شَمسُ الأُصُول المجلد 3

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

آیة الله العظمی الحاج الشیخ شمس الدين الواعظي

دار المحجة البيضاء

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

مقدّمة الواجب

اشارة

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور :

الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

ولا يخفى: أنّها من المسائل الاُصوليّة، وليست من المسائل الفقهيّة ولا الكلاميّة؛ فإنّ المسألة الاُصوليّة هي ما تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الفرعيّ الكلّيّ، والبحث في هذه المسألة هو في الملازمة بين وجوب الشيء شرعاً وبين وجوب مقدّمته، فالمبحوث عنه في المقام هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، وليس بحثاً عن وجوب المقدّمة كي تكون المسألة فقهيّة نظراً إلى كون موضوعها هو فعل المكلّف، أعني: المقدّمة، ومحمولها، أعني: الحكمالشرعيّ. نعم، ثبوت الوجوب للمقدّمة هو نتيجة إثبات الملازمة.

ص: 7

قال صاحب الكفاية(قدس سره) ما لفظه:

«الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته، فتكون مسألة اُصولية، لا عن نفس وجوبها، كما هو المتوهّم من بعض العناوين كي تكون فرعيّة، وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الاُصوليّ، والاستطراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الاُصوليّة»(1).

وبالجملة: فلمّا كان البحث في هذه المسألة عن ثبوت الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، فإنّها بذلك تكون من المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ، وهو وجوب المقدّمة المعيّنة كالوضوء مقدّمةً للصلاة، ونحوه.

وقد يمكن فرض دخولها في الفقه من حيث إنّ المبحوث عنه فيها هو أفعال المكلّفين من جهة الاقتضاء والتخيير، وبما أنّ المقدّمة من أفعال المكلّف، فالبحث عن وجوبها يكون بحثاً فقهيّاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) لإخراج المقدّمة من المسائل الفقهيّة بقوله:«وأمّا جعلها من المسائل الفقهيّة، ففي غاية البعد؛ فإنّ علم الفقه متكفّل لبيان أحوال موضوعات خاصّة، كالصلاة والصوم وغيرهما،

ص: 8


1- كفاية الاُصول: ص 89.

والبحث عن وجوب كلّيّ المقدّمة التي لا ينحصر صدقها بموضوع خاصّ لا يتكفّله علم الفقه أصلاً»(1).

إذ فيه: أنّ ما أفاده(قدس سره) إنّما يتمّ في مقام التفريق بين المسائل الفقهيّة والقواعد الفقهيّة، حيث يقال: إنّ موضوع المسألة إن كان عنواناً خاصّاً كانت من المسائل، وإن كان عامّاً دخلت هي في القواعد.

مضافاً: إلى أنّ مجرّد كون الموضوع عنواناً عامّاً لا يوجب خروج المسألة عن المسائل الفقهيّة، لما نراه من أنّ كثيراً من المسائل الفقهيّة يكون الموضوع فيها قابلاً للتبدّل والاختلاف؛ كما في النذر - مثلاً - فإنّه تارةً يتعلّق بالصلاة، وأُخرى بالصوم، وثالثة بالحج، ورابعة بالزيارة، وهكذا، ومثله: العهد واليمين، ومع ذلك، فلم يكن هذا الاختلاف في المتعلّق والموضوع موجباً للخروج عن حيّز المسائل الفقهيّة.

على أنّ خروجها عن المسائل الفقهيّة، لو سُلِّم، لا يكون - بمجرّده - موجباً لدخولها في المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ دخولها في المسائل الاُصوليّة هو فرع صدق تعريف المسائل الاُصوليّة عليها وشموله لها.وقد يقال: بأنّه يمكن دخولها في المسائل الكلاميّة، على اعتبار أنّ البحث فيها إنّما يرجع - في الحقيقة - إلى البحث عن استتباع المقدّمة فعلاً أو تركاً للثواب أو العقاب، ومثله يكون داخلاً في الأبحاث الكلاميّة.

ولكن فيه: أنّ ترتّب الثواب ليس على امتثال المقدّمة، وكذلك

ص: 9


1- أجود التقريرات 1: 213.

استحقاق العقاب، ليس على عصيانها؛ لأنّ وجوبها - على القول به - إنّما يكون وجوباً غيريّاً، فليس فيها من مصلحة نفسيّة؛ لأنّ الوجوب الغيريّ ينشأ عن مصلحة في الغير، لا عن مصلحة في نفس متعلّقه، فالثواب المترتّب على الإتيان بالمقدّمة إنّما يترتّب في واقع الأمر على قصد إطاعة ذي المقدّمة مطلقاً، ولو لم نقل بالملازمة، وكذلك استحقاق العقاب، فهو إنّما يترتّب - أيضاً - على مخالفة الأمر بذي المقدّمة، لا على مخالفة وجوب المقدّمة من حيث هو.

وممّا تقدّم عُلم: أنّ مقتضى التحقيق هو القول بدخول هذه المسألة في المسائل الاُصوليّة، وأنّها ليست من المسائل الفقهيّة؛ لأنّ البحث عنها ليس عن وجوب المقدّمة، وإن أوهمت ذلك بعض العبارات، وإنّما هو بحث عن الملازمة، والوجوب المذكور يكون نتيجتها.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ هذه المسألة هي من المبادئ الأحكاميّة، كما نُسب إلى العضديّ تبعاً للحاجبيّ وشيخنا البهائيّ(قدس سره)(1)، بتقريب إنّ تلك المبادئ عبارة عن حالاتالأحكام الشرعيّة من حيث تنويعها إلى التكليفيّة والوضعيّة، وكون الأحكام التكليفيّة بأسرها متضادّة فيما بينها، واستلزام بعضها لحكم الآخر.

أو فقل: إنّ المعروف من المبادئ الأحكاميّة عند الاُصوليّين هي

ص: 10


1- انظر: منتهى الدراية 2: 98.

المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة، كالتضادّ بين الأحكام واستلزام بعضها لبعض. فلمّا كان البحث في مسألة المقدّمة عن الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، كانت - لا محالة - من المبادئ الأحكاميّة.

فيرد عليه: أنّ حال مسألة مقدّمة الواجب يكون كحال بعض المسائل التي من جهة، تكون داخلة في المسائل الاُصوليّة، ومن جهة أُخرى، تكون داخلة في المسائل الكلاميّة، ومن جهة ثالثة، في الفقهيّة، وهكذا... وحينئذٍ: فلا ضير في أن يكون لمسألتنا جهتان أو أكثر، فمن كلّ جهة يُبحث عنها تكون تدخل في واحدة من الجهتين أو أكثر.

فمن الجهة المذكورة، لا مانع من دخول المسألة في المبادئ، وهذا لا ينافي أنّها من جهة أُخرى، وهي كون نتيجتها تقع في طريق الاستنباط، يصحّ أن تكون داخلة في المسائل الاُصوليّة.

ومن هنا يظهر: ما في كلام بعض المحقّقين المعاصرين(رحمة الله)، من «أنّ المسألة ليست من المسائل الاُصوليّة ولا الفقهيّة، وإنّما هي من مبادئ الاُصول»(1).أمّا أنّها ليست من المسائل الاُصوليّة فقد عرفت الحال فيه. وأمّا ما ذكره من أنّها ليست من المسائل الفقهيّة فهو حقّ.

ص: 11


1- منتقى الاُصول 2: 100.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ هذه المسألة هي من المبادئ التصديقيّة لعلم الاُصول، بناءً على ما اشتهر بينهم من أنّ موضوع علم الاُصول هي الأدلّة الأربعة، والبحث في هذه المسألة إنّما هو عن تحقّق الملازمة، التي هي حكم العقل، أو عدم تحقّقها، وليس بحثاً عن ما هو من عوارض أحد الأدلّة الأربعة، فلا محالة، تكون خارجةً عن المسائل، داخلةً في المبادئ التصديقيّة لهذا العلم.

فيرد عليه:

أوّلاً: إنّ موضوع علم الاُصول ليس هو الأدلّة الأربعة، حتى يقال بأنّ من جملتها العقل، حتى يرد الإشكال.

وثانياً: على فرض التنزّل، فأيّ مانع - كما أشرنا - من أن يكون للمسألة جهات متعدّدة؟ فهي بإحدى الجهات تكون داخلة في هذا العلم، وبجهات أُخرى تكون داخلة في علوم أُخرى.

الأمر الثاني:

أنّ محلّ النزاع في هذه المسألة ليس هو اللّابدّيّة العقليّة، والملازمة التي يقضي بها العقل بين وجود المقدّمة ووجود ذيها؛ لأنّ ذا المقدّمة لا يمكن حصوله عقلاً إلّا بعد فرضوجود المقدّمة، فوجودها علّة لوجود ذي المقدّمة، ولا سبيل إلى إنكار هذا، ولا اختصاص لها بالمقدّميّة الشرعيّة، بل هذا ثابت حتى لدى المنكرين للحسن والقبح

ص: 12

العقليّين، فمورد النزاع إنّما هو الملازمة من جهة الوجوب الشرعيّ، والمراد من الوجوب الذي يبحث عن ثبوته للمقدّمة هو الوجوب الغيريّ.

الأمر الثالث :أنّ وجوب المقدّمة - كما عرفنا - وجوب عقليّ لا لفظيّ :

وفي هذا يقول صاحب الكفاية(قدس سره):

«ثمّ الظاهر - أيضاً - أنّ المسألة عقليّة، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظيّة كما ربّما يظهر من صاحب المعالم حيث استدلّ على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافاً إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ، ضرورة أنّه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته ثبوتاً محلّ الإشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى»(1).

ومحصّل ما أفاده): أنّ أصل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته محلّ إشكال، فلابدّ من إيقاع البحث فيه ثبوتاً، ولا معنى لإيقاع البحث في مقام الإثبات؛ إذ ليسوجوب المقدّمة مدلولاً للّفظ بأيّ نحوٍ من أنحاء الدلالة، حتى يتأتّى البحث والنزاع في كون هذا الوجوب مدلولاً للّفظ أو ليس مدلولاً له.

ص: 13


1- كفاية الاُصول: ص 89.

وحيث كان وجوبها عقليّاً، فالبحث في هذه المسألة إنّما هو في استقلال العقل في الحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، بحيث إذا وجب شيء ما شرعاً استقلّ العقل بوجوب مقدّمته كذلك، أي: شرعاً أيضاً، وليس البحث عنها حول دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته، كما ربّما يظهر من كلام صاحب المعالم(قدس سره)، حتى تصبح المسألة لفظيّة(1).

فإنّ استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث ضعيف - كما أشار إليه بعض شرّاح الكفاية(2) -؛ لأنّ الأمر بالشيء هب أنّه لا يدلّ بشيءٍ من الدلالات الثلاث على وجوب المقدّمة - أمّا عدم المطابقة والتضمّن فواضح، وأمّا عدم الالتزام، فلما يُشترط في دلالة اللّفظ على الخارج التزاماً من اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، بحيث يستحيل تصوّر الملزوم بدون اللّازم، إمّا عقلاً كما في العمى والبصر، وإمّا عرفاً كما في الجود والحاتم، ومن المعلوم انتفاء اللّزوم كذلك في المقام -، إلّا أنّ عدم دلالة اللّفظ التزاماً ممّا لا يتنافى مع وجودالملازمة عقلاً بين وجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك.

ص: 14


1- انظر: معالم الاُصول: ص 62، قال(قدس سره): «وأمّا غير السبب، فالأقرب عندي قول المفصّل، لنا أنّه ليس لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث، وهو ظاهر».
2- لاحظ: عناية الاُصول 1: 281 - 282.

الأمر الرابع: أنّ الوجوب ينقسم إلى أقسام:

1- الوجوب النفسيّ.

2 - والوجوب الطريقيّ.

3 - والوجوب الغيريّ.

والظاهر: أنّ الوجوب المترتّب على المقدّمة ليس من قبيل الوجوب النفسيّ؛ إذ ليس فيها - بما هي مقدّمة - مصلحة في نفسها، حتى نقول بأنّها واجبة بالوجوب النفسيّ.

كما أنّ المراد من الوجوب هنا ليس هو الوجوب الطريقيّ؛ لأنّ الوجوب الطريقيّ هو بمعنى تنجيز الواقع عند الإصابة، ووجوب المقدّمة ليس كذلك، فإنّه - على القول به - يكون تحقّقه متوقّفاً على تحقّق وجوب ذيها، فلا محالة يكون النزاع هنا في الوجوب الغيريّ.

الأمر الخامس: ينقسم الوجوب باعتبارٍ آخر إلى الأصليّ والتبعيّ:

والمراد من الأصليّ:

تارةً يكون هو الواجب المستقلّ في الخطاب، في قبال التبعيّ الذي هو غير مستقلّ فيه.وأُخرى: هو الواجب الذي لا ينشأ عن إرادة أُخرى، بل هو مراد بإرادة مستقلّة غير تابعة لإرادة أُخرى، فإن كان مراداً بإرادة أُخرى، فهو واجب تبعيّ.

ص: 15

ومحلّ البحث هو الثاني، فهل الوجوب المتعلّق بالمقدّمة يكون ناشئاً من نفس الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة وتترشّح منه هي بعينها إلى المقدّمة أم لا؟ وأمّا الوجوب الأصليّ بالمعنى الأوّل فليس مبحوثاً عنه أو متنازعاً فيه هنا؛ لأنّ إيجاب المقدّمة بخطاب مستقلّ قليل جدّاً.

الأمر السادس: تنقسم المقدّمة إلى خارجيّة وداخليّة:

وكلّ منهما ينقسم إلى قسمين: بالمعنى الأخصّ وبالمعنى الأعمّ. والمراد بالمقدّمة الداخليّة أجزاء الماهيّة المركّبة، وبالخارجيّة: الاُمور الخارجة عن الماهيّة التي يتوقّف وجود المأمور به عليها.

والمراد ﺑ «المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأخصّ»، فهي ما يكون دخيلاً في ماهيّة المركّب قيداً وتقييداً، ويعبّر عنها بالأجزاء، وتكون دخيلة بذاتها في المركّب، واقعة تحت نفس الطلب والإرادة النفسيّة المتعلّقين به.

وفي قبالها ما يُعرف ﺑ «المقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعمّ»، وهي ما لا تكون دخيلة في ماهيّة المأمور به، أعمّ من أن يكون التقييد داخلاً أو غير داخل. فمثال الأوّل:الشرائط الشرعيّة، كالوضوء، ومثال الثاني: الاُمور التي يكون وجود الواجب متوقّفاً عليها.

والمراد ﺑ «المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ» ما يكون التقييد فيها داخلاً في ماهيّة المأمور به سواء كانت ذاتها داخلة أيضاً أم لم تكن.

وأمّا «المقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأخصّ» فهي ما لا تكون داخلةً في

ص: 16

ماهيّة الواجب، لا قيداً ولا تقييداً، وإنّما يكون لها دخل فيه عقلاً أو عادةً، لتوقّف وجود الواجب عليها، كما أنّ الصعود إلى السطح يكون متوقّفاً على نصب السلّم.

وقد تعرّض صاحب الكفاية(قدس سره) إلى البحث عن المقدّمة الداخليّة من جهتين:

الجهة الأُولى: في صحّة إطلاق المقدّمة عليها:

إذ قد يستشكل في ذلك بأنّ المقدّميّة تتوقّف على كون المقدّمة سابقة على ذي المقدّمة، والأجزاء غير سابقة على المركّب؛ لأنّ الكلّ هو عين الأجزاء، ونفس الشيء لا يكون سابقاً عليه.

وقد أجاب(قدس سره) عن هذا الإشكال بأنّ الأجزاء بالأسر لها جهتان واقعيّتان، إحداهما مترتّبة على الأُخرى، فإنّ في كلّ جزء جهة ذاته وجهة اجتماعه مع غيره من الأجزاء. ولا يخفى: أنّ جهة الذات متقدّمة على جهة اجتماع الذات مع الذات الأُخرى تقدّم المعروض على العارض؛ لأنّ جهة الاجتماع عارضة على الذوات.وعليه فنقول: إنّ الأجزاء إذا لوحظت بجهة ذاتها كانت المقدّمة، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكلّ، فالمقدّمة سابقة على الكلّ وذي المقدّمة سبْقَ المعروض على العارض. وهذا السبق هو ما يصحّح إطلاق المقدّميّة عليها.

ص: 17

قال في الكفاية:

«الأمر الثاني: أنّه ربّما تقسّم المقدّمة إلى تقسيمات:

منها: تقسيمها إلى الداخليّة، وهي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها، والخارجيّة، وهي الاُمور الخارجة عن ماهيّته ممّا لا يكاد يوجد بدونه.

وربّما يشكل في كون الأجزاء مقدّمة له وسابقة عليه: بأنّ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها، والحال أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما، وبذلك ظهر: أنّه لابدّ في اعتبار الجزئيّة أخذ الشي ء بلا شرط، كما لابدّ في اعتبار الكلّيّة من اعتبار اشتراط الاجتماع»(1).

أمّا المقدّمات الخارجيّة، بحيث يكون القيد خارجاً والتقييد داخلاً، كالشرط والمعدّ وعدم المانع، فهذه ممّا لا شكّ في دخولها في محلّ النزاع، وأنّ النزاع في ثبوت الملازمة بين الحكم العقل والشرع فيها أو عدم ثبوتها متأتٍّ، حيث كان لها وجود وللواجب وجود آخر.

وأمّا المقدّمات الداخليّة، فهل تقع محلّاً للنزاع أم لا؟الحقّ عدم دخولها في محلّ البحث؛ فإنّ المقدّمة يجب أن تكون سابقة على ذي المقدّمة، والأجزاء لا تكون سابقة عليه، بل هي نفس

ص: 18


1- كفاية الاُصول: ص 89 - 90.

ذي المقدّمة، كما أنّه على القول بالملازمة، فلكي يمكن أن يترشّح إلى المقدّمة وجوب غيريّ من ذي المقدّمة، فلابدّ من المباينة والاثنينيّة بينهما، ولكنّ الأجزاء عين ذي المقدّمة.

تفصيل ذلك: أنّ المركّب على قسمين: حقيقيّ وحكميّ.

فأمّا الحقيقيّ: فإمّا أن تكون أجزاؤه عقليّة أو خارجيّة، فالأوّل: كالجنس والفصل، والثاني: كالصورة والمادّة. وأمّا الحكميّ: فكالمركّب الاعتباريّ.

وفي كلا القسمين، لا يمكن جريان النزاع؛ لأنّ النزاع إنّما يجري إذا فُرض كون الأجزاء متقدّمة على المركّب وسابقة عليه. وفي محلّ البحث، فإنّ الأجزاء هي عين الكلّ في جميع الأقسام؛ أمّا الجنس والفصل فهما أجزاء تحليليّة عقليّة، ولا وجود لهما في الخارج في قبال المركّب كي يأتي النزاع فيهما. وأمّا المادّة والصورة، فكذلك، فإنّهما وإن كانا من الأجزاء الخارجيّة في الخارج، إلّا أنّ وجودهما في الخارج هو عين وجود المركّب، ولا امتياز لهما في الوجود الخارجيّ عن المركّب منهما، ليكون المركّب متوقّفاً في وجوده عليهما.

وأمّا المركّب الاعتباريّ فقد يتوهّم دخوله في محلّ النزاع؛ لأنّ بين الأجزاء وبين الكلّ تغايراً اعتباريّاً، وهذا المقدار من التغاير كافٍ، كما نسب إلى شيخنا الأنصاري(قدس سره) في التقريرات، من أنّ «الجزء له اعتباران: أحدهما: اعتباره لابشرط، وهو بهذا الاعتبار عين الكلّ ومتّحد معه؛ إذ

ص: 19

لا ينافي ذلك انضمام سائر الأجزاء إليه، فيصير مركّباً منها، ويكون هو الكلّ. وثانيهما: اعتباره بشرط لا، وهو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ»(1)، وهذا المقدار في التغاير كافٍ.

ولكنّك خبير بأنّ هذا التغاير الاعتباريّ غير مفيد؛ لأنّه لا يوجب تعدّد الوجود المعتبر في الواجب ومقدّمته، وليس هناك في الخارج وجودان حتى يعدّ أحدهما نفسيّاً والآخر مقدّميّاً، فلا يفيد التعدّد الاعتباريّ مع الاتّحاد الخارجيّ، فالإشكال باقٍ بحاله.

ولكن قد أُجيبَ عن هذا بأنّ الفرق بين الجزء والكلّ حاصل، فإنّه «إذا لوحظت الأجزاء بجهة ذاتها كانت المقدّمة، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكلّ، فالمقدّمة سابقة على الكلّ وذي المقدّمة سبق المعروض على العارض، وهذا السبق يصحّح إطلاق المقدّميّة عليها. ويمكن التعبير عن الفرق بين الأجزاء والكلّ بحسب اصطلاح المعقول بأنّ الأجزاء ما لوحظت لا بشرط، والكلّ ما لوحظ بشرط شيء»، وهذا كما هو الفرق بين الأجزاء الخارجيّة، كالمادّة والصورة، والأجزاء التحليليّة، كالجنس والفصل؛ لعدم صحّة الحمل في الأجزاء الخارجيّة، فلا يمكن حمل المادّة على الصورة؛ لأنّها أُخذتفيها بشرط لا، وأمّا الأجزاء التحليليّة، فلمّا كانت مأخوذة لا بشرط،

ص: 20


1- مطارح الأنظار 1: 211.

فيصحّ الحمل وليس ثمّة ما يمنع منه.

وقد يستشكل هنا: بأنّ أخذ الجزء بشرط لا، لا يلائم الجزئيّة؛ لأنّ الأجزاء عين الكلّ في الخارج، ومعه: فكيف يمكن تصوّره بشرط لا؟! فكون الجزء الخارجي مأخوذاً بشرط لا إنّما هو بلحاظ الحمل، لا بلحاظ الجزئيّة والكلّيّة، فإنّ كون الجزء مأخوذاً بشرط لا، لايتلاءم مع كونه جزءً للكلّ؛ لأنّ الجزئيّة والكلّيّة متضايفان.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ لحاظ الشيء بشرط لا له معنيان:

فتارةً: يكون المراد من لحاظه بشرط لا: لحاظ الشيء في قبال غيره، بحيث لا يُرى غيره.

وأُخرى: يكون المراد من لحاظه كذلك لحاظه بشرط عدم الغير، بحيث يُرى عدم الغير.

والمراد هنا هو الأوّل؛ إذ كما أنّ المراد من ملاحظة الأجزاء بشرط شيء هو ملاحظتها بشرط الانضمام، فإنّ ملاحظة الأجزاء بشرط لا تعني ملاحظتها لا بشرط الانضمام، وملاحظتها بهذا الاعتبار لا تنافي اعتبارها مع الكلّ، بخلاف ما لو اُريد من ملاحظتها بشرط لا ملاحظتها بشرط عدم الانضمام، وقد فرضنا أنّها - أي الأجزاء - هي عين الكلّ في الخارج، ومعه: فكيف يمكن تصوّرها بشرط عدم الانضمام مع أنّها بهذا الاعتبار ليست بأجزاء للكلّ؟!وممّا ذكرنا ظهر مقصود صاحب التقريرات من قوله: «إنّ الجزء له

ص: 21

اعتباران: أحدهما: اعتباره لا بشرط... »، إلى آخر ما جاء في كلامه المتقدّم؛ فإنّ مراده من اعتبار الجزء بشرط لا: ملاحظة الأجزاء بنفسها في قبال الكلّ، بحيث يكون الجزء بهذا الاعتبار مغايراً للكلّ، كما صرّح به هو نفسه. وليس المراد من بشرط لا، أي: عدم الانضمام.

وعليه: فما أورده عليه بعض المحقّقين المعاصرين من أنّ «جواب صاحب التقريرات في بيان الفرق بين الجزء والكلّ بأنّ الجزء مأخوذ بشرط لا، غفلة منه بأنّ ذلك لا يتلاءم مع كونه جزءاً للكلّ؛ لأنّ الكلّيّة والجزئيّة متضائفان، وأخذ الجزء الخارجيّ بشرط لا بلحاظ الحمل، لا بلحاظ الجزئيّة والكليّة»، غير تامّ(1).

ومن هنا، ثبت بطلان ما أفاده الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّ لحاظ الجزء «بشرط لا، مع كونه جزءاً، متباينان لا يجتمعان؛ لأنّ الشيء - مقيّداً بعدم انضمامه مع غيره - محال أن يكون جزءاً للمركّب». إلى أن يقول: «فالفرق بين الكلّ والجزء هو أنّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط الاجتماع كانت كلّاً، وإذا لوحظت لا بشرط عن الاجتماع والانضمام كانت أجزاءً»(2).إذ قد ذكرنا أنّه يصحّ القول بأنّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط لا كانت أجزاءً، ولكن على أن يكون المراد من ملاحظتها بشرط لا هو المعنى

ص: 22


1- منتقى الاُصول 2: 103.
2- منتهى الاُصول 1: 278.

الأوّل، أي: لا بمعنى ملاحظتها بشرط عدم الانضمام.

ولكن بالرغم من كلّ ما ذكرناه، فالإشكال يبقى على حاله؛ لأنّ مقدّميّة شيء لشيء تستلزم وجود المقدّمة بوجود مغاير لوجود ذي المقدّمة، وصرف المغايرة الاعتباريّة بينهما لا يستلزم مغايرة وجود أحدهما لوجود الآخر، كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا الإشكال الثاني - وهو عدم إمكان ترشّح الأمر الغيريّ من الكلّ إلى الجزء بعد أن كان للأجزاء وجوب نفسيّ ضمنيّ لكونها مقدّمات داخليّة - فقد أشار إليه صاحب الكفاية(قدس سره) في حاشيةٍ له في المقام، ونصّ ما أفاده(قدس سره):

«وجهه: أنّه لا يكون فيه أيضاً ملاك الوجوب الغيريّ، حيث إنّه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكلّ يتوقّف على وجوده، وبدونه لا وجه لكونه مقدّمة كي يجب بوجوبه أصلاً، كما لا يخفى. وبالجملة: لا يكاد يُجدي تعدّد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الأجزاء والكلّ في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيريّ المترشّح من وجوب ذي المقدّمة عليها، لو قيل بوجوبها، فافهم»(1).وحاصله: أنّه لا مقتضي للوجوب الغيريّ فيها؛ وذلك لأنّ ما يدلّ على وجوب المقدّمة وترشّح الوجوب عليها من ذي المقدّمة إنّما

ص: 23


1- كفاية الاُصول: ص 91.

هو الارتكاز العقلائيّ العرفيّ، وهو غاية ما يدلّ على ثبوت الوجوب والترشّح في مورد تعدّد الوجود ومغايرة وجود المقدّمة لوجود ذيها، وأمّا إذا لم يكن هناك مغايرة وجوديّة بين المقدّمة وذيها، بل كانا متّحدين في الوجود، وتصحيح المقدّميّة بوجه من الوجوه الدقيقة العقليّة، كما في الكلّ والجزء، فالدليل قاصر عن إثبات وجوبها وترشّح الوجوب من ذيها عليه.

وبعبارة أُخرى: فالمقدّمات الداخليّة حيث لا وجود لها غير وجود الكلّ، فهي واجبة بالوجوب النفسيّ الذي هو عين وجوب الكلّ، فلا مجال - حينئذٍ - لأن يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة عليها حتى تكون واجبة بالوجوب الغيريّ. فعدم وجوبها بالوجوب الغيريّ هنا إنّما يستند إلى عدم وجود المقتضي، وعدم قابليّة المحلّ، وليس ناشئاً من وجود المانع.

نعم، يمكن الإشكال من جهةٍ أُخرى، يكون الامتناع فيها مستنداً إلى وجود المانع، وهو اجتماع المثلين. وقد أشار إلى هذا الإشكال في متن الكفاية، حيث قال:

«ثمّ لا يخفى: أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع - كما صرّح به بعض - وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباراً، فتكون واجبةً بعين وجوبه، ومبعوثاً إليها بنفسالأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع

ص: 24

اجتماع المثلين»(1).

وتوضيح ما أفاده): أنّ الأجزاء لمّا كانت عين الكلّ في الوجود، كان الأمر النفسيّ المتعلّق بالكلّ متعلّقاً بها حقيقةً، فهي متعلّقة للوجوب النفسيّ، وعليه: فيلزم من تعلّق الوجوب الغيريّ - بناءً على ثبوت مقتضيه - اجتماع حكمين على موضوعٍ واحد، وهو محال؛ لأنّه من باب اجتماع المثلين، وهو في المنع كاجتماع الضدّين، فالأجزاء لا تكون متعلّقة للوجوب الغيريّ، وإن ثبت مقتضيه فيها، وذلك لوجود المانع، وهو استلزامه المحال.

إن قلت: إنّ تعدد الجهة كافٍ في ورود الأمر الغيريّ، ومع تعدّدها لا يلزم الاجتماع، والمفروض هنا تعدّدها؛ لأنّ متعلّق الوجوب النفسيّ هو الأجزاء من حيث كونها عين الكلّ، ومتعلّق الوجوب الغيريّ هو الأجزاء من حيث كونها مقدّمة لوجود الكلّ، ومع تعدّد الجهة لا يلزم اجتماع المثلين، كما لم يلزم اجتماع

الضدّين في مثل الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة بسبب تعدّد الجهة، فإنّها من حيث كونها صلاةً تكون واجبةً، ومن حيث كونها غصباً تكون حراماً.

قلت: تعدّد الجهة إنّما يكون مفيداً ويرفع محذور الاجتماع لو فرضنا الجهة الملحوظة تقييديّة، وهي التي تقع موضوعاً للخطاب،

ص: 25


1- كفاية الاُصول: ص 90.

بلا فرق بين أن يكون الموضوع خارجيّاً،كالفقير والغنيّ وأمثال ذلك، أو فعلاً، كالصلاة والغصب. فإذا كانت الجهة تقييديّة كانت موجبة لتعدّد الموضوع، فتعدّدها حينئذٍ يكون مجدياً في رفع غائلة الاجتماع ومحذوره. وأمّا لو كانت تعليليّة، فإنّ تعدّدها حينئذٍ لا يكون مجدياً، ويتأتّى فيه الإشكال بلزوم اجتماع المثلين، وأمّا في مسألة الغصب والصلاة، فإنّما لم يتأتّ محذور اجتماع الضدّين؛ لأنّ الحكم لم يتعلّق بالجهة التعليليّة.

وعليه: فحيثما تكون المقدّميّة من الجهات التعليليّة، فإنّ معروض الوجوب الغيريّ يكون هو ذات المقدّمة، لا بعنوان كونها مقدّمة، والمفروض أنّها عين الكل. فالوجوب العارض إنّما هو الوجوب النفسيّ الضمنيّ، وقد عرض لها وجوب آخر، فيكون - حينئذٍ - من باب اجتماع المثلين؛ وذلك لأنّ المتوقّف عليه وجود ذي المقدّمة إنّما هو ذات المقدّمة، لا عنوانها، أعني: المقدّميّة. نعم، تكون المقدّميّة علّة لترشّح الحكم من ذي المقدّمة إليها.

وقد أجاب المحقّق النائيني(قدس سره) عن هذا الإشكال بقوله:

«فتلخّص: أنّ حيثيّة الانضمام الطارئة على ذوات الأجزاء أوجبت كونها أمراً آخر في قبال نفس ذواتها التي هي مقدّمة لهذا الأمر الواحد اعتباراً في مقام التشريع والامتثال، وبذلك يندفع إشكال ترشّح الأمر الغيريّ بشي ء من الأمر النفسيّ المتعلّق بذاك الشي ء بعينه. نعم، حيث إنّ

ص: 26

ذوات الأجزاء موجودة في ضمن المركّب لا بوجودٍ آخر، فيبقى إشكال اجتماع المثلين بحاله، وقد عرفت أنّهليس فيه كثير إشكال، للزوم مثله في العبادات الواجبة التي هي مقدّمة لواجبٍ آخر، وإنّه يمكن الجواب عنه بالالتزام بالاندكاك والتأكّد»(1).

وحاصله: أنّه لا بأس بورود وجوبين على شيءٍ واحد؛ فإنّ الوجوب الغيريّ لا بأس بوروده على الأجزاء، ولو كان الوجوب النفسيّ قد تعلّق بالأجزاء أيضاً؛ وذلك لأنّ هذا الوجوب الغيريّ الذي يتعلّق بها يكون مؤكّداً للوجوب النفسيّ، فليس هناك وجوبان مستقلّان حتى يلزم اجتماع المثلين، ومع القول بالتأكّد يرتفع محذور اجتماع المثلين.

وذلك نظير ما نلتزم به في غير الأجزاء من الواجبات النفسيّة، كصلاة الظهر تكون مقدّمة لصلاة العصر، بمعنى: أنّه لابدّ من الإتيان بها قبلها، فهي، بالرغم من أنّها واجبة بالوجوب النفسيّ، إلّا أنّ وجوبها هذا يتأكّد بثبوت ملاك الوجوب الغيريّ فيها أيضاً، ومعه: فلا يلزم اجتماع المثلين، كما هو واضح. ففي ما نحن فيه، وهو الأجزاء، يكون الأمر أيضاً من هذا القبيل.

ولكنّ نفس المحقّق النائيني) استشكل في هذا الوجه، بما لفظه:

«هذا، ولكنّ الإنصاف أنّ ما ذكرناه من التقدّم والتأخّر، وإن كان

ص: 27


1- أجود التقريرات 1: 218.

صحيحاً بالنظر إلى لحاظ الجزء والمركّب في نفسيهما، إلّا أنّه لا يصحّح اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيريّالذي ملاكه توقّف أحد الوجودين على الآخر، وبما أنّه ليس في مفروض الكلام مغايرة بين الوجودين، فلا يُعقل ترشّح الوجوب الغيريّ المتعلّق بالأجزاء من الوجوب النفسيّ المتعلّق بالمركّب الذي هو نفس الأجزاء في الخارج على الفرض»(1).

وتوضيحه: أنّ التأكّد ها هنا ممنوع؛ بل التأكّد إنّما يتصوّر في غير المورد الذي يكون الوجوب الغيريّ فيه معلولاً للوجوب النفسيّ، نظير مثال صلاة الظهر. وأمّا إذا كان الوجوب الغيريّ معلولاً لنفس الوجوب النفسيّ، كما هو الحال في محلّ البحث، وهي الأجزاء، فإنّ وجوبها الغيريّ يترشّح من وجوبها النفسيّ، فلا يمكن فرض التأكّد فيه.

وأمّا المحقّق العراقيّ(قدس سره) فقد أورد على دعوى التأكّد بما هذا لفظه:

«وتوهّم التأكّد في مثل المقام غلط؛ إذ الوجوب الغيريّ معلول الوجوب النفسيّ ومتأخّر عنه بمقدار تخلّل الفاء الحاصل بين العلّة والمعلول، وهذا الفاء مانع عن اتّحاد وجودهما، ولو بالتأكّد»(2).

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّه ليس هناك فاصلة بين العلّة والمعلول بالفاء، بل هما واحد

ص: 28


1- المصدر نفسه.
2- مقالات الاُصول 1: 294.

خارجاً، ويكونان في زمان واحد، وإنّما العقلهو الذي يرى تقدّم العلّة على المعلول، ومن هنا يقال: إنّ تقدّم العلّة على المعلول تقدّم بالرتبة.

وثانياً: أنّ المناط في التأكّد إنّما هو اجتماع الحكمين زماناً على مورد واحد، سواءً اتّحداً بالرتبة أيضاً أم لا، فمن نذر بأن يأتي بصلاة الظهر - مثلاً - فلا ينبغي الإشكال في تأكّد وجوبها النفسيّ بالوجوب الطارئ بالنذر.

وأورد عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما نصّه:

«ولنأخذ بالنقد عليه، وهو أنّ ما أفاده(قدس سره) مبتنٍ على الخلط بين تقدّم حكمٍ على حكمٍ آخر زماناً وبين تقدّمه عليه رتبةً، مع مقارنته له كذلك، بيانه: أنّ الاندكاك بين الحكمين إنّما لا يُتصوّر فيما إذا كانا مختلفين زماناً، بأن يكون أحدهما في زمانٍ والآخر في زمانٍ آخر، بحيث لا يجتمعان في زمانٍ واحد، ففي مثل ذلك لا يُعقل الاندكاك والتأكّد، وأمّا إذا كانا مقارنين زماناً ومجتمعين فيه، وإن كانا مختلفين رتبةً، فلا مناص من الالتزام بالتأكّد والاندكاك»(1)، إلى آخر ما جاء في كلامه«.

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّ امتناع التأكّد إنّما يتمّ لو كان أحدهما سابقاً على الآخر زماناً، بمعنى أنّ وجود أحدهما بعد وجود الآخر، لا ما كان أحدهما متقدّماً على الآخر رتبةً مع تقاربهما في الوجود، كما فيما نحن

ص: 29


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 120.

فيه، إذ العلّة لا تنفكّ عنالمعلول وجوداً، والسبق واللّحوق بينهما رتبيّ لا زمانيّ، فلا مانع من التأكّد.

وأمّا ما قد يقال: من أنّه لا ثمرة لهذا الوجوب؛ لأنّه بعد ثبوت الوجوب النفسيّ على الأجزاء، فهو يغني عن وجوبها بالوجوب الغيريّ.

فقد يُجاب عنه: بأنّ وجوب الأجزاء بالوجوب النفسيّ محلّ كلام كما ربّما يظهر من التقريرات، حيث قال:

«وربّما يتوهّم: أنّ وجوب الكلّ مركّب من وجوباتٍ متعلّقة بأجزائه، وهو فاسد جدّاً؛ ضرورة أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ أمر بسيط، وهي الحالة الطلبيّة والإرادة الفعليّة، ولا يُعقل التركيب فيها»(1).

ولكنّ هذا الكلام محلّ تأمّل؛ لأنّ الأجزاء لها وجوب نفسيّ، ووجوب الكلّ مركّب من هذه الوجوبات المتعدّدة، بل هناك وجوب واحد تعلّق بالأجزاء، ويتجزّأ هذا الوجوب ويتحصّص، لترد كلّ حصّة منه على واحدٍ من الأجزاء، فالأجزاء، وفي حين أنّ لها وجوباً نفسيّاً، إلّا أنّ كلّ تلك الوجوبات تكون في ضمن وجوبٍ واحد، إذ الوجوب النفسيّ الذي يتعلّق بالأجزاء هو من قبيل الوجوب الضمنيّ لا الاستقلاليّ.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الوجوب النفسيّ على قسمين:

أوّلهما: أن يكون من قيام مصلحةٍ واحدةٍ بجميع أجزاء المركّب

ص: 30


1- مطارح الأنظار 1: 211 - 212.

بحيث لا تترتّب تلك المصلحة إلّا على وجودجميعها، كتحريك عدّة من الأشخاص - كالعشرة - الحجر الثقيل، بحيث لا يتحرّك إلّا بتحريكهم، فحركة الحجر، في حين إنّها أمر واحد، موقوفة على جميع ذلك.

والثاني: أن يكون لكلّ واحدٍ من الأجزاء مصلحة مستقلّة، غاية الأمر: أنّ شرط استيفائها هو الإتيان بغيره من الأجزاء، كما لو فرض أنّ المصلحة في القراءة - مثلاً - هي غرس مائة نخلة في الجنّة، ومصلحة الركوع بناء بيتٍ كذائيّ فيها، وهكذا سائر الأجزاء، ولكن كانت هذه المصلحة مشروطة بالإتيان بما بعد كلٍّ من القراءة والركوع، أي: بالإتيان بالأجزاء إلى تماميّة الصلاة، وهكذا...

غير أنّ هذه الوجوبات المتعدّدة المتعلّق بالأجزاء، والتي هي ناشئة عن تلك المصالح المتعددة، تكون - في حقيقة الأمر - ناشئة عن مصلحة واحدة، ومندرجة تحت أمر واحد.

فليس لهذه الوجوبات أوامر متعدّدة مستقلّة، بل جميعها تندرج تحت أمرٍ واحد، وليست كالعموم الاستغراقيّ، كما في مثل: «أكرم العلماء»، بحيث يكون للإكرام المتعلّق بكلّ عالمٍ عالم وجوب مستقلّ ليترتّب على تركه معصية مستقلّة أيضاً.

الأمر السابع: تنقسم المقدّمة إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة:

1) فالمقدّمة العقليّة: هي ما يستحيل وجود ذي المقدّمة بدونها عقلاً،

ص: 31

أو فقل: هي ما يتوقّف وجود الشيء عليه، كالمعلول التكوينيّ المتوقّف وجوده على وجود العلّةالتكوينيّة، فهذا التوقّف - أعني: توقّف المعلول على العلّة - يكون عقليّاً، حيث إنّ العقل يدرك ذلك بنفسه، ومن دون حاجةٍ إلى بيان الشارع.

2) وأمّا المقدّمة الشرعيّة: فهي ما يتوقّف عليها وجود الشيء شرعاً، بمعنى: أنّ الشارع يأخذ بعض الأشياء مقدّمة للواجب، على نحوٍ يكون التقيّد بذلك الشيء دخيلاً في الواجب، ولكنّ نفس القيد يكون خارجاً، كحكم الشارع بتوقّف الصلاة على مطلق الطهارة الحدثيّة والخبثيّة. ويكون هذا التوقّف شرعيّاً بلحاظ نفس هذا الجعل الصادر من الشارع وأخذه ذلك القيد قيداً في الواجب، وإلّا، فبعد فراغ الشارع من الجعل، فلا محالة يكون التوقّف عقليّاً؛ لأنّ وجود التقيّد بدون القيد يكون محالاً.

فإن قلت: فبناءً على هذا يكون مرجع المقدّمة الشرعيّة إلى العقليّة؛ لأنّ ما أخذه الشارع شرطاً وقيداً لشيء يستحيل - عقلاً - وجود ذلك الشيء بدونه، ضرورة أنّ المشروط والمقيّد يستحيل بحكمٍ من العقل أن يوجد بدون قيده وشرطه.

قلنا: إنّ المقدّمة العقليّة هي ما يدركها العقل بنفسه، من دون حاجة إلى بيانٍ وجعلٍ من الشارع، وأمّا المقدّمة الشرعيّة فلابدّ من أخذها شرطاً أو قيداً في الواجب من قبل الشارع، وإن كانت النتيجة، أي: بعد أخذ الشارع لها شرطاً أو قيداً، هي استحالة وجود المشروط بدونهما عقلاً.

ص: 32

3) وأمّا المقدّمة العاديّة: فهي التي يتوقّف وجوده عليها عادةً، بأن جرت العادة على ذلك، من دون توقّفٍ عليهوجوداً، بحيث يمكن تحقّق ذي المقدّمة بدونه، وذلك كجريان العادة حين الخروج من الدار على لبس العمّة والرداء والحذاء، فإنّه يُحكم بالتوقّف العاديّ بين الخروج وبين اللّبس، وإنّما كان توقّفاً عاديّاً لإمكان تحقّق ذي المقدّمة بدونها.

ولا يخفى: أنّ المقدّمة العاديّة تكون خارجةً عن محلّ النزاع، لعدم توقّف وجوديٍّ بين المقدّمة وذيها، كي يتأتّى ترشّح الوجوب منه إليها.

وإذا عرفت ذلك نقول:

لا يخفى أنّ مرجع جميع هذه المقدّمات إلى المقدّمة العقليّة:

أمّا المقدّمة الشرعيّة؛ فلأنّه لو قلنا بكون المقدّمة معتبرة شرطاً في المأمور به كقوله: «صلّ عن طهارة»، فمعناه: أنّه يمتنع حصول المشروط والمقيّد بدون الشرط والقيد، على فرض أنّه لم يكن قيداً شرعيّاً مأخوذاً في المأمور به، ولكنّ الشارع لإحراز تحقّق الإطاعة في الأوامر الواقعيّة كشف عن توقّف المأمور به عليه، كتوقّف الصلاة على الطهارة، فإنّ هذا أيضاً حكم عقلي؛ لأنّه يكشف عن أنّ الفعل التامّ الذي يفي بتمام المصلحة لا يمكن أن يحصل من دون الإتيان بالمقدّمة.

وأمّا المقدّمة العادّيّة؛ فلأنّه لو لم يكن هناك توقّف لذي المقدّمة على المقدّمة - كما مرّ - فهذا لا يكون من المقدّمة أصلاً؛ لأنّ معنى المقدّمة العاديّة حقيقةً إنّما هو التوقّف واستحالة وجود ذي المقدّمة من دونها

ص: 33

عادةً، وإن لم يكن مستحيلاً عقلاً، كالصعود على السطح - مثلاً - فإنّه وإنلم يكن مستحيلاً من دون نصب سلّم للصعود لمن كان قادراً على الطيران، إلّا أنّه بالنسبة إلى غير القادر عليه يكون محكوماً بالاستحالة الفعليّة، وإن كان طيرانه محكوماً بالإمكان الذاتيّ.

فهذا - أيضاً - مردّه إلى الوجوب العقليّ؛ لأنّ العقل - نفسه - هو من يحكم بأنّه إذا أردت الصعود على السطح، فلابدّ لك من نصب السلّم.

الأمر الثامن: تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجود ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم:

1) أمّا مقدّمة الصحّة: فهي ما تتوقّف عليه صحّة العمل، من دون أن يكون أصل العمل متوقّفاً عليه، كالصلاة التي تتوقّف صحّتها - لا أصل تحقّقها - على الطهارة.

2) وأمّا مقدّمة الوجود: فهي ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة في أصل وجوده، كطيّ المسافة، المتوقّفة عليه نفس أعمال الحج.

ولا يخفى: أنّ مقدّمة الصحّة ترجع إلى مقدّمة الوجود على القول بوضع أسامي العبادات للصحيح؛ إذ - بناءً على قول الصحيحيّ - فإنّ غير الصحيح لا يكون فرداً للماهيّة أصلاً؛ لأنّ مرجع صحّة الشيء يكون إلى نفس وجوده؛ فإنّ فقدان الطهارة - التي هي شرط الصحّة، وبفواتها تفوت الصحّة - مانع من وجود تلك الخصوصيّة المأخوذه في الواجب،

ص: 34

وهي التقييد؛ ومحال أن يُحكم على الشيء بالصحّة إذا لم يكن واجداً لجميع خصوصيّاته.وكذا بناءً على قول الأعمّي؛ وذلك لأنّ محلّ البحث هنا إنّما هو مقدّمة الواجب، ومعلوم أنّ الواجب هو خصوص الصلاة الصحيحة، لا ما هو المسمّى باسم (الصلاة)، والصلاة الصحيحة بجميع أجزائها لا يُعقل أن توجد من دون جميع خصوصيّاتها، كما هو أوضح من أن يخفى.

3) وأمّا مقدّمة الوجوب: فهي ما يتوقّف عليه الوجوب نفسه؛ فإنّ الوجوب النفسيّ لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق المقدّمة، وهي قد تكون من الشرائط العامّة، كالبلوغ والعقل، وقد تكون من الشرائط الخاصّة، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ.

ولا يخفى: خروج هذا القسم من محلّ النزاع أصلاً؛ إذ لا يكون للواجب وجوب أصلاً قبل تحقّق مقدّمته، أي: مقدّمة وجوبه - كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ - كي يترشّح الوجوب منه إليها، وبعد تحقّقها، فلا معنى لترشّح الوجوب إليها، كما هو واضح، إذ يكون تعلّق الوجوب بها بعد فرض حصولها من قبيل طلب ما هو حاصل.

وبعبارة أُخرى: فإنّ مقدّمة الوجوب خارجة عن محلّ البحث؛ لأنّ كلامنا هنا إنّما هو بعد ثبوت ذي المقدّمة في الخارج، فيُبحث - حينئذٍ - عن ترشّح الوجوب منه إلى المقدّمة؛ والمفروض أنّ الوجوب لا يتحقّق

ص: 35

إلّا بعد وجود مقدّمته وتحقّقها، كما في قيد الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، ومعه: فكيف يمكن تصوير الترشّح من ذي المقدّمة إليها؟! فإنّ لازمه إمّا تحصيل الحاصل، أو تقدّم الشيء على نفسه، وكلاهما غير معقول.4) وأمّا مقدّمة العلم: فهي ما لا يتوقّف الواجب عليها، لا في وجوده ولا في وجوبه، وإنّما يتوقّف عليها العلم بوجود الواجب، كما في الإتيان بالصلاة في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس، وكذا الإتيان بالصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة، فإنّ العلم بتحقّق المأمور به في الخارج وحصول الامتثال والإطاعة متوقّف عليه. فهل هذه المقدّمة داخلة في محلّ البحث أم لا؟

لا يخفى: أنّ كلامنا إنّما هو في المقدّمة التي يتوقّف عليها العلم بوجود الواجب، لا ما يتوقّف عليها العلم بتحقّق الامتثال. فإنّ هذه المقدّمة تنقسم على قسمين:

أحدهما: وهي التي تكون أجنبيّةً وخارجةً عن حقيقة الواجب، كما لو أراد أن يحصّل اليقين بحصول غسل تمام اليد ومقدار الواجب من الوضوء بغسل ما فوق المرفق.

والثاني: هو الإتيان بجميع أطراف العلم الإجماليّ لحصول العلم بتحقّق الواجب، بلا فرق بين الشبهة الحكميّة، كما إذا شكّ في يوم الجمعة بأنّ الواجب عليه هو صلاة الظهر أو الجمعة، أو الموضوعيّة، كما لو علم إجمالاً بوجود القبلة إلى إحدى الجهات الأربع، فيجب عليه

ص: 36

- حينئذٍ - الإتيان بالصلاة إلى الجهات الأربع، في كلا القسمين. والعقل هو من يحكم بوجوب المقدّمة العلميّة؛ لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة، وهي لا تحصل إلّا بغسل مقدار زائدٍ ممّا فوق المرفق، كما في مثال الوضوء، أو الإتيان بجميعأطراف العلم الإجماليّ؛ بداهة أنّ اليقين بالفراغ متوقّف على إتيان جميع المقدّمات.

ولا يخفى - أيضاً - أنّها خارجة عن محلّ النزاع؛ لأنّ وجوبها ليس من باب الملازمة وترشّح الوجوب الغيريّ من ذي المقدّمة عليها، وذلك لعدم توقّف وجود الواجب عليها حتى يحكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف عليه وجوده؛ وإنّما المتوقّف عليها هو العلم بالواجب؛ وقد يمكن حصول الواجب من دونها، من باب الصدفة، كما إذا صلّى إلى واحدةٍ من الجهات الأربع، وصادفت هذه الجهة القبلة الواقعيّة، فلمّا لم يكن وجوبها من باب الملازمة، بل من باب استقلال العقل بوجوبها تحصيلاً للأمن من العقوبة، فهذه - أيضاً - خارجة عن محلّ النزاع لا محالة.

الأمر التاسع: تنقسم المقدّمة إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة:

اشارة

أمّا المتقدّمة: فهي التي تكون متقدّمةً زماناً على ذي المقدّمة، كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة، فإنّهما متقدّمان على ذي المقدّمة زماناً، ولكن بعنوانهما المصدريّ، وأمّا بعنوانهما الاسم المصدريّ،

ص: 37

فهما يخرجان عن المقدّمة المتقدّمة ويدخلان في المقارنة.

وأمّا المقدّمة المقارنة: فهي التي يكون وجودها مقارناً لوجود ذيها، وذلك كالستر واستقبال القبلة بالنسبة إلى الصلاة.وأمّا المقدّمة المتأخّرة: فهي التي تكون متأخّرة عن وجود ذيها، كأغسال الليلة الآتية المعتبرة في صحّة صوم اليوم الماضي للمستحاضة، وكالإجارة في بيع الفضوليّ بناءً على الكشف الحقيقيّ.

وقد يأتي الإشكال في إمكان المقدّمة المتأخّرة، بل وفي المتقدّمة أيضاً، فما صنعه الاُستاذ المحقّق)من حصر الإشكال في المقدّمة المتأخّرة، وقوله: «والمقدّمة المتأخّرة المسمّاة عند الاُصوليّين بالشرط المتأخّر هي التي وقع الكلام في إمكانها وامتناعها، وأمّا المقدّمة المقارنة والمتقدّمة فلا كلام فيهما»(1)، في غير محلّه.

فإنّ صاحب الكفاية(قدس سره) قد صرّح بأنّه «ليس إشكال انخرام القاعدة العقليّة مختصّاً بالشرط المتأخّر في الشرعيّات كما اشتهر في الألسنة، بل يعمّ الشرط والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر»(2).

وحاصل المطلب: أنّه لا إشكال في أنّ المؤثّر في المعلول هو العلّة، فلكي تكون العلّة مؤثّرة في المعلول فلابدّ أن يكون وجوده في

ص: 38


1- منتهى الاُصول 1: 285.
2- كفاية الاُصول: ص 92.

حين وجودها، وعليه: فالعلّة بعد انصرامها لا يُعقل أن تكون مؤثّرة في المعلول، بل حال العلّة بعد انصرامها حالها كما لو كانت معدومة، فكما أنّها قبل وجودها لا يمكن أن تؤثّر في وجود المعلول، فكذلك إذاوجدت ثمّ انعدمت؛ فإنّ تأثيرها في المعلول يكون ممتنعاً بعد انعدامها. فالوصيّة في ملكيّة الموصى به للموصى له لا تكون سبباً ومؤثّراً في الملك؛ لأنّها معدومة حين الموت، وهكذا العقد في كلٍّ من بيع الصرف وبيع السلم، لا يكون مؤثّراً في حصول الملكيّة؛ إذ لا وجود للعقد حينه، فيلزم لو قلنا بتأثير العقد ودخالته في الملكيّة دخالة المعدوم في الموجود وتأثيره فيه.

بل ويتوسّع البحث ويأتي الإشكال في كلّ عقد؛ لأنّه لابدّ من مقارنة جميع أجزاء العلّة للمعلول من حيث الزمان، مع أنّنا نرى تقدّم بعض أجزاء العقد على البعض، حيث إنّ كلّ عقد يكون مركّباً من الإيجاب والقبول، وأجزاؤهما من الاُمور التدريجيّة، أي: فلا محالة يحصل جزء وينعدم، ليوجد بعده جزء آخر، فليست جميع الأجزاء مقارنة للمعلول والأثر، وهي الملكيّة، بل المقارن له إنّما هو الجزء الأخير خاصّةً، دون سائر الأجزاء من الإيجاب وسائر الشروط المعتبرة، فليس المقارن - إذاً - إلّا الجزء الأخير؛ وأمّا بقيّة الأجزاء، فتكون معدومة حال صدور الأثر، فلو قلنا بمدخليّتها في حصوله كان ذلك من باب تأثير المعدوم في الوجود، وإنّه محال.

ص: 39

ولكن لا يخفى: أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على العقود، لو قلنا بأنّ الكلام من الاُمور غير القارّة، التي تكون أجزاؤها بحيث لا يأتي جزء إلّا بعد انعدام الجزء السابق، وأمّا إذا قلنا بأنّها من الاُمور القارّة، فلا يأتي هذا الإشكال أصلاً.وقد يجاب عن الإشكال في المقدّمة المتقدّمة: بأنّه إنّما يأتي فيما لو كانت المقدّمة المتقدّمة من قبيل العلّة التامّة، بناءً على اتّحاد العلّة والمعلول زماناً، وتبعيّة وجود المعلول لوجود العلّة. وأمّا إذا كانت من قبيل العلّة التي تقرّب المعلول إلى صدور وجوده، المسمّاة ﺑ «المعدّ»، فلا يشترط التقارن الزمانيّ بينها وبينه، بل يجوز انفكاكها عن المعلول وتقدّمها عليه من حيث الزمان، كما في طيّ المسافة للوصول إلى المقصد، فإنّ نقل الأقدام مقدّمة للوصول، بمعنى أنّه مجرّد معدٍّ ومقرّب لتحقّق الوصول إلى المكان الذي قصده.

وإن شئت فقل: إنّ الذي لابدّ أن يؤثّر في حال وجوده، ولا يجوز انفكاكه عن المعلول زماناً، إنّما هو العلّة التامّة، وأمّا المعدّ فلا يعتبر الاتّحاد الزمانيّ بينه وبين المعلول، فالإشكال المذكور لا يشمل الشرط المتقدّم، ولا تنخرم في مورده القاعدة العقليّة، وهي: عدم جواز انفكاك العلّة عن المعلول زماناً، وعدم جواز تأثير المعدوم في الموجود، كما ذهب إليه الفلاسفة، من لزوم المقارنة بين الشرط والمشروط، وامتناع تقدّمه عليه وتأخّره عنه.

ص: 40

وبالجملة: فإذا قلنا بأنّ لزوم المقارنة إنّما يكون في العلّة التامّة دون المعدّ، فلا يرد الإشكال في الشرط المتقدّم. وكذا لو قلنا بلزوم التفصيل بين الاُمور التكوينيّة والشرعيّة، وبأنّ هذه القاعدة إنّما تجري في الاُمور التكوينيّة، دون الشرعيّة.ولكنّ الحقّ: أنّه ليس هناك فرق - فيما نحن فيه - بين التكوينيّات وبين الاُمور التشريعيّة، بل العلّة في أيّ وعاءٍ كانت، يستحيل أن تنفكّ عن المعلول، فلا فرق بين تقدّم العلّة وتأخّرها في ترتّب القاعدة وامتناع الانفكاك في أيّ وعاءٍ كان. وبالتالي: فالصحيح في الجواب أن يقال: بناءً على أنّ الشرط المتقدّم من المعدّات، فيكون الإشكال منحصراً في الشرط المتأخّر.

والوجه في الإشكال في مورد الشرط المتأخّر - مضافاً إلى ما مرّ -: أنّه كيف يُعقل أن يكون للمتأخّر دخل في وجود المتقدّم وأن يكون واحداً من أجزاء علّته؟! فإنّ هذا يستوجب أن يكون المعلول متأخّراً عن جميع أجزاء علّته، والحكم لابدّ وأن يكون متأخّراً عن جميع أجزاء وشرائط موضوعه، والعلّة والموضوع لابدّ من تقدّمهما على المعلول والحكم.

وبعبارةٍ أُخرى: فبعدما عرفنا أنّ مردّ شرائط الحكم ومرجعها إلى موضوع الحكم، بلا فرق بين أن يكون الحكم تكليفيّاً أو وضعيّاً، كالاستطاعة، فإنّها بعد أخذها شرطاً للوجوب، رجعت إلى الموضوع، فمرجع قولنا: (حجّ إذا استطعت) إلى قولنا: (أيّها المستطيع يجب عليك الحجّ).

ص: 41

هذا في الحكم التكليفيّ.

وأمّا في الحكم الوضعيّ، فكشرطيّة الغليان في نجاسة العصير، فإنّ مردّ مثل هذا الجعل إلى مثل قولنا: (العصير المغلي نجس)، فلابدّ للموضوع - بجميع أجزائه وشروطه - أن يكون متقدّماً حتى يترتّب عليه الحكم، فالصوم الذييُشترط الغسل في صحّته - مثلاً - لا محالة يجب أن يكون متقدّماً بجميع أجزائه وشرائطه على الحكم، الذي هو الوجوب، فلو كان بعض شروطه متأخّراً عن الحكم لزم تأخّره هو نفسه عن الحكم، وهذا خلف.

وقد أُجيب عن الإشكال على الشرط المتأخّر:

أوّلاً: بنفس ما أُجيب في الشرط المتقدّم.

وثانياً: بأنّ المراد من الشرطيّة إنّما هو دخل الشرط في الموضوع، ومدخليّة الشرط في الموضوع إنّما هي بما له من الوجود العلميّ والتصوريّ، لا ذلك الأمر الخارجيّ.

قال في الكفاية: «فكون أحدهما شرطاً له ليس إلّا أنّ للحاظه دخلاً في تكليف الأمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوّره دخلاً في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدّم والمتأخّر»(1). ومعلوم أنّ تصوّر الشرط والعلّة

ص: 42


1- كفاية الاُصول: ص 93.

يكون مقارناً للمعلول، والذي يكون متأخّراً إنّما هو ذات الشرط.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ كلّ فعل اختياريّ يكون معلولاً للإرادة، والتكليف لا يتعلّق إلّا بما هو فعل اختياريّ، وهذه الإرادة لا تتعلّق إلّا بما فيه المصلحة، وتلك المصلحة قد تترتّب على ذات الشيء وأجزائه وقد تترتّب عليه مضافاً إلى غيره المتأخّر عنه، لأجل أنّ ذلك الغير يكون دخيلاً في الصلاح، فالأمر بلحاظه يُجعَل ويُحكم به.ومن المعلوم: أنّ هذا اللّحاظ والإرادة يكونان متقارنين، والذي يكون متأخّراً إنّما هو ذات

الملحوظ، وعليه: فما يكون مؤثّراً فإنّما هو الشيء بوجوده اللّحاظيّ، لا بوجوده الخارجيّ، ومن هنا، فيمكن أن يكون نفس الشرط متأخّراً، ولا تنخرم القاعدة العقليّة في مورده أيضاً. هذا.

ولكنّ الصحيح في الجواب أن يقال:

إنّ المقام يكون من باب المعدّ - أيضاً -. فإنّ الشرط لا يكون علّةً ومؤثراً في إيجاد المعلول بما له من الوجود الخارجيّ، بل إنّما المؤثّر هو الخصوصيّة الحاصلة من جهة إضافة ذات الشرط إلى المشروط والمعلول، والشرط غير المقتضي، بل المقتضي ما يوجده المعلول، وليس نوع المقتضي مؤثّراً، بل الحصّة الخاصّة منه، فليس نوع النّار هو الذي يوجب الإحراق، بل المؤثّر هو خصوص الحصّة من النار التي يكون لها مماسّة مع الشيء، مع كون الشيء يابساً وقابلاً للاحتراق، وهذه الحصّة الخاصّة إنّما صارت مقتضياً ومؤثّراً من قبل الإضافة، وهي

ص: 43

المماسّة في المثال، فالإضافة - إذاً - هي التي تكون محصّلةً للخصوصيّة التي بها يكون المقتضي هو المؤثّر، فمن الجائز - لذلك - أن ينفصل ذات الشرط عن المعلول زماناً.

فالحقّ: جواز تقدّم الشرط على المشروط، ولا تشمله قاعدة عدم جواز الانفكاك، وهذا الذي ذكرناه يأتي بعينه في الشرط المتأخّر، بل يأتي فى جميع المقدّمات بلا استثناء، بلا فرق بين المتقدّمة منها والمقارنة والمتأخّرة.وعليه: فحيث إنّ الشرائط الشرعيّة كلّها من قبيل المعدّات المقرّبة، لم يمتنع تقدّمها على المشروط، وكونها منعدمة عند وجوده، هذا ما يُستفاد من كلامٍ للمحقّق الأصفهاني(1).

ولكن يرد عليه: أنّه إنّما يتمّ ويكون رافعاً للإشكال في خصوص الشروط المتقدّمة لا المتأخّرة. مضافاً إلى أنّه لو قلنا بأنّ المؤثّر هو لحاظها، لا نفس وجودها الخارجيّ، لامتناع تصوّر الخارجيّات في الإرادة، فالشرط في الحقيقة إنّما هو وجودها العلميّ واللّحاظيّ، لا ذات المقدّمة، أي: المقدّمات الخارجيّة، ولمّا كان هذا اللّحاظ مقارناً للمعلول، فلا يكون من باب تأثير المعدوم في الموجود، أو تقدّم المعلول على بعض أجزاء علّته في شيء، ولمّا كانت هذه المقدمات ملحوظة بوجودها الخارجيّ، وكانت بهذا اللّحاظ

ص: 44


1- انظر: نهاية الدراية 1: 170.

مطابقة لما هو الشرط في الحقيقة سُمّيت شروطاً، وإلّا، فالشرط في الحقيقة هو لحاظها لا نفس وجودها الخارجيّ.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ الذي يكون دخيلاً ومأخوذاً في التكليف على نحو الشرط - بناءً على الكلام المتقدّم -، إنّما هو الوجود اللّحاظيّ للمقدّمة، وهو مقارن للتكليف أبداً، وليس متقدّماً عليه ولا متأخّراً عنه، فلا انخرام للقاعدة أصلاً. ففي مثال العقد الفضوليّ - مثلاً - الذي هو دخيل على سبيل الشرط إنّما هو لحاظ الاجازة، لا ذاتها، واللّحاظ مقارن للملكيّة أو الزوجيّة، ولو كانت الإجازة نفسها متأخّرةً عنهما. هذا.ولكنّ ما ذكروه غير تامّ؛ بل هو - في الواقع - ناشئ من الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول، فإنّ الذي يكون دخيلاً في الحكم في مرحلة الجعل إنّما هو لحاظ الشرط؛ لأنّ مرجع شرائط الجعل إلى العلّة الغائيّة، والعلّة الغائيّة للشيء علّة غائيّة له بماهيّتها، أي: بوجودها الذهنيّ والعلميّ، وهو معلول لماهيّتها، لا لوجودها الخارجيّ. ذلك أنّ العلّة الغائيّة هي عبارة عن الصورة العلميّة، فالجاعل المشرّع بما أنّه حكيم، فهو بعد أن يرى المصلحة، يتصوّر الشيء بجميع ما له دخل فيه، من الشروط، متقدّمة كانت أم متأخّرة، وعدم المانع، ثمّ بعد ذلك يجعل الحكم ويرتّبه عليه، فلحاظ الشروط في مرحلة الجعل - لا محالة - يكون مقارناً للمشروط، الذي هو الجعل.

وأمّا شروط المجعول - وهي الشروط الراجعة إلى الموضوع وفعليّة

ص: 45

الحكم -، فليست من هذا القبيل، فإنّ فعليّة الحكم إنّما تتوقّف على وجود الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه.

فالنتيجة: أنّ هذا الكلام المتقدّم ناظر إلى شرط الجعل، لا المجعول، ومورد البحث إنّما هو شرط المجعول، فالإشكال بلزوم المحال وانخرام القاعدة العقليّة باقٍ على حاله، ولا يصلح الكلام المتقدّم لرفعه.

محاولات للجواب:

وقد وجدت في المقام محاولات عديدة للجواب عن هذا الإشكال:منها:

ما نُسب إلى صاحب الجواهر) من أنّ «استحالة تخلّف المعلول عن علّته وتقدّمه عليها، إنّما تكون في العلل والمعلولات التكوينيّة، دون الاُمور الاعتباريّة، التي منها: الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ كيفيّة اعتبارها - كأصله - تابعة لاعتبار معتبرها، فله اعتبار الملكيّة - مثلاً - في الصرف والسلم والوصيّة مع شرطيّة القبض والموت المتأخّرين عن العقد لها، واعتبار وجوب الحجّ - مثلاً - قبل الموسم، مع كونه شرطاً متأخّراً»(1).

ولكنّ الحقّ - كما ذكرنا آنفاً -: أنّه لا فرق بين الاُمور التكوينيّة والاعتباريّة؛ فإنّ الأمر المتأخّر إمّا أن يكون دخيلاً أو لا، فإن كان دخيلاً، فيمتنع تخلّفه - أي: المشروط - عنه، ولا يمكن أن يتحقّق المشروط

ص: 46


1- راجع: منتهى الدراية 2: 137 - 138.

والموضوع قبل وجود شرطه، وإن لم يكن دخيلاً لم يكن شرطاً أصلاً، سواء كان تكوينيّاً أم تشريعيّاً.

ومنها:

ما عن المحقّق الشاهرودي(قدس سره) - نقلاً عن بعض تلامذته - من «أنّ امتناع تخلّف المعلول عن العلّة إنّما يكون في المؤثّر والمتأثّر الحقيقيّين، دون الأحكام الشرعيّة التي ليست إلّا أحكاماً مجعولةً لموضوعاتها، وليست رشحات لها، لما ثبت في محلّه من امتناع جعل السببيّة، فكلّ من الدلوكوالعقد ونح-وهم-ا موض-وع للوجوب، أو الملكيّة، أو الزوجيّة، لا سبب لها، ومن المعلوم دوران الحكم مدار موضوعه، فلا يحكم الشارع بالوجوب أو الملكيّة - مثلاً - إلّا بعد تماميّة الموضوع من الدلوك في الأوّل، والقبض في الثاني، وهكذا.. وبالجملة: فالشرط المتأخّر دخيل في الموضوع، فلا تأخّر في الشرط حقيقة»(1).

وفيه: أنّ الموضوع - أيضاً - بالنسبة إلى الحكم هو كالعلّة بالنسبة إلى المعلول، والكلام إنّما هو في فعليّة الحكم، فإذا لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الموضوع، ولم يبلغ الحكم مرحلة الفعليّة، وهو معترف بأنّ القيد دخيل في الموضوع.

فكلامه يرجع إلى أنّه لا أثر تكليفي أو وضعي إلّا بعد حصول الشرط،

ص: 47


1- منتهى الدراية 2: 138.

وكلامنا في أنّه مع دخل القيد في الموضوع ودخول المتأخّر في المتقدّم، يحصل الأثر الاعتباريّ قبل وجود الشرط.

ومنها:

ما قد يقال: من أنّ الذي لابدّ من تقدّمه هو وجود المقتضي حيث يترشّح منه المقتضى - بالفتح - وأمّا الشرائط، فلمّا لم يكن من شأنها ترشّح المعلول منها، فلا مانع من تأخّرها عقلاً.

وفيه: أنّ الشرط حيث كان دخيلاً في الموضوع، فيفرض أنّ له دخلاً في وجود المعلول، فيكون تأخّره عن المشروطمن باب تأخّر المقتضي عن المقتضى، فالامتناع موجود في كلا الانفكاكين.

ومنها:

ما يُستفاد من كلام المحقّق النائيني(قدس سره)، حيث قال:

«وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه: هو أنّ الشّرط عنوان التّعقّب والوصف الانتزاعيّ، وقد تقدّم عدم توقّف انتزاع وصف التّعقّب على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع، بل يكفي في الانتزاع وجود الشي ء في موطنه، فيكون الشرط في باب الفضوليّ هو وصف التعقّب، وإنّ السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقّب بالإجازة، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد»(1).

وحاصله: أنّنا لا نرى بدّاً لدفع الإشكال عن الشرط المتأخّر من القول

ص: 48


1- فوائد الاُصول 1: 281.

بأنّ الشرط إنّما هو عنوان التعقّب، وهو عنوان مقارن للمشروط، وليس متأخّراً عنه.

ففي باب الفضوليّ - مثلاً - المؤثّر في حصول الملكيّة وترتّب النقل والانتقال إنّما هو العقد المتعقّب بالإجازة، وفي صوم المستحاضة المؤثّر في صحّة الصوم هو الصوم المتعقّب للغسل، وكذا الحال في بيع المكره، فإنّ المؤثّر هو البيع المتعقّب بالإذن وطيب النفس، وليس هناك من شرط متأخّر.ومرجع كلامه(قدس سره): إلى أنّ عالم المجعول والمعتبر مغاير لعالم الجعل والاعتبار، وعليه: فلا مانع من انفكاك الجعل عن المجعول، فيمكن تحقّق الجعل في زمن، على أن يتحقّق المجعول فيما بعد؛ لأنّه غير مرتبط بالاُمور الخارجيّة.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ المصالح تكون قائمة في نفس المعنون لا العنوان؛ لأنّه أمر انتزاعيّ لا وجود له حقيقةً، فلا يكون دخيلاً، حيث إنّه لا تأثير له، فالمؤثّر إنّما هو ذات المعنون، ولا دخل للعنوان، فلا يكون العنوان هو الشرط.

وثانياً: أنّه خلاف ظاهر أدلّة اعتبار الإجازة وطيب النفس - مثلاً -، حيث إنّ ظاهر هذه الأدلّة - كما يبدو لمن لاحظها - أنّ الذي يكون دخيلاً في حصول الملكيّة أو الزوجيّة هو نفس الإجازة وطيب النفس وذاتهما، لا العنوان والأمر الانتزاعيّ، كعنوان التعقّب أو التأخّر أو غير ذلك.

ص: 49

وثالثاً: أنّ ما أفاده(قدس سره) لا يصلح لأن يكون دافعاً للإشكال، إذ لو كان عنوان التعقّب - مثلاً - هو الشرط، لم يكن من قبيل الشرط المتأخّر، بل إنّما يكون من باب الشرط المقارن، كما اعترف به هو(قدس سره)، فيكون هذا خروجاً عن محلّ الكلام، واعترافاً منه بامتناع الشرط المتأخّر، فالإتيان بهذا الجواب في مقام دفع الإشكال عن الشرط المتأخّر ليس على ما ينبغي.

ورابعاً: أنّه من المستحيل - أيضاً - أن ينفكّ المعتبر عن الاعتبار؛ لأنّ وعاءهما واحد، كاستحالة انفكاك العلّة عن المعلول، وذلك كما أنّ الماهيّة المتصوّرة تكون غير قابلةالانفكاك عن التصوّر، بحيث يوجد التصوّر بدون الماهيّة، فكذلك في محلّ البحث، فإنّه يستحيل أن ينفكّ المعتبر عن الاعتبار، والمجعول عن الجعل.

وخامساً: أنّ نسبة الاعتبار إلى المعتبر هي كنسبة المعلول إلى العلّة والإيجاد إلى الوجود، فبما أنّهما متّحدان، فلا يكاد يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر خارجاً.

نعم، العلّة والإيجاد متقدّمان رتبةً على المعلول والوجود، وهذا التغاير بينهما ليس بتغاير حقيقيّ، بل هو تغاير اعتباريّ، وإن أصبح بعد الاعتبار حقيقة. هذا.

وقد التزم صاحب الجواهر) بكاشفيّة الإجازة في عقد الفضوليّ، وذكر أنّ استحالة تأثير المتأخّر في المتقدّم، سبباً كان أو شرطاً، تختصّ

ص: 50

بالاُمور العقليّة، وأمّا الاعتباريّات، ومنها المجعولات الشرعيّة، فليست مجرى هذه القاعدة، وذكر أنّ الشارع المقدّس كثيراً ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبّب، كغسل الجمعة يوم الخميس، وإعطاء الفطرة قبل وقته، فضلاً عن تقدّم المشروط على الشرط، كغسل الفجر قبل الفجر للمستحاضة الصائمة، و... (1)ودفعه الشيخ(قدس سره) بأنّه «لا فرق فيما فرض شرطاً أو سبباً بين الشرعيّ وغيره، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوع المحال العقليّ، فهي كدعوى أنّ التناقض الشرعيّ بين الشيئين لا يمنع من اجتماعهما؛ لأنّ النقيض الشرعيّ غير العقليّ»(2).

وأورد عليه المحقّق اليزديّ) في حاشيته على المكاسب بما لفظه:

«ودعوى أنّ ذلك من المحال العقليّ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه، مدفوعة:

أوّلاً: بأنّ الوجه في الاستحالة ليس إلّا كونه معدوماً، ولا يمكن تأثير

ص: 51


1- جواهر الكلام 22: 286 - 287. قال(قدس سره): «... بعد احتمال كون المراد من شرطيّته في المقام المعنى الذي لا ينافي السببيّة المذكورة، وهو الشرط الكشفيّ الذي لا مانع من تصوّره في العلل الشرعيّة التي هي بحكم العلل العقليّة، وإن لم يكن هناك من الشرع ما يقتضي خلاف ذلك، كما جاء في تقديم غسل الجمعة يوم الخميس الذي هو شبه تقديم المسبّب على السبب، فلا مانع - حينئذٍ - من التزام توقّف تأثير العقد على حصوله المستقبل، وإن ترتّب الأثر الآن قبل وقوعه...»، إلى آخر كلامه(قدس سره).
2- كتاب المكاسب 3: 401.

المعدوم في الموجود، وهذا يستلزم عدم جواز تقدّم الشرط - أيضاً - على المشروط؛ لأنّه حال وجود المشروط معدوم، وكذا تقدّم المقتضي وأجزائه، ولازم هذا التزام أنّ المؤثّر فى النقل (التاء) من قوله: (قبلت)، وأنّ الأجزاء السابقة ليست بمؤثّرة أو أنّها معدّات.

وثانياً: بإمكان دعوى أنّ المؤثّر إنّما هو الوجود الدهريّ للإجازة، وهو متحقّق حال العقد، وإنّما تأخّره في سلسلة الزمان.

وثالثاً: نقول: إنّ الممتنع إنّما هو تأثير المعدوم الصرف، لا ما يوجد ولو بعد ذلك.ورابعاً: على فرض تسليم الامتناع نقول: إنّ ذلك مسلّم فيما إذا كان المؤثّر تامّاً، لا مجرّد المدخليّة، فإنّ التأخّر في مثل هذا ممّا لا مانع منه، وأدلّ الدليل على إمكانه وقوعه: أمّا في الشرعيّات: ففوق حدّ الإحصاء، وأمّا في العقليّات: فلأنّ من المعلوم أنّ وصف التعقّب - مثلاً - متحقّق حين العقد، مع أنّه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك، فإن كانت في علم اﷲ موجودة فيما بعد، فهو متّصف الآن بهذا الوصف، وإلّا فلا.

لا يقال: إنّه من الاُمور الاعتباريّة؛

لأنّا نقول: لو لم يكن هناك معتبر - أيضاً - يكون هذا الوصف متحقّقاً، وكذا الكلام في وصف الأوّليّة والتقدّم. مثلاً: يوم أوّل الشهر متّصف الآن بأنّه أوّل، مع أنّه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك، ومتّصف بالتقدّم

ص: 52

فعلاً، مع أنّه مشروط بمجيء التأخّر، وهكذا الجزء الأوّل من الصلاة، متّصف بأنّه صلاة إذا وُجد - في علم اﷲ - بقيّة الأجزاء. وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أوّل الشروع، يقال: إنّه مشتغل بالتصوير بشرط أن يأتي ببقيّة الأجزاء، وهكذا إمساك أوّل الفجر صوم لو بقي إلى الآخر، وكذا لو هيّأ غذاءً للضيف، يقال: إنّه فيه مصلحة، وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك، وإلّا، فهو من أوّل الأمر متّصف بأنّه لغوٌ، وكذا لو حفر بئراً ليصل إلى الماء، فإنّه متّصف من الأوّل بعدم اللّغويّة إن وصل إليه، وإلّا، فباللّغويّة، وهكذا إلىما شاء اﷲ من اتّصاف شيء بوصف فعليٍّ

مع إناطته بوجودٍ مستقبليّ.

بل أقول: لا مانع من أن يدّعي مدّعٍ أنّ النفوس الفلكيّة والأوضاع السماويّة والأرضيّة، كما أنّ كلّ سابقٍ معدٌّ لوجود اللّاحق، كذلك كلّ لاحق، له مدخليّةٌ في وجود السابق.

بل يمكن أن يقال: إنّ جميع أجزاء العالم مرتبطة، بمعنى: أنّه لولا هذا لم يوجد ذاك، وبالعكس، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم، وهكذا... فجميع العالم موجود واحد تدريجيّ، ولا يمكن إيجاد بعضه من دون بعض. والإنصاف: أنّه لا سادّ لهذا الاحتمال، ولا دليل على بطلان هذا المقال»(1).

ص: 53


1- حاشية المكاسب (السيّد اليزديّ)) 1: 149 - 150.

وفي كلامه) مواضع للنظر:

إذ يرد على ما أفاده أوّلاً: أنّه من باب الدليل النقضيّ، وقد ذكرنا أنّ البعض قد استشكل بالنسبة إلى الشرط المتقدّم أيضاً، وذكرنا هناك في دفع هذا الإشكال: أنّ الذي يكون تقدّمه محالاً إنّما هو تقدّم العلّة التامّة على المعلول، أي: الجزء الذي يكون سبباً وعلّةً تامّة للمعلول، وأمّا الأجزاء السابقة فهي تكون من باب المعدّات، ولا يضرّ تقدّمها.

ويأتي على ما أفاده ثانياً: أنّا قد أجبنا عنه سابقاً.

ويأتي على ما أفاده ثالثاً: إشكال عدم جواز انفكاك المعلول عن العلّة زماناً.ويرد على ما أفاده رابعاً: أنّا إذا قلنا باستحالة وقوعه، فإذا رأينا مورداً ما من الشرع ظاهره الوقوع، كان لابدّ من التأويل.

وأمّا ما ذكره(قدس سره) من الأمثلة، فهو من قبيل المعدّ، وليس بينهما علّيّة ومعلوليّة.

وقوله: « فجميع العالم موجود واحد تدريجيّ»، أي: في وعاء الدهر، وقد أجبنا عنه سابقاً.

وقوله: «كلّ سابقٍ معدّ لوجود اللّاحق، كذلك كلّ لاحق، له مدخليّةٌ في وجود السابق»، تامّ في شقّه الأوّل، أي: بالنسبة إلى معدّيّة السابق للّاحق، وليس تامّاً في شقّه الثاني، أعني: ثبوت مدخليّة اللّاحق في السابق، وقياسه على الأوّل قياس بلا دليل.

ص: 54

ومنها:

ما عن المحقّق الشيرازي(قدس سره)، وهو «أنّ الشرط في هذه الموارد ليس المتقدّم أو المتأخّر بوجوده الكونيّ الزمانيّ، لكي يلزم المحذور، بل بوجودهما الدهريّ المثاليّ، وهما بهذا الوجود لا يكونان إلّا مقارنين للمشروط؛ فإنّ المتفرّقات في سلسلة الزمان مجتمعات في وعاء الدهر»(1).

وفيه: أنّ الاجتماع في وعاء الدهر لايرفع غائلة استحالة تقدّم المعلول على العلّة زماناً؛ ولا غائلة محذور تأثيرالمعدوم في الموجود فعلاً، إلّا أن يقال: إنّه وإن كان معدوماً بحسب الزمان، إلّا أنّه يكون موجوداً بحسب الوجود الدهري، فلا يؤثّر المعدوم في الموجود.

ولكنّ الحمل عليه تأويل في الأدلّة بلا موجب، فلا يمكن المصير إليه، بل ما يظهر منها هو الوجود الزمانيّ.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره السيّد(قدس سره) في حاشية المكاسب - ونقلناه سابقاً -، من إمكان أن يُدَّعى أنّ المؤثّر إنّما هو الوجود الدهريّ للإجازة، وهو متحقّق حال العقد، وإنّما تأخّره في سلسلة الزمان.

ومنها:

ما أفاده المحقّق العراقي(قدس سره) بقوله:

«ثمّ إنّه ممّا ذكرنا من المناط في مقدّميّة الشرائط والموانع يظهر لك

ص: 55


1- نقله عنه الآخوند الخراساني) في فوائد الاُصول: ص 58.

اندفاع الإشكال المعروف في الشرائط المتأخّرة، وعدم لزوم انخرام قاعدة عقليّة: من لزوم تحقّق المعلول قبل وجود علّته، إذ نقول: بأنّ ذلك إنّما يرد إذا كان دخل الشرائط - أيضاً - كالمقتضي بنحو المؤثّريّة، إذ حينئذٍ يتوجّه الإشكال المزبور في شرطيّة الوجودات المتأخّرة، وإلّا، فبناءً على ما قرّرناه من كون دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في الأمر الاعتباريّ لا يكاد مجال للإشكال المزبور، حيث أمكن - حينئذٍ - تصوير الشرطيّة للوجودات المتأخّرة بعين تصويرها للوجودات المقارنة والمتقدّمة، إذ حينئذٍ كما يمكن أن يكون الشي ء بوجوده المقارن محدّداً للماهيّة بحدٍّ خاصّ تكون بذلك الحدّقابلة للتحقّق عند وجود مقتضيها، كذلك يمكن ذلك في الوجود»(1).

وتوضيحه: أنّ حقيقة الشرط ليس كما يقال من أنّه المتمّم لتأثير المقتضي كي يمتنع تأخّره؛ لامتناع أن يؤثّر المعدوم في الموجود، وإنّما حقيقته هو كونه طرفاً لإضافة المقتضي إليه، فيتحدّد بها ويتحصّص بواسطتها، فيكون بهذه الإضافة مؤثّراً من دون أن يكون لنفس الشرط أيّ تأثير في وجود المعلول، بل المؤثّر ليس إلّا المقتضي، لكنّه الحصّة الخاصّة منه، فالمؤثّر في الإحراق ليس هو مطلق النّار، بل الحصّة الخاصّة منها، وهي النار المجاورة للشيء، أو يكون طرفاً لإضافة المعلول إليه،

ص: 56


1- نهاية الأفكار 2: 279.

فيكون بتلك الإضافة قابلاً للتأثير.

فليس الشرط كما يُدّعى هو المتمّم لفاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل، بل هو طرف إضافة وتحديد بها تحصل الفاعليّة للفاعل والقابليّة للقابل، ومن الواضح: أنّه لا يمتنع أن يكون طرف الإضافة من الاُمور المتأخّرة بعد أن كانت الإضافة مقارنة، ولم يكن للأمر المتأخّر أيّ تأثير.

ولكن فيه: أنّ الإضافة من الاُمور الاعتباريّة والتصوّريّة، فلا معنى للقول بدخالتها في التأثير في إيجاد المعلول؛ فإنّ تأثير النار في الإحراق - مثلاً - وقابليّة الشيء للاحتراق ليس له أي دخل بعالم اللّحاظ والإضافات، بل هو مرتبط بعالم الخارج وناشئ عن الجهات الخارجيّة، ومن هنا، فلو اشتغل بتصوير صورة - مثلاً - فمن أوّل الشروع يقال: إنّهمشتغل بالتصوير، ولكن بشرط أن يأتي ببقيّة الأجزاء، وهكذا الحال في الإمساك من أوّل الفجر، فإنّه يقال له صوم منذ ذلك الحين لو بقي إلى غسق الليل.

فالمؤثّر - إذاً - إنّما هو الشرط الخارجيّ، فدعوى: تأثير نفس الإضافة في القابليّة بحيث لا يكون المضاف قبل اللّحاظ الخاصّ قابلاً للتأثّر أو التأثير لا ترجع إلى معنى محصّل.

قد يقال: بأنّه يمكن أن يراد من الإضافة في كلامه): الإضافة الواقعيّة الحقيقيّة التي لها تقرّر واقعيّ.

ص: 57

ولكن فيه: أنّ هذه الإضافة تحتاج إلى تحقّق طرفيها فعلاً، كالفوقيّة والتحتيّة والأماميّة والخلفيّة وغيرها من الإضافات المقوليّة التي تحتاج في حصولها إلى وجود كلا طرفيها، والمفروض أنّه بصدد تصحيح كون أحد طرفيها معدوماً وغير متحقّق فعلاً.

مع أنّ القول بأنّ للمأمور به جهة إضافة يرد عليه الإشكال بعدم إمكان التمسّك بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين؛ لأنّه لو لم يكن المأمور به هو نفس الأجزاء، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق والبراءة عند الشكّ في جزئيّة شيء للشكّ في حصول تلك الحصّة الخاصّة، ولا تحصل إلّا بإتيان تلك الحصّة والجزء المشكوك.

فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ جعل الأحكام لمّا كان على نحو القضايا الحقيقيّة، ولمّا كانت شرائط الأحكام ترجع إلى شرائط الموضوع، كان لابدّ أن يكون الموضوع موجوداً في الخارج بجميع أجزائه وشرائطه في رتبة سابقة؛ لأنّ فعليّةالحكم منوطة بوجود الموضوع. نعم، بما أنّ الشرط في مقام الجعل ليس هو ذات الشرط، بل صورته الذهنيّة، ولمّا كان اللّحاظ الذهنيّ للشرط هو الذي يكون دخيلاً، وهو ليس من باب الشرط المتأخّر، بل من الشرط المقارن، كان لا محالة ممكناً ولا مانع منه. وأمّا في مقام المجعول فبما أنّ الشرط بذاته هو الدخيل فيكون محالاً.

فظهر ممّا ذكرناه ما في كلام صاحب الكفاية(قدس سره)، الذي فرّق في مقام

ص: 58

الجواب عن المحاذير الواردة في هذا المقام بين شرائط المأمور به وشرائط الأحكام من جهة التكليف والوضع:

فأجاب عن القسم الأوّل بقوله:

«والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها، لا يخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف أو الوضع، أو المأمور به.

أمّا الأوّل: فكون أحدهما شرطاً له ليس إلّا أنّ للحاظه دخلاً في تكليف الأمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوّره دخلاً في أمره بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدّم أو المتأخّر.

وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختياريّة، كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشي ء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره، فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف التي لتصوّرها دخل فيحصول الرغبة فيه وإرادته: شرطاً؛ لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدّماً أو متأخّراً، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً، كان فيهما كذلك، فلا إشكال، وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً، ولو كان مقارناً، فإنّ دخل شي ء في الحكم به وصحّة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلّا ما كان بلحاظه يصحّ انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصحّ اختراعه عنده، فيكون دخل كلٍّ من المقارن

ص: 59

وغيره بتصوّره ولحاظه، وهو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقليّة في غير المقارن؟! فتأمّل تعرف»(1).

وحاصله: أنّه يحصل للمتقدّم بواسطة تقدّمه وتعقّبه بالمتأخّر وإضافته إليه عنوان حسن يفي به للغرض، بحيث لولاه لما كان كذلك، ولا يخفى: أنّ الحسن والقبح والأغراض تختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات، والإضافة كما تكون إلى المقارن، تكون إلى المتقدّم والمتأخّر، بلا تفاوت أصلاً.

ولكن قد أجبنا عنه سابقاً، وقلنا بأنّه لا يرد إشكال في كون المتأخّر شرطاً للمأمور به بوجوده الخارجيّ أصلاً حتى يحتاج إلى مثل هذا الجواب.

وأمّا ما أجاب به(قدس سره) عن القسم الثاني، بما لفظه:«وأمّا الثاني: فكون شي ءٍ شرطاً للمأمور به، ليس إلّا ما يحصل لذات المأمور به بالإضافة إليه وجه وعنوان به يكون حسناً أو متعلّقاً للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه، والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوتٍ أصلاً، كما لا يخفى على المتأمّل، فكما تكون إضافة

ص: 60


1- كفاية الاُصول: ص 93.

شي ء إلى مقارنٍ له موجباً لكونه معنوناً بعنوانٍ يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلَّقاً للغرض، كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم؛ بداهة أنّ الإضافة إلى أحدهما ربّما توجب ذلك أيضاً، فلولا حدوث المتأخّر في محلّه لما كانت للمتقدّم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضاً، ولذلك أطلق عليه (الشرط) مثله، بلا انخرامٍ للقاعدة أصلاً؛ لأنّ المتقدّم أو المتأخّر كالمقارن، ليس إلّا طرف الإضافة الموجبة للخصوصيّة الموجبة للحسن، وقد حقّق في محلّه: أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح: أنّها تكون بالإضافات.

فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخّر، وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه فيه كإطلاقه على المقارن، إنّما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون بذاك الوجه مرغوباً ومطلوباً، كما كان في الحكم لأجل دخل تصوّره فيه، كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود، التيلولا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صحّ عنده الوضع»(1).

وملخّص ما أفاده(قدس سره):

أنّ الشرط للتكليف والوضع هو لحاظ الأمر المتأخّر، وذلك من جهة أنّ الآمر أو الجاعل للحكم الوضعيّ لابدّ له من ملاحظة الموضوع

ص: 61


1- كفاية الاُصول: ص 93 - 94.

بجميع أجزائه وخصوصيّاته وأطرافه ليرغب في طلبه ويأمر به، بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، أو يجعل الحكم ويخترعه بذلك اللّحاظ، بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، فالذي نسمّيه بالشرط في كلا الموردين، أي: في الحكم التكليفيّ والوضعيّ، ليس إلّا للّحاظ وللوجود العلميّ، وهو مقارن للأمر والجعل، فليس المتأخّر بوجوده الخارجيّ المتأخّر شرطاً حتى ترد تلك الإشكالات؛ فهو تامّ ولا غبار عليه.

وإذا عرفت هذا، فهل هناك ملازمة بين وجوب ذي المقدّمة نفسيّاً ووجوب مقدّماته غيريّاً؟

الحقّ: ثبوت الملازمة؛ لأنّ إرادة الشيء ملازمة لإرادة ما يتوقّف عليه وجود ذلك الشيء، ولا يكاد يتخلّف إرادة المقدّمة عن إرادة ذيها، بعد الالتفات إلى أنّ كون الشيء مقدّمة يجعل حال إرادة الآمر كحال إرادة الفاعل، فهل ترى لو أردت شيئاً، وكان ذلك الشيء يتوقّف على مقدّمةٍ ما، فهل بمقدورك أن لا تريد تلك المقدّمة، مع أنّ الشيء المراد متوقّف عليها؟!بل لابدّ أن تترشّح وتتولّد من إرادة ذي المقدّمة إرادة إلى المقدّمة.

أو فقل: بأنّ الإرادة التشريعيّة تقاس على التكوينيّة؛ إذ لا فرق بين الإرادتين إلّا في أنّ الثانية يكون متعلّقها نفس الفعل للمريد، وأمّا التشريعيّة، فمتعلّقها فعل الغير.

ومن هنا يأتي الإشكال في التشريعيّة كالتكوينيّة، بأنّ فعل الغير إن لم

ص: 62

يكن تحت اختياره، فكيف تتعلّق الإرادة به؟! فإنّه حينما يرى أنّ الإرادة الأصليّة (التكوينيّة) متوقّفة على شيء، فتتعلّق إرادته بإيجاد ما يتوقّف عليه - أيضاً -، ففي التشريعيّة أيضاً كذلك.

تنبيهات:

اشارة

وهنا ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّه إذا قلنا بأنّ وجوب المقدّمة يتولّد من وجوب ذي المقدّمة ومعلول لوجوب ذي المقدّمة، فوجوبها يتبع وجوبه في الإطلاق والاشتراط والسعة والضيق، ولا يمكن أن يكون وجوبها مغايراً لوجوبه، وإلّا، يلزم تخلّف المعلول عن علّته، ولو فرض في بعض الموارد أنّ وجوب المقدّمة يكون قبل وجوب ذيها، فإنّما هو بملاكٍ آخر، لا بملاك الملازمة كملاك حفظ القدرة أو حكم العقل بوجوب إتيان شيء، إذا كان عدم الإتيان سبباً لتفويت غرض المولى، أو بملاك التهيّؤ لإطاعة أمر مولاه، أو يكون له وجوب نفسيّ،ولو كان له وجوب مقدّميّ بالنسبة إلى أمرٍ آخر، كالإتيان بصلاة الظهر مقدّمةً للتمكّن من الإتيان بصلاة العصر.

والأمر الثاني:

هل يكون تعلّق الوجوب بالمقدّمة بأيّ نحوٍ من الأنحاء ومن دون أيّ شرط أم لا؟ في المسألة أقوال:

ص: 63

الأوّل: أنّ معروض الوجوب هو ذات المقدّمة مطلقاً، مجرَّداً عن كلّ قيدٍ ولا شرط، كما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره)(1) ووافقه عليه المحقّق النائيني(قدس سره)(2).

والثاني: أنّه الذات بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، كما ذهب إليه صاحب الفصول(3) والمحقّق العراقي"(4).

والثالث: أنّه الذات عند إرادة ذي المقدّمة، كما عليه صاحب المعالم(قدس سره)(5).

ص: 64


1- كفاية الاُصول: ص 114. قال(قدس سره): «وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة... إلى أن قال: الظاهر: عدم الاعتبار... فيقع الفعل المقدّميّ على صفة الوجوب، ولو لم يقصد به التوصّل، كسائر الواجبات التوصّليّة».
2- فوائد الاُصول: 1: 286، فما بعدها.
3- الفصول الغرويّة: ص 87، التنبيه الأوّل: «أنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلّا إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده، فيلزم ألّا يكون خطاب بالمقدّمة أصلاً على تقدير عدمه؛ فإنّ ذلك متّضح الفساد، كيف؟ وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه، بل بمعنى: أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب...».
4- حكاه عنه اُستاذنا المحقّق) في منتهى الاُصول 1: 293، وانظر أيضاً: نهاية الأفكار 2: 333.
5- المعالم: ص 77. قال في مبحث الضدّ: «وأيضاً: فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر». فإنّ الظاهر من كلامه: أنّ المقدّمة لا تتّصف بالوجوب إلّا عند إرادة ذيها.

والرابع: أنّه الذات بشرط قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، كما عليه الشيخ الأنصاريّ(قدس سره)، على ما في التقريرات(1).

والأمر الثالث:

لو فرضنا أنّ الواجب هو ذات المقدّمة، فهذا لا ينافي الالتزام بلزوم قصد الإيصال في بعض الموارد في موضوع الواجب لجهةٍ خارجيّة، كما لو فرض أنّ إنقاذ الغريق توقّف على خصوص التصرّف في ملك الغير. فنقول: إنّ الواجب من ناحية الإنقاذ هو التصرّف بقصد الإنقاذ؛ إذ لا إشكال في عدم جواز التصرّف في ملك الغير، ولكن بما أنّ وجوب الإنقاذ أهمّ وأولى، فحينئذٍ: يجوز له التصرّف في ملك الغير بشرط قصد الإنقاذ، فلو لم يقصد الإنقاذ لم يجز له التصرّف.

فإذن الشارع هنا في الدخول إلى الأرض المغصوبة، مع أنّه يُعَدّ تصرّفاً في المغصوب، فإنّما هو من جهة أهمّيّة الإنقاذ، إذ لمّا كان فعل الإنقاذ أهمّ من فعل الغصب، أجاز الشارع الدخول إليها؛ لأنّ الضرورات تبيح المحظورات، وهي تتقدّر بقدرها. فالإذن يجوز - ولو مع المزاحمة بحرمة الغصب - شريطة أن يكون في التصرّف المقصود منه الإنقاذ، وأمّا التصرّف غير الإنقاذيّ، فليس جائزاً البتّة. ومن هنا يُعلم: أنّ قصد الإنقاذ يكون دخيلاً.

ص: 65


1- مطارح الأنظار 1: 353، قال: «وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالوجوب الغيريّ لأجل التوصّل به إلى الغير أو لا؟ وجهان، أقواهما الأوّل».

وخلاصة الكلام: أنّ منشأ اعتبار القيود والشروط هو أنّ المقدّمة في حدّ ذاتها، ومع قطع النظر عن المشروط، كانت واجبةً ومن غير اعتبار شيء، ومع أنّه قد يكون محرّماً بالذات، ولكن يتوقّف وجوبه على الإتيان بواجبٍ أهمّ، كما مرّ، في إنقاذ الغريق، فبما أنّه أهمّ من التصرّف في الأرض المغصوبة، وجب التصرّف فيها مقدّمةً لإنقاذ الغريق، فلابدّ من أن يتحقّق لديه هذا القصد.

ومن هنا، فالقول بأنّ التصرّف في الأرض المغصوبة واجب مطلقاً ولو من غير قصد إنقاذ الغريق، بل عدواناً أو نزهةً - مثلاً - لا يقبله الذوق السليم، ولا يساعد عليه الوجدان. وهذا ما دفع صاحب المعالم(قدس سره) إلى القول بتقيّد وجوب المقدّمة بقيد إرادة ذيها. وأيضاً، هذا ما جعل الشيخ الأعظم(قدس سره) - في المحكيّ عنه - يقيّد وجوب المقدّمة بما إذا قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة. وهو - أيضاً - وما أدّى بصاحب الفصول(قدس سره) إلى القول بوجوب المقدّمة الموصلة، أي: في صورة كونها موصلة إلى ذيها.

ولكنّ الحقّ: أنّ المعروض إنّما هو ذات المقدّمة، من دون أيّ قيد ولا شرط؛ لأنّ حكم العقل بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، إنّما هو لأجل أنّ الغرض من ذلك هو التمكّن من الإتيان بالواجب؛ لأنّ ذات الواجب متوقّفة عليها، ومن المعلوم: أنّ هذا يتحقّق إذا جيء بذات المقدّمة من دون دخلٍ لأيّ قصد، ولذا ترى من يقول باعتبار القصد المزبور يقول بالاكتفاء بالمقدّمة التي يؤتى بها بدون القصد. ولايخفى:

ص: 66

أنّ اعتبار القصد إنّما يكون من جهة قيام الدليل عليه، ومقامنا ممّا لم يقم عليه دليل، أو يكون من العناوين القصديّة التي يتحقّق عنوان المأمور على القصد، نظير التعظيم أو التأديب، وأنت ترى: أنّ مقامنا ليس من هذا القبيل، أي: ليس من العناوين القصديّة.

فإن قلت: الواجب هو عنوان المقدّميّة، فلابدّ من قصد ذلك العنوان.

قلنا: إنّ العنوان ليس موضوعاً للحكم، بل الموضوع للوجوب إنّما هو ذات المقدّمة، لا مقدّميّتها، والمقدّميّة تكون واسطة في العروض، أي: أنّ المقدّمة تكون علّة لثبوت الحكم على الذات، وأما جهة المقدّميّة فهي من الجهات التعليليّة لا التقييديّة، وبناءً على ذلك، فهي واسطة في الثبوت لا العروض. فالقول بأنّ المقدّمة هي الذات مع قصد الإتيان والإرادة، ممّا لا دليل عليه.

وأيضاً: فقد مرّ مراراً أنّ تابع للملاك سعة وضيّقاً، فكلّ قيدٍ أوجبت دخله في المأمور به لابدّ من دخله في الملاك، وإلّا، يلزم أن تكون دائرة الملاك أوسع من دائرة الحكم مع أنّه تابع له سعة وضيّقاً. وفي محلّ البحث، بعدما ذكرنا بعدم دخل العنوان في الملاك، أعني: عنوان التوقّف والمقدّميّة والتمكّن من المأمور به، أي: من ذي المقدّمة، فإذا اعتبر قصد التوصّل في الواجب، أعني: المقدّميّة، لزم أن تكون دائرة الملاك أوسع من دائرة الحكم بوجوب المقدّمة، وثبوت الحكمبدون الملاك ممتنع؛ لامتناع دخل ما لا يكون فيه الملاك.

ص: 67

وأيضاً: فهذا يكون من باب تحصيل الحاصل؛ إذ لو كان الواجب هو المقدّمة بقصد التوصّل، فالأمر الوارد عليها من قبل ذي المقدّمة كذلك؛ لأنّ الغرض من هذا الأمر هو إحداث الداعي في العبد لإيجاد الداعي في متعلّقه، وبعد وجود الداعي، وهو قصد التوصّل، فلا معنى لورود الأمر والبعث.

وأيضاً: يخرج الواجب عن كونه واجباً؛ لأنّه لو كان قصد التوصّل إلى ذيها دخيلاً، فمعنى ذلك ترتّب إرادة ذي المقدّمة، وبعد أن كان وجوبها معلولاً لوجوب ذي المقدّمة، وكان وجوب ذيها مترتّباً على إرادته، ولم يقصد هذه الإرادة، فلابدّ أن يكون مباحاً مسلوب الوجوب عنه.

نعم، قصد التوصّل يكون دخيلاً في حصول امتثال الأمر، ولو لم يكن دخيلاً في الواجب، ولا في تحصيل الغرض، أي: أنّ المقدّمة هي - كسائر الاُمور التوصّليّة - لا يشترط في امتثالها قصد أمرها، بل هي واجبة، ولو لم يقصد الإتيان بها بداعي أمرها، أو بقصد التوصّل إلى ذيها، فالواجب - إذاً - هو ذات المقدّمة. نعم كما ذكرنا أنّ قصد المزبور يكون دخيلاً في الامتثال وترتّب الثواب.

بل يمكن أن نقول: بأنّه في المقدّمة المحرّمة - أيضاً - لا نحتاج إلى قصد التوصّل، بل في مثال الدخول في أرض الغير بدون إذنه المتوقّف عليه واجب فعليّ منجّز كإنقاذ غريق، فإن لم يكن المكلّف ملتفتاً إلى توقّف الواجب عليه،وكان دخوله في الأرض المغصوبة باعتقاد الحرمة

ص: 68

كان متجرّياً؛ لأنّه أتى بما هو واجب واقعاً باعتقاد حرمته.

نعم، في خصوص المقدّمة المحرّمة لابدّ من القصد، ولا تبقى الحرمة إذا كان ذو المقدّمة أهمّ، كما تقدّم. والذي يحكم به العقل إنّما هو لزوم الإتيان بهذه المقدّمة من جهة عروض الواجب الأهمّ، فالمقدار المتيقّن من الجواز هو ما إذا قُصد بها التوصّل، لا عندما يؤتى بها لأيّ غرض آخر، كما لو جيء بها بقصد التفرّج والنزهة.

ولكن لا يقاس المقام بمحلّ البحث، وهو المقدّمة المباحة؛ فإنّ وجوبها ليس لأجل التزاحم، بل هي بذاتها تكون واجبةً من دون أيّ قيد. وأمّا المقدّمة المحرّمة ذاتاً، فبما أنّ الذات هي التي تقتضي الحرمة، فالمقدار الممكن لرفع اليد عنها إنّما هو صورة التوصّل، لا مطلقاً، و لو لم يقصد التوصّل.

وأمّا ما ذهب إليه صاحب الفصول(قدس سره)من القول بالمقدّمة الموصلة وبأنّ وجوب المقدّمة مشروط بأن يترتّب عليها ذو المقدّمة، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة: إمّا أن يعتبر في المقدّمة بنحو شرط الوجوب، أو بنحو شرط الواجب، وعلى كلٍّ من التقديرين: إمّا أن يكون من قبيل الشرط المقارن أو الشرط المتأخّر، فالصور أربع:

الاُولى: أن يكون من قبيل الشرط المقارن للوجوب. وهو مستحيل؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة في الخارج لا ينفكّ عنوجود المقدّمة، فلو كان وجوبها منوطاً بوجوده - أيضاً - لكان ذلك من باب تحصيل الحاصل.

ص: 69

والثانية: أن يكون من قبيل الشرط المتأخّر للوجوب؛ والمحذور المتقدّم وإن لم يكن وارداً عليها، كما هو واضح، إلّا أنّه مستحيل من ناحية أُخرى، وهو أنّه يستلزم التهافت في نظر الآمر؛ إذ بلحاظ أنّ وجود ذي المقدّمة شرط لوجوبها، يراه متقدّماً، وبلحاظ أنّ وجود ذي المقدّمة هو بمنزلة المعلول لوجوب المقدّمة، يراه متأخّراً.

والثالثة والرابعة: أن يكون من قبيل الشرط المقارن والمتأخّر للواجب، ويرد عليه: أنّ الوجوب لو كان مشروطاً بوجود ذي المقدّمة، فلابدّ وأن يكون مشروطاً بوجود نفس المقدّمة - أيضاً -؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة متوقّف على وجودها، وإلّا لم تكن مقدّمة، واشتراط الشيء بوجوده، أو اشتراط الواجب وتقييده بوجود نفسه، ليس إلّا تحصيلاً للحاصل.

وثانياً: أنّه لو كان الإيصال قيداً للواجب، لكان وجود ذي المقدّمة من المقدّمات الوجوديّة لوجود المقدّمة، ووجوب المقدّمة من المقدّمات لوجود ذي المقدّمة، فيصبح كلٌّ منهما مقدّمة للآخر، فيتوقّف وجود كلّ واحدٍ منهما على وجود الآخر، وهذا عين الدور.

وثالثاً: أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الذي يكون دخيلاً إنّما هو ذات المقدّمة، وهو الذي يكون ملاكاً لوجوبها دون غيره.ورابعاً: أنّ الذي يكون دخيلاً في وجوب ذي المقدّمة، والغرض الداعي إلى وجوبها، ليس إلّا ما يترتّب على وجودها، ومن الواضح - ضرورةً -: أنّ جميع أفراد ذي المقدّمة لا تترتّب على مقدّماتها إلّا

ص: 70

إذا كانت المقدّمات من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة.

نعم، الغرض هو إمكان تحقّق ذي المقدّمة وترتّبه عليها، وهذا لابدّ أن يكون من جهة المقدّمة، أي: أنّ الغرض هو حفظ وجود ذي المقدّمة من ناحية المقدّمة، بحيث ينسدّ عنه باب العدم من هذه الناحية. فالداعي إلى إيجاب المقدّمة هو هذا، والمفروض أنّ الذي له تمام المدخليّة في تحصيل هذا الغرض هو ذات المقدّمة، ولو لم تنضمّ إليها سائر المقدّمات.

وخامساً: أنّ الأمر الغيريّ إذا تعلّق بالمقدّمة، فإنّه يسقط بمجرّد الإتيان بتلك المقدّمة، كما يشهد به الوجدان، فلو كان المتعلّق مقيّداً بما هو خارج عن ذات المقدّمة، لكان سقوط الأمر من دون أن يتحقّق تمام المتعلّق بلا سببٍ يقتضيه.

وقد ذكر المحقّق العراقي(قدس سره) بعد هذه الإشكالات ما لفظه:

«والتحقيق في المقام: هو القول بأنّ الواجب ليس مطلق المقدّمة، ولا خصوص المقدّمة المقيّدة بالإيصال، بل الواجب هي المقدّمة في ظرف الإيصال بنحو القضيّة الحينيّة. وبعبارة أُخرى: الواجب هي الحصّة من المقدّمة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات، الملازمة لوجود ذي المقدّمة»(1).وحاصله: أنّه ليس المراد من تقييد الواجب بخصوص الموصلة أنّ

ص: 71


1- بدائع الأفكار: (تقريرات المحقّق العراقي) 1: 389.

التوصّل يكون قيداً للواجب، بل إنّما هو على نحو خروج القيد والتقييد معاً - كما ذكر مثل هذا في الفصول(1) في مبحث المعنى الحرفيّ من أنّ التقييد والقيد كلاهما خارجان عمّا وُضِعت له الحروف - ولكن مع ذلك، لا يكون الواجب هو الذات مطلقاً، بل المراد: أنّ الواجب هو الذات من حيث الإيصال، أي: الذات في حال الإيصال. فالواجب هو تلك الحصّة من المقدّمة التي تكون توأماً مع وجود سائر المقدّمات.

وبالجملة: فإنّ معروض الوجوب المقدّمي هو الذات، لكن لا بلحاظ انفرادها، ولا بلحاظ التوصّل بها، بحيث يؤخذ التوصّل قيداً، بل بلحاظها في حال كونها ممّا يتوصّل بها، أي: لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأميّة، وبذلك يسلم عن المحاذير المتقدّمة، فإنّ تلك المحاذير إنّما كانت ترد على تقدير كون التوصّل قيداً، وبعد خروج قيديّة التوصّل لا يكون فيه محذور، فللواجب مقدّمات كثيرة، وهذه الحصّة ليست كبقيّة الحصص في حدّ ذاتها، كما أنّ وجود زيد مغاير لسائر أفراد الإنسان.

نعم، بما أنّ المقدّمات تكون كلّها مطلوبةً من قبل ذي المقدّمة، وكان الغرض من كلّ مقدّمة هو سدّ بابٍ من أبواب عدم ذي المقدّمة،

ص: 72


1- الفصول الغرويّة: ص 13، قال(قدس سره): «فهي - عند التحقيق - موضوعة بإزاء المفاهيم المقيّدة بأحد أفراد الوجود الذهنيّ الآليّ من غير أن يكون القيد والتقييد داخلاً، فيكون مداليلها جزئيّات حقيقيّة متّحدة في مواردها ذاتاً، ومتعدّدة تقييداً وقيداً».

وليس كلّ واحد من السدود مطلوباًعلى نحو الاستقلال، بل في ضمن المجموع، فكلّ فرد إنّما يكون مطلوباً في حال توفّر سائر القيود، ولكن لا بحيث يكون مقيّداً بها ولا مطلقاً مجرّداً عنها.

وهذا، وإن لم يمكن أن ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول، لتصريحه بأخذ التوصّل قيداً، إلّا أنّه يمكن أن ينطبق عليه كلام أخيه المحقّق صاحب الحاشية(1)، حيث إنّه قد تكرّر في كلامه نفي اعتبار قيد التوصّل، ومع ذلك يقول بأنّ الواجب هو المقدّمة من حيث الإيصال، فيمكن أن يكون مراده من قيد الحيثيّة ما ذكرنا من خروج كلٍّ من القيد والتقييد على وجه لا يستلزم الإطلاق أيضاً.

وفيه تأمّل؛ فإنّ الظاهر أنّ مراد المحقّق من الحيثيّة التعليليّة، وتكون حيثيّة الإيصال علّة لعروض الوجوب على ذات المقدّمة، ولو لم تكن موصلة.

ولا يخفى: أنّه إن كان المراد من التوأميّة والحيثيّة والحاليّة وغير ذلك ممّا شئت أن تعبّر به، هو نفي التقييد بالموصلة لحاظاً، وإن أوجب التقييد بها نتيجةً، فيرد عليه: أنّ نتيجة التقييد بالموصلة - أيضاً - لا يمكن كالتقييد اللّحاظيّ.

ص: 73


1- راجع: هداية المسترشدين في شرح معالم الدين، الأمر الرابع من الاُمور التي ذكرها في خاتمة بحث مقدّمة الواجب، عند قوله: «قد يتخيّل أنّ الواجب من المقدّمة هو ما يحصل به التوصّل إلى الواجب دون غيره».

نعم، لو اُريد أنّها غير مقيّدة لحاظاً ولا نتيجةً، فهو تامّ، ولكنّ مرجعه إلى أنّ المقدّمة تصبح مهملة بعد أن كان التقابل بين الإطلاق والتقييد هو من قبيل التقابل بين الملكةوالعدم، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق، وليس التقابل بينهما من تقابل السلب والإيجاب حتى يكون رفع أحدهما موجباً لثبوت الثاني لامتناع ارتفاع النقيضين.

وقد أورد عليه بعض المحقّقين المعاصرين ﺑ «أنّ القضيّة الحينيّة إنّما تكون معقولة في المورد الذي لا يكون الإطلاق معقولاً، سواء كان التقييد معقولاً أو غير معقول؟ إذ لا لزوم للتقييد في حصر الحكم بالحصّة الخاصّة؛ لأنّه بحكم طبعه لا يتعدّى عنها»(1).

وفيه: أنّ معقوليّة الإطلاق إنّما تتصوّر عند عدم معقوليّة التقييد إذا كان التقابل بينهما من قبيل تقابل السلب والإيجاب، وأمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما هو من التقابل بين العدم والملكة، فإذا لم يعقل التقييد لم يعقل الإطلاق، كما هو أوضح من أن يخفى.

ولكن مع ذلك، فما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره) غير تامّ لو قلنا بأنّ الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة، إذ يقال: إنّ المولى إذ جعل الحكم ولاحظ متعلّق الأمر ولاحظ القيد، فإمّا أن يقيّده به أو لا يقيّده به: أمّا نفس جعل الحكم مع لحاظ القيد من دون تقييد فهذا

ص: 74


1- منتقى الاُصول 2: 310.

لا يستلزم شيئاً، بل يكون من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، فلا أثر له في ثبوت نتيجة التقييد، وما نحن فيه كذلك، فإنّ الأمر الذي يتعلّقبالمقدّمة يتعلّق بها استقلالاً لا ضمناً، والدعوى أنّه يتعلّق بالحصّة التي تلازم الإيصال، فنقول:

نفس لحاظ المقدّمة في ظرف الإيصال لا يستلزم تخصيص الحكم بها إلّا إذا ورد نصّ من قبل المولى على تقييد وتحصيص متعلّق الأمر، وإلّا، يكون الأمر متعلّقاً بذات المقدّمة، ولحاظ ظرف الإيصال معها لحاظ أجنبيّ لا أثر له في أيّ شيء ما دام لا يغيّر من واقع الأمر وكيفيّة الإرادة، والتحصيص من دون التقييد يكون محالاً.

وبعبارة ثانية: فإنّ تحصّص الطبيعة وتميّزها عن سائر الحصص، سواء كان في الذهن أم في الخارج، لا يكاد يكون ممكناً إلّا إذا تقيد بقيد، ومن دون ذلك فهي باقية على إطلاقها، وفيما نحن فيه، فالتوأميّة إذا صارت سبباً لصيرورتها حصّة خاصّة، فلابدّ أن تتقيّد الطبيعة بها، وهذا لا يكون إلّا بتبديل الطبيعة، ونفس لحاظ الحصّة حال الأمر لا يستلزم ذلك ما لم يرجع إلى التقييد وإنشاء الحكم على المقيّد، بل يكون اللّحاظ المزبور من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، لا ربط له بالأمر ومتعلّقه بما هو متعلّق الأمر.

تصوير الأصفهاني للمقدّمة الموصلة:

وقد ذهب المحقّق الأصفهاني(قدس سره) إلى تصوير المقدّمة الموصلة بتصوير آخر من دون أن يأخذ الإيصال قيداً، وذلك بدعوى: أنّ الواجب

ص: 75

هو المقدّمة إذا وصلت في مقام الفعليّة.توضيح ذلك: أنّ المقدّمات بجميع أنحائها لا تكون مقدّمات فعليّة إلّا إذا ترتّب الواجب عليها، ومن دون ذلك فهي مقدّمات بالقوّة، فالمقتضي الموجود وحده، من دون وجود سائر أجزاء العلّة، يكون فاعلاً بالقوّة، والموجود مع سائر أجزاء العلّة فاعل بالفعل، والشرط الموجود فقط من دون اقتران بالمقتضي مصحّح للفاعل بالقوّة، وأمّا الموجود مع المقتضي فهو مصحّح بالفعل. وهكذا الحال في غيرهما من أجزاء العلّة، فكلّ منها لو وجد من دون انضمام جميع أجزاء العلّة غير مفيد، إذ لا يُنسب إليه أثره - والحالة هذه - إلّا بالقوّة، ومع انضمام الأجزاء الاُخرى يُنسب إليه الأثر بالفعل.

وحينئذٍ يقال: إنّ متعلّق الوجوب الغيريّ هو المقدّمات الفعليّة، لا مطلق المقدّمات ولو كانت بالقوّة، وهذا المعنى ملازم للإيصال؛ لأنّ الفعليّة لا تتحقّق إلّا بتحقّق الواجب من دون أن يُؤخذ الإيصال قيداً (1).

ص: 76


1- انظر: نهاية الدراية 1: 395، قال(قدس سره): «يمكن أن يقال - أيضاً - حيث إنّ المعلول متعلّق الغرض الأصيل، فلا محالة: تكون علّته التامّة متعلّقة للغرض بالتّبع حيث إنّها علّة ومحصِّلة لغرضه الأصيل، لا كلّ ما له دخل وإن لم يكن محصّلاً للغرض الأصيل؛ فإنّ وجوده وعدمه مع عدم الغرض الأصيل على حدّ سواء، فالعلّة التامّة هي المرادة بتبع إرادة المعلول، وكما أنّ الإرادة المتعلّقة بالمعلول واحدة، وإن كان المعلول مركّباً كذلك الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة، وإن كانت العلّة مركبة، وكما أنّ منشأ وحدة الإرادة في الأوّل وحدة الغرض، كذلك المنشأ في الثاني وحدة الغرض، وهو الوصول إلى المعلول، وكما أنّ إتيان بعض أجزاء المعلول لا يسقط الإرادة النفسيّة المتعلّقة بالمركّب، بل باقية إلى آخر الأجزاء، وإن كان يسقط اقتضاؤها شيئاً فشيئاً، كذلك الإرادة الكلّيّة المتعلّقة بالعلّة المركّبة، لا يسقط إلّا بعد حصولها الملازم لحصول معلولها، وإن كان يسقط اقتضاؤها شيئاً فشيئاً، وكما أنّ أجزاء المعلول لا تقع على صفة المطلوبيّة إلّا بعد التماميّة، كذلك أجزاء العلّة لا تقع على صفة المطلوبيّة المقدّميّة إلّا بعد التماميّة؛ لوحدة الطلب في كليهما ومنشأيهما وحدة الغرض».

وقد استدلّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) على وجوب المقدّمة الموصلة بقوله:«وعلى الجملة، فالغرض بما أنّه قائم بخصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ودون الجامع بينهما، فلا مقتضى لإيجاب غيرها، ولو بإيجاب الجامع، فالنتيجة: أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الفصول(قدس سره) متين جدّاً ولا مناص عنه لو قلنا بوجوب المقدّمة»(1).

ولكن قد عرفت الإشكال فيه ممّا تقدّم.

ولا يخفى: أنّ ما أفاده المحقّق الأصفهاني(قدس سره) إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأسباب والمسبّبات التوليديّة، كالإحراق بالنسبة إلى النار، حيث لا يكون هناك واسطة بين الشيء وبين مقدّماته، بل بمجرّد حصول أجزاء العلّة التامّة يحصل المعلول.

وأمّا ما في المقام، وهي الأفعال المباشرة، فحتى لو حصلت جميع المقدّمات لا يلزم منه حصول ذي المقدّمة حتماً، بل تكون جميع المقدّمات من قبيل المعدّ، وليس عمل الأجزاء إلّا المقرّبيّة والتمكّن

ص: 77


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 260.

ليس غير، وهي تتحقّق بإتيان ذات المقدّمات، وأمّا العلّة التامّة فهي الإرادة، وهي تكون مؤثّرة في حصول الواجب، فلا يحصل الواجب إلّا بها، والفعل لا يتخلّف عنها، وبما أنّ الإرادة من أفعال النفس، فلا يؤثّر فيها شيء خارج عن النفس، وحيث إنّ الواجب المراد لا يتخلّف عنه، فلا معنى لورود الوجوب عليه وحده.

فإذا فرضنا أنّ المقدّمات بأجمعها هي من قبيل المعدّ، ولا يكون الملاك الذي هو حصول الواجب موجوداً فيها، و شأنالمعدّ إنّما هو التقريب والتمكين من ذي المقدّمة، فلابدّ أن يكون متعلّق الوجوب هو الإرادة؛ لأنّها هي التي تكون سبباً للإيصال.

وممّا ذكرنا يتّضح الإشكال فيما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) من أنّ ما يترتّب على المقدّمة ليس إلّا التمكّن من الواجب دون حصوله، وهو - أي: التمكّن - يحصل ولو بالإتيان بذات المقدّمة(1).

ولا بأس هنا بذكر ما استدلّ به صاحب الفصول على مبناه(2)، وهي اُمور:

ص: 78


1- راجع: كفاية الاُصول: ص 118، قال(قدس سره): «وقد عرفت بما لا مزيد عليه: أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة، لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب».
2- الفصول الغرويّة: ص 86. قال(قدس سره): «والذي يدلّ على ذلك: أنّ وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على القدر المذكور، وأيضاً: لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: اُريد الحجّ، واُريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ له دون ما لا يتوصل به إليه، وإن كان من شأنه أن يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له، مطلقاً، أو على تقدير التوصّل بها إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّمته على تقدير عدم التوصّل بها إليه، وأيضاً: حيث إنّ المطلوب بالمقدمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصّل إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه، وصريح الوجدان قاضٍ بأنّ من يريد شيئاً لمجرد حصول شي ء لا يريده إذا وقع مجرّداً عنه، ويلزم منه: أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطاً بحصوله».

الأوّل: أنّ الحاكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته إنّما هو العقل، ومن الطبيعي أنّه لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدّماته التي في سلسلة علّة وجود ذلك الشيء في الخارج، بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود الواجب، وأمّا ما لا يقع في سلسلة علّته،ويكون وجوده مفارقاً عن وجود الواجب، فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً.

وفيه: أنّ جميع المقدّمات على سنخٍ واحد بعد أن كان الفعل من الأفعال المباشريّة وليست كلّها بعد اجتماعها أيضاً ملازمة لوجود الواجب، بل الذي يكون ملازماً إنّما هو الإرادة، وهي لا يعقل أن تتّصف بالوجوب.

وقد أورد عليه صاحب الكفاية(قدس سره) بأنّ العقل لا يفرّق في الحكم بالملازمة بين الموصلة وغيرها، نظراً إلى أنّ ملاك حكمه بالملازمة إنّما هو حصول التمكّن للمكلّف من الإتيان بالواجب من قبل الإتيان

ص: 79

بها، وهذا مشترك على الفرض بين تمام أنواع المقدّمة، ولا يُفرّق فيه بين الموصلة وغيرها(1). ولكن قد عرفت ما في جوابه هذا.

والثاني: أنّ العقل لا يأبى عن تصريح الآمر الحكيم بعدم إرادة غير المقدّمة الموصلة، كأن يقول - مثلاً -: إنّي لا اُريد من المسير إلى الحجّ إلّا المسير الذي يكون موصلاً إلى بيت اﷲ الحرام، ومن الطبيعيّ أنّ عدم إباء العقل عن ذلك وتجويزه دليل قطعيّ على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة، دون مطلق المقدّمة، فلو كان الواجب هو مطلق المقدّمة لم يكن وجه لهذا الجواز، فتجويز العقل لذلك دليل على أنّ الوجوب مختصّ بالمقدّمة الموصلة دون غيرها.ولكن الحقّ: ما عليه صاحب الكفاية) من أنّ الغرض إذا كان حاصلاً من جميع المقدّمات ومشتركاً بين الكلّ، وهو التمكّن من الإتيان بالواجب، فليس للمولى النهي عن سائر المقدّمات. وبعبارة أُخرى: فالعقل بعد أن يرى الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، يحكم بوجوب مطلق المقدّمة، لا خصوص الموصلة منها، لاشتراك الجميع في الغرض، وهو حصول التمكّن، إلّا مع ورود الدليل الخاصّ بمنع الإتيان ببعض المقدّمات، وعليه: فلا تتّصف تلك المقدّمة المنهيّ عنها بالوجوب .

الثالث: أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة كما يدركه العقل إنّما هو إيصالها إلى الواجب، ووقوعها في سلسلة علّة وجوده، ومن المعلوم،

ص: 80


1- كفاية الاُصول: ص 118.

أنّ الواجب تابع للملاك والمصلحة من جهة السعة والضيق، وبما أنّ الغرض الداعي إلى الإيجاب لا يتحقّق إلّا في المقدّمة الموصلة، فيكون الواجب تلك المقدّمة دون غيرها من المقدّمات؛ لأنّ إيجاب غيرها، بما أنّه خالٍ عن الملاك، فلا يكون ممكناً؛ لأنّه بلا داعٍ، فلا يرتكبه الحكيم، فيختصّ الوجوب بخصوص الموصلة.

ولكن قد مرّ مراراً: أنّ الغرض مشترك فيما فيه الملاك، والملاك، وهو التمكّن، موجود في الكلّ.

ثمرات القول بالمقدّمة الموصلة:

الثمرة الاُولى:

أنّ العبادة تصبح فاسدة ومحرّمة إذا وقعت ضدّاً لواجبٍ أهمّ؛ لأنّ ترك العبادة يكون مقدّمة للواجب، فيكون واجباً، فيحرم الفعل، كالصلاة والإزالة، فإنّ ترك الصلاة يكون مقدّمة لفعل الضدّ، وهو الإزالة، فيكون الترك واجباً، فيحرم فعل الضدّ، وهو الصلاة؛ لأنّه منهيّ عنه، والمنهيّ عنه لا يصلح التقرّب به، هذا على القول بأنّ الواجب هو مطلق المقدّمة.

وأمّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة؛ فلا يكون الفعل حراماً؛ لأنّ الترك الواجب هو الترك الموصل لا مطلق الترك، والفعل - وهو الصلاة في المثال - ليس نقيضاً للترك الموصل الى ذي المقدّمة،

ص: 81

لجواز ارتفاعهما، والنقيضان لا يرتفعان؛ لأنّ عدم الترك الموصل كما يحصل بترك الصلاة يحصل أيضاً بفعلٍ آخر، كالنوم والأكل، ومن المعلوم: أنّ الحرمة لا تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر، فضلاً عن مجرّد المتقارنين، فحرمة الضد الذي هو عدم الترك الموصل لا تسري إلى المقارن، وهو الصلاة.

وقد استشكل على هذه الثمرة بأنّها ليست تامّة، وذلك لأنّ الفعل على كلا القولين ليس نقيضاً للترك؛ لأنّ نقيض كلّ شيءٍ رفعه، فيكون نقيض الترك ترك الترك، وترك الترك غير الفعل؛ لأنّ عدم العدم ليس بوجود، غاية الأمر: أنّه على القول بوجوب مطلق المقدّمة ينحصر مصداق النقيض خارجاًفي فردٍ واحد هو الفعل فحسب، وأمّا على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، فيكون للنقيض فردان في الخارج: أحدهما: الفعل، والآخر: الترك غير الموصل، وفي المثال المذكور: الفردان هما: فعل الصلاة وغيره، من النوم والأكل والشرب.

ولكن قد أورد عليه المحقّق الخراساني(قدس سره) بما لفظه:

«قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإنّ الفعل في الأوّل لا يكون إلّا مقارناً لما هو النقيض من رفع الترك، المجامع معه تارةً، ومع الترك المجرّد اُخرى، ولا تكاد تسري حرمة الشي ء إلى ما يلازمه فضلاً عمّا يقارنه أحياناً، نعم، لابدّ أن لا يكون محكوماً فعلاً بحكمٍ آخر خلاف حكمه، لا أن يكون محكوماً بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني،

ص: 82

فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فإن لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً، لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً، فإذا كان الترك واجباً، فلا محالة يكون الفعل منهيّاً عنه قطعاً. فتدبّر جيّداً»(1).

وحاصله: أنّ هناك فرقاً بين وجوب مطلق الترك وبين الترك الموصل؛ فإنّه على الأوّل، يكون عين ترك الترك مصداقاً، ولو كان مفهوماً غير الصلاة، وأمّا بناءً على وجوب الترك الخاصّ، فنقيضه ترك الترك الخاصّ، وهوغير متّحد مع الصلاة خارجاً، والصلاة ليست من أفراد هذا النقيض بالفرد الشايع، بل هي من المقارنات؛ لأنّ رفع الترك الخاص قد يجامع فعل الصلاة، وقد لا يجامعه، كما إذا ترك الصلاة والإزالة معاً، ومن المعلوم: أنّ النهي لا يسري إلى الملازم فضلاً عن المقارن.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ فساد العبادة لا يتوقّف على وجوب تركها من باب المقدّمة، ولو قلنا بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للآخر، بل ولو لم نقل بوجوب المقدّمة، أو بمقدّميّة الترك، لكانت العبادة فاسدة، لعدم الأمر بها حيث إنّ ضدّها، وهو الإزالة، يكون ماُموراً به، ولا يمكن الأمر بالضدّين معاً، وعدم الأمر بالصلاة يكفي في الفساد.

فقد أجبنا عنه سابقاً في باب الترتّب، بأنّ الأمر بالمهمّ أيضاً موجود؛

ص: 83


1- كفاية الاُصول: ص 121- 122.

لأنّ الأمر بالأهمّ مطلق، وبالمهمّ مشروط بعصيان الأهمّ، ولا يكون هذا الأمر بالضدّين على نحو الإطلاق.

وأمّا ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من «أنّ الفعل لا يُعقل أن يكون مصداقاً للترك، لاستحالة كون الوجود مصداقاً للعدم، لتباينهما ذاتاً واستحالة صدق أحدهما على الآخر، كيف؟! فإنّ العدم لا تحقّق له خارجاً لينطبق على الوجود»(1).فإنّما يتمّ في العدم المطلق، وأمّا العدم الخاصّ والمقيّد فله شائبة من الوجود، فليس العدم مقارناً للوجود، بل هو متّحد معه إذا كان الواجب هو مطلق المقدّمة.

والثمرة الثانية:
اشارة

برّ النذر بالإتيان بالمقدّمة بناءً على القول بوجوبها فيما إذا تعلّق النذر بإتيان فعلٍ واجب، وعدم حصول البرّ به على القول بعدم وجوبها.

ولكن لا يخفى:

أوّلاً: أنّ مسألة النذر مسألة فرعيّة، وليست باُصوليّة؛ لأنّها غير قابلة لأن تقع كبرىً لقياس بحيث لو انضمّ إليها صغرى لاستنتج منهما الحكم الكلّيّ.

وثانياً: أنّ الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر، فإن قصد من لفظ الواجب

ص: 84


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 267.

خصوص الواجب النفسيّ، لم يكفِ الإتيان بالمقدّمة في الوفاء به، ولو قلنا بوجوبها، وإن قصد منه مطلق ما يلزم الإتيان به ولو عقلاً، كفى الإتيان بها، وإن قلنا بعدم وجوبها.

والثمرة الثالثة:

حصول الفسق بترك الواجب النفسيّ بجميع مقدّماته على القول بوجوبها، وعدم حصوله على القول بعدم وجوبها.

وفيه: أنّ الواجب ليس إلّا شيئاً واحداً، وهو ذو المقدّمة، لا أنّه لو كان للواجب مقدّمات كثيرة فتركها وبالتالي: حصل منه الترك لذي المقدّمة، يكون قد حصل منه عصيان كثيرومخالفات بعدد المقدّمات المتروكة، بل هو عصيان واحد يحصل من حين تركه لاُولى المقدّمات، إذ حينئذٍ حصل الامتناع للواجب الواحد، الذي هو ذو المقدّمة.

نعم، ثمّة فرق بين باب الامتثال وباب العصيان، ففي باب الامتثال بما أنّ هناك أوامر كثيرة ومتعدّدة، فلو حصل الامتثال لبعض تلك الأوامر، فلا يسقط الباقي، وهذا بخلاف باب العصيان؛ فإنّه بعصيان البعض حصل الامتناع للواجب، فتسقط بقيّة الأوامر، ومعه: فلا يبقى مجال لأيّ عصيان آخر.

والثمرة الرابعة:

أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة فلا يجوز أخذ الاُجرة عليها؛ لأنّه من أخذ

ص: 85

الاُجرة على الواجبات، وهو لا يجوز.

وفيه: أوّلاً: أنّه لا دليل على عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجبات مطلقاً.

وثانياً: سلّمنا عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجب، ولكنّ الذي لا يمكن أخذ الاُجرة عليه هو الواجب إذا كان مأخوذاً بنحو معنى الاسم المصدريّ؛ لأنّ الواجب، بل المقدّمات، تكون خارجةً حينئذٍ عن تحت الاختيار، وأخذ الاُجرة على شيء خارج عن الاختيار غير صحيح، وأمّا إذا اعتبرناه بنحو المعنى المصدريّ، جاز أخذ الاُجرة على مقدّماته حينئذٍ بعد أن كانت واقعةً تحت اختياره.

وثالثاً: أنّ هذه الثمرة، لو سُلّمت، فهي لا تصلح لأن تكون ثمرة للمسألة الاُصوليّة التي يُراد لها أن تقع كبرى في قياس الاستنباط.

والثمرة الخامسة:

أنّه على القول بوجوب المقدّمة، فلو كانت المقدّمة محرّمة يلزم اجتماع الأمر والنهي، بخلاف القول بعدم الوجوب.

وقد يقال في الجواب: بأنّه لا يكون من ذاك الباب، بل المورد من باب النهي في العبادة أو المعاملة.

ولكنّ الحقّ أن يقال: إنّه تارةً: تكون المقدّمة في نوعها محرّمة بحيث لا يكون للمكلّف مندوحة، كما إذا انحصر الإنقاذ بالتصرّف في ملك

ص: 86

الغير، ففي مثل هذا يقع التزاحم بين وجوب الإنقاذ وحرمة التصرّف، فينبغي مراعاة الأهمّ، أو سائر مرجّحات باب التزاحم، وبما أنّ وجوب الإنقاذ أهمّ فلا يبقى للمقدّمة المحرّمة وجوب فعليّ، فلا يكون المورد مندرجاً إلّا في باب اجتماع الأمر والنهي، لا في باب النهي عن العبادة أو المعاملة.

وأُخرى: لا تكون المقدّمة في نوعها محرّمة، بل كان لها أفراد مباحة، فتارةً يرد النهي عن فردٍ منها بالخصوص، كما إذ نهى عن سيرٍ خاصٍّ إلى الحجّ، فهذا يندرج في باب النهي عن العبادة إن كانت المقدّمة عباديّة، أو المعاملة إن لم تكن كذلك. وأُخرى لا يرد النهي عن فردٍ منها بالخصوص، بل كان المنهيّ عنه عنواناً كلّيّاً انطبق على بعض أفراد المقدّمة، كما في السير على الدابّة المغصوبة في الحجّ، فإنّ الواجب الذي هو السير له أفراد متعدّدة، والمنهيّ عنه، الذي هو الغصب، له أفراد متعدّدة، وقد اجتمع كلّ من السير والغصب في فرد واحد، فهذا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي،وليس من باب النهي عن العبادة أو المعاملة، ولكن في المقام، بما أنّ وجوب المقدّمة توصّليّ، فيحصل الغرض منه، ولو بالركوب على الدابّة المغصوبة، سواء قلنا بجواز الاجتماع أو بعدم جواز الاجتماع.

وأمّا لو كانت المقدّمة عباديّة، فإن كانت منحصرة، فتدخل في التزاحم بين الأهمّ والمهمّ، حيث لا تبقى حرمة فعليّة متعلّقة بالمهمّ،

ص: 87

فتقع صحيحة، وأمّا لو كان هناك مندوحة، بأن كان لها أفراد مباحة، فالوجوب يترشّح إلى المقدّمة المباحة، ومعه: لا يصح التعبّد بالمنهيّ عنه، بل تدخل المسألة في باب النهي عن العبادات.

والثمرة السادسة:

لو أمر شخص بوجوب شيء له مقدّمات، فلو قلنا بوجوب المقدّمة، وبناءً على الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، فإنّ نفس الأمر بالشيء يكون علّة للأمر بالمقدّمات، فكما يستحقّ الاُجرة على الإتيان بذي المقدّمة، فكذلك يستحقّ الاُجرة ثانية على الإتيان بالمقدّمة؛ لأنّه إنّما فعلها بأمره أيضاً، كما أنّ الإتيان بأصل ذي المقدّمة كان كذلك.

وفيه: بما أنّ هناك لابدّيّة عقليّة، تقضي بعدم إمكان الإتيان بالمقدّمة، لأجل تلك الملازمة واللابدّيّة العقليّة، فإذا شككنا في وجوب المقدّمة وعدمها، فهل هناك أصل يمكن التمسّك به أم لا؟

ولا يخفى: أنّه لا أصل هناك يمكن التمسّك به؛ لأنّه من جهة البحث الاُصوليّ، بما أنّه يبحث عن الملازمة وعدمها،فإنّه لا حالة سابقة لها، بل هي أزليّة، واستصحاب العدم الأزليّ غير صحيح. وأمّا من ناحية المسألة الفقهيّة؛ فلأنّ الوجوب، أعني: وجوب المقدّمة، ولو لم يكن عند عدم وجوب ذيها، ويمكن لنا أن نستصحبه، ولكن لا أثر لهذا الاستصحاب، لعدم وجود الملازمة، ولابدّ منها، ولا يكون هناك فائدة إلّا بجريان استصحاب العدم الأزليّ، ولكنّه ليس بحجّة.

ص: 88

مبحث الضدّ

الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم الفقهيّة أم غيرها؟

لا يخفى: أنّه إذا كان البحث في هذه المسألة في أنّ الضدّ هل هو حرام أم لا، فهي داخلة في المسائل الفقهيّة، بناءً على أنّ الضدّ هو فعل المكلّف، وهو - أي: الفعل - يكون موضوعاً للحكم الشرعيّ، والحرمة تكون من عوارضه. وأمّا إذا كانالمبحوث عنه فيها هو الملازمة وعدمها فهي مندرجة في المسائل الاُصوليّة.

وقد ذكرنا سابقاً في الفرق بين المسألة الاُصوليّة وغيرها: أنّ المسألة الاُصوليّة إنّما هي المسألة التي تقع في كبرى قياس الاستنباط، وبناءً عليه قلنا في مسألة مقدّمة الواجب أنّ البحث فيها بما أنّه بحث عن الملازمة

ص: 89

بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، كان بحثاً عن الملازمة التي يصحّ أن تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الفرعيّ، فدخلت لذلك في حيّز المسائل الاُصوليّة. وكذلك فيما نحن فيه، فإنّ البحث هنا حول أنّ وجوب الشيء هل يستلزم حرمة ضدّه أم لا؟ فهي - أيضاً - من جملة المسائل الاُصوليّة.

الأمر الثاني :هل هذه المسألة لفظيّة أو عقليّة؟

لا يخفى: أنّه ليس المراد ﺑ «الأمر» في عنوان المسألة هو خصوص الأمر اللّفظيّ حتى يقال بأنّ الاقتضاء يكون على نحو الدلالة اللّفظيّة الوضعيّة، إمّا بنحو المطابقة أو التضمّن أو الالتزام، بل المراد من الأمر ما هو أعمّ من اللّفظيّ واللبّيّ، فيشمل ما دلّ عليه الدليل اللّفظيّ والعقليّ والإجماع، فهي لذلك من المسائل العقليّة، لا من مستقلّاتها الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح، بل هي من باب الملازمات العقليّة، بمعنى: أنّه إذا ورد أمر من الشارع بشيءٍ ما، فيحكم العقل بالملازمة بين هذا الشيء وبين النهي عن ضدّه؟نعم، هي من المسائل العقليّة قطعاً، ولكن بما أنّ الأصحاب لم يفردوا للمسائل العقليّة باباً مستقلاً، وكانت الأوامر في معظمها لفظيّةً، أدرجوها في مباحث الألفاظ. ومن هنا يُبحث فيها، تارةً من ناحية الدلالة اللّفظيّة، وأُخرى من ناحية الدلالة العقليّة.

ص: 90

الأمر الثالث :ما هو المراد من الضدّ؟

هل المراد من «الضدّ» هنا هو الأمر الوجوديّ الذي يُعرّف في المنطق بأنّه أمر وجوديّ لا يجتمع مع الضدّ الآخر في موردٍ واحد، بل يتعاقبان على موردٍ واحد؟

الظاهر: أنّ المراد به ها هنا ما هو أعمّ من الضدّ الوجوديّ، إذ المراد من الضدّ في هذه المسألة هو مطلق المعاند والمنافي، ويسمّى عندهم ﺑ «الضدّ العامّ»؛ لأنّه يتلاءم مع كلّ فردٍ من أفراد الأضداد الخاصّة، فهو يشمل النقيض - بمعنى: الترك -، ويتناول أيضاً الأمر الوجوديّ الخاصّ المعبّر عنه ﺑ «الضدّ الخاصّ»، وهو شامل أيضاً للقدر المشترك بين الأضداد الوجوديّة، إن كان للشيء أضداد متعدّدة، وهو المعبّر عنه ﺑ «الضدّ العامّ» في كلمات جملة من المحقّقين.

الأمر الرابع :ما هو المراد من الاقتضاء؟

ليس المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة هو معناه الحقيقيّ الظاهر منه، وهو الاستلزام، بل هو أعمّ من العينيّة والاستلزام، وأمّا الاقتضاء بمعنى: الجزئيّة فلم يقل به أحد.

وعلى هذا الأساس، فما ذكره الاُستاذ الأعظم) من «أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره، بل الأعمّ منه ومن

ص: 91

الاقتضاء بنحو الجزئيّة والعينيّة، ليعمّ جميع الأقوال»(1)، في غير محلّه.

ومثله - أيضاً - ما في الكفاية، من أنّ «الاقتضاء في العنوان أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة أو الجزئيّة أو اللّزوم، من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك الآخر، أو المقدّميّة، على ما سيظهر»(2).

كما أنّ الالتزام أعمّ من اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ وغيره.

وأمّا النهي: فإمّا أن يُراد منه النهي التشريعيّ، أي: الحرمة، وإمّا أن يُراد منه ما هو منشأ اعتبار هذا النهي، وهو الكراهة، التي هي عبارة عن الكيفيّة النفسانيّة.

فإن كان المراد هو الأوّل، فلا يكون هناك أيّة ملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه، بل يمكن أن يكون الشيء واجباً من دون أن يكون ضدّه حراماً؛ لأنّهما من الاُمور الاعتباريّة،وكلّ منهما يحتاج إلى جعل مستقلّ، وليس بينهما علّيّة ومعلوليّة، أي: ليس أحدهما علّة للآخر، كما إذا كان هناك مجعولان مستقلّان تكوينيّان، فيحتاج كلّ منهما إلى جعل مستقلّ.

وأمّا إذا كان المراد هو منشأ الاعتبار، فلا ملازمة هنا - أيضاً -، إذ لا يلازم الأمر بأحدهما كراهة الآخر؛ لأنّه ربّما يكون مريداً للشيء وطالباً

ص: 92


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 289.
2- كفاية الاُصول: ص 129.

له مع كونه غافلاً عن ضدّه أصلاً، وأمّا الكراهة التقديريّة التي لا توجب الحرمة الفعليّة فهي لا تفيد.

الأمر الخامس: ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب؟

نقول: إن كان المراد من الاقتضاء بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه، الاقتضاء بنحو العينيّة أو الاستلزام، لم يكن بين المسألتين أيّ ربطٍ أصلاً، بل إحداهما تباين الأُخرى لا محالة.

وأمّا إن كان المراد من الاقتضاء هو مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر الواجب، كالصلاة والإزالة، فبما أنّ ترك الصلاة يكون مقدّمة للإتيان بالإزالة الواجبة، فإنّ فعلها يكون حراماً.

وحينئذٍ: تكون هذه المسألة من صغريات مسألة مقدّمة الواجب. ولعلّ إفرادهم لهذه المسألة عنها وجعلهم إيّاها مسألةمستقلّة إنّما كان لأجل الإشكالات الكثيرة التي طرحوها في مسألة المقدّمة.

فإذا اتّضحت هذه الاُمور، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في الضدّ الخاصّ.

والمقام الثاني: في الضدّ العامّ، وهو الترك.

أمّا المقام الأوّل:

اشارة

فقد استدلّ للقول باقتضاء الأمر بالشيء عن النهي عن ضدّه الخاصّ،

ص: 93

بلا فرق بين أن يكونا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، أو الجامع بين الأضداد، إذا كان هناك ضدّ ثالث بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لا يمكن الجمع بين الضدّين أو الأضداد في الوجود. فإنّ وجود كلّ ضدّ يلازم عدم الآخر، والمتلازمان لابدّ وأن يكونا متوافقين في الحكم، فلو كان أحد الضدّين واجباً، فلابدّ أن يكون ملازمه، وهو عدم الآخر، واجباً أيضاً، كما هي قضيّة التوافق، فحينئذٍ: لو كان عدمه واجباً، لكان فعله حراماً، فيثبت المطلوب.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ ترك الضدّ، وهو المهمّ - مثلاً - يكون مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، فيكون واجباً، وإذا كان كذلك، كان فعله حراماً.

ولكن فيه: أنّه لا دليل على وجوب توافق المتلازمين في الحكم، بل الذي لابدّ منه إنّما هو أن لا يكونا متخالفين في الحكم، بأن يكون أحد المتلازمين واجباً والآخر حراماً، وإلّا،دخل المقام في مسألة التعارض، إذا كان هناك ملازمة دائميّة، أو التزاحم إذا كان بينهما ملازمة اتّفاقيّة.

والوجه الثاني: أنّ ترك أحد الضدّين يكون مقدّمة للضدّ الآخر، فيكون واجباً، ويكون فعله حراماً.

وفيه: أنّهم قد استشكلوا في كون الترك مقدّمة لفعل الضدّ، بل قالوا باستحالته؛ وذلك لأنّ أجزاء العلّة - كما هو معلوم - ثلاثة، وهي: وجود المقتضي، والشرط، وعدم المانع.

أمّا تأثير المقتضي في الشيء، بمعنى: أنّ الأثر منه، كالإحراق بالنسبة

ص: 94

إلى النار، فإنّ الإحراق يترشّح منه.

وأمّا الشرط، فهو المصحّح لفاعليّة المقتضي، كالمماسّة في مثال النار، فإنّه لولا المماسّة لا يتحقّق الإحراق، ولا تؤثّر النار أثرها، فمع فقدان الشرط لا تأثير للمقتضي.

وأمّا عدم المانع، فهو دخيل في أجزاء العلّة التامّة أيضاً، وذلك باعتبار أنّ وجود المانع، كالرطوبة في المثال، يكون مانعاً من الإحراق، فلولا عدم المانع لما ترتّب الأثر، وهو الإحراق، على النار.

فإذا عرفت هذا، اتّضح أنّ مانعية المانع تكون متأخّرة عن وجود المقتضي ووجود جميع الشرائط، كما أنّ الشرطيّة في الشرط يكون متأخّرة عن وجود المقتضي، فإنّ الرطوبة لا تكون مانعة من الاحتراق قبل وجود النار، ولا قبل مماسّتها، وإلّا، فلو لم تكن النار موجودةً أصلاً، أو كانت، ولكنّها لم تكن مماسّة؛ فإنّ عدم الاحتراق - والحالة هذه - لا يستند إلىوجود المانع، وهو الرطوبة، تماماً كما أنّ المماسّة لا تكون سبباً للإحراق إذا لم يكن مقتضي الإحراق في النار موجوداً.

وإذا اتّضح ذلك، فاعلم: أنّه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدّين مانعاً عن وجوب الضدّ الآخر، لما عرفت من أنّ المانع إنّما يصبح مانعاً في ظرف وجود المقتضي للشيء مع بقيّة شرائطه، ومن المعلوم: أنّه عند وجود أحد الضدّين، الذي هو المانع، يستحيل ثبوت المقتضي للضدّ الآخر حتى يكون عدمه مستنداً إلى فعل ضدّه؛ إذ كما أنّ الضدّين يستحيل

ص: 95

اجتماعهما في شيءٍ واحد في الخارج، فكذلك المضادّة والمنافرة بين مقتضييهما تكون موجودة أيضاً.

وهذا يستلزم اجتماع الضدّين، ووجود السواد في فرض وجود البياض - مثلاً -، كما لو فرضنا أنّ وجود السواد مضادّ لوجود البياض، ففي هذه الحالة، لابدّ وأن يكون المقتضي للبياض موجوداً حتى يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع، وهو وجود السواد، لا إلى عدم المقتضي في البياض. وثبوت المقتضي محال؛ لأنّه لو كان كذلك، لثبت وجود البياض في عرض وجود الضدّ الآخر، وهو السواد، وهو محال؛ لأنّ الضدّين لا يجتمعان.

وملخّص القول: أنّ وجود الإزالة - مثلاً - بما أنّه يكون متوقّفاً على عدم الصلاة، فلابدّ أن يكون من جهة عدم المانع، فلو فرض أنّ المقتضي للإزالة لم يكون موجوداً أصلاً، فلا معنى لإسناد عدم الإزالة إلى مانعيّة الصلاة؛ لأنّ الشيء إنّمايكون مانعاً من وجود الآخر في فرض أن يكون المقتضي للآخر موجوداً.

فإذا لم يكن المقتضي للإزالة موجوداً، لا مانع من أن تكون الصلاة مانعاً.

وأمّا مع وجود المقتضي للإزالة، فلا يبقى مجال لوجود المقتضي للصلاة، ولا يبقى في ذلك الحين، فكيف يمكن أن يكون مانعاً؟ فعدم الصلاة - حينئذٍ - ليس من جهة عدم المانع حتى تتوقّف الإزالة عليه، كما

ص: 96

أنّه مع عدم المقتضي للإزالة، فعدمها ليس من جهة وجود المانع.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّه إذا فرض توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر، فلابدّ من وجود المقتضي لكلا الضدّين.

لا يقال: إنّ المقتضي لكلا الضدّين لابدّ وأن يكون موجوداً، وإلّا، لم يتحقّق مانع في أيّ مورد أصلاً؛ لأنّ أثر المانع يكون دائماً ضدّ الممنوع، الذي هو أثر لمقتضيه الموجود. وبعبارة أُخرى: فإنّ أثر الرطوبة - مثلاً - يكون دائماً ضدّاً لأثر النار الذي هو الإحراق، فلابدّ من وجود كلا المقتضيين في الضدّين، وإلّا، لا يحصل التمانع والتضاد بينهما.

فإنّه يقال: إنّ المانع لا يكون فيه أثر يكون مضادّاً لأثر ضدّه الآخر، فإنّ الرطوبة لا تقتضي أن يكون للشيء أثر يكون مضادّاً للإحراق، بل إنّما توجب عدم قابليّة الجسم للاحتراق حتى تؤثّر النار فيه؛ لا أنّه بالرطوبة وُجد له أثر هو ضدّ للإحراق الذي هو أثر وجود النار.قد يقال: إنّ نفس الرطوبة في الجسم ضدّ للاحتراق، والمفروض أنّ المقتضي وجد لكليهما؛ أمّا بالنسبة إلى المانع - أي: الرطوبة - فباعتبار أنّ المفروض وجودها، فلابدّ وأن يكون المقتضي لها موجوداً أيضاً، وأمّا بالنسبة إلى الممنوع، فالمفروض - أيضاً - وجود المقتضي له، وإلّا لا يصدق المانع على المفروض مانعاً، وهو خلف.

قلت: قد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق) بما ملخّصه:

أنّ الرطوبة ليست ضدّاً للاحتراق، بل الجسم المرطوب ليس قابلاً

ص: 97

للاحتراق، فما دام الماء موجوداً في الجسم يمنع من احتراقه، لا أنّ الماء الموجود في الجسم ضدّ للاحتراق(1).

ولكن فيه: أنّ عدم احتراق الجسم المرطوب إنّما هو باعتبار وجود الماء فيه، وفي الحقيقة: فإنّ التضادّ إنّما يكون بين الماء والاحتراق.

ولكن مع ذلك، فالحقّ: هو ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره)(2) من أنّه لو فرض المقتضي لكلّ منهما موجوداً، لكان ذلك من باب اجتماع المقتضيين، وهذا محال، إذ كما أنّ بين الضدّين مضادّة ومنافاة، فكذلك بين مقتضييهما أيضاً. ثمّ لو فرض وجود المقتضي للمانع، فلا يبقى الممنوع، ولا يكون حينئذٍ: من باب توقّف الممنوع على عدم المانع.ومن هنا ظهر بطلان الإشكال الذي أورده صاحب الكفاية وصاحب الحاشية" بلزوم الدور، ببيان أنّ فعل الضدّ لو كان مانعاً من فعل الواجب، لكان فعل الواجب مانعاً منه، بعدما كانت المضادّة والممانعة من الطرفين، فترك المانع - كالصلاة - لمّا كان مقدّمة ومن أجزاء العلّة لحصول الإزالة، فحصوله يكون مانعاً ورافعاً لفعل الإزالة، فيكون فعل الواجب، وهو الإزالة، متوقّفاً على ترك الضدّ، وهو الصلاة، ويكون ترك الصلاة بدوره متوقّفاً على فعل الإزالة. وهو دور واضح.

ص: 98


1- انظر: منتهى الاُصول 1: 310.
2- راجع: فوائد الاُصول 1: 308.

قال صاحب الكفاية(قدس سره) ما نصّه:

«كيف؟! ولو اقتضى التضادّ توقّف وجود الشي ء على عدم ضدّه توقّف الشي ء على عدم مانعه، لاقتضى توقّف عدم الضدّ على وجود الشي ء توقّف عدم الشي ء على مانعه، بداهة ثبوت المانعيّة في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح»(1).

وقال صاحب الحاشية(قدس سره):

«لو كان كذلك لزم الدور؛ فإنّه لو كان فعل الضدّ من موانع فعل الواجب، كان فعل الواجب مانعاً منه أيضاً؛ ضرورة حصول المضادّة من الجانبين، وكما أنّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل، فكذا وجود المانع سبب لارتفاعالفعل، فيكون فعل الواجب متوقّفاً على ترك الضدّ، وترك الضدّ متوقفاً على فعل الواجب...» إلى آخر كلامه)(2).

وقد فسّر المحقّق الأصفهاني(قدس سره) كلام صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه: «أنّه لا تقدّم ولا تأخّر بين الضدّين بما هما ضدّان، فنقيض أحدهما، وهو العدم البديل للوجود أيضاً لا تقدّم له على وجود الآخر، وهذا معنى كونهما في مرتبة واحدة»(3).

وحاصله: أنّه لا إشكال في كون كلّ من الضدّين مع الآخر في رتبة

ص: 99


1- كفاية الاُصول: ص 131.
2- انظر: هداية المسترشدين 2: 223.
3- نهاية الدراية 1: 425.

واحدة، فليس أحدهما متقدّماً على الآخر، ومن المسلّمات - أيضاً -: أنّ وجود كلّ ضدّ وعدمه في رتبة واحدة؛ فإنّهما يتواردان على محلّ واحد، فعدم الشيء في رتبة وجوده بلا إشكال.

وعليه: فيكون عدم كلّ ضدّ في رتبة الضدّ الآخر قهراً؛ لأنّه في رتبة نفس الضدّ، والمفروض بالمقدّمة الأُولى أنّ نفس الضدّ في رتبة ضدّه الآخر.

وبعبارة أُخرى: فلو كان عدم الصلاة - مثلاً - مقدّمة لوجود الإزالة، بمقتضى التضادّ بين العينين - أعني: الصلاة والإزالة -، كان وجود الإزالة أيضاً مقدّمة لعدم الصلاة، إذ لو اقتضى التضادّ المقدّميّة لاقتضاها من الطرفين، لوحدة الملاك في الجانبين، وتوقّف فعل الضدّ - أعني: الإزالة - على تركضدّه - أعني: الصلاة - من باب توقّف المشروط على شرطه، لوجود ملاك الشرطيّة فيه، وهو استلزام انتفاء الشرط انتفاء المشروط، وعدم استلزام وجوده وجود المشروط؛ فإنّ عدم الصلاة يستلزم وجود الإزالة، ولكن لا يلزم من وجوده وجود الإزالة؛ لإمكان وجود الصارف عنها. وتوقّف عدم الضدّ - أعني: الصلاة - على فعل ضدّه - أعني: عدم الإزالة - من باب توقّف المسبّب على سببه، لوجود ملاك السببيّة فيه، وهو: استلزام وجود السبب لوجود المسبّب، فإنّ فعل الإزالة مستلزم لترك ضدّها.

ولكن قد أجاب عن هذا المحقّق الخوانساري(قدس سره) - كما في الكفاية - ﺑ «أنّ التوقّف من طرف الوجود فعليّ، بخلاف التوقّف من طرف العدم،

ص: 100

فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي»(1).

وتوضيحه: أنّ التوقّف في طرف الوجود - أي: وجود أحد الضدّين - على ترك الآخر فعليّ؛ ضرورة أنّ وجود الشيء منوط بعلّته التامّة، من المقتضي، والشرط، وعدم المانع، فوجود الواجب فعلاً - كالإزالة - مترتّب على عدم ضدّه، كالصلاة.

وهذا بخلاف التوقّف في طرف العدم - أي: توقّف عدم أحد الضدّين على وجود الآخر -، كتوقّف عدم الصلاة على وجود الإزالة؛ فإنّ توقّفه على وجود الإزالة إنّما يكون في ظرفوجود المقتضي لوجود الصلاة مع شرائطه، وانحصار المانع في وجود الضدّين كالإزالة ليصحّ استناد عدم الصلاة إلى المانع - وهو وجود الضدّ -، وإلّا كان العدم مستنداً إلى عدم المقتضي - أعني: عدم الإرادة - لا إلى وجود المانع.

فتوقّف وجود الإزالة - مثلاً - على عدم ضدّها، كالصلاة، فعليّ؛ لتوقّف وجود الشيء على علّته التامّة، التي من أجزائها عدم المانع، بخلاف توقّف عدم الضدّ - كالصلاة - على وجود الضدّ - كالإزالة - فإنّه حينئذٍ توقّف شأنيّ؛ لأنّه حين وجود الإزالة يستند عدم الصلاة إلى عدم مقتضيها - وهو الإرادة - لا إلى وجود الإزالة، فلا محالة: يكون توقّف عدم الضدّ على وجود ضدّه شأنيّاً، يعني: على فرض وجود الإرادة

ص: 101


1- كفاية الاُصول: ص 130.

المقتضية للوجود مع الشرائط يستند العدم - لا محالة - إلى وجود الضدّ، كالإزالة في المثال، فعليه: لا يلزم الدور، لكون التوقّف في طرف الوجود فعليّاً، وفي طرف العدم شأنيّاً.

لكن قد أُجيب عن هذا - كما في الكفاية - بأنّ رفع غائلة الدور بالفعليّة والشأنيّة إنّما يصحّ إذا كانت الإرادة من شخص واحد، كما إذا فرض أنّه أراد إيجاد السواد والبياض أو الصلاة والإزالة في آنٍ واحد، وفي مكانٍ كذلك؛ فإنّه يمتنع إرادة إيجادهما من شخص واحد، لامتناع تعلّق إرادةٍ واحدة بشيئين متضادّين.فلا محالة: يستند عدم الضدّ الآخر إلى عدم المقتضي، وهو الإرادة، لا إلى وجود المانع، فيكون توقّف عدم أحدهما على وجود الآخر شأنيّاً.

وأمّا لو كانت إرادة إيجاد الضدّين من شخصين، بأن أراد أحدهما الصلاة والثاني الإزالة، أو أحدهما البياض والثاني السواد، فالمقتضي لوجود كلٍّ من الضدّين حينئذٍ موجود، فلا محالة: يستند عدم أحدهما إلى وجود المانع - وهو الضدّ الآخر -، لا عدم المقتضي، وهو الإرادة، حتى يكون التوقّف شأنيّاً، إذ المفروض وجوده، أعني: إرادة إيجاد الضدّ الآخر أيضاً من شخصٍ آخر، فيكون التوقّف من الطرفين فعليّاً.

فبناءً على هذا، الدور باقٍ على حاله، ولو في بعض الموارد، واستحالته دليل على مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر، فلا يتمّ

ص: 102

مذهب المشهور من أن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ يكون من باب المقدّميّة.

لكن الحقّ: هو ما أفاده الخونساري من أنّ عدم الضدّ مستند إلى عدم المقتضي دائماً، لا إلى وجود المانع؛ وذلك لأنّه لو فرض أنّ الإرادتين حصلتا من شخصين، ولكن مع ذلك، فبما أنّهما ضدّان ولا يجتمعان في مورد واحد، فلا يمكن أن تؤثّر كلتا الإرادتين؛ لأنّه مع تعلّق الإرادة بالسواد لا يمكن أن تتعلّق بالبياض، فإذا وُجد أحد الضدّين، فلا يبقى مقتضٍ للضدّ الآخر، فيستند عدم الضدّ الآخر إلى عدم المقتضي والإرادة، لا إلى وجود المانع. فلا محالة: تكونإحدى الإرادتين مغلوبة، ومع فرض مغلوبيّتها يصدق عدم المقتضي، فيكون عدم الضدّ مستنداً إليه، لا إلى وجود المانع، وهو الضدّ الآخر، حتى يلزم الدور.

ولكنّ المحقّق صاحب الكفاية(قدس سره) ذهب إلى أنّ هذا الكلام غير سديد؛ «فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفاً عليه الشيء موقوفاً عليه، ضرورة أنّه لو كان في مرتبةٍ يصلح لأن يستند إليه، لما كاد يصحّ أن يستند فعلاً إليه»(1).

ص: 103


1- كفاية الاُصول: ص 131.

وحاصله: أنّ هذا الكلام المذكور يُجدي في رفع محذور الدور، إلّا أنّه مع ذلك، يأتي عليه إشكال آخر، وهو أنّ ملاك توقّف الشيء على نفسه باقٍ؛ فإنّ عدم الصلاة، وإن كان موقوفاً شأناً على الإزالة، أي: لو وجد المقتضي والشرائط لوجود الصلاة ووجد ضدّها، فحينئذٍ: يكون عدم الصلاة متوقّفاً عليه، أي: على الضدّ، وهو الإزالة، والمفروض أنّ الإزالة متوقّفة فعلاً على ترك الصلاة، فيكون ترك الصلاة متوقّفاً على نفسه.

وبعبارة اُخرى: فإنّ الإزالة متأخّرة عن ترك الصلاة؛ لأنّ هذا الترك يكون مقدّمة لها، ومقدّماً على عدم الصلاة، لتوقّف عدم الصلاة على الإزالة، فتكون الإزالة في رتبة علّتهاموجودة ومعدومة. أمّا وجودها: فلكونها علّة لترك الصلاة، وأمّا عدمها: فلتوقّفها على هذا الترك.

وممّا ذكرنا يُعلم: أنّ ترك الضدّ ليس لوجود المانع، بل لعدم وجود المقتضي لوجوده، وبه تندفع شبهة الكعبيّ، وهي انتفاء المباح، بل انتفاء المستحبّ والمكروه، بدعوى: أنّ ترك الحرام يتوقّف على فعلٍ وجوديّ؛ لعدم خلوّ الإنسان عنه، فيكون الفعل مقدّمة لترك الحرام، فيكون واجباً.

وجه الاندفاع: أنّ ترك الحرام لا يتوقّف على فعلٍ وجوديّ، بل يتوقّف على الصارف عنه. نعم، لو فرض أنّ الصارف كان وجوده منحصراً في فعلٍ ما، فهنا نتمكّن من الحكم بوجوب ذلك الفعل، كما إذا توقّف بقاء الصارف عن الزنا على الخروج من الدار، بحيث لولاه لوقع في الحرام،

ص: 104

فالالتزام بوجوب الخروج في مثل هذا الفرض لا محذور فيه، ولا يلزم نفي المباح رأساً.

مع أنّه يمكن المنع حتى في هذه الصورة أيضاً؛ لأنّ العقل يحكم بذلك. هذا، مضافاً إلى أنّ المتلازمين لا يشترط أن يكونا محكومين بحكمٍ واحد، فالترك، وإن كان واجباً، إلّا أنّه لا يجب أن يكون ملازمه، وهو الفعل، واجباً.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، لا من جهة الملازمة، ولا من جهة المقدّميّة.

الثمرة من هذا البحث:

ثمّ إنّهم عدّوا للنزاع في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ثمرات:

منها: فساد الضدّ إذا كان عبادةً بناءً على الاقتضاء؛ لأنّه يكون من النهي في العبادة، وعدم فساده بناءً على عدم الاقتضاء.

ولكن نقل عن البهائي(قدس سره)(1) إنكار هذه الثمرة، والقول بأنّ الفساد لا

ص: 105


1- انظر: زبدة الاُصول: ص 287، المطلب الأوّل من المنهج الثالث، بحث الضدّ، وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره): «هذا، ولا يخفى: أنّ من ذهب إلى بطلان الصلاة والحجّ وغيرهما في الصور المذكورة وأمثالها، لو عدل عن الاستدلال باستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه إلى الاستدلال باستلزامه عدم الأمر بضدّه لكان أقرب إلى الثبوت؛ لأنّ إتمام الأوّل في غاية الإشكال، بخلاف الثاني، كما لا يخفى على المتأمّل...».

يتوقّف على القول بالاقتضاء، بل يكفي في الفساد عدم الأمر بالضدّ، أمّا على القول بالاقتضاء فواضح، وأمّا على القول بعدم الاقتضاء، فإنّ الصلاة لا أمر بها، فلا يكون الضدّ ماُموراً به، فيُحكم بالفساد لا محالة بعدما لم يكن الضدّ ماُموراً به، حيث إنّ صحّة العبادة تتوقّف على الأمر بها، ويمتنع ورود الأمر بالضدّين.

وحكي عن المحقّق الكركي(قدس سره)(1) المنع من إطلاق مقالة البهائي(قدس سره) من فساد الضدّ على الإطلاق لو قلنا بتوقّف العبادة على الأمر، بل ذلك إنّما يتصوّر في خصوص الواجبينالمتزاحمين المضيّقين إذا كان أحدهما أهمّ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في آخر الوقت لواجبٍ آخر أهمّ، كإنقاذ الغريق، ففي مثل هذا يتمّ كلام البهائي(قدس سره) من فساد الصلاة بناءً على توقّف صحّة العبادة على الأمر بها.

ولكن سيأتي في باب الأهمّ والمهمّ: أنّ المهمّ - حينئذٍ - له أمر فعليّ، ولكن لا على نحو الإطلاق.

ص: 106


1- راجع: جامع المقاصد في شرح القواعد: 5: 12- 13؛ كتاب الدين وتوابعه، المطلب الأوّل من المقصد الأوّل. قال(قدس سره) - تعليقاً على ما أفتى به العلّامة(قدس سره) من بطلان الصلاة في أوّل وقتها لمن كان عليه دين واجب الأداء على نحو الفوريّة - «لأنّ الأمر بالأداء على الفور يقتضي النهي عن ضدّه، والنهي في العبادة يقتضي الفساد»، ولكنّك خبير بأنّ هذه العبارة ليست صريحةً في التفصيل الذي نقلنا محكيّه عنه في المتن، نعم، قد يُقال: بأنّ ذاك التفصيل هو لازم كلام المحقّق الكركيّ(قدس سره) المذكور؛ لما يظهر منه من أنّ إطلاق الأمر بالموسّع يعمّ الفرد المزاحم للمضيّق. فتأمّل جيّداً.

نعم، الأمر بالأهمّ، فعليّ كذلك، أي: على نحو الإطلاق.

على أنّه حتى لو فرض أنّ هذا الفرد ليس له أمر بالخصوص من جهة مزاحمته للأمر بالأهمّ، وأنّه تكليف بالمحال، ولكن بعدما ذكرنا أنّ الأمر ورد على مطلق الطبيعة، وأنّ هذه الطبيعة تكون مقدوراً عليها، ولو بالقدرة على بعض أفرادها، وأنّ التكليف ليس مشروطاً إلّا بالقدرة على صرف إيجاد الطبيعة، أمّا القدرة على جميع أفرادها الطوليّة والعرضيّة، فلا؛ إذ في الحقيقة ليس هناك طبيعة تكون جميع أفرادها مقدوراً عليها، فلو فرض أنّه لا يتمكن على الإتيان بالفرد المزاحم، ولكن بما أن بقيّة أفرادها مقدورة، فيمكن أن يتعلّق الأمر بالطبيعة باعتبار تلك الأفراد.

فهذا الفرد المزاحم، وإن لم يكن له أمر بالخصوص، ولكن يمكن الإتيان به باعتبار تعلّق الأمر بالطبيعة؛ لأنّ انطباقها على هذا الفرد قهريّ، واللّابشرط من كلّ شيء يجتمع مع البشرط شيء منه. بل يمكن أن يقال: بأنّ هذا الفرد يؤتى به بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة.ولكن قد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق(قدس سره) بما لفظه:

«وفيه: أنّه لا شكّ في اشتراط التكاليف بالقدرة، إمّا من جهة أنّ تكليف العاجز قبيح، وصدور القبيح عن الحكيم تعالى محال، وإمّا من جهة أنّ حقيقة الأمر وماهيّته عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور، فالقدرة على إيجاد متعلّق الأمر مأخوذة في نفس حقيقة الأمر وماهيّته، بحيث لو قلنا - كالأشاعرة - بعدم قبح تكليف العاجز، وأنكرنا الحسن

ص: 107

والقبح العقليّين، فمع ذلك أيضاً لا يجوز تعلّق الأمر بغير المقدور؛ لأنّ القدرة على المتعلّق مأخوذة - على ما قلنا - في نفس حقيقة الأمر وماهيّته، ويكون من قبيل ذاتيّاته، وهي لا تختلف ولا تتخلّف، فيكون بناءً على الأوّل من هذين الوجهين لاشتراط القدرة في متعلّق الأمر، ولو كان هو صرف الوجود مقيّداً بالقدرة بتقييدٍ عقليّ، وذلك كما في العامّ الوارد في لعن بني اُميّة قاطبة، حيث إنّه مقيّد عقلاً بكونهم غير مؤمنين، فلا يشمل المؤمنين منهم؛ لعدم جواز لعن المؤمن عقلاً.

وعلى الثاني من الوجهين: لا تقييد في البين؛ لأنّ الأمر - في حدّ نفسه - قاصر عن شموله لغير المقدور، فيكون بالنسبة إليه من قبيل التخصّص، لا التقييد والتخصيص. وعلى كلا التقديرين: لا تنطبق الطبيعة المأمور بها - بما هي ماُمور بها - على الفرد غير المقدور، وذلك من جهة أنّه بناءً على الأوّل من الوجهين في اشتراط القدرة، حيث إنّها مقيّدة بالقدرة بتقييدٍ عقليّ، ومعلوم أنّ الطبيعة المقيّدة لاتنطبق على الفرد الفاقد لذلك القيد، وبناءً على الثاني من الوجهين: لا تنطبق على هذا الفرد الذي له مزاحم أهمّ، لضيقٍ في المتعلّق آتٍ من قبل نفس الأمر»(1).

وقد أجاب المحقّق النائيني(قدس سره) عن ذلك بما لفظه:

«ولكنّ الإنصاف: أنّ الالتزام بذلك بلا موجب، بل يكفي في صحّة

ص: 108


1- منتهى الاُصول 1: 317- 318.

العبادة اشتمالها على الملاك التامّ، سواء أمر بها فعلاً، كما إذا لم يتزاحم ما هو أهمّ منها، أو لم يؤمر بها فعلاً، كما في صورة المزاحمة، فوجود الأمر وعدمه سيّان في ذلك. ولكن مع ذلك، لا تظهر الثمرة في اقتضاء الأمر بالشّي ء للنّهي عن ضدّه؛ لأنّه هب أنّ الضّد يكون منهيّاً عنه، ولكن لمّا كان النّهي غيريّاً، لمكان الملازمة أو المقدّميّة - على الوجهين اللّذين بنوا عليهما النّهي عن الضدّ - لم يكن ذلك موجباً لخلل في الملاك، بل الضدّ يكون باقياً على ما هو عليه من الملاك لولا المزاحمة.

وليس النهي في المقام عن ملاكٍ يقتضيه، كما في باب النهي عن العبادة، وباب اجتماع الأمر والنهي بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي، فإنّ النهي في البابين يكون استقلاليّا عن ملاكٍ يقتضيه، ولم يبقَ معه الملاك المصحّح للعبادة؛ لأنّه لا يتعلّق النّهي الاستقلاليّ بالعبادة، إلّا لمكان أقوائيّة ملاك النهي والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها، ومعه: لا يكون في العبادة ملاك تامّ يقتضيصحّة العبادة. وهذا بخلاف النهي الغيريّ المتعلّق بالعبادة، فإنّه لمّا لم يكن عن مفسدة تقتضيه، بل كان لمجرّد المزاحمة لواجبٍ آخر أهمّ، والوصلة إليه كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التامّ المقتضي لصحّتها»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّه على تقدير أن يكون الأمر بالشيء يقتضي

ص: 109


1- فوائد الاُصول 1: 315 - 316.

النهي عن ضدّه الخاصّ، فليس ذلك النهي نهياً نفسيّاً ناشئاً عن مفسدة في متعلّقه، بحيث يكون مبغوضاً للمولى، بل هو نهي غيريّ مقدّمة لحصول ذلك الضدّ الآخر، من دون أن ينقص من مصلحته ومحبوبيّته، وليس من قبيل النهي النفسيّ المتعلّق بالعبادة في باب النهي عن العبادة، أو النهي المتعلّق بطبيعةٍ اتّحدت مع الطبيعة المأمور بها بناءً على الامتناع؛ لأنّ النهي النفسيّ المتعلّق بالعبادة يكون كاشفاً عن مفسدةٍ ومبغوضيّةٍ فيها لا يمكن التقرّب بها بواسطة تلك المفسدة والمبغوضيّة.

وهكذا الحال في باب الاجتماع بناءً على الامتناع، إذ مبنى الامتناع اتّحاد متعلّقي الأمر والنهي وسراية كلّ واحدٍ منهما إلى متعلّق الآخر، ففي الحقيقة: في باب الاجتماع أيضاً، بناءً على الامتناع: النهي النفسيّ تعلّق بنفس العبادة، ويكون كاشفاً عن وجود مفسدة في العبادة، التي لأجلها صارت العبادة مبغوضة، فلا يمكن أن يتقرّب بها، وذلك بخلاف ما نحن فيه، فإنّ النهي - بناءً على الاقتضاء - نهي مقدّميّ غيريّ، لا يتغيّرمتعلّقه عمّا كان عليه من المصلحة والمحبوبيّة، فيمكن أن يقع عبادة ويتقرّب به. هذا.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه وإن كان النهي المقدّمي غيريّاً، ولكن بما أنّ مخالفته تكون هتكاً لحرمة المولى وعصياناً له، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يتقرّب إليه بالعبادة الملازم لهتك حرمة المولى وعصيانه، إذ لا يطاع اﷲ من حيث يعصى.

ص: 110

وأمّا المقام الثاني:

والكلام فيه في الضدّ العامّ بمعنى الترك، فقد يقال: إنّ الأمر يدلّ عليه بالدلالة التضمّنيّة، بعدما كان مركّباً من طلب الشيء مع المنع من الترك، فيكون النهي جزء مدلول الوجوب.

ولكنّه مندفع: بأنّ الوجوب بسيط وليس مركّباً؛ فإنّه ليس إلّا عبارة عن المرتبة الأكيدة من الطلب، فطلب الشيء مع المنع من الترك إنّما هو عبارة عن الطلب الشديد، ولازم المرتبة الشديدة هو المنع من الترك، كما أنّ الندب هو الطلب الضعيف.

وللمحقّق النائيني(قدس سره) في المقام كلام إليك نصّه:

«أمّا المقام الأوّل: فربما يدّعى فيه أنّ الأمر بالشي ء عين النهي عن ضدّه، بتقريب: أنّ عدم العدم، وإن كان مغايراً للوجود مفهوماً، إلّا أنّه عينه خارجاً، لما عرفت سابقاً من أنّ نقيض العدم هو الوجود وعدم العدم عنوان ومرآة له، لاأنّه أمر يلازمه، فكما أنّ الإرادة التكوينيّة لا تتعلّق إلّا بنفس الوجود، وهو بنفسه ناقض للعدم، كذلك الإرادة التشريعيّة إنّما تتعلّق به، فطلب ترك الترك عين طلب الفعل، والفرق بينهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط. وفيه: أنّ محلّ الكلام هو أنّه إذا تعلق الأمر بشي ء، فهل هو بعينه نهيٌ عن الترك أو لا؟ لا أنّه إذا كان هناك أمر بالفعل ونهيٌ عن الترك، فهل هما متّحدان أو لا. والدليل إنّما يُثبت الاتّحاد في المقام الثاني، لا الأوّل، بداهة أنّ الآمر بالشي ء ربما يغفل عن ترك تركه،

ص: 111

فضلاً عن أن يأمر به، فلا يبقى لدعوى الاتّحاد فيما هو محلّ الكلام مجال أصلاً»(1).

وملخّص ما أفاده: أنّه إذا فسّرنا النهي بطلب الترك، فمعنى النهي عن الترك هو طلب تركه، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل واقعاً، وإن تغاير عنه مفهوماً؛ لأنّ ترك الترك لا واقع له غير الفعل، وإلّا، لزم أن يكون هناك واقع وراء المتناقضين، وهو محال، ولأجل ذلك اشتهر أنّ نفي النفي إثبات. فعليه يكون الأمر بالشيء عين النهي عن الترك.

إلاّ أنّ هذا لا يرتبط بما نحن فيه، فإنّه إنّما يرتبط بما إذا كان هناك إنشاءان أحدهما يتضمّن طلب الفعل والآخر يتضمّن النهي عن الترك. فنقول: إنّ أحدهما يرجع إلى الآخر، وكلّ منهما عين الآخر حقيقة. أمّا إذا كان هناك إنشاء واحد يتضمّن طلب الفعل، فلا يتأتّى فيه ما ذكر، إذ قد يغفلالآمر عن ترك تركه كي يطلبه، فيقال: إنّه عين طلب الفعل، وما نحن فيه من هذا القبيل.

ولكن الحقّ: أنّ ترك الترك ترك؛ لأنّ عدم العدم عدم وليس بوجود. وقد ذكر اُستاذنا المحقّق(قدس سره) «أنّ مفاد الوجوب والاستحباب من ناحية الطلب والإرادة شيء واحد، لا فرق بينهما، وإنّما الفرق بإتيان الترخيص في الترك في ناحية الاستحباب دون الوجوب. وبعبارة أُخرى: طبع الطلب

ص: 112


1- أجود التقريرات 1: 251 - 252.

والإرادة يقتضي الوجوب إلّا إذا جاء ترخيص في الترك، والاستحباب يحتاج إلى مؤونة زائدة، دون الوجوب، ولذلك يقولون: إنّ إطلاق الطلب يقتضي الوجوب»(1).

والصحيح: أنّ الطلب لا يدلّ على الوجوب ولا على الاستحباب، ولذا يمكن أن يطلب الوجوب والاستحباب بطلبٍ واحد ﻛ «اغتسل للجمعة والجنابة»، غاية الأمر: أنّ مقتضى مقام المولويّة والعبوديّة أنّ المولى إذا طلب فالعقل يحكم بالإتيان بالمأمور به على سبيل الحتم واللّزوم؛ إذ لو كان الشارع يرخّص في الترك لكان عليه أن يبيّن. وليس للعبد عدم الإتيان به معتذراً بأنّه كان يتخيّل إرادة المولى للاستحباب، كما أنّ للمولى أن يعاقبه على تركه إيّاه. فليس الطلب للوجوب خاصّةً، ولا للاستحباب كذلك، بل هو للقدر الجامع بينهما.

الاقتضاء بمعنى العينيّة:

وأمّا الاقتضاء بمعنى العينيّة كما نسب إلى جمع من المحقّقين، أي: أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ، وأنّ الأمر بالصلاة عين النهي عن تركه، فلابدّ فيه أوّلاً من بيان ما هو المراد من العينيّة؟ فنقول:

قد يُراد من العينيّة أنّ هناك طلباً واحداً، وهذا الطلب الواحد منسوب إلى الفعل تارةً، وإلى الترك أُخرى، ومن هنا يصحّ وضع أحدهما مكان

ص: 113


1- منتهى الاُصول 1: 303.

الآخر، فمثلاً: يجوز أن يقال بدلاً عن (صلّ) أو (افعل): (لا تترك الصلاة أو الفعل).

وهذا المعنى وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه ليس مراداً لهم من العينيّة في هذا الباب، بل المراد من النهي إمّا أن يكون هو الحرمة التي هي اعتبار تشريعيّ، وإمّا أن يكون المراد منه منشأ هذا الاعتبار، أعني: الكراهة التي هي من الكيفيّات النفسانيّة والأعراض البسيطة الخارجيّة.

فإن كان المراد هو الأوّل: فلا يتمّ القول بأنّ اعتبار وجوب شيء ملازم عقلاً لاعتبار حرمة ترك ذلك الشيء، بل ليس هناك إلّا جعل واحد، وهو الوجوب، وليس وراء الوجوب أيّ منع أو نهي من قبل الشارع. فليس هناك من نهيٍ مولويٍّ عن الترك يقتضيه الأمر بالفعل، ولا يكون في كلّ واجب حكمان اثنان: أحدهما: وجوب الفعل، والثاني: حرمة الترك، وإلّا، لزم أن يترتّب عليه عقابان اثنان أيضاً، ولا نظنّ أحداً يلتزم به.

وان كان المراد هو الثاني: فربّما يكون مريداً وطالباً لشيء وغافلاً عن تركه غير ملتفت إليه أصلاً حتى يكون كارهاً له،اللّهمّ إلّا أن يراد من الكراهة: الكراهة التقديريّة، أي: بحيث لو التفت إليه لكان يكرهه، ولكن، كونها علّة وسبباً للحرمة في الفعل في تلك الحالة محلّ كلام، مضافاً إلى أنّه يلزم على هذا أيضاً وجود جعلين وعقابين، كما مرّ.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ المراد من النهي هو النهي العقليّ، فإنّ العقل يحكم بأنّ نفس الأمر بالشيء يكون كافياً عن الزجر عن تركه، كما أنّ

ص: 114

نفس النهي عن الشيء يكون للدعوة إلى تركه، فلا حاجة إلى أيّ جعلٍ آخر زائداً على الأمر بذلك الشيء.

الاقتضاء بمعنى الاستلزام:

وأمّا الاقتضاء بمعنى الاستلزام، أي: بمعنى: أن يكون الأمر بالشيء مستلزماً للنهي عن ضدّه العامّ، فهل المراد من الاستلزام اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، أو الأعمّ؟

فبناءً على الأوّل فإنّ نفس تصوّر الأمر والوجوب يكون كافياً في تصوّر المنع من الترك، ولا يحتاج إلى تصوّر آخر.

وأمّا بناءً على الثاني فإنّه يحتاج إلى تصوّر ثالث.

فقد ذهب المحقّق النائيني(قدس سره) إلى المعنى الأوّل بقوله: «وأمّا دعوى الدلالة عليه بالالتزام بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، بأن يكون نفس تصوّر الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك، فليست ببعيدة، وعلى تقدير التنزّل عنها، فالدلالة الالتزاميّة باللّزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ممّا لا إشكال فيها ولا كلام»(1).وقد استشكل فيه اُستاذنا الأعظم) بأنّ «دعوى استلزام الأمر بشيء النهي عن تركه باللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ واضحة الفساد، ضرورة أنّ الآمر ربّما يأمر بشيء ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلاً ليكون كارهاً

ص: 115


1- أجود التقريرات 1: 252.

له، فلو كانت الدلالة على نحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، لم يتصوّر غفلة الآمر عن الترك وعدم التفاته إليه في موردٍ من الموارد. ومن هنا اعترف هو(قدس سره)أيضاً ببداهة إمكان غفلة الآمر بشيءٍ عن ترك تركه، فضلاً عن أن يتعلّق به طلبه، وهذا منه يناقض ما أفاده من نفي البعد عن اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ.

وأمّا دعوى الدلالة الالتزاميّة باللّزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، فهي أيضاً لا يمكن تصديقها، وذلك لعدم الدليل عليها، لا من العقل ولا من الشرع؛ أمّا من ناحية العقل، فلأنّه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شيء واعتباره حرمة تركه، فإنّ كلّاً من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبارٍ مستقلّ، والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكانٍ من الإمكان، وكذا لا يحكم العقل بالملازمة بين إرادة شيء وكراهة نقيضه، إذ قد يريد الإنسان شيئاً غافلاً عن تركه وغير ملتفتٍ إليه، فكيف يكون كارهاً له؟! إلى أن يقول:

وأمّا من ناحية الشرع؛ فلأنّ ما دلّ على وجوب شيء لا يدلّ على حرمة تركه، بداهة أنّ الحكم الواحد، وهو الوجوب في المقام، لا ينحلّ إلى حكمين: أحدهما: يتعلّق بالفعل،والآخر: بالترك، ليكون تاركه مستحقّاً لعقابين من جهة تركه الواجب وارتكابه الحرام»(1).

ص: 116


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 335 - 337.

كما أورد الاُستاذ الأعظم(قدس سره) في المقام بما لفظه: «لا يخفى: أنّ النهي عن الترك إن اُريد به طلب تركه المنطبق على الفعل، فلا معنى للقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه أصلاً، إذ هو في قوّة القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي نفسه، وهو قول لا محصّل له»(1).

وحاصله: أنّ النهي إذا كان عبارة عن طلب الترك، وكان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه، لا معنى لأن يقال: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الترك، فإنّه عينه، فلا محصّل له، فإنّه بمثابة أن يقال: إنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء.

إلاّ أنّ كلامه(قدس سره) هذا يرجع إلى بيان أنّ المراد بالاقتضاء ما يساوق العلّيّة، لا ما هو أعمّ منها ومن العينيّة والتضمّن، فلا يصحّ التعبير بالاقتضاء في مورد العينيّة، فيكون إشكالاً على أخذ الاقتضاء بمعنى أعمّ، مع أنّه قائل به.

الفرق بين التعارض والتزاحم:

ثمّ إنّ جماعة من الفضلاء - كالميرزا الكبير وتلميذيه: السيّد محمّد الأصفهاني والميرزا النائيني(قدس سره) - تصدّوا لتصحيح الأمربالضدّ بالترتّب. ولكن لابدّ قبل الدخول في البحث من بيان معنى التعارض والتزاحم،

ص: 117


1- أجود التقريرات 1: 251، الهامش رقم 1.

وبيان ما هو الفرق بينهما، فنقول:

الفرق بينهما من جهاتٍ ثلاث:

الجهة الأُولى:

لا يخفى: أنّ المتعارضين هما ما لا يمكن اجتماعهما في الواقع في عالم الجعل والتشريع كلّ واحد على موضوعه، بحيث يكون لكلّ واحد من المتعارضين ملاك، كما لا يمكن - مثلاً - تشريع صحّة بيع العذرة وتشريع فساده معاً، لأنّهما متناقضان.

وأمّا المتزاحمان - فبعد الفراغ عن إمكان جعلهما وتشريعهما كلّ واحدٍ منهما على موضوعه، ووجود الملاك في كلّ واحد منهما - فهما الحكمان اللّذان لا يمكن امتثالهما معاً، بل لا مناص للمكلّف من ترك أحدهما، ويكون هذا التزاحم وعدم القدرة على الامتثال فيهما اتّفاقيّاً، وأمّا لو كان دائميّاً يرجعان إلى التعارض.

وخلاصة الكلام: أنّ التعاند في باب التعارض إنّما يرجع إلى مقام الثبوت، فإنّه لا يمكن جعل حكمين متعارضين في مرحلة الجعل والتشريع؛ لأنّه يستلزم التناقض، بل معناه اجتماع الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة بالنسبة إلى متعلّق واحد، فمثلاً: تارةً يفرض أنّ بين المتعلّقين تضادّاً، وهذا التضادّ يكون دائميّاً، كالقيام والجلوس، ولكن الحكم واحد، فإذا أوجب القيام دائماً والجلوس دائماً، كان تكليفاً بمالا يطاق، أو إذا كان بين المتعلّقين تلازم دائميّ، ولكنّ الحكم كان

ص: 118

مختلفاً، كما إذا أوجب استقبال القبلة وحرّم استدبار الجدي، أو حرّم الشيء وأباح نفس ذلك الشيء، كأن يقول: بيع العذرة سحت، ولا بأس ببيع العذرة، فإنّه هنا إمّا أن يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة، أو الإرادة والكراهة، أو أن يلزم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا في باب التزاحم، فليس الأمر كذلك، إذ ليس هناك أيّ تنافر بين الحكمين المتزاحمين، بل بينهما كمال الملاءمة والموافقة. نعم، التعاند بينهما حصل اتّفاقاً، أي: حصل في مقام الفعليّة، كإنقاذ الغريقين، فإنّه لا يوجد أيّ محذورٍ في أصل الجعل، كتشريع إنقاذ كلّ غريق، أو تشريع حرمة التصرّف في ملك الغير، وإيجاب نجاة المؤمن من الهلكة، فإنّه هنا لا ربط بين كلٍّ من التكليفين، بل إنّما شرّع الشارع كلّ حكم على نحو القضيّة الحقيقيّة مقدّرة الموضوع، وليس هناك في مقام الجعل اجتماع للإرادة والكراهة، ولا تكليف بما لا يطاق. نعم، إنّما حصل التنافي والتزاحم بينهما اتّفاقاً في مقام الفعليّة.

والجهة الثانية:

أنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين جاء من قبل الشرع، وإلّا، لولا الشرع لحكمنا بالتساقط، وأمّا التخيير بين المتزاحمين، فقد جاء من قبل العقل؛ لأنّ العقل يحكم بالتخيير بينهما عند عدم التمكّن من الإتيان بهما معاً، مع تساوي الملاكين، وعدم وجود مرجّح في البين من مرجّحات بابالتزاحم. نعم، لو كان في أحدهما ملاك، كالأهمّ والمهمّ، فيقدّم الأوّل.

ص: 119

والجهة الثالثة:

أنّ المرجّحات في باب التعارض غير المرجّحات في باب التزاحم، فالمرجّحات في باب التعارض:

أمّا في الروايتين المتعارضتين: فهي ما جعلها الشارع مرجّحاً، وتسمّى ﺑ «المرجّحات المنصوصة»، وهي قد تكون من جهة السند، وقد تكون من جهة الدلالة، وقد تكون من جهات أُخرى.

وفي بعض الأمارات الأُخر المتعارضة، كتعارض البيّنات أيضاً له مرجّحات خاصّة، وذلك كتقديم بيّنة الخارج على الداخل، وبيّنة الإثبات على النفي، وكتقديم البيّنة على اليد، بناءً على كون اليد حجّة مرجوحة عند قيام البيّنة على خلافها، لا أن تكون حجّيته مشروطة بعدم قيام البيّنة على خلافها.

وأمّا نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الآخر - بإحدى المرجّحات المذكورة في باب التعارض - فهي ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه، وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه، مثلاً: في العامّين من وجه، لو ورد: أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق، فلو قدّمنا (أكرم العلماء) في زيد العالم الفاسق الذي هو مورد الاجتماع، تكون نتيجة هذا التقديم هي رفع حكم (لا تكرم) عن موضوعه، حيث إنّه معبقاء زيد العالم - مثلاً - على فسقه، ومع قدرة المكلّف على إكرامه ورجحان الإكرام يرتفع حكمه.

ص: 120

وأمّا في مثل الغريقين، لو قدّمنا أحدهما على الآخر لأحد موجبات التقديم في باب التزاحم، تكون نتيجة التقديم هي سلب قدرة المكلّف عن إنقاذ الآخر، وتعجيزاً مولويّاً بالنسبة إليه، وهذا كما إذا زاحمت الطهارة المائيّة واجباً آخر لا بدل له، كما في الإزالة والصلاة، فإنّه يقدّم ما ليس له البدل على ما له بدل؛ لأنّ كونه ذا بدل يعني: أنّك إذا لم تتمكّن من أن تأتي بالمبدل منه فتأتي ببدله؛ لأنّ معناه أنّ وجوبه يكون مشروطاً بالقدرة والتمكّن، سواء كان هذا القيد مصرّحاً به في لسان الدليل، كما في مثل: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾(1)، حيث جيء بالحكم مقيّداً بصورة عدم الوجدان، أو لم يكن مصرّحاً به كذلك، فحينئذٍ: إذا زاحم الطهارة واجب آخر، فتسقط وينتقل عنها إلى التيمّم.

وأمّا مرجّحات باب التزاحم فهي اُمور خمسة:

المرجّح الأوّل:

تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل، كتقديم الواجب المضيّق على الموسّع، حيث إنّ الموسّع له أفراد تخييريّه عقليّة، والمضيّق لا بدل له، بل قد يقال: بأنّ هناك تعانداً بدويّاً في الواقع؛ لأنّ ما لا اقتضاء له لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء، فالمضيّق يقتضي صرف القدرة إليه في ذلك الزمان، وأمّا الموسّع، فلا، أو فقل: إنّ الموسّع مطلقوالمضيّق مشروط، فإنّ الموسّع مشروط بالقدرة العقليّة، وذلك معجّز للقدرة الشرعيّة، فإنّه

ص: 121


1- النساء: 43، والمائدة: 6.

لا يتوقّف إلّا على القدرة العقليّة، وهي حاصلة، فإذا كان كذلك فهو معجز للواجب الآخر، ومعه: فلا يبقى موضوع للواجب الآخر أصلاً. هذا في القدرة العرضيّة.

وأمّا القدرة الطوليّة، فبما أنّ الممتنع الشرعيّ هو كالممتنع العقليّ، فعدم وجوب إنقاذه لعدم القدرة عليه، فيرتفع الحكم بارتفاع الموضوع غير المقدور.

المرجّح الثاني:

تقديم ما هو المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة، وذلك لأنّ القدرة الشرعيّة دخيلة في الملاك، والخطاب تابع للملاك سعة وضيقاً، فعند عدم القدرة شرعاً وعقلاً لا ملاك، فلا خطاب. وما لا يكون مشروطاً بالقدرة الشرعيّة ملاكه مطلق، وليس مشروطاً بوجود القدرة، ووجوبه تابع لملاكه. فيكون رافعاً شرعاً للقدرة على الواجب المشروط بالقدرة الشرعيّة، فيذهب بموضوعه؛ لأنّ القدرة من قيود موضوعه، فيبقى بلا ملاك، فيرتفع الحكم بالتبع.

المرجّح الثالث:

لا يقع التزاحم في الشرائط التي لها دخل في التكليف، وفي أصل ثبوت الملاك، كالبلوغ والعقل، بل إنّما يقع فيما هو من شرائط حسن الملاك، فالذي هو محلّ التزاحم هو القدرة، وهي التي تكون من شرائط حسن الخطاب.

ص: 122

المرجّح الرابع:

أهمّيّة ملاك أحد الواجبين المتزاحمين، فيقدّم الأهمّ ملاكاً على الآخر إن كان الملاكان فعليّين، وأمّا لو كان ملاكه مشروطاً بأمر متأخّر، أي: لا يكون فعليّاً في زمان فعليّة المهمّ، فلا وجه لمزاحمته له حينئذٍ. أمّا تقديمه في صورة الفعليّة لحسن ترجيح ما هو المرجَّح، ولزوم قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلاً لو قدّمنا المهمّ، لكن في صورة تقديم المهمّ، إذا كان له ملاك في تلك الحالة لم يحتج إلى وجود الخطاب، وأمّا إذا لم يكن الملاك موجوداً فلا يقدّم.

المرجّح الخامس:

تقدّم أحد المتزاحمين على الآخر في الوجود بحسب الزمان، والسرّ فيه: أنّه بعدما لم تكن أهمّيّة في البين، وكان كلاهما متساويين من هذه الحيثيّة، فالعقل يحكم بإتيان ماهو المتقدّم زماناً، كما لو فرضنا - مثلاً - عدم قدرة المكلّف إلّا على الإتيان بقيامٍ واحد، وله قدرة واحدة يصرفها: إمّا إلى الظهر أو إلى العصر، وقد مثّل المحقّق النائيني(قدس سره) لذلك بمثالٍ آخر، وهو فرض عدم قدرة المكلّف إلّا على القيام في الركعة الأُولى والثانية من صلاة واحدة، أو عدم قدرته عليه في صلاتين، كصلاة الظهر والعصر(1).

ص: 123


1- راجع: أجود التقريرات 1: 318.

ولا معنى لعدم الإتيان بالمتقدّم وحفظ القدرة للمتأخّر، مع كون الواجب المتقدّم فعليّاً، وأمّا المتأخّر فلا بعث ولا تحريكمن قبل المولى بالنسبة إليه حتى يزاحم المتقدّم، هذا بناءً على إنكار الواجب المعلّق والقول بامتناعه.

وأمّا بناءً على إمكان الواجب المعلّق وتحقّقه بالنسبة إلى المتأخّر، فيمكن أن يقال: بأنّ الملاك في كليهما فعليّ، وليس لأحدهما ترجيح على الآخر من حيث الملاك والمناط، فحينئذٍ: لا يحكم العقل بصرف القدرة في المتقدّم دون المتأخّر؛ إذ غاية ما هناك أنّ ظرف امتثال أحدهما متقدّم، بل يحكم بالتخيير بينهما.

هذا إذا لم يكن الواجب المتأخّر أهمّ من الواجب الفعليّ.

وأمّا إذا كان أهمّ، ففي هذه الصورة: ذهب المحقّق النائيني(قدس سره) إلى القول بامتناع الترتّب لوجهين:

الأوّل: أنّ تعليق الأمر الفعليّ على عصيان الأمر المتأخّر لابدّ وأن يكون بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخّر - كما هو واضح جدّاً - وهو ممتنع، كما قرّر في محلّه. نعم، تعليق الأمر الفعليّ على تعقّب العصيان، فيكون الشرط هو عنوان التعقّب لا نفس العصيان، أمر معقول، لكنّه يحتاج إلى دليل خاصّ، وإلّا، فنفس إمكان التعقّب لا يقتضيه، وليس لدينا ما يدلّ على شرطيّة التعقّب.

الثاني: أنّ أساس جواز الترتّب هو كون المهمّ في ظرف عصيان الأهمّ

ص: 124

مقدوراً وقابلاً لتعلّق الخطاب به، وهذا المعنى لا يتحقّق فيما نحن فيه فإنّ عصيان الأمر المتأخّر لا يوجب مقدوريّة المهمّ فعلاً، لحكم العقل فعلاً بحفظ القدرة للواجب المتأخّر الأهمّ، فلا يرتفع محذور المزاحمة وعدمالقدرة بالترتّب بعد وجود حكم العقل الفعليّ بحفظ القدرة، وهو رافع للقدرة على القيام فعلاً، ومزاحم للأمر بالمهمّ.

وخلاصة الكلام: أنّ الترتّب مستلزم للشرط المتأخّر، وهو ممتنع، وشرطيّة عنوان التعقّب تحتاج إلى دليل، وأيضاً: فجواز الترتّب غير صحيح؛ فإنّ عصيان الأمر المتأخّر لا يوجب مقدوريّة المهمّ، بعدما ورد الأمر بحفظ القدرة للأهم؛ إذ إنّ عصيان الأهمّ لا يوجب مقدوريّة المهمّ(1).

ص: 125


1- انظر: أجود التقريرات 1: 318 - 319، وإليك نصّ كلامه(قدس سره): «وأمّا إذا كان الواجب المتأخّر أهمّ من المتقدّم، وقع التزاحم بين الخطاب بالمتقدّم والخطاب بحفظ القدرة للواجب المتأخّر ويتقدّم الخطاب بحفظ القدرة؛ لأهمّيّة الواجب المتأخّر على الفرض، وهذا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال في جواز الخطاب بالواجب المتقدّم مترتّباً على عصيان الخطاب المتأخّر وعدمه. والحقّ: عدم جوازه؛ لأنّه يستلزم اشتراط خطاب الواجب المتقدّم بالعصيان المتأخّر، وهو غير معقول. وأمّا الالتزام بكون عنوان التعقّب شرطاً، فقد عرفت أنّه يدور مدار قيام الدليل عليه، ولم يقم من غير جهة اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجيّة دليل على ذلك، فيكون الالتزام بالترتّب في المقام على خلاف القاعدة من غير دليلٍ يقتضي ذلك. هذا، مضافاً إلى أنّ عمدة الوجه في جواز الترتّب بين خطابي الضدّين هو كون المهمّ مقدوراً في ظرف عصيان خطاب الأهمّ، وقابلاً لتعلّق الخطاب به - حينئذٍ - من دون أن يستلزم ذلك طلب الجمع بينهما، فعجز المكلّف عن الإتيان بالمهمّ في ظرف امتثال الأمر بالأهمّ الموجب لاستحالة طلبه لا يوجب عدم طلبه في فرض عصيان الأهمّ، الذي فرض فيه قدرة المكلّف على الإتيان بالمهمّ. وهذا الوجه مفقود فيما نحن فيه؛ لأنّ العصيان المتأخّر لا يوجب قدرة المكلّف على الواجب المتقدّم مع فرض الخطاب الفعليّ بحفظ القدرة للواجب المتأخّر المفروض كونه الأهمّ ومعجّزاً عن الواجب المتقدّم». إلى آخر كلامه(قدس سره).

منشأ التزاحم:

ثمّ إنّ منشأ التزاحم اُمور خمسة:

الأوّل: أن يكون بين المتعلّقين تضادّ، بمعنى: أنّه لو اجتمع المتعلّقان في زمان واحد على نحو الاتّفاق، بحيث لا يمكن للمكلّف فعلهما معاً، كما في إنقاذ الغريقين، أو الصلاة والإزالة، وأمثال ذلك ممّا لو اجتمع المتعلّقان في زمان واحد.والثاني: عدم قدرة المكلّف على فعل كلٍّ من المتعلّقين، مع اختلافهما من حيث الزمان، كما إذا لم يتمكّن من القيام في الركعة الأُولى والثانية معاً، بل كان قادراً على القيام في إحداهما فقط.

والفرق بين هذا وسابقه هو أنّ عدم القدرة في هذا الوجه ناشئ عن عجز المكلّف في حدّ ذاته عن فعل المتعلّقين، وأمّا في سابقه، فهو ناشئ عن وحدة زمان المتعلّقين، من دون أن يكون المكلّف في حدّ ذاته عاجزاً لولا اتّحاد الزمان.

ص: 126

والثالث: تلازم المتعلّقين مع اختلافهما في الحكم، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

والرابع: صيرورة أحد المتعلّقين مقدّمة وجوديّة لمتعلّق الآخر، كما إذا توقّف إنجاء المؤمن على التصرّف في ملك الغير بغير رضاه.

والخامس: اتّحاد المتعلّقين في الوجود، كالصلاة في الأرض المغصوبة.

وإذا عرفت هذا، فهل يجري الترتّب في جميع هذه الاُمور الخمسة؟

الظاهر: أنّ النزاع في مسألة الترتّب إنّما وقع في القسم الأوّل، أي: مسألة التضادّ. ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن جريانه - أيضاً - في جميع الأقسام، إلّا القسم الثاني، لأنّه إذا فرض عصيان الأوّل والإتيان بالثاني فهذا يكون موجباً للبطلان، أي: بطلان الصلاة؛ لأنّه عباديّ، فترك الإتيان بالركعةالاُولى وعصيان الأمر بها، عصيان لجزء من الصلاة، فتكون باطلة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ مسألة الترتّب من المسائل العقليّة؛ لأنّ البحث فيها بحث في الحقيقة عن الإمكان والاستحالة؛ إذ يقال - مثلاً -: هل الأمر بالضدّين على نحو الترتّب ممكن أم لا؟ وبعد أن كان الحاكم فيها هو العقل لا اللّفظ، فلا يبقى معنى لإدخالها في مباحث الألفاظ، ولعلّ إدخالها في سلك هذه المباحث لنفس ما ذكرناه آنفاً في بحث مقدّمة الواجب من أنّهم لم يفردوا للمسائل العقليّة باباً مخصوصاً.

ومن هنا ظهر فساد ما ذكره بعض المعاصرين من الاستدلال لصحّة

ص: 127

الترتّب بالمسلك العرفيّ، بأن يقال: «إنّ ثبوت الترتّب ووقوعه في الأوامر العرفيّة والشرعيّة ممّا لا إشكال فيه، فنرى أنّ الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة، ثمّ يقول له: إذا لم تذهب إلى المدرسة فابقَ في البيت، فالأمر بالبقاء في البيت مشروط بترك الذهاب إلى المدرسة مع عدم سقوط الأمر به. ومن المعلوم: أنّه لا يرى بذلك أيّ محذور واستحالة. هذا في العرفيّات.

وأمّا في الشرعيّات، فكما لو وجب على المكلّف قصد الإقامة في البلد الذي سافر إليه، فإنّه يجب عليه الإفطار والقصر لو لم يقصد الإقامة، فالأمر بالإفطار مشروط بعدم قصد الإقامة مع تعلّق الأمر بها فعلاً، فالأمران يجتمعان فيزمان واحد. وإذا ثبت وقوع الترتّب، فهو خير دليل على الإمكان وعدم الاستحالة»(1).

وجه الفساد: أنّ المسألة - كما ذكرنا - عقليّة، والدليل العقليّ غير قابل للتخصيص، فما دام العقل حاكماً بالاستحالة، فلابدّ من تأويل هذه الأمثلة، عرفيّة كانت أو شرعيّة؛ لأنّها غير صالحة لمقابلة الدليل العقليّ الحاكم باستحالة الأمر بالضدّين.

وإذا عرفت هذا: فإنّ عمدة ما يكون سبباً للمحاليّة هو غائلة التضادّ، وإنّ إيجاب الجمع بين الضدّين محال، والأمر بهما تكليف بما لا يطاق،

ص: 128


1- منتقى الاُصول 2: 390.

والقائل بإمكان الترتّب يريد أن يرفع هذه الغائلة، فمثلاً: لو كان أحد الواجبين أهمّ، وكان الآخر مهمّاً، فإنّما يقع التضادّ بينهما، وبالتحديد: بين إطلاقيهما.

أمّا لو كان التقييد من طرف المهمّ مترتّباً على عصيان الأهمّ، فكأنّ المولى يقول: أزل النجاسة، فإن عصيت فصلّ، فحينئذٍ: لا تضادّ بينهما، بل يكون عصيان الأمر بالإزالة موضوعاً للمهمّ. فالأمر بالمهمّ مترتّب على عصيان الأمر بالأهمّ، وواقع في طوله، فلا تضادّ.

ولا يخفى: أنّ الترتّب إنّما يتصوّر إذا اجتمعت هناك اُمور ستّة، وهي: فعليّة خطاب الأهمّ، وعصيانه، وامتثاله، مع فعليّة خطاب المهمّ وعصيانه وامتثاله، فجميع هذه الستّة تكون في زمان واحد، وإن كان بين بعضها تقدّم وتأخّررتبيّ، كتقدّم فعليّة الخطاب على امتثاله أو عصيانه رتبةً، وكتقدّم عصيان الأهمّ على فعليّة المهمّ.

أمّا اشتراط فعليّة الخطابين في زمان واحد، فلكي يحصل التزاحم بينهما، فيكون الترتّب علاجاً لهما، فإذا لم يكن هناك تزاحم، فلا حاجة إلى الترتّب، فإذا فرض أنّه لا فعليّة ولا تنجّز للخطابين، فلا تحريك للامتثال حتى يكون كلّ منهما داعياً إلى صرف القدرة في امتثاله، حتى يصبح المكلّف عاجزاً عن امتثال الخطابين وإجابة دعوتهما، كما أنّه إذا فرض أنّ أحدهما غير فعليّ - أيضاً -، فلا تزاحم، إذ لا بعث ولا تحريك إليه في زمان البعث والتحريك إلى الآخر، ففي هذا الزمان لا يكون هناك

ص: 129

تزاحم حتى تحتاج إلى الترتّب.

وأيضاً: فلابدّ أن يكون التزاحم موضع الضدّين اللّذين لهما ثالث، وأمّا لو فرض وقوع التزاحم في الفردين اللّذين لا ثالث لهما، فيكون الترتّب تحصيلاً للحاصل؛ لأنّه على فرض عصيان أحدهما يوجد الثاني قهراً؛ لأنّ عصيانه مساوق لوجود الآخر، كالحركة والسكون، فإنّ عدم أحدهما مساوق لوجود لآخر، فلا يحتاج إلى وجود الأمر الترتّبي حينئذٍ.ومن هنا، ظهر الحال فيما صنعه كاشف الغطاء(قدس سره) في مسألة الجهر والإخفات من تخريج الحكم فيها على الترتّب، فالتزم بأنّ الأمر متعلّق بالإخفات عند عصيان الأمر بالجهر(1).

وقد أورد عليه الشيخ(قدس سره) في رسائله: بأنّا لا نعقل الترتّب، واكتفى بهذا المقدار من البيان(2).

ص: 130


1- انظر: كشف الغطاء: 1: 171. ونصّ كلامه(قدس سره) كالتالي: «ولو تضيّقا معاً بالعارض تخيّر مع المساواة، وقدّم الراجح مع الترجيح بحقيّة المخلوق أو شدّة الطلب، ويرجع الأوّل إلى الثاني؛ لأنّ انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية. وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لماُموره: إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا؟ كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات».
2- راجع: فرائد الاُصول: 2: 440. قال(قدس سره): «ويردّه: أنّا لا نعقل الترتّب في المقامين، وإنّما يُعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقّق معصية الأوّل، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائيّة، فكُلِّف لضيق الوقت بالترابيّة».

كما أورد المحقّق النائيني على كاشف الغطاء" بما لفظه:

«أنّ مورد الخطاب الترتّبي هو ما إذا كان خطاب المهمّ مترتّباً على عصيان الأمر بالأهمّ، وهذا لا يكون إلّا فيما إذا لم يكن المهمّ ضروريّ الوجود عند عصيان الأمر بالأهمّ، كما هو الحال في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، وأمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما، ففرض عصيان الأمر بأحدهما هو فرض وجود الآخر لا محالة، فيكون البعث نحوه طلباً للحاصل، وبالجملة: لو كان وجود الشيء على تقدير وجود موضوع الخطاب وشرطه ضروريّاً لامتنع طلبه؛ لأنّه قبلوجود موضوعه يستحيل كونه فعليّاً، وبعد وجوده، يكون طلباً للحاصل»(1).

وملخّص ما أفاده: أنّ المسألة ليست من مصاديق الترتّب كي يدّعى تقرّره فيها؛ لأنّ الجهر والإخفات من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، إذ القارئ لا يخلو عن أحدهما، وقد ثبت أنّ الترتّب لا يجري في الواجبين المتضادّين اللّذين لا ثالث لهما؛ لامتناعه.

واستشكل فيه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) بما نصّه:

«ما أفاده شيخنا الاُستاذ(قدس سره) من اختصاص جواز القول بالترتّب بما إذا كان للواجبين المتضادّين ثالث، وإن كان متيناً لا مناص عن الالتزام به، إلّا أنّ ما أفاده من إدراج محلّ الكلام في الضدّين اللّذين ليس لهما ثالث

ص: 131


1- أجود التقريرات 1: 311.

غير مطابق للواقع، وذلك لأنّ المأمور به في الصلاة إنّما هي القراءة الجهريّة أو الإخفاتيّة، ومن الواضح: أنّهما من قبيل الضدّين اللّذين لهما ثالث، فلا مانع من الأمر بهما في زمانٍ واحد، مع اشتراط الأمر بأحدهما بعصيان الآخر. نعم، إذا فرض تحقّق القراءة في الخارج فهي لا تخلو من كونها جهريّة أو إخفاتيّة، لكنّه لا يوجب كون الواجبين المفروضين في محلّ الكلام من قبيل الضدّين اللّذين ليس لهما ثالث، كما هو ظاهر»(1).وتوضيحه: أنّ متعلّق الأمر ليس هو الجهر أو الإخفات، بحيث يفرض في موضوع الأمرين هو القراءة كي لا يتخلّف القارئ عن أحدهما، بل متعلّق الأمر هو القراءة الجهريّة أو القراءة الإخفاتيّة. ومن الواضح: أنّهما ليسا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، إذ المكلّف قادر على تركهما معاً بترك أصل القراءة.

والحقّ: أنّ ما ذكره الاُستاذ) غير تامّ؛ لأنّ المفروض في محلّ البحث هو الجاهل المقصّر الذي جاء بالقراءة الإخفاتيّة، لا الذي ترك القراءة الجهريّة، فقد أُخذ في الفرض موضوعيّة القارئ إخفاتاً، لا تارك القراءة جهراً، ومن الواضح أنّ القارئ لا يخلو حاله عن أحد الوصفين، كما اعترف به نفس المستشكل، فهما من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، فلا يتأتّى الترتّب.

ص: 132


1- أجود التقريرات 1: 311، الهامش رقم 1.

وقد يقال: إنّ وجوب الجهر في الصلوات اليوميّة مطلق، ووجوب الإخفات مقيّد بعصيان الآخر، كما مرّ، وذلك لأنّه يلزم اللّغويّة وتحصيل الحاصل؛ لأنّ ترك الجهر مساوق لوجود الإخفات، فجعل الوجوب له لغوٌ.

وممّا ذكرنا - أيضاً - ظهر: أنّه لا يعقل الترتّب فيما إذا كان التزاحم واقعاً بين شيئين مختلفين بحسب الزمان؛ لأنّ هناك قدرةً واحدة فقط، فإمّا أن تصرف هذه القدرة في الركعة الأُولى أو في الثانية، فهنا، وإن فرض كون الثانية أهمّ، ولكن مع ذلك، يجوز له الصرف في الأُولى، وذلك لأنّه حين تصرف القدرة في المهمّ لم يتحقّق عصيان الأهمّ.نعم، إنّما تحقّق عصيان الأهمّ في زمانه، فحينما يصرف القدرة في المهمّ، فهو إنّما صرفها لشيء له فعليّة وخطاب مستقلّ، ولا يمكن تعقّل الترتّب ها هنا؛ لأنّه حينما يعصي الأمر الوارد بالمهمّ، فإمّا أن يصرف القدرة في الركعة الأُولى، وإمّا في غيرها، كشيء آخر. فإن صرفها في الأُولى: كان تحصيلاً للحاصل، وإن صرفها في غيره يلزم سقوط الخطاب من الأهمّ والمهمّ. ولو فرض أنّه لا أهمّيّة لأحدهما، فلابدّ من صرف القدرة إليه؛ لأنّه ممّا يحكم به العقل؛ إذ الخطاب فعليّ بالنسبة إليه، فإنّ صرف القدرة في الأُولى معجّز للركعة الثانية والخطاب بها، ولا يمكن صرف القدرة إليها. وبعبارة أُخرى: فلم يبقَ قدرة أصلاً حتى يتوجّه الخطاب إليها.

ص: 133

وخلاصة الكلام: أنّه بعد أن كان زمان فعليّة التكليف بالأهمّ متّحداً مع زمان التكليف بالمهمّ، وإلّا لم يصدق التزاحم، أو يقال: بأنّ زمان فعليّة التكليف بالمهمّ متّحد مع زمان عصيان التكليف بالأهمّ؛ لأنّ العصيان، أو إرادة العصيان، يكون موضوعاً لفعليّة المهمّ، فيكون عصيان الأهمّ شرط فعليّة المهمّ، حيث كان موضوعاً له، وبما أنّ الحكم والموضوع هما كالعرض والعروض، فكما لا يمكن أن يتقدّم العرض على المعروض، ولا أن يتأخّر عنه من حيث الزمان، فكذلك في محلّ الكلام؛ فإنّه يستحيل أن تتقدّم فعليّة المهمّ على عصيان الأهمّ أو أن تتأخّر عنه زماناً.نعم، إنّما يكون التقدّم والتأخّر بينهما رتبيّاً، مع أنّ زمان عصيانه للأهمّ متّحد مع زمان عصيانه للمهمّ.

وفي النتيجة: فإنّ زمان الخطاب بالأهمّ مقارن لزمان فعليّة الخطاب بالمهمّ، فالأمر بالمهمّ واقع في طول الأمر بالأهمّ، أي: من حيث الرتبة، لا زماناً.

وأمّا اتّحاد زمان فعليّة الخطاب مع الامتثال، فمن جهة أنّه بعدما أثبتنا في محلّه بطلان الواجب المعلّق، بأن يكون الخطاب والبعث الآن والمنبعث في زمان متأخّر، بل لابدّ أن يتعلّق البعث الفعليّ بأمرٍ حاليّ، ولا يجوز تقدّم البعث آناً واحداً، إذ لو جوّزنا ذلك لم يبقَ فرق بين طول الزمان وقصره، فيمكن أن يكون البعث الآن إلى أمر متأخّر بعد مرور سنين.

ص: 134

وبعد أن فرغنا من إثبات عدم إمكان كون البعث فعليّاً والمبعوث إليه في زمان متأخّر، فلابدّ وأن يكون البعث في زمانٍ يمكن انبعاث المكلّف عنه، بحيث لو انبعث عنه عُدّ ممتثلاً، وإلّا، عُدّ عاصياً، إذا كان الواجب مضيّقاً من جهة الزمان، ففي كلّ زمانٍ صار البعث فعليّاً وكان الواجب مضيّقاً ليس له أفراد طوليّة، فلابدّ وأن يتحقّق أحد الأمرين: إمّا أن ينبعث المكلّف عن ذلك البعث فيكون ذلك امتثالاً، ويكون موجباً لسقوط الأمر، وإمّا أن لا ينبعث في ذلك الزمان، فيكون عصياناً، واجتماع كلا الأمرين، وكذا ارتفاعهما، لا يمكن؛ لأنّهما متقابلان متناقضان.وممّا ذكرنا ظهر: أنّ زمان الامتثال وزمان العصيان - أيضاً - واحد؛ لأنّهما في مرتبة واحدة، وكلّ واحدٍ منهما بدل عن الآخر، وأمّا في زمان فعليّة الامتثال، فلابدّ وأن يكون الخطاب موجوداً وفعليّاً، وإلّا يلزم أن يكون الانبعاث عن غير بعث.

وقد ذكرنا مراراً: أنّ جميع القيود والشروط للموضوع والحكم ترجع إلى الموضوع، فبما أنّ شرط تكليف المهمّ هو العصيان، أي: أيّها العاصي للأهمّ ائتِ بالمهمّ، أو كما في المثال: أيّها العاصي للأمر بالإزالة ائتِ بالمهمّ، وهو الصلاة، فيكون زمان الموضوع والحكم واحداً، كما ذكرنا بالنسبة إلى اتّحاد زمان العرض مع المعروض، بما أنّ زمان فعليّة الأمر مع عصيانه وامتثاله واحد؛ لأنّ زمان الامتثال أو زمان العصيان لابدّ وأن يكون متّحداً مع زمان فعليّة الأمر.

ص: 135

فتحصّل: أنّ جميع الأقسام الستّة تقع في زمان واحد كما أشرنا، وهو المطلوب.

وأمّا إذا كانا متساويين في الملاك، فالعقل - حينئذٍ - يحكم بالتخيير، أي: أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّرٌ في الإتيان بأيّهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما كان معذوراً في ترك الآخر.

وأمّا إذا لم يشتغل بأحدهما، بل تركهما كليهما، فلا يكون معذوراً في ترك شيءٍ منهما؛ لأنّه - على الفرض - قادر على الإتيان بكلٍّ منهما، وفي صورة الاشتغال بأحدهما يكون معذوراً عن الإتيان بالآخر، لعجزه عنه.

وهل إذا ترك أحدهما يستحقّ عقابين أو عقاباً واحداً؟فيه كلام: أمّا إذا كان أحدهما أهمّ، فلو أتى به فهو معذور في ترك المهمّ، لعدم القدرة عليه حينئذٍ، وإن أتى بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعليّ، فيثاب، ولكن يعاقَب على عصيانه للأهمّ؛ لأنّ العقل يحكم بصرف القدرة إلى الثاني، وهو الأهمّ، وإذا تركهما استحقّ عقابين.

دعوى استحالة الترتّب:

وقد استشكل على الترتّب بأنّه طلب للضدّين، وطلب الجمع بين الضدّين قبيح؛ لأنّه طلب للمحال؛ لأنّ الضدّين، وإن كان ارتفاعهما ممكناً، إلّا أنّ اجتماعهما - كالنقيضين - غير ممكن.

بل يمكن أن يقال: بأنّ مآل ومرجع طلب الضدّين إلى طلب الجمع بين النقيضين؛ لأنّ طلب كلّ واحدٍ من الضدّين يلازم عدم طلب الضدّ

ص: 136

الآخر، فطلب الإزالة - مثلاً - يلازم عدم طلب الصلاة؛ لأنّ المزاحمة وإن لم توجب النهي عن الضدّ، فلا أقلّ من اقتضائها عدم الأمر به، وكذا طلب الصلاة يلازم عدم طلب الإزالة، ولازم ذلك: مطلوبيّة وجود الإزالة وعدمها، ووجود الصلاة وعدمها، وليس هذا إلّا طلب الجمع بين النقيضين.

واستحالة هذا الطلب لا تختصّ بحال دون حال، بل هي ثابتة في كلّ حال من الاختيار وعدمه.

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا:

بأنّ الطلب في كلٍّ من الضدّين إنّما يكون طارداً للآخر إذا كانا عرضيّين، بخلاف ما إذا كانا طوليّين، كما في الترتّب المبحوث عنه، فإنّ كلّاً من الضدّين حينئذٍ لا يطارد الآخر؛لأنّ مطلوبيّة المهمّ منوطة بعصيان أمر الأهمّ، فمقتضى الترتّب: وقوع مطلوبيّة كلٍّ من الضدّين في طول مطلوبيّة الآخر، وامتناع وقوعهما معاً على صفة المطلوبيّة عرضاً، فلو فرض محالاً إيجادهما معاً، فلا يتّصف بالمطلوبيّة إلّا خصوص الأهمّ؛ لأنّ مطلوبيّة المهمّ موقوفة على عصيان أمر الأهمّ، والمفروض امتثاله.

وقد أوردوا على هذا الجواب بما حاصله:

أنّ المطاردة الناشئة من فعليّة الطلب وتضادّ المتعلّقين - كالصلاة والإزالة - موجودة في الترتّب كوجودها في اجتماع طلب الضدّين عرضيّاً، حيث إنّ أمر الأهمّ فعليّ، وأمر المهمّ - لعصيان الأمر بالأهمّ -

ص: 137

أيضاً صار فعليّاً، فيجتمع الطلبان الفعليّان بالضدّين في آنٍ واحد، فكلّ منهما يطرد الآخر، فأمر الأهمّ ينفي مطلوبيّة المهمّ، وبالعكس، فتحصل المطاردة من الطرفين في الترتّب كحصولها منهما في اجتماع الطلبين عرضيّاً.

فالمتحصّل: أنّ الترتّب محال، لوجود المطاردة فيه.

وعلى فرض التنزّل والقول بأنّه وإن لم تتعلّق الإرادة بالمهمّ في الإتيان بالأهمّ، إلّا أنّ هذا لا يمنع المطاردة، حيث لو فرض فعليّة الأمر بالمهمّ فمطاردته للأمر بالأهمّ موجودة أيضاً؛ لأنّ ملاك المطاردة، وهو الفعليّة، موجود فيه أيضاً.

وعلى فرض التنزّل - أيضاً - فحتى لو سلّمنا عدم المطاردة من الطرفين، والتزمنا بطرد أمر الأهمّ فقط للمهمّ من دون عكس، ولكن مع ذلك نقول باستحالة الترتّب؛ لأنّ أمر الأهمّيطرد طلب المهمّ على كلّ حال، سواء أتى بالمهمّ أم تركه، إذ المفروض كون أمره فعليّاً مطلقاً، من دون اشتراطه بشيء، والطرد من طرفٍ واحد كافٍ في استحالة طلب الضدّين، لعدم قدرة المكلّف على امتثال الأمرين معاً، فاستحالة طلب الضدّين ليست منوطة بالمطاردة من الطرفين حتى يقال: إنّ طلب المهمّ لا يطرد طلب الأهمّ، فلا مطاردة بينهما كي يحكم بالاستحالة.

وعلى أيّ حال، فلو قلنا بالترتّب وصحّحناه، فلابدّ أن نلتزم بلوازمه، وهو تعدّد استحقاق العقوبة لو ترك الأهمّ والمهمّ معاً، وهذا قبيح؛ لأنّ

ص: 138

امتثاله كلا الأمرين المتعلّقين بالضدّين غير مقدور، والمؤاخذة على أمر غير مقدور ممّا هو قبيح على الحكيم، وهذا يوجب بطلان الترتّب؛ لأنّ بطلان اللّازم يكشف عن بطلان الملزوم.

والحقّ في الجواب أن يقال:

إنّ الترتّب لا يقتضي الجمع بين الخطابين، بل يقتضي الجمع بين إطلاق الطلبين، فإذا قيّدنا أحد الإطلاقين، فلا يبقى محذور أصلاً، فإنّ كون الأمر على سبيل الترتّب يرفع غائلة الجمع.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ هيئة افعل له نسبتان، نسبة المادّة إلى الآمر بالنسبة الطلبيّة، ونسبتها إلى الفاعل بالنسبة التلبّسيّة، والتنافي في الأمر الترتّبيّ إنّما يكون بين النسبة الطلبيّة في جانب المهمّ والنسبة الفاعليّة في جانب الأهمّ، لا النسبة الطلبيّة في جانبه، فإنّ المفروض انحفاظ طلب الأهمّ عندطلب المهمّ، فلا تنافي بين النسبتين الطلبيّتين، كما في باب الوضوء والتيمّم، حيث إنّ التنافي هناك بين النسبة الطلبيّة للوضوء والنسبة الطلبيّة للتيمّم، وكان طلب التيمّم مترتّباً على عدم طلب الوضوء.

وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ التنافي فيه إنّما يكون بين النسبة الطلبيّة من جانب المهمّ والنسبة الفاعليّة من جانب الأهمّ، فصورة القضيّة الحمليّة تكون هكذا: إمّا أن يكون الشخص فاعلاً للأهمّ، وإمّا أن يجب عليه المهمّ، فهناك تنافٍ بين وجوب المهمّ وفعل الأهمّ، ومع هذا التنافي كيف يُعقل إيجاب الجمع؟ مع أنّ إيجاب الجمع يقتضي عدم التنافي

ص: 139

بين كون الشخص فاعلاً للأهمّ وبين وجوب المهمّ عليه، بل لا يوجب اجتماع الطلبين معه مطلقاً، لا من جانبين، ولا من جانبٍ واحد.

وقد يستشكل هنا بوجهٍ آخر، بأن يقال:

إنّ عصيان الأهمّ إمّا أن يكون شرطاً متقدّماً أو متأخّراً، فإن كان شرطاً متقدّماً، أي: لابدّ أن يتحقّق حتى يصبح المهمّ فعليّاً، وحينئذٍ: يسقط الأمر بالأهمّ؛ لأنّ الأمر يسقط بالعصيان، مع أنّ المفروض أنّ كلا الأمرين موجودان في زمانٍ واحد. وإن كان العصيان شرطاً متأخّراً، فقبل سقوطه، وإن كان المهمّ فعليّاً، ولكن يلزم أن يجتمع طلب الأهمّ والمهمّ معاً في زمانٍ واحد، وهذا من طلب الضدّين.ولكن قد عرفت أنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمرٌ مقدور وممكن، وإنّما الذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين متعلّقيهما في الإتيان، وهو غير متعلّق للتكليف.

وتوضيحه: أنّه إذا قامت الحجّة في أوّل الزوال على وجوب الصلاة، وقامت حجّة اُخرى على وجوب الإزالة عن المسجد، فكلّ واحد حجّة في مفاده مستقلّاً، لا في الجمع بينهما. وليس قيام الحجّتين على الضدّين إلّا كقيامها على الأمرين المتوافقين غير المتزاحمين في أنّ كلّ واحد منهما حجّة في مفاده، لا في الجمع بينهما.

ويمكن أن نجيب عن هذا الإشكال أيضاً:

بأنّ العصيان ليس شرطاً متقدّماً ولا متأخّراً، وإنّما هو من الشرط

ص: 140

المقارن؛ لأنّ المراد أنّ الشرط ليس هو نفس العصيان حتى يكون من الشرط المتأخّر، بل هو البناء والعزم، وهو من الشرط المقارن.

وبعدما عرفنا أنّ القيود والشروط ترجع إلى الموضوع في نفس زمان العصيان للأهمّ، فخطابه يكون موجوداً، وليس بساقط، ويكون خطاب المهمّ فعليّاً أيضاً، ولكنّه ليس طلباً للجمع بين الضدّين. نعم، هو جمع بين الطلبين المتضادّين، فليس العصيان بشرط متأخّر؛ إذ ليس المراد هو واقع العصيان، بل العزم، وأمّا الشرط فهو عنوان التعقّب بالعصيان، وهو من الشرط المقارن.

وخلاصة البحث:

أنّ الخطابين إن كانا مطلقين، فلا محالة يقتضيان إيجاب الجمع، فإن أمكن للمكلّف الجمع بينهما وجبا معاً، كما إذا ورد خطاب بالصلاة وخطاب بالصوم، والمفروض أنّ كلّاً من الخطابين أيضاً مطلق، فيجب الجمع بينهما.

وإن لم يمكن للمكلّف الجمع بينهما، إمّا لتضادّ المتعلّقين، وإمّا لقصور قدرة المكلّف عن الجمع بينهما، كإنقاذ هذا الغريق أو هذا، فلا محالة يكون حكم العقل فيه هو التخيير؛ لأنّه يوجب إيجاب الجمع بين الشيئين المتضادّين.

وأمّا إن كان كلّ من الخطابين مشروطاً بعدم فعل الآخر، أو كان أحدهما مشروطاً بذلك، فلا يعقل أن يقتضيا إيجاب الجمع؛ لأنّ

ص: 141

المفروض أنّ التكليف بكلٍّ منهما مقيّد بعدم الآخر، فيكون حكمه حكم الأحكام التخييريّة الأوّليّة، كخصال الكفّارات، فحينئذٍ: لا يلزم منه إيجاب الجمع كما هو واضح، وليس طلباً للجمع بين الضدّين. نعم، هو جمع بين الطلبين، فكيف يتصوّر إيجاب الجمع مع أنّ الجمع ليس بمطلوب، بحيث لو أمكن للمكلّف الجمع بينهما لم يقعا على صفة المطلوبيّة؟

فظهر: أنّ الخطاب الترتّبيّ لا يقتضي إيجاب الجمع، وما لم يكن مقتضياً لإيجاب الجمع بين الضدّين فلا وجه لاستحالته، ففي محلّ البحث، وإن كان الخطابان الفعليّان واقعين في زمان واحد، إلّا أنّ اجتماعهما لايوجب إيجاب الجمع، وليس طلباً للجمع؛ لأنّ الجمع هو عبارة عن اجتماع كلّ منهما في زمان امتثال الآخر، بحيث يكون امتثال أحد الخطابينمجامعاً في الزمان لامتثال الآخر، كمجامعة الصلاة للصوم، وبالعكس.

وأمّا الذي يوجب إيجاب الاجتماع فهو أحد أمرين:

الأوّل: تقييد كلّ من المتعلّقين بحال فعل الآخر، أو تقييد أحدهما بحال الآخر، كتقييد القراءة بحال القيام.

والثاني: إطلاق كلّ من الخطابين لحال فعل الآخر، كإطلاق الأمر بالصلاة في حال فعل الصوم، وبالعكس، فإنّ الإطلاق ينتج نتيجة التقييد في اقتضائه إيجاب الجمع.

ص: 142

إذا عرفت ذلك، ظهر: أنّ الخطاب الترتّبي لا يقتضي إيجاب الجمع، بل يقتضي نقيض إيجاب الجمع، بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمكانه؛ لمكان أنّ الخطاب بالمهمّ مشروط بعصيان الأهمّ وخلوّ الزمان عنه، ومع هذا، فكيف يقتضيان إيجاب الجمع؟

فإذا فرض أنّ مطلوبيّة المهمّ إنّما كانت في طرف عصيان الأهمّ، ولو فرض وقوعه على صفة المطلوبيّة في حال وجود الأهمّ وامتثاله، كما هو لازم إيجاب الجمع، يلزم الجمع بين النقيضين، ولذا، لا يجتمع الخطابان؛ فإنّ الخطاب بالأهمّ يكون من علل عدم الخطاب بالمهمّ؛ لأنّه يوجب رفع موضوعه، ولو اجتمع خطاب الأهمّ والمهمّ وصار أحدهما في عرض الآخر لكان هذا من باب اجتماع الشيء مع علّة عدمه، وهو خلف.

وخلاصة الكلام: أنّ طلب الجمع بين فعلين في الخارج يتصوّر على صور أربع - كما أفاده اُستاذنا الأعظم(قدس سره) -:الاُولى: ما إذا كان هناك أمر واحد تعلّق بالجمع بين الفعلين على نحو يرتبط كلّ منهما بالآخر ثبوتاً وسقوطاً، كما إذا تعلّق الأمر بالجمع بين الكتابة والجلوس مثلاً.

الثانية: ما إذا تعلّق أمران بفعلين، على نحو يكون متعلّق كلّ من الأمرين مقيّداً بحال امتثال الأمر الآخر، كما إذا أمر المولى بالصلاة المقارنة لامتثال الأمر بالصوم، وبالعكس.

ص: 143

الثالثة: أن يكون متعلّق أحد الخطابين مقيّداً بحال امتثال الآخر، دون العكس، كالقراءة المقيّدة بحال القيام.

الرابعة: ما إذا تعلّق أمران بفعلين على وجه الإطلاق، بأن يكون كلّ منهما مطلقاً بالإضافة إلى حال امتثال الآخر والإتيان بمتعلّقه، كما هو الحال في الأمر المتعلّق بالصوم والصلاة، فإنّ وجوب كلّ منهما مطلق بالإضافة إلى الإتيان بالآخر، لكن عند امتثال أحدهما كان الآخر مطلوباً(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ القول بالترتّب، وهو اجتماع الأمر بالأهمّ مع الأمر بالمهمّ، لا يستلزم القول بطلب الجمع بينهما؛ أمّا الجمع بمعنى: تعلّق طلب واحد به، كما في الصورة الاُولى، فواضح.

وأمّا الجمع بالمعنى الموجود في الثاني والثالث أيضاً، فواضح؛ لأنّ الترتّب معناه: أنّ امتثال كلّ منهما مقيّد بعصيان الآخر، كامتثال المهمّ المقيّد بعصيان الأهمّ، لا أنّ امتثال أحدهما يكون مقيّداً بامتثال الآخر، وهكذا بالنسبة إلىالصورة الرابعة؛ لأنّ تقييد امتثال أحدهما بالآخر يكون عرضيّاً، وليس مطلوباً بعنوانه ولا بواقعه.

والدليل على أنّ الترتّب لا يوجب وقوع الفعلين في زمان واحد، أنّه لو فرض أنّ المكلّف تمكّن من الإتيان بهما معاً، فلا يقع هذا الإتيان على

ص: 144


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 2: 414.

سبيل المطلوبيّة؛ لأنّ الأمر بالمهمّ إذا فرض اشتراطه بعصيان الأمر بالأهمّ وترك متعلّقه، فلا يمكن فعليّة أمره بدون تحقّق شرطه، وهو ترك الأهمّ، وفي ظرف وجوده، وإلّا لزم أحد محذورين: إمّا اجتماع النقيضين، أو الخلف، وكلاهما مستحيل؛ وذلك لأنّ الأمر بالمهمّ تتوقّف فعليّته على فعليّة موضوعه وهو ترك الأهمّ وعدم الإتيان به، وعليه: فإذا فُرض فعليّة الأمر بالمهمّ في ظرف وجود الأهمّ، فعندئذٍ: لابدّ إمّا من فرض عدم الأهمّ عند وجوده، فلزم اجتماع النقيضين، وإمّا من فرض أنّ عدم الأهمّ ليس بشرط، وهذا خلف، ونتيجة ذلك: هي استحالة فعليّة الأمر بالمهمّ في ظرف وجود الأهمّ وتحقّقه في الخارج، لاستلزامها أحد المحالين المزبورين.

نعم، لو كان تعلّق أمرين بهما في عرضٍ واحد، وعلى وجه الإطلاق، كما في مثل: (أنقذ هذا الغريق سواء أنقذت الآخر أم لا)، و(أنقذ ذلك الغريق سواء أنقذت هذا أم لا) لكان ذلك مستلزماً لطلب الجمع بينهما لا محالة، ولكن أين هذا من تعلّق أمرين بهما على نحو الترتّب، بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيان الأوّل وعدم الإتيان بمتعلّقه، لأنّك عرفت أنّ اجتماع الأمرين كذلك لا يستلزم طلب الجمع بينمتعلّقيهما، بل هو في طرف النقيض معه وينافيه ويعانده، لا أنّه يقتضيه كما مرّ.

وعلى الجملة: فالمقام يمتاز عن الصور المتقدّمة، وفعليّة الأمرين في تلك الصور تستلزم طلب الجمع، لا في المقام، كما عرفت، بل هو هنا بمعنى الجمع بين الطلبين، لا طلب الجمع، كما مرّ.

ص: 145

وأمّا الإشكال بأنّ الأمر الترتّبيّ في المقام يتوقّف على القول بالشرط المتأخّر؛ لأنّ الحرمة حينئذٍ تكون مشروطة بعصيان ذي المقدّمة المتأخّر زماناً عن المقدّمة، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخّر في المقام حتى نرجعه إلى وصف التعقّب.

فقد أجاب عنه المحقّق النائينيّ« بقوله:

«ولكنّ هذا الإشكال - أيضاً - مندفع: بأنّ الشرط المتأخّر في المقام ممّا يحكم به العقل ويستقلّ به، بعدما بيّنّا سابقاً: من إباء الذوق والاعتبار عن اتّصاف المقدّمة بالمطلوبيّة مطلقاً على أيّ وجه اتّفقت، ولو كان التصرّف في أرض الغير - مثلاً - لأجل التنزّه والتفرّج، وبعدما بيّنّاه من أنّ الأمر بالمقدّمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها لا في رتبة اليأس عنه، وبعدما كان كلّ مقدّمة منقسمة في حدّ ذاتها إلى ما يتعقّبها وجود ذي المقدّمة وما لا يتعقّبها، فإنّ هذه الاُمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخّر، فهو ممّا قام عليه دليل بالخصوص، غايته: أنّه ليس شرعيّاً بل عقليّاً.والحاصل: أنّه لا يختصّ اعتبار الشرط المتأخّر بمعنى التعقّب بباب القدرة، بل يجري في المقام أيضاً؛ لأنّ صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخّر (بمعنى التعقّب)، بعدما كان الوجدان شاهداً على عدم وقوع المقدّمة على صفة المطلوبيّة كيف ما اتّفقت، وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخّر، وأوجب الأمر الترتّبيّ، فليس اعتبار الشرط المتأخّر في المقام من جهة اقتضاء الأمر الترتّبيّ ذلك حتى يقال:

ص: 146

إنّه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الأمر الترتّبيّ ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخّر، بل الموجب للذهاب إلى الأمر الترتّبيّ في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخّر فيه، وهو تلك المقدّمات العقليّة، فلا تغفل»(1).

تنبيهات:

التنبيه الأوّل:

في عدم صحّة الترتّب فيما إذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة؛ إذ كما ذكرنا سابقاً، فلابدّ أن يكون الملاك والأمر لكلّ من المترتّب والمترتّب عليه موجوداً وثابتاً حقيقةً في صورة التزاحم، وحينما قلنا بأنّ القدرة على الواجب دخيلة في الملاك، فإذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، والآخرمشروطاً بالقدرة العقليّة، كما إذا كان عنده مقدار من الماء يكفي إمّا للوضوء وإمّا لرفع العطش عمّن هو مشرف على الهلاك بواسطة العطش، أو يدور الأمر بين صرفه في الوضوء أو إعطائه للعيال الواجبي النفقة، فبناءً على أنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، أي: التمكّن من الماء المستفاد هذا الاشتراط من اشتراط التيمّم بفقدان الماء وعدم التمكّن منه بقرينة المقابلة، وأنّ التفصيل قاطع للشركة، فلا يجوز فيه الترتّب،

ص: 147


1- فوائد الاُصول 1: 388.

وأن يكون الأمر بالوضوء مقيّداً بعصيان أمر الراجح، أي: الأمر بإعطاء الماء للعطشان المشرف على الهلاك أو للعيال الواجبي النفقة؛ لأنّهما مشروطان بالقدرة العقليّة، والوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة على الفرض، والمشروط بالقدرة العقليّة مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

والسرّ في عدم مجيء الترتّب في هذا القسم هو أنّ الوضوء - مثلاً - يكون غير مقدور شرعاً؛ لأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فلا يبقى للوضوء ملاك ومصلحة بعد تزاحمه مع الواجب المطلق المشروط بالقدرة العقليّة، فإذا لم يكن له ملاك ومصلحة، فعصيان ذلك الأمر لا يفيد ولا يحدث فيه مصلحة وملاك.

وقد عرفت أنّ الأمر الترتّبيّ لا يتعلّق بشيء إلّا بعد تماميّة الملاك فيه، فلو اعترف شخص بأنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة فليس له الحكم بصحّة الوضوء إذا عصى وجوب إعطاء الماء إلى من هو مشرف علىالهلاك من العطش، أو عصى إعطاء المال للعيال الواجبي النفقة وتوضّأ، لا بالأمر الترتّبيّ، ولا بالملاك، ولذا لم يُفتِ الشيخ الأعظم الأنصاريّ)، وكذا السيّد الكبير الميرزا الشيرازيّ(قدس سره) - على ما حُكي عنهما - بصحّة الوضوء في الفرض، وليس هذا إلّا من جهة ما قلنا من عدم مجيء الترتّب في مثل المقام، وعدم وجود الملاك فيه.

ص: 148

وهذا من غير فرق بين أن تكون القدرة مأخوذة من دليل متّصل، كما في الحجّ، كما في قوله تعالى ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، أو بدليل منفصل، كما في الوضوء، حيث إنّ الأمر الوضوئيّ وإن لم يقيَّد بالقدرة في لسان دليله، إلّا أنّه من تقييد الأمر التيمّميّ بذلك يُستفاد تقييد الأمر الوضوئيّ بالقدرة. هذا بعد تفسير الوجدان المأخوذ في آية التيمّم بالتمكّن، وعدم الوجدان بمعنى عدم التمكّن لا بمعنى الامتناع خاصّةً.

قال بعض المفسّرين: «يمكن أن يراد بعدم وجدان الماء عدم التمكّن من استعماله، وإن كان موجوداً، فيسري الحكم إلى كلّ من لا يتمكّن من استعماله، كفاقد الثمن أو الآلة أو الخائف من لصٍّ أو سبع ونحوهم». قال: «وهذا التفسير وإن كان فيه تجوّز، إلّا أنّه هو المستفاد من كلام محقّقي المفسّرين من الخاصّة والعامّة»(2).فإنّ مقتضى المقابلة بين الوضوء والتيمّم من حيث تقييد التيمّم بعدم التمكّن من الماء يستفاد من الآية أنّ الوضوء مشروط شرعاً بالتمكّن، وإلّا لم تتحقّق المقابلة بين الوضوء والتيمّم، ولزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه، وأن يكون التفصيل غير قاطع للشركة، وبطلان كلّ ذلك واضح.

ص: 149


1- آل عمران: 97.
2- انظر: مجمع البحرين 4: 468.

مع أنّ نفس بدليّة التيمّم للوضوء معناه: إذا لم تجد الماء فتيمّم، فلو فرض أنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، ولم يكن له قدرة شرعيّة على الوضوء، بحيث انتقل تكليفه إلى التيمّم، - كما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة - كان وضوؤه خالياً عن الملاك، فلو عصى وتوضّأ، كان وضوؤه باطلاً، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك، ولا بالأمر الترتّبيّ.

ومن هنا، يبدو غريباً ما حُكي عن بعض الأعاظم في حاشيته على نجاة العباد من القول بصحّة الوضوء والحال هذه(1)، ولعلّ نظر هذا المفتي بالصحّة إلى القول بأنّ القدرة المأخوذة فيه عقليّة لا شرعيّة، واﷲ العالم.

والتنبيه الثاني:

لا إشكال في أنّ الترتّب مورده هو الضدّان اللّذان لهما ثالث. وأمّا الضدّان اللّذان ليس لهما ثالث، كالحركة والسكون، فبما أنّ ترك الحركة يكون موجب للسكون، وترك السكون يكون موجباً للحركة، فلا يحتاج إلى الأمر بعد ترك أحدهما، بل هو من باب تحصيل الحاصل.وقد أدخلوا في هذا البحث مسألة الجهر والإخفات، فذهب بعضهم ككاشف الغطاء(قدس سره) إلى القول بصحّة الإتيان بالجهر على تقدير عصيان

ص: 150


1- انظر: فوائد الاُصول 1: 368.

الأمر بالإخفات، وهكذا الإخفات يكون واجباً على تقدير عصيان الأمر بالجهر.

ونصّ كلامه في مقدّمة كشف الغطاء كالتالي:

«لأنّ انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة، وإن استلزم المعصية، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لماُموره: إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا؟ كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات...» (1).

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الشيخ الأنصاري(قدس سره) أنكر أصل الترتّب معتبراً إيّاه أمراً لا يمكن تعقّله، كما ذكرنا أيضاً أنّ المحقّق النائينيّ) بدوره أورد على كاشف الغطاء(قدس سره) بالدليل النقضيّ في مسألة التعارض بناءً على السببيّة، حيث إنّه ملتزم بالترتّب من الطرفين.

وقد ذكر اُستاذنا المحقّق(قدس سره) - تبعاً لاُستاذه المحقّق النائيني(قدس سره) - وجوهاً عدّة لخروج هذه المسألة عن باب الترتّب:

منها: ما تقدّم من أنّه لو كان التضادّ بين المتعلّقين دائميّاً بحيث لا يمكن الإتيان بكلا المتعلّقين معاً دائماً، فالدليلان الدّالّان على وجوب كلا الأمرين يكونان متعارضين، ويجب أن يتمّ التعامل معهما معاملة تعارض

ص: 151


1- كشف الغطاء 1: 171، وقد تقدّم نقل هذا الكلام آنفاً في بعض الهوامش المتقدّمة.

الدليلين، وذلكمن جهة أنّ تشريع الحكمين اللّذين لا يمكن اجتماعهما في عالم الوجود دائماً لغو، بل لابدّ من تشريع التخيير بينهما لو كان فيهما الملاك وكانا متساويين من هذه الجهة.

وأمّا لو كان ملاك أحدهما أهمّ، فلابدّ وأن يجعل الحكم على طبق الملاك الأهمّ، وإلّا، لو جعل على طبق الملاك غير الأهمّ يلزم ترجيح المرجوح على الراجح، ولو جعل التخيير يلزم التسوية بين الراجح والمرجوح، ولو لم يجعل حكم أصلاً لزم تفويت كلا الملاكين.

ومعلوم أنّ هذه الثلاثة كلّها قبيحة عقلاً، فيتعيّن الأوّل، أي: الجعل على طبق الملاك الأهمّ، فلو كان مفاد كلّ واحدٍ من ذينك الدليلين اللّذين بين متعلّقيهما تضادّ، بمعنى: عدم إمكان اجتماعهما في عالم الوجود دائماً، وجوب متعلّقهما مطلقاً، فلا محالة: يكون مثل هذين الدليلين متعارضين، لعدم إمكان جعل مفادهما، للزوم اللّغويّة، فيكون مثل هذا الجعل - الذي لا يمكن دائماً إلّا امتثال أحدهما - قبيحاً على الحكيم، بل كما ذكرنا، لو كان الملاك في كليهما، وكان فيهما متساويين، فلابدّ وأن يُجعل على طبق ذاك الأهمّ.

ومنها: أنّ الجهر والإخفات في القراءة من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، وفي مثل هذا لا يمكن الترتّب، بحيث يكون عدم أحدهما شرطاً وموضوعاً للأمر بالآخر؛ لأنّ في ذلك الظرف يكون الآخر حاصلاً، لما ذكرنا من الملازمة، فيكون طلبه من قبيل طلب الحاصل.

ص: 152

لكن قد أورد على النائيني) اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما نصّه:«ولكنّ هذا ليس من محلّ الكلام في شيء، ضرورة أنّ المأمور به - كما عرفت - ليس هو الجهر والإخفات بما هو، والقصر والتمام كذلك، بل المأمور به هو القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة، والصلاة قصراً والصلاة تماماً، وقد عرفت أنّ بينهما واسطة، فلا يكون وجود إحداهما ضروريّاً عند ترك الأُخرى..»(1).

وحاصله: أنّ متعلّق الأمر ليس هو الجهر والإخفات حتى يكونا كالحركة والسكون خارجين عن مسألة الترتّب، ويكونا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، بل مورد الأمر هو القراءة الجهريّة أو الإخفاتيّة، ومن الواضح أنّها ليسا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما. بل المكلّف قادر على تركهما معاً، بترك أصل القراءة.

وقد أجاب عن هذا الإيراد اُستاذنا المحقّق) بما لفظه:

«وأمّا توهّم أنّ إيجاد القراءة الجهريّة مع القراءة الإخفاتيّة ليس من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، بل لهما ثالث، وهو عدم إيجاد القراءة أصلاً، فهو خلاف الفرض؛ لأنّ وجوب القراءة في الصلاة معلوم، وليس مشروطاً بشرط، وإنّما الكلام في الجهر بها والإخفات كذلك. وبعبارة أُخرى: القراءة المفروضة الوجود لقوله%: (لا صلاة إلّا بفاتحة

ص: 153


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 473.

الكتاب)، تعلّق الأمر بالجهر أو الإخفات فيها،ومعلوم أنّ عدم أحد الضدّين - اللّذين لا ثالث لهما في القراءة - ملازم لوجود الآخر أو عينه كما ذكرنا»(1).

وكذا في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتّبيّ؛ لأنّ موضوعه ممّا لا يقبل الإحراز؛ لأنّ مورد الخطاب الترتّبيّ إنّما يكون فيما إذا كان الموضوع في كليهما محرزاً، والتزاحم لا يمكن إلّا بعد إحرازهما، أي: إمّا أن يكون محرزاً بنفسه، أو بالإحراز الوجدانيّ، أو بالطرق المحرزة، كالأمارات والاُصول المحرزة، وإذا كان الشيء مساوقاً لانعدامه، فلا يعقل فيه الترتّب، بل يكون لغواً.

فإنّ الناسي للتكليف، وإن كان عن تقصير، لا يرى نفسه عاصياً، ولا يلتفت إلى ذلك؛ إذ الالتفات إلى كونه عاصياً يتوقّف على العلم بالتكليف، فيخرج عن كونه جاهلاً، فلا يعقل أن يقال: أيّها العاصي للتكليف المجهول يجب عليك كذا، فإنّه بمجرّد التفاته إلى كونه عاصياً ينقلب جهله بالتكليف إلى كونه عالماً به.

والحاصل: أنّه في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتّبيّ؛ لأنّه ليس هناك مزاحمة بين التكليفين، وإن فرض استحقاق العقاب على ترك التكليف المجهول في صورة كون الجاهل مقصّراً، وكيف يُعقل

ص: 154


1- منتهى الاُصول 1: 355- 356.

الخطاب الترتّبيّ مع أنّه عبارة عن أخذ عصيان أحد التكليفين شرطاً وموضوعاً للتكليف الآخر؟فمقامنا - إذاً - نظير ما لو كان ناسياً لجزء، فلا يمكن تكليفه بالفاقد له؛ لأنّه بمجرّد الالتفات إلى كونه ناسياً يخرج عن كونه ناسياً.

والتنبيه الثالث:

اشارة

لا يخفى: أنّه كما يجري الترتّب في المتزاحمين المضيّقين كإنقاذ الغريقين، وكما يكون الترتّب من الجانبين إذا لم يكن أحدهما أهمّ، فكذلك يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً، وقد ذهب المحقّق النائيني) إلى جريان الترتّب في هذه الصورة، ودورانها مدار الالتزام بالترتّب وعدمه(1).

ووجّهه الاُستاذ الأعظم) بما لفظه:

«وأمّا الكلام في الناحية الثانية، فجريان الترتّب فيه يبتني على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ(قدس سره) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق، وبما أنّ تقييد المهمّ في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال، فإطلاقه بالإضافة إليه - أيضاً - محال، وعليه: فلا يمكن الحكم بصحّته من جهة الإطلاق، فلا محالة تبتني صحّته على القول بالترتّب مع قطع النظر عن كفاية الملاك، غاية الأمر: أنّ الترتّب هنا إنّما هو في إطلاق الواجب

ص: 155


1- أجود التقريرات 1: 314.

المهمّ، بمعنى: أنّ إطلاقه مترتّب على ترك الواجب الأهمّ، وهذا بخلاف الترتّب في غير المقام، فإنّ هناك أصل الخطاب بالمهمّ مترتّب على تركامتثال الخطاب بالأهمّ، لا إطلاقه، وعلى كلّ حال، فالترتّب في المقام مبتنٍ على مسلكه(قدس سره)»(1).

وحاصله: أنّ ما أفاده المحقّق النائيني) مبنيّ على التزامه بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع التقييد في مورد يمتنع الإطلاق فيه، وبما أنّه يمتنع تقييد الواجب الموسّع بصورة الإتيان بالفرد المزاحم - لمكان التضادّ بينهما - امتنع إطلاقه بالنسبة إليه.

وعليه: فيقع التزاحم بين إطلاق الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضيّق، فلا يمكن الجمع بينهما، بل لابدّ من رفع اليد عن أحدهما: إمّا إطلاق الموسّع، أو خطاب المضيّق.

ثمّ أورد عليه(قدس سره) بقوله: «ولكن قد ذكرنا غير مرّة أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضادّ، فاستحالة أحدهما في مورد لا يستلزم استحالة الآخر، وعليه: فلا يتوقّف الحكم بصحّته على القول بجواز الترتّب، ضرورة أنّه عندئذٍ يمكن الإتيان به بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة»(2).

ص: 156


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 491 .
2- المصدر نفسه.

وملخّصه: أنّه قد عرفت أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة، بل تقابل التضادّ، فإذا امتنع التقييد كان الإطلاق ضروريّاً، لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت.قلت: وسيأتي في محلّه: أنّ التقابل هنا هو من تقابل العدم والملكة، وحينئذٍ: فيجري بحث الترتّب بلا إشكال.

وأمّا مثال ما إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً، فهو كما إذا دار الأمر بين واجب موسّع، كالصلاة في أوّل الوقت، وآخر مضيّق، كأداء الدين، أو وجوب الإزالة. وبما أنّ الأمر بالأهمّ مطلق، وكذلك الأمر بالمهمّ، فيتقيّد الأمر بالمهمّ بصورة الإتيان بالأهمّ.

وأمّا في صورة عصيانه وعدم الاشتغال بالأهمّ فالإطلاق باقٍ.

ويكون الفرق بين المضيّقين وبين الموسّع والمضيّق هو أنّه في المضيّقين أصل الأمر بالمهمّ يكون مشروطاً بعصيان الأهمّ، وأمّا في الموسّع والمضيّق فإطلاق الأمر بالموسّع مشروط، على وجه يشمل الفرد المزاحم للمضيّق يكون مشروطاً بعصيان المضيّق، لا أصل الأمر؛ لأنّ جميع أفراد الموسّع لم تكن مزاحمة للمضيّق حتى يكون أصل الأمر به مشروطاً بعصيان المضيّق.

فإذا عرفت هذا، فلو احتاجت صحّة العبادة إلى الأمر، وكان في أوّل الوقت - مثلاً - دخل المسجد للصلاة، فرأى نجاسة فيه، فوجوب إزالة النجاسة من حيث إنّه مضيّق مقدّم على وجوب الصلاة؛ لأنّه موسّع

ص: 157

كما تقدّم في مرجّحات باب التزاحم، فحينئذٍ: لو قلنا بصحّة الترتّب وإمكانه، تكون الصلاة - أيضاً - ماُموراً بها في ظرف عصيان الإزالة، فلوقلنا باحتياج صحّة العبادة إلى الأمر وعدم كفاية الملاك، لكان لها الأمر الترتّبيّ أيضاً.

نعم، لو قلنا بمقالة بعض المحقّقين من أنّ الطبيعة في الواجب الموسّع مقدورة، ولو ببعض وجوداتها، وهي بقيّة الأفراد الطوليّة التي لا تزاحم المضيّق، وهذا المقدار من مقدوريّتها كافٍ في توجّه الخطاب والتكليف.

وحينئذٍ: انطباق المأمور به على ذلك الفرد قهريّ، والإجزاء عقليّ، فلا يحتاج إلى الأمر الترتّبيّ، بل لو قلنا بمحاليّة الترتّب - أيضاً - يكفي في صحّتها الأمر المتعلّق بنفس الطبيعة.

والتنبيه الرابع:

في جريان الترتّب في الحرام الذي وقع مقدّمة لواجب يكون فعله أهمّ من ترك ذلك الحرام، وعدم لزوم محذور عقليّ أو شرعيّ، ولابدّ في هذا التنبيه من التكلّم في اُمور:

الأوّل: أنّ المقدّمة تارةً تكون مباحة، وأُخرى تكون مكروهة، وثالثة تكون محرّمة، ولا كلام لنا هنا فى الأوّلين، وسيأتي الكلام في المقدّمة المحرّمة.

الثاني: أنّ المقدّمة تارةً تكون متقدّمة في الوجود على ذي المقدّمة،

ص: 158

وأُخرى تكون مقارنة له، أمّا الصورة الأُولى: فكالتصرّف في أرض الغير لإنقاذ الغريق. وأمّا الثانية: فكالتصرّف في الماء الذي وقع فيه الغريق لأجل إنقاذه.

الثالث: أنّ المقدّمة تارةً تكون متساوية في الملاك مع الواجب، أي: أنّ ملاك حرمتها يكون مساوياً لملاك ذيالمقدّمة، وأُخرى: يكون ملاك الواجب أهمّ، وثالثة يكون ملاك المقدّمة أهمّ من ملاك الواجب؛ لأنّ التزاحم يقع بين الحرمة النفسيّة لتلك المقدّمة مع الوجوب النفسيّ الذي يكون لذي المقدّمة، فإذا كانت الحرمة أهمّ يسقط وجوب ذي المقدّمة، وأمّا إذا كان الملاكان متساويين، تُقدّم الحرمة، لما ذكرنا من أنّ التخيير في باب التزاحم عقليّ، وليس بشرعيّ، حتى يقال بسقوط كلا الخطابين ويتولّد خطاب تخييريّ من جديد، كسائر الخطابات التخييريّة الشرعيّة، وحينئذٍ: فإذا لم يكن ملاك ذي المقدّمة أهمّ فلا معجّز مولويّ يوجب سقوط الحرمة وسلب القدرة عنها، بل تكون الحرمة معجّزاً مولويّاً عن إتيان الواجب؛ لأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً بلا فرق بين المقدّمة المتقدّمة والمقارنة.

نعم، لو كانت المقدّمة مكروهة أو مستحبّة أو مباحة فلا تزاحم ذا المقدّمة، بل يتقدّم ذو المقدّمة عليها، فتسقط هذه الاُمور عند فرضها مقدّمة للواجب.

الرابع: أنّ الذوق آبٍ عن وقوع المقدّمة على صفة الوجوب بعدما

ص: 159

كانت محرّمة ذاتاً على نحو الإطلاق، فلو دخل الأرض المغصوبة لا لأجل إنقاذ الغريق، بل لأجل التنزّه، فلا يمكن القول بأنّ هذا التصرّف، وإن كان في ذاته حراماً، ولكنّه يصبح واجباً؛ لأنّ إنقاذ الغريق يتوقّف عليه، فإنّ تصرّف الشخص في الأرض المغصوبة لم يكن لأجل ذلك، بل إنّما كان قصده إلى شيءٍ آخر، وهو التنزّه - مثلاً -، فالقول بأنّ هذا النحو من التصرّف يقع واجباً ومحبوباً للمولى قولٌيكذّبه الوجدان السليم. ومن هنا، وكما ذكرنا سابقاً، فقد سلك كلّ واحدٍ من العلماء مسلكاً خاصّاً:

فذهب صاحب المعالم) إلى القول بأنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذي المقدّمة. ونصّ كلامه(قدس سره) - في بحث الضدّ - كالتالي:

«وأيضاً: فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر»(1).

وأمّا الشيخ(قدس سره) في التقريرات فقد قيّد وجوب المقدّمة بصورة قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، بقوله: «وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيريّ لأجل التوصّل به إلى الغير أو

ص: 160


1- المعالم: ص 77.

لا؟ وجهان: أقواهما الأوّل»(1).

وذهب صاحب الفصول(قدس سره) إلى أنّ الوجوب إنّما يرد على المقدّمة الموصلة(2).ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّه لا يمكن أن يتقيّد الواجب بهذه القيود. ونحن صحّحنا المقام بالترتّب، بمعنى: تقييد إطلاق النهي بصورة عصيان ذي المقدّمة.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الحرمة الذاتيّة للمقدّمة باقية لم تسقط على نحو الإطلاق، بل الذي يسقط إنّما هو إطلاقها الشامل لحالتي فعل ذي المقدّمة وتركها، مع انحفاظ ما للمقدّمة من الحكم، سواء كان حراماً أو مباحاً أو مستحبّاً أو مكروهاً.

الخامس: ذهب المحقّق النائيني(قدس سره) إلى أنّ حرمة المقدّمة مترتّبة على عصيان وجوب ذي المقدّمة، فعند عدم الإتيان بذي المقدّمة تكون المقدّمة محرّمة بحكم الترتّب. وبعبارة أُخرى: يقع التزاحم بين حرمة المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة، وحيث لم يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، فلا بأس بالقول بالترتّب، وهو في صورة عصيان ذي المقدّمة، فتبقى المقدّمة على حرمتها.

ص: 161


1- مطارح الأنظار 1: 353.
2- انظر: الفصول الغرويّة: ص 87، قال(قدس سره): «هذا إذا أتى بالمقدّمة وصلةً إلى المطلوب من حيث كونه مطلوباً، وأمّا إذا أتى بها لغيره، فلا ريب في عدم ترتّب الثواب عليها من هذه الجهة...»، إلى آخر ما أفاده(قدس سره).

ولا يخفى: أنّ المقدّمة لا تسقط حرمتها الذاتيّة لمجرّد كونها مقدّمة، بل إنّما تسقط إذا كان وجود ذي المقدّمة أهمّ، وإلّا، تكون حرمتها باقية، وعلى فرض كونهما متساويين، ولم يكن ذو المقدّمة أهمّ، فلا تصل النوبة إلى التخيير ولو قلنا في المتساويين المتزاحمين عقليّاً أو شرعيّاً بأنّ التخيير يكون عقليّاً، إلّا أنّه لا يمكن تصوّره هنا بين المقدّمة وذيها، بل إذا كان ذو المقدّمة أهمّ يكون ذلك سبباً في التعجيز عن المقدّمة وسلب القدرة عنها.وأمّا لو لم يكن أهمّ، بل كانا متساويين، فلا يكون هناك معجّز مولويّ يكون سبباً لسقوط المقدّمة، فحينئذٍ: تبقى المقدّمة على حالها، وهو الحرمة الذاتيّة، بل تكون حرمتها معجّزاً عن وجوب ذيها، بلا فرق بين أن تكون المقدّمة متقدّمةً أو مقارنة؛ لوضوح أنّ التصرّف في ماء الغير إنّما يجب إذا توقّف عليه واجب أهمّ، من إنقاذ نفس محترمة، أو تلف مال كثير. وأمّا لو لم يكن ذو المقدّمة أهمّ، فتكون حرمة التصرّف باقيةً على حالها.

وأمّا المقدّمة المقارنة لذيها بحسب الزمان، فالأقوى جريان الأمر الترتّبيّ فيها أيضاً، ومثالها المهمّ الذي يترتّب عليه الأثر هو باب الضدّين بناءً على مقدّميّة ترك أحدهما للفعل الآخر.

وإشكال استلزام الأمر الترتّبيّ للشرط الآخر لا يأتي هنا؛ لأنّ المفروض كون المقدّمة مقارنة بحسب الزمان.

ص: 162

نعم، يأتي إشكال استلزام الوجوب والحرمة في زمانٍ واحد، كالمقدّمة المتقدّمة بحسب الزمان، ويزداد الإشكال في الضدّين، حيث إنّه يلزم اجتماع الحكمين في كلٍّ من طرف الأهمّ والمهمّ، فإنّ ترك الأهمّ حيث كان مقدّمة للإتيان بالمهمّ الذي فرضناه واجباً بالأمر الترتّبيّ، فيجب ترك الأهمّ من باب المقدّمة، وبالوجوب المقدّميّ، مع أنّه يحرم لوجوب فعل الأهمّ، وكذلك ترك المهمّ يكون مقدّمة لفعل الأهمّ، فيجب من باب المقدّمة، مع أنّه حرام لغرض وجوب فعل المهمّبمقتضى الأمر الترتّبيّ، فيأتي إشكال اجتماع الحكمين المتضادّين في كلٍّ من الأهمّ والمهمّ بناءً على المقدّميّة.

ولكنّ الحقّ: أنّهما ليسا في مرتبة واحدة، فالحرمة في ترك المهمّ تكون في مرتبة تركه وعصيانه، وأمّا الوجوب فإنّما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهمّ، وبما أنّ رتبة الوجوب تختلف عن رتبة الحرمة، وليسا في رتبةٍ واحدة، فلا يكون هناك مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. هذا في طرف المهمّ.

وأمّا الإشكال في طرف الأهمّ، فلا يندفع بذلك؛ لأنّ الأمر في طرف الأهمّ ليس ترتّبيّاً حتى يتحقّق اختلاف الرتبة، ويصحّ اجتماع كلٍّ من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة، بل إنّ الأمر في طرف الأهمّ هو الأمر الأوّليّ الذّاتيّ.

إلّا أنّ الذي يسهّل الخطب هو أنّ ترك الأهمّ لا يكون واجباً بالوجوب

ص: 163

المقدّميّ أصلاً، بل ليس حكمه إلّا الحرمة، فإنّ ترك الأهمّ وإن كان مقدّمة وجوديّة لفعل المهمّ، إلّا أنّه مع ذلك يكون مقدّمةً وجوبيّةً له أيضاً؛ لأنّ وجوب المهمّ مشروط بترك الأهمّ، ومعلوم أنّ المقدّمة الوجوبيّة لا تجب بالوجوب المقدّميّ، فترك الأهمّ حرام ليس إلّا، وهو باقٍ على حرمته، ولا يجتمع فيه الحكمان المتضادّان.

السادس: هل يأتي الترتّب فيما إذا كان التزاحم بين الشيئين دائميّاً ولأجل الملازمة بين المتعلّقين؟

الحقّ: عدم جريان الأمر الترتّبيّ في ذلك؛ لأنّه يلزم منه طلب الحاصل، فإنّه لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبارالجدي هو المأمور به الأصليّ، واُريد إثبات وجوب استقبال الجدي بالأمر الترتّبيّ عند عصيان استقبال القبلة، لزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله، فلا يصحّ أن يقال: إن لم تستقبل القبلة يجب عليك استقبال الجدي؛ لأنّ عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجاً، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله.

السابع: في إجراء الترتّب بين التدريجين، وهما:

تارةً: يكونان آنيّين كإنقاذي الغريقين، فلا يكون عصيان أحدهما إلّا آنيّاً؛ لأنّه لو تركه وعصى فبمجرّد تركه يسقط الأمر لفوات موضوعه. وبعبارة أُخرى: فليس لهما بقاء واستمرار في وعاء الزمان حتى يكون لعصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتّب عليه نحو بقاء واستمرار،

ص: 164

بل يكون هذا العصيان دفعيّاً آنيّاً، من جهة أنّ موضوعه غير قابل للبقاء حتى يستمرّ عصيانه، فإنّ إنقاذ الغريق إذا لم يبادر إليه يصبح الغريق ميتاً، ويسقط الأمر والتكليف.

وأُخرى: يكون أحدهما تدريجيّاً والآخر آنيّاً، كما في الصلاة وإنقاذ الغريق.

وثالثةً: يكون كلّ منهما تدريجيّاً، ولكن عصيان كلّ منهما يتحقّق بمجرّد ترك جزء منه، فلا يكون عصيانه إلّا آنيّاً، نظير الصوم الذي يتحقّق تركه بمجرّد تركه في جزء من النهار، فيسقط الأمر بذلك.

ورابعةً: يكون كلّ منهما تدريجيّاً، وكان عصيان أحدهما، وهو الأهمّ، تدريجيّاً أيضاً، ففي مثال الإزالة والصلاة؛ فإنّوجوب الإزالة مستمرّ، والأمر به لا يسقط بمجرّد العصيان، بل يجب آناً فآناً، فإذا عصاه في الآن الأوّل، يجب الإزالة في الآن الثاني، وهكذا... لما هو معلوم من أنّ وجوب الصلاة ارتباطيّ، فلا يتحقّق امتثاله إلّا بامتثال جميع الأجزاء، وإلّا، فلو فرض بأنّه كبّر ولم يأتِ ببقيّة الأجزاء، ينكشف أنّ التكبير لم يكن واجباً، فالتكبير - مثلاً - إنّما يقع على صفة الوجوب والمطلوبيّة لو أتيت بالتسليم.

ومحلّ الكلام في هذا الأمر هو هذا القسم دون الأقسام الأُخرى، فيبحث في صحّة الترتّب فيه بأن يُؤخذ خطاب الصلاة معلّقاً على عصيان خطاب الإزالة، وهل يمكن إجراء الترتّب بين التدريجيين

ص: 165

مطلقاً أم لا؟ لأنّ وجوب الإزالة باقٍ ومستمرّ في جميع أزمنة امتثال وجوب الصلاة.

وقد يستشكل في جريان الترتّب هنا بما حاصله: أنّ الأمر بالإزالة لمّا كان مستمرّاً ويأتي في جميع آنات الصلاة، وحيث إنّ المهمّ تدريجيّ الحصول، والأمر بالإزالة مستمرّ، فعصيانه في الآن الأوّل وحين الإتيان بالتكبير لا يكفي؛ لأنّ زمانه يكون أقلّ من زمان فعليّة المهمّ الذي هو تدريجيّ الحصول بحسب الفرض، لغرض تجدّد الأمر بالإزالة واستمراره في جميع آنات الصلاة، وعدم سقوطه بمجرّد العصيان؛ لأنّه ليس آنيّ الحصول كي يبقى الأمر بالصلاة بدون مزاحم؛ لأنّ الأهمّ يكون مستمرّاً في أيّ وقت، وله أن يرجع ويهدم المهمّ؛ لأنّ وجوب المهمّ في أزمنة امتثاله منوطبعصيان الأهمّ حتى في آخر أزمنة امتثال الأهمّ، وهذا هو الشرط المتأخّر.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال: بأن الشرط هو وصف التعقّب لا واقع التعقّب، وهو شرط مقارن لا متأخّر.

ولكن يرد عليه: أنّ ذلك يحتاج إلى دليلٍ خاصّ، وهو غير موجود، والموجود إنّما هو إطلاقات الأدلّة، وهي لا تكفي لإثبات شرطيّة عنوان التعقّب.

ولكنّ هذا يأتي في كلّ واجب تدريجيّ، فإنّ وجوب التكبيرة وفعليّته مشروط بالقدرة على الجزء الأخير، وهو التسليم، وعليه: فدخالة عصيان

ص: 166

الأمر بالإزالة في ظرف التسليم في وجوب التكبيرة إنّما يكون من جهة أنّ القدرة على التسليم لا تكون إلّا بالعصيان المذكور، ومن هنا قلنا: إنّ الشرط هو عنوان التعقّب، حتى تكون القدرة على الجزء الأوّل منوطة بشرطيّة عنوان التعقّب، فلا يأتي المحذور.

السابع: حكي عن بعض المحقّقين(رحمة الله)(1) أنّه ذكر هنا فرعاً وزعم جريان الترتّب فيه، وهو أنّه لو كان هناك ماء مباح له التصرّف فيه، ولكنّه في إناءٍ يكون استعماله حراماً:

إمّا من جهة كون الإناء مغصوباً، أو من جهة أنّه من ذهبٍ أو فضّة، فيكون وجوب الوضوء مشروطاً بعصيان النهي عن الاستعمال، كما أنّ وجوب الصلاة - بناءً على صحّة الترتّب وإمكانه - يكون مشروطاً بعصيان الأمر بالإزالة،فيكون الوضوء صحيحاً حتى بناءً على احتياج العبادة إلى الأمر.

ولكنّ هذا الذي ذكر إنّما يتمّ فيما لو كان المتوضّئ من مثل ذلك الإناء قد اغترف غرفة كافية لتمام الوضوء؛ فإنّ وضوءه، والحالة هذه، يكون صحيحاً لا إشكال فيه؛ لأنّه بعد عصيانه بالاغتراف بمثل تلك الغرفة صار واجداً للماء وحصل موضوع الوضوء.

وأمّا لو كانت الغرفة لا تكفي إلّا لغسل بعض أجزاء الوضوء، فبعد

ص: 167


1- انظر: منتهى الاُصول 1: 361.

الاغتراف الأوّل لا يصير واجداً للماء، إذ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً؛ لأنّ بقيّة الاغترافات كلّها - أيضاً - محرّمة، والوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، فلا قدرة عليه ولا ملاك له ولا أمر به.

نعم، لو كان الإناء غير منحصر، وكان هناك إناء آخر فيه ماء مباح، مع كونه هو مباحاً أيضاً، واغترف منه غرفة، فبما أنّ القدرة على جنس استعمال الماء تكون موجودة، فوضوؤه يكون صحيحاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّه «لو كان استعمال الكأس والإناء جائزاً من جهة تخليص مائه فيما إذا كان الماء ملكاً له، ولم يكن وجوده في الإناء بسوء اختياره، بل كان قد غصب الإناء - مثلاً - أو صبّه فيه جهلاً بالموضوع أو غفلة، فخارج عن الفرض، ويكونالوضوء صحيحاً بلا ريب، ولا يحتاج إلى أمر ترتّبيّ أصلاً»(1).

الثامن: أنّ الترتّب لا يجري في باب اجتماع الأمر والنهي، بناءً على أنّ التركيب فيهما انضماميّ، لا اتّحاديّ؛ لأنّه بناءً على الثاني يدخلان في باب التعارض، وأمّا بناءً على الانضمام، فإنّه لا يجري الترتّب؛ لأنّه يلزم إمّا طلب الممتنع وإمّا طلب الحاصل؛ فإنّه لو قال: (لا تغصب، فإن عصيتَ فصلِّ)، فليس المراد به العزم والقصد على الغصب، بل المراد التلبّس.

فحينئذٍ: إذا كان المراد منه التلبّس والعصيان والغصب الصلاتيّ

ص: 168


1- منتهى الاُصول 1: 361.

فصلّى، كان هذا تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ المراد بالغصب هو الذي يحصل في ضمن الصلاة، فهو موجود، وإن كان المراد الغصب غير الملازم للصلاة، كان هذا طلباً للممتنع، وإن كان المراد ما هو أعمّ يلزم كلا المحذورين.

ص: 169

ص: 170

مبحث النواهي

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في الفرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي:

لا يخفى: أنّ النواهي كالأوامر ترد على الطبائع الكلّيّة، والفرق بينهما فقط في أنّ المراد في الأمر هو وجود الطبيعة، وفي النهي هو الترك.

قال صاحب الكفاية(قدس سره): «الظاهر: أنّ النهي بمادّته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما الوجود، وفي الآخر العدم»(1).

فعنده(قدس سره)أنّ الاختلاف بينهما ينحصر في المتعلّق، فمتعلّق الأمر هو نفس الفعل، وأمّا متعلّق النهي فهو الترك، وإلّا، فالمستفاد من كلٍّ من النهي والأمر مادّةً وصيغة، شيء واحد، وهو الطلب. ومن هنا رأى الآخوند)أنّه «يعتبر فيه [أي: في النهي] ما استظهرنا اعتباره فيه [أي: في

ص: 171


1- كفاية الاُصول: ص 149.

الأمر] بلا تفاوت أصلاً»(1)، فكما يعتبر في صدق الأمر لزوم صدوره من العالي، فكذلك النهي.ولكنّ هذا الرأي لم يتّفق عليه الأعلام، بل خالفه بعضهم، فذهب إلى اختلاف النهي بمادّته وصيغته مع الأمر مفهوماً، وأنّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية يتنافى مع الوجدان لوجهين:

الأوّل: انتقاضه ببعض الواجبات المطلوب فيها الترك، كالصوم، مع أنّها لا تعدّ من المحرّمات، بل من الواجبات.

الثاني: أنّ مراجعة الوجدان تشهد بأنّ النهي ينشأ عن مفسدة في الفعل يكون بها مبغوضاً للمولى ومتعلّقاً لكراهته فيزجر عبده عنه، فواقع النهي يختلف عن واقع الأمر، فإنّه كراهة الفعل، والأمر إرادة الفعل، كما أنّ المنشأ في النهي هو الزجر عن الفعل، والمنشأ في الأمر طلبه والبعث إليه، فيختلف الأمر والنهي مفهوماً ومادّةً وصيغةً، ومتعلّقهما واحد، وهو الفعل(2).

ص: 172


1- المصدر نفسه.
2- يستفاد هذا الكلام من حاشية للاُستاذ الأعظم(قدس سره) على تقريرات المحقّق النائيني)، حيث قال(قدس سره): «التحقيق أنّ متعلّق النهي إنّما هو الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ عن اشتماله على المفسدة، فالنزاع في كون المطلوب في النواهي هو الكفّ عن الفعل أو نفس تركه باطل من أصله. نعم، ربّما يكون الترك مطلوباً لاشتماله على المصلحة الداعية إلى طلبه، لكنّ ذلك يرجع إلى إيجاب الترك، وهو أجنبيّ عن تحريم الفعل كما هو ظاهر». انتهى موضع الحاجة من كلامه«. انظر: أجود التقريرات: 1: 327، الهامش رقم2، هذا. وسيأتي نقل هذا الكلام لاحقاً في المتن.

ولكنّ الحقّ: ما ذكرناه أوّلاً، من أنّ حقيقة النهي ليست سوى أنّه طلب الترك؛ ذلك لأنّ مفهوم النهي ليس إلّا طلب الترك وعدم الفعل، ولا تعلّق له بالفعل، وأمّا الانزجار عن الفعل فليس إلّا لازم إرادة ترك العمل التي هي حقيقة النهي الصادر عن المولى.

وليس هناك موجب للقول بأنّ النهي بمعنى الكفّ، بدعوى أنّ الترك هو العدم الأزليّ، وهو ليس اختياريّاً، فلا يمكن أنتتعلّق به المطلوبيّة؛ بل العدم الأزليّ - بوجهٍ من الوجوه - يُعدّ أمراً اختياريّاً؛ فإنّ القدرة إنّما تتعلّق بالعدم باعتبار بقائه، فنفس العدم الأزليّ وإن كان خارجاً عن الاختيار، إلّا أنّ إبقاءه أمر اختياريّ للمكلّف، لقدرته على كلا الطرفين، أعني: نقض الاستمرار وإبقاءه، فإنّه بمجرّد كونه قادراً على الأوّل يكون قادراً على الثاني لا محالة. وعلى هذا الأساس: فالإعراض عن مقولة أنّ النهي هو طلب الترك إلى مقولة أنّه ليس إلّا طلب الكفّ عن الفعل، بزعم عدم معقوليّة تعلّق الطلب بالترك في غير محلّه.

الأمر الثاني:

عرفنا أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فكما أنّ الأمر إنّما يتعلّق بالشيء باعتبار وجود المصلحة الملزمة فيه، فباعتبار التقابل بين الأمر والنهي، فإذا ورد النهي على شيء فإنّما يرد عليه باعتبار وجود المفسدة الملزمة فيه. فالأمر - إذاً - هو النسبة الطلبيّة الوجوديّة، والنهي هو النسبة الطلبيّة العدميّة.

ص: 173

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقيّ) من «أنّ المادّة حاكية عن وجود تلك الماهيّة، سواء كانت في الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة، والإنشائيّة سواء كانت في الأوامر أو النواهي، فلابدّ وأن يكون مفاد النهي معنىً قابلاً لأن يتعلّق بالوجود،وليس هو إلّا الزجر والردع، كما أنّه في الأمر يُسمّى ﺑ- «البعث»(1).

وكذا ما أفاده اُستاذنا الأعظم(قدس سره)في حاشيته على أجود التقريرات بقوله: «التحقيق: أنّ متعلّق النهي إنّما هو الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ عن اشتماله على المفسدة، فالنزاع في كون المطلوب في النواهي هو الكفّ عن الفعل أو نفس تركه باطل من أصله. نعم، ربّما يكون الترك مطلوباً لاشتماله على المصلحة الداعية إلى طلبه، لكنّ ذلك يرجع إلى إيجاب الترك، وهو أجنبيّ عن تحريم الفعل كما هو ظاهر»(2).

ففيه: أنّه كما أنّ الب-عث من ل-وازم الأم-ر، ولي-س نفسه، فالزجر - أيضاً - يكون من لوازم ترك الشيء، وليس نفس النهي، وبالجملة: فليسا بموضوعين للبعث والزجر؛ لأنّهما اسميّان، ومفاد الهيئة معنىً حرفيّ.

ص: 174


1- حكاه في منتهى الاُصول 1: 377، وانظر: مقالات الاُصول 1: 347، ونهاية الأفكار 2: 402.
2- أجود التقريرات 1: 327، الهامش رقم 2.

الأمر الثالث:

ذكرنا أنّ مقتضى الأمر هو طلب إيجاد الطبيعة، ومقتضى النهي هو طلب ترك الطبيعة، ويحصل الأوّل بأوّل وجودات الطبيعة، بخلاف الثاني؛ فإنّه لا يحصل إلّا بترك جميعأفرادها، والحاكم بهذا الفرق بينهما هو العقل كما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)، حيث قال - ما لفظه -:

«ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف، ولو مع وحدة متعلّقهما، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّةً والنهي أُخرى، ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فردٍ واحد، وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع، كما لا يخفى»(1).

وتوضيحه: أنّ حصول الطبيعة في الأمر يكون بمجرّد إيجاد فردٍ منها، وذلك لانطباق الطبيعة عليه قهراً؛ لأنّ وجود الفرد وجودها، فإنّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج ما هو إلّا وجود نفس الفرد، وبمجرّد وجود الفرد يكون الغرض قد حصل، وذلك موجب لسقوط الأمر.

وأمّا في طرف النهي فإنّ عدم الطبيعة متوقّف على عدم جميع أفرادها عقلاً؛ لأنّ المطلوب هو ترك الطبيعة، ولا يحصل الترك إلّا بترك جميع أفرادها، الطوليّة منها والعرضيّة، ولذا، لو أتى بفرد واحد يكون قد عصى

ص: 175


1- كفاية الاُصول: ص 149.

النهي، فيسقط بالعصيان.

هذا، ولكنّ هذا الفرض، إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المطلوب في باب النواهي إنّما هو السلب الكلّيّ، وبنحو العامّ المجموعيّ. وأمّا لو قلنا بأنّه بنحو العامّ الاستغراقيّ، بحيث يكون لكلّوجود عصيان بحقّه، ولكلّ فرد امتثال وعصيان مستقلّ، غير مربوط بعصيان أو امتثال سائر الأفراد، فمن الواضح حينئذٍ: أنّ النهي لا يسقط بمجرّد العصيان في أحد الأفراد.

وقد استشكل فيما ذكره صاحب الكفاية اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما لفظه:

«وعلى هدي ذلك البيان الإجماليّ قد ظهر أنّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطبيعة يتحقّق بأوّل الوجود، وصرف تركها لا يمكن إلّا بترك جميع أفرادها، والوجه في ذلك: هو أنّ صرف ترك الطبيعة كصرف وجودها، فكما أنّ صرف وجودها يتحقّق بأوّل الوجود، فكذلك صرف تركها يتحقّق بأوّل الترك، ضرورة أنّ المكلّف إذا ترك الطبيعة في آنٍ ما، لا محالة يتحقّق صرف الترك، كما أنّه لو أوجدها في ضمن فردٍ ما يتحقّق صرف الوجود، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّليّة». انتهى موضع الحاجة(1).

وملخّص ما أفاده(قدس سره): أنّ ما ذكره في الكفاية إنّما يتمّ لو كان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل، إذ يُقال: إنّ متعلّقه صرف الوجود، وأمّا بناءً

ص: 176


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 278 (المجلّد 45 في موسوعة الإمام الخوئيّ(قدس سره)).

على أن النهي عبارة عن طلب الترك - الذي عليه صاحب الكفاية(قدس سره)، وهو المختار - فلا يتمّ ما ذكر، إذ متعلّق الطلب هو صرف ترك الفعل، وهو - كصرف الوجود- يتحقّق بأوّل ترك، فلا يتوقّف امتثال النهي على ترك جميع الأفراد، لتحقّق صرف الترك بدونه.

وفيه:

أوّلاً: أنّه لا يمكن أن يقال بأنّ النهي موضوع للزجر؛ لأنّه - كما تقدّم - معنى اسميّ والهيئة معنىً حرفيّ.

وثانياً: سلّمنا أنّه يدلّ على الزجر بالملازمة، إلّا أنّ الوجدان شاهد على أنّ النهي لا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بترك جميع الأفراد، وهذا لا يفرّق فيه بين أن نقول بأنّ النهي هو الزجر، أو بأنّ لازمه هو الزجر، فهذا الإشكال غير واردٍ أصلاً.

وقد يُتصوّر للنهي وجه آخر، وهو فرض أنّ النهي يكون متعلّقاً بمجموع الأفراد، بحيث لو ارتكب البعض لم يحصل العصيان، ولم يخالف النهي. نعم، لو ارتكب الجميع يكون عاصياً، كما يُقال: (لا تأكل كلّ رمّانة في هذا البستان)، فبما أنّ المنهيّ عنه هنا هو أكل الجميع، فلو أكل البعض فلا محذور.

الأمر الرابع:

أنّ النهي قد يتعلّق بعنوانٍ بسيط وصفة تحصل من ممارسة الفعل المنهيّ عنه، وذلك كعنوان شارب الشاي، فإنّه لا يحصل إلّا مع المعاودة

ص: 177

والممارسة، ومثله عنوان: شارب الخمر، فلو اكتفى بشرب مقدار فقط لم يصدق عليه هذا العنوان، فيكون المقصود من قوله - مثلاً - : (لا تشربالشاي)، أي: لا تكن ممّن تعوّد شربه، فلو شرب مقداراً لم يوجب تعوّده وحدوث مثل هذه الصفة فيه ما خالف النهي، فلو خالف النهي وأتى بالعمل بالمنهيّ عنه فهل مقتضاه الاستمرار بعد المخالفة أم لا؟

ذهب صاحب الكفاية(قدس سره) إلى أنّه «لا دلالة النهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل لابدّ من تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبّر جيّداً»(1).

يعني: التمسّك بإطلاق المتعلّق من جهة العصيان، فيقال إنّ مقتضاه ثبوت النهي له مطلقاً، عصى النهي أم لم يعصِ، ويكون مقتضى هذا الإطلاق ثبوت النهي وتعلّقه بالفعل بنحو العموم الاستغراقيّ، فينحلّ إلى أفرادٍ متعدّدة بتعدّد أفراد الفعل، فإذا عصى أحدها بقي الآخر على حاله.

ثمّ هل هناك فرق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة؟

لا يخفى: أنّ إطلاق الاستمرار والدوام الكاشفين عن المفسدة، على الإطلاق، أو بنحو التقييد، وأنّ الحكم بالاستمرار، سواء استفيد من

ص: 178


1- كفاية الاُصول: ص 150.

الوضع أو الخارج، فإنّما هو فيما إذا تعلّق النهي بمطلق الطبيعة، حيث إنّ عدم هذه الطبيعة متوقّف على ترك جميع الأفراد، بلا فرق بين أن تكون عرضيّة أو طوليّة، وأمّا إذا كان النهي وارداً علىالطبيعة المقيّدة بزمانٍ أو حال، فإنّ الاستمرار يكون منوطاً بذلك الزمان أو الحال.

وهذا - كما تقدّم - هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره) الذي رأى أنّه لا يستفاد من صيغة النهي إلّا ترك الطبيعة، سواءً كانت مطلقة أو مقيّدة. وأمّا ترك جميع الأفراد، فيفهم من العقل، لا من الصيغة، على أنّه لو عصى الفرد الأوّل فيحرم عليه الفرد الثاني والثالث، وهكذا... ولا دلالة للصيغة على عدم حرمة الفرد الثاني والثالث، وهكذا... بل لا يفهم سقوط النهي بمجرّد عصيانه أوّلاً.

والحقّ: عدم دلالة نفس الطبيعة على كلّ فرد فرد حتى يكون من العامّ الاستغراقيّ، بل إنّما يفهم ترك جميع الأفراد بحكم العقل، وأمّا الصيغة فلا دلالة لها على حرمة الجميع.

وقد يُقال: بأنّ إرادة الترك وعدمه إنّما تفهم من دليلٍ آخر، كالإجماع أو الضرورة أو غيرهما، ولو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، ببيان أنّه لو كان متعلّق النهي مختصّاً ببعض الأفراد لنبّه عليه، وإلّا، لكان مخلّاً بالغرض، وبما أنّه في مقام البيان، لا الإجمال والإهمال، فعدم تخصيصه ببعض الأفراد دون بعض، يدلّ على أنّ مراده هو الطبيعة على نحو الوجود الساري، ومعه: يكون المطلوب هو ترك كلّ الوجودات، بحيث

ص: 179

لو عصيت في فرد لم يسقط التكليف عن بقيّة الأفراد، بل تكون الحرمة باقية بالنسبة إلى البقيّة.

وهذا، وإن كان ينسجم مع ما ذكره صاحب الكفاية) في مبحث النواهي، إلّا أنّه لا ينسجم مع ما ذكره في مبحثالمطلق والمقيّد من أنّ استفادة الاستغراق وغيره إنّما تنشأ من قرينة خاصّة، وليست هي مفاد الإطلاق، فإنّ مفاد مقدّمات الحكمة ليس إلّا إرادة ذات الطبيعة من غير تقييد، فلاحظ مبحث المطلق والمقيّد من الكفاية(1).

وقد استدلّ اُستاذنا الأعظم(قدس سره) في حاشيته على أجود التقريرات بهذا البيان: على أنّ امتثال النهي لا يكون إلّا بترك جميع الأفراد، وهذا الشيء هو الفارق بين الأمر والنهي. قال): «قد عرفت آنفاً أنّ ما تعلّق به النهي هو بعينه متعلّق الأمر، غاية الأمر: أنّ النهي عنه يكون زاجراً عنه، والأمر به يكون باعثاً إليه، فلا يبقى لدعوى أنّ متعلّق النهي هو صرف ترك الطبيعة ولذا لا يتحقّق امتثاله إلّا بترك جميع أفرادها مجال أصلاً، هذا مع أنّ صرف الوجود كما يتحقّق بأوّل وجود من الوجودات، كذلك صرف الترك، يتحقّق بأوّل ترك من التروك، فما يكون هو الفارق بين الأمر والنهي»(2).

ص: 180


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 247.
2- أجود التقريرات 1: 328، الهامش رقم 1.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني(قدس سره) فرّق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، ببيان: «أنّ ترك الطبيعة تارةً يكون مطلوباً استقلالاً وملحوظاً بنحو المعنى الاسميّ، بأن يكون المطلوب خلوّ صحيفة الوجود عن تلك الطبيعة، فيكون ترك الأفراد - حينئذٍ - ملازماً للمطلوب، لا نفسه. وأُخرى: يكون مرآةًوبنحو المعنى الحرفيّ، توصّلاً به إلى طلب ترك أفرادها، فالمطلوب في الحقيقة هو ترك نفس تلك الأفراد، ويلزمه خلوّ صحيفة الوجود عن الطبيعة، ويتفرّع على الأوّل أنّه إذا عصى النهي بإيجاد فردٍ من تلك الطبيعة سقط النهي، ولا يبقى لامتثاله بعده مجال أصلاً، وأمّا على الثاني: فعصيان النهي بإيجاد بعض أفراد المنهيّ عنه لا يوجب سقوطه عن غيره من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها؛ لأنّ النهي إذا كان انحلاليّاً، وكان كلّ فرد من أفراد المنهيّ عنه محكوماً بحكم مستقلّ، فسقوط النهي في بعض الأفراد لا يوجب سقوطه في غيره»(1).

ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ هناك - كما ذكره الاُستاذ الأعظم) - قسماً آخر، وهو تعلّق الطلب بمجموع التروك، فيكون ترك كلّ فردٍ في هذا القسم جزءاً من المطلوب، لا نفسه، ولا جزء ما يلازمه(2).

وكيف كان، فقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) أنّ «هذا القسم [يعني: القسم

ص: 181


1- أجود التقريرات 1: 329.
2- راجع: المصدر نفسه، الهامش رقم 1.

الثاني] هو الغالب في موارد النهي، سواء كان له موضوع خارجيّ تدور فعليّة الحكم مدار فعليّته، كما في (لا تشرب الخمر)، أم لم يكن له ذلك، بل كان المتعلّق للنهي فعل المكلّف الذي لا تعلّق له بموضوع خارجيّ، كما في (لا تكذب)؛ لأنّ الغالب أنّ النهي ينشأ عنالمفسدة في متعلّقه، فلا محالة يشترك جميع الأفراد في تلك المفسدة، وذلك يستلزم انحلال النهي إلى نواهٍ متعدّدة بتعدّد أفراد الطبيعة المنهيّ عنها، من دون فرق في ذلك بين كون ترك الطبيعة مطلوباً نفسيّاً، كما في المثالين المتقدّمين، وكونه مطلوباً غيريّاً، كما في النهي عن الصلاة في النجس؛ لأنّ النهي في كلا المقامين ظاهر في الانحلال، وأنّ الطلب النفسيّ أو الغيريّ متعلّق بترك كلّ فردٍ فرد، لا بترك نفس الطبيعة بنحو المعنى الاسميّ»(1).

ثمّ إنّه(قدس سره) فرّق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، فقال:

«ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ النهي بالنسبة إلى الأفراد العرضيّة، وهي الأفراد التي يمكن للمكلّف إيجاد كلّ واحد منها فعلاً، إنّما هو بأخذ ترك الطبيعة حال تعلّق الطلب به فانياً في معنوناته، التي هي عبارة عن ترك كلّ واحدٍ واحد من الأفراد الخارجيّة، وأمّا انحلال النهي بالنسبة إلى الأفراد الطوليّة وبقاؤه في الآن الثاني بعد امتثاله في الآن الأوّل، فهو إنّما يمكن بأحد وجهين:

ص: 182


1- المصدر نفسه.

الأوّل: أن يؤخذ الزمان في ناحية المتعلّق، بأن يكون شرب الخمر في كلّ زمان - مثلاً - محكوماً بالحرمة، فيكون الشرب في الآن الثاني حراماً، وإن امتثل النهي في الزمان الأوّل بترك تمام أفراد الطبيعة.الثاني: أن يؤخذ الزمان في ناحية الحكم، بأن يكون الحكم المتعلّق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة اللّاحقة، وبما أنّه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية المتعلّق، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما، كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً».

ثمّ استشكل على نفسه قائلاً:

«فإن قلت: إنّ ما ذكرته من ثبوت الحكم وبقائه في الآن الثاني كثبوته في الآن الأوّل ينافي ما أفتى به الفقهاء في باب النذر من أنّه إذا تعلّق النذر بترك فعل، كشرب التتن ونحوه، فحرمته تسقط بمجرّد تحقّق العصيان آناً ما، فلا يحرم النذر وعلى الناذر شربه بعد ذلك. نعم، لو قصد الناذر ترك شربه في كلّ آنٍ، بنحوٍ يكون الزمان قيداً للموضوع، لبقي الحكم بعد تحقّق الحنث أيضاً».

وأجاب(قدس سره):

«قد عرفت أنّ استمرار الحكم وبقاءه إنّما هو بدليل الحكمة، ودليل الحكمة في المقام إنّما يجري قبل تحقّق الحنث، وأمّا بعده فلا مقتضي لبقاء الحكم أصلاً؛ لأنّ المفروض أنّ الحرمة لم تنشأ عن مفسدة في شرب التتن ليشترك فيها جميع أفراده العرضيّة والطوليّة، بل الحرمة إنّما

ص: 183

نشأت عن مفسدة في الحنث، فإذا تحقّق في الخارج لم يبقَ مقتضٍ لبقاء الحكم واستمراره بعده، وهذاهو الفارق بين موارد النذر وموارد النواهي الناشئة من المفاسد المتحقّقة في نفس متعلّقاتها»(1).

ولكن لا يخفى: أنّ في كلامه(قدس سره) مواضع للنظر:

منها: أنّه لا فرق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، فإنّ الطبيعة المنهيّ عنها إذا كانت مطلقة وغير مقيّدة بزمان خاصّ، كان مقتضى إطلاقها هو وجوب تركها في كلّ آنٍ من الآنات، وأنّها غير مختصّة بآنٍ دون آن، فتكون الأفراد الطوليّة كالعرضيّة منهيّاً عنها بلا فرق في ذلك أصلاً.

ومنها: أنّ النذر يتبع في وجوب وفائه قصد ناذره، فقد يكون مراد الناذر هو ترك الفعل بنحو العامّ الاستغراقيّ، فحينئذٍ: حتى لو حنث في بعض الأفراد، فيجب عليه الوفاء بنذره بالنسبة إلى بقيّة الأفراد، وأمّا إذا كان قصده ترك الفعل بنحو العامّ المجموعيّ، فلم يبقَ لوجوب الوفاء بعد الحنث ولو مرّةً واحدةً محلّ أصلاً، ويسقط الطلب، ولو شكّ الناذر بعد نذره في كيفيّته، فأصالة البراءة عن الزائد على وجوب واحد تقتضي جواز إيجاد الفعل بعد تحقّق الحنث بارتكاب ذلك الفعل مرّةً واحدة.

إلى غير هذين من الإشكالات، فليتأمّل.

ص: 184


1- المصدر نفسه: ص 329 - 331.

مسألة اجتماع الأمر والنهي

اشارة

يقع الكلام في هذه المسألة في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه، وقبل الدخول في البحث ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّ النزاع هنا صغرويّ وليس بكبرويّ، وإن أوهم العنوان ذلك؛ إذ من المسلّم والمفروغ عنه أنّ الأحكام متضادّة فيما بينها، وبعد فرض تضادّ الأحكام، فلا معنى للقول بالجواز، بل هو غير قابل للنزاع.

فما عنون به القوم النزاع بأنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين أو لا، تبعاً لغيرهم من المتقدّمين، ليس على ما ينبغي، وإنّما النزاع في أنّه هل يلزم من تعلّق النهي والأمر المطلقين بطبيعتين متضادّتين في مورد واحد اجتماع الأمر والنهي، حتى يجب

ص: 185

تقييد أحد المطلقين بالآخر؟ أو لا يلزم ذلك، بل يمكن أن يتعقّل للأمر محلّ وللنهي محلّ، ولو اجتمعا في مصداق واحد وكان بينهما عموم وخصوص من وجه؟

وبعبارة أُخرى: النزاع صغرويّ، وهو أنّه هل أنّ المسألة من صغريات باب التعارض باعتبار اجتماع الضدّين فيمورد واحد، حتى لا يمكن مثل هذا الجعل والتشريع، أو لا يلزم ذلك، حتى يكون من باب التزاحم ويكون حكمه حكم المتلازمين المختلفين في الحكم إذا كان التلازم اتّفاقيّاً؟

الأمر الثاني:

المراد بالواحد الذي وقع في عنوان هذا البحث أعمّ من أن يكون واحداً شخصيّاً، كما إذا اجتمع العنوانان: الصلاة والغصب في خصوص صلاة زيد في المغصوب؛ فإنّ هذه الحركات الخاصّة تكون - حينئذٍ - تصرّفاً في المغصوب؛ لامتناع صدق هذه الحركة الشخصيّة على كثيرين فتكون - لا محالة - جزئيّة، ويصحّ حمل كلّ من الصلاة والغصب عليها أيضاً، أم كلّيّاً، كالصلاة في المكان المغصوب، حيث إنّها مصداق لطبيعتين، وهما: الصلاة والغصب، بحيث يصحّ حمل كلٍّ منهما على الحركات الصلاتيّة الواقعة في المغصوب.

ومن المعلوم: أنّ الصلاة في المغصوب كلّيّ ينطبق على أفراد كثيرة، كصلاة زيدٍ وعمرو وغيرهما فيه، فهذه الحركات من حيث إنّها

ص: 186

مصداق للصلاة تكون محبوبة، ومن حيث إنّها مصداق للغصب تكون منهيّاً عنها.

قال في الكفاية(قدس سره): «المراد من الواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر وبالآخر للنهي، وإن كان كلّيّاً مقولاً على كثيرين، كالصلاة في المغصوب، وإنّما ذكر لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمروالنهي ولم يجتمعا وجوداً، ولو جمعهما واحد مفهوماً، كالسجود للّه تعالى والسجود للصنم - مثلاً -، لا لإخراج الواحد الجنسيّ أو النوعيّ كالحركة والسكون الكلّيّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة»(1).

وقد يستشكل فيما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بما حاصله:

أنّه لا معنى لأن يفرض الواحد في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود، إذ إنّ القول بالامتناع يبتني على وحدة الوجود، والقول بالجواز يبتني على تعدّده، فكيف يفرض إرادة الواحد في الوجود في العنوان الذي يكون موضوع النفي والإثبات وموضوع القول بالجواز والقول بعدمه؟

وقد التزم المحقّق النائيني(قدس سره) بأنّ المراد بالواحد هو الواحد بالإيجاد، لا الواحد بالوجود، وهو لا يستلزم وحدة الوجود، إذ يمكن تحقّق

ص: 187


1- كفاية الاُصول: ص 150.

وجودين بإيجادٍ واحد، كإيجاد الحركة الغصبيّة الصلاتيّة، فإنّه يحقّق وجود الصلاة ووجود الغصب، فيقع البحث في أنّه في موردٍ يوجد متعلّق الأمر والنهي بإيجاد واحد، هل الوجود واحد فيمتنع الاجتماع، أو متعدّد فيجوز(1)؟

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الإيجاد والوجود مختلفان ذاتاً، وأمّا بناءً على ما قرّر في محلّه من أنّهما متّحدان ذاتاًمختلفان مفهوماً واعتباراً، فيمتنع أن يفرض وحدة الإيجاد وتعدّد الوجود.

وممّا ذكرنا يظهر: فساد ما صنعه صاحب الفصول(قدس سره)، حيث خصّ المورد بالواحد الشخصيّ، فقال):

«الوحدة قد تكون بالجنس، وهذا ممّا لا ريب في جواز الاجتماع فيه في الجملة، كالسجود، حيث اجتمع فيه الأمر والنهي باعتبار إيقاعه له تعالى وللصنم.. إلى أن يقول: وقد تكون الوحدة بالشخص، وحينئذٍ: فإن اتّحدت الجهتان، أعني: الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهيّ عنها، أو تغايرتا وانحصرت أفراد النوع الأوّل في الثاني ولو اتّفاقاً، أو تعلّقتا بجزئيٍّ ابتداء، وما جرى مجرى ذلك، فلا ريب في عدم جواز الاجتماع فيه.. إلى قوله: وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال، فهو موضع النزاع».. هذا موضع الحاجة من كلامه«(2).

ص: 188


1- انظر: أجود التقريرات 1: 340.
2- الفصول الغرويّة: ص 124.

وجه الفساد: أنّ خروج هذه المسألة، وهي السجود ﷲ تعالى والسجود للصنم، عن محلّ البحث تخصّصيّ؛ إذ لا تصادق - أصلاً - بين السجود للّه والسجود للصنم، ومحلّ البحث إنّما هو ما إذا كان هناك فرد واحد وقد أصبح هذا الفرد مصداقاً لعنوانين، فلو لم يكن كذلك، كان خارجاً عن محلّ النزاع تخصّصاً وموضوعاً، وهنا كذلك، فحيث لم يتصادق السجودان على فردٍ واحد، كان بينهما تمام التباين،وكانا غير قابلين للاتّحاد. نعم، هما يتّحدان بحسب المفهوم، ولكنّ هذا غير مفيد، إذ المفيد إنّما هو الاتّحاد من ناحية المصداق.

الأمر الثالث:

ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة؟

الحقّ: أنّ هناك فرقاً بينهما، فإنّ مسألة الاجتماع يبحث فيها عن أنّ متعلّق النهي هل هو عين متعلّق الأمر أم لا؟ أي: هل تعدّد الجهة يوجب تعدّد المتعلّق حتى تخرج المسألة عن الواحد الذي يمتنع الاجتماع فيه، فإذا ورد الأمر على طبيعة الصلاة والنهي على طبيعة الغصب، فهل موردهما واحد، فيسري كلّ منهما من متعلّقه إلى متعلّق الآخر أم لا؟

وأمّا مسألة النهي في العبادة فالمبحوث عنه فيها هو أنّ النهي في العبادة هل هو موجب للفساد أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّ متعلّق الأمر والنهي واحد.

ص: 189

وأمّا ما قد يُقال: من أنّ الفرق بين المسألتين هو أنّ النزاع في مسألة الاجتماع عقليّ، وأمّا في تلك المسألة فلفظيّ.

ففيه: أنّ هذا لا يصلح لأن يكون فارقاً؛ بل إنّما يكون هناك فرق بينهما فيما إذا رجع البحث إلى تعدّد الجهة وعدمه، وأمّا إذا لم يرجع إلى ذلك فلا يكون هناك فارق، بل لا يكون هذا إلّا من التفصيل في حيّز المسألة الواحدة، كأن يقال: بأنّه إمّاأن يجوز الاجتماع عقلاً وإمّا أن لا يجوز؛ وإمّا أن يدلّ النهي لفظاً على الحرمة أو الفساد، أو أن يدلّ الأمر لفظاً على الصحّة والوجوب، وإما أن لا يدلّ.

أضف إلى ذلك: أنّ مسألة اقتضاء النهي للفساد ليست مختصّة بالدلالة اللّفظيّة، بل يمكن استفادتها من الإجماع وغيره، بأنّ يقال - مثلاً -: الحرمة المستفادة من الإجماع هل تقتضي الفساد أم لا؟

الأمر الرابع:

اشارة

هل هذه المسألة اُصوليّة أم أنّها من المبادئ الأحكاميّة أم المسائل الكلاميّة أم المبادئ التصديقيّة أم من المسائل الفرعيّة؟

ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) أنّه «يمكن أن تكون المسألة كلاميّة باعتبار أنّها يبحث فيها عن استحالة اجتماع الحكمين في موردٍ واحد وجوازه، وبما أنّ الأمر والنهي من الاُمور الواقعيّة، يصحّ البحث عن امتناع اجتماعهما وجوازه»(1).

ص: 190


1- أجود التقريرات 1: 332.

وفيه:

أوّلاً: ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره)من أنّ «المسائل الكلاميّة وإن كانت مسائل عقليّة، إلّا أنّه ليس كلّ مسألة عقليّة يتكلّمفيها عن الاستحالة والإمكان مسألة كلاميّة، وذلك ظاهر لا يكاد يخفى»(1).

وثانياً: أنّ المسائل الكلاميّة ليست عقليّة بأجمعها، بل قسم منها عقليّ، وقسم منها ضروريّ، إمّا من ضروريّات الدين أو المذهب، وقسم منها يثبت بنصّ كتاب أو بنصٍّ متواتر أو بإجماع قطعيّ أو بخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة.

وثالثاً: على فرض التنزّل، فنقول: ليس كلّ مسألة يبحث فيها عن الاستحالة والإمكان وتكون مسألة عقليّة تخرج عن كونها من المسائل الاُصوليّة.

ثمّ قال المحقّق النائيني): «ويمكن أن تكون المسألة فرعيّة باعتبار أنّه يُبحث فيها عن صحّة الإتيان بالمجمع وحصول الامتثال به وعدمها»(2).

وفيه: أنّ البحث عن صحّة عبادة أو معاملة، كالبحث عن صحّة الصلاة في المغصوب - مثلاً - وعدمها، أو عن وجوب إعادتها أم لا، وإن كان من الأبحاث الفقهيّة، إلّا أنّ البحث في المقام ليس بحثاً عن صحّة العبادة وفسادها؛ لأنّ البحث في محلّ الكلام متمحّض في لزوم

ص: 191


1- نفس المصدر، الهامش رقم 2.
2- أجود التقريرات 1: 332 - 333.

اجتماع الحكمين في فعلٍ واحد وعدم لزومه، وأمّا الحكم بصحّة العبادة على القول بالجواز فهو ثمرة من ثمراته، لا أنّه بنفسه هو محلّ الكلام في المقام.ثمّ قال المحقّق النائيني(قدس سره): «ويمكن أن تكون المسألة من المبادئ الأحكاميّة باعتبار أنّه يبحث فيها عن استلزام حرمة الشيء ووجوبه لعدم الآخر وعدم استلزامه له، فيكون البحث فيها نظير البحث عن استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّمته أو لحرمة ضدّه، غاية الأمر: أنّ البحث فيهما عن لازم حكمٍ واحد، وفيما نحن فيه عن لازم حكمين»(1).

وفيه: أنّه بعد أن ثبت أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة قطعاً، فكلّ واحد من هذه الأحكام يستلزم عدم غيره، وليس ذلك محلّ الكلام هنا أصلاً، وإنّما البحث هنا - كما عرفنا - في لزوم اجتماع الحكمين في فعلٍ واحد وعدم لزومه.

ثمّ خلص المحقّق النائينيّ) إلى القول بأنّ «التحقيق: أنّ المسألة من المبادئ التصديقيّة [والمراد بها - كما هو معلوم - المسائل التي تبتني عليها المسائل الاُصوليّة] ضرورة أنّه لا يترتّب فساد العبادة على القول بالامتناع، بل القول به يوجب دخول دليلي الوجوب والحرمة في باب التعارض وإجراء أحكامه عليهما ليستنبط من ذلك حكم فرعيّ، وقد

ص: 192


1- أجود التقريرات 1: 333.

عرفت فيما تقدّم: أنّ الميزان في كون المسألة اُصوليّة هو ترتّب نتيجة فرعيّة عليها بعد ضمّ صغرى نتيجة تلك المسألة إليها، وليس ذلك متحقّقاً فيما نحن فيه قطعاً، وعليه: فالنزاع في الجهة الأُولى يدخل في مبادئ بحثالتعارض، كما أنّ النزاع في الجهة الثانية يدخل في مبادئ بحث التزاحم»(1).

ولكنّ الصحيح: أنّ هذه المسألة اُصوليّة؛ لأنّ المسألة الاُصوليّة إنّما هي المسألة التي تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الشرعيّ، وهو ما ينطبق على المقام، والبحث فيها بحث عن كفاية تعدّد الجهة أو عدم كفايتها.

ومن هنا ظهر الحال في ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بقوله: «أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الاُصوليّة، لا من مبادئها الأحكاميّة ولا التصديقيّة ولا من المسائل الكلاميّة ولا من المسائل الفرعيّة، وإن كانت فيها جهاتها كما لا يخفى، ضرورة أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أُخرى يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال - حينئذٍ - لتوهّم عقدها من غيرها في الاُصول، وإن عقدت كلاميّة في علم الكلام، وصحّ عقدها فرعيّةً أو غيرها بلا كلام، وقد عرفت في أوّل الكتاب أنّه لا ضير

ص: 193


1- أجود التقريرات: 1: 333 - 334.

في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهةٍ خاصّة من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأُخرى من آخر، فتذكّر»(1).فإنّ البحث فيها ليس عن جهاتٍ متعدّدة، كما أنّ ضابطة المسألة الاُصوليّة، وهي وقوعها كبرى لقياسٍ يستنتج منه الحكم الكلّيّ الشرعيّ، متوفّرة فيها.

ثمّ هل تُعدّ هذه المسألة من المسائل العقليّة أم لا؟

الظاهر: أنّها من المسائل العقليّة؛ لأنّ الحاكم فيها إنّما هو العقل، فإنّه هو الذي يحكم بالاستحالة إذا رأى أنّ المجمع في مورد التصادق واحد. وقد يحكم بالجواز، إذا رأى التعدّد، وإن كان العرف يرى الوحدة؛ لأنّ بناء العرف غالباً - كما هو معلوم - على المسامحة، وإلّا، فبالمداقّة العقليّة قد يرى العقل التعدّد؛ لأنّ متعلّق الأمر في نظره يكون طبيعةً مغايرةً للطبيعة التي هي متعلّق النهي.

وبما أنّ الحاكم في مسألة الاجتماع هو العقل، فلا يُفَرّق فيها بين أن يكون الدليل الدالّ عليهما، هو اللّفظ، أو غيره، كالإجماع والضرورة، فإنّ هذا لا يُغيّر من واقع كون المسألة العقليّة شيئاً.

ومن هنا ظهر: فساد القول المنسوب إلى المحقّق الأردبيليّ(قدس سره) في

ص: 194


1- كفاية الاُصول: 152.

شرح الإرشاد(1)، وهو التفصيل بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً، بمعنى: أنّ اللّفظ يدلّ عرفاً على الامتناع، وهذه الدلالة تكشف عن كون النزاع في دلالةالأمر والنهي على الجواز وعدمه، وهما ظاهران في الطلب بالقول، فتكون المسألة لفظيّةً أيضاً، إذ لو كانت عقليّة محضة، لم يكن وجه للامتناع العرفيّ الذي مرجعه إلى ظهور اللّفظ في الامتناع.

إذ فيه:

أوّلاً: أنّ المقام ليس من الموارد التي يناط فهمها إلى العرف؛ فإنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في تعيين سعة المفهوم وضيقه، وأمّا في محلّ البحث، وهو كفاية تعدّد الجهة وعدمها، بحيث يسري النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر أو لا يسري، فهذا ليس من شأن العرف، بل الحاكم به إنّما هو العقل.

وثانياً: على فرض التنزّل، فليس فهم العرف من جهة دلالة اللّفظ حتى تكون المسألة لفظيّة.

نعم، يمكن أن توجّه دعوى التفصيل بالتوجيه التالي، وهو أن يُقال: بما أنّ فهم العرف مبنيّ على المسامحة غالباً - بل دائماً - فهو يرى الواحد ذو الجهتين، كالصلاة في المغصوب، شيئاً واحداً، وأمّا العقل فبما أنّه

ص: 195


1- نسبه إليه في شرح الإرشاد 2: 110، وفي مطارح الأنظار 1: 611، ثمّ قال بعد أسطر: «وقد يُنسب ذلك إلى فاضل الرياض(قدس سره) أيضاً، وكأنّه مسموع منه شفاهاً».

مبنيّ على المداقّة، فهو يراه شيئين؛ لأنّ ما تعلّق به الأمر - في نظره - مغاير لما تعلّق به النهي، فيجوز الاجتماع في نظره، دون نظر العرف.

وبعبارة أُخرى: فالواحد ذو الوجهين بالنظر العقليّ اثنان، وأمّا بالنظرالعرفيّ فهو واحد، ومن هنا يُحكم بالامتناع عرفاً.

فإن لم يكن مراد المفصّل ما ذكرناه من الامتناع العرفيّ، الذي مرجعه إلى كون الواحد ذي الوجهين واحداً بنظرالعرف، لم يكن للامتناع العرفيّ معنىً محصّل؛ لأنّ امتناع اجتماع الضدّين حكم عقليّ، فلا معنى لجوازه عقلاً وامتناعه عرفاً.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ معناه المحصّل دلالة كلٍّ من الأمر والنهي على عدم صاحبه، فالأمر يدلّ على اتّصاف متعلّقه بالمحبوبيّة المحضة، والنهي يدلّ على اتّصاف مبغوضيّة متعلّقه كذلك، ومن المعلوم: امتناع اجتماعهما في واحد؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين، وهما المطلوبيّة وعدمها، والمبغوضيّة وعدمها.

وخلاصة الكلام: أنّ مسألتنا هذه تعدّ من المستقلّات غير العقليّة، شأنها في ذلك شأن بقيّة المسائل التي تكون من هذا القبيل، كمسألة مقدّمة الواجب، والمراد بغير المستقلّات العقليّة المسائل التي تكون إحدى مقدّمتيها غير عقليّة والأُخرى عقليّة، في قبال المستقلّات، وهي التي تكون كلتا مقدّمتيها عقليّة، كحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه، ثمّ حكمه بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

ص: 196

فالثاني هو الذي يحكم العقل بوجوبه، كحكمه بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها، فهذه مقدّمة عقليّة صرفة، ولكن ينضمّ إليها حكم الشرع بوجوب ذي المقدّمة، وإنّما عبّر عنها بالمقدّمة العقليّة تغليباً لجانب العقل. فالعقل هنا مستقلّ بالحكم، والحاكم هو وحده؛ لأنّه هو الذي يدرك الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، وهو - أيضاً - الذي يحكم بالاستحالة.وليس المراد من كون المسألة من غير المستقلّات أنّ العقل لا يحكم على نحو الاستقلال، بل المراد أنّه يحتاج إلى ضمّ مقدّمة أُخرى غير المقدّمة العقليّة التي حكم بها هو باستقلاله حتى تحصل النتيجة.

الأمر الخامس:

لا يخفى: أنّ النزاع هنا يشمل جميع موارد الأمر والنهي، بلا فرق بين أن يكون الأمر والنهي نفسيّين أو غيريّين.

وقد ذكر ذلك صاحب الكفاية(قدس سره)، كما تعرّض إلى أنّه قد يدّعى انصراف لفظ الأمر والنهي المأخوذين في عنوان المبحث إلى خصوص النفسيّين التعيينيّين العينيّين. ثمّ حكم عليها بأنّها دعوى تعسّفيّة في مادّة الأمر والنهي. نعم، هي غير بعيدة في صيغة الأمر والنهي، ثمّ منعها فيها أيضاً، وذكر أنّ الثابت ظهور الصيغة في ذلك بالإطلاق، وهو غير منعقد هنا؛ لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة، إذ القرينة على العموم ثابتة، وهي

ص: 197

عموم الملاك وجريان النقض والإبرام في جميع الأقسام.

وإليك نصّ كلامه«:

«لا يخفى: أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم، كما هو قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي، ودعوى الانصراف إلى النفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما غير خالية من الاعتساف، وإن سُلّم في صيغتهما. مع أنّه فيها ممنوع.نعم، لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة الغير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام...» إلى آخر كلامه)(1).

وبالجملة: فإذا قلنا باستحالة الاجتماع، وبلزوم اجتماع الضدّين بعد التسليم بفرض وحدة المجمع، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيّين فيه، فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريّين، فكما أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً نفسيّاً وحراماً نفسيّاً إذا كان المتعلّق واحداً؛ لامتناع أن يكون الشيء الواحد مصداقاً للمأمور به والمنهيّ عنه معاً، فكذلك لا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً غيريّاً وحراماً غيريّاً؛ لأنّ تعلّق الأمر الغيريّ به يعني وجوب إتيانه مقدّمة للغير، وتعلّق النهي الغيريّ به يعني النهي عن فعله مقدّمة للغير، فيلزم أن

ص: 198


1- كفاية الاُصول: ص 152 - 153.

يكون شيء واحد محبوباً باعتبار أنّه مقدّمة لشيء، ومبغوضاً باعتبار أنّه مقدّمة لذلك الشيء، ومحال أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهيّ عنه معاً، ولو كانا غيريّين.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ كون شيءٍ مقدّمة لواجب يقتضي محبوبيّته، كما أنّ كونه مقدّمة لحرام يقتضي مبغوضيّته، ومن المعلوم أنّه لا يمكن تأثير كلٍّ منهما في مقتضاه، كما أنّهلا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة في تحريم شيء واحد وحرمته معاً.

وأيضاً: لا يفرّق بين أن يكون الوجوب والحرمة على نحو العينيّة أو على نحو الكفائيّة، فإنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيّين؛ لوضوح أنّه لا يمكن أن يكون في فعلٍ واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثّر كلّ منهما في مقتضاه، من دون فرق بين أن يكون المكلّف بهما آحاد المكلّفين، كما في التكاليف العينيّة، أو الطبيعيّ الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائيّة.

وأمّا لو كان الوجوب والحرمة تعيينيّين فعدم إمكان الاجتماع واضح، وكذا لو كانا تخييريّين، فقد ذكرنا أنّه لا فرق بين الواجب التعيينيّ والتخييريّ، وإنّما الكلام في التخييريّ في أنّ الواجب ليس واحداً على نحو التخيير، أي الواحد المردّد، بل يكون كلّ واحد من الأفراد واجباً بخصوصه، فإذا أتيت بأحدهما يسقط الأمر، لعدم بقاء الموضوع.

ذكر اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أنّه لا يمكن «اجتماع الوجوب والحرمة

ص: 199

التخييريّين في شيءٍ واحد ليقع التنافي بينهما. والوجه فيه هو: أنّ الحرمة التخييريّة تمتاز عن الوجوب التخييريّ في نقطة واحدة، وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شيء واحد، وهي: أنّ مردّ الحرمة التخييريّة إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع، لا بالجامع بينهما، وإلّا، لكان كلّ من الفعلينمحرّماً تعييناً، لفرض أنّ النهي المتعلّق بالجامع ينحلّ بانحلال أفراده، فيثبت لكلّ فرد منه نهي مستقلّ»...

إلى أن يقول:

«ومردّ الوجوب التخييريّ إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء، لا إلى إيجاب كلٍّ منهما بخصوصه، كما تقدّم بيان ذلك في بحث الواجب التخييريّ بشكلٍ واضح، وبعد ذلك نقول: إنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما، لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى»(1).

أمّا بحسب المبدأ؛ فلأنّه لا مانع من أن يكون لكلّ واحد منهما مصلحة ملزمة قائمة به، بحيث لو أتى بأحدهما لاستوفى تلك المصلحة، ولم يبقَ بعد ذلك مصلحة وحكم حتى يمكن استيفاؤها بالإتيان الآخر، وأن يكون هناك مفسدة ملزمة قائمة بالمجموع منهما؛ فإنّ المصلحة الملزمة حينئذٍ تكون قائمة بالجامع بينهما، والمفسدة الملزمة تكون قائمة بالمجموع

ص: 200


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 385 - 386.

منهما، ومعلوم أنّ المانع إنّما هو قيام كلتيهما في شيءٍ واحد، لا قيام إحداهما بشيء والأُخرى بشيءٍ آخر، وهذا واضح.

وأمّا بحسب المنتهى؛ فلفرض أنّ المكلّف قادر على امتثال كلا التكليفين معاً؛ لأنّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر، فقد امتثل كلّاً من الوجوب والحرمة.والحاصل: أنّنا نفهم من عموم الملاك وإطلاق الأمر والنهي في العنوان أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تشمل جميع أقسام الإيجاب والتحريم، باستثناء الواجب والحرام التخييريّين؛ خلافاً لصاحب الكفاية) الذي رأى أنّ البحث يأتي حتى فيهما.

ثمّ إنّه قد يُدّعى الانصراف إلى النفسيّين والعينيّين والتعيينيّين، وأنّ هذا يفهم من الإطلاق بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ غير هذه الثلاثة يحتاج إلى مؤونة زائدة، كما هو مقرّر في محلّه، فعدم البيان يكون كاشفاً عن عدم إرادة غيرها.

ولكن قد عرفنا أنّ هناك قرينة، وهي عموم الملاك، فتكون هذه القرينة مانعة من الأخذ بالإطلاق؛ لأنّها بيان، ومعلوم أنّ الأخذ بالإطلاق منوط بعدم البيان.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الحكم الذي يرد على الطبيعة إنّما يرد عليها لا باعتبار أنّها موجودة، أي مقيّدة بالقيد الذهنيّ؛ لأنّ الذي يكون كذلك من المحال أن يوجد في الخارج، بل يكون من قبيل الكلّيّ العقليّ الذي

ص: 201

لا موطن له إلّا العقل، ولا ينطبق على الخارج، بل لو أوجد هذه الطبيعة في الذهن مرّتين فبما أنّها مقيّدة بالوجود الذهنيّ فهي في كلّ مرّة مباينة للأُخرى، بلا فرق بين أن تكون من المفاهيم المتأصّلة، أي: التي لها ما بإزاء في الخارج، كمفهوم الإنسان، أو من المفاهيم الاعتباريّة، كالملكيّة، أو الانتزاعيّة، كالفوقيّة والتحتيّة.

هل تتعلّق الأحكام بالطبائع أم بالأفراد؟

فإذا عرفت هذا، يقع الكلام في أنّ الأحكام هل تتعلّق بالطبائع أم بالأفراد؟

وقبل الدخول في البحث نتكلّم في أنّ الكلّيّ الطبيعي هل هو قابل للوجود في الخارج أم لا؟ وعلى هذا هل هو وجوده عين وجود أفراده أو أنّه يوجد بوجود أفراده؟ فالنزاع في وجود الطبيعيّ في الخارج أو عدم وجوده فيه إنّما هو في هذه النقطة، ضرورة أنّه - وكما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) -:

«لم يدّعِ أحد أنّه موجود في الخارج بوجود مباين لوجود فرد، كما أنّ القول بأنّه موجود بوجود واحد لا بعينه باطل من رأسه، ضرورة أنّ الواحد بعينه لا مصداق له في الخارج ولا تعيّن له، والوجود له تعيّن ومصداق فيه، ففرض وجوده خارجاً يناقض فرض عدم تعيّنه فيه، فلا يجتمعان»(1).

ص: 202


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 194.

فإذا عرفت هذا، فالنزاع الذي وقع بينهم في أنّ الأمر تعلّق بالطبيعة، ليس المراد منها الطبيعة المقيّدة بالقيد الذهنيّ، أي: الصرفة، مع قطع النظر عن أن تكون قنطرة إلى الخارج؛ لأنّ مثل هذه الطبيعة محال أن توجد في الخارج، فلا يتعلّق بها الأمر. كما أنّ من قال بأنّ الأمر وردعلى الأفراد ليس مراده أنّ الأمر قد تعلّق بالموجودات الخارجيّة؛ لأنّ تعلّق الطلب بما هو موجود في الخارج فعلاً يسلزم طلب حصول الحاصل، كما أنّ الموجود الخارجيّ مسقط للأمر، فلا يمكن أن يتعلّق به الأمر، وإلّا، كان ظرف سقوط الأمر هو نفس ظرف تعلّق الأمر.

فإذا عرفت أنّ وجود الكلّيّ عين وجود أفراده في الخارج، فالنزاع في تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد يدور - في الحقيقة - مدار أنّ الطبيعة، أي: الكلّيّ الطبيعيّ، هل هي موجودة في الخارج أم لا؟ فعلى الأوّل: يتعلّق الأمر بالطبيعة، وعلى الثاني يتعلّق بالفرد.

فإنّ القائل بوجود الكلّيّ الطبيعيّ خارجاً يقول بجواز نسبة الوجود إلى الطبيعة حقيقةً، على اعتبار أنّ للوجود في الخارج نسبتين: نسبةً للفرد، ونسبةً للطبيعة.

وأمّا المنكر لوجوده، فيدّعي أنّه لا يصحّ نسبة الوجود إليها حقيقةً.

فإذا اتّضح هذا، فالقائل بالجواز يرى أنّ الأحكام تتعلّق بالطبيعة، وانّ المتعلّق متعدّد ماهيّةً، وإن اتّحد وجوداً، لكونه عبارة عن طبيعتين متغايرتين ماهيّةً، فلا مانع من اجتماع الحكمين، والقائل بالامتناع يرى

ص: 203

اتّحادهما وجوداً وماهيّةً، والواحد لا يتحمّل حكمين متضادّين. هذا بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع.

وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد، فلا محيص عن القول بالامتناع، ولا وجه للجواز على هذا القول أصلاً؛ لأنّهموجب لاجتماع الضدّين في مورد واحد. ومن هنا قد يُقال: بأنّ نزاع الجواز وعدمه مبنيّ على تعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد.

ثمّ إنّه هل لابدّ من اعتبار مندوحة في محلّ البحث أم لا؟

ذكر صاحب الكفاية) أنّ البعض قيّد عنوان النزاع بوجود المندوحة، إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع ولا خلاف، ومحلّ الخلاف مورد وجود المندوحة.

وذكر أنّه ربّما قيل بأنّ إطلاق العنوان وعدم تقييده إنّما هو لأجل وضوح ذلك.

قال(قدس سره): «السادس: أنّه ربّما يؤخذ في محلّ النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربّما قيل بأنّ الإطلاق إنّما هو للاتّكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال»(1).

وقد مرّ أنّه لابدّ أن يكون المتعلّق مقدوراً، وكذلك مرّ أنّه لا يمكن توجيه الخطاب إلى العاجز، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز.

ص: 204


1- كفاية الاُصول: ص 153.

وبعبارة أُخرى: فإنّه بناءً على أنّ حقيقة الأمر هي عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور بحيث تكون القدرةمأخوذة في ماهيّة الأمر وحقيقته، فالمحذور يرجع إلى مرتبة الجعل.

وأمّا بناءً على أنّ اشتراطه بها من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فالمحذور يرجع إلى مرتبة الامتثال.

فإن كان وجه الاشتراط هو الأوّل: فلأنّ نفس الخطاب والتكليف يوجب ذلك؛ لأنّ المتعلّق يكون هو الحصّة المقدورة دون الأعمّ منها ومن غيرها، فلا ينطبق على غير المقدور؛ لأنّ المقيّد بقيد لا يمكن انطباقه على فاقده.

وأمّا إن كان الوجه هو الثاني: فليس في نفس الأمر ومقام توجّه الخطاب أيّ قصور، ولا يجيء من قبله تضييق وتقييد في جانب المتعلّق بكونه مقدوراً، فالأمر إنّما يتعلّق بالطبيعة المجرّدة عن هذا القيد. نعم، العقل يحكم بعدم شموله لغير المقدور، وخروج الفرد غير المقدور عن تحت الأمر بحكم العقل لا يوجب تقييداً في المتعلّق بكونه مقدوراً، بل المأمور به هو نفس الطبيعة من دون أيّ قيد، فينطبق على المجمع كانطباقه على سائر الأفراد.

وقد يقال هنا: إنّ الخلاف في جواز الاجتماع وعدمه يختصّ بصورة وجود المندوحة حتى يكون للمكلّف القدرة على الطبيعة، وأن يكون متمكّناً من فعل الصلاة - مثلاً - في غير المكان المغصوب، لأنّه بناءً

ص: 205

على كلا المسلكين، فإذا فرض وجود المندوحة، فإنّه يمكن توجّه الأمر إلى الصلاة باعتبار أنّ طبيعتها تكون مقدورة للمكلّف، وليس هناك من تكليف بالمحال، ثمّ بعد إمكان توجّه الخطاب يُبحثعن جواز الاجتماع وعدمه، فبناءً على عدم جواز الاجتماع يُتعامل معهما معاملة المتعارضين، فلو فرض ترجيح جانب الأمر فلا نهي في البين حتّى يقال بعدم إمكان الإتيان بالمجمع وعدم وقوع الامتثال؛ لأنّ المورد مثل الموارد التي لا نهي فيها.

وأمّا لو فرض ترجيح جانب النهي، فلا يكون هناك أمر؛ إذ لا ملاك فيه؛ لأنّ الجمع حرام، فلو أتيت بالصلاة لم يقع الامتثال، فلا يسقط الأمر المفروض وروده على الطبيعة.

وأمّا بناءً على جواز الاجتماع، فعلى القول بعدم إمكان توجّه الخطاب إلى غير المقدور، تكون القدرة مأخوذة في المتعلّق، بل في ماهيّة الأمر، فلابدّ أن يكون الفرد مقدوراً، فلو أتيت بالمجمع لم يكن مفيداً؛ لأنّ المأمور به - بناءً على هذا الوجه - إنّما هو الحصّة المقدورة، فلا ينطبق على غير المقدور؛ لما ذكرناه آنفاً من أنّ المقيّد بقيد لا يمكن أن ينطبق على فاقده.

وأمّا على الوجه الثاني، وهو أنّه لا يشترط في الأمر أن يتوجّه إلى الحصّة المقدورة، بل العقل هو من يحكم بعدم شموله لغير المقدور، فليس هناك قصور من جانب الخطاب، بل الأمر يتعلّق بالطبيعة غير

ص: 206

المقيّدة بهذا القيد، فخروج الفرد المقدور عن تحت الأمر بحكم العقل لا يوجب تقييداً في المتعلّق بكونه مقدوراً، بل المأمور به هو نفس الطبيعة من دون أيّ قيد، فعلى القول بالجواز: ينطبق على المجمع كانطباقه على سائر الأفراد كما عرفنا فيما مرّ.ولكنّ صاحب الكفاية) لم يشترط وجود المندوحة، حيث قال - ما نصّه -: «ولكنّ التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها فيما هو المهمّ في محلّ النزاع من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادّين، وعدم الجدوى في كون موردهما موجّهاً بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدّين أو عدم لزومه، وأنّ تعدّد الوجه يجدي في رفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلاً وجود المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع»(1).

وملخّص كلامه(قدس سره): أنّ الكلام في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي - كما مرّ - تارةً يتصوّر في مرحلة الجعل، وأُخرى في مرحلة الامتثال. فالنظر في الأُولى إلى أنّه هل يمتنع تعلّق حكمين متضادّين في أنفسهما - مع قطع النظر عن مقام الامتثال - بشيء واحد ذي وجهين أم لا؟ والنظر في الثانية إلى أنّه هل يصحّ التكليف بأمر غير مقدور للمكلّف أم لا؟

والعمدة والغرض الأصليّ من البحث في مسألة الاجتماع هو

ص: 207


1- كفاية الاُصول: ص 153.

المقام الأوّل؛ لأنّ محطّ النزاع هو كون تعدّد الموجّه مجدياً في تعدّد المتعلّق حتى يجوز اجتماع حكمين متضادّين، ويرتفع به غائلة اجتماع الضدّين، أو عدم كونه مجدياً في ذلك وأنّه كوحدة الجهة في لزوم اجتماع الضدّين؟

وبالجملة: فمركز البحث مقام الجعل دون الامتثال، والمندوحة أجنبيّة عن محلّ الكلام.وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد ذكر أنّه لا دخل في هذه المسألة بمسألة المندوحة، «والوجه في ذلك: ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس، وعدم سرايته. وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين: الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً. الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. كما أنّ القول بالجواز يرتكز على أمرين هما: تعدّد المجمع، وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر، كما هو الصحيح، ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً».

ثمّ قال): «هذا من ناحية. ومن ناحية أُخرى: قد ذكرنا أنّه يترتّب على القول بالامتناع والسراية وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، والتكاذب بينهما فيه بحسب مرحلة الجعل، بحيث لا يمكن أن يكون كلّ منهما مجعولاً على نحوٍ يشمل مورد الاجتماع، فإنّ

ص: 208

ثبوت كلّ منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها، وهذا معنى التعارض بينهما، فإذاً، لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن الصادق، وقد تقدّم بيان ذلك بشكلٍ واضح. وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن مندوحة في البين، لما عرفت من أنّه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلاً، لفرض تمكّنالمكلّف عندئذٍ من امتثال كليهما معاً، ومعه: لا مزاحمة بينهما.

نعم، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما؛ لعدم تمكّن المكلّف وقتئذٍ من امتثال كليهما معاً، فإذاً: لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة»(1).

وخلاصة كلامه: أنّه على القول بالامتناع يترتّب وقوع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، سواء أكانت هناك مندوحة أم لم تكن، فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالإضافة إلى هذا القول أصلاً.

وعلى القول بالجواز يترتّب وقوع التزاحم بينهما، إذا لم تكن مندوحة في البين لا مطلقاً.

ولكن قد عرفت أنّه بناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره) فلابدّ من وجود

ص: 209


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 387 - 388.

المندوحة حتى يأتي هذا البحث؛ لأنّه لا يمكن توجّه الخطاب، لأنّ الطبيعة غير مقدورة للمكلّف. فحتى لو فرض إمكان توجّه الخطاب، فإنّ الامتناع يكون عقليّاً.

نعم، بناءً على ما ذهب إليه، فهل يكون متعلّق الأحكام هو المفاهيم المتأصّلة، أي: التي لها تأصّل في عالم الخارج، أم الاُمور الخارجيّة، أم المفاهيم الانتزاعيّة التي ليس لها تأصّل في الخارج، أم الاُمور الاعتباريّة، أم لا؟ بل هو من قبيل الكلّيّ الطبيعيّ، موطنه العقل، ولا ينطبق على الخارج أصلاً، وإنّما يكون منشأ انتزاعه في الخارج؟وفي مقام الجواب نقول: إنّ متعلّق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّيّة التي يمكن انطباقها في الخارج على الأفراد والمصاديق الخارجيّة، بشتّى ألوانها وأشكالها. وتلك الطبائع الكلّيّة قد قيّدت بقيوداتٍ متعدّدة، مثلاً: الصلاة مقيّدة بقيودات كثيرة، من حيث الزمان أو المكان والمصلّي أو من حيث نفسها، فلو لاحظنا طبيعة الصلاة - مثلاً - نجد أنّها مقيّدة من جهة الزمان بالأوقات الخمسة، أي: أنّها واجبة، ولكن لا على الإطلاق، بل وجوبها إنّما هو في زمان خاصّ، وكذلك من ناحية المكان، فلابدّ أن تقع في مكانٍ غير مغصوب، وكذا من ناحية المصلّي، فلابدّ أن يكون حائزاً على الشروط العامّة، من البلوغ والعقل، ولابدّ أن يكون غير حائض، وكذا الحال من ناحية نفسها، كالطهور والقيام واستقبال القبلة، وغير ذلك من القيود.

ص: 210

ولا يخفى: أنّ هذه القيود لا توجب إلّا تضييق دائرة انطباق الطبيعة على أفرادها في الخارج، ولا توجب خروجها عن الكلّيّة.

فإذا عرفت هذا، فنقول:

إنّ المراد من الواحد في محلّ الكلام هو مقابل المتعدّد، لا في مقابل الكلّيّ، بمعنى: أنّ المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد، وليس بمتعدّد، بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهيّ عنه، ولو كان كلّيّاً قابلاً للانطباق على كثيرين، فالمراد من الواحد في محلّ الكلام هو ما يشمل كلّاً من الواحد الشخصيّ والنوعيّ والجنسيّ، أي:أنّ هذه الحصّة بما لها من الأفراد تكون مجمعاً لهما، ومحلّاً للتصادق والاجتماع، في مقابل ما إذا لم يكن كذلك، بأن يكون مصداق المأمور به حصّة، ومصداق المنهيّ عنه حصّة أُخرى مباينة للأُولى بما لها من الأفراد.

وبذلك يظهر: أنّه يخرج عن محلّ البحث أمثال السجود إذا تعلّق بها نهي أو أمر، كالسجود ﷲ تعالى والسجود للملائكة - مثلاً -؛ لأنّ الأمر هنا قد تعلّق بحصّة، والنهي بحصّة أُخرى، فالحصّتان متباينتان، وليس هناك شيء واحد يكون مجمعاً للأمر والنهي، بل مصداق المأمور به غير مصداق المنهيّ عنه.

كما يظهر أيضاً: أنّه لا فرق في محلّ البحث بين أن يكون متعلّق الأمر والنهي هو الطبائع أو الأفراد، فما قد يقال: من أنّ المتعلّق لو كان هو

ص: 211

الطبايع فنقول بالجواز؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً وإن اتّحدا وجوداً، وأمّا لو كان هو الأفراد فنقول بالامتناع؛ لكون المتعلّق حينئذٍ شخصاً وجزئيّاً حقيقيّاً، ومن المعلوم: امتناع تحمّله لحكمين متضادّين، فلا محيص حينئذٍ عن القول بالامتناع.

بل الحقّ: أنّ تعدّد الوجه في مسألة الاجتماع إن كان مجدياً في تعدّد المتعلّق بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد الوجوديّ، فذلك مجدٍ حتى على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد، لكون الموجود الخارجيّ الموجّه بوجهين مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد يتعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي.وان لم يكن تعدّد الوجه مجدياً في تعدّد المتعلّق، فلابدّ من البناء على الامتناع حتى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع؛ لاتّحاد الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي وجوداً، فالاتّحاد الوجوديّ إن كان مانعاً عن تعدّد المتعلّق، كان مانعاً مطلقاً، بلا فرق بين تعلّق الأحكام بالطبايع والأفراد، وإن لم يكن مانعاً عنه لم يكن مانعاً كذلك.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ المجمع لابدّ أن يكون ذا ملاكين، أي: لابدّ أن يكون كلّ من المتعلّقين ذا ملاك بعدما فرضنا أنّ المورد من صغريات باب التزاحم حتى في مورد الاجتماع، فالصلاة في الدار المغصوبة - مثلاً - إنّما تكون مجمعاً لمتعلّقي الأمر والنهي إذا كان ملاكا الأمر والنهي مجتمعين فيها، حتى يحكم - بناءً على الجواز - بكون الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 212

مجمعاً محكوماً فعلاً بحكمين؛ لأنّ كلا الملاكين موجودان فيه، وعدم التنافي بينهما من ناحية أُخرى، وحتى يُحكم - بناءً على الامتناع - بأنّ الصلاة في الدار المغصوبة محكومة بما هو أقوى الملاكين.

هذا، إذا كان أحد الملاكين أقوى، وأمّا لو لم يكن أحدهما أقوى، فالصلاة في الأرض المغصوبة حينئذٍ تكون محكومةً بحكمٍ آخر غير الوجوب والحرمة، كالإباحة، بمقتضى الأصل اللّفظيّ أو العمليّ.

فإذا لم يكن كلّ من المتعلّقين واجداً للملاك، يخرج المورد - حينئذٍ - عن مسألة الاجتماع، بلا فرق بين أن لا يكون شيء منهما ذا ملاك أصلاً، أو كان الملاك في أحدهما دون الآخر،فيخرج عن باب التزاحم ويدخل في باب التعارض، ومعه: فلابدّ من الرجوع - عندئذٍ - إلى مرجّحات باب التعارض.

مسألة الاجتماع والقول بتبعيّة الأحكام للملاكات:

اشارة

لقائلٍ أن يقول: إنّ بحث الاجتماع لا يختصّ بمذهب دون آخر، بل يجري على جميع المذاهب، حتى على مذهب الأشعريّ المنكر لتبعيّة الأحكام للملاكات والمصالح والمفاسد مطلقاً، فاعتبار اشتمال كلٍّ من متعلّقي الإيجاب والتحريم على مناط الحكم - كما هو مذهب العدليّة القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد - في اندراجهما في مسألة الاجتماع غير ظاهر.

ص: 213

والوجه في ذلك: أنّ مرجع البحث في مسألة الاجتماع إلى أنّ مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهيّةً أو متعدّد كذلك؟ فعلى الأوّل: لابدّ من الامتناع مطلقاً، ولو على مذهب الأشعريّ، لامتناع اجتماع الضدّين على جميع المذاهب. وعلى الفرض الثاني: لابدّ من القول بالجواز بناءً على عدم سراية حكم الملزوم إلى اللّازم، فيكون المورد حينئذٍ من صغريات باب التزاحم.

وينبغي هنا أن يُعلم: أنّه لو قلنا بجواز الاجتماع ودخلت المسألة معه في باب التزاحم، فليس المراد من التزاحم التزاحم بين الملاكات بعضها ببعض، بل المراد هو التزاحمبين الأحكام كذلك، وأمّا النوع الأوّل فهو خارج عن محلّ البحث.

والسرّ في ذلك: أنّ الملاكات لمّا كانت بيد الشارع، وهي غير معروفة لنا، لم يكن سبيل لنا إلى معرفة مرجّحات الملاكات، بل الترجيح بين الملاكات إنّما يكون بيد المولى، فله أن يلاحظ الجهات الواقعيّة ويرجّح بعضها على بعضها الآخر.

على أنّ ذلك ليس من وظيفة العبد، فإنّ وظيفته إنّما هي امتثال الأحكام المجعولة من قبل المولى.

وعلى الجملة: فالمراد هو التزاحم بين الدليلين، بمعنى: أنّه ليس هناك تنافٍ في مقام الجعل، بل مقام الامتثال، بحيث لا يتمكّن العبد من الإتيان بهما معاً. ولا ربط لمسألة تبعيّة الأحكام للملاكات وعدمها فيما هو محلّ

ص: 214

البحث، فلذلك قلنا إنّه يجري بحث الاجتماع على كلا المذهبين؛ لأنّ المهمّ في المسألة هنا هو أنّه هل يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال أم لا؟

وكذا الحال لو رجعت المسألة إلى باب التعارض، فإنّ البحث يأتي على كلا المذهبين - أيضاً -؛ لأنّ منشأ عدم إمكان جعل الحكمين المتضادّين إلى أنّ ثبوت كلّ منهما في مقام الإثبات هل ينفي الآخر في مقام الجعل أم لا؟ فلا فرق - حينئذٍ - بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد أو القول بعدمها.

ثمرة مسألة الاجتماع:

لا يخفى: أنّه تارةً نقول بالجواز، وأُخرى نقول بالامتناع، والعمل تارةً يكون توصّليّاً، وأُخرى يكون تعبّديّاً.

أمّا بناءً على القول بالجواز، فقد يُقال:

بأنّه لو أتى بالمجمع فقد امتثل يقيناً، ويسقط الأمر، بلا فرق بين أن يكون العمل توصّليّاً أو تعبّديّاً، نعم، هو مطيع وعاصٍ في آنٍ معاً. وهكذا الحال، لو قلنا بالامتناع ورجّحنا جانب الأمر، إذ المفروض أنّ النهي قد سقط من جهة غلبة الأمر.

وأمّا لو قلنا بالامتناع، وكان العمل توصّليّاً، فأيضاً: يسقط الأمر، ويحصل الامتثال، ولو كان ملتفتاً إلى الحرام؛ لأنّ التوصّليّ يجتمع مع

ص: 215

الحرام. وأمّا لو كان العمل تعبّديّاً، فإن غلّبنا جانب الأمر، فقد مرّ بيانه، وأمّا لو كان المقام من باب الامتناع، وغلّبنا جانب النهي، فسيأتي الكلام فيه.

أمّا في الفرض الأوّل، أعني: القول بالجواز، فتكون مسألة الاجتماع صغرى لكبرى التزاحم، فلابدّ من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم ومرجّحاته، فنقول: إن كان الوجوب أهمّ أو محتمل الأهمّيّة قُدّم على الحرمة، ومقتضاه صحّة العبادة، وأنّه يمكن الإتيان بها حينئذٍ بداعي أمرها، وكذا الحال إذا كان الوجوب مساوياً للحرمة مع الأخذ بالوجوب دون الحرمة.

وإن كانت الحرمة أهمّ، أو محتملة الأهمّيّة، قُدّمت على الوجوب، وحينئذٍ: يمكن القول بالصحّة وسقوط الأمر بناءً على الترتّب. وأمّا لو لم نقل بالترتّب، فيمكن تصحيح العبادةببركة اشتمال المجمع على الملاك مع الالتزام بكفايته في صحّة العبادة.

ولكن قد يستشكل فيه: بعدم الطريق إلى إحراز بقاء الملاك في المجمع بعد سقوط الأمر عنه من جهة غلبة جانب النهي عليه، ولا طريق لنا في هذا المورد إلى اكتشاف وجود الملاك، فكما يحتمل أن يكون سقوطه لوجود المانع، فكذا يحتمل أن يكون لعدم المقتضي في هذا الحال، ولا مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر، ضرورة أنّ طريق إحرازه منحصر بوجود الحكم، وبعد سقوطه لا سبيل لنا إلى إحراز الملاك.

ص: 216

ويُجاب عنه: بأنّه خلاف الفرض، إذ المفروض دخول هذه المسألة في باب التزاحم، واندراجها تحت كبراه، ومن المعلوم: وجود الملاك في كلٍّ من المتزاحمين؛ إذ التزاحم إنّما يكون في مقام الامتثال، وعدم قدرة العبد على امتثالهما معاً لا يكون سبباً لرفع الملاك؛ لما قرّر في محلّه من عدم دخل القدرة في الملاكات، وأنّها دخيلة في حسن الخطاب؛ لقبح مطالبة العاجز؛ فإنّ إنقاذ كلٍّ من الغريقين المؤمنين ذو مصلحة قطعاً وإن لم يتمكّن العبد من إنقاذهما معاً.

وأمّا على القول بالامتناع لو رجّحنا جانب الأمر، بعد أن كان متيقّن الأهمّيّة، أو محتمل الأهمّيّة، فبعد تغليب جانبه لا تبقى فعليّة للنهي، فلا نهي هناك حتى إذا خالفناه نعدّ من العاصين.وقد يقال: إنّه بناءً على القول بالامتناع، حتى وإن قدّمنا جانب الأمر، إلّا أنّه مع ذلك، لا يحصل الامتثال؛ لأنّ الأمر والنهي - كلاهما - واردان على الطبيعة، غاية الأمر: أنّ طبيعة الأمر تحصل بإتيان فردٍ من أفرادها، و طبيعة النهي لا تحصل إلّا بترك جميع أفرادها.

فهنا، وإن كانت مصلحة الأمر أقوى، ولكن بما أنّ طبيعة النهي لا تحصل إلّا بترك جميع أفرادها؛ لأنّ المفسدة كامنة في جميع أفرادها، فيكون الإتيان بفرد لا مفسدة فيه، أعني: الفرد الذي فيه المصلحة، أمراً غير ممكن.

ولكن فيه: أنّه خلاف الفرض، وهو تقديم جانب الأمر على النهي

ص: 217

لأقوائيّة مصلحته من مفسدة النهي، إذ لا معنى للتقديم إلّا مغلوبيّة المفسدة بالمصلحة، وعدم مانعيّتها عن استيفاء مصلحة الأمر بالفرد المشتمل على المفسدة، وعن تمشّي قصد القربة وحصول التقرّب به، من دون مانعٍ عنه، لا من الفعل ولا من الفاعل.

نعم، بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي، فلا محيص عن امتناع الامتثال وعدم تمشّي قصد القربة. نعم، يصحّ العمل لو كان توصّليّاً والإلزام ببطلان العبادة في المغصوب مطلقاً، حتى مع النسيان والجهل القصوريّ به لعدم المقتضي لصحّتها من الملاك والأمر، وامتناع مصداقيّة الحرام للواجب.

وأمّا بناءً على اندراج المسألة في باب التزاحم، وتقديم جانب النهي على الأمر، فتصحّ العبادة في المغصوب معالنسيان والجهل القصوريّ بالحكم، بل وبالموضوع أيضاً، كما هو المشهور.

أدلّة القائلين بالامتناع:

منها: ما أوضحه صاحب الكفاية) بمقدّمات، نذكر منها:

المقدّمة الأُولى: ما ذكره(قدس سره) بقوله:

«إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحو واحدٍ في زمان، والزجر عنه في ذلك الزمان، وإن لم يكن

ص: 218

بينهما مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى. فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً»(1).

وتوضيح هذه المقدّمة: أنّ التضادّ بين الأحكام الخمسة ليس في جميع المراتب، من الإنشاء والاقتضاء وغيرهما، بل هو كائن في خصوص مرتبة فعليّتها، إذ البعث والزجر الفعليّان المترتّبان على انقداح الإرادة والكراهة متضادّان، ضرورة امتناع تعلّق الإرادة بإيجاد شيء والزجر عنه في آنٍ واحد،فإنّ مقتضى البعث والزجر الفعليّين - وهو الفعل والترك - متناقضان، فنفس البعث والزجر المقتضيين لهما - أيضاً - متنافيان، ويستحيل اجتماعهما، لا أنّهما يكونان من التكليف بغير المقدور؛ لعدم قدرة العبد على الجمع بين الفعل والترك حتى يكون من التكليف بالمحال الذي هو جائز عند الأشاعرة.

والمقدّمة الثانية: ما أشار إليها(قدس سره) بقوله:

«ثانيتها: أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام إنّما هو فعل المكلّف، وما هو في الخارج يصدر عنه، وما هو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه، بحيث لولا انتزاعه تصوّراً

ص: 219


1- كفاية الاُصول: ص 158.

واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً، ويكون خارج المحمول كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة والمغصوبيّة، إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات، ضرورة أنّ البعث ليس نحوه، والزجر لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلةً للحاظ متعلّقاتها، والإشارة إليه بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله»(1).

وحاصلها: أنّ متعلّق الأحكام هو نفس المعنونات، لا العناوين؛ لأنّ الحكم تابع لملاكه، فكلّ ما فيه الملاك يكون متعلّقاً للحكم؛ لأنّ تعلّقه بغير ما يقوم به الملاك ينافي ما عليهمشهور العدليّة من تبعيّة الأحكام للملاكات الثابتة في متعلّقاتها، فتعلّق الحكم بغير ما يقوم به الملاك يكون جزافاً.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى: فإنّ الملاكات لا تقوم بالاُمور الاعتباريّة التي لا تأصّل لها في الخارج، بل تقوم بالموجودات الخارجيّة المتأصّلة. وعليه: فالعنوان الاعتباريّ المأخوذ متعلّقاً للتكليف في ظاهر الخطاب ليس متعلّقاً له حقيقةً، بل هو قنطرة وعنوان مشير إلى ما هو المتعلّق واقعاً وحاكٍ عنه، فالمتعلّق للتكليف في الواقع هو المعنون والمسمّى، دون

ص: 220


1- كفاية الاُصول: ص 158 - 159.

العنوان والاسم اللّذين ينتزعان من المعنون والمسمّى، ولا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج؛ فمتعلّق الحكم إنّما هو الفعل الخارجيّ الصادر من المكلّف؛ لأنّه مركب الملاك، لا اسمه وعنوانه، فالصلاة الواقعة في الدار المغصوبة هي التي يتعلّق الأمر والتكليف بها، أي: بما يقع في الخارج منها من الأجزاء والشرائط، دون عنوانها، وكذا الغصب؛ فإنّ النهي يتعلّق بنفس تلك التصرّفات الخارجيّة في مال الغير بدون رضاه، لا بعنوانه.

وعلى هذا الأساس: فلا يكون هناك سوى عمل واحد يكون ماُموراً به ومنهيّاً عنه، فإنّ متعلّق التكليف هو نفس الفعل، لا اسمه وعنوانه حتى يُقال: إنّ متعلّق الأمر عنوان غير العنوان الذي تعلّق به النهي، فيجوز الاجتماع.

دليل القائلين بالجواز:

استدلّ القائلون بالجواز بأدلّة:

منها:

ما عن المحقّق القمّيّ)(1)، من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هو

ص: 221


1- انظر: قوانين الاُصول: ص 77، بحث الاجتماع، والوجه الأوّل من الوجوه التي استدلّ بها لجواز الاجتماع، وإليك نصّ ما أفاده في المقام: «أنّ الحكم لمّا تعلّق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه، فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة، ومتعلّق النهي طبيعة الغصب، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد، ولا يرد من ذلك قبح على الآمر؛ لتغاير متعلّق المتضادّين، فلا يلزم التكليف بالمتضادّين، ولا كون الشيء الواحد محبوباً ومبغوضاً من جهةٍ واحدة. فإن قلت: الكلّيّ لا وجود له إلاّ بالفرد، فالمراد بالتكليف الكلّيّ هو إيجاد الفرد، وإن كان متعلّقاً بالكلّيّ على الظاهر، وما لا يمكن وجوده في الخارج يقبح التكليف بإيجاده في الخارج. قلت: إن أردت عدم إمكان الوجود في الخارج بشرط لا، فهو مسلّم، ولا كلام لنا فيه، وإن أردت استحالة وجوده لا بشرط، فهو باطل جزماً؛ لأنّ وجود الكلّيّ لا بشرط لا ينافي وجوده مع ألف شرط، فإذا تمكّن من إتيانه في ضمن فرد، فقد تمكّن من إتيانه لا بشرط. غاية الأمر: توقّف حصوله في الخارج على وجود الفرد، والممكن بالواسطة لا يخرج عن الإمكان، وإن كان ممتنعاً بدون الواسطة، وهذا كلام سارٍ في جميع الواجبات بالنسبة إلى المقدّمات، فالفرد هنا مقدّمة لتحقّق الكلّيّ في الخارج، فلا غاية في التكليف به مع التمكّن من المقدّمات. فإن قلت: سلّمنا ذلك، لكن نقول: إنّ الأمر بالمقدّمة اللّازم من الأمر بالكلّيّ على ما بنيت عليه الأمر يكفينا، فإنّ الأمر بالصلاة أمر بالكون، والأمر بالكون أمر بهذا الكون الخاصّ الذي هو مقدّمة الكون الذي هو جزء الصلاة، فهذا الكون الخاصّ ماُمور به، وهو بعينه منهيّ عنه؛ لأنّه فرد من الغصب، والنهي عن الطبيعة يستلزم النهي عن جميع أفراده، ولو كان ذلك أيضاً من باب مقدّمة الامتثال بمقتضى النهي، فإنّ مقدّمة الحرام حرام أيضاً، فعاد المحذور، وهو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصيّ. قلت: نمنع أوّلاً وجوب المقدّمة، ثمّ نسلّم وجوبه التبعيّ الذي بيّنّاه في موضعه، ولكن غاية الأمر حينئذٍ توقّف الصلاة على فردٍ ما من الكون، لا الكون الخاصّ الجزئيّ، وإنّما اختار المكلّف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرّم».

الطبيعة، وأمّا الفرد فهو مقدّمة لوجود الكلّيّ، لا عينه، فهذا الفرد من الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة، ليس بنفسه ماُموراً به بالأمر النفسيّ، بل متعلّق الأمر النفسيّ هو طبيعة الصلاة، لا هذا الفرد، فهذا

ص: 222

الفرد مقدّمة محرّمة لوجود الواجب النفسيّ، أعني: الطبيعة المأمور بها، ومقدّمة الواجب ليست بواجبة، فلم يجتمع هناك الوجوب والحرمة، ولو قيل: بوجوب المقدّمة، فوجوبهايكون غيريّاً تبعيّاً، ولا مانع من اجتماع الوجوب الغيريّ مع النهي النفسيّ، وإنّما المانع هو اجتماع الوجوب النفسيّ مع النهي النفسيّ.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّ الفرد ليس مقدّمة لوجود الطبيعيّ، بل هو عينه خارجاً. ولو قيل: إنّ المحقّق لم يدّعِ مقدّميّة الفرد للطبيعة مطلقاً، بل ادّعى ذلك في طرف الأمر فقط؛ لأنّه ذكر أنّه بناءً على وجوب المقدّمة يلزم اجتماع الأمر الغيريّ مع النهي النفسيّ، فلو كان مدّعاه مقدّميّة الفرد مطلقاً، لكان في طرف النهي أيضاً نهي غيريّ.

فمن ذلك يُعلم: أنّ ما قاله من المقدّميّة مقصور على طرف الأمر، وحينئذٍ: لابدّ أن يكون مراده من الأمر خصوص الأمر المطلوب منه صرف الوجود، لا الأمر الانحلاليّ؛ لأنّه لا فرق بين الأوامر الانحلاليّة والنواهي الانحلاليّة من حيث عدم مقدّميّة الفرد للطبيعة، والذي يمكن هو الفرق بين الأوامر المطلوب منها صرف الوجود كالصلاة، وبين الأوامر والنواهي الانحلاليّة؛ حيث إنّه تصحّ دعوى كون الفرد مقدّمة لتحقّق صرف الوجود، بحيث يكون الفرد من المحصّلات والمحقّقات للطبيعة وصرف الوجود، لا عينها.

ص: 223

ففيه: أنّ ذلك وإن كان توجيهاً لكلامه، إلّا أنّه مع ذلك لا يستقيم، ضرورة أنّ الفرد في صرف الوجود أيضاً لم يكن مقدّمة، بل هو عين الطبيعة.نعم، لو قلنا بأنّ الكلّيّ الطبيعيّ لا وجود له في الخارج أصلاً، وأنّه انتزاعيّ صرف، كان الفرد - الذي هو منشأ الانتزاع - مقدّمة لانتزاعه.

ولكن الحقّ - كما هو معلوم - أنّ وجود الفرد هو نفس وجود الطبيعيّ، فلا معنى للقول بمقدّميّة الأفراد للطبيعة.

وثانياً: أنّ دعوى عدم وجوب المقدّمة ممّا يكذّبها الوجدان، ولا يمكن القول به، كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب.

وثالثاً: أنّ دعوى أنّ الممنوع هو اجتماع الوجوب النفسيّ مع النهي النفسيّ لا الوجوب الغيريّ لا شاهد عليها؛ لوضوح أنّه لا فرق بين الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ، بعدما كان مطلق الوجوب مضادّاً من حيث الاقتضاء للحرمة؛ حيث إنّ الوجوب يقتضي البعث والحرمة تقتضي الزجر.

ومنها:

أنّ الاجتماع إنّما يكون ماُموريّاً لا آمريّاً، أي: أنّ الآمر أورد الحكم على طبيعة الصلاة، وأورد النهي على طبيعة الغصب، فمتعلّق الأمر شيء ومتعلّق النهي شيء آخر، وكلّ منهما مباين للآخر، والآمر لم يجمع المتعلّقين في أمره، وإنّما جمعهما المأمور به.

ص: 224

ولكن لا يخفى:

أنّ هذا القول إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الأمر ورد على الطبيعة بلحاظ الذهن، لا بلحاظ الخارج، وكذا النهي، مع أنّ الأمر - كما هو معلوم - غير متعلّق بالطبيعة المقيّدة بلحاظها فيالذهن، وكذا النهي، بل بما هي مرآة للخارج؛ إذ لو كانت مقيّدة باللّحاظ الذهنيّ كانت غير قابلة للامتثال.

مع أنّ المأمور إنّما جمع بينهما في مقام الامتثال، ولابدّ أن يكون الامتثال على طبق المأمور به، فلو لم يجمع الآمر بين المتعلّقين، ولو بالإطلاق الشموليّ أو البدليّ، فكيف يمكن للمكلّف الجمع في الامتثال؟

مع أنّه لو بنينا على أنّ الاجتماع ماُموريّ، يلزم سدّ باب التعارض من وجه، فإنّه دائماً يكون الاجتماع ماُموريّاً، وفي مقام الامتثال، فيلزم أن لا يتحقّق مورد للتعارض من وجه، وتكون جميع الموارد من باب التزاحم.

ومنها:

أنّ هناك فرقاً بين ظرف العروض وظرف الاتّصاف. وبعبارة أُخرى: فإنّ متعلّقات الأحكام إنّما هي الماهيّات الواقعة في رتبة الحمل، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل، فالاُولى تكون من الاُمور العقليّة، والثانية من الاُمور الخارجيّة، وتكون تلك رتبة الاتّحاد، وعينيّة الكلّيّ لمصداقه.

ص: 225

فإذا عرفت هذا، فإذا كان متعلّق الحكم هي الماهيّة الواقعة في رتبة نتيجة الحمل، فيلزم اتّحاد المتعلّقين؛ لأنّ هذه الرتبة - كما عرفت - هي رتبة عينيّة كلّ كلّيّ لمصداقه، والمفروض أنّ المصداق واحد، فيلزم اتّحاد المتعلّقين. وأمّا إذا كان متعلّق الحكم هي الماهيّة الواقعة في رتبة الحمل، فحينئذٍ لا يلزم اتّحاد المتعلّقين؛ لأنّ هذه الرتبة هي رتبة مغايرة الموضوع للمحمول المصحّحة للحمل، فلا اتّحاد.

ولكن فيه:

أنّ الإشكال هنا هو عين الإشكال المتقدّم؛ لأنّه بناءً على أن يكون متعلّق الأحكام هي الصور الذهنيّة بما هي فهذا الكلام تامّ لا غبار عليه؛ ولكنّ الصحيح: أنّ المتعلّق إنّما هي الصور بما أنّها مرآة للخارج، ومعه: فيأتي محذور الاتّحاد، لاتّحاد المرئيّ وذي الوجه.

ومنها:

دعوى: أنّ متعلّقات الأحكام هي الماهيّات غير المتحصّلة، وهي ليست متّحدة بعضها مع بعض، والاتّحاد إنّما يكون بين الماهيّات.

ولكنّك خبير:

بأنّ هذا الوجه إنّما هو عبارة أُخرى عن الوجه السابق، ولا يكون له معنىً محصّل؛ فإنّ متعلّقات الأحكام، وإن كانت هي الماهيّات غير المتحصّلة، إلّا أنّ الأمر بها إنّما يكون بلحاظ التحصّل، وبما هي مرآة للخارج، وهي في مقام التحصّل متّحدة.

ص: 226

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة هو وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيّةً وتعدّده كذلك، فعلى الأوّل: لا مناص من القول بالامتناع، وعلى الثاني: من القول بالجواز، لعدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى كبرى مسألة الاجتماع.وأمّا الصغرى، وهي ملاحظة أنّ الصلاة هل يمكن أن تتّحد مع الغصب خارجاً أم لا؟

قال المحقّق النائيني) بعدم إمكان اتّحادهما، بدعوى: أنّ الصلاة من مقولة، والغصب من مقولة أُخرى، ولا يمكن أن تتّحد المقولتان وتندرجا تحت مقولة واحدة(1).

ولكن الحقّ - كما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) - أنّ «الأمر ليس كذلك، فإنّ الصلاة وإن كانت مركّبة من مقولات متعدّدة، إلّا أنّ الغصب ليس من المقولات في شيء، بل هو مفهوم انتزاعيّ منتزع من مقولات متعدّدة، كما أشرنا إليه، وعليه: فيمكن اتّحاده مع الصلاة»(2).

أمّا أنّ الصلاة مركّبة من مقولات متعدّدة، فواضح؛ لأنّها ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها، بل هي مركّبة من مقولات عديدة، منها: الكيف

ص: 227


1- انظر: أجود التقريرات 1: 355.
2- محاضرات في اُصول الفقه 3: 484.

المسموع، كالقراءة والأذكار، ومنها: الكيف النفسانيّ، كالنيّة، ومنها: الوضع، كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد.

وبما أنّها مركّبة من مقولات متعدّدة، فلا يمكن تصوير جامع حقيقيّ لها، بل الجامع لهذه المقولات أمر اعتباريّ، فلذا لا مطابق لها في الخارج، بل الخارج هو نفس المقولات المؤلّفة الصلاة منها.وأمّا أنّ الغصب ليس مقولة؛ فلأنّه يمكن انطباقه على مقولات متعدّدة، ولا يمكن أن يفرض كونه جامعاً حقيقيّاً لها، بل هو من المفاهيم الانتزاعيّة؛ حيث إنّه منتزع من مقولات مختلفة، كالكون في الأرض المغصوبة الذي هو من مقولة الأين، وأكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة أُخرى.

فإذا عرفت هذا، فنقول:

بما أنّ عنوان الغصب انتزاعيّ، فلا مانع من اتّحاده مع الصلاة خارجاً أصلاً. وإنّما الكلام في أنّ الأمر في الخارج هل هو أيضاً كذلك أم لا؟ وهذا يتوقّف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدّة مقولات كما عرفنا، لنرى أنّ الغصب هل يتّحد مع هذه المقولات خارجاً أو مع إحداها أم لا؟

فنقول: أمّا النيّة، فهي أوّل أجزاء الصلاة - بناءً على أنّ قصد القربة يكون مأخوذاً في متعلّق الأمر، وليس وجوبه بحكم العقل -، وهي من

ص: 228

مقولة الكيف النفسانيّ، ولا يشكّ أحد في أنّها ليست تصرّفاً في مال الغير عرفاً لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقاً له؛ لأنّ الغصب لا يصدق على الاُمور النفسانيّة كالنيّة.

وأمّا التكبيرة، وهي من مقولة الكيف المسموع؛ فإنّها لا تتّحد مع الغصب في الخارج؛ لأنّه لا يصدق على التكلّم في الدار المغصوبة أنّه تصرّف فيها، فلا تكون مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.فإن قلت: التكلّم وإن لم يكن تصرّفاً في الدار، إلّا أنّه تصرّف في الفضاء؛ لأنّه يوجب تموّج الهواء فيه، والمفروض أنّ الفضاء ملك للغير، كالدار، فكما أنّ التصرّف فيها غير جائز ومصداق للغصب، فكذلك التصرّف فيه.

قلت: نمنع أن يصدق على التكلّم أنّه تصرّف في الفضاء المغصوب، وعلى تقدير صدقه عليه عقلاً، فلا يصدق عليه عرفاً كما هو واضح، وحيث لم يكن في نظر العرف تصرّفاً، لم تشمله الأدلّة وكانت منصرفة عنه قطعاً، وإن كان يعدّ في نظر العقل تصرّفاً.

وأمّا السجود والركوع والقيام والقعود، والصحيح أنّها - أيضاً - لا تكون متّحدة مع الغصب خارجاً؛ فإنّ هذه الأفعال من مقولة الوضع، والغصب من الاُمور الانتزاعيّة، وهو في المقام - بحسب الفرض - منتزع من الكون في الأرض المغصوبة، وهو من مقولة الأين، فيستحيل اتّحادهما خارجاً.

ص: 229

والحاصل: أنّ هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها، مع قطع النظر عن مقدّماتها، من الهويّ والنهوض، مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.

اللّهمّ إذا قلنا بأنّ هذه المقدّمات من أجزاء الصلاة؛ لأنّها نحو من الحركة، والحركة في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرّف فيها، فتكون مصداقاً للغصب ومتّحدة معه خارجاً، وحينئذٍ: فلا مناص من القول بالامتناع، لفرض أنّ الصلاة عندئذٍ تكون متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداق له، ولو باعتبار بعض أجزائها، خصوصاً بالنسبة إلىالسجود؛ لأنّه ليس بمعنى: المماسّة فقط، بل مع الاعتماد، وهذا يصدق عليه التصرّف في ملك الغير.

ومعه: لابدّ من القول بالامتناع، أي: امتناع الصلاة في الأرض المغصوبة، لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداق للمأمور به والمنهيّ عنه معاً.

وقد تحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ ثمرة المسألة على القول بالجواز صحّة العبادة في مورد الاجتماع مطلقاً، ولو كان يعلم بحرمة التصرّف في المغصوب، فضلاً عمّا إذا كان جاهلاً بها، وتبطل على القول بالامتناع، مع العلم بالحرمة، وكذا مع الجهل التقصيريّ، إذا كان جانب النهي مقدّماً، وأمّا مع تقديم جانب الأمر، أو عدم كون الجهل عن تقصير، فلا بطلان.

ص: 230

غير أنّ المحقّق النائيني(قدس سره)(1) قال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة، وبصحّتها في صورة الجهل بها والنسيان، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك: أنّه لا يمكن تصحيح العبادة هنا بالأمر؛ لأنّ متعلّق الأمر هو الحصّة الخاصّة، وهي الحصّة المقدورة، والترتّب لا يجري في المقام، ولا يمكن القول بصحّته بالنسبة إلى الملاك؛ إذ لا يمكن أن نعلم بوجود الملاك، لفرض أنّ صدور المجمع منه قبيح، ومع القبح الفاعليّ لا تصحّ العبادة، كما أنّها لا تصحّ مع القبح الفعليّ.وقد أجاب عنه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) بقوله: «يمكن الحكم بصحّتها من ناحية الأمر؛ لما عرفت من إطلاق المتعلّق وعدم المقتضي لتقييده بخصوص الحصّة المقدورة، ومن ناحية الترتّب؛ لما ذكرناه هناك من أنّه لا مانع من الالتزام به في المقام أصلاً، ومن ناحية الملاك؛ لما عرفت من عدم القبح الفاعليّ بالإضافة إلى إيجاد ما ينطبق عليه المأمور به»(2).

ولكن فيه: أنّه حتى لو فرض تقديم جانب الأمر، ولكن مع ذلك، فالنهي موجود، والحركة واحدة، فيحصل الاتّحاد، فلا مناص من الحكم بالبطلان.

وأمّا ما ذكره من أنّ المتعلّق مطلق وغير مشروط بالحصّة المقدورة،

ص: 231


1- يراجع في ذلك: أجود التقريرات 1: 368 - 370؛ وفوائد الاُصول 2: 442 - 443.
2- محاضرات في اُصول الفقه 3: 496.

فهو ممنوع، إذ حتى مع فرض وجود المندوحة، فلابدّ وأن يتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة.

وأمّا دعواه: أنّه لا مانع من جريان الترتّب في المقام، فيرد عليها: أنّ الترتّب لا يجري إلّا بين شيئين، أحدهما أهمّ والثاني مهمّ، لا بين شيء واحد.

وأمّا دعوى إمكان تصحيح العبادة من ناحية الملاك، ففيها: أنّه مع عدم وجود الأمر، فلا سبيل لنا إلى العلم بوجود الملاك. وعليه: فعلى فرض الجواز، فإن كان المكلّف عالماً بالحرمة فلا تصحّ العبادة، وإن قدّمنا جانب الأمر.

نعم، يصحّ في صورة النسيان والجهل.

في العبادات المكروهة:

لا يخفى: أنّ الأحكام بأسرها متضادّة فيما بينها، لا فرق في ذلك بين الوجوب والحرمة وبين الاستحباب والكراهة.

ولكن قد يقال: بأنّه قد وقع في الشرع اجتماع الاستحباب مع الكراهة، فيكون هذا دليلاً على جواز اجتماع الأمر والنهي، إذ إنّ أدلّ شيء على جواز الشيء وقوعه، وذلك كالعبادات المكروهة، ﻛ «الصلاة في موضع التهمة» و«الصلاة في الحمّام» و«الصيام في السفر» و«صيام يوم عاشوراء»، ونحو ذلك...

ص: 232

ولكن فيه: أنّه بعد قيام الدليل القطعيّ على امتناع الاجتماع، وبعد القطع بالتضادّ فيما بين الأحكام بأسرها، فلابدّ - حينئذٍ - من التصرّف بالدليل الظاهر في جواز الاجتماع وتأويله، كيف لا؟! والظاهر لا يصادم الدليل العقليّ القطعيّ.

هذا هو الجواب الإجماليّ.

ولكن لابدّ هنا من التفصيل، فنقول:

إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما تعلّق النهي به بذاته، وليس له بدل، ﻛ «صوم يوم عاشوراء» والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات، والمراد بالمبتدأة: غير ذات الأسباب، كصلاة الزيارة، أو صوم يوم الغدير. وليس لهذه العبادة بدل؛ فإنّ صوم عاشوراء لا بدل له.والثاني: ما تعلّق النهي به بذاته، وكان له بدل، ﻛ «الصلاة في الحمام»؛ فإنّ لها بدلاً، إذ يمكن أن يصلّي في غيره.

والثالث: ما تعلّق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، كالصلاة في مواضع التهمة، فإنّ النهي إنّما ورد على الكون في تلك المواضع، وهو متّحد مع الصلاة فيها.

أمّا القسم الأوّل: فالنهي عنه تنزيهيّ، أي: أنّه أقلّ ثواباً، بعد ورود الإجماع على صحّة هذه العبادة لو جيء بها مع أرجحيّة تركه، كما هو مستفاد من مداومة الأئمّة(على الترك.

ص: 233

وكذا الحال في القسم الثاني، فإنّ النهي إنّما هو عبارة عن وجود منقصة هناك.

وأمّا في القسم الثالث: فإنّ النهي يمكن أن يكون إرشاديّاً، ويمكن أن يكون مولويّاً، ويكون النهي قد ورد على ذلك العنوان، وهو الكون في مواضع التهمة، فتدخل معه في مسألة الاجتماع؛ فإنّه بناءً على الامتناع يحكم بالجواز هنا في صورة ترجيح جانب الأمر، من جهة الإجماع على صحّة هكذا عبادة.

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام:

اشارة

قال صاحب الكفاية): «إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه، مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثّراً له كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام،إلّا أنّه إذا لم يكن اختياره لم يكن اضطراره إليه بسوء الاختيار، بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ الخطاب بالزجر حينئذٍ، وإن كان ساقطاً، إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذاك الخطاب ومستحقّاً عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب، وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب»(1).

لا يخفى: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام يتكلّم فيه: تارةً: فيما إذا لم يكن بسوء اختياره، وأُخرى: فيما إذا كان بسوء اختياره. والكلام

ص: 234


1- كفاية الاُصول: ص 162.

في كلتا الصورتين، تارةً: من حيث الحكم التكليفيّ، وأُخرى من ناحية الحكم الوضعيّ.

فالصورة الأُولى كالمحبوس في الدار الغصبيّة، إذا لم يكن هناك مندوحة، ولا إشكال حينئذٍ: في ارتفاع الحرمة؛ لأنّه مضطرّ إلى ارتكاب الحرام، ويكون عمله مسقطاً للأمر عقلاً، وسقوط قيديّة لزوم عدم إيقاعها في المكان المغصوب مطلقاً، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه.

أمّا بناءً على القول بالامتناع: فلأنّ مورد التصادق يكون من صغريات النهي عن العبادة، والقيديّة المستفادة من الحرمة النفسيّة تدور مدار الحرمة، والحرمة ارتفعت، وليست كالقيديّة المستفادة من النواهي الغيريّة، كما إذا قلت: لا تصلّ في غير المأكول، حيث إنّ الظاهر منه هو القيديّة المطلقة، سواء تمكّن المكلّف منها أم لم يتمكّن؟ نعم،غاية الأمر: أنّه في صورة عدم التمكّن من القيد يسقط التكليف عن المقيّد.

وأمّا بناءً على الجواز، فسقوط القيديّة عند الاضطرار أولى، إذ بناءً على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفنا، والقيديّة المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيديّة.

وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) في مقدّمة هذا البحث: أنّ القيود العدميّة

ص: 235

المعتبرة في المأمور به بحيث تحدّد الحكم وتجعله مختصّاً بموردٍ دون آخر على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن تكون مدلولة للنهي الغيريّ ابتداءً، فيكون النهي نهياً إرشاديّاً يفيد مانعيّة متعلّقه عن صحّة العمل المحفوف به، كالنهي الوارد عن لبس الحرير في الصلاة، وهذا لا يرتفع بالاضطرار إذا كان دليله مطلقاً؛ فإنّه يفيد أنّ المانعيّة تثبت في كلا الحالين: الاضطرار والاختيار، فلا تسقط المانعيّة في حال الاضطرار ولا محذور فيه.

إلّا أنّ التكليف هنا لا يسقط، للدليل الذي قام بالخصوص على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فانّه يدلّ على إلغاء الشارع كلّ قيد من قيودها حال العجز.

الثاني: أن تكون تابعة للنهي النفسيّ الدالّ على التحريم، فيستفاد منه مانعيّة متعلّقه عن صحّة العمل، كما في مورد الاجتماع بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى، ولكنّ المانعيّة:تارةً يُقال: إنّها في طول الحرمة وتابعة لها، كما هو المشهور.

وأُخرى يُقال: إنّها في عرضها، بمعنى: أنّ النهي يستفاد منه في عرضٍ واحد الحرمة والمانعيّة.

فعلى الأوّل: يكون الاضطرار رافعاً للحرمة والمانعيّة؛ لأنّ المفروض كون المانعيّة تابعةً للحرمة، فإذا زالت الحرمة زالت المانعيّة، فيصحّ العمل.

ص: 236

وعلى الثاني: لا يرفع الاضطرار المانعيّة، وإنّما يرفع الحرمة فقط، إذ المانعيّة لا تنافي الاضطرار، كما عرفت، والمفروض عدم إناطتها بالحرمة.

الثالث: أن تكون ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهيّ عنه، كما هو الحال لو قيل بالجواز من الجهة الأُولى؛ فإنّه يقع التزاحم بين الحكمين، فيرتفع الأمر باعتبار المزاحمة، ففي مثله: لو حصل الاضطرار يبقى الأمر؛ وذلك لارتفاع الحرمة وزوال المزاحمة؛ لأنّ أساسها كون الحكم فعليّاً، ولا فعليّة للحرمة مع الاضطرار.

هذا ملخّص ما أفاده(قدس سره)(1).

ص: 237


1- انظر: أجود التقريرات 1: 371- 372؛ وإليك نصّ كلامه، قال): «أمّا الكلام في المقام الأوّل: أعني به: ما إذا كان الانحصار بغير سوء اختيار المكلّف، فتوضيحه بأن يقال: إنّ اعتبار القيود العدميّة إمّا أن يكون مدلولاً للنهي الغيريّ، فيكون التقييد هو المستفاد من الدليل ابتداءً، وإمّا أن يكون مستفاداً بالدلالة الالتزاميّة من النهي النفسيّ الدالّ على الحرمة، كما في موارد النهي عن العبادة، أو موارد اجتماع الأمر و النهي، بناءً على الامتناع من الجهة الاُولى، وإمّا أن يكون لأجل مزاحمة المأمور به للمنهيّ عنه، مع فرض تقديم جهة الحرمة على الوجوب، فهناك أقسام: (أمّا القسم الأوّل): أعني به: ما كان اعتبار القيد العدميّ في المأمور به مدلولاً ابتدائيّاً للنهي الغيريّ، كما في النهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فمقتضى إطلاق دليل التقييد فيه - على تقدير تماميّة مقدّماته - هو اعتبار القيد في المأمور به في جميع أحوال المكلّف، ولازم ذلك هو سقوط الأمر عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد للقيد، كما ف-ي صورة الاضطرار إلى لبس الحرير أو غير المأكول المعتبر عدمهما في الصلاة، إلّا أنّ ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال قد دلّ على إلغاء الشارع كلّ قيدٍ من قيودها في حال العجز عن تحصيله. (وأمّا القسم الثاني): أعني به: ما كان اعتبار القيد العدميّ مستفاداً من نهيٍ نفسيّ، فإن قلنا فيه بكون التقييد تابعاً للحرمة ومتفرّعاً عليها كما هو المشهور، فمقتضى القاعدة فيه هو سقوط القيد عند الاضطرار؛ لسقوط علّته المقتضية، أعني بها: الحرمة، وأمّا إذا قلنا بكون التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة من دون سبقٍ ولحوق بينهما، فيكون حال هذا القسم حال القسم الأوّل، في أنّ القاعدة الأوّليّة فيه تقتضي سقوط الأمر عند تعذّر قيده، والقاعدة الثانويّة تقتضي سقوط التقييد ولزوم الإتيان بكلّ ما أمكن الإتيان به من أجزاء الصلاة وشرائطها. (وأمّا القسم الثالث): أعني به: ما كان اعتبار القيد العدميّ ناشئاً من مزاحمة المأمور به للمنهيّ عنه، فالقاعدة فيه تقتضي سقوط التقييد عند الاضطرار؛ لأنّ التزاحم فرع وجود التكليف التحريميّ وتنجّزه، كي يكون معجّزاً للمكلف عن الإتيان بالمأمور به، ومعذّراً له في تركه، فإذا فرض سقوط الحرمة بالاضطرار، لم يبقَ موضوع للتزاحم الموجب لعجز المكلّف شرعاً عن الإتيان بالمأمور به؛ فلا محالة يسقط التقييد، ويبقى الأمر متعلّقاً بغير المقيّد».

وأمّا إذا كان بسوء الاختيار، فتارةً نتكلّم فيه من حيث الحكم التكليفيّ، وأُخرى من حيث الحكم الوضعيّ.

فالأوّل: بمعنى أنّ خروجه هل هو حرام أم لا؟ أي هل هو ماُمور به أو منهيّ عنه؟

والثاني: بمعنى: هل تصحّ صلاته في حال الخروج أم لا؟

والأقوال الواردة في المقام أربعة، وهي:

الأوّل: أنّ الخروج ماُمور به فقط، ولا يعاقب عليه، وهو منسوب إلى الشيخ الأعظم(قدس سره)(1).

ص: 238


1- انظر: مطارح الأنظار 1: 708 - 709، وقال: «وقد نسبه بعضهم إلى قوم، ولعلّه الظاهر من العضديّ كالحاجبيّ، حيث اقتصروا على كونه ماُموراً به فقط».

الثاني: أنّ الخروج واجب، ومع ذلك فهو حرام، أي: أنّه يكون ماُموراً به ومنهيّاً عنه في الوقت عينه، وهو المنسوب إلى أبي هاشم واختاره صاحب القوانين(قدس سره)(1).

الثالث: أنّه ماُمور به ومنهيّ عنه، لكن بالنهي السابق لا الفعليّ، فيجب عقابه؛ لأنّه دخل الأرض المغصوبة باختياره،والمراد من النهي السابق: النهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج، وهو خيرة صاحب الفصول(قدس سره)(2).

الرابع: أنّه غير ماُمور به ولا منهيّ عنه بالنهي الفعليّ، ولكن يعاقب عليه ويجري عليه حكم الغصبيّة، مع إلزام العقل بالخروج؛ لكونه أقلّ محذوراً، من دون أن يكون ماُموراً به شرعاً، وهو الذي اختاره صاحب الكفاية) بقوله:

«والحقّ أنّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون ماُموراً به..»(3).

ص: 239


1- قوانين الاُصول 1: 153، عند قوله: «والثالث: أنّه ماُمور به ومنهيّ عنه أيضاً، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخّرينا، بل هو ظاهر الفقهاء، وهو الأقرب..».
2- الفصول الغرويّة: ص 140، قوله(قدس سره): «والحقّ: أنّه ماُمور بالخروج مطلقاً أو بقصد التخلّص، وليس منهيّاً عنه حال كونه ماُموراً به، ولكنّه عاصٍ به بالنظر إلى النهي السابق..».
3- كفاية الاُصول: ص 168.

ولابدّ قبل الأخذ باختيار أحد الأقوال من بيان اُمور:

الأوّل:

أنّ التصرّف الخروجيّ هل يكون حسناً وواجباً على الإطلاق، أم لا، بل في خصوص ما إذا قصد التخلّص؟

الحقّ: أنّ الذي يكون حسناً إنّما هو التصرّف الخروجيّ إذا كان بعنوان التخلّص، وأمّا لو خرج متنزّهاً كما كان دخوله كذلك، فإنّ دخوله وبقاءه وخروجه تكون كلّها تصرّفات قبيحة عقلاً، وممنوع منها شرعاً، وكذلك إذا كان خروجه منها لشغل آخر.وأمّا مثل الخروج التخلّصيّ، فبما أنّه حسن، فلا يمكن أن يعرضه القبح؛ وإلّا، لزم اجتماع الضدّين؛ فإنّ الخروج التخلّصيّ رفع للظلم، وما يكون رفعاً ونقيضاً للظلم والعدوان كان حسناً لا محالة.

والثاني:

هل المقام من صغريات قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً» أم لا؟

لا يخفى: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنّما تعني أنّ التكليف إذا توجّه إلى المكلّف وكان قادراً على امتثاله، ثمّ بسوء اختياره جعل ذلك الامتثال ممتنعاً على نفسه، فلا يكون حينئذٍ معذوراً في ترك امتثال الواجب، بل يؤاخذ ويستحقّ العقاب؛ لأنّه - في الحقيقة - ترك الامتثال عمداً، وبسوء اختياره، أو فقل: هو الذي عجّز نفسه اختياراً،

ص: 240

وأمّا الخروج من الدار المغصوبة، فليس من هذا القبيل؛ لأنّه كان مقدوراً للمكلّف فعلاً وتركاً، ولم يعرض عليه الامتناع، وإنّما الممتنع هو المقدار من الكون في المغصوب، وهذا المقدار كما يحصل بالخروج يحصل بتركه، وهذا لا يكون سبباً لامتناع الخروج؛ لأنّ الاضطرار إلى الجامع لا يستلزم الاضطرار إلى ما يحصل به.

وعليه: فإدخال هذا الخروج في مسألة الامتناع بالاختيار في غير محلّه، بل هو على عكس هذه القاعدة؛ فإنّ مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان ترك المقدّمة ومخالفتها سبباً لترك الواجب، كترك المسير الموجب لترك الحجّ؛ فإنّ من تركالمسير إلى الحجّ بعد وجود الاستطاعة، مستحقّ للعقاب على تركه، وإن امتنع عليه الفعل - حينئذٍ - في وقته؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، كما فيمن ألقى نفسه من شاهق.

وأمّا في مورد الكلام، فإنّ الدخول موضوع للخروج ومن مقدّماته التي يتوقّف عليه الخروج، فقبل الدخول لا نهي عن الخروج، وبعد الدخول لا يكون الخروج منهيّاً عنه، بل المنهيّ عنه هو الجامع، أي: المقدار من البقاء، بل يكون الخروج حسناً إذا كان لأجل التخلّص، من باب أقلّ المحذورين، أو من باب ردّ الغصب. وعليه: فوجوب الخروج بعد الوقوع ممّا يحسّنه العقل، فكيف يكون مندرجاً في القاعدة المذكورة؟

وعلى الجملة: فهناك ثلاثة تصرّفات في مال الغير بلا إذنٍ منه: الدخوليّ

ص: 241

والبقائيّ والخروجيّ، وما يكون حراماً من هذه الثلاثة اثنان فقط، وهما: الدخوليّ والبقائيّ، دون الخروجيّ؛ لأنّه يكون سبباً للتخلّص من الحرام، فلا يمكن أن يتّصف بالحرمة في حال من الأحوال، نظير شرب الخمر إذا توقّفت عليه حياة الشخص.

وبعبارة أُخرى: فالخروج لا يقع محرّماً أصلاً، لا قبل الدخول ولا بعده؛ لأنّه قبل الدخول غير متمكّن من الخروج، وبعد الدخول يكون الخروج سبباً للتخلّص من الحرام، فلا يمكن أن يقال: إنّ المكلّف قبل الدخول متمكّن من جميع هذه التصرّفات، فجميعها تكون محرّمة؛ لأنّه غيرمتمكّن من التصرّف الخروجيّ قبل الدخول، كما هو واضح.

إلّا أن يقال: إنّه ممكن مع الواسطة، أي مع واسطة الدخول، قال في الكفاية:

«وبالجملة: كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً، غاية الأمر: يتمكّن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرّد عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج..»(1).

ص: 242


1- كفاية الاُصول: ص 170.

وعلى فرض إمكانه، فبما أنّه سبب للتخلّص، فلا يكون حراماً.

ولكن قد يستشكل فيه: بأنّ الخروج ليس بواجب حتى ترتفع الحرمة، لا بوجوب نفسيّ ولا بوجوب غيريّ:

أمّا الوجوب النفسيّ: فلأنّ مصلحته النفسيّة متوقّفة على انطباق عنوانٍ حسن عليه شرعاً، والعنوان المتصوّر انطباقه على الخروج ليس إلّا التخلّص من الغصب الموجب لكونه ذا مصلحة نفسيّة، وواجباً نفسيّاً، وذلك لا يصلح لجعل الخروج معنوناً بهذا العنوان ولا مصداقاً له؛ لأنّ التخلّص من الغصب عبارة عن تركه المتحقّق بانتهاء الحركة الخروجيّة إلى الكون في الخارج عن المغصوب، فليس الخروج بنفسهمعنوناً بعنوان التخلّص ولا مصداقاً له في الخارج حتى يكون ذا مصلحة نفسيّة وواجباً نفسيّاً.

وأمّا الوجوب الغيريّ: فلأنّ الخروج ليس مقدّمة للتخلية، بل الحركات الخروجيّة مقدّمة للكون في خارج المكان المغصوب، وليست هذه الحركات مقدّمة للتخلية الواجبة التي هي إفراغ المكان عن التصرّف العدوانيّ.

وبعبارة ثانية: فإنّ الخروج مقدّمة لملازم التخلية الواجبة - وهو الكون في المكان المباح - لا مقدّمة لنفس الواجب حتى يكون واجباً غيريّاً لأجل المقدّميّة. فالخروج ليس بواجب، لا نفسيّاً ولا مقدّميّاً، حتى يقدّم جانبه وترتفع الحرمة.

ص: 243

نعم، يمكن القول: بالوجوب العقليّ، لا الشرعيّ؛ لأنّ العقل يحكم بالخروج دفعاً للأفسد - وهو الغصب الزائد على الخروج - بالفاسد، وهو الغصب بمقدار الخروج.

ثمّ إنّ وجوب المقدّمة مع انحصارها إنّما يكون بشرطين:

الأوّل: أن يكون الواجب أهمّ من ترك المقدّمة، كإنقاذ الغريق، فإنّه أهمّ من حرمة الدخول في المكان المغصوب، وأيضاً: كالخروج عنه تخلّصاً من الغصب، فإنّ الواجب - وهو التخلّص عنه - أهمّ من ترك الحرام، وهو الخروج.

والثاني: أن لا يكون الاضطرار إلى المقدّمة المحرّمة - كالخروج - بسوء اختياره، وإلّا، تبقى المقدّمة على حالها من الحرمة والمبغوضيّة، فلا يبقى هناك تنافٍ بين وجوب المقدّمة والحرمة، خصوصاً فيما إذا كان توصّليّاً.وقد استُشكل في ذلك: بأنّ الالتزام بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدّمة، وهو التخلّص من الغصب، أو حفظ النفس بالنسبة إلى شرب الخمر؛ حيث إنّ المقدّمة - وهي الخروج والشرب - ممنوعة شرعاً، وموجبة لاستحقاق العقوبة عقلاً.

ومن المقرّر: أنّ الممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً، فالتكليف بذي المقدّمة مع امتناع مقدّمته الوجوديّة تكليف بغير المقدور؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها، فلابدّ أن نقول: إمّا بسقوط

ص: 244

الحرمة عن المقدّمة، أو بسقوط الوجوب عن ذي المقدّمة.

ولكنّ الالتزام بسقوط الوجوب كما ترى، حيث لم يلتزم أحد بسقوط وجوب التخلّص عن المغصوب وحفظ النفس، فلا محالة: يتعيّن القول بسقوط الحرمة عن المقدّمة، وهي الخروج والشرب، وهو المطلوب(1).

قد أجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«إنّما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً لا بأس في بقاءذي المقدّمة على وجوبه، فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة»(2).

وحاصله: أنّه بعد حكم العقل بلزوم فعل المقدّمة، فالوجوب باقٍ على حاله؛ لأنّه ليس من التكليف بالممتنع وغير المقدور، بعد أن كانت مخالفته من باب أقلّ المحذورين، فلا منافاة بين كون الخروج

ص: 245


1- هذا الوجه - كما أفاده المحقّق المشكيني) - ممّا يمكن الاستدلال به للتقريرات، وإن لم يستدلّ هو به. وقد أشار إليه في الكفاية بقوله: «إن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً عليه عقلاً مع بقاء ما يتوقّف عليه على وجوبه، ووضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدّمة المنحصرة، ولو بسوء الاختيار، والعقل قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عادةً أو عقلاً؟». انظر: حواشي المشكيني 2: 174، وكفاية الاُصول: ص 171- 172.
2- كفاية الاُصول: ص 172.

واجباً وبين كونه ممتنعاً شرعاً بالنهي السابق الذي سقط بالفعل وكان بسوء اختياره.

ثمّ تنزّل(قدس سره) وقال:

«لو سُلّم، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإيجاب، لا لزوم إتيانه عقلاً خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً، ضرورة أنّه لو لم يأتِ به لوقع في المحذور الأشدّ ونقض الغرض الأهمّ، حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصورٍ، أو طروّ فتورٍ فيه أصلاً، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به لذلك إرشاداً كافٍ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً، فتدبّر جيّداً»(1).

وحاصله: أنّه لو فرض سقوط وجوب ذي المقدّمة، لعدم التمكّن منه، من جهة حرمة مقدّمته، إلّا أنّ الساقط هو فعليّته، التي هي البعث والإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك والتخلّص من الغصب.ولكن بما أنّ حكم العقل بلزوم الخروج باقٍ على حاله، فلا نحتاج مع هذا الحكم إلى الحكم الشرعيّ الفعليّ، فإنّ الملاك موجود، وحرمة المقدّمة مانعة عن فعليّة وجوب ذي المقدّمة، ووجوب التخلّص ثابت بحكم العقل، وحكمه كافٍ لا حاجة معه إلى الحكم الشرعيّ.

ص: 246


1- المصدر نفسه.

فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الخروج باقٍ على حرمته ولا تتبدّل حرمته بالوجوب من جهة الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار، ولم يخرج عن عموم دليل حرمة الغصب، ولم يصر مطلوباً بسبب توقّف التخلّص عليه؛ لأنّ الاضطرار إنّما كان بسوء اختياره.

ولكنّ المحقّق النائيني) ذكر أنّ الخروج ليس مورد الاضطرار، فلا يدخل المورد تحت قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»، فالبحث إنّما يقع في التزاحم الحاصل بين حرمة الخروج ووجوب التخلّص عن الغصب الزائد، فالمورد من موارد التزاحم بين الحكمين بسوء الاختيار(1).

نعم، إنّما يحكم العقل بالخروج من جهة أنّه أقلّ المحذورين، كما ذكرنا سابقاً.

فإن قلت: إذا كان الخروج لازماً ولو باللّزوم العقليّ ومن جهة الفرار عمّا هو أكثر عقوبة، فكيف يكون معاقباً عليه عقلاً؟ بل هناك تنافٍ بين لزوم الخروج واستحقاق العقاب.قلت: إنّ حكم العقل باللّزوم ليس لأجل أنّ هناك مصلحةً في ذات الخروج تكون موجبةً لإلزام العقل، بل لأجل أنّ الخروج موجب للفرار عن العقوبة الزائدة، وهو ترك الخروج والبقاء.

فإن قلت: لو كانت حرمة الخروج باقية، فكيف يمكن أن يكون ماُموراً

ص: 247


1- انظر: أجود التقريرات 1: 376.

به؟ فإنّ النهي لا يزال باقياً والخروج لا يزال حراماً حتى من بعد حدوث الاضطرار.

قلت: ليس الخروج ماُموراً به - كما مرّ - لا بالأمر النفسيّ ولا بالأمر الغيريّ، وإنّما العقل يحكم بلزومه من باب أقلّ المحذورين.

فإن قلت: فبناءً على هذا يلزم اجتماع الضدّين، وهما الوجوب والحرمة في فعلٍ واحد بعنوانٍ واحد.

قلت: يمكن الجواب عن ذلك: بأنّا نختار القول الذي ذهب إليه صاحب الفصول(قدس سره)، ولا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه لا يقول بأنّ الخروج معصية حقيقيّة حتى يكون حراماً كي يلزم اتّصافه بالوجوب والحرمة، بل يقول بأنّه في حكم المعصية، أي: بلحاظ استحقاق العقوبة.

ومن هنا ظهر فساد ما أورده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) على هذا القول من أنّه يستلزم التكليف بالمحال ببيان:

«أنّ المتوسّط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما. هذا من ناحية.ومن ناحية أُخرى: المفروض أنّ البقاء فيها محرّم، فلو حرم الخروج - أيضاً - لزم التكليف بما لا يطاق، وهو محال، فإذاً لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة»(1).

ص: 248


1- محاضرات في اُصول الفقه 4: 70، (المجلّد 46 من موسوعة الإمام الخوئي(قدس سره)).

حكم الصلاة حال الخروج:

وأمّا الصلاة حال الخروج، فهي تارةً تكون تصرّفاً زائداً وأُخرى لا تكون كذلك. وعلى الفرض الثاني، فتارةً يكون هناك مندوحة وأُخرى لا يكون هناك مندوحة.

أمّا في صورة وجود المندوحة، فلا إشكال في عدم الجواز، خصوصاً إذا جيء بها بنحو الايماء والإشارة مع التمكّن من الإتيان بها تامّةً خارج مكان الغصب.

وأمّا في صورة عدم المندوحة، ولم تكن تصرّفاً زائداً في الغصب:

فبناءً على نظريّة الشيخ(قدس سره) القائلة بأنّ الخروج ليس بحرام، وأنّ الخروج وقع حسناً، فلا إشكال في صحّة الصلاة، ولابدّ له أن يصلّي مع الإيماء والإشارة إذا كان يصلّي وهو يمشي، وأمّا إذا كان في السيّارة حال الخروج، فيأتي بالصلاة تامّةً؛ لأنّ هذا التصرّف لا يعدّ تصرّفاً زائداً ولا زماناً زائداً.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ العرف يراه تصرّفاً زائداً في الغصب، ولو لم يكن بالدقّة كذلك، ولكن السؤال هنا: هو أنّ فهم العرفهل يكون متّبعاً مطلقاً أم في خصوص تعيين المفهوم دون التطبيق؟

الصحيح: أنّ فهم العرف ونظره إنّما يكون متّبعاً في الأوّل دون الثاني، فلابدّ من الأخذ بما تقتضيه الدقّة، بعد أن كان أصل تحقّق مفهوم الغصب

ص: 249

والتصرّف في المغصوب معلوماً، وإنّما الشكّ في أنّه هل يتحقّق تصرّف في الغصب زائداً على التصرّف في أصل الغصب بالركوع والسجود حين الخروج أم لا؟

وأمّا بناءً على سائر الأقوال: فبعدما قلنا أنّ التصرّف الخروجيّ حرام كالدخوليّ والبقائيّ، وفرضنا وجود المندوحة، فلا فرق بين أن يكون الخروج محرّماً بالحرمة الفعليّة أو بالنهي السابق، فلا يجوز الإتيان بالصلاة إلّا خارج المكان المغصوب حيث يمكن الإتيان بها تامّةً مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط.

ولا إشكال في القول بفسادها إذا صلّاها قبل الخروج، وإن فرض جواز اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ القبح الفاعليّ إذا كان موجوداً وكان العمل عباديّاً، فمن الواضح: أنّه لا يمكن التقرّب به حينئذٍ.

وأمّا مع فرض عدم وجود المندوحة وضيق الوقت، فلابدّ من القول بسقوط النهي وعدم مانعيّة الغصب، ولابدّ من ترجيح جانب الصلاة؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال - كما عرفنا -، وإلّا، كان اللّازم الحكم بسقوط الصلاة في هذه الحالة.

ص: 250

مسألة اقتضاء النهي الفساد

اشارة

الكلام في أنّ النهي إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يوجب الفساد أم لا؟ والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة.

والمقام الثاني: في النهي عن المعاملة.

ولابدّ أوّلاً من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجتماع:

لا يخفى: أنّ موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو أنّ الأمر والنهي قد تعلّقا بعنوانين بينهما افتراق في الجملة وقد ينطبقان على واحد.

وأمّا موضوع هذه المسألة فهو ما إذا تعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر في العبادات، أو الإمضاء في المعاملات، أو ببعضه، فموضوع

ص: 251

تلك المسألة - إذاً - مغاير لموضوع هذه المسألة. والكلام في تلك المسألة يدور حول أنّ كلّاًمنهما هل يسري إلى متعلّق الآخر أم لا؟ وأمّا هنا فالاتّحاد مسلّم ومفروغ عنه.

نعم، بناءً على السراية في تلك المسألة تكون موارد الاجتماع من صغريات هذه المسألة.

ولا يقتصر الفرق بين المسألتين على الفرق بينهما موضوعاً، بل هناك فرق بينهما محمولاً - أيضاً -؛ إذ إنّ المحمول في مسألة الاجتماع هو أنّه هل يسري ويتّحد المتعلّقان أم لا؟ وأمّا في هذه المسألة بعد الفراغ عن السراية، فهل يقتضي النهي الفساد أم لا؟

وأيضاً: فالفساد هنا ناشئ عن النهي، لكن بوجوده الواقعيّ، ولو لم يصل إلى مرتبة التنجّز؛ لأنّ المسألة داخلة في باب التعارض، فإذا ورد النهي، كشف عن عدم المصلحة، وإذا لم تكن هناك مصلحة، لم تصحّ العبادة؛ لأنّ صحّتها - كما هو معلوم - منوطة بالأمر، أو بالملاك، وبما أنّ هنا متعلّقاً واحداً، فيكون النهي كاشفاً عن عدم الملاك في الأمر، فلا يكون هناك ما يصحّح العبادة.

وأمّا في مسألة الاجتماع، فإنّ فساد العبادة مترتّب على تنجّز النهي؛ لأنّ تلك المسألة داخلة في باب التزاحم، فيكون الملاك في كليهما موجوداً، والتزاحم بينهما إنّما يكون في مقام الامتثال، من جهة عدم قدرة المكلّف على الإتيان بهما جميعاً.

ص: 252

ففساد العبادة هنا ناشئ عن عدم صلاحيّة الفعل للمقرّبيّة، أو عن عدم تمشّي قصد القربة، وكلاهما راجعانإلى مقام التنجّز، ومن هنا قالوا بصحّة العبادة في المكان المغصوب في صورة الجهل.

الأمر الثاني:

هل هذه المسألة من المسائل العقليّة أم لا؟

أدخل بعض المحقّقين(رحمة الله) المسألة في المسائل اللّفظيّة، ووجهه: «هو وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة العقليّة بين النهي والفساد فيها، فلو جُعل البحث بحثاً عقليّاً لم يكن هذا القول من أقوال المسألة، بخلاف ما لو جعل البحث لفظيّاً، فإنّه يكون من أقوالها»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ هذه المسألة - هي كمسألة الاجتماع - من المسائل العقليّة؛ لأنّ النزاع هنا في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة والفساد، بلا فرق بين أن يكون الدالّ على الحرمة هي صيغة النهي أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك.

الأمر الثالث:

هل هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

ص: 253


1- منتقى الاُصول 3: 166.

الحقّ: أنّها منها؛ لأنّ نتيجتها تقع كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ بعد ضمّ الصغرى إليها، والمسائل الاُصوليّة دائماً تثبت الكبرى، فإذا حُكم في الاُصولبأنّ النهي يدلّ على الفساد، أي: بأنّ هناك ملازمة بين الحرمة والفساد، فإذا كان هناك عبادة منهيّ عنها، كقوله%: «دعي الصلاة أيّام أقرائك»(1)، أو كانت المعاملة الفلانيّة منهيّاً عنها، كالنهي عن البيع في يوم الجمعة، فيحكم بالفساد، أي: بفساد كليهما.

وأمّا لو قلنا في الاُصول بأنّ النهي لا يقتضي الفساد، فحينئذٍ: يحكم بصحّة العبادة والمعاملة، وعليه: فهذه المسألة من المسائل الاُصوليّة لا محالة.

الأمر الرابع:

هل النهي المأخوذ في عنوان المسألة يشمل النهي التنزيهيّ أم لا، بل المراد منه خصوص النهي التحريميّ؟

قد يقال: بالعموم؛ لأنّ الملاك، وهو التنافي، كما أنّه موجود في النهي التحريميّ، فكذلك هو موجود في النهي التنزيهيّ أيضاً؛ لأنّ ما تقتضيه العبادة هي المحبوبيّة، وهي لا تجتمع مع المبغوضيّة، ولو كانت غير إلزاميّة.

ص: 254


1- تهذيب الأحكام 1: 384، باب 19، الحيض والاستحاضة والنفاس.

هذا في العبادات.

وأمّا في المعاملات، فإنّه لا منافاة بين النهي التنزيهيّ والفساد، ولو تعلّق بمعناه الاسم المصدريّ، بخلاف النهي التحريميّ، فإنّه إذا تعلّق بالمعاملة على نحو الاسمالمصدريّ، فمعناه مبغوضيّة وقوع هذه المعاملة، ومنع الشارع عن إيقاعها، وهذا ينافي الإمضاء.

ولأجل ذلك استشكلوا على الشيخ الأعظم(قدس سره) حيث خصّ العنوان بالنهي التحريميّ دون التنزيهيّ، فقال - على ما في التقريرات -: «الثاني: ظاهر النهي المأخوذ في العنوان هو النهي التحريميّ، وإن كان مناط البحث في التنزيهيّ موجوداً، وذلك لا يوجب تعميم العنوان»(1).

الأمر الخامس:

أنّ النهي المأخوذ في العنوان يشمل النهي الغيريّ الأصليّ، كالنهي عن لباس الحرير أو غير المأكول في الصلاة؛ لأنّ المركّب مقيّد بعدمه، ومعلوم أنّ كلّ مركّب فهو ينتفي بانتفاء أحد قيوده، ومن جملة قيوده هنا هو القيد العدميّ، فلو كانت الصلاة فاقدةً لهذا القيد كانت فاسدة لا محالة.

هذا في النهي الغيريّ الأصليّ.

ص: 255


1- انظر: مطارح الأنظار 1: 728، وكفاية الاُصول: ص 181.

وأمّا النهي الغيريّ التبعيّ، أعني: النهي الذي لا يكون مدلولاً للخطاب بحيث يكون مقصوداً من اللّفظ، بل كان لازماً للمراد باللّزوم العقليّ الذي يحكم به العقل بملاحظة الخطاب، وشيء آخر وهو مقدّميّة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر، كما إذا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد المتوقّفة على مقدّمات، منها: ترك الصلاة، فيقال: إنّ الصلاة حينئذٍ تكونمنهيّاً عنها بالنهي الغيريّ التبعيّ، فبناءً على ثبوت المقدّميّة، فإنّ مثل هذا النهي، وهو النهي عن الصلاة بالنهي الغيريّ، لا يضرّ مع وجود الملاك في المنهيّ عنه، ولا يكشف عن عدمه. فلا يدلّ على الفساد.

ولكنّ النهي مطلقاً، ولو كان تبعيّاً، يكون موجباً للفساد، إذا كان عباديّاً، ولاسيّما بعدما جعلوا الثمرة في باب «أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه» هي فساد الضدّ إذا كان عباديّاً.

والحاصل: أنّ العبادة، وهي الصلاة في المثال، تبطل إذا كان الإتيان بها موجباً لترك الإزالة المأمور بها.

الأمر السادس:

لا يخفى: أنّ المبحوث عنه في هذه المسألة إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ، أي: ما يقصد منها القربة، أي: يشترط في صحّتها قصد القربة. وأمّا العبادة بالمعنى الأعمّ فلا؛ فإنّ غسل الثوب النجس - مثلاً - يجتمع مع النهي، إذ لو ورد نهي عن غسل الثوب النجس بالماء المغصوب؛ فإنّ

ص: 256

هذا النهي لا يدلّ على فساد المغسول، فالنهي لا يؤثّر فيه أصلاً، بعد أن كان أثره، وهو طهارة الثوب، ملازماً له دائماً، ولا يتخلّف عنه.

الأمر السابع:

أنّه يدخل في محلّ النزاع كلّ معاملة كانت قابلةً للاتّصاف بالصحّة والفساد، وأمّا ما لا يقبل الاتّصاف بهما كليهما، إمّا لعدم كونه ذا أثر أصلاً، أو لأنّه ذو أثر ولكن كان ملازماً له دائماً لا يتخلّف عنه، فهذا لا يدخل في محلّ النزاع؛ لعدم اتّصافه بالفساد، فلا معنى للبحث عنه.

ومن هنا ظهر: أنّه لا وجه لما صنعه المحقّق النائيني(قدس سره) من تخصيص الكلام بالعقود والإيقاعات، بدعوى: عدم توهّم اقتضاء النهي في مثل التحجير للفساد(1). فإنّها تندفع بأنّ الملاك الذي يقتضي الفساد في مثل العقود يقتضيه في مثل التحجير.

نعم، إذا ورد النهي على المعاملات بنحو المعنى الاسم المصدريّ كان موجباً للبطلان إذا كان النهي تحريميّاً، وكانت المعاملة من قبيل العقود والإيقاعات.

وأمّا المعاملات بالمعنى الأعمّ، فلا، فلو نهى الوالد ولده عن إحياء

ص: 257


1- انظر: أجود التقريرات 1: 388، وإليك نصّ ما أفاده): «وأمّا المعاملة بالمعنى الأعمّ الشاملة للتحجير والحيازة وأمثالهما، فلم يتوهّم أحد دلالة النهي فيها على الفساد».

الأرض فأحياها، كان العمل مؤثّراً، وإن كان وروده بنحو المعنى الاسم المصدريّ، وبناءً على وجوب إطاعة الوالد مطلقاً، وكذا لو نذر أو حلف على عدم الإحياء، ثمّ خالف وأحياها.

الأمر الثامن:

في تفسير المراد من الصحّة والفساد:

قال صاحب الكفاية): «أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب آخر، ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنىً واحد، وهو التماميّة، وإنّما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتّصف بالتماميّة وعدمها»(1).

لا يخفى: أنّ الصحّة تطلق تارةً ويراد بها ما يقابل العيب، فالصحيح على هذا هو ما ليس بخارج عن الخلقة الأصليّة. وتطلق أُخرى في مقابل الفساد، فالصحيح بناءً عليه هو ما يترتّب عليه الأثر. والمراد في محلّ البحث عن أنّ النهي يقتضي الفساد أم لا هو هذا المعنى الثاني، أي: أنّ النهي هل يوجب عدم ترتّب الأثر، أي: عدم الصحّة التي مقابل الفساد أم لا؟

ص: 258


1- كفاية الاُصول: ص 182 - 183.

ولا يخفى - أيضاً -: أنّ التقابل بينهما هو من باب التقابل بين العدم والملكة، وليس من قبيل التضادّ؛ لأنّ الفساد ليس بأمرٍ وجوديّ، ولا من تقابل السلب والإيجاب؛ لأنّ الفساد إنّما يترتّب على شيء يكون قابلاً للصحّة، ولا يترتّب على عدم الصحّة مطلقاً.فالصحيح - إذاً - هو ما يترتّب عليه الأثر المطلوب، والفاسد هو ما لا يترتّب عليه الأثر المطلوب ممّا هو قابل لأن تترتّب عليه الصحّة، وهما، أي: الصحيح والفاسد، لا يصدقان إلّا في المركّبات التي لها أجزاء وشرائط، بحيث لو أتيت بالشيء تامّ الأجزاء والشرائط سمّي صحيحاً، وإلّا، سمّي فاسداً.

فبناءً على هذا: فالبسائط لا تتّصف بالصحّة ولا بالفساد، بل الأمر في البسائط دائر بين الوجود والعدم، فإذا وجدت فهي صحيحة؛ إذ ليس لها أجزاء وشرائط حتى يقال: إنّ المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وإن لم توجد كانت من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع بالنسبة إلى الصحّة والفساد؛ لأنّهما وصفان لا يترتّبان ولا يُحملان على الشيء إلّا بعد وجوده.

ثمّ إنّ المركّب وإن كان هو الذي يتّصف بالصحّة والفساد، ولكن ليس كلّ مركّب قابل لذلك؛ فإنّ موضوعات الأحكام، وإن كانت مركّبة، لا يترتّب عليها الصحّة والفساد، كما في الاستطاعة المركّبة من البلوغ والعقل، فإنّ أمرها يدور بين الوجود والعدم، لا بين الصحّة والفساد؛ فإنّه إن كانت الشروط جميعاً موجودة فالموضوع موجود، وإن فقد

ص: 259

الموضوع، ولو بفقد بعض شروطه، فالموضوع مفقود.

نعم، الذي يتّصف بهما هو متعلّقات الأحكام، كالحجّ والصلاة، وما يُلحق بها، كالأسباب في العقود؛ فإنّ العقد مركّب من الإيجاب والقبول، فهو تارةً يترتّب عليه الصحّة إذا كان تامّ الأجزاء والشرائط، وأُخرى يترتّب عليه الفساد إذالم يكن كذلك. وأمّا الملكيّة والزوجيّة وأمثالهما، فبما أنّهما بسيطان، فلا يدور أمرهما مدار الصحّة والفساد.

وبالجملة: فلابدّ أن يكون للشيء أثر شرعيّ حتى يتّصف بالصحّة أو بالفساد، وأمّا لو لم يكن له أثر شرعيّ، أو كان أثره غير منفكّ عنه، كالغصب الملازم للضمان، فلا مجال لأن يتّصف بهما.

وهل الصحّة والفساد أمران واقعيّان أم أمران مجعولان شرعاً؟

أم أنّ هناك تفصيلاً بين العبادات والمعاملات، فهما مجعولان شرعاً في المعاملات دون العبادات؟

أم أنّ هناك تفصيلاً بين المعاملات الكلّيّة والمعاملات الشخصيّة، فهما مجعولان في الاُولى شرعاً دون الثانية؟

أم أنّ هناك تفصيلاً بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ، فهما مجعولان في الأوّل شرعاً دون الثاني؟

وجوه بل أقوال.

اختار الاُستاذ الأعظم(قدس سره) «التفصيل بين كون الصحّة والفساد في

ص: 260

العبادات غير مجعولين شرعاً، وفي المعاملات مجعولين كذلك ..»(1). وقال): «إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أنّ الصحّة والفسادفي المعاملات أمران واقعيّان، وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً»(2).

ولكنّ الحقّ: أنّ الصحّة، وإن كانت بمعنى التماميّة، فإنّها البحث فيها يقع في مقامين؛ إذ إنّها:

تُلحظ تارةً بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ.

وأُخرى بالنسبة إلى الأمر الثانويّ والظاهريّ.

أمّا الصحّة بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ، فهي عند الفقيه تكون من الاُمور العقليّة؛ لوضوح أنّ العقل يحكم بسقوط الأمر بعد انطباق المأمور به على المأتيّ به، فلا يبقى هناك موجب للإعادة والقضاء، فليست الصحّة أمراً انتزاعيّاً.

وأمّا بالنسبة إلى الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الواقعيّ الثانويّ:

فتارةً: تكون الصحّة فيهما حكماً وضعيّاً شرعيّاً، كما إذا بقي من الملاك - بعد الإتيان بالمأمور به - مقدار يقتضي تشريع وجوب الإعادة أو

ص: 261


1- محاضرات في اُصول الفقه 4: 143.
2- المصدر نفسه 4: 145.

القضاء، ولكنّ الشارع المقدّس تخفيفاً على العباد لم يوجب شيئاً منهما، واكتفى بالمأمور به بالأمر الثانويّ أو الظاهريّ تفضّلاً عليهم، فلا محالة: تكون الصحّة - حينئذٍ - حكماً وضعيّاً شرعيّاً، لا عقليّاً، ولا انتزاعيّاً.

وأُخرى: تكون الصحّة حكماً عقليّاً، كما إذا فرض وفاء المأمور به بالأمر الثانويّ الظاهريّ أو الواقعيّ بتمام الملاك أو بمعظمه، بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوبالإعادة أو القضاء، والصحّة - حينئذٍ - حكم عقليّ؛ لأنّها تكون من اللّوازم العقليّة للإتيان بالمأمور به.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الصحّة عند المتكلّم أمر انتزاعيّ ناشئ من انطباق المأمور به على المأتيّ به. وأمّا عند الفقيه، فالصحّة بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ الأوّليّ من اللّوازم العقليّة، وبالنسبة إلى الأمر الثانويّ أو الظاهريّ إمّا حكم وضعيّ شرعيّ، وإمّا حكم عقليّ.

ثمّ إنّ الصحّة والفساد من الاُمور الإضافيّة، أي: ليس لهما حدّ معيّن واقعاً، بل ربّما يكون الشيء الواحد صحيحاً بالنسبة إلى أثر، وفاسداً بالنسبة إلى أثرٍ آخر؛ فإنّ المأمور به بالأمر الظاهريّ، كالوضوء المستصحب، صحيح، كما في حال التقيّة، ويسقط الأمر به إذا جيء به مطابقاً للأمر الظاهريّ، ولكنّه مع ذلك، يكون فاسداً بالنسبة إلى أمرٍ آخر، كسقوط القضاء، أو في غير حال التقيّة، فإنّه يكون صحيحاً بالنسبة إلى أمرهما، دون الأمر الواقعيّ. كما أنّه قد يكون الشيء الواحد صحيحاً بنظر العرف دون الشرع، كما في بيع المنابذة.

ص: 262

ويمكن أن يقال: بأنّ الصحّة بمعنى التماميّة، فالصحيح هو ما يكون واجداً لجميع الأجزاء والشرائط، وأمّا الفاسد فهو أن يكون العمل فاقداً لبعض الأجزاء أو الشرائط، فإذا كان كذلك، لم يكن هناك من فرق بين الصحّة عند الفقيه والصحّة عند المتكلّم، وإن عرّف المتكلّمونالصحّة بأنّها بمعنى موافقة الشريعة، والفقهاء بأنّها بمعنى إسقاط القضاء.

إلّا أنّ هذا لا يعدو أن يكون محض اختلاف في الأغراض، وإلّا، فالصحّة عند الجميع بمعنى واحد، وهو: التماميّة، غاية الأمر: أنّ نظر الفقيه كان إلى إسقاط الإعادة والقضاء فعرّفها بذلك، ونظر المتكلّم إلى حيثيّة استحقاق الثواب والعقاب، فلذا عرّفها بموافقة الأمر أو موافقة الشريعة.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المقصد الذي مشى عليه كلّ منهما هو الذي دعاهما إلى التعبير عن التماميّة - التي هي حقيقة معنى الصحّة - بما يكون من لوازمها.

فإذا اتّضح هذا: فإنّ النسبة بين التعريفين هي العموم المطلق؛ فإنّ كلّ ما يسقط وجوب الإعادة أو القضاء يكون - لا محالة - موافقاً للأمر والشريعة، ولا عكس، أي: ليس كلّ ما هو موافق للأمر يكون مسقطاً لهما؛ لأنّ المأتيّ به مع الطهارة المستصحبة يكون موافقاً للأمر، ولكن إذا انكشف الخلاف فلا يكون مسقطاً للأمر بالإعادة والقضاء.

ص: 263

فإذا عرفت هذا، فنقول:

تحقيق هذه المسألة منوط بمعرفة أقسام الأمر، وهي ثلاثة:

الأوّل: الواقعيّ الأوّليّ، كالأمر بالصلاة، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾(1).

الثاني: الواقعيّ الثانويّ، كالأمر بالوضوء بغسل الرجلين أو الأمر بالصلاة متكتّفاً تقيّةً.الثالث: الظاهريّ، كالصلاة مع الوضوء المستصحب.

وحينئذٍ نقول: إنّ فرض كون النسبة بين التعريفين هي العموم والخصوص المطلق منوط:

أوّلاً: بأن يكون المراد من تعريف المتكلّم (موافقة الأمر) ما يعمّ الأقسام الثلاثة المذكورة للأمر. إذ لو كان المراد من (موافقة الأمر) خصوص الأمر الواقعيّ الأوّليّ، فلو جيء بالواقعيّ الثانويّ، أو بالظاهريّ، فلا يكون موافقاً، كما أنّه لا يكون مسقطاً للقضاء والإعادة.

وثانياً: بأن يبني الفقيه على عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهريّ، فحينئذٍ يصدق أنّ كلّ ما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر، ولا عكس، أي: لا يصدق أنّ كلّ ما هو موافق للأمر على نحو الإطلاق مسقط للإعادة أو القضاء؛ وذلك لأنّ المأمور به بالأمر الظاهريّ، وإن كان موافقاً للأمر

ص: 264


1- انظر - مثلاً - : البقرة: الآية 43.

عند المتكلّم؛ لأنّ المفروض أنّه أراد بالأمر في تعريفه ما يعمّ الأقسام الثلاثة، إلّا أنّه ليس مسقطاً للإعادة أو القضاء؛ لأنّ الفقيه لا يقول بمسقطيّة الأمر الظاهريّ لهما.

والحاصل: أنّه بانتفاء أحد الأمرين - بأن خصّ المتكلّم الأمر بالواقعيّ، أو بنى الفقيه على الإجزاء - تنتفي النسبة المذكورة بين التعريفين، وتكون النسبة بينهما هي التساوي؛ لأنّ موافقة مطلق الأمر مسقطة للإعادة أو القضاء، وكذا كلّ مسقط لهما موافق للأمر، فعلى انتفاء أوّل الأمرين تكون الصلاة مع الطهارة المستصحبة موافقة للأمر الظاهريّ، ومسقطة لهما.وعلى انتفاء ثانيهما لا تكون الصلاة المذكورة موافقة للأمر، ولا مسقطة للإعادة أو القضاء.

في بيان معنى العبادة والمعاملة:

لا يخفى: أنّ تحقيق مسألة أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل هو موجب للفساد أم لا؟ لا يتمّ إلّا بعد تحديد ما هو المراد من كلٍّ من العبادة والمعاملة.

أمّا المراد من العبادة: فأحد معنيين:

الأوّل: ما يكون بذاته عبادة من دون إناطة عباديّتها بأمر، فالعبادة حينئذٍ فعليّة ذاتيّة، كالسجود والركوع ونحوهما ممّا يكون بنفسه عبادة، فإذا فرض تعلّق النهي بهذا القسم من العبادات، ترد عليه الحرمة، ولكنّ

ص: 265

هذه الحرمة الآتية من قبل النهي لا تكون سبباً لإخراجه عن العباديّة، لكون عباديّته ذاتيّة بحسب الفرض. نعم، تكون سبباً لإخراجهما عن المقرّبيّة.

الثاني: أنّ المراد بالعبادة هو الأعمّ من العبادة الفعليّة الناشئة عباديّتها عن ذاتها، كالركوع والسجود كما تقدّم آنفاً، أو ما تكون عباديّته تعليقيّة، بمعنى: أنّه لو أمر به لصار عبادة، وكان أمره عباديّاً بحيث لا يسقط إلّا إذا أتى به على وجه قربيّ، كالصلاة في أيّام الحيض، أو صوم العيدين.

التحقيق: أنّ النزاع لا يأتي في العبادة التقديريّة؛ لأنّ المفروض أنّ العبادة التقديريّة لا أمر فيها فعلاً، وعدم الأمركافٍ في فسادها، فلا تصل النوبة إلى تأثير النهي في الفساد، كما هو ظاهر عنوان المسألة، حيث أُسند الفساد فيه إلى النهي.

فالأَولى أن يُقال: المراد من العبادة هو ما لولا النهي لكان عبادة، بحيث لو تعلّق به النهي لتعلّق بما هو عبادة فعلاً، فلو اُريد من العبادة هذا المعنى - أي: العبادة لولا النهي - سلم من الإشكال.

وأمّا لو فرض أنّ المراد منها هي العبادة الفعليّة، فمن الواضح أنّه لا يمكن تأتّي النزاع فيها حينئذٍ، ضرورة استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ معنى حرمتها فعلاً، أنّها مبغوضة في نظر المولى ولا يمكن التقرّب بها إليه، ومعنى كونها عبادة له، أي: يمكن التقرّب بها، ومن المعلوم استحالة اجتماعهما.

ص: 266

وأمّا المراد من المعاملة: فهو كلّ شيء اعتباريّ قصديّ يتوقّف عليه الأثر شرعاً أو عرفاً، إذا قصد اعتباره وإنشاؤه، فالمعاملة - على هذا التعريف - شاملة للعقود والإيقاعات، وأمّا ما لا يتوقّف أثره على القصد والإنشاء، بل هو متوقّف على وجوده، كتطهير الثوب ونحوه، فهو خارج عن محلّ البحث.

ثمّ هل الصحّة والفساد تردان على الموجودات الخارجيّة أم على الماهيّة؟

الحقّ: أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة في حدّ نفسها، إلّا أنّها تعدّ من المعدومات فيالخارج، ولا يعقل عروض الوصفين المذكورين للمعدوم. فإنّ الصحّة - كما عرفنا - هي بمعنى التماميّة، أي: الإتيان بالمأمور به تامّاً في العبادات والمعاملات، وهذا لا يكاد يمكن إلّا في الفرد الخارجيّ، لا الأمر العدميّ. هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى، فإنّ الشيء لا يتّصف بالصحّة والفساد في مقام الجعل، بل في مقام الامتثال، بلا فرقٍ في ذلك بين العبادات والمعاملات. فإذا جيء بهما في الخارج تامّين، انطبق المأمور به والمنهيّ عنه عليهما، وهذا الانطباق تكوينيّ قهريّ، وهو معنى الامتثال، ومعلوم أنّ الانطباق وعدمه إنّما يكونان باعتبار الخارج، لا باعتبار عالم الذهن، الذي هو عالم الماهيّات.

ص: 267

في تفسير المراد من الأثر:

عرفنا أنّ العبادة التامّة الأجزاء والشرائط - مثلاً - هي العبادة التي يترتّب عليها الأثر، إذا انطبق المأمور به على المأتيّ به منها في الخارج، فما هو المراد من الأثر؟

والجواب: أنّ المراد بالأثر هو الأثر المترتّب على العمل قبل ورود النهي، وأمّا الأثر الذي يأتي بعد ورود النهي، فلا، كما إذا أتى ببعض المحرّمات، فإنّه يترتّب عليه بعض الآثار، من الكفّارات والحدود ونحو ذلك.

والمتحصّل ممّا ذكرناه سابقاً - من أنّ التقابل بين الصحّة والفساد هو من باب تقابل الملكة والعدم -: أنّ الفساد لا يصدقإلّا في مورد يكون قابلاً للصحّة، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المنهيّ عنه عبادة أو معاملة، كالبيع - مثلاً -؛ فإنّه إذا كان صحيحاً جامعاً لكافّة الأجزاء والشرائط يترتّب عليه الأثر، وأمّا إذا كان فاسداً بأن لم يستجمع كافّة الأجزاء والشرائط، فلا يترتّب عليه الأثر، فمعنى عدم التماميّة والفساد إنّما هو اختلال بعض ما يترتّب الأثر عليه، كما لو فرضنا أنّه يعتبر في العقد العربيّة، أو تقدّم الإيجاب على القبول، أو عدم الفصل بينهما، ونحو ذلك، وكذا الصلاة - مثلاً -؛ فإنّها قابلة لأن تتّصف بأنّها صحيحة تارةً وفاسدة أُخرى. وبعبارة أُخرى - كما مرّ سابقاً -: فلابدّ أن يكون المأتيّ به مركّباً ذا أجزاء حتى

ص: 268

يصدق عليه أنّه صحيح أو أنّه فاسد.

إذا عرفت هذا، فهل هناك أصل يمكن الرجوع إليه عند الشكّ في دلالة النهي على الفساد أم لا؟

قال في الكفاية: «لا يخفى: أنّه لا أصل في المسألة يُعوّل عليه لو شُكّ في دلالة النهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة الفساد لو لم يكن يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحّة في المعاملة. وأمّا العبادة فكذلك، لعدم الأمر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى»(1).

وبالجملة: فلا أصل يمكن أن يُرجع إليه في المقام؛ لأنّ النهي إمّا أن يكون في نفس الأمر والواقع دالّاً على الفسادوإمّا أن لا يكون دالّاً عليه، وحيث لم يعلم شيء منهما، فليس له حالة سابقة معلومة حتى يمكن استصحابها.

فإن قلت: الأصل عدم وضع لفظ النهي للفساد.

قلت: نعم، ولكنّه معارَض بأصالة عدم وضعه للصحّة، فيتساقطان.

وأمّا في المسألة الفرعيّة فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى الاسم المصدريّ، لا بالنسبة إلى المصدر، أي: الأسباب؛ لأنّ الأسباب لا حالة سابقة لها حتى يمكن جريان الاستصحاب لإثباتها.

وأمّا بالنسبة إلى الأثر، وهو الانتقال، ففي المعاملات عند ورود النهي

ص: 269


1- كفاية الاُصول: ص 184.

تجري أصالة الفساد وعدم انتقال الملك وبقاء كلٍّ من المالين عن ملك مالكه.

نعم، لو كان هناك إطلاق أو عموم، فلا تصل النوبة إلى الأصل، كما إذا شككنا بأنّ النهي عند النداء هل هو نهي تكليفيّ أو وضعيّ، فببركة مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾(1)، أو قوله: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(2)، يمكن أن نحمل النهي على التكليفيّ دون الوضعيّ فنحكم بصحّة المعاملة.

فإذا عرفت هذه المقدّمات، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة:

والنهي في العبادة: تارةً: يتعلّق بنفس العبادة، كصوم الوصال، أو صلاة الحائض، وأُخرى: يتعلّق بجزئها، كقوله: لا تقرأ سور العزائم في الصلاة، وثالثةً: بشرطها، كقوله: لا تتوضّأ بالماء المغصوب، ورابعةً: بوصفها، سواء كان ملازماً لها أو غير ملازم، فالملازم كالقراءة، وغير الملازم كالغصب؛ لأنّه قد لا يكون من أكوان الصلاة، كما إذا صلّيت في غير المكان المغصوب.

والنهي الوارد على الجزء والشرط والملازم: تارةً يكون على نحو الواسطة في الثبوت، وأُخرى على نحو الواسطة في العروض، فعلى

ص: 270


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.

الأوّل، يكون النهي - في الحقيقة - وارداً على ذات العبادة. وعلى الثاني، فالنهي - في الحقيقة - لم يرد على ذواتها، إلّا على نحو العرض والمجاز.

أمّا إذا تعلّق النهي بالعبادة بذاتها - سواء كان مع الواسطة في الثبوت أو بدونها - فإنّه يدلّ على الفساد - سواء كان إطلاق الأمر بدليّاً، كقولك: (صلّ)، أو شموليّاً ﻛ (أكرم العلماء) - لو فرض عباديّته، فهنا بما أنّ النسبة بين الأمر والنهي هي العموم المطلق، فلا محالة يتقيّد إطلاق الأمر بما عدا مورد النهي، وإذا لم يقيّد بذلك، فلابدّ من إلغاء النهي.

وحين ورود النهي على العبادة، فبما أنّ هذا النهي يدلّ - بطبعه - على الحرمة الذاتيّة وعلى المبغوضيّة، فلا يمكن أن يجتمع مع المحبوبيّة؛ لأنّ الضدّين - في أيّ وعاء كانا - لايجتمعان، فيدلّ النهي - حينئذٍ - على الفساد؛ وذلك لأجل عدم وجود الأمر عندها، والعبادة تحتاج إلى الأمر، وبعد تعلّق النهي به لم يبقَ الأمر، لاستلزامه اجتماع الضدّين، كما عرفنا، وبعد عدم وجود الأمر بالعبادة، فلا محالة تكون فاسدة.

ولو قيل: بأنّا لا نحتاج في عباديّة العبادة إلى الأمر، بل يكفي في صحّتها الملاك - كما عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سره)وفاقاً للمحقّق النائيني)(1) - إلّا أنّ هذا الملاك إنّما يكون مصحّحاً للعبادة إذا كان تامّاً في عالم ملاكيّته، ولم

ص: 271


1- انظر: فوائد الاُصول 2: 465، ومنتهى الاُصول 1: 417.

يكن مقهوراً بما هو أقوى منه؛ إذ الملاك المقهور غير صالح للعباديّة، وإلّا، لما صار مغلوباً.

ومن المعلوم: أنّ النهي عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة فعليّة في العبادة تغلب وتقهر مصلحة الأمر وملاكه، لو فرض أنّه كان فيها جهة مصلحة، وإلّا، فمن الممكن أن لا يكون في العبادة المنهيّ عنها جهة مصلحة أصلاً. بل وعلى تقدير ثبوت المصلحة، فهي مقهورة ومغلوبة للمفسدة التي هي أقوى منها، والتي كانت سبباً لورود النهي، وإلّا، فلو كانت المصلحة مساوية أو أقوى من مفسدة النهي لم يرد النهي على العبادة أصلاً. فإذا كانت المصلحة مغلوبة فلا تكون قابلة للتقرّب، وكانت العبادة فاسدة لا محالة.نعم، لو فرض أنّ العبادة لم يكن لها أمر، وكان الملاك موجوداً فيها، وكان عدم الأمر بها لأجل عدم القدرة عليها، لمكان المزاحمة، لا من جهة المغلوبيّة، فالعبادة تكون صحيحة حينئذٍ بالملاك، ولو لم يكن ثمّة أمر بها.

هذا إذا تعلّق النهي بذات العبادة، وأمّا إذا تعلّق بجزئها، فهو كالنهي المتعلّق بنفس العبادة - أيضاً -، بلا فرق بين أن يكون بنحو الواسطة في الثبوت أو العروض، إذ ليس الكلّ في الخارج إلّا نفس هذه الأجزاء، فكما أنّ ذات العبادة تكون مضادّة للنهي، فكذلك الجزء؛ فإنّ النهي عنه نهي عن العبادة - أيضاً -.

ص: 272

ومعه: لا تكون هذه العبادة تامّة الأجزاء والشرائط، ولا موافقةً للأمر والشريعة، ولا مسقطةً للقضاء ولا للإعادة - بلا فرق بين إعادة ذلك الجزء والإتيان بغيره الذي هو غير الجزء المحرّم وبين عدم الإتيان بغيره -، فلا تكون صحيحة، لا عند المتكلّم، ولا عند الفقيه، وإن قلنا بأنّ النهي كان بنحو الواسطة في العروض لا الثبوت.

وأمّا لو قلنا بأنّه على نحو الواسطة في الثبوت، فإنّ العبادة تكون باطلة قطعاً؛ وذلك لأنّ النهي عن جزء العبادة يقيّدها بعدم ذلك الجزء، ويُثبت مانعيّة وجوده مطلقاً، سواء كان الجزء من سنخ الأفعال أم كان من سنخ الأقوال، وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهيّ عنه، كما إذا اقتصر على قراءة سورة العزيمة بناءً على كونها منهيّاً عنها، أو لم يقتصر، كما إذا قرأ سورة أُخرى مباحة بعد سورة العزيمة أوقبلها، وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا، كما إذا قلنا بحرمة القرآن بين السورتين في الصلاة، أو كان لا بشرط، كما إذا قلنا بجواز القرآن؛ فإنّه على جميع هذه التقادير يكون النهي عنه مفسداً للعبادة، وذلك لما ذكرناه من أنّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء، فتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة، ومن الواضح أنّ نفس تقييد العبادة بعدم جزء يقتضي فساد العبادة الواجدة لذلك الجزء.

هذا وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) في وجه البطلان أمرين آخرين:

الأوّل: شمول أدلّة الزيادة في المكتوبة الموجبة لبطلانها وفسادها.

ص: 273

والثاني: شمول أدلّة التكلّم العمديّ المبطل، إذا كان المنهيّ عنه من سنخ الأقوال.

قال): «مضافاً إلى أنّه يعمّه أدلّة الزيادة، ويكون قد زاد في صلاته - مثلاً - فتفسد. ومضافاً إلى أنّه يعمّه - أيضاً - أدلّة التكلّم إذا كان المنهيّ عنه من سنخ الأقوال، فإنّه وإن لم يخرج بالنهي عن كونه قرآناً - مثلاً - ولا يدخل في كلام الآدميّ، إلّا أنّه بعد النهي عنه يخرج عن أدلّة جواز القرآن والذكر في الصلاة، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في إطلاقات مبطليّة مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدميّ، والقدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن والذكر الجائز، ويبقى الذكر أو القرآن المنهيّ عنه داخلاً تحت الإطلاق. وممّاذكرنا يظهر: أنّه لا فرق في بطلان الصلاة بقراءة العزيمة بين ما إذا قرأها بعد الحمد في مكان السورة، أو قراءتها في حال التشهّد، أو في الركوع، أو غير ذلك، إذ مناط الفساد مطّرد بعدما كانت العزيمة منهيّاً عنها في الصلاة مطلقاً وفي جميع الحالات، فتأمّل جيّداً»(1).

هذا إذا تعلّق النهي بالجزء، وأمّا إذا تعلّق بالشرط، فهو تارةً يكون من التوصّليات، وأُخرى من التعبّديات. أمّا إذا كان من الأوّل، فالنهي عنه لا يوجب الفساد، كالنهي عن غسل الثوب بالماء النجس، فلو غسل بدنه بماء مغصوب أو ثوبه لم تبطل صلاته؛ لأنّ الشرط خارج عن المشروط، وليس من الاُمور التعبّديّة حتى يسري بطلانه إلى العبادة.

ص: 274


1- فوائد الاُصول 2: 466.

وأمّا إذا كان عباديّاً، فالنهي عنه يرجع - في الحقيقة - إلى العبادة، فإذا كان الشرط باطلاً، فبطلانه يستلزم بطلان العبادة لا محالة، فإذا أتى بالعبادة بالشرط المنهيّ عنه، كما إذا صلّى متوضّأً بالماء المغصوب، كانت صلاته باطلة كوضوئه.

وأمّا إذا تعلّق النهي بالوصف، فنقول: الوصف على قسمين: فإنّه تارةً يكون متّحداً مع الموصوف - وهو العبادة - في الوجود، ويكون من قبيل الوصف الملازم، كالصلاة إلى القبلة، وأُخرى لا يكون كذلك، كالغصب. والأوّل ليس له وجود استقلاليّ مغاير للموصوف، كالجهر والإخفات في القراءة، حيث إنّه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة، بلهو من كيفيّاتها. والثاني له وجود استقلاليّ مغاير لوجود الموصوف، كالتستّر والاستقبال في الصلاة.

فإن كان على الوجه الأوّل، فالنهي عن الوصف - في الحقيقة - نهي عن نفس العبادة؛ لأنّهما - أي الوصف والموصوف متّحدان -، والنهي عن الوصف لا ينفكّ عن الموصوف، وإلّا، فلو قلنا بأنّ النهي عن الوصف المتّحد مع موصوفه ليس نهياً عن نفس الموصوف، لاستلزم ذلك اجتماع الضدّين، واجتماع الأمر والنهي الفعليّين في شيء واحد؛ لأنّ المفروض أنّ بينهما اتّحاداً وجوديّاً.

وإن كان على الوجه الثاني، فالنهي تارةً يكون نفسيّاً، وأُخرى يكون تبعيّاً.

ص: 275

أمّا الأوّل: فالنهي عنه لا يقتضي فساد العبادة، إذ لا موجب لفسادها، بل إنّ أقصى ما يقتضيه هذا النهي هو حرمة الوصف، وأنّ هناك شيئاً محرّماً وقع في أثناء الصلاة والعبادة، وهذا لا يوجب الفساد؛ لأنّ النهي لم يرد لا على ذات العبادة ولا على جزئها، إلّا إذا فرضنا أنّ العبادة مقيّدة بالخالي عنها، وأمّا لو لم يكن كذلك، فيكون حال الوصف كحال النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة في أنّه لا يكون مبطلاً للصلاة.

وبالجملة: فالنهي عن الوصف لا يسري إلى الموصوف إلّا إذا كانا متّحدين وجوداً، بناءً على امتناع اجتماع الحكمين، وأمّا بناء على الجواز، حيث لا يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر، فلا يكون مبطلاً.وأمّا الثاني - وهو النهي الغيريّ التبعيّ -: كالنهي المتولّد من الأمر بالشيء، كالنهي عن الصلاة المتولّد من الأمر بالإزالة، لكونها ضدّاً للصلاة، فإنّ هذا النهي لا يكون مبطلاً للصلاة، إلّا إذا قلنا بعدم كفاية الملاك في تصحيح العبادة، وبأنّ تصحيحها منوط بالأمر، أو لم نقل بالترتّب.

المقام الثاني: في النهي عن المعاملة:

وأمّا المعاملات فقد ذكر بعض المحشّين على الكفاية أنّ النهي عن المعاملة - أيضاً -: تارةً: يكون نهياً عنها لذاتها كنكاح المحارم، والبيع الربويّ. وأُخرى: يكون نهياً عنها لجزئها، كنكاح الكبير الصغيرة بدون

ص: 276

إذن وليّها، وبيع الشاة بالخنزير. وثالثةً: يكون نهياً عنها لشرطها، كالنكاح بشرط كون الطلاق بيد الزوجة، وبيع العنب بشرط أن يُعمل خمراً. ورابعةً: يكون نهياً عنها لوصفها الملازم، كنكاح الشغار، وبيع الحصاة، والمنابذة. وخامسةً: يكون نهياً عنها لوصفها المفارق، كنكاح المرأة المحرّمة، وبيع لحم الشاة الجلاّلة.

وكيف كان، فهل النهي عن المعاملة موجب لبطلانها أم لا؟

عرفنا سابقاً: أنّ النهي في العبادات موجب لفسادها؛ لأنّ الشيء المبغوض ليس له صلاحيّة المقرّبيّة. وأمّا في المعاملات، فإنّ فساد المعاملة عبارة عن عدم ترتّب الأثر المقصود منها كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما عليها، وصحّتهاعبارة عن ترتّب الأثر المزبور عليها، ومن المعلوم أنّه لا منافاة - بعد ورود النهي - بين حرمة المعاملة وبين الأثر المترتّب عليها عقلاً.

ولكن النهي عن المعاملة - كما ذكره بعض الأعاظم) - «تارةً يكون للإرشاد إلى عدم حصولها، فهذا لا إشكال في كونه موجباً لفسادها، سواء تعلّق بناحية السبب أو بناحية المسبّب، فإن تعلّق بناحية السبب فهو يقتضي عدم ترتّب المسبّب على ذلك السبب، وإن تعلّق بناحية المسبّب فهو يقتضي عدم حصوله في الخارج، وهذا ممّا لا إشكال فيه، فإنّ النهي الإرشاديّ حيث ما تعلّق يقتضي الفساد، حيث إنّه إرشاد إلى الفساد.

وأمّا إذا كان النهي عن العبادة مولويّاً مفاده الحرمة، فتارةً يتعلّق

ص: 277

بالسبب، وأُخرى يتعلّق بالمسبّب، وثالثة يتعلّق بآثار المسبّب، من التصرّف في الثمن والمثمن، وغير ذلك من الآثار المترتّبة على المعاملة ... إلى أن يقول:

المراد من تعلّق النهي بالسبب تعلّقه بالإيجاد بمعناه المصدريّ، ويكون المحرّم المنهيّ عنه هو إيجاد المعاملة وإنشاؤها والاشتغال بها، كالبيع وقت النداء، حيث إنّ المحرّم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء لا النقل والانتقال. والمراد من تعلّقه بالمسبّب تعلّقه بالموجد، بمعناه الاسم المصدريّ، ويكون المحرّم المبغوض هو المُنشأ والنقل والانتقال، كبيع المسلم والمصحف للكافر، حيث إنّ المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر، لا إنشاء النقل،ومبغوضيّة الإنشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر، وهو النقل والانتقال.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ النهي لو كان عن نفس الإيجاد والإنشاء والاشتغال بالمعاملة، فهو لا يقتضي الفساد؛ إذ حرمة الإيجاد لا يلازم مبغوضيّة الموجد وعدم تحقّقه. وأمّا لو تعلّق النهي بنفس المنشأ والموجد، فهو يقتضي الفساد؛ لخروج المنشأ حينئذٍ عن تحت سلطانه، ولا قدرة عليه في عالم التشريع، والمانع التشريعيّ كالمانع العقليّ.

والحاصل: أنّ الأمر والنهي الشرعيّين موجبان لخروج متعلّقهما عن سلطة المكلّف، ويكون في عالم التشريع مقهوراً على الفعل أو الترك، ومن هنا كان أخذ الاُجرة على الواجبات حراماً؛ لخروج الفعل بالإيجاب

ص: 278

الشرعيّ عن تحت قدرته وسلطانه، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الاُجرة عليه، إلّا إذا تعلّق الإيجاب بنفس الإيجاد والإصدار، كما في الصناعات النظاميّة، فإنّ له أخذ الاُجرة على عمله، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدريّ عن تحت سلطانه، لعدم تعلّق الإيجاب به، بل تعلّق الإيجاب بنفس الإيجاد والإصدار وعدم احتكار العمل.

وأمّا إذا تعلّق الأمر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدريّ، فقد خرج العمل عن تحت سلطانه، كما أنّه لو تعلّق النهي بنفس العمل فإنّه - أيضاً - يخرج عن تحت سلطانه، ويكون النهي مخصّصاً لعموم (الناس مسلّطون على أموالهم)، وعلى ذلك يبتني جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها فيضمن العقد، أو نذر البيع من زيد، أو شرط ذلك، فإنّه لا يصحّ بيعه من غير زيد...

إلى أن يقول: هذا إذا تعلّق النهي بنفس المنشأ، وأمّا إذا تعلّق بآثاره، كقوله: ثمن العذرة أو الكلب سحت، فهو يكشف - أيضاً - إنّاً عن عدم ترتّب المنشأ وعدم تحقّقه. ومن الغريب: أنّ بعض الأعلام سلّم دلالة النهي عن الآثار على الفساد، وأنكر دلالة النهي عن نفس المنشأ على الفساد، مع أنّ الثاني أولى، فتأمّل جيّداً»(1).

انتهى ما أفاده(قدس سره)، نقلناه بطوله لما فيه من الفائدة.

ص: 279


1- فوائد الاُصول 2: 471 - 473.

إذا عرفت هذا، فهل النهي ظاهر في الفساد أم لا؟

فنقول: الكلام تارةً في المعاملة بالمعنى الأخصّ، وأُخرى في المعاملة بالمعنى الأعمّ.

أمّا المعاملة بالمعنى الأخصّ:

فالنهي عنها موجب للبطلان؛ لأنّه إرشاد إلى الفساد، وليس بمعنى الحرمة التكليفيّة، بعد أن عرفنا أنّ الغرض الأصليّ في المعاملات هو الصحّة والفساد، فكما أنّ الأمر في باب المعاملات يكون إرشاداً إلى صحّتها، من دون أن يدلّ على وجوبها أو استحبابها، فقوله تعالى - مثلاً -: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، لا يدلّ إلّا على صحّة ولزوم كلّ عقد على نحو الإطلاق، فما ورد النهي عن بعض البيوع يكون مخصّصاً ومقيّداً للعموم والإطلاقات الواردة في هذا الباب، فيكون النهي - أيضاً -دالّاً على الفساد، ويكون حاله حال إرشادات الطبيب إلى ما يضرّ المريض، فكما أنّ النواهي الشرعيّة دالّة على المانعيّة في العبادات كالتكتّف والضحك وأمثال ذلك، فكذلك النهي في المعاملات، فإنّه يدلّ على على المانعيّة وفساد المعاملة.

وبالجملة: فالنهي عن المعاملة نظير الأمر الواقع عقيب الحظر، فكما أنّ الأمر حينئذٍ لا يدلّ على الوجوب، بل على رفع المنع والحظر، فكذلك النهي عنها لا يدلّ إلّا على رفع الصحّة التي تقتضيها أدلّة الإمضاء مثل: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾.

ص: 280

فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ النهي لا يكون ظاهراً في النهي عن المعنى المصدريّ؛ لأنّ (لا تَبِع ما ليس عندك) - مثلاً - ليس معناه: أنّه يحرم عليك التكلّم والتلفّظ بالألفاظ الخاصّة، بل هو دالّ على منع النقل والانتقال، أو على المنع من ترتّب الآثار، وكلاهما يقتضيان الفساد.

وأمّا الروايات التي استدلّ بها لإثبات دلالة النهي على الفساد، ومنها: الخبر الذي رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر الباقر%: «سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما، قلت: أصلحك اﷲ تعالى، إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، فلا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر%: إنّه لميعصِ اﷲ، وإنّما عصى سيّده، فإذا أجاز له فهو جائز»(1).

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ الرواية ظاهرة في أنّه لو كان عاصياً ﷲ تعالى لكان نكاحه فاسداً.

ولكن فيه: أنّ المعصية - وهي مخالفة الحرمة التي هي المقصودة في المقام - أجنبيّة عن المعصية المرادة من هذه الروايات.

توضيح ذلك: أنّ الحرمة والمعصية في محلّ البحث غير الحرمة

ص: 281


1- انظر: الكافي 5: 478، باب المملوك يتزوّج بغير إذن مولاه، بتفاوتٍ يسير؛ والفقيه: 3: 350، باب طلاق العبد، بتفاوتٍ يسير.

والمعصية الواردة في الرواية، فإنّ المعصية الواردة في الرواية ليس المراد بها هو مخالفة الحرمة التكليفيّة حتى يدلّ على الفساد؛ لأنّه لا إشكال أنّه لو كان المراد بها الحرمة التكليفيّة لم يستقم معنى الحديث؛ لأنّ مخالفة العبد للمولى مخالفة ﷲ تعالى أيضاً؛ لأنّ وجوب إطاعة المولى ممّا ثبت بضرورة الشرع، فهو حكم إلهيّ، فمخالفته مخالفة ﷲ سبحانه وعصيان له، مع أنّ الإمام% قال: «لم يعصِ اﷲ»، فنفي الإمام المعصية عن مخالفته لسيّده قرينة على كاشف عن أنّه ليس المراد بالمعصية مخالفة الحرمة التكليفيّة، وعلى أنّ العبد لم يرتكب حراماً؛ ذلك أنّ ما صدر منه لم يكن من الموارد التي نهى الشارع عنها ولم يمضها ويشرّعها، كتزويج المحارم، بل كان ممّا أمضاه وأجازه.فالمراد من المعصية المنفيّة في هذا الخبر هي التصرّف في ملك وسلطان الغير؛ فإنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء، وقد عقد بدون إذن المولى، فيكون فضوليّاً، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلّ من تصرّف في ملك الغير وباعه أو نقله إلى الغير بدون إذن صاحبه، فتقع المعاملة فضوليّة، فإذا أجازه المولى وقع صحيحاً وترتّب عليه الأثر.

والحاصل: أنّ النكاح مشروع ذاتاً، وليس من الاُمور التي لم يشرّعها الشارع، غاية الأمر: أنّ نفوذه محتاج إلى إذن السيّد، فلا يتصوّر هنا حرمة تكليفيّة لكي يدّعى دلالتها على الفساد، بخلاف ما لو كانت المعاملة ممّا لم يشرّعه الشارع، كما في الفرض الأوّل، فإنّه يكون عصياناً اﷲ تعالى،

ص: 282

فلا تفيده الإجازة، ويكون ما أوقعه من النكاح باطلاً، وكذا لو كان المولى قد نهى عبده عن النكاح، فإنّ نهيه موجب للفساد؛ لأنّ مخالفة نهي السيّد مخالفة ﷲ عزّ وجلّ.

وخلاصة الكلام: أنّ مقتضى العبوديّة هو عدم صدور أيّ فعل من العبد إلّا إذا كان عن إذن مولاه، وحيث إنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء، وهو كلّ على مولاه، وقد اشتغل بعملٍ بغير إذن مولاه، كان عاصياً؛ لأنّه قد أتى بما هو منافٍ للعبوديّة، وتصرّف فيما لا يجوز له التصرّف فيه، ولا سيّما في أمثال النكاح، التي هي من الاُمور الخطرة، فلابدّ من إطلاع المولى عليها وأخذ إذنه فيها.

تذنيب:

حُكي عن أبي حنيفة وتلميذه محمّد بن الحسن الشيبانيّ أنّ النهي في المعاملات والعبادات يدلّ على الصحّة وعدم الفساد، وتبعهما في ذلك فخر المحقّقين(رحمة الله)، وعن العلّامة(قدس سره) التوقّف(1).

وأمّا صاحب الكفاية) فقد قال: «والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب، أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة، وأمّا إذا كان

ص: 283


1- انظر: حكاية ذلك كلّه في: مطارح الأنظار 1: 763.

عن السبب فلا، لكونه مقدوراً، وإن لم يكن صحيحاً، نعم، قد عرفت أنّ النهي عنه لا ينافيها»(1).

ومثال تعلّق النهي بمضمونها: بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر، حيث إنّ النهي في هذا البيع قد تعلّق بالمضمون، وهو تمليكهما من الكافر، لا بالمعاملة بما هي فعل مباشريّ، والنهي إنّما تعلّق بها من حيث كونها موجبة لترتّب مسبّب مبغوض في نفسه، وهو جعله في يد الكافر.

ومثال تعلّق النهي بالتسبيب، كما إذا كان النهي قد ورد عن بيع العنب أو الخشب لمن يعمل العنب خمراً أو الخشب صنماً، فإنّ النهي لم يتعلّق بالسبب، وهو العقد، ولا بالمسبّب،وهو التمليك، بل تعلّق بأمر خارجٍ عنهما، وهو الإعانة على الإثم.

وأمّا العبادات، فقد ذكر(قدس سره) أنّ «ما كان منها عبادة ذاتيّة، كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى، فمع النهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان ماُموراً به، وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه، لو كان ماُموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد»(2).

ص: 284


1- كفاية الاُصول: ص 189.
2- كفاية الاُصول: ص 189.

وقبل أن نشرح ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) لابدّ أن ندخل في صلب الموضوع، وبيان أنّ النهي كيف يدلّ على الصحّة، فنقول:

لا يخفى - كما ذكرنا مراراً -: أنّ الأمر لابدّ أن يتعلّق بأحد طرفي المقدور، أي: أنّ كلّ حكم تكليفيّ لابدّ وأن يكون مقدوراً للمكلّف، بحيث يكون كلّ من الفعل والترك تحت قدرته، والنهي - أيضاً - كذلك، ولا فرق بينه وبين الأمر من هذه الناحية، فلابدّ عند تعلّقه بشيء أن يكون متعلّقه مقدوراً من ناحيتي الفعل والترك، حتى يمكن موافقة النهي أو مخالفته، ولا يكون متعلّق النهي مقدوراً إلّا إذا كان جميع أجزائه وشرائطه التي تكون متعلّقة للنهي وتحت النهي مقدوراً عليها، فلو فرض أنّ المكلّف أتى بالمنهيّ عنه كذلك، أي: بجميع أجزائه وشرائطه، لكان صحيحاً، ولترتّب عليهالأثر، وهذا هو معنى الصحّة. فالنهي عن الشيء يدلّ على الصحّة لا محالة.

وأمّا لو كان النهي عنهما موجباً لفسادهما، فلا يمكن للمكلّف مخالفة هذا النهي؛ لأنّه بنفس تعلّق النهي بهما خرجا عن تحت قدرته؛ لأنّه لا يمكن إيجادهما حينئذٍ.

والجواب عن هذا:

أمّا في المعاملات: فبأنّه ليس المراد بها إلّا المعاملات العرفيّة، وليس المراد بها هو المعاملات الصحيحة، أي: أنّ العرف مع علمهم بفساد بيع الخمر يتعاملون بها ويرتّبون آثار الصحّة عليها وهي مقدورة للمكلّف

ص: 285

ولو بعد ورود النهي، فبما أنّ الصحّة والفساد لا يُنتزعان إلّا من إمضاء الشارع وعدم إمضائه، والنهي الشرعيّ يوجب فسادها، أي: عدم تحقّق المعاملة خارجاً، ولو أنّها كانت بنظر العرف حاصلة ومتحقّقة.

وأمّا في العبادات: فبأنّه ليس المراد بها هو العبادة الفعليّة حتى يستشكل ويقال بأنّها ليست مقدرورة بعد النهي، حتى يترتّب عليه الفساد، وإنّما المراد هو العبادة الشأنيّة، بمعنى: أنّه لو تعلّق به أمر، ولم يتعلّق به نهي لأمكن امتثاله، وحصل الغرض منه إذا أتى بها بقصد القربة. فالعبادة الشأنيّة من الاُمور المقدورة، وأمّا الذي لا يكون مقدوراً، فهو العبادة الفعليّة بعد ورود النهي عنها.

وخلاصة الكلام: أنّه بناءً على قول صاحب الكفاية)، من التفصيل بين حالتين:إحداهما: ما إذا تعلّق النهي بالمسبّب، كالنهي عن البيع المصحف من الكافر، باعتبار أنّ إبقاءه عنده غير جائز، ولذا إذا وجد عنده لابدّ من انتزاعه منه، فهنا: بنهي الشارع عنه لا يترتّب على هذه المعاملة الأثر، أعني به: الملكيّة. فقالوا: بأنّه لابدّ من القول بالصحّة؛ لأنّه لو لم يكن قادراً على هذا التمليك - بأن يوجد البيع بحيث يترتّب عليه الأثر - فما معنى النهي عنه حينئذٍ؟

والثانية: تعلّق النهي بالتسبّب، كالظهار؛ فإنّ التسبّب به إلى الفراق بين الزوجين مبغوض، فلو لم يؤثّر الظهار عمله، ولم يترتّب الفراق على

ص: 286

الظهار، كان النهي عنه لغواً.

وأمّا إذا ورد النهي على السبب، فإنّه لا يدلّ على الصحّة؛ لأنّ ما هو المنهيّ عنه، هو العقد المفوّت للصلاة في يوم الجمعة - مثلاً - لا العقد المؤثّر للملكيّة، وبما أنّ هذا العقد من الأفعال المباشريّة، وللمكلّف القدرة عليه، أي: على العقد بمعناه المصدريّ، لا المعنى الاسم المصدريّ، من دون أن تتوقّف القدرة على الصحّة، وهذا السبب يكون مقدوراً، صحيحاً كان أو فاسداً، فالنهي هنا لا يدلّ على الفساد.

وأمّا العبادات فهي على قسمين:

فمنها: ما يكون ذاتيّاً، من غير توقّفه على قصد القربة، كالسجود، كما مرّ، والنهي في هذا القسم يدلّ على الصحّة؛ لأنّ متعلّقه مقدور عليه؛ لأنّه قادر على إيجاد السجود وعلى تركه، فلو أتى بالسجود المنهيّ عنه كان صحيحاً، إذ لاتتوقّف عبادته على الأمر حتى لا يكون ممكن الإيجاد مع النهي.

ومنها: ما لا يكون ذاتيّاً، ويحتاج إلى قصد الأمر والقربة، فمع ورود النهي لا يمكن ورود الأمر به؛ لأنّه - حينئذٍ - يكون من باب اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ كما مرّ.

نعم، لو قلنا بإمكان اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ بعنوانين لصحّ ذلك.

وبهذا تمّ الكلام في مبحث النواهي

ص: 287

ص: 288

مباحث المفاهيم

مقدّمة:

وهي: أنّ المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ تستتبعه خصوصيّة المعنى الذي اُريد من اللّفظ، بتلك الخصوصيّة، ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، سواء وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه.

فالمفهوم - اصطلاحاً - هو: كلّ حكم إنشائيّ كما في الجمل الإنشائيّة، كحرمة الإكرام المستفادة من قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه)، بناءً على ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة.أو كلّ حكم إخباريّ كما في الجمل الخبريّة، كالإخبار عن فعله بإعطاء دينارٍ - مثلاً -، المستفاد من قوله: (إن جئتني فأنا أعطيك ديناراً)، فإنّ الإعطاء فعله الذي يخبر عنه على تقدير المجيء بالكلام المزبور(1).

ص: 289


1- هذا مضمون كلام الكفاية و شرحه

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى كلمة المفهوم:

تطلق كلمة المفهوم على ثلاثة معانٍ:

الأوّل: المعنى الذي يفهم من اللّفظ، بلا فرق بين أن يكون من المعاني الإفراديّة أو التركيبيّة.

والثاني: ما يقابل المصداق، فيراد منه كلّ معنى يفهم، وإن لم يكن مدلولاً للّفظ، كالإشارة والكناية، ونحو ذلك.

والثالث: ما يقابل المنطوق؛ والمراد بالمنطوق هو المدلول المطابقيّ للجملة، بلا فرق بين أن يكون المعنى حقيقيّاً له أو مجازيّاً، ويُعرف بالقرينة الخاصّة، وذلك كقولنا: (رأيت أسداً)، فإنّه يدلّ على كون المرئيّ هو الحيوان المفترس بالمطابقة، وكقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾(1)، حيث إنّه يدلّ على طهوريّة الماء بالمطابقة، وعلى طهوريّة جميع أفراده بالإطلاق والقرينة العامّة، كماأنّ قولنا: (رأيت أسداً يرمي) يدلّ على كون المرئيّ هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصّة، وهكذا...

ولا يخفى: أنّ معنى المفهوم هو ما يقابل المنطوق، أي: لا يفهم المعنى بالدلالة المطابقيّة بل بالدلالة الالتزاميّة، بنحو اللّزوم البيّن

ص: 290


1- الفرقان: الآية: 48.

بالمعنى الأخصّ، فإنّ منطوق قولهم: (الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء) هو عدم تنجّس الماء البالغ قدر كرّ بشيء من النجاسات، فدلالة اللّفظ على المنطوق تكون أوّلاً وبالذات، وأمّا دلالته على المفهوم فهي تابعة لدلالة المنطوق، فإذا قلت - مثلاً -: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فدلالته المطابقيّة تكون أوّلاً وبالذات، وهي الثبوت عند الثبوت، أي: ثبوت الإكرام عند المجيء، ودلالته المفهوميّة ثانياً وبالتبع، وهي الانتفاء عند الانتفاء، ومعنى أنّها بالتبع: أنّ انفهام المفهوم من اللّفظ إنّما يكون تابعاً لانفهام معناه المطابقيّ الأوّليّ.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المفهوم يكون ناشئاً عن خصوصيّة المعنى في المنطوق، ولا فرق في هذه الخصوصيّة بين أن تكون ثابتة بالوضع أو بالقرينة العامّة أو الخاصّة، فإن دلّ المنطوق على تلك الخصوصيّة كانت القضيّة دالّةً على المفهوم، وتلك الخصوصيّة في الجملة الشرطيّة - مثلاً - هي عبارة عن كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

الأمر الثاني: المفهوم قسمان: موافقة ومخالفة:

ينقسم المفهوم إلى قسمين: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة.

فمفهوم الموافقة، فهو المفهوم الذي يكون موافقاً للمنطوق في الإيجاب والسلب، ومفهوم المخالفة، هو المفهوم الذي يكون مخالفاً للمنطوق في الإيجاب والسلب.

ص: 291

والأوّل كدلالة الأولويّة في مثل قول تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ٍ﴾(1)، على حرمة الضرب والشتم، ونحو ذلك ممّا هو أشدّ إيلاماً للأبوين من التأفيف - وهو التلفّظ ﺑ (أفّ) - المحرّم بحكم الآية - ويُلاحَظ هنا: أنّ حرمة التأفيف حكم مذكور ومنطوق به، وأمّا حرمة الضرب والشتم المستفادة من مفهوم الموافقة فهو حكم غير مذكور ومصرّح به في الكلام. وهذا الحكم المفهوميّ لازم لخصوصيّة المعنى الأوّل، وهو كون التأفيف أدنى مرتبة من الإيذاء، إذ إنّ حرمة الفعل الأدنى تلازم حرمة الأعلى والأشدّ.

ومثال مفهوم المخالفة: ما في مثل قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإنّ مفهومه هو عدم وجوب الإكرام عند عدم مجيء زيد، وهذا يخالف المنطوق في السلب والإيجاب، وهو - أيضاً - لازم لخصوصيّة المعنى المذكور في الكلام، وهوانفهام كون المجيء علّة منحصرة للوجوب، ولازم العلّيّة المنحصرة هو انتفاء الحكم عند انتفائها.

فالمفهوم عبارة عن حكم إنشائيّ كما في المثال الثاني، وهو مفهوم المخالفة، أو إخباريّ، كما في المثال الأوّل، وهو مفهوم الموافقة، غير مذكور في القضيّة، وتقتضيه خصوصيّة المعنى المنطوقيّ، فصحّ قولنا - إذاً -: إنّ المفهوم هو عبارة عن حكم غير مذكور في القضيّة اللّفظيّة؛ لأنّ عدم

ص: 292


1- الإسراء: الآية: 23.

وجوب إكرام زيد لم يكن مذكوراً في القضيّة الشرطيّة، وكذا حرمة الضرب والشتم، فهما إنّما يُستفادان من الخصوصيّة الموجودة في المنطوق.

وقد استشكل في ذلك المحقّق الأصفهاني(قدس سره) بقوله:

«إن اُريد ﺑ (الحكم) غير مذكور، كونه بشخصه غير مذكور، فكلّ موضوع - أيضاً - بشخصه غير مذكور، وان جعل الموضوع نفس زيد في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، بداهة تشخّص كلّ قضيّة بموضوعها ومحمولها، وإن اُريد بكون الحكم غير مذكور كون سنخ الحكم غير مذكور فلا يعمّ المفاهيم جميعاً؛ لخروج مفهوم الموافقة، إذ الحكم في طرف المنطوق والمفهوم واحد سنخاً»

إلى أن يقول:

«فالعبرة في تغاير القضيّتين حقيقةً بمجرّد المغايرة نوعاً وماهيّةً، موضوعاً أو محمولاً، لكنّ العبرة في المذكوريّة وعدمها بالذكر وعدمه في شخص الكلام، والمراد: أنّ القضيّة التابعة لقضيّة أُخرى من حيث كونها غير مذكورةمفهوم، وإن كانت من حيث مذكوريّتها في موارد أُخر منطوقاً»(1).

ولا يخفى: أنّ النزاع إنّما هو في ثبوت المفاهيم، وفي أصل دلالة الجمل عليها، وأمّا الحجّيّة عندهم فهي من المسلّمات، ولا كلام فيها - أصلاً - بعد إحراز الدلالة.

ص: 293


1- نهاية الدراية 1: 605 - 606.

ومن هنا عرّف المفهوم بأنّه: «قضيّة تدلّ عليها خصوصيّة القضيّة المنطوقيّة».

الأمر الثالث: في أنواع المفهوم:

هو على أقسام:

الأوّل: مفهوم الوصف، كما إذا ورد (في الغنم السائمة زكاة)، فوجوب الزكاة للسائمة منطوق، وعدمه للمعلوفة مفهوم.

الثاني: مفهوم الشرط، كما في مثل: (إذا جاءك زيد فأكرمه)، فإنّ وجوب الإكرام عند مجيء زيد منطوق، وعدم الوجوب عند عدم مجيئه مفهوم، عند إحراز كون المجيء علّة منحصرة.

الثالث: مفهوم الغاية، كما إذا قيل: (يجب عليك الصوم إلى الغروب)، فعدم الوجوب بعد الغروب مفهوم.الرابع: مفهوم اللّقب، كما إذا قيل: (أكرم زيداً)، فإنّ عدم وجوب إكرام عمرو مفهوم. ولا يخفى: أنّ المراد باللّقب الأعلام الشخصيّة وأسماء الأجناس.

الخامس: مفهوم الاستثناء، كما إذا قيل: (جاءني القوم إلّا زيداً)، فإنّ نسبة المجيء إلى قوم ليس فيهم زيد تستلزم عدم مجيء زيد، بناءً على كون (إلّا) حرفاً من الحروف، وموضوعةً للمعنى الآليّ. وأمّا إذا قلنا بكونها اسماً أو فعلاً، فيكون الحكم بعدم المجيء منطوقاً.

ص: 294

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة

اشارة

يقع الكلام في أنّ الجملة الشرطيّة هل تثبت لها دلالة على المفهوم أم لا؟

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل:

أنّ القضيّة الشرطيّة تتركّب من جملتين إحداهما: تسمّى ﺑ (الشرط)، والأُخرى: ﺑ (الجزاء)، ومفاد الجملة الشرطيّة هو تعليق الحكم في ظرف الجزاء على ثبوته في ظرف الشرط،بلا فرق بين أن يستفاد هذا التعليق والإناطة من مفاد أداة الشرط أو من مفاد هيئة الجملة.

وقد عرفنا أنّ دلالة الجملة على المفهوم إنّما تكون من باب الدلالة الالتزاميّة، بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ للمنطوق، فهي - لذلك -

ص: 295

تكون تابعةً لدلالة المنطوق، فكان لابدّ من اشتمال القضيّة الشرطيّة على خصوصيّةٍ بها تكون مستتبعة للقضيّة التي نسمّيها ﺑ (المفهوم)، وإنّما تُستفاد منها هذه الخصوصيّة فيما إذا أحرزنا أنّ الشرط بالنسبة للجزاء هو من قبيل العلّة المنحصرة بالنسبة إلى معلولها.

وبعبارةٍ أُخرى: فلو لم يكن هناك لزوم، بأن لم تكن القضيّة الشرطيّة لزوميّة، بل كانت اتّفاقيّة، كما في مثل قولنا: (إذا كان زيد ناطقاً كان الحمار ناهقاً)، لم تكن لها دلالة على المفهوم، بل لا دلالة لها، لا على الثبوت عند الثبوت، ولا على الانتفاء عند الانتفاء.

وكذا إذا لم يكن للجملة الشرطيّة دلالة على الترتّب، أي: على ترتّب الجزاء على الشرط، وعلى تأخّر الجزاء عن الشرط، فإنّه لا يكون لها دلالة على المفهوم - أيضاً -؛ لأنّ ترتّب الجزاء على الشرط وتأخّره هو من مقوّمات المفهوم، فلو فرضنا - مثلاً - أنّ الشرط والجزاء كانا في مرتبةٍ واحدة، كما إذا قلنا: (إذا كان الخمر حراماً كان البيع باطلاً)، فإنّ انتفاء الحرمة يوجب انتفاء بطلان البيع لا محالة، لكونهما في مرتبة واحدة، وكون كليهما معلولين للإسكار؛ لأنّ بطلان البيع ليس معلولاً للحرمة في الخمر. فلو كان الشرط والجزاءفي مرتبةٍ واحدة، ولم يكن هناك ترتّب وتأخّر للجزاء عن الشرط، لم يكن لها أن تدلّ على المفهوم.

وكذا لو فرضنا أن كان هناك ترتّب بينهما، ولكنّه لم يكن من قبيل الترتّب على نحو العلّيّة، كما في ترتّب صلاة العصر على الظهر - مثلاً -

ص: 296

فلا يكون لها دلالة على المفهوم.

وكذا الحال، لو كان علاقة العلّيّة قائمة بينهما، ولكنّها لم تكن من قبيل العلّيّة بنحو الانحصار، بأن لم يكن الشرط سبباً منحصراً للجزاء، فإنّها - حينئذٍ - لا تكون صالحةً لأن يُستفاد منها المفهوم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة مشروط - أوّلاً - بدلالتها على التعليق، وهو ربط أحد الشيئين بالآخر بحيث لا يتخلّف عنه ولا يتحقّق بدونه، وهو مساوق للعلّة المنحصرة، وبدلالتها على الترتّب، وهو لزوم حصول أحد الشيئين عند حصول الآخر، كما في مثل قولنا: (إذا طلعت الشمس وجد النهار)، فإنّ وجود النهار إنّما يحصل عند طلوع الشمس، وطلوع الشمس هو ما يكون منشأً لوجود النهار، وبدلالتها على اللّزوم، وهو عبارة عن حصول أحد الشيئين مع الآخر، بحيث لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

المبحث الثاني:

اشارة

هل هذا الربط بين المقدّم والتالي هو مفاد الأداة، أعني: أداة الشرط، أو هيئة القضيّة، أعني: ترتّب الجزاء على الشرط؟

وقد ذكر الاُستاذ المحقّق(قدس سره) أنّه لا يمكن إثبات ذلك، لا في أدوات الشرط، ولا في هيئة القضيّة؛ لعدم دلالتهما «على أزيد من ترتّب الجزاء

ص: 297

على الشرط والملازمة بينهما، وأمّا إثبات هذا الترتّب من جهة علّيّة المقدّم والشرط للجزاء، أو من جهة أُخرى فمشكل، فضلاً عن إثبات انحصار العلّة»(1).

فلابدّ من بيان الشروط، وأنّ هذه الشروط هل هي موجودة كلّها لكي يكون للجملة دلالة على المفهوم أم لا؟

وقد نقل بعض الشارحين للكفاية عن الفوائد الطوسيّة «أنّه استقصى مائة مورد أو أكثر من القرآن الكريم لا دلالة فيها على المفهوم»(2).

وقبل بيان الشروط نقول:

للمحقّق النائيني(قدس سره) كلام في موضعين:

أحدهما: ما ذكره في مبحث الواجب المشروط، وهو القول بأنّ «أداة الشرط بما أنّها وُضعت لجعل مدخولها واقعاً موضع الفرض والتقدير، فهي لابدّ وأن تكون رابطة بين الجملتين، فلا يُعقل أن يكون مدخولها قيداً للمادّة قبلالنسبة، ولا في رتبتها؛ لأنّها مفهوم إفراديّ وأداة الشرط موضوعة لربط الجملتين...»(3)، هذا موضع الحاجة من كلامه).

وحاصله: أنّ الأداة لا تدلّ على أكثر من اللّزوم، والترتّب يُستفاد من

ص: 298


1- منتهى الاُصول 1: 423.
2- حقائق الاُصول 1: 448.
3- أجود التقريرات 1: 131.

سياق الكلام وجعل التالي تالياً والمقدّم مقدّماً.

والآخر: ما ذكره في مبحث مفهوم الشرط، وهو «أنّ أدوات الشرط إنّما وُضعت لتعليق مفاد جملة على مفاد جملة أُخرى»(1).

ولا يخلو ما بين كلاميه في الموضعين من تهافت كما هو واضح، فإنّ من الظاهر أنّ التعليق أخصّ من الترتّب واللّزوم، فلا يمكن الجمع بين دعوى كونها موضوعة للتعليق، ودعوى كونها موضوعة للّزوم.

ولابدّ هنا أن نقول، وتبعاً للاُستاذ الأعظم)، بأنّه «لو بنينا على رجوع القيد إلى الهيئة دون المادّة فحال القضيّة الشرطيّة عندئذٍ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها، لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في قبال سائر المتعلّقات، بل المراد منه مطلق القيد، سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود»(2).

أمّا الشرط الأوّل:

فهو كون القضيّة الشرطيّة لزوميّة، بأن يكون بين الشرط والجزاء علاقة خاصّة هي عبارة كون الأُولى علّة للثانية.

وهذا الشرط ممّا لا ينكر، ضرورة أنّه لولا هذه العلاقة، لكان يجوز تعليق كلّ شيء على كلّ شيء من دون أن يكون هناك أيّ ارتباط بينهما،

ص: 299


1- المصدر نفسه 1: 415.
2- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 4: 199، (المجلّد 46) من موسوعة الإمام الخوئي)، بتصرّف يسير.

فلا شكّ في أنّ الاستعمال بدون هذه العلاقة اللّزوميّة، لو صحّ، فإنّه يكون بحاجة إلى إعمال عنايةٍ ما، وبدون ذلك، فالقضيّة تكون ظاهرة في وجود العلاقة اللّزوميّة بين الشرط والجزاء.

ومن هنا يظهر: أنّ القضيّة الاتّفاقيّة ليست من القضيّة الشرطيّة، وتقسيم المناطقة القضيّة الشرطيّة إلى قسمين: اللّزوميّة والاتّفاقيّة، غير تامّ، بل الاتّفاقيّة - في حقيقة الأمر - ليس لها من القضيّة الشرطيّة إلّا صورتها.

وأمّا الشرط الثاني:

فهو دلالة الشرطيّة على أنّ ترتّب الجزاء على الشرط من ترتّب المعلول على العلّة، وهذا الشرط ممنوع عندنا، فإنّ القضيّة وإن دلّت على ترتّب الجزاء على الشرط والتالي على المقدّم، إلّا أنّها لا تدلّ على أنّ هذا الترتّب يكون على نحو ترتّب المعلول على العلّة التامّة، بل كما يمكن أن يكون كذلك، كترتّب وجوب إكرام زيد على مجيء زيد، يمكن أن يكون على العكس من ذلك تماماً، كترتّب طلوع الشمس على وجود النهار، وترتّب تغيّر العالم على حدوثه.وبالجملة: فلم تثبت دلالة الجملة الشرطيّة على كون الشرط علّة للجزاء، فضلاً عن دلالتها على الانحصار، بعد وضوح غلبة كون الشرط والجزاء متلازمين في الوجود، مثل: «المسافر إذا قصّر الصلاة أفطر»، فإنّ تقصير الصلاة ليس علّة للإفطار، بل هما حكمان متلازمان ثابتان للمسافر غير الناوي لإقامة عشرة أيّام.

ص: 300

فإن قلت: يمكن دعوى التبادر على وجود العلّيّة بين الجزاء والشرط والترتّب بنحو العلّة المنحصرة.

قلت: مع كون الجملة الشرطيّة كثيراً ما تُستعمل في العلّيّة الغير المنحصرة، كما في المثال المذكور - أعني: مثل: المسافر إذا قصّر الصلاة أفطر، ومع كون استعمالها في موارد العلّيّة غير المنحصرة مساوٍ لاستعمالها في موارد العلّيّة المنحصرة، فكيف يمكن ادّعاء التبادر؟!

على أنّه لو فرض صحّة هذا التبادر، لكان استعمالها في غير العلّة المنحصرة مجازاً؛ لأنّ التبادر علامة الحقيقة، فيكون استعمالها في موارد مطلق اللّزوم مجازاً، ولا مجال للالتزام به.

وأيضاً: فلو كانت الجملة الشرطيّة تدل على العلّيّة المنحصرة بالتبادر لكان من الواجب الأخذ بمفهومها حتى في مقام المخاصمات، وكان لها مفهوم حتى في مثل هذا المقام، والمفهوم لو ثبت، فإنّه يكون حجّة كالمنطوق، مع أنّهم لا يأخذون بالمفهوم في باب المخاصمات كما هو واضح.فتحصّل: أنّ غاية ما يمكن إثباته هو دلالة الجملة الشرطيّة على تعليق الجزاء على الشرط، وأمّا أنّه مترتّب عليه بنحو العلّيّة التامّة، حتى يكون في غيره مجازاً، فلا، بل لا دلالة لها على أزيد من مطلق الترتّب، أي: ترتّب المعلول على العلّة، كترتّب وجوب الحجّ على الاستطاعة، أو ترتّب العلّة على المعلول، كقولك: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة.

ص: 301

وعلى هذا الأساس: فالقضيّة الشرطيّة لا تدلّ على المفهوم؛ لأنّ غاية ما تقتضيه هذه القضيّة هو أنّ تحقّق المقدّم يكون مستلزماً لتحقّق التالي، ولا يكشف عدمه عن عدم المقدّم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ وجود المعلول، وإن كان منوطاً بوجود العلّة؛ لاستحالة وجود المعلول بدون علّته، إلّا أنّ عدمه لا يكشف عن عدم العلّة؛ لأنّه يمكن أن يكون عدمه كاشفاً عن وجود المانع، لا عن انعدام العلّة؛ فإنّ وجود الممكن - مثلاً - بما أنّه معلول، فهو يكون كاشفاً عن وجود الواجب، وأمّا عدمه، فليس كاشفاً - بالضرورة - عن عدمه، ولا عن عدم ممكن آخر؛ لجواز أن يكون عدمه من جهة مانع مختصّ به، فدلالة القضيّة الشرطيّة على كون علقة الترتّب بين الجزاء والشرط موجودة ممّا لا ينكر، ويمكن - أيضاً - أن يُدّعى استفادة ذلك منها ببركة الوضع، وأمّا علّيّة الشرط للجزاء، فلا سبيل إلى استفادتها من الوضع، ولا من الإطلاق.

نعم، يمكن استفادة العلّيّة التامّة والمنحصرة بدعوى الظهور السياقيّ للجملة في ذلك.وقد استدلّ المحقّق النائيني(قدس سره) على الانحصار والعلّيّة وإفادة الجملة الشرطيّة للمفهوم بقوله:

«نعم، ظاهر القضيّة الشرطيّة هو ذلك؛ لأنّ ظاهر جعل شيء مقدّماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتّب التالي على المقدّم، فإن كان هذا الترتّب موافقاً للواقع ونفس الأمر، بأن يكون المقدّم علّة للتالي، فهو، وإلّا، لزم

ص: 302

عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع، مع كون المتكلّم في مقام البيان، على ما هو الأصل في المخاطبات العرفيّة، وعليه: فبظهور الجملة الشرطيّة في ترتّب التالي على المقدّم يُستكشف كون المقدّم علّةً للتالي، وإن لم يكن ذلك مأخوذاً في نفس الموضوع له»(1).

وعلّق عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بقوله:

«وهذا الذي أفاده(قدس سره) وإن كان غير بعيد في نفسه، نظراً إلى أنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان تفرّع الجزاء على الشرط وترتّبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع، لدلّت القضيّة على ذلك في مقام الإثبات أيضاً للتبعيّة، نظير ما إذا قلنا: جاء زيد ثمّ عمرو، فإنّه يدلّ على تأخّر مجيء عمرو عن مجيء زيد بحسب الواقع ونفس الأمر، وإلّا لم يصحّ استعماله فيه. وأمّا إذا لم يكن المتكلّم في مقام بيان ذلك، بل كان في مقام الإخبار أو الإنشاء، فلا يتمّ ما أفاده(قدس سره)، وذلك لأنّ القضيّة الشرطيّة - عندئذٍ - لا تدلّ إلّا على أنّ إخبار المتكلّمعن وجود الجزاء متفرّع على فرض وجود الشرط، أو إنشاء الحكم واعتباره متفرّع على فرض وجوده وتحقّقه، وأمّا أنّ وجود الجزاء واقعاً مترتّب على وجود الشرط، فلا دلالة للقضيّة على ذلك أصلاً...»(2)، إلى آخر ما جاء في كلامه).

ص: 303


1- أجود التقريرات 1: 416.
2- محاضرات في اُصول الفقه 4: 203، (المجلّد 46) من موسوعة الإمام الخوئي)

وبعبارة أُخرى: فلو كان للشرط المذكور في القضيّة، كقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، عِدْلٌ، لكان على المتكلّم بيانه، بأن يقول: «إن جاءك زيد أو أرسل كتاباً فأكرمه»، فعدم بيان العِدل، مع كونه في مقام البيان، يقتضي كون الشرط علّة منحصرة.

فإطلاق التعليق بمقتضى مقدّمات الحكمة يستلزم كون الشرط علّة منحصرة، فيستفاد المفهوم - حينئذٍ - من الإطلاق، كما يستفاد من إطلاق صيغة الأمر الوجوب النفسيّ؛ لأنّ الوجوب الغيريّ يحتاج إلى مؤونة زائدة ثبوتاً وإثباتاً، إذ كون الوجوب للغير قيد زائد يحتاج إلى اللّحاظ والبيان الزائدين على لحاظ أصل الوجوب وبيانه.

وممّا ذكرنا ظهر: بطلان ما ذكره الاُستاذ المحقّق) من أنّ «ذلك - أيضاً - لا يفيد في إثبات الانحصار»(1).

وقد تمسّك بعضهم لإثبات الانحصار بإطلاق الشرط، وتقريبه:«أنّه لو كان لشيء آخر غير الشرط - أيضاً - دخل في ثبوت الحكم في طرف الجزاء، فإن كان ذلك الآخر تمام العلّة، لكان عليه أن يأتي بكلمة (أو)، وإن كان جزءاً لكان عليه أن يأتي بالواو العاطفة، فمن عدم تقييده بأحد هذين مع أنّه في مقام البيان نستكشف عدم دخل شيء آخر في الجزاء، لا مع الشرط، ولا مستقلّاً، ومعنى هذا هو الانحصار، فمن

ص: 304


1- منتهى الاُصول 1: 424.

إطلاق الشرط نستكشف انحصار العلّة فيه»(1).

وقد يُستشكل فيه: «بأنّ هذا فيما تمّت هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ فيما هو مفاد الحرف، كما ها هنا، وإلّا لما كان معنىً حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل»(2).

وحاصله: أنّه لا مورد لمقدّمات الحكمة في المقام؛ لأنّ الدالّ على الخصوصيّة المستتبعة للمفهوم هو (إن) الشرطيّة - مثلاً -، التي هي من الحروف، وقد ثبت في محلّه: أنّ المعنى الحرفيّ معنى جزئيّ غير قابل للتقييد، وحيث إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، لا السلب والإيجاب، فيكون الإطلاق - دائماً - ممتنعاً، وبعين امتناع التقييد.ومن المعلوم: أنّ مورد مقدّمات الحكمة إنّما هو المعنى الذي يكون قابلاً للإطلاق والتقييد، فينحصر موردها في المعاني الاسميّة الملحوظة استقلالاً لا آليّاً.

ولكن قد عرفت: أنّ الحقّ أنّ للحرف معنىً إخطاريّاً، لا إيجاديّاً، فيمكن التمسّك فيه بالإطلاق.

والعجب من صاحب الكفاية) كيف صدر عن هذا الإشكال مع كونه لا يفرّق بين الاسم والحرف ذاتاً.

ص: 305


1- المصدر نفسه.
2- كفاية الاُصول: ص 195.

على أنّه لو سُلِّم عدم إمكان التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ، فيمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ والأحواليّ، وعليه: فيكون للجملة الشرطيّة مفهوم.

لكن قد يستشكل في هذا - أيضاً - بأنّ «تعيّنه من بين أنحائه بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن، ومقايسته مع تعيّن الوجوب النفسيّ بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق، فإنّ النفسيّ هو الواجب على كلّ حال، بخلاف الغيريّ، فإنّه واجب على تقديرٍ دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً عليه، وهذا بخلاف اللّزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة، ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللّزوم والترتّب محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى»(1).وحاصله: أنّه لا يمكن تعيين العلّة المنحصرة بمقدّمات الحكمة، وذلك لأنّ للعلّة المنحصرة خصوصيّة في مقابل الخصوصيّات الأُخَر، وفرد للعلّة المطلقة التي نسبتها إلى أفرادها نسبة واحدة، فإثبات إحدى الخصوصيّات بالإطلاق الذي نسبته إلى جميع هذه الخصوصيّات على حدٍّ سواء تعيين لأحد الأفراد المتساوية بلا معيّن، وذلك لتساوي العلّة

ص: 306


1- كفاية الاُصول: ص 195 - 196.

بالمطلقة بالنسبة إلى جميع أفرادها، من العلّة المنحصرة وغيرها.

ولا يمكن قياس المقام بالواجب الغيريّ؛ لأنّ النفسيّة ليست بقيد زائد وجوديّ حتى يحتاج إلى البيان، بل هي أمر عدميّ، أعني: عدم وجوبه لشيء آخر، وأمّا الغيريّ، فإنّه مشروط بوجوب الغير، فيكون محتاجاً إلى مؤونة زائدة، يمكن رفعها بالأصل.

وأمّا العلّة المنحصرة، فليست كالوجوب النفسيّ، حيث إنّ لها خصوصيّةً في مقابل الخصوصيّات الأُخر - أي: أنّها فرد متساوٍ لسائر أفرادها -، ونسبة الإطلاق إلى جميع الخصوصيّات واحدة من دون مرجّح لخصوص العلّة المنحصرة، فلا يمكن إثباتها بالإطلاق، أو فقل: إنّ الخصوصيّة أمر عدميّ، والأصل إنّما يرفع الشيء الوجوديّ.

حجج المنكرين للمفهوم:

استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه:منها:

أنّه لا يمكن استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة؛ لأنّ فائدة الشرط إنّما هي تعليق الحكم به، فكون المجيء - مثلاً - شرطاً لوجوب الإكرام، معناه: إناطة الوجوب به، ومن الممكن أن يقوم مقام هذا الشرط شرط آخر، كالعدالة - مثلاً -، ويكون هذا الشرط كالعلّة، فيحفظ المشروط عن الانتفاء.

ص: 307

وعلى هذا: فانتفاء المجيء لا يكون سبباً منحصراً لانتفاء الوجوب، فتعليق الحكم على الشرط لا يدلّ على المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء، فإذا فرض جريان شرط آخر مكان الشرط الأوّل في حفظ الحكم المترتّب عليه، فالشرط الأوّل باقٍ على شرطيّته؛ فإنّ الشمس - مثلاً -، وإن كانت علّة لثبوت الحرارة، إلّا أنّ انتفاءها لا يوجب انتفاء الحرارة بالضرورة، لاحتمال قيام النار مقامها.

ويُجاب عن هذا الوجه:

اشارة

بأنّ المراد من إمكان أن يقوم شرط آخر مقام الشرط الأوّل المذكور في القضيّة، إن كان هو إمكانها ثبوتاً، فهو غير قابل للإنكار، والقائل بالمفهوم لا ينكره، وإنّما هو يدّعي أنّ القضيّة الشرطيّة تدلّ على عدم وقوع هذا الممكن الذاتيّ في مقام الإثبات، ومن المعلوم: أنّ مجرّد إمكان قيام شرط مقام الشرط المذكور في القضيّة لا ينفي المفهوم بعد دلالة القضيّة على عدم قيامه مقامه في مقام الإثبات.

وإن كان مراده احتمال وقوع شرط مقام الشرط المذكور في القضيّة في مرحلة الإثبات، فهو - أيضاً - لا ينافي مايدّعيه المثبت للمفهوم؛ لأنّ مجرّد هذا الاحتمال لا يضرّ بدعوى القائل بالمفهوم؛ حيث إنّه يدّعي ظهور الجملة في الانتفاء عند الانتفاء، وعدم نيابة شرط مقام الشرط المذكور فيها.

على أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الشرط في الحقيقة هو كلّ واحد منهما،

ص: 308

كما في مثل «إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر»، بأن يكون كلّ واحد منهما من قبيل جزء العلّة، أو أن يكون كلّ واحد منهما علّة مستقلّة. نعم، لو فرض هذا الاحتمال مساوياً أو راجحاً لاحتمال دلالة الجملة على المفهوم، لم يكن من الممكن - حينئذٍ - الأخذ بالمفهوم.

ومنها:

أنّ الجملة لا تدلّ على المفهوم؛ لأنّها لو كانت كذلك، لكان ذلك بإحدى الدلالات الثلاث: المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة. ولكنّ الانتفاء عند الانتفاء ليس مدلولاً مطابقيّاً للجملة الشرطيّة ولا تضمّنيّاً ولا التزاميّاً؛ لأنّ المفهوم ليس عين الثبوت عند الثبوت حتى يكون هو مدلولها المطابقيّ، ولا هو جزؤه حتى يكون مدلولها التضمنيّ، ولا لازمه حتى يكون مدلولها الالتزاميّ، إذ المعتبر في الدلالة الالتزاميّة هو اللّزوم العقليّ أو العرفيّ أو العادي، والكلّ مفقود في المقام.

فينتج ذلك: عدم دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بشيءٍ من الدلالات، وهو المطلوب.ولكنّ الحقّ: أنّ الدلالة الالتزاميّة عليه موجودة، لدلالة اللّزوم على الحصر بالالتزام، وليس المفهوم إلّا ما يكون مدلولاً التزاميّاً للقضيّة.

ص: 309

بقي ها هنا اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّ المراد من (الحكم) المأخوذ في تعريف المفهوم، حيث يقال: انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، إنّما هو طبيعيّه، لا شخصه، بلا فرق بين أن يكون الحكم المعلّق على المنطوق بنحو الشرط أو الوصف أو اللّقب أو غير ذلك؛ لأنّ انتفاء شخص الحكم إنّما يكون من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، كما في مثل: «إن رزقت ولداً فاختنه»، ممّا ينتفي الحكم فيه بانتفاء الموضوع عقلاً، أو كما إذا قيل: «وقفت هذه الدار على الفقهاء إن كانوا مجتهدين»، فإذا انتفى الاجتهاد عنهم ينتفي الوقف لا محالة، ولكن لا من جهة المفهوم، بل من جهة عدم قابليّة المال لإنشاء الوقف ثانياً، فيكون الحكم بالوقف منتفياً بانتفاء الموضوع بحكم العقل، وهذا متسالَم عليه، وخارج عن محلّ النزاع قطعاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّما نقول بالمفهوم في المورد الذي يمكن فيه وجود الحكم مع انتفاء ما علّق عليه، من الشرط أو غيره، كما في مثل وجوب الإكرام؛ فإنّه لا مانع من فرض وجوده عند انتفاء المجيء، كما عند ثبوته.فلا محالة: يكون الحكم المعلّق على الشرط كلّيّاً ذا أفراد، حتى يمكن بقاؤه عند انتفاء المعلَّق عليه، وأمّا لو كان الحكم شخصيّاً، لم يكن من معنىً - أصلاً - لهذا النزاع؛ إذ لا يمكن - عقلاً - فرض بقاء شخص

ص: 310

الحكم مع انتفاء موضوعه، حتى يقال: بأنّه إذا انتفى ما عُلّق عليه فهل يبقى الحكم أم لا؟

وخلاصة البحث: أنّه ليس المعيار في أخذ المفهوم هو شخص الحكم، بل كلّيّه وسنخه، ومن هنا، فلو قام دليل على ثبوت الحكم عند انتفاء الشرط، كما لو دلّ دليل على وجوب الإكرام عند عدم المجيء، كان معارضاً للمفهوم.

الأمر الثاني:

أنّ المفهوم يتبع المنطوق في جميع قيوده وما هو دخيل فيه. وإنّما يكون الفرق بينهما بالإيجاب والسلب، وإلّا، فيجب الاتّحاد بينهما في الموضوع والمحمول. فلو قلت - مثلاً -: «إن جاءك زيد غداً راكباً فأكرمه»، فمفهومه: «إن لم يجئك زيد غداً راكباً فلا تكرمه»، فلو فرض أنّ أحد القيود لم يكن موجوداً، كعدم مجيئه غداً، أو جاء غداً، ولكنّه لم يكن راكباً، فلا يجب إكرامه، فيكفي في انتفاء وجوب الإكرام فقدان أحد القيود.

والسرّ في ذلك: هو ما ذكرناه من أن المفهوم تابع للمنطوق من جميع الجهات، أي: من جهة الموضوع والمحمول والنسبة. غاية الفرق بينهما: أنّ المنطوق والمفهوم متعاكساندائماً بلحاظ الكيف، فإن كان المنطوق قضيّة موجبة فالمفهوم قضيّة سالبة، وإن كان قضيّة سالبة فالمفهوم قضيّة موجبة.

ص: 311

إذا عرفت هذا، فيمكن أن يُستشكل في استفادة المفهوم من القضيّة الشرطيّة بما حاصله:

أنّه قد تقرّر في محلّه في المنطق: أنّ نقيض الموجبة الكلّيّة سالبة جزئيّة، وتقرّر في محلّه في الاُصول أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فمنطوق قوله - مثلاً -: «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء»، هو عدم تنجّس الماء الكرّ بأيّة نجاسة،

والمفهوم هو: إذا لم يكن الماء كرّاً فإنّه يتنجّس بشيء من النجاسات، وتكون النتيجة: أنّ الماء القليل يتنجّس في الجملة بنجاسة ما، ولا يفيد المفهوم نجاسته بجميع النجاسات.

ولكنّ الحقّ: أنّ مفهومه هو أنّ الماء القليل يتنجّس بكلّ نجاسة؛ لأنّ المدار في المباحث الفقهيّة والاُصوليّة على الاستظهارات العرفيّة، أي: على ما يستفاد من الدليل لغةً وعرفاً، وهذا بخلاف المباحث المنطقيّة، فإنّ المدار فيها على البراهين العقليّة.

ولذا يُقال: إنّ بين نظر المنطقيّ ونظر الفقيه عموماً وخصوصاً من وجه؛ فإنّه قد يكون المستفاد من الدليل عرفاً هو أنّ السالبة الكلّيّة هي نقيض الموجبة الكلّيّة، في الوقت الذي يكون نقيضها - بنظر المنطقيّ - هي الموجبة الجزئيّة، كما في المقام؛ فإنّ العرف يفهم من هذه القضيّة العموم، وهو أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء، من البول و الدموالمني، والمنطوق - أيضاً - يكون كذلك، كما أنّه ليس المراد من المنطوق بلحاظ النكرة الواقعة في سياق النفي هو العامّ المجموعيّ، بل العامّ الأفراديّ، ففي

ص: 312

المفهوم - أيضاً - مثل المنطوق، فإنّ نقيض الإيجاب الكلّيّ - عرفاً - هو السلب الكلّيّ.

الأمر الثالث:

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء كقوله: «إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر»، فعلى القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، فكيف يمكن الجمع بين هاتين القضيّتين؛ لأنّ مآل الجملتين - بلحاظ معناهما - إلى التعارض؛ لأنّ مفاد الجملة الثانية من ناحية المفهوم: إذا لم تخفَ الجدران فلا تقصّر، سواء خفي الأذان أم لا، كما أنّ مفاد الجملة الأُولى من ناحية المفهوم - أيضاً -: إن لم يخفَ الأذان لم يجب القصر، سواء خفيت الجدران أم لا، فمفهوم الجملة الأُولى ينافي منطوق الثانية، كما أن مفهوم الجملة الثانية ينافي منطوق الأُولى، ففي هذه الصورة قد يقال: بوجود تعارض وتهافت بين الشرطين.

فكيف السبيل إلى حلّ هذا التعارض؟

فهل اللّازم هو رفع اليد عن استقلال كلّ منهما في السببيّة التامّة، وجعل كلّ منهما جزء السبب؟

أم أنّ اللّازم هو رفع اليد عن انحصار كلّ منهما في السببيّة، وجعل كلّ منهما سبباً مستقلّاً؟فعلى الأوّل: تكون النتيجة: أنّه لا يكفي خفاء أحدهما، ويكون الحكم

ص: 313

مشروطاً بخفاء كليهما معاً.

وأمّا على الثاني: فيكون خفاء أحدهما كافياً في ثبوت الحكم.

ولكن بناءً على القول بأنّ خفاء الأذان يحصل - غالباً - قبل خفاء الجدران، فلا يمكن الأخذ بالفرض الثاني، أي: بدعوى استقلال كلّ منهما في السببيّة؛ لأنّ المفروض حصول خفاء الأذان قبل خفاء الجدران، فجعل الشرطيّة لخفاء الجدران - حينئذٍ - يكون من اللّغو الواضح؛ إذ لا تصل النوبة إليه.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) وجوهاً خمسة لرفع التعارض، إذ قال):

«لابدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور، إمّا بتخصيص مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، فيُقال: بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين. وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخليّة شيءٍ آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك. وإمّا بتقييد إطلاق الشرط في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما. وإمّا بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدّد الشرط قرينة على أنّ الشرط في كلٍّ منهما ليس بعنوانه الخاصّ، بل بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان»(1).

ص: 314


1- كفاية الاُصول: ص 201.

ومحصّل هذه الوجوه الخمسة:

أوّلها: الالتزام بتقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، إذ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.

والثاني: الالتزام بعدم المفهوم في كلّ منهما، فلا تدلّ كلّ جملة إلّا على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الآخر.

والثالث: الالتزام بتقييد إطلاق الشرط - المقابل للعطف بالواو - في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو المركّب منهما، لا كلّ منهما مستقلّاً.

والرابع: الالتزام بأنّ المؤثّر هو الجامع بين الشرطين، لا كلّ منهما بعنوانه، بل كلّ منهما بما هو فرد للجامع.

والخامس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما.

والكلام - أوّلاً - يقع في خصوص المثال والمسألة الفقهيّة المتعلّقة به، فنقول: لم يرد في المصادر الحديثيّة المعتبرة رواية بهذا اللّفظ، بل ما ورد في صحيح محمّد بن مسلم قال: «قلتُ لأبي عبد اﷲ%: الرجل يريد السفر، متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت»(1). الحديث.

فإنّه ظاهر في أنّ المدار على تواريه من البيوت، لا على تواري البيوت منه، كما هو مقتضى التعبير ﺑ (خفيت الجدران).وعلى فرض التنزّل، وقلنا بأنّ المراد هو خفاء الجدران، فهل يمكن

ص: 315


1- انظر: الكافي 3: 434، باب 3 من أبواب السفر، ح1؛ ووسائل الشيعة 8: 470 - 471، باب 6 من أبواب صلاة المسافر، ح 1.

الجمع بين خفاء الجدران وخفاء الأذان كما ورد في صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اﷲ% قال: «سألته عن التقصير، قال: إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر، وإذا قدمْتَ من سفرك فمثل ذلك»(1).

ولا يخفى: أنّ المراد من خفاء الجدران هو الجدران المتوسّطة في الأراضي المتوسّطة، والمراد جدران البيوت، وليس المراد القبب والمنارات؛ لأنّها قد تُرى عن بعد فراسخ، كما في قبب أمير المؤمنين% وبقيّة الأئمّة(.

وأيضاً: فالمراد خفاء صورها وأشكالها على نحو لا يمكن تمييزها عمّا عداها، ولو كانت الأشباح غير مخفيّة، والمراد هو وصوله إلى حدٍّ يمكن أن تتوارى الجدران، لا أنّ التواري هو بنفسه يكون موضوعاً للحكم، فيكون عدم الرؤية مستنداً إلى البعد المكانيّ المحدود، لا التواري بعنوانه؛ لأنّ عدم الرؤية قد يكون من جهة وجود الموانع، من انخفاضٍ أو وجود حائلٍ أو غيمٍ أو نحو ذلك.

وأمّا خفاء الأذان وعدم سماعه، فإنّ المحتملات في المراد من السماع فيه ثلاثة:

الأوّل: سماع الأذان وتميّزه عن غيره، سواء ميّز فصوله أم لا.

ص: 316


1- انظر: تهذيب الأحكام 4: 230، باب حكم المسافر والمريض في الصيام، ح50؛ ووسائل الشيعة 8: 472، باب 6 من أبواب صلاة المسافر، ح 3.

الثاني: سماعه مع تمييز فصوله بعضها عن بعض.

الثالث: أن يكتفى فيه بسماع الصوت فقط، وإن لم يشخّص أنّ المسموع له أذان أم لا.

والظاهر: أنّ المراد هو الاحتمال الأوّل؛ لأنّه يصدق عليه الأذان. وأمّا الاحتمال الثاني، وهو التقييد بتمييز فصوله، فيحتاج إلى دليل. كما أنّ الثالث - أيضاً - ساقط؛ لأنّ المراد سماع الأذان، لا مجرّد سماع الصوت بدون تمييز.

فإذا عرفت هذا، فيمكن الجمع بين

الدليلين، بأن يُقال:

يجب أن يكون خفاء الأذان في مرتبة خفاء الجدران، وهو خفاء المجموع من حيث المجموع، لا الفصول. فيكون - لذلك - في مرتبة واحدة مع خفاء الجدران، أو فقل: إنّ تواري الجدران المتوسّطة وعدم سماع صوت مجموع الأذان متلازمان غالباً.

ولا يخفى هنا: أنّ البحث عن تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء إنّما يتمّ فيما لو كان الاتّحاد سنخيّاً قابلاً للتعدّد، وأمّا إذا لم يكن قابلاً للتعدّد، وكان مفاد الجزاء صرف الوجود، وما هو عادم العدم، فحينئذٍ: يخرج عن محلّ البحث؛ لأنّه ليس قابلاً للتعدّد، بل بمجرّد الوجود الأوّل لم يبقَ مجال للوجود الثاني؛ لأنّ صرف الوجود عبارة عن أوّل وجودٍ للطبيعة، وهو مصداق عادم العدم، والوجود الثاني ليس مصداقاً له؛ لأنّ عدم الطبيعة قد انعدم بالوجود الأوّل.

ص: 317

كما لا يخفى - أيضاً -: أنّ البحث إنّما يأتي لو كان بينهما تباين في الجملة، وأمّا إذا كان خفاء أحدهما قبل الآخر، فلا يأتي هذا البحث - أصلاً -.

وأمّا الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية):

فالوجه الأوّل: لا معنى له؛ لأنّه بعد تبعيّة المفهوم للمنطوق فلا يمكن أن يقال بتقييد أحدهما للآخر أي تقييد مفهوم أحدهما بمنطوق الآخر، فإنّ المفهوم تابع للمنطوق، كما أنّه لا معنى للقول بعدم المفهوم بعد إثباتنا أنّ الجملة الشرطيّة لها مفهوم.

ومنه ظهر: بطلان ما قاله صاحب الكفاية(قدس سره)، الذي رجّح الوجه الثاني بلحاظ النظر العرفيّ، فذهب إلى أنّ العرف يساعد عليه، ورجّح الوجه الرابع بحسب النظر الدقّي العقليّ، فذهب إلى أنّ العقل يعيّنه لاستحالة تأثير المتعدّد بما هو متعدّد في واحد، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثّر، وهو يقتضي أن يكون المؤثّر هو الجامع بين الشرطين، لا كلاً منهما بنفسه؛ لامتناعه عقلاً بمقتضى قانون السنخيّة بين العلّة والمعلول.

قال): «ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني، كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه [أي: الرابع]، بملاحظة أنّ الاُمور المتعدّدة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كلّ منها مؤثّراً في واحد، فإنّه لابدّ من الربط الخاصّ بين العلّة والمعلول، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين بما هما اثنان، ولذلك - أيضاً - لا يصدر من الواحد إلّا الواحد،

ص: 318

فلابدّ من المصير إلى أنّ الشرط فيالحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاء إطلاق الشرط في كلٍّ منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والأذهان العامّيّة على تعدّد الشرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاصّ، فافهم»(1).

ولكنّك قد عرفت أنّه لا تنافي بين الدليلين بعد إمكان الجمع بينهما بالبيان المتقدّم.

البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات

إذا فرض هناك شرطان، بلا فرق بين أن يتقدّم أحدهما على الآخر بحسب الزمان أو لا، فهل يوجب التداخل في المسبّبات أم لا؟

لابدّ هنا من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: ما الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة؟

والجواب: أنّ المسألة السابقة يقع البحث فيها في أنّ كلّاً من الشرطين هل هو سبب مستقلّ أم لا؟ وأمّا هنا، فالبحث يقع في أنّ السببين المستقلّين هل يتداخلان في المسبّب، أي هل يكون لهما مسبّب واحد، أم لا؟

الأمر الثاني: أنّ هذا البحث إنّما يأتي في صورة قابليّة الجزاء للتعدّد، كالكفّارة بالنسبة إلى نهار شهر رمضان، وأمّالو فرض أنّه غير قابل للتعدّد،

ص: 319


1- كفاية الاُصول: ص 201 - 202.

كالقتل، فلا معنى للكلام في أنّه هل يتعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟

الأمر الثالث: أنّه لا فرق في محلّ البحث بين أن يكون الشرط المتعدّد من سنخ واحد، كالأكل المتعدّد في نهار شهر رمضان بالنسبة إلى كفّارة الإفطار، أو من أسناخ متعدّدة، كما إذا أكل وشرب في نهار شهر رمضان - أيضاً - بالنسبة إلى الكفّارة.

الأمر الرابع: أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، هو تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط، ويسمّى ﺑ (عدم تداخل الأسباب) كما هو المشهور.

قال في الكفاية: «قلت، نعم، لو لم يكن ظهور الجملة الشرطيّة في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن السبب، مقتضياً لذلك، أي: لتعدّد الفرد، وبياناً لما هو المراد من الإطلاق. وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق، ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورها في ذلك صالح لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى، فتلخّص بذلك: أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشرطيّة، هو القول بعدم التداخل عند تعدّد الشرط»(1).

وخلاصة كلامه: أنّ ظهور الجملة في وحدة المتعلّق ظهور إطلاقيّ،

ص: 320


1- كفاية الاُصول: ص 204.

وهذا الظهور متوقّف على مقدّمات:إحداها: أن يكون المولى في مقام البيان.

والثانية: عدم البيان وعدم ما يصلح للبيانيّة.

وبما أنّ ظهور الجملة الشرطيّة إنّما هو في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، فيقتضي تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط؛ لأنّ وحدته تنافي ظهورها في الحدوث عند الحدوث؛ فإنّ وحدة الجزاء تكشف عن عدم ذلك، وظهور الجملة الشرطيّة في اقتضائها تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط صالح لأن يكون بياناً لما اُريد من الجزاء، وهو الفرد لا الطبيعة، والقضيّة الشرطيّة تشتمل على ظهورين: الأوّل: تعدّد الحكم في الجزاء. والثاني: يقتضي الوحدة.

ولكنّ الظهور الثاني هو من قبيل الظهور الإطلاقيّ، وهو معلّق على عدم البيان، وظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث يكون صالحاً لأن يكون بياناً لما هو المراد من المطلق؛ لأنّ الظهور الأوّل ظهور إطلاقيّ متوقّف على عدم البيان، وأمّا الظهور الثاني فهو ظهور وضعيّ غير متوقّف على شيء، فيكون حاكماً على الظهور الإطلاقيّ.

فظهر ممّا ذكر: أنّ الالتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرّفاً في الظاهر، بل مقتضاه: الالتزام بالظاهر، بخلاف القول بالتداخل.

وقد ذكر صاحب الكفاية) في آخر كلامه أنّ البحث عن التداخل وعدمه إنّما يأتي في المورد القابل للتعدّد، نظير الوضوء والصلاة

ص: 321

وغيرهما. وأمّا المورد غير قابل للتعدّد فلا يجري فيه بحث التداخل وعدمه، بل لا إشكال فيالتداخل، نظير القتل، فإنّه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدّد الحكم لعدم قابليّة متعلّقه للتعدّد، كما لا يخفى.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره): «هذا كلّه فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد، وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك، فلابدّ من تداخل الأسباب فيما لا يتأكّد المسبّب، ومن التداخل فيه فيما يتأكّد»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سره) فقد وافق صاحب الكفاية) في اختياره عدم التداخل، ولكنّه خالفه في الدليل عليه، فقد قرّب) دعواه بنحوٍ آخر:

فذكر - أوّلاً -: أنّ القضيّة الشرطيّة ترجع إلى قضيّة حقيقيّة حمليّة موضوعها الشرط ومحمولها الجزاء، كما أنّ القضيّة الحقيقيّة ترجع إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها الموضوع وتاليها المحمول، فهما - حقيقةً - قضيّة واحدة، وعليه: فكما أنّ الحكم في القضيّة الحمليّة الحقيقيّة ينحلّ بانحلال موضوعه، كذلك يكون الانحلال في القضيّة الشرطيّة، فيتعدّد الحكم بتعدّد أفراد الشرط ووجوداته، وأمّا تعدّده بتعدّد الشرط ماهيّةً، فهو يستفاد من ظهور إطلاق القضيّة في الاستقلال.

وذكر بعد ذلك: أنّ الطلب المتعلّق بالماهيّة لا يقتضي إلّا إيجاد متعلّقه خارجاً، ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على

ص: 322


1- كفاية الاُصول: ص 206.

أوّل وجود من الطبيعة، كان مجزياً عقلاً.وأمّا كون متعلّق الطلب صرف الوجود، فليس هو مدلولاً لفظيّاً لصيغة الأمر، لا مادّةً ولا هيئة، إذ المادّة لم توضع إلّا إلى الماهيّة، والهيئة لا تدل إلّا على طلب إيجادها، وهو يصدق قهراً على أوّل الوجود، وذلك لا يقتضي كون مطلوبيّة صرف الوجود مدلول الكلام.

وعليه: فإذا كان مقتضى الطلب هو إيجاد الطبيعة ونقض عدمها، فإذا تعلّق طلبان بماهيّة، كان مقتضى كلّ منهما إيجاد ناقض للعدم - التداخل وعدمه -، فمقتضى الطلبين إيجاد ناقضين للعدم، نظير ما إذا تعلّقت الإرادة التكوينيّة بشيء مرّتين، فإنّ مقتضاها تحقّق وجودين منه.

وأمّا وحدة الطلب وتعدّده، فهو ممّا لا يتكفّله الطلب المتعلّق بالمادّة، بل هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدّد، لا عن ظهور اللّفظ في الوحدة، فإذا فرض ظهور الجملة في الانحلال وتعدّد الطلب، لكان الظهور مقتضياً للتعدّد، فيرتفع موضوع وحدة الطلب، وهو عدم المقتضي للتعدّد. ولو سلّم ظهور الجزاء في وحدة الطلب، فهو ناتج عن عدم المقتضي للتعدّد، وبما أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في التعدّد لفظيّ، كان حاكماً على ظهور الجزاء في الوحدة، لرفعه موضوعه، وهو عدم المقتضي للتعدّد(1).

ص: 323


1- انظر: أجود التقريرات: 1: 428 - 430. ونصّ ما أفاده): «والحقّ هو القول بعدم التداخل مطلقاً، وتوضيح ذلك إنّما يتمّ ببيان أمرين: الأوّل: ما تقدّم سابقاً من أنّه لا إشكال في أنّ كلّ قضيّة شرطيّة ترجع إلى قضيّة حقيقيّة، كما أنّ كلّ قضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضيّة شرطيّة، مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول، فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد، وإنّما الاختلاف في كيفيّة التعبير عنه، وعليه: فكما أنّ الحكم في القضيّة الحقيقيّة ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعدّدة، إذ المفروض أنّ فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له، كذلك ينحلّ الحكم في القضيّة الشرطيّة بانحلال شرطه؛ لأنّ أدوات الشرط، اسميّة كانت أم حرفيّة، إنّما وُضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض، فلا يكون بين القضيّة الشرطيّة والحقيقيّة فرق من جهة الانحلال أصلاً. وعليه: فيتعدّد الحكم بتعدّد الشرط وجوداً كما يتعدّد بتعدّد موضوعه في الخارج. وأمّا تعدّد الحكم بتعدّد شرطه جنساً، فهو إنّما يستفاد من ظهور كلٍّ من القضيّتين في أنّ كلّاً من الشرطين مستقلّ في ترتّب الجزاء عليه مطلقاً، فإنّ ظاهر قضيّة: (إذا بلْتَ فتوضّأ) هو أنّ وجوب الوضوء مترتّب على وجود البول، ولو قارنه أو سبقه النوم - مثلاً -، وكذلك ظاهر قضيّة (إذا نمْتَ فتوضّأ) هو ترتّب وجوب الوضوء على النوم، ولو قارنه أو سبقه البول - مثلاً -، فإطلاق كلٍّ من القضيّتين يستفاد منه استقلال كلٍّ من النوم والبول في ترتّب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير، ولازم ذلك هو تعدّد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج. الثاني: أنّ تعلّق الطلب بشيء لا يقتضي إلّا إيجاد ذلك الشيء خارجاً، ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجودٍ من وجودات الطبيعة، يكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال عقلاً. وأمّا توهّم أنّ ذلك من جهة تعلّق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات، فهو فاسد؛ إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلّق الطلب بعد عدم كونه مدلولاً عليه بالهيئة ولا بالمادّة، ضرورة أنّ المادّة لم توضع إلّا لنفس الماهيّة المعرّاة عن الوجود والعدم، وأمّا الهيئة، فهي لا تدلّ إلّا على طلب إيجادها ونقض عدمها الصادق قهراً على أوّل الوجودات، وليس هناك ما يدلّ على اعتبار صرف الوجود في متعلّق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئةً ومادّةً. وعليه: فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلّق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه، بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلّقه خارجاً ونقض عدمه المطلق، فإذا فُرض تعلّق طلبين بم-اهيّة واحدة، كان مقتضى كلٍّ منهما إيجاد تلك الماهيّة، فيكون المطلوب - في الحقيقة - هو إيجادها ونقض عدمها مرّتين، كما هو الحال بعينه في تعلّق إرادتين تكوينيّتين بماهيّة واحدة، فتعدّد الإيجاد تابع لتعدّد الإرادة، تشريعيّة كانت أم تكوينيّة. وبالجملة: إنّ كلّ أمر في نفسه لا يدلّ إلّا على الطلب المقتضي لإيجاد متعلّقه، وأمّا كون هذا الطلب واحداً أو متعدّداً، فليس في الأمر بهيئته ومادّته دلالة عليه قطعاً. نعم، إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدّد الطلب، وقد فُرض تعلّق الطلب بالطبيعة، كان الطلب واحداً قهراً، إلّا أنّه من جهة عدم المقتضي لتعدّده، لا من جهة دلالة اللّفظ عليه، فإذا فُرض ظهور القضيّة الشرطيّة في الانحلال وتعدّد الطلب، أو فُرض تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها، كان ظهور القضيّة في تعدّد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب - أعني به: عدم المقتضي للتعدّد - ووارداً عليه. ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب، لكان ذلك من جهة عدم ما يدلّ على التعدّد، فإذا دلّت الجملة الشرطيّة، بظهورها في الانحلال، أو من جهة تعدّدها في نفسها، على تعدّد الطلب، كان هذا الظهور، لكونه لفظيّاً، مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب» إلى آخر كلامه«..

والصحيح - تبعاً للآخوند والنائيني" -: هو القول بعدم التداخل،

ص: 324

بلا فرق بين الإتيان بالجزاء قبل تكرّر الشرط وعدمه، أي: لا فرق بين أن يكفّر بعد الأكل الأوّل في نهار شهر رمضان، وبين أن لا يكفّر.

وينبغي أن يُعلم: أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة:

أحدها: ما هو المشهور، وهو القول بعدم التداخل.والثاني: ما عن جماعةٍ، منهم المحقّق الخونساري(قدس سره)، على ما نقله

ص: 325

صاحب الكفاية(قدس سره)(1)، وهو القول بالتداخل.

والثالث: ما عن الحلّيّ(قدس سره)(2)، وهو القول بالتفصيل بين اتّحاد جنس الشروط وتعدّده.

لكنّ الحقّ في جميع الصور التي ذكرناها هو عدم التداخل، لكونه على خلاف الأصل، ومقتضى القاعدة التعدّد.

ولا يخفى: أنّه تارةً يراد بالتداخل تداخل الأسباب، ويُقصد به: أنّ مقتضى القاعدة في مورد تعدّد الشرط هل هو تعدّد الجزاء أو عدم تعدّده؟ وأُخرى يُراد منه تداخل المسبّبات، ويُقصد به: أنّه لو ثبت تعدّد الجزاء، فهل مقتضى القاعدة تحقّق امتثال الجميع - مع الاشتراك في الاسم - بواحد أو لا يتحقّق إلّا بالإتيان بالمتعلّق بعدد أفراد الحكم؟

والقول بعدم التداخل إنّما يأتي فيما إذا كان المحلّ قابلاً للتكرار، إذ مع امتناعه له لا معنى لجريان نزاع التداخل في المسبّبات في الجزاء الذي لا يقبل التكرار، كالقتل، فيُعتبر في موضوع بحث التداخل أمران:

أحدهما: قابليّة الجزاء للتكرار.

وثانيهما: سببيّة كلّ واحد من الشرطين أو الشروط لترتّب الجزاء

ص: 326


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 202، وانظر - أيضاً -: مشارق الشموس في شرح الدروس: ص 61 - 62، كتاب الطهارة في تداخل الأغسال الواجبة، قال: mلأنّ تداخل الأسباب لا يوجب تعدّد المسبّباتn.
2- راجع: السرائر 1: 258، باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة.

عليه، حتى يصحّ البحث عن أنّ تقارنالشرطين زماناً أو تقدّم أحدهما على الآخر هل يوجب التداخل في السبب، حتى يجوز الاكتفاء بمسبّب واحد، كوضوء واحد عقيب النوم والبول - مثلاً -، بعد فرض كلٍّ من النوم والبول سبباً مستقلّاً للوضوء، أم لا يوجب التداخل فيه، بل يجب عقيب كلّ منهما مسبّب، فلا يُكتفى بوضوء واحد لهما؟

فما قد يُقال: من الفرق بالقول بالتداخل إذا كانا متّحدين في السنخ، وعدم التداخل فيما إذا كانا مختلفين، فغير تامّ، كما أنّ بعضهم فرّقوا بين ما إذا أتى بالجزاء بعد الشرط الأوّل - مثلاً - فقالوا بلزوم الإتيان بعد الشرط لو وجد الشرط ثانياً، وبين ما إذا لم يأتِ بالجزاء حتى تكرّر الشرط، فيكفي الإتيان بجزاء واحد من باب تداخل المسبّبات أو الأسباب. وهذا التفريق - أيضاً - غير تامّ؛ لما ذكرناه من أنّ ظاهر كلّ شرط أنّه يكون مؤثّراً مستقلّاً في وجوب إتيان الجزاء، فمع إمكان تكرّر الجزاء وعدم ما يمنع من هذا الظهور، فلا وجه للخروج عن مقتضى هذا الظهور، والقول بالتداخل.

وبعبارة أُخرى: فبعد علمنا بتعدّد التكليف هنا، فالشكّ بعد الإتيان بأحدهما إنّما يكون في سقوط كلا التكليفين، والأصل عدم سقوطهما، إذ بعد اشتغال عهدته وذمّته - قطعاً - بأزيد من واحد، فكفاية الإتيان بالواحد منهما فقط بحاجة إلى دليل.

وأمّا التداخل في الأسباب، كما إذا علم بحدوث وجوب الوضوء عند

ص: 327

حدوث سببه، كما إذا بال أو نام، ولكن شكّ في ثبوته زائداً على هذا المتيقّن، كما إذا بال أو نام مرّةًثانية، فحينئذٍ: لا محالة يكون مقتضى الأصل هو عدم ثبوته ووجوبه.

وهذا الذي ذكرناه إنّما هو مع قطع النظر عن الروايات الواردة، وإلّا، فلو فرضنا وجود روايات تدلّ على كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة، كما في باب الوضوء، فإنّ الوارد في لسان عامّة رواياته هو التعبير ﺑ (النقض)، كما في مثل: «لا ينقض الوضوء إلّا حدث»(1)، ونحوه.

ومن الطبيعيّ: أنّ صفة النقض لا تقبل التكرّر والتكثّر، ولذا كان من الطبيعيّ - أيضاً - أن يكون المستفاد من هذه الأخبار الواردة أنّ أسباب الوضوء مأخوذة على نحو جزء العلّة، وأنّها إنّما تؤثّر في وجود صفة واحدة، وهي التي يعبّر عنها ﺑ (الحدث)، إن اقترنت تلك الأسباب كان كلّ واحد منها جزء العلّة، على نحو يكون المؤثّر هو المجموع منها، لا واحد منها بعينه، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح. وإن ترتّبت تلك الأسباب، فالأثر يكون مستنداً إلى المتقدّم منها فقط، دون المتأخّر، فإنّه يبقى بلا أثر لعدم قابليّة المحلّ، وهذا نظير من زنى ثمّ ارتدّ، فإنّ وجوب قتله يكون مستنداً إلى الزنا، ولا يؤثّر الارتداد، لعدم قابليّة المحلّ لوجوب عروض القتل ثانياً.

ص: 328


1- انظر: وسائل الشيعة 1: 253، الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح4.

فاتّضح ممّا ذكرناه: أنّ التداخل في باب الوضوء إنّما هو في الأسباب دون المسبّبات.وكذا ما ورد في باب الغسل، وهو إجزاء غسل واحد عن المتعدّد، كصحيحة زرارة: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد - قال: ثمّ قال: - وكذلك المرأة يُجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها»(1)، وغيرها من الروايات، والمستفاد من هذه الروايات هو أنّ التداخل في باب الغسل إنّما هو في المسبّبات لا في الأسباب.

وهذا الذي ذكرناه من التداخل في الأسباب دون المسبّبات، لا يُفرّق فيه بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة، لأنّه لو شك في تعدّد مشروطه عند تعدّد شرطه، فمقتضى الأصل: عدم تعدّده في كلا الحكمين، التكليفيّ والوضعيّ، كما أنّه لو شكّ في سقوطه بعد العلم بثبوته، فمقتضى القاعدة: عدم سقوطه، من دون أن يكون هناك فرق بين أن يكون الحكم وضعيّاً أو تكليفيّاً.

وأمّا ما نُسب إلى فخر المحقّقين(رحمة الله)(2) من القول بالتداخل إذا كانت

ص: 329


1- انظر: وسائل الشيعة 2: 261، الباب 43 من أبواب الجنابة، ح1.
2- حكاه عنه الشيخ) في مطارح الأنظار 2: 53.

الأسباب الشرعيّة معرّفات وعدم التداخل إذا كانت مؤثّرات، فقد أورد عليه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:«أنّ الأسباب الشرعيّة حالها حال غيرها، في كونها معرّفات تارةً ومؤثّرات أُخرى، ضرورة أنّ الشرط للحكم الشرعيّ في الجملة الشرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم، بحيث لولاه لما وُجدت له علّة، كما أنّه في الحكم الغير الشرعيّ قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أنّ له الدخل فيهما، كما لا يخفى»(1).

وحاصله: أنّ الأسباب الشرعيّة هي كبقيّة الأسباب، فقد تكون مؤثّرات، كالاستطاعة الموجبة للحجّ، وقد تكون معرّفات، كما في قولك: (إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر)، فإنّ كلّاً من الخفاءين يعبّران عن عرف خاصّ، فلا معنى للقول بأنّ الأسباب الشرعيّة مطلقاً معرّفات، بل هي على نوعين: مؤثّرات ومعرّفات، كالأسباب غير الشرعيّة، كما مرّ، فإنّ بعض الأسباب غير الشرعيّة مؤثّرات، كطلوع الشمس المؤثّر في ضوء العالم، وبعضها معرّفات، كضوء العالم الذي هو معرّف لطلوع الشمس، فيكون أمارة عليه.

وأمّا المراد بالمعرّف فهو أن يكون شيء واحد حاكياً عن اُمور متعدّدة، فإذا كان السبب والمؤثّر واحداً، فلا معنى للقول بتداخل المسبّبات،

ص: 330


1- كفاية الاُصول: ص 205.

وأمّا بناءً على المؤثّريّة، فبما أنّ كلّ أثر يقتضي أن يكون له مؤثّر مستقلّ، فلابدّ - حينئذٍ - من الالتزام بعدم التداخل، كما هو واضح.ولكن هذا الكلام من أصله ليس بصحيح، إذ لا مدخليّة للمؤثريّة والمعرفيّة في محلّ البحث - أصلاً -؛ وذلك لأنّه:

إن اُريد بكونها معرّفات: أنّها لا تكون دخيلة وعلّة في الأحكام الشرعيّة، فهو وإن كان له وجه - كما ادّعاه أستادنا الأعظم(قدس سره)(1) في الشرط الشرعيّ من أنّه ليس له تأثير كتأثير العلّة في المعلول -، إلّا أنّها تكون اُموراً اعتباريّة، والاعتباريّات رفعها ووضعها بيد الشارع.

وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات التكليف في الواقع، ولا مانع من تعدّد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه، ففيه: أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه، إلّا أنّ ظواهر الأدلّة لا تساعد عليه؛ لأنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها هي - بنفسها - موضوعات للأحكام، لا أنّها معرّفات لها.

وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعيّة، ففيه: أنّها لا تكون كاشفةً عنها بوجه، بل الكاشف عنها - في الجملة - هو نفس الحكم الشرعيّ، وأمّا ما جُعل سبباً له، فلا يكون كاشفاً عنها على الإطلاق.

نعم، كما ذكره المحقّق النائيني): «إذا كان المراد من المؤثّر عدم

ص: 331


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 4: 257 (المجلّد 46 من موسوعة الإمام الخوئي)).

تخلّف الأثر عنه فيستقيم؛ لأنّ الحكم لا يتخلّف عن موضوعه، إلّا أنّ إطلاق المؤثّر على هذا الوجه ممّا لا يخلو عن مسامحة، وإن كان المراد من الأسباب:المصالح والمفاسد، فهي مؤثّرة باعتبارٍ (من حيث تبعيّة الأحكام لها) ومعرّفة باعتبارٍ، (من حيث إنّها لا تقتضي الاطّراد والانعكاس) كما هو شأن الحكمة إن كان المراد من المعرّف هذا المعنى، أي: عدم الاطّراد والانعكاس»(1).

ولكن لا يمكن أن تكون الأسباب هي ملاكات الحكم والكاشفة عنه؛ لأنّ الأسباب الواقعة في الجمل الشرطيّة عقيب أدوات الشرط لا تخلو دائماً من حالتين: فإمّا أن تكون هي بنفسها موضوعات للأحكام، وإمّا أن تكون دخيلة في موضوعاتها، كأجزائها وشرائطها، فهي متأخّرة عن الملاكات، فلا يعقل أن تكون هي الملاكات لها، وإلّا، لزم أن يكون ما هو متأخّر رتبة متقدّماً.

ثمّ إنّه لا وجه لما اختاره ابن ادريس الحلّيّ) من التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه، والقول بتداخل الأسباب إذا كانت الأجناس متّحدة، كتكرّر البول، وعدم تداخلها إذا كانت الأجناس مختلفة، قال) في السرائر في مسألة وطء الحائض ما لفظه:

«فإذا كرّر الوطء فالأظهر أنّ عليه تكرار الكفّارة؛ لأنّ عموم الأخبار

ص: 332


1- فوائد الاُصول 2: 492.

يقتضي أنّ عليه بكلّ دفعة كفّارة، والأقوى عندي والأصحّ: أن لا تكرار في الكفّارة؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعيّة، فأمّا العموم، فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذهالمواضع؛ لأنّ هذه أسماء الأجناس والمصادر، ألا ترى أنّ من أكل في نهار شهر رمضان متعمّداً، وكرّر الأكل، لا يجب عليه تكرار الكفّارة بلا خلاف»(1).

وقال في موضع آخر من السرائر، في بحث موجبات السهو: «فإن سها المصلّي صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّاتٍ كثيرة في صلاة واحدة، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو، أو سجدتا السهو عن الجميع؟ قلنا: إن كانت المرّات من جنس واحد، فمرّة واحدة يجب سجدتا السهو، مثلاً: تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى، وكذلك في باقي الركعات، فإنّه لا يجب عليه تكرار السجدات، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب؛ لأنّه لا دليل عليه...».

إلى أن قال: «فأمّا إذا اختلف الجنس، فالأولى عندي، بل الواجب، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو؛ لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللّفظ..»، إلى آخر كلامه)(2).

وما يستفاد من ظاهر كلامه من الفرق بين اتّحاد الجنس واختلافه يمكن

ص: 333


1- السرائر 1: 144- 145.
2- السرائر 1: 258.

أن يوجّه بأنّه حينما يقول بأنّها أسماء الأجناس والمصادر، فمراده: أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة، وهي لا تدلّ على العموم، فإنّ لفظ (نوم) - مثلاً - الذي هو مادّة (نمت) في قوله: (إذا نمت فتوضّأ)، حينما يعلّقعليه الحكم، وهو وجوب التوضّأ، فهو لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة، فحينما يعلّق عليه الحكم لا يُفهم منه إلّا كون صرف الوجود من الطبيعة موضوعاً لذلك الحكم، لا كلّ وجود من وجوداتها، فموضوعيّة كلّ واحدٍ من للحكم بحاجة إلى دليل. وهذا بخلاف ما إذا كانت الشروط مختلفة من جهة الجنس، فإنّ صرف الوجود من كلّ طبيعة من طبائع الشروط المتعدّدة شرط مستقلّ للحكم، له أثر مستقلّ، فلا وجه للتداخل.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا فرق في عدم التداخل بين أن تكون الأسباب من جنس واحد أو من أجناس متعدّدة، بعد أن كان كلّ شرط وسبب مؤثّراً مستقلّاً؛ فإنّ كلّ شرط يقتضي جزاءً مستقلّاً، فلا فرق بين أن يقال: (إذا بلت فتوضّأ، وإذا نمت فتوضّأ) وبين أن يقال: (إذا نمت فتوضّأ، وإذا نمت فتوضّأ)، بل كما في صورة تعدّد الجنس يكون الجزاء متعدّداً، فكذلك في صورة اتّحاد الجنس؛ فإنّ إطلاق النوم، الذي هو الشرط يقتضي كون كلّ وجود من وجوداته جزاءً مستقلّاً، كما هو ظاهر الجملة الشرطيّة في أنّه لابدّ من حدوث الوجوب المأخوذ في رتبة الجزاء عقيب كلّ شرط، فتعدّد النوم - مثلاً - يوجوب تعدّد وجوب الوضوء، لصدق قوله: (إذا نمت فتوضّأ) على كلّ فرد من أفراد النوم، لا أنّه يتداخل.

ص: 334

وإلّا، فلو كانت الجملة الشرطيّة ظاهرة في مجرّد الثبوت عند ثبوت الشرط، فلابدّ من الالتزام بالتداخل حتى في صورة الاختلاف في الجنس - أيضاً -، لما عرفت مراراً من رجوع المتعدّد إلى الواحد إذا كان الأثر واحداً نظراً إلىامتناع صدور الواحد عن المتعدّد بما هو متعدّد، فيكون تأثير النوم والبول في الوضوء بجامع بينهما.

فمع وحدة الجامع، وعدم كون إطلاق الشرط لحدوث الجزاء عند كلّ مرّة، بل ظاهراً في الثبوت عند الثبوت، فحينئذٍ: لا مناص من الالتزام بالتداخل في المقامين، وهما: تعدّد الشروط جنساً واتّحادهما كذلك.

ولكنّ هذه القاعدة - كما تقدّم مراراً - إنّما تجري في الواحد البسيط من جميع الجهات، وهي لا تجري فيه إلّا إذا كان موجباً، بل جريانها هناك - أيضاً - غير صحيح كما ذكر في محلّه.

فالحقّ: أنّ عدم التعدّد في الوضوء إنّما هو من جهة أنّ نفس النقض لا يقبل التعدّد، فإذا حصل أوّل سبب - كالنوم -، انتقضت الطهارة، فيكون السبب الآخر بلا أثر؛ لامتناع نقض المنقوض.

وبعد أن ناقشنا سابقاً ما استدلّ به فخر المحقّقين(رحمة الله) من التفصيل بين أن تكون الأسباب مؤثّرات فلا تداخل، أو معرّفات فلابدّ من التداخل، فنقول:

يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب والمسبّبات بمقدّمات ثلاث:

الأُولى: أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة هو كون الشرط مؤثّراً، وأنّ كلّ

ص: 335

شرط يؤثّر أثراً غير ما يقتضيه الشرط الآخر من الأثر.وأمّا ما ربّما يقال في إثبات التداخل: من أنّ صرف الشيء لا يتكرّر، فهو لا ينافي ما تقدّم؛ لأنّ كون صرف الشيء لا يتكرّر لا يكون مستنداً إلى ظهور لفظيّ حتى يعارض ظهور الشرطيّة، بل ظهوره في عدم التكرار بالإطلاق وعدم موجب التعدّد، ويكفي ظهور الشرطيّتين في بيان موجب التعدّد.

والثانية: أنّ ظاهر كلّ شرط أن أثره يكون غير أثر الشرط الأوّل، فهنا بعد أن ظهر من الجملة ما يوجب التعدّد، وكان التعدّد ممكناً، بأن يكون السبب قابلاً للتعدّد، فلا وجه للقول بالتداخل أصلاً؛ لأنّ التداخل بحاجة إلى دليل، كما ورد في الغسل من كفاية غسل واحد، في قوله%: «فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد»(1).

والثالثة: أن يقع المسبّب مصداقاً لعنوانين، كما إذا ورد: (أكرم هاشميّاً وأكرم عالماً)، فهنا لو أكرم عالماً هاشميّاً، لم يكن هناك من بأس؛ لانطباق المجمع على كلا الظهورين، وتحقّق الامتثال بإتيان واحدٍ منهما، بعدما كانت النسبة بين العالم والهاشميّ هي العموم من وجه. نعم، لو ورد دليل على التداخل، كما في باب الوضوء - كما مرّ - أخذنا به، ولكنّه يكون على خلاف الأصل والقاعدة.

ص: 336


1- انظر: وسائل الشيعة 2: 261 - 261، باب 43 من أبواب الجنابة، ح1.

والذي ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) في المقام:

أنّ سبب الوضوء هو الحدث، وهو غير قابل للتعدّد، فمحقّقاته كثيرة كالبول والنوم والتغوّط، ولكنّ ذلك لايستلزمتعدّد الحدث، إذ لا معنى للحدث بعد الحدث، فيكون المؤثّر في تحقّق الحدث من أسبابه هو أوّل وجود منها، فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط، لعدم قابليّته للتعدّد، وإن تعدّدت أسبابه.

قال): «... وكما في الحدث الموجب لوجوب الوضوء، فإنّ محقّقاته، وإن كانت كثيرة، إلّا أنّه لا معنى لحدوث الحدث بعد تحقّقه، فيكون أوّل الوجود منها هو الموجب للحدث، دون غيره، ففي أمثال ذلك، لا مناص عن القول بالتداخل»(1).

وجدير بالذكر: أنّ الحكم بالتداخل هنا إنّما يكون لاُمور:

منها: أنّ وجود هذه الأسباب لعلّه هو الموجب لحصول القذارة المعنويّة والحالة الحدثيّة، وهي غير قابلة للتعدّد، فإذا وردت الأسباب في زمان واحد وعرض واحد، كان العنوان مستنداً إلى الجميع، وإن تقدّم بعضها، يكون العنوان مستنداً إليه دون غيره؛ لعدم قابليّتها للتعدّد كما عرفنا.

ومنها: كون السبب هو صرف الوجود من النواقض، لا مطلق وجوده، فأوّل سبب حصل في الخارج، فهو الناقض والمؤثّر في الوضوء، دون ما يتحقّق ثانياً وثالثاً من بقيّة الأسباب.

ص: 337


1- أجود التقريرات 1: 432.

ومنها: أن نقول بأنّ الطهارة - بالمعنى الاسم المصدريّ -، والتي هي المسبّب، تحصل بأوّل وضوء، وهي غير قابلةللتعدّد ولا التأكّد، ولا الانتساب إلى سبب من حيث وإلى سبب آخر من حيث آخر، فيخرج المورد عن محلّ النزاع.

ولكن لا يخفى: أنّ التأكّد يمكن في باب الوضوء؛ لأنّه ثبت أنّ الوضوء نور، وأنّ الوضوء على الوضوء نور على نور(1).

وأمّا باب بعض الكفّارات إنّما لم يحكم فيها بالتعدّد؛ لأنّه ورد الدليل بمثل: (من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه الكفّارة)، والمفطر صادق بإتيان أوّل وجود من المفطرات، وهذا العنوان - أعني: عنوان المفطريّة - غير قابل للتعدّد.

وأمّا في باب الغسل، فإن قلنا بأنّ ما يحصل من الحدث من الحيض هو عين ما يحصل من الجنابة، فنقول - حينئذٍ - بالتداخل؛ لعدم تعدّد السبب حتى يتعدّد المسبّب.

وإن قلنا بالمباينة، وأنّ ما يحصل من الأوّل غير ما يحصل من الثاني، فلابدّ من القول بعدم التداخل، وعدم كفاية غسل واحد عن الأسباب المتعدّدة.

نعم، لو قام الدليل على الإجزاء، نعمل به.

وبهذا تمّ الكلام - بحمد اﷲ تعالى - في مفهوم الشرط.

ص: 338


1- انظر: وسائل الشيعة 1: 377، الباب 8 من أبواب الوضوء، ح 8.

فصل في مفهوم الوصف

اشارة

وقع الكلام بينهم في ثبوت مفهوم للوصف أو عدمه، فهل مقتضى قول الآمر: «أكرم الرجل العالم» - مثلاً - هو عدم وجوب إكرام غير العالم.

والبحث في اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ محلّ البحث هل هو مطلق الوصف كما ادّعاه صاحب الكفاية بقوله: «وما بحكمه مطلقاً»(1)، أي: سواء كان معتمداً على الموصوف أم لم يكن، أم أنّه خصوص الوصف المعتمد على الموصوف دون غيره؟

والحقّ - تبعاً للمحقّق النائيني) -: هو الثاني، قال(قدس سره):

«وقبل الخوض في تحقيق الحال فيه، ينبغي تقديم مقدّمتين:

ص: 339


1- كفاية الاُصول: ص 206.

الأُولى: أنّ محلّ الكلام في المقام هو الوصف المعتمد على موصوفه، وأمّا غير المعتمد عليه، فلا إشكال في عدم دلالته على المفهوم، فهو - حينئذٍ - خارج عن محلّ النزاع.... إلى أن يقول:

الثانية: أنّ الوصف إمّا أن يكون مساوياً لموصوفه أو أخصّ منه مطلقاً أو أعمّ منه كذلك أو أعمّ منه من وجه. لاإشكال في دخول القسم الثاني في محلّ الكلام، وأمّا الأوّل والثالث، فبما أنّ الوصف فيهما لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف، لا يكون له دلالة على المفهوم أصلاً»(1).

وبالجملة: فإنّ الوصف غير المعتمد على موصوفه ليس إلّا كمفهوم اللقب، فكما أنّ اللّقب لا دلالة له على المفهوم، كذلك الوصف غير المعتمد.

فإن قلت: يمكن استفادة المفهوم حتى في الوصف غير المعتمد على الموصوف؛ لأنّ الذات دخيلة في مدلول الوصف، ﻛ (السائمة) في مثل قضيّة: «في الغنم السائمة زكاة»(2)، بناءً على دلالة المشتقّ على الذات، إمّا بالدلالة التضمّنيّة أو الالتزاميّة، فيكون هناك فرق بين اللّقب والوصف.

قلنا: الانحلال إنّما يكون عقليّاً في صقع النفس، وأمّا في الخارج، فلا يفهم من (السائمة) إلّا شيء واحد. ففي مقام الدلالة والإثبات،

ص: 340


1- أجود التقريرات 1: 433 - 434.
2- انظر: عوالي اللآلي 1: 399، ولكن بتفاوت يسير. وبنفس مضمونها ما أورده الحرّ العامليّ) في: وسائل الشيعة 9: 118، الباب 7 من أبواب زكاة الأنعام.

لا يُفهم منها إلّا مجرّد الصفة، لا الصفة والذات. فالوصف غير المعتمد على الذات لا دلالة له على المفهوم، بل على مجرّد الثبوت عند الثبوت.وأمّا ما قيل - وأشار إليه صاحب الكفاية)(1) - من أنّ الأصل في القيود أن تكون احترازيّة، ومقتضاه: ثبوت المفهوم، وإلّا، لم يكن القيد احترازيّاً.

ففيه: ما أشار إليه) في الكفاية، بقوله: «ولا ينافي ذلك ما قيل من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً؛ لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة، مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد، فلا فرق أن يُقال: (جئني بإنسان) أو (بحيوان ناطق)»(2).

وبعبارة أُخرى: فهي احتراز عن دخالة غيره في شخص الحكم لا سنخه، وذلك لا يلازم المفهوم، وجملة القول: أنّها لم يثبت من كونها احترازيّة إلّا ذلك.

وقد يقال: بأنّه لو لم نقل بأنّ الوصف مطلقاً له مفهوم، لكان لغواً، إذ لا أثر لذكر الوصف إلّا إفادة المفهوم، وهذا المعنى أشار إليه في الكفاية بقوله: «وعدم لزوم اللّغويّة بدونه»(3).

ولكن فيه: ما أجاب به الكفاية - أيضاً -، بقوله: «لعدم انحصار الفائدة

ص: 341


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 206.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.

به»(1)، وحاصله: أنّه يكفي لرفعاللّغويّة أن يكون له أثر ما، كأن يكون ذكره لغرض الاهتمام به، أو لوقوعه مورداً للسؤال، أو نحو ذلك.

وقد يُستدلّ لثبوت المفهوم - أيضاً - بما ذكره المحقّق الأصفهاني) في حاشيته على الكفاية، حيث قال - ما لفظه -:

«يمكن أن يُقال بعدم إحراز أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً أنّ معنى قيديّة شيء لموضوع الحكم حقيقة أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّق الحكم بها إلّا بعد اتّصافها بهذا الوصف، فالوصف متمّم قابليّة القابل، وهو معنى الشرط حقيقةً، وحيث إنّ الظاهر دخله بعنوانه الخاصّ، وأنّ المنوط بهذا الوصف نفس الوجوب بما هو وجوب، لا بما هو شخص من الوجوب، فلا محالة: ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء ما هو دخيل في موضوعيّة الموضوع لسنخ الحكم»(2).

وأمّا ما قد يقال - وأشار إليه في الكفاية أيضاً(3) - في إثبات الدلالة على المفهوم، من أنّه لو لم يكن للجملة الوصفيّة المفهوم، لما كان يصحّ حمل المطلق على المقيّد، ولا انحصار الحكم به، وهذا يدلّ على أنّ الجملة الوصفيّة لها مفهوم.

ففيه: أنّه لا يمكن أن نقيس المقام على حمل المطلق على المقيّد، فإنّه

ص: 342


1- المصدر نفسه.
2- نهاية الدراية 1: 625.
3- كفاية الاُصول: ص 206.

في باب الحمل، بعد أن عرفنا من الخارجوحدة المطلوب، وأنّ العرف حينما ينظر إليهما يرى أنّ القيد قرينة على التصرّف في المطلق وحمله عليه، فلا يبقى ربط أصلاً بين الحمل في باب المطلق والمقيّد وبين دلالة القيد في الجملة الوصفيّة على المفهوم، بل غاية ما يستفاد من القيد: أنّ الحكم وارد على موضوع خاصّ.

وقد يستدلّ على ثبوت المفهوم - أيضاً - بأنّ وجود القيد والوصف في الكلام مشعر بالعلّيّة.

ولكن فيه: أنّه مجرّد إشعار، وهو غير كافٍ لاستفادة المفهوم منه؛ لأنّ دلالة الجملة على المفهوم لابدّ أن تكون من قبيل الدلالات العرفيّة، وإثبات ظهورها في الدلالة على العلّيّة مشكل، فضلاً عن إثبات ظهورها في العلّيّة الانحصاريّة.

ومن الواضح: أنّه لا يكفي في إثبات المفهوم مجرّد العلّيّة، بل لابدّ أن يكون ما يفهمه العرف من هذه الجملة هو العلّيّة المنحصرة، وبما أنّ الوصف في القضيّة يكون راجعاً إلى الموضوع دون الحكم، فلا يمكن القول بأنّ الحكم يدور مداره وجوداً وعدماً. فلا دلالة للقضيّة على المفهوم، وإنّما تكون من باب ضيق الموضوع.

الأمر الثاني:

أنّه لابدّ أن يكون سنخ الحكم مقيّداً بقيد حتى يُعرف من ذلك القيد العلّيّة المنحصرة، وحتى ينتفي - بذلك - سنخ الحكم بانتفائه، كما أنّه

ص: 343

لابدّ أن يكون الوصف قيداً راجعاً إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلّق، حتى يكون مشعراً بالعلّيّةالمنحصرة له، وحتى ينتفي الحكم بانتفاء ذلك الوصف، وأمّا لو كان الوصف قيداً راجعاً للموضوع أو للمتعلّق، فمن الواضح - حينئذٍ -: أنّه لا يدلّ على المفهوم، ضرورة أنّ ثبوت الحكم لشيء خاصّ لا يدلّ بوجه عن نفيه عن غيره، بل غاية ما تدلّ الجملة عليه - عندئذٍ - هو ثبوت الحكم له، وأمّا نفيه عن غيره، فلا.

الأمر الثالث:

على القول بدلالة الوصف على المفهوم، ففي مثل «في الغنم السائمة زكاة»، فيقيّد الغنم بخصوص السائمة، ومقتضاه: أنّه ليس للغنم المعلوفة زكاة، فيدلّ على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع الموجود في القضيّة عند انتفاء الوصف، وأمّا انتفائه عن موضوع الآخر، فلا دلالة للجملة عليه، فلا يصحّ القول بدلالته على نفي وجوب الزكاة عن مثل الإبل المعلوفة، كما نُسب ذلك إلى بعض الشافعيّة(1)؛ لأنّ معنى دلالة الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود في القضيّة عند انتفاء الوصف، وأمّا عن الموضوع غير المذكور في القضيّة فلا يُفهم

ص: 344


1- استظهره منهم في مطارح الأنظار 2: 80، قال): «وعلى الثالث: فهل يجري فيه النزاع بالنسبة إلى الافتراق من جانب الوصف، كما يظهر من بعض الشافعيّة، حيث قال: إنّ قولنا (في الغنم السائمة زكاة) يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل..».

من القضيّة أنّها تكون متعرّضة لحكمه، لا نفياً ولا إثباتاً، فما نسب إلى الشافعيّة غير تامّ ولا يرجع إلى معنىً محصّل.فإذا عرفت هذه الاُمور، فاعلم أنّه قد وقع الخلاف بينهم في أنّ الوصف هل له مفهوم أم لا؟

والتحقيق أن يقال: بأنّ استفادة المفهوم من القضيّة الوصفيّة مشروطة باُمور:

منها: أن يكون المُنشأ في جانب المحمول هو سنخ الحكم لا شخصه.

ومنها: أن يكون الوصف قيداً للحكم لا الموضوع.

ومنها: أن يكون دخيلاً في الموضوع بخصوصه.

ومنها: أن يكون الموضوع باقياً في الحالين، وهما: المنطوق والمفهوم.

وفيما نحن فيه، فبما أنّ الظاهر من القضايا المشتملة على الوصف أنّ القيد فيها يكون راجعاً إلى الموضوع، لا إلى الحكم، بمعنى: أنّ تقييد الموضوع بوصفه هو في رتبة سابقة على الإسناد، فيكون الإسناد وارداً - في حقيقة الأمر - على الموضوع المقيّد.

ونتيجة ذلك ليست إلّا تضييق دائرة الموضوع، وحينئذٍ: فلا نفهم من ظاهر القضيّة الوصفيّة إلّا انتفاء شخص الحكم لدى انتفاء الوصف، دون انتفاء سنخه. فلا يكون انتفاء القيد صالحاً في القضايا الوصفيّة للدلالة على المفهوم.

ص: 345

ومن هنا ما يُقال: من أنّ «تعليق الحكم على الوصف مشعر بعلّيّة مبدأ الاشتقاق»، حيث جعلوا المشعر بالعلّيّة هو تعليق الحكم على الوصف، فالوصف قيد فلنفس الحكم، وأمّالو لم يكن راجعاً إليه، بل كان راجعاً إلى الموضوع أو إلى المحمول، فلا.

وأمّا اُستاذنا الأعظم) فإنّه فرّق بين الوصف المعتمد على موصوفه والوصف غير المعتمد عليه، فقال بجريان النزاع المذكور في خصوص الوصف المعتمد على الموصوف دون الوصف غير المعتمد، فإنّه لا يجري فيه النزاع، فقال في المقام - ما لفظه -:

«محلّ الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضيّة، بأن يكون مذكوراً فيها، كقولنا: أكرم إنساناً عالماً، أو رجلاً عادلاً، أو ما شاكل ذلك. وأمّا الوصف غير المعتمد على موصوفه، كقولنا: أكرم عالماً، أو عادلاً، أو نحو ذلك، فهو خارج عن محلّ الكلام، ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم، ضرورة أنّه لو كان داخلاً في محلّ الكلام لدخل اللّقب فيه - أيضاً -، لوضوح أنّه لا فرق بين اللّقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية، فكما أنّ الأوّل لا يدلّ على المفهوم من دون خلاف، فكذلك الثاني...»، انتهى موضع الحاجة(1).

ص: 346


1- راجع: محاضرات في اُصول الفقه 4: 272، (المجلّد 46) من موسوعة الإمام الخوئي).

وملخّص ما ذهب إليه(قدس سره)من التحقيق في ختام مبحث مفهوم الوصف، أنّه:تارةً: يكون المراد من مثل (أكرم رجلاً عالماً)، هو انتفاء الحكم عن غير العادل والفاسق، ولو بسبب آخر.

وأُخرى: نفهم من التقييد أنّ المتكلّم لم يرد الحكم على الموضوع، وهو الرجل، على الإطلاق، بل على خصوص الرجل العادل.

فإن كان مرجع النزاع في أنّ الجملة الوصفيّة لها مفهوم أم لا إلى المعنى الأوّل، فلا إشكال في عدم دلالتها على المفهوم بهذا المعنى؛ فإنّ قولك - مثلاً -: (أكرم رجلاً عالماً)، لا يدلّ على عدم وجوب إكرام العادل والهاشميّ والفاسق بحصّةٍ أُخرى من الإكرام؛ لوضوح أنّ إثبات شيء لشيء لا ينافي ثبوته لما عداه، ولا تنافي بين (أكرم رجلاً عالماً) وبين (أكرم رجلاً عادلاً) بحصّة أُخرى من الإكرام.

وأمّا لو كان مرجع النزاع المذكور إلى المعنى الثاني، فالظاهر ثبوت دلالة الجملة - حينئذٍ - على المفهوم بهذا المعنى؛ لأنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً، وله دخل في الموضوع أو الحكم، إلّا مع وجود قرينة على عدم دخله، فقولنا: (أكرم رجلاً عالماً) يدلّ على أنّ هذا الوجوب لم ينصبّ على طبيعيّ الرجل، ولو كان جاهلاً، بل إنّما ثبت لخصوص حصّة خاصّة منه، وهي حصّة (الرجل العالم).

ولكنّك خبير: بأنّ هذا المعنى من المفهوم يأتي بعينه في الجملة اللّقبيّة

ص: 347

أيضاً، فلابدّ وأن يكون مرادهم من عدم ثبوت المفهوم هو المعنى الأوّل، ومن هنا يشترطون في المفهوم أن يكون الوصف قيداً راجعاً إلى سنخ الحكم، لا إلىشخصه، ويشترطون فيه - أيضاً - أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم لا الموضوع.

ونصّ ما أفاده) كالتالي:

«ولكنّ الصحيح فيها هو التفصيل، بيان ذلك: أنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم، تارةً بمعنى: أنّ تقييد الموضوع أو المتعلّق به يدلّ على انتفاء الحكم عن غيره، فلو ورد في الدليل: أكرم رجلاً عالماً، يدلّ على انتفاء وجوب الإكرام عن غير مورده، يعني: عن الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك، ولو بسببٍ آخر. وأُخرى: بمعنى: أنّ تقييده به يدلّ على عدم ثبوت الحكم له على نحو الإطلاق، أو فقل: إنّ معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعيّ موصوفه على نحو الإطلاق، وأنّه غير ثابت له كذلك.

فإن كان النزاع في المعنى الأوّل، فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى، ضرورة أنّ قولنا: أكرم رجلاً عالماً لا يدلّ على نفي وجوب الإكرام عن حصّة أُخرى منه، كالرجل العادل أو الهاشميّ أو ما شاكل ذلك، لوضوح أنّه لا تنافي بين قولنا: أكرم رجلاً عالماً، وقولنا: أكرم رجلاً عادلاً - مثلاً - بنظر العرف أصلاً، فلو دلّت الجملة الأُولى على المفهوم - أي: نفي الحكم عن حصص أُخرى منه - لكان

ص: 348

بينهما تنافٍ لا محالة، وقد تقدّم وجه عدم دلالته على المفهوم بشكل موسّع.وإن كان النزاع في المعنى الثاني، فالظاهر: أنّه يدلّ على المفهوم بهذا المعنى، ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلّقه، إلّا أن تقوم قرينة على عدم دخله فيه، ففي مثل قولنا: أكرم رجلاً عالماً، يدلّ على أنّ وجوب الإكرام لم يَثبت لطبيعيّ الرجل على الإطلاق، ولو كان جاهلاً، بل ثبت لخصوص حصّةٍ خاصّة منه، وهي: الرجل العالم، وكذا قولنا: أكرم رجلاً هاشميّاً، أو: أكرم عالماً عادلاً، وهكذا... والضابط: أنّ كلّ قيد أُتي به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلّق، يعني: أنّ الحكم غير ثابت له إلّا مقيَّداً بهذا القيد، لا مطلقاً، وإلّا، لكان القيد لغواً، فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر، فيحتاج إلى قرينة.

إلى أن يقول: ثمّ إنّ هذه النقطة التي ذكرناها قد أُهمِلَت في كلمات الأصحاب، ولم يتعرّضوا لها في المقام، لا نفياً ولا إثباتاً، مع أنّ لها ثمرة مهمّة في الفقه...»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سره) فقد أفاد في مقام نفي مفهوم الوصف ما حاصله: أنّ القيد تارةً: يرجع إلى الحكم بالمعنى الذي تصوّره(قدس سره)، وهو

ص: 349


1- المصدر السابق 4: 278- 280.

تقييد المادّة المنتسبة، وأُخرى: يرجع إلى الموضوع، والأوّل يلازم المفهوم دون الثاني.

وبما أنّ الشرط يرجع - في نظره - إلى الحكم فقد التزم بالمفهوم. وأمّا الوصف، فظاهره أنّه راجع إلى الموضوع،فلا يلازم المفهوم، إذ ثبوت الحكم لموضوع معيّن لا ينافي ثبوته لآخر، ولا يلزم من انتفاء الوصف سوى انتفاء الموضوع، وهو لا يلازم انتفاء الحكم، لإمكان ثبوته لموضوع غيره(1).

ص: 350


1- انظر: أجود التقريرات 1: 434 - 435. وإليك نصّ كلامه): «الحقّ: هو عدم دلالة الوصف على المفهوم، وتوضيح ذلك إنّما يتمّ ببيان أمرين: الأوّل: أنّا قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط: أنّ القيد إمّا أن يعتبر قيداً للمفهوم الأفراديّ قبل وقوع النسبة عليه، فيكون المقيّد بما هو مقيّد طرفاً للنسبة، سواء كان ذلك المفهوم الأفراديّ متعلّقاً للتكليف أم كان موضوعاً له، وإمّا أن يعتبر قيداً للجملة التركيبيّة على النحو المعقول، بأن يكون القيد قيداً للمادّة المنتسبة، فيكون التقييد وارداً على المادّة في عرض ورود النسبة عليها وفي مرتبتها، وقد ذكرنا هناك: أنّ أدوات الشرط إنّما وضعت لتقييد جملة بجملة، ولا يصحّ استعمالها في تقييد المفاهيم الإفراديّة أصلاً. الثاني: أنّ ملاك الدلالة على المفهوم، كما مرّت الإشارة إليه في الفصل السابق، هو أن يكون القيد راجعاً إلى المادّة المنتسبة، ليترتّب عليه ارتفاع الحكم عند ارتفاع قيده، والوجه في ذلك: هو أنّ التقييد إذا رجع إلى نفس الحكم على النحو المعقول، كان لازم ذلك هو ارتفاعه بارتفاعه، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً، لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة، ففرض تقييد الحكم بشي ء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى المفهوم الأفراديّ، فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد، ومن الضروريّ: أنّ ثبوت شي ء لشي ء لا يستلزم نفيه عن غيره، وإلّا لكان كلّ قضيّة مشتملة على ثبوت حكم على شي ء دالّاً على المفهوم، وذلك واضح البطلان، وعلى ما ذكرناه: فدلالة الوصف على المفهوم تتوقّف على كونه قيداً لنفس الحكم، لا لموضوعه، ولا لمتعلّقه، وبما أنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيوداً للمفاهيم الإفراديّة، يكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم».

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) من الفرق لا يرجع إلى معنى محصّل؛ لأنّ قيود الموضوع - في نظره الشريف - ترجع إلى الحكم في الحقيقة، وتكون قيوداً له؛ بتقريب: أنّ الحكم بالنسبة إلى القيد، إمّا مطلق أو مهمل أو مقيّد، والأوّل ممتنع؛ لأنّه خلف، والثاني - أيضاً - ممتنع؛ لامتناع الإهمال في مقام الثبوت، فيتعيّن أن يكون مقيّداً به.

ص: 351

ص: 352

فصل في مفهوم اللّقب والعدد

هل للعدد واللّقب مفهوم أم لا ؟

ذهب صاحب الكفاية إلى أنّه «لا دلالة للّقب ولا للعدد على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً»(1).

فلا دلالة لقول الآمر: (أكرم زيداً) أو (أكرم العالم) على عدم وجوب إكرام غير زيد أو غير العالم، كما لا دلالة لقوله: (أكرم عشرة رجال) أو (أطعم ستّين مسكيناً) - مثلاً - على عدم وجوب إكرام غير العشرة، أو على عدم وجوب إطعام غير الستّين، بل إنّ عدم كفاية الأقل إنّما هو لأجل عدم كونه ماُموراً به، لا من جهة ثبوت دلالة العدد على المفهوم.

كما أنّه لا مفهوم للّقب؛ لأنّ الحكم الثابت له شخصيّ وليس سنخيّاً

ص: 353


1- كفاية الاُصول: ص 212.

حتى يستفاد منه المفهوم، بل يفهم الحصر من المنطوق من باب ضيق الموضوع، وانتفائه بانتفاء اللقب عقليّ، نظير انتفاء العرض بانتفاء معروضه.

ومن هنا ظهر: بطلان ما ذهب إليه بعضهم من القول بثبوت المفهوم، قال في التقريرات: «وذهب جماعة، منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد إلى ثبوت المفهوم فيه».ثمّ قال: «واحتجّوا بلزوم العراء عن الفائدة لولاه، وبأنّ قول القائل: لا أنا بزانٍ ولا أُختي زانية، رمي للمخاطَب ولاُخته بالزنا، ولذلك أوجبوا عليه الحدّ».

وقد أجاب في التقريرات عن كلا هذين الدليلين، فقال:

«وفي كليهما ما لا يخفى، إذ في الأوّل: عدم انحصار الفائدة في المفهوم، وفي الثاني: أنّ دلالته تكون بقرينة المقام»(1).

وأمّا العدد: فإنّه تارةً يكون وارداً في مقام التحديد، وأُخرى لا يكون كذلك. وما كان وارداً في مقام التحديد، فإنّه تارةً: يكون ناظراً إلى طرف القلّة كالعشرة، وأُخرى يكون ناظراً إلى طرف الكثرة، كتحديد الحيض من طرف الكثرة إلى عشرة لا أزيد، فلا مانع من أن يكون أقلّ منه.

أمّا من جهة النقيصة، فلا إشكال في عدم الدلالة على المفهوم، أي:

ص: 354


1- مطارح الأنظار 2: 121 - 122.

لا إشكال في أنّ دلالة العدد على عدم جواز الاقتصار على ما دونه ليست دما هو دون ذلك العدد لم يكن هو المأمور به، وهذه الدلالة منطوقيّة لا مفهوميّة.

وكذا لو كان في مقام التحديد من جانب الزيادة، كالعشرة في الحيض، فإنّه من قبيل دلالة المنطوق، ولجهة أنّ الأكثر ليس ماُموراً به.

وأمّا إذا كان التحديد من الطرفين؛ فإنّه يوجب المفهوم، كتسبيح الزهراء، فإنّه يمكن أن يستفاد منه المفهوم.ومن هنا ظهر: بطلان ما أطلقه بعض المعاصرين من أنّه «إذا أُخذ العدد بنحو التحديد من طرف الأقلّ والأكثر، فينفي وجوب إكرام غيرهم [في مثال: أكرم عشرة رجال] بمقتضى التحديد، وهو من أقوى المفاهيم»(1).

ص: 355


1- منتقى الاُصول 3: 291.

ص: 356

فصل في مفهوم الغاية

هل للغاية مفهوم أم لا؟

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في بيان أنّ الغاية هل هي داخلة في المغيّى أم لا؟

والأمر الثاني: في بيان مقتضى الظهور، أي: أنّ ظهور الأداة هل يقتضي دخول الغاية في المغيّى، وأنّه كابتداء الشيء وحدّه، وهل حدّ الشيء من أجزائه حتى يكون أوّل جزء من أجزائه أم لا؟وأمّا الأمثلة التي ذكروها لإثبات الدخول أو الخروج، كمثل قوله تعالى: ﴿أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾(1)، أو قوله: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَب-ُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾(2)، لا يُثبت أنّ القاعدة الكلّيّة هي الدخول أو الخروج، وإنّما استفيد منها

ص: 357


1- البقرة: الآية: 187.
2- الآية نفسها.

الدخول أو الخروج من جهة القرائن الخاصّة، فدعوى ظهور الأدوات في الدخول مطلقاً، أو الخروج كذلك، أو التفصيل، هي مجرّد دعوىً بلا دليل.

الأمر الثالث: إذا كانت الغاية داخلة في المغيّى، فتحرير المسألة بالشكل التالي، وهو أن يُقال: هل تدلّ الغاية - لو كان لها مفهوم - على ارتفاع سنخ الحكم عمّا بعد المغيّى أم لا؟ وأمّا لو لم يكن لها مفهوم، ولم تكن داخلة في المغيّى، فتصوير النزاع كما يلي: هل تدلّ الغاية على انتفاء سنخ الحكم عن الغاية وما بعدها أم لا؟

الأمر الرابع: الأقوال والنزاع الواقع في باب الغاية هو أنّ الغاية هل هي داخلة في المغيّى مطلقاً، أم ليست داخلة فيه مطلقاً، أو التفصيل بين حتى وإلى، أو التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيّى فتدخل، أو لا فلا.

الأمر الخامس: كما مرّ في بداية مباحث المفاهيم، فإنّ القضيّة إنّما تكون ذات مفهوم إذا كان التقييد المذكور فيها، من قيد وشرط أو وصف أو غاية، راجعاً إلى الحكم، أي: بعدتحقّق الإسناد؛ إذ - حينئذٍ - يكون قيداً لمفاد الجملة ونتيجتها بعد تحقّق الإسناد، فيكون في رتبة الإسناد، لا متقدّم عليه، وأمّا إذا كان راجعاً إلى عقد الوضع أو الحمل، فيكون مقدّماً على الإسناد، فيكون الإسناد وارداً على عقد الوضع المقيّد، أو عقد الحمل المقيّد، فيكون - حينئذٍ - من باب اللّقب، وقد عرفت أنّ اللّقب لا مفهوم له.

ص: 358

الأمر السادس: ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) أنّ التحقيق هو التفصيل بين غاية الحكم وغاية الموضوع، قال):

«إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيداً للحكم، كما في قوله: (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام)، و(كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر)، كانت دالّةً على ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلك منها كما لا يخفى، وكونه قضيّة تقييده بها، وإلّا لما كان ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النهاية. وأمّا إذا كان بحسبها قيداً للموضوع، مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة)، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة»(1).

ولكنّ تقييد الموضوع بغاية يرجع - أيضاً - إلى الحكم، فالفرق الذي ذكره(قدس سره) غير فارق.

مضافاً إلى ما عرفته من أنّ

التمثيل بمثل الآية والروايات لا يجدي لإثبات قاعدة كلّيّة تكون جارية في مطلقالاستعمالات، وذلك لجهة أنّها واردة في في موارد خاصّة وقد قامت على بيان ما هو المراد منها القرائن الخاصّة.

وقد ذكر المحقّق الأصفهانيّ) في حاشيته على الكفاية: أنّ «مبدأ الشيء ومنتهاه، تارةً بمعنى: أوّله وآخره، وأُخرى بمعنى ما يُبتدأ من عنده وما ينتهي عنده الشيء، ودخول الأُوليين كخروج الأُخريين من الشيء

ص: 359


1- كفاية الاُصول: ص 208 - 209.

واضح، والكلام في أنّ مدخول (حتى) و (إلى) هو المنتهى بالمعنى الأوّل أو الثاني، وكون الحدّ المصطلح خارجاً عن حقيقة الشيء لا يقتضي أن يكون مدخولهما حدّاً اصطلاحيّاً»(1).

والذي يظهر من كلامه(قدس سره) أنّ حدّ الشيء في اصطلاح أهل المعقول خارج عن الشيء، والذي يبدو أنّ ذلك غير صحيح.

والحاصل: أنّه إن كان الظاهر من الجملة أنّ القيد يكون راجعاً إلى الحكم، لا إلى الموضوع ولا إلى المحمول، كما في مثل: (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام)(2)، أو (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر)(3)، أو قوله تعالى: ﴿أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾(4)، فكما قيل: بأنّ هذين الحكمين- مثلاً - منوطان بالعلم بالحرمة والقذارة، وكذا في مسألة الصيام حيث يُقال: إنّ جعل وجوب إتمام الصيام مغيّىً بغاية اللّيل، فيكون له دلالة على المفهوم، وفيه تأمّل.

ص: 360


1- نهاية الدراية 1: 627.
2- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 17: 88، الباب 4 من أبواب ما يُكتسب به ح 1، بلفظ «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».
3- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 3: 467، الباب 37 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح 4، بلفظ «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك».
4- البقرة: الآية: 187.

فصل في مفهوم الحصر

لا يخفى: أنّ الحصر تارةً يكون للحكم، وأُخرى يكون للموضوع، فإذا كان حصراً للحكم، كما في الاستثناء، حيث يتمّ حصر الحكم في المستثنى منه وإخراج المستثنى بعد الإسناد، فيكون له دلالة على المفهوم، كما في مثل: (أكرم العلماء إلّا زيداً)؛ فإنّ هذا يدلّ على أنّ زيداً لم يشمله هذا الحكم، وأنّ الحكم منتفٍ عنه، كما أنّه إذا كان الحصر قيداً للموضوع، فلا يفيد المفهوم، بل يدلّ على أنّ الموضوع يكون مقيّداً، فينتفي الحكم لا محالة؛ لأنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقليّ.

فإذا عرفت هذا، فإنّ كلمة (إلّا) تفيد الحصر، أي: حصر الحكم في المستثنى منه وإخراج المستثنى عنه بعد الإسناد، ولذا يكون الاستثناء من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، كما إذا قلت: (أكرم القوم إلّا زيداً)،

ص: 361

وليس هناك أيّ تناقض بين المستثنى والمستثنى منه، فما نسب إلى نجمالأئمّة)(1) من أنّ رفع التناقض المتوهّم في باب الاستثناء منحصر بأن يخرج المستثنى قبل الإسناد، غير تام؛ لأنّه ليس هناك تناقض أصلاً بين المستثنى والمستثنى منه حتى نقول: بأنّ رفع هذا التناقض يتوقّف على جعل الإخراج قبل الإسناد، وذلك لأنّ الكلام لا يؤخذ به، ولا يحمل على ما هو ظاهر فيه إلّا بعد تماميّته بجميع متمّماته، من لواحقه وتوابعه، بل لا يمكن القول بالتناقض، حتى لو جيء بالقرينة المنفصلة بعد تماميّة الكلام، فالعرف لا يرى بين هذه القرينة وذي القرينة أيّ تناقض.

بل هذا الإشكال، لو قلنا به، فهو غير مختصّ بباب الاستثناء، بل يأتي ويجري - أيضاً - في جميع قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات بالنسبة إلى ذي القرائن والعمومات والمطلقات.

ص: 362


1- انظر: شرح الرضيّ على الكافية 2: 78 - 79، ونصّ عبارته) كالتالي: «فزبدة الكلام: أنّ دخول المستثنى في جنس المستثنى منه، ثمّ إخراجه بإلّا وأخواتها، إنّما كان قبل إسناد الفعل أو شبهه إليه، فلا يلزم التناقض في نحو: جاءني القوم إلّا زيداً؛ لأنّه بمنزلة قولك: القوم المُخرَج منهم زيد جاؤوني، ولا في نحو: له عليّ عشرة إلّا درهماً؛ لأنّه بمنزلة قولك: العشرة المخرج منها واحد له عليَّ، وذلك لأنّ المنسوب إليه الفعل، وإن تأخّر عنه لفظاً، لكنّه لابدّ له من التقدّم وجوداً على النسبة التي يدلّ عليها الفعل، إذ المنسوب إليه والمنسوب سابقان على النسبة بينهما ضرورةً، ففي الاستثناء، لمّا كان المنسوب إليه هو المستثنى منه، فلابدّ - إذاً - من حصول الدخول والإخراج قبل النسبة، فلا تناقض».

وبعبارة أُخرى: فالنزاع إنّما يكون في إرجاع معنى (جاء القوم إلّا زيداً) إلى جعل (إلّا زيد) قيداً من قيود (القوم)، ليكون حاصل المعنى: أنّ القوم الموصوفين بأنّ غير زيد منهم قد جاؤوا، وبهذا الإرجاع، يرجع مفهوم الاستثناء إلى مفهوم الوصف، ولا نقول بالمفهوم فيها؛ لأنّه يرجع إلىإثبات الحكم لموضوع خاصّ، وهذا من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، كما أنّ العرض ينتفي بانتفاء معروضه.

ويمكن أن يكون قيداً من قيود الحكم، ويكون المعنى: أنّ الإكرام منحصر بالقوم دون زيد، فيدلّ على أنّ زيداً لم يشمله الحكم المذكور، فهذا يدلّ على المفهوم.

فالحقّ - إذاً -: أنّ الجملة الاستثنائيّة تفيد المفهوم؛ لأنّ إثبات الحكم للقوم - في المثال المتقدّم - وإخراج زيد من الحكم الذي هو ثابت لقومه، هو عين المفهوم، وهي استفادة تثبت بالتبادر.

فما عن أبي حنيفة(1) من أنّ الاستثناء لا يدلّ إلّا على أنّ المستثنى لا يكون مشمولاً للحكم المنشأ في القضيّة، وأمّا ثبوت نقيضه له في الواقع، حتى نقول بالمفهوم، فلا.

ففي غير محلّه.

وكذا لا محلّ لما حكي عنه - أيضاً -: من أنّ الاستثناء لو كان دالّاً

ص: 363


1- نقله عنه في الكفاية: ص 209، وانظر: شرح مختصر الاُصول للعضديّ: ص 264 - 265.

على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، وأنّه منتفٍ عن المستثنى، فإنّه يدلّ على أنّ الفاقد للطهور ليس بصلاةٍ مطلقاً، يعني: وإن كان واجداً لما عدا الطهور من الأجزاء والشرائط، والواجد له صلاة مطلقاً أيضاً، وإن كان فاقداً لما عداه من الأجزاء والشرائط.وهو باطل قطعاً، ضرورة انتفاء الصلاة بفقدان ركن من أركانها، ولو كان الطهور موجوداً، فيكشف هذا عن عدم دلالة الاستثناء على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى.

فخلاصة الكلام: لو كان ﻟ (إلّا) مفهوم فهو ما يدلّ على أنّ الصلاة - مثلاً - توجد مع وجود الطهارة، سواء وجد سائر ما يعتبر فيها أم لم يوجد، مع أنّ هذا قطعاً ليس بصحيح.

ولكنّ الحقّ: أنّ المراد من هذه العبارة وأمثالها هو أنّ الصلاة الصحيحة لا يمكن أن توجد وتتحقّق إلّا مع هذا الشرط أو الجزء، ومفهوم هذا الكلام هو أنّه مع وجود هذا المستثنى يمكن أن تقع وتوجد ولو بضمّ سائر الشرائط والأجزاء، بل كلّ ما يعتبر فيها، وليس المفهوم: أنّها توجد مع هذا المستثنى مطلقاً، سواء انضمّ إليها سائر ما اعتبر فيها أو لم ينضمّ حتى يرد ذلك الإشكال.

وأمّا الإشكال: بأنّ الكلمة الطيّبة التوحيديّة، أعني: (لا إله إلّا اﷲ)، لا تدلّ على التوحيد سواء كان الخبر المقدّر لكلمة (لا) هو لفظ (ممكن) أو (موجود)؛ إذ:

ص: 364

على الأوّل: لا تدلّ كلمة الإخلاص إلّا على إمكان المستثنى، وهو اﷲ تعالى، وذلك لأنّ المستثنى منه على هذا التقدير هو نفي الإمكان، فالمستثنى هو ثبوت الإمكان، ومن المعلوم: أنّه لا يستلزم الوجود والفعليّة؛ لأنّ الإمكان أعمّ من الفعليّة.

وعلى الثاني: وإن كانت كلمة الإخلاص لا تدلّ إلّا على وجوده تعالى شأنه؛ لأنّ المستثنى منه نفي وجود طبيعةالإله، والمستثنى إثبات وجود فردٍ واحدٍ منها، وهو اﷲ تعالى، إلّا أنّها لا تدلّ على نفي إمكان إلهٍ آخر، فإنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ، ومن المعلوم: أنّ المقصود من كلمة الإخلاص إنّما هو نفي إمكان إلهٍ آخر، لا نفي وجوده فقط.

فواضح الدفع: إذ نجيب عنه:

بأنّ المراد من الإله في المستثنى منه هو واجب الوجود، يعني: أنّه لا واجب وجود موجود إلّا اﷲ تعالى، ومن المعلوم: أنّ نفي طبيعة واجب الوجود وإثبات فرد منها، وهو اﷲ جلّ وعلا، يدلّ على عدم إمكان واجب سواه، إذ لو كان ممكناً لوجد قطعاً، ضرورة أنّ المراد بواجب الوجود ما كان واجباً بذاته، من دون أن يكون لوجوده حالة منتظرة، ففرض إمكانه مساوق لوجوده، لكون وجوده واجباً حسب الفرض، والمفروض أنّ وجوده منتفٍ إلّا في فرد واحد.

ولكن قد يرد عليه الإشكال بأن يقال: إنّ (لا) لنفي الحقيقة، كما في

ص: 365

قولك: (لا فتى إلّا عليّ) و(لا سخاء إلّا في العرب)، فكما تدلّ الجملتان على أنّ الفتوّة تكون منحصرة في علي%، والسخاوة منحصرة في العرب، فهكذا تدلّ كلمة الإخلاص على أنّ حقيقة المعبوديّة منحصرة بذاته جلّ وعلا. ولهذه الكلمة دلالات ثلاث:

الأُولى: المطابقيّة، أي أنّه ليس هناك معبود بحقّ لائق للعبادة غير اﷲ تعالى.والثانية: الالتزاميّة، أي: بما أنّ المعبود بالحقّ منحصر به تعالى، فيكون واجب الوجود منحصراً به.

والثالثة: الدلالة الاقتضائيّة، وهي الدلالة العقليّة التي تثبت وحدانيّة اﷲ، وتفصيلها في علم الكلام.

فكلمة (اﷲ) في كلمة (لا إله إلّا اﷲ) هي اسم لذات واجب الوجود الجامع لجميع صفات الكمال والمنزّه عن كلّ صفة توجب النقص، فمقتضى هذا الكلام: أنّه لا يفعل شيئاً إلّا في الموارد التي هي موافقة للحكمة والمصلحة، وهذا هو معنى العدل، بعد امتناع أن يصدر منه الأفعال القبيحة، من الظلم واللّغو وغيرها، ومن لوازم عدله: إرسال الرسل وإنزال الكتب وجعل الأحكام ونصب الإمام، أي: الحافظ المبين في جميع الأزمنة، وأنّه عيّن محلّاً للجزاء، كما في المطيع والعاصي والكافر.

وممّا قيل بدلالته على الحصر: كلمة (إنّما)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا

ص: 366

الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء﴾(1)، وقوله: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾(2)، فالآية الأُولى تدلّ على أنّ الصدقات مختصّة بالفقراء، وتنفي استحقاق الصدقات عن غير الفقراء، والآية الثانية تدلّ على أنّ الذي هو من عمل الشيطان ويكون رجساً إنّما هي الاُمور المصرّح بها في الآية، دون ما سواها.وقد استدلّوا على أنّ المستفاد من (إنّما) هو الحصر باُمور:

الأوّل: تصريح أهل اللّغة به، وأنّ النحاة أرسلوه إرسال المسلّمات.

ولكنّ شيئاً من ذلك لا يفيد القطع، خصوصاً مع ذكر التعليلات العليلة في كلامهم.

والثاني: التبادر، أي تبادر الحصر من كلمة (إنّما)، فقد فرّقوا بين أن تكون الكلمة مؤلّفة من (إنّ) الإثباتيّة و(ما) النافية، وبين أن تكون كلمة مركّبة بسيطة.

ولكن قد يستشكل على وجود المفهوم بعدم حصول الجزم بالتبادر، بل وإمكان منعه، بتقريب: أنّ موارد الاستعمالات كانت مختلفة في العرف السابق، فقد استعملوها في الحصر تارةً، وفي غيره أُخرى، ولا عبرة بما هو في عرفنا في استكشاف أنّه هل يفيد الحصر أم لا؟

ص: 367


1- التوبة: الآية 60.
2- المائدة: الآية 90.

وأيضاً: فحينما نراجع مواقع استعمال هذه الكلمة في كلمات الفصحاء، لم نجد موضعاً غير قابل للمناقشة في استفادة الحصر من هذه الكلمة، لأجل أنّ الاستفادة كانت بسبب القرائن،إمّا من جهة قيام القرينة المقاميّة التي تدلّ على الحصر، أو من باب تقديم ما هو حقّه التأخير، بحيث لو حذف لفظة (إنّما) لدلّت القرائن على الحصر - أيضاً -.

قال في التقريرات - ما نصّه -:

«والإنصاف: أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك؛ فإنّ موارد استعمال هذه اللّفظة مختلفة، ولا يُعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يُستكشف منها ما هو المتبادر منها، بخلاف ما هوبأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعاً لبعض الكلمات العربيّة، كما في أداة الشرط ونحوها.

وأمّا النقل المذكور، فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللّغويّ في تشخيص الأوضاع على تقدير أن لا يكون ذلك منهم اجتهاداً، ولم يثبت ذلك على تقدير اعتبار مطلق الظنّ، كما قُرّر في محلّه»(1).

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّه «لا شكّ في أنّ المتبادر منها [أي: من (إنّما)] هو حصر المسند في المسند إليه، سواء قلنا بأنّ الكلمة مركّبة من (إنّ) الإثباتيّة و(ما) النافية، أو لم نقل، وقلنا بأنّها كلمة

ص: 368


1- مطارح الأنظار 2: 110.

بسيطة»(1).

فمحلّ تأمّل، فإنّ ما هو مسلّم إنّما هو استفادة التأكيد منها.

وقد أورد صاحب الكفاية على كلام التقريرات بما لفظه:

«ودعوى: أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإنّ موارد استعمال هذه اللّفظة مختلفة، ولا يُعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يُستكشف منها ما هو المتبادر منها، غير مسموعة؛ فإنّ السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف - أيضاً - سبيل»(2).وقد يستشكل فيما أفاده(قدس سره): أنّه إن كان المراد العرف الحاضر، فإنّ الانسباق إلى أذهانهم فرع استعمالها فيه، وإن كان المراد العرف السابق، فقد عرفت اختلاف الاستعمال عنه.

فالحقّ: عدم إمكان إثبات استفادة المفهوم من كلمة (إنّما) دائماً وبنحو الموجبة الكلّيّة.

ثمّ إنّهم قد ذكروا ها هنا اُموراً أُخرى زعموا أنّها تفيد المفهوم، مثل: (بل)، وتعريف المسند إليه، وغير ذلك، ولكنّ إفادة هذه الاُمور له ليست بالقرائن العامّة والوضعيّة، بل بالقرائن المقاميّة والحاليّة.

ص: 369


1- منتهى الاُصول 1: 441 - 442.
2- كفاية الاُصول ص 211.

ص: 370

مباحث العامّ والخاصّ

اشارة

وقبل الدخول في صميم البحث لابدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى العموم:

ليس العموم إلّا كون مدلول اللّفظ شاملاً لجميع ما يصلح للانطباق عليه، وأمّا الخصوص، فهو على العكس من ذلك.ولا يخفى: أنّهما من المعاني غير المحتاجة إلى تعريف؛ وذلك لكونهما من المفاهيم العامّة البيّنة بنفسها، كما هو الشأن في أغلب المفاهيم العامّة.

وعلى هذا الأساس: فجميع ما يُذكر للعموم والخصوص من التعاريف لا يكون إلّا من باب شرح الاسم؛ فإنّ مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يكون بحاجةٍ إلى تعريف.

ومن هنا يتّضح: أنّ الإشكال على هذه التعاريف طرداً وعكساً ليس بذلك الأمر المهمّ.

ص: 371

قال في الكفاية: «قد عُرِّف العامّ بتعاريف، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطّراد تارةً والانعكاس أُخرى بما لا يليق بالمقام، فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال عنه ﺑ (ما) الشارحة، لا واقعة في جواب السؤال عنه ﺑ (ما) الحقيقيّة»(1).

ولا يخفى: أنّ مراده من التعريف اللّفظيّ ليس إلّا ما يرادف لشرح الاسم، فإنّ مقصوده(قدس سره)هو أنّ التعاريف التي ذُكِرت للعموم والخصوص هي مجرّد تعاريف لفظيّة يُراد منها توضيح المصطلح، وليست بتعاريف حقيقيّة حتى يتأتّى وقوعها في محلّ النقض والإبرام.

وقد استشكل عليه المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) بما حاصله: أنّ التعريف اللّفظيّ غير شرح الإسم، قال): «قد مرّ في مبحثمقدّمة الواجب تفصيل القول في عدم مساوقة التعريف اللّفظيّ لما يقع في جواب (ما) الشارحة»(2).

وقد تكرّر من صاحب الكفاية(قدس سره)، كما عن بعض أهل المعقول(3)، أنّ

ص: 372


1- كفاية الاُصول: ص 215.
2- نهاية الدراية 1: 631.
3- مثال ذلك ما ورد في شرح المنظومة للمولى السبزواريّ) في باب أنّ الوجود لا معرّف له من حدٍّ ولا رسم، تحت عنوان (الفريدة الأُولى في الوجود والعدم؛ غرر في بداهة الوجود) حيث قال ما لفظه: «وأنّه [أي: الوجود] غنيّ عن التعريف الحقيقيّ، وأنّ ما ذكروا له من المعرّفات تعريف لفظيّ»، علماً بأنّ كلامه هذا وارد في شرح قوله في نفس المنظومة: معرّف الوجود شرح الاسم *** وليس بالحدّ ولا بالرسم وقال - أيضاً - بعد عبارته المذكورة آنفاً: mمعرّف الوجود، كالثابت العين، أو الذي يمكن أن يُخْبَر عنه أو غير ذلك، شرح الاسم، أي: مطلب ما الشارحةn. وأنت ترى أنّ كلامه هذا ظاهر بل صريح في مساوقة التعريف اللّفظيّ عنده لما يكون مطلب ما الشارحة، المعبَّر عنه في اصطلاحهم ﺑ شرح الاسم. راجع: شرح المنظومة 2: 59 - 61.

التعريف اللّفظيّ مرادف ومساوق لشرح الاسم الذي هو - كما ذكر أهل المنطق - مطلب (ما) الشارحة.

الأمر الثاني: في الفرق بين العموم والإطلاق:

الشمول والسريان كما يمكن أن يكونا مستفادين من العموم، فكذلك يمكن أن يكونا مستفادين من الإطلاق أيضاً، وذلك كما في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾(1)، فلا فرق بين العموم والإطلاق من ناحية أصل دلالة كلٍّ منهما على الشمول والسعة.وإنّما يكمن الفرق بينهما في ناحيةٍ أُخرى، وهي أنّ الشمول والسريان تارةً يكون ناشئاً عن الوضع، وأُخْرى يكون ناشئاً عن جريان مقدّمات الحكمة. فإن كان ناشئاً عن الوضع سمّي ﺑ (العموم)، وإن كان ناشئاً عن إجراء مقدّمات الحكمة سمّي ﺑ (الإطلاق).

وعلى هذا الأساس، فإذا تعارض العموم والإطلاق، يقدّم الأوّل لا محالة؛ لأنّ الإطلاق كما عرفنا يستند إلى مقدّمات الحكمة، ومعلوم

ص: 373


1- البقرة: الآية: 275.

أنّ من شروط جريان المقدّمات حتى يثبت الإطلاق هو عدم ما يصلح بياناً على العدم، والعامّ له صلاحيّة القرينيّة، وهذا بخلاف ظهور العامّ، فإنّه وضعيّ غير متوقّف على شيء، فلا تكون تماميّته موقوفةً على عدم ثبوت إطلاقٍ بخلاف مضمونه ومقتضاه.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ ظهور العامّ لمّا كان ناشئاً من الوضع؛ فإنّه يكون ظهوراً تنجيزيّاً، وأمّا ظهور المطلق، فلمّا كان مستنداً إلى إجراء مقدّمات الحكمة وناشئاً من استظهار حال المتكلّم، فإنّه يكون ظهوراً تعليقيّاً، ومن الواضح، أنّ ما كان تعليقيّاً فلا يكون له المقتضي أصلاً لأن يعارض ما كان فعليّاً وتنجيزيّاً.

الأمر الثالث: في تقسيم العامّ:

ينقسم العامّ إلى أقسام ثلاثة: استغراقيّ، ومجموعيّ، وبدليّ. وهذا الانقسام إنّما هو باعتبار الحكم، لا بلحاظ نفس العامّ. وذلك أنّ:الحكم في العامّ الاستغراقيّ في مقام الإنشاء واحد، إلّا أنّه بحسب الواقع يكون متعدّداً بتعدّد أفراد العامّ، بحيث يكون لكلّ واحد من الأحكام المتعلّقة بالأفراد عصيان مستقلّ، وامتثال كذلك، فقولك - مثلاً -: (أكرم كلّ عالم)، ينحلّ إلى: أكرم زيداً العالم وعمراً العالم وبكراً العالم وهكذا...

وأمّا الحكم في العامّ المجموعيّ، فيكون واحداً في مقام الثبوت

ص: 374

والإثبات معاً؛ إذ الذي يكون موضوعاً في العامّ المجموعيّ إنّما هو المجموع من حيث المجموع، فلا يكون الحكم شاملاً للأفراد إلّا على سبيل الاجتماع، ومن هنا، فلا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بإتيان الجميع، وأمّا العصيان فيه، فكما يمكن تحقّقه بترك الجميع، فكذلك يكون ممكناً بترك فردٍ واحدٍ فقط.

وأمّا في العامّ البدليّ فيلاحظ المولى واحداً من الأفراد على سبيل البدل، ويجعل هذا الفرد بخصوصه موضوعاً للحكم، كما في قولك - مثلاً -: (أكرم أيّ رجلٍ شئتَ)، وعلى هذا الأساس: يحصل الامتثال فيه بإكرام الواحد، كما يحصل أيضاً بإكرام الجميع.

وعليه: فالفرق بين العامّ المجموعيّ والعامّ البدليّ يكمن في أنّ الإطاعة في الأوّل لا تحصل إلّا بفعل الجميع، ويتحقّق العصيان فيه بترك الواحد، وأمّا في العامّ البدليّ، فحصول الإطاعة يكفي فيه الإتيان بواحدٍ من الأفراد، فكذلك يحصل العصيان فيه بترك الجميع.وأمّا المحقّق الأصفهاني) فقد أفاد في بيان الفرق بين العامّ الاستغراقيّ وبين العامّ المجموعيّ ما لفظه:

«أنّ مصاديق العامّ لها مفاهيم متقوّمة بالكثرة بالذات، فلها وحدة مفهوميّة وكثرة ذاتيّة، وهذا المعنى الكذائيّ محفوظ وإن ورد عليه اعتبارات مختلفة، فقد يُرتَّب الحكم عليه بلحاظ تلك الكثرة الذاتيّة، كما في الكلّ الأفراديّ، فجهة الوحدة وإن كانت محفوظة فهي مُلْغاة بحسب

ص: 375

الاعتبار في مقام الموضوعيّة للحكم، وقد يُرَتّب الحكم عليه بلحاظ تلك الوحدة، كما في الكلّيّ المجموعيّ، فالكثرة وإن كانت محفوظةً - كيف؟ والمفهوم متقوّم بها - لكنّها مُلْغاة في مرحلة موضوعيّة المعنى لحُكْمٍ واحدٍ حقيقيّ...»(1).

وخلاصة كلامه): أنّ للعموم جهتين: جهة كثرةٍ وجهة وحدة، وكلتا الجهتين محفوظتان للعامّ، ولكن إن كان الملحوظ في مقام الموضوعيّة للحكم هو جهة الكثرة دون جهة الوحدة، فالموضوع حينئذٍ استغراقيّ، وأمّا إذا رُتِّب الحكم عليه بلحاظ جهة الوحدة، كان من العامّ المجموعيّ.

الأصل المحكّم عند الشكّ:

بعد إحراز أصل العموم، فإذا شكّ في كون العامّ استغراقيّاً أو مجموعيّاً، كان الأصل المحكَّم فيه هو الاستغراقيّة بمقتضى الإطلاق؛ وذلك لأنّ الشمول والسريان إلى جميعأفراد العامّ هو المعنى المشترك بينهما، وإنّما الفرق بينهما في أنّ العامّ الاستغراقيّ لا يُحتاج فيه إلى جعل العموم مرآةً للأفراد، فإنّ الأفراد متكثّرة ذاتاً ومستقلّة في نفس ذاتها.

وأمّا في العامّ المجموعيّ، فيُحْتاج، علاوةً على ذلك، إلى أمرٍ زائد،

ص: 376


1- نهاية الدراية 1: 631- 632.

وهو لحاظ قيد الوحدة في الأفراد، نظراً لكونها - كما عرفنا - متكثّرةً بحسب الذات، فيحتاج إثبات كون الموضوع هو المجموع من حيث هو مجموع إلى بيانٍ ومؤونةٍ زائدتين.

وأمّا إذا كان الشكّ شكّاً في أنّه من العامّ الاستغراقيّ أو من العامّ البدليّ، فقد ذهب اُستاذنا المحقّق) إلى القول بعدم إمكان تعيين أحدهما بالإطلاق؛ «لأنّ كلّ واحدٍ منهما يحتاج إلى عنايةٍ ليست تلك العناية في الآخر، فالعموم البدليّ يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم بنحو صرف الوجود من الطبيعة، أو كون المدخول لأداة العموم نكرة، والعموم الاستغراقيّ يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم في الطبيعة السارية، وهما لحاظان مختلفان كلّ واحدٍ منهما خلاف مقتضى الإطلاق»(1)، فلا يمكن تعيين أحدهما بالإطلاق عند الشكّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ المتعيّن عند دوران الشكّ بين استغراقيّة العامّ وبين بدليّته هو البناء على الاستغراقيّة لا البدليّة، ببيان: أنّ العامّ الاستغراقيّ - كما عرفنا - لا يُحتاج فيه إلىجعل المفهوم مرآةً للموضوع، وتُلاحظ فيه الأفراد من جهة أنّها متكثّرات ذاتاً ومستقلّات في نفسها، وكلّ واحد منها مأخوذ على حدّه، وقضيّة ذلك هو الاستيعاب والاستغراق، وأمّا العامّ البدليّ، فهو يحتاج إلى قيدٍ زائد، وهو قصد التردّد، فيكون - أيضاً -

ص: 377


1- منتهى الاُصول 1: 444.

كالعامّ المجموعيّ، يحتاج إلى لحاظ أمر إضافيّ وقيد زائد، يُصار إلى رفعه بالأصل، لكون هذا اللّحاظ الزائد منفيّاً بالإطلاق.

تنبيه:

لا يخفى: أنّ القضيّة التي تنحلّ إليها الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بموضوع عامّ، تارةً تكون جاريةً على نهج القضيّة الحقيقيّة، وأُخرى على نهج القضيّة الخارجيّة، والقضيّة الحقيقيّة هي القضيّة التي يكون الحكم فيها وارداً على العنوان والطبيعة باعتبار ما لها من مرآتيّة إلى الخارج، ويكون الحكم فيها وارداً على الخارجيّات بتوسّط الجامع فيما بينها.

وبعبارةٍ أُخرى: يكون وارداً على الطبيعة بما هي قنطرة للخارج، وبهذا يُفَرَّق بين القضيّة الحقيقيّة وبين القضيّة الطبيعيّة، إذ الحكم في الطبيعيّة يكون وارداً فيها على نفس الطبيعة، لا بلحاظ حكايتها عن الخارج، بل بلحاظ تقرّرها في العقل وكونها موجوداً له ثبوت في حدّ نفسه، كما في قولك: (الإنسان نوع) أو (الإنسان كلّيّ).

والفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة: أنّ الحكم وإن كان يرد في كلتيهما على الخارج، إلّا أنّه في القضايا الحقيقيّةيكون مترتّباً على الخارج لا مباشرةً، بل بواسطة العنوان المنطبق على الخارجيّات، وأمّا في القضايا الخارجيّة، فالحكم إنّما يرد على الخارج ابتداءً، وبلا توسّط عنوان يكون جامعاً بين الأفراد، بل حتى لو فُرِض وجود جامعٍ

ص: 378

بينها، فإنّما يكون ذلك على نحو الاتّفاق، ومن غير أن يكون ملحوظاً في القضيّة، وذلك كقولك: (قُتِل كلّ من في العسكر)؛ فإنّ معناه: أنّه قد قُتِل زيد وعمرو وبكر أنفسهم، وليس بينهم جامع، بل اتّفاقاً، بما أنّهم كانوا جميعاً في المعركة واتّفق مقتلهم فيها جميعاً، وأين هذا من القضايا الحقيقيّة التي يُلْحَظ فيها الجامع بين الأفراد، بحيث متى تحقّق ذلك الجامع يترتّب الحكم، بلا فرق بين الأفراد الموجودة والأفراد التي لم توجد بعد.

العموم المستفاد من الجمع المحلّى:

ثمّ إنّه قد يُتخيّل أنّ الجمع المحلّى بالألف واللام يقتضي ظاهراً العموم المجموعيّ، بدعوى: أنّ مدخول اللّام هو الجميع، كما في قولك - مثلاً - (العلماء)، فإنّه لا يصدق على كلّ فردٍ فرد كالعامّ الاستغراقيّ، وإنّما ينطبق على كلّ جماعةٍ جماعة من أفراد العالم، والجماعة هي الثلاثة فما فوق.

وغاية ما يستفاد من اللّام هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب، ولكن مع حفظ معنى الجمعيّة، فاللّام توجد معنىً في المدخول كان فاقداً له، وهذا المعنى هو أقصى المراتب، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفيّةالتي تُوجِد معنىً في الغير، وذلك يقتضي العموم المجموعيّ، لا الاستغراقيّ.

ص: 379

ولكن قد دفع بعض المحقّقين هذا التوهّم بما نصّه:

«أنّ أداة العموم من الألف واللّام إن كان نفس الجمع، بحيث كان ورود أداة العموم متأخّراً عن ورود أداة الجمع - من الألف والتاء، والواو والنون - على المفرد، لكان للتوهّم المذكور مجال، ولكن كيف يمكن إثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد إنّما يكون في مرتبةٍ واحدة، فالألف واللّام تدلّ على استغراق أفراد مدخولها، وهو المفرد، غايته: أنّه لا مطلق المفرد، حتى يقال: إنّ المفرد المحلّى باللّام لا يدلّ على العموم، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم»(1).

والحاصل: أنّ أداة العموم إنّما ترد على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع، فتكون - أعني: أداة العموم - دالّةً على استغراق أفراد ذلك المفرد، ويكون حال الجمع المحلّى باللّام حال لفظ (كلّ) في الدلالة على استغراق أفراد المفرد على نحو الانحلال.

هل العامّ المخصّص حجّة في الباقي أم لا؟

ذهب بعضهم إلى أنّ تخصيص العامّ موجب للمجازيّة مطلقاً.

وذهب آخرون إلى أنّه إنّما يوجبها في خصوص المنفصل، وعليه

ص: 380


1- فوائد الاُصول 2: 516.

رتّبوا القول بعدم حجّيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص، وذلك بدعوى: أنّه بعد التخصيص يكون مجملاً، بسبب كون مراتب المجاز متعدّدة، وأنّ تعيين مرتبة خاصّة منها تعيين بلا معيّن، دونما فرق في التخصيص بين أن يكون من قبيل الاستثناء أو غيره.

فإن قيل: ما بقي بعد التخصيص هو أقرب المجازات إلى الحقيقة فيتعيّن الحمل عليه بعد قيام القرينة الصارفة على عدم إرادة المعنى الحقيقيّ.

قلنا: الكلام في أقربيّة الباقي إلى العامّ لا يكون إلّا بحسب المقدار، ولا اعتبار بها، وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب الاُنس الذي يكون ناشئاً عن كثرة الاستعمال وعن لحاظ المناسبة الخاصّة بين المعنيين.

وقد يقال: بأنّ الأقربيّة من جهة الكنه تكون موجبة للاُنس - أيضاً -، ومن هنا نرى أنّ كثرة الإخراج قد تكون سبباً للاستهجان.

ولكنّ الأَولى مع ذلك: صرف الكلام إلى البحث عن الحجّيّة، لا البحث عن لزوم المجازيّة أو عدمه؛ لوضوح أنّ ما يناسب الاُصوليّ إنّما هو البحث عمّا هو الحجّة، لا البحث عنالحقيقة والمجاز حتى يقال: إنّه بعد تخصيص العامّ فهل الباقي بعد التخصيص مجاز أم لا؟

وإذا عرفت ذلك:

فالمحقّقين من العلماء على أنّه حجّة في الباقي، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المخصّص متّصلاً أو منفصلاً.

ص: 381

وقد أجاب صاحب الكفاية) عن الإشكال المتقدّم - أعني: لزوم عدم حجّيّة العامّ بعد تعدّد مراتب المجازات وعدم وجود المعيّن لأحدها على وجه الخصوص - بما لفظه:

«والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّه لا يلزم من التخصيص كون العامّ مجازاً، أمّا في التخصيص بالمتّصل، فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً، وأنّ أدوات العموم قد استُعْمِلَت فيه، وإن كانت دائرته سعةً وضيقاً تختلف باختلاف ذوي الأدوات، فلفظة (كلّ) في مثل (كلّ رجل) و(كلّ رجل عالم) قد استُعْملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر، بل في نفسها في غاية القلّة.

وأمّا في المنفصل، فلأنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاصّ قرينةً عليه، بل من الممكن قطعاً استعماله معه في العموم قاعدة، وكون الخاصّ مانعاً عن حجّيّة ظهوره، تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره، ومعه: لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال»(1).وحاصل ما أفاده(قدس سره):

أنّ التخصيص تارةً يكون بالمتّصل، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم إلّا النحويّين)، وأُخرى بالمنفصل، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم) ثمّ قال بعد

ص: 382


1- كفاية الاُصول: ص 218- 219.

حينٍ من ذلك: (لا تكرم النحويّين).

فإن كان التخصيص بالمتّصل، فقد تقدّم: أنّه ليس بتخصيص في الحقيقة، وأنّ الكلام ليس ظاهراً إلّا في الباقي؛ إذ لا تخصيص في الحقيقة، وإنّما هو تضييق للمدخول، وتضييق المدخول لا ينافي كون الأداة موضوعةً ومستعملةً في العموم؛ لأنّها موضوعة لإفادة عموم ما يراد من مدخولها، فلا فرق بين قوله: (أكرم كلّ عالم) وقوله: (أكرم كلّ عالم عادل) في كون لفظه (كلّ) مستعملة في العموم فيهما، غاية الأمر: أنّ مدخولها مختلف.

وبعبارة أُخرى: فمع كون المخصّص متّصلاً، فمن أوّل الأمر لا ينعقد ظهور للعامّ إلّا في ما عدا ما أُخرج منه، وهو ما شمله المخصّص من الأفراد، فتكون دائرة الظهور من أوّل الأمر ضيّقة، على حدّ (ضيّق فم الركيّة).

أمّا في المخصّص المنفصل، فالتخصيص لا ينافي ظهور العامّ في العموم، بل يزاحمه في حجّيّته على المراد الجدّي، ويُقدّم عليه الخاصّ لكونه أظهر منه، فحينئذٍ: يكون الظهور باقياً على حاله كما كان قبل التخصيص.

نعم، بعد ورود الخاصّ ينكشف أنّ العموم لم يكن بمراد جدّيٍّ للمتكلّم، فالتخصيص في حقيقة الأمر يكون بين الإرادة الجدّيّة والإرادة الاستعماليّة، فلا معنى للقولبالمجازيّة بعد إمكان إبقاء

ص: 383

العامّ على ظهوره الاستعماليّ في العموم، والمجازيّة إنّما تدور مدار الاستعمال لا مدار الواقع، ويكون العامّ لأجل المصلحة الملحوظة الداعية إلى تأخير الخاصّ قد جاء لصرف القاعدة، فيكون البناء عليه إلى حين أن يأتي الخاصّ ونعثر عليه، ولأجل هذا نرى أنّ المصلحة قد تقتضي في بعض الأحيان مجيء العامّ على لسان إمامٍ ومجيء الخاصّ على لسان إمامٍ آخر، وفي مثل هذه الصورة، يكون تكليف المخاطبين بالعامّ في زمان الإمام الأوّل هو العمل بعموم العامّ.

والحاصل: بعد أن عرفنا أنّ التخصيص لا يوجب المجازيّة مطلقاً، أنّه لا إشكال في أنّ العامّ حجّة في الباقي بعد التخصيص، وإنّما كان الإشكال في حجّيّته في الباقي لو كنّا نقول بالمجازيّة.

هذا ما يرتبط بما أفاده(قدس سره).

وأمّا إذا كان المخصّص مجملاً مفهوماً، فتارةً يكون الإجمال من جهة دورانه بين المتباينين، كما إذا خصّ العلماء بزيد - مثلاً -، وكان زيد مشتركاً ومردّداً بين شخصين اثنين، وأُخرى يكون من جهة دورانه بين الأقلّ والأكثر، كما إذا تردّد الفاسق - مثلاً - بين مرتكب مطلق المعصية وبين مرتكب خصوص الكبيرة.

ثمّ على كلا التقديرين: فتارةً يكون المخصّص متّصلاً، وأُخرى يكون منفصلاً.

ص: 384

فهنا صور ثلاث:

الصورة الاُولى:

أن يكون المخصّص متّصلاً، وقد دار أمره بين المتباينين، أو بين الأقلّ والأكثر، فلا إشكال - حينئذٍ - في عدم انعقاد ظهورٍ للعامّ، وأنّه يوجب إجمال العامّ حقيقةً، وذلك بسبب سراية إجمال المخصّص إليه - أي: إلى العامّ -، فلا يكون للعامّ دلالة تصديقيّة على معنىً بحيث يصحّ أن يُخْبَر بمفاده.

ومعلوم: أنّ الكلام ما لم يحصل له هذا النحو من الدلالة، فلا ينعقد له ظهور في أيّ معنىً أصلاً، ومع عدم ظهوره، فلا يكون حجّة؛ إذ الحجّيّة حكم موضوعه الظهور، وهو منتفٍ بحسب الفرض، وهذا هو معنى القول بسقوط العامّ عن الحجّيّة في المخصّص المتّصل المجمل مطلقاً، أي: سواء كان أمره يدور بين المتباينين أم بين الأقلّ والأكثر.

الصورة الثانية:

أن يكون المخصّص منفصلاً، ودار أمره بين المتباينين، ففي هذه الصورة - أيضاً - نقول بسقوط العامّ عن الحجيّة؛ فإنّ هذا المخصّص المجمل ﻛ (زيد) في قولك: (لا تكرم زيداً)، وإن كان أمره يدور بين زيد ابن بكر وزيد بن خالد، فإنّه لا يكون مانعاً من ظهور العامّ في العموم، بل ينعقد للعامّ ظهور في العموم.

ولكن مع ذلك، فلا يمكن لنا أن نتمسّك بأصالة العموم في المقام،

ص: 385

بل نقول بأنّه بعد العلم بالتخصيص يخرج العامّ عن كونه كبرىً كلّيّة، ولا تجري فيه أصالة العموم؛ لأنّجريانها إنّما يكون في صورة الشكّ، ومع العلم بورود التخصيص لا شكّ، فلا يكون هناك مجال لجريانها، فيُعْلَم أنّ الظهور المنعقد للعامّ في العموم ليس بمرادٍ للمتكلّم بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة.

ولكن بما أنّ ذلك البعض غير المعيّن خارج عن العموم، ولا يمكن إخراج أحد الأطراف بعينه؛ لأنّه يكون من الترجيح بلا مرجّح، فلا محالة: يسقط العامّ عن الحجّيّة، ويكون في حكم المجمل.

الصورة الثالثة:

كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال بعد حين: (لا تكرم الفسّاق)، وتردَّد أمر الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب من الصغيرة والكبيرة، وبين خصوص مرتكب الكبيرة، فهنا، بالنسبة إلى الأكثر العامّ يكون باقياً على حجّيّته، وأصالة العموم جارية فيه.

وأمّا بالنسبة إلى الأقلّ المتيقّن التخصيص، فتسقط حجّيّة العامّ لا محالة؛ إذ بالنسبة إلى الأكثر يكون الشكّ من قبيل الشكّ في التخصيص، ومعه: يكون المرجع إلى أصالة العموم، وأصالة عدم التخصيص بعد أن سبق للعامّ أن انعقد له ظهور في العموم.

ففي المثال المتقدّم، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة، فالعامّ قد سقط عن الحجّيّة، وأمّا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة، فيُشَكّ في خروجه، وهذا

ص: 386

شكّ في التخصيص، فبعدما انعقدللعامّ ظهور في العموم، تكون أصالة العموم كافيةً في إثبات عدم خروجه.

فإن قلت: الخارج هو عنوان الفاسق، لا خصوص مرتكب الكبيرة، فالعامّ لا يكون شاملاً لهذا العنوان بعد خروجه عنه، وعليه: فلا مجال للتمسّك بأصالة العموم بالنسبة إلى ما يكون دخوله مشكوكاً.

قلت: الخارج ليس هو مفهوم الفاسق وعنوانه الأوّليّ، بل واقع الفاسق، وحيث لم يعلم بأنّ مرتكب الصغيرة داخل في الفاسق الواقعيّ، فيشك في تخصيص العامّ به، فيكون شكّاً في التخصيص، والمرجع فيه إلى أصالة العموم.

هذا كلّه، فيما لو كان المخصّص مجملاً مفهوماً.

وأمّا لو كان مجملاً مصداقاً، بأن كان الشكّ في التخصيص ناشئاً من جهة الشبهات الموضوعيّة، فيقع البحث - حينئذٍ - في أنّه هل يمكن أن يُتَمسّك بالعامّ بالشبهات المصداقيّة للمخصّص وفي كلا قسميه: أعني: المخصّص المتّصل والمنفصل أم لا؟

فالكلام تارةً في المخصّص المتّصل، وأُخرى في المخصّص المنفصل:

أمّا المخصّص المتّصل، بلا فرقٍ بين أن يكون بالاستثناء ﻛ (أكرم كلّ عالم إلّا الفسّاق)، أو بغير الاستثناء ﻛ (أكرم كلّ عالمٍ تقيّ)، وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو فاسق أم لا؟ أو هل هو تقيّ أم لا؟ فهل يمكن في

ص: 387

هذه الصورة التمسّك بأصالة العموم لإثبات أنّه ليس بفاسق أو أنّه تقيّ أم لا؟الظاهر: العدم؛ لأنّ قضيّة (لا تكرم العلماء إلّا الفسّاق) - مثلاً - هي بمنزلة قولك (لا تكرم فسّاق العلماء)، وبما أنّ عدم إحراز فرديّة ما يحتمل انطباق الخاصّ عليه مانع من التمسّك بالعامّ، فما لم يُحْرَز كون الفرد المردّد والمشكوك فرداً للعامّ، فلا يمكن التمسّك بالعامّ لإثبات حكمه لهذا المردَّد، فإذا قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق)، ولم نعلم بعدالة زيد أو فسقه، فلا يجوز التمسّك بالعامّ لإدخاله تحت العموم حتى نقول بوجوب إكرامه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ القضيّة - خارجيّةً كانت أم حقيقيّة - لا تكون ناظرة إلى إثبات موضوعها وعدم إثباته للحكم، وإنّما هي تتكفّل ببيان ثبوت حكمها لموضوعها الموجود في الخارج، حقيقةً أو تقديراً، وفي المقام، لو كانت القضيّة خارجيّةً، كما في مثل (أكرم علماء البلد إلّا الفسّاق)، فهي دالّة على ثبوت الحكم لأفراد العالم التي تحقّق لها وجود في الخارج، فلو شككنا - مثلاً - في أنّ زيداً المتيقّن كونه من علماء البلد عادل أم فاسق، فهذه القضيّة لا تدلّ على أنّه ليس بفاسق لكي يجب إكرامه. وهكذا الحال بالنسبة إلى القضايا الحقيقيّة، كما في قولك: (الخمر حرام)، فإنّ مرجعه إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم، أي: (إن وُجِد خمر في الخارج فهو حرام)، فإذا كان الأمر كذلك، وكان

ص: 388

مرجع القضيّة الحقيقيّة إلى الشرطيّة، فالقضيّة الشرطيّة ليست ناظرةً إلى وجود الموضوع، الذي هو شرطها، في الخارج، بل إلى إثبات التالي، وهو الحرمة،على تقدير وجود المقدّم، فالموضوع مأخوذ فيها مفروض الوجود، فلو شككنا في كون مايعٍ ما خمراً أم لا؟ فلا يمكن لنا التمسّك بإطلاق ما دلّ على حرمة الخمر لإثبات أنّه خمر، فيكون المرجع - حينئذٍ - هو الاُصول العلميّة.

وقد يتمسّك لشمول العامّ للفرد المشكوك بقضيّة المقتضي والمانع؛ فإنّ انطباق العامّ للمشكوك فيه مقتضٍ لإثبات حكم العامّ له؛ لأنّ المقام مقتضٍ للحجّيّة في جميع ما يشمله من الأفراد، والمخصّص مانع عن حجّيّته فيما ثبتت فرديّته للخاصّ.

وأمّا الفرد المشكوك، كزيد غير المعلوم فسقه، وشكّ في خروجها عن عموم العامّ، مع عدم العلم بحالته السابقة، كان العامّ حجّة فيه؛ لأنّ المقتضي للشمول موجود مُحْرَز، وأمّا المانع فمشكوك فيه، فيؤثّر المقتضي أثره، لتلك القاعدة، فيجب العمل بالمقتضي إلى حين أن يأتي المانع.

ولكن فيه: أنّه محلّ للنقاش صغرىً وكبرى.

أمّا صغرىً:

فإنّ هذا أجنبيّ عن القاعدة المذكورة؛ فإنّ هذه القاعدة إنّما تكون حجّةً في صورة العلم بوجود المقتضي والشكّ في وجود المانع؛ لأنّ العامّ

ص: 389

مشكوك المقتضي للشبهة المصداقيّة، فإنّ الدلالة التصديقيّة لا تكون كاشفةً عن مقصود المتكلّم ومراده، إذ المتكلّم في مقام بيان تشريع الأحكام على موضوعاتها، كجعل الحرمة للخمر والوجوب للصلاة، وليس له غرض في بيان تطبيق الكلّيّات على مصاديقها.وبكلمة: فإنّ المصداق المشتبه، وإن كان فرداً للعامّ بما هو عامّ، ولكن بعد تخصيصه وانحصار الإكرام بغير الفاسق، يكون الإكرام ثابتاً للعلماء غير الفسّاق خاصّةً. فبعد التخصيص يكون العالم العادل واجب الإكرام ويكون الفاسق غير واجب الإكرام أو محرّم الإكرام. فهنا قاعدتان كلّيّتان ولا شيء منهما بمعلوم الصدق والانطباق على الفرد المشكوك:

أُولاهما: أنّ العلماء غير الفسّاق يجب إكرامهم، فهي قاعدة كلّيّة لا يُعْلَم شمولها لزيد المشكوك؛ إذ ليست واردةً في بيان انطباق الكبرى الكلّيّة على مصاديقها.

والثانية: أنّ الفاسق محرّم الإكرام، وهي - أيضاً - قاعدة كلّيّة لا يُعْلَم شمولها لزيد المشكوك أم عدم شمولها له؛ لأنّه ليست في مقام التطبيق أيضاً أم لا؟

وأمّا كبرىً:

فلأنّه لا دليل هناك على صحّة هذه القاعدة، بل الدليل على خلافها؛ فإنّ وجود الشيء متوقّف على وجود جميع أجزاء علّته، فهو متوقّف على إحراز وجود المقتضي، وعلى إحراز توفّر جميع الشرائط، وعلى

ص: 390

إحراز فقدان المانع، فاحتراق الورقة - مثلاً - متوقّف على وجود النار، وعلى ممّاسّة النار لها، وعلى عدم وجود الرطوبة المانعة، فإذا توفّر كلّ ذلك حصل الاحتراق، فلا يكاد يمكن أن يوجد الشيء بمجرّد وجود المقتضي، فمع كون المقتضي موجوداًوكون المانع محتمل الوجود فكيف مع ذلك يمكن القطع بوجود الشيء؟!

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ فتوى المشهور بالضمان في مورد اليد المشكوكة المردَّدة بين أن تكون يد أمانة أو يداً عادية إنّما هي من باب تطبيق نفس القاعدة، أعني: قاعدة «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بنحو التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

بيان ذلك: أنّ «قاعدة اليد» إن قلنا بأنّها تشمل اليد العادية فقط، دون اليد المأذونة، إذ اليد المأذونة خارجة بالتخصّص، وعلى هذا الأساس، فيكون دخول اليد المشكوكة تحت عموم القاعدة مشكوكاً من باب الشكّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، نظير ما إذا قلنا: (أكرم العلماء)، وشككنا في أنّ زيداً عالم أم لا.

وإن قلنا بأنّ اليد تشمل اليد المأذونة واليد العادية معاً، فيكون من باب تخصيص الشبهة المصداقيّة في المخصّص، نظير ما إذا قلنا: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق)، وشككنا في فسق زيد.

فاتّضح: أنّه على كلا التقديرين لا يمكن التمسّك بالقاعدة، مع أنّهم حكموا بالضمان في اليد المشكوكة، فقد يقال: بأنّ حُكْمهم هذا إنّما هو

ص: 391

تعويل منهم على التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

ولكنّ التحقيق: أنّ ذهاب المشهور إلى الضمان ليس لأجل صحّة التعويل على العامّ في الشبهات المصداقيّة، بل لأجلأنّ هناك أصلاً منقّحاً للموضوع، وببركة هذا الأصل يدخل المشكوك تحت عموم العامّ، فيتمسّك بالعامّ لإثبات حكمه، وإثبات شموله للمورد بعد إحراز موضوع الضمان.

فإنّ موضوع الضمان مركّب من جزأين، وأحد هذين الجزأين محرز بالأصل، والآخر محرز بالوجدان، فأمّا الأوّل، فهو الاستيلاء على مال الغير والتصرّف به، وهو محرز وجداناً، وأمّا الثاني، فهو عدم إذن صاحب المال في هذا التصرّف؛ فإنّ إذن المالك وعدم رضاه بالتصرّف لمّا كان من الحوادث المسبوقة بالعدم، فهو يثبت باستصحاب عدمه؛ فإنّ الأصل عدم رضا المالك.

وبذلك يتمّ كلا جزأي الموضوع، فيثبت كون اليد يداً عادية، فيُحْكَم في موردها بالضمان، وعليه: فليست الفتوى بالضمان مستندةً إلى التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة أصلاً، والفتوى في محلّها، ولا إشكال أصلاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده السيّد البروجردي(قدس سره) على ما في تقريراته بما لفظه:

«الأمر الثامن: التمسّك بعموم (على اليد) في الشبهة المصداقيّة له: إذا

ص: 392

وقع الاختلاف في كون يد أمينة أو عادية، فالمشهور على أنّ القول قول مدّعي الضمان، وأنّ البيّنة على مدّعي الأمانة، وحيث إنّ ذلك - بحسب الظاهر - على خلاف القواعد، إذ القاعدة تقتضي تقديم قول مدّعي الأمانة من جهة أنّ الأصل عدم الضمان، تصدّى بعضهم لتصحيح فتوى المشهور، فاستدلّ لذلك بعموم (على اليد)،ونحن أيضاً تمسّكنا به في حواشينا على العروة، ولكنّه لا يخفى فساده، فإنّ عمومه مخصّص باليد الأمينة، فالتمسّك به في اليد المشكوك فيها تمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة...

إلى أن قال: والظاهر: أن مستندهم في هذه الفتوى الروايات الواردة في المسألة، وحيث لم يظفر عليها بعض المتأخّرين، ذكر وجوهاً غير مغنية»(1).

فإنّك قد عرفت: أنّ فتواهم بالضمان هنا لم تكن لأجل التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، بل هي من باب التمسّك بالاستصحاب لإثبات ثاني جزأي موضوع الضمان، بعد أن كان أوّل الجزأين - وهو الاستيلاء - محرزاً بالوجدان، والثاني محرزاً بالأصل؛ حيث إنّ الإذن من الحوادث المسبوقة بالعدم، فيُستصحب هذا العدم، وبه يتمّ الموضوع، فالضمان - حينئذٍ - يثبت على طبق القاعدة، ومعه: فتلك الروايات التي ذكروها

ص: 393


1- راجع: نهاية الاُصول: ص 345.

تكون على طبق القاعدة أيضاً.

وقد استشكل المحقّق الشاهروديّ(قدس سره)في صحّة التمسّك بالاستصحاب هنا بما ملخّصه: أنّه غير جائزٍ، وذلك لكون الاستصحاب هنا أصلاً مثبتاً؛ لأنّ موضوع الضمان إنّما هو التصرّف المقيّد بعدم الإذن من المالك، فهو كالقرشيّة والقبلية لا يمكن إثباته بالأصل، إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت؛ فإنّ أصالة عدم تحقّق الرضا من المالك لا يُثبت كون اليدعاديةً ولا يُثبت كون الاستيلاء بغير رضا المالك إلّا بالملازمة.

ونصّ كلامه(قدس سره) - فيما حُكي عنه في مجلس درسه الشريف -:

«إنّ اجتماع أجزاء المركّب من جوهرين، أو عرضين لمحلّين، أو جوهر وعرض لجوهرٍ آخر، إن كان له دخل في الحكم، فلازمه: اعتبار عنوان الاجتماع في الزمان فيه، كدخل عنوان السبق واللّحوق في موضوع الحكم، ومن المعلوم: عدم إمكان إحرازه بالأصل إلّا على القول بحجّيّة الاُصول المثبتة، فلو جرى استصحاب عدم إذن المالك لا يَثبت عنوان التقارن بينه وبين استيلاء الغير على ماله، كعدم إثبات استصحاب عدم ركوع الإمام إلى زمن ركوع المأموم ووقوع ركوعه قبل رفع الإمام رأسه عن الركوع، حيث إنّ إثبات هذه القبليّة بالاستصحاب مبنيّ على الأصل المثبت.

والحاصل: أنّه بناءً على دخل عنوان اجتماع أجزاء الموضوع المركّب في الزمان، يلزم عدم إمكان إحراز بعض أجزائه بالأصل، فاستصحاب

ص: 394

عدم إذن المالك لا يثبت مقارنته لاستيلاء الغير عليه، فلا يصحّ الحكم بالضمان استناداً إلى هذا الاستصحاب، بل تجري أصالة البراءة في الضمان، فيكون دعوى الضمان على خلاف الأصل.

وإن لم يكن لعنوان الاجتماع في الزمان دخل في الحكم، لزم ترتّب الحكم على وجود الجزأين في الخارج، وإن لم يتقارنا في الزمان، كما إذا فرض ترتّب وجوب التصدّق علىمجيء زيد وفقر عمرو، وزال فقره، ثمّ جاء زيد؛ فإنّ اللّازم - حينئذٍ - وجوب التصدّق، إذ المفروض عدم دخل اجتماعهما زماناً في الحكم، وهو كما ترى ممّا لا يُظَنّ التزام أحدٍ به، وبالجملة: هذا الإشكال يهدم أساس الموضوعات المركّبة»(1).

وعليه: فلو تمّ هذا الإشكال، فيصحّ ما نقلناه عن السيّد البروجردي) سابقاً من أنّ المستند في فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة إنّما هو الروايات، لكونها واردةً على طبق القاعدة.

ولكنّ الحقّ: أنّ الذي هو دخيل في الحكم إنّما هو ذات الموضوع، سواء كان بسيطاً أو مركّباً، وأمّا ما ينتزع من الأجزاء، وهو عنوان الاجتماع، فليس له مدخليّة في الحكم حتى يكون من الأصل المثبت، وبما أنّ الحكم والموضوع هما كالعلّة والمعلول، فمتى وجد الموضوع وجد الحكم، وبما أنّه يمتنع انفكاك المعلول عن علّته، فكذلك يمتنع

ص: 395


1- حكاه عنه تلميذه السيّد المروّج) في منتهى الدراية 3: 521 - 522.

صيرورة الحكم فعليّاً حتى توجد جميع الأجزاء والشرائط المأخوذة في رتبة الموضوع.

وبهذا يثبت: أنّ ما يمكن أن يكون مستنداً للمشهور في الفتوى بالضمان في المورد المذكور إنّما هو استصحاب عدم الإذن، لا قاعدة المقتضي والمانع، ولا التمسّك بالعامّ فيالشبهة المصداقيّة، ولا الروايات، وإن كانت الروايات مؤيّدة لمضمون الاستصحاب.

التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ:

بعد الفراغ عن عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لمخصّصه، وقع الكلام بينهم في إمكان أن يُعوّض عنه بأصلٍ موضوعيٍّ يكون منقّحاً لموضوع العامّ، وهو استصحاب عدم عنوان الخاصّ.

ذلك أنّ موضوع العامّ قد صار ببركة التخصيص مركَّباً من جزأين:

أحدهما: العنوان المأخوذ في العامّ المعلوم انطباقه على الفرد المشكوك وجداناً.

والآخر: عدم العنوان الخاصّ الخارج من حكم العامّ، فإذا كان إحرازه بالأصل ممكناً تحقّق كلا جزأي الموضوع المركّب لا محالة.

وقد ذهب صاحب الكفاية) إلى جريان مثل هذا الاستصحاب، وأنّ ثبوت حكم العامّ للمشكوك يكون بواسطة هذا

الاستصحاب، قال(قدس سره)ما لفظه:

ص: 396

«إيقاظ: لا يخفى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل، لمّا كان غير معنونٍ بعنوان خاصّ، بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعيّ في غالبالموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العامّ، وإن لم يجز التمسّك به بلا كلام، ضرورة أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنّه ممّا بقي تحته...» (1).

الشكّ في شمول العامّ لفردٍ من غير جهة احتمال التخصيص:

قال صاحب الكفاية(قدس سره): «ربّما يظهر عن بعضهم التمسّك بالعمومات فيما إذا شكّ في فردٍ لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهةٍ أُخرى، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائعٍ مضاف، فيستكشف صحّته بعموم مثل (أوفوا بالنذور) فيما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم، وكلّ ما يجب الوفاء به - لا محالة - يكون صحيحاً، للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به»(2).

وقد قرّره في التقريرات بما لفظه: «فيقال: إنّ هذا الفرد من الوضوء

ص: 397


1- كفاية الاُصول: ص 223.
2- المصدر نفسه: ص 223 - 224.

يجب الوفاء به، لعموم قوله: (أوفوا بالنذر)، وكلّ ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحاً، فيجب أن يكون الوضوء صحيحاً، أمّا الصغرى: فبالعموم،وأمّا الكبرى: فللقطع بأنّ ما ليس صحيحاً لا يجب الوفاء به»(1).

ثمّ بعد تلخيصه لكلام التقريرات قال صاحب الكفاية):

«وربّما يؤيّد ذلك بما ورد من صحّة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلّق بهما النذر كذلك»(2).

ومن الروايات التي يشير إليها) التي تدلّ على صحّة نذر الإحرام قبل الميقات وإن لم يكن متعلّقه فيه الرجحان: صحيح الحلبيّ، قال: «سألْتُ أبا عبد اﷲ% عن رجلٍ جَعَل ﷲ عليه شكراً أن يُحْرِم من الكوفة، قال: فليُحْرِم من الكوفة، ولْيَفِ ﷲ بما قال»(3).

وقريب منه خبر أبي بصير(4) وخبر عليّ بن حمزة(5).

وعليه: فلا يمكن القول بعدم الجواز تمسّكاً بقاعدة اعتبار الرجحان في متعلّق النذر؛ لأنّه مع وجود النصّ لا تصلالنوبة إلى التمسّك بالقاعدة،

ص: 398


1- انظر: مطارح الأنظار 2: 148 .
2- كفاية الاُصول: ص 224.
3- وسائل الشيعة 11: 326 - 327، الباب 13 من أبواب المواقيت، ح1.
4- المصدر نفسه 11: 327، الباب 13 من أبواب المواقيت، ح3.
5- المصدر نفسه 11: 327، الباب 13 من أبواب المواقيت، ح2.

خلافاً لما هو محكيّ عن الحلّيّ في السرائر والأصبهانيّ في كشفه(1).

وأمّا نذر الصوم في السفر فهو لا يصحّ مطلقاً، بل لابدّ أن يكون مقيّداً بالسفر، أو بالسفر منضمّاً إلى الحضر، ويدلّ على صحّته: صحيح عليّ بن مهزيار، قال: «كتب بندار مولى إدريس: يا سيّدي نذرْتُ أن أصوم كلّ يوم سبتٍ، فإن أنا لم أصمْه، ما يَلْزمني من الكفّارة؟ فكتب% - وقرأتُه -: لا تتركْه إلّا من علّة، وليس عليك صومه في سفرٍ ولا مرضٍ إلّا أن تكون نويتَ ذلك، وإن كُنتَ أفطرتَ فيه من غير علّةٍ، فتصدّق بعدد كلّ يومٍ على سبعة مساكين، نسأل اﷲ التوفيق لما يحبّ ويرضى»(2).

وقد استشكل في ذلك صاحب الكفاية بقوله:

«والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثانويّة فيما شكّ من غير جهة تخصيصها إذا أخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه في الاُمور المباحة أو الراجحة، ضرورة أنّه معه لا يكاد يتوهّم عاقل أنّه إذا شكّفي رجحان شيءٍ أو حلّيّته جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حلّيّته»(3).

ص: 399


1- انظر: منتهى الدراية: 3: 549.
2- انظر: وسائل الشيعة 10: 379، الباب 7 من أبواب بقيّة الصوم الواجب، ح4.
3- كفاية الاُصول: ص 224.

ولابدّ في فهم كلامه) من بيان أقسام الحكم الشرعيّ الثابت لموضوعه، وهي ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الأوّليّ الذاتيّ، كالإباحة الثابتة - مثلاً - لعناوين الماء والتمر واللّحم والحنطة، وما إلى ذلك من العناوين الذاتيّة.

الثاني: أن يكون الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الثانويّ، أي: بأن يكون ثابتاً له لتعنونه بعنوان يكون خارجاً عن ذاته، ولكن بشرط أن يكون لهذا الشيء حكم خاصّ بعنوانه الأوّلي، كالصوم - مثلاً -؛ فإنّ الوجوب الذي ثبت له بعنوان ثانويّ، مثل النذر، يكون خارجاً عن ذاته.

ولكنّ هذا الوجوب إنّما يثبت له بعنوانه الثانويّ إذا كان بعنوانه الأوّليّ، أي: بما هو صوم، راجحاً، وكالتصدّق على الفقراء أو كصلاة الليل وما شابههما من الأفعال المحكوم فيها بالرجحان بعناوينها الأوّليّة، وكذا الوجوب الثابت للفعل بعنوان ثانويّ، كإطاعة الوالد بشرط أن يكون الفعل الذي أمر به الوالد مباحاً بعنوانه الأوّليّ.

الثالث: أن لا يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، أي: أن يكون الحكم ثابتاً له بعنوان الثانويّ مطلقاً، من دون أن يكون ثبوت الحكم لهذا الشيء بعنوانه الثانويّ مشروطاً بثبوت أيّحكمٍ خاصٍّ له بعنوانه الأوّلي، وذلك كالحرمة الثابتة للغنم الموطوءة بعنوان كونها موطوءة؛ فإنّ ثبوتها لها بهذا العنوان غير مشروط بثبوت الإباحة - مثلاً - لها بعنوانها الأوّليّ

ص: 400

الذاتيّ، أي أنّه لم تؤخذ الإباحة للغنم بعنوانها الأوّليّ شرطاً في ترتّب الحرمة عليها بعنوانها الثانويّ، والذي هو كونها موطوءة، وإنّما تترتّب عليها الحرمة إذا صارت موطوءة، وإن فرض أنّه لم يَثبت لها أيّ حكمٍ شرعيٍّ لها قبل صيرورتها موطوءةً، أي: بعنوانها الأوّليّ.

إذا عرفت هذا، فلا يخفى: أنّ إطاعة الوالد لا تجب مطلقاً، وإنّما هو مشروط بأن يكون ما أمر به الوالد بالعنوان الأوّلي مباحاً وغير حرام، فإذا شكّ في إباحته، فلا يمكن التمسّك بعموم وجوب إطاعة الوالد لإحراز إباحته؛ لأنّ الشكّ هنا شكّ في موضوع الدليل، وليس شكّاً في حكمه.

وهذا الكلام يأتي - أيضاً - في وجوب الوفاء بالنذر، فإذا شكّ في كون المنذور ماء مباحاً - مثلاً - فلا يمكن التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر بعد أن كان الشكّ شكّاً في الموضوع، أي: شكّ في أنّ متعلّق هذا النذر هل هو راجح أم لا؟

ولا يمكن إثبات رجحانه، وبالتالي: صحّة النذر المتعلّق به، بالعمومات الدالّة على لزوم الوفاء بالنذر؛ لما قد عرفته مراراً من أنّه لا يمكن إثبات تحقّق الموضوع بنفس الدليل المتكفّل لإثبات الحكم له.

نعم، لو كان الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الثانويّ مطلقاً، أو من دون اشتراطه بثبوت حكمٍ خاصٍّ له بعنوانه الأوّليّ، كماإذا لم يدلّ دليل

ص: 401

على دخل الرجحان في المنذور، أو الإباحة في موضوع وجوب إطاعة الوالد، وشككنا في اعتبارهما فيهما، فلا مانع من التمسّك بعموم دليلي وجوب الوفاء بالنذر وإطاعة الوالد لوجوبهما، لكون الشكّ هنا شكّاً في التخصيص.

قال صاحب الكفاية) بعد كلامه السابق:

«ضرورة أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل يُنقَّح به أنّه ممّا بقي تحته، مثلاً: إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة، فهي وإن كانت وجدت إمّا قرشيّة أو غيرها، فلا أصل يُحرز أنّها قرشيّة أو غيرها، إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى خمسين؛ لأنّ المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب - أيضاً - باقية تحت ما دلّ على أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشيّة، فتأمّل تعرف»(1).

ونحن هنا نتبع في مختارنا المحقّق النائيني(قدس سره)، الذي خالف صاحب الكفاية)، فذهب إلى عدم جريان هذا الأصل المذكور.

وقد ذكر) أنّ كلام صاحب الكفاية(قدس سره) إنّما يتمّ بناءً على أخذ عدم الخاصّ في موضوع الحكم بنحو العدم المحموليّ الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركّباً من جزأين: أحدهما: عنوان العامّ، والآخر: عدم

ص: 402


1- كفاية الاُصول: ص 223.

عنوان الخاصّ، من دون فرضاتّصاف العامّ بعدم الخاصّ، بل يؤخذ عدم الخاصّ بمفاد ليس التامّة، لا الناقصة.

وأمّا بناءً على أخذ عدم الخاصّ في الموضوع بنحو العدم النعتي الراجع إلى فرض الموضوع هو العامّ المتّصف بعدم الخاصّ، فيكون عدم الخاصّ مأخوذاً بمفاد ليس الناقصة، فلا يتمّ ما ذهب إليه، لعدم سبق اتّصاف الذات بعدم الخاصّ؛ لأنّها حينما توجد توجد إمّا متّصفةً به أو بعدمه.

وأمّا العدم المحموليّ الأزليّ فهو، وإن كان في نفسه مجرى الأصل، لكنّه لا ينفع في إثبات العدم النعتيّ إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت.

قال(قدس سره): «ويرد عليه: أنّ الباقي تحت العامّ بعد التخصيص إذا كان هي المرأة التي لا يكون الانتساب إلى قريش موجوداً معها على نحو مفاد ليس التامّة، فالتمسّك بالأصل المذكور لإدراج الفرد المشتبه كونها من قريش في الأفراد الباقية، وإن كان صحيحاً، إلّا أنّ الواقع ليس كذلك؛ لأنّ الباقي تحت العامّ حسب ظهور دليله إنّما هي المرأة التي لا تكون قرشيّة على نحو مفاد ليس الناقصة.

وعليه: فالتمسّك بأصالة العدم لإثبات حكم العامّ للفرد المشكوك فيه غير صحيح؛ وذلك لأنّ العدم النعتيّ الذي هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجري فيه الأصل، وأمّا العدم المحموليّ الأزليّ،

ص: 403

فهو وإن كان مجرىً للأصل في نفسه، إلّا أنّه لا يثبت به العدم النعتيّالذي هو المأخوذ في الموضوع إلّا على القول بالأصل المثبت»(1).

التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص:

لا إشكال في أنّه لا يجوز التمسّك بالعموم أو الإطلاق قبل الفحص عن المخصّص، هذا بالنسبة إلى الاُصول اللّفظيّة، وكذلك - أيضاً - بالنسبة إلى الاُصول العمليّة؛ فإنّه لا يمكن التمسّك بالبراءة - مثلاً - إلّا بعد الفحص عن أدلّة الأحكام وعدم وجدانها.

وإنّما الفرق بين البابين في أنّ عدم جواز التمسّك بالاُصول اللّفظيّة إنّما هو لمكان عدم جريان سيرة العقلاء على الأخذ والتمسّك بها ما دام العموم في معرض التخصيص، بحيث لو فحص عن المخصّص لأمكن أن يظفر به، ولا أقلّ من الشكّ، ويكفي ذلك في عدم الحجّيّة كما هو واضح؛ لأنّ الأصل عند الشكّ في الحجّيّة - كما هو معلوم - عدمها.

نعم، لو لم تكن العمومات في معرض التخصيص، كغالب العمومات المعمول بها عند أهل المحاورة، فإنّه لا إشكال في جريان السيرة على التمسّك بالعموم.

وبذلك يتّضح: أنّ الفحص في الاُصول اللّفظيّة، إنّما هو عن وجود ما يزاحم الحجّيّة، وعن وجود ما يكون معارضاًلظاهر العموم، بعد الفراغ

ص: 404


1- أجود التقريرات 1: 465.

عن أصل حجّيّتها، وعن وجود المقتضي للتمسّك بها، أي: أنّ الفحص - حينئذٍ - إنّما يكون فحصاً عن وجود المانع، لا عن وجود المقتضي.

وأمّا الاُصول العمليّة، فالفحص عنها فحص عن أصل الحجّيّة؛ لوضوح أنّه لا تصل النوبة إلى التمسّك بالاُصول العمليّة إلّا بعد الفحص واليأس عن الدليل، فإنّ العقل يحكم بلزوم أن يقوم العبد بوظيفته، وهي الفحص في أحكام المولى، حيث إنّ العقل يرى أنّ ذلك من وظائف العبد بعد تماميّة وظائف المولى، فإنّ العقل يستقلّ بأنّ لكلٍّ من المولى والعبد وظيفة، فوظيفة المولى هي إظهار مراداته وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد أن يصل إليها، إن لم يكن هناك مانع.

أو فقل: وظيفة المولى هي بيان الأحكام على النحو المتعارف، بحيث لو فحص العبد عنها لأمكنه أن يظفر بها، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد، وأنّه يجب على العبد أن يفحص عن مرادات المولى وأحكامه، وحينئذٍ يستقلّ العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته، كما يستقلّ بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.

وقد أشار صاحب الكفاية(قدس سره) إلى ما ذكرناه من عدم المقتضي للحجّيّة في الاُصول العمليّة بدون الفحص بقوله: «إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص ها هنا وبينه في الاُصول العمليّة، حيث إنّه ها هنا عمّا يزاحم الحجّة، بخلافه هناك، فإنّه بدونه لا حجّة، ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّباستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان،

ص: 405

والمؤاخذة عليها من غير برهان، والنقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً، إلّا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به، فافهم»(1).

وعلّق عليه المحقّق الأصفهاني صاحب الحاشية(قدس سره)، بقوله:

«هذا مبنيّ على تماميّة المقتضي هنا، فيكون البحث عن المانع أو المعارض وامتيازه عن غيره، لكون هذا المقتضي الخاصّ في معرض المانع، فيكون حال الدلالة حال السند، فكما أنّ مجيء المعارض فيه يؤكّد الحجّيّة، ويكون من تقديم أقوى الحجّتين على أضعفهما، كذلك فيها.

والتحقيق: خلافه؛ إذ دليل الحجّيّة في السند هو العموم والإطلاق، فيكون المقتضي في مقام الإثبات تامّاً، ودليل ترجيح الأعدل - مثلاً - دليل الحجّيّة الفعلّيّة في ذي المزيّة، بخلاف الدلالة؛ فإنّ دليل اعتبارها بناء العقلاء، ولا معنى لبنائين بنحو العموم والخصوص، إذ البناء العمليّ هو عملهم على طبق الظهور، وهو إمّا على طبقه مطلقاً، أو بعد الفحص عمّا ينافيه.

نعم، المقتضي، بمعنى الباعث على بناء العقلاء بالذات هو الظهور وفعليّته تتبع عدم المانع، ولعلّ مثله ممكن الجريان في الاُصول العمليّة حيث إنّ عدم قيام الحجّة على الواقع مقتضٍ لحكم العقل بقبح العقاب،

ص: 406


1- كفاية الاُصول: ص 227.

إلّا أنّ كون الحجّةبحيث لو تفحّص عنها لظفر بها مانع عن الفعلّيّة، فالفحص إنّما هو لتحقيق عدم المانع، لا لإثبات المقتضي. وأمّا أنّ المقتضي نفس الحجّة فواضح، ولذا لو لم يكن حجّة في الواقع حقيقةً، كان مقتضى حكم العقل ثابتاً، لا أنّه يتقوّم وجود المقتضي بوجود الحجّة الواقعيّة، وكونها بحيث لم يظفر بها لو تفحّص عنها، فتأمّل، مع أنّ المراد من العبارة - كماهو الظاهر - تماميّة المقتضي في مقام الإثبات»(1).

والذي يظهر من كلامه(قدس سره) أنّ التقابل تارةً يكون بين المقتضي في مقام الإثبات في كلا الطرفين، وأُخرى بين المقتضي في مقام الثبوت هنا وهناك، لا بين المقتضي إثباتاً في طرف والمقتضي ثبوتاً في طرف آخر.

وكيف كان، فالحاصل: أنّه لو كان جريان الاُصول مستنداً إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فهو لا يجري قبل الفحص، وأمّا لو كان مستنداً إلى النقل، فإنّ الأدلّة الشرعيّة وإن كانت مطلقة وغير مقيّدة بالفحص، إلّا أنّ إطلاقها - مع ذلك - قد قُيِّد بالإجماع المنعقد على اعتبار الفحص.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ إطلاقها قد قُيّد باستقلال العقل بوجوب الفحص، ولا يجوز أن يعمل بإطلاقها، وإلّا لكان بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً؛ ضرورة أنّه لو لم يفحص عن المعجزة بحكم العقل، لم

ص: 407


1- نهاية الدراية 1: 649.

يمكن إثبات النبوّة، حيث إنّ إثباتها متوقّف على وجوب النظر إلى المعجزة، وبدونه لاطريق لنا إلى إثبات النبوّة. وهذا يعني: أنّ الفحص في المقام هو من صغريات الفحص عن معجزة النبيّ.

وبالجملة: فكما أنّ ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل؛ لأنّه يوجب نقض الغرض الداعي إلى إرسال الرسل، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعيّة بعد أن وجّهها الشارع إلى العباد، وبنفس الملاك.

فتحصّل: أنّ وجوب الفحص في باب الاُصول العمليّة قد أخذ في الموضوع، فقبل الفحص لا شيء في البين أصلاً حتى يمكن التمسّك به، وهذا بخلاف الاُصول اللّفظيّة، فإنّ الفحص فيها - كما عرفنا - فحص عن المانع، فإن وُجِد، وإلّا، يجوز التمسّك بالإطلاق.

أضف إلى ذلك: أنّ هناك علماً إجماليّاً بوجود مقيّداتٍ ومخصّصات، وهذا العلم الإجماليّ مستفاد ممّا وصل إلى أيدينا من عمومات وإطلاقات في آيات الكتاب العزيز، وفي الأخبار المعتبرة الموجودة في الكتب الثلاثة، كما هو معلوم لكلّ من راجعها، وكذلك، فلدينا علم إجماليّ بوجود أمارات وحجج تمنع من التمسّك بالاُصول العمليّة.

ومن المعلوم: أنّ العمل بتلك العمومات يوجب طرح الحجّة، وترك العمل بالاُصول العمليّة، وليس ترك الفحص سوى عدم الاعتناء بتلك الأمارات والحجج، فلا يكون جائزاً البتّة، لكونه مخالفاً لما تقتضيه منجّزيّة العلم الإجماليّ.

ص: 408

فتلخّص: أنّه عند الشكّ لا يمكن التمسّك بأصالة العموم والإطلاق، وإنّما يمكن التمسّك بهما إذا لم يكن العامّوالمطلق في معرض التخصيص أو التقييد؛ لأنّ المتكلّم وإن لم يخصّص العامّ ولم يقيّد المطلق، ولكنّه كثيراً ما يعتمد على المخصّصات والمقيّدات المنفصلة.

وبعبارةٍ أُخرى: ففي مورد الشكّ، يحتمل أن لا يكون المتكلّم قد بيّن تمام مراده ومقصوده في كلام واحد، ومعلوم أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يكون جائزاً إذا كان المتكلّم في مقام البيان، ونحن حينما نراجع أخبار أئمّة الهدى( نرى أنّهم كثيراً ما يلقون العامّ، ويعتمدون على الإتيان فيما بعد بالمخصّصات أو المقيّدات، بل قد يلقي الإمام السابق العامّ ويأتي المخصّص على لسان الامام الآتي بعده، والعامّ الذي يكون هذا شأنه، فمن الظاهر أنّه لا يمكن أن يُعتمد عليه إلّا بعد الفحص.

وإن شئتَ قُلتَ: إنّ العموم والإطلاق اُصول عقلائيّة، والمدرك فيها إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم، ولا يمكن إثبات استقرار هذه السيرة قبل الفحص، ولو فرض عدم القطع بعدم جواز العمل.

ومعه: فيكون الشكّ في ثبوت المخصّص كافياً في الخروج عن القدر المتيقّن الذي انعقدت السيرة وبناء العقلاء عليه. ولكنّ عدم جريان سيرة العقلاء، إنّما هو فيما إذا كانت العمومات أو المطلقات واردةً في معرض التخصيص والتقييد، وأمّا بعد الفحص وعدم العثور على المخصّصات أو المقيّدات يُعلم أنّ تلك الموارد خارجة عن أطراف ما هو المعلوم

ص: 409

بالإجمال، وبه يحصل الإطمئنان بالخروج، ويُعلم أنّه مراد المتكلّم هو العموم أو الإطلاق.وخلاصة البحث: أنّ العمل بالعامّ الذي هو في غير معرض التخصيص جائز حتى من دون الفحص، وأمّا العامّ الوارد في معرض التخصيص، فلا يجوز العمل به إلّا بعد الفحص.

وقد تحصّل ممّا أسلفناه: أنّ وجوب الفحص له في كلٍّ من الاُصول العمليّة واللّفظيّة مدركان، يشتركان في أحدهما، وهو العلم الإجماليّ، ويفترقان في الآخر؛ لأنّ المدرك الآخر لوجوب الفحص في الاُصول العمليّة هو حكم العقل مستقلّاً بلزوم أن يتحرّك العبد على وفق ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدّم، وأمّا في الاُصول اللّفظيّة فهو أن يكون العامّ في معرض التخصيص والتقييد.

غير أنّه قد يقال:

لا يمكن أن نجعل المدرك لوجوب الفحص في كلا البابين هو العلم الإجماليّ، وذلك ببيان: أنّ للعلم الإجماليّ في باب الاُصول العمليّة مدركين:

الأوّل: أنّا نعلم إجمالاً بأنّ في الشريعة أحكاماً إلزاميّة على خلاف الاُصول النافية، فلا يمكن لنا أن نجري هذه الاُصول.

الثاني: هو العلم بثبوت أحكام إلزاميّة فيما بأيدينا من الكتب، ولا يخفى: أنّ دائرة هذا العلم الإجماليّ أضيق من دائرة العلم الإجماليّ

ص: 410

الأوّل، فإذا نحن فحصنا عن الأحكام الإلزاميّة في الكتب التي بأيدينا، فإنّ فحصنا هذا يوجب انحلال العلم الثاني، وبما أنّ دائرة العلم الإجماليّ الأوّل أوسع، فيكون العلم الأوّل باقياً على حاله، ولازم ذلكهو أنّه لا يمكن أن نجري الاُصول النافية مطلقاً حتى بعد الفحص.

وهذا نظير ما إذ علمنا بأنّ في جميع الغنم الذي بأيدينا موطوء، وعلمنا - أيضاً - أنّ في البيض منها موطوءاً، فتفحّصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلّق علمنا، فهذا لا يكون سبباً لانحلال العلم الإجماليّ على الإطلاق، أي: في المجموع من البيض والسود، وإن كان قد انحلّ بالنسبة إلى البيض.

ولكنّ هذا الإشكال - كما هو واضح - لا يجري في الاُصول اللّفظيّة؛ لأنّه ليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع من الآخر، بل العلم الإجماليّ من أوّل الأمر قد تعلّق بأنّ ما في أيدينا من الكتب بأنّ هناك مخصّصاتٍ ومقيّدات.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الإشكال مندفع رأساً، فإنّه بعد الفحص وحصول العلم بوجود مقدارٍ من الموطوء في الغنم البيض ينحلّ العلم الإجماليّ الأوسع والأوّل أيضاً، ولكن لا بانحلال حقيقيّ، كانحلال العلم الإجماليّ الصغير والأضيق بل بانحلالٍ حكميّ؛ لأنّ ما عثرنا عليه بعد الفحص من الأدلّة المتكفّلة للأحكام الإلزاميّة قابل لأن ينطبق على ما علم إجمالاً من الأحكام الإلزاميّة في الشريعة؛ إذ لا علم لنا بأنّ في

ص: 411

الشريعة أحكاماً إلزاميّةً أزيد ممّا تكفّلته الأدلّة التي عثرنا عليها، فهذه الأحكام التي تضمّنتها قابلة للانطباق على ما علم إجمالاً من الأحكام الثابتة في الشريعة.ومقامنا نظير ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما المعيّن، واحتمل أن تکون النجاسة في المعيّن هي تلك النجاسة المعلومة بالإجمال في أحد الإناءين، فإنّ العلم الإجماليّ - حينئذٍ - ينحلّ، لاحتمال انطباق ما عُلِم نجاسته تفصيلاً على المعلوم بالإجمال، غاية الأمر: أنّه ليس بانحلالٍ حقيقيّ، بل هو انحلال حكميّ.

ففي مقامنا: بعد حصول العلم بوجود مقدار من الموطوء في البيض ينحلّ العلم الإجماليّ الأوّل - أيضاً -، وتخرج السود عن كونها طرفاً للعلم الإجماليّ، فلا يجب الاحتياط تجاهها.

هذا. ويمكن تصوير الإشكال بحيث يأتي على كلا البابين، بما حاصله:

أنّ العلم الإجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة وبأنّ هناك مخصّصات ومقيّدات قد وردت فيما بأيدينا من الكتب، وإن كان يقتضي عدم إمكان جريان الاُصول اللّفظيّة والعمليّة قبل الفحص، إلّا أنّه بعد أن تفحّصنا وعثرنا على المقدار المتيقّن من تلك الأحكام والمقيّدات والمخصّصات، فلابدّ من أن ينحلّ العلم الإجماليّ، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلّ علم إجماليّ يكون أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ فإنّه

ص: 412

بالعثور على المقدار المتيقّن الذي هو الأقلّ ينحلّ العلم الإجماليّ، ويكون الأكثر شبهة بدويّة يجري فيه الأصل، فمثلاً: إذا علم بأنّه مدين لشخصٍ، ولكن شكّ في أنّه مدين له بعشرة دنانير أو بخمسة عشر ديناراً، فإنّه بالنسبة إلى العشرة قدر متيقّن، ويجري الأصل بالنسبة إلى الخمسة الزائدة، أو كما إذا علمبأنّ في هذه القطيعة من الغنم موطوء، وتردّد بين أن يكون عشرة أو عشرين، فإنّه بعد العثور على العشرة، التي هي القدر المتيقّن، ينحلّ العلم الإجماليّ لا محالة.

وفي المقام، بعد أن عثرنا على مقدار متيقّن من الأحكام الإلزاميّة ومن المقيّدات والمخصّصات الواقعة في الكتب، بحيث يكون الزائد مشكوكاً، فلابدّ من أن ينحلّ العلم الإجماليّ، ولا يجب الفحص في سائر الشبهات، بل ينبغي أن تجري فيها الاُصول اللّفظيّة والعمليّة بلا فحص، مع أنّهم لا يقولون بذلك، بل هم يوجبون الفحص عن كلّ شبهة شبهة عند العمل، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الإجماليّ، ومن هنا يُعرف: أنّ المدرك لوجوب الفحص يجب أن يكون غير العلم الإجماليّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الإشكال قابل للدفع، فإنّ هناك قسمين من العلم الإجماليّ: فإنّ المعلوم بالإجمال تارةً لا يكون معلّماً بعلامة يُشار إليها بها، وأُخرى يكون معلّماً بعلامة، والعلم الإجماليّ ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن في القسم الأوّل، دون القسم الثاني، فإنّه لا ينحلّ بذلك، بل يكون حاله حال دوران الأمر بين المتباينين.

ص: 413

والضابط للقسمين: أنّ العلم الإجماليّ في القسمين إنّما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلوّ التي تنحلّ إلى قضيّتين حمليّتين، وهاتان القضيّتان:

تارةً: تكونان من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة، بحيث يكون العلم الإجماليّ قد نشأ من انضمامإحدى هاتين القضيّتين إلى الأُخرى، كمثال الدين، كما لو علم إجمالاً بأنّه مدين لزيد، وتردّد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة، أو كمثال القطيعة من الغنم يتردّد الموطوء فيها بين أن يكون خمسة أو عشرة، فإنّ هذا العلم الإجماليّ ليس إلّا عبارة عن قضيّة متيقّنة، وهي: كونه مديناً لزيد بخمسة دنانير، أو بأنّ في هذه القطيعة خمس شياة موطوءة، وقضيّة مشكوكة، وهي: كونه مديناً لزيد بخمسة دنانير زائداً على الخمسة المتيقّنة، أو أنّ في هذه القطيعة خمس شياة موطوءة زائداً على الخمسة المتيقّنة، ففي مثل هذا العلم الإجماليّ ينحلّ حتماً بعد العثور على المقدار المتيقّن، فإنّه لا علم في الواقع إلّا بذلك المقدار المتيقّن، وأمّا الزائد عليه فهو مشكوك من أوّل الأمر، ولم يتعلّق به العلم أصلاً، ولا يصحّ جعله طرفاً للعلم.

وأُخرى: لا تكون القضيّتان على هذا الوجه، أي: بأن يكون من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة، بل تعلّق العلم بالأطراف على وجهٍ تكون جميع الأطراف ممّا تعلّق العلم بها بوجه، بحيث لو كان الأكثر

ص: 414

هو الواجب لكان ممّا تعلّق به العلم وتنجّز بسببه، وليس الأكثر مشكوكاً من أوّل الأمر، بحيث لم يصبه العلم بأيّ وجهٍ من الوجوه، بل كان الأكثر - على تقدير ثبوته في الواقع - ممّا أصابه العلم، وذلك في كلّ ما يكون المعلوم بالإجمال معلّماً بالعلامة كان قد تعلّق العلم به بتلك العلامة، فيكون كلّ ما انطبقت عليه تلك العلامة ممّا قد تعلّق به العلم.وذلك كما إذا علمت أنّي مديون لزيد بما في الدفتر، فإنّ جميع ما في الدفتر من ديون زيد قد أصبح متعلّقاً للعلم، سواء كان خمسة أو عشرة، فإنّه لو كان دين زيد عشرة فقد أصابه العلم، وذلك بسبب وجوده في الدفتر.

وإذا عرفت ذلك، فنقول: ما نحن فيه من قبيل العلم الإجماليّ الذي يكون المعلوم بالإجمال فيه معلّماً، والذي يقتضي الفحص التامّ، ولا ينحلّ بالعثور على المقدار المتيقّن؛ فإنّ العلم - في محلّ الكلام - قد تعلّق بأنّ فيما بين أيدينا في الكتب مقيّداتٍ ومخصّصات وأحكاماً إلزاميّة، فيكون نظير تعلّق العلم بأنّي مديون لزيد بما في الدفتر.

وقد عرفت أنّه في مثل هذا العلم، لابدّ من الاحتياط؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ لابدّ فيه من الفحص التامّ، ولا ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن، بخلاف العلم الإجماليّ الأوّل، أعني: غير المعلّم، فإنّه - كما صار واضحاً - ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن.

هذا كلّه لو جعلنا المدرك لوجوب الفحص هو العلم الإجماليّ.

ص: 415

وأمّا لو قلنا بأنّ الدليل على وجوب الفحص هو أن دأب المتكلّم وديدنه هو التعويل على المنفصلات، فحينئذٍ: لا فائدة ترجى من الفحص، ولا يمكن الأخذ بالعموم، ولا المطلقات، ولو بعد الفحص عن المقيّدات والمخصّصات؛ لأنّ هذا الفحص لا يغيّر تلك العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص، وعن كون دأب المتكلّم هو التعويلعلى المنفصلات؛ إذ لا دخل للفحص في ذلك كما هو ظاهر، وهو لا يوجب قوّة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت بسبب خروج المتكلّم عن طريق المحاورات العرفيّة، وهو بيان تمام مراده بكلامٍ واحد؛ إذ في كلّ عامٍّ أتى به المتكلّم مع خروجه عن هذا الطريق، يحتمل أن يكون قد عوّل فيه على مجيء المخصّص المنفصل، ولم يكن ذلك المخصّص في الكتب التي بين أيدينا، ولا يوجد ما يُدفع به هذا الاحتمال.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن التمسّك بالعموم والإطلاق؛ لأنّ الغرض لم يتعلّق بواقع مراد المتكلّم، حتى يقال بأنّه بعد الفحص - أيضاً - لا يمكن أن يصل إلى واقع مراده، كما مثّل لذلك بعض أعاظم المحقّقين(رحمة الله) بما:

«لو فُرض أنّ أحد التجّار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلدٍ، وكان الكاتب ممّن يعتمد على القرائن في بيان مراده، فإنّ هذا الكتاب لو وقع بيد ثالثٍ، لا يمكنه العمل على ما تضمّنه؛ لأنّه لا يمكن الحكم بأنّ

ص: 416

واقع مراد الكاتب هو ما تضمّنه ظاهر الكتاب، مع أنّ هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب»(1).

وأمّا إذا لم يتعلّق الغرض باستخراج المراد الواقعيّ للمتكلّم، بل كان الغرض هو أن يصبح كلام المتكلّم حجّة ومعذّراً في مقام المحاجّة والمخاصمة، فلابدّ من الأخذ بما هو ظاهر كلامه، بحيث إنّ التعويل على المخصّص المنفصل لا يوجبزائداً على الفحص شيئاً آخر؛ فإنّ بناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك.

وليس حال الأحكام الشرعيّة إلّا كحال الأحكام العرفيّة الصادرة عن الموالي العرفيّين والملقاة إلى عبيدهم؛ فإنّه لا يشكّ في أنّهم يلزمون عبيدهم بالأخذ بظاهر العموم أو الإطلاق في كلام المولى بعد الفحص عن المخصّصات والمقيّدات واليأس عن الظفر بها، إذا كان شأن المولى التعويل على المنفصل، وليس للعبيد عدم العمل بمقتضى الظهور من العموم أو الإطلاق والاعتذار عن ذلك باحتمال أنّ مراد المولى قد يكون شيئاً آخر غير ما يُفهم من ظاهر كلامه، كما أنّه ليس للمولى توبيخ العبد عند أخذه بالظاهر، إذا لم يكن الظاهر مطابقاً لمراده الواقعيّ.

وخلاصة البحث: أنّ عدم جواز الأخذ بالعموم والمطلقات بعد أن كان من ديدن المولى التعويل على المنفصلات، إنّما يكون قبل

ص: 417


1- فوائد الاُصول 2: 546.

الفحص عن المخصّصات والمقيّدات، وأمّا بعد الفحص، فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظواهر، إذ يكون ظاهر كلام المولى حجّة على العبد، ولكلّ من المولى والعبد أن يُلزم الآخر بما هو مقتضى ذلك الظاهر.

نعم، لو قلنا بأنّ اعتبار الظهور ليس من باب بناء العقلاء، بل من باب إفادة الاطمئنان أو الظنّ الشخصيّ بالمراد الواقعيّ، لكان للإشكال المزبور وجه؛ لوضوح أنّ الفحص لايوجب الظنّ أو الاطمئنان بالمراد بالنسبة إلى المتكلّم الذي كان من شأنه التعويل على المنفصل.

ولكنّ الصحيح - كما هو مقرّر في محلّه -: أنّ حجّيّة الظهور إنّما هي من باب بناء العقلاء على الأخذ بالظهورات، ولو من أجل الكشف النوعيّ الذي للظهور عن المراد، وحينئذٍ: فبناء العقلاء على العمل بالظاهر لا يستقرّ إلّا بعد تماميّة الفحص عن المخصّص، كما هو واضح، فتأمّل جيّداً.

في مقدار الفحص اللّازم

الكلام هو في مقدار الفحص بعد الفراغ عن أصل لزومه، قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«وقد ظهر لك بذلك أنّ مقدار الفحص اللّازم ما به يخرج عن المعرضيّة له، كما أنّ مقداره اللّازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدلّ

ص: 418

بها، من العلم الإجماليّ به، أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك، رعايتها، فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى»(1).

وحاصل ما أفاده): أنّ مقدار الفحص اللّازم تابع لدليل وجوبه، فإن كان دليله العلم الإجماليّ، فالواجب الفحص بمقدار ما ينحلّ به العلم الإجماليّ، وهو الظفر بمخصّصاتٍبمقدار المعلوم بالإجمال حتى يخرج العامّ عن أطراف العلم الإجماليّ الذي يكون مانعاً من صحّة التمسّك بأصالة العموم.

وإن كان دليل وجوب الفحص هو عدم حصول الظنّ بالمراد قبل الفحص عن المخصّص، فلابدّ من الفحص بمقدار يوجب الظنّ بعدم التخصيص لكي يحصل الظنّ بإرادة المتكلّم للعامّ.

وإن كان الدليل على وجوبه هو عدم الدليل على حجيّة الخطابات لغير المشافهين، فاللّازم - حينئذٍ - الفحص إلى أن يقوم الإجماع على الحجّيّة.

وأمّا المخصّص المتّصل المحتمل احتفاف العامّ به فهل يلزم الفحص عنه أم لا؟

قال في الكفاية: «ثمّ إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز،

ص: 419


1- كفاية الاُصول: ص 227.

وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً، ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى»(1).

الخطابات الشفاهيّة

الأقوال في المسألة:

هل تختصّ الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب، فلا تشمل الغائبين، فضلاً عن المعدومين،أم أنّها لا تختص باُولئك، بل هي تشمل الجميع، حتى المعدومين، فضلاً عن الغائبين؟

ورد في المقام أقوال، عدّها بعض الشارحين للكفاية خمسة، قال:

«القول الأوّل: ما عن الوافية من الشمول من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني: الشمول حقيقة لغةً، وهو المحكيّ عن بعضهم.

الثالث: الشمول حقيقةً شرعاً، ونفى عنه البعد الفاضل النراقي.

الرابع: الشمول مجازاً، وهو المحكيّ عن التفتازاني... إلى أن يقول:

الخامس: إمكان الشمول على وجه المجاز بنحوٍ من التنزيل والادّعاء إذا كان فيه فائدة يتعلّق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة، ولعلّه المشهور كما قيل»(2).

ص: 420


1- المصدر نفسه: ص 227.
2- انظر: منتهى الدراية 3: 579.

تحرير محلّ النزاع:

قال في الكفاية:

«فاعلم أنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين، كما صحّ تعلّقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحّة المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب،أو بنفس توجيه الكلام إليهم، وعدم صحّتها، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين، وعدم عمومها لهما، بقرينة تلك الأداة».

ثمّ قال): «ولا يخفى: أنّ النزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّاً، وعلى الوجه الأخير يكون لغويّاً»(1).

ثمّ إنّه(قدس سره) أفاد أنّه لا شبهة في عدم صحة توجّه التكليف الفعليّ إلى المعدوم عقلاً، وذلك لمكان عدم إمكان حصول الانبعاث فعلاً من المعدوم، بل المعدوم ليس قابلاً للبعث ولا للانزجار؛ فإنّ القابليّة للبعث والانزجار منحصرة فقط في من يكون له حظّ من الوجود، والمعدوم ليس كذلك.

ثمّ استدرك قائلاً:

«نعم، هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعثٍ ولا زجرٍ لا استحالة فيه أصلاً، فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة، فالحكيم تبارك وتعالى يُنشئ - على

ص: 421


1- كفاية الاُصول: ص 228.

وفق الحكمة والمصلحة - طلب شيءٍ قانوناً من الموجود والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليّاً بعدما وُجد الشرائط وفُقد الموانع بلا حاجةٍ إلى إنشاءٍ آخر، فتدبّر»(1).

وحاصل هذا الاستدراك: أنّ الطلب إذا كان بمعنى الإنشاء، حيث لا يكون مشتملاً على الطلب الفعليّ، وعلى البعث والزجر الفعليّين، فإنّه - حينئذٍ - لا استحالة في تعلّقهبالمعدومين، بمعنى: أنّه متى تحقّق شرطه وفُقِد المانع منه فإنّه يكون فعليّاً، وذلك كإنشاء الوقف للمعدومين تبعاً للموجودين؛ لأنّ الطلب لو كان إنشاءً محضاً، فالإنشاء - كما هو معلوم - خفيف المؤونة، ولا يتوقّف على وجود المكلّف وقدرته، بل يكفي في صحّته أن يكون له غرض عقلائيّ يترتّب عليه ولو بعد وجود المكلّف ووجدانه للشرائط.

وعليه: فإمكان تعلّق الطلب الإنشائيّ المحض بالمعدوم بمكانٍ من الإمكان، تماماً كما هو الشأن في كلّ تكليفٍ استقباليّ، فإنّه لكونه مأخوذاً بقيد الوجود كان بمكانٍ من الإمكان.

وكيف كان، فالكلام في هذه المسألة يقع في اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ المراد من الخطابات الشفاهيّة هو كلّ كلام كان مبدوءاً بأداة

ص: 422


1- المصدر نفسه.

الخط-اب، كق-وله سبح-انه وتع-الى: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّ-ذِينَ آمَنُ-واْ﴾(1)، وق-وله: ﴿يَا أَي-ُّهَا النَّاسُ﴾(2)، وهذا الخطاب لا يشمل الغائب، فضلاً عن المعدوم، وذلك لمكان اشتماله على أداة الخطاب التي تستدعي مخاطَباً حاضراً وموجوداً.وأمّا الكلام غير المصدّر بأداة الخطاب، كقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾(3)، فإنّه يشمل حتى المعدومين؛ وذلك لإمكان أن يكون مجعولاً على نحو القضايا الحقيقيّة، وهذه - كما هو معلوم - لا يشترط فيها وجود الموضوع في الخارج بالفعل، بل شأنها فرض وجود الموضوع؛ وحيث إنّ نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى جميع أفراده، الموجودة والمعدومة، الحاضرة والغائبة، على حدٍّ سواء، فإذا ورد الحكم على الطبيعة بوجودها الساري في أفرادها، فإنّه يسري حتى إلى المعدومين من الأفراد.

وقال المحقّق النائيني(قدس سره): «الكلام يقع تارةً في القضايا الخارجيّة التي حُكم فيها على أشخاصٍ مخصوصين، وأُخرى في القضايا الحقيقيّة التي حُكم فيها على الموضوعات المقدَّر وجودها. أمّا القضايا الخارجيّة، فالحقّ فيها أن يقال باختصاص الخطاب بالمشافهين، فإنّ خطاب

ص: 423


1- انظر على سبيل المثال: البقرة: الآية 104.
2- انظر - مثلاً -: البقرة: الآية 21.
3- آل عمران: الآية 97.

الغائب، فضلاً عن المعدوم، يحتاج إلى تنزيلٍ وعنايةٍ، وظهور الخطاب في أنّه بلا عناية يَدفع احتمالها.

وأمّا القضايا الحقيقيّة - كما هو محلّ الكلام - فالصحيح فيها هو القول بعموم الخطاب للمعدوم والغائب والحاضر على نهجٍ واحد، فكما أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة بحسب مقام الثبوت يعمّ الغائبين والمعدومين، كذلك الخطاب في مقام الإثبات يعمّهما أيضاً، ضرورة أنّ توجيه الخطاب إلىالغائب أو المعدوم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهما منزلة الموجود، وهذا التنزيل إنّما هو مقوّم كون القضيّة حقيقيّةً، لا أنّه أمر زائد عليه ليكون مدفوعاً بالأصل»(1).

وملخّصه: أنّ الحقّ في القضايا الخارجيّة هو اختصاص الخطاب بالمشافهين؛ لأنّ خطاب الغائب، فضلاً عن المعدوم، يحتاج إلى تنزيل وعناية، وهما خلاف ظاهر الخطابات، فيكونان مدفوعين بالأصل.

وأمّا القضايا الحقيقيّة، وهي القضايا المحكوم فيها على الموضوع المقدّر الوجود، كما هو الشأن في أغلب القضايا الشرعيّة، فالحقّ فيها هو عموم الخطاب للمعدوم والحاضر والغائب على حدٍّ سواء، وذلك لتقوّم هذا النوع من القضايا بالتنزيل، أعني: تنزيل الغائب منزلة الحاضر، والمعدوم منزلة الموجود.

ص: 424


1- أجود التقريرات 1: 490 - 491.

وعليه: فلا مجال لدفع احتمال التنزيل في القضايا الحقيقيّة بأصالة الظهور، بل أصالة الظهور هي تقتضي تعيين هذا الاحتمال ولزوم الحمل والبناء عليه.

الأمر الثاني:

هل البحث في مسألة عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين والمعدومين عقليّ أم لفظيّ؟

الحقّ: أنّه يمكن للبحث فيها أن يكون عقليّاً ويمكن أن يكون لفظيّاً:بيان ذلك: أنّه إذا كان البحث عن إمكان مخاطبة المعدوم وعدمه فالنزاع حينئذٍ عقليّ.

وإذا كان البحث عن أنّ أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه أم أنّها موضوعة لما يشمل الخطاب بها مع المعدوم، فضلاً عن الغائب، كان النزاع لفظيّاً.

وإذا قلنا بأنّها موضوعة لما يتناول مخاطبة المعدومين أيضاً، فهذا قابل لأن يُتصوّر على قسمين؛ فإنّه: تارةً يكون على نحو الاستقلال، وأُخرى: مع الانضمام إلى الغائبين.

الأمر الثالث:

في بيان الثمرة من هذا النزاع:

فإنّه بناءً على اختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين، وعدم ثبوت

ص: 425

العموم لها، فلا يخفى: عدم صحّة التمسّك بها في حقّ الغائبين، فضلاً عن المعدومين؛ لوضوح أنّ هؤلاء - حينئذٍ - لا يكونون هم المخاطبين بما تضمّنته تلك الخطابات، فليس لأحدٍ التشبّث بها لإثبات التكاليف في حقّهم، بل لا يمكن إثبات التكليف في حقّهم - حينئذٍ - إلّا بالاستناد إلى مثل الإجماع أو قاعدة الاشتراك.

وأمّا لو قلنا بأنّ الخطابات الشفاهيّة متوجّهة إلى المعدومين كالموجودين، فالغائبون عندئذٍ بأنفسهم مخاطبون، فيكون ظاهر الخطابات حجّةً في حقّهم كالمشافهين بلا فرق، فيجوز لهم التمسّك بعموم الأحكام وإطلاقاتها، ولا نحتاج في إثبات شمول التكليف لهم إلى أمرٍ زائدٍ على الخطاب نفسه، فلاتصل النوبة إلى لزوم الرجوع إلى مثل الإجماع أو قاعدة الاشتراك.

وقد استشكل صاحب الكفاية على هذه الثمرة المدّعاة، بما لفظه:

«وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجّيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حُقِّق عدم الاختصاص بهم. ولو سُلِّم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أنّ الناس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمّهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحدٍ من الأخبار»(1).

ص: 426


1- كفاية الاُصول: ص 231.

وحاصل ما أورده(قدس سره)على هذه الثمرة إشكالان:

أوّلهما: أنّ هذه الثمرة المذكورة إنّما تتمّ فيما لو كنّا نقول بأنّ حجّيّة الظواهر مختصّة بمن هم المقصودون بالإفهام، وأمّا لو كنّا نقول بأنّها غير مختصّة بهم، وأنّ الظواهر حجّة مطلقاً، حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه، فلا تكون هذه ثمرة لشمول الخطابات للمعدومين كما هو واضح، بعد أن كانت الظواهر حجّة في حقّهم، ولو لم يكونوا مقصودين بالإفهام، ولم تشملهم الخطابات.

والإشكال الثاني: بعد تسليم الكبرى المتقدّمة، وهي اختصاص حجّيّة الظهور بالمقصودين بالإفهام، إلّا أنّنا مع ذلك لا نسلّم أنّ المقام من صغريات هذه الكبرى، أي أنّنا لانقبل بأن يكون المقصود بالإفهام هم خصوص المشافهين، وذلك لعلمنا بأنّ المعدومين من الأفراد مكلّفون بنفس تكليف الذي خوطِب به المشافهون، فهم في ذلك كالموجودين بلا فرق.

فنفس الخطاب الحقيقيّ، وإن لم يكن شاملاً للمعدومين، ولكنّهم مع ذلك مقصودون بالإفهام، ولا منافاة بين أن يقال بكون الخطاب مختصّاً بالمشافهين، وبين أن يكون بأنّه لو قصد به الإفهام يكون عامّاً يشمل حتى المعدومين.

والحاصل: أنّ جميع الناس إلى يوم القيامة مقصودون بالإفهام، كما يظهر ذلك من الأخبار، فلو لم يكن ظاهر الكتاب والسنّة حجّة في حقّ

ص: 427

الغائبين والمعدومين، لما كان التمسّك بهما مانعاً عن الضلال، كما أشير إليه في حديث الثقلين، وهو قوله6:

«إنّي تارك فيكم الثقلين، أما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اﷲ، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

وهكذا ما ورد من الأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة على الكتاب والسنّة، والأخذ بما يوافقهما وطرح ما يخالفهما، حيث يظهر من هذه الأخبار: أنّ ظواهر الآيات والروايات تكون حجّة في حقّ المعدومين أيضاً.وقد يقال: بأنّه يمكن ردّ هذه الثمرة بشكل آخر، وهو أن يقال:

إنّا لا نرى مانعاً من التمسّك بالإطلاق لإثبات اتّحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام، حتى ولو قلنا بأنّ الخطاب لا يشمل المعدومين أيضاً؛ فإنّه لو كان للوصف، وهو حضور المعصوم%، دخل في ثبوت الحكم، كوجوب صلاة الجمعة مثلاً، لزم تقييد الخطاب به، ولكنّ المفروض عدمه؛ لأنّ الإطلاق محكّم، ومقتضى ذلك: عدم دخل ذلك الوصف في الحكم، فالخطابات تشمل المعدومين أيضاً.

ص: 428


1- هذا الحديث من الأحاديث المشهورة المتواترة عن النبيّ - ، ومن طرق الفريقين، أخرجه أكابر علماء الإسلام من السنّة والشيعة وأثبتوه - بألفاظٍ مختلفة ولكن متقاربة - في صحاحهم وسننهم ومسانيدهم ومصادرهم الحديثيّة المعتبرة. يُراجَع - مثلاً - : أمالي الصدوق: ص 500، ح15؛ وبصائر الدرجات: ص 433، ح3.

وربّما يتوهّم: أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام، حيث لم يكن الخطاب عامّاً ليكون شاملاً للمعدومين من أوّل الأمر، والوصف الكذائيّ الذي يتّصف به المشافهون دون المعدومين يمكن أن يكون صالحاً لمنع التمسّك بالإطلاق، وهو يصلح للقرينيّة على التقييد، ومعه: فلا يكون التمسّك بالإطلاق ممكناً.

والجواب عن هذا التوهّم: أنّ اتّصاف المشافهين بوصفٍ يكون المعدومون فاقدين له لا يكون - بمجرّده - مانعاً من صحّة التمسّك بالإطلاق، لما بيّنّاه من أنّه لو كان الوصف - وهو حضور الإمام% - معتبراً، لكان على المتكلّم بيانه، فبتركه له لا يمكن أن يُستفاد من نفس الخطاب التقييد به، بل يكون تركه بنفسه هو الدليل على عدم اعتباره وعلى عدم لحاظ المولى له، فيكون التمسّك بالإطلاق لرفع القيد غير المعبّر عنه في الكلام، لا بقرينة المقال ولا بقرينة الحال،محكّماً، بلا فرق بين أن يكون الخطاب في نفسه شاملاً للمعدومين أو لا.

وإذا عرفت هذا، فالكلام في عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين والمعدومين تارةً فيما هو من قبيل القضايا الخارجيّة، وأُخرى فيما هو من قبيل القضايا الحقيقيّة.

أمّا في الصورة الأُولى، فكما عرفنا من كلام المحقّق النائيني) الذي نقلناه آنفاً، فلا يمكن توجيه الخطاب إلى الغائب غير الملتفت إلى الخطاب، فضلاً عن المعدوم.

ص: 429

نعم، يجوز مخاطبته وتوجيه الخطاب إليه بعد تنزيل المعدوم منزلة الموجود، كما ورد في لسان الشاعر:

أيا شجر الخابور مالك مورقا*** كأنّك لم تجزع على ابن طريف

وفي قول القائل:

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلِ *** بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل

ولكن لا يخفى: أنّ فرض وجود الأفراد وتنزيل المعدومين منزلة الموجودين يتنافى مع كون القضيّة خارجيّة؛ لأنّ معنى كون القضيّة خارجيّة هو أن يكون الحكم فيها وارداً على الأشخاص الموجودين فعلاً في الخارج، لا على الأشخاص مطلقاً وإن كان الخطاب لا يتوجّه إليهم إلّا بعد فرض وجودهم.

وأمّا القضايا الحقيقيّة فهي تشمل الموجودين في مجلس التخاطب والمعدومين، بعدما كان الوجوب والحكم فيها وارداًعلى الموضوع المفروض الوجود، وبعد أن كان الخطاب فيها مبنيّاً على ذلك الفرض والتنزيل، فالأفراد جميعاً، سواء كانوا موجودين في زمن الخطاب وحاضرين في مجلس التخاطب أم لم يكونوا كذلك، بل كانوا معدومين وغير حاضرين، داخلون تحت الخطاب.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ أداة الخطاب إنّما هي موضوعة لخصوص ما يكون موجوداً في زمن الخطاب.

فصرف دعوىً بلا دليل، فلو فرض أنّه أمكن توجيه الخطاب على

ص: 430

نحو القضايا الحقيقيّة في عالم الجعل، ففي عالم الإثبات - أيضاً - يكون ذلك ممكناً.

وعليه: فالقول باختصاص وضع الأداة الأفراد لخصوص الخارجيّة الفعليّة دون غيرها يكون مجرّد دعوىً بلا موجب ودليل.

اللّهمّ إلّا إذا كنّا نقول بأنّ القضايا الشرعيّة لا تنحلّ إلى قضايا حقيقيّة، بل هي من قبيل القضايا الخارجيّة، ولكن قد أبطلنا ذلك في محلّه، وبيّنّا أنّ القضايا الشرعيّة إنّما تكون من باب القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة، فيأتي ما ذكرناه من أنّ الخطاب الشرعيّ يكون شاملاً حتى للمعدومين من الأفراد، لمكان تقوّم القضيّة الحقيقيّة بتنزيل المعدوم منزلة الموجود.

تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟

لو تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده كما في الآية الشريفة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَب-َّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ

قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾(1)، فهل يكون هذا التعقّب موجباً تخصيص العامّ بهذا البعض من الأفراد أم لا؟

ففي الآية الشريفة، فإنّ ضمير (وبعولتهنّ) يرجع إلى خصوص

ص: 431


1- البقرة: الآية 228.

الرجعيّات، بقرينة (أحقّ بردّهنّ)، وأمّا (المطلّقات) الواردة في صدر الآية عامّ شامل للرجعيّات ولغيرهنّ؛ لأنّه من الجمع المحلّى باللّام، فيقع البحث حينئذٍ في أنّ رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيّات من المطلّقات هل هو موجب لتخصيص (المطلّقات) في صدر الآية وبيان أنّ المراد منه خصوص الرجعيّات أم لا؟

وقد ذكر في الكفاية ما لفظه:

«والتحقيق أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العامّ بإرادة خصوص ما اُريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرّف في ناحية الضمير، إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً...»(1).وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الأمر في المقام يدور بين التصرّف بأحد الظاهرين العامّ والضمير:

أمّا العامّ، فظاهره العموم، فيكون التصرّف به بالتخصيص وأن يُراد منه خصوص ما اُريد من الضمير الراجع إليه، فيكون المراد من المطلّقات خصوص الرجعيّات، ويكون المراد من قوله: (المطلّقات يتربّصن)، أي: الرجعيّات يتربّصن. فيكون الموضوع لكلا الحكمين المذكورين في الآية، أعني: الحكم بوجوب الأخذ بالعدّة، وبجواز رجوع الأزواج

ص: 432


1- كفاية الاُصول: ص 233.

في العدّة، هو الرجعيّات.

وأمّا في ناحية الضمير، فالظاهر - كما هو معلوم - تطابق الضمير مع المرجع في العموم والخصوص، كما يتطابقان في التذكير والتأنيث، والتصرّف في هذا الظاهر والخروج عنه، يكون:

إمّا بإرجاع الضمير إلى بعض ما يراد من العامّ، كالرجعيّات في الآية، وهو المعبّر عنه ﺑ (الاستخدام)، وهو على خلاف الأصل، لكونه يندرج تحت ما يُسَمّى عندهم ﺑ (المجاز في الكلمة).

وإمّا بارتكاب المجاز في الإسناد، بأن يكون المراد بالعامّ - أعني: (المطلّقات) - حقيقةً هو خصوص الرجعيّات، واُسند الحكم إلى جميع المطلّقات على سبيل المجاز، فيكون إسناد الحكم إلى البعض حقيقةً وإلى الكلّ مجازاً.وقد ذكر اُستاذنا المحقّق(قدس سره) أنّه «لا شكّ في أنّ التخصيص والاستخدام كلاهما خلاف الظاهر ومخالفان للأصل العقلائيّ، أي: أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام، فيتعارض الأصلان ويتساقطان إذا لم يكن مرجّح لأحدهما في البين. ونتيجته: الشكّ في ثبوت هذه الأحكام المذكورة في الآية الشريفة لغير الرجعيّات، فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّة في غيرها»(1).

ص: 433


1- منتهى الاُصول 1: 463.

إلّا أنّ المحقّقين صاحب الكفاية والمحقّق النائيني" قدّما جريان أصالة العموم على أصالة عدم الاستخدام، وقالا بعدم جريان أصالة عدم الاستخدام، قال في الكفاية:

«كانت أصالة الظهور في طرف العامّ سالمةً عنها في جانب الضمير، وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز، في الكلمة أو الإسناد، مع القطع بما يُراد، كما هو الحال في ناحية الضمير»(1).

وقال المحقّق النائيني):

«ولكنّ الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى: عدم جريان أصالة عدم الاستخدام:أمّا أوّلاً: فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازيّة العامّ المخصّص، وأمّا بناءً على الحقيقة، فلا يلزم استخدام أصلاً حتى تجري أصالة عدم الاستخدام، وذلك لأنّ رجوع الضمير إلى المطلّقات الرجعيّة لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير...»، لأنّ استعمال المطلّقات في الرجعيّات التي يرجع الضمير إليها لا يوجب المجازيّة حتى يقال: بأنّ المراد من المرجع هو المعنى الحقيقيّ للّفظ، وأمّا المراد من الضمير فهو المعنى المجازيّ حتى تحصل المغايرة والاستخدام،

ص: 434


1- كفاية الاُصول ص 233.

فلا مغايرة بين المعنى الحقيقيّ ﻟ (المطلّقات) المذكورة في صدر الآية، وبين المطلّقات الرجعيّة التي يرجع الضمير إليها، بعدما قلنا بأنّ استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازيّة؛ لأنّ المطلقات موضوعة للطبيعة، وأمّا العموم والشمول فمستفادان من دليلٍ آخر، وهو مقدّمات الحكمة، مع كون المعنى الموضوع له اللّفظ محفوظاً في المطلّقات الرجعيّات.

هذا أوّل إشكالاتٍ ثلاثة أوردها المحقّق النائيني) على دعوى معارضة أصالة العموم بأصالة عدم الاستخدام وتأدية هذه المعارضة إلى التساقط بينهما.

وأمّا الإشكال الثاني، فقد عبّر عنه بقوله:

«وأمّا ثانياً: فلأنّ استفادة (الرجعيّات) في قوله تعالى: (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ) ليس من نفس الضمير، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل، وهو قوله تعالى: (أحقّ بردّهنّ)؛ حيث إنّه معلوم من الخارج أنّ ما أحقّ بالردّ هو خصوصالرجعيّات، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيّات، بل رجع إلى نفس المطلّقات، وكان استفادة الرجعيّات من عقد الحمل، فيكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول...».

وإنّما كان من هذا الباب لما عرفناه من أنّه قد اُريد من الضمير شيء، وهو نفس ما اُريد من العامّ، أعني: المطلّقات، واُريد من عقد الحمل شيء آخر، وهو الرجعيّات، فلا مغايرة أصلاً بين ما اُريد من المرجع وما

ص: 435

اُريد من الضمير، فأين يلزم الاستخدام؟!

وأمّا الإشكال الثالث - وهو المشار إليه في كلام الكفاية المتقدّم - فقد بيّنه(قدس سره)بقوله:

«وأمّا ثالثاً: فلأنّ الاُصول العقلائيّة إنّما تجري عند الشكّ في المراد، وفي المقام، لا شكّ في المراد من الضمير، وأنّ المراد منه المطلّقات الرجعيّات، وبعد العلم بما اُريد من الضمير لا تجري أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العامّ»(1).

وحاصله: أنّ الاُصول العقلائيّة لما كانت من الأدلّة اللّبّيّة، كان لابدّ فيها من الأخذ بالقدر المتيقّن منه خاصّةً، والقدر المتيقّن في المقام هو صورة عدم العلم بالمراد؛ فإنّه إذا لم يعلم المراد من لفظ (الأسد) - مثلاً -، بأنّه قد اُريد منه في كلام المتكلّم معناه الحقيقيّ أو المجازيّ، أعني: (الرجلالشجاع)؛ فإنّ بناء العقلاء هنا مستقرّ على إجراء أصالة الحقيقة.

وأمّا لو كان مراد المتكلّم من هذا اللّفظ معلوماً، وعلم بأنّه اُريد به (الرجل الشجاع) - مثلاً -، ولكن لم يعلم بأنّه معنىً حقيقيّ للفظ (الأسد) أم لا، فلا تجري أصالة الحقيقة لإدخال (الرجل الشجاع) في المعنى الحقيقيّ.

ص: 436


1- فوائد الاُصول 2: 552 - 553.

وفي المقام، حيث كان إرادة (الرجعيّات) معلومةً من الخارج، من الضمير في بعولتهّن، وإنّما كان الشكّ هنا في كيفيّة إرادتها منه، وأنّ إرادتها منه هل كانت بنحو الحقيقة أو المجاز، فلا يمكن جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العامّ، وإنّما تجري أصالة العموم، أي: ظهور العامّ في العموم، فيحكم بوجوب التربّص على جميع المطلقات، ومعه: فلابدّ من القول بوجود الاستخدام.

فالنتيجة: أنّ أصالة عدم الاستخدام غير جاريةٍ رأساً حتى تنهض لمعارضة أصالة العموم، فإنّ الأصل في طرف العموم جارٍ.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ أصالة العموم إنّما تجري إذا لم يكن هناك ما يصلح للقرينيّة على التخصيص، وفيما نحن فيه، ما يصلح للقرينيّة موجود؛ لأنّ رجوع الضمير إلى بعض أفراد المطلّقات، وهي الرجعيّات خاصّةً، يشكّل قرينةً على أنّ المراد من العامّ إنّما هو الخاصّ.

وبعبارة أُخرى: فإنّ انعقاد الظهور للعامّ لتجري فيه أصالة العموم مبنيّ على عدم احتفاف العامّ بما يمنع من ظهوره منالعموم، كما في المقام، فإنّ في الآية ضميراً راجعاً للعامّ صالحاً لأن يمنع من انعقاد العموم له، وحينئذٍ: لا تجري أصالة العموم بعدما كان العموم مكتنفاً ومحتفّاً بضميرٍ بحيث يصبح أن يكون صالحاً للقرينيّة على عدم إرادة العموم منه، ومع وجود مثل هذه القرينة فلم ينعقد للعامّ ظهور في العموم أصلاً.

ولكنّ الحقّ: أنّ ما يصلح لأن يكون قرينةً لا يصل إجماله إلى العامّ إلّا

ص: 437

إذا كان هو مجملاً، وأمّا إذا كان معلوماً من جهة ما هو المراد منه، كما فى

الضمير الموجود في ذيل الآية، فإنّه لا يُعقل أن يكون سبباً لإجمال العامّ. على أنّ ما شكّ في قرينيّته لا يكون موجباً للإجمال مطلقاً.

الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعدّدة:

الاستثناء الذي يأتي عقيب جمل متعدّدة - كالاستثناء في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأت-ُوا بِأَرْب-َعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا ل--َهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1)، وفي مثل قولك: (أكرم العلماء وأكرم الصلحاء وأكرم الشعراء إلّا الفسّاق) - هل هو ظاهر في الرجوع إلى الكلّ أو إلى خصوص الجملة الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منها،بل لابدّ في تعيين رجوعه إلى أحدها بعينه من قرينةٍ رافعةٍ للإجمال؟

وجوه وأقوال عدّة.

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سره) فقد فصّل بين أن تكون الجمل السابقة على الاستثناء مذكوراً فيها الموضوع والمحمول، كقولك: (أكرم العلماء، وضيّف السادات، ووقّر الاُدباء، إلّا الفسّاق منهم)، فيكون الاستثناء راجعاً

ص: 438


1- النور: الآيتان: 4 - 5.

إلى خصوص الأخيرة، وبين أن لا يكون كذلك، بل يكون الموضوع هو المذكور، دون المحمول، كقولك: (أكرم العلماء والسادات والاُدباء إلّا الفسّاق منهم) فيكون الاستثناء راجعاً إلى الجميع.

قال): «والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدّمة مشتملةً على الموضوع والمحمول، وبين ما إذا حُذِف فيها الموضوع. ففي الأوّل يرجع إلى خصوص الأخيرة، وفي الثاني يرجع إلى الجميع، مثال الأوّل: ما إذا قال: (أكرم العلماء وأضف الشعراء وأهن الفسّاق إلّا النحويّ)، أو قال: (أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات إلّا النحويّ)، ومثال الثاني: ما إذا قال: (أكرم العلماء والشعراء والسادات إلّا النحويّ)»(1).

وما يمكن أن يقال في توجيه هذا التفصيل:

أنّ رجوع الاستثناء في الصورة الأُولى - أعني: ما كان الموضوع والمحمول كلاهما مذكورين فيها - إلى خصوصالأخيرة، نظراً إلى أنّه إذا تكرّر الموضوع والمسند إليه وأُعيد في الجملة الأخيرة يأخذ الاستثناء محلّه؛ لأنّه القدر المتيقّن من رجوع الاستثناء إليه، ولا يكون هناك دليل على رجوعه بعد ذلك إلى بقيّة الجمل، لا من باب لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد كما قد يتوهّم، بل لأنّه ليس هناك شيء يمنع ظهور سائر الجمل في العموم، إلّا ما قد يتوهّم كونه صالحاً للقرينيّة،

ص: 439


1- فوائد الاُصول 2: 555.

والصالح للقرينيّة هي جملة الاستثناء.

ولكن الاستثناء المذكور لا يصلح لذلك؛ لأنّه بعدما رجع إلى الجملة الأخيرة واستقرّ فيها وأخذ محلّها، بعدما كانت الجملة الأخيرة لها موضوع ومحمول مستقلّ، فليس هناك من شيء آخر يكون سبباً للتخصيص والتضييق لبقيّة الموضوعات في بقيّة الجمل بالنسبة إلى الحكم المذكور في القضيّة.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ هذا الاستثناء يصلح للرجوع إلى الجميع؛ بحيث لو علمنا أنّ المتكلّم أرجعها للجميع، أي: أنّه أراد الاستثناء من الجميع، فلا يلزم منه أيّ خلاف للأصل، ولا هناك ارتكاب منه للتجوّز والعناية في كلامه.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن لنا أن نجري أصالة العموم مع وجود ما يصلح للمخصّصيّة؟ وكيف يصحّ لنا التمسّك بالعموم في مثل هذا المقام؟ وهل للعقلاء بناء على عدم المخصّص؟!نعم، لو عرفنا من الخارج أو بحسب المتفاهم العرفيّ بأنّها ترجع إلى خصوص الجملة الأخيرة أو إلى الجميع، فهو المتّبع، ولو بواسطة القرائن الحاليّة أو المقاليّة، أو لجهة أُخرى، ولكنّه - كما هو ظاهر - خارج عن محلّ الكلام.

وخلاصة الكلام: أنّه لا ظهور لنفس أداة الاستثناء في الرجوع إلى خصوص الجملة الأخيرة ولا في الرجوع إلى الجميع، بل لابدّ في إثبات

ص: 440

الرجوع إلى أحدهما من قرينةٍ، والرجوع إلى الأخيرة، وإن كان متيقّناً، إلّا أنّه لا يوجب أن تكون سائر الجمل سالمةً من التخصيص والإخراج والاستثناء وأن تبقى على عمومها؛ إذ المفروض أنّها قد احتفّت بما يصلح للقرينيّة، ولا يثبت الرجوع إلى الأخيرة فقط من جهة الظهور، وحينئذٍ: فلا أقلّ من أنّه لا دليل على صحّة هذا التفصيل الذي أفاده المحقّق المذكور«.

ولا فرق في هذا الذي ذكرناه بين أن يكون الاستثناء بواسطة حرف الاستثناء، أو بواسطة الاسم ﻛ (سوى) وأمثاله.

لا يقال: لا يمكن تعدّد الإخراج بأداة الاستثناء بعد أن كان الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً.

فإنّه يقال: أوّلاً: يمكن أن يقال بأنّ كلاً من الوضع والموضوع له فيها يكون عامّاً كالأسماء.

وثانياً: إنّ أداة الاستثناء إنّما تستعمل في النسبة الإخراجيّة، بلا فرق بين أن يكون المستثنى والمستثنى منه واحداً أومتعدّداً، فإنّ تعدّد المستثنى والمستثنى منه لا يوجب تعدّد النسبة الإخراجيّة.

فلا تنافي بين تعدّد الإخراج وبين أن تكون النسبة جزئيّة؛ لوضوح أنّه يمكن إخراج المستثنى من تحت عناوين متعدّدة بإخراجٍ واحد، كما في مثل: (أكرم العلماء والزهّاد والسادات إلّا النحويّين) إذا كان قصده إخراج النحويّين من الجميع أو من خصوص الأخيرة؛ لأنّها غالباً ما

ص: 441

تستعمل في إخراج ما بعدها عن حكم ما قبلها.

ولا يلزم أن يكون هناك استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، حتى ولو فرض بأنّ المستثنى شخص واحد وهو زيد - مثلاً -، نعم، لو كان هناك المسمّى بزيد شخصين اثنين، أحدهما: زيد عمرو، والآخر: زيد بن بكر، واُريد إخراج أحدهما من جملة وإخراج الآخر من جملة أُخرى يكون استعمال اللّفظ - حينئذٍ - من باب استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى.

اللّهمّ إلّا أن يريد (المسمّى بزيد) الذي هو عنوان جامع بين الشخصين المذكورين، ولكنّ هذا ليس من جهة مفاد أداة الاستثناء، وإنّما هو من ناحية إرادة معنيين اثنين من مدخولها، وهو (زيد) - مثلاً - إذا لم يُرَد به المسمّى بزيد.

تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمفهوم

المفهوم - كما عرفنا آنفاً - على قسمين: المفهوم المخالف والمفهوم الموافق.أمّا المفهوم المخالف، فهو المفهوم الذي يكون مخالفاً لمنطوقه من ناحية السلب والإيجاب، كما في مثل: (الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء)، فإنّ مفهومه: (إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه شيء) أو (كلّ شيء)، فلو ورد في رواية - مثلاً - (الماء كلّه طاهر)، كان له عموم، وهذا

ص: 442

العموم في صورة المعارضة بينه وبين المفهوم المخالف يكون هذا المفهوم مخصِّصاً له.

وأمّا المفهوم الموافق، فهو المفهوم الذي يكون موافقاً للمنطوق في السلب والإيجاب، كالمفهوم المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ٍ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾(1)، فإنّه يدلّ بالمفهوم على عدم جواز ضربهما بطريقٍ أولى.

وقد تعرّض المحقّق النائيني(قدس سره) إلى هذا البحث، فذكر أنّ «المفهوم الموافق يكون على نحو الأولويّة تارةً، وعلى نحو المساواة أُخرى، والأوّل إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأولويّة من المدركات العقليّة، وأمّا إذا كانت عرفيّةً... فالمدلول خارج عن المفهوم وداخل في المداليل اللّفظيّة العرفيّة.

وأمّا الثاني: فهو يتحقّق غالباً فيما إذا كانت علّة الحكم منصوصةً، ونعني به ما إذا كانت العلّة المذكورة فيه واسطةً في العروض لثبوت الحكم للموضوع المذكور في القضيّة بأن يكون الموضوع الحقيقيّ هو العنوان المذكورفي التعليل، ويكون ثبوته للموضوع المذكور من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، كما في قضيّة: (لا تشرب الخمر فإنّه مسكر)، فإنّها ظاهرة في أنّ موضوع الحرمة فيها إنّما هو عنوان

ص: 443


1- الإسراء: الآية 23.

المسكر، وحرمة الخمر إنّما هي من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، فيسري الحكم - حينئذٍ - إلى كلّ مسكر، فلا تبقى للخمر خصوصيّة في الحكم المذكور في القضيّة.

وأمّا إذا كانت العلّة المذكورة في القضيّة واسطةً في الثبوت ومن قبيل دواعي جعل الحكم على موضوعه من دون أن يكون هو الموضوع في الحقيقة، كما في قضيّة: (لا تشرب الخمر لإسكاره)، فإنّها ظاهرة في أنّ موضوع الحرمة فيها إنّما هو نفس الخمر، غاية الأمر: أنّ الداعي إلى جعل الحرمة عليها إنّما هو إسكارها.

فلا يسري الحكم إلى غير الموضوع المذكور في القضيّة ممّا يشترك معه في العلّة المذكورة فيها، إذ يُحتمل - حينئذٍ - أن تكون في خصوص العلّة المذكورة في القضيّة خصوصيّة داعية إلى جعل الحكم على الموضوع المذكور فيها، وأن لا تكون هذه الخصوصيّة موجودة في غيرها ممّا يشترك معها في الحقيقة والعنوان.

فإذا احتمل أنّ في خصوص إسكار الخمر - مثلاً - خصوصيّةً داعيةً إلى جعل الحرمة عليها، لم يمكن الحكم بحرمة غيرها ممّا يشترك معها في أثر الإسكار، وهذا الذيذكرناه هو الميزان في تسرية الحكم من الموضوع المذكور في القضيّة إلى غيره وعدمها»(1).

ص: 444


1- أجود التقريرات 1: 498 - 499.

ثمّ تعرّض(قدس سره)لتحقيق البحث في مفهوم الموافقة بقسميه، وكلامه طويل، وملخّص ما أفاده:

أمّا في مفهوم الموافقة بالأولويّة، فذكر) أنّه ربّما يُدَّعى تقدّم هذا المفهوم على العموم بدعوى:

«أنّ المعارض للعامّ إن كان هو نفس المفهوم بمجرّده، فلابدّ من تقديم المفهوم عليه مطلقاً، سواء كانت النسبة بينهما بالعموم من وجه أم كانت بالعموم والخصوص على الإطلاق، فإنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق - مع أنّ المفروض لزومه له بنحو الأولويّة - أمر غير ممكن، وأمّا رفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه - مع عدم كونه معارضاً للعموم - فلا وجه له، وعليه: فيتعيّن التصرّف في العموم، وتخصيصه بغير مورد المفهوم لا محالة».

ولكنّه ناقشه(قدس سره)بما حاصله:

أنّ المنطوق كما يدلّ بالأولويّة على حكمٍ آخر منافٍ للعامّ، فكذلك العامّ يدلّ بالأولويّة على ما ينافي حكم المنطوق؛ وذلك لأنّ العامّ بعمومه ينفي الحكم عن مورد المفهوم، فهو يدلّ بالأولويّة على نفي حكم المنطوق، فيقع التعارض بين المنطوقين:فإن كان المنطوق أخصّ مطلقاً من العموم، كما لو ورد (لا تكرم الفسّاق)، وورد (أكرم فسّاق خدّام العلماء)، الدالّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء، كان المفهوم مقدّماً على العامّ، ولو كانت النسبة بينهما هي

ص: 445

العموم من وجه - كما في المثال -، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق؛ لأنّه أخصّ مطلقاً من العموم، فيُقَدَّم عليه، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامّين من وجهٍ على الآخر لمرجّحٍ فيه.

وإن كان بين المنطوق والعامّ عموم من وجه، كما لو ورد: (لا تكرم الفسّاق)، وورد: (أكرم خدّام العلماء)، الدالّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء، فإن قدّم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدّماً على العموم في ذلك المورد أيضاً، وإن قدّم العموم على المنطوق فخرج الخادم الفاسق عن المنطوق، فلا يثبت بالأولويّة إلّا وجوب إكرام العلماء العدول، فلا تعارض بينهما حينئذٍ.

هذا بالنسبة إلى مفهوم الموافقة بالأولويّة.

وأمّا مفهوم الموافقة بالمساواة فقال فيه:

«فيظهر الحال فيه على قسميه ممّا ذُكر في المفهوم الموافق على نحو الأولويّة، فإنّه إذا كانت النسبة بين منطوق الكلام المستفاد منه المفهوم وما له العموم نسبة العموم والخصوص مطلقاً، قدّم المفهوم على العموم، ولو كانت النسبة بين أنفسهما نسبة العموم والخصوص من وجه، وأمّا إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العمومنسبة العموم من وجه، فيأتي فيه

ص: 446

التفصيل المتقدّم»(1).

وأمّا مفهوم المخالفة، فلا شكّ في أنّه يخصّص العامّ إذا كان بين المفهوم والعامّ عموم وخصوص مطلق، أي: أنّ العامّ المنطوقيّ يخصّص بالخاصّ المفهوميّ أيضاً؛ لأنّه لا فرق بين المفهوم والمنطوق، فالأوّل يكون مدلولاً التزاميّاً والثاني مدلول مطابقيّ أو تضمّني، هذا إذا كانت دلالة كلّ منهما بالوضع.

أمّا إذا كانت دلالة العامّ بالوضع ودلالة المفهوم بمقدّمات الحكمة، فحيث إنّ أحد الشروط المعتبرة في صحّة الأخذ بمقدّمات الحكمة هو عدم وجود بيان وظهور منجَّز على خلاف ما تقتضيه، فيكون العامّ - الذي فرضنا أنّ دلالته على العموم بنحو الدلالة الوضعيّة - بياناً، فيؤخذ به.

وأمّا إذا كانا كلاهما يدلّان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، فهل يكون المرجع - حينئذٍ - هو التساقط والإجمال، خصوصاً إذا كانا في كلام واحد؟ أم أنّ المفهوم هو الذي يقدّم على العامّ؟

الحقّ: لزوم تقديم المفهوم على العامّ؛ لأنّ المفهوم لو كانت دلالته مستفادة من الوضع فإنّه يقدّم على العامّ، حتى لو كانت دلالة العامّ على العموم مستفادة من الوضع أيضاً، فكذلك إذا كانت دلالة كلّ منهما بالإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة؛ إذ بعد جريان مقدّمات الحكمة في

ص: 447


1- المصدر نفسه 1: 501.

جانب المفهوم، يكون المفهوم قرينةً صالحةً لبيان أنّ مراد المتكلّم من العامّ الذيأورده في كلامه إنّما هو الخاصّ، هذا إذا كان النسبة بينهما هي العموم المطلق.

ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) من «أنّه إذا ورد العامّ وما له المفهوم في كلامٍ أو كلامين، ولكن على نحوٍ يصلح أن يكون كلّ منهما قرينةً متّصلةً للتصرّف في الآخر، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كلٍّ منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة، أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحدٍ منهما لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك، فلابدّ من العمل بالاُصول العمليّة فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، وإلّا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر»(1).

وحاصله: أنّهما إذا كانا يُعدّان في نظر العرف في كلامٍ واحدٍ أو كلامين، فإن كان منشأ الظهور في كلّ منهما هو الوضع أو مقدّمات الحكمة، ففي كلتا هاتين الصورتين، لا مفهوم ولا عموم.

اللّهم إلّا أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، أمّا في الصورة الثانية

ص: 448


1- كفاية الاُصول: ص 233 - 234.

فلعدم تماميّة مقدّمات الحكمة؛ لأنّ تماميّتها - كماهو معلوم - في كلّ واحدٍ منهما تتوقّف على عدم تماميّتها في الآخر.

ومعه: فلا يبقى منشأ للظهور في كلّ منهما. وأمّا في الصورة الأُولى، فلتزاحم الظهورين.

نعم، يقدّم ما هو الأظهر لو كان، فيكون مانعاً إمّا عن أصل انعقاد الظهور في الآخر، وإمّا عن استقراره فيه بعد فرض انعقاده، فإن لم يكن ثمّة أظهر، كان لابدّ من العمل على وفق ما تقتضيه الاُصول العمليّة فيما دار فيه بين العموم والمفهوم.

ثمّ قال): «ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتّصال، وأنّه لابدّ أن يعامل مع كلٍّ منهما معاملة المجمل، لو لم يكن في البين أظهر، وإلّا، فهو المعوّل، والقرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل»(1).

وقد يقال:

إنّه لا يمكن تقديم المفهوم المخالف على العامّ وتخصيص الكتاب به، وذلك للأخبار المستفيضة بل المتواترة، التي دلّت على أنّ أيّ خبر يكون مخالفاً للكتاب فلابدّ من طرحه، أو أنّه يكون من الباطل أو الزخرف.

ص: 449


1- المصدر نفسه: ص 234.

ولكنّ الجواب عن ذلك:

أوّلاً: أنّه لو أخذنا بعموم هذه الأخبار، فلابدّ أن نقول بطرح المنطوق - أيضاً - في صورة مخالفة ظاهر الخبرللكتاب، وأنّه يكون باطلاً وزخرفاً، فلا معنى - حينئذٍ - لاختصاص المنع بالمفهوم.

وبالجملة: فلو سلّمنا هذا الدليل، فهو أعمّ من المدّعى؛ لأنّه كما يُثبت - على فرض تماميّته - عدم صحّة الأخذ بالمفهوم وتخصيص الكتاب به، فهو كذلك يُثبت عدم صحّة الأخذ بالمنطوق وتخصيص الكتاب به، والتفريق بينهما تحكّم وصرف دعوىً بلا دليلٍ عليها.

وثانياً: لا نسلّم أنّ الخبر المخالف بمفهومه لظاهر الكتاب بمجرّد العموم والخصوص المطلق يندرج تحت المخالفة التي توجب ردّ الخبر وعدّه باطلاً وزخرفاً، بل كون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق لا تعدّ بنظر العرف مخالفةً للكتاب.

وثالثاً: سلّمناه، ولكنّ لازمه أن تخصّص هذه الروايات بغير هذه الموارد؛ لأنّ المخالفة من هذا النوع قد وردت عنهم( كثيراً.

هل يجوز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد أم لا ؟

الحقّ: جواز ذلك، كما عليه صاحب الكفاية(قدس سره)، وهذا نظير جواز تخصيص الكتاب بالكتاب، وبالخبر المتواتر المفيد للقطع بالصدور، وبالخبر الواحد القطعيّ الصدور بسبب احتفافه بالقرائن القطعيّةالتي

ص: 450

تكون سبباً للقطع بالصدور.قال الآخوند الخراساني):

«الحقّ: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من خبر الواحد بلا ارتياب...»(1).

وقد استُدِلّ للجواز بقيام سيرة المتشرّعة على ذلك، وهي متّصلة بزمان المعصوم%، فإنّ الأصحاب كانوا على العمل بأخبار الآخاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(.

وقد استشكل في الاستدلال بهذه السيرة بما حاصله: أنّ عملهم بتلك الأخبار غير العلميّة، لعلّه كان من جهة كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة، وكانت هذه القرائن معلومة عندهم، ولكنّها ضاعت ولم تصل إلينا.

وفيه: أوّلاً: أنّه لو كان لبان، مع كثرة تلك الموارد، بحيث نعلم يقيناً بقيام سيرة عظيمة على العمل بخبر الواحد في قبال العمومات.

وثانياً: أنّه لو قلنا بعدم جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد للزم إلغاء حجّيّة أخبار الآحاد مطلقاً، وسدّ باب العمل بها بالكلّيّة، لوضوح أنّه قلّما يوجد مورد لم يكن فيه مخالفة للكتاب من هذا النحو.واستدلّ المانعون: بأنّ الكتاب قطعيّ الصدور، والخبر الواحد ظنّيّ

ص: 451


1- كفاية الاُصول: ص 235.

الصدور، ولا يصلح الظنّيّ لتخصيص القطعيّ.

وأُجيب عنه: بالنقض تارةً والحلّ أُخرى:

أمّا النقض، فحاصله: أنّه لو لم يمكن تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لكونه قطعيّ الصدور، لم يمكن تخصيص الخبر المتواتر به لكونه قطعيّ الصدور أيضاً، مع أنّ جواز تخصيص الخبر المتواتر بأخبار الآحاد محلّ اتّفاق عندهم.

وأمّا الحلّ، فبأنّ التمسّك بأصالة العموم إنّما يكون جائزاً فيما لو لم يكن ثمّة قرينة على الخلاف، والخبر الواحد بدلالته وسنده يصلح لأن يكون قرينة على الخلاف.

وأمّا أصالة العموم فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن أخبار الآحاد بعد نهوض أدلّة حجّيّتها، وبعد كون مورد أصالة العموم منحصراً - كما عرفنا - بصورة عدم قيام ما يصلح للقرينيّة على التخصيص.

وأمّا الأخبار الواردة بطرح ما يخالف القرآن:

فأوّلاً: لا نسلّم أنّها بإطلاقها تشمل ما إذا كان النسبة بين الكتاب والخبر نسبة العموم المطلق.

وثانياً: أنّه حتى لو أخذنا بإطلاق هذه الأخبار، ولم نحملها على خصوص ما لو كانت المخالفة بينهما بنحو التباين، فلابدّ من الالتزام بتخصيص هذه المخالفة بغير صورة المخالفة بالعموم والخصوص، وإلّا، كان لابدّ من طرح كثير منالأخبار التي عُلِم صدورها عن

ص: 452

المعصومين( مع كونها مخالفةً للكتاب بالعموم والخصوص.

وثالثاً: أنّ مثل هذه المخالفة لا تعدّ - كما عرفنا آنفاً - مخالَفةً للكتاب في نظر العرف؛ لأنّ المخالفة العرفيّة هي التي توجب تخيّرهم، والمخالفة بالإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص ليس كذلك.

وأمّا ما استدلّ به للمنع: من أنّه لو جاز تخصيص العامّ الكتابيّ بأخبار الآحاد لجاز نسخ الكتاب بخبر الواحد أيضاً؛ لأنّهما - أعني: التخصيص والنسخ - من وادٍ واحد، إذ النسخ في الحقيقة ما هو إلّا تخصيص أزمانيّ، وحيث إنّه قد قام الإجماع على عدم جواز النسخ بخبر الواحد، فيدلّ ذلك على عدم جواز التخصيص به أيضاً.

فقد ردّه في الكفاية بقوله:

«والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما؛ لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص»(1).

ص: 453


1- كفاية الاُصول: ص 237.

ص: 454

مبحث المطلق والمقيّد

اشارة

ولابدّ فيه من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ الإطلاق لغةً بمعنى الإرسال(1)، كما يقال: (أطلق عنان فرسه)، أي: أرخاه وأرسله، ويقابله التقييد.

وليس للاُصوليّن في الإطلاق والتقييد معنى خاصّ؛ فلا يحتاجان إلى تعريف اصطلاحيّ؛ لأنّهما من الاُمور الواضحة، فالتعاريف التي تُذكر لهما، كتعريف المطلق - مثلاً - بأنّه «ما دلّ على شائع في جنسه»، فإنّما يكون من باب التعريف اللّفظيّ الذي حقيقته استبدال لفظٍ بلفظٍ آخر أوضح منه دلالةً. كما قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«عُرّف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه، وقد أشكل عليه بعض

ص: 455


1- انظر - مثلاً -: مجمع البحرين 3: 57 - 58.

الأعلام بعدم الاطّراد والانعكاس، وأطال الكلام في النقض والإبرام، وقد نبّهنا في غير مقامعلى أنّ مثله شرح الاسم، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس، فالأَولى الإعراض عن ذلك...»(1).

الأمر الثاني:

عُرّف المطلق - كما ذكرنا - بأنّه: «ما دلّ على شايع في جنسه»، والمراد: أنّ اللّفظ المطلق يكون شاملاً لجميع ما يصلح أن تنطبق عليه الطبيعة، فإنّ قولك: (أكرم عالماً) - مثلاً -، يصدق على كلّ فردٍ فردٍ من أفراد طبيعة العالم، وبما أنّ صدقه على الجميع هو على نحو البدليّة، فيكون دالّاً على فردٍ غير معيّن من الطبيعة، وهذا هو معنى قابليّته للانطباق على أفرادٍ كثيرة مندرجة تحت الجنس على سبيل البدل، بعد الفراغ عن شمول الجنس لهذا الفرد ولغيره.

الأمر الثالث:

الإطلاق كالعموم، فهو تارةً: يكون شموليّاً ومأخوذاً على نحو الاستغراق، وأُخرى: يكون بدليّاً، وثالثةً: يكون مجموعيّاً.

ولا يخفى: أنّ تقسيمه إلى هذه الأقسام إنّما هو بالإطلاق وببركة جريان مقدّمات الحكمة، وأمّا العامّ، فانقسامه إليها إنّما يكون ناشئاً عن الوضع.

ص: 456


1- كفاية الاُصول: ص 243.

كما لا يخفى: أنّ الإطلاق في هذه الأقسام إنّما هو باعتبار كيفيّة تعلّق الأحكام بالطبائع والماهيّات، وإلّا، فالإطلاق في الجميع بمعنىً واحد، وهو الشمول لجميع ما تنطبق عليه الطبيعة.

الأمر الرابع:

أنّ الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافيّة، بمعنى: أنّه يمكن أن يكون الشيء الواحد مطلقاً من جهة، ومقيّداً من جهة أُخرى.

الأمر الخامس:

أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس هو تقابل التضادّ أو تقابل السلب والإيجاب، بل إنّما هو تقابل العدم والملكة، فالشيء يقال له: إنّه مطلق إذا كان قابلاً للتقييد.

وأمّا أنّ تقابله ليس بتقابل التضادّ؛ فلأنّ الإطلاق إنّما يثبت بمقدّمات الحكمة، وليس أمراً وجوديّاً يثبت بالوضع، وليس معنى كون الإطلاق يثبت بمقدّمات الحكمة إلّا أنّه عبارة عن عدم تقييد الماهيّة بقيد وجوديّ أو عدميّ في المورد الذي يكون قابلاً للتقييد، فإذا لم تكن الماهيّة قابلة للتقييد فهي - في فرض تجرّدها من القيد الوجوديّ أو العدميّ - لا تُسَمّى ﺑ (المطلق) اصطلاحاً.وبهذا يظهر: أنّ التقابل بينهما ليس من باب تقابل السلب والإيجاب،

ص: 457

فإنّ الإطلاق وإن كان أمراً عدميّاً إلّا أنّه مقيّد بأمرٍ وجوديٍّ وأن تكون للماهيّة القابليّة للتقييد.

وبعبارة أُخرى: فلا مجال لأن يكون التقابل بينهما من نوع تقابل السلب والإيجاب؛ لأنّ هذا النوع من التقابل إنّما يكون بين وجود الماهيّة وعدمها، بحيث لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، وأمّا الإطلاق والتقييد، فليسا كذلك؛ فإنّهما يرتفعان عن موردٍ لا يكون قابلاً للتقييد، فيكون التقابل بينهما - لا محالة - من باب التقابل بين البصر والعمى، وذلك أنّه يصدق الإطلاق على الماهيّة فيما إذا كان الحكم يسري منها ليشمل المقيّد وغيره، بحيث لو لم يكن مقسماً لهما امتنع الإطلاق؛ إذ لا معنى للقول بشمول الحكم وسريانه إلى مورد المقيّد وغيره، بعد أن لم يكن مورد الحكم واحداً من أقسامه.

وعلى هذا الأساس: فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ومن هنا، فإذا شكّ في واجبٍ ما أنّه توصّليّ أو تعبّديّ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق - أي: إطلاق متعلّق الوجوب - لإثبات أنّه توصّليّ، نظراً إلى امتناع تقييده بقصد الأمر الذي هو متأخّر عن الأمر نفسه، كما بُيّن ذلك في محلّه.

وإذا اتّضحت هذه الاُمور المتقدّمة، فالأَولى صرف البحث نحو الكلام عن بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) من هذه الألفاظ: «اسم الجنس، ﻛ (إنسان) و(رجل) و(فرس)

ص: 458

و(حيوان) و(سواد)و(بياض)، إلى غير ذلك من أسماء الكلّيّات، من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات...»(1).

وكأنّ مراده من الجواهر ما يكون كالإنسان والحيوان والماء وغيرها من الجواهر، ومراده من العرض ما يكون كالسواد والبياض وغيرهما من الأعراض، وأمّا مراده من العرضيّات فهي الاُمور الاعتباريّة التي يكون موطنها هو وعاء الاعتبار، كالملكيّة والزوجيّة والحريّة.

مع أنّه - كما ذكر بعض الشارحين)(2) - فإنّ المراد من الأعراض عند أهل المعقول هو المبادئ، أعمّ من أن تكون متأصّلة، كالسواد والبياض، أم اعتباريّةً، كالملكيّة والزوجيّة. والمراد بالعرضيّات عندهم إنّما هو المشتقّ من تلك المبادئ كالأبيض والمالك، وقد خالف الآخوند) هذا الاصطلاح؛ إذ نجد أنّه إنّما أراد بالأعراض خصوص ما يكون متأصّلاً منها، كالسواد، بينما أراد بالعرضيّات خصوص ما هو اعتباريّ منها، كالملكيّة.

الكلام في اعتبارات الماهيّة:

ثمّ إنّ الماهيّة تارةً تعتبر وتلاحظ «مطلقةً»، ومعنى كونها مطلقة: أي: عدم تقيّدها بقيدٍ وعدم تخصّصها بأيّة خصوصيّة. وتارةً تلاحظ

ص: 459


1- كفاية الاُصول: ص 243.
2- انظر: منتهى الدراية 3: 680.

«مخلوطةً»، ومعنى كونها مخلوطةً: أنّهالوحظت بما هي متخصّصة بخصوصيّة ما. وثالثةً تلاحظ «مجرّدة»، وذلك عندما تُلحظ مفارقةً لجميع الخصوصيّات التي يمكن أن تطرأ عليها، من العوارض والمشخصّات، أو فقل: عند ملاحظتها وقد حُذِف منها جميع العوارض وقد جُرِّدت عن كافّة الطوارئ.

ولك أن تبيّن الاعتبارات الممكنة للماهيّة ببيانٍ آخر، بأن يقال:

تارةً: تلاحظ الماهيّة تلاحظ من حيث هي، بحيث يكون الملحوظ فقط هو نفس ذاتها، كالإنسان ملحوظاً بما هو إنسان، أي: بما له من الذات والذاتيّات، فلا يكون المنظور إليه إلّا الإنسانيّة وما أُخذ فيها من الحيوانيّة الناطقيّة.

وبهذا اللّحاظ يقال: إنّ الماهيّة من حيث هي ليس إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة، ولا كلّيّة ولا جزئيّة، ولا واحدة ولا كثيرة، والماهيّة الملحوظة بهذا اللّحاظ تسمّى ﺑ «الماهيّة المهملة»، والتي هي فوق المقسم، بمعنى: أنّها بهذا الاعتبار لا تكون قسماً ولا مقسماً بعد؛ فإنّه حتى اعتبار المقسميّة يكون - أيضاً - متأخّراً عن هذه المرتبة؛ إذ اعتبار المقسميّة في رتبة ملاحظة الماهيّة غير مقيّدة بأحد الاعتبارات، أعني: اعتبارها لا بشرط أو بشرط شيء أو بشرط لا، والماهيّة بهذا الاعتبار لا يُنظر فيها إلّا إلى نفسها وذاتها، وأسماء الأجناس موضوعة للماهيّة التي في هذه المرتبة.

ص: 460

وأُخرى: تلاحظ الماهيّة مع ما هو خارج عن ذاتها، وحينئذٍ:أ. فتارةً: تلاحظ بشرط شيء، أي: بأن تلاحظ الماهيّة بالإضافة إلى شيءٍ يكون خارجاً عن ذاتها، كلحاظ ماهيّة الإنسان - مثلاً - مقترنة بالإيمان. وهي «الماهيّة بشرط شيء».

ب. وثانيةً: تلاحظ بالإضافة إليه مشروطةً بعدمه، كلحاظ ماهيّة الرقبة بشرط عدم اقترانها الكفر، وتسمّى «الماهيّة بشرط لا».

ج. وثالثةً: تلاحظ بالإضافة إليه لا بشرط عن الاقتران به أو الاتّحاد معه، فتكون لا بشرط من ناحية هذا القيد وعدمه، وهذا هو «الماهيّة اللّابشرط القسميّ».

وأمّا اللّابشرط المقسميّ، وهو أن لا يلاحظ في الماهيّة حتى هذا الاعتبار، أي: اعتبار أن تكون لا بشرط، فهو عبارة عن لحاظ الماهيّة مع الخارج عن ذاته حال كونه غير مشروطٍ لا بوجوده ولا بعدمه، فتكون الماهيّة بهذا الاعتبار لا بشرط بالنسبة إلى ذلك الخارج، ولم يلاحظ فيها حتى لحاظ اللّابشرطيّة تجاهه.

وخلاصة الكلام: أنّ الفرق بين الماهيّة المهملة (اللّا بشرط المقسميّ)، وبين الماهيّة (اللّا بشرط القسميّ)، أنّ النظر في الأولى يكون منحصراً إلى داخل ذاتها، وليس هناك نظر أصلاً إلى ما يكون خارجاً عن ذاتها، ولا يلتفت بهذا اللّحاظ إلّا إلى ذاتها ومكوّناتها الداخليّة. وأمّا الثانية فالنظر فيها ليس إلى الماهيّة وحدها، بل إليها مع خصوصيّة تكون خارجةً عنها.

ص: 461

وبهذا يتّضح الوجه فيما ذكرناه من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة، فما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّ «الحقّ هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللّابشرط المقسمي، كما هو مقالة السلطان، وليست موضوعة بإزاء اللّابشرط القسميّ، كما هو مقالة المشهور..»(1)، في غير محلّه.

والسرّ في ذلك: أنّ اللّابشرط المقسميّ توخذ فيه الماهيّة ملحوظةً بالقياس إلى ما هو خارج عن الذات، فتكون حينئذٍ غير مقيّدة بهذا الأمر الخارج، ووضع الألفاظ ليس كذلك، بل هو إنّما يكون بالنظر إلى ذات المعنى؛ ضرورة أنّ الواضع حين الوضع لا نظر له إلّا إلى الذات، بمعنى: أنّ نظره مقصور عليها، وأنّه لا نظر له إلى كلّ ما يكون خارجاً عنها، وبالتالي: فلا مجال لأن يأتي فيه شيء من تلك الاعتبارات الثلاثة، فيمتنع أن يكون المعنى الموضوع له هو الماهيّة اللّابشرط المقسميّ، فضلاً عن اللّابشرط القسميّ.

وإنّما الموضوع له - كما ذكرنا - هو ذات المعنى من دون أن يُلاحظ معه أيّ شيءٍ يكون خارجاً عن مقام ذاته، وهو ليس إلّا الماهيّة المأخوذة مهملةً، من دون أن يكون هناك نظر حتى إلى لا بشرطيّتها ولا إلى بشرط لائيّتها ولا إلى بشرط شيئيّتها.

ص: 462


1- فوائد الاُصول 2: 572.

وكيف كان، فملخّص الفرق بين اللّا بشرط القسميّ واللّا بشرط المقسميّ: أنّ الأوّل يتقوّم بلحاظ الماهيّة غير مقيّدة بالخصوصيّة التي قيست بالنسبة إليها، وأمّا الثاني فليس إلّا عبارة عن الماهيّة غير مقيّدة بأحد هذه الاعتبارات، حتى اللّابشرطيّة، وبذلك فقط كانت صالحةً لأن تشمل جميع الاعتبارات الثلاثة، وأن تكون مقسماً لها، ولولا ذلك لم يجز هذا التقسيم أصلاً، لعدم كون المقسم - حينئذٍ - سارياً في جميع الأقسام.

ومعلوم: أنّ هذا هو شرط صحّة كلّ تقسيم، كما في تقسيم الكلمة - مثلاً - إلى أقسامها الثلاثة؛ فإنّه لولا سراية الكلمة إلى جميع أقسامها وكونها محفوظةً في الجميع، بأن كان كلّ واحدٍ من هذه الأقسام عبارةً عن المقسم ملحوظاً مع قيدٍ زائد، لم يكن ثمّة مجال لتصحيح هذا التقسيم أصلاً.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّ اللّابشرط القسميّ هو عبارة عن لحاظ الماهيّة بشرط الإطلاق والسريان.

ولكن لا يخفى: أنّه توهّم فاسد، إذ لو كان كذلك لكان نظير الكلّيّ العقليّ، فلا يكون له قابليّة الانطباق على الخارجيّات، بل يكون - حينئذٍ - راجعاً إلى البشرط لا، فلا يكون متّحداً في وجوده مع واجد الخصوصيّة وفاقدها، ولا يكون قابلاً لأن يُحمل على كليهما؛ إذ إنّ اللّابشرط القسميّ هو في قبال القسمين الآخرين، وحيث إنّ هذين القسمين عبارة عن كون

ص: 463

الماهيّة مقيّدةً بوجود الخصوصيّة أو بعدمها، فلابدّ وأن يكون اللّابشرط القسميّ عبارة عن الماهيّة غير مقيّدة، لابوجود تلك الخصوصيّة الخارجة عن مقام الذات، ولا بعدمها، ومن هنا، كان لابدّ من عدم كونها هي في حدّ نفسها مقيّدةً حتى بالإرسال والإطلاق والسريان.

وإلى ما ذكرناه من الأقسام أشار المحقّق الأصفهاني) بقوله:

«اعلم أنّ كلّ ماهيّة من الماهيّات إذا لوحظت وكان النظر مقصوراً عليها بذاتها وذاتيّاتها من دون نظر إلى الخارج عن ذاتها فهي الماهيّة المهملة التي ليست من حيث هي إلّا هي، وإذا نظر إلى الخارج عن ذاتها ففي هذه الملاحظة لا يخلو حال الماهيّة عن إحداث اُمور ثلاثة:

أحدها: أن تلاحظ بالإضافة إلى الخارج عن ذاتها مقترنةً به بنحوٍ من الأنحاء، وهي (الماهيّة بشرط شيء).

وثانيها: أن تلاحظ بالإضافة إليه مقترنةً بعدمه، وهي (الماهيّة بشرط لا).

وثالثها: أن تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنةً به، ولا مقترنةً بعدمه، وهي (الماهيّة لا بشرط).

وحيث إنّ الماهيّة يمكن اعتبار هذه الاعتبارات والقيود معها بلا تعيّنٍ لأحدها، فهي - أيضاً - لابشرط من حيث قيد البشرط بشيء وقيد البشرط لا وقيد اللّابشرط، فاللّابشرط حتى عن قيد اللّابشرطيّة هو (اللّابشرط المقسميّ)، واللّابشرط بالنسبة إلى القيود التي يمكن اعتبار اقترانها وعدم اقترانها هو (اللّابشرط القسمي).

ص: 464

ومن هذا البيان ظهر: أنّ المعنى الذي لوحظ بالنسبة إلى القيد الخارج عن ذاته لا بشرط هو اللّابشرط القسميّدون المقسمي، واللّابشرط المقسميّ هو اللّابشرط من حيث اعتبار اللّابشرطيّة واعتبار البشرط لائيّة واعتبار البشرط شيء، لا اللّابشرط من كلّ حيثية...»(1).

فإذا عرفت جميع ما قدّمناه، نقول:

إن قلنا بوضع الألفاظ وأسماء الأجناس للماهيّة المهملة أو اللّابشرط المقسميّ، فلابدّ في فهم الإطلاق من التمسّك بمقدّمات الحكمة، وأمّا لو قلنا بأنّها موضوعة للّابشرط القسميّ، فحينئذٍ يكون الإطلاق والإرسال مدلولاً للّفظ نفسه، ولا يحتاج إثباته إلى مقدّمات الحكمة.

مقدّمات الحكمة:

وحيث قد عرفنا أنّ الألفاظ وأسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة، فإذا أردنا إثبات الإطلاق فيها، فلابدّ لنا من إحراز توفّر مقدّمات الحكمة، وهي اُمور عدّة:

الأمر الأوّل: لمّا كان التقابل بين الإطلاق والتقييد - كما ذكرنا آنفاً - هو تقابل العدم والملكة، فلابدّ للمورد الذي نريد إثبات إطلاقه أن يكون قابلاً للتقييد، بحيث لا يكون من قبيل الخصوصيّات التي تطرأ على الطبيعة

ص: 465


1- نهاية الدراية 1: 664 - 665.

والماهيّة بعد فرض تعلّق الخطاب بها، وأن لا يكون من الانقسامات الثانويّة؛ وذلك لأنّه إذا قلنا بأنّ المتعلّق مقيّد بخصوصيّةٍ من هذا القبيل، هو أنّ تلك الخصوصيّة تكون متقدّمة على ذلكالخطاب؛ لأنّ المتعلّق بجميع قيوده وخصوصيّاته مقدّم قطعاً على الخطاب المتعلّق به؛ كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، ولذا ترجع جميع القيود إلى الموضوع، كما في قوله تعالى: ﴿وَ لله ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، أي: أيّها المستطيع حجّ.

وذلك لأنّ نسبة الخطاب إلى متعلّقه هي نسبة العرض إلى معروضه، فإذا فرض أنّ الخصوصيّة تكون متأخّرة عن الخطاب، مع كونها إنّما جاءت من قبل الخطاب نفسه، فلا يكاد يمكن أخذها في المتعلّق؛ لاستلزامه أخذ ما هو متأخّر عن الشيء فيما هو متقدّم عليه، واستحالته بيّنة؛ لوضوح استلزامه لأن يكون ما هو متأخّر عن الشيء متقدّماً عليه.

وحينئذٍ: فإذا فرض امتناع المتعلّق بها، لم يكن من الممكن جريان الإطلاق بالنسبة إليها، لما ذكرناه من أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكناً في المورد الذي يكون قابلاً للتقييد، كالانقسامات الأوّليّة، دون ما لا يكون قابلاً للتقييد، كالانقسامات الثانويّة، من أمثال قصد القربة والأمر، والعلم

ص: 466


1- آل عمران: الآية: 97.

والجهل بالحكم، حيث تأتي هذه الاُمور من قبل الخطاب وتكون متأخّرة عن المتعلّق.

الأمر الثاني: يجب أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الناحية التي نريد الأخذ بإطلاقها، وهذا معنى ما يقال من أنّ: أصالة الإطلاق إنّما تجري إذا كان المولى في مقام البيان، وأمّا لو لم يكن المولى في مقام البيان، بأن كان في مقام أصلالتشريع وإقرار الحكم، كما يُحمل عليه قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ الله ُ الْبَيْعَ﴾(1)؛ فإنّه من الواضح - حينئذٍ - عدم جواز الأخذ بإطلاقه لإثبات حلّيّة كلّ البيوع.

وكذا الحال فيما لو أحرزنا أنّ المولى كان في مقام البيان، ولكن لا من الجهة التي نريد أن نأخذ بإطلاقها، بل من جهةٍ أُخرى، كما في قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾(2)؛ فإنّ الظاهر كونه في مقام بيان الحلّيّة، وأنّ ما أمسكه الكلب يكون كالمذكّى، وليس بميتة، وليس في مقام بيان طهارة الموضوع الذي عضّه الكلب، وأنّه يجوز أكله ولو لم يغسل ذلك المورد، وعلى هذا الأساس، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق من جهة الطهارة.

ثمّ إنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، وإن كانت من الاُصول

ص: 467


1- البقرة: الآية 275.
2- المائدة: الآية 4.

العقلائيّة، ولكنّها إنّما تجري عند العقلاء في مورد شكّ في أنّ المتكلّم هل كان بصدد البيان أم الإجمال والإهمال، وأمّا لو كان مورداً أحرزنا فيه كون المتكلّم في مقام أصل التشريع، أو في مقام بيان حكمٍ آخر، أو في مقام البيان لكن ليس من جميع الجهات، فلا يجري الأصل المذكور.

الأمر الثالث: عدم وجود قيد متّصل أو منفصل، إذ مع وجود القيد المتّصل فلا يبقى للمطلق ظهور في الإطلاق،ومع وجود القيد المنفصل، فلا تبقى حجّيّة لذلك الظهور في الإطلاق في مورد عدم القيد، فينتج ذلك: عدم إمكان الأخذ بالإطلاق.

الأمر الرابع: عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب، والمقصود من مقام التخاطب: مقام التفهيم والتفهّم، بحسب مقام دلالة اللّفظ وظهوره، لا بحسب الحكم والواقع؛ فإنّ ثبوت ذلك بحسب واقع الإرادة لا يتوهّم أحد دخله؛ لأنّه ما من مطلق إلّا وله قدر متيقن بحسب الواقع، كما إذا قال: (أكرم العلماء)، فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ القدر المعلوم منه يقيناً في الواقع هو العالم العادل الهاشميّ.

ولكنّه مع ذلك كلّه، فالقدر المتيقّن - بأيّ معنىً كان - لا يضرّ بالإطلاق، بل الظهور الإطلاقيّ حجّة، ولو مع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب بالمعنى الذي ذكرناه، فيكون المراد بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب هو كما لو سئل المعصوم% عن حكم النجاسة في بئرٍ خاصّ فأجاب - مثلاً -: (ماء البئر واسع لا يفسده شيء)؛ فإنّ القدر

ص: 468

المتيقّن هنا هو البئر الخاصّ، وهو الداخل في الحكم؛ لأنّه هو الذي وقع في السؤال.

وكذا الحال لو فرضنا أنّ الكلام كان مكتنفاً بقرينة ما توجب انعقاد قدرٍ متيقّن له بحيث يُحمل الكلام عليه، كما إذا قال: أكرم عالماً، فإنّ المنجّم وإن كان عالماً، ولكن لفظ (العالم) نفسه، وخصوصاً بقرينة مناسبات الحكم والموضوع، ينصرف إلى الفقيه خاصّةً.وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) أفراداً ثلاثة للانصراف:

الأوّل: هو الانصراف البدويّ، وهو الانصراف الذي لا يزول بالتأمّل، كانصراف الماء إلى دجلة والفرات في الموضع القريب منهما، فلو قال: جئني بماء، ولكن لم يكن قريباً منهما، فلا ينصرف إليهما، ولهذا السبب، فلا يكون هذا الانصراف موجباً لتقييد إطلاق المطلق.

والثاني: الانصراف البدويّ الموجب للشكّ في أنّه هل اُريد المنصرف إليه أم لا، وهو ممّا يزول بالتأمّل. ويأتي هذا الانصراف من غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه الموجبة لأنس الذهن به، وهو - كسابقه - لا يوجب تقييد المطلق.

والثالث: الانصراف اللّازم لتيقّن المنصرف إليه، كانصراف لفظ الماء عن ماء الزاج والنفط، وهذا الانصراف وان لم يكن موجباً لظهور اللّفظ في المنصرف إليه كما في الفرض السابق، إلّا أنّه من قبيل اللّفظ المحفوف بما يصلح بالقرينيّة، ومع هذا: فلا يكون اللّفظ ظاهراً في الإطلاق.

ص: 469

أمّا في صورة كون الانصراف بدويّاً يزول بالتأمّل، فلا منافاة بينه وبين التمسّك بالإطلاق، كما هو واضح.

وأمّا في صورة كون علّة الانصراف هو ظهور المطلق في الفرد المنصرف إليه، كانصراف الماء إلى الماء المطلق، أو في صورة كون المنصرف متيقّناً في المطلق، كانصراف العالم إلى الفقيه، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

هذا حاصل ما أفاده(قدس سره)، وإليك نصّ كلامه:«ثمّ إنّه قد انقدح - بما عرفت من توقّف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم يكن هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على قرينة الحكمة المتوقّفة على المقدّمات المذكورة - أنّه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف، لظهوره فيه، أو كونه متيقّناً منه، ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما أنّه منها ما لا يُوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل، كما أنّه منها ما يُوجب الاشتراك أو النقل»(1).

ثمّ إنّ المحقّق النائيني(قدس سره) - أيضاً - ذكر صوراً للانصراف:

الأوّل: الانصراف البدويّ، وهو الناشئ عن الغلبة خارجاً، أي: غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه.

ص: 470


1- كفاية الاُصول: ص 249.

الثاني: الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهيّة بحسب متفاهم العرف، بحيث يرى العرف خروج بعض الأفراد عن كونها أفراداً للطبيعة.

الثالث: الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهيّة، بحيث يشكّك العرف في مصداقيّة بعض الأفراد.

وقد ذكر)أنّ القسم الأوّل لا يمنع من التمسّك بالإطلاق، بخلاف الثاني والثالث فإنّهما يمنعان منه؛ لأنّ المطلق في كلّ واحدٍ منهما يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.

قال)- ما لفظه -:«توضيح ذلك: أنّ الانصراف قد ينشأ من غلبة الوجود في الخارج، كانصراف لفظ (الماء) في بغداد إلى ماء دجلة، وفي مكانٍ آخر إلى غيره، ويُسَمّى هذا الانصراف بدويّاً يزول بأدنى التفات. وهذا لم يُتَوَهَّم كونه مانعاً عن التمسّك بالإطلاق.

وقد ينشأ من التشكيك في الماهيّة في متفاهم العرف، وهذا يكون على قسمين؛ فإنّ التشكيك:

تارةً: يكون بحيث يرى العرف بعض المصاديق خارجاً عن كونه فرداً لما يُفهم من اللّفظ، فينصرف اللّفظ عنه لا محالة، كانصراف لفظ (ما لا يؤكل لحمه) عن الإنسان.

وأُخرى: يكون بحيث يشكّ العرف في كون فردٍ مصداقاً لمفهوم

ص: 471

اللّفظ عند إطلاقه، فينصرف اللّفظ إلى غيره، كانصراف لفظ (الماء) إلى غير ماء الزاج والكبريت.

أمّا القسم الأوّل: فلا ريب في أنّ اللّفظ المطلق فيه يكون من قبيل الكلام المحفوف بالقرينة المتّصلة، فلا ينعقد له ظهور إلّا في غير ما ينصرف عنه اللّفظ.

وأمّا القسم الثاني: فالانصراف فيه وإن لم يُوجب ظهور المطلق في إرادة خصوص ما ينصرف إليه، إلّا أنّ المطلق مع هذا الانصراف يكون في حكم الكلام المحفوف بما يصلح لكونه قرينةً، فلا ينعقد له ظهور في الإطلاق، فالانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهيّة يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق على كلّ حال»(1).والحقّ: أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب - كما قاله المحقّق النائيني(قدس سره) أيضاً (2) - لا يضرّ بالأخذ بالإطلاق، إلّا إذا كان يرجع إلى انصراف اللّفظ إلى ذلك القدر المتيقّن، كما إذا كان العرف يرى أنّ الإنسان في قوله: (أكرم كلّ إنسان) منصرف عن الإنسان البليد؛ لأنّ البليد ليس في نظر العرف إنساناً، وذلك من جهة كون طبيعة المطلق ذات تشكيك وكونها متفاوتة بالشدّة والضعف والكمال والنقص، فربّما تنصرف الطبيعة عن مرتبتها الضعيفة في نظر العرف، مع كونها منها بالدقّة،

ص: 472


1- أجود التقريرات 1: 532.
2- راجع: فوائد الاُصول 2: 575.

كما لو قال - مثلاً -: (صبّ لي قدحاً من الشاي)، وفرضنا أنّ القدح كان ممتلئاً بالماء، فصببت فيه نقطةً واحدةً من الشاي، فإنّ هذا قد لا يسمّى بالشاي عند العرف، وإن كان كذلك بالدقّة، ولذا، يمكن التوضؤ به؛ لعدم صدق الماء المضاف عليه عرفاً.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ مقدّمات الحكمة، وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها جواز التمسّك بالإطلاق، مركّبة من ثلاثة اُمور، لا أربعة. هذا إذا قلنا بأنّ قابليّة المحلّ للتقييد هي من جملة المقدّمات، وأمّا لو قلنا بأنّ محلّ إجراء تلك المقدّمات إنّما هو المحلّ القابل للإطلاق والتقييد، فلا تكون قابليّة المحلّ - حينئذٍ - داخلةً في عداد المقدّمات، بل تكون هي جزءاً من موضوع مقدّمات الحكمة، ومعلومأنّ كونها إحدى المقدّمات شيء وكونها شرطاً لجريان المقدّمات شيء آخر.

وعلى هذا الأساس: فما ذكره الميرزا النائيني) هو الصحيح، حيث قال(قدس سره):

«فتحصّل: أنّ الإطلاق يتوقّف على أمرين لا ثالث لهما، الأوّل: كون المتكلّم في مقام البيان، الثاني: عدم ذكر القيد، متّصلاً كان أو منفصلاً، فإنّ من ذلك يُستكشف إنّاً عدم دخل الخصوصيّة في متعلّق حكمه النفس الأمريّ، قضيّة تطابق عالم الثبوت لعالم الإثبات»(1).

ص: 473


1- فوائد الاُصول 2: 576.

فصل: التقييد هل يوجب المجازيّة؟

ثمّ إنّه لا يخفى: بناءً على ذكرناه من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّة المهملة كما هو الحقّ، فإنّ التقييد لا يوجب المجازيّة أصلاً، ضرورة أنّ اللّفظ لا يكون مستعملاً - حينئذٍ - إلّا في معناه، وأمّا الخصوصيّة فهي تستفاد من دالٍّ آخر.

وكذا الحال بناءً على ما تبنّاه المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّها موضوعة للّابشرط المقسميّ؛ لأنّه اللّابشرط يجتمع مع البشرط شيء، فاستفادة القيد - أيضاً - تكون من دالٍّ آخر، بلا فرق بين أن يكون الدالّ على التقييد منفصلاً أو متّصلاً.

نعم، بناءً على ما هو منسوب إلى المشهور من كون الأسماء موضوعة للّابشرط القسميّ، وأنّ الإطلاق يكونجزءاً من مدلول اللّفظ، ومستفاداً منه بحسب أصل الوضع؛ فإنّ التقييد لا يكون ناشئاً إلّا عن استعمال اللّفظ في خلاف معناه، كيف لا؟! وهو مضادّ للإطلاق الذي هو المدلول الوضعيّ للّفظ بحسب الفرض.

ولا يُفرّق في ذلك بين أن يكون التقييد متّصلاً أو منفصلاً، إذ هو بجميع أنحائه يكون سبباً لإلغاء الخصوصيّة المأخوذة في المدلول وضعاً، أعني بها: قيد الإطلاق، لوضوح أنّه لا يعقل بقاء هذه الخصوصيّة مع إرادة الدلالة على الخصوصيّة المضادّة لها، والتي هي التقييد.

ص: 474

فالتقييد بناءً على مسلك المشهور - لا محالة - يوجب المجازيّة. فيكون التفصيل - بناءً على هذا المسلك - بين المقيّد المتّصل والمنفصل، بالقول بلزوم المجازيّة في الثاني دون الأوّل في غير محلّه.

والتفصيل الوحيد الذي ينبغي أن نقول به: هو أنّ التقييد يدور أمره بين أن لا يكون موجباً للمجازيّة بناءً على كلٍّ من المسلك المختار ومسلك المحقّق النائيني)، وبين أن يكون موجباً لها بناءً على مسلك المشهور.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الشيء قد يكون مقيّداً من جهة ومطلقاً من جهةٍ أُخرى، كما في مثل: (اعتق رقبة)، فإنّ الرقبة هنا مقيّدة من ناحية الإيمان، وأمّا من جهة أنّه زنجيّ أو روميّ، أبيض أو أسود، فلا تقييد، ومن هنا، كان يمكن التمسّك بالإطلاق فيها من هذه الجهة.وكذا لو كان المطلق مقيّداً بأزيد من تقييد، ولكن كان الإطلاق لا يزال موجوداً بعد بالنسبة إلى غير هذه الخصوصيّة من الحالات والخصوصيّات التي يشملها إطلاق مدلول اللّفظ، فحينئذٍ: يكون جريان مقدّمات الحكمة والتمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى هذه الحالات والخصوصيّات أمراً ممكناً.

فصل: توافق المطلق والمقيّد في الحكم أو تنافيهما:

إذا ورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يكونا متنافيين في السلب والإيجاب، كأن يكون المطلق ماُموراً به والمقيّد منهيّاً عنه، كما في مثل: (أعتق رقبة)

ص: 475

و(لا تعتق رقبة كافرة). وإمّا أن يكونا متوافقين فيهما، بأن يكون كلّ منهما متعلّقين إمّا للأمر أو للنهي.

ففي الصورة الأُولى، لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، ولا يمكن الحكم حينئذٍ بالتخيير؛ لأنّه إنّما يحكم بالتخيير فيما إذا كان هناك بينهما تساوٍ؛ لأنّ هذا التساوي من مقوّمات التخيير، ولكن بما أنّ ظهور المطلق في الإطلاق تعليقيّ وظهور المقيّد تنجيزيّ، وحيث إنّ ظهور المطلق في (أعتق رقبة) يشمل الرقبة المؤمنة والكافرة معاً، وظهور المقيّد في (لا تعتق رقبة كافرة) ينهى عن عتق الكافرة، وحيث إنّ الظهورين لا يجتمعان، فلابدّ من رفع اليد عن أحدالظهورين، أي: إمّا أن نرفع اليد عن ظهور الإطلاق أو عن ظهور النهي في التحريم.

ولكن كما ذكرنا، فإنّ ظهور المطلق تعليقيّ متوقّف على عدم البيان وعدم مجيء قرينة على الخلاف وتبيين المراد، والمقيّد صالح للأمرين: أي: لأن يكون مبيّناً للمراد، وقرينة على الخلاف، وبما أنّ ظهور المقيّد في التقييد تنجيزيّ غير معلّق على شيء، فيكون - لا محالة - وارداً على ظهور المطلق ولا يبقى له محلّ أصلاً.

وهذا هو المقصود من لزوم حمل المطلق على المقيّد، أي: لزوم رفع اليد عن ظهوره في الإطلاق وحمله على إرادة المقيّد. وفي الحقيقة، فإنّ مجيء المقيّد يكشف عن أنّ المطلق لم يكن وارداً في مقام بيان الحكم الواقعيّ الجدّيّ للمولى، بل كان بيان صوريّاً لما هو المراد، غاية الأمر:

ص: 476

أنّ المصلحة اقتضت إبراز المراد الواقعيّ على نحو الإطلاق، وإخفاء القيد وتأخيره إلى وقتٍ تتوفّر المصلحة الداعية إلى إبرازه، كما هو كذلك بالنسبة إلى العمومات أيضاً، كما عرفنا في محلّه، حيث ذكرنا سابقاً:

إنّه قد يرد عامّ على لسان إمامٍ ولا يأتي الخاصّ إلّا على لسان إمام آخر، فبعد مجيء الخاصّ أو المقيّد وانعقاد ظهوره في الخصوص أو التقييد، فإنّه يكون كاشفاً قهراً عن عدم وجود إرادةٍ جدّيّةٍ للمولى متعلّقةٍ بالعامّ أو المطلق، بل إنّما كانت الإرادة المتعلّقة به صوريّة. هذا في مقام الثبوت والواقع.وأمّا في مقام الإثبات، فالجمع بينهما مع حفظ الظهورين ممتنع كما هو ظاهر، هذا في المقيّد المنفصل. وأمّا في المقيّد المتّصل، فمن أوّل الأمر لم يبقَ للمطلق ظهور في الإطلاق؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق متوقّف على جريان مقدّمات الحكمة، وإحدى مقدّماتها عدم وجود القرينة أو ما يصلح للقرينيّة، وهي موجودة ها هنا، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

وهذا - كما هو واضح - يجري بالنسبة إلى كلّ قرينةٍ مع ذيها، كما إذا قلت: (رأيت أسداً في الحمّام) أو (يرمي)؛ فإنّ كلمة (أسد) وإن كانت ظاهرة في الحيوان المفترس، ولكن بعد وجود القرينة، وهو قولنا: (في الحمّام) أو (يرمي)، تبيّن المراد، وأنّ الأسد الحقيقيّ، وهو الحيوان المفترس، لم يكن هو المراد الجدّيّ للمتكلّم، بل المراد الجدّي هو الأسد المجازيّ، أعني: الرجل الشجاع.

ص: 477

إذا عرفت هذا، فإذا ورد مطلق ومقيّد وكانا متنافيين، فإنّه لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، ولا يحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب أو كونه أفضل الأفراد، أو من قبيل الواجب في الواجب؛ لأنّ الأصل الجاري في القرينة مقدّم على ذي القرينة وحاكم عليها، لا أنّه يلاحظ أقوى الظهورين منهما.

بلا فرق في ذلك بين أن يكون ظهور الأمر في المطلق بالنسبة إلى الإطلاق أقوى من ظهور المقيّد في التقييد أم أضعف منه، فإنّ ظهور (أسد) في الحيوان المفترس، وإن كان بالوضع، وظهور (يرمي)، في إرادة رمي النبل، وإنكان بالإطلاق، إلّا أنّ الثاني يكون مقدّماً وحاكماً على الأوّل، لقاعدة تقدّم السبب على المسبّب، فإنّ الشكّ في ما هو المراد من لفظ (أسد) يكون ناشئاً من الشكّ في المراد من لفظ (يرمي)، وبعد أن فرضنا أنّ (يرمي) ظاهر في رمي النبل، لم يبقَ للأسد ظهور في الحيوان المفترس، حتى يكون حين انعقاد دلالته على الحيوان المفترس دالّاً بلازمه على أنّ المراد من (يرمي) هو رمي التراب، فإنّ الدلالة على اللاّزم - وهو رمي التراب - فرع الدلالة على الملزوم، وظهور (يرمي) في رمي يرفع دلالة الملزوم، ولا يبقي للأسد ظهوراً في الحيوان المفترس.

وقد يقال هنا: بأنّ مثبتات الاُصول اللّفظيّة إذا كانت حجّة، فهنا يقع التعارض، إذ كما أنّ أصالة الظهور في (يرمي) تقتضي أن يكون المراد من (الأسد) هو الرجل الشجاع، فكذلك أصالة الحقيقة في (الأسد)

ص: 478

تقتضي أن يكون المراد من (يرمي) هو رمي التراب.

ولكن يُجاب عنه: أنّه لا تعارض في البين، فإنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم، ولا عكس، فإنّ (يرمي) ظاهر في رمي النبل، فهو بمقتضى مدلوله الأوّليّ ناظر إلى الأسد، وكاشف عن أنّ مراد المولى من (الأسد) هو الرجل الشجاع، فيكون سبباً لرفع اليد عن ظهور الملزوم، وهو دلالة الأسد على الحيوان المفترس، فهو بمدلوله الأوّليّ متعرّض لحال الأسد، وأمّا الأسد فلا نظر وراء مدلوله الأوّليّ إلى أيّشيءٍ آخر، ومعلوم أنّ مدلوله الأوّليّ ليس إلّا معناه الوضعيّ، وهو الحيوان المفترس.

نعم، لو فرضنا أنّ المراد من (الأسد) هو الحيوان المفترس، فيكون المراد من (يرمي) هو رمي التراب أوالثلج، ولكنّ دلالته على لازمه هي فرع وجود الدلالة على ملزومه، وبقاء ظهور لفظ (الأسد) في الحيوان المفترس، الذي هو الملزوم، غير أنّ ظهور (يرمي) يكون مصادماً لظهور (الأسد) في الحيوان المفترس، ورافعاً لهذا الظهور، فلا يبقى ظهور للملزوم أصلاً حتى يتأتّى منه الدلالة على اللّازم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ مقتضى الإطلاق البدليّ هو تطبيق صرف الوجود على أفراد ما أراد، ويسمّى ﺑ (التخيير العقليّ)، وليس هناك أيّ مانع من هذا التطبيق بالنسبة إلى الأفراد، غاية الأمر: أنّه معلّق على عدم مجيء قرينة حتى يكون مانعاً من التطبيق، وبما أنّه لا يمكن لقوله: (أعتق رقبة)

ص: 479

أن يطبّق على جميع أفراد الرقبة، وهي المؤمنة والكافرة، مع وجود النهي النفسيّ المستفاد من قوله: (لا تعتق رقبة كافرة)، وبما أنّه لا يمكن إبقاء الظهورين على حالهما، فكان لابدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين، إمّا ظهور المطلق في الإطلاق، أو ظهور النهي في كونه تحريميّاً نفسيّاً، وبما أنّ ظهور المطلق في الإطلاق - كما عرفنا - ظهور تعليقيّ، فلابدّ من رفع اليد عنه هو، وذلك بحمل المطلق على المقيّد، وهذا التطبيق قبل ورود المانع هو المسمّى - كما أشرنا - ﺑ(التخيير العقليّ)، وهو متوقّف على عدم مجيء قرينة على الخلاف، والنهي التحريميّ بيان على الخلاف.

وقد يكون التنافي بين الإطلاق والتقييد من قبيل النهي عن العبادة، كما لو ورد (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، أو (صم) و(لا تصم يوم العيد)، بناءً على أنّ المطلق عبادة بالمعنى الأخصّ، والمقيّد المنهيّ عنه أخصّ منه. وبعبارة أُخرى: يكون بينهما عموم وخصوص مطلق، فهنا، يحمل المطلق على المقيّد، ويقال بوجوب الصلاة في غير الحمّام، ووجوب الصوم في غير يوم العيد.

وقد يكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وحينئذٍ: فإذا كان المجمع بينهما اتّحاديّاً كمفهومَي (العالم) و(الفاسق)، فيدخل في باب التعارض، فيتساقطان، ويكون المرجع - حينئذٍ - هو الاُصول العمليّة، وأمّا لو كان التركيب انضماميّاً، فيكون من باب اجتماع الأمر والنهي، وقد مرّ الكلام فيه مفصّلاً.

ص: 480

ولكنّ الحقّ: أنّه لو كان التركيب بينهما اتّحاديّاً فلا يكون من قبيل النهي عن العبادة، ﻛ (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، وكذا لو كان التركيب بينهما انضماميّاً أيضاً؛ لأنّ الأمر والنهي هنا واردان على طبيعةٍ واحدة، فلا يمكن إدخال المسألة في باب الاجتماع؛ لأنّ الأمر هناك ورد على طبيعة والنهي ورد على طبيعة أُخرى.

وأمّا إذا كان كلّ من المطلق والمقيّد متعلّقاً للنهي، فبما أنّ مفاد النهي غالباً يكون شموليّاً، ويشمل جميع وجوداتالأفراد، فلا تنافي بين طلب ترك المطلق والمقيّد، بل لا نحتاج إلى الثاني إلّا إذا كان هناك جهة ملحوظة ما وخصوصيّة داعية لبيانه، كشدّة الاهتمام بتركه، ممّا يدعو المولى إلى ذكره بالخصوص.

فمثلاً: لو قال الطبيب للمريض: (لا تشرب الحامض)، فهذا يشمل جميع الأفراد، ويغني عن ذكر (ترك ماء الحصرم)، فلا يحتاج إلى نهي عنه بخصوصه بأن يقول: (لا تشرب ماء الحصرم)، إلّا أن يكون في ذكره نكتة وخصوصيّة ما، كما لو فرض أنّ ضرره كان أشدّ من الضرر في شرب بقيّة الحوامض.

وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقاً للأمر، كما في (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة)، فتارة لا يذكر السبب فيهما كما في المثال، وأُخرى يكون السبب مذكوراً في كليهما، وفي هذه الصورة أيضاً: تارة نفرض وحدة السبب، كما إذا قال: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة)،

ص: 481

وأُخرى نفرض اختلاف السبب، كما لو قال: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، وتارة يذكر السبب في أحدهما فقط، كقولك: (أعتق رقبة) و(إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة).

أمّا في صورة عدم ذكر السبب في كليهما: فقد ذكرنا سابقاً أنّ ظهور المقيّد يكون مقدّماً على ظهور المطلق؛ لأنّ ظهور الأوّل تنجيزيّ، وأمّا الثاني فهو معلّق ومتوقّف على مقدّمات الحكمة.ومن جملة تلك المقدّمات: عدم وجود بيان على خلاف المطلق، فإذا ورد بيان كذلك، ولو من دليل منفصل، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، فبما أن الظاهر من المطلق هو صرف الوجود الذي ينطبق على أوّل وجود للأفراد، وهو يقتضي التخيير في الطبيعة، باختيار أيّ فرد شاء، من المؤمن والكافر، وأمّا مقتضى دليل المقيّد فهو كون الوجود مقيّداً بعنوان خاصّ، وهو الرقبة المقيّدة بقيد الإيمان، فيكون هناك تنافٍ بين الظهورين.

وحيث إنّ ظهور المقيّد بالنسبة إلى ظهور المطلق من باب القرينة، فيكون مقدّماً عليه، تقدّم القرينة على ذيها، وبما أنّ الحكم في كلٍّ منهما حكم إلزاميّ، وبما أنّه مأخوذ في المطلق على نحو صرف الوجود، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لظهور كون المقيّد قرينةً على أنّ المراد الجدّي للمولى كان هو وجوب عتق الرقبة المؤمنة، لا مطلق الرقبة، ولو كانت كافرة.

ص: 482

وأمّا لو كان السبب مذكوراً في كلّ منهما، مع كونه واحداً فيهما، فلا إشكال - حينئذٍ - في لزوم حمل المطلق على المقيّد؛ إذ نفس وحدة السبب فيهما يستفاد منه وحدة التكليف، فحينئذٍ: يتحقّق التنافي بينهما؛ لأنّ الحكم المذكور في المطلق لمّا كان مأخوذاً على نحو صرف الوجود، أمكن أن يؤتى به في ضمن أيّ فردٍ من أفراد الطبيعة، ويحصل الامتثال ولو في ضمن الرقبة الكافرة، وأمّا الحكم في المقيّد فيظهر منه كون القيد دخيلاً، وأنّ الامتثال لا يحصل إلّا بعتق الرقبةالواجدة لقيد الإيمان، فحينئذٍ: يقع التنافي والتناقض بين الظهورين، فلابدّ من رفعه، وذلك لا يكون إلّا بحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا لو كان السبب مختلفاً فيهما، كما في قولك: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، فلا معنى لحمل المطلق على المقيّد، بل يستكشف من تعدّد السبب تعدّد المسبّب، وأنّ الحكم المتعلّق بالمطلق هو غير الحكم المتعلّق بالمقيّد، ولذا، لا يكون هناك تنافٍ بينهما، بل يستظهر كون كلٍّ واحدٍ منهما - حينئذٍ - محكوماً بحكمٍ على حدة.

وأمّا لو كان السبب مذكوراً في أحدهما دون الآخر، فلا يمكن فيه حمل المطلق على المقيّد، إلّا إذا عرفنا وحدة المطلوب في مورده من دليل خارج، فإن استطعنا ذلك، فهو، وإلّا، كان مشكلاً من جهة أنّ هناك تقييدين، وكلّ واحدٍ منهما يتوقّف على الآخر، أحد هذين التقييدين:

ص: 483

أحدهما: تقييد الحكم في الطرف الذي لم يُذكر فيه السبب بالسبب المذكور في الطرف الآخر، وإلّا، لو كان هناك سببان يقتضيان مسبّبين، أي: حكمين أحدهما للمطلق والآخر للمقيّد، فلا يكون هناك منافاة بينهما حتى يُرفع هذا التنافي بحمل المطلق على المقيّد.

والتقييد الآخر: تقييد المتعلّق في طرف المطلق بالقيد المذكور في المقيّد، ومعلوم أنّ تقييد الحكم بذلك السبب المذكور في الطرف الآخر متوقّف على تقييد المتعلّق، وإلّا،فلو لم يقيّد الحكم، فهناك في الخارج متعلّقان، ولكلّ واحدٍ منهما حكم خاصّ غير ما هو للآخر، ولا منافاة بينهما، ولا موجب لوحدة السبب، وتقييد المتعلّق - أيضاً - يكون متوقّفاً على تقييد الحكم، وإلّا، فلو لم يقيّد الحكم، فيكون هناك حكمان، ولكلّ واحدٍ منهما متعلّق، فلا موجب لتقييد المتعلّق، وهذا دور واضح، فلا سبيل إلى حمل المطلق على المقيّد.

هذا ما ذكره المحقّق النائيني)، حيث قال - ما نصّه -:

«قد عرفت أنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة التكليف، وفي المثال: تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقّق سبب الآخر يتوقّف على وحدة المتعلّق، إذ عند اختلاف متعلّق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر، كما لو ورد تكليف مطلق متعلّق بشيء، وورد تكليف مقيّد متعلّق بشيءٍ آخر. ووحدة المتعلّق في المقام يتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر، إذ لو لم يُحمل أحد التكليفين على الآخر، ولم

ص: 484

يُقيّد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار، لم يتحقّق وحدة المتعلّق؛ لأنّ أحد المتعلّقين هو عتق الرقبة المطلقة، ومتعلّق الآخر هو عتق الرقبة المؤمنة، فيتوقّف حمل أحد المتعلّقين على الآخر على حمل أحد التكليفين على الآخر، ويتوقّف حمل أحد التكليفين على الآخر على حمل أحد المتعلّقين على الآخر، فيلزم الدور من حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة، والظاهر أنّه لا دافع له، فتأمّل»(1).ولكن قد استشكل فيه الاُستاذ المحقّق(قدس سره) بأنّه لا دور هناك؛ لأنّ «حمل المطلق على المقيّد في المفروض، وإن كان يوجب تقييد كلّ واحد من إطلاقي الحكم والمتعلّق، ولكن لا دور في البين؛ لأنّه ليس كلّ واحد من التقييدين علّةً للآخر كي يلزم الدور، بل كلاهما معلولان لعلّةٍ واحدة، وهي وحدة المطلوب، فيكونان من قبيل المتلازمين، فلا دور»(2).

وأمّا إذا لم يذكر السبب في كليهما، فأيضاً لابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لأنّ ظاهر دليل المطلق هو طلب صرف الوجود من الطبيعة، وهو يتحقّق بأوّل وجود منها، كما أنّه لا يتعدّد ولا يتكرّر، فلا محالة: يكون الإطلاق هنا من قبيل الإطلاق البدليّ، ويكون ظاهر دليله هو الإتيان

ص: 485


1- فوائد الاُصول 2: 580 - 581.
2- هذا المقطع ساقط من الطبعة التي اعتمدنا عليها لكتاب اُستاذنا المحقّق(قدس سره) منتهى الاُصول، والتي هي الطبعة الأُولى، فأخذناها من كلماته في طبعة أُخرى، فانظر: منتهى الاُصول 1: 690، ط مؤسّسة مطبعة العروج.

بالطبيعة وتطبيقها على أيّ فردٍ من الأفراد، وإن كان كافراً، وهذا ينافي ظهور المقيّد؛ لأنّ ظاهر دليل المقيّد هو لزوم الإتيان بصرف الوجود وتطبيقه على فردٍ خاصّ، وهو الرقبة المؤمنة.

فبينما ظاهر المطلق هو عدم لزوم الإتيان به في ضمن فردٍ خاصّ، فإنّ ظاهر المقيّد هو لزوم الإتيان به في ضمن فردٍ خاصّ، فيتنافيان بالضرورة، ولكن بما أنّ ظهور المطلق معلّق على عدم ورود بيان على التقييد؛ حيث كان الظهور فيه مستفاداً من جريان مقدّمات الحكمة، ومن جملة تلكالمقدّمات: عدم البيان على الخلاف والتقييد، فيكون الظهور في المقيّد وارداً على الظهور في المطلق؛ لأنّه ظهور تنجيزيّ، ويتقدّم عليه من قبيل تقدّم القرينة على ذيها، بلا فرق بين أن يكون المقيِّد متّصلاً أم منفصلاً.

غاية الفرق بينهما: أنّه في المقيّد المتصل لا يبقى ظهور للمطلق في الإطلاق أصلاً، وأمّا في المقيّد المنفصل، فإنّ الظهور وإن كان باقياً، إلّا أنّه بعد ورود المقيِّد المنفصل يسقط عن الحجّيّة، كما مرّ.

وبكلمةٍ: فإنّ حمل المطلق على المقيّد يستدعي إحراز وحدة المطلوب فيهما، وهي في المقام تستفاد من نفس الدليل، لا من الخارج؛ لأنّ المفروض أنّ المطلوب في كلٍّ من المطلق والمقيّد مأخوذ على نحو صرف الوجود، وصرف وجود الشيء - كما أسلفنا - لا يقبل التعدّد ولا التكرّر، فهنا بعد أن فرضنا كون التكليف في هذا القسم وارداً في كلا الطرفين على نحو صرف الوجود، وكان التكليف المجعول من قبيل

ص: 486

التكليف الإلزاميّ، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد بعد إحراز التنافي بين الظهورين.

هذا كلّه فيما لو كان التكليف المجعول إلزاميّاً.

وأمّا في التكليف الاستحبابيّ، فهل يتعيّن حمل المطلق على المقيّد - أيضاً - أم لا؟

الظاهر: أنّه لا موجب - حينئذٍ - لحمل المطلق على المقيّد؛ بلا فرق بين أن يكون التكليف في كلٍّ منهما مطلقاً، كما إذا قال (يستحبّ الدعاء) و(يستحبّ دعاء كميل)، وكان التقييدمن ناحية الاستحباب، فلا يوجد هناك دليل يعيّن الحمل المذكور؛ إذ لا منافاة بينهما كما لا يخفى، بعد فرض كون المقيّد جائز الترك، وليس هناك تنافٍ - أصلاً - بين استحباب الدعاء المطلق واستحباب الدعاء المقيّد.

وكذا الحال فيما إذا كان التقييد في التكليف والمكلّف به معاً، كما لو قال: (يستحبّ لك الدعاء) و(إن جاءك زيد يستحبّ لك دعاء كميل)، فإنّه لا موجب هنا - أيضاً - يحتّم حمل المطلق على المقيّد.

أمّا في صورة ما إذا كان التقييد في ناحية التكليف، كقولك: (يستحبّ الدعاء) و(يستحبّ الدعاء عند رؤية الهلال)، فلا موجب حينئذٍ للحمل المذكور - أيضاً -، بعد فرض كون الاستحباب ذا مراتب، ولا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيّد.

وحتى لو قلنا في باب التكليف الإلزاميّ أنّه لابدّ من حمل المطلق

ص: 487

على المقيّد، فلا يكون له موجب هنا.

بل ذهب بعضهم إلى «عدم الحمل حتى فيما إذا كان التقييد يقتضي المفهوم، كما إذا قال: (يستحبّ الدعاء)، وقال - أيضاً -: (إن جاءك زيد يستحبّ الدعاء)، فإنّ تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة»(1).ولكنّ الحقّ: أنّه لو فرضنا ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، فلابدّ تظهر المنافاة بين مفهوم الشرط في مثل قولك: (إن جاءك زيد يستحبّ الدعاء) وبين المستفاد من مثل قولك: (يستحبّ الدعاء)، وحينئذٍ: فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ وذلك لعدم كون المفهوم قابلاً للتخصيص.

وأمّا ما ذكر من أنّ «الظاهر فيه - أيضاً - هو عدم الحمل؛ لأنّ كون القضيّة ذات مفهوم، وإن كان يقتضي في حدّ ذاته عدم مطلوبيّة فاقد القيد من رأس، إلّا أنّ العلم الخارجيّ بكون المستحبّات ذات مراتب باعتبار قيودها يوجب صرف القضيّة عن كونها ذات مفهوم، فلا تتحقّق المنافاة بين القضيتين لتُحمل إحداهما على الأُخرى»(2).

ففيه: أنّه بعد ثبوت المفهوم للقضيّة، فالمستحبّات وإن كانت ذات مراتب بالنسبة إلى غالب قيودها، غير أنّ هذه الغلبة لا تصبح موجباً

ص: 488


1- راجع: فوائد الاُصول 2: 585.
2- أجود التقريرات 1: 542.

لصرف ظهور القضيّة الشرطيّة عمّا هي عليه من كونها ذات مفهوم، وإلّا، فلو فرض أنّ المطلق كان مقيّداً بالقيد المتّصل، فلابدّ أن نحملها على أفضل الأفراد، ولا نقول بالتقييد، مع أنّه خلاف الواقع، إذا بعد فرض أنّ للقضيّة مفهوماً، فيقع التنافي بين المطلق والمقيّد، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد.

كما أنّه لو فرض أنّ المطلق لم يكن إلزاميّاً، وكان المقيّد إلزاميّاً، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد، بلا فرق بين أن يكون الإلزام في المقيّد إرشاديّاً مسوّقاً لبيان شرطيّة القيد،وبين ما لم يكن كذلك، بأن كان مولويّاً مسوقاً لبيان وجوب المقيّد في نفسه:

مثال الأوّل: الأمر الذي يتعلّق بالإقامة في حال الطهارة، فإنّه بعد افتراض أنّه مسوق لبيان شرطيّة الطهارة فيما هو المطلوب الاستحبابيّ، فلا يبقى مجال أصلاً لتوهّم صحّة التمسك بإطلاق ما دلّ على استحباب الإقامة من غير تقييد لها بكونها لابدّ وأن تكون حال الطهارة من الحدث، بل مقتضى الجمع بين الدليلين حينئذٍ هو انحصار استحباب الإقامة بحال الطهارة، وعدم الإتيان بها في حال الحدث.

ومثال الثاني: الأمر المتعلّق بصلاة الصبح - مثلاً -، فإنّه بعد ورود الدليل المقيّد وكونه مولويّاً دالّاً على وجوب المقيّد في حدّ نفسه، فهو - لا محالة - يوجب تقييد الأمر الاستحبابيّ المتعلّق بذات الصلاة في مثل ما روي من قوله6: «الصلاة خير موضوع، فمن شاء استقلّ، ومن شاء

ص: 489

استكثر»(1)؛ لأنّ الواجب يمتنع أن يكون مصداقاً للمستحبّ.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الملاك في لزوم حمل المطلق على المقيّد إنّما هو كون الدليل المقيّد إلزاميّاً، بلا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل المطلق إلزاميّاً أيضاً أم لم يكن.

بقي هنا أمر:

أشار إليه اُستاذنا المحقّق(قدس سره) في آخر هذا المبحث(2)، وارتأينا أنّه لا بأس بذكره هنا مع شيءٍ من التوضيح، فنقول:

قد انقدح ممّا قدّمناه: أنّ الاحتمالات الممكنة في مورد حمل المطلق على المقيّد في المثبتين اللّذين يكون المطلوب فيهما هو صرف الوجود أربعة، وهي:

الأوّل: ما مرّ ذكره مع بيان وجهه، وهو لزوم حمل المطلق على المقيّد.

والثاني: حمل الأمر في المقيّد على أفضل الأفراد وكونه مستحبّاً.

ولكنّ هذا الاحتمال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ المقيّد كالقرينة، والمطلق كذي القرينة، وأنّ ظهورها وارد على ظهوره، كما تُقَدَّم القرينة على ذيها. نعم، لو قلنا بأنّ ظهور المقيّد منافٍ لظهور المطلق في الإطلاق، فيكون

ص: 490


1- بحار الأنوار 79: 308 - 309، باب 4 من كتاب الصلاة، ح9.
2- انظر: منتهى الاُصول 1: 479- 481.

ظهور المطلق مقدّماً عليه، فحينئذٍ: لابدّ من التصرّف في ظهور المقيّد وحمله على أفضل الأفراد، وإلّا، فلا يبقى مجال لهذا الحمل أصلاً، كما في مثل: (رأيت أسداً يرمي)، فلو حملنا (الأسد) على الحيوان المفترس، فلابدّ معه من حمل (يرمي) على رمي الثلج أو التراب ونحو ذلك.والثالث: أن يكون مفاد أمر المقيّد هو الواجب في الواجب، كما إذا قلنا بأنّ القنوت واجب، فإنّ ظرفه هو الصلاة، فيكون من باب الواجب في الواجب.

ولكنّ هذا الاحتمال منافٍ لما عليه ظهور دليل المقيّد؛ لأنّ معنى الواجب في الواجب إنّما هو أن يكون أصل الطبيعة المطلقة واجباً، ويكون القيد واجباً آخر، فلو أتى بأصل الطبيعة، كالصلاة، وترك القيد، كالقنوت، فهو آتٍ بواجب وتارك لواجب آخر، مع أنّ ظاهر دليل المقيّد هو أنّ الواجب هو الطبيعة المقيّدة، فلا يكفيه في مقام الامتثال الإتيان بالطبيعة وحدها، ولا الإتيان بالقيد وحده.

ومعنى وجوب شيءٍ في واجبٍ آخر: هو أن يكون الشيء واجباً بنفسه وباستقلاله، غاية الأمر: أنّ محلّ وجوبه يكون في أثناء واجبٍ آخر، بحيث لو أتى بذلك الشيء في غير ذلك المحلّ فهو غير ممتثل للأمر به، ولذا، ففي المثال المتقدّم، لو أتى بالقنوت - على فرض وجوبه - قبل الصلاة أو بعدها، أو في حال الطواف مثلاً، لم يكن ممتثلاً قطعاً؛ لأنّ محلّه إنّما هو الصلاة الواجبة، وأمّا لو أتى بالصلاة وحدها لكفى ذلك

ص: 491

في صدق امتثال الأمر المتعلّق بها.

الرابع: تعدّد الحكم، بحيث يكون كلّ من المطلق والمقيّد واجباً مستقلّاً، فالمطلق واجب والمقيّد واجب آخر، ويكون المجعول حكمين اثنين، متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر، وبعد كونهما حكمين مستقلّين، فلا يكون هناك منافاة بينهما.ولكنّ هذا الاحتمال إنّما يتمّ، لو لم نفهم من المطلق والمقيّد صرف الوجود، وأمّا لو كان يُفهم منهما صرف الوجود، فيكون غير قابل للتكرار والتعدّد، وبالتالي: فيكون الاحتمال المذكور مخالفاً لظاهر الدليلين.

فتحصّل: أنّه إذا كان المتعلّق مأخوذاً بنحو صرف الوجود فلا معنى للقول بكون المجعول حكمين متعدّدين.

وبهذا يتمّ الكلام في مبحث المطلق والمقيّد.

ص: 492

المجمل والمبيّن

اشارة

والكلام هنا يقع في اُمور:

الأمر الأوّل:

في أنّنا هل نحتاج إلى تعريف كلٍّ من المجمل والمبيّن أم لا؟

لا يخفى: أنّه لا ثمرة فقهيّة في فهم مفهوم المجمل والمبيّن، ولذا لا فائدة في ذكر واستعراض كافّة التعريفات التي ذكرها القوم، مضافاً إلى ما تكرّر ذكره منّا من أنّ هذه التعريفات ليست بتعريفاتٍ حقيقيّة، فلا فائدة ترجى من الغوص فيالنقض والإبرام، وإنّما هي تعريفات تندرج في باب شرح الاسم، أضف إلى أنّ كلّاً من المجمل والمبيّن واضح المعنى وبديهيّ المفهوم، كالوجود تماماً، فلا يحتاجان إلى تعريفٍ أصلاً.

الأمر الثاني:

أنّ الإجمال والتبيين هل يختصّان بالكلام وبالمفاهيم التركيبيّة أم

ص: 493

يشملان المفردات - أيضاً - كلفظي (الغناء) و(الوطن)؟

الظاهر: عدم الاختصاص بالمعاني التركيبيّة، بل المجمل والمبيّن يشملان المفردات أيضاً، ولذا، نراهم يبحثون عن مفهوم مثل (الغناء) و(الوطن)، وأنّه هل يكون من المجمل أو من المبيّن.

الأمر الثالث:

المراد بكون اللّفظ مجملاً، أن يكون هذا اللّفظ غير واضح المعنى عند العارف باللّغة، وليس المدار على الجاهل بها، فلو فرض لفظ واضح المعنى عند العربيّ، فهو لا يكون معدوداً في المجملات، وإن كان غير واضح عند غير العربيّ.

ولكن مع ذلك، فنجدهم يقولون بأنّ مثل لفظ (الغناء) يُعدّ مجملاً؛ لأنّه وإن كان واضحاً عند أهل اللّغة، إلّا أنّه حيث لم يُحدَّد معناه في لسانهم قالوا بكونه مجملاً.

الأمر الرابع:

أنّ الإجمال والتبيين ليسا من الصفات الحقيقيّة، بل هما من الاُمور الإضافيّة، فقد يكون لفظ أو كلام مبيّناً عند شخص ومجملاً عند شخص آخر، فهو مبيّن عند أحدهما لكونه عالماً بالوضع، ومجملاً عند الآخر لعدم كونه كذلك، بل قد يكون مبيّناً عند أحدهما ومجملاً عند الآخر،

ص: 494

ولو فرض كونه واضحاً عند كليهما معاً، ولكن بحيث ظفر أحدهما بالقرينة التي تصلح أن تكون مانعاً من أخذه بمعناه.

فتحصّل: أنّه لا مانع من أن يكون لفظ ظاهراً عند شخص ومجملاً عند آخرين، كما قد يقال في مثل لفظ (اليد)، حيث كان مجملاً عند الفقهاء، وظاهراً عند الإمام الجواد%.

ثمّ إنّ الإجمال والتبيين هل هو بحسب الظاهر أو بحسب المراد؟

والإجمال بحسب الظاهر يأتي من جهة تعدّد الوضع، كما في مثل لفظ (العين)، أو لتساوي المعنيين الحقيقيّ والمجازي، أو غير ذلك.

ذهب صاحب الكفاية)إلى أنّ المراد من المبيّن، هو كلّ لفظ يكون له ظاهر، وإن علم بعدم إرادته، والمجمل هو ما كان بخلافه، وإن علم منه المراد.

قال): «والظاهر: أنّ المراد من المبيّن في موارد إطلاقه: الكلام الذي له ظاهر، ويكون بحسب متفاهم العرف قالباً لخصوص معنىً، والمجمل بخلافه، فما ليس له ظهورمجمل وإن علم بقرينة خارجيّة ما اُريد منه، كما أنّ ما له الظهور مبيّن، وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما اُريد ظهوره وأنّه مؤوّل»(1).

ص: 495


1- كفاية الاُصول: ص 252.

والمستفاد من التقرير المنسوب إلى الشيخ الأنصاري)(1) أنّ المبيّن هو ما يكون واضح المراد، وإن لم يكن له ظهور، كما إذا فرض إجمال صيغة الأمر، وعدم ظهورها في الوجوب، ولكن علم من قرينة خارجيّة إرادة الندب منها، وأمّا المجمل فهو ما لم يتّضح المراد منه، وإن كان له ظهور.

وعلى هذا: فيكون مورد الاتّصاف بالمبيّن والمجمل هو المراد لا الكلام، فالاختلاف بين كلام صاحب الكفاية) وبين هذا الكلام المنسوب إلى الشيخ الأعظم) إنّما هو فيما لو كان لفظ ما ظاهراً في معنى، كالّلفظ العامّ الذي يكون ظاهراً في العموم، ولكن نعلم من الخارج بأنّ العموم ليس بمراد للمتكلّم، ونعلم إجمالاً بتخصيصه إيّاه، ولو لم نعلم المخصّص، فعلى كلام صاحب الكفاية)، فهذا العامّ - هنا - مبيّن، لكونه ممّا له ظاهر، وعلى ما في التقريرات، فهو مجمل، لعدم وضوح المراد، فتأمّل جيّداً.

تمّ الكلام - بحمد اﷲ تعالى - في المجمل والمبيّن.

ص: 496


1- راجع: مطارح الأنظار 2: 299 - 300، وإليك نصّ كلامه، قال): «ثمّ إنّ المجمل على قسمين: أحدهما: ما عرفت، والآخر: ما له ظاهر لم يُرده المتكلّم، كما في العامّ المخصّص واقعاً مع عدم العلم به على القول بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو الحقّ، والمطلق عند عدم ذكر القيد...».

الفهرس

ص: 497

ص: 498

الفهرس

مقدّمة الواجب(7-88)

مقدّمة الواجب... 7الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم لا؟ 7

الأمر الثاني .... 12

الأمر الثالث :أنّ وجوب المقدّمة - كما عرفنا - وجوب عقليّ لا لفظيّ .... 13

الأمر الرابع: أنّ الوجوب ينقسم إلى أقسام.... 15

الأمر الخامس: ينقسم الوجوب باعتبارٍ آخر إلى الأصليّ والتبعيّ 15

الأمر السادس: تنقسم المقدّمة إلى خارجيّة وداخليّة..... 16

الأمر السابع: تنقسم المقدّمة إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة..... 31

الأمر الثامن: تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجود و... 34

الأمر التاسع: تنقسم المقدّمة إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة... 37

تنبيهات... 63

ثمرات القول بالمقدّمة الموصلة... 81

مبحث الضدّ(89-169)

مبحث الضدّ.... 89الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم الفقهيّة أم غيرها؟.... 89

ص: 499

الأمر الثاني :هل هذه المسألة لفظيّة أو عقليّة؟..... 90

الأمر الثالث :ما هو المراد من الضدّ؟..... 91

الأمر الرابع :ما هو المراد من الاقتضاء؟... 91

الأمر الخامس: ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب؟ 93

أمّا المقام الأوّل. 93

الثمرة من هذا البحث.... 105

وأمّا المقام الثاني.... 111

الفرق بين التعارض والتزاحم..... 117

منشأ التزاحم.... 126

تنبيهات... 147

مبحث النواهي(171-184)

مبحث النواهي..... 171

والكلام يقع فيه في اُمور.... 171

الأمر الأوّل: في الفرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي.... 171

الأمر الثاني..... 173

الأمر الثالث .... 175

الأمر الرابع..... 177مسألة اجتماع الأمر والنهي(185-250)

مسألة اجتماع الأمر والنهي 185

الأمر الأوّل.... 185

الأمر الثاني..... 186

ص: 500

الأمر الثالث .... 189

الأمر الرابع..... 190

الأمر الخامس..... 197

هل تتعلّق الأحكام بالطبائع أم بالأفراد؟.... 202

ثمّ إنّه هل لابدّ من اعتبار مندوحة في محلّ البحث أم لا؟ .... 204

مسألة الاجتماع والقول بتبعيّة الأحكام للملاكات.... 213

ثمرة مسألة الاجتماع.... 215

أدلّة القائلين بالامتناع.... 218

دليل القائلين بالجواز.... 221

في العبادات المكروهة.... 232

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام.... 234

حكم الصلاة حال الخروج.... 249مسألة اقتضاء النهي الفساد(251-287)

مسألة اقتضاء النهي الفساد 251

الأمر الأوّل ... 251

الأمر الثاني .... 253

الأمر الثالث .... 253

الأمر الرابع..... 254

الأمر الخامس..... 255

الأمر السادس..... 256

الأمر السابع..... 257

الأمر الثامن..... 258

ص: 501

في بيان معنى العبادة والمعاملة.... 265

في تفسير المراد من الأثر... 268

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة... 270

المقام الثاني: في النهي عن المعاملة.... 276

تذنيب..... 283

مباحث المفاهيم(289-294)

مباحث المفاهيم..... 289

مقدّمة..... 289الأمر الأوّل: في معنى كلمة المفهوم ..... 290

الأمر الثاني: المفهوم قسمان: موافقة ومخالفة..... 291

الأمر الثالث: في أنواع المفهوم... 294

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة(295-338)

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة.... 295

المبحث الأوّل..... 295

المبحث الثاني... 297

حجج المنكرين للمفهوم.... 307

الأمر الأوّل.... 310

الأمر الثاني..... 311

الأمر الثالث..... 313

البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات.... 319

ص: 502

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة(339-351)

فصل في مفهوم الوصف 339

الأمر الأوّل.... 339

الأمر الثاني..... 343

الأمر الثالث..... 344فصل في مفهوم اللّقب والعدد(353-355)

فصل في مفهوم اللّقب والعدد.... 353

فصل في مفهوم الغاية(357-360)

فصل في مفهوم الغاية... 357

فصل في مفهوم الحصر(361-369)

فصل في مفهوم الحصر.. 361

مباحث العامّ والخاصّ(371-453)

مباحث العامّ والخاصّ... 371

الأمر الأوّل: في معنى العموم.... 371

الأمر الثاني: في الفرق بين العموم والإطلاق.... 373

الأمر الثالث: في تقسيم العامّ.... 374

الأصل المحكّم عند الشكّ .... 376

تنبيه .... 378

ص: 503

العموم المستفاد من الجمع المحلّى.... 379

هل العامّ المخصّص حجّة في الباقي أم لا؟.... 380

التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ.... 396

الشكّ في شمول العامّ لفردٍ من غير جهة احتمال التخصيص... 397

التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص. 404

في مقدار الفحص اللّازم.... 418

الخطابات الشفاهيّة.... 420

تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟. 431

الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعدّدة.... 438

تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمفهوم. 442

هل يجوز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد أم لا ؟.... 450

مبحث المطلق والمقيّد(455-492)

مبحث المطلق والمقيّد... 455

الأمر الأوّل.... 455

الأمر الثاني..... 456

الأمر الثالث..... 456

الأمر الرابع..... 457

الأمر الخامس..... 457الكلام في اعتبارات الماهيّة... 459

مقدّمات الحكمة... 465

فصل: التقييد هل يوجب المجازيّة؟.... 474

فصل: توافق المطلق والمقيّد في الحكم أو تنافيهما..... 475

ص: 504

بقي هنا أمر..... 490

المجمل والمبيّن(493-496)

المجمل والمبيّن... 493

الأمر الأوّل.... 493

الأمر الثاني..... 493

الأمر الثالث..... 494

الأمر الرابع..... 494

المجمل والمبيّن(497-505)

الفهرس..... 497

ص: 505

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.