ الأصلين اللّذين يجريان في الملاقى والطرف الآخر يتساقطان، وبما أنّ الأصل الجاري في الملاقى سببيّ، والأصل الجاري في الملاقي مسبّبيّ، فيكون بينهما تقدّم وتأخّر في الرتبة، ففي الرتبة السابقة على جريان أصالة الطهارة في الملاقي، يتعارض أصل الطهارة في الملاقى مع أصل الطهارة في طرفه، فيتساقطان؛ لكونهما في رتبة واحدة، ومع تعارضهما وتساقطهما، يبقى الأصل الجاري في ا لملاقي بلا معارض.وبعبارة أُخرى: فإنّ العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو طرفه، لمّا كان متقدّماً على العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي أو طرف

ص: 461

الملاقى - بالفتح - فلا محالة: لا يكون هذا العلم الثاني منجّزاً، وذلك لتنجّز طرف الملاقى - بالفتح - من قبل العلم الإجماليّ الأوّل، فلا يكون العلم الإجماليّ الثاني مؤثّراً التنجيز في هذه الصور بالنسبة إليه، كما لا يكون مؤثّراً بالنسبة إلى الملاقي أيضاً.

فإذا عرفت ذلك، فلابدّ من معرفة الاحتمالات في كيفيّة تنجّس الملاقي، وفي المقام احتمالات عدّة:

الأوّل: أن تكون الملاقاة سبباً لحدوث النجاسة في الملاقي، على حدّ الاُمور التكوينيّة، ومن أسبابها وعللها.

ويردّه - كما أسلفنا -: أنّا نعلم بأنّ نجاسة الملاقي بسبب الملاقاة، هي كأصل نجاسة الملاقى - بالفتح - من الاُمور الجعليّة والأحكام الشرعيّة، وليست من الاُمور والأسباب التكوينيّة.

الثاني: أن يقال بأنّ عنوان ملاقي النجس موضوع آخر حكم الشارع فيه بالنجاسة في عرض سائر النجاسات.

وفيه - كما ذكرنا سابقاً -: أنّ الفقهاء لم يذكروا عنوان ملاقي النجس في عداد النجاسات، كما مرّ. كما أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة ومعاقد الإجماعات إنّما هو أنّ النجاسة الواردة على الملاقي إنّما حصلت له من قبل ملاقاته للنجس.

الثالث: أن يقال بتوسيع دائرة النجس، بمعنى: النجاسة الموجودة في النجس قد انبسطت وسرت إلى ملاقيه، فبعد أن كان موضوع هذه

ص: 462

النجاسة قبل ذلك ضيّقاً ومختصّاً بالملاقى، فهو - الآن - قد أصبح واسعاً بحيث يشمل الملاقي أيضاً.

ويردّه - كما عرفنا آنفاً -: أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى الاُمور التكوينيّة، كاللّون أو الطعم أو الرائحة، فإنّ هذه الاُمور الواردة على موضوعاتها يمكن أن تتعدّى من الملاقى إلى ملاقيه بعد حصول الملاقاة، بل وحتى ولو لم تحصل ملاقاة فعليّة - أيضاً - كما إذا كانتالميتة - مثلاً - بجنب الحوض، فإنّ ماءه يكتسب رائحة الميتة ولو لم تحصل الملاقاة، فتتّسع دائرة موضوع هذا العرض، وهكذا، حتى ينعدم كلّيّاً بحسب النظر العرفيّ.

وأمّا لو قلنا بأنّ النجاسة - كما هو الحقّ - هي من المجعولات الشرعيّة، وإن كان جعلها لأجل وجود مفسدة في ترك الاجتناب عنها، كسائر الأحكام الشرعيّة التي تكون في جعلها تابعة للمصالح والمفاسد، ومجعولة عن ملاك لاحظه المولى في متعلّقاتها، فلا يكون لها - حينئذٍ - القابليّة للانبساط والسراية.

اللّهمّ إلّا بأن يصير الملاقي والملاقى أمراً واحداً عرفاً، كالماء النجس الذي يطهر بملاقاته للكرّ؛ لأنّ العرف يراهما بعد الملاقاة ماءً واحداً، أو لأنّ الشارع جعلهما شيئاً واحداً بالتنزيل والتعبّد، على حدّ (الطواف بالبيت صلاة)، بأن جعل الطواف وجوداً تنزيليّاً للصلاة، فصار - لذلك - يترتّب عليه من الحكم ما يترتّب على الصلاة.

ص: 463

ولكن يمكن أن يستدلّ بما رواه عمرو بن شمر عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر(علیه السلام): لا تأكله، فقال الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر(علیه السلام): انّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ اﷲ حرّم الميتة من كلّ شيء» (1).

فإنّ ما يظهر من هذه الرواية هو السراية، أعني: سراية النجاسة من الملاقي - بالفتح - للملاقي، وأنّ الملاقاة تكون منشأً لحصول ملاك جعل النجس في الملاقي، والرواية، وإن كانت ضعيفة، ولكنّها تكون مؤيّدة لما هو المرتكز في الأذهان من أنّ منشأ النجاسة في الملاقي نجاسة الملاقى، حيث جعلت الرواية ترك الاجتناب عن هذا الطعام الذي وقعت فيه الفأرة استخفافاً بالدين، معلّلاً ذلك بأنّ اﷲ حرّم الميتة من كلّشيء، ولولا أنّ نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي لها، لم يكن معنى لجواب الإمام(علیه السلام) بذلك.

ولو فرض أنّ نجاسة الملاقي للميتة ليست لأجل السراية، وإنّما لكونها فرداً آخر للنجاسة مستقلاً، تثبت بتعبّد آخر صادر من الشارع وراء التعبّد بالميتة، ما كان الإمام(علیه السلام) ليعلل بأنّه استخفاف بتحريم الميتة، إذ بناءً على

ص: 464


1- وسائل الشيعة 1: 206، الباب 5 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، ح 2.

هذا الفرض المذكور، فإنّ نجاسة الملاقي لا يكون لها ربط أصلاً بنجاسة الملاقى، حتى يكون ترك الاجتناب استخفافاً بحرمة الميتة.

وعليه: فالرواية ظاهرة في أنّ نجاسة الملاقى بنفسها تكون سبباً ومؤثّراً لنجاسة الملاقي.

وأمّا ما قيل: من أنّه «يمكن أن يكون وجه السؤال عن الطعام الذي وقعت فيه الفأرة هو الجهل بنجاسة الفأرة، لا تنجيسها، فأراد السائل أن يستعلم نجاسة الفأرة، غايته: أنّه لما كان مغروساً في ذهنه نجاسة الملاقي للنجس، استعلم نجاسة الفأرة بالسؤال عن الطعام الذي وقعت فيه، فأعلمه الإمام(علیه السلام) بنجاسة الفأرة على طبق ما كان مغروساً في ذهنه، فقال(علیه السلام): (لا تأكله)، ثمّ إنّ السائل استخفّ بنجاسة الفأرة بقوله: (الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها)، فأجابه الإمام(علیه السلام) بأنّ الاستخفاف بنجاسة الفأرة استخفاف بالدين؛ لأنّ اﷲ تعالى حرّم الميتة من كلّ شيء...» (1).

ففيه: أنّ الظاهر أنّ نجاسة الفأرة كانت مركوزة في ذهن السائل.

ولذا قال الاُستاذ المحقّق!: «وأمّا الأخبار الظاهرة في السراية، فالمراد منها: أنّ نجاسة الملاقى - بالفتح - منشأ لحصول ملاك جعل النجاسة في الملاقي - بالكسر -، ومن هذه الجهة أُطلق عليهاالسبب

ص: 465


1- فوائد الاُصول 4: 80.

والمؤثّر، وبهذه العناية يصحّ استناد نجاسة الملاقي إلى الملاقى - بالفتح - » (1).

ويؤيّد ذلك: أنّ السائل في الرواية قال: «الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها»، أي: من أجل الميتة، وقال له الإمام بما حاصله: أنّك لو أكلت ذلك الطعام لكنت مستخفّاً بشيءٍ ممّا حرّمه اﷲ، وهو استخفاف بأحكام اﷲ تعالى.

ويؤيّد ما ذكرناه من الارتكاز - أيضاً -: ما يقولونه من أنّ الماء العالي الوارد على النجس، لا يتنجّس، وإن كان قليلاً؛ لأنّ العرف لا يرى السراية من الداني إلى العالي.

وقد تحصّل بما ذكرناه: أنّ التصرّف في بعض الأطراف لا يكون حراماً شرعاً، وإنّما هو حرام عقلاً، فلا يكون في صورة عدم الموافقة والمصادفة للواقع موجباً للفسق، إلّا بناءً على حرمة التجرّي.

نعم، لو قلنا بحرمة التجرّي، فهذا الحكم العقليّ بوجوب الاجتناب عن جميع الأطراف هل يوجب بطلان البيع وفساده فيما لو باع بعض الأطراف أم لا؟

الحقّ: أنّه لو كان هناك أصل سببيّ، كأصالة عدم الملكيّة أو أصالة عدم السلطنة، ولم يكن لهذا الأصل معارض في الطرف الآخر، فإنّه يقدّم

ص: 466


1- منتهى الاُصول 2: 365.

على أصالة الصحّة، ويحكم معه بفساد البيع.

وأمّا لو لم يكن مثل هذا الأصل موجوداً، فالكلام تارةً في مقام الثبوت وأُخرى في مقام الإثبات.

أمّا في مقام الثبوت: فإن صادف وقوع البيع على ما هو المغصوب في الواقع، كان البيع فاسداً، وإلّا، فلا.

وأمّا في مقام الإثبات، فإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تنجّز التكليف المحتمل في الأطراف علّة تامّة، فلا معنى لجريان أصالةالصحّة، ولو في طرف واحد، وبلا معارض، فتجري - حينئذٍ - أصالة الفساد.

وإن قلنا بالاقتضاء، لا العلّيّة التامّة، فلا مانع من جريان أصالة الصحّة؛ لعدم معارضتها بجريان مثلها في الطرف الآخر، لعدم وقوعها، أي: المعاملة، على سائر الأطراف، كما هو المفروض.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّه بعد الالتزام بعدم جواز التصرّف في نفس الأطراف من باب المقدّمة العلميّة، فالمنع يأتي بالنسبة إلى المنافع أيضاً، لو علم بغصبيّة أحدها، سواء كان لها وجود استقلاليّ، كالثمرة بالنسبة إلى الشجرة، أو اللّبن بالنسبة إلى الغنم ومطلق ذي اللّبن، أم لم يكن لها وجود استقلاليّ، كسكنى الدار أو ركوب الدابّة أو السفينة أو السيارة أو أمثالها، فيجب الاجتناب عن جميعها بحكم العقل - أيضاً - من باب المقدّمة العلميّة؛ للاجتناب عن الحرام المعلوم في البين.

ص: 467

وينبغي أن يُعلم هنا: بأنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ منوطة بتعلّقه بأحد أمرين: إمّا بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، بمعنى: تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال وفعليّته في أيّ طرف من الأطراف كان، كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة، وإمّا بما هو تمام الموضوع للحكم الفعليّ، كالعلم بخمريّة أحد الإناءين. فيجب - حينئذٍ - ترتيب آثار المعلوم بالإجمال في كلّ ما يكون مقدّمة لتحقّق العلم بالامتثال.

وأمّا إذا لم يتعلّق بما هو تمام الموضوع، بل تعلّق بما هو جزء الموضوع للحكم الشرعيّ، لم يكن العلم الإجماليّ منجّزاً، كما إذا علم إجمالاً بأنّ أحد الجسدين ميّت إنسانٍ والآخر جسد حيوان؛ فإنّ هذا العلم الإجماليّ لا يكون منجّزاً، ولا يوجب حكم الشارع بوجوب غسل مسّ الميت؛ لأنّ حكمه مترتّب على مسّ ميت الإنسان، وهذا العلم الإجماليّ بحسب الفرض لم يثبت إلّا جزءاً من موضوع هذا الحكم، وهو أنّ الممسوس ميت. وأمّا جزؤه الآخر، وهو كونه إنساناً، فهو لم يُعلم حتى يتنجّز حكمه؛ لاحتمال أن يكون الممسوس جسد الحيوان، ومعه:فيجري الأصل النافي - من قبيل أصالة عدم تحقّق موجب الغسل أو أصالة البراءة عن وجوبه - بلا معارض.

وهذا مسلّم كبرويّاً، وإنّما وقع الكلام بينهم في تطبيق هذه الكبرى على بعض الموارد، ومنها: أنّه هل يحكم بنجاسة ملاقي بعض الأطراف، ويعطى حكم الملاقي لعين النجس في وجوب الاجتناب عنه أم لا؟

ص: 468

فيقال: إنّه لمّا كان حكم الشارع بالتنجّس منوطاً بما إذا كانت الملاقاة لعين النجس على وجه خاصّ، والمفروض عدم إحراز هذا الموضوع في ملاقي بعض الأطراف، فلا وجه للحكم بالنجاسة.

وكيف كان، فبعد أن ظهر الفرق بين القول بالسراية وبين القول بالتعبّد، فقد ذكر الشيخ الأعظم) أنّ الحكم بتنجّس ملاقي أحد المشتبهين يبتني على هذين القولين، قال):

«وهل يُحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس، بناءً على أنّ الاجتناب عن النجس يُراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه، ولو بوسائط...».

إلى أن قال: «أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعيّ سببيّ يترتّب على العنوان الواقعيّ من النجاسات، نظير وجوب الحدّ للخمر، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي، جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة» (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية! في حاشيته على الرسائل بمنع ابتناء القولين على المبنيين المذكورين، بقوله:

«لا يخفى: أنّ تنجّس الملاقي للنجس، ولو جاء من قبل وجوب

ص: 469


1- فرائد الاُصول 2: 239 - 240.

الاجتناب عنه، بأن كان الخطاب الدالّ على وجوب الاجتناب عنه دالّاً على وجوب الاجتناب عن ملاقيه عرفاً، غير مستلزم للحكم بنجاسة ملاقي أحد الطرفين؛ لأنّ العقل الحاكم في الباببوجوب الاجتناب إنّما يحكم به من باب المقدّمة العلميّة، وهذا الباب منسدّ في طرف الملاقي، فكيف يتعدّى حكمه إلى ما ليس فيه ملاكه ومناطه؟! فتأمّل جيّداً» (1).

ومحصّل كلامه): أنّ نجاسة الملاقي تتوقّف على سراية النجاسة من الملاقى المعلوم النجاسة إليه، حتى يكون الملاقي محكوماً بحكم الملاقى، والمفروض أنّ الملاقاة كانت لما هو محتمل النجاسة بالاحتمال المنجّز؛ لوقوعه طرفاً من أطراف العلم الإجماليّ، ولم تكن ملاقاة لمعلوم النجاسة حتى يحكم بنجاسته، فلا وجه - حينئذٍ - لتسرية الحكم إلى الملاقي؛ لما عرفت من أنّ تمام الموضوع لحكم الشارع بالنجاسة بوجوب الاجتناب عن الملاقي إنّما هو ملاقي النجس أو المتنجّس - بناءً على أنّ المتنجّس ينجّس - وهو ما لم يحرز بعد حتى يكون مشمولاً للدليل.

ولكن فيه: أنّ السراية سبب لاتّحاد المتلاقيين في الحكم، وليس المراد إثبات الحكم الشرعيّ بنجاسة الملاقي حتى يقال: إنّه هنا لم يُلاقِ معلوم النجاسة أو التنجّس، وإنّما لاقى محتمل النجاسة، فلا يحكم بنجاسته.

ص: 470


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 244.

وإنّما المراد إثبات كونه متنجّزاً كتنجّز ملاقيه، وإثبات دخوله تحت عموم منجّزيّة العلم الإجماليّ؛ فإنّ مناط وجوب الاجتناب عن الأطراف عقلاً هو المقدّميّة، وهذا المناط موجود كلٍّ من الملاقي والملاقى على وزانٍ واحد.

وبالجملة: فإنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ لا تقتضي أزيد من لزوم رعاية المعلوم الذي يكون منجّزاً في كلّ طرفٍ من أطرافه، وكلّ ما يكون مقدّمة علميّة لإحراز امتثاله، كما هو كذلك بناءً على السراية بمعنى الانبساط، وأمّا ما لا يكون مقدّمة علميّة له، كما هو كذلك بناءً على التعبّد، فلا يؤثّر فيه العلم الإجماليّ.ومن هنا يتّضح ما ذكرناه سابقاً: من أنّه لو شرب أحد الكأسين المعلوم بخمريّة السائل في أحدهما، فلا يحدّ، وإن صادف ما شربه الخمر الواقعيّ، ولو كان أصل الشرب منهما غير جائز، سواء قلنا بالعلّيّة التامّة للتنجّز أو بالاقتضاء، كما أنّه لو قلنا بعدم الاقتضاء أيضاً؛ لأنّ موضوع الحدّ ليس هو الخمر الواقعيّ، وإنّما موضوعه ما ثبتت خمريّته عند الشارب بطريق معتبر من علمٍ أو علميّ.

نعم، لو شرب من جميع الأطراف، مع الالتفات، يحدّ.

ثمّ إنّه لا فرق في عدم جواز الاستفادة من المنافع، متّصلةً كانت أم منفصلة، لا فرق بين فرض وجود العين الأصليّة، التي هي طرف العلم الإجماليّ، وبين فرض تلفها، أو خروجها عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ العلم

ص: 471

الإجماليّ بعدما نجّز التكليف المعلوم بالإجمال، وسقطت الاُصول بالمعارضة بناءً على القول بالاقتضاء، أو لم تجرِ أصلاً بناءً على القول بالعلّيّة التامّة.

ولكن أورد عليه اُستاذنا المحقّق! بما حاصله - بتوضيحٍ منّا -:

بأنّه بناءً على القول بالعلّيّة: فوجود العلم الإجماليّ المنجّز في زمان ما، لا يكفي للتنجّز إلى الأبد، بل لابدّ من وجوده في كلّ زمان يحتاج إلى وجود المنجّز في ذلك الزمان.

ولا يمكن - بحسب الفرض - أن نثبت ذلك إلّا من خلال العلم الإجماليّ المؤرّب، كما في باب التدريجيّات، بأن يكون هذا الطرف يجب الاجتناب عنه الآن، أو ذلك الآخر في الزمان المتأخّر، كما لو وقع منه معاملتان، إحداهما في أوّل الشهر، والأُخرى في آخره، ويعلم إجمالاً ببطلان إحدى المعاملتين. بل وكذلك على القول بالاقتضاء (1).

وقد يقال هنا: إنّ الاُصول قد سقطت بالمعارضة قبل تلف بعض الأطراف، أو قبل خروجها عن محلّ الابتلاء، ومع سقوطها بالمعارضة، فلا مجال لعودها بعد التلف أو بعد خروجه.ولكنّ هذا - كما أفاد اُستاذنا المحقّق) - كلام ظاهريّ لا أساس له من الصحّة (2).

ص: 472


1- انظر: منتهى الاُصول 2: 279.
2- المصدر نفسه.

ثمّ قال):

«كلّ ما ذكرنا كان مبنيّاً على العلم بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس هل هو من جهة سراية النجاسة من الملاقى - بالفتح - إليه، أو من جهة حكم الشارع بنجاسته مستقلّاً من دون سراية النجاسة من الملاقى - بالفتح - إليه» (1).

الأمر السادس :العلم الإجماليّ في التدريجيّات:
اشارة

قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا فرق في منجّزيّة العلم الإجماليّ للتكليف في جميع الأطراف بين أن تكون أطرافه دفعيّة الوجود، كما في نجاسة أحد الكأسين الموجودين، أو تدريجيّة الوجود، وكذلك لا يُفرّق في تدريجيّ الوجود بين أن يكون الزمان دخيلاً في الملاك، كالحيض في أوّل الشهر أو في آخره في مستدام الدم، أو لم يكن كذلك، كما لو علم إجمالاً بفساد إحدى المعاملتين؛ لأنّها ربويّة، إمّا معاملته التي أنجزها في أوّل الشهر، أو في آخر الشهر؛ فإنّه على جميع هذه التقادير، تثبت منجّزيّة العلم الإجماليّ لجميع الأطراف.

أمّا إذا لم يكن الزمان المتأخّر دخيلاً في الملاك، فإنّه يعلم الآن بوجود ملاك النهي والمفسدة، ومع القطع بوجود الملاك تتنجّز كافّة الأطراف ببركة العلم الإجماليّ.

ص: 473


1- المصدر نفسه 2: 280.

وأمّا في هذه المعاملة التي تقع في أوّل الشهر أو في آخره، فإنّه، وإن لم يكن له علم بوجود النهي المتوجّه إليه الآن - بناءً على عدمتعيّنه وإنكاره الواجب المعلّق - فلأنّه يعلم الآن بفساد هذه المعاملة التي تصدر في آخر الشهر تدريجاً.

ومعه: يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن تلك المعاملة التي لها مفسدة لازمة الترك، بلا فرق بين أن تنطبق على المعاملة الاُولى أو الثانية، فيجب الاجتناب عن جميع المحتملات حتى يحصل له اليقين بالاجتناب عن المعاملة المشتملة على تلك المفسدة اللّازمة الترك.

وأمّا ما يكون الزمان فيه دخيلاً في الملاك، فقد يقال:

بأنّه تجري في جميع أطرافه أصالة الحلّ أو البراءة؛ لأنّه لا تعارض بين الأصلين؛ إذ ليس هناك خطاب فعليّ معلوم، ولو إجمالاً، في البين في زمان جريان كلّ واحدٍ منهما؛ إذ في ظرف فعليّة كلّ طرف، فالطرف الآخر يكون خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولكن بما أنّه يعلم أنّه بإجراء الأصل في جميع الأطراف يكون سبباً لوقوعه في المفسدة التي هي لازمة الترك، فالعقل يحكم بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف.

فلا فرق في نظر العقل بين أن يعلم - مثلاً - بأنّ وطء إحدى زوجاته الآن حرام ومبغوض للمولى للعلم إجمالاً بأنّ إحداهما الآن في زمان حيضها، وبين أن يعلم إجمالاً بأنّ وطء هذه الزوجة المعيّنة، إمّا مبغوض في أوّل الشهر - مثلاً - أو في آخره، مع أنّ الزمان المتأخّر دخيل في

ص: 474

خطاب المتأخّر وملاكه قطعاً.

ومن الواضح: أنّه لا يمكن قياس المقام على الشبهة البدويّة التحريميّة التي يحصل فيها العلم بالمخالفة بعد الارتكاب؛ إذ هناك لا حكم للعقل بوجوب الاجتناب؛ لمكان الجهل وعدم وجود منجّزٍ في البين.

وأمّا فيما نحن فيه، فإنّ علم المكلّف بوجود المبغوضيّة في إحدى المعاملتين وترتّب المفسدة معلومة على الارتكاب، إمّا بهذا الفعل أو بالفعل في الزمان المتأخّر، يكون كافياً في البيان والتنجّز، ومعه: فلابدّ من ترك جميع الأطراف؛ لمنجّزيّة العلم الإجماليّ.

وأمّا الشيخ الأعظم) فيظهر منه أنّه يجري البراءة أو الإباحة في هذا القسم، أعني: ما إذا كان الزمان المتأخّر دخيلاً في الخطاب المتأخّر،وبناءً على ذلك، فلا يكون هناك فرق بين جريان الأصل في بعض الأطراف، أعني: المخالفة الاحتماليّة، وبين إجرائه في جميع الأطراف، أعني: المخالفة القطعيّة، وذلك لوحدة المناط في كليهما.

فعلى هذا المبنى، وهو البناء على عدم منجّزيّة العلم الإجماليّ هنا وإمكان جريان الأصل النافي، فإذا علم إجمالاً بأنّ إحدى معاملاته التي ستصدر منه في هذا الشهر تكون ربويّةً، أمكن جريان أصالة الحلّ في الجميع، وكذلك، تجري أصالة البراءة عن المحرّمات على الحائض في جميع الأطراف أيضاً.

قال الشيخ الأعظم): «وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة

ص: 475

التدريجيّة، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعيّ بالنسبة إليه، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبهٍ إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحةً وتحريماً» (1).

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ.

وأمّا من ناحية الحكم الوضعيّ، فالمعاملة تكون باطلة لجريان أصالة الفساد، وعدم حصول النقل والانتقال. ولا ملازمة بين الحلّيّة الظاهريّة وبين النقل والانتقال؛ لأنّ الأوّل ناتج عن جريان أصالة الحلّ، والثاني ناتج عن جريان أصلٍ آخر، وهو أصالة الفساد.

قال الشيخ الأعظم):

«فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة؛ لعدم جريان استصحاب الطهر، وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد، فيحكم في كلّ معاملةٍ يشكّ في كونها ربويّةً بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها؛ لأنّ فساد الربا ليس دائراً مدار الحكمالتكليفيّ، ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجهٍ» (2).

وقد استشكل المحقّق النائيني! في جريان أصالة الصحّة الحاكمة على أصالة الفساد بما حاصله: أنّ جريان أصالة الصحّة منوط بوقوع

ص: 476


1- فرائد الاُصول 2: 249.
2- المصدر نفسه.

المعاملة خارجاً، فلا تجري قبل وقوعها كما هو الشأن في المقام.

وإليك نصّ كلامه):

«وكذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحّة الجارية في العقود إجماعاً، الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال؛ لأنّ مورد أصالة الصحّة هو العقد الواقع المشكوك في صحّته وفساده، لا العقد الذي لم يقع بعد كما في المقام؛ لأنّه قبل صدور المعاملة في أوّل النهار وآخره يُشكّ في صحّتها وفسادها، والمرجع في مثل ذلك ليس إلّا أصالة عدم النقل والانتقال» (1).

ولكن يجاب عنه: بأنّ هذا الإشكال في غير محلّه؛ لأنّ كلّ معاملة بعد أن أوقعها فيشكّ في ترتيب الأثر عليها، وما تقتضيه أصالة عدم النقل والانتقال هو عدم ترتيب الأثر عليها، غير أنّ مقتضى أصالة الصحّة - بعد كونها حاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال - هو لزوم ترتيب الأثر عليها.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعد العلم الإجماليّ بكون إحدى المعاملتين مخالفةً للواقع، فلا محالة: لا يجري شيء من الأصلين؛ إلّا لو قلنا بعدم جريان العلم الإجماليّ في التدريجيّات؛ فإنّه - حينئذٍ - تكون كافّة المعاملات الواقعة في تمام الشهر صحيحةً وحلالاً، ويكون اللّازم ترتيب الأثر على جميعها.

ص: 477


1- فوائد الاُصول 4: 113.
تنبيهان:
الأوّل:

الكلام في الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة في الشرائط والموانع:

لا يخفى: أنّه بعدما قلنا بفعليّة العلم الإجماليّ ومنجّزيّته، فلا يفرّق بين أن يكون الاشتباه والترديد في نفس الماُمور به، كما إذا علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، أو في قيوده الوجوديّة، التي تسمّى ﺑ (الشرائط)، كالقبلة والساتر، أو العدميّة، المسمّاة ﺑ (الموانع)، كغير مأكول اللّحم. فمثلاً: لو تردّدت القبلة بين أطراف، أو تردّد السائر بين النجس والطاهر، أو مأكول اللّحم وغير المأكول، فيجب تكرار الصلاة إلى حين حصول الموافقة القطعيّة، بأن يكرّر الصلاة إلى الجوانب التي يحتمل أن تكون فيها القبلة، حتى يحصل له اليقين بوقوع صلاته إلى القبلة، أو يجب عليه التكرار إلى أن يحصل له اليقين بوقوع الصلاة في غير النجس، حيث إنّه لا فرق في لزوم الإتيان بما هو الواجب بين أن يكون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً، استقلاليّاً أو ضمنيّاً، فبعد وصول التكليف إليه، فلابدّ من الخروج عن عهدته، والإتيان بما أراده المولى، بجميع قيوده الوجوديّة والعدميّة، كلّ ذلك بحكم العقل.

ففي جميع الصور، يجب عليه الاحتياط والإتيان بالعمل مكرّراً حتى يحصل له الخروج عن عهدة التكليف، وحتى يقطع بحصول الامتثال،

ص: 478

إلّا أن يكون عاجزاً عن ذلك، فيسقط عنه - حينئذٍ - نظراً إلى كونه مشروطاً بالقدرة.

فما نُسب إلى ابن إدريس) من الصلاة عارياً عند اشتباه الساتر بالنجس، في غير محلّه.

وكذا ما نسب إلى المحقّق القمّيّ! من الفرق بين ما إذا كان دليل القيد الوجوديّ أو العدميّ مثل الأوامر والنواهي الغيريّة، نحو: (لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه)، أو (صلّ مستقبلاً القبلة)، فكلّ من المانعيّة والشرطيّة تسقط عند الاشتباه، وبين أن يكون من قبيل نفي الطبيعةبوجوده أو بعدمه، مثل (لا صلاة إلّا بطهور)، ونحو ذلك، فقال بعدم السقوط عند الاشتباه.

فغير صحيح، كما عرفت وجهه.

نعم، لو فرض أنّ شرطيّة الشرط أو مانعيّة المانع كانت مشروطةً بالعلم التفصيليّ بهما، فيسقطان عند عدمه، وإن حصل العلم الإجماليّ بهما.

وإلّا، ففيما عدا ذلك، فالحقّ - كما بيّنّاه - أنّه بعد القول بمنجّزيّة العلم الإجماليّ على حدّ العلم التفصيليّ، فلا فرق بين جميع أقسام الواجب في وجوب الاحتياط.

الثاني:

في كيفيّة النيّة في العبادات في الشبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجماليّ:

ص: 479

فرّق الشيخ الأنصاريّ! بينهما، فقال:

«الثاني: أنّ النيّة في كلٍّ من الصلوات المتعدّدة، على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة، وحاصله:

أنّه ينوي في كلٍّ منهما فعلها احتياطاً؛ لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها وبين صاحبها تقرّباً إلى اﷲ، على أن يكون القرب علّةً للإحراز الذي جُعِل غايةً للفعل.

ويترتّب على هذا: أنّه لابدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر؛ إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك؛ فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعيّ على كلّ تقدير.

نعم، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له، لا مطلقاً، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها» (1).وحاصل ما أفاده): أنّ الشبهة إن كانت مقرونةً بالعلم الإجماليّ، فالإتيان بالعمل باحتمال الأمر به لا يكفي لوقوعه عبادة، بخلاف الشبهة البدويّة، فإنّه فيها يكفي الإتيان به بداعي احتمال أن يكون ماُموراً به.

وبناءً على ذلك، ففيما نحن فيه، وهو الشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ، فلو نوى الإتيان بأحد الأطراف المعلوم وجوبه إجمالاً، فلابدّ وأن يكون ناوياً الإتيان بالطرف الآخر أيضاً.

ص: 480


1- فرائد الاُصول 2: 302 - 303.

فلو أتى بأحد هذه الأطراف من دون أن يكون قاصداً للإتيان ببقيّة الأطراف، فضلاً عمّا لو قصد عدم الإتيان بها أصلاً، فلا يكون عمله صحيحاً، ولا يقع عبادة، حتى وإن فرض أنّه اكتشف بعد إتيانه بأحدها بأنّ ما أتى به كان هو الواجب واقعاً؛

إذ لابدّ له من قصد ذلك الأمر المعلوم في البين، والذي من المحتمل أن يكون متعلّقاً بهذا المحتمل الذي جاء به، ويحتمل أن يكون متعلّقاً بالطرف أو الأطراف الأُخرى.

ولازم هذا القصد - كما أشرنا -: أن يكون عازماً حال الإتيان بأحد الأطراف للإتيان بالبقية، وإلّا لم يصدق عليه أنّه كان قاصداً لذلك الأمر المعلوم في البين، بل إنّما أتى به باحتمال الأمر، وهو لا يفيد؛ إذ لابدّ أن يكون العمل منبعثاً عن ذلك الأمر المعلوم، لا عن احتمال أمرٍ غير معلوم، كما في الشبهات البدويّة.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا يمكن له الانبعاث عن ذلك المعلوم بالنسبة إلى هذا المحتمل؛ لأنّه لم يعلم أنّه تعلّق بهذا المحتمل، بل ما هو المعلوم احتمال أن يكون هذا متعلّق ذلك الأمر، فلا يمكن أن يكون الداعي أمراً لم يتعلّق به. فيكون حاله من هذه الناحية حال الشبهة البدويّة.

نعم، بعد أن قلنا بمنجّزيّة العلم الإجماليّ على نحو العلّة التامّة، فتجب الموافقة القطعيّة، فلو لم يأتِ ببقيّة الأطراف، واتّفق أنّ الواجب كان فيها، كان في تركه للبقيّة عاصياً، وإلّا، كان متجرّياً، كما هو كذلك

ص: 481

بالنسبة إلى مخالفة سائر الحجج غير المصادفة للواقع.وبعبارة أُخرى: فإنّ الحكم الشرعيّ المستكشف من الحكم العقليّ وإن فرض تبعيّته للحكم العقليّ إثباتاً، ولكنّه ليس تابعاً له في مقام الثبوت.

نعم، يمكن أن يكون تابعاً لمناطه في عالم الثبوت، كما يمكن أن لا يكون تابعاً لذلك أيضاً، فحتى لو فرض انتفاء مناط الحكم العقليّ، فإنّ مناط الحكم الشرعيّ يمكن أن يكون موجوداً.

ولو فرض فقد قيد من القيود المأخوذة فيما هو الموضوع لحكم العقل، وحكمنا - لذلك - بانتفاء مناطه، فمجرّد مجيء الاحتمال يكون كافياً في جواز جريان الاستصحاب، بعد تماميّة موضوعه، وهو القطع بالحدوث في الزمان السابق، فيستصحب.

المبحث الثاني: الكلام في الأقلّ والأكثر:

اشارة

وهما تارةً استقلاليّان، وأُخرى ارتباطيّان.

والشكّ في كلٍّ منهما تارةً يكون في الأسباب والمحصّلات، وأُخرى في الأجزاء، وثالثةً في الشرائط والموانع.

وفي الصورة الاُولى، تارةً تكون الأسباب عقليّة أو عاديّة وأُخرى تكون شرعيّة.

إذا عرفت ذلك، فلا شكّ في جريان البراءة مطلقاً في الأقلّ والأكثر

ص: 482

الاستقلاليّين، بلا فرق بين أن تكون الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة، غاية الأمر: أنّه في الشبهة الوجوبيّة تجري البراءة عن الأكثر؛ لأنّ الشبهة بالنسبة إليه تكون بدويّةً، وأمّا في الشبهة التحريميّة فتجري البراءة عن الأقلّ؛ وذلك بسبب انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ وشكٍّ بدويّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ تسمية مثل هذا العلم بالعلم الإجماليّ لا تخلو من مسامحة؛ بل هو من أوّل الأمر، في الشبهة الوجوبيّة، عبارة عن علم تفصيليّ متعلّق بوجوب الأقلّ، وشكّ بدويٍّ في وجوب الأكثر. وأمّا في الشبهة التحريميّة فبالعكس من ذلك، أي: أنّه علم تفصيليّ بحرمة الأكثروشكّ بدويّ في حرمة الأقلّ. ففي الشبهة الوجوبيّة، يكون الأقلّ هو القدر المتيقّن، فالشكّ في وجوب الأكثر يرجع إلى الشكّ البدويّ، وأمّا في الشبهة التحريميّة، فالأكثر هو القدر المتيقّن، والشكّ في الأقلّ بدويّ، وذلك كالغناء - مثلاً - فإنّ الأكثر، وهو ترجيع الصوت مع الطرب، قدر متيقّن؛ لكونه مقطوع الحرمة، وأمّا الأقلّ، وهو ترجيع الصوت بلا طرب، يكون مشكوكاً.

الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ:

والعمدة في الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ، هو أنّه في الارتباطيّ ليس هناك إلّا تكليف واحد يكون متعلّقاً بالأكثر، وأمّا الاستقلاليّ،

ص: 483

ففيه تكاليف متعدّدة على تقدير وجوب الأكثر، إذ يوجد تكليف مستقلّ بوجوب مقدار الأقلّ من الدين، وتكليف مستقلّ آخر بأداء الزائد على فرض أنّ الأكثر هو الذي كان واجباً.

وإن شئت قلت: في الاستقلاليّ، لو كان الأكثر واجباً، فإنّ هذا التكليف ينحلّ إلى تكليفين اثنين: أحدهما متعلّق بالأقلّ، والآخر بالأكثر، وهو الزائد، ومن هنا يثبت لكلّ واحدٍ من هذين التكليفين امتثال يخصّه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأقلّ في الاستقلاليّ مخالف للأكثر من ناحيتين: الأُولى: الغرض والملاك، والثانية: الأمر والتكليف؛ فإنّ الأغراض والملاكات فيه متعدّدة، كما أنّ الأوامر والخطابات كذلك أيضاً. وذلك كالدين المردّد بين الدرهم والدرهمين، فهنا أغراض وملاكات وموضوعات وأوامر وأحكام متعدّدة.

ومن هنا نرى: أنّ إطلاق الأقلّ والأكثر عليهما إنّما يكون من باب المسامحة والعناية، أي: باعتبار أنّ الدرهم الواحد أقلّ من الدرهمين، وأنّ الدرهمين كثير الدرهم، وإلّا، فقد عرفنا أنّ لكلّ واحدٍ من الدراهم تكليفاً على حدة، وبعثاً بحياله.

وأمّا الارتباطيّ، فالغرض فيه يكون قائماً بالأجزاء الواقعيّة، فإنّ الواجب لو كان هو الأكثر، كان الأقلّ خالياً من الملاك والغرضوالبعث من رأس، فيكون وزانه من عالم التكوين وزان المعاجين، فكما أنّ الأثر المطلوب لا يترتّب على المركّب إلّا بجميع أجزائه، ولا تحصل الغاية

ص: 484

إلّا باجتماع كافّة تلك الأجزاء، بلا زيادةٍ فيها ولا نقيصة، فكذلك في الاُمور العرفيّة والمركّبات الاعتباريّة أيضاً، كما لو أراد الملك تخويف الأعداء وإرعابهم، فقام باستعراض جنوده؛ فإنّ الإرعاب والتخويف إنّما يحصلان باستعراضه لصفوف من الجند، لا باستعراض واحدٍ منهم أو بعضٍ قليل.

وممّا ذكرناه تعرف: أنّ الملاك في الاستقلاليّة والارتباطيّة إنّما هو كثرة التكليف ووحدته، باعتبار وحدة الغرض.

ومن هنا ظهر: ضعف ما قد يقال من أنّ الملاك في الارتباطيّة والاستقلاليّة إنّما هو وحدة التكليف وكثرته، لا وحدة الغرض والملاك.

وجه الضعف: أنّ الغرض والملاك حيث إنّه متقدّم على التكليف، فوحدة التكليف وكثرته إنّما هي باعتبار الغرض الذي كان داعياً إلى التكليف، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعيّ ملاكاً لتمييزها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه لا سبيل لفهم وحدة الملاك والغرض إلّا بوحدة التكليف، فمن هنا يصحّ ما قالوه من أنّ الملاك لهما هو وحدة التكليف وكثرته.

والتحقيق أن يقال: إنّ الفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وغير الارتباطيّين، يكمن في أنّ المركّب الارتباطيّ يتألّف من أشياء يكون بين

ص: 485

الأوامر المتعلّقة ملازمة من حيث الثبوت والسقوط، كتلازم الملاكات والأغراض الداعية إلى تلك الأوامر، التي هي في حقيقة الأمر أمر واحد يكون بما له من الوحدة منبسطاً على تلك الأشياء التي فرضنا المركّب مؤلّفاً منها.

وأمّا المركّب الاستقلاليّ فهو مركّب من أشياء يتعلّق بها عدد من الأوامر التي لا ملازمة بينهما من ناحيتي الثبوت والسقوط، بل يُفرض لكلٍّ منها إطاعة مستقلّة.وعلى هذا الأساس: فالحكم والأمر في المركّب الارتباطيّ واحد، وأمّا في الاستقلاليّ فمتعدّد، فمثلاً: الأمر بالتكبيرة في الصلاة - التي هي من المركّبات الارتباطيّة - لا يسقط إلّا مع سقوط الأوامر المتعلّقة ببقيّة أجزائها، من الركوع والسجود والتسليم وغيرها، ولأجل هذا كان الشكّ فيه من صور الشكّ في المكلّف به، فلو تردّد أمر الصلاة - مثلاً - بين تسعة أجزاء أو عشرة؛ فإنّ مقتضى كونها مركبّاً ارتباطيّاً هو عدم سقوط أمر الصلاة فيما لو أتى بالتسعة فقط دون العاشر المشكوك في جزئيّته، وأمّا في الاستقلاليّين، فإنّ وجوب الأكثر غير مرتبط بوجوب الأقلّ، فلا يكون وجوده دخيلاً أصلاً في صحّة الأقلّ وسقوط أمره؛ إذ الأمر المتعلّق بالأقلّ، هو كالأمر المتعلّق بالأكثر، نفسيّ استقلاليّ، وبالتالي: فإنّ الغرض يترتّب عليه مطلقاً، سواء أتيت معه بالأكثر أم لا.

ص: 486

وذلك نظير الدين وقضاء الفوائت إذا تردّد الأمر فيهما بين الأقلّ والأكثر، فإنّ الإتيان بالأقلّ فيهما، يوجب سقوط الأمر بالأقلّ، ولو كان الأكثر واجباً في الواقع، حيث إنّ وجوبه كان استقلاليّاً.

فيتحصّل بذلك: أنّ الفرق بين الوجوب الاستقلاليّ والارتباطيّ هو تعدّد التكليف في الاستقلاليّين، المستلزم لتعدّد الإطاعة والعصيان فيه، ووحدة التكليف في الارتباطيّ، وعدم تعدّد الإطاعة والعصيان فيه.

وقد ظهر ممّا بيّنّاه: أنّه بناءً على انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ وشكّ بدويّ في وجوب الزائد عليه تكون المسألة مندرجة في باب الشكّ في التكليف.

وأمّا بناءً على عدم الانحلال، فهي تدخل في باب الشكّ في المكلّف به، الذي يجب معه الإتيان بالأكثر عقلاً، تماماً كما يحكم العقل بوجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين المتباينين.

وينبغي أن يُعلم هنا: أنّ البحث في الأقلّ والأكثر لا يتأتّى إلّا بعد الفراغ عن جهتين:الاُولى: الالتزام بالبراءة في الشبهة البدويّة.

والثانية: الالتزام بمنجّزيّة العلم الإجماليّ عند دوران الأمر بين المتباينين.

والسبب في ذلك: أنّ من يقول بالاحتياط في مورد الدوران بين الأقلّ

ص: 487

والأكثر يدّعي عدم انحلال العلم الإجماليّ، وإلحاق الأقلّ والأكثر بالمتباينين، فإذا لم يثبت الاحتياط في المتباينين، فلا يثبت أيضاً فيما نحن فيه.

كما أنّ من يقول بالبراءة يدّعي انحلال العلم الإجماليّ، وأنّ الشبهة في وجوب الأكثر شبهة بدويّة، فإذا لم نكن في مرحلة مسبقة قد أثبتنا البراءة في الشبهات البدويّة، فلا مجال لتوهّمها في محلّ الكلام.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الجزء المشكوك دخله:

تارةً: يكون جزءاً خارجيّاً، أي: تكون زيادته في الأقلّ بحسب الوجود الخارجيّ، كالجزء الزائد في المعجون المحتمل دخله فيه، وهو ما له وجود على حدة محتمل أخذه في الماُمور به.

وأُخرى: يكون جزءاً تحليليّاً عقليّاً، وهو ما لا وجود له في الخارج على حدة، بل هو وسائر الأجزاء التي تكون كذلك موجودة بوجود واحد، وهذا كالفصول والأنواع.

وثالثةً: يكون جزءاً ذهنيّاً، وهو ما لا وجود له في الخارج أصلاً، وإنّما يكون وجوده باعتبار أنّ لمنشأ انتزاعه وجوداً، وذلك كالتقيّد للمقيّد، فإنّ الموجود في الخارج إنّما هو ذلك المقيّد.

ومنشأ انتزاعه تارةً يكون مبايناً في الوجود مع المقيّد، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وأُخرى يكون من عوارضه وأحواله، كالسواد والبياض، والكفر والإيمان، فالمعتبر في الوجود الذهنيّ إنّما هو تقييده، لا نفسه،

ص: 488

فالشكّ فيه شكّ في الشرطيّة نفسها، وقد يتصوّر بالنسبة إلى الماُمور به والمقيّد بتقيّده بعدم ذلك الشيء، كالتقييد بعدم المانع؛ لأنّ وجوده مخلّ بالماُمور به.ولا يخفى: أنّ البحث في مسألة الأقلّ والأكثر إنّما يتصوّر فيما لو فرض الأقلّ مأخوذاً لا بشرط، حتى يكون محفوظاً في ضمن الأكثر، وأمّا لو كان مأخوذاً بشرط لا، فإنّ الأقلّ - حينئذٍ - لا يكون أقلّ الأكثر، بل يكونان متباينين، فتكون المسألة - حينئذٍ - من صغريات دوران الأمر بين المتباينين، لا بين الأقلّ والأكثر.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّه في الاستقلاليّين يكون هناك تكليفان: تكليف بوجوب الأكثر، وتكليف آخر بوجوب الأقلّ يَثبت له على حدة وباستقلاله، أي: من دون أن يكون له علاقة بالتكليف الأوّل، لا ثبوتاً ولا سقوطاً. وأمّا في الارتباطيّ، فليس إلّا تكليف واحد؛ لأنّ الغرض، والحالة هذه، واحد.

ولكن بناءً على هذا، ففي المركّب الارتباطيّ، في الشبهة التحريميّة، لابدّ أن يكون القدر المتيقّن هو الأقلّ، وذلك لدوران الأمر بين أن يكون الأقلّ حراماً مستقلّاً لو كان هو الحرام واقعاً، وبين أن يكون حراماً ضمنيّاً لو كان الأكثر هو الحرام كذلك، فيكون وجوب الأكثر مشكوكاً على كلّ حال، فتجري البراءة فيه.

غير أنّهم لم يلتزموا بذلك في الشبهة التحريميّة، وإنّما قالوا به في

ص: 489

الوجوبيّة، فإنّ المتيقّن في الواجبات هو الأقلّ، إذ هو الواجب، وتجري البراءة فيما سواه، الذي هو الأكثر، وأمّا في التحريميّة، فقد قالوا بعكس ذلك، وأنّ القدر المتيقّن هو الأكثر، ويمكن التمثيل له بمثالين: حرمة تصوير تمام الجسم من ذوات الأرواح، وحرمة حلق تمام اللّحية؛ فإنّه - مع كونه الأكثر - هو المتيقّن من حرمة التصوير وحرمة الحلق، وأمّا تصوير البعض من الجسم، وحلق البعض من اللّحية، فهو ليس إلّا مشكوكاً بالشكّ البدويّ، فتجري فيه البراءة بلا مانع.

الشكّ بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات:

وأمّا لو كان الشكّ شكّاً بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات، فلا إشكال في عدم جريان فيه عن الأكثر مطلقاً، بلا فرق بين أن تكون هذه الأسباب عاديّة أو شرعيّة.

أمّا في الأسباب العقليّة والعاديّة:

فعدم جريانها ممّا لا إشكال فيه؛ لأنّ شمول مثل حديث الرفع الشكّ منوط بأمرين: أوّلهما: أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعيّة، أو كان موضوعاً لأثر شرعيّ. والثاني: أن يكون في رفعه امتنان.

وفيما نحن فيه، فالسببيّة - أوّلاً - ليست من المجعولات الشرعيّة.

وثانياً: فهي، حتى على تقدير كونها من المجعولات المذكورة، لا امتنان في رفعها؛ وذلك لأنّ رفعها عن الأكثر لا يثبت سببيّة الأقلّ، فلا يكون

ص: 490

لرفع السببيّة عن الأكثر معنى إلّا أنّ الحكم الشرعيّ باقٍ بلا سبب، وأين الامتنان في هذا؟!

وكذلك كان التكليف قطعيّاً، فمثلاً: يجب قطعاً عليه أن يذكّي هذا الحيوان، فإذا شكّ في سببيّة الأقلّ، واحتمل أن يكون الأكثر هو السبب - بعد فرض أنّ التذكية معنى بسيط وأمّا فري الأوداج وحصول بقيّة المقدّمات فهي أسباب عاديّة لها - فيشكّ في امتثال التكليف لو أتى بالأقلّ من الأسباب، فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ - حينئذٍ - يكون شكّاً في المحصّل، وليس شكّاً في أصل التكليف، فيكون الاكتفاء بالأقلّ موجباً للشكّ في الامتثال، والشكّ في الامتثال - كما هو معلوم - مجرىً لقاعدة الاشتغال، لا للبراءة، إلّا إذا ثبتت سببيّة الأقلّ، ولكن قد فرضنا بأنّه ليس من الموارد التي تنالها يد الجعل والتشريع، إذ هي إمّا عقليّة وإمّا عاديّة.

وأمّا الأسباب والمحصّلات الشرعيّة:

فهي على قسمين:الأوّل: الاختراعيّة، كغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين على الكيفيّة التي شرّعها الشارع وأقرّها بالنسبة إلى الطهارة الحدثيّة.

والثاني: الإمضائيّة، وذلك ﻛ (بعت) و(اشتريت) في العقود، أو (زوجتي طالق) في الإيقاعات.

وفي القسمين جميعاً، ليست السببيّة هي المجعول الشرعيّ، بل

ص: 491

المجعول إنّما هو ثبوت التكليف أو الوضع عند وجود وتحقّق ما نسمّيه ﺑ (السبب)، فتكون السببيّة ممّا ينتزع بعد الجعل، وهكذا المسبّبيّة أيضاً، وأين هذا من كون أحدهما أو كليهما هو المجعول الشرعيّ؟

ومعه: فيكون حالهما - أعني: السببيّة والمسبّبيّة - حال الأسباب والمسبّبات العاديّة والعقليّة، فلا يمكن جريان البراءة.

قد يقال: يمكن أن تكون الجزئيّة مجعولة للسبب المجعول، فإذا شككنا حينئذٍ في جزئيّة شيءٍ أو شرطيّته أو مانعيّته لما هو السبب الشرعيّ، فلنا أن نتمسّك بحديث الرفع.

ولكن فيه:

أوّلاً: ما عرفته أنّ المجعول إنّما هو المنشأ الذي منه تنتزع السببيّة، لا نفسها.

ثانياً: على تقدير أن تكون هي المجعولة، فبعد جعلها لا يبقى مجال لجعل الجزئيّة؛ والسرّ في ذلك: أنّه بعد فرض تعلّق الجعل بالمركّب من عدّة أشياء مقيّداً بوجود شيءٍ قبله، أو بعده، أو معه، أو بعدم شيءٍ كذلك، فحينئذٍ: ينتزع منه - قهراً - الشرطيّة أو الجزئيّة أو المانعيّة، فلا نحتاج إلى جعل شيءٍ من هذه العناوين الثلاثة، بل لا يمكن ذلك إلّا بعد أن يتمّ رفع منشأ انتزاعها، وهذا كما أنّه في باب الأقلّ والأكثر في نفس متعلّقات التكاليف، يصار إلى رفع الجزئيّة المشكوكة هناك بنفس رفع التكليف عن الأكثر.

ص: 492

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء:

أمّا دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء في متعلّق التكليف، وليس المقصود من الأقلّ والأكثر ها هنا إلّا الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، ومثال المقام: ما إذا شكّ في جزئيّة السورة - مثلاً - للصلاة، فهل تجري البراءة في الزائد على الأقلّ، وهي الأجزاء المشكوكة، أم لا، فيه خلاف.

والأقوال هنا ثلاثة:

الأوّل: ما اختاره الشيخ الأعظم)، وهو القول بجريان البراءة مطلقاً، عقليّةً ونقليّة، قال!: «فالمختار جريان أصل البراءة. لنا على ذلك: حكم العقل وما ورد من النقل» (1).

الثاني: ما هو منسوب إلى المحقّق السبزواري)، وهو القول بعدم جريان شيء من البراءتين، وأنّ الحكم هو وجوب الاحتياط، وذلك لا يكون إلّا بالإتيان بالأكثر.

قال الشيخ الأعظم): «بل الإنصاف أنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري! على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط» (2).

ص: 493


1- فرائد الاُصول 2: 317 - 318.
2- المصدر نفسه 2: 317.

الثالث: التفصيل بين البراءة الشرعيّة والعقليّة، والقول بجريان الأُولى دون الثانية، وهو مختار صاحب الكفاية! (1).

وقد استدلّ! على ذلك بوجهين:

الأوّل: منجّزيّة العلم الإجماليّ للتكليف.والثاني: العلم بعدم تحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر.

قال): «والحقّ أنّ العلم الإجماليّ بثبوت التكليف بينهما - أيضاً - يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر؛ لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلاً ... إلى أن قال: مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يُحرز إلّا بالأكثر...» (2).

وأمّا القول الأوّل، فيبتني على انحلال العلم الإجماليّ المذكور، بجريان البراءة عقلاً ونقلاً، وللشيخ! طريقان إلى الانحلال:

الأوّل: أنّ يقال بوجوب الأقلّ تفصيلاً، إمّا نفسيّاً، لو كان واجباً بنفسه، أو غيريّاً، لو كان الواجب هو الأكثر.

والثاني: أنّ الأقلّ واجب بالوجوب النفسيّ، ولكنّ وجوبه النفسيّ هذا مردّد بين كونه استقلاليّاً أو ضمنيّاً.

وحاصل مراده!: أنّ العلم الإجماليّ بالوجوب النفسيّ المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يستلزم وجوب الاحتياط، بعدما كان هذا العلم منحلّاً

ص: 494


1- كفاية الاُصول: 363.
2- المصدر نفسه: 363 و 364.

بما عُلِم وجوبه تفصيلاً، وهو الأقلّ، ووجوبه التفصيليّ هذا إمّا بنحو الوجوب النفسيّ لو كان هو الماُمور به، أو الوجوب الغيريّ، لو كان الماُمور به هو الأكثر.

وبما أنّ العلم التفصيليّ بإلزام المولى به حاصل وموجود، فلا يضرّ كون وجهه معلوماً بالعلم الإجماليّ، وهو تردّده بين النفسيّ والغيريّ؛ لأنّ الذي هو معتبر في الانحلال إنّما هو العلم التفصيليّ بالإلزام، ولو كان مع إجمال وترديد من ناحية وجهه؛ فإنّ موضوع حكم العقل باشتغال الذمّة ليس إلّا العلم بذات الوجوب، وأمّا العلم بخصوصيّة هذا الوجوب، فليس شرطاً.

وعلى هذا الأساس: يكون التكليف بالنسبة إلى الأقلّ منجّزاً ويترتّب على تركه ومخالفته العقاب؛ إذ هو واجب على كلّ تقدير، أي: بلا فرقٍ بين كون الوجوب ثابتاً في الواقع للأكثر وبين عدم كونه كذلك، فيكونالأقلّ هو القدر المتيقّن، فبتركه يثبت استحقاق العقاب، حيث كان تركاً لما هو الواجب على كلّ تقدير.

وهذا بخلاف ما لو كان تركه من ناحية الأكثر، فإنّه لمّا لم يكن وجوب الأكثر منجّزاً، فلا يكون تركه له موجباً لاستحقاق العقاب والمؤاخذة، فيكون التكليف بالنسبة إليه من التكليف بلا بيان، فيندرج تحت موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهو معنى جريان البراءة العقليّة.

وأمّا نقلاً: فإنّ الأخبار الدالّة على البراءة، التامّة سنداً ودلالةً، كحديثي

ص: 495

الرفع والحجب ونحوهما؛ إذ يصدق على وجوب الأكثر، وهو وجوب الجزء المشكوك، أنّه ممّا حجب علمه عن العباد، فيكون موضوعاً عنهم، ولا يعارضه أصالة البراءة عن وجوب الأقلّ؛ لأنّ الأقلّ متيقّن الوجوب، كما أسلفنا، غاية الأمر: أنّ وجوبه يكون مردّداً بين النفسيّ والغيريّ، فبعد أن كان المرفوع مجعولاً شرعيّاً وفي رفعه منّة، فيكون العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر مرتفعاً ببركة هذه الأخبار، بعد أن كانت حاكمةً عليه وموجبةً لانحلاله.

فإن قلت: بل لا تجري البراءة؛ لأنّ أدلّتها مختصّة بالوجوب النفسيّ المشكوك، دون الغيريّ، لأنّ منشأ حكم العقل باستحقاق العقاب إنّما هو مخالفة الأوّل، دون الثاني.

قلت: بل مخالفة الغيريّ - أيضاً - موجبة لاستحقاق العقاب، على الأقلّ، لجهة كونه منشأً لترك الواجب النفسيّ.

فتحصّل بذلك: أنّ مقتضي جريان البراءة الشرعيّة موجود، وهو شمول الأدلّة، وأنّ المرفوع مجعول شرعاً، وفي رفعه منّة، والمانع منه، وهو العلم الإجماليّ، مفقود؛ لفرض انحلاله، بالبيان المتقدّم.

وردّه صاحب الكفاية) بقوله:

«وتوهّم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً والشكّ في وجوب الأكثر بدواً - ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً، أو لغيره كذلك أو عقلاً، ومعه: لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقاً بالأكثر - فاسدقطعاً؛

ص: 496

لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلاً، إمّا لنفسه أو لغيره، على تنجّز التكليف مطلقاً، ولو كان متعلّقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ، كان خلفاً» (1).

وحاصل ما أفاده«: أنّه خلف، فكما أنّه إذا قيل: يجب تقليد الأعلم، ثمّ قيل: تقليد غير الأعلم أيضاً جائز، كان على خلاف ما فُرِض أوّلاً، فكذلك ما نحن فيه؛ فإنّ ما يدّعى من انحلال العلم الإجماليّ هنا في غير محلّه؛ لأنّ هذا الانحلال إنّما يتصوّر لو قلنا بأنّ المقدّمة، وهو الأقلّ، كان واجباً على كلّ تقدير، أي: وإن كان الأكثر واجباً.

مع أنّه لو كان الأكثر واجباً، لم يكن وجوب الأقلّ منجّزاً قطعاً؛ لأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها في التنجّز، والمفروض عدم تنجّز وجوب ذيها، وهو الأكثر؛ إذ التنجّز في الأقلّ إنّما يكون فيما إذا تعلّق الوجوب به، لا بالأكثر، مع أنّ المعتبر في الانحلال إنّما هو تنجّز الأقلّ على كلّ تقدير.

وبعبارة أُخرى: فإنّ تنجّز الأكثر لابدّ وأن يكون له دخل في الانحلال، وإلّا، لم يكن وجوب الأقلّ منجّزاً على كلٍّ من تقديري وجوبه: النفسيّ والغيريّ، مع أنّه لا يمكن أن يكون له دخل؛ لأنّ دخله مانع من الانحلال، وهذا من الخلف المحال.

ص: 497


1- كفاية الاُصول: 364.

ولكنّ الحقّ: أنّ التنجّز بالنسبة إلى الأقلّ لا توقّف له على التنجّز بالنسبة إلى الأكثر؛ إذ الانحلال وتنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان ولا يمكن اجتماعهما، ويكون خلفاً.

نعم، الانحلال مبنيّ على العلم بوجوب ذات الأقلّ على كلّ تقدير، أي: على تقدير وجوب الأقلّ في الواقع، بنحو الإطلاق، وعلى تقدير وجوبه في الواقع، فبنحو التقييد. فيكون ذات الأقلّ معلوم الوجوب، وإنّما كان الشكّ شكّاً في الإطلاق والتقييد.وليس أخذ التنجيز على كلّ تقدير شرطاً للانحلال، حتى يقال: إنّ الوجوب المتعلّق بالأقلّ لا يصبح منجّزاً إلّا بتنجّز الأكثر، ومع تنجّزه، فلا يقع الانحلال.

وأمّا القول الثاني، وهو ما ذكره صاحب الحاشية! بقوله:

«إذا تعلّق الأمر بطبيعة العبادة المفروضة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت اشتغال الذمّة بها قطعاً، إلّا أنّه يدور الأمر بين الاشتغال بالطبيعة المشتملة على الأقلّ أو المشتملة على الأكثر، وليست المشتملة على الأقلّ مندرجةً في الحاصلة بالأكثر، كما في مسألة الدين، فإنّ اشتغال الذمّة هناك بالأكثر قاضٍ باشتغالها بالأقلّ، لعدم ارتباطٍ هناك بين الأجزاء، بخلاف المقام؛ إذ المفروض ارتباط بعض الأجزاء بالبعض، وقضاء زوال كلّ جزءٍ منها بزوال الكلّ، وكونها في حكم العدم الصرف.

والقول بأنّ التكليف بالكلّ قاضٍ بالتكليف بالجزء قطعاً بخلاف

ص: 498

العكس لا يُثمر في المقام؛ إذ القدر المعلوم من ذلك تعلّق التكليف التبعيّ بالجزء في ضمن الكلّ، إلّا أن يتعلّق به تكليف على الإطلاق، ولو انفصل عن بقيّة الأجزاء» (1).

وحاصله: أنّه بناءً على دوران الأمر بين الوجوب الاستقلاليّ أو الضمنيّ، فمآل الشكّ إلى الدوران بين المتباينين، وذلك لأنّ الأقلّ، على تقدير وجوبه الضمنيّ، يكون قد أُخذ بشرط شيء، وعلى تقدير وجوبه الاستقلاليّ، يكون مأخوذاً بشرط لا عن الزيادة، فيكون علمه الإجماليّ المردّد بين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر راجعاً إلى المتباينين، فلا يكون هناك علم تفصيليّ في البين حتى يتسبّب في الانحلال.

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق) بأنّ الوجوب قد ورد على ذات المقدّمة، وإنّ «هذه الاعتبارات لا تغيّر الواقع عمّا هو عليه، والوجوب من الاعتبارات الشرعيّة التي تعرض على ما هو الموجودفي الخارج، وإن كان بواسطة الصورة الذهنيّة، لكن لا بما هي هي، بل بما أنّها مرآة وحاكية عن الخارج وفانية فيه، فظرف العروض وإن كان هو الذهن، ولكنّ ظرف الاتّصاف هو الخارج»، أي: والأحكام سواء كانت وضعيّة أم تكليفيّة، فإنّها إنّما ترد على أفعال المكلّفين في الخارج؛ إذ هي التي تقع على صفة الوجوب أو الحرمة أو غيرهما من الأحكام

ص: 499


1- هداية المسترشدين 3: 563.

الخمسة التكليفيّة، وكذا الحال في الأحكام الوضعيّة، فإنّ الذي يتّصف بالنجاسة إنّما هو الدم الخارجيّ، والذي يتّصف بالزوجيّة ليس إلّا الزوجة الخارجيّة، فالوجوب العارض للأقلّ في المفروض، وكذا الجزئيّة العارضة لأجزاء الأقلّ، إنّما يعرضان هذه الأجزاء الخارجيّة، التي نسمّيها بالأقلّ.

و«معلوم أنّ هذه الأجزاء لا تتفاوت بواسطة لحاظ هذه الاعتبارات، فلحاظ هذه الأجزاء: تارةً بنحو لا بشرط، باعتبار كونها واجباً نفسيّاً استقلاليّاً، وأُخرى بشرط شيء باعتبار كونها واجباً نفسيّاً ضمنيّاً» (1) لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه، ولا يؤدّي إلى حدوث فرق فيما هو معروض الوجوب، أعني: الأجزاء الخارجيّة.

بل بما أنّ هذه اللّحاظين والاعتبارين يكونان في رتبة متأخّرة عن وجوب الأقلّ؛ إذ هما ليسا حاصلين إلّا من قِبَل الوجوب نفسه، فلا يمكن أخذهما في موضوعه؛ ضرورة أنّ كلّ ما كان حاصلاً من قبل الحكم ومتأخّراً عنه امتنع أخذه في متعلّق الحكم؛ لاستلزامه تقدّمهما على ذلك الحكم، وحيث كان المفروض تقدّمه عليهما، لزم تقدّم الشيء على نفسه، وهو محال.

وبالجملة: فما هو متّصف بالوجوب، استقلاليّاً كان أم ضمنيّاً، إنّما هو

ص: 500


1- منتهى الاُصول 2: 306 - 207.

ذات الأقلّ، لا الأقلّ بوصف كونه مأخوذاً لا بشرط على أحد التقديرين، وبشرط شيء على التقدير الآخر.وتحصّل بذلك: صحّة الانحلال للعلم الإجماليّ المذكور، ومعه: فتجري كلتا البراءتين العقليّة والشرعيّة.

وقد أورد المحقّق النائيني!على هذا الانحلال بما لفظه:

«لا إشكال في أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتماليّ للتكليف القطعيّ؛ ضرورة أنّ الامتثال الاحتماليّ إنّما يقتضيه التكليف الاحتماليّ، وأمّا التكليف القطعيّ، فهو يقتضي الامتثال القطعيّ؛ لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً، ولا يكفي احتمال الفراغ؛ فإنّه يتنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً، ويتمّ البيان الذي يستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب عليه؛ فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتيّ به، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقلّ في استحقاق التارك للامتثال القطعيّ للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففيما نحن فيه، لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً؛ لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم بالامتثال إلّا بعد ضمّ الخصوصيّة الزائدة المشكوكة» (1).

ص: 501


1- فوائد الاُصول 4: 159 - 160.

وتوضيح ما رامه«:

أنّ الانحلال لا يتحقّق إلّا في المورد الذي يكون الإتيان بالأقلّ فيه موجباً للفراغ اليقينيّ عن عهدته، بمعنى: أنّ الإتيان بالقدر المتيقّن وامتثاله يوجب امتثالاً قطعيّاً له مطلقاً، أي: سواء فرضنا الوجوب الثابت له وجوباً نفسيّاً أم ضمنيّاً.

وفيما نحن فيه، ليس الأمر كذلك؛ بل الإتيان بالأقلّ هنا لا يوجب الفراغ عن عهدته مطلقاً وعلى جميع التقادير، وبالتالي: فلا يتحقّق الامتثال قطعاً؛ وذلك لأنّه لو فرض كون الأقلّ واجباً نفسيّاً ضمنيّاً، فلا يحصل الفراغ من عهدته بمجرّد الإتيان به - أي: الأقلّ - من دون ضميمة سائر الأجزاء إليه في مقام الامتثال؛ إذ هو على هذا الفرضمن الواجب الارتباطيّ، والواجب الارتباطيّ لا يحصل إلّا مع اقترانه بامتثال سائر الأجزاء مع كونه جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع.

وحيث إنّه من المحتمل في المقام أن يكون الأكثر هو الواجب الواقعيّ الارتباطيّ، فلا يكون الإتيان بالأقلّ - على هذا التقدير - موجباً للفراغ حتى بالنسبة إلى الأقلّ؛ إذ كان من اللّازم - كما عرفنا - أن يكون امتثال كلّ جزء من الواجب الارتباطيّ في ضمن امتثال الكلّ، وأنّ إتيان بعض الأجزاء لا يصحّ إلّا أن يكون بنحو مرتبط بإتيانه ببقيّة الأجزاء.

وقد أوضحنا: أنّ من شروط الانحلال أن يكون الإتيان بما هو معلوم بالتفصيل موجباً للقطع بالفراغ من قبله، حتى يبقى الشكّ بالفراغ من

ص: 502

ناحية الطرف الآخر، فبعد أن كان ثبوت ذلك الطرف الآخر مشكوكاً، وبعد فرض قيام العلم التفصيليّ في بعض الأطراف، وهو الأقلّ - مثلاً - وانحلال العلم الإجماليّ، يكون حال الطرف الآخر حال الشكّ البدويّ، بل هو هو، ليس غير، فيكون مجرى البراءة.

ومعه: فلا يبقى مجال أصلاً لورود قاعدة الاشتغال حتى يكون العقل حاكماً بلزوم الخروج عن العهدة؛ إذ لا عهدة بحكم الشارع بعد فرض جريان البراءة.

وبالجملة: فإنّ الواجب عقلاً هو الإتيان بالأكثر، وإلّا، لم يحصل قطع بالفراغ عن عهدة الأقلّ، والذي عُلم الاشتغال به بنحو العلم التفصيليّ، لا الإجماليّ، حتى يتسنّى لنا أن نقول بأنّه لا تأثير للعلم الإجماليّ بعد فرض الانحلال.

ولكن قد أجاب عنه اُستاذنا المحقّق!، وإليك نصّ كلامه:

«وفيه: أنّ التكليف بوجوده الواقعيّ لا يوجب مخالفته استحقاق العقاب، بل مخالفته يوجب ذلك بعد تنجّزه بعلم أو علميّ، ووصوله إلى المكلّف، وحكم العقل بلزوم الفراغ اليقينيّ من باب الفرار من العقاب.

وفيما نحن فيه - أي: في كلّ مورد شككنا في جزئية شيء للواجب، ولم يكن بيان على جزئيّة ذلك المشكوك الجزئيّة - فإذا أتىبما قام عليه البيان وفي الواجب الارتباطيّ لا يعاقب من ناحية ترك ذلك

ص: 503

المشكوك الجزئيّة؛ لعدم قيام البيان عن جزئيّته، فيكون العقاب بلا بيان، وهو قبيح، وهذه هي البراءة العقليّة. فالإتيان بالأقلّ موجب لرفع العقاب، ولو على تقدير كون الوجوب الواقعيّ هو الأكثر؛ لعدم تنجّز سائر الأجزاء. بل على هذا التقدير، المقدار المنجّز عليه هو مقدار الأقلّ، لا الزائد عليه.

نعم، لا يعلم بسقوط التكليف بإتيان بالأقلّ؛ لاحتمال أن يكون الواجب الواقعيّ هو الأكثر ولم يأتِ به، ولكنّ بقاءه لا أثر له؛ لعدم تنجّزه إلّا بمقدار الأقلّ».

ثمّ قال في ذيل كلامه المتقدّم:

«والعجب من شيخنا الاُستاذ! أنّه أجاب عن صاحب الكفاية بمثل هذا الجواب، ثمّ وقع هو فيه!» (1).

وهنا تقريب آخر للمحقّق النائيني! في عدم الانحلال وعدم صحّة جريان البراءة العقليّة، وقد عبّر عنه! بقوله:

«والعلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيليّ لا يعقل أن يوجب الانحلال؛ لأنّه يلزم أن يكون العلم الإجماليّ موجباً لانحلال نفسه» (2).

ص: 504


1- منتهى الاُصول 2: 310 - 311.
2- فوائد الاُصول 4: 160.

وتفصيله بأن يقال: إنّ معنى وجوب الأقلّ هو أنّ معروض الوجوب هو هذه الأجزاء التي تسمّى بالأقلّ والمأخوذة لا بشرط عن الزيادة، ومعنى كون معروض الوجوب هو الأكثر، هو أنّ هذه الأجزاء التي تسمّى بالأقلّ، هي بعينها تكون معروضاً للوجوب الضمنيّ، ولكنّها - حينئذٍ - تكون مأخوذةً بشرط الزيادة.وهذا يعني: أنّ الأمر - حينئذٍ - يدور بين أن يكون الأقلّ واجباً نفسيّاً استقلاليّاً لا بشرط عن الزيادة، أعني: الطبيعة المطلقة، وبين أن يكون واجباً ضمنيّاً، وهو الطبيعة المقيّدة بالزيادة، وهذا هو العلم الإجماليّ بأنّ الواجب إمّا هو الأقلّ لا بشرط عن الزيادة، أو بشرط شيء، ومعناه: أنّ ثمّة علماً إجماليّاً بوجوب الأقلّ، وهو مردّد بين كونه مطلقاً أو مقيّداً.

فإذا علم تفصيلاً بوجوب الأقلّ مطلقاً، فينحلّ ذلك العلم الإجماليّ؛ لأنّ القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ تنحلّ إلى قضيّة حمليّة بتّيّة وأُخرى مشكوكة، وهذا هو مناط الانحلال دائماً، وأمّا لو بقيت القضيّة المنفصلة على حالها، فلا يكون هناك انحلال في البين.

وليس المعلوم بالتفصيل فيما نحن فيه هو الأقلّ بما هو مأخوذ لا بشرط، - أعني: الماهيّة المهملة المطلقة - حتى تنحلّ القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ إلى قضيّةٍ حمليّةٍ بتّيّة، وهي العلم بوجوب الأقلّ بما هو مأخوذ لا بشرط، وإلى قضيّةٍ أُخرى مشكوكة، وهي وجوب الأكثر.

ص: 505

بل المعلوم بالتفصيل قضيّة موضوعها الماهيّة المهملة، أي: الجامع بين الماهيّة المطلقة، وهي الأقلّ لا بشرط، وبين الماهيّة المقيّدة، وهي الأقلّ بشرط شيء، أي: بشرط الانضمام إلى بقيّة الأجزاء. وهذا هو عين العلم الإجماليّ بوجوب الجامع، أي: الماهيّة المهملة؛ فإنّ مفاده هو العلم بوجوب الأقلّ لا بشرط، أي: الأقلّ، أو بشرط شيء، أي: الأكثر، فيكون الترديد - حينئذٍ - في أنّ المعلوم هل ينطبق على الأقلّ الذي هو مقابل للأكثر، أو على الأكثر نفسه؟

فمرجع العلم التفصيليّ في المقام إلى العلم الإجماليّ، بل هو عينه، فلو قلنا بكونه موجباً للانحلال، كان موجباً لانحلال نفسه، وهو محال؛ بداهة استحالة أن يكون الشيء علّةً لعدم نفسه.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على عدم الانحلال وعدم جريان البراءة بالنسبة إلى الأكثر، بأنّا نقطع بوجود الملاك والمصلحة الملزمة القائمة بالأقلّ أو بالأكثر، فإذا لم يأتِ بالأكثر، يشكّ في حصول ذلك الملاك والمصلحةالتي يجب استيفاؤها بحكم العقل، والعقل في مثل هذه الموارد يحكم بلزوم إتيان كلّ ما يعلم بأنّ إتيانه موجب لحصول الملاك والمصلحة وتحقّق غرض المولى، وإذا كان كذلك، كان الواجب على المكلّف أن يأتي بالماُمور به مع جميع ما يحتمل أن يكون دخيلاً فيه حتى يتأتّى له القطع بحصول الغرض والمصلحة بعد علمه تفصيلاً بوجوده.

وبناءً عليه: فلا يمكن قياس المقام بالشبهة البدويّة؛ إذ هناك، لم

ص: 506

يتحقّق القطع بالملاك، بل إنّما المتحقّق صرف احتمال وجود الملاك من جهة احتمال الوجوب، بناءً على ما هو الحقّ من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ وجود الملاك بعد البناء على التبعيّة يكون قطعيّاً لا محالة؛ وذلك لفرض حصول القطع بالحكم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ علة الأمر حدوثاً وبقاءً هو الغرض، فسقوط الأمر متوقّف على سقوط الغرض، ومن المعلوم عدم حصول العلم بتحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر.

وفي ذلك يقول صاحب الكفاية): «مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يُحرز إلّا بالأكثر، بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة من تبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهيّ عنه، وكون الواجبات الشرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابدّ من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى» (1).

والتحقيق عدم ورود هذا الإشكال، إذ:

أوّلاً: من أين لنا الحصول على الملاك، والحال أنّنا لا نملك سبيلاً إلى العلم بوجوده إلّا بعد ورود الأمر نفسه؟

وثانياً: أنّ الملاك وإن كان في الواقع مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ولكنّ

ص: 507


1- كفاية الاُصول: 364.

العبد لا يكون مكلّفاً بإتيان شيءٍ إلّا ما قام على إتيانه البيان،وأمّا إذا لم يكن هناك دليل وبيان، فحتى لو كان دخيلاً في غرضه، فلا يجب على المكلّف الإتيان به؛ إذ يكون هو - أعني: المولى - هو الذي فوّت الغرض على نفسه، بتركه إيصال التكليف إليه.

نعم، لو حصل للمكلّف العلم بدخوله في غرض المولى، فذلك العلم، هو نفسه، يكون كافياً حينئذٍ، لصدق البيان عليه، وأمّا مجرّد احتمال دخوله في الغرض، كما هو الحال في محلّ الكلام، فلا يكون كافياً، فتبقى قاعدة قبح العقاب بلا بيان جاريةً، ويكون العقاب عليه قبيحاً، وإن كان في الواقع دخيلاً في غرض المولى.

كما أنّ احتمال الجزئيّة يكون مرفوعاً بالأصل، فمن أين - إذاً - يتّجه إليه الحكم بوجوب تحصيل الملاك بالإتيان بالأكثر، ولو كان الأكثر في الواقع واجباً؟!

وقد أجاب عن هذا المحقّق النائيني! - في مبحث الصحيح والأعمّ (1) - بما حاصله: أنّنا نقول بالفرق بين أن يكون إتيان الماُمور

ص: 508


1- انظر: فوائد الاُصول 1: 86 - 71، وكلامه) طويل نكتفي في المقام بنقل شطرٍ منه، وهو التالي، يقول): «هذا كلّه فيما إذا كان الأثر من المسبّبات التوليديّة لفعل المكلّف، وأمّا إذا كان الأثر من الدواعي، وكان الفعل من المقدّمات الإعداديّة، فحيث لا يصحّ تعلّق إرادة الفاعل به فلا يصحّ تعلّق الأمر بإيجاده؛ لما عرفت من الملازمة، فمتعلّق التكليف إنّما يكون هو الفعل الاختياريّ لا غير، ولو شكّ في اعتبار جزء أو شرط فيه تجري فيه البراءة، إذ ليس وراء الفعل شيء تعلّق التكليف به، والمفروض أنّ الفعل المتعلّق به التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر، فالبراءة العقليّة والشرعيّة أو خصوص الشرعيّة تجري بلا مانع. فتحصّل من جميع ما ذكرنا: ضابط جريان البراءة في الأقلّ والأكثر وعدم جريانها، وأنّه لو كان الأثر المترتّب على الفعل الاختياريّ من المسبّبات التوليديّة فلا تجري فيه البراءة؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصّل، وإن كان الأثر من الدواعي فالبراءة تجري فيه؛ لأنّ نفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر».

به علّة تامّة لحصول الملاك أو يكون من قبيل المعدّ له، كغرس الشجر مثلاً لحصول الثمر، والزرع وحرث الأرض وإلقاء البذر فيها لصيرورته سنبلاً، ونحو ذلك. فإنّه:

إن كان من قبيل الثاني، لم يجب الإتيان بكلّ ما يحتمله؛ لأنّ فعل المكلّف من حيث هو لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض والملاك، بلولا الجزء الأخير لحصوله، فيكون حصول الغرض والملاك خارجاً عن تحت قدرته واختياره، وأمّا فعله فليس إلّا معدّاً لحصوله، ومع عدم تعلّق قدرته بحصول الغرض، فلا يمكن للتكليف أن يتعلّق به، ويقبح إلزام المكلّف بإيجاده، فلا يجب عليه أن يأتي إلّا بما قام عليه البيان من نفس الماُمور به.

وأمّا لو كان من قبيل القسم الأوّل، فإنّ الأمر كما يمكن تعلّقه بالعلّة، فكذلك يمكن تعلّقه بإيجاد الملاك وما هو الغرض؛ لأنّه مقدور له، ولو بالواسطة، بل لا فرق بينهما أصلاً، والأمر بأحدهما أمر بالآخر، ففي هذا القسم يجب تحصيل الغرض والملاك؛ لأنّه الواجب في الحقيقة.

ص: 509

وبما أنّ متعلّقات الأوامر الشرعيّة غالباً، بل جميعها، تكون من قبيل القسم الثاني، لا الأوّل، فلا يبقى مجال لأن يُتمسّك بلزوم الإتيان بالأكثر بحكم العقل بلزوم تحصيل الملاك.

ولكنّ الحقّ: أنّ كون متعلّقات الأوامر الشرعيّة من قبيل القسم الثاني (وهي المعدّات) أوّل الكلام؛ لأنّ معرفة كونها من قبيل العلل التامّة أو المعدّات لترتّب ملاكاتها الداعية لتشريع أحكامها إنّما هو من جهة الأدلّة المتكفّلة لبيان ترتّبها على تلك الأفعال، بل تكون من قبيل الغرض، فإنّ ظاهر تعلّق أمر المولى بشيء كونه وافياً بغرضه.

وقد أجاب الشيخ الأنصاريّ! عن هذا الإشكال المتقدّم، بما لفظه:

«قلت: أوّلاً: مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره، فنحن نتكلّم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح، أو مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به.

وثانياً: إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفاً، ولذا لو أتى به لا على وجه الامتثال لم يصحّ، ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة، بل اللّطف إنّما هو في الإتيان به على وجه الامتثال، وحينئذٍ: فيحتمل أن يكون اللّطف منحصراً في امتثاله التفصيليّ مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ... إلى أنيقول: وهذا متعذّر فيما نحن فيه؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق في ضمنه...»

ص: 510

انتهى موضع الحاجة من كلامه« (1).

وحاصله: أنّه يرد على الإشكال المتقدّم اعتراضان:

أوّلهما: أنّ النزاع أعمّ من أن تكون الأوامر والنواهي تابعةً للمصالح والمفاسد أم لم تكن، كما هو المذهب المنسوب إلى الأشعريّ، وهو القول بعدم التبعيّة أصلاً، لا في الماُمور به والمنهيّ عنه ولا في كلٍّ من الأمر والنهي نفسه، أم كانت تابعةً لمصالح ومفاسد في الأمر والنهي أنفسهما، كما هو المذهب المنسوب إلى بعض العدليّة.

والثاني: عدم إمكان القطع بحصول الغرض، والغرض بعد تسليم كونه في فعل العبد، ففيما لا يمكن إحرازه، لا يكون مورداً لقاعدة الاشتغال، وفي مقامنا، هو من قبيل ما لا يمكن إحرازه؛ لأنّ حصول المصلحة في العبادات، ولو كان منوطاً بقصد الإطاعة، ولكنّه يحتمل عدم حصولها بمجرّد ذلك؛ لاحتمال دخل قصد وجه أجزاء العبادة في تحقّقها أيضاً.

ومن الواضح، أنّ هذا القصد متوقّف على معرفة وجه الأجزاء من الوجوب والندب، ومع الجهل به، لا يتمشّى قصد الوجه، فلا يحصل العلم بالغرض.

وإذا لم يعلم به، لم يجب عليه إحرازه، فمن ناحية الغرض ليس هناك دليل على الإتيان بالأكثر، يبقى إلّا الإتيان بالأقلّ؛ لأنّ البيان منحصر فيه،

ص: 511


1- فرائد الاُصول 2: 319 - 321.

لأجل التخلّص عن تبعيّة التكليف المنجّز بالعلم الإجماليّ، فلو كان الأكثر في الواقع هو الواجب، فالمؤاخذة عليه بلا بيان ولا حجّة، فتكون قبيحةً بالوجدان.

ولكن يرد عليه:أمّا على جوابه الأوّل: فبأنّ عدم ورود الإشكال المزبور بناءً على مذهب الأشعريّ لا يدفعه بناءً على ما هو الحقّ عندنا من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا على جوابه الثاني: فبأنّ قصد الوجه والتمييز ليس معتبراً في مقام الامتثال أصلاً، ولو كان قصد الوجه ومعرفته معتبراً في مقام الامتثال، لكان لزاماً على الشارع المقدّس، ونظراً إلى كثرة ابتلاء عامّة المكلّفين به، التنبيه على لزومه، وحيث لم يرد منه ما يدلّ على ذلك، ولا أثر منه في الأخبار، ولم يكن ممّا يحكم العقل بلزومه - حتى يقال بأنّ الشارع قد أوكل مهمّة بيانه إلى العقل، ولأجل ذلك لم يتصدَّ هو لبيانه ولم يُشر إليه - يقطع المكلّف بأنّه لم يكن دخيلاً في غرض المولى، وإلّا، لبيّنه.

التمسّك بالاستصحاب لنفي وجوب الإتيان بالأكثر:

قد يتمسّك لإثبات عدم وجوب الإتيان بالأكثر وجواز الرجوع إلى البراءة باستصحاب العدم الأزليّ، بأن يقال: هذا الجزء المشكوك لم يكن - قطعاً - جزءاً من المركّب منذ أوّل الأمر، ولم تكن الجزئيّة ثابتة له

ص: 512

في الأزل، فنشكّ في بقاء هذا العدم بعد الجعل، أي: بعد عدم وجوب الأكثر، أو عدم الجزئيّة، فيستصحب هذان العدمان في ظرف الشكّ في بقائهما، أو يستصحب العدم السابق على البلوغ، أو بلحاظ العدم في الموقّتات قبل دخول الوقت، أو بلحاظ العدم السابق على لحاظ الماُمور به قبل جعل الأحكام.

ولكن يضعّفه: أنّ صحّة جريان استصحاب العدم الأزليّ محلّ تأمّل.

وقد استشكل المحقّق النائيني! في جريان الاستصحاب في جميع هذه الصور؛ قال):«المستصحب تارةً يكون هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه، وأُخرى يكون هو عدم وجوب الأكثر المشتمل على المشكوك فيه، وعلى كلا التقديرين: المراد من العدم إمّا أن يكون هو العدم الأزليّ السابق على تشريع الأحكام، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقّتات، كقبل الزوال والمغرب والفجر بالنسبة إلى الصلوات اليوميّة، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على البلوغ؛ وفي جميع هذه التقادير، لا يجري استصحاب العدم...» إلى آخر ما ذكره! (1).

ص: 513


1- راجع: فوائد الاُصول 4: 182.

هذا مجمل كلامه« وإليك التفصيل:

وحاصله: أنّنا نمنع من جريان الاستصحاب في جميع الصور المشار إليها، وذلك لأنّه:

في صورة كون المعلوم والمتيقّن هو العدم الأزليّ الذي يكون سابقاً على تشريع الأحكام، وكان المستصحب هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه، فحينئذٍ:

إن كان المراد من العدم هو العدم النعتيّ، أي: العدم الذي هو مفاد ليس الناقصة؛ أي: عدم جزئيّته أو شرطيّتة لما هو المجعول فيما بعد، بمعنى: أنّه في الأزل لم يكن هذا المشكوك جزءاً أو شرطاً للمجعول، فهو لم يكن مشكوك الجزئيّة أو الشرطيّة بعد الجعل جزءاً أو شرطاً للمركّب غير المجعول في الأزل.

وأنت خبير، بأنّ عدم الجزئيّة هذا، أعني: العدم النعتيّ قبل جعل المركّب، ليس له حالة سابقة، ولا معنى له؛ لأنّه مثل الوجوب المقابل له إنّما يكون نعتاً ووصفاً المركّب، فلا يعقل كونه قبل وجود موضوعه وتحقّقه، فلا يكون للعدم بهذا المعنى - كما ذكرنا - حالة سابقة؛ إذ هو لم يكن متيقّناً في السابق لكي يستصحب؛ فإنّه في ظرف تعلّق الجعل والتشريع واللّحاظ بأجزاء المركّب إمّا أن يكون قد شملته عناية الجعلأو لا، وليس تعلّق الجعل به متأخّراً رتبةً أو زماناً عن تعلّق الجعل بالمركّب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.

ص: 514

وإن شئت فقل: إن كان المراد بهذا العدم العدم الذي هو ثابت قبل جعل المركّب، فهذا ليس له من حالةٍ سابقة لكي تستصحب، وإن كان المراد به ما هو ثابت بعد الجعل، فهذا مشكوك بحسب الفرض، ولا يقين به أصلاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّه لو اُريد من العدم النعتيّ المذكور عدم تعلّق الجعل واللّحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركّب ولحاظ أجزائه، بحيث كان هذا العدم من الأوصاف والنعوت التي تلحق بلحاظ المركّب وأجزائه، فإنّه قبل هذا الظرف، لا معنى لكونه متيقّناً، كما لا يخفى، وأمّا في هذا الظرف فلحاظ جزئيّته إنّما يكون مشكوكاً، كما هو المفروض.

وإن كان المراد من العدم الذي يكون سابقاً على الجعل العدم المحموليّ، أي: عدم وجود الجعل واللّحاظ المتعلّق بهذا المشكوك فيه، فهو على الرغم من كونه متيقّناً؛ لأنّ أصل الجعل واللّحاظ من الاُمور المسبوقة بالعدم، ولكنّ هذا الاستصحاب بهذه الصورة لا ينهض لإثبات عدم جزئيّة المشكوك، ولا عدم شرطيّته، للمركّب المجعول، لكونه بالنسبة إليه من الأصل المثبت، فلا يجري إلّا على القول بجريان الأصل المثبت.

هذا كلّه إذا اُريد من العدم العدم الأزليّ.

وأمّا لو كان المراد منه العدم الذي يسبق دخول الوقت في الموقّتات،

ص: 515

فلمّا كان الوجوب مشروطاً بدخول الوقت، فقبل دخوله، لا ثبوت للوجوب، إذا كان هذا الوجوب من قبيل الوجوب المشروط، فيستصحب ذلك العدم الذي كان متيقّناً قبل دخول الوقت.

وهنا - أيضاً -:

فتارةً يراد استصحاب عدمه النعتيّ، أي عدم وجوب الجزء المشكوك فيه، أو الشرط كذلك، فيأتي فيه - حينئذٍ - نفس الإشكال المتقدّم فياستصحاب العدم الأزليّ للجزء، وهو أنّه ليس ثمّة من حالةٍ سابقة متيقّنة له؛ إذ النعت لا يمكن بدون وجود المنعوت، فلا يمكن فرضه قبل الوقت؛ لأنّه يلزم منه وجود الوصف قبل وجود الموصوف.

وأُخرى يراد استصحاب عدمه المحموليّ، أي: عدم وجود الجزء الذي يشكّ فيه قبل الوقت بما أنّه جزء أو بما أنّه واجب، ولا شكّ في تيقّن هذا العدم قبل الوقت، لعدم وجود المركّب وسائر الأجزاء المتيقّنة - أيضاً - قبل الوقت، فضلاً عن الجزء المشكوك فيه، وعليه: فأركان الاستصحاب فيه، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، فيه تامّة ومحرزة.

ولكن قد أورد على هذا المحقّق النائيني! بأنّه لا أثر لهذا الاستصحاب إلّا كون معروض الوجوب هو خصوص أجزاء الأقلّ - أي: الأقلّ لا بشرط - فيكون من قبيل الأصل المثبت.

قال): «... إلّا أنّ بقاء العدم المحموليّ إلى حين الزوال لا ينفع إلّا إذا

ص: 516

اُريد من ذلك انبساط الوجوب على خصوص أجزاء الأقلّ، وذلك يكون من الأصل المثبت» (1).

وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق) بأنّ «أثر هذا الاستصحاب ليس إثبات الوجوب لأجزاء الأقلّ؛ لأنّ وجوبها متيقّن، فلا معنى لإثبات ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد واعتبار كونها لا بشرط. قلنا: إنّه خارج عن معروض الوجوب، بل أثره، أي: هذا الاستصحاب، هو رفع الوجوب أو الجزئيّة، مثل حديث الرفع.

والفرق بينهما في المقام ليس إلّا انّه أصل تنزيليّ، ومفاد حديث الرفع - أي: البراءة - أصل غير تنزيليّ، فبضميمة هذا الاستصحاب إلى الوجدان يثبت أنّه يجب عليه إتيان أجزاء الأقلّ دون الجزء المشكوك، وهو المطلوب في المقام» (2).ثمّ إنّه قد يكون المستصحب عبارة عن عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه قبل الوقت، ولا شكّ في أنّ أركان الاستصحاب، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، تكون تامّةً في هذه الصورة.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا يجري؛ لكونه مثبتاً؛ إذ لا أثر له؛ لأنّ الواجب إنّما هو الأقلّ باستقلاله، لا في ضمن الأكثر، ومعلوم أنّ إثبات ذلك

ص: 517


1- فوائد الاُصول 4: 185.
2- انظر: منتهى الاُصول 2: 320، بتصرّف يسير.

بالاستصحاب المذكور لا يكون إلّا على القول بجريان الأصل المثبت.

إثبات الاشتغال باستصحاب القدر المشترك من الوجوب:

قد يقال بإمكان التمسّك لإثبات جريان أصالة الاشتغال في المقام باستصحاب القدر المشترك من الوجوب؛ بدعوى: أنّ الواجب - بعد فعل الأقلّ - يكون مردّداً بين ما هو مقطوع بارتفاعه وبين ما هو مقطوع ببقائه، فيستصحب ذلك المجعول الشرعيّ، وهو من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّيّ، نظير استصحاب الحيوان المردّد بين البقّ والفيل؛ لأنّ أركان الاستصحاب جميعها تامّة فيه، فبعد إتيانه بالأقلّ يشكّ في إتيان التكليف المقطوع سابقاً المردّد بين الأقلّ والأكثر، والأصل يقتضي بقاء التكليف.

وقد يورد علىه: بأنّ هذا الاستصحاب لا ينهض لإثبات الوجوب للأكثر إلّا على القول بالأصل المثبت؛ لأنّ لازم بقاء أصل التكليف المردّد بعد الإتيان بالأقلّ هو تعلّق الوجوب بإتيان الأكثر.

ويمكن الجواب عن هذا الإيراد: بأنّ الثابت بالاستصحاب هو نفس الحكم الذي هو مجعول الشارع، وهو الوجوب المعلوم بالإجمال، فيحكم ببقائه تعبّداً ببركة الاستصحاب.

وأمّا إثبات الحكم وجوب الإتيان بالأكثر فهو لم يكن بواسطة الاستصحاب حتى يقال بأنّه بالنسبة إليه أصل مثبت، بل إنّما هوبحكم

ص: 518

العقل، من باب حكمه بوجوب الإطاعة لكلّ حكم إلزاميّ، واقعيّاً كان أو ظاهريّاً.

وعليه: فالذي يترتّب على الاستصحاب هو نفس الحكم الظاهريّ ببقاء الوجوب المعلوم بالإجمال، من دون أن يثبت كون الواجب هو الأكثر خاصّةً، بل وجوب الإتيان بالأكثر إنّما يحصل بحكم العقل، ومن باب لزوم تحصيل العلم بالفراغ عما اشتغلت به الذمّة قطعاً، فنفس الشكّ في الامتثال بعد الإتيان بالأقلّ يكون كافياً في وجوب الإتيان بالأكثر، ولا نحتاج معه إلى التمسّك بالاستصحاب.

وقد ذهب المحقّق العراقي! إلى الانحلال في حكم الشرع أيضاً، بل ادّعى أنّه ليس لدينا علم إجماليّ في الحقيقة، إلّا وهماً، وإنّما الموجود ليس إلّا العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ، والشكّ بدويّاً في وجوب الأكثر.

قال) - بعد بيانٍ مطوّل -:

«ومن ذلك، لا مجال لتشكيل العلم الإجماليّ في المقام بالنسبة إلى نفس الواجب وذات التكليف مع قطع النظر عن حدّ الأقلّيّة والأكثريّة؛ إذ لا يكون الأمر المردّد في المقام من باب مجمع الوجودين، كما في المتباينين، حتى يجيء فيه المناط المقرّر في العلم الإجماليّ من صحّة تشكيل قضيّتين منفصلتين حقيقيّتين في الطرفين، وإنّما يكون ذلك من باب مجمع الحدّين، حيث كان العلم الإجماليّ بين حدّي الوجوب

ص: 519

الطارئ بالعرض على معروضه، وإلّا، فبالنسبة إلى ذات الوجوب وحيث وجوده الذي هو مصبّ حكم العقل بوجوب الإطاعة، لا يكون إلّا علم تفصيليّ بمرتبةٍ من التكليف بالنسبة إلى الأقلّ، وشكٍّ بدويٍّ بمرتبةٍ أُخرى منه متعلّقةٍ بالزائد، كما هو ظاهر» (1).

ومحصّل كلامه: أنّ الاختلاف بين الأقلّ والأكثر لم يكن ناشئاً من اختلاف الوجوب المتعلّق بالأقلّ مع الوجوب المتعلّق بالأكثر، بلالوجوب المتعلّق بالأقلّ لم يختلف سنخاً ووجوداً، سواء سرى الوجوب إلى الأكثر أم لم يَسْرِ، بل الاختلاف - في الحقيقة - إنّما يكون من جهة اختلاف حدّ التكليف من حيث وقوفه على الأقلّ أو سرايته إلى الجزء الزائد، ومرجع الضمنيّة والاستقلاليّة إلى ذلك.

وهذا له نظير، وهو الخطّ القصير والطويل، فإنّه لو رسم شخص الخطّ القصير، ثمّ أضاف إليه ما يوجب طوله؛ فإنّ واقع الخطّ القصير لم يختلف في كلتا الحالتين، وإنّما كان الاختلاف ناشئاً من جهة الحدّ الخاصّ وثبوت الزيادة، وهي لا توجب أيّ تغيّر في واقع الخط القصير عمّا كان عليه قبل الزيادة.

وإذا اتّضح ذلك، فعند الشكّ بين الأقلّ والأكثر يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في ثبوت الزيادة على المقدار الأقلّ وعدمه ليس غير، وأمّا

ص: 520


1- نهاية الأفكار 3: 382.

وجوب الأقلّ فهو معلوم بالتفصيل، سواء أكانت الزيادة أم لم تكن، إذ المفروض أنّ حقيقته ووجوده واحد، وأنّه لم يطرأ عليه أيّ اختلاف على كلا التقديرين، ومعه: فلا يكون لدينا شكّ أصلاً في وجوب الأقلّ، وإنّما الشكّ شكّ في ثبوت الوجوب للجزء الزائد المشكوك، وعليه: فليس لدينا إلّا علم تفصيليّ وشكّ بدويّ، وهو معنى الانحلال.

وقد استشكل فيه بعض المحقّقين بأنّه يستفاد من كلامه دعوى عدم اختلاف سنخ الوجوب الضمنيّ والاستقلاليّ، وهو ما لا يمكن المساعدة عليه (1).

ولكن فيه: أنّ هذه الدعوى تامّة ولا غبار عليها، فإنّ الوجوب الضمنيّ - أيضاً - وجوب استقلاليّ، إذ هو كقطعة من خيمة واقعة على رأس شخص، فإنّها في عين أنّها تكون في ضمن الكلّ تكون قطعةً مستقلّة ومغايرة للقطعة التي وقعت على رأس شخصٍ آخر.وناقش الشيخ الأعظم) دعوى جريان استصحاب الاشتغال بوجه آخر، قال!:

«وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار - يعني: أخبار البراءة - على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت - أيضاً - كما أشرنا إليه سابقاً - لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر

ص: 521


1- انظر: منتقى الاُصول 5: 205.

الذي حجب العلم بوجوبه، كان المستصحب، وهو الاشتغال المعلوم سابقاً، غير متيقّن بالنسبة إلى الأقلّ، وقد ارتفع بإتيانه، واحتمال بقاء الاشتغال - حينئذٍ - من جهة الأكثر منفيّ بحكم هذه الأخبار» (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية! في حاشيته على الرسائل بما لفظه:

«لا يخفى: أنّ استصحاب الاشتغال على تقدير صحّته حسب ما عرفت، كما هو وارد على حكم العقل بالبراءة، لو سُلّم على ما بيّنّاه، فكذلك هو وارد على هذه الأخبار، فإنّ الأكثر - حيث يتعيّن به الخروج عن عهدة التكليف الثابت بالاستصحاب على تقدير الإتيان بالأقلّ، فوجوب الإتيان به عقلاً تفريغاً للذمّة وخروجاً عن العهدة - معلوم، فكيف يكون داخلاً فيما حجب؟!

هذا لو لم نقل بالأصل المثبت. وأمّا على القول به، فالأكثر معلوم الوجوب شرعاً، فليس ممّا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على تركه، لأجل حجب العلم بوجوبه، وهذا أوضح من أنّ يحتاج إلى مزيد بيان» (2).

والتحقيق أن يقال: إنّه ليس بأصل مثبت في المقام؛ لأنّ الأصل يثبت عدم فراغ الذمّة، والعقل يحكم بوجوب الإتيان بالأكثر.ثمّ لو قلنا بأنّ مثبتات الاُصول حجّة كمثبتات الأمارات، فإنّ

ص: 522


1- فرائد الاُصول 2: 332.
2- الحاشية على الفرائد: 256.

الاستصحاب - حينئذٍ - يكون وارداً على البراءة النقليّة والعقليّة، وبخاصّةٍ بعدما بنينا على أنّه ليس من الاُصول ولا من الأمارات، بل هو بتعبيرنا: بمثابة عرشٍ للاُصول وفرش للأمارات، وما هو مسلّم إنّما هو أنّ مثبتات الاُصول ليست بحجّة، وحيث إنّ الاستصحاب -- عندنا - لا يعدّ من الاُصول، فلنا أن نثبت وجوب الأكثر بالتعبّد الاستصحابيّ.

وبالجملة: فإنّه لو كان مفاد مثل حديثي الرفع والحجب هو نفي المؤاخذة عن الشيء المجهول، وقلنا بأنّ مثبتات الاُصول حجّة، أو قلنا بأنّه هنا ليس بأصل مثبت، فمن يدّعي ورود الاستصحاب على البراءة، نقليّة كانت أو عقليّة، أو يدّعي أنّه حاكم عليهما، فدعواه هذه تامّة وفي محلّها؛ إذ - حينئذٍ - يحرز وجوب الأكثر بواسطة التعبّد الاستصحابيّ؛ وذلك لأنّ ما فرض من البيان الذي أُخذ عدمه موضوعاً لقاعدة القبح، إنّما يراد به ما هو أعمّ من البيان الظاهريّ والواقعيّ، ولمّا كان الاستصحاب محرزاً للواقع عملاً، فيكون لازمه حكم العقل بأنّ ذمّته مشغولة بالأكثر؛ لقيام الحجّة والبيان العمليّ عليه.

ومعه: فلا يبقى مجال للقول بنفي المؤاخذة عنه بمثل حديث الرفع؛ لأنّ الشكّ - كما عرفنا - قد زال تعبّداً ببركة الاستصحاب؛ فإنّ حديث الرفع، بناءً على اقتضائه لنفي المؤاخذة، يكون مساوقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن بعد جريان الاستصحاب أو غيره من الأدلّة الشرعيّة التي تنهض لأن تكون بياناً، يكون الحديث بما له من المفاد المساوق للقاعدة

ص: 523

بحسب الفرض، موروداً للاستصحاب أو لتلك الأدلّة، ومعه: فإذا أتيت بالأقلّ - حينئذٍ - لا يحصل التأمين، ولا يتيقّن بفراغ الذمّة، لفرض قيام أصلٍ يثبت التكليف في طرف الأكثر، وهذا معنى أنّ الاستصحاب يكون مقدّماً.

وأمّا لو فرضنا أنّ المرفوع كان هو الحكم الواقعيّ ظاهراً، فالظاهر - حينئذٍ - حكومة الاستصحاب أو وروده - أيضاً - على حديث الرفع؛لأنّ الأكثر قد أُحرز الوجوب له ببركة الأصل، فلم يبقَ فيه شكّ حتى يتحقّق موضوع البراءة العقليّة.

وقد يقال: لا مجال هنا لجريان استصحاب بقاء الجامع؛ لأنّ الشكّ في بقائه مسبّب عن الشكّ في وجوب الأكثر واقعاً، فيكون استصحاب عدم وجوب الأكثر حاكماً عليه؛ لفرض تقدّمه عليه، من باب حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ.

إلّا أنّ هذا غير صحيح؛ لوضوح أنّ من شروط تقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ، أن يكون التسبّب شرعيّاً، كما يفرض - مثلاً - بالنسبة إلى طهارة الثوب الذي جرى غسله بماء مشكوك في طهارته، ولكن كان محكوماً بالطهارة، إمّا لاستصحاب الطهارة أو قاعدتها، فإنّه مع ذلك، لا يبقى مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في ذلك الثوب؛ ومن الواضح أنّ هذا الشرط مفقود هنا؛ حيث كان تسبّب بقاء الكلّيّ عن بقاء الفرد عقليّاً، وليس من آثاره التعبّديّة. وعليه: فضابط باب الحكومة

ص: 524

ليس بموجود هنا.

ومن هنا، كان عجيباً في المقام، أن يُدّعى اعتبار هذا الشرط في صدق الحكومة، ومع ذلك، أن يُصار إلى القول بإجراء استصحاب عدم الأكثر والقول بحكومته على استصحاب بقاء الجامع، تعميماً لقاعدة حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ.

وأمّا لو قلنا بأنّ المرفوع هو الحكم الواقعيّ، وقلنا بعدم اعتبار مثبتات الاُصول، فيكون حديث الرفع حاكماً على الاستصحاب؛ لأنّ المنفيّ - حينئذٍ- هو وجوب الأكثر المشكوك فيه، والاستصحاب قاصر عن أن يُثبت هذه الخصوصيّة.

ولكنّه مخدوش بما ذكرناه آنفاً من أنّ الاستصحاب يُثبت بقاء الجامع، والعقل يحكم بوجوب إتيان الأكثر.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ التعبير بالورود - هنا - لا يصحّ إلّا إذا كان بنحو المسامحة؛ لأنّ الشكّ لم يزل، بل هو باقٍ فعلاً، حتى بعد فرض جريان الاستصحاب، وإنّما عمد الشارع إلى إلغائه عن الاعتبار تعبّداً، ببركةجريان حديث الرفع، وإلّا، فإنّ الشكّ الذي هو موضوع للأصل العمليّ لا يزال باقياً وجداناً ولم يرتفع.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ الأدلّة التي ذكروها على الانحلال غير تامّة، فإثباته بها مشكل.

نعم، لا مانع من القول بما ذهب إليه الشيخ! وهو الالتزام بالتبعّض

ص: 525

في التنجيز، فإنّ الأقلّ يكون معلوم التنجّز، والأكثر من جهة الزائد مشكوك، فتجري أصالة البراءة عقلاً؛ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وشرعاً؛ تحكيماً لأدلّة البراءة الشرعيّة.

ولنا أن نتمّم ذلك بإنكار العلم الإجماليّ رأساً، وأنّه ليس في البين سوى العلم التفصيليّ والشكّ البدويّ، كما نقلناه آنفاً عن المحقّق العراقي!، وحينئذٍ: فلا يتمّ ما ادّعي من لزوم الاحتياط لأجل العلم الإجماليّ، إذ قد قلنا بعدمه أصلاً.

في الأجزاء التحليليّة والذهنيّة:

لو دار الواجب بين الأقلّ والأكثر في المركّبات التحليليّة فهل ينحلّ العلم الإجماليّ بجريان البراءة أم لا؟

قد يقال: بجريان البراءة العقليّة والنقليّة فيه بنفس البيان المتقدّم في الأجزاء الخارجيّة، بتقريب: أنّ المشروط - كما في مثل الصلاة عن طهارة - يكون متقوّماً بأمرين:

أحدهما: الذات المؤلّفة من أجزاء، أوّلها التكبير، وآخرها التسليم.

والثاني: التقيّد بالطهارة، وهو - أي: هذا التقيّد - جزء ذهنيّ.

وهذا كالمركّب من الأجزاء الخارجيّة، غاية ما هنالك: أنّ أجزاء المشروط والمقيّد بعضها ذهنيّ، وبعضها الآخر خارجيّ، ولكنّ أجزاء المركّب كلّها تكون موجودة في الخارج.

ص: 526

وبناءً عليه: فإنّ الأقلّ هنا، وهو الذات، معلوم الوجوب تفصيلاً، إمّا بنحو الوجوب النفسيّ، إذا كان هو بنفسه متعلّق الأمر، وإمّا بنحو الوجوب الغيريّ، لو كان متعلّقه هو المشروط، وإنّ ذاتالصلاة - حينئذٍ - تكون مقدّمة لتحقّق الصلاة المشروطة، وبهذا فقط تتّجه دعوى كون وجوبها غيريّاً ومقدّميّاً، فإذا قيل: (صلِّ متطهراً)، كان هذا منحلّاً إلى وجوب ذات الصلاة، ووجوبها مع التقيّد بالطهارة، وأمّا الصلاة نفسها، فهي تكون مقدّمة لتحقّق العنوان المطلوب، والذي هو: الصلاة عن طهارة. وهذا يعني: أنّ نفس الصلاة تتّصف - هي أيضاً - بالوجوب الغيريّ، كما يتّصف به الجزء التحليليّ منها، والذي هو التقيّد.

ففيما نحن فيه، يكون وجوب نفس الصلاة وذاتها معلوماً بنحو التفصيل، إمّا بالوجوب النفسيّ أو بالوجوب الغيريّ، وأمّا مع التقيّد فمشكوك، فيجري فيه البراءة العقليّة حيث لم يقم بيان عليه، وكذا يجري مفاد (رفع ما لا يعلمون)، وذلك لما في اعتباره من الكلفة الزائدة.

هذا حاصل كلام الشيخ الأعظم)، حيث قال - ما نصّه -:

«وأمّا القسم الثاني، وهو الشكّ في كون الشيء قيداً للمأمور به، فقد عرفت أنّه على قسمين؛ لأنّ القيد قد يكون منشؤه فعلاً خارجيّاً مغايراً للمقيّد في الوجود الخارجيّ، كالطهارة الناشئة من الوضوء، وقد يكون

ص: 527

قيداً متّحداً معه في الوجود الخارجيّ. أمّا الأوّل: فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم، فلا نطيل بالإعادة»، ومراده! من (فيما تقدّم): الشكّ في الجزء الخارجيّ (1).

ولكن قد استشكل عليه المحقّق الخراساني! في حاشيته على الرسائل بقوله:

«لكن يمكن أن يقال ههنا - مضافاً إلى ما عرفت فيما علّقناه هناك -: إنّ الخروج عن عهدة التكليف بالأقلّ على نحو اليقين ههنا يتوقّف على إتيان الأكثر، حيث لا يحصل القطع بالخروج عن عهدته إلّا بإتيان ما يسقط معه وجوبه على كلّ تقدير، وليس هذا إلّا شأن الأكثر؛ فإنّوجوب الأقلّ وإن كان يسقط بإتيانه إذا كان نفسيّاً، لكنّه لا يسقط به إذا كان غيريّاً؛ فإنّ المأمور به على ذلك ليس هو مطلق وجوده، بل هو وجود خاصّ منه، وهذا بخلاف التكليف بالأقلّ هناك، وإنّ وجوبه يسقط بإتيانه، نفسيّاً كان أو غيريّاً، فإنّ المأمور به بالأمر الغيريّ في الجزء هو مطلق الوجود منه، لا خصوص ما يُؤتى به في ضمن تمام الأجزاء» (2).

وقال« في الكفاية - أيضاً -:

«ظهر ممّا مرّ: حال دوران الأمر بين المشروط بشيءٍ ومطلقه، وبين

ص: 528


1- لاحظ: فرائد الاُصول 2: 354.
2- الحاشية على الفرائد: 259.

الخاصّ كالإنسان وعامّه كالحيوان، وأنّه لا مجال ها هنا للبراءة عقلاً، بل كان الأمر فيهما أظهر، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لا يكاد يُتَوَهَّم ها هنا؛ بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لا يكاد يتّصف باللّزوم من باب المقدّمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً - في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها، وفي ضمن صلاةٍ أُخرى فاقدةٍ لشرطها وخصوصيّتها تكون مباينة للمأمور بها، كما لا يخفى» (1).

وحاصله: أنّ الصحيح هو المنع من الانحلال وعدم إمكان قياس ما نحن فيه على الأجزاء الخارجيّة، فإنّ الأجزاء الخارجيّة لمّا كان لأجزائها في الخارج وجودات مستقلّة كان من الممكن أن تتّصف بالوجوب مطلقاً، نفسيّاً وغيريّاً، فيكون هذا العلم التفصيليّ بوجوبها كذلك، هو بعينه، موجباً لانحلال العلم الإجماليّ بوجوب الأقلّ أو الأكثر، لفرض أنّه حصل له العلم تفصيلاً بوجوب الأقلّ، والشكّ بدواً في وجوب الأكثر، وهذا على خلاف الأجزاء التحليليّة التي لا سبيل إلى تمييزها إلّا بالعقل، حيث لم يكن لها ميز بحسب الخارج أصلاً.وعلى هذا الأساس، يكون الواجد للأجزاء التحليليّة والفاقد لها من قبيل المتباينين، لا من قبيل الأقلّ والأكثر.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأجزاء الخارجيّة حيث كان لذواتها وجودات

ص: 529


1- كفاية الاُصول: 367.

مستقلّة في الخارج، فهي تكون قابلةً للاتّصاف بالوجوب مطلقاً، نفسيّاً أو غيريّاً، فحينئذٍ: يحصل علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ، وهذا العلم التفصيليّ موجب لانحلال العلم الإجماليّ، كأن يقال - بعد فرض استقلالها -: إنّ هذه واجبة قطعاً، فيكون الزائد مشكوكاً فيه، فتجري البراءة في موردها بلا إشكال.

وهذا بخلاف الأجزاء التحليليّة، وهي ما لا يتسنّى تمييزها إلّا بواسطة العقل، فدعوى الانحلال فيها، بزعم أنّ ذات المقيّد، كالرقبة، أو العامّ، كالصلاة، لا يتّصف شيء منهما بالوجوب حتى يقال: إنّ وجوب ذاتهما معلوم تفصيلاً إمّا نفسيّاً أو غيريّاً؛ لأنّ المقدّمة المتّصفة بالوجوب الغيريّ إنّما هي المقدّمة التي تقع في سلسلة العلل لوجود ذي المقدّمة، ولذا كانت تتّصف بالوجوب الغيريّ.

ولكنّ هذا المعنى لا يأتي هنا؛ لأنّ ذات المقيّد ليس مقدّمة للمقيّد ولا يقع في سلسلة علله، بل هي مباينة للذات بدون القيد، وهكذا الحال في ذات العامّ المتخصّص بالخصوصيّة الكذائيّة؛ لأنّ الرقبة - مثلاً - بدون الإيمان مباينة للرقبة مع قيد الإيمان، وليست ذات الرقبة مقدّمة لوجود الرقبة المؤمنة ولا واقعة في سلسلة علله حتى يقال بأنّ المتيقّن هو وجوب ذات الرقبة، وأمّا وجوب تقيّدها بالإيمان فمشكوك فيه، فيُصار إلى نفيه بالبراءة، بل الرقبة المتخصّصة بالإيمان مغايرة في الوجود للرقبة الكافرة.

ص: 530

وأيضاً: فإنّ متعلّق الوجوب هو الوجود الخارجيّ الذي يمكن أن يشار إليه بالبنان، كما في المركّب الخارجيّ، فإنّه حيث كان في الخارج ذا أجزاء متعدّدة، فيتعلّق به الوجوب.

وأمّا الجزء التحليليّ، فإنّه ليس له وجود مستقلّ في الخارج حتى يصحّ أن يتعلّق به الوجوب، فإنّ ذات الرقبة، أو ذات الصلاة، لاوجود لهما في الخارج حتى يصحّ أن يتعلّق بهما الوجوب ويقال بوجوبهما وجوباً تفصيلاً، إمّا نفسيّاً أو غيريّاً، وبالتالي: حتى ينحلّ العلم الإجماليّ.

وهكذا يقال - أيضاً - بالنسبة إلى المركّب من الجنس والفصل؛ فإنّ الحيوان الواقع جنساً ليس مقدّمة للإنسان، ولا هو واقع في سلسلة علله؛ لعدم إمكان وجود الجنس بدون فصل من الفصول؛ إذ إنّ ما لا فصل له لا جنس له، كما قرّروه.

ومعه: فلا يصحّ أن يقال: بأنّه حينما يرد أمر بالإطعام، فوجوب إطعام الحيوان معلوم تفصيلاً، ويشكّ في اعتبار خصوصيّة الإنسانيّة فيه، فيجري الأصل، بل إنّ وجود الجنس مع كلّ فصلٍ يكون مغايراً لوجوده مع فصلٍ آخر، فيكون الجنس مع كلّ فصلٍ من فصوله في الخارج من المتباينين، ويخرج عن باب الأقلّ والأكثر، والمرجع فيهما - أعني: المتباينين - إلى قاعدة الاشتغال.

ولكنّ اُستاذنا المحقّق! فصّل في المقام بين أن تكون الخصوصيّة

ص: 531

من مقوّمات المعنى المتخصّص بها عقلاً، كالفصل بالنسبة إلى الجنس، وبين أن تكون من مقوّماته في نظر العرف، كقيد «الروميّة» بالنسبة إلى الجارية في مثل قولك: (اشترِ لي جارية روميّة)، فإنّها بنظر العرف مقوّمة لها، ولذا يجعلون منها نوعاً آخر في قبال الجارية الحبشيّة - مثلاً - وإن لم تكن من مقوّماتها ومنوّعاتها عقلاً، كما هو أوضح من أن يخفى.

ففي الصورة الاُولى: بما «أنّ المعنى الجنسيّ لا يمكن أن يوجد في الخارج بدون الفصل، بل وجوده دائماً لابدّ وأن يكون في ضمن أحد الفصول، ففي مثل ذلك: لو وقع متعلّقاً أو موضوعاً للتكليف، لابدّ وأن يكون في ضمن أحد أنواعه.

فلو قال: (جئني بحيوان) أو (أطعم حيواناً)، حيث إنّ التكليف بلحاظ الوجود الخارجيّ، وليس للجنس وحده وجود خارجيّ، ولا يمكن أن يكون، فلابدّ وأن يكون متعلّقاً للتكليف مقروناً بأحد الفصول.والنتيجة: أنّه إذا قال (أطعم حيواناً) يكون واجباً تخييريّاً بالنسبة إلى الفصول. والمقصود أنّ الجنس وحده ليس متعلّقاً للتكليف، ولا يمكن أن يكون حتى يكون هو القدر المتيقّن، بل في المطلق مثل (أطعم حيواناً) يكون معروض الوجوب هو الحيوان مع أحد الفصول تخييريّاً، وفي المركّب الأكثر، أي: الخاصّ، كالإنسان - مثلاً -، يكون معروض الوجوب المعنى الجنسيّ مع فصل معيّن، فيكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لا بين الأقلّ أو الأكثر.

ص: 532

وقد تقدّم أنّ في باب دوران الأمر بين هذا القسم من التعيين والتخيير، مقتضى القاعدة هو التعيين، لا البراءة عن الخصوصيّة».

وأمّا في الصورة الثانية، وهو ما إذا كانت من مقوّمات المعنى بنظر العرف، وإن لم يكن مقوّماته عقلاً، كما مثّلنا لنا ﺑ (الروميّة) بالنسبة إلى الجارية، أو كما لو أراد الحنطة الكرديّة فباعه العراقيّة، ﻓ «الضابط فيه: أنّه إذا باع العبد الحبشيّ بعنوان الروميّ، تكون المعاملة من قبيل تخلّف العنوان وباطلاً، لا من قبيل تخلّف الوصف وموجباً للخيار فقط، كما إذا قال: (بعتك هذا العبد الكاتب) ولم يكن كاتباً» (1).

وقد ألحق المحقّق النائيني! (2) هذا القسم بالقسم الأوّل، ذاهباً إلى أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وذلك لجهة أنّ العناوين كانت أنواعاً وحقائق مختلفة بنظر العرف، وإن لم تكن كذلك بنظر العقل، فقوله: (اشترِ جاريةً روميّة) تعيين لهذا النوع، فإذا قال: (اشترِ جاريةً) وتردّد أمره بين خصوص الروميّة أو غيرها، فبما أنّ الجارية لا توجد إلّا في ضمن الروميّة أو الحبشيّة أو غيرهما، فلا محالة: يكون الأمر دائراً بين التعيين والتخيير، وليس هناك من معلوم تفصيليٍّ في البين حتى يتأتّى جريان البراءة في الخصوصيّة الزائدة.

ص: 533


1- منتهى الاُصول 2: 324 - 325.
2- انظر: فوائد الاُصول 4: 205 - 207.

وردّه اُستاذنا المحقّق! بما حاصله: أنّ العبرة إنّما هي بنظر العقل، ولا عبرة بنظر العرف، والمعلوم تفصيلاً موجود بنظر العقل، وهو القدر المتيقّن، فيكون الانحلال عقليّاً (1).

ولكنّ الحقّ: عدم إمكان القول بالانحلال ها هنا؛ لأنّ طبيعة الجارية وذاتها ليست مقدّمة للجارية الروميّة حتى يقال: هي إمّا واجبة لنفسها أو لغيرها، فلا وجود لما هو معلوم بالتفصيل، فلا انحلال. فتأمّل جيّداً.

حكم الجزء أو الشرط المتروك نسياناً:

والبحث في هذه المسألة عن أنّ الأصل في الأجزاء هل هو الركنيّة، بمعنى: أنّ الأصل بطلان العمل بزيادتها أو نقيصتها سهواً أو نسياناً، أم لا؟

وهذا التفسير لمعنى الركنيّة هو على خلاف ما نُمِي إلى بعضهم من تخصيص الركنيّة ببطلان ما يكون مركّباً من تلك الأجزاء ومن غيرها بنقيصتها سهواً وعمداً، دون زيادتها كذلك.

وأمّا النقصان العمديّ، فلا يخفى: أنّه موجب للبطلان على الإطلاق، أي: بلا فرقٍ بين أن يكون ركناً وبين أن لا يكون كذلك، وإلّا، لزم الخلف

ص: 534


1- راجع: منتهى الاُصول 2: 325.

المحال؛ إذ ما فرضناه جزءاً - حينئذٍ - لا يكون جزءاً، وهو خلف، إلّا أن يكون من أوّل الأمر، قد فُرض مستحبّاً، وليس من أجزاء الواجب نفسه، وأنت خبير بأنّه فرض آخر لا علاقة له بمحلّ البحث.

ولا يخفى: أنّه بناءً على القول الأوّل، فالفرق بين الجزء الركنيّ وغير الركنيّ يكون في كلتا الناحيتين: الزيادة والنقيصة.

وأمّا بناءً على القول الثاني فالفرق بينهما، إنّما هو من جهة النقيصة فحسب، وذلك لأنّه على هذا القول يكون بين الجزء الركنيّ والجزء غير الركنيّ أمر مشترك وهو عدم البطلان بالزيادة.وأمّا الزيادة العمديّة في غير الركن، فهي لا تكون مقتضيةً للبطلان إلّا إذا كان هذا الجزء مأخوذاً في الواجب على سبيل البشرط لا، وإلّا، لم يكن هناك من وجهٍ للبطلان بها، وإن كان الجزء على فرض أخذه كذلك، أي: بشرط لا عن الزيادة، تؤدّي زيادته إلى البطلان، لا لكونها زيادةً، بل لصدق عنوان النقيصة عليها، كما يتّضح بأدنى تأمّل، وقد عرفنا أنّ النقصان العمديّ موجب للبطلان مطلقاً، ركناً كان الجزء أم غير ركن.

وقبل الدخول في البحث يجدر الالتفات إلى أنّ عنوان «الركن» وإطلاقه على الجزء الذي يوجب تركه عمداً أو سهواً للبطلان إنّما هو اصطلاح فقهيّ أتى به الفقهاء، وليس من المعاني التي اخترع الشارع المقدّس لها لفظاً.

ص: 535

وقد ذكر الشيخ الأعظم) (1) أنّ عنوان الركن لم يرد في النصوص لكي يقع البحث في تشخيص مفهومه العرفيّ، وإنّما هو اصطلاح فقهيّ يعبّر به عن بعض الأجزاء التي يختلّ العمل بتركها سهواً - كما هو تعريف بعض الفقهاء للركن - أو التي يختلّ العمل بتركها سهواً وزيادتها عمداً وسهواً - كما عليه آخرون -.

وما هو مهمّ فيما نحن فيه هو أنّ مجرّد ترك جزء من المركّب الواجب سهواً، هل يوجب بطلان العمل، كائناً ما كان هذا الجزء، بمعنى: أنّ الأصل ركنيّته؟ أم لا؟ بل يحتاج الحكم ببطلان العمل إلى دليلٍ خاصّ على ذلك، بمعنى: أنّ كلّ جزءٍ ورد الدليل على أنّ تركه سهواً - أو زيادته كذلك بالإضافة إلى نقيصته - ممّا يوجب البطلان، نسمّيه بالركن، أو فقل: أنّ النسيان هل يوجب ارتفاع الجزئيّة أو الشرطيّة أم لا، فيما لا يكون لدليليهما إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً؟

والكلام يقع في مقامين:الأوّل: هل ترك الجزء سهواً مبطل للعمل مطلقاً، أيّ جزءٍ كان، ركنيّاً أم غيره، أو لا، بل يحتاج إثبات البطلان إلى دليل خاصّ؟

والثاني: أنّ زيادة الجزء مطلقاً، أيّ جزءٍ كان، هل هي موجبة للبطلان،

ص: 536


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 361، قال): «إنّ الركن في اللّغة والعرف معروف، وليس له في الأخبار ذكر حتى يُتَعرّض لمعناه في زمن صدور تلك الأخبار، بل هو اصطلاح خاصّ للفقهاء».

سواء كانت عن عمد أو سهو، أم لا؟

المقام الأوّل: في ترك الجزء سهواً:
اشارة

ولابدّ من توزيع البحث على جهات:

الجهة الأُولى: أنّ توجيه خطاب إلى الناسي بما عدا الجزء المنسيّ، هل هو ممكن في مقام الثبوت أم لا؟ كأن يقال له - مثلاً -: أيّها الناسي للسورة، يجب عليك إتيان الصلاة بجميع أجزائها ما عدا السورة، أو ما عدا الجزء الذي أنت ناسٍ له.

والجهة الثانية: لو كان توجيه الخطاب إلى الناسي بالنحو المتقدّم ممكناً، ففي مقام الإثبات، هل هناك دليل من أمارة أو أصل يثبت به ذلك أم لا؟

والجهة الثالثة: أنّه لو فرضنا عدم إمكان توجيه الخطاب إليه ثبوتاً، أو قلنا بإمكانه في عالم الثبوت، ولكن لم نعثر على دليل عليه في عالم الإثبات، فهل هناك دليل، من أصل أو أمارة، يثبت كفاية الإتيان بما عدا الجزء المنسيّ عن الماُمور به الواقعيّ أم لا؟

فهذه جهات ثلاث يجب تنقيحها.

أمّا الجهة الأُولى:

فقد استشكل في إمكان ذلك ثبوتاً؛ بدعوى أنّ الخطاب لابدّ وأن يكون قابلاً للتحريك والداعويّة نحو العمل بمضمونه، وفيما نحن

ص: 537

فيه، ليس ذلك ممكناً؛ لأنّ الخطاب إلى النّاسي أو الغافل أو الساهي وأمثال هؤلاء، أعني: العناوين التي تنطبق على غير الملتفت إلى جزئيّة هذا الجزء، لا يخلو: فإمّا أن يكون ملتفتاً إلى هذا العنوان وإمّا أن لا يكون كذلك. وعلى الثاني: لا يمكن للخطاب المفروض أن يكون داعياً ومحرّكاً، فيكون لغواً، وهو محال. وأمّا على الأوّل، وهو تقديرالالتفات، فيخرج بالالتفات عن عنوان أنّه ناسٍ، ولا يكون مصداقاً لذلك العنوان، ولك أن تقول: إنّه يلزم من كونه داخلاً في عنوان الناسي عدم دخوله فيه.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ معنى خطاب الناسي بما عدا الجزء المنسيّ أنّ الواجب بتمام أجزائه وشرائطه يكون واجباً على الذاكر فقط، وأمّا الناسي فالواجب عليه - حينئذٍ - ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ منه، وتوجيه الخطاب إليه مخرج له عن عنوان الناسي.

وهذا الإشكال للشيخ الأعظم!، فإنّه) ذهب إلى استحالة تعلّق التكليف بالناسي بعنوانه، والوجه فيه:

أنّ التكليف لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للعبد نحو العمل إلّا مع الالتفات إليه وإلى موضوعه، فالتكليف بالحجّ المأخوذ في موضوعه الاستطاعة لا يصلح أن يكون محرّكاً إلّا مع الالتفات إلى الاستطاعة، ومن الواضح: أنّ الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى موضوع التكليف، وهو كونه ناسياً، مع فرض بقاء النسيان له، بل إنّه بمجرّد الالتفات إليه

ص: 538

يزول النسيان عنه، فالتكليف المأخوذ في موضوعه الناسي غير صالح للمحرّكيّة في أيّ حالٍ من الأحوال، أمّا في صورة الغفلة عن النسيان، فواضح؛ لعدم التمكّن من توجيه الخطاب إليه، وأمّا في صورة التفاته، فلفرض زوال النسيان وما يستتبعه ذلك من تغيّر الموضوع.

قال! في الفرائد:

«قُلْتُ: إن اُريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيّته في الجملة في حقّ الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه، فهو غير قابلٍ لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجاباً وإسقاطاً» (1).

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بأجوبةٍ عدّة:

منها:ما أفاده صاحب الكفاية! بقوله: «كما إذا وجّه الخطاب على نحوٍ يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر» (2).

وحاصله: أنّه يمكن للمولى توجيه الخطاب إليه على نحو يعمّ الذاكر والناسي، كعنوان المكلّف - مثلاً - مع بقائه على ما هو عليه من عدم الالتفات إلى كونه ناسياً، ويكلّفه بما عدا الجزء المنسيّ، ثمّ يكلّف الملتفت بالمنسيّ، فكما أنّ الذاكر الآتي بجميع الأجزاء آتٍ بوظيفته،

ص: 539


1- فرائد الاُصول 2: 364.
2- كفاية الاُصول: 368.

فكذلك الناسي الآتي بالناقص يكون - أيضاً - آتياً بما هي وظيفته، من دون أن يتوجّه الخطاب إليه بعنوان الناسي حتى يلزم محذور الانقلاب المشار إليه.

وردّه اُستاذنا المحقّق!: بأنّه «صرف فرض لا واقع له، مع اختلاف النسيان بحسب اختلاف الأشخاص من حيث أسباب النسيان، وأيضاً: من ناحية كثرة الأجزاء وقلّتها، التي صارت منسيّة، واختلاف الأجزاء التي يتعلّق بها النسيان بحسب اختلاف الأشخاص واختلافهم بحسب الحالات، ففرض عنوانٍ ملازم للنسيان لجميع الأشخاص، بحيث يكون جامعاً لجميع هذه التشتّتات، وإن لم يكن ممتنعاً عقلاً، ولكن ممتنع عادةً» (1).

ومنها:

ما أفاده صاحب الكفاية) - أيضاً - وهو إمكان توجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين، الناسي منهم والذاكر، ولكن بالنسبة إلى الأجزاء التي تكون جزئيّتها مطلقة، وليست بمخصوصة بحال الذكر، وما يُنتجه مثل هذا الخطاب هو أنّ المكلّف لو ترك شيئاً من هذه الأجزاء كان عمله باطلاً، ويتوجّب عليه الإعادة، ولو كان تركه من ناحية النسيان.وأمّا بالنسبة إلى سائر الأجزاء، وهي الأجزاء المخصوصة التي ليست

ص: 540


1- منتهى الاُصول 2: 330.

جزئيّتها مطلقة، يوجّه المولى خطابه إلى خصوص الذاكرين، وتكون النتيجة: أنّ الناسي لجزء أو لأجزاء لا يكون مكلّفاً بما نسيه من الأجزاء، حيث لم تكن جزئيّتها مطلقة بحسب الفرض.

نعم، لو كانت جزئيّتها مطلقة، لكان مكلّفاً بها، ولكن لا بعنوانه كونه ناسياً حتى يلزم المحال، بل بالعنوان العامّ الذي يكون شاملاً لجميع المكلّفين، فيحصل المقصود بدون لزوم أيّ محالٍ في البين.

وإن شئتَ فقل: لا مانع من أن يكون الملتفت مكلّفاً بتمام الماُمور به، والناسي مكلّفاً بما عدا المنسيّ، لكن لا بعنوان الناسي حتى يلزم انقلابه إلى الذاكر بمجرّد توجيه الخطاب إليه، بل بعنوانٍ آخر يكون عامّاً وملازماً لجميع أفراده، كالبلغميّ أو قليل الحافظة أو كثير النوم وما إلى ذلك، أو بعنوانٍ آخر يكون خاصّاً، كالعناوين التي تختصّ بأفراد الناسي، كقولك: يا زيد، أو يا بكر، أو يا بشر.

وعبارة صاحب الكفاية) كالتالي: «أو وجّه إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوانٍ آخر عامٍّ أو خاصّ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان؛ لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة» (1).

وقد علّق الاُستاذ المحقّق! على هذا الوجه بأنّه: «لا يرد عليه إشكال،

ص: 541


1- كفاية الاُصول: 368.

ولا شكّ في إمكانه في عالم الثبوت، ولكن يحتاج في عالم الإثبات إلى دليل يدلّ على مثل هذا الجعل والخطاب» (1).

ومنها:

وجه آخر ذكره صاحب الكفاية) نفسه، ولكن في حاشيته على الرسائل، وإليك نصّ كلامه:«هذا، مع أنّه لا يلزم خطاب في هذا الحال أصلاً، ويكفي مجرّد محبوبيّة الخالي عن المغفول عنه في الحال، كمحبوبيّة المشتمل عليه في حال الالتفات إليه؛ فإنّ فائدة الخطاب ليس إلّا البعث والتحريك، وهو حاصل من نفس الخطاب بالمركّب، حيث إنّ الغافل يعتقد شموله، فافهم» (2).

وحاصله: أن يكلّف الملتفت بالتمام، ولا يُكلَّف الناسي بشيء، ولكن يصحّ فعله الناقص؛ لاشتماله على المصلحة، ويكفي في بعثه إلى الإتيان بالناقص هو اعتقاده بأنّ أمر الملتفت إليه متوجّهاً إليه، فيأتي بالناقص بداعي موافقة أمر الملتفت بالتمام.

ومنها:

ما اختاره اُستاذنا المحقّق!، وهو «أنّ الخطاب المتوجّه إلى عامّة

ص: 542


1- منتهى الاُصول 2: 331.
2- الحاشية على الفرائد: 260 - 261.

المكلّفين هو الأمر بالجامع بين الأفراد الصحيحة التي تختلف من حيث الأجزاء والشرائط، قلّةً وكثرةً وكيفيّةً بحسب حالات المكلّفين، علماً وجهلاً، ذكراً ونسياناً، وكذلك بحسب سائر الحالات والطوارئ.

فالصلاة - مثلاً - في حقّ الناسي لبعض الأجزاء والذاكر لها، وإن كانت تختلف بالنسبة إلى المصداق، ولكن لا اختلاف بينهما من حيث ذلك الجامع؛ لأنّه كما أنّ ما أتى به الذاكر من الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط مصداق للصحيح، كذلك الذي يأتي به الناسي لبعض الأجزاء الفاقد لذلك البعض المنسيّ، مصداق للصلاة الصحيحة.

فالجامع في كليهما موجود بدون أيّ اختلاف بينهما، وإلّا ، ليس بجامع، فكلّ واحد منهما - أي: الذاكر والناسي - أتى بما هو المأمور به - أي: الجامع - وهو الصلاة الصحيحة.

نعم، كلّ واحد منهما يرى نفسه ذاكراً، ويرى صلاته جامعة لجميع الأجزاء والشرائط، غاية الأمر: أنّ الناسي يكون مخطئاً في هذهالعقيدة، أي: في كونه ذاكراً، ولديه جهل مركّب؛ إذ يتصوّر أنّه ذاكر، وأنّه قد أتى بما هو وظيفة الذاكر، وهذا الخطأ منه لا يضرّ بصحّة عمله وامتثاله للأمر المتوجّه إليه؛ لأنّه أتى بما هو وظيفته واقعاً بقصد القربة، وإنّما حصل له الخطأ والاشتباه في أمر آخر، وهو أنّه ذاكر، وأنّ ما أتى به هو وظيفة الذاكر.

نعم، لابدّ أنّ يثبت من الخارج أنّ وظيفة الناسي ليست هي الإتيان

ص: 543

بتمام الأجزاء في غير الأركان، بل خصوص ما يتذكره منها» (1).

ولكنّ هذا الوجه - كما اعترف به الاُستاذ) نفسه - لا يتمّ إلّا إذا قلنا بأنّ هناك بين أفراد الصحيحة جامعاً عنوانيّاً يكون هو المراد في الخطابات العامّة، وإنّما وقع الاختلاف من ناحيتي الكمّ والكيف في الأفراد، بما يرجع إلى الخصوصيّات الفرديّة التي تنشأ عن اختلافٍ في حالات المكلّفين أو سائر الجهات الزمانيّة والمكانيّة، أو غير ذلك.

وبهذا يتمّ الكلام في الجهة الأُولى.

وأمّا الجهة الثانية:

وهو بعد فرض إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بما عدا الجزء المنسيّ بأحد الوجوه التي ذكرناها، أو غيرها، في مرحلة الثبوت، فهل هناك دليل يمكن الحصول عليه في عالم الإثبات من أصلٍ أو أمارةٍ على وقوع ذلك، أم لا يوجد مثل هذا الدليل؟!

وهنا: تارةً نتكلّم في وجود الدليل الاجتهاديّ والطرق والأمارات. وأُخرى: في قيام الأصل العمليّ والدليل الفقاهتيّ.

وإحراز وجود الأوّل يتوقّف على النظر في مفاد كلّ من دليلي المركّب والجزء، فإنّه إمّا أن يكون هناك إطلاق في أحدهما، أو في كليهما، وأمّا أن لا يكون هناك إطلاق في شيء منهما.

ص: 544


1- منتهى الاُصول 2: 331، بتصرّفٍ في كلامه)وتوضيح منّا.

أمّا إذا كان هناك إطلاق في دليل المركّب كما في دليل الجزء، فإنّه يظهر من إطلاق دليل المركّب أنّ المصلحة موجودة فيه في جميع الحالات، وأنّها لا تسقط بنسيان جزء أو شرط من المركّب.

وأمّا الإطلاق الذي في دليل الجزء أو الشرط، فهو يقتضي كونهما دخيلين في الماُمور به، ولازمه: سقوط التكليف عن المركّب بسقوط التكليف عن الجزء؛ لنسيانه، أو لأيّة جهةٍ أُخرى من موجبات سقوط التكليف عنه؛ لأنّه ليس هناك إلّا تكليف واحد يكون متعلّقاً بالمجموع، وحيث سقط عن الجزء، فلم يبقَ شيء لكي يتعلّق بما عدا الجزء الذي سقط التكليف عنه بأحد موجبات السقوط، والمركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وحينئذٍ: فلابدّ في إيجاب الإتيان بالباقي من فرض ثبوت تكليفٍ جديد آخر.

وبالجملة: فإطلاق دليل الجزء يوجب سقوط الأمر عن المركّب، وإن كان للأمر بالمركّب إطلاق، وذلك لحكومة إطلاق دليل الجزء على الإطلاق في دليل المركّب، فلا تكليف هنا بما عدا الجزء المنسيّ؛ لأنّ الأصل اللّفظيّ بإطلاقه يقتضي الركنيّة، وأنّه بعد النسيان يختلّ الماُمور به.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزء إطلاق فهذا له صورتان: أُولاهما: أن يكون لدليل المركّب إطلاق، والثانية: أن لا يكون لدليله إطلاق.

فإذا كان لدليله إطلاق، فقد يقال: بأنّه يؤخذ بإطلاقه، ويقال بأنّ

ص: 545

الناسي وإن سقط بالنسبة إليه التكليف بالجزء المنسيّ، ولكنّه يكون مكلّفاً بما عداه؛ لأنّ دليل المركّب مطلق بحسب الفرض.

ولكن قد يستشكل فيه: بأنّ معنى إطلاق المركّب الماُمور به يقتضي أنّ كلّ واحدٍ من الأجزاء يكون جزءاً مطلقاً، حتى في حال نسيانه، إذ ليس المركّب إلّا الأجزاء بشرط الانضمام، فمعنى إطلاقه: هو إطلاق كلّ واحدٍ من الوجوبات الضمنيّة للأجزاء المستفادة من الأمر النفسيّ بالكلّ، وهذا يستلزم انتفاء المركّب بانتفاء جزئه المنسيّ، فكيف يصحّ أن يدّعى أنّ إطلاق المركّب يقتضي الإتيان به بلا فرق بين نسيانجزئه وعدمه، مع أنّه مع نسيانه ينتفي الكلّ المؤلّف من أجزاء يفترض بها أن تكون مرتبطة، وهذا كلّه إنّما هو لأجل انبساط الأمر بالمركّب على كلّ واحد من أجزائه.

ولكنّ الحقّ: أنّ إطلاق دليل الماُمور به ناظر إلى الأجزاء بشرط الانضمام، وهو ليس أمراً آخر سوى الكلّ، فالإطلاق يتعلّق به، لا بكلّ واحد من الأجزاء بخصوصه حتى يرد الإشكال وتثبت المعارضة.

وأمّا لو لم ينعقد إطلاق في شيءٍ من الدليلين، فحينئذٍ: تصل النوبة إلى الأدلّة الثانويّة، وسيأتي الكلام فيها.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات بالنسبة إلى الإطلاق في دليل أصل المركّب، فالظاهر أنّه لا إطلاق لأدلّته؛ لأنّه وارد - غالباً - في مقام

ص: 546

التشريع، وليست في مقام بيان ماهيّة العبادة أو المعاملة من حيث ما لها من الأجزاء والشرائط.

وأمّا أدلّة الأجزاء والشرائط، فهي إن كانت من قبيل الأدلّة اللبّيّة، لم يكن له - هي أيضاً - إطلاق، بل لها قدر متيقّن لابدّ من الأخذ به، اللّهمّ إلّا أن يرد الإجماع على كونها دخيلةً مطلقاً في الماُمور به، وقلنا بحجّيّة مثل هذا الإجماع وأنّه ناهض لإثبات الإطلاق.

وأمّا لو كان دليلاً لفظيّاً، فالظاهر هو ثبوت الإطلاق بالنسبة إلى كلتا حالتي الذكر والنسيان؛ لأنّ الظاهر من دليل الجزئيّة هو أنّ المركّب متقوّم بذلك الجزء، وبخاصّة إذا كان لسان دليلها نفي المركّب بنفيه، كقوله(علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» (1)، و«لا ذكاة إلّا بالحديدة» (2).وهل دليل الجزء ينعقد له إطلاق مطلقاً، سواء كان بلسان التكليف، مثل (اركع في الصلاة) أم الوضع، كما في (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب)، أو لا يكون لها إطلاق على الإطلاق، أم لابدّ من التفصيل بين أن يكون دليل الجزء من قبيل انعدام المركّب ونفيه بانعدام الجزء، فيقال بإطلاقه وشموله لحالة النسيان، وبين أن يكون بلسان الأمر به في المركّب أو معه أو قبله، فقال بعدم الإطلاق من جهة أنّ منشأ انتزاع الجزئيّة أو الشرطيّة

ص: 547


1- وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 1.
2- انظر: الاستبصار 4: 80، باب أنّه لا يجوز الذبح إلّا بالحديد.

ذلك الأمر، فتابع سعةً وضيقاً لمنشأ انتزاعه.

ولا إشكال في سقوط الأمر بالنسبة إلى نفس ذلك الجزء المنسيّ حال نسيانه؛ لأنّه تكليف بالمحال، وإنّما الكلام في إمكانه بالنسبة إلى وجوب الإتيان ببقيّة الأجزاء.

أمّا بالنسبة إلى نفس الجزء - حال نسيانه - فعدم إمكانه في غاية الوضوح؛ لأنّه بسقوط الأمر من جهة النسيان عن الجزء المنسيّ لا يبقى منشأ لانتزاع جزئيّته، فتكون جزئيّته، والحال هذه، مختصّة بحال الذكر.

ويحكى عن المحقّق البهبهاني! أنّه فصّل فقال بانعقاد الإطلاق في الوضع دون ما إذا كان بلسان الأمر، وذلك لأنّه لو كان بلسان الوضع فظهوره في انتفاء المركّب والماهيّة بانتفائه، بلا فرق بين أن يكون جزءاً أو شرطاً؛ لأنّه يدلّ على دخل الجزء أو الشرط في الماُمور به وحقيقة المركّب مطلقاً، فيشمل جميع حالات المكلّف، من حال الذكر والنسيان وغيرهما.

وأمّا إذا كان بلسان التكليف فيمكن أن يقال باختصاص الجزئيّة والشرطيّة المنتزعتين منه بحال الالتفات؛ لأنّ منشأ انتزاعهما، وهو الطلب، مقيّد بالقدرة، وهي مفقودة حال النسيان، فلا يكون هناك بعث بالنسبة إلى الناسي؛ لأنّ الأوامر الانتزاعيّة تكون تابعة لمناشئ انتزاعها سعةً وضيقاً. بخلاف ما إذا كان الدليل بلسان الوضع؛ إذ ليس هناك طلب في البين - حينئذٍ - حتى يتقيّد عقلاً بمن له القدرة، وهوالملتفت، بل إنّما

ص: 548

هو بيان لأمرٍ واقعيّ، وهو كونه دخيلاً في ماهيّة المركّب وحقيقته.

وقد يستشكل فيه: بأنّ الفرق المزبور يتوقّف على إفادة دليل الجزئيّة - فيما إذا كان بلسان الأمر - هو ما إذا كان الجزء واجباً نفسيّاً، حتى يتقيّد بحال الالتفات، حيث يمتنع انبعاث غير الملتفت، ولأنّ مطالبة الناسي، كالعاجز، قبيحة. لوضوح أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بأجزاء المركّبات أو الشرائط أو الموانع ليس فيها طلب مولوي؛ لظهورها في الإرشاد إلى دخل المتعلّق في ماهيّة المركّب الماُمور به، جزءاً كان أو شرطاً أو مانعاً، والأمر والنهي وإن كانا ظاهرين بدواً في المولويّة، ولكنّ ظهورهما الأوّليّ هذا ينقلب إلى ظهور ثانويّ، وهو الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة، فلو كان الأمر بالركوع ونحوه من الأجزاء والشرائط والموانع نفسيّاً للزم تعدّد العقاب، ولا يلتزم أحد به.

ولكن بناءً على هذا يلزم أن تكون الجزئيّة مختصّة بحال الالتفات؛ لأنّ الناسي والغافل يستحيل توجيه الخطاب إليهما، فالأمر الوارد على الجزء بعد انبساط أمر المركّب، بما أنّه مقيّد بالقدرة، فما ينتزع منه - أيضاً - لابدّ وأن يكون كذلك، فلا يمكن التمسّك بإطلاق الجزء.

ولكنّ الحقّ: هو لزوم التفصيل بين ما يدلّ على جزئيّة شيء للماُمور به بما هو ماُمور به، فبما أنّه مدلول الجزئيّة المنتزعة من الأمر النفسيّ الضمنيّ، وهو المأخوذ من الأمر بالمركّب، فلا محالة يتقيّد بالالتفات.

ص: 549

وأمّا ما يدلّ على الجزئيّة للمركّب، كمثل (اركع في الصلاة)، فهو إرشاد محض إلى ما هو الجزء للمركّب والوافي بغرضه وملاكه، فهذا إنّما يدلّ على الجزئيّة المطلقة بعد عدم تفاوت الأحوال فيما يكون جزءاً لما تقوم به المصلحة الداعية إلى الأمر، وبناءً عليه: فيمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الجزئيّة في حالة النسيان وغيرها، والإطلاق يقتضي عدم الاجتزاء بما عدا المنسيّ.وقد ذهب المحقّق العراقي) في المقام إلى دعوى أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق بعدما فرض أنّ الأوامر المتعلّقة بهذه الأجزاء من الأوامر النفسيّة، فإنّ كلّ أمرٍ من هذه الأوامر يشكّل قطعةً من ذلك الأمر الواحد الذي ينبسط على جميع أجزاء المركّب.

ومع ذلك، فلا مانع - أيضاً - من التمسّك بإطلاق دليل الجزء؛ لأنّ الأمر له ظهور إطلاقيّ من حيث الحكم التكليفيّ؛ لشموله لحال النسيان، وله أيضاً ظهور من حيث الحكم الوضعيّ، أي: جزئيّة ما تعلّق به الأمر للمركّب في حال النسيان.

وبما أنّ المقيّد ليس إلّا حكم العقل بقبح توجيه الخطاب إلى الناسي، وتكليفه بالنسبة إلى الجزء المنسيّ، وهذا الحكم العقليّ بقبح مطالبة الناسي ليس في الارتكاز والوضوح كقبح مطالبة العاجز ومؤاخذته حتى يكون كالقرينة المحتفّة بالكلام المتّصلة به، وحتى يدّعى كونه مانعاً من انعقاد الظهور الإطلاقيّ، بل هو كالقرينة المنفصلة المانعة عن حجّيّة

ص: 550

الظهور بعد انعقاده، لا عن أصله، فغايته: أنّ هذا الحكم العقليّ يمنع عن حجّيّة الظهور الإطلاقيّ بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، أي: وجوب التشهّد أو الركوع - مثلاً - على الناسي لجزئيّتهما.

وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، أي: جزئيّتهما في حالة النسيان، فلا، فحينئذٍ: يؤخذ بالظهور الإطلاقيّ بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، ويقال بالجزئيّة حتى في صورة النسيان.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الساقط عن الاعتبار إنّما هو حجّيّة ظهور دليل الجزء في ناحية التكليف، لا حجّيّة ظهوره في الحكم الوضعيّ مطلقاً الشامل لحال النسيان، فلا مقيّد لها، ولا قرينة على خلافها، فيؤخذ بظهورها.

هذا كلامه! موضَّحاً ومبيّناً. ونكتفي بنقل ما يلي من نصّ كلامه:

«نقول: إنّ المنع المزبور عن عموم الجزئيّة لحال النسيان إنّما يتّجه إذا كان الحكم العقليّ بقبح تكليف الناسي والغافل في الارتكاز بمثابةٍ يكون كالقرينة المحتفّة بالكلام، بحيث يمنع عن انعقاد ظهوره فيالإطلاق، وهو في محلّ المنع، فإنّ الظاهر هو عدم كونه من العقليّات الضروريّة المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء، وأنّه من العقليّات غير الارتكازيّة التي لا ينتقل الذهن إليها إلّا بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل، فيدخل - حينئذٍ - في القرائن المنفصلة المانعة عن مجرّد حجّيّة ظهور الكلام، لا عن أصل ظهوره. وعليه: يمكن أن يقال: إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقليّ

ص: 551

المزبور إنّما هو المنع عن حجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، وأمّا بالنسبة إلى ظهورها في الحكم الوضعيّ، وهو الجزئيّة، وإطلاقها لحال النسيان، فحيث لا قرينة على الخلاف من هذه الجهة، يؤخذ بظهورها في ذلك...» (1).

هذا من ناحية الأدلّة والأمارات، وأمّا من ناحية الاُصول العمليّة:

ثمّ إنّه لو فرض أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط، وإن كان هو ثبوت الجزئيّة أو الشرطيّة مطلقاً، ولو في حال النسيان، إلّا أنّ مقتضى الدليل الثانويّ، وهو مثل قوله- في حديث الرفع (رفع النسيان) هو رفع الجزئيّة في حالة النسيان، لحكومتها على الأدلّة الأوّليّة للأجزاء والشرائط بالنسبة إلى الفقرات الخمس - والتي هي الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما اضطرّوا إليه، وما لا يطيقون - فمعنى رفع النسيان هو رفع الجزئيّة في حال النسيان.

فحديث الرفع - إذاً - بعد حكومته على الأدلّة الأوّليّة يشير الى تخصّص الجزئيّة بحال الذكر، فيوجب تقييد إطلاق الجزئيّة.

وبالجملة: فمقتضى مثل حديث (لا تعاد) وحديث الرفع هو صحّة الصلاة الناقصة، وأنّها تكون مجزئةً للناسي عن الإتيان بالتامّ، ومعه: فلا تصل النوبة أصلاً إلى جريان البراءة الشرعيّة؛ وذلك لوجود الدليل الحاكم.

ص: 552


1- نهاية الأفكار 3: 424.

وقد استشكل فيه الاُستاذ المحقّق! ﺑ «أنّ الرفع وإن تعلّق ظاهراً بنفس النسيان، ولكنّه لا يمكن الأخذ به؛ لأنّه خلاف الامتنان؛ لأنّ معنى رفع النسيان كون الفعل الصادر نسياناً كالفعل الصادر عمداً، فيكون الإفطار الصادر نسياناً - مثلاً - كالصادر عمداً، موجباً للقضاء والكفّارة، أو شرب الخمر نسياناً - مثلاً - موجباً للحدّ - مثلاً -» (1).

أي: وهذا على خلاف الامتنان الذي استظهرنا أنّ الحديث وارد في مقامه، وهو ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه، ومعه: فلابدّ من أن يكون المقصود من رفع النسيان هو رفع المنسيّ، وذلك بأن يجعل المصدر (النسيان) بمعنى الفعل المبني للمفعول (نُسي).

فيكون المرفوع هو الفعل الذي قد صدر عن نسيان، مثلاً: لو شرب الخمر نسياناً، يجعل هذا الشرب كالعدم من ناحية من له من الأثر الشرعيّ، فيسقط عنه الحدّ وغيره من الآثار الشرعيّة التي تترتّب شرعاً على الشرب العمديّ.

وبناءً على هذا: فيكون مقتضى إجراء حديث الرفع في هذا المقام أنّ الصلاة التي صدرت منه نسياناً لنسيان جزءٍ من أجزائها أو شرط تُجعل كالعدم، فيجب عليه أن يصلّي ثانياً، ولكنّ هذا - كما هو واضح - على خلاف الامتنان جدّاً.

ص: 553


1- منتهى الاُصول 2: 335 - 336.

ثمّ قال):

«إن قلت: إنّ المنسيّ ليس هو المركّب الفاقد للجزء المنسيّ؛ لأنّه صدر عن عمد والتفاتٍ إليه، غاية الأمر: باعتقاد أنّه تمام المركّب، واشتبه في ذلك، بل المنسيّ هو الجزء الذي نسيه ولم يأتِ به، فعدم إتيانه به لنسيان جزئيّته، وإلّا، لو كان ذاكراً لجزئيّته لكان يأتي به، فلابدّ وأن يكون المرفوع هي الجزئيّة في ذلك الحال، لا الفعل الفاقد للجزء كي يكون خلاف الامتنان».وأجاب عنه: بأنّه حتى لو سلّمنا بأنّ المنسيّ كان هو الجزئيّ، وليس ذات الجزء، فنسيان الجزئيّة في بعض الوقت في الواجبات الموقّتة، وفي زمنٍ من الأزمنة في غير الموقّتات، وكونها تسقط بواسطة النسيان في ذلك الوقت أو الزمان، كلّ ذلك، لا يوجب سقوطها في تمام الوقت، أو في تمام العمر، بعد ارتفاع الغفلة وحصول الذكر (1).

وأمّا الجهة الثالثة:

في أنّه هل هناك دليل على أنّ المأتي به الفاقد للجزء نسياناً الواجد لبقيّة الأجزاء، يكون مجزياً عن الماُمور به واقعاً أم لا، بعد أن كان مقتضى القاعدة الأوّليّة هو الحكم بعدم الإجزاء؛ لأنّ ما هو الواجب إنّما هو إتيان الماُمور به، وهو المركّب من عشرة أجزاء - مثلاً - وأمّا المركّب

ص: 554


1- المصدر نفسه 2: 336.

من التسعة، فبما أنّه غير الماُمور به، فلا يكون ماُموراً به، لا ظاهراً ولا واقعاً، فتكون كفايته عن الماُمور به الواقعيّ بحاجةٍ إلى دليل يدلّ عليه، ومن دون الدليل المذكور، فلابدّ من الإعادة في الوقت لو حصل الذكر فيه، والقضاء خارجه. وبالنسبة إلى غير الصلاة، فليس فيها ظاهراً ما يدلّ على الإجزاء.

نعم، بالنسبة إلى خصوص الصلاة ورد ما يدلّ على ذلك، وهو القاعدة المعروفة ﺑ (قاعدة لا تعاد) المستفادة من قوله(علیه السلام): «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود» (1).

ص: 555


1- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 5: 471، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 1، الحديث 14.

ص: 556

قاعدة لا تعاد

اشارة

ولابدّ من الكلام فيها في أمرين:

الأوّل: هل هي من القواعد الاُصوليّة أم لا؟

لا يخفى: أنّ القواعد الاُصوليّة هي التي لا تكون مختصّةً بباب خاصّ، وبناءً على هذا، فلابدّ من خروج هذه القاعدة عن القواعد الاُصوليّة؛ لوضوح كونها مختصّة بباب الصلاة، غاية الأمر: أنّها لمّا كانت تنطبق على فروع كثيرة، أدخلوها في سلك القواعد الفقهيّة، وجعلوها من تلك القواعد. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فهي لا تقع في طريق الاستنباط حتى تكون من المسائل الاُصوليّة، بل إنّما هي حكم شرعيّ كلّيّ يُطَبَّق على مصاديقه تطبيقاً.

الثاني: هل هذه القاعدة مختصّة بالسهو والنسيان أم أنّها - أيضاً - تشمل الجهل بقسميه، أعني: الجهل بالموضوع والجهل بالحكم؟ وكذلك فهل

ص: 557

هي شاملة لقسمي الجهل الآخرين، وهما: الجهل عن القصور والجهل عن تقصير، أم أنّها على فرض شمولها للجهل تكون مختصّة بالأوّل منهما فقط؟ كلّ هذا بعد قطعنا بعدم شمول القاعدة للخلل العمديّ، بل إنّ احتمال شمولها لإخلال العامد العالم بالحكم، لا ينبغي - كما أفاده الاُستاذ المحقّق! (1) - صدوره من أحد؛ لأنّه مخالف لأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع، إذ إنّ معنى جعل شيءٍ ما جزءاً أو شرطاً للصلاة هو أنّ المركّب الماُمور به، وهو الصلاة، لا يتحقّق بدونها، فلو كانت الصلاة صحيحة مع الإخلال بشيءٍ من أجزائها أو شرائطها عمداً من قبل العالم به، للزم الخلف لا محالة؛ لأنّ معناه أنّ ما هو جزء أوشرط أو مانع بمقتضى أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع لم يكن جزءاً ولا شرطاً ولا مانعاً، وهذا عين الخلف والتهافت.

بلا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل المثبت للجزئيّة أو الشرطيّة وارداً بمثل لسان (يعيد)، أو بلسان نفي الصلاة وإثبات عدمها نحو (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) أو بلسان الأمر كما في مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَي-ْدِيَكُمْ﴾ الآية (2).

والمنسوب إلى المحقّق الميرزا الشيرازي! (3) إمكان ذلك، وذلك

ص: 558


1- راجع: القواعد الفقهيّة 1: 80.
2- المائدة: الآية 6.
3- انظر: القواعد الفقهيّة 1: 80.

عن طريق الالتزام بأمرين:

أحدهما: متعلّق بالخمسة المستثناة وغيرها ممّا ثبتت له الركنيّة.

والآخر: متعلّق بإتيان باقي الأجزاء والشرائط معها.

فلو أتى بالخمسة وغيرها ممّا ثبتت ركنيّته وترك الباقي عمداً مع العلم بوجوب إتيانها، كان الأمر المتعلّق بإتيان نفس تلك الخمسة وغيرها ساقطاً ببركة الامتثال، وكذلك، كان الأمر المتعلّق بإتيان باقي الأجزاء والشرائط أيضاً ساقطاً بواسطة عدم بقاء المحلّ والموضوع؛ إذ محلّه وموضوعه كان عبارةً عن إتيان باقي الأجزاء والشرائط مضافاً إلى الخمسة، والمفروض أنّه قد أتى بتلك الخمسة، وأنّ الأمر بها قد سقط.

وهكذا الحال فيما لو نذر أن يأتي بصلاته الواجبة بخصوصيّةٍ ما مستحبّة، كما لو نذر أن يأتي بصلاة الظهر - مثلاً - جماعةً، أو في المسجد، فأتى بها منفرداً، أو في الدار، فإنّ الأمر الأوّل العباديّ يسقط بمجرّد إتيان الفريضة، ولو من دون تلك الخصوصيّة؛ لصدق أنّه قد أتى بما بما هو متعلّق ذلك الأمر العباديّ، وإلّا يلزم طلب الحاصل.ويسقط - أيضاً - الأمر الثاني، أعني: الأمر النذريّ، لعدم بقاء المحلّ والموضوع له؛ لأنّ متعلّقه كان عبارة خصوصيّة محلّ وجودها هو متعلّق الأمر الأوّل، ومع فرض تحقّق الإتيان به، فلا يبقى محلّ لتلك الخصوصيّة حتى يأتي بها.

ص: 559

نعم، إنّ لازم الالتزام بالأمرين بالبيان المتقدّم هو استحقاق العقاب فيما إذا كان عالماً بالحكم أو جاهلاً مقصّراً، وذلك لأنّه فوّت الواجب بإتيانه للماُمور به بذلك الأمر العباديّ بدون مراعاة الخصوصيّة التي أخذها في مورد النذر، وبدون أنّ يقصّر فيما إذا كان مسافراً، وبدون الجهر في مورد الجهر، والإخفات في مورد الإخفات.

ولكن لا بأس بالالتزام بذلك، وذلك بأن يقال:

تصحّ صلاته ولا يجب عليه الإعادة إذا أتى بالخمسة المستثناة، ونحوها ممّا ثبتت ركنيّته، وإن كان يستحقّ العقاب من ناحية تفويته الواجب الآخر.

وردّه اُستاذنا المحقّق! «بأنّ هذا صرف فرض، وإلّا، فهو أمر مخالف للواقع، والمسلّم المقطوع أنّه ليس للصلاة إلّا أمر واحد متعلّق بمجموع تلك الأجزاء والشرائط وإعدام تلك الموانع» (1).

وقد نسب إلى المحقّق البروجردي) في هذا المقام القول بأنّ «القاعدة إنّما هي بصدد بيان حكم المريد للامتثال، المخلّ ببعض الجوانب، ومن الواضح: أنّ من كان بهذا الصدد لا يُتصوّر في حقّه الإخلال العمديّ، وأمّا من ليس صدد الامتثال من أوّل أمره فهو خارج عن نطاق بحثها قطعاً» (2).

ص: 560


1- المصدر السابق 1: 81 - 82.
2- المصدر نفسه 1: 515.

والحاصل: أنّه حينما يحكم المولى بالوجوب ويأمر به فإنّ أمره الوجوبيّ يكون تابعاً للمصلحة الملزمة ووجوب الإتيان به، ومعه: فلايمكن للمولى أن يرخّص في الترك؛ لأنّ حكمه بالترك ليس إلّا نقضاً للغرض وتفويتاً للمصلحة، فشمول القاعدة للإخلال العمديّ ومآله إلى أمر محال، وهو الخلف، كما بيّنّا.

وقد يقال: بأنّه لا مانع من أنّ يرد الأمر على المركّب من ذات الأجزاء والشرائط، ولكن مع ذلك يحكم بصحّة ما أتى به من بقيّة الأجزاء، كما أنّ الأمر بالقصر والإتمام يكون كذلك، وكذا الأمر بالجهر والإخفات، مع كونهما واجبين، كلّ في محلّه، فإنّ الجاهل المقصّر لو أتى في مقام القصر بالتمام، أو بالعكس، تكون صلاته صحيحة، وإن أثم.

هذا. ولكنّ هذا الكلام إنّما كان تامّاً هناك، أي: في بابي الجهر والإخفات والقصر والتمام؛ لأنّ الأمر هناك كان ذا مراتب، ويكون متعدّداً، وأمّا هنا، فلا دليل على مثل هذا التعدّد.

وقد يقال: يمكن قياس المقام بباب الحجّ، فإنّهم حكموا بصحّته ولو ترك بعض أفعاله عمداً، ولا يجب إعادته مع ترك ذلك الفعل.

ولكن فيه: أنّه هناك أيضاً يحكم ببطلان الحجّ لنقص بعض أفعاله الواجبة بسبب إخلال العالم بالحكم به عمداً.

نعم، لو أحرزنا هناك ورود دليل فيحمل - بناءً على القول بالصحّة - بأنّه من قبيل الواجب في الواجب أو من قبيل تعدّد المطلوب.

ص: 561

في زيادة الجزء:

أمّا الزيادة العمديّة فهل يبطل العمل بزيادة الجزء عمداً أو سهواً، أم لا؟ يمكن أن لا تكون موجبةً للبطلان. وأمّا بالنسبة إلى النقيصة العمديّة، فمن المسلّم أنّها توجب البطلان، وإلّا، يلزم لغويّة دليل الأجزاء والشرائط، كما يلزم الخلف، وأنّ ما فرضته جزءاً أو شرطاً للواجب لا يكون كذلك.

والكلام في هذا المقام يقع في اُمور:الأوّل: أنّه هل يمكن تصوير الزيادة في الأجزاء أو الشرائط حقيقةً وأنّها ممكنة أم لا؟

الثاني: أنّ القاعدة الأوّليّة في كلّ من الزيادة والنقيصة هل تقتضي الصحّة أم البطلان؟

الثالث: هل تقتضي الأدلّة الثانويّة خلاف الأدلّة الأوّليّة أم لا؟

أمّا الأمر الأوّل:

فإنّ اتّصاف زيادة الجزء بكونها زيادة الجزء إنّما هو في مورد لم يؤخذ في جزئيّة الجزء قيد الوحدة وكونه بشرط لا؛ إذ لو أُخذ ذلك في جزئيّته، لم يصدق عليه زيادة الجزء حينئذٍ، بل يندرج في نقص الجزء، كما في جزئيّة الركوع - مثلاً - فإذا اعتبر فيه قيد الوحدة وأتى به مرّتين صدق عليه نقص الجزء؛ إذ لا فرق في عدم تحقّق الركوع الذي هو جزء للصلاة الماُمور بها بين تركه رأساً، أو الإتيان به بدون شرطه، والذي هو عدم تكرّره.

ص: 562

وأما إن أُخذ لا بشرط، وهو يجتمع مع ألف شرط، فبما أنّه لا يكون مقيّداً لا بإتيان وجود آخر معه، ولا باعتبار عدمه، فلا بأس - حينئذٍ - بإتيان أكثر من فرد واحد، ولا يصدق عليه الزيادة. هذا إذا لم يكن مأخوذاً بنحو صرف الوجود؛ لأنّ صرف الوجود ينطبق على أوّل وجود للطبيعة، فلا مجال لأن يصدق هنا الامتثال عقيب الامتثال.

نعم، لو أوجد أفراداً متعدّدة دفعة واحدة، فإنّها كلّها تكون - حينئذٍ - مصداقاً للماُمور به. أمّا لو أتى بأحد الأفراد أوّلاً، حصلت الطبيعة وصرف الوجود، فيتحقّق الامتثال، ولا يبقى مجال لصدق الامتثال ثانياً، وحينئذٍ: فيصدق على الوجود الثاني أنّه من الزيادة. وهذه الزيادة، وإن لم تكن من الزيادة التي وردت في الأخبار، إلّا أنّها بلا شكٍّ من مصاديق الزيادة عرفاً.

ولكنّ الحقّ: أنّه يصدق الزيادة الحقيقيّة؛ لأنّه قد يكون الزائد من سنخ المزيد فيه، خصوصاً إذا أتى به بقصد الجزئيّة للمركّب، وإلّا، كان شيئاً أجنبيّاً عن المركّب، لا زيادةً فيه، وكذا لو افترضنا أنّه أتى بشيءٍ منسنخ أجزاء المركّب لا بقصد الجزئيّة، كما لو تحقّق منه الركوع لغرضٍ آخر، فإنّه لا يصدق عليه أنّه زاد في صلاته حينئذٍ.

وأمّا الأمر الثاني:

فهل أنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي البطلان بزيادة الجزء عمداً أو سهواً أم لا؟

ص: 563

الصحيح: أنّ بطلان العمل لا يمكن إلّا بالإخلال به، بأن ترك ما اعتبر فيه وجوده، سواء كان من الأجزاء أم الشرائط، أو بأن أتى به مع ما اعتبر فيه عدمه، أي: ما اعتبر من الموانع والقواطع، سواء كان اعتبارها فيه شرعيّاً أم عقليّاً.

أمّا إذا أتى بالمركّب تامّ الأجزاء والشرائط وفاقداً لجميع الموانع فلا وجه لبطلانه عندئذٍ، ولذا كان هناك فرق بين الزيادة والنقيصة؛ إذ مع النقيصة العمديّة تكون صحّة العدم مؤدّية للوقوع في الخلف.

وهذا بخلاف الزيادة، فإنّه يمكن الحكم بصحّة العمل معها من دون أن يكون هناك أيّ محذورٍ.

وعليه: فالزيادة، سهويّةً كانت أم عمديّة، إذا قلنا بأنّها توجب البطلان، فلابدّ أن نقول بأنّ الجزء كان مأخوذاً بنحو البشرط لا، أو بأنّ هناك دليلاً تعبّديّاً ما يدلّ على البطلان، كما لو قلنا بأنّ المركّب مقيّد بعدم الزيادة.

والنتيجة: أنّ مقتضى الأصل هو عدم البطلان بالزيادة العمديّة، فضلاً عن السهويّة.

وقد يستدلّ لعدم البطلان بالاستصحاب، ويقرّب هذا الاستصحاب بتقريبين:

أوّلهما: استصحاب الصحّة التأهليّة للأجزاء التي أتى بها قبل أنّ يأتي بهذه الزيادة، والمقصود بالصحّة التأهليّة في المقام صلاحيّته لانضمام سائر الأجزاء بها، وحصول الامتثال بالمجموع.

ص: 564

والثاني: استصحاب الهيئة الاتّصالية التي كانت في المركّب القائم بذوات المادّة، أي بذوات الأجزاء، فكما أنّ المركّبات الخارجيّةالحقيقيّة مشتملة على مادّة، وهي أجزاء المركّب في الخارج، وعلى صورة، وهي مدار وحدته، وعليه يدور تسميته، بل تلك الصورة مبدأ أثره، فكذلك - أيضاً - في بعض المركّبات الاعتباريّة، هناك صورة ما إذا انعدمت فلا يكون للأجزاء من أثر أصلاً.

ودليل إثبات هذه الصورة للمركّب - بعد الفراغ عن إمكانها في عالم الثبوت - أدلّة القواطع؛ لأنّ معنى القاطع هو قطع تلك الهيئة الاتّصاليّة. وهذا بعينه هو الفرق بين القاطع والمانع؛ فإنّ المانع هو الذي اعتبر عدمه في المركّب، كما في لبس الذهب أو غير المأكول في الصلاة - مثلاً - وأمّا القاطع فهو ما يقطع تلك الهيئة الاتّصاليّة. ولذا لو أوجد مانعاً في حال السكونات المتخلّلة بين الصلاة ورفع حال الاشتغال، فلا يكون موجباً للبطلان البتّة، وهذا بخلاف القاطع، فإنّه أينما وُجد - كما في الاستدبار والحدث - يكون موجباً البطلان؛ وذلك لمضادته مع حالة كونه في المركّب.

وهل صدق الزيادة يحتاج إلى القصد أم لا؟

ذكر المحقّق العراقي! أنّ صدق الزيادة بحاجة إلى القصد؛ لأنّ «حقيقتها - يعني: الصلاة - عبارة عن الأفعال والأذكار الخاصّة الناشئة عن قصد الصلاتيّة، لا أنّها عبارة عن مجرّد الأفعال والأذكار والهيئات

ص: 565

الخاصّة، ولو مجرّدة عن قصد الصلاتيّة، بشهادة عدم حرمتها كذلك على الحائض إذا أتت بها على الكيفيّة الخاصّة لا بعنوان الصلاتية فعليه: يحتاج في صدق عنوان الزيادة فيها إلى قصد عنوان الصلاتية بالجزء المأتيّ به أيضاً، وإلّا، فمع فرض خلوّه عن قصد الصلاتيّة وعنوان الجزئيّة لها، لا يكون المأتيّ به حقيقةً من سنخ الصلاة، فلا يرتبط - حينئذٍ - بالصلاة حتى يصدق عليه عنوان الزيادة في الصلاة، إلّا على نحوٍ من العناية للمشاكلة الصوريّة» (1).وبناءً على هذا، فلو قصد الجزئيّة، لأتى البطلان إلى عبادته من جهة التشريع أيضاً.

ويمكن الخدشة فيه: بأنّ الصلاة وإن كانت هي مجموعة من المقولات المتباينة التي يجمعها عنوان واحد قصديّ يوجب أن يكون اتّصاف كلّ واحد من المقولات بالجزئيّة متوقّفاً على القصد، غير أنّ ذلك لا يستلزم أن يكون صدق الزيادة متوقّفاً - هو بدوره - على القصد أيضاً؛ لأنّ الزيادة من المفاهيم العرفيّة التي لا توقّف لها على القصد، كما هو ظاهر.

ومن المعلوم، أنّ الأدلّة الدالّة على مانعيّة الزيادة ملقاة إلى العرف، ومعنى الزيادة عرفاً خالٍ من اعتبار القصد فيه، بل لو كان يحتاج إلى القصد، فلم يكن معنى للزيادة السهويّة.

ص: 566


1- نهاية الأفكار 3: 436 - 437.

وبالجملة: فحيث كان معنى الزيادة عرفاً خالياً من اعتبار القصد فيه، فلابدّ في اعتباره فيه من دليل شرعيٍّ يدلّ عليه، وهو مفقود في المقام.

وعليه: فلو كان الزائد من سنخه فيصدق عليه الزيادة مطلقاً، سواء قصده أم لا، أتى به عمداً أو سهواً، بل حتى لو قصد به الخلاف، أي: أنّه ليس جزءاً.

وأمّا غير المسانخ، كحركة اليد وضمّ الطفل، فلا يصدق عليه الجزئيّة للصلاة، وإن قصد به الجزئيّة، ولو فرض أنّ الإتيان به أوجب خللاً في الصلاة، كالتكتّف المنهيّ عنه مثلاً، فليس ذلك لصدق الزيادة، بل إنّما هو لاقترانها بالمانع، وهو النهي الوارد عنه.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي) أيّد كلامه المتقدّم بجواز سجدة التلاوة في النافلة مع وضوح اشتراك الفريضة والمندوبة في الشرائط والموانع، ولذا لا يجوز تكرار الركوع فيها بقصد الجزئيّة (1).ويمكن أن يردّ عليه: بأنّ بين الصلاة المندوبة والصلاة الواجبة فروقاتٍ عدّة، منها: جواز الإتيان بالنافلة ماشياً وراكباً بخلاف الفريضة. ومنها: عدم وجوب سجدة السهو فيها، ومنها: جواز البناء على كلٍّ من الأقلّ

ص: 567


1- المصدر السابق 3: 439، قال): «وربّما يؤيّد ما ذكرنا - أيضاً - النصوص المرخّصة لقراءة العزائم في غير المكتوبة من الصلوات المندوبة، مع وضوح اشتراك الصلوات المندوبة مع المكتوبة في الشرائط والموانع، ولذا لا يجوز فيها - أيضاً - تكرار الركوع أو السجود بقصد الجزئيّة للصلاة كما لا يخفى».

والأكثر في الأوّليين، ومنها: جواز البناء على الأقلّ فيها فيما إذا شكّ بين الاثنتين أو الثلاث، ومنها: جواز ترك السورة فيها عمداً، وغير ذلك. فليكن من هذه الفروقات أيضاً اغتفار الزيادة المتحقّقة بمجرّد انضمام ما يسانخ بعض الأجزاء فيها، بلا فرق بين قصد الزيادة وعدمه.

وأمّا الأمر الثالث:

وعن حكم الزيادة، فهل هي موجبة للبطلان أم لا؟ بعدما عرفنا أنّه لا يحكم بمبطليّتها على حسب القاعدة الأوّليّة؛ لأنّ بطلان العمل لابدّ وأن يكون مستنداً إلى الإخلال به، إمّا بفقد شرطٍ أو جزءٍ منه، أو بوجود ما اعتبر عدمه فيه من الموانع والقواطع، والشكّ في بطلان العمل بعد الإتيان به مشتملاً على أمر زائد يرجع إلى الشكّ في أنّ المركّب هل كان مقيّداً بعدم ذلك أمر أم لا؟

فيرجع - حينئذٍ - إلى الشكّ في الأقلّ والأكثر في باب الأجزاء التحليليّة، فإذا كان للمركّب إطلاق ينفي قدح الزيادة في العمل وإخلالها به، لم يكن العمل باطلاً، وأمّا لو لم يكن له إطلاق، بأن لم يكن لفظيّاً، كالإجماع، أو كان كذلك، ولكن لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة، فتصل النوبة - حينئذٍ - إلى الأصل العمليّ، من استصحاب الصحّة ونحوه، وإلّا ، فالمرجع إلى البراءة عن مانعيّة الزيادة.

هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة.

وأمّا ما يقتضيه الدليل، فقد وردت روايات تدلّ على بطلان الصلاة

ص: 568

والطواف والسعي بالزيادة مطلقاً، أو خصوص العمديّة، فلابدّ من ملاحظة تلك الروايات والتعرّض للجمع فيما بينها. فنقول:

لا يخفى: أنّ روايات الصلاة على طوائف:الاُولى: ما دلّ على البطلان بالزيادة مطلقاً، سواء كانت عن عمد أم سهواً، وهي نصوص عدّة:

منها: ما ورد عن أبي بصير، قال: «قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام) من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (1).

ولكنّ الذي يظهر من هذه الرواية: أنّه لو أتى بالزيادة سهواً - أيضاً - يكون مبطلاً، مع أنّ الزيادة السهويّة ليست بمبطلة يقيناً، والزيادة العمديّة خارجة عن موضوع الكلام، فلابدّ من حملها على زيادة الأركان أو على الزيادة في عدد الركعات.

ومنها: معتبرة عليّ بن جعفر عن أخيه(علیه السلام) قال: «سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أيركع بها أو يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بغيرها. قال: يسجد ثمّ يقوم، فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع، وذلك زيادة في الفريضة» الخبر (2).

ص: 569


1- وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 6: 106، كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

ولكن فيها تعارض بين الصدر والذيل، فيحمل الصدر على التقية؛ لأنّ الظاهر كون الذيل وارداً في مقام بيان الحكم الواقعيّ.

والدليل على ذلك ما ورد عن زرارة عن أحدهما' قال: «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم؛ فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» (1).

الطائفة الثانية: ما جاء مختصّاً بحال السهو، ولكنّه كان مطلقاً من ناحية الأركان، كخبر زرارة وبكير بن أعين: «إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها، واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان استيقن يقيناً» (2).الطائفة الثالثة: ما دلّ على الصحّة وعدم البطلان مطلقاً في صورة السهو، سواء كان بالزيادة أم نقيصة، وسواء كان في الأركان أم في غيرها، مثل مرسلة سفيان بن السمط عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان» (3).

والطائفة الرابعة: ما دلّ على البطلان في خصوص الأركان مطلقاً، زيادة كان أو نقيصة، وعدم البطلان كذلك في غيره، كحديث «لا تعاد» المتقدّم.

ص: 570


1- وسائل الشيعة 6: 105، كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
2- راجع: الكافي 3: 354، الحديث 2؛ تهذيب الأحكام 2: 194، الحديث 763.
3- وسائل الشيعة 8: 251، كتاب الصلاة، الباب 33 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

وتقع المعارضة بين حديث (لا تعاد) وبين خبر أبي بصير الذي مرّ في الطائفة الأُولى، فحديث (لا تعاد) يعارضها في غير الأركان في صورة السهو في عقد المستثنى منه بالظهور، بل بنحو النصوصيّة، ويكون مقدّماً عليها، وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه.

فإن قيل: حديث (لا تعاد) ليس شاملاً للزيادة؛ لأنّه لا يمكن تصوّر الزيادة في الطهور والوقت والقبلة، فلا تعارض هنا أصلاً.

قلنا: أوّلاً: يكفي أن يكون التعارض بين إحدى فقرتي الرواية وبين المستثنى منه، ولو لم يكن تعارض في المستثنى.

وثانياً: لو فرض عدم إمكان تصوّر الزيادة في بعض الاُمور، ولكن يكفي لإثبات عموم الحكم إمكان تصوّر مصداق لها في بعض التقادير، ولو لم يكن تصوّره ممكناً في بعض آخر.

هذا بالنسبة إلى الزيادة السهويّة.

وأمّا الزيادة العمديّة، فحيث إنّ حديث (لا تعاد) لا يشملها فهي باقية تحت عموم الحكم العامّ، وهو وجوب الإعادة وبطلان الصلاة، إذ بعد كون النسبة بين الرواية الاُولى وبين الحديث المذكور عموم من وجه، يكون حديث (لا تعاد) حاكماً عليها، فلا معارضة بينهما؛ ضرورة تقدّم الحاكم على المحكوم.وأمّا الرواية الثانية، التي كانت مختصّة بحال السهو ومطلقة من حيث الأركان، فهي - أيضاً - بينها وبين حديث (لا تعاد) عموم من وجه؛ لأنّ

ص: 571

الحديث مختصّ في مورد المعارضة بغير الأركان، فيكون مقدّماً على الرواية من باب الحكومة.

نعم، يبقى الكلام في قوله(علیه السلام): «تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان»، فبما أنّها عامّة من حيث الأركان أيضاً، فتكون معارضة لحديث (لا تعاد) الذي يثبت به الصحّة بالنسبة إلى غير الركن، فيكون مقدّماً عليها أيضاً، وبالتالي: فيحكم بالصحّة ولزوم الإتيان بالسجدة في غير الركن، وأمّا في الركن فيكون باطلاً.

مسألة: في مقتضى القواعد الأوّليّة عند التعذّر:

إذا تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع بواسطة الاضطرار أو شيءٍ من الأعذار الأُخَر، بمعنى: أنّه اضطرّ إلى ترك جزء أو شرط في الماُمور به، أو اضطرّ إلى وجود مانع أو أُكره على ذلك، بعدما كان لوجود الجزء أو الشرط أو عدم المانع دخل في الماُمور به، فهل يسقط الوجوب - بمقتضى القواعد الأوّليّة - عن بقيّة الأجزاء؛ لعدم تمكّنه من الإتيان بجميع أجزاء المركّب أم لا، بل الذي يسقط عندئذٍ هو وجوب الجزء أو الشرط أو المانع دون بقيّة الأجزاء؟

فنقول: إن كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق بحيث يجب الإتيان به في جميع الحالات، فلا كلام في سقوط المركّب حينئذٍ؛ لوضوح انتفاء الكلّ والمشروط بانتفاء الجزء أو الشرط، فلا يفيد الإتيان بالباقي إلّا إذا

ص: 572

دلّ دليل خارجيّ على وجوب الإتيان بالباقي، كقاعدة الميسور، كما إذا كان لدليل المركّب إطلاق فيقتضي مطلوبيّته مطلقاً، ولو تعذّر بعضه من دون حاجة إلى دليل ثانويّ آخر، كقاعدة الميسور، فإنّ إطلاق دليل المركّب يقتضي وجوب بقيّة الأجزاء، ولو تعذّر الإتيان ببعضها.وبعبارة أُخرى: فإنّه لو كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق يشمل جميع الحالات، كان مقتضى الإطلاق هو ركنيّتهما؛ فإنّ عدم الإمكان بهما يوجب سقوط الأمر عن بقيّة الأجزاء، حيث إنّ انتفاء الكلّ يكون بسبب انتفاء جزئه أو شرطه، إلّا إذا وُجد دليل ثانويّ، كقاعدة الميسور، ودلّ على وجوب الإتيان بالباقي.

وأمّا لو كان لدليل الواجب والماُمور به إطلاق، ولم يكن لدليل الجزء والشرط إطلاق، فإنّ مقتضى هذا الإطلاق هو وجوب الإتيان بما عدا المتعذّر من سائر الأجزاء، فإنّ معنى إطلاق دليل المركّب أنّه مطلوب على الإطلاق، وأنّه يجب الإتيان به وإن تعذّر بعض أجزائه أو شروطه، ولا يحتاج - حينئذٍ - في إثبات الوجوب بالنسبة إلى بقيّة الأجزاء إلى أيّ دليل ثانويّ، بل يثبت وجوب الباقي بنفس دليل المركّب.

وأمّا لو كان دليل المركّب أو الشرط لبّيّاً، أو كان لفظيّاً، ولكنّه كان مجملاً، ولم يعلم من دليليهما أنّ وجوبهما ثابت على نحو الإطلاق، أي: حتى في حال العجز، أو أنّه يكون جزءاً وشرطاً فقط في حال التمكّن.

فبناءً على الأوّل: يسقط الأمر عن البقيّة؛ لأنّه قد عجز عن الإتيان

ص: 573

بالمركّب من الجزء أو الشرط، وكان وجوبهما ثابتاً على الإطلاق، فهما من أركان المركّب، والمركّب ينتفي بانتفاء شيءٍ من أركانه.

وأمّا بناءً على الثاني، وهو أن تكون الجزئيّة أو الشرطيّة مقيّدة بحال التمكّن، فيبقى الأمر عند العجز، ويجب معه الإتيان ببقيّة الأجزاء.

وأمّا إذا لم يكن لشيء من دليلي الماُمور به والأجزاء إطلاق؛ لفرض إجمالهما، أو إهمالهما، بأن لم يكن مجال لاستفادة الإطلاق من خطابيهما، وكان كلّ منهما قاصراً عن ذلك في مقام الإثبات، إمّا لكونه مجملاً من ناحية اشتراك اللّفظ، أو لكونه مهملاً، أي: أنّ المولى لم يكن في مقام البيان، فحيث لم يكن شيء منهما مطلقاً، ليثبت دخل الجزء أو الشرط مطلقاً، أو مبيّناً، ليثبت أنّهما دخيلان في حال التمكّن، فيجريالشكّ - حينئذٍ - في كونهما دخيلين على الإطلاق، أم أنّهما دخيلان فقط في حالة التمكّن.

وهو - أعني: هذا الشكّ - مجرى للبراءة العقليّة؛ لأنّ العقاب - حينئذٍ، أي: لو تركنا بقيّة الأجزاء - يكون عقاباً بلا بيان.

وخلاصة البحث: أنّه مع الشكّ في كون الجزء أو الشرط دخيلاً في حالتي التمكّن والعجز معاً، أو في خصوص حال التمكّن، وانعدام الدليل الاجتهاديّ المعيّن لأحدهما، فلا محالة: تجري البراءة العقليّة عن وجوب الباقي إذا تعذّر بعض أجزاء الواجب أو شرائطه؛ لأنّ العقاب على ترك الباقي - كما أشرنا - عقاب بلا بيان.

ص: 574

هذا كلّه إذا كان لكلّ واحدٍ من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة أمر على حدة.

وأمّا لو كان هناك أمر واحد فقط، وقد ورد هذا الأمر على الماُمور به، بجميع قيوده وشروطه وموانعه، فلا إشكال - حينئذٍ - في سقوط المقيّد عند تعذّر القيد، ولا يجب الإتيان بالباقي، بل يكون وجوب الباقي بحاجةٍ إلى أمر جديد.

وقد يقال: إنّ البراءة العقليّة وإن كانت جارية لإثبات عدم وجوب الباقي ورافعة للعقاب على تركه، إلّا أنّ حديث الرفع يجري، وتجري البراءة الشرعيّة لنفي الجزئيّة والشرطيّة في حال التعذّر، والبناء على وجوب الباقي بها، حيث إنّ حديث الرفع يضيّق دائرة الجزئيّة أو الشرطيّة ويخصّصها بحال التمكّن فحينئذٍ: لا يكون للجزء أو الشرط المتعذّر دخل في الواجب حتى يقيّد الباقي به ويلتزم بسقوطه، بل يكون الباقي مطلقاً بالنسبة إلى المتعذّر، فيجب الإتيان به، فيكون وزانه - والحال هذه - وزان النسيان، فكما يثبت هناك بحديث الرفع وجوب ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ، فكذلك يثبت به هنا وجوب ما عدا المتعذّر من الجزء أو الشرط.

وبكلمةٍ: فإنّ الشكّ في بقاء الباقي يكون ناشئاً عن الشكّ في اعتبار المتعذّر على الإطلاق، أي: حتى في حال التعذّر، وحديث الرفع يرفعاعتباره كذلك، ومقتضاه بقاء وجوب الباقي وعدم تقييده بالمتعذّر.

ص: 575

ص: 576

قاعدة الميسور

اشارة

وقد يستدلّ لوجوب ما عدا الجزء أو الشرط المتعذّر بالاستصحاب، وسيأتي الكلام فيه في محلّه. وبقاعدة الميسور، والكلام الآن فيها.

والكلام في هذه القاعدة:

أوّلاً: في مدركها:

قد يستدلّ لها بقوله تعالى: ﴿وَ للهِ عَلَى ال-نَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ (1)، لو فرض أنّ للآية إطلاقاً تشمل به - في محلّ الكلام - كلتا الحالتين، أعني: التمكّن وعدم التمكّن من الجزء (كرمي الجمرة مثلاً)، بحيث لو لم يتمكّن منه سقط وجوبه بسبب عدم القدرة وكان عليه أن يأتي بالباقي تمسّكاً بإطلاق دليل وجوب الحج.

ولكنّ التمسّك بإطلاق دليل المركّب يتوقّف على اُمورٍ ثلاثة:

أوّلها: عدم ثبوت إطلاق لدليل ذلك الجزء أو الشرط المتعذّر، وإلّا،

ص: 577


1- آل عمران: الآية 97.

فلا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق دليل المركّب، وذلك بعد أن كان إطلاق دليل الجزء حاكماً على إطلاق دليل المركّب.

والثاني: أن تكون مقدّمات الإطلاق في دليل المركّب موجودة، كأن يكون المولى في مقام البيان - مثلاً -.والثالث: أن لا يكون اللّفظ الموضوع لذلك المركّب موضوعاً للصحيح على فرض كونه من العبادات، فإنّه لو كان كذلك، لم يكن من الممكن التمسّك بإطلاقه في رفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة أو شرطيّته كذلك.

وقد يستدلّ للقاعدة - أيضاً - بالروايات:

ومنها: النبويّ الشريف، وهو أنّه خطب رسول اﷲ- فقال: «إنّ اﷲ كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة، أو سراقة بن مالك، فقال: في كلّ عامٍ يا رسول اﷲ؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال-: ويحك، وما يؤمنك أن أقول نعم، واﷲ لو قلت نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (1).

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «الميسور لا يسقط بالمعسور» (2).

ص: 578


1- عوالي اللآلي 4: 58.
2- المصدر نفسه.

ومنها: ما روي عنه(علیه السلام) - أيضاً -: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (1).

ويظهر من كلام الشيخ! دلالتها على المدعى، وقد بنى ذلك على ظهور لفظ «من» في التبعيض (2).

وقد أوضحه المحقّق الأصفهانيّ! بقوله:«لا يخفى عليك أنّ كلمة (من) إمّا تبعيضيّة أو بمعنى الباء، ولفظ (بشيء) إمّا أنّ يراد به المركّب أو العامّ أو الكلّيّ، وكلمة (ما) في قوله-: (ما استطعتم) إمّا أن يراد منها الموصولة أو المصدريّة الزمانيّة» (3).

ومن الواضح: أنّها إنّما تفيد المدعى لو اُريد من الشيء المركّب، وكانت (من) تبعيضيّة، فإنّها تكون ظاهرة في أنّه إذا تعلّق الأمر بمركّب ذي أجزاء فأتوا بعضه الذي تستطيعونه.

وأمّا لو اُريد من (من) معنى الباء، فتكون - حينئذٍ - ظاهرةً في إرادة أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فأتوا به مدّة استطاعتكم، ومن الواضح أنّه - على هذا الاحتمال - يكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه. كما أنّه إذا كان المراد من (من) معنى البيان، كانت ظاهرةً في أنّه إذا تعلّق الأمر بكلّيٍّ فأتوا من أفراده ما استطعتم، وذلك - أيضاً - أجنبيّ عن المدّعى.

ص: 579


1- المصدر نفسه.
2- فرائد الاُصول 2: 390 - 392، قال): «والحاصل: أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة».
3- نهاية الدراية 2: 702.

وقد أفاد! في تقريب كلام الشيخ: «أنّه لا معنى لكون (من) بيانيّةً؛ لأنّ مدخولها الضمير، ولا يمكن أن يكون بياناً ﻟ (شيء)، كيف؟ وهو مبهم».

وأمّا كونها بمعنى الباء، فالذي يوهمه إنّما هو عدم تعدّي لفظ (الإتيان) بنفسه، وإنّما هو يتعدّى بالباء؛ إذ يقال: أتيت به، بمعنى: أوجدته، ولكنّ الأمر ليس كذلك، بل الإتيان يتعدّى بنفسه تارةً، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ (1)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأت--ُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (2)، ويتعدّى بالباء أُخرى، كما في قوله تعالى:﴿يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّ-نَةٍ﴾ (3)، وعليه: فلا يتعيّن أن تكون في الرواية بمعنى الباء.

وأمّا لفظ (الشيء) فلا يراد به العامّ الاستغراقيّ؛ لأنّه يعبّر به عن الواحد ولا يعبّر عن المتعدّد، وإنّما يعبّر عنه ﺑ (أشياء)، فلو أراد العامّ لناسب أنّ يعبّر ﺑ (أشياء).

كما أنّ إرادة الطبيعة والكلّيّ في (منه) ممكنة في حدّ نفسه، إلّا أنّ إرادة الكلّيّ في المقام ممتنعة، إلّا أنّه لا يناسب التبعيض، إذ الفرد مصداق للكلّيّ لا بعضه، فيتعيّن أن يراد به المركّب ذو الأجزاء، فتكون دالّةً على المدّعى.

ص: 580


1- النساء: الآية 15.
2- الأحزاب: الآية 18.
3- النساء: الآية 19.

وقد استشكل في الاستدلال بهذه الرواية صاحب الكفاية!، وتبعه عليه جماعة، منهم اُستاذنا المحقّق).

قال في الكفاية: «إلّا أنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح؛ لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد» (1).

وحاصله: أنّه إنّما يمكن أنّ يستدلّ بالرواية لو كان المراد من الشيء هو الكلّ والمركّب ذو الأجزاء، وأمّا لو كان المراد منه الكلّيّ والطبيعة المنطبقة على الأفراد والمصاديق المتعدّدة من دون ملاحظة الخصوصيّات المشخّصة لها فيكون المعنى هكذا: إذا أمرتكم بطبيعة كلّيّة ذات أفراد ومصاديق متعدّدة فأتوا بعض تلك الأفراد والمصاديق التي تحت استطاعتكم وقدرتكم، فيكون الحديث الشريف أجنبيّاً عمّا نحن بصدده؛ لأنّ سؤال ذلك الصحابيّ كان عن لزوم تكرار الطبيعة وإيجادها في كلّ عام أو الاكتفاء بصرف الوجود منها، والمتعيّن هو هذا الاحتمال، وإلّا، يلزم عدم انطباقه على المورد، وهو في غاية الركاكة.إن قلت: يمكن أن يكون المراد من الشيء كلا الأمرين، أي: الكلّ والكلّيّ، ومعناه - حينئذٍ - هكذا: إذا أمرتكم بشيء ذي أجزاء أو ذي أفراد فأتوا من تلك الأجزاء أو الأفراد بقدر استطاعتكم.

قلت: قد أجاب عن هذا الإشكال المحقّق النائيني) بقوله:

ص: 581


1- كفاية الاُصول: 370.

«فاسد؛ إذ لا جامع بينهما؛ فإنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء، ولا يصحّ استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وإن صحّ استعمال (الشيء) في الأعمّ في الكلّ والكلّيّ» (1).

وقد يقال أيضاً: بأنّ تصوّر الجامع بلحاظ تبعّض حصص الطبيعيّ في أفراده، فإذا اُريد من الشيء الأعمّ من الكلّ والكلّيّ، فلا بأس بإرادة التبعيض من الكلّيّ بلحاظ حصصه الموجود في ضمن أفراده، والتبعيض من الكلّ من الأجزاء المندرجة في ضمنه؛ وتطبيق العامّ على مورد خاصّ - أيضاً - لا يوجب تخصيص العامّ به.

وقد ذهب الاُستاذ المحقّق! إلى إمكان تصوير الجامع ولحاظه، إذ الشيء من المفاهيم العامّة، وهو مصدر مبنيّ للمفعول، وبمعنى المشيء وجوده، ويكون مساوقاً للوجود، ولمفهوم الموجود في الممكنات.

ثمّ قال): «فبناءً على هذا: المركّب من الأجزاء الذي شُيِّئ وجوده شيء، وكذلك الكلّيّ والطبيعة التي شُيِّئ وجودها شيء، فوجود الجامع بين الكلّ والكلّيّ من أوضح الواضحات» (2).

ولكنّك خبير: بأنّ هذا هو عين ما ذكره المحقّق النائيني! من أنّ استعمال الشيء في الأعمّ من المركّب والكلّيّ ممكن. وإنّما كان إشكال

ص: 582


1- فوائد الاُصول 4: 254 - 255.
2- القواعد الفقهيّة 4: 138.

المحقّق النائيني في استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وهو استعمال في المتباينين.وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق!فهو إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ (من) ليس له معنى مستقلّ، بل هو بمعنى الربط، ولذا قال الاُستاذ نفسه:

«فكلمة (من) استعملت في الربط الكذائيّ بين الإتيان والشيء، وإذا كان المراد من (الشيء) باعتبار كونه مصداقاً للجامع بين الكلّ والكلّيّ هو الكلّ، فيكون مصداق تلك النسبة هي الربط التبعيضيّة في الأجزاء، وإذا كان المراد بذلك الاعتبار هو الكلّيّ، فيكون المصداق هو الربط المذكور في المصاديق والأفراد، وإن كان المراد هو الجامع، فيشمل كلا الأمرين كما فيما نحن فيه» (1).

ولكنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ (من) بما أنّها من الحروف إنّما يكون بمعنى الربط. وأمّا إذا قلنا بأنّ الحروف لها معنى، فتكون بمعنى البعض، واستعمال (من) وإرادة البعض من الأجزاء، والبعض من الأفراد، يكون من الاستعمال في معنيين مع تباين اللّحاظين، أعني: لحاظ الأفراد، ولحاظ الأجزاء، وهو غير ممكن.

وقال اُستاذنا المحقّق): «هذا مع أنّه لو قلنا بمقالة صاحب الكفاية! في المعاني الحرفيّة - من أنّ الموضوع له في الحروف والأسماء واحد

ص: 583


1- المصدر نفسه 4: 138 - 139.

كلّ لمرادفه فيكون في المقام كلمة (من) بمعنى البعض، الذي هو مفهوم اسميّ أيضاً - لا يرد شيء على ما استظهرنا من الحديث من أنّ مفاده اعتبار هذه القاعدة. وذلك من جهة أنّ لفظ (البعض) - أيضاً - مفهومه مشترك بين بعض الأجزاء، وبعض الأفراد، فلو كانت ألفاظ الحديث هكذا: إذا أمرتكم بمركّب ذي أجزاء، أو بطبيعةٍ ذات أفراد، فأتوا بعضهما الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم، والمفروض أنّ ذلك المركّب المأمور به ليس تمام أجزائه تحت قدرة المكلّف واستطاعته ولا تمامها خارج عن تحت قدرته، بل يقدر على إتيان البعض دون البعض الآخر، وكذلك في الطبيعة المأمور بها قادر على إتيان بعض الأفراد دون بعضها، فهل يشكّ أحد في أنّ المراد بهإتيان الأجزاء المقدورة من ذلك المركّب والأفراد المقدورة من تلك الطبيعة؟» (1).

ولكنّ ما ذكره - أيضاً - غير تامّ؛ لأنّه وإن فرض أنّ لفظ (البعض) كان مشتركاً بين الأجزاء والأفراد، غير أنّ هذا لا يرفع غائلة المحذور؛ لأنّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان لفظ (الشيء) بمعنى الجامع ولفظ (من) للتبعيض، فكيف تستعمل كلمة (من) باستعمالٍ واحد في شيئين متباينين ومتنافيين من حيث اللّحاظ؟ فالفهم العرفيّ يقتضي أنّ المراد من (الشيء) إنّما هو الكلّ خاصّةً، بقرينة لفظ (من) الظاهر في التبعيض.

ص: 584


1- المصدر نفسه 4: 139 - 140.

وأمّا قوله(علیه السلام): «الميسور لا يسقط بالمعسور»، فدلالته على المطلوب واضحة، وهو أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، أي: أنّ الميسور من كلّ ما أمر به الشارع لا يسقط بمعسوره، فإذا فرض أن كان بعض أجزاء ذلك الشيء معسوراً، فحينئذٍ: يسقط التكليف عنه لأجل تعسّره أو تعذّره، ولكنّ هذا لا يستوجب سقوط الباقي الميسور من ذلك العمل، وبما أنّ الرواية مطلقة، فهي تشمل المستحبّات أيضاً، فإذا كان هناك عمل مستحبّ بعض أجزائه غير ميسورة، كان مطلوباً - أيضاً - الإتيان بالباقي ما دام ميسوراً.

وقد ذكر الاُستاذ المحقّق) أنّه «يمكن أن يكون المراد من قوله(علیه السلام): (الميسور لا يسقط بالمعسور) أعمّ من الأجزاء والأفراد، فباعتبار كونه الميسور من المركّب يكون الأجزاء غير المتعذّرة أو غير المتعسّرة ميسورة، وباعتبار إضافته إلى الطبيعة الكلّيّة، يكون ميسورها هو الأفراد غير المتعذّرة، فيشمل كلا الأمرين، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما» (1).ولكنّه غير تامّ؛ بل الحقّ ما ذكره المحقّق النائيني! بقوله: «فظهوره فيما نحن فيه ممّا لا يكاد يخفى؛ إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الأفراد، بل الظاهر أنّ ميسور كلّ شيء لا يسقط بمعسوره» (2).

ص: 585


1- المصدر نفسه 4: 140.
2- فوائد الاُصول 4: 255.

وذلك لأنّه لو قلنا بأنّ المراد منه هو - كما ذكره الاُستاذ المحقّق! - الأعمّ من الأجزاء والأفراد، لاستلزم أن يكون لفظ واحد مستعملاً باستعمال واحد في معنيين متباينين، وهو محال.

ثمّ إنّه لو بنينا على أنّه شامل للوجوب والاستحباب، فلا يرد عليه ما قد يقال: من أنّ المنفيّ إن كان هو اللّزوم فلا تشمل الرواية المستحبّات؛ لأنّ الأجزاء الميسورة من المستحبّات لا لزوم فيها، وإن كان المنفيّ هو مطلق الرجحان والمطلوبيّة، فحينئذٍ: لا يثبت بها سوى أنّ الإتيان بالميسور، حتى في الواجبات يكون راجحاً ومطلوباً فحسب، ولا مجال للالتزام به، كما لا يخفى.

وجه عدم الورود: أنّه يمكن أن يقال: بأنّ المنفي هو سقوط موضوعيّة الميسور لما كان له من الحكم أوّلاً، أعني: قبل حدوث التعذّر، وظاهر: أنّه لا فرق في هذا بين أن يكون الحكم وجوبياً أو استحبابيّاً.

ولكن لا يخفى: بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ الموضوعيّة للحكم الشرعيّ بما أنّها من الأحكام الوضعيّة فتكون قابلة للجعل التشريعيّ.

وقد يستشكل في المقام: بأنّ هذه الرواية أجنبيّة عن حكم المركّب الذي يتعذّر بعض أجزائه؛ لأنّ الحكم الثابت للأجزاء إنّما هو الحكم الضمنيّ، وهو قد ارتفع قطعاً، والوجوب يرتفع عن الكلّ بعد تعذّر بعض أجزائه، ومعه: فلا يبقى - حينئذٍ - للباقي وجوب ضمنيّ قهراً، فإن

ص: 586

فرضنا بأنّ هناك وجوباً، فإنّما يكون وجوباً استقلاليّاً نفسيّاًجديداً، وهو - كما لا يخفى - لا يعدّ بقاءً للأمر الأوّل بل إنّما يكون حكماً ووجوباً جديداً.

ولكن قد أجاب عنه اُستاذنا المحقّق!بأنّه «على تقدير وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء، فليس هذا وجوباً آخر، بل هو عين وجوب السابق. وأمّا كونه ضمنيّاً في السابق، واستقلاليّاً بعد حدوث تعذّر بعض الأجزاء، لا يوجب تغيّراً في وجوب الباقي. والضمنيّة والاستقلاليّة مفهومان ينتزعان عن وجوب ما عدا الباقي وعدم وجوبه» (1).

وبعبارة أُخرى: فهما ليسا بمتباينين، والوجوب والأمر السابق حينما ورد على الأجزاء يتقطع إلى قطع، وكلّ قطعة منه تكون واردة على جزءٍ من الأجزاء، فالوجوب السابق على كلّ جزء يكون ضمنيّاً واستقلاليّاً، أمّا ضمنيّته، فلأنّه في ضمن الكلّ، وأمّا استقلاليّته، فلأنّ القطعة من هذا الأمر الذي ورد على هذا الجزء ليست هي القطعة الواردة على بقيّة الأجزاء، بل كلّ جزء له قطعة خاصّة، وهذا نظير خيمة تظلّل رؤوس جماعة، فإنّها في عين أنّها خيمة واحدة، إلّا أنّ كلّ قطعة منها تظلّل رأس شخص، ليس القطعة نفسها التي تظلّل رؤوس الآخرين.

وأمّا الأمر الاستقلاليّ، فوجوبه عين الأمر الأوّل، وهو نفس القطعة

ص: 587


1- القواعد الفقهيّة 4: 142.

التي كانت مجموعها في ضمن الأمر الأوّل، وقد أصبح هذا استقلاليّاً بعد تعذّر الجزء، وليس بأمر جديد.

وهل تدلّ الرواية على صدق الميسور على الباقي من الأجزاء بعد تعذّر الجزء، أم أنّها مختصّة بالميسور من العامّ بعد عدم التمكّن من بعض أفراده؟

قال صاحب الكفاية! «ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها؛لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العامّ بالمعسور منها» (1).

وأمّا اُستاذنا المحقّق! فرأى أنّ «الإنصاف أنّ لفظ (الميسور) وإن كان مطلقاً من هذه الجهة؛ لأنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه الميسور، ولكنّ إرادة الميسور من الأجزاء منه بعيد جدّاً؛ لأنّ الميسور من الأجزاء يصدق على جزء واحد من المركّب الذي يكون أجزاؤه عشرين - مثلاً - وتعذّر تسعة عشر منها، وبقي واحد منها تحت التمكن، فيقال: وجوب هذا الواحد لا يسقط بتعذّر باقي الأجزاء، فهذا في غاية البعد من ظاهر هذا الكلام» (2).

ولكنّ الحقّ: أنّنا إذا قلنا بأنّ القاعدة تشمل الأجزاء، فلا فرق بين أن

ص: 588


1- كفاية الاُصول: ص 371.
2- القواعد الفقهيّة 4: 145.

يكون الميسور قليلاً أو كثيراً، فإنّه ولو لم يكن ميسوراً بالفعل، ولكن يكفي في صدقه عليه أن يتوفّر فيه المقتضي التقديريّ.

وأمّا قوله(علیه السلام): «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» فدلالته على القاعدة واضحة، إذ هو بمعنى: أنّ الشيء الذي لا يمكن الإتيان بجميعه، فلا يجوز أن يترك جميعه، بل يجب الإتيان بالمقدار الممكن منه، بعدما أمكنه الإتيان بالباقي بعد تعذّر البعض حيث كانت تحت قدرته.

وهل المراد من لفظ (ما) فيها هو الكلّ أو الكلّيّ أو كلاهما؟

قد يقال: بأنّ المراد به خصوص الكلّيّ باعتبار أفراده المتعدّدة، ويكون المعنى: أنّ من لا يمكنه تدارك جميع أفراده التي أُمر بها، فلا يجوز له أن يترك الجميع، بل لابدّ له من الإتيان بالمقدار المقدور له.

ولكنّه غير تامّ؛ بل لها إطلاق تشمل به الكلّ والكلّيّ معاً.

وهل الحكم فيها يشمل الجاهل على الإطلاق أم ثمّة تفصيل؟لا يخفى: أنّ الجهل تارةً يكون جهلاً بالحكم وأُخرى هو جهل بالموضوع. والجهل بالحكم: تارةً يكون عن قصور، وأُخرى عن تقصير. وكلّ منهما: تارةً يكون مسبوقاً بالعلم ثمّ نسي وجهل الحكم، وأُخرى يُفرض من أوّل الأمر جاهلاً بالحكم. ثمّ الجهل: تارةً يكون بسيطاً، وأُخرى يكون مركّباً.

ومعنى الجهل البسيط ظاهر، وهو أن يكون جاهلاً ولكنّه ملتفت إلى جهله، والمركّب خلافه.

ص: 589

قد يقال: إنّ الجاهل بالجهل البسيط بحكم العامد، بلا فرق بين أن يكون جهله جهلاً بالحكم أو بالموضوع، لأنّه نوع عمد، فكيف يتصوّر أن يكون الإنسان بصدد امتثال أمر المولى وهو شاكّ في حصول أجزاء الماُمور به مع كونه لا يعتني بشكّه، ولا يأتي بما يحتمل كونه من الأجزاء والشرائط، بل يُشكل تمشّي قصد القربة منه في كثيرٍ من الأحيان، فلو قلنا بشمول القاعدة له، فمعناه: أنّه يجوز ترك الفحص عن تحصيل العلم بالأجزاء والشرائط للماُمور به، من دون أن يتأتّى منه قصد القربة - حينئذٍ - وهو واضح البطلان.

وأمّا إذا كان جاهلاً بالجهل المركّب، بأن اعتقد عدم الجزئيّة، وكان في الواقع جزءاً، فإنّه يتمشّى منه قصد القربة، فلا يبعد أن يشمله إطلاق الدليل؛ لعدم المانع، وعدم وجود ما يصرفه - أعني: الدليل - عن هذا المورد.

وفي المسألة أقوال:

فالمحكيّ عن المشهور عدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقاً، سواء كان عن قصور أم عن تقصير، كان مسبوقاً بالعلم أم لم يكن، والمراد بكونه مسبوقاً بالعلم أن يكون المنشأ في جهله هو النسيان، وفي قباله أن لا يكون مسبوقاً بالعلم، وذلك بأن يكون من أوّل الأمر جاهلاً، أو فقل: بأن يكون جهله بدويّاً.وأمّا الشيخ الأعظم الأنصاريّ) فقد فرّق بين أن يكون الجهل جهلاً

ص: 590

عن قصور، فقال بالشمول، أو عن تقصير فقال بعدم الشمول (1).

ويمكن الاستدلال لما عليه المشهور من أنّ الصحيحة لا تشمل الجاهل بالحكم مطلقاً، سواء كان قصور أو تقصير - والفرق بينهما، كما هو معلوم، أنّ الجهل عن قصور لا يستحقّ عليه العقاب، دون الجهل عن تقصير، فإنّه يستحقّ عليه العقاب - وسواء كان الجهل بالحكم مسبوقاً بالعلم به أم لم يكن؛ بما حاصله:

أنّ ظاهر الحديث هو نفي الإعادة في مورد لولا هذا الحديث لكان المكلّف ماُموراً بالإعادة، فيكون عقد المستثنى منه في هذا الحديث مفاده: أنّ عدم الإعادة يكون مختصّاً بمورد السهو والنسيان والاضطرار للموضوع، حيث إنّ الأمر يسقط بواسطة هذه الاُمور، والعامد بإخلاله بالحكم، لجهله به، قصوراً أو تقصيراً أو نسياناً، فالأمر الأوّل لم يسقط عنه؛ إذ بعد القول باشتراك التكاليف بين العالم الجاهل، كما عليه الإجماع، فالأمر الأوّل باقٍ بحاله، فلا معنى لمجيء خطاب جديد يأتي من المولى بقوله: (أعد)، بل المحرّك له نحو الإتيان بالماُمور به هو الأمر الباقي الى زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه، فإذا كان معنى الحديث - كما ذكرنا - هو نفي الإعادة عن مورد لولا هذا الحديث لكان مخاطباً بالإعادة، فلا يشمل مورد العمد إلى الإخلال مطلقاً، سواء كان عالماً به،

ص: 591


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 385.

أو جاهلاً قصوراً أو تقصيراً، أو ناسياً له؛ لعدم الأمر بالإعادة في شيءٍ من هذه الموارد لولا هذا الحديث، بل كان وجوب الإتيان بالتامّ بعد رفع الجهل بنفس الأمر الأوّل؛ لبقائه وعدم سقوطه بواسطة الجهل، ولو كان عن قصور.

ولذا قال المحقّق النائيني! في كتاب الصلاة بعدم شمول هذا الحديث للعامد الجاهل مطلقاً (1).ولكن من الواضح: أنّ مفهوم الإعادة هو عبارة عن إيجاد الشيء بعد إيجاده ثانياً أو ثالثاً، في مقابل إيجادة أوّلاً من غير سبق إيجادٍ له، غاية ما هنالك: أنّه يراد من الإعادة إيجاد الثاني مثل الأوّل بالدقّة، وأمّا إيجاد نفسه وعين الوجود الأوّل بالدقّة، فهو محال، كما قُ-رِّر في المعقول؛ لأنّه من إعادة المعدوم بعينه، أي: بأن يكون المأتيّ به الثاني على طبق الأوّل تامّ الأجزاء والشرائط.

وقد يكون المراد هو الإعادة العرفيّة التي قد يكون الوجود الأوّل فيها مشتملاً على زيادات، وقد يكون العكس. وقد يكون المراد بها هو الإعادة الادّعائيّة، بحيث كلّ ما يترتّب على الأوّل من الآثار يترتّب

ص: 592


1- انظر: كتاب الصلاة 2: 190، قال): «إلّا ما ربّما يتوهّم من شمول حديث (لا تعاد) للجاهل، وسيأتي فساده». وقال في 2: 194، من الكتاب نفسه: «أمّا أوّلاً فلما عرفت من أنّ شموله للعامد والجاهل لا يمكن إلّا بذلك المعنى الذي يكون الحديث معارضاً لكثير من الأدلّة، وقد عرفت أنّ صدر الحديث يأبى عن ذلك».

على الثاني أيضاً، إذا كان الإخلال من جهة الجهل بالحكم ونسيانه، فبمقتضى الأدلّة الأوّليّة، لو لم يكن هذا الحديث، وبعد الالتفات إلى أنّ أخلّ بإتيانها كما هي، بترك جزء أو شرط أو ارتكاب مانعٍ، يَثبت لزوم إعادة الصلاة والإتيان بها تامّة الأجزاء والشرائط مجدّداً، وتصدق الإعادة على هذا الوجود التامّ لفرض الإتيان به بعد الوجود الأوّل الذي كان قد أتى به.

ولكنّ هذا الحديث ينفي إعادته ثانياً تامّاً، ويقول بكفاية ذلك الناقص الذي كان قد أتى به أوّلاً.

وعليه: فلا قصور في شمول الحديث لموارد الجهل والنسيان للحكم، من جهة صدق الإعادة على الإتيان به ثانياً تامّ الأجزاء والشرائط.

وخلاصة البحث: أنّه لولا هذا الحديث الذي مفاده ينفي وجوب الإعادة والحكم بكفاية هذا الناقص المأتيّ به - لو لم يكن الجزء المنسيّ أو المجهول من الأركان - لكان لابدّ من الإعادة.

والشاهد على صحّة ما ذكرناه ورود لفظ (يعيد) في جملةٍ من الأخبار مع عدم سقوط الأمر الأوّل:منها: ما ورد فيمن أجهر في موضع الإخفات متعمّداً، أو بالعكس، أنّه «نقض صلاته وعليه الإعادة» (1).

ص: 593


1- انظر - مثلاً -: من لا يحضره الفقيه 1: 344، باب أحكام السهو في الصلاة، ح1003.

ومنها: قوله(علیه السلام) فيمن صلّى أربعاً في السفر: «إن كانت قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له، فصلّى أربعاً، أعاد ...» الخبر (1).

والحاصل: أنّ الإشكال إنّما يأتي بالنسبة إلى شمول الحديث للجاهل بالحكم، قصوراً أو تقصيراً أو نسياناً، لا من جهة صدق الإعادة.

وقد تحصّل بما قدّمناه: أنّه لا مانع من أن يكون الجزء جزءاً في حال العمد، دون الجهل والنسيان، سواء كان قاصراً أم مقصّراً، غاية الأمر: أنّ المقصّر يكون آثماً، ولا تقبل الصلاة منه؛ لأنّه بحكم العامد، ولما أشرنا إليه آنفاً من أنّه كيف يتصوّر كون العبد بصدد امتثال أمر مولاه وهو شاكّ حصول الماُمور به بأجزاء وشرائط خاصّة، وهو لا يعتني بهذا الشكّ وبما لا يعلمه من الأجزاء والشرائط؟ بل قد عرفنا أنّ يشكل تأتّي قصد القربة منه في كثيرٍ من الأحيان.

هذا من جهة الدلالة.

وأمّا من جهة السند، فالحديث صحيح، فقد رواه الصدوق) في الخصال عن أبيه، عن سعد بن عبد اﷲ القمّي عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اﷲ السجستاني، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) (2).

ص: 594


1- راجع على سبيل المثال: وسائل الشيعة 8: 506 - 507، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
2- الخصال: 284 - 285، وفي بعض النسخ: عن أبي عبد الله(علیه السلام).

ورواه أيضاً في الفقيه بإسناده إلى زرارة عنه(علیه السلام) (1).ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ القاعدة تشمل الأجزاء والشرائط جميعاً، بعد وضوح أنّ بعض الشروط تكون أركاناً للمركّب، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، بل هو جزء إن أخذنا المركّب بمعناه الاسم المصدريّ، وإن كان بعض الشروط لا يمكن عدّه ركناً له، كما قد يقال في الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة، وعليه: فالتفصيل والقول بدخول الأجزاء في القاعدة مطلقاً، دون الشروط، ممّا لا وجه له أصلاً.

هذا، ونكتفي بهذا المقدار من الحديث حول هذه القاعدة، ومن شاء التفصيل أكثر فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة لاُستاذنا المحقّق!، فإنّه) قد استوفى هناك ذكر مواردها وتطبيقاتها.

وأمّا الاستدلال بالاستصحاب:

فقد ذكر في تقريبه في المقام وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال باستصحاب كلّيّ الوجوب الثابت سابقاً للأجزاء المقدورة، فإنّ الباقي كان معلوم الوجوب، حيث تعلّق الوجوب الغيريّ به، وهو وإن كان قد زال بزوال الكلّ، ولكن يحتمل تعلّق الوجوب النفسيّ به، فيكون سبباً للشكّ في بقاء الوجوب الجامع، فيستصحب.

ص: 595


1- راجع: من لا يحضره الفقيه 1: 279.

وإن شئتَ قُلْتَ: يدور الأمر بين الوجوب الغيريّ الذي كان يتعلّق بما عدا القيد المتعذّر، قبل تعذّر القيد، وبين الوجوب النفسيّ الذي المحتمل المتعلّق بما عدا القيد بعد تعذّره، وحيث إنّه من المحتمل الوجوب النفسيّ المستقلّ لما عدا ذلك القيد المتعذّر بعد تعذّره، فيكون بقاء ذلك الجامع مشكوكاً بعد تيقّن وجوده، فنستصحبه، ونحكم بوجوب الإتيان بالباقي بعد تعذّر القيد.

وقد يورد على هذا التقريب للاستصحاب بإشكالات:

الأوّل: أنّ لازمه: إثبات الوجوب الغيريّ للمقدّمات الداخلية، إلّا أنّ وجوبها من قبيل الوجوب الاستقلاليّ الضمنيّ، لا الغيريّ، ولا الاستقلاليّ المحض.والثاني: أنّ هذا الاستصحاب لا يجري إلّا فيما لو قلنا بجريان استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، أي فيما إذا شكّ في حدوث فرد آخر بعد العلم بزوال الفرد الأوّل، فهنا، وجود الجامع في ضمن الوجوب الغيريّ - لو سلّمنا أنّ المقدّمات الداخلية لها وجوب غيريّ - مقطوع الارتفاع، وفي ضمن الوجوب النفسيّ المحتمل مشكوك الحدوث، فليس هناك وجود واحد متيقّن الحدوث ويكون هو مشكوك البقاء حتى يمكن الاستصحاب.

والثالث: أنّه - على فرض جريان هذا الاستصحاب - فلا يمكن أن نثبت به الوجوب النفسيّ المستقلّ لما عدا القيد؛ لأنّه بالنسبة إليه من

ص: 596

الأصل المثبت.

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم) بقوله:

«استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقاً بالقدرة، بناءً على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب، بمعنى: لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره، أو الوجوب النفسيّ المتعلّق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها، بدعوى: صدق الموضوع عرفاً على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللّاحق، ولو مسامحةً؛ فإنّ أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها: أنّ الصلاة كانت واجبةً عليه حال القدرة على السورة، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها» (1).

وحاصله: أن يقال باستصحاب نفس الوجوب النفسيّ الثابت سابقاً، والذي كان متعلّقاً بالمركّب قبل حدوث تعذّر القيد، بدعوى: المسامحة عرفاً في موضوعه؛ إذ العرف يرى أنّ الباقي والمركّب التامّ شيء واحد، ولذلك فهو يرى أنّ عدم ثبوت الحكم للباقي ارتفاع للحكم السابق، كما أنّ ثبوته بقاء له، فيقال - حينئذٍ -: هذا - ويشار إلى الباقي - كانواجباً، والآن هو كذلك، ونظيره: استصحاب كرّيّة الماء الذي كان كرّاً وأُريق منه بعضه فشكّ في كرّيّته.

ص: 597


1- فرائد الاُصول 2: 389.

ولكن أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ! بقوله:

«والجواب أنّه إنّما يصحّ إذا كان المتعذّر بحيث لا يمنع عن دعوى الاتّحاد بين المركّب والباقي، فلا مجال للاستصحاب على الإطلاق، بل في مثله، كما أنّ استصحاب كرّيّة الماء كذلك، فإنّه يصحّ إذا كان الموجود من الماء متّحداً مع الماء السابق عرفاً بلحاظ كون المأخوذ منه قليلاً يتسامح فيه عرفاً» (1).

وحاصله: أنّه مبنيّ على المسامحة في الموضوع مع كون الباقي ممّا يتسامح فيه عرفاً، كما إذا كان المتعذّر جزءاً واحداً - مثلاً - لا ما إذا تعذّرت كمّيّة من الأجزاء معتدّ بها؛ لعدم صدق الوحدة عرفاً بين الباقي والمركّب حينئذٍ.

وقال اُستاذنا المحقّق!:

«هذا الوجه من تقرير الاستصحاب لا يفي إلّا بالموارد التي يكون موضوع القضيّتين - المتيقّنة والمشكوكة - واحداً بنظر العرف، وأمّا فيما لا يكون كذلك، كما هو الأكثر في أبواب العبادات، فإنّ حكم العرف بوحدة الحجّ المتعذّر فيه الوقوف في الموقفين - العرفات والمشعر - الوقوف الاضطراريّ والاختياريّ - مع الحجّ المتمكّن فيه الوقوفان، أو حكمه بوحدة صلاة فاقد الطهورين مع واجدهما، أو أحدهما، لا أثر له

ص: 598


1- نهاية الدراية 2: 698.

بعد العلم بأنّ الشارع يراهما متباينين حقيقةً, بل الوحدة العرفيّة ليست إلّا بحسب الشكل فقط» (1).

وملخّص ما أفاده!: أنّ العرف ليس له طريق إلى تميّز الأركان من غيرها، فليس له أن يحكم بوحدة المركّب التامّ الأجزاء والشرائط معالمركّب الناقص، بعدما كان الركن لا يعرف إلّا بتصريح من الشارع، ففي باب الاستصحاب، وإن كان المدار في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة على نظر العرف، ولكن هذا إنّما هو فيما إذا كان للعرف طريق إلى تشخيصه، ولم يكن المركّب من الاُمور الشرعيّة، بل إذا كان من الاُمور العرفيّة.

بل يمكن أن يقال: بأنّ العرف إنّما يتسامح فيما إذا كان الاختلاف في موضوعات الأحكام، حيث يرى الربط بين الحكم والموضوع بحسب مرتكزاته، فقد يرى في بعض الموارد، كالعالم، بالنسبة إلى قوله - مثلاً -: أكرم العالم، أنّ الموضوع إنّما هو ذات العالم، وأنّ العلم حيثيّة تعليليّة، فإذا زال العلم، فالموضوع لا يزال باقياً في نظره، فإذا شكّ في وجوب إكرام العالم الذي زال علمه، فيجري الاستصحاب. ولكنّ العرف في مثل وجوب تقليد العالم يرى أنّ الحكم لم يرد على الذات، بل الموضوع إنّما هو العالم بما هو عالم؛ لأنّ وجوب تقليده إنّما كان

ص: 599


1- القواعد الفقهيّة 4: 131.

من جهة علمه، وليس لنفس ذاته، فمع زوال علمه، يزول الموضوع، فحينئذٍ: لا يجوز إجراء الاستصحاب بدعوى الشكّ في بقاء وجوب تقليده بعد زوال علمه.

وأمّا إذا كان الشكّ في متعلّقات الأحكام، فلا يتأتّى إعمال مثل هذه المسامحة العرفيّة، حيث إنّ العرف لا يتمكّن من التشخيص، فلا يتّبع نظره، فإذا جعل الشارع الوجوب لمركّبٍ ذي أجزاء عشرة، فإنّ المركّب ذا الأجزاء التسعة فقط يكون مبايناً له لا محالة، حتى بالنظرة العرفيّة، وليس متّحداً معه. فالتسامح العرفيّ إنّما يأتي إذا كان الشكّ متعلّقاً بالربط الحاصل بين الموضوع والحكم، لا فيما إذا كان بين الحكم ومتعلّقه.

الوجه الثالث: أنّ الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان واجباً نفسيّاً في ضمن المجموع المركّب منه وممّا تعذّر، والجامع بين هذا الوجوب النفسيّ الضمنيّ والوجوب النفسيّ المستقلّ المتعلّق بالمجموع كان موجوداً قطعاً، فبعد انتفاء أحد فرديه، وهو الوجوب النفسيّ الذيفرضنا تعلّقه بالمجموع، يحتمل بقاؤه في ضمن الفرد الآخر، وهو الوجوب المتعلّق بما عدا المتعذّر، والوجوب الباقي وإن كان ضمنيّاً، ولكنّه يصبح استقلاليّاً، ولا محذور فيه؛ إذ الاستقلاليّة من المفاهيم الانتزاعيّة التي تنتزع من أمر وجوديّ، هو وجوب الباقي، وآخر عدميّ، وهو عدم وجوب الجزء المتعذّر.

ص: 600

قال المحقّق الأصفهاني):

«استصحاب الوجوب النفسيّ الشخصيّ مع قطع النظر عن متعلّقه، نظير استصحاب وجود الكرّ» (1)، أي: نظير استصحاب وجود الكرّ في إثبات كرّيّة الموجود، فيقال: إنّ الوجوب النفسيّ للصلاة كان ثابتاً، والآن يشكّ في بقائه فيحكم به بمقتضى الاستصحاب.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المستصحب هو وجوب الصلاة بنحو مفاد كان التامّة، لا الناقصة.

وفيه: أوّلاً: أنّه من الأصل المثبت.

وثانياً: أنّه - أيضاً - يكون من استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، مثلاً - في استصحاب وجوب الصلاة -: إن كان المستصحب هو الوجوب المتعلّق بالكلّ، فهو قد ارتفع يقيناً، ولا معنى لاستصحابه، واحتمال بقائه من جهة حدوث فرد آخر، وهو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ في الباقي، ويكون من مصاديق ذلك الجامع، فهو عين القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، نظير استصحاب وجود الحيوان المردّد بين البقّ والفيل، وهو لا يجري، كما ذكر في محلّه.

الوجه الرابع: أنّ الأجزاء الباقية حيث كانت متعلّقة للوجوب النفسيّ المنبسط على الكلّ، فتكون متيقّنة الوجوب سابقاً، لكنّ وجوبها وجوب

ص: 601


1- نهاية الدراية 2: 700.

ضمنيّ، لا استقلاليّ؛ لأنّ الوجوب الاستقلاليّ إنّما يكون متعلّقاً بالكلّ، وبملاحظة المسامحة في الوجوب الضمنيّ والاستقلاليّ، فإنّ العرف يرى وحدتهما؛ لأنّه يرى الاستقلاليّة والضمنيّة من الحالاتالطارئة، فيمكن أن يستصحب الوجوب النفسيّ الذي تعلّق بالأجزاء بعدما كان متيقّن الحدوث وقد حصل الشكّ في بقائه.

وأمّا الجزم بارتفاع صفة الضمنيّة من جهة ارتفاع الأمر بالكلّ، فهو لا يضرّ إطلاقاً بعد دعوى المسامحة المتقدّمة.

وبعبارة أُخرى: فبعد أن تعلّق الأمر بالمركّب، فكلّ جزء من أجزاء ذلك المركّب يكون واقعاً تحت قطعة من الأمر.

وحيث إنّ المقدّمات الداخليّة - كما عرفنا - ليست واجبةً بالوجوب الغيريّ، بل وجوبها نفسيّ ضمنيّ، قلنا بالانحلال في باب العلم الإجماليّ بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر، فإنّ الأقلّ معلوم يقيناً، ويبقى الزائد مشكوكاً، فتجري البراءة بالنسبة إليه.

وأمّا كون وجوب الأقلّ مردّداً بين الضمنيّة والاستقلاليّة فهو لا يضرّ في المقام؛ لأنّ هاتين الصفتين، كما أشرنا أيضاً، من الحالات الطارئة؛ لأنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع عن وجوبه وعدم وجوب غيره، وأمّا الضمنيّة فعلى العكس منها.

ولا فرق في كونه واجباً ومتعلّقاً للإرادة بين أن يكون معه غيره، حتى يصبح وجوبه ضمنيّاً،

وبين أن لا يكون معه غيره، حتى يكون استقلاليّاً.

ص: 602

فما عدا الجزء المتعذّر كان واجباً يقيناً قبل التعذّر، ويشكّ في بقائه بعده؛ لأنّه يحتمل ارتفاع خصوص تلك القطعة التي كانت متعلّقة بالجزء المتعذّر فقط، ويشكّ في بقاء سائر القطع بالنسبة إلى بقيّة الأجزاء، فيستصحب؛ لتماميّة أركان الاستصحاب.

والذي نراه: أنّ هذا الوجه تامّ وغير قابل للمناقشة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ التمسّك بالاستصحاب هنا إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك دليل لفظيّ كقاعدة الميسور المتقدّمة، أو الإجماع الذي سنأتي على ذكره.

وأمّا إذا كان هناك دليل معتبر أو إجماع، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب؛ لأنّ رتبته متأخّرة عن الأمارات، فهو - كما أسلفنا - فرش الأمارات وعرش الاُصول.وهذا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان لدليل الجزئيّة إطلاق يقتضي ثبوت الجزئيّة في حالتي التعذّر وعدمه، نظير قوله: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».

ومنشأ الإشكال هنا:

أنّ دليل الجزئيّة مطلق، فيقتضي سقوط الأمر عند التعذّر، وأنّ المركّب يسقط بسقوط جزئه، وأمّا مقتضى مثل قاعدة الميسور هو ثبوت الأمر بالباقي عند التعذّر، فدليل الجزئيّة ينافي مدلول القاعدة. فيقع التعارض بينهما، وعندئذٍ: فلا يمكن جريان القاعدة.

ص: 603

التمسّك بالإجماع:

ثمّ إنّه قد يستدلّ في المقام بالإجماع على أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب لا يسقط بمجرّد تعذّر أو تعسّر بعض أجزائه، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذّر أو المتعسّر باقياً على وجوبه ومطلوبيّته.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّه إجماع منقول.

وثانياً: أنّ الإجماع وإن أمكن تحصيله في بعض الموارد، كمثل الصلاة والحجّ في غير الأجزاء الركنيّة لهما، إلّا أنّه لم يرد كقاعدة عامّة حتى يمكن التمسّك به في جميع الموارد، بل حتى في الموارد التي يمكن إحرازه فيها، لا مجال - أيضاً - للتمسّك به؛ لأنّ إجماعهم هذا يمكن أن يكون مستنداً إلى الروايات الواردة والأدلّة التي تمّ التمسّك بها في المقام، فيكون إجماعاً مدركيّاً، أو على الأقلّ: محتمل المدركيّة أو مظنونها.

مسألة:

إذا دار الأمر بين كون شيء شرطاً أو مانعاً فهل يدخل في مسألة الأقلّ والأكثر أم لا؟الحقّ: أنّه لا يندرج في مسألة الأقلّ والأكثر، بل يرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في أنّ الماُمور به هو هو (بشرط شيء) أو (بشرط لا)، والشكّ في باب الأقلّ والأكثر يرجع إلى كونه (لا بشرط) أو (بشرط شيء)، فتوهّم

ص: 604

اندراج المسألة في الأقلّ والأكثر ضعيف.

وأضعف منه: إدخال المسألة في باب دوران الأمر بين المحذورين، بدعوى: أنّه لا يمكن هنا الموافقة القطعيّة؛ لأنّها تستلزم المخالفة القطعيّة، فلابدّ من التخيير، كما هو الشأن في دوران الأمر بين المحذورين.

وجه الضعف: أنّ التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين إنّما هو لأجل عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة، وأمّا فيما نحن فيه، فيمكن الموافقة القطعيّة ولو بالاحتياط وتكرار العبادة.

ص: 605

ص: 606

الفهرس

ص: 607

ص: 608

الفهرس

مباحث القطع

المبحث الأول(7-43)

المبحث الأول في القطع....... 7

الأمر الأوّل :في ذاتيّة حجّيّة القطع وعدم قبولها للجعل والمنع...... 7

الأمر الثاني... 12

الأمر الثالث: في عدم قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ..... 14

الأمر الرابع: أقسام القطع الموضوعيّ....... 15

الأمر الخامس... 17

الأمر السادس... 17

الأمر السابع: في الاطمئنان وأنّ حجّيّته من باب حجّيّته العلم أو ....... 20

الأمر الثامن: انقسام القطع إلى تفصيليّ وإجماليّ..... 21

المبحث الثاني(45-60)المبحث الثاني في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع... 45

الكلام في الظنّ الطريقيّ والموضوعيّ..... 57

ص: 609

التجرّي(61-98)

التجرّي...... 61

الأمر الأوّل: في معنى التجرّي. 61

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟....... 62

الأمر الثالث... 63

تنبيهات....... 88

التنبيه الأوّل....... 88

التنبيه الثاني: في الثمرة العمليّة لهذا البحث... 90

التنبيه الثالث..... 90

التنبيه الرابع .... 91

المباحث الأمارات غير العلميّة(99-117)

مباحث الأمارات غير العلميّة.. 99

الأمر الأوّل: في عدم كون الحجّيّة من لوازم الأمارات ....... 99

الأمر الثاني: في إمكان التعبّد بالأمارات..... 101

تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة (119-129)

تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة..... 119

الأمر الأوّل .... 119الأمر الثاني ....... 119

الأمر الثالث ....... 120

وهنا أمور لابدّ من التنبيه عليها.... 126

ص: 610

في حجّيّة الظواهر(131-148)

في حجّيّة الظواهر... 131

الأمر الأوّل..... 131

الأمر الثاني ....... 133

الأمر الثالث: هل الظهور من مسائل علم الاُصول؟..... 133

الأمر الرابع: في أنّ للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفيّة... 135

حجّيّة قول اللّغويّ(149-160)

حجّيّة قول اللّغويّ.... 149

في حجّيّة الشهرة(161-168)

في حجّيّة الشهرة.... 161

فانقدح ممّا تقدّم.... 166

في حجّيّة خبر الواحد(169-221)

في حجّيّة خبر الواحد.... 169

الأمر الأوّل: في موضوع البحث 169

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟....... 170

الأمر الثالث ....... 170

وأمّا المثبتون لحجّيّة خبر الواحد... 176أمّا الكتاب ... 176

الاستدلال بآية النبأ. 177

أمّا الاستدلال بمفهوم الشرط.... 177

ص: 611

الاستدلال بآية النفر. 189

الاستدلال بآية الكتمان 195

الاستدلال بآية السؤال 198

الاستدلال بآية الاُذن.. 201

وأمّا الاستدلال بالسنّة 202

الاستدلال بالإجماع.... 206

الاستدلال بالعقل..... 213

في حجّيّة مطلق الظنّ(223-254)

في حجّيّة مطلق الظنّ...... 223

الدليل الأوّل ....... 223

الدليل الثاني ..... 224

الدليل الثالث ..... 226

الدليل الرابع: دليل الانسداد. 227

ومذهب صاحب الكفاية! 246

في الظنّ المانع والممنوع(255-257)

في الظنّ المانع والممنوع..... 255

مباحث الاُصول العمليّة

الكلام في الاُصول العمليّة(261-266)

الكلام في الاُصول العمليّة..... 261

ص: 612

الأوّل: في الفرق بين الاُصول والأمارات....... 261

الأمر الثاني... 262

الأمر الثالث... 262

الأمر الرابع... 262

الأمر الخامس... 263

الأمر السادس... 263

الأمر السابع... 265

الأمر الثامن... 265

في البراءة(267-325)

في البراءة..... 267

فأمّا الكتاب: فبآيات 269

وأمّا الاستدلال على البراءة بالسنّة ....... 281

منها :حديث الرفع... 281

ومنها: حديث الحجب.. 298

ومنها: حديث الحلّ... 303

ومنها: حديث السعة.. 306

ومنها: مرسلة الصدوق 308

ومنها ... 315

ومنها ... 317

ومنها.... 320

وأمّا الاستدلال عليها بالإجماع....... 320

وأمّا الاستدلال عليها بالدليل العقليّ..... 321

ص: 613

في أدلة الأخباريّين على وجوب الاحتياط(327-353)في أدلة الأخباريّين على وجوب الاحتياط... 327

أمّا الكتاب: فبآيات. 327

وأمّا السنّة: فبطوائف 329

وأمّا العقل ... 344

في تنبيهات البراءة(355-376)

في تنبيهات البراءة....... 355

التنبيه الأوّل....... 355

التنبيه الثاني..... 355

التنبيه الثالث..... 356

التنبيه الرابع..... 356

التنبيه الخامس..... 357

التنبيه السادس..... 357

التنبيه السابع..... 359

الكلام في قاعدة اليد(377-393)

الكلام في قاعدة اليد... 377

في معاني اليد...... 377

في أماريّة يد الكافر على عدم التذكية... 384

ص: 614

قبول قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة... 388

قاعدة التسامح في أدلّة السنن(395-411)

قاعدة التسامح في أدلّة السنن 395دوران الأمر بين المحذورين(413-422)

دوران الأمر بين المحذورين.... 413

أمّا الصورة الاُولى... 414

وأمّا الصورة الثانية 420

وأمّا الصورة الثالثة 421

أصالة الاشتغال(423-555)

أصالة الاشتغال....... 423

المبحث الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين 424

الأمر الأوّل: في أنّ وجوب الاحتياط حكم عقليّ... 430

الأمر الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء 431

الأمر الثالث: الاضطرار إلى بعض الأطراف.... 439

الأمر الرابع: في الشبهة غير المحصورة....... 445

الأمر الخامس: في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة 451

الأمر السادس: العلم الإجماليّ في التدريجيّات 473

تنبيهان....... 478

المبحث الثاني: الكلام في الأقلّ والأكثر... 482

الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ..... 483

ص: 615

الشكّ بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات.... 490

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء... 493

التمسّك بالاستصحاب لنفي وجوب الإتيان بالأكثر. 512

في الأجزاء التحليليّة والذهنيّة...... 526

حكم الجزء أو الشرط المتروك نسياناً..... 534

قاعدة لا تعاد(557-575)

قاعدة لا تعاد..... 557

قاعدة الميسور(577-605)

قاعدة الميسور... 577

وأمّا الاستدلال بالاستصحاب 595

الفهرس(607-616)

الفهرس.... 607

ص: 616

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.