شَمسُ الأُصُول المجلد 2

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

آیة الله العظمی الحاج الشیخ شمس الدين الواعظي

دار المحجة البيضاء

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

مبحث الأوامر

اشارة

ويقع البحث فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: هل الأوامر من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

وقد مرّ في أوائل البحث في المجلّد الأوّل تعريف المسألة الاُصوليّة، وهي: أن تقع كبرى لقياساتٍ يُستنتج منها الحكم الكلّيّ الإلهيّ، كما في مبحث الخبر الواحد، فيقال _ مثلاً _: «صلاة الجمعة ممّا أخبر بوجوبها العادل، أو الثقة، وكلّ ما كان كذلك، فهو واجب».فبناءً على هذا: لا يمكن إدخال الأوامر في المسألة الاُصوليّة؛ لأنّ البحث فيها في أصل الظهور، لا في إثبات الحجّيّة التي هي من المسائل الاُصوليّة. ومن المعلوم: أنّ إثبات الظهور يندرج في المسائل اللّغويّة.

إن قلت: يكفي في كون المسألة اُصوليّةً دخلها في قياس الاستنباط ولو على نحو الإعداد.

ص: 7

قلنا: هذا غير تامّ؛ لأنّه لو قلنا بكفاية دخلها، ولو بنحو الإعداد، لكان علم الرجال والعلوم الأدبيّة أيضاً داخلين في المسألة الاُصوليّة؛ لكونهما داخلين في قياس الاستنباط على نحو الإعداد.

أو تقول: إنّ المسألة الاُصوليّة هي إثبات الحكم: إمّا بنفسه، أو بكيفيّة تعلّقه بالموضوع، ومسألتنا هذه ليس من شأنها إلّا إحراز نفس موضوع الحكم، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً في مسألة المشتقّ.

ولكنّ

الحقّ _ كما عرفت _ دخول المشتقّ في المسألة الاُصوليّة؛ فإنّها تدلّ _ كما ذكرنا _ على ثبوت الحكم، إمّا منوطاً ببقاء المبدأ إذا فُرِض أنّه للأخصّ، أو مستمرّاً إذا فُرِض أنّه موضوع للأعمّ، إذاً، هي دخيلة في كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه وتبيّن هذه الكيفيّة بأنّها هل تكون للأعمّ أو الأخصّ؟وكذلك هنا، فإنّ مسألة الأوامر دخيلة في إثبات تعلّق الحكم بموضوعه، بأنّه هل يكون على نحو الوجوب أو الندب، أي: أنّ الطلب هل يكون حتميّاً أو ترخيصيّاً؟

الأمر الثاني: قد يستعمل الأمر في عدّة معان:

منها: الطلب، والحادثة، والشيء، والغرض، والفعل، كقولك: (أمره بكذا)، و(جاء زيد لأمر كذا)، و(شغله أمر كذا)، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ

ص: 8

أَمْرُنَا﴾(1)، وقولك: (رأيت اليوم أمراً عجيباً)، وهكذا...

فهل هذه كلّها معانٍ للأمر أم لا؟!

الحقّ: أنّ للأمر معنيين تبعاً لصاحب الكفاية(رحمة الله) الذي قال:

«ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في الطلب في الجملة، والشيء، هذا بحسب العرف واللّغة»(2).

والمراد من قوله: «في الجملة»، أي: بلا تعيين كونه للوجوب أو أعمّ منه. والشيء أعمّ من أن يكون بمعنى العين أو الصفة أو الفعل، فالأوّل: كالماء؛ فإنّه شيء، والثاني: كالعلم، والثالث: كالأخذ والعطاء.والفرق بين المعنيين: أنّ لفظ «الأمر» الدالّ على المعنى الأوّل «الطلب» يكون مشتقّاً، ويُجمع على «أوامر»، وأمّا لفظ «الأمر» الدالّ على المعنى الثاني فإنّه يكون جامداً ويُجمع على «اُمور».

وأمّا بقيّة الموارد فاللّفظ مستعمل في مصاديقها، لا في المفاهيم.

وهل يكون بين الأوّل والثاني: اشتراك لفظيّ، أم معنويّ، أم هناك تفصيل؟

أمّا الأقوال في المسألة فهي:

الأوّل: الاشتراك اللّفظيّ في الجميع.

ص: 9


1- هود: 58.
2- كفاية الاُصول: 62.

الثاني: الاشتراك المعنويّ بين جميع تلك المعاني.

الثالث: التفصيل، بالقول: بالاشتراك المعنويّ بين تلك الاُمور ما عدا الطلب، والاشتراك اللّفظيّ بينها وبين الطلب، كما في الفصول(1).

وذهب المحقّق النائيني(قدس سره)(2) إلى أنّ الأمر موضوع لهذه المعاني على نحو الاشتراك المعنويّ، وبعبارةٍ اُخرى: فعنده(قدس سره): أنّ مادّة الاُمور موضوعة لمعنىً كلّيٍّ ومفهومٍ جامع للمعاني السبعة المتقدّمة نحو جامعيّة الكلّيّ لمصاديقه. ثمّ اختلف القائلون بالاشتراك المعنويّ فيتعيين الجامع بين ما عدا الطلب، فقال بعضهم: هو الشيء، وقال بعض آخر: هو الفعل، واحتمل بعض أن يكون هو: الشغل والشأن.

وقد استدلّ المحقّق النائيني(3) على مبناه هذا: بأنّ الاشتراك اللفظيّ هنا بعيد لا يمكن المصير إليه، فلابدّ من الالتزام بالاشتراك المعنويّ ولو لم نتمكّن من تعيين جامع لهذه المعاني؛ فإنّ العجز عن تعيينه لا يدلّ على عدم وجوده، فضلاً عن أنّه لا يدلّ على عدم إمكانه.

وقد ردّه الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بأنّ مجرّد الاحتمال لا يجدي بل يبقيه في بقعة الإمكان.

ثمّ استدرك بأنّه: إذا لم يمكن فرض الاشتراك اللّفظيّ بين الكلّ، ولم

ص: 10


1- الفصول الغرويّة: 62_ 63، وانظر: منتهى الاُصول: 1: 110.
2- انظر: فوائد الاُصول: 1: 128.
3- منتهى الاُصول: 1: 110.

يكن ها هنا احتمال آخر غير الاشتراك المعنويّ بين الكلّ، ثبت الاشتراك المعنويّ، لا محالة، كما هو شأن القياس الاستثنائيّ.

ثمّ ذكر: أنّه يمكن أن يقال بالاشتراك المعنويّ في بقيّة المعاني غير الطلب، وبالاشتراك اللفظيّ بينها وبين الطلب، أي: بين الجامع لتلك المعاني وبين الطلب.

وذكر بعد ذلك: أنّه يمكن تصوير الجامع بين الكلّ، وذلك ببيان:«أنّ الفعل باعتبار معناه المصدريّ يشمل جميع ما تعلّقت به إرادة اللّه جلّ جلاله، حتّى أنّه بهذا الاعتبار تكون الأحكام الشرعيّة _ أيضاً _ فعلاً، لأنّها أيضاً تعلّقت بها الإرادة الشرعيّة، أي: أنّها فعل ومجعول في عالم الاعتبار والتشريع، فالطلب _ الذي ينتزع عن إبراز الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة بالقول أو الفعل أو الكتابة، الذي هو أحد معاني الأمر _ أيضاً داخل تحت هذا المعنى؛ لأنّه أيضاً فعل، ومن مصاديقه بهذا المعنى.

نعم، لا يطلق على الذوات والأعيان باعتبار وجوداتها في أنفسها، كما أنّ الأمر في الأمر أيضاً كذلك»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّه لا يمكن تصوير الجامع بين هذه الاُمور، خصوصاً بين الأمر الذي بمعنى «الطلب» _ وهو المعنى الحدثيّ _ وبين الأمر بمعنى «الشيء» الذي هو من الجوامد. هذا أوّلاً.

ص: 11


1- المصدر نفسه.

وثانياً: إنّ الأمر بالمعنى الأوّل _ كما أسلفنا _ يجمع على «أوامر»، وبالمعنى الثاني يجمع على «اُمور»، فكيف يمكن الجمع بينهما؟!

الأمر الثالث: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر:

اشارة

أمّا اعتبار العلوّ:

فلا شكّ ولا شبهة فيه، ولذا يذمّ العقلاء خطاب المساوي لمن هو مساوٍ له أو أعلى منه إذا كان بلفظ الأمر، ويوبّخونه بمثل: إنّك لِمَ تأمره؟!

وقد يقال: بأنّ هذا لا يدلّ على أنّ الأمر منه غير دالٍّ على الطلب؛ لأنّ نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب أمراً، وإطلاق الأمر على طلبه كافٍ في مقام التوبيخ.

ويدلّ على كفاية الاستعلاء من الطالب في صدق الأمر على طلبه، وأنّه لا يُشترط العلوّ: تقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه.

ولكن لا إشكال في أنّ الطلب الذي كان موجّهاً إلى الشخص، إذا لم يكن فيه العلوّ والاستعلاء فإنّه لا يعدّ أمراً. وإنّما الكلام في كفاية أن يكون الشخص عالياً، أو يشترط فيه الاستعلاء أيضاً؟

وقد أُجيب عن الأوّل: بأنّ التوبيخ كان على استعلائه، لا على كون طلبه أمراً.

وعن الثاني: بأنّه إطلاق لفظ الأمر على طلبه، إنّما كان على حسب اعتقاده؛ لأنّه يرى نفسه بمنزلة الآمر، فالتوبيخ يكون على اعتقاده. هذا.

ص: 12

ولكنّ الحقّ: عدم صدق الأمر على طلبه، لأنّه يقع محلّ الاستهزاء، وأنّ العرف لا يراه أمراً.

وقد انقدح بما ذكرناه: عدم اتّجاه ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله: «وأنت خبير: بأنّ تحقيق هذه الجهة لا أثر له أصلاً؛ لأنّ الأمر الذي نبحث فيه: ما يصدر من المولى جلّ شأنه، وهو مستجمع للعلوّ والاستعلاء كما لا يخفى»(1).

إذ فيه: أنّ البحث في الاُصول يكون دائماً بحثاً كلّيّاً، وعلى نحو القاعدة الكلّيّة، فالبحث هنا ليس في خصوص أمر المولى الحقيقيّ حتّى يجاب عنه بهذا الجواب.

قد يقال: بأنّ الطلب من المساوي يكون التماساً، ومن الداني يكون دعاءً.

ولا يخفى _ كما قال بعض المحقّقين(رحمة الله) (2) _: أنّ «العالي» ليس بمعنى: أن يكون الطالب عالياً واقعاً، كأن يكون متّصفاً بأوصافٍ معنويّة معيّنة، وملكات علميّة، بل هو أمر اعتباريّ يختلف بحسب الزمان والمكان، فالملك _ مثلاً _ إذا كان نافذ الكلمة ومسموع القول، فإنّطلبه يكون أمراً. وأمّا إذا خُلِع أو سُجِن بحيث لم يعد نافذ الكلمة، وأصبح غير قادرٍ

ص: 13


1- منتقى الاُصول: 1: 375.
2- تهذيب الاُصول: 1: 100.

على إجراء أوامره وتكليفه، فإنّ طلبه لا يعدّ أمراً والحالة هذه، بل يكون التماساً، بل يكون هناك من يكون أمره نافذاً بالنسبة إليه، كرئيس السجن الذي هو فيه؛ لأنّه نافذ الكلمة بالنسبة إلى كلّ من يكون في محيط السجن.

وهل الاستعلاء شرط أم لا؟

قيل: يشترط فيه كلا الأمرين.

وقيل: أحدهما كافٍ على نحو مانعة الخلوّ.

ولكنّ الحقّ: أنّه يعتبر العلوّ فقط.

أمّا عدم صحّته من غير العالي، فلما مرّ، وأمّا الصحّة من العالي، ولو لم يكن مستعلياً، بل كان خافضاً جناحه، فإنّما هو لشهادة العرف والوجدان، وأمّا إذا لم يكن عالياً، وكان طلبه بنحو الاستعلاء، فإنّ طلبه هذا لا يكون أمراً حقيقيّاً.

فظهر: أنّ عنوان الآمريّة متقوّم بصدور البعث من العالي فقط، ولو كان خافضاً للجناح، فالطلب من الداني، ولو كان مستعلياً، ليس بأمرٍ _ لما ذكرنا _. كما أنّه إذا كان خافضاً للجناح، فطلبه ليس بأمرٍ بطريقٍ اُولى، بل لو أمر المساوي والداني لوبّخهما العقلاء.

ومن هنا ظهر: فساد ما ذكره بعض المحقّقين بقوله:«والظاهر: أنّ الاستعلاء أيضاً مأخوذ فيه، فلا يعدّ مكالمة المولى مع عبيده على طريق الاستدعاء والالتماس أمراً، كما هو واضح، فحينئذٍ: لا مناص عن القول بأنّ معنى الأمر ومفهومه أمر مضيّق، لا ينطبق إلّا على

ص: 14

الأمر العالي المستعلي عند التحليل»(1).

فإنّ الدليل على أنّ الاستعلاء ليس بشرطٍ أنّه يكفي أن يكون عالياً؛ لأنّه لو طلب المولى من العبد على نحو الاستدعاء ولم يفعل العبد، فللمولى أن يعاقبه.

الأمر الرابع: الأمر ينقسم إلى المولويّ والإرشاديّ:

الأمر المولويّ: وهو ما كانت المصلحة موجودةً في متعلّقه، وهذه المصلحة لو كانت ملزمةً فيترتّب عليه _ بحكم العقل _ استحقاق الثواب، وكذا إذا لم تكن ملزمة. كما يترتّب على مخالفته العقاب بشرط كونها ملزمةً، فإذا ورد الأمر من المولى على شيءٍ ما، كامتثال الصلوات، فإذا امتثله العبد ترتّب عليه أمران:

الأوّل: أنّ غرض المولى قد حصل من أمره لمكان المصالح الموجودة في المتعلّق.والثاني: يُحكم عليه بأنّه يستحقّ الجزاء والمثوبة بواسطة امتثاله للفعل وإطاعته لما أُمِر به.

والأمر الإرشاديّ: وهو البعث الصوريّ، وليس بطلبٍ حقيقةً. وقد يقال: بأنّه إخبار بأنّ في الفعل مصلحةً وإرشاداً إلى فعلٍ ذي مصلحة،

ص: 15


1- المصدر نفسه.

وهو عند العقلاء ليس إلّا لأجل الوصول إلى العمل الذي فيه مصلحة، فليس في مخالفته إلّا حرمة ترك مصلحة العمل المرشد إليه. فإذا أمر المولى بوجوب الصلاة للظهر، فيجتمع في هذا الواجب أمران:

أحدهما: الأمر الإرشاديّ، ويسمّى ﺑ «الأمر الثانويّ»، من جهة انطباقه ودخوله في كلّيّ ﴿أَطِيعُواْ ٱللهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾(1).

والثاني: الأمر المولويّ، وهو يكشف عن وجود مصلحةٍ في المتعلّق، فإذا أتى حينئذٍ بالظهر، لم يترتّب على موافقة الأمر الإرشاديّ أيّ جزاءٍ ومثوبة. نعم، يترتّب الثواب لأجل إطاعة الأمر المولويّ، كما أنّه لو خالف، ولم يأتِ بالظهر، فليس هناك إلّا عقاب واحد، وذلك من جهة ترك الأمر المولويّ بوجوب إتيان صلاة الظهر.ولا يخفى: أنّه لابدّ في الأوامر من المصلحة، وإلّا، يكون لغواً، فعلى هذا: المصلحة موجودة _ أيضاً _ في الأمر الإرشاديّ، وهي: الإرشاد والهداية إلى فعلٍ ذي مصلحة، هذا إذا علِم الشخص بكون الأمر مولويّاً أو إرشاديّاً، ويكون تميّز أحدهما عن الآخر بدون الرجوع إلى حكم العقل. فلابدّ من بيان معنى الإرشاديّ:

وقد اختلفت كلماتهم في ذلك:

فقالوا: إنّ الأمر في كلّ مورد حكم به العقل على نحو الاستقلال

ص: 16


1- النساء: 59.

فهو حكم إرشاديّ، كقبح الظلم وحُسن العدل؛ إذ في هذين الفعلين وأمثالهما، يوجد فيهما _ بحسب ذاتهما _ القيّم الذاتيّ في نظر العقل قبل فرض الشرع، ولذا، فلو ورد من الشارع حكم أو أمر فإنّه يكون إرشاديّاً، فالعقل له القدرة على درك الحَسَن والقبيح منهما مستقلّاً، وبدون أيّة واسطةٍ أو بيانٍ من الشارع، فبعد أن فُرِض للشيء الحُسن أو القُبح، فاللّازم على الشارع أن يحكم على طبق حكمه بقاعدة الملازمة، كما في حجّيّة القطع، وليس له أن يحكم على خلافه.

وقال آخرون: إنّ كل موردٍ لا يلزم من أمر الشارع فيه محذور عقليّ، كالدور أو التسلسل وكأوامر الإطاعة، فإنّه يكون أمراً إرشاديّاً.

وقال البعض الآخر: إنّ كلّ مورد يلزم من إعمال المولويّة فيه اللّغويّة، فهو إرشاد.

الأمر الخامس: ما وُضِع له الأمر:

هل الأمر موضوع لخصوص الوجوب أو الاستحباب _ كما ذكر في المعالم بالنسبة إلى لسان الشارع(1)_ أو للجامع بينهما؟!

الظاهر: أنّ الأمر إنّما هو موضوع لمطلق الطلب، ولو فُرِض تبادر الوجوب منه عند إطلاقه، إلّا أنّ الوجوب والاستحباب غير مأخوذين فيه

ص: 17


1- راجع: المعالم: ص 46.

وضعاً، وخارجان عمّا وُضِع له، فحينئذٍ: يمكن أن يُدّعى ظهور إطلاقيّ للوجوب عند عدم القرينة، ولو كان الوجوب داخلاً في لفظ الأمر فلم يكن للبحث الثالث _ وهو البحث عن أنّ الأمر هل هو من العالي أو الداني أو المساوي _ ثمرة.

وبناءً على هذا، فقد قالوا بدلالته على الوجوب، واستدلّوا له: بالتبادر.

ولكن: لم يُعلم أنّ التبادر الذي ادّعوه مستفاد من حاقّ اللّفظ، بل هو إنّما يُفهم من إطلاق اللّفظ. وممّن ادّعى هذا التبادر وتمسّك به صاحب الكفاية(قدس سره)، قال:

«لا يبعد: كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ

الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ِ﴾(1)،وقوله-: (لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك)(2)، وقوله- لبريرة بعد قوله (أتأمرني يا رسول اﷲ؟): (لا، بل إنّما أنا شافع)(3)، إلى غير ذلك... وصحّة الاحتجاج على العبد، ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرّد مخالفته، كما في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾(4)».

كما وأنكر(قدس سره) أن يكون الأمر موضوعاً للأعمّ، بقوله:

ص: 18


1- النور: 63.
2- عوالي اللآلي 2: 21، ح 43.
3- انظر: عوالي اللآلي 3: 349، ح 384.
4- الأعراف: 12.

«وصحّة تقسيمه إلى الوجوب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وصحّة الاستعمال في معنىً أعمّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ الأمر لا يدلّ إلّا على إرادة جامع الطلب، لا على خصوص الوجوب _ كما ادّعى صاحب الكفاية) وغيره _ وأمّا صحّةمؤاخذه العبد: فإنّما هي لأجل مقام العبوديّة والربوبيّة، حيث إنّ العقل يحكم بالإتيان حتماً، بل وفوراً، لا أنّ الأمر وُضِع للوجوب والفوريّة.

وكذا

بالنسبة إلى الآية الشريفة، أعني: ﴿فَلْيَحْذَرِ

الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ِ﴾(2)، فإنّها لا تصلح لإثبات المدّعى.

لا يقال: إنّه تعالى قد حذّر من مخالفة الأمر، والتحذير يدلّ على الوجوب؛ إذ لا معنى لندب الحذر وإباحته، وهو، وإن لم يدلّ على الوجوب رأساً، ولكن لا أقلّ من أنّه يدلّ على حسن الحذر من مخالفة الأمر، ومعلوم: أنّ حسنه يكشف عن ثبوت المقتضي له، وإلّا، كان التحذّر سفهاً وعبثاً، وهو محال على اﷲ عزّ وجلّ، فإذا ثبت المقتضي له، فقد ثبت وجوبه بعدم القول بالفصل، فالآية تدلّ على كون الأمر حقيقة في الوجوب.

ص: 19


1- كفاية الاُصول: 63_ 64.
2- النّور: 63.

فإنّه يقال: إنّ هذا الوجوب مستفاد من الإطلاق، لا من حاقّ اللّفظ.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«ولكن يعارض هذا الدليل _ بدواً _: صحّة مؤاخذة العبد بمجرّد الأمر؛ فإنّه ظاهر في ظهور الأمر في الوجوب»(1).وأمّا قوله-: «لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك»؛ فإنّ الأمر هنا _ أيضاً _ يدلّ على الوجوب بالقرينة، وهي كلمة «أشقّ»، وكذا بالنسبة إلى قوله: «أتأمرني يا رسول اﷲ؟»، فإنّه لا يدلّ على الوضع للوجوب، بل إنّما نفهم الوجوب من جهة القرينة، وهي: أنّ ما يأمر به رسول اﷲ- لابدّ من اتّباعه، وأنّه كان واجب الاتّباع، ولذا سُئِل: «أتأمرني يا رسول اﷲ؟». فالأمر هناك، وإن كان للوجوب، إلّا أنّه

بواسطة القرينة، وذلك غير مجدٍ كما عرفت.

وأيضاً: توبيخه على مجرّد المخالفة في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾(2)، إنّما هو لمقام العبوديّة والمولويّة، كما سبق؛ لأنّه لابدّ أن يأتي العبد بالعمل فوراً، ولا يجوز له التأخير إلّا إذا رخّص المولى في الترك أو التأخير، فالتقسيم حينئذٍ يكون تقسيماً حقيقيّاً بعد أن بُرهن على كونه موضوعاً للطّلب.

ص: 20


1- منتقى الاُصول: 1: 376.
2- الأعراف: 12.

وقد ظهر بذلك: فساد ما ذكره صاحب الكفاية) أخيراً من أنّ تقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وأنّ غايته: صحّة الاستعمال، وهي أعمّ من كونه على نحو الحقيقة.ثمّ ذكر(قدس سره) أنّ «الاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى: من منع الكبرى لو اُريد من المأمور به معناه الحقيقيّ، وإلّا، لا يفيد المدّعى»(1).

لكنّ الحقّ: وجود الدليل على كونه موضوعاً للمأمور به الحقيقيّ، كما سنبيّن.

أمّا ظهور الوجوب من الإطلاق: فلأنّ كلّ ما يحتاج إلى مؤونةٍ زائدةٍ على إلقاء أصل الطبيعة، ولم يأتِ المتكلّم بتلك المؤونة أو لم يُشِر إليها في كلامه، ولو بالقرينة، فإنّ الإطلاق يرفعها، سواء كانت نتيجته التوسّع أو التضييق، ولذا قالوا: إنّ إطلاق الأمر يقتضي كون الوجوب نفسيّاً؛ لأنّ الغيريّ يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، وهي: بيان أنّ الإتيان يكون لأجل التوصّل به إلى الغير؛ وعينيّاً؛ لأنّ الكفائيّ يحتاج إلى ذكر «أو غيرك»، وتعيينيّاً؛ لأنّ التخييريّ يحتاج إلى ذكر شيءٍ آخر.

إذاً، فإذا أمر وأطلق في أمره، ولم يأتِ بالقرينة، ولم يشِر إلى شيءٍ

ص: 21


1- كفاية الاُصول: 64.

آخر، حُمِل على الوجوب، فبالإطلاق نحكم بالوجوب، وإلّا، فإنّ نفس الأمر لا يدلّ إلّا على مطلق الطلب، والخصوصيّة _ كما مرّ _ تُفهم من الخارج، وهو: مولويّة المولى وعبوديّة العبد.ولذا، فلو أمر المولى لم يتمكّن من ترك امتثال أمره، والعقلاء يوبّخونه لو تركه، وإن اعتذر بأنّي كنت أتخيّل بأنّه ليس للوجوب، ويقولون: بأنّ الأمر لو كان غير إلزاميّ، لكان على المولى الإشارة إليه بالترخيص.

وبالجملة: فنحن نفهم الوجوب من الظهور الإطلاقيّ، وهذا لا يعني: أنّ الأمر مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك، وأنّ الاستحباب مركّب من الطلب والإذن في الترك، ولا أنّ الوجوب هو الطلب الشديد، وأنّ الاستحباب هو الطلب الضعيف كما قد يقال؛ إذ:

أوّلاً: إنّ اللّزوم والشدّة لا يُعرفان إلّا من جهة الملاك الملزم والعقل لا يدركه، ولا يد له فيه.

وثانياً: لا فرق في كيفيّة الطلب بين الوجوب والاستحباب، ولا بين اللّزوم وعدم اللّزوم؛ فالطلب يشملهما معاً.

وقد استدلّ للوضع للطلب باُمور:

الأوّل: تقسيم الأمر إلى الوجوب والاستحباب، والمقسم لابدّ وأن يكون غير الأقسام، و هو يدلّ على أنّ الأمر موضوع للجامع، وهو مطلق الطلب.الثاني: لو لم يكن الأمر موضوعاً للجامع، لكان إمّا موضوعاً لكلّ

ص: 22

واحدٍ منهما، فيلزم منه الاشتراك اللفظيّ، أو للوجوب، فيكون استعماله للنّدب مجازاً، وكلاهما على خلاف الأصل.

الثالث: أنّه به يرتفع الإشكال الذي ورد في قوله(علیه السلام): «اغتسل للجمعة والجنابة»(1)؛ لأنّه بناءً على قولهم: يلزم استعمال الأمر في أكثر معنىً إذا أراد في استعمالٍ واحدٍ الوجوب والندب، كما في هذا الخبر، فلابدّ أن يكون الأمر دالّاً على الطلب، وليس للوجوب والاستحباب مركّباً، ولولا أنّنا فهمنا الترخيص في إتيان غسل الجمعة من الخارج لقلنا بوجوبه هو أيضاً.

فإذا التزمنا بكون الوجوب هو الطلب الشديد والاستحباب هو الطلب الضعيف، كما نُسِب إلى المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره)، أو بأنّ الوجوب هو الطلب التامّ غير المحدود والاستحباب هو الطلب الناقص المحدود، فيلزم أيضاً نفس الإشكال، مضافاً إلى الإشكال الوارد في أصل كلامه)؛ إذ _ كما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره)(2) _ كأنّه قاس المقام بحقيقة الوجود، حيث يقول الحكماء: بأنّ مرتبة منه غير محدودةٍ وهي الوجودالصرف، وصرف الوجود، وهو وجود الواجب جلّ جلاله، لأنّه في غاية الكمال، ولا نقص فيه، ولا حدّ له أصلاً، وهو غير متناهٍ. وأمّا المراتب الاُخرى:

ص: 23


1- لم نعثر عليه في المتون الروائيّة، مع كونه مشهوراً على الألسن، والظاهر أنّه من تمثيلات الاُصوليّين والفقهاء. والله العالم.
2- منتهى الاُصول: 1: 113_ 114.

فكلّها ناقصة محدودة؛ لأنّها مركّبة من ذات الوجود وحدّه الذي هو عبارة عن الماهيّة.

ولكنّ هذا القياس في غير محلّه:

إذ المفهوم _ أعني: مفهوم الطلب _ لا يتّصف بالنقص والتمام قطعاً، وكذا الإرادة. نعم، بحسب الملاك يكون كذلك.

مضافاً: إلى أنّ كون الإرادة تامّةً وغير محدودة هو أمر لا معنى ولا محصّل له، لأنّ جميع الوجودات _ ما عدا الواجب _ محدودة، وحدودها ماهيّاتها.

وقد استدلّوا على ذلك _ أيضاً _ بالتبادر.

وفيه: أنّه ليس بحجّةٍ أوّلاً، كما سبق، ولو سلّمنا بكونه حجّة فيما لو كانت دلالته من حاقّ اللّفظ.

ومن هنا ظهر: أنّ ما ذكره بعض المحقّقين(قدس سره)(1) من أنّ الدليل الوحيد هو التبادر، ليس على ما ينبغي.وللمحقّق العراقيّ(قدس سره) هنا كلام في أنّ دلالة الأمر على الوجوب في هذه الموارد وصحّة الاستدلال على هذا المبنى مبنيّة على صحّة التمسّك بالعامّ لإثبات كون المشكوك الفرديّة فرداً للعامّ بعد اليقين بخروجه عن حكم العامّ.

ص: 24


1- تهذيب الاُصول: 1: 101.

بيان الملازمة: أنّ تلك اللّوازم _ من لزوم الخطر والتوبيخ والمشقّة _ لا تترتّب على الطلب الاستحبابيّ يقيناً، فهل خروج الطلب الاستحبابيّ عمّا هو مترتّب على الأمر هو بنحو التخصّص؛ ليكون لفظ العامّ حقيقةً في ملزوم هذه اللّوازم،وهو الوجوب ؟ أو بنحو التخصيص؛ ليكون الأمر حقيقةً في الأعمّ؟ فإذا قلنا بأصالة العموم وعدم التخصيص في المقام، لزم كون الأمر حقيقةً في خصوص الطلب الإلزاميّ(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ أصالة العموم لا تجري هنا؛ لأنّها من الاُصول العقلائيّة، وإنّما تكون حجّةً في مقام الشكّ في المراد من اللّفظ للعمل به، لا لإثبات أنّ اللّفظ موضوع لما اُريد منه.فالحاصل: أنّ الصحيح في لفظ الأمر أنّه موضوع لمطلق الطلب، لا للوجوب خاصّةً ولا للندب خاصّةً؛ لأنّه لا يُفهم من مادّته إلّا الطلب الأعمّ من الوجوب والندب.

ص: 25


1- راجع: بدائع الأفكار: ص 198.

ص: 26

الكلام في الطلب والإرادة

اشارة

هل هما متّحدان ذاتاً ومفهوماً أم متّحدان ذاتاً دون المفهوم أم هناك تباين بينهما؟؟

اختار صاحب الكفاية) القول باتّحاد الطلب والإرادة مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، بمعنى: أنّ مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب، والإرادةالإنشائيّة عين الطلب الإنشائيّ، وواقع الإرادة عين واقع الطلب، ولا فرق بينهما ذاتاً ووضعاً، وإنّما الفرق بينهما لفظيّ لا أكثر؛ فإنّ لفظ «الطلب» ينصرف إلى الطلب الإنشائيّ، ولفظ «الإرادة» ينصرف إلى الإرادة الحقيقيّة، وقد نُسِب هذا الرأي إلى المعتزلة، فيما نسِبت دعوى تغايرهما إلى الأشاعرة.

وإليك نصّ كلامه:

«فاعلم

أنّ الحقّ _ كما عليه أهله، وفاقاً للمعتزلة، وخلافاً للأشاعرة _ هو اتّحاد الطلب والإرادة، بمعنى: أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهومٍ واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه

ص: 27

أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة، وبالجملة: هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً»(1).

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان مقدّمة، حاصلها:

أنّ الحمل على قسمين: (الأوّليّ الذاتيّ)، وهو أن يكون الاختلاف بين الموضوع والمحمول بالإجمال والتفصيل. و(الشايع الصناعيّ)، وهو ما كان الاتحّاد بينهما في الخارج والتغاير من حيث المفهوم.

وقد قسّم صاحب الكفاية الطلب إلى قسمين:الأوّل:

الطلب الحقيقيّ، وهو الذي يكون طلباً بالحمل الشائع، وهو _ كما مرّ _ الاتّحاد في الوجود والتغاير بالمفهوم.

والثاني: الطلب الإنشائيّ، وهو القائم بالنفس، أي: الشوق المؤكّد الحاصل للنّفس عقيب الداعي.

والطلب

الذي هو معنى الأمر هو الطلب الحقيقيّ، لا الإنشائيّ، ولا تلازم بين الطلبين، فإذا أراد المولى امتحان عبده، ولم يكن في قرارة نفسه طالباً للماء حقيقةً، ومع ذلك طلبه منه؛ فإنّ هذا يصدق عليه الطلب الإنشائيّ، دون الطلب الواقعيّ الحقيقيّ.

ولكنّه، وبعد أن ذكر أنّ الطلب والإرادة متّحدان، استدرك قائلاً:

«ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعاً للطلب، فلا أقلّ من كونه منصرفاً

ص: 28


1- كفاية الاُصول: 64.

إلى الإنشائيّ منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ (الطلب) أيضاً، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائيّ»(1).

وحاصله: أنّه لو قلنا: بأنّ لفظ (الأمر) موضوع لجامع الطلب، لا لخصوص الطلب الإنشائيّ، ولكن مع ذلك، فإنّه يكون منصرفاً إلى خصوص الطلب الإنشائيّ، وهو سبب لظهور الأمر فيه.ثمّ قال: «كما أنّ الأمر في لفظ (الإرادة) على عكس لفظ (الطلب)، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة»، أي: التي تكون قائمةً بالنفس، فهذا الانصراف هو الذي يكون سبباً للاختلاف بينهما، وإلّا، فإنّ كلّاً من الطلب والإرادة يكون عين الآخر، فالطلب الحقيقيّ هو عين الإرادة الحقيقيّة، والإرادة الإنشائيّة هي عين الطلب الإنشائيّ.

ثمّ قال: «واختلافهما في ذلك [_ أيضاً _: في الانصراف] ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة».

وقد نسِب هذا الميل إلى المحقّق الخوانساريّ(2) وصاحب الحاشية*.

فقال الأوّل: «إذا كان الطلب هو الإرادة، وكان المطلوب من الصيغة الموضوعة للطّلب إعلام المخاطب بحصول الإرادة في النفس، فيلزم أن

ص: 29


1- المصدر نفسه.
2- في رسالته المعمولة في مقدّمة الواجب، انظر: منتهى الدّراية: 1: 382.

يكون وضع الجمل الطلبية لغواً غير محتاجٍ إليه، وتكون مفهوماتها ممّا لا يتعلّق بتصوّرها غرض أصلاً، وهو باطل».

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الجملة الخبريّة تكون كاشفةً عن الإرادة، فيترتّب عليها ما يترتّب على الإرادة الموجودة في النفس، وعلى أنتكون الصيغة كاشفةً عن الطلب الذي هو مغاير للإرادة، فلا يترتّب عليه ما يترتّب على إحراز إرادة المولى.

وقال الثاني: «إنّهم اختلفوا في كون الطلب المدلول للأمر نفس الإرادة أو غيرها، إلى أن يقول بعد كلامٍ طويل... فظهر بما قرّرنا: قوّة القول بمغايرة الطلب للإرادة»(1).

وأمّا الأقوال في المسألة عند المتكلّمين:

فقد ذهب الأشاعرة إلى القول بالتغاير، وعمدة ما ادّعوه في المقام هو: إثبات الكلام في النفس، أي: أنّ هناك صفةً اُخرى غير الإرادة قائمة في النفس، وأنّ النفس قد دلّت عليها، كما قيل(2):

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جُعِل اللّسان على الفؤاد دليلاً .

وهذه الصفة من صفات النفس، وهي غير الإرادة والعلم وسائر الصفات المشهورة من التمنّي والترجّي وغيرهما، وهي مدلول للكلام اللّفظيّ، وتسمّى ﺑ (الطلب).

ص: 30


1- هداية المسترشدين 1: 582.
2- نسبه في الشوارق إلى الأخطل، انظر: شوارق الإلهام: ص 555.

وأمّا الإماميّة فيقولون: ليس هناك وراء الصفات المشهورة، من العلم والقدرة وغيرهما صفة اُخرى تكون قائمةً بالنفس، ويسمّى ﺑ (الطلب) حتّى تكون مدلولاً للكلام اللّفظيّ.

واستدلّ الأشاعرة على ما ادّعوه:

أوّلاً: بأنّ للمولى أوامر امتحانيّة، وهذه الأوامر لم تتعلّق بها الإرادة بالفعل، وإلّا، فإنّها تكون جدّيّةً، لا امتحانيّة، ونحن نرى: أنّ الطلب هنا موجود قطعاً، ولا يمكن إنكاره، بل إنّ إنكار الطلب هنا يكون مساوقاً لإنكار أصل الأمر، وهو خلف.

ولكن لا يخفى: أنّ الأوامر الامتحانيّة على قسمين، فإنّ المولى:

تارةً: يأمر العبد ويريد بامتحانه هذا صدور العمل وتحقّقه منه خارجاً لكي يستكشف قدرته على ذلك العمل، وليس إتيانه هذا لأجل ما فيه من المصلحة، بل يحاول المولى تحصيلها بنفس العمل الصادر من العبد، ففي مثله: فكما أنّ الطلب موجود فإنّ الإرادة أيضاً تكون موجودة.

واُخرى: يكون مقصود الآمر من الأمر امتحان العبد وأنّه مستعدّ للإطاعة أم لا؟ وقد يستكشف منه الاستعداد للإطاعة من خلال شروعه في بعض مقدّمات العمل، كما فعل إبراهيم(علیه السلام)، ففي مثل هذا المورد: ليس العمل منه مراداً، وليس هناك إرادة ولا طلب جدّيّ، بل الأمرالصادر

ليس بأمرٍ حقيقيّ، وإنّما هو إنشاء للكلام بصورة الأمر، وهذا الأمر _ حينئذٍ _ كما أنّه يكون خالياً من الإرادة، فإنّه يكون خالياً من الطلب أيضاً.

ص: 31

وثانياً: أنّ الكفّار، بل ومطلق العصاة، مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاُصول، وهم يستحقّون العقاب على مخالفتها إجماعاً. وغير خفيٍّ: أنّه لا عقاب إلّا على مخالفة التكاليف الإلزاميّة الحقيقيّة، وأمّا عدم وجوب القضاء عليهم بعد إسلامهم فإنّما هو لدليلٍ خاصّ.

وإذا اتّضح ذلك: فإنّ أمر الكفّار بالإسلام والإيمان، والأوامر المتوجّهة إلى الكلّ _ بالنسبة إلى الفروع والأحكام الشرعيّة _ من الكفّار والعصاة لم تتعلّق بمتعلّقاتها إرادة من قبل المولى، وإلّا، يلزم تخلّف الإرادة عن المراد، وتخلّف إرادته تعالى عن المراد محال _ كما هو ظاهر _، فإنّه جلّ وعلا إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له: كن، فيكون.

وإذا ثبت انتفاء إمكان إرادته عن المراد، فحينئذٍ: كيف يمكن توجّه التكاليف بالاُصول والفروع إلى الكفّار والعصاة؟! فلابدّ من القول بعدم تحقّق الطلب منه فيها، ولكن الطلب منه يكون موجوداً _ لا محالة _ وإلّا، لزم الخلف، وعليه: فيلزم تحقّق الطلب بلا إرادة، وهذا دليل على المغايرة بين الطلب والإرادة، وهو المطلوب.وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ اﷲ تبارك وتعالى حينما يأمر الكفّار بالإيمان _ مثلاً_ : فإمّا أن يكون هذا الأمر صوريّاً، فلا يكون هناك إرادة في البين أصلاً. وإمّا أن يكون جدّيّاً وتكون الإرادة موجودةً، فكيف حينئذٍ تتخلّف الإرادة عن المراد؟!

فإن قلنا: بأنّ هذه الأوامر صوريّة، فلماذا _ إذاً _ يعاقب الكفّار على

ص: 32

تركها، مع أنّهم معاقبون بالفروع، كما عليه الإجماع؟!

وإن كانت جدّيّةً فكيف يمكن الالتزام بتخلّف الإرادة عن المراد مع أنّه تعالى قد أمرهم بذلك ولم يؤمنوا؟!

وأمّا لو بنينا على التغاير بين الإرادة والطلب، فلا يلزم شيء من المحذورين؛ لأنّ التكاليف الموجّهة للكفّار _ حينئذٍ _ تكون على نحو الحقيقة، وناشئةً عن طلبٍ حقيقيٍّ، غاية الأمر: أنّه ليس في البين من إرادةٍ حقيقيّة.

ويمكن أن يجاب عنه بعد بيان معنى الإرادة وأقسامها، فنقول:

لا يخفى: أنّ الإرادة في الأفعال الاختياريّة للعباد عبارة عن العلم الأنفع الذي هو منبعث عن الشوق المؤكّد، والمقدّمات للفعل الاختياريّ للعبد، عبارة عن: التصوّر والتصديق بالفائدة والإذعان، ثمّ يحصل له على أثر ذلك شوق مؤكّد وجزم وعزم على الفعل، فإذا عرف أنّ هذا الفعل أنفع له، تتحرّك عضلاته نحو الفعل، فيصدر الفعلمنه. فآخر المقدّمات _ إذاً _ والتي تكون موجبةً لتحرّك العضلات إنّما هي الإرادة.

وأمّا الإرادة في أفعال اﷲ تعالى، فهي عبارة عن إيجاد الفعل مع العلم بالصلاح، وأمّا تلك المقدّمات التي كانت سبباً لصدور الفعل من العبد، فهي مستحيلة في حقّ الباري تعالى؛ إذ إنّ هذه المقدّمات هي العوارض والحالات المختلفة التي تعرض على الفاعل، ولا يمكن أن تكون ذاته جلّ وعلا محلّاً للعوارض والحوادث.

ص: 33

وقد اتّضح: أنّ إرادة اﷲ تعالى عبارة عن إيجاد الفعل مع العلم بالصلاح، وأنّ علمه بوجود المصلحة هو الذي يكون باعثاً له على إيجاد الفعل.

ثمّ إنّ الإرادة على قسمين: تكوينيّة وتشريعيّة.

وأيضاً: فإنّ الإرادة تنقسم بتقسيمات:

الأوّل: تقسيمها إلى إرادة فعليّةٍ واستقباليّة.

أمّا الإرادة الفعليّة: فهي ما تتعلّق بالشيء في الحال، كما إذا أراد ان يحرّك يده فعلاً أو أن يشتغل بالأكل والشرب كذلك.

وأمّا الإرادة الاستقباليّة، فهي التي تتعلّق بأمرٍ استقباليّ، كما إذا أراد الانسان الصوم غداً أو أن يسافر بعد يومين.وفي الحقيقة، فإنّ عدّ هذا التقسيم تقسيماً للإرادة مجاز، وإنّما هو تقسيم للمراد.

والثاني: تقسيمها إلى الإرادة الحقيقيّة والإنشائيّة.

وهذا التقسيم مبنيّ على تخيّل الترادف بين الطلب والإرادة، أي: على تصوّر أنّ لمعناهما مصداقين: الأوّل: المصداق الحقيقيّ، وهي الصفة الموجودة في النفس، والثاني: المصداق الإنشائيّ، وهو الطلب الإنشائيّ والإرادة الإنشائيّة.

والثالث: تقسيمها إلى الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة.

أمّا الاُولى: فهي أن يستعمل اللّفظ في معنىً من المعاني، ولكن يشكّ

ص: 34

في أنّ المتكلّم هل أراد المعنى المستعمل فيه حقيقةً أم لا؟ فلو قال: (أكرم العلماء) فلفظ (العلماء) عامّ يستعمل في معناه الحقيقيّ، وهو شمول كلّ فردٍ فردٍ من العلماء، ولكن يشكّ في أنّ هذا الاستعمال هل هو مطابق لإرادته، حتّى تكون الإرادة جدّيّةً، أم لا، أي: أنّه هل اُريد مطلق العالم أم المقيّد بالإيمان والعدالة، ليخرج حينئذٍ الفاسق والكافر؟!

وعلى أيّ حالٍ: فالكلام في هذه الأقسام هنا في غير محلّه، بل إنّما هو في الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.فأمّا الإرادة التكوينيّة: فهي عبارة عن علمه تعالى بصلاح إيجاد الفعل في الاُمور التكوينيّة، أي: الأفعال التي هي من مختصّاته جلّ وعلا، كالخلق والرزق والإماتة والإحياء، وهذه الإرادة تتعلّق بذوات الماهيّات، وتفيض عليها الوجود، وهي غير قابلةٍ للتخلّف عن المراد.

وأمّا

الإرادة التشريعيّة: فهي عبارة عن وجود المصلحة في إتيان العبد بالفعل الصادر منه باختياره لا بالإلجاء والاضطرار، أي: أنّ اﷲ تبارك وتعالى حينما يريد شيئاً من العباد، فهو يرسل إليهم الرسل، وينزل الكتب، ويجعل لهم قوانين وأحكاماً، وبما أنّ أوامره هي _ على الأصحّ _ تابعة للمصالح والمفاسد، والمصالح الموجودة في هذه الأحكام هي في أن يأتي العبد الشيء باختياره، لا جبراً ولا قهراً، ولذلك، فإنّ إرادة اﷲ تعالى عندما تعلّقت بهذه الأحكام فإنّما تعلّقت بإتيان العبد إيّاها على نحو الاختيار، لا جبراً.

ص: 35

وعليه: فالفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة هو أنّ المصلحة في الإرادة التكوينيّة في إيجاد الفعل بما أنّه من أفعال اﷲ وخارج عن اختيار العبد، فالمصلحة إنّما هي في إيجاد هذه الأفعال في الخارج، ولذلك، فبمجرّد تعلّق الإرادة بالماهيّات توجد، دونما تأنٍّ ولا تخلّف.

وأمّا المصلحة في الإرادة التشريعيّة فهي في نفس فعل العبد، وقد تكون المصلحة في الأمر والنهي، ويكون الفعل من الأفعال الاختياريّةللعبد، وتكون المصلحة تكون في صدوره من العبد باختياره. الأمر الذي يعني: أنّ الإرادة ليست علّةً تامّةً لوجود الفعل في الخارج حتّى يمتنع التخلّف، وإنّما هي علّة تامّة لإحداث الداعي للعبد ليوجِد الفعل باختياره، فما دامت الإرادة قد تعلّقت بإتيان الفعل، ولكن بالاختيار، فلو لم يأتِ به العبد، فلا يكون هناك تخلّف للإرادة عن المراد، ووجود المتعلّق بدون اختيار العبد خلف. فالطلب والإرادة الحقيقيّان كلاهما موجودان في تكاليف الكفّار والعصاة، فلا تكون هذه الإرادة صوريّةً بل تكون حقيقيّة، وكذا الطلب؛ فإنّه يكون حقيقيّاً، ولا يلزم هناك تخلّف للإرادة عن المراد، بل يستحيل أن تتخلّف الإرادة الإلهيّة عن المراد بعدما تعلّقت بإتيان الفعل بإرادة العبد.

نعم، لو كانت الإرادة تكوينيّةً، فلو قلنا بكون التكليف جدّيّاً، للزم تخلّف الإرادة عن المراد في تكاليف الكفّار، فما ذكره الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة في غير محلّه.

ص: 36

وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين من المحشّين على الكفاية بما حاصله(1):أنّ الإرادة التشريعيّة لا يمكن أن تتعلّق بفعل الغير إلّا إذا كان ذلك الفعل الذي يصدر من الغير ذا فائدةٍ عائدةٍ إلى المريد، وحيث إنّ فعل العبد ليس فيه فائده عائدة إلى اﷲ تعالى عن ذلك، فلا يمكن أن تتعلّق إرادته بفعل العبد. نعم، تتعلّق بإيصال النفع إلى العبد بتحريكه وبعثه نحو الفعل، وإيصال النفع إلى العباد وتحريكهم نحو الأفعال الحسنة والزجر عن السيّئات يكون من أفعال اﷲ تبارك وتعالى لا فعل العبد.

فهو منه عجيب: إذ إنّ أفعال اﷲ لا تعلّل، لأنّه يكون سبباً لنقصه لو قلنا بذلك، ولو كان فعله منوطاً بوصول الفائدة إليه، مع أنّه غير محتاجٍ حتّى تصل الفائدة إليه. فإنّ أوامره _ كما هو الحقّ _ تابعة للمصالح والمفاسد، وهذا قد يكون في نفس الأمر، وقد يكون في المتعلّق، وهذا الحكم والأمر يكونان تابعين للمصلحة حتّى من جهة السعة والضيق، والمصلحة تارةً تكون راجعةً إلى النوع، واُخرى إلى الشخص، فلا فرق بين أن يتعلّق الأمر بفعل الغير أو بإيصال النفع إليه.

فإن قلت: إنّ الأفعال التكوينيّة صادرة بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلّف عن المراد، فلا يصحّ أن يتعلّق بهذه الأفعال تكاليف، لكونها خارجةً عن الاختيار؛ لأنّه إذا تعلّقت إرادته بالإيمان أو بالكفر، فلا

ص: 37


1- انظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية 2: 123.

محيص عن اختيار أيٍّ منهما الذي تعلّقت إرادته به، فإذا كانت قد تعلّقت بالإيمان فلابدّ منه، أو بالكفر فلابدّ منه. أو يلزم عدمجواز تعلّق التكليف به لو كان تكوينيّاً، لصيرورته غير مقدورٍ للعبد، فبعد تعلّق إرادته تعالى الموجبة لضرورة وجود التكاليف أو ضرورة عدمها، فلا يبقى للعبد اختيار أصلاً كي يصحّ أن يوجّه التكليف إليه، فيكون العبد _ والحالة هذه _ مضطرّاً عليه.

قلتُ: لا يخفى: أنّ هذا الكلام شبهة في مقابل الوجدان والبديهة؛ فإنّ الإنسان العاقل يفرّق بين حركة يده حال الكتابة ويدرِك أنّه مختار، وأمّا إذا كان هناك تشنّج في العصب أو شلل _ مثلاً _ فلا يتمكّن من تحريك يده، فلو تحرّكت والحالة هذه، فإنّ حركتها _ حينئذٍ _ تكون حركةً بدون الاختيار، فهذا الوجدان الذي يعضده البرهان لا يمكن أن يقف أمامه أيّ دليل. وهل هناك دعائم أو أساس يمكن أن يستند إليها أكثر متانةً من الوجدان؟! فقيام الوجدان يكفي عن إقامة البرهان، ولكن مع ذلك، فلا بأس بالإشارة إلى الأقوال التي وردت هنا، وهي ثلاثة:

الأوّل: ما عن المجبّرة، من أنّ جميع الأفعال من اﷲ، وأنّ العبد ليس بمختارٍ في جميع ما يصدر منه، من الكفر والإيمان وغيرهما، فأفعال الجوارح أيضاً تكون كذلك، وليس العبد سوى مجرّد آلة، فاﷲ تبارك وتعالى يوجّهه بإرادته كيف يشاء.

ولكنّ جمعاً من الحكماء، وبعد أن رأوا أنّ هذا القول فاسد أيّما

ص: 38

فساد،

لأنّه بناءً عليه لا يصدق على العبد أبداً عنوان (المطيع) ولاعنوان (العاصي)، قالوا: بأنّ أصل الفعل يكون من اﷲ وعلى العبد الكسب، وقال آخرون منهم: إنّ العبد حينما يهمّ ويعزم على الإتيان بالفعل، فإنّ اﷲ تبارك وتعالى يوجده له.

والثاني: وهو يعارض القول السابق المفضي إلى الجبر؛ فعلى العكس منه، التزم أصحابه بكون العباد مستقلّين في أفعالهم وتصرّفاتهم، ورأوا أنّ كلّ ما يصدر منهم يكون بالاختيار، وأن ليس ﷲ تعالى أيّ دخلٍ في أفعال العباد. وهذه عقيدة المعتزلة، ونسِبت كذلك إلى الزيديّة. ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُواْ﴾(1).

والثالث _ وهو الحقّ _: ما التزم به الإماميّة القائلين بالقول الوسط، وهو أنّه «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين»؛ فإنّ الأفعال، وإن كانت صادرةً من العبد باختياره وإرادته، ولكنّها تحتاج _ مع ذلك _ إلى حولٍ وقوّةٍ وإرادةٍ من اﷲ جلّ وعلا، بحيث لو توافقت عليه إرادة الحقّ صدر منه، وإلّا، فلا، بل إرادة اﷲ تكون تابعةً لإرادة العبد، أراد الكفر أم أراد الإيمان؛ لأنّه هو الذي أراد للعبد أن يفعل باختياره، وحال العبد يكون حال اليد الشلّاء التي لا قدرة لها على العمل إلّا إذا اتّصلت بها القوّة الكهربائيّة، فحينئذٍ: تعمل كلّ الأشياء باختياره مادامت متّصلةً بالكهرباء،

ص: 39


1- المائدة: 64.

فما دامت هذه القوّة موجودةً، فإنّ العبد يفعل الأشياء باختياره وبإرادته جلّ وعلا، وما دامت هذه القوّة موجودةً تصبح يده كاليد العاديّة؛ فيفعل الأشياء باختياره.

أمّا المذهب الأوّل: فغير تامٍّ، لاُمورٍ:

الأمر الأوّل: كونه خلاف الوجدان والعقل؛ لأنّه يفرّق بين اليد المرتعشة والصحيحة، وبين سقوطه من السطح ونزوله باختياره، وليس كما قال الشاعر:

ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء .

والثاني: لو كان العباد غير مختارين أصلاً، فلابدّ أن لا يكون هناك فرق بين أفعالهم، بل تكون كلّها على طرازٍ واحد، أي: غير اختياريّة.

والثالث: لو كانوا مجبورين، لكان إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثاً، بل جعل التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والجنّة والنار كلّها يكون كذلك.

والرابع: لو كان كذلك، لكان اﷲ أظلم الظالمين _ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً _؛ إذ كان يعذّب العبد بالفعل الذي صدر منه، مع أنّه في الحقيقة صادر منه تعالى ومنسوب إليه.

والخامس: كيف يستحقّ العبد حينئذٍ الثواب على عملٍ لم يصدر منه أصلاً، أو أنّه صدر منه بلا اختيار؟!والسادس: أنّ الآيات الشريفة تشير بالصراحة إلى أنّ أفعال العباد كلّها

ص: 40

مستندة إليهم، كقوله تعالى: ﴿فَوَي_ْلٌ لّلَِّ__ذِينَ يَكتْ__ُبُون الْ_كِتَابَ بِأَي_ْدِيهِمْ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأنفُسِهِمْ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَل_ٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(4).

وكيف كان: فقد استدلّ الجبريّة باُمور:

الأمر الأوّل:

اشارة

أنّ أفعال العباد من الاُمور الممكنة، وكلّ ممكنٍ فهو محتاج، وهذه العلل لابدّ أن تنتهي إلى علّةٍ تامّة، لأنّ الممكنات لا اقتدار ولا إرادة اختياريّة لها، لبطلان التسلسل والدور.

ولا بأس هنا بأن نتعرّض لشرح الدور والتسلسل وبيان بطلانهما.

أمّا تعريف الدور:فهو أن يكون هناك شيئان يتوقّف وجود أحدهما على الآخر، ويكون وجود كلّ منهما سبباً لوجود الآخر. وهو على ثلاثة أقسامٍ: مصرّح ومضمر ومعيّ.

ص: 41


1- البقرة: 79، والويل بمعنى: الهلاك، والمراد ممّن يكتبون الكتاب اليهود.
2- الرعد: 11، أي: من عافيةٍ أو نعم، حتّى يغيّروا من الطّاعة أو المعصية.
3- النساء: 123.
4- النحل: 118، أي: بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسلنا إليهم من الأحكام.

القسم الأوّل: وهو توقّف أحد الشيئين على الآخر بدون أيّ واسطةٍ بينهما، كتوقّف وجود الأب على الابن، وبالعكس، وتوقّف وجود الدجاجة على البيض، وبالعكس.

وبطلان هذا القسم بديهيّ؛ لأنّه يلزم منه تقدّم وجود الشيء على نفسه؛ إذ لو توقّف وجود الابن على وجود الأب، ووجود الأب على وجود الابن، كان وجود الأب متوقّفاً على وجود نفسه، ومعناه: أن يكون موجوداً قبل نفسه، فيلزم اجتماع النقيضين؛ لأنّه لابدّ _ حينئذٍ _ من أن يكون في حال وجوده معدوماً.

والقسم الثاني: الدور المضمر، وهو توقّف أحد الشيئين على الآخر، ولكن مع توسّط شيءٍ بينهما، مثلاً: إنّ الأب سبب لوجود الابن، والجدّ سبب لوجود الأب، ونفس الابن يكون سبباً لوجود الجدّ.

وهذا القسم من الدور باطل أيضاً؛ لأنّ التوقّف على الشيء الذي هو متوقّف على نفسه محال، حتّى ولو كان في البين وسائط كثيرة.

والقسم الثالث: الدور المعيّ، وهو ما إذا كان شيئان يتوقّف أحدهما على الآخر، ولكن يتوقّف كلاهما على شيءٍ ثالث، كأن يكون هناكحجران يتوقّف أحدهما على الآخر، ولكن كان كلاهما مستنداً إلى شيءٍ ثالث، وهو الأرض _ مثلاً _.

وهذا القسم من الدور ليس بمحالٍ؛ لأنّ كليهما معلول لشيءٍ ثالثٍ، وهو الأرض.

ص: 42

وأمّا التسلسل:

فهو أن يتوقّف أحد الشيئين على الثاني، والثاني على الثالث، والثالث على الرابع، وهكذا... وهو باطل ومحال لأحد الدليلين المذكورين أدناه:

الدليل الأوّل:

أنّه لو كان هناك خطّان متوازيان ومتساويان، فلو قطعنا من طرف أحدهما ذراعاً، ثمّ قسنا أحدهما إلى الآخر، فلا يمكن أن يبقى هذان الخطّان متساويين، لأنّه قبل أن يقطع من أحدهما ذراع كانا كذلك، فبعد القطع، يكون أحدهما أقلّ من الآخر لا محالة، وإلّا، لزم التساوي بين الزائد والناقص، فلو كان أحدهما أنقص من الآخر فلا يمكن أن يكون غير متناهٍ؛ لأنّه لا يمكن أن يتصوّر بين الشيئين غير المتناهيين الزيادة والنقيصة. إذاً، فوجود غير المتناهي محال.

أو بتعبيرٍ آخر: هناك _ باعتبار العقل _ سلسلتان:

الاُولى: سلسلة المعلولات.والثانية: سلسلة العلل.

لأنّ كلّ مرتبةٍ تكون علّةً للمرتبة النازلة ومعلولةً للمرتبة الفوقيّة، وبما أنّ السلسلة لا تنتهي إلى مرتبةٍ محدّدة، فهي تكون غير متناهية، ممّا يعني: أنّ العلل والمعلولات تصبح غير متناهيةٍ أيضاً.

ولكنّا مهما تصوّرنا طول هذه السلسلة، فيكون الجزء الأخير من

ص: 43

هذه السلسلة معلولاً بلا علّة، فيكون عدد المعلولات غير المتناهية أكثر من العلل غير المتناهية، مع أنّه لا يمكن أن يتصوّر أنّ هناك شيئين غير متناهيين مع كون وجود أحدهما أنقص أو أكثر أو أزيد من الآخر؛ لأنّ لازمه: التساوي بين الناقص والزائد، وهو محال.

فلابدّ _ إذاً _ أن ننتهي إلى علّةٍ لا معلول لها حتّى يتساويا، ولو فرض انتهاء سلسلة المعلولات لانتهت سلسلة العلل أيضاً.

الدليل الثاني:

وهو وجه آخر لبطلان التسلسل يمكن أن يُشار إليه، حاصله: أنّ من البديهيّ أن تكون كافّة أفراد هذه السلسلة غير المتناهية الشاملة لجميع الممكنات، ممكنة الوجود، وكلّ ممكن الوجود يحتاج إلى مؤثّر، والمؤثّر بها لا يخلو من أقسام ثلاثة: فإمّا أن يكون نفس وجود السلسلة، أو جزأها، أو خارجاً عنها:فلو كان نفس السلسلة، للزم أن يؤثّر الشيء في نفسه، أي: أن يعطي الشيء الوجود لنفسه، وهذا محال؛ لأنّه يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

ولو كان جزءاً من السلسلة للزم تأثير الشيء في نفسه _ أيضاً _؛ لأنّ جزء السلسلة من نفس السلسلة.

ولو كان شيئاً خارجاً عن السلسلة، فهذا لا يخلو من وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون ذلك الموجود الخارج عن السلسلة علّةً تامّة لآحاد هذه السلسلة، فيلزم _ حينئذٍ _ توارد العلّتين المستقلّتين على معلولٍ

ص: 44

واحد، إذ المفروض أنّ تلك الآحاد التي أثّر فيها هذا الشيء الخارج قد أثّرت فيها عللها الكائنة في داخل السلسلة، وهذا محال.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ كلّ جزءٍ من هذه السلسلة يكون معلولاً _ بحسب الفرض _ للجزء الذي قبله، فلو فرضنا كونه معلولاً للشيء الخارجيّ _ أيضاً _ للزم تأثير العلّتين المستقلّتين في المعلول الواحد،وهو محال؛ إذ في نفس الوقت الذي يُفرض فيه احتياج المعلول إلى العلّة الأُخرى، يكون غير محتاجٍ إليها، وليس إلّا اجتماعاً للنقيضين.

والوجه الثاني: أنّ الجزء الخارجيّ لابدّ وأن يفرض واجب الوجود في نفسه، وإلّا، فلو كان ممكناً لاحتاج إلى المؤثّر أيضاً، ولو كانواجباً، لكانت السلسلة متناهيةً، لانتهائها _ حينئذٍ _ إلى الواجب. وعليه: فالتسلسل باطل لا محالة.

وأمّا الجواب عن إشكال الجبريّة:

فبأنّنا

لا نسلّم لزوم إيجاد الممكن بلا علّةً لو لم نقل بالجبر، كما لا يخرج عن تحت اختيار اﷲ وقدرته. بل هو _ كمال القدرة _ أنّ اﷲ تعالى يخلق مخلوقاً ويجعله مختاراً في أفعاله، ويهيّئ له الأسباب والمقدّمات، ويعطيه القدرة والإرادة، بحيث كلّما أراد أن يفعل شيئاً فعله، وكلّما أراد أن يتركه تركه، أي: جعله قادراً على الفعل والترك.

والأمر الثاني:

استدلّ الجبريّة _ ثانياً _: بأنّ اﷲ تبارك وتعالى محيط بكلّ شيء، وكلّ

ص: 45

شيءٍ قائم به، ولا يمكن أن يوجد شيء في الخارج بدون إرادته، فلو كان العبيد مختارين في أفعالهم، فيلزم خروج الأفعال عن حيطة قدرته وإرادته، وتصبح قدرته _ حينئذٍ _ محدودةً، مع أنّ صفاته جلّ وعلا غير متناهية.

وفي مقابل هؤلاء من يقول بأنّ اﷲ غير قادرٍ على فعل القبيح، وهم النظّام وأتباعه؛ لأنّه تعالى عادل مطلق، ولا يصدر من العادل الفعل القبيح.

والجواب عن مقولة النظّام ومن تبعه:أنّ عدم فعله القبيح لا يدلّ على كونه غير قادرٍ عليه.

وقال بعض: إنّ اﷲ غير قادرٍ على أن يقوم بأفعالٍ كأفعال البشر، لأنّ الأفعال عبارة عن الحركة والسكون، والحركة والسكون يتوقّفان على الجسم، لأنّها أعراض، والعرض في وجوده محتاج إلى ما يكون به قوام وجوده، وبما أنّ اﷲ تعالى ليس بجسمٍ، فهو غير قادرٍ على الحركة والسكون.

والجواب: أنّه تعالى قادر على إيجاد الحركة والسكون في الأجسام، لا أنّه في نفسه يكون متحرّكاً، بل هو خالق الأجسام والعوارض، وأمّا ذاته سبحانه فمنزّهة عن عروض العوارض.

وأمّا الجواب عن الثاني، هو أنّ إرادة العبد أيضاً تحت قدرة اﷲ وإرادته، بمعنى: أنّه إذا أراد أن يفعل شيئاً فقدرته على الفعل متوقّفة على

ص: 46

إعطاء القدرة له. وبعبارةٍ أُخرى: فهو محتاج في كل آنٍ إلى فيض الفيّاض، بحيث لولا هذا الفيض لا يكون لديه شيء، ولا يتمكّن من الإتيان بأيّ شيءٍ، وإرادته تابعة لإرادة اﷲ، حيث إنّ اﷲ تعالى _ كما مرّ _ أراد للعبد أن يأتي بالشيء باختياره.

والأمر الثالث:

اشارة

أنّه لو أراد العبد الإتيان بفعلٍ، فهل يريد اﷲ تعالى وقوع هذا الفعل أم لا؟!ففي صورة عدم إرادته: فلابدّ لهذا الفعل أن لا يقع؛ لأنّه لو وقع، لكانت إرادة العبد غالبةً على إرادة اﷲ، تعالى اﷲ عن ذلك. فلو أراد اﷲ إيجاد ذلك الفعل، فإنّ الفعل إمّا أن يقع بإرادة كليهما، وتكون إرادة كلٍّ منهما على نحو الاستقلال في التأثير، فيلزم منه توارد علّتين على معلولٍ واحد، وهو محال. ولو كان التأثير لإرادتهما معاً، لزم الشرك، وكان منافياً للتوحيد الأفعاليّ. ولو كان بإرادةٍ من العبد وحده، فلازمه: أن تكون إرادة العبد غالبةً على إرادة اﷲ عزّ وجلّ، وهو خلف، فلم يبقَ _ إذاً _ إلّا وجه واحد، وهو: إيجاد الفعل بإرادةٍ من اﷲ تعالى فقط، دون إرادة العبد، وهو المطلوب.

والجواب عنه: أنّ أفعال العباد، وإن عُلِّقت على إرادة اﷲ تعالى، ولكنّ ذلك ليس على نحو الجبر حتّى لا يكون للعبد أيّ اختيارٍ أصلاً، بل إنّ إرادة اﷲ تتعلّق بفعل العبد بشرط أن يأتي هو بالفعل باختياره، حتّى تتمّ

ص: 47

في حقه نعمة الاختيار، فإذاً انّ الفعل ولو صدر من العبد باختياره ولكن يكون مستنداً إلى فعل اﷲ فلو لم تتعلّق مشيئة اﷲ بفعل العبد باختياره، لم يقدر العبد، ولم يتمكّن من الإتيان بالفعل أصلاً.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ المراد من إرادته تعالى هو علمه باشتمال فعل العبد _ الصادر منه باختياره _ على المصلحة، لا مع صدوره منه قهراً،ومن المعلوم: أنّ مثل هذه الإرادة لا توجِب الجبر، فالإرادة التي تنتهي إليها الممكنات غير موجبةٍ للجبر.

ويمكن لهذا أن يتّضح أكثر من خلال بيان أقسام الفاعل، فنقول:

لا يخفى: أنّ الفاعل ينقسم تارةً باعتبار ما منه الوجود، واُخرى: باعتبار ما به الوجود.

فبالاعتبار الأوّل: هو اﷲ تعالى؛ لأنّ معناه: أنّه مفيض للوجود ومعطٍ له، وذلك منحصر في واجب الوجود.

وبالاعتبار الثاني: هو المباشر للفعل الذي يفاض عليه، فيكون مجرياً للفيض، وهو الممكن، حيث يجري منه فيض الوجود إلى غيره.

وأيضاً: ينقسم الفاعل إلى أقسام:

الأوّل: الفاعل بالطبع، وهو الذي يصدر منه الفعل بلا إرادةٍ واختيار، وهو جاهل بفعله، ويخرج منه الفعل باقتضاء طبعه، كالحرارة من النار وكالجذب والإمساك للقوّة الهاضمة.

والثاني: الفاعل بالقسر، وهو الذي لا يكون عالماً بفعله، ويكون

ص: 48

خروج الفعل منه على خلاف طبعه. ففي هذه الصورة: الفاعل في الحقيقة هو الغير، كخروج الرصاص من البندقيّة _ مثلاً _، فإنّ نسبة الفاعليّة إلى البندقيّة مجاز، أو كتحريك يد الغير؛ فإنّ الفاعل فيالحقيقة هو المباشِر، ويد المتحرّك إنّما هي محلّ للحركة، وليس هو المتحرّك حقيقةً، بل نسبة التحرّك إليه إنّما تصحّ على نحو المسامحة.

والثالث: الفاعل بالقصد والاختيار، وهو أن يكون الفعل قد صدر منه بالإرادة، ويكون عالماً بفعله.

والرابع: الفاعل بالجبر، وهو الذي له علم بالفعل، ولكن يصدر الفعل منه بدون إرادته واختياره، كإجبار الشخص على العمل بدون إرادته.

والخامس: الفاعل بالرضا، وهو الذي له علم بالفعل، وله الإرادة، وعلمه عين فعله وعين ذات الفاعل، كإنشاء الصور الخياليّة.

والسادس: الفاعل بالعناية، وهو الذي يكون عالماً بالفعل، وله الإرادة، ولكن يكون علمه سابقاً على الفعل، وزائداً على الذات، أي: ذات الفاعل، كما إذا وقع الإنسان عن الشجرة بمجرّد التوهّم.

والسابع: الفاعل بالتجلّي، وهو الذي له علم بالفعل وإرادة إليه، ويكون علمه سابقاً على الفعل، وعين ذات الفاعل، كاستعمال الإنسان لقواه النفسانيّة.

والثامن: الفاعل بالتسخير، وهو الفاعل المختار الذي جعله الفاعل بالطبع والقسر تحت اختياره.

ص: 49

وقد اختلفوا في أنّ أفعال اﷲ من أيّ قسمٍ من هذه الأقسام؟فقال قسم من الحكماء: بأنّه فاعل بالتجلّي، وقال قسم آخر منهم: هو فاعل بالعناية. وقال العرفاء: بل هو فاعل بالرضا، وقال المتكلّمون: هو فاعل بالقصد والاختيار.

وتفصيل الكلام والإتيان بالأدلّة على صحّة واحدٍ من هذه الأقوال، يستدعي بسطاً في الشرح، وقد شرحناها بشكلٍ مفصّلٍ في محاضراتنا الفلسفيّة في النجف الأشرف.

والحقّ: أنّه تعالى فاعل بالقصد، لا بمعنى: أنّ له قصداً وعزماً وتصوّراً وتصديقاً، بل بمعنى: أنّ فعله صادر عن الحكمة والمصلحة، ولو لم يكن هناك مصلحة في إيجاد الشيء، فإنّ الإرادة لا تتعلّق به، وهو معنى القادر المختار.

وأمّا فعل العبد، فهو _ أيضاً _ يصدر منه باختياره، ولكن بعد وجود المقدّمات لذلك، فمعنى انتهاء إرادة العبد هو أنّ المراد به أنّه مجري فيض الوجود، وأنّ اﷲ تعالى هو مفيض الوجود، ولا يكون العبد مفيضاً؛ لأنّ الفاقد للشيء لا يكون معطياً أبداً، ولا يمكن أن يكون المحتاج للوجود مفيضاً له، ومع ذلك، فلا منافاة بين انتهاء إرادته إلى المولى، وكون فعله _ بالرغم من ذلك _ اختياريّاً أيضاً. نعم، لو كانت إرادة الباري تصل إلى حدّ ما به الوجود، لكان جبراً، فلو نسِب العمل حينئذٍ إلى العبد، فإنّما تكون النسبة مجازاً ويكون فعل العبد كالآلة.

ص: 50

إن قلت: إنّ الإرادة في نفس العبد تكون سبباً لإيجاد الشيء على نحو غير الاختيار.

قلت: هي ليست بعلّةٍ تامّةٍ حتّى تكون سبباً لسلب الاختيار، ولو قلنا بأنّها بمعنى الشوق المؤكّد؛ لأنّه مع ذلك، يبقى قادراً على الفعل والترك، ولا يصبح الفعل معه ضروريّ الوجود. نعم، يكون الشوق المؤكّد داعياً إلى اختيار الفعل ومرجّحاً له، والشاهد على ذلك: الوجدان، ونحن نرى: أنّه قد تتخلّف الإرادة عن المراد أحياناً، فيعلم من ذلك: أنّ الإرادة ليست بعلّةٍ تامّة.

وممّا استدلّوا به على الجبر _ أيضاً _ الآيات:

فمنها: قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤونَ إِلّاَ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾(1).

وقوله: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾(2).

وقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً﴾(3).

وقوله: ﴿فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(4).ومعنى الآية الاُولى: ما تشاؤون الإسلام إلّا أن يشاء إجباركم وإلجاءكم إليه، ولكنّه لا يفعل ذلك لأنّه يريد أن تؤمنوا مختارين لتستحقّوا بذلك الثواب.

ص: 51


1- التكوير: 29.
2- الصّافّات: 96.
3- الأنعام: 125.
4- الأنعام: 149.

ومعنى الثانية: أنّ الذي هو قابل للعبادة هو الذي خلقكم من العدم إلى الوجود، وكذلك فهو الذي خلق اُصول ما تعملونه، بل جواهره كلّها مخلوقة وموجودة بقدرته.

ومعنى الثالثة: أنّ من لا يستحقّ الهداية ولا يرغب فيها، فإنّ اﷲ يخلّي بينه وبين نفسه، ويجعل قلبه كثير الضيق بالاُمور، فإذا أمر بالإيمان فكأنّما أُمِر بالصعود إلى السماء، أي: فكأنّما قد اُمِر بما لا يستطيعه ولا يقدر عليه.

ومعنى

الرابعة: أنّه لو أراد الإلجاء إلى الإيمان والإجبار عليه لتمكّن من ذلك بمجرّد المشيئة، ولكنّه لا يريد الإيمان منكم إيماناً جبريّاً، واﷲ تعالى لا يحبّ الإيمان الجبريّ الذي لا يحسن الثواب عليه.

ومع أنّ معاني هذه الآيات على ما عرفت، ولكن _ في الحقيقة _: فإنّ من الممكن جعلها ردّاً على المفوّضة القائلين بأنّ كلّ ما يصدر من العبد، فإنّما هو باختياره وعلى نحو الاستقلال، فالآيات تشير إلىأنّ مجرّد إرادة العبد غير كافيةٍ في التأثير، بل لابدّ أن تتعلّق بها إرادة الباري ومشيئته أيضاً.

مع أنّ هناك آياتٍ استدلّ بها المفوّضة لإثبات أنّ الأعمال كلّها من العبد، وأنّ إرادة العبد تكون في طول إرادة اﷲ، لا في عرضها حتّى يصبح الإنسان له شريكاً.

ص: 52

ومن الآيات التي يستفاد منها أنّ أفعال العباد مستندة إليهم:

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(1).

أي: إنّ اﷲ لا يغيّر ما بقومٍ من عافيةٍ أو نعمةٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الطاعة إلى المعصية أو بالعكس، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿ذَل_ِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نّعْمَةً أَنعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(2).

وقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ﴾(3)، أي: من يعمل قبيحاً أو مكروهاً أو يظلم نفسه باجتراح السيّئات وارتكاب المعاصي، فإنّه سيتعرّض للمجازاة من قبل اﷲ تعالى.وقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَل__ٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(4)، أي: بما كانوا يتعدّون على حدود اﷲ.

إذاً: فالعبد ليس مجبوراً في أعماله على الإطلاق، ولا هو مختار على الإطلاق، ويكون الفعل مستنداً إلى اﷲ وإلى العبد معاً، قال المحقّق السبزواريّ(قدس سره):

لكن كما الوجود منسوب لنا *** فالفعل فعل اﷲ وهو فعلنا (5).

ص: 53


1- الرعد: 11.
2- الأنفال: 53.
3- النساء: 123.
4- النحل: 118، أي: بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسلنا إليهم من الأحكام.
5- انظر: شرح المنظومة 1: 518.

ويكفي في الدليل على بطلان قول المفوّضة ما ورد عن أبي عبد اﷲ الصادق(علیه السلام) قال: «سمعت أبي يحدّث عن أبيه(علیه السلام) أنّ رجلاً قام إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين، بمَ عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم، لمّا أن هممت حال بيني وبين همّي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، فعلمت أنّ المدبّر غيري.. الخبر»(1).

ويقول الشاعر:

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

ومن

هذا القبيل _ أيضاً _: ما دلّت عليه بعض الآيات، كقوله تعالى: ﴿إِي_َّاكَ نَعْبُدُ وَإِي_َّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(2)، وقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَل_ٰكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَ__ٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ﴾(3)، وقوله: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي﴾(4)، وكذا كلمة الحوقلة، وهي: (لا حول ولا قوّة إلّا باﷲ)، أو تلك التي تقال في الصلاة، وهي: «بحول اﷲ وقوّته أقوم وأقعد»(5).

ص: 54


1- بحار الأنوار: 3: 42.
2- الفاتحة: 5. وقوله: (إيّاك نعبد): لأنّه المنعم الحقيقيّ والأعظم بإعطائه النّعم الجسيمة، من الوجود والحياة، فلذلك هو تعالى مستحقّ للعبادة وأن يستعان به، دون غيره، في المهمّات.
3- الأنفال: 17. وقوله: (فلم تقتلوهم): نفى القتل مع أنّهم هم الذين قتلوا، لأنّ أفعاله تعالى كانت كالسّبب المؤدّي إلى فعل المسلمين، حيث هو الذي أقدرهم وأعانهم وشجّعهم على العمل.
4- المائدة: 110. وقوله: (تخرج الموتى): أي: بتيسيرٍ من الله وإعطائه القدرة له.
5- وسائل الشيعة: 5: 465، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصّلاة، ح9.

مع أنّ عقيدة المعتزلة تشكّل توهيناً في سلطنته جلّ وعلا، وتفضي إلى القول بالشركة في الخلقة وبأنّ الفيض مسلوب منه، تعالى اﷲ عن ذلك علوّاً كبيراً.

ثمّ إنّه خلاف الوجدان جدّاً؛ إذ في كثيرٍ من الموارد يرى الإنسان نفسه لا يوفّق لإتمام العمل الذي شرع فيه، على الرغم من أنّه يبذل أقصى جهده ويهيّئ له جميع الأسباب والوسائل والمقدّمات.فالحقّ _ إذاً _ ما ذهبت إليه الإماميّة، وهو أنّه: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين.

ولكن مع ذلك، فقد استشكل البعض:

بأنّ

الكفر والعصيان، وإن كانا يصدران من العبد باختياره، أي: أنّ إرادته هي التي تكون مؤثرةً في اختيار الكفر أو الإيمان، وليس ما يصدر منه صادراً بلا اختيار، وليس كيد المرتعش في كونه خارجاً عن الاختيار، إلّا أنّه ومع ذلك، فبما أنّ الإرادة المتعلّقة بهما _ أعني: الكفر والعصيان _ هي من الاُمور الممكنة، فلابدّ لها من أن تنتهي أخيراً إلى علّةٍ تامّةٍ، وهي إرادة الواجب جلّ وعلا، وهي عين ذاته، فإذا انتهت إلى إرادته جلّ وعلا، فهذا يعني: أنّها ليست اختياريّةً، وحينئذٍ: فيقبح أن يكلّف المكلّف بالإيمان، لكون هذا التكليف غير اختياريٍّ، ولا يصحّ أن يعاقب الكافر لأجل كفره وعصيانه، لرجوع عمله إلى ما لا يكون بالاختيار؛ فيبقى الإشكال على حاله.

ص: 55

وأجاب عنه صاحب الكفاية) بقوله:

«العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللّازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ (السعيد سعيد في بطن اُمّه والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه)، و(الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة)، كما في الخبر. والذاتيّ لا يعلّل، فانقطعسؤال أنّه: لِم جعل السعيد سعيداً والشقيّ شقيّاً؟ فإنّ السعيد سعيد بنفسه، والشقيّ شقيّ كذلك، وإنّما أوجدهما اﷲ تعالى»(1).

ولكنّ جوابه هذا لا يشفي الغليل؛ إذ هو _ أيضاً _ يستلزم الجبر، لأنّه لو كانت السعادة والشقاوة ذاتيّتين، وكان الكفر والإيمان من لوازمهما غير المنفكّين عنهما، لكانت النتيجة: لغويّة التكليف، وعدم صحّة عقاب الكفّار، وعدم حسن ثواب المؤمن، لعدم كون الفعل اختياريّاً لهما.

مع أنّنا نرى أنّ العقلاء يحسّنون مؤاخذة الموالي العرفيّين لعبيدهم في صورة مخالفة أوامرهم، ولا يقبلون الاعتذار بأنّ المخالفة كانت مستندةً إلى أمرٍ ذاتيٍّ، وهو الشقاوة _ مثلاً _. وهذا أقوى دليلٍ على أنّ الفعل يصدر من العبد باختياره، و أنّ العصيان ليس من اللّوازم الذاتيّة القهريّة، مضافاً إلى ما ورد من الآيات والروايات الدالّة على بطلان الجبر.

ففي توحيد الصدوق، واحتجاج الطبرسيّ، عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:«إنّ اﷲ عزّ وجلّ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم

ص: 56


1- كفاية الاُصول: 68.

ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه فقد جعل لهم السبيل إلى تركه... الخبر»(1).

وما رواه في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «اﷲ أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون»(2).

وكذا ما في الكافي عن يونس عن عدّة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «قال له رجل: جعِلت فداك(قدس سره) أجبر اﷲ العباد على المعاصي؟ فقال(علیه السلام): اﷲ أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها»(3).

وما رواه الوشّاء عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) قال:

«سألته وقلت: اﷲ فوّض الأمر إلى العباد؟ قال(علیه السلام): اﷲ أعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال(علیه السلام): اﷲ أعدل وأحكم من ذلك. ثمّ قال: قال اﷲ يا بن آدم، أنا اُولى بحسناتك منك وأنت اُولى بسيّئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك»(4).فأولويّة اﷲ تعالى بالحسنة: أنّه تعالى أمره بها وأعطاه القوّة والتوفيق لها، وأولويّة العبد بالسيّئات؛ لأنّه تعالى نهاه عنها، وأوعده النار عليها، ووكّله إلى نفسه، وكان قد أعطاه القوّة لكي يصرفها في الحلال فصرفها في الحرام والسيّئات.

ص: 57


1- راجع: التوحيد: ص 349، والاحتجاج 2: 158.
2- الكافي 1: 160.
3- الكافي 1: 159.
4- الكافي 1: 157.

وعن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) _ أيضاً _ أنّه قال _ وقد ذكِر عنده الجبر والتفويض _:

«ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اﷲ عزّ وجلّ لم يطع بإكراهٍ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اﷲ عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(علیه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه»(1).

والحاصل: أنّ العباد ليسوا مكرهين في أفعالهم؛ لأنّ العقاب على الفعل غير الاختياريّ قبيح عقلاً، فلو كان هناك آيات تدلّ بظاهرها على الجبر فلابدّ من تأويلها.وورد في بعض الروايات: أنّ العبد إذا أذنب كانت نقطة سوداء على قلبه، فإن هو تاب وأقلع واستغفر، صفا قلبه منها، وإن هو لم يتب ولم يستغفر، كان الذنب على الذنب، والسواد على السواد، حتّى يغمر القلب بتمامه فيموت بكثرة غطاء الذنوب عليه، فلا يفلح.

والمراد منه: أنّ فلاحه بعد ذلك صعب، لا أنّه لا يفلح أبداً؛ لأنّ

ص: 58


1- التوحيد: ص 361.

الخطاب موجود في تلك الحالة أيضاً.

الروايات الدالّة بظاهرها على الجبر:

ولا بأس هنا بالتعرّض لبعض الروايات التي تدلّ بظاهرها على الجبر:

الاُولى: رواية القضاء والقدر.

ولابدّ _ أوّلاً _ من بيان أنّه هل يجوز الخوض في الحديث عن مسألة القضاء والقدر أم لا؟!

قد يقال: بعدم الجواز، لما ورد من النهي عن الحديث فيه، فقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين(علیه السلام)، فقال: «يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنيعن القدر، قال: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: سرّ اﷲ فلا تتكلّفه»(1).

وفي

روايةٍ اُخرى عنه(علیه السلام) في القدر: «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ اﷲ، وحرز من حرز اﷲ، مرفوع في حجاب اﷲ، مطويّ عن خلق اﷲ، مختوم بخاتم اﷲ، سابق في علم اﷲ، وضع اﷲ عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم؛ لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربّانيّة، ولا بقدرة الصمدانيّة، ولا بعظمة النورانيّة، ولا بعزّة الوحدانيّة؛ لأنّه بحر زاخر موّاج، خالص ﷲ عزّ وجلّ، عمقه ما بين

ص: 59


1- بحار الأنوار 5: 110.

السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب أسود كاللّيل الدامس، كثير الحيّات والحيتان... الخبر»(1).

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ هذه الروايات ضعيفة من جهة السند.

وثانياً: على فرض التنزّل، فلعلّها نشأت من شبهات الجبريّة، كما كثيراً ما ينشأ من هنا. نعم، فمن لم يتمكّن من الغوص في هذا البحر العميق فهو غارق فيه _ لا محالة _، ومن لم يتسلّح بالمعرفة ولم يهتدِ إلى الطريق المستقيم فالمسير في اللّيل المظلم بالنسبة إليه يكون سبباًلأن يشذّ عن الطريق، فنهيه(علیه السلام) عن الكلام في مسألة القضاء والقدر متوجّه إلى هولاء. وأمّا من كان متمكّناً من الجواب، وهو مسلّح بالمعرفة، فلا بأس عليه ولا إشكال في خوضه غمار هذا البحث؛ إذ لا يترتّب عليه من ذلك ضرر.

معنى القضاء والقدر:

فلندخل _ إذاً _ في صلب الموضوع ولنتكلّم في معنى القضاء والقدر، فنقول:

يأتي (القضاء) لمعانٍ متعدّدة:

الأوّل: أن يكون بمعنى الصنع، كما قال تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ

ص: 60


1- المصدر نفسه 5: 97.

سَمَاوَاتٍ﴾(1)، أي: صنعهنّ وأحكمهنّ وفرغ من خلقهنّ.

الثاني: أن يكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِي_َّاهُ﴾(2)، أي: أمر ربّك وألزم، أو أوجب، أو أوصى، على خلافٍ بين المفسّرين.الثالث: أن يكون بمعنى الإعلام، كقوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(3)، أي: أعلمناهم وأخبرناهم.

الرابع: أن يكون بمعنى الحكم، نحو قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾(4)، أي: يحكم أو يفصل.

قال الراغب في مفردات القرآن:

«القضاء فصل الأمر، قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكلّ واحدٍ منهما على وجهين: إلهيٍّ وبشريّ. فمن القول الإلهيّ قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِي_َّاهُ﴾، أي: أمر بذلك، وقال: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْ_كِتَاب﴾، فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحياً جزماً... إلى أن يقول: ومن الفعل الإلهيّ قوله: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُون___ِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾... إلى أن يقول: ومن القول البشري نحو

ص: 61


1- فصّلت: 12.
2- الإسراء: 23.
3- الإسراء: 4.
4- غافر: 20.

قضى الحاكم بكذا، فإنّ حكم الحاكم يكون بالقول. ومن الفعل البشريّ: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ﴾(1)، ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَ_هُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾(2)»(3).الخامس: أن يكون بمعنى الفعل، كقوله تعالى: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ﴾(4)، ونحوه قول الشاعر:

قضيت اُموراً ثمّ غادرت بعدها *** فوائح في أكمامها لم تفتق(5) .

السادس: أن تكون بمعنى الإتمام، نحو: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾(6)، أي: أتمّ المدّة ووفّاه، أي: أتمّ ما كان له من الإيجار.

السابع: أن يكون بمعنى الإحكام، يقال: قضى فلان أمراً، أي: أحكمه.

الثامن: أن يكون بمعنى الإتيان، نحو: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ﴾(7)، أي: أتيتم.

التاسع: أن يكون بمعنى الموت، من قضى عليه، أي: أماته.

ويتعلّق القضاء بأفعال اﷲ تعالى التي تجري في هذا العالم بالنسبة إلى

ص: 62


1- البقرة: 200.
2- الحجّ: 29.
3- مفردات غريب القرآن: ص 406.
4- طه: 72، أي: افعل ما تريد.
5- مفردات غريب القرآن: ص 406.
6- القصص: 29.
7- النساء: 103.

المخلوقات، وهو على قسمين:1) قضاء تكوينيّ.

2) وقضاء تشريعيّ. وكلّ منهما حتميّ وتعليقيّ.

أمّا القضاء التكوينيّ الحتميّ: فهو عبارة عن الأفعال التي فيها مصلحة، وهذا النوع من الأفعال ليس قابلاً للتغيير ويقع حتماً.

والقضاء التكوينيّ التعليقيّ: هو الذي يكون مشروطاً بشيءٍ، كطول العمر المشروط بصلة الرحم، ونقصان العمر المشروط بقطع الصلة.

وأمّا القضاء التشريعيّ الحتميّ: فهو عبارة عن الأوامر والنواهي الشرعيّة التي تكون المصلحة فيها دائميّةً.

والقضاء التشريعيّ التعليقيّ هو تلك الأوامر والنواهي التي تتغيّر بحسب الزمان وبحسب أحوال المكلّفين، وقد يعبّر عنه ﺑ (النسخ). وبما أنّ النسخ في التشريعيّات هو كالبداء في التكوينيّات فلابدّ _ هنا _ من التعرّض لبيان كلٍّ من النسخ والبداء.

ولا يخفى: أنّ الأحكام قد وضِعت على حسب المصالح والمفاسد، ومعلوم: أنّ مصالح العباد تختلف بحسب الأزمنة، فكلّ زمانٍ يقتضي نوعاً خاصّاً من الحكم يلائمه وينسجم معه؛ ولذا جعل جلّ وعلا دستوراً خاصّاً، وأرسل شخصاً معيّناً لإصلاح ذلك المجتمع، ولذا _ أيضاً _ تعدّدت الأنبياء واختلفت الأحكام، فالنسخ عبارة عن حذف أحكامٍ كانت تلائم العصر المتقدّم، لكونها لا تلائم العصر المتأخّرعنه

ص: 63

ولا مقتضي لها في هذا العصر، وهكذا، كلّما وجِدت المصلحة لحكمٍ آخر تغيّر الحكم الأوّل وتبدّل، فليس النسخ من جهة الجهل بالواقع، وإنّما هو لتغيّر المصلحة وتبدّلها، ولذا، كان الحكم الكذائيّ ذا مصلحةٍ في زمان ولم يكن بذي مصلحةٍ في زمانٍ آخر، كأن تكون له مصلحة في الماضي دون الحاضر.

ثمّ إنّه ليس كلّ حكمٍ يكون صالحاً وقابلاً للنّسخ، بل الأحكام في ذلك على قسمين:

أ _ قسم يستقلّ العقل بدرك ثبوت الحسنه وقبحه في كلّ زمان، كالعدل والظلم ووجوب المعرفة، وغير ذلك...

ب _ وقسم يدرك العقل أنّ مصالحها تختلف بحسب اختلاف الأزمنة. والحاصل: أنّه كلّما وجِدت المصلحة فاﷲ يجعل حكماً على طبقها.

وأمّا البداء فإنّه يكون في الاُمور التكوينيّة.

وفي الخبر: «ما عُبِد اﷲ بشيءٍ مثل البداء»(1)، وعن أبي عبد اﷲ(علیه السلام): «ما عظِّم اﷲ بمثل البداء»(2).وفي روايةٍ اُخرى: «لو علم الناس ما في القول في البداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه»(3).

ص: 64


1- الكافي: 1: 146، باب البداء، ح1.
2- المصدر نفسه.
3- الكافي: 1: 148.

والبداء في اللّغة: الظهور(1)، وفي الاصطلاح: ظهور الشيء بعد أن لم يكن ظاهراً.

وهو في حقّ العبد قد ينشأ من عدم الإحاطة بالمصالح والمفاسد، ولذا فهم يجعلون قانوناً ثمّ بعد مدّةٍ يلتفتون إلى مفاسده فيغيّرونه.

وقد ينشأ هذا التغيير من الضعف وعدم القدرة على تهيئة الأسباب والمقدّمات، ولذا نراهم يبدأون بعملٍ ثمّ يتركونه لأجل الضعف وعدم القدرة على إيجاده أو من جهة تلوّن المزاج، أو غير ذلك، ولذا، فقد يتّخذ أحدهم لنفسه كلّ يومٍ شغلاً مغايراً.

وأمّا البداء بالنسبة إلى الباري تعالى، فهو بمعنى الإبداء والإظهار بعد أن لم يكن ظاهراً، ويكون التغيير طبقاً للمصالح وعلى حسب التغييرات الأخلاقيّة التي توجد في البشر، كما قال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(2). وهو شبيه بالطبيب الذي يغيّر الدواءلمريضه حسب مراتب المرض، وليس البداء هنا موجباً للجهل والسفاهة _ والعياذ باﷲ _؛ فإنّ اﷲ تعالى عالم منذ الأزل بجميع المقتضيات، وله القدرة على أن يجعل من أوّل الأمر بالنسبة إلى كلّ زمانٍ حكماً خاصّاً به.

فتحصّل: أنّ البداء بالنسبة إلى البشر هو بمعنى الظهور بعد الخفاء، وأمّا بالنسبة إلى اﷲ تعالى فهو الإظهار بعد الإخفاء، أي: إظهار ما كان

ص: 65


1- مجمع البحرين 1: 186.
2- الرّعد: 11.

مخفيّاً على المعصومين( أو على الناس كافّةً.

وقد جاء في زيارة العسكريّين': «السلام عليكما يا من بدا ﷲ في شأنكما»(1).

والمراد منه: البداء بالنسبة إلى اﷲ تعالى، أي: الإظهار، كما قلنا. فإذا أظهر تعالى من أفعاله ما لم يكن بالحسبان والظنون، قيل: قد بدا ﷲ كذا وكذا. وعليه قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾(2)، أي: ظهر لهم ما لم يكن بحسبانهم.

وقال الصادق(علیه السلام):«ما بدا ﷲ بداء كما بدا له في إسماعيل ابني». يقول(علیه السلام): ما ظهر ﷲ سبحانه أمر كما ظهر له في ابني اسماعيل؛ إذاخترمه قبلي ليعلم الناس بذلك أنّه ليس بإمامٍ بعدي _ كذا قرّره الصدوق _(3)، وبه يكشف عن ما أظهره في موسى بن جعفر(علیه السلام) حيث أبقاه بعد أبيه وقبض أخاه قبله ليعلم أنّ الإمامة له دون أخيه.

وقد تقدّم ما ورد في زيارة العسكريّين' «بدا ﷲ في شأنكما»، وذلك أنّ اﷲ تعالى قبض السيّد محمّد قبل أبيه ليعلم الناس أنّ الإمامة بعده لابنه الحسن(علیه السلام)، وأتى بالتثنية من باب التغليب.

وليس معناه: أنّ النصّ قد استقرّ في السيّد اسماعيل والسيّد محمد

ص: 66


1- بحار الأنوار 99: 61.
2- الزمر: 47.
3- التوحيد: ص 336.

فقبضهما إليه وجعل الإمامة من بعدهما في موسى والحسن'؛ فإنّ هذا مخالف لما ورد من أنّ «الأئمّة بعدي اثنا عشر»(1).

وأيضاً: فقد رُوِي عن الإمام العسكريّ(علیه السلام): «يا بنيّ، أحدِث ﷲ شكراً فقد أحدث فيك أمراً»(2).

فلا يكون البداء من اﷲ تعالى تعقيباً لأمرٍ جديد، ولا استدراكاً لأمرٍ فائت، ولا انتقالاً من تدبير إلى تدبيرٍ، ولا لحدوث علمٍ بعد أن لم يكن؛ لأنّ كلّ ذلك ممتنع في شأنه جلّ وعلا.ففي قضيّة إسماعيل _ مثلاً _ يمكن أن يتصوّر أنّ إسماعيل كان هو الولد الأكبر للإمام، وأنّه كان معروفاً بمكارم الأخلاق والأعمال الصالحة، ممّا جعل الشيعة يتخيّلون أنّه هو إمامهم بعد الصادق(علیه السلام)، وكانت إمامة الإمام الكاظم(علیه السلام) مخفيّةً عندهم ومجهولةً لديهم، فلمّا مات إسماعيل في حياة الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) ظهر لهم أنّه لم يكن بإمام، ولو لم يرتحل قبل أبيه لكان له اللّياقة للإمامة، ولكن بما أنّ الإمام بعد الصادق(علیه السلام) لابدّ وأن يكون هو موسى الكاظم(علیه السلام)، فقد قدّر اﷲ أن يرتحل إسماعيل من الدنيا في حياة أبيه، وهذا يشبه قول الرسول- «لو عاش إبراهيم لكان صدّيقاً نبيّاً»(3)، فبما أنّ ختم النبوّة بالنبيّ-، فقد ارتحل إبراهيم في حياته-.

ص: 67


1- بحار الأنوار 36: 245.
2- بحار الأنوار 50: 240.
3- كنز العمّال 11: 469.

وينبغي أن يعلم هنا أنّ ﷲ تعالى لوحين:

الأوّل: اللّوح المحفوظ، ومكتوب فيه ما هو واقع إلى يوم القيامة، وعلمه مختصّ باﷲ تعالى.

والثاني: لوح المحو والإثبات، وفيه ما هو قابل للتغيّر والتبدّل، وعلمه ﷲ تعالى يوصله إلى أنبيائه.قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «لولا آية في كتاب اﷲ لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: ﴿يَمْحُو للهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾(1)»(2).

وأمّا القدر: فهو ما يقدّره اﷲ من القضاء.

والذي يظهر من الروايات: أنّ المراد من القضاء في أفعال العباد هو القضاء غير الحتميّ، والذي يوجب الجبر هو القضاء الحتميّ، فهناك ملازمة بين القضاء الحتميّ وبين ارتفاع الاختيار. وأمّا القضاء غير الحتميّ، فإنّ الاختيار فيه موجود، والتكليف كذلك.

وتسأل: هل القضاء والقدر قابلان للتغيير أم لا؟

والجواب: لا يخفى: أنّ الموجودات على قسمين: موجودات مجرّدة، وموجودات مادّيّة. فإذا عرفنا أنّ نظام هذا العالم يدور مدار العلّة والمعلول، وأنّ المعلول يكتسب ضرورة وجوده من علّته، وأنّ علم اﷲ

ص: 68


1- الرعد: 39.
2- بحار الأنوار: 4: 97.

وإرادته وقضاءه موجودة في كلّ شيء يوجبه من طريقٍ خاصّ، وأنّ هناك فرقاً بين الوجود المجرّد وبين الوجود المادّيّ، وأنّ المجرّدات مستندة إلى العلل البسيطة، وليس لها شرائط في الفاعليّة أوالقابليّة.

وبعبارة اُخرى: أن ليس فيها إلّا نوع خاصّ من الوجود، كالمجرّدات العلويّة، ولا تؤثّر فيها العلل المتعدّدة؛ فهنا _ بالتحديد _ يقع القضاء والقدر الحتميّ ولا يكون قابلاً للتغيير؛ لأنّ هذا المعلول فقط يكون مربوطاً بعددٍ من العلل التي تقع في سلسلةٍ واحدة، واستناد هذا المعلول في إيجاده إلى تلك العلل، ممّا يجعل من مآل إيجاده أمراً حتميّاً.

وأمّا الوجودات المادّيّة، فهي، علاوةً على استنادها إلى العلل البسيطة، تكون _ مع ذلك _ مستندةً إلى جملةٍ من الشرائط الإعداديّة والقابليّة، بحيث إذا تغيّرت تلك الشرائط وتبدّلت تغيّرت تلك الوجودات وتبدّلت بتبعها.

وبعبارةٍ اُخرى: بعد أن كان في هذه المادّيّات أشياء تتنقش وتتلوّن بنقوشٍ وألوانٍ مختلفة، فلا يتعيّن نوع خاصّ من القدر والقضاء، وعلّة خاصّة في تقدير وجوده، بل هناك تأثيرات مختلفة تكون في انتظاره، فلو أخذنا كلّ واحدٍ من هذه السلسلة، من المؤثّرات والعلل، فيمكن أن يفرض هناك مؤثّرات وعلل اُخرى بإمكانها أن تقع مكان تلك، فاحتمال التغيير والتبديل موجود.

أو فقل: إنّ القضاء والقدر تارةً يكونان غير معلّقين، وهي المعلولات

ص: 69

المستندة إلى العلل التامّة، وتسمّى: بالقضاء والقدرالحتميّ. وتارةً تكون مشروطةً، كما في الموجودات المادّيّة، كما قلنا في القضاء والقدر التكوينيّ المعلّق، فيقال _ مثلاً _ : لو صدر على هذه النحو لكان كذا، ولو صدر على نحوٍ آخر لكان كذا.

ولك أن تقول: هناك فرق بين القضاء والقدر؛ فإنّ المعلولات كلّها تأتي من ناحية العلل، ونسبة وجودها إلى العلل تامّة، ضروريّة، وقطعيّة، وهذه العلل بالنسبة إلى معلولاتها توجِد الفعليّة والكمال لها، وإنّ كمال المعلولات المطلق مفاض إليها من ناحية العلل، والنقصان والتغيير والتقدير يأتي من ناحية الشرائط القابليّة والمادّيّة، فما هو قابل للتغيير هو قدر الأشياء، لا القضاء؛ إذ القضاء حتميّ، والقدر هو الذي يكون قابلاً للتغيير.

وورد في الخبر: «والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء»(1)، وفي أحد معاني هذا الخبر: أنّه وسط بين القضاء الإمضاء.

وورد في الخبر أيضاً: «أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) مرّ يوماً من تحت حائطٍ مائل، فأسرع في المشي، فقيل له: أتفرّ يا أمير المؤمنين من قضاء اﷲ تعالى؟ فقال(علیه السلام): نعم، أفرّ من قضاء اﷲ إلى قدره»(2).وأمّا ما قاله المعتزلة: من أنّ العباد مستقلّون في أفعالهم، وأنّ كلّ ما

ص: 70


1- التوحيد: 334.
2- عوالي اللّالي: 4: 111.

يفعلونه من شيءٍ فهو تحت إرادتهم واختيارهم، وليس ﷲ دخل في ذلك.

فباطل بالوجدان؛ لأنّا نرى أنّ العبد في بعض الأشغال والأعمال يبذل غاية جهده، ويوفّر لها جميع الأسباب والوسائل، ولكنّه مع ذلك لا يوفّق في عمله، وقد تقدّم ما ورد عن أمير المؤمنين(علیه السلام) من أنّه عرف اﷲ تعالى بفسخ العزائم ونقض الهمم. كما أنّ قولهم هذا يخالف ما دلّت عليه الآيات: ﴿إِي_َّاكَ نَعْبُدُ وإِي_َّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(1)، و﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَل_ٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ﴾(2)، ويخالف _ أيضاً _ مضمون كلمة الحوقلة.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ القضاء في نظر الأشاعرة عبارة عن الإرادة الأزليّة، تعلّقت بوجود الأشياء في ظرفها، والقدر الإلهيّ عبارة عن إيجاد الأشياء بها على وجهٍ خاصّ وتقديرٍ معيّن. هذا.

وثمّة خلاف يُذكر هنا بين الأشاعرة والمعتزلة؛ فإنّ القضاء والقدر الإلهيّين بنظر الأشاعرة، عامّ يشمل كلّ شيء، وليس هناك شيء يكون خارجاً عن حيطته. وأمّا بنظر المعتزلة، فهو على العكس؛ فإنّ بعضالأشياء، وهي أفعال الإنسان الاختياريّة، خارجة عن حيطة القضاء والقدر الإلهيّين. فالأشاعرة يرون عموم القضاء والقدر، ويعتقدون بالقضاء والقدر على نحو الجبر.

ص: 71


1- الفاتحة: 5.
2- الأنفال: 17.

وننقل هنا قصّةً لطيفةً وقعت بين القاضي عبد الجبّار المعتزلي وأبي إسحاق الاسفراييني الأشعريّ بمحضر من الوزير ابن عباد، ولمّا وقع نظر القاضي عبد الجبّار على ابي إسحاق قال: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء»، فقال أبو إسحاق: «سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء».

فكلام عبد الجبّار إشارة إلى أنّ عقيدة الأشعريّ بعموميّة القضاء والقدر سبب لانتساب الاُمور القبيحة إلى اﷲ، وهو جلّ وعلا منزّه عنها. وكلام أبي إسحاق يشير إلى أنّ اعتقاد المعتزليّ بعدم عمومية القضاء والقدر لازمها: أن يكون هناك أشياء تصدر على خلاف مشيئته، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولكنّ

الحقّ: ما التزمه أصحاب المذهب الحقّ بقولهم: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»، ومعناه: أنّ الأفعال التي تصدر من الإنسان تصدر بالإرادة ومشيئة اﷲ، وليس الإنسان مجبوراً عليها، ولذا يترتّب على فعله الثواب والعقاب، وهما لا يترتّبان إلّا على الإتيان بأمرٍ اختياريّ، ولكنّ منشأ إرادته واختياره وقدرته هو ذات الباري سبحانه،فهو الذي أعطاه الإرادة والقدرة، وهو الذي بيّن له طريق الهداية والسعادة وطريق الضلال، وأخبره بأنّه مختار في اختيار أيٍّ منهما يشاء، ورتّب على أفعاله على الثواب والعقاب، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَي_ْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(1).

ص: 72


1- الإنسان: 3.

فبناءً على هذا: فكلّ فعلٍ يصدر من العبد، فإنّما هو بالقوّة والإرادة التي أعطاها اﷲ جلّ وعلا للعبد، وتكون جميع الأسباب ومسبّباتها تحت اختياره، بعد أن أفاض إليه القدرة، فلذلك يمكن أن ينسب الفعل إلى اﷲ تعالى؛ حيث إنّ إرادة العبد واختياره وأسباب ومقدّمات فعله كلّها بإرادة اﷲ تعالى التي تعلّقت بإتيان العبد الفعل اختياراً.

ويمكن أن نضرب لهذا مثالاً واضحاً، فإذا أرسل السلطان حاكماً من قِبله، وأعطاه الاختيار التامّ في إصلاح وعمران ناحيةٍ من النواحي، وأعطاه كافّة الصلاحيّات، وأخبره بأنّه متى خالف فسيعاقب، فجميع ما يفعله هذا الحاكم، من الظلم أو العدل، يمكن أن ينسب إلى الحاكم، ويمكن أن ينسب إلى السلطان نفسه.أمّا نسبته إلى السلطان؛ فلأنّه هو الذي أعطاه الاختيار، وهو الذي أبقى له على هذه الصلاحيّات، وكان بإمكانه سلب الاختيار عنه متّى ما أرد ذلك.

وأمّا

نسبته إلى الحاكم؛ فلأنّ الأفعال صدرت منه باختياره، وله كامل الاختيار بأن يفعل الفعل المحبوب وغير المحبوب، وهو ليس مجبوراً في أفعاله، فلو خالف ما أمره السلطان فإنّه يعاقب عليه ويوبّخ، ولو لم يخالف فإنّه يجزى الجزاء الحسن، ويقع في محلّ استحسانٍ من السلطان.

ص: 73

تنبيه:

اشارة

هل القضاء والقدر مترادفان أم لا؟

الظاهر: أنّهما ليسا بمترادفين، فقد يستعمل القضاء في موردٍ لا يستعمل فيه القدر، كما في قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾(1)، إشارة إلى الإيجاد الإبداعيّ والفراغ منه، وإن أمكن استعماله في الحكم في موردٍ آخر، كما في قوله تعالى: ﴿واللهُ

يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾(2).ويأتي القدر بمعنى التحديد، كما في في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(3)، أي: بحدٍّ محدود.

وقد جاء في الأخبار ذكر القدريّة، وهم المنسوبون إلى القدر، ويزعمون أنّ كلّ عبد هو خالق فعله، ولا يرون المعاصي والكفر بتقدير اﷲ ومشيئته، فنُسِبوا إلى القدر؛ لأنّه بدعتهم وضلالتهم.

وقيل: القدريّة هم المعتزلة(4)؛ لإسناد أفعالهم إلى قدرتهم.

وفي الحديث: «لا يدخل الجنّة قدريّ»(5)، وهو الذي يقول: لا يكون ما شاء اﷲ ويكون ما شاء إبليس.

ص: 74


1- فصّلت: 12.
2- غافر: 20.
3- القمر: 49.
4- انظر _ مثلاً _: بداية المعارف الإلهيّة 1: 120.
5- مجمع البحرين: 3: 467.

فلننقل هنا بعض الروايات الواردة المفسّرة للقضاء والقدر بالنسبة إلى أفعال المكلّفين، وأنّهما من أيّ نوعٍ يكونان.

الرواية الاُولى:

ذكرها الصدوق مسنداً إلى الحسين بن عليٍّ(علیه السلام) _ واللّفظ لعليّ بن أحمد بن محمّد ابن عمران الدقّاق _ قال: «دخل رجل من أهل العراق

على أمير المؤمنين(علیه السلام)، فقال: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام، أبقضاءٍ من اﷲ وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين(علیه السلام): أجل يا شيخ، فواﷲ ما علوتم تلعةً ولا هبطتم بطن وادٍ إلّا بقضاءٍ من اﷲ وقدر. فقال الشيخ: عند اﷲ أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال: مه يا شيخ، فإنّ اﷲ قد عظّم اﷲ أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيءٍ من اُموركم مكرهين، ولا إليه مضطرّين، لعلّك تظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعيد والوعد، ولم يكن على مسيءٍ لائمة، ولا لمحسنٍ محمدة، ولكان المحسن اُولى باللّائمة من المذنب، والمذنب اُولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدريّة هذه الاُمة و مجوسها. يا شيخ: إنّ اﷲ عزّ وجلّ كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع

ص: 75

مكرهاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ﴿ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار﴾»(1).

والرواية الثانية:

عن أبي عبد الصادق(علیه السلام) قال: «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ اﷲ عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اﷲ في حكمه، فهو كافر. ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم، فهذا قد أوهن اﷲ في سلطانه، فهو كافر. ورجل يزعم أنّ اﷲ كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسن حمد اﷲ، وإذا أساء استغفر اﷲ، فهذا مسلم بالغ»(2).

والرواية الثالثة:

وقد مرّ ذكرها، وهي: ما عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) أنّه قال _ وقد ذكِر عنده الجبر والتفويض _:

«ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اﷲ عزّ وجلّ لم يطع بإكراهٍ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر

ص: 76


1- انظر: التوحيد: 380_ 381، والكافي 1: 155، بتفاوتٍ يسير في بعض ألفاظ الحديث بين الكتابين.
2- التوحيد: 360_ 361.

على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اﷲ عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وان ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحولبينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(علیه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه»(1).

وقال اﷲ تعالى _ في الحديث القدسيّ _: «يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنةٍ فمن اﷲ، وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك»(2).

وهنا بعض الشبهات التي قد يتصوّر بظاهرها أنّها موارد للجبر:

الاُولى:

أنّ ما يصدر من العبيد من الأفعال هل اﷲ تعالى عالم به أم لا؟ وهل هو يعلم أنّ الكافر يختار الكفر والفاسق يختار الفسق أم لا؟ فإذا كان يعلم بأنّ الكافر يختار الكفر، والفاسق يختار الفسق، فلِمَ خلقهما؟! وأيضاً: فلو كان الكافر أو الفاسق متمكّناً من ترك الكفر والفسق لتبدّل علم اﷲ بالجهل، وهو باطل. فهما _ إذاً _ مجبوران على الكفر والفسق...كما نُسِب ذلك إلى عمر الخيّام ومضمون شعره:

شربي الخمر معلوم ﷲ من الأزل *** وإن لم أشربه تبدّل علمه إلى جهل.

ص: 77


1- التوحيد: ص 361.
2- الكافي 1: 152.

والجواب عنها:

أنّ علمه تعالى ليس علّةً للكفر ولا للفسق، بل بما أنّ الكافر يختار الكفر والفسق فاﷲ يعلم به. وأمّا الحكمة في خلقهما، فهي أنّ اﷲ تعالى بما أنّه فيّاض مطلق، وفيضه يصل إلى العامّة، بل إلى مطلق الموجودات، يعطي منه للمؤمن وغير المؤمن، كأسباب الهداية التكوينيّة من أمثال العقل والجوارح والقدرة والاختيار، وكذا أسباب الهداية التشريعيّة كإرسال الرسول وبيان الأحكام والتكاليف، ولا فرق بين المؤمن والكافر في القدرة والاستفاده منها، ولكنّ المؤمن بحسن سريرته، يستفيد منها للوصول إلى الإيمان، والكافر والفاسق بسوء سريرتهما لا يستفيدان منها للوصول إلى الهداية، بل تكون كلّ هذه الأسباب مزالق لهما للهبوط إلى الهاوية.

والثانية:يظهر من بعض الروايات: أنّ الشقاوة والسعادة ذاتيّتان للسعيد والشقيّ، «الشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(1)، وقد ورد في بعض الروايات الأُخَر «أنّ الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(2)، و«شيعتنا منّا خُلِقوا من فاضل طينتنا، وعُجِنوا بماء ولايتنا»(3)، إلخ.. وقد أشار إلى بعض هذه

ص: 78


1- الكافي 8: 81.
2- الكافي 8: 177.
3- بحار الأنوار 53: 303.

الروايات صاحب الكفاية) (1).

وفيه:

أوّلاً: أنّ الرواية غير صحيحةٍ من جهة السند.

وثانياً: لو سُلِّم صحّتها وصدورها من المعصوم(علیه السلام) فهي ليست منافيةً للاختيار، وليس معناها أنّ كلّما يصدر من العبد من الخير والشرّ يكون بمقتضى طبيعته حتّى يصبح مجبوراً؛ لأنّه خلاف الوجدان، ولذا، لو فرِض أنّ طينة شخص من العلّيين وطينة الأخرس من سجّين، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّها تكون علّةً تامّة لحصول السعادة والشقاوة له، بل هما مقتضيات، والمعلول لا يوجد في الخارج إلّا مع وجود العلّة التامّة.وثالثاً: حتى لو فُرِض أنّها مقتضيات، فيحتاج حصول السعادة أو الشقاوة إلى أسبابٍ أُخرى، مثلاً: السعادة بالنسبة إلى الشخص تحصل بوجود الأسباب، كالمعارف وتكميل النفس والأخلاق الفاضلة والطاعة وترك المعصية، كما أنّ اختيار الكفر _ أيضاً _ يحتاج إلى اُمورٍ عدّة: كاختيار العقائد الفاسدة والجريمة والطغيان حتّى يصبح كافراً.

قال المحقّق السبزواري) في المنظومة:

إذ خمرت طينتنا بالملكة *** وتلك فينا حصلت بالحركة(2).

ص: 79


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 68.
2- شرح المنظومة 1: 515.

أي: أنّه لو وجدت القابليّة لطينتنا، ولكن في مقام الفعليّة نحتاج إلى أفعال وعقائد وحركاتٍ اختياريّة.

وبعبارةٍ أُخرى: _ وكما يقال: فكل أرضٍ كرويّة، ولكن ليس كلّ كرويٍّ أرضاً _ فكل من أصبح سعيداً كانت له القابليّة من بطن اُمّه، لا أنّ كل من له قابليّة يصبح سعيداً. فالأطفال الذين يعيشون في بلاد الإسلام لهم القابليّة والاستعداد للسّعادة، والأسباب مهيّئة لهم أكثر من الأطفال الذي يعيشون في بلاد الكفر، ولكنّ هذا لا يكون سبباً لسلب الاختيار بالنسبة إليهم.فإذا اختار من كانت أسباب السعادة مهيّئةً بالنسبة إليه الكفر، يكون مشمولاً لقوله تعالى في نساء النبيّ-: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾(1).

أي: ليس قدركنّ كقدر غيركنّ من الصالحات، فأنتنّ أكرم عليّ وأنا بكم أرحم، وثوابكنّ أعظم لمكانكنّ من رسول اﷲ، وإنّ مقتضيات التقوى والإيمان فيكنّ أكثر...

فنقول: أمّا ما ورد من الأخبار من عدم دخول أولاد الزنا في الجنّة بواسطة بغضهم لأهل البيت( أو أنّ أكل الوالدين للحرام وارتكابهما المعاصي يؤثّران في الأولاد.

ص: 80


1- الأحزاب: 32.

وأمّا عدم دخول أولاد الزنا في الجنّة فإنّه محمول على الاقتضاء، لا العلّيّة التامّة، أي: أنّ مقتضيات الكفر والضلال وعدوانهم لأهل البيت( أكثر، لا بمعنى: أنّ الاختيار قد سُلِب منهم، وأنّهم لا يتمكّنون من تحصيل الإيمان والعمل الصالح، بل إذا ولِدوا من الزنا فيكون هذا كالمقتضي للضلالة، لا العلّة التامّة.وأمّا أكل الحرام بالنسبة إلى الوالدين، أو ارتكابهما للمعاصي، الذي يُؤثّر في أولادهما، فيكون _ أيضاً _ من باب المقتضي، لا العلّة التامّة.

ص: 81

ص: 82

الكلام في صيغة الأمر

اشارة

وقد ذكروا لها عدّة معانٍ:

منها: الطلب كقولك: اصنع كذا.

ومنها الإنذار، كقوله تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾(1).ومنها: الإهانة، كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْ_كَرِيمُ﴾(2).

ومنها: التعجيز، كقوله تعالى: ﴿فَأْت__ُواْ بِسُورَة ٍ﴾(3).

ومنها: التسخير، كقوله تعالى: ﴿كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ﴾(4).

ومنها: الدعاء، كقوله تعالى: ﴿رَبّ ِ اغْفِرْ لِي﴾(5).

ص: 83


1- ابراهيم: 30.
2- الدخان: 49.
3- البقرة: 23.
4- البقرة: 65.
5- الأعراف: 151.

ومنها: التكوين، كقوله تعالى: ﴿كُن فَيَكوُنُ﴾(1).

وهل استعمال الصيغة في هذه الاُمور على نحو الاشتراك اللّفظيّ أو المعنويّ؟ أو أنّه في البعض على نحو الاشتراك اللّفظيّ وفي الآخر على نحو الاشتراك المعنويّ؟؟ وهل الاستعمال في الجميع على نحو الحقيقة أو أنّه في بعضها حقيقة وفي الآخر مجاز؟؟

لا يخفى: أنّه لا يمكن القول بأنّ الصيغة قد وُضِعت على نحو الاشتراك اللّفظيّ أو المعنويّ؛ لأنّه، وكما ذكرنا، فلكلٍّ من الماضيوالمضارع والأمر مادّة وصورة، أمّا المادّة: فليست سوى الحدث، وأمّا الهيئة فهي تدلّ على نسبة المادّة إلى فاعلٍ ما.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ حال صيغة الأمر هو كحال صيغة المضارع والماضي، فكما أنّه لا يكون الزمان دخيلاً فيهما، فكذلك في صيغة الأمر، فهي أيضاً مركّبة من المادّة والهيئة، والمادّة فيها لا تدلّ إلّا على الحدث، والهيئة فيها ليس لها دلالة على ما سوى نسبة المادّة إلى فاعلٍ ما، ولكنّ هذه النسبة في الماضي غير المضارع والأمر، فهي في الماضي تدلّ على النسبة التحقيقيّة، وفي المضارع على النسبة التلبّسيّة أو الترقّبيّة، وفي الأمر على الإيقاعيّة.

وهنا، فإنّ الصيغة لم تُستعمل إلّا في الطلب فقط، وأمّا بقيّة المعاني

ص: 84


1- البقرة: 117.

فما هي إلّا من قبيل الدواعي؛ لأنّ الداعي إلى الطلب تارةً يكون هو النسبة الإيقاعيّة، واُخرى يكون غيرها، ولذا، فهو لا يكون قابلاً للإخبار بعدما عرفتَ من اقتضاء الصيغة للإنشاء، وبعد ما هو معلوم من المضادّة بين الإخبار والإنشاء، وأمّا بعض الماضي، فيصلح لأن يقع لكلٍّ من الإنشاء والإخبار.

قال صاحب الكفاية(قدس سره): «أنّه ربّما يذكَر للصيغة معانٍ قد استُعملت فيها، وقد عدّ منها: الترجّي والتمنّي والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير، إلى غير ذلك... وهذا كما ترى، ضرورة أنّ الصيغةما استُعملت في واحدٍ منها، بل لم يُستعمل إلّا في إنشاء الطلب، إلّا أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعيّ [وهو الذي ينصرف إليه اللّفظ عند الإطلاق]، يكون اُخرى أحد هذه الاُمور، كما لا يخفى. قصارى ما يمكن أن يدَّعى: أن تكون الصيغة موضوعةً لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثاً حقيقةً، وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستَعمَلةً في التهديد وغيره»(1).

والحقّ: أنّ الدواعي لا يمكن أخذها في الموضوع له؛ لأنّها من شؤون الاستعمال ويكون متأخّراً عن الوضع، ولا يمكن أخذ المتأخّر

ص: 85


1- كفاية الاُصول: ص 69.

في المتقدّم. فالمعنى فيها واحد، ولم تُستعمل الصيغة في واحدٍ من هذه المعاني المذكورة، فضلاً عن أن تكون موضوعاً لها.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الصيغة بما أنّها مركّبة من المادّة والهيئة، فالهيئة موضوعة للنسبة الطلبيّة، وأمّا المادّة: فهي موضوعة للحدث الكذائيّ الشخصيّ، بلا فرقٍ بين أن يتهيّأ بهيئة الأمر أو الماضي أو المضارع.

ولهذه المادّة نسبتان: نسبة إلى الآمر، وتسمّى: بالنسبة الباعثيّة، ونسبة إلى المأمور به، وتسمّى: بالنسبة المبعوثيّة إلى إيجاد المادّة.فقد تحصّل: أنّ هذه الاُمور من الدواعي، وأنّها خارجة عن الموضوع له والمستَعمل فيه، لعدم دلالة شيءٍ من المادّة ولا الهيئة على ذلك.

نعم، لا بأس بأنّ يستفاد من الصيغة أنّها ظاهرة في كونها بداعي البعث والتحريك، بحيث يُحمل اللّفظ عليه عند الإطلاق والتجرّد من القرينة، وهذا المقدار كافٍ لحملها على الطلب، ولو لم تكن موضوعةً له، ويمكن تبرير هذه الاستفادة من وجوه:

الوجه الأوّل: غلبة الاستعمال في ذلك، على أن تكون هذه الغلبة قد حصلت ولو بالنسبة إلى مجموع سائر الدواعي _ وإن لم يمكن أن تُدّعى بالنسبة إلى أحدها خاصّةً _ وقد صارت هذه الغلبة سبباً لظهور الصيغة في الإنشاء الجدّيّ والبعث والتحريك الحقيقيّ، ولو كانت امتحانيّةً، وإن كان صدق الطلب على الامتحانيّة ليس لمكان مطلوبيّة الفعل؛ لأنّ المفروض _ عادةً _ أنّ الفعل لا يكون فيه مصلحة، بل إنّما يُؤمَر به لأجل

ص: 86

الامتحان ولنفس تحريك عضلات العبد نحو إيجاده، وإنّما يكون الفعل مطلوباً إذا كان فيه المصلحة؛ لأنّ الصحيح _ كما أشرنا آنفاً _ أنّ الأمر تابع للمصالح والمفاسد في متعلّقاته.

والوجه الثاني: أنّ الأصل العقلائيّ هو الذي يقتضي ذلك؛ فإنّ ديدن العقلاء في جميع محاوراتهم أن يحملوا الإنشاء على الجدّ؛ لأنّسيرتهم في المحاورات جارية على موافقة الإرادة الاستعماليّة للإرادة الجدّيّة، كما هو واضح من باب الإقرار _ مثلاً _ .

والوجه الثالث: أنّ مقدّمات الحكمة تقتضي حمل الإنشاء على الإنشاء الحقيقيّ، وبنحو الجدّ؛ لاحتياج حملها على معانٍ غير جدّيّة إلى قرينة.

وممّا ذكرنا من أنّ الصيغة لم توضع لإحدى تلك المعاني، بل للصّيغة معنىً واحد، والمعاني بأجمعها خارجة عنها، يظهر:

أنّه لا معنى للقول بالانسلاخ لو استعمِلت في تلك المعاني، أي: الترجي والتمنّي والاستفهام وغيره في كلام اﷲ؛ لاستحالة إرادة تلك المعاني بالنسبة إليه تعالى؛ لأنّ استعمالها في تلك المعاني مستلزم للجهل والعجز المستحيلين في حقّه تبارك وتعالى؛ لأنّ المستحيل هو الإنشاء الحقيقيّ، لا الإيقاعيّ، فإذا استعمِلت في كلامه كذلك، فليس لإظهار ثبوتها حقيقةً، بل لأمرٍ آخر، كما نرى ذلك في مثل قوله

ص: 87

تعالى: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ﴾(1)، فيكون الداعي هو التوبيخ، أوقوله:

﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾(2)، فيكون الداعي هو الإنكار، أو قوله: ﴿أَصَلاَتُكَ

تَأْمُرُكَ﴾(3)، فيكون الداعي هو التعجّب.

إذا عرفت ذلك تعلم: أنّه حينما قلنا بأنّ الصيغة موضوعة لمعنىً واحد، أي: الطلب الإنشائيّ، وأنّ الدواعي قد تختلف، فإنّه قد يكون واقعاً للطلب الحقيقيّ، وقد يكون للتهديد أو للاحتقار أو لغير ذلك من الاُمور.

هل صيغة الأمر حقيقة في الوجوب أو في الندب؟

الأقوال في المسألة ثمانية كما ذكروا:

الأوّل: كونها حقيقةً في الوجوب.

والثاني: كونها حقيقةً في الندب.

والثالث: الاشتراك اللّفظيّ بينهما.

والرابع: الاشتراك المعنويّ.

والخامس: القول بالاشتراك اللّفظيّ بين الوجوب والندب والإباحة.

والسادس: القول بالاشتراك اللّفظيّ بين الوجوب والندب والإباحة

ص: 88


1- الإسراء: 40.
2- الصّافّات: 95.
3- هود: 87.

والتهديد.

والسابع: الاشتراك المعنويّ بينها.

والثامن: التوقّف.

ولكنّ هذه الأقوال، وإن كانت كثيرةً، إلّا أنّ العمدة منها قولان:

أحدهما: كونها للوجوب، أي: للطلب الإلزاميّ، أو أنّها ظاهرة فيه؛ للانصراف.

والثاني: كونها حقيقةً في الجامع بينه وبين الندب _ وهو بمعنى: الطلب غير الإلزاميّ _.

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في بيان معنى الوجوب والاستحباب:

لا يخفى: أنّ الأوامر الصادرة من المولى في الكتاب والسنّة على قسمين، أحدهما: ما يراد بها اللّزوم والحتم، بحيث لا يجوز للعبد مخالفته. والثاني: ما يراد بها البعث، ولكن بحيث يكون للعبد الخيار في تركها، بمعنى: أنّه يجوز له مخالفتها، ويُسمّى الأوّل ﺑ «الوجوب»، والثاني ﺑ «الندب».

والأمر الثاني: في بيان بساطة الوجوب والندب وتركيبهما:

اشارة

قد يقال: إنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك،

ص: 89

والاستحباب مركّب من طلب الفعل مع الترخيص في الترك.

وقد يقال: الفرق بين الوجوب والاستحباب إنّما هو: شدّة الطلب في الأوّل، وعدم شدّته في الثاني.

والحقّ: ما ذهب إليه المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّها قد وُضِعت لمطلق الطلب، خلافاً لصاحب الكفاية) الذي اختار وضعها للطلب الوجوبيّ(1).

كلام المحقّق النائيني(رحمة الله):

ولا بأس هنا بأن نذكر ما سلكه المحقّق النائيني(قدس سره) في تحقيق المسألة _ مدّعياً عدم الوجه في البحث عن تشخيص الموضوع له، وأنّه هل الوجوب أو الندب أو الأعمّ منهما؛ لأنّ الطلب الوجوبيّ ليس سنخاً آخر غير الطلب الندبيّ، بل هما من سنخٍ واحدٍ وبمعنىً فارد؛ فإنّ الوجوب إنّما يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى، وعليه:فليس هناك نحوان من الطلب ثبوتاً كي يتَنازع في كون أيّهما هو الموضوع له _ فقد جاء في تقريرات بحثه للاُستاذ الأعظم(قدس سره):

«أنّ المتقدّمين من الأصحاب ذهبوا إلى تركّب الوجوب والاستحباب من جنسٍ، وهو: طلب الفعل، وفصلٍ، وهو المنع من الترك أو الإذن فيه، وهذا القول رفضه المحقّقون من المتأخّرين، وذهبوا إلى أنّهما

ص: 90


1- كفاية الاُصول: ص 70. قال(قدس سره) ما نصّه: «لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، ويؤيّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحالٍ أو مقال».

مرتبتان بسيطتان من الطلب، والمنع من الترك وعدمه من لوازم شدّة الطلب وضعفه، لا أنّهما مقوّمان لحقيقة الوجوب والاستحباب، بداهة عدم خطور المعنى المركّب عند استعمال الصيغة في الوجوب أو الاستحباب...»(1).

وما ذهب إليه المحقّق النائيني(قدس سره) هو أنّ الطلب غير قابلٍ للشدّة والضعف، وأنّ المستَعمل فيه في كلتا الحالتين _ سواء كان الفعل ضروريّ الوجود أو غير ضروريّ الوجود _ ليس إلّا النسبة الإيقاعيّة، بمعنى: إيقاع المادّة على المخاطب من دون أن يكون هناك شدّة وضعف في المستعمل فيه، بل هو واحد في كلّ الحالات.

وأمّا الإرادة: فهي، وإن كانت في نفسها قابلةً للشّدّة والضعف، إلّا أنّ الإرادة فيما نحن فيه هي الشوق المؤكّد المستَتبع لتحريك العضلات،وغير ذلك لا يكون إرادةً، وهذا المعنى من الإرادة غير قابلٍ للشدّة والضعف.

قال(قدس سره): «فإنّ ما يُستعمل فيه الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب ليس إلّا النسبة الإيقاعيّة، ولا شدّة ولا ضعف فيها، وأمّا الطلب القائم بالنفس في الأفعال التكوينيّة، فهو _ أيضاً _ كذلك؛ لأنّه _ كما عرفتَ _ عين الاختيار وتحريك النفس للعضلات، وهو في جميع الأفعال على

ص: 91


1- أجود التقريرات 1: 94_ 95.

حدٍّ سواء. وأمّا الإرادة، فهي، وإن كانت كانت قابلةً للشدّة والضعف في حدّ نفسها، إلّا أنّها ما لم تشتدّ بحيث يترتّب عليها تحريك النفس للعضلات لا تكون إرادةً، سواء كان المراد فعلاً من الأفعال الضروريّة أو غيرها».

إلى أن يقول: «إذا عرفتَ ذلك، فاعلم: أنّ الصيغة متى صدرت من المولى فالعقل يحكم بلزوم امتثاله باقتضاء العبوديّة والمولويّة، ولا يصحّ الاعتذار عن الترك بمجرّد احتمال كون المصلحة غير لزوميّةٍ، إلّا إذا كانت هناك قرينة متّصلة أو منفصلة على كونها غير لزوميّة».

فنقول _ كما قال(قدس سره) _: إنّ الصيغة لا تدلّ على معنىً مركّبٍ من طلب الشيء مع المنع من الترك، ولا يكون فيها المرتبة الشديدة ولا الضعيفة، بل وُضِعت لنفس الطلب ويفهم الوجوب أو الندب من الخارج، وهو الدليل العقليّ، أي: اقتضاء حقّ المولويّة والعبوديّةوتحتيمه على العبد أن يأتي بالفعل بمجرّد أن يأمره المولى، بحيث لا يجوز له الترك إلّا مع وجود قرينة على جوازه. والدليل على ذلك هو: حسن معاقبة المولى لعبده على مخالفته وأنّه لا يقبَل اعتذاره عنها: بأنّي تخيّلت أنّها قد اُريدَ منها الندب.

وإذا عرفت هذا فاعلم:

أنّه

لو كانت هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على تعيين أحدهما، فلا إشكال، وإن لم تكن، فالصيغة لا تدلّ بنفسها، لا على الوجوب ولا على الندب.

ص: 92

وهناك أقوال في المسألة:

الأوّل: أنّها موضوعة للوجوب ومجاز في غيره.

والثاني: أنّ الوجوب يُستفاد منها بالإطلاق؛ لأنّ غير الوجوب يحتاج إلى مؤونةٍ زائدةٍ، وذلك باعتبار أنّ الوجوب أمر بسيط.

والثالث: أنّ الوجوب يُستفاد منها بمقدّمات الحكمة.

والرابع: أنّها تدلّ على الوجوب بحكم العقل _ كما هو الصحيح _ بمقتضى قانون العبوديّة والمولويّة فيما إذا لم ينصب قرينةً على الترخيص فلابدّ من الإتيان بالفعل.

واختار صاحب الكفاية(قدس سره) القول الأوّل، وهو أنّها موضوعة للوجوب ومجاز في غيره.واستدلّ

لذلك بالتبادر(1)، ويمكن تقريبه: بأنّ المنسبق إلى الذهن عند إطلاقها عند التجرّد من القرينة _ حاليّةً كانت أو مقاليّةً _ هو الوجوب، وبما أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ، فتكون الصيغة موضوعةً للوجوب؛ إذ لو كانت حقيقةً في الندب وحده، أو على سبيل الاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ بينهما، لم يتبادر الوجوب خاصّةً، كما لا يخفى.

وقد استشكل المحقّق العراقيّ) في تقريرات بحثه في وضع الصيغة

ص: 93


1- كفاية الاُصول: ص 70.

للوجوب؛ لعدم العلم باستناد التبادر إلى حاقّ اللّفظ ونشوئه عن الوضع(1).

ثمّ أيّد كلامه بعدم قبول اعتذار العبد لو خالف الأمر باحتمال أنّ المولى قد أراد المعنى الندبيّ، وصحّت مؤاخذة المولى له.

وإنّما جعل هذا الكلام مؤيِّداً ولم يجعله دليلاً؛ لاحتمال أنّ استفادة الوجوب إنّما كانت من جهة ظهور الصيغة في الوجوب، ولو لم تكن من جهة الدلالة الوضعيّة بل كان منشؤها الانصراف أوالإطلاق والتمسّك بمقدّمات الحكمة، وعليه: فهذا الاحتجاج لا يدلّ على الوضع، ولا يقتضي كونها موضوعةً للوجوب.

ثمّ أورد على ذلك: بكثرة استعمال الصيغة في الندب، وهي _ أي: هذه الكثرة _ تشكّل مانعاً من ظهورها في الوجوب، وتبادر ذلك منها، لوضوح أنّها لو لم تكن موجبةً لظهورها فيه، فلا شبهة في أنّها مانعة من انفهام الوجوب منها، فلا يمكن حملها عليه عند الإطلاق مجرّدةً عن القرينة.

ثمّ أجاب) عن ذلك:

أوّلاً: بأنّ استعمالها في الندب ليس بأكثر من استعمالها في الوجوب لتكون كثرة الاستعمال فيه مانعاً من ظهورها في الوجوب.

ص: 94


1- بدائع الأفكار 1: 212.

وثانياً: بأنّ كثرة استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ مع القرينة لا تكون _ أبداً _ مانعاً عن حمله على المعنى الحقيقيّ عند إطلاقه مجرّداً عنها، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ كثرة استعمال الصيغة في الندب مع القرينة لا يمكن أن تمنع من حملها على الوجوب إذا كانت خاليةً عنها.

ثمّ استشهد على ذلك: بكثرة استعمال العامّ في الخاصّ حتّى قيل: (ما من عامٍّ إلّا وقد خصّ)، ومع هذه الكثرة فلم ينثلم ظهور العامّ فيالعموم إذا ورد في الكتاب والسنّة ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخاصّ(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: ما ذكرناه مراراً: من أنّ التبادر ليس علامة الحقيقة.

وثانياً: سلّمنا تحقّق التبادر، وأنّه علامة الحقيقة، إلّا أنّ ذلك فقط إذا كان منشؤه حاقّ اللّفظ، ولكنّ كونه هنا كذلك غير معلوم؛ إذ إنّ مجرّد انفهام المعنى من اللّفظ لا يكون علامةً على كون ذاك اللّفظ حقيقةً فيه،

ص: 95


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 70. وإليك نصّ كلامه): «وكثرة الاستعمال فيه [أي: في الندب] في الكتاب والسنّة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه، إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازيّ لا توجب صيرورته مشهوراً فيه ليرجح أو يتوقّف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف؟! وقد كثر استعمال العامّ في الخاصّ، حتى قيل: (ما من عامٍّ إلّا وقد خُصّ) ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يُحمل عليه، ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص».

بل يبقى احتمال أن يكون التبادر ناشئاً من جهة الإطلاق أو مقدّمات الحكمة. فقد يقال هنا: إنّ منشأ الظهور في الوجوب إنّما هو مقدّمات الحكمة.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الإرادة إذا تعلّقت بفعلٍ، فتارةً يكون ذلك على نحو اللّزوم، وتكون شديدةً وأكيدةً بحيث لا يريد المولى لإرادته أن تتخلّف عن مراده. وأُخرى تكون ضعيفةً، بحيث لا يكون تعلّقها بهمانعاً عن التخلّف، بل هناك رخصة في الترك، ولا يكون العبد ملزَماً بالفعل، بل جعل إتيان الفعل وتركه باختياره، له فعله وله تركه:

فالأوّل: أي: إذا كان الطلب على سبيل الحتم واللّزوم، يعبّر عنه ﺑ(الوجوب)، والوجوب يكون مرآةً وكاشفاً عن الإرادة الشديدة.

والثاني: أي: إذا لم يكن الطلب على سبيل اللّزوم، يعَبَّر عنه ﺑ (الندب)، وهو يكون مرآةً ومثالاً موضوعيّاً للمرتبة الضعيفة.

وقد

يقال هنا: إنّ شدّة الطلب ليست إلّا عين الطلب؛ لأنّ ما به الامتياز عين ما به الاشتراك، نظير: الوجود الواجبيّ، أو السواد والبياض الشديدين؛ حيث إنّ ما به الاشتراك فيهما هو عين ما به الامتياز، وعليه: فشدّة الإرادة هي عين الإرادة، وليست أمراً زائداً عليها حتّى تدفع بالأصل. وهذا بخلاف الاستحباب؛ فإنّه عبارة عن الطلب الضعيف _ كما قيل _ والضعف ليس إلّا عدم الشدّة، فيكون أمراً عدميّاً، وحينئذٍ: فما به الامتياز لا يعود من سنخ ما به الاشتراك،

ص: 96

فيكون مركّباً، فيحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، فيتمّ دفعها بالأصل.

وبالتالي: فإذا كان المولى في مقام البيان، ولم ينصب قرينةً على إرادة واحدٍ منهما بعينه، أو على إرادة الجامع، فقضيّة الإطلاق هو الوجوب؛ لاحتياج الاستحباب إلى أمرٍ زائدٍ، كما بيّنّا.ولكنّ الحقّ: أنّ الإرادة لا يُتَصوّر فيها الشدّة أو الضعف؛ إذ هي _ كما سبق _ نفس الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فحيث وصل الشوق إلى هذا الحد فهي الإرادة، وإلّا، فلا، سواء كان متعلّقهما لزوميّاً أو غير لزوميّ.

وقد يقال: بأنّ هذا إنّما يتمّ في الإرادة التكوينيّة، وأمّا التشريعيّة: فإنّما تكون تابعةً للمصلحة التي تنشأ منها، فإن كانت هذه المصلحة لزوميّةً، كانت الإرادة التي نشأت منها لزوميّةً أيضاً، وإن كانت غير لزوميّةٍ كانت الإرادة غير لزوميّة.

ولكنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) أجاب عن هذا:

بأنّ الإرادة، ولو كانت تشريعيّةً، ولكن لا يُعقَل أن تختلف شدّةً وضعفاً.

ثمّ قال: «لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مردّ اختلاف الوجوب والندب إلى اختلاف الإرادة شدّة وضعفاً، إلّا أنّ دعوى كون الإرادة الشديدة لا تزيد على الإرادة بشيءٍ، فهي إرادة صرفة دون الإرادة الضعيفة؛ فإنّها لمكان ضعفها زائدة على الإرادة وهي صفة ضعفها؛ فإنّها حدّ عدميّ،

ص: 97

خاطئة جدّاً. وذلك لأنّ الإرادة بشتّى ألوانها وأشكالها محدودة بحدٍّ، من دون فرقٍ في ذلك بين الإرادة الشديدة والضعيفة، كيف؟! فإنّهما مرتبتان متضادّتان من الإرادة. وعليه: فبطبيعة الحاليكون لكلٍّ منهما حدّ خاصّ. وإن شئتَ فقل: إنّ الإرادة التي هي واقع الوجوب وروحه من الاُمور الممكنة، ومن البديهيّ: أنّ كلّ ممكنٍ محدود بحدٍّ خاصّ، غاية الأمر: يزيد الوجوب على الندب بشدّة الإرادة»(1).

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الطلب، من أيّة مقولةٍ كان، أي: سواء كان من مقولة الكيف النفسانيّ، أو من فعل النفس، فإنّه يكون محدوداً، فكما أنّه يُطلَق على القليل والكثير، ومع هذا يكون محدوداً، فكذلك في المقام. ولا يمكن قياسه على الوجود الواجبيّ؛ فإنّه بسيط من جميع الجهات، وهو نفس الوجود، وهذا بجميع أقسامه ليس بمركّبٍ، ولا حدّ له، أي أنّه لا يكون مركّباً من الأجزاء الخارجيّة، ولا من الأجزاء العقليّة من الجنس والفصل، ولا من الأجزاء الوهميّة من المادّة والصورة، ولا من الأجزاء المقداريّة.

وقد تحصّل بذلك: أنّ جميع ما عدا واجب الوجود، يكون مركّباً محدوداً، ولو من الماهيّة والوجود، فالقول بعدم تركّب الطلب بكلا قسميه باطل.

ص: 98


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 129.

وظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ صيغة (افعل) موضوعة للطلب فقط، وليست موضوعةً، لا للوجوب، ولا للندب.

ومن هنا ظهر فساد ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«وإذا ثبت الاختلاف ثبوتاً من حيث المبدأ والمنتهى، أمكن دعوى رجوع اختلاف الوجوب والاستحباب إلى الاختلاف في المدلول اللّفظيّ، بأن يقال: إنّ الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتميّة الأكيدة، والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتميّة».

إلى أن يقول(قدس سره): «وبالجملة: يمكن دعوى اختلاف الوجوب والاستحباب وضعاً، وأنّ الصيغة التي يراد بها الوجوب تُستَعمل في غير ما تُستَعمل فيه لو أُريدَ الندب»(1).

وجه الفساد: أنّ للصّيغة مادّةً وهيئةً، فالمادّة تدلّ على الحدث، والهيئة على مطلَق الطلب، فأيّ شيءٍ هو الذي يدلّ على الشدّة والضعف حتّى يتصوّر كونه مركّباً؟!

وأيضاً: قد ظهر: أنّ استعمال الصيغة في الوجوب والندب إنّما يكون بنحوٍ واحدٍ وعلى طرزٍ واحد.فإن قلت: إذاً، من أين نفهم أنّ العبد لابدّ له أن يأتي حتماً بما أمره المولى؟

ص: 99


1- منتقى الاُصول 1: 402.

قلنا: إنّ العقلاء يحكمون بلزوم إطاعة الأوامر الصادرة عن المولى، وبه تتمّ الحجّة عليه بعد صدور البعث من المولى، ويغدو عذره بتركه للعمل باحتمال تخيّل أنّ البعث لم يكن على نحو الحتم غير مقبولٍ عندهم، بل هم يبنون على أنّ بعث المولى لابدّ أن لا يترك. وليس عدم جواز الترك عندهم لأجل أنّ الصيغة قد وضِعت للطّلب الحتميّ، ولا من جهة الإطلاق، ولا مقدّمات الحكمة، بل حكمهم بالوجوب إنّما هو لأجل البعث الصادر من المولى، فهذا هو اقتضاء قانون المولويّة والعبوديّة في نظر العقلاء، فلابدّ للعبد من الإطاعة والإتيان بالفعل، ما لم يرد ترخيص من المولى في الترك، ولذا، لا يُقبل اعتذاره، كما ذكرنا.

وبهذا نفهم: أنّ العبد يجب أن يأتي بما أمر به فوراً، كما سيأتي بيانه إن شاء اﷲ.

ثمّ إنّه، وبعد أن التزمنا بأنّ الأمر موضوع للطّلب، فاستعمال الصيغة في الوجوب والندب جميعاً في مثل قوله: «اغتسل للجمعة والجنابة» لا يكون مجازاً، بل يكون على نحو الحقيقة؛ لأنّ الصيغة مستَعملة في خصوص الطلب، وإنّما نفهم الرخصة في ترك الجمعة من الخارج،ولولا وجود القرينة على استحبابيّة غسل الجمعة لكان لابدّ أن يؤتى بغسل الجمعة على نحو الحتم واللّزوم؛ إذ إنّ ذلك هو مقتضى المولويّة وحقّ العبوديّة، ولذا، لا يقبل منه الاعتذار في الترك.

وما يقال: من أنّ الصيغة وإن كانت موضوعةً لإنشاء الطلب، ولكنّها

ص: 100

تنصرف هنا عند الإطلاق إلى خصوص الوجوب.

ففيه: أنّه لا يمكن دعوى الانصراف؛ لأنّ الانصراف إنّما يُتَصوّر إذا كان الشيء من الماهيّات المشكّكة التي يُتصوّر فيها الشدّة والضعف كالبياض والسواد، حتّى يقال: بأنّ إطلاق الطلب ينصرف إلى الإرادة الشديدة.

نعم، في مثل المصلحة والمفسدة والحبّ والشوق يتصوّر ذلك، وأمّا الإنشاء، فبما أنّه من باب استعمال اللّفظ في المعنى فلا يتصوّر فيه الشدّة والضعف؛ لأنّه _ كما ذكرنا _ ليس من الماهيّات المشكّكة.

وممّا

ذكرنا: ظهر بوضوحٍ عدم تماميّة ما قاله الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّ «طبع الطلب يقتضي لزوم إيجاد المادّة، وأنّ المأمور لو لم يوجده لَعُدّ عاصياً، إلّا أن يأذن المولى في الترك، فبناءً على هذا: الاستحباب يحتاج إلى المؤونة الزائدة في مقام البيان، وقد تقدّم: أنّ كلّ ما يحتاج بيانه إلى مؤونةٍ زائدة، ولم يكن بيان لتلك الخصوصيّة الزائدة فالإطلاق يرفعه، ويوجب ظهور اللّفظ فيما لا يحتاج بيانه إلى مؤونةٍزائدة.

ففي المقام، حيث إنّ الذي يحتاج بيانه إلى مؤونةٍ زائدةٍ هو الاستحباب، لأنّه يحتاج إلى الإذن في الترك، بخلاف الوجوب، فإنّه لا يحتاج إلى أمرٍ زائدٍ على أصل الطلب، فالإطلاق يوجب ظهور الصيغة في الوجوب. نعم، هذا الظهور إطلاقيّ، وليس بوضعيّ»(1).

ص: 101


1- منتهى الاُصول 1: 125.

وفيه: كما ذكرنا، أنّه لولا قطعيّة المولويّة وقضاء حقّ العبوديّة لم يكن هناك أيّ وجوبٍ يُستفاد من الصيغة، بل الوجوب يكون بحكم العقل، وليس مدلولاً للصيغة، ولا هو يُستفاد من إطلاقها؛ لأنّ إطلاق الصيغة لا يظهر منه إلّا الطلب فقط، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق القمّيّ(قدس سره)، من أنّ الصيغة دالّة على الوجوب بالدلالة الالتزاميّة، لكن لا من باب الدلالة الالتزاميّة اللّفظيّة للصيغة كالمفاهيم، بل من المداليل السياقيّة، نظير: الإنشائيّة والإخباريّة اللّتين هما من المداليل السياقيّة عند البعض.

إذاً، فالعقل يدرك من الصيغة لزوم الإتيان بالفعل، وأنّ المخالفة توجب العقاب، سواء كان الإنشاء لوجود الأمر، كما في الأوامر، أم الترك كما في النواهي، وعليه: فيكون الوجوب والحرمة من مدركات العقل.

الكلام في مدلول الجملة الخبريّة في مقام الطلب:

هل يُحمَل هذا المدلول على الوجوب أو الاستحباب أو غيرهما؟

فلو قُلتَ: (يعيد)، أو: (يتوضّأ)، أو غير ذلك من الجمل الخبريّة التي وردت في مقام الطلب، فهل تكون ظاهرةً في الوجوب أم لا؟

قيل: بعدم ظهورها في الوجوب؛ لأنّها غير مستعملة في معناها الحقيقيّ، وهو الإخبار بثبوت النسبة، والمعاني المجازيّة المحتملة متعدّدة، ولا مرجّح هناك لحملها على الوجوب.

ص: 102

ولكن قال صاحب الكفاية(رحمة الله) بظهورها في الوجوب، وذلك بدعوى: أنّ الصيغة لم تستَعمل في غير معناها، وهو النسبة(1)،إلاّ أنّه لم يكن بداعي الإخبار والإعلام، بل بداعي البعث والتحريك؛ فإنّ الإخبار بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهار بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه، فيكون ظهورها للبعث والتحريك آكد من ظهور الصيغة _ أي: صيغة الأمر _ في الوجوب.

ثمّ إنّه(رحمة الله) بعد ذلك اعترض على نفسه، بما حاصله:أنّه _ حينئذٍ _ يلزم الكذب في كلامه تعالى إذا كان المستعمل فيه هو النسبة، وذلك لعدم وقوع المطلوب غالباً، تعالى اﷲ عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأجاب عنه(قدس سره) _ بما لفظه: «إنّما يَلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام، لا بداعي البعث، كيف؟! وإلّا يَلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل (زيد كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنّه مقال بمقتضى الحال»(2).

هذا.

ويمكن أن يقرّر ظهور الصيغة في الوجوب بتقريرٍ فلسفيٍّ، وهو:

ص: 103


1- كفاية الاُصول: 70_ 71.
2- كفاية الاُصول: 71.

أنّه قد قرِّر في محلّه أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، أي: فبعد فرض عدم انفكاك المعلول عن العلّة، فإذا لم توجد العلّة المقتضية لضرورة وجود الشيء في الخارج، فلا يوجد الشيء أصلاً، فإذا أخبر بوجود شيءٍ وتحقّقه، كان ذلك كاشفاً عن ضرورة وجودهولابدّيّته، والمناسب لذلك في مقام الطلب هو الوجوب التشريعيّ والطلب الإلزاميّ، فيدلّ الإخبار على الوجوب بالملازمة.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ صيغة الأمر لا تدلّ إلّا على أصل الطلب؛ وأمّا الطلب المدلول عليه بالجملة الخبريّة، فبما أنّه علّة لوجود متعلّقه في الخارج، فوقوع مضمون الجملة الخبريّة من لوازم الطلب الحتميّ، ولا يكون هناك مانع من تأثيره، فيكون هذا الطلب آكد.

ويمكن أن يُعَبَّر عن ذلك بطريقٍ آخر، وهو الانتقال من اللّازم إلى الملزوم، كما في باب الكنايات، كما مرّ من أنّ المتكلّم إذا كان في مقام البعث وأخبر بوقوع المطلوب، فقد أخبر بما هو من لوازم شدّة الطلب، غير مزاحَمٍ بشيءٍ من موانع التأثير في وجود المطلوب، فحينما يخبر بالوجوب، ويأتي بالجملة الخبريّة فهو يدلّ على إرادة إيجاد المأمور به بحيث لا يكون راضياً بتركه، فتكون دلالة الجملة على الطلب من باب الكناية والانتقال من اللّازم إلى الملزوم، ولا يَلزم حينئذٍ المجاز في الكلمة؛ إذ إنّ الجملة لم تُستعمل في نفس الإنشاء، بل إنّما استُعمِلَت في النسبة نفسها.

ص: 104

التعبّديّ والتوصّليّ

إطلاق الصيغة هل يقتضي التعبّديّة أم التوصّليّة؟

ولابدّ أوّلاً من التمهيد ببعض المقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في بيان معنى التعبّديّ والتوصّليّ:

قال صاحب الكفاية):

«الوجوب التوصّليّ هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب، ويسقط بمجرّد وجوده، بخلاف التعبّديّ؛ فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابدّ _ في سقوطه وحصول غرضه _ من الإتيان به متقرّباً به منه تعالى»(1).

ورأى اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أنّ التعبّديّ هو ما اعتُبِر فيه قصد القربة،

ص: 105


1- كفاية الاُصول: ص 72.

والتوصّليّ ما لم يُعتَبَر فيه ذلك(1).

المقدّمة الثانية: هل التعبّديّة موجودةٌ عند غير المسلمين من أهل الملل الاُخرى؟

لا يخفى: أنّ التعبّديّة موجودة في جميع الملل والنحل؛ فإنّ للجميع تحرّكاتٍ خاصّةً يُؤدّونها لمعبودهم، وتكون هذه الحركات كاشفةً عن تذلّلهم وإظهارهم العبوديّة له. ويقابل ذلك: الأفعال التوصّليّة، التي لا يقومون بها لأجل إظهار العبوديّة.

المقدّمة الثالثة: خلاصة الفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ:

أنّ الغرض من الأوّل يحصل منه بمجرّد الإتيان بالفعل وحصوله في الخارج، سواء أتى المكلّف به اختياراً أو جبراً، بداعي أمر المولى أو بداعٍ آخر، وذلك _ مثلاً _ كغَسل الثوب؛ فإنّ الغرض منه يحصل بأيّ قصدٍ كان، بل ولو لم يقصد، أو كان غير ملتَفت، بل ولو قَصَد الخلاف، بل يَسقط بفعل مثل النائم، ولا يُعتَبَر فيه المباشرة فيَسقط بفعل الغير أيضاً، كما أنّه يحصل مع فعل الحرام، كما إذا غسله بماءٍ مغصوب.

نعم، لو جيء بالعمل التوصّليّ بداعي الأمر والإطاعة؛ فإنّه يحصل منه عنوان الإطاعة، ويستحقّ بذلك المثوبة، وأمّا إذا لم يقصد منهذلك،

ص: 106


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 139.

فلا يكون هناك استحقاق للثواب، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الغرض من الأمر به لم يتحقّق.

وأمّا التعبّديّ، فإنّ الغرض منه لا يحصل إلّا بالإتيان بالمأمور به مع القربة، وإلّا، فبمجرّده لا يترتّب الثواب، ولا تتحقّق المصلحة، وذلك كالاُمور العباديّة، من الصوم والصلاة وغيرهما.

وبعبارةٍ أُخرى: فالفرق بينهما إنّما هو من جهة الاختلاف في الملاك؛ إذ الحكم _ كما هو معلوم _ يكون تابعاً للملاك سعةً وضيقاً. فقد يكون الملاك القائم بالواجب في نفس متعلّق التكليف مجرّداً عن أيّ قصدٍ آخر معه، فحينئذٍ: يكفي مجرّد إتيانه ولو بغير داعٍ قربيّ، وقد يكون الملاك قائماً بإيجاده وإتيانه، ولكن مع قصد القربة، فلا يكفي فيه مطلق الإتيان.

فالأوّل: بمجرّد وجوده في الخارج، ولو بغير الداعي الإلهيّ، يحصل الغرض منه، ويسقط الأمر به، لوفاء مطلق الإتيان بالمصلحة والغرض.

وأمّا الثاني: فلو أتيتَ به بنفسه من دون قصد التقرّب، فلا يسقط التكليف المتعلّق به؛ لأنّ الغرض الداعي إلى تشريعه لم يُستوفَ مع عدم الإتيان به متقرّباً به، ولو تحقّق له وجود في الخارج.

المقدّمة الرابعة: تقسيم الواجب التعبّديّ:

ينقسم الواجب التعبّديّ إلى قسمين:

فمنه ما يُعتَبَر فيه المباشرة، كالصلوات اليوميّة، ولا يسقط بفعل غيره.

ص: 107

ومنه ما لا يُشترط فيه المباشرة، كالزكاة؛ فإنّها أمر عباديّ يحتاج إلى قصد القربة، ومع ذلك: فهي تحصل بفعل الغير، إمّا لأنّه قائمٌ مقامه، أو لأجل تبرئة ذلك إذا كان مع الإذن _ وأمّا بدونه فالسقوط محلّ تأمّلٍ _ ومنها _ أيضاً _: صلاة الاستنابة وغيرها.

المقدّمة الخامسة: أنّ القصد والاختيار في التعبّديّ شرط؛

لأنّه بحاجةٍ إلى قصد القربة، دون التوصّليّ. وهل هو جزء أو شرط شرعيّ مأخوذ في المأمور به بأمرٍ واحدٍ _ بناءً على إمكان أخذه في المتعلّق _ أو بأمرين؟ يأتي تحقيق ذلك.

المقدّمة السادسة: معنىً آخر للتعبّديّ والتوصّليّ:

اشارة

قد يُعرّف التعبّديّ والتوصّليّ بتعريفٍ آخر، وهو: أنّ التوصّليّ ما كان الداعي إلى الأمر به معلوماً، وفي قباله: التعبّديّ، وهو ما لم يُعلم الغرض منه. وإنّما سُمّي تعبّديّاً؛ لأنّ الغرض الداعي للإتيان مأمور به ليس إلّا التعبّد فقط.

ولكنّ الذي يكون محلّاً للبحث هنا، ليس هو التعبّديّ والتوصّليّ بهذا المعنى، بل المعنى الذي ذكرناه لهما سابقاً.

وإذا اتّضحت هذه المقدّمات، فنقول:

لا يخفى: أنّ التقرّب المعتَبر في المأمور به بحيث يكون العمل عباديّاً

ص: 108

على أقسام:

الأوّل: الإتيان بالفعل بقصد الأمر فقط، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء، منهم صاحب الجواهر(قدس سره)(1)، وعلى هذا الأساس: أنكر البهائيّ(قدس سره)(2) الثمرة في بحث الضدّ؛ لأنّ العبادة تتوقّف على قصد الأمر، ولا أمر هنا لضدّ الأهمّ، ولو لم نقل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.ولكن أُجيبَ عن ذلك: بأنّ عباديّة العبادة ليست متوقّفةً على قصد الأمر فقط، بل يكفي قصد المصلحة أو قصد ابتغاء وجه اﷲ ومرضاته. مضافاً إلى أنّ قصد العلّة قصدٌ للمعلول، فقصد الملاك بما هو علّةٌ للأمر قصدٌ للأمر.

ولكن قد استشكلنا في محلّه: بأنّه من أين لنا أن نكتشف الملاك، إذ إنّنا إنّما نفهم الملاك من وجود الأمر، أي: من طريق اللّمّ، أي: من المعلول إلى العلّة، فإذا لم يكن هناك أمرٌ فكيف يمكن استكشاف الملاك أصلاً حتّى يتمّ استكشاف الأمر؟

الثاني: ما يراد به مطلق ما يُوجب التقرّب.

الثالث: العمل بداعي حسن الفعل.

ص: 109


1- انظر: جواهر الكلام 2: 81، فما بعدها.
2- انظر: زبدة الاُصول: ص 289.

الرابع: الإتيان به بقصد كونه محبوباً عند اﷲ.

الخامس: الإتيان به بداعي كونه ذا مصلحة وملاك.

السادس: الإتيان بالعمل بداعي كون الباري جلّ وعلا أهلاً للعبادة ومستحقّاً لأن يُطاع، كما في قوله(علیه السلام): «ما عبدتُكَ طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، لكن وجدتُكَ أهلاً للعبادة فعبدتُك»(1).

السابع: الإتيان به لأجل الخوف من عذابه والفرار من عقابه.الثامن: الإتيان به قاصداً رجاء ثوابه وطمعاً لحصول شيء منه، ومن جملته: الجنّة.

التاسع: الإتيان بالعمل جزاءً وشكراً لما أعطاه اﷲ جلّ وعلا من نعمه.

والعمدة في محلّ البحث هو القول الأوّل.

وهل تدلّ الصيغة على اعتبار مقدوريّة المكلّف أم لا؟

لا يخفى: أنّ موضوع الحكم قد يكون مقدوراً وقد يكون غير مقدور، ولكنّ متعلّق الحكم والخطاب لابدّ وأن يكون مقدوراً دائماً، لأمرين:

أوّلهما: حكم العقل بقبح مطالبة العاجز. وهذا الحكم ليس فيه أيّ شكٍّ أو ريبٍ عند العقلاء.

والثاني: أنّ نفس الخطاب يقتضي ذلك؛ لأنّه بعد أن كانت إرادة المولى تابعةً لإرادة العبد، فيكون الخطاب محرّكاً للعبد وداعياً له إلى

ص: 110


1- عوالي اللآلي: 1: 404.

إيجاد المتعلّق. ولا يخفى: أنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بما هو مقدورٌ للعبد.

الكلام في أقسام القدرة:

لا يخفى: أنّ للقدرة قسمين: عقليّ وشرعيّ:

أمّا الأوّل: فهو الذي لا يمكن الإتيان بالفعل بدونها.وأمّا

الثاني: فليس كذلك؛ فإنّ الحجّ _ مثلاً _ يمكن إتيانه بدون الزاد والراحلة، بالمشي والتسكّع، ولكن مع ذلك، فقد اعتبرهما الشارع، وتُسَمّى ﺑ (القدرة الشرعيّة). وهي أعمّ من (القدرة العقليّة)؛ فإنّ غاية ما يقتضيه الخطاب هو أن يكون الشيء مقدوراً للمكلّف عقلاً، وأمّا ما هو أزيد من ذلك، أي: القدرة الشرعيّة، فلابدّ للشارع من التكليف به، كالراحلة المعتَبرة شرعاً في وجوب الحجّ مع تمكّنه من السير ماشياً.

وهنا لابدّ من طرح هذا السؤال:

وهو أنّه: إذا عارض المقدور العقليّ المقدور الشرعيّ فأيّهما يجب تقديمه على الآخر؟

قد يقال: يكون هذا _ حينئذٍ _ من باب التزاحم، وتقدّم القدرة العقليّة، من جهة أنّ اعتبارها كان من قبل العقل، وأنّ فهمها كان من نفس الخطاب، مضافاً إلى أنّ العقل يحكم بقُبح مخاطبة العاجز، فيكون المرجّح للقدرة العقليّة موجوداً فهي التي تُقَدّم.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ المرجّح ينحصر في الأهمّ، فيُقدَّم ما فيه

ص: 111

الأهمّيّة، وقد ذكروا هنا فروعاً فيما إذا تعارض المقدور الشرعيّ والعقليّ:منها: ما إذا استلزم الحجّ ترك الواجب، كالصلاة، فلا يجب الحجّ حينئذٍ؛ لأنّه يكون غير مقدور شرعاً، لأنّ وجوبه منوطٌ بعدم استلزامه لترك واجبٍ آخر. فتكون الصلاة مقدّمةً عليه.

وفيه: أنّه لم يَرِد في وجوب الحجّ أنّه مشروط بعدم استلزامه لترك واجبٍ آخر، ولا سيّما بعد وضوح شرائط وجوب الاستطاعة، وظهور أنّ القيد المذكور ليس منها. وعليه: فإذا اجتمعت الاُمور المشروط بها وجوب الحجّ، فإنّه يجب. وحينئذٍ: فإذا كان مزاحماً لواجبٍ آخر فلابدّ من ملاحظة الأهمّيّة.

ومنها: مسألة ما إذا نذر زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) في كلّ يوم عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة، فلابدّ من ملاحظة الأهمّيّة هنا _ أيضاً _ فيقدّم الحجّ؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر، مضافاً إلى كونه مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فهو مشروط _ أيضاً _ بأن لا يكون مفوّتاً للمصلحة الدينيّة أو الدنيويّة، وأن لا يكون سبباً لفوت واجبٍ أو فعل حرام، كما هو مفاد بعض الأخبار.

كما عن أبي جعفرٍ(علیه السلام) قال: «قال رسول اﷲ- لا رضاع بعد فطام... إلى أن قال: ولا نذر في معصية ولا يمين في قطيعة»(1).

ص: 112


1- وسائل الشيعة 23: 317، الباب 17 من كتاب النّذر والعهد، ح2.

وعن إسحاق بن عمّار عن عليّ بن إبراهيم، قال: «سألته، أقال رسول اﷲ-: لا نذر في معصية؟! قال: نعم»(1). إلى غير ذلك من الروايات الواردة.

ومن أجل ذلك يكون الحجّ مقدّماً عليه، وذلك لأنّ وجوب الوفاء به مشروط بأن لا يكون مفوّتاً لمصلحة الواجب، وهو هنا يكون مفوّتاً لمصلحته؛ ولأنّ حقيقة النذر إلزام نفسه بشيءٍ والالتزام به، ولا شكّ في أنّ العاقل لا يلتزم بشيءٍ غير مقدورٍ له، فالمنذور باقتضاءٍ من النذر نفسه يكون مقيّداً بكونه مقدوراً في ظرفه، وهذا غير مقدورٍ هنا.

كلام الاُستاذ الأعظم رحمة الله:

وللاُستاذ الأعظم(قدس سره) كلام في هذا الباب، وهو أنّ المشهور إنّما التزموا بتقديم النذر على الحجّ لالتزامهم القدرة الشرعيّة في موضوع الحجّ، ولازم ذلك: أنّ كلّ واجبٍ يزاحم الحجّ، فإنّه يزيل موضوعه، وهو الاستطاعة، فلا يكون المكلّف معه قادراً على الحجّ، بل يصبح عاجزاً عن الإتيان به.وبعبارةٍ

أوضح: فقد أُخذ في موضوع الحجّ أن لا يزاحمه واجب آخر، فإذا وجب على المكلّف شيء في أوان الحجّ وزاحمه، بحيث لا يتمكّن من

ص: 113


1- وسائل الشيعة 23: 320_ 321، الباب 17 من كتاب النّذر والعهد، ح12.

الجمع بينهما، سقط وجوب الحجّ لعدم القدرة عليه، والحالة هذه، ولكنّ الظاهر: أنّه لا دليل على ما ذكروه أصلاً، وقد ذكرنا في بعض المباحث السابقة: أنّ الحجّ ليس مشروطاً بالقدرة الشرعيّة المصطَلحة، وإنّما الحجّ _ كسائر الواجبات الإلهيّة _ مشروط بالقدرة العقليّة. نعم، قد فُسّرت القدرة المأخوذة في الحجّ في الروايات بقدرة خاصّة، وهي: واجديّته للزاد والراحلة وصحّة البدن وتخلية السرب، ولكنّ ذلك لا يؤول إلى أخذ القدرة الشرعيّة فيه، بحيث يزاحمه أيّ واحدٍ من الواجبات الشرعيّة، بل إنّ حال وجوب الحجّ هو حال سائر التكاليف الإلهيّة في أنّه يكون مشروطاً بالقدرة العقليّة، فعند مزاحمته لواجبٍ آخر، لابدّ من ملاحظة الأهمّ منهما، كما هو الشأن في بقيّة الواجبات المتزاحمة.

هذا كلّه بحسب الكبرى.

إلّا أنّه في خصوص المقام، وهو ما لو نذر زيارة الحسين(علیه السلام) في كلّ يوم عرفة، وغير ذلك من النظائر، فإنّه لا يصل الأمر إلى التزاحم أصلاً.

والوجه فيه: أنّ وجوب الوفاء بالنذر ليس واجباً ابتدائيّاً مجعولاً على المكلّفين من قبل الشريعة المقدّسة، نظير وجوب الصلاة والصياموأمثالهما، بل إنّما هو واجب إمضائيّ، بمعنى: أنّه إلزام من اﷲ تعالى بما ألزم المكلّف به نفسه من القيام بشيءٍ ﷲ تعالى، نظير باب العقود، حيث يُلزِم البائع نفسه بتمليك ماله للمشتري، ويمضي الشارع المقدّس التزامه هذا، ويلزمه بالوفاء بالتزامه. ومعلوم أنّ العمل الذي يلتزم به

ص: 114

الناذر ﷲ تعالى لابدّ أن يكون قابلاً للإضافة إليه تعالى ومرتبطاً به نحو ارتباط، ومن هنا نجد: أنّهم اعتبروا الرجحان في متعلّق النذر؛ لأنّه لو كان خالياً من وجوه الرجحان، لم يكن قابلاً للإضافة إليه تعالى، وذلك كنذر المباحات الأصليّة التي لا رجحان فيها، ولا ترتبط به جلّ اسمه، ولذا، عبّر بعضهم عن ذلك بأنّه يجب أن لا يكون المتعلّق في نفسه محلّلاً للحرام.

قال(قدس سره):

«إنّه لابدّ من تقديم وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة، وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحجّ ورافعاً لموضوعه، لأمكن لكلّ مكلّفٍ رفع وجوبه عن نفسه بإيجاب شيءٍ ما عليه بنذرٍ أو نحوه في ليلة عرفة، المنافي للإتيان بالحجّ، كمن نَذَر أن يصلّي ركعتين من النافلة _ مثلاً _ في ليلة عرفة في المسجد الفلانيّ، كمسجد الكوفة أو نحوه، أو نذر أن يقرأ سورةً _ مثلاً _ فيليلة عرفة فيه أو في أيّ مكانٍ آخر _ مثلاً _، وهكذا... ومن الواضح جدّاً: أنّ بُطلان هذا من الضروريّات، فلا يحتاج إلى بيانٍ وإقامة برهان. كيف؟! فإنّ لازم ذلك هو أن لا يجب الحجّ على أحدٍ من المسلمين، إذ لكلٍّ منهم أن يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذرٍ أو شبهه يكون منافياً ومضادّاً له، وهذا ممّا قامت ضرورة الدين على خلافه، كما هو ظاهر.

ص: 115

الثاني: أنّه قد ثبت في محلّه: أنّ صحّة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلّقه راجحاً، فلو نَذَر ترك واجبٍ أو فعل حرامٍ لم يصحّ، بل لو نذر ترك مستحبٍّ أو فعل مكروهٍ كان كذلك، فضلاً عن أن ينذر ترك واجبٍ أو فعل محرّم...».

إلى أن يقول(قدس سره):

«وعلى هذا الأساس: نستنتج من ذلك كبرىً كلّيّة، وهي: أنّ كلّ واجبٍ لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلّقه في نفسه محلّلاً للحرام، يتقدّم في مقام المزاحمة على واجبٍ كان وجوبه مشروطاً بذلك، كالواجبات الإلهيّة التي ليست بمجعولةٍ في الشريعة المقدّسة ابتداءً، بل هي مجعولة بعناوين ثانويّةٍ، كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقدٍ، وما شاكل ذلك، فإنّ وجوب الوفاء بتلك الواجباتجميعاً مشروط بعدم كونها مخالفةً للكتاب أو السنّة ومحلّلةً للحرام، فتُؤخذ هذه القيود العدميّة في موضوع وجوب الوفاء بها.

وعلى ذلك يترتّب: أنّ تلك الواجبات لا تصلح لأن تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً، كالصلاة والصوم والحجّ وما شابه ذلك، لعدم أخذ تلك القيود العدميّة في موضوع وجوبها. وعليه: ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات، فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.

فالنتيجة: أنّ عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلّتها عن

ص: 116

شمولها في هذه الموارد _ أعني بها: موارد مخالفة الكتاب أو السنّة وتحليل الحرام في نفسها _ لانتفاء موضوعها، لا لوجود مانعٍ في البين. ومن هنا قلنا: إنّ أدلّة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأوّليّة، ودالّة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفةً لشيءٍ من تلك الأحكام. وأمّا في صورة المخالفة، فتسقط بسقوط موضوعها، كما عرفتَ، وتمام الكلام في ذلك في محلّه»(1).

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) من أنّ المأخوذ في الحجّ هو القدرة العقليّة محلّ كلامٍ؛ لما ذكرناه من أنّ القدرة العقليّة هي ما لا يمكن الإتيان بالفعلمن دونها، وأمّا القدرة الشرعيّة فليست كذلك، والإتيان بالحجّ قد يكون ممكناً بدون الزاد والراحلة، كأن يذهب إليه ماشياً على الأقدام، أو متسكّعاً، فالقدرة المأخوذة في الحجّ هي القدرة الشرعيّة، لا محالة.

ما هو مقتضى الأصل؟

لا يخفى: أنّ الفعل التعبّديّ يحتاج إلى المباشرة، أي: إلى أن يأتي العبد بالعمل بنفسه، بخلاف التوصّليّ.

ثمّ إنّه لو علمنا بأنّ هذا الوجوب الذي بين أيدينا ينتمي إلى أيّ واحدٍ منهما بعينه، فهو، وأمّا لو شككنا في ذلك، فهل مقتضى الإطلاق هو التعبّديّة أم التوصّليّة؟؟

ص: 117


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 251_ 253.

وعلى فرض عدم جريان الأصل اللّفظيّ هنا، فما هو مقتضى الأصل العمليّ؟! هل هو المباشرة؟ أم كفاية الإتيان بالفعل مطلقاً ولو من الغير؟!

لا يخفى: أنّ فعل الغير تارةً يكون مقدوراً له وأُخرى غير مقدور، والثاني يدخل فيما ذكرناه من أنّ المتعلّق لابدّ أن يكون مقدوراً حتّى يمكن توجّه الخطاب إليه.وأمّا

إذا كان مقدوراً، فقد يكون الفعل من الأسباب والمسبّبات التوليديّة _ وهو أن لا يتوسّط بينه وبين الأثر إرادة فاعلٍ مختار، كالإحراق للنّار؛ فإنّ الإحراق ولو كان من فعل النار، ولكن لأجل عدم شعور النار فهو يُنسب إلى المحرق لا إليها _ ولكنّ مقامنا، كما لا يخفى، ليس من هذا القبيل، بل إنّ الفعل الصادر من الغير لابدّ وأن يصدر عن شعور، وأن يكون مقدوراً للغير، وحينئذٍ: فهل يُشترط فيه المباشرة إذا توجّه الخطاب إلى الغير أم لا؟ وهل مقتضى إطلاق الخطاب لزوم المباشرة أو عدمه؟

وبعبارةٍ أُخرى: فهل مقتضى الإطلاق هو العينيّة، أي: أن يكون واجباً عليه مطلقاً، أتى به الغير أم لا؟

الحقّ: هو كونه من قبيل العينيّة، وأنّ صدوره لابدّ وأن يكون من المكلّف نفسه، وأمّا صدوره عن غيره بالاستنابة أو بالتبرّع فيحتاج إلى دليل، وما لم يدلّ عليه الدليل فلا يكاد يمكن التعدّي من العينيّ إلى غيره.

ص: 118

قد يقال: إنّ مقتضى الإطلاق هو الإتيان به مباشرةً؛ لأنّ الإطلاق يدفع كلّ ما يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، وهنا يكون الإطلاق موجباً لضيق دائرة الانطباق _ بناءً على أنّ الإطلاق الوجوبيّ يقتضي أن يكون الواجب نفسيّاً عينيّاً وتعيينيّاً _ لأنّ مقابل كلّ واحدٍ من هذه الثلاثةيحتاج إلى مؤونةٍ زائدة تُدفع بالأصل، وبناءً على جريان الأصل اللّفظيّ، فبما أنّ الشكّ يكون في السقوط، فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم براءة الذمّة بفعل الغير لأنّه قبل إتيان النائب أو المتبرّع كان الخطاب متوجّهاً إلى شخص المكلّف، فبعد إتيانهما بالفعل يكون الشكّ شكّاً في السقوط لا في الثبوت.

ولكن

يمكن أن يجاب عنه: بأنّ المقام من قبيل الشكّ في الثبوت، لا السقوط، أي: أنّ الشكّ يكون في مورد الاشتغال، لا الشكّ في السقوط بعد الاشتغال؛ لأنّه لا يُعلم من أوّل الأمر بأنّ الوجوب مطلق، حتّى يجب إتيان المكلّف به، ولو بإتيان النائب أو المتبرّع به، أو أنّه مشروط، فبناءً على عدم الاشتراط لا يجب عليه الإتيان بالعمل، بل لا يُشرّع بعد إتيان الغير به.

وأمّا بناءً على الاشتراط، فلا يُجزي الإتيان به من قبل النائب أو المتبرّع، فالوجوب يكون مشكوكاً من الأوّل. وعليه: فيكون الشكّ في الثبوت لا في السقوط، ومعه: فالمرجع إلى البراءة من وجوب المباشرة.

ولا يخفى: أنّ سقوط الخطاب بفعل الغير تارةً لا يكون متوقّفاً على إذن المكلّف، كما إذا تبرّع شخصٌ بأداء الدين الذي على الغير،وأُخرى:

ص: 119

يتوقّف عليه، كالتبرّع بالزكاة؛ إذ إنّ ولاية الدفع إلى المستحقّ تكون بيد المالك.

هذا فيما إذا شكّ في التوصّليّة أو التعبّديّة من جهة المباشرة وعدم المباشرة.

وأمّا إذا كان الشكّ فيهما من جهة الإرادة والاختيار، بمعنى عدم سقوطه بدونهما فعند الشكّ في ذلك يكون المرجع هو أصالة التعبّديّة، وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّه يُحتمل في توجيه التكليف أن يكون المتعلّق صادراً من الفاعل على نحو الحسن، أي: يُعتبر عقلاً أن يكون متعلّق التكليف مقدوراً للمكلّف ليتمكّن من امتثال الأمر على وجهٍ يصدر منه حسناً، ومن المعلوم: أنّ صدوره على نحو الحسن يتوقّف على الإرادة والاختيار؛ إذ الأفعال غير الاختياريّة لا تتّصف بالحسن والقبح، فما يصدر بلا إرادةٍ واختيار يكون خارجاً عن دائرة الأمر.

إن قلت: فماذا تقولون _ إذاً _ في التوصّليّ؟

نقول: الملاك المأخوذ في التوصّليّ يكون على نحو مجرّد إيجاد الفعل في الخارج، ولذا يكفي صدوره بأيّ نحوٍ كان؛ لأنّ الأمر فيه قد ورد هكذا.وأمّا التعبّديّ، فحيث إنّ التكليف فيه متوجّه إلى شخصٍ خاصّ، ولابدّ من إتيان الفعل منه على وجه حسن، فذلك لا يمكن إلّا بالاختيار

ص: 120

والقصد.

والثاني: اقتضاء نفس الأمر؛ فإنّ نفس الأمر يقتضي اعتبار الإرادة والاختيار مع قطع النظر عن الحكم العقليّ؛ لأنّ الأمر الشرعيّ هو بمعنى توجيه العبد نحو المطلوب لتحرّك عضلاته، فهو نفسه يقتضي الإرادة والاختيار، وإن قام الدليل على سقوط التكليف ولو صدر بلا إرادةٍ واختيار، لكان حاله حال ما يسقط بفعل الغير، وهو يرجع إلى تقييد الموضوع.

والحاصل: أنّه لو شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة بهذا المعنى، فالأصل العمليّ يقتضي عدم السقوط عند الإتيان به بدون إرادةٍ واختيار، أي: أنّ الأصل تقييد الموضوع، ومقتضى الأصل العمليّ عدم السقوط لو أتى به بلا إرادةٍ واختيار.

وأمّا لو شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة، وأنّه هل يكفي الإتيان بالفعل ولو بفعل الحرام أم لا؟

فلا

يخفى: أنّ السقوط بالفعل الذي يكون متعلّقاً للأمر والنهي لا يمكن إلّا أن يكون هناك اتّحاد بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي خارجاً؛ إذ لا معنى للسقوط بدون هذا الاتّحاد.وهذا الاتّحاد، تارةً يُتصوّر من جهة أنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، وأُخرى من جهة أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.

ص: 121

فإن كانت النسبة على النحو الأوّل: فتندرج المسألة في مسألة النهي في العبادة، ويخرج المحرّم عن عموم دائرة الأمر وسعته، ويتقيّد الأمر بما عدا ذلك، بلا فرقٍ بين أن يكون الواجب توصّليّاً أو تعبّديّاً.

وأمّا إذا كان الاتّحاد بينهما على النحو الثاني، فهذا يدخل في اجتماع الأمر والنهي:

فإن قلنا في تلك المسألة بالامتناع مع تقدّم جانب النهي أيضاً، فتدخل في مسألة النهي عن العبادة، كما هو مذكور في مسألة جواز الاجتماع وعدمه.

وأمّا إن قلنا في تلك المسألة بالجواز فيهما، فالمتعلّق، وإن لم يتّحد، يدخل فى مسألة التزاحم، ولكن، مع ذلك، فلا يكون الفرد المحرّم قابلاً للتقرّب به؛ لعدم انفصاله عن الحرام، ولعدم إمكان الإشارة إليه حسّيّاً في الخارج على نحو الانفراد، ولعدم حسنه الفاعليّ، فهو وإن كان فيه ملاك للأمر، إلّا أنّه يقع مبغوضاً لا محالة، لمكان مجامعته للحرام، ولا يصلح لأن يُتقرّب به، وبالتالي: فلا يسقط الأمر به.ولكنّ الحقّ: أنّ المكلّف _ في التركيب الانضماميّ _ تارةً يكون ملتفتاً لمجامعته مع الحرام، وأُخرى غير ملتفت:

ففي الصورة الأُولى: لا يكون مسقطاً؛ لعدم تمشّي قصد القربة.

وأمّا مع الغفلة: فلا مانع في البين، وليس هناك قبح فعليّ أو فاعليّ، فالملاك، بل الأمر، كلاهما موجودان، ويمكن إتيانه بقصد القربة. هذا

ص: 122

بالنسبة إلى الأصل اللّفظيّ.

وأمّا الأصل العمليّ، فقد يقال: إنّه _ هو أيضاً _ يقتضي عدم السقوط بفعل المحرّم.

ولكن الحقّ: أنّ هذا الكلام غير تامّ، وأنّ هناك فرقاً بين التعبّديّ والتوصّليّ، وأنّ إطلاق الخطاب يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرّم في التوصّليّ، والبغض الفاعليّ ممّا لا أثر له، بلا فرقٍ بين أن تكون النسبة بينهما هي العموم من وجه أو العموم المطلق، وبلا فرقٍ بين أن نقول بجواز الاجتماع أو عدم جوازه؛ لأنّ إطلاق الخطاب يكشف عن وجود مصلحةٍ ملزمة، وعن اشتمال الفعل على تمام الملاك في متعلّقه مطلقاً، حتّى ولو كان بعض أفراده محرّماً.

نعم، إذا كان ملاك النهي غالباً على ملاك الأمر، فإنّه يُوجب رفع فعليّة الأمر عند اجتماعه مع النهي، لانتفاء أصل ملاك الأمر.ومعه: لا يحصل الامتثال بالفرد المحرّم، ولا يتحقّق الغرض الداعي إلى أصل الخطاب.

وعليه: فهو يسقط بانتفاء الموضوع، لا بالامتثال.

بل يمكن أن نقول: بوجود الأمر وفعليّته بناءً على التزاحم، ولكنّه يكون مشروطاً بعصيان النهي، فحينئذٍ: يكون سقوطه من جهة الامتثال أيضاً.

وأمّا بناءً على عدم جريان الأصل اللّفظيّ: فيكون المرجع حين الشكّ

ص: 123

هو البراءة، أي: أنّ الشكّ يكون في الثبوت دون السقوط، كما مرّ في البحث السابق.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره): من أنّه في التوصّليّ إذا كانت النسبة بين الدليلين عموم وخصوص مطلق، فمرجعه إلى تقييد دليل الوجوب، وأنّه لا يسقط بالفرد المحرّم لعدم الملاك، بلا فرقٍ بين أن يكون الواجب توصّليّاً أو تعبّديّاً. وأمّا إذا كانت النسبة بين الدليلين هي العموم والخصوص من وجه، فإن قلنا بالتركيب الاتّحاديّ، فالأمر كذلك، وأمّا إن قلنا بالتركيب الانضماميّ، فيصحّ مطلقاً ويكون إتياناً للواجب(1).وذلك أنّه قد يقال _ كما ذكرنا _: الأمر إذا كان توصّليّاً، فيمكن أن يقال بصحّته مطلقاً؛ لأنّه ولو لم يكن للأمر وجود في جميع الأقسام والصور، إلّا أنّ الملاك في الجميع يكون موجوداً.

ولكنّ الحقّ: أنّ استكشاف وجود الملاك إنّما يكون بوجود الأمر _ كما أشرنا سابقاً _ وإلّا، فمن أين نفهم وجود الملاك.

وعليه: ففي التوصّليّ، يصحّ في خصوص صورة الانضمام، لا مطلقاً. وأمّا إذا كان تعبّديّاً، فإنّه لا يصحّ مطلقاً.

ص: 124


1- راجع: منتهى الاُصول 1: 156.

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر

اشارة

لا يخفى: أنّ جميع ما عدا قصد امتثال الأمر من وجوه قصد الأمر يمكن أخذه في المتعلّق، ولا يلزم هناك أيّ محالٍ، وإنّما الكلام في أنّ قصد القربة هل هو منحصر في قصد الأمر أم لا؟

إنّ معنى العبادة هو كلّ ما يصلح أن يكون موجباً لمرضاة اﷲ، فأيّ وجهٍ يقصد، حتّى تلك الوجوه التي قد مضت، يحصل به التقرّب، كما أنّ في بعضها يكون قصد الملاك الذي وقع في سلسلة العلل قصداً للأمر الذي هو المعلول.

وإنّما الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أم لا؟

وقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سره) إلى امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، معلّلاً ذلك باستحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر في متعلّق ذلك الأمر مطلقاً، شرطاً كان أم شطراً، فما لم تكن نفس الصلاة متعلّقة

ص: 125

للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها(1).

وما يظهر من كلامه) محذوران:الأوّل: أنّ متعلّق الأمر متقدّم على الأمر، والأمر متأخّر عنه؛ لأنّ العرض يكون متأخّراً عن معروضه، فقصد الأمر متأخّر عن نفس الأمر، فكيف يمكن أخذه في المتعلّق؟!

الثاني: اشتراط القدرة في إتيان المتعلّق، وأنّ الطلب من العاجز قبيح عقلاً، والذي هو ممكن هو الإتيان بنفس المتعلّق، وأمّا الإتيان بالمتعلّق بداعي أمره، فغير ممكنٍ؛ إذ لا يكون هناك إلّا أمر واحد تعلّق بذات الصلاة _ مثلاً _، فالإتيان بالمتعلّق بداعي الأمر يحتاج إلى أمرٍ آخر يتعلّق به الأمر الأوّل حتّى يمكن إتيانه بداعي أمره، أي: أمره الأوّل، بعد أن صار موضوعاً للأمر الثاني، فإذا لم يكن هناك أمر ثانٍ، فلا يمكن الإتيان به بداعي أمره؛ لأنّ اعتبار القدرة شرط في متعلّق التكليف.

وقبل الدخول في صلب هذا البحث لابدّ من بيان مقدّمات:

الاُولى: في بيان التقابل بين الإطلاق والتقييد.

لا يخفى: أنّ التقابل الكائن بين الإطلاق والتقييد هو ليس من تقابل السلب والإيجاب، أي: تقابل النقيضين، بل التقابل بينهما هو تقابل العدم

ص: 126


1- كفاية الاُصول: ص 73.

والملكة، فما لا يمكن الإطلاق فيه، لا يمكن التقييد فيه _أيضاً _ فالقدرة على أحدهما ملازمة للقدرة على الآخر، أو عينه، كما أنّ امتناع أحدهما هو عين امتناع الآخر.

الثانية:

أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم هي نسبة العرض إلى المعروض، والعلّة إلى المعلول، ولا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع، وإلّا، يلزم عدم موضوعيّة ما قد فُرض موضوعاً.

الثالثة:

أنّ

الإطلاق والتقييد تارةً يُلاحظ في الواجبات بالنسبة إلى التقسيمات الأوّليّة وطروّ الحالات والخصوصيّات، أي: أن يتعلّق بذات الشيء قبل ورود الحكم وتعلّق الأمر، بلا فرقٍ بين متعلّق التكليف ومتعلّق المتعلّق والموضوع، كالصلاة _ مثلاً _ فإنّها تارةً تُلاحظ من جهة الأجزاء، كذات السورة وفاقدتها، وذات التسليمة وفاقدتها؛ وأُخرى من جهة الشرائط، كذات الطهارة وفاقدتها، بناءً على كونها شرطاً وليست بجزءٍ، وما استقبِلت فيها القبلة وما لم تستقبَل فيها القبلة، وغير ذلك من الأجزاء والشرائط. وتسمّى هذه التقسيمات ﺑ «التقسيمات الأوّليّة».فإنّ الصلاة في مرحلة الواقع والثبوت:

ص: 127

تارةً: تلاحظ بالنسبة إلى هذه الاُمور بشرط شيءٍ، أي: كالصلاة بالنسبة إلى الأجزاء أو الشرائط، من الطهارة والاستقبال والسورة والركوع والسجود.

واُخرى: تلاحظ بشرط لا، كالصلاة بالنسبة إلى القواطع.

وثالثةً: لا بشرط، كالصلاة بالنسبة إلى القنوت.

وإنّما سمّيت هذه التقسيمات ﺑ «التقسيمات الأوّليّة»؛ لأنّها تقسيمات لاحقة لذاتها مع قطع النظر عن ورود الأمر بها.

هذا في مرحلة الثبوت.

وأمّا في مرحلة الإثبات والدلالة:

فإن دلّ دليل على وجود قيد أو عدمه فبه، وإلّا، فالمرجع في ذلك أصالة الإطلاق إذا توفّرت الشروط التي يمكن مع وجودها التمسّك بهذا الأصل، فبأصالة الإطلاق يُستكشف أنّ إرادة الأمر قد تعلّقت في الواقع بالمطلق، فإنّ الواجب لم يقيّد بشيءٍ، بل هو قد أخذ بالنسبة إلى الشكّ في جزئيّته لا بشرط.

وأمّا «التقسيمات الثانويّة»، وهي التي تأتي للواجب بعد ورود الحكم والأمر، وتنقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره، وبعدم داعي أمره. وإنّما سمّيت ﺑ «الثانويّة»؛ لأنّها يرد البحث عليها بعد ورود الحكم،وإلّا، فقبل تحقّق الحكم لا معنى للبحث بأنّه هل لابدّ من إتيان الصلاة بداعي أمرها أم لا؟ إذ في تلك الحالة ليس هناك أمر ولا حكم حتّى يتأتّى

ص: 128

هذا البحث، وحتّى يمكن فرض قصده.

وبعبارةٍ اُخرى: فهي إنّما سمّيت ﺑ «التقسيمات الثانويّة»؛ لأنّ هذا التقسيم لا يرد على هذه الاُمور أوّلاً وبالذّات، بل يرد عليها ثانياً وبالعرض.

وهذا

بخلاف التقسيمات الأوّليّة، فإنّها ترد عليها أوّلاً وبالذات، لا من ناحية الأمر والحكم.

فإذا عرفت هذا: فلو شككنا في اعتبار قيدٍ في المأمور به، فيمكن لنا التمسّك بأصالة الإطلاق، وكما ذكرنا، فإنّ التمسّك بها يستكشف منه أنّ الواجب قد أُخذ بالنسبة إليها لابشرط، فلو أتى به بدون شرطٍ فإنّه يكون مجزياً.

وأمّا بالنسبة إلى التقسيمات الثانويّة: فجواز التمسّك بالإطلاق متوقّف على إمكان تقييد المأمور به بالأمر، فإذا قلنا بعدم إمكانه واستحالة التقييد به، فيستحيل التمسّك بالإطلاق، لما مرّ من أنّ التقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة، فلا يمكن فرض إمكان الإطلاق إلّا في مكانٍ يمكن التقييد بالنسبة إليه.وإذا عرفت ذلك، وعرفت ما قلناه: من أنّ النسبة بين الموضوع والحكم هي النسبة بين العلّة المعلول، بلا فرقٍ بين أن يراد به المتعلّق أو متعلّق المتعلّق أو نفس المكلّف أو الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه، وعرفت _ أيضاً _ ما قلناه: من أنّ الموضوع حكمه حكم المعروض؛ لأنّه

ص: 129

لابدّ وأن يكون متقدّماً على الحكم بجميع أجزائه وشرائطه بعد ما فُرض من رجوع جميع القيود إلى الموضوع. فقوله تعالى: ﴿وِللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، معناه: عليك أيّها المستطيع أن تحجّ.

فإذا فُرض أنّ القربة _ أي: قصد الأمر _ هو من قيود المأمور به، كبقيّة القيود، فيدخل في حيّز الخطاب، ويكون الخطاب متعلّقاً بالصلاة مع قصد القربة والأمر، مع أنّ القربة تتولّد من قصد الأمر، فهي قبل أن يرد الأمر تكون معدومةً. ففي الرتبة السابقة على الأمر لا قربة؛ لأنّها _ كما ذكرنا _ متولّدة من نفس الأمر، والمفروض: أنّه لابدّ أن يكون الشيء موجوداً حتّى يتعلّق الأمر به، فقبل ورود ذلك الأمر يكون فرض وجود القربة محالاً.وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الحكم حينما يرد على نحو القضيّة الحقيقيّة، فهي ترجع إلى القضايا الشرطيّة التي مقدّمها عبارة عن وجود الموضوع وتاليها عبارة عن ثبوت المحمول له، فإذا قلت: يجب على المستطيع الحجّ، فيكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجوب الاستطاعة، وكذا فعليّته، فإنّها _ أيضاً _ تدور مدار فعليّة الاستطاعة، فرجع القيد إلى الموضوع.

وبما

أنّ هذا القيد يأتي من قبل الأمر والحكم، فلا يمكن أخذه في الموضوع؛ لأنّ المشروط لا يقتضي وجود شرطه، والحكم لا يثبت

ص: 130


1- آل عمران: 97.

موضوعه في الخارج، والمفروض في محلّ الكلام هو: تولّد القربة من قصد الأمر، وهو معدوم قبل ورود الأمر عليها، ففي الرتبة السابقة، لا قربة؛ لأنّها متولّدة من الأمر، ولابدّ من وجود الموضوع أوّلاً حتّى يتعلّق به الأمر، الأمر الذي يعني: أنّ وجود القربة قبل ورود الأمر غير معقول.

وبعبارةٍ أُخرى: فإذا فُرض أنّ الموضوع هو الصلاة المقيّدة بقصد الأمر، فإنّ الأمر لو تعلّق بالصلاة بقصد الأمر، فإنّ قصد الصلاة بهذا القيد متوقّف على وجود الموضوع الذي أحد أجزائه قصد الأمر، والجزء الثاني هو الصلاة، والمفروض: توقّف قصدها على الأمر، لكونه من الاُمور المتأخّرة عن الأمر، مع أنّ الأمر يكون متأخّراً عن قصد الأمر؛ لأنّه بالنسبة إليه _ كما قدّمنا _ كالمعلول بالنسبة إلى العلّة، أوكالعرض بالنسبة إلى المعروض، ولازمه: أن يكون الأمر متوقّفاً على قصده، وهو متوقّف على الأمر.

ولكن في حقيقة الأمر: هذا الإشكال إنّما يرد لو تعلّق الأمر بالفرد وبالموضوع الخارجيّ، وأمّا لو فرضنا وروده على الطبيعة، كما إذا تصوّر المتعلّق وتصوّر الموضوع، فهو كافٍ في ورود الأمر عليه، فلا يكون هناك من دور أصلاً، وهذه الطبيعة تنطبق على الفرد الخارجيّ والفعل الصادر من المكلّف؛ لأنّ الموضوع هو الطبيعة الكلّيّة المقيّدة بإنشائها بداعي الأمر، ولا يحتاج تصوّرها إلى وجود الأمر في الخارج، فلو تصوّر الموضوع هكذا، فيمكن أن يرد عليه الأمر في الخارج، ولا دور هناك.

ص: 131

فبناءً على هذا: لا يتوقّف مفهوم قصد امتثال الأمر الذي هو جزء المتعلّق على الأمر الخارجيّ حتّى يلزم الدور.

ولكن مع ذلك، يمكن أن يقال: بأنّ التقييد بقصد الأمر مستحيل بالنسبة إلى كلتا المرحلتين: أعني: مرحلة الإنشاء، ومرتبة الفعليّة.

أمّا في مرحلة الإنشاء: فلعدم إمكان لحاظ شيئين لحاظاً واحداً في آنٍ واحدٍ مع كونهما في رتبتين مختلفتين كالعلّيّة والمعلوليّة.

وأمّا في مرتبة الفعليّة: فلاستحالة وجود قصد الأمر قبل الأمر الذي هو متقدّم على القصد الذي هو متأخّر عن الأمر.وكذا إذا كان المراد بالقربة قصد المصلحة، فإنّه لا يمكن أخذها في المتعلّق؛ لأنّ المصلحة _ التي هي موضوع القصد _ متقدّمة على القصد، وإذا لم توجد لم يتحقّق القصد، فقصد المصلحة منوط بوجود المصلحة، لكون المصلحة موضوعاً للقصد، كموضوعيّة الأمر له، فالقصد _ إذاً _ موضوع للمصلحة، لقيامها به وبغيره من الأجزاء.

ففي الحقيقة: يكون قصد المصلحة موقوفاً على وجود المصلحة سابقاً، والمصلحة موقوفة على القصد، لقيام المصلحة بالقصد، هذا دور.

وهكذا يحسب بالنسبة إلى الانقسامات الثانويّة، كالعلم والجهل؛ لأنّه بعد استحالة تقييد الموضوع بالعلم، واستحالة أن يكون الخطاب مختصّاً بالعالمين، يرد الإشكال نفسه أيضاً.

ص: 132

هذا إذا كان هناك أمر واحد.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ قصد الأمر في المتعلّق، وإن لم يمكن أخذه، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ التقييد غير ممكنٍ بحسب الفرض. ولكنّ نتيجته ممكنة، أي: أنّه يمكن إدخاله في المتعلّق بأمرٍ آخر، لا بنفس الأمر الأوّل؛ لأنّ الأمر الأوّل قد تعلّق بالأجزاء والشرائط طرّاً عدا قصد الأمر؛ لمكان قصور الأمر عن شموله له، فالأمر الثاني قد تعلّق بالصلاة بقصد الأمر الأوّل.والحاصل: أنّ لحاظ كلٍّ من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الأمر الأوّل، وإن كان ممتنعاً، إلّا أنّه بنتيجته لا يكون ممتنعاً.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ استحالة تعلّق الوجوب بالقصد مختصّة بالخطاب الأوّل الذي له تعلّقات عديدة من جهة الأجزاء والشرائط، ولا يكون الأمر الأوّل متعلّقاً بالفعل بقصد الأمر، وإنّما الذي له تعلّق به هو الأمر الثاني، فلذا يصحّ التمسّك بالإطلاق المقاميّ لنفي اعتباره.

وقد يُستشكل على هذا: بعدم فائدة الأمر الثاني، وأنّه لا وجه لهذا الخطاب؛ لأنّ الإتيان بما تعلّق به الأمر الأوّل إن أوجب سقوطه، فلا حاجة إلى الأمر الثاني، وإلّا، فلابدّ من القول بعدم السقوط لأجل بقاء الغرض الأوّل، والعقل المستقلّ في باب الإطاعة حاكم بوجوب إتيانه ثانياً، إذاً: فلا حاجة إلى الأمر الثاني أصلاً.

ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّ هناك فرقاً بين قصد الأمر الذي

ص: 133

هو جزء من المتعلّق والموضوع وبين سائر أجزاء الموضوع والملاك، والمفروض أنّ قصد الأمر دخيل في الملاك، وبدونه لا ملاك ولا مصلحة لسائر الأجزاء والشرائط، ولا تجري قاعدة الميسور عند فقدانه، بخلاف بقيّة الأجزاء والشرائط؛ لأنّ قصد الأمر روح العمل، وغيره أجزاء لجسمه، كاليد والرجل بالنسبة إلى الإنسان، فمع وحدةالملاك يكون الأمران بمنزلة أمرٍ واحد، والإشكال إنّما يأتي بناءً على تعدّد الملاك، ويكون الأمر الثاني متعلّقاً بواجبٍ آخر.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الأمر الثاني يكون إرشاداً إلى أنّ قصد القربة شرط ودخيل، أي: مشير إلى الشرطيّة، كالأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط كالركوع والسجود وغيرها؛ فإنّ الأمر المتعلّق بقصد القربة كغيره من الأوامر الواردة على الأجزاء والشرائط تنشأ عن غرضٍ وملاكٍ واحد، لا ملاكين، حتّى لا تحتاج إلى الأمر في الإتيان بقصد الأمر.

إذاً،

ففي صورة الشكّ، ولو لم يمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ؛ لاستحالة تقييد الموضوع بالقيود المتأخّرة، لما عرفت من أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق، ولكن _ مع ذلك _ يمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ، كما مرّ؛ لأنّ سكوت المولى عن هذا القيد، وهو في مقام البيان _ أي: عدم تعرّضه للإخبار عن لزوم الإتيان بقصد القربة _ كاشف عن عدم اعتباره إيّاه، فعند الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة تكون النتيجة البناء على التوصّليّة.

ص: 134

ثمّ على فُرض عدم إمكان جريان الأصل اللّفظيّ فما هي الوظيفة بالنسبة إلى الأصل العمليّ؟

قد يقال: إنّ مقتضى الأصل العمليّ هو أصالة الاشتغال.ولكنّ الحقّ: أنّ المقام من باب التردّد بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ويكون المرجع هنا هو البراءة.

هذا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما هو تقابل السلب والإيجاب، فيمكن على هذا أن يتمسّك بالإطلاق، ولا يلزم بناءً على هذا استحالة الإطلاق، بل على العكس، وكذلك، فإنّ استحالة التقييد توجب تعيين الإطلاق، لعدم إمكان ارتفاع النقيضين، كذا إذا كان التقابل بينهما تقابل التضادّ كما نُسب إلى الشيخ(قدس سره)؛ لاستحالة ارتفاع الضدّين اللّذين لا ثالث لهما.

ما استدلّ به على التعبّديّة:

اشارة

إذا عرفت هذا فقد استدلّ على التعبّديّة باُمور:

الأمر الأوّل:

إذا شكّ في كون واجبٍ ما تعبّديّاً أو توصّليّاً، فمقتضى قاعدة الاشتغال: أن يكون تعبّديّاً؛ وذلك لأنّ المطلوب الحقيقيّ في الواجبات هو تحصيل الغرض والملاك اللّذين صارا سبباً لتشريع الحكم كما ذكرنا؛ لأنّ الحكم يدور مدار الملاك سعةً وضيقاً، فيجب تحصيلالغرض،

ولهذا الغرض

ص: 135

في الخارج محصّلات لا يمكن تحصيله بدونها، فالمحصّلات في باب الصلاة _ مثلاً _ هي الأجزاء والشرائط، فإذا أتينا بهذه الأجزاء بدون قصد القربة، مع أنّ هناك شكّاً في كونها جزءاً ومحصّلاً أم لا؟ فحينئذٍ: فمآل الشكّ في دخله إلى الشكّ في المحصّل فتجري قاعدة الاشتغال. فلابدّ أن يأتي بالصلاة مع القربة حتّى يتيقّن بحصول الغرض في الخارج.

قال

في الجواهر: «أمّا العبادات فلا إشكال في اعتبار القصد فيها، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه، واعتبارهما في كلّ أمر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل، كتاباً وسنّةً، بل ضرورةً من الدين، بل لا يصدقان إلّا بالإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر، فضلاً عن مطلق القصد، ضرورة عدم تشخّص الأفعال بالنسبة إلى ذلك عرفاً إلّا بالنيّة، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة لا ينصرف إلى ما تعلّق به الأمر، إذ الأمر والعبثيّة، فضلاً عن غيرها، على حدٍّ سواء بالنسبة اليه، ومن هنا: إذا كان الأمر متعدّداً توقّف صدق الامتثال على قصد التعيين، لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما.إلى أن يقول: أمّا القربة بمعنى القرب الروحانيّ الذي هو شبيه بالقرب المكانيّ فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه، ولا يجب نيّة ذلك وقصده قطعاً»(1).

وفيه: أنّ الغرض يكون واقعاً في سلسلة الأمر ويكون داعياً إليه،

ص: 136


1- جواهر الكلام 9: 155_ 157.

فلا يمكن أن يكون موضوعاً للأمر حتّى يتعلّق به الأمر، فلا يكون الغرض مأموراً به حتّى إذا شكّ في اعتبار قصد القربة، فلا يكون شكّاً في المحصّل ويكون المقام أجنبيّاً عن الشكّ في المحصّل الذي مرجعه إلى قاعدة الاشتغال. وفي الحقيقة: فإنّ المأمور به هو نفس الأجزاء فقط.

وقد نُسب إلى المحقّق الشيرازيّ(قدس سره)(1): أنّ العباديّة ليست للأمر، ولا مأخوذة

في المأمور به، بل العباديّة عبارة عن الوظيفة التي شرّعت لأجل أن يتعبّد بها، فالصلاة التي جيء بها بعنوان التعبّد، وإظهاراً للعبوديّة، هي المأمور بها، فيمكن أن يرد الأمر على الصلاة بهذا الوجه، ولا استحالة _ حينئذٍ _ ولا دور؛ فإنّ المكلّف يتمكّن من الإتيان بالصلاة تارةً بعنوان التعبّد وإظهاراً للعبوديّة، واُخرى: بعنوانقصد الأمر وقصد القربة، فلو قلنا بأنّ المأمور به هي الصلاة المأتيّ بها بعنوان التعبّد، فالدواعي: إمّا عن قصد الأمر أو الجهة أو غيرها وهي محقّقة لعنوان العبادة ومحصّلة لها، من دون أن يتعلّق الأمر بها، لأنّها ليست بمنحصرةٍ، لحصول العبادة في الخارج، فكما يمكن الإتيان بالصلاة بعنوان العبوديّة، فيمكن الإتيان بها كذلك بعنوانٍ آخر، وهو تلك الدواعي.

ولكنّ الحقّ: انحصار العبادة بما يؤتى بها بعنوان العبوديّة، والعبرة بما ورد في تلك الأخبار. ولو أتى بالفعل لا بتلك الدواعي تبطل، وهذه

ص: 137


1- نقل النسبة إليه في فوائد الاُصول 1: 153.

الدواعي كما ذكرنا لا يمكن أخذها في المأمور به. فما نُسب إلى المحقّق المذكور) لا يرجع إلى معنىً محصّل.

الأمر الثاني:

أنّ الغرض من الأوامر ليس إلّا تحريك العباد وحثّهم على إيجاد متعلّقات الأمر، فلابدّ أن يكون الإتيان بالواجب ﷲ سبحانه حتّى يكون من الأمر، لا من الشهرة والرياء _ مثلاً _ فالغرض من الأوامر هو نفسه يقتضي التعبّديّة.وفيه: أنّه ليس الغرض من الأمر إلّا تحريك المكلّف على إيجاد متعلّقه في الخارج، فيكون ورود الأمر سبباً لإلزامه بإيجاد المأمور به، وأمّا كون هذا الإيجاد بداعي أمره وقصد الأمر لم يظهر من الغرض فالتمسّك بالغرض إنّما يكون لإثبات تعبّديّة المأمور به حتّى يتمسّك في مقام الشكّ في التعبّديّة بها، وإثبات التعبّديّة للفرد المشكوك بالغرض لا يرجع إلى محصّل.

والأمر الثالث:

قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾(1).

وقد قالوا في تفسير هذه الآية الكريمة: إنّهم لم يؤمروا إلّا لأجل العبادة، فيكون الغرض من كلّ أمرٍ هو العبادة.

ص: 138


1- البيّنة: 5.

ولكنّ الاستدلال بالآية على اعتبار التعبّد في الأوامر كافّةً ظاهر الفساد؛ لأنّ الآية وردت لبيان معنىً آخر، وهو: أنّ العبادة لابدّ وأن تكون ﷲ تعالى دون غيره من الأصنام، ويظهر من صدر الآية ومن الآيات المتقدّمة: أنّ الخطاب متوجّه للكفّار، وأنّ الكفّار لم يؤمروا بالتوحيد إلّا لكي يعبدوا اﷲ ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غيرمشركين، فالآية واردة في مقام بيان تعيين المعبود ومعرفته وبيان كيفيّة عبادته، لا لبيان أنّ الأمر يكون عباديّاً.

وعليه: فتكون الآية الشريفة أجنبيّةً عمّا نحن فيه؛ لأنّ الاحتمال الثاني الذي ذكرناه في تفسيرها، إمّا أن يكون أظهر من الأوّل، فهو المطلوب، أو لا أقلّ من أنّه يكون مساوياً له، فتصبح الآية _ حينئذٍ _ مجملةً.

وأمّا ما ذكروه من أنّ المراد من الآية أنّهم لم يؤمروا إلّا لأجل العبادة، فإنّه لو كان صحيحاً لاستلزم تخصيص الأكثر، لعدم غلبة الواجبات التعبّديّة على التوصّليّة.

ولكن

نجيب عن هذا: بأنّ الاستهجان في تخصيص الأكثر إنّما يتصوّر إذا كان التخصيص إفراديّاً، كما إذا قال: (كل كلّ ما في البستان من رمّان)، ثمّ قال: (لا تأكل هذه الرمّانة وتلك الرمّانة... إلى تسع مائة وتسعٍ وتسعين)، وكان كلّ ما في البستان ألف رمّانةٍ، فإنّ هذا يكون مستهجناً لا محالة، وأمّا إذا كان تخصيص الأكثر نوعيّاً، فلا استهجان هناك، كما إذا قال: (لا تُكرم شاربي التتن من العلماء) وكان أكثرهم من شاربي التتن.

ص: 139

وأيضاً: فلا يفيد الاستدلال للتعبّديّة بقوله-: «إنّما الأعمال بالنيّات»(1)، وفسّروه بأنّ النيّة هي قصد القربة وامتثال الأمر، أي: فالعمل الذي لا قربة فيه فهو كالمعدوم.

ولكن

يرِد عليه: أنّه لم يظهر من الرواية هذا المعنى، بل المراد: أنّ العمل الذي وقع قهراً أو بلا إرادةٍ واختيار، ليس بعملٍ يترتّب عليه الثواب.

أو نقول: بأنّ عنوان العمل لا يتحصّل ولا يتعيّن إلّا بالقصد، فإن كانت عبادةً، فلا يتعيّن بعنوان العباديّة إلّا بالقصد، ولو كانت التوصّليّة غير محتاجةٍ إلى القصد. وليست هذه الرواية ناظرةً إلى إثبات عباديّة الأوامر الشرعيّة أصلاً.

ويؤيّد ذلك: ما ورد عن النبيّ- أيضاً: «لكلّ امرءٍ ما نوى»(2)، أي: أنّ العمل تابع لقصده، ﷲ تعالى كان أم لغيره.

فظهر: أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ إذا شكّ في تعبّديّة شيءٍ أو توصّليّته، بناءً على إمكان قصد الأمر بنتيجة الإطلاق.أمّا إذا لم يمكن التمسّك بذلك الإطلاق، ولو بورود ألف أمرٍ، فلابدّ حينئذٍ من القول بالتوصّليّة ببركة الأصل العمليّ، لا بالتعبّديّة بواسطة أصالة الاشتغال.

ص: 140


1- وسائل الشيعة 1: 48، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 6.
2- وسائل الشيعة 1: 49، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 10.

الواجب المطلق والمشروط

اشارة

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في معنى الإطلاق: فالواجب المطلق هو الطلب غير المقيّد بأمر وجوديٍّ أو عدميٍّ، والمقيّد على العكس من ذلك.

الأمر الثاني:

الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافيّة، فكلّ قيدٍ قيس إليه الواجب، فإمّا أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطاً أو مقيّداً أو مطلقاً.

ولذا يصحّ أن يقال: بأنّ الواجب قد يكون بالنسبة إلى قيدٍ من القيود مشروطاً، وبالنسبة إلى آخر مطلقاً، كما أنّ الواجب _ مطلقاً _ يكون مقيّداً بالاُمور العامّة كالبلوغ والعقل والقدرة والاختيار، فالواجبات جميعاً

ص: 141

مقيّدة بها، وكالالتفات الذي يكون قيداً للتنجيز والفعليّة، وأمّا العلم بالتكليف، فهو ليس من الشروط العامّة؛ لأنّ التكاليف مشتركة بين الجاهل والعالم.

نعم، العلم شرط ودخيل في استحقاق العقاب.

ومن هنا يظهر: أنّه ليس هناك وجوب مطلق بحيث لم يقيّد بشيءٍ أصلاً، حتّى بالنسبة إلى القيود العامّة، وليس هناك شيء مشروط بكلّشيءٍ، بل كلّ واجبٍ _ على الإطلاق _ فإنّه يكون مشروطاً، ولكن بالإضافة.

قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«الظاهر: أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان، لا حقيقيّان، وإلّا، لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجبٍ ببعض الاُمور، لا أقلّ من الشرائط العامّة، كالبلوغ والعقل. فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيءٍ يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروطٍ به فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلّا، فمشروط كذلك، وإن كانا بالقياس إلى شيءٍ آخر، كانا بالعكس»(1).

ومحصّل كلامه): أنّ الواجب قد يكون مطلقاً بالإضافة إلى شيءٍ ومشروطاً بالإضافة إلى آخر، وأمّا الإطلاق من جميع الجهات، وبقولٍ مطلق، فهو غير متحقّقٍ في أيّ واجبٍ من الواجبات؛ إذ كلّ واجبٍ لابدّ

ص: 142


1- كفاية الاُصول: ص 95.

أن يكون وجوبه مشروطاً بشرط، ولا أقلّ من اشتراطه بالشرائط العامّة من البلوغ والعقل، فعلى هذا يقال: إنّ كلّ واجبٍ لوحظ بالإضافة إلى أمرٍ ما، فإمّا أن يكون وجوبه متقيّداً بهذا الأمر أو لا. والأوّل: هو الواجب المشروط، والثاني: هو الواجب المطلق.ثمّ إنّ المراد من المطلق والمشروط في محلّ البحث هو: لحاظ الواجب بالنسبة إلى ما عدا شروط العامّة، فيقال _ مثلاً _: إنّ وجوب الحجّ مشروط بالنسبة إلى الاستطاعة، ولكنّه بالنسبة إلى قرب الشخص من مكّة وبعده عنها فلا يكون مقيّداً.

الأمر الثالث:

اشارة

هل هذه القيود راجعة إلى المادّة، بمعنى: أن يكون الواجب هو المشروط، أو أنّها راجعة إلى الهيئة، بمعنى: أنّ الوجوب هو الذي يكون مشروطاً؟!

المنسوب إلى الشيخ الأنصاريّ«(1) هو القول بإرجاع القيد إلى

ص: 143


1- نسبه إليه في مطارح الأنظار، قال): «والألفاظ إنّما تتّصف بالإطلاق والتقييد باعتبار المعنى، وبعد ما فرضنا من أنّ المعنى المقصود بالهيئة هو خصوصيّات الطلب وأفراد، فلا وجه لأن يُقال: إنّ الهيئة مطلقة أو مقيّدة، بل المطلق والمقيّد هو الفعل الذي تعلّق به الطلب؛ فإنّ معنى الضرب في حدّ ذاته معنىً كلّيّ، واللّفظ الكاشف عنه مطلق، والضرب الواقع في الدار مقيّد. فظهر من ذلك: أنّ معنى الهيئة ممّا لا يختلف باختلاف المطلوب، وإن كان لهذه الاختلافات مدخل في تعدّد أفراد الطلب كما لا يخفى، إلّا أنّه لا دخل له بما نحن بصدده. ولا خفاء أيضاً في أنّ الشرط أيضاً من الاُمور الراجعة إلى المطلوب؛ فإنّ الفعل: تارةً: يكون متعلّقاً للطلب على جميع تقاديره _ من قيام عمروٍ وقعود بكرٍ وحياة زيد وموت خالد، ونحو ذلك _. وتارةً: يكون متعلّقاً للطلب على تقديرٍ خاصّ؛ فلا اختلاف في حقيقة الطلب، كما لا اختلاف فيها عند اختلاف سائر قيود الفعل، من الزمان والمكان. وإذ قد تحقّقت ذلك عرت: أنّه لا وجه للقول بكون هيئة الأمر حقيقةً في الوجوب المطلق مجازاً في المشروط؛ فإنّ ذلك ممّا لا يرجع إلى طائل، بل التحقيق: أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ للأعمّ من الطلب الواقع على الماهيّة المطلقة أو المقيّدة...» إلى آخر كلامه). انظر: مطارح الأنظار 1: 236 _ 237.

المادّة. وملخّص كلامه): أنّ عدم إمكان إرجاعه إلى الهيئةناشئ من أنّ مداليل الهيئات من المعاني الحرفيّة، والوضع في المعنى الحرفيّ عامّ والموضوع له فيها خاصّ، والهيئة قد وضعت لخصوصيّات أفراد الطلب، فيكون الموضوع له والمستعمل فيه كلاهما خاصّين.

وعليه: فالهيئة غير قابلةٍ للتقييد، بل إنّ المعاني الحرفيّة ليست قابلةً للّحاظ على نحو الاستقلال، وإنّما هي مغفول عنها وغير ملتفتٍ إليها، ولذا، فهي لا تقع مسنداً ولا مسنداً إليها، فلا يمكن تقييدها؛ لأنّ التقييد يحتاج إلى اللّحاظ، كالمسند والمسند إليه.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّا نرى _ بحسب المتفاهم العرفيّ _ أنّ القيد راجع إلى الهيئة دون المادّة، وفائدة هذا القيد تقييد المعنى، فحينما نقول _ مثلاً _: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فيظهر من هذه الجملة: أنّ الإكرام ليس بواجبٍ مطلقاً، بل فقط إذا جاء زيد.

وثانياً: أنّ الوجدان شاهد على أنّ الإرادة والوجوب ليستا مشروطتين

ص: 144

في شيءٍ من الموارد، بل المشروط هو المقيّد.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ القيود والشروط:تارةً تكون غير اختياريّةٍ وغير واجبة التحصيل، كالشروط العامّة.

وأُخرى: تكون اختياريّةً، ولكن لا يجب تحصيلها كالاستطاعة وبلوغ النصاب.

وثالثةً: تكون اختياريّةً ويجب تحصيلها كبقيّة الشروط.

فإذا عرفت هذا، فإنّ العاقل إذا تصوّر شيئاً، فهو تارةً لا يرى فيه مصلحةً، بل يرى المفسدة في إيجاده، وفي هذه الصورة لا تتعلّق به إرادته؛ واُخرى: يرى فيه المصلحة وتتعلّق به إرادته، وهنا: تارةً تتعلّق الإرادة بالشيء مطلقاً، واُخرى تتعلّق به مع قيد الخصوصيّة، كما إذا وقع طلب المولى على الماء بقيد البرودة، فأقسام القيود كلّها تكون راجعةً إلى المراد والواجب دون الوجوب.

وأمّا

عدم جواز رجوع القيد إلى الهيئة، دون المادّة، في الكلام المنسوب إلى الشيخ)؛ فلأنّ الهيئات تدلّ على المعاني الحرفيّة، والمعنى الحرفيّ جزئيّ لا سعة فيه، وتكون المعاني الحرفيّة _ كما ذكرنا سابقاً _ مرآتيّةً؛ إذ يتوصّل بها إلى ملاحظة غيرها من المعاني الاسميّة، وأمّا هي، فمغفول عنها بخصوصها في حال استعمالها تمهيداً لملاحظة غيرها، ومعه: فكيف يمكن تقييدها بقيد؟! فإنّ ذلك يستلزم ملاحظتها والالتفات إليها، وبناءً على ذلك: فالمتعيّن هو صرف القيد إلى المادّة دون الهيئة.

ص: 145

وفيه:أوّلاً: أنّه لا يتمّ على مبنى صاحب الكفاية(قدس سره) الذي يرى أنّ الحروف لا يفرّق بينها وبين الأسماء في كون الموضوع له والمستعمل فيه في كلٍّ منهما عامّين.

وثانياً: أنّه لو فرض أنّ الهيئة مندرجة في المعنى الحرفيّ، والمعنى الحرفيّ جزئيّ غير قابلٍ للتقييد، ولكنّ الكلام هنا إنّما يتمّ لو لاحظناها بالإضافة إلى أحواله وأطواره، كما يعبّر عن هذا بالعموم الأحواليّ والإطلاقيّ، فهو قابل للتقييد.

وثالثاً: بعد أن ذكرنا أنّها إخطاريّة وليست بإيجاديّة، فلها معنىً مستقلّ قابل للتوجّه إليه وغير مغفولٍ عنها.

وقد حكي عن السيّد الشيرازي(قدس سره)(1): أنّ المقرّر قد اشتبه، وأنّه لم يصل إلى مرام الشيخ(قدس سره) ومقصوده. وإنّما غرض الشيخ(قدس سره) في إنكاره رجوع الشرط إلى الهيئة أنّ الإنشاء غير قابلٍ للتقييد.

وهذا الذي ذكره تامّ؛ لأنّ الإنشاء غير قابلٍ للاشتراط والتعليق، فلذلك كان لا يتّصف بالإطلاق والتقييد، وإنّما يتّصف بالوجود والعدم.

وهناك قول ثالث في البين، اختاره المحقّق النائيني(قدس سره)، وحاصله:أنّ

القيد راجع إلى المادّة المنتسبة، وإليه أرجع كلام الشيخ(قدس سره)، لا إلى

ص: 146


1- نقل الحكاية عنه في فوائد الاُصول 1: 181.

الأوّل، مدّعياً استحالة الأوّل، لرجوعه إلى الواجب المعلّق، وهو محال(1).

وبالجملة: فلابدّ هنا من بيان أنّ القيد هل يكون راجعاً إلى المادّة أم إلى الهيئة أم إلى غيرهما؟!

القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة:

ولكن قبل الدخول في صلب هذا البحث لابدّ لنا أن نشرح الحال في القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة ليتّضح الحال، فنقول:

أمّا القضايا الخارجيّة:

فهي عبارة عن ثبوت حكمٍ على شخصٍ خاصّ وموضوعٍ موجودٍ في الخارج، سواء كان هذا الموضوع شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعدّدين، وبلا فرقٍ بين أن يكون إلقاء القضيّة في الخارج بصورةٍ جزئيّة، ﻛ (أكرم زيداً)، أو كلّيّة، كما لو قال: (قُتل من في العسكر). ووروده هنا بصورةٍ كلّيّة لا يخرج القضيّة عن كونها خارجيّةً، ولكنبما

أنّ المحكوم عليه هو نفس الأشخاص في الخارج، لا ما يفرض وجودها فهو قضيّة خارجيّة.

وأمّا القضايا الحقيقيّة:

فهي ما يرد الحكم فيها على العنوان، لا بنفسه، بل بما أنّه قنطرة

ص: 147


1- راجع: أجود التقريرات 1: 132.

للخارج، بلا فرقٍ بين أن تكون الجملة خبريّةً أو إنشائيّةً، كلّيّةً أو جزئيّة، وبلا فرقٍ بين أن تكون الأفراد فعليّة الوجود في الخارج أم لا، بل يصحّ الإطلاق ولو لم يفرض له فرد في الخارج ولم يوجد أصلاً، المهمّ: أنّ جعل العنوان موضوعاً للحكم لا يكون بما هو هو؛ لأنّه _ بحسب الفرض _ يمتنع صدقه في الخارج، بل بما هو قنطرة ومرآة في الخارج.

الفرق بينهما:

والحاصل: أنّ الفرق بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة يكمن في اُمورٍ:

الأوّل: أنّ الاُولى منها ترد على الموجود الخارجيّ، وأمّا الثانية فهي إنّما ترد على العنوان.والثاني: أنّ الحكم في القضايا الحقيقة يكون على مناطٍ وملاكٍ واحد، وأمّا في القضايا الخارجيّة فإنّ المناط في كلّ قضيّة يختلف عن المناط في الاُخرى.

وبعبارةٍ ثانية: فالقضايا الخارجيّة ليس لها ملاك جامع وعنوان عامّ ينطبق على الأفراد، بل إنّ لكلّ فردٍ حكماً خاصّاً بحسب ملاكه الخاصّ الذي فيه، وهو لا يتعدّاه إلى غيره.

والثالث: أنّ الحكم المنشأ في القضايا الحقيقيّة لا ينفكّ عن الإنشاء، وإنّما يكون التقدّم والتأخّر فيها بالرتبة، كالعلّة والمعلول. وأمّا الخارجيّة: فإنّ الحكم فيها لا يترتّب إلّا مع وجود الموضوع وتحقّقه في الخارج.

ص: 148

والرابع: أنّ القضايا الخارجيّة ليست واقعةً في طريق الاستنباط؛ لأنّها _ كما أسلفنا _ لم ترد على العنوان العامّ، ولذا، فقد أصبحت جزئيّةً، والجزئيّ لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، فلذلك لا يمكن أن تقع صغرىً في قياسٍ يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ.

فمثلاً: لا يمكن أن يستفاد ويستنتج من القضيّة الخارجيّة التالية، وهي: (قتل كلّ من في العسكر) أنّ زيداً قد قتل إلّا بعد أن يقتل الجميع، أو بعد أن يعلم بقتل كلّ من في العسكر وزيد منهم، ولانحتاج إلى تأليف قياس نقول فيه: (زيد في العسكر، وكلّ من في العسكر قُتل، فزيد قد قُتل).

والخامس: أنّ الموضوع في القضايا الخارجيّة، سواء كان هو متعلّق الحكم أم متعلّق المتعلّق؛ فإنّه يكون موضوعاً بما أنّه موجود في الخارج بجميع شرائطه، فالإنسان الحرّ البالغ المستطيع يكون موضوعاً بوجوده الخارجيّ لوجوب الحجّ، لا بوجوده العلميّ.

وأمّا في القضايا الحقيقيّة، فإنّ جميع القيود وإن كانت دخيلةً في الموضوع ليترتّب الحكم عليه، إلّا أنّ ذلك بوجودها العلميّ، وإلّا، تخرج القضيّة عن كونها قضيّةً حقيقيّة؛ فإذا قال: (يا زيد ادخل داري)، معتقداً أنّه صديقه فهنا يجوز له الدخول في الدار، وإن لم يكن صديقه، وعلم أنّ الآمر قد أخطأ في الأمر.

وأمّا لو قال: (كلّ من كان صديقي فليدخل)، فإنّ القضيّة حينئذٍ تكون حقيقيّةً، فكلّ من رأى نفسه صديقاً له فيجوز له الدخول.

ص: 149

والسادس: أنّ الشرط المتأخّر معقول بناءً على أن تكون القضايا حقيقيّةً؛ لأنّ الشيء بوجوده العلميّ يكون دخيلاً.

وأمّا في القضايا الخارجيّة فإنّ الشرط يكون دخيلاً بوجوده الخارجيّ، ولمّا لم يتحقّق الموضوع في الخارج بجميع شروطه، فلايتعلّق به الحكم، وعليه: فلا يمكن فرض الشرط المتأخّر فيها، لأنّه يستوجب الخلف.

والسابع: أنّه لا يتأتّى النزاع بناءً على القضايا الحقيقيّة في أنّ الخطاب هل هو مختصّ بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب، أم أنّه يشمل الغائبين والمعدومين أيضاً؟! لأنّ الحكم في الحقيقيّة ليس متوجّهاً إلى الأشخاص حتّى يرد هذا البحث، بل إنّما يرد على عنوانٍ كلّيٍّ مفروض الوجود، فكلّ من ينطبق عليه هذا العنوان فإنّ الحكم يشمله.

والثامن: أنّه لا يأتي البحث في أنّه هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا؟ بناءً على كون جعل الأحكام من قبيل القضايا الحقيقيّة، وعلى ذلك النهج؛ لأنّه لا دخل لعلم الآمر أو جهله بوجود الشرط فيها أصلاً؛ لأنّ جميع القيود تلاحظ على نحوٍ تكون مفروضة الوجود في الخارج، فلا دخل للعلم فيها أصلاً، والوجود العلميّ أجنبيّ عنها.

قضايا الأحكام حقيقيّة أم خارجيّة؟

إذا عرفت هذا، فهل الأحكام الشرعيّة، وضعيّةً كانت أم تكليفيّة، من القضايا الحقيقيّة أم الخارجيّة؟

ص: 150

الصحيح: أنّها من القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة؛ لأنّها لو كانت من القسم الثاني، لكان لابدّ من إنشاءاتٍ متعدّدةٍ بتعدّد الأشخاص لما يرد عليه الحكم بخصوصه، لا بعنوان انطباق عنوانٍ كلّيٍّ عليه إذا ورد الحكم عليه كذلك، فهو، مع غضّ النظر عن أيّ شخصٍ آخر، يكون موضوعاً للحكم، والخطاب الموجّه إليه لا يغني عن الخطاب الموجّه إلى سائر الأشخاص، فلابدّ أن يكون لكلّ شخصٍ خطاب خاصّ به متوجّه إليه، فنتيجته _ إذاً _ هي الاحتياج إلى تعدّد الخطاب، وهو خلاف البديهة.

كما لابدّ أن يكون هذا التعدّد في زمان الحضور، مع أنّ هناك أشخاصاً غائبين أو معدومين، وهؤلاء لا يمكن توجّه الخطاب إليهم، فعدم إمكان تعدّده كاشف عن أنّ الأحكام قد وردت على نحو القضايا الحقيقيّة.

وقد يُدفع هذا الإشكال _ أي: إشكال لزوم تعدّد الخطاب _: بأنّه يمكن أن يكون الخطاب على نحو القضايا الخارجيّة وأن يرد علىعنوانٍ كلّيٍّ منتزع، كقولك: (كلّ من في العسكر قتل)، فالموضوع هو نفس الأشخاص من دون أن يكون هناك تعدّد في الوضع والخطاب.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ القضايا الخارجيّة منها ما هو جزئيّ ومنها ما يكون كلّيّاً، ولو فرض كفاية هذا النوع من الوضع والخطاب، فإنّ هذا يكفي بالنسبة إلى الحكم الكلّيّ، وأمّا الجزئيّ فالإشكال فيه.

وثانياً: أنّ الموضوع في القضايا الخارجيّة لابدّ وأن يكون موجوداً في

ص: 151

الخارج حين الإنشاء، والمشار إليه حقيقةً إنّما هي الأفراد الموجودة، دون المقدّرة؛ لأنّ تقدير الوجود مختصّ بالقضايا الحقيقيّة، والعنوان الكلّيّ _ بعنوانه المشير إلى الأفراد _ إنّما يتصوّر في صورة وجودها، فلا يمكن توجيه الخطاب إلى المعدوم، ولا يمكن إنشاء الحكم بالنسبة إليهم إلّا بنحو القضايا الحقيقيّة.

فإذا اتّضح ذلك، فينبغي أن يعلم:

أنّ الأحكام ترد على نهج القضايا الحقيقيّة لاُمورٍ:

الأوّل: ما عرفت من الفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة، فإنّ كلّ قضيّة لوحظ فيها ترتّب المحمول على موضوعها على نحو تقدير الوجود تكون قضيّةً حقيقيّة، سواء كان الموضوع فيها كلّيّاً أو جزئيّاً،فكلّ قضيّةٍ يترتّب فيها المحمول على الموضوع لا على سبيل التقدير، بل على نحو وجود الموضوع، فإنّها تكون قضيّةً خارجيّة.

والثاني: أنّ الشارع لم يتخطّ عمّا يسلكه العرف في عمليّة جعلهم للقوانين؛ فإنّ العرف، أو المتصدّين لاُمور الدول، لو أرادوا وضع قانونٍ ما، فإنّهم يضعونه بدون ملاحظة خصوصيّة الأفراد، وإنّما يفرضون وجود كلّ من يصلح لأن يشمله القانون، ثمّ يضعون القانون له، فيمكن أن يكون الشارع المقدّس قد جرى في وضعه للقانون على نفس هذا المنوال.

ص: 152

بل إنّ الذي يظهر من مثل قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(1)، وقوله: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾(2)، هو أنّه لم يتخطّ عمّا هو السائد في وضع القوانين العرفيّة من إيراد الحكم على الموضوع المفروض الوجود.

والثالث: أنّا نرى ثبوت الاستمراريّة للأحكام، كما ورد في الخبر: «حلال محمّد _ - _ حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(3)، وأنّها غير قابلةٍ للنسخ،ولا

تختصّ بالحاضرين في مجلس التشريع، بل تشمل الغائبين والمعدومين، وهذا كاشف عن أنّ الأحكام إنّما وردت على نحو القضايا الحقيقيّة.

ورابعاً: أنّه لو كانت الأحكام مجعولةً على نحو القضايا الخارجيّة، للزم _ كما مرّ _ تعدّد الجعل، مع أنّ المفروض عدم التعدّد فيه.

عودة إلى أصل البحث:

ولنرجع هنا إلى صلب الموضوع، وهو: أنّ القيود هل هي راجعة إلى المادّة أم إلى الهيئة أم إلى المجموع؟

وقد قلنا سابقاً: إنّه قد نسب إلى الشيخ(قدس سره) رجوعه إلى المادّة، ومرّ

ص: 153


1- البقرة: 185.
2- آل عمران: 97.
3- الكافي: 1: 58، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح19.

كلامه وجوابه، فعلى أيّ حال: فإن فرضنا عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، فلابدّ من رجوعه: إمّا إلى المادّة _ كما عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) _ أو إلى المادّة المنتسبة _ كما عليه المحقّق النائيني(قدس سره) _.

وإذا وصل الكلام إلى هذا المقام فلابدّ من بيان مقدّمةٍ حاصلها:

أنّه بعدما عرفنا أنّ الأحكام الشرعيّة تكون على نحو القضايا الحقيقيّة، وليست من القضايا الخارجيّة، فتكون تلك الأحكام مشروطةً بوجود موضوعاتها؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي نسبة العرضإلى المعروض، أو العلّة إلى المعلول، كما تقدّم، فالبحث يقع تارةً في مقام الثبوت، واُخرى في مقام الإثبات.

أمّا في مقام الثبوت: فبعدما بيّنّا أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة عبارة عن ترتّبه على عنوانٍ كلّيٍّ أُخذ قنطرةً إلى الخارج، ويكون هذا العنوان مرآةً لأفراده المقدّرة الوجود، فلا يكاد يمكن جعل الحكم إلّا بعد فرض موضوعٍ له، فالحكم في عالم الثبوت مشروط بالموضوع، كما أنّ المعلول يكون مشروطاً بالعلّة، وكما أنّ العرض يكون مشروطاً بالمعروض.

وأمّا في مقام الإثبات _ أي: مرحلة الإبراز _: فإنّ القضيّة تارةً تكون مصدّرةً بأداة الشرط، كقولك: (إن استطعت فحجّ)، واُخرى لا تكون كذلك، كقولك: (يجب الحجّ على المستطيع). ولكنّ مآل الموضوعين في كلا الموردين إلى واحدٍ؛ إذ بعد أن نرجع القيود في القضيّة الشرطيّة إلى الموضوع، فيكون مآلها إلى أن تتّحد النتيجة.

ص: 154

نعم، تختلف بالنسبة إلى أهل العربيّة؛ فإنّ الفارق بين القضيّة الشرطيّة والحمليّة عندهم في أنّ القضيّة إذا لم تكن مصدّرةً بأداة الشرط فهي تسمّى: حمليّةً، وإلّا، فتسمّى: شرطيّةً. وإن كان مآل الحمليّة _ أيضاً _ في نظرهم إلى الشرطيّة، فمثلاً: إذا قيل: (الجسم هو ما له أبعاد ثلاثة)، فمعناه عندهم: (كلّما وجد في العالم شيء وكان ذلكالشيء جسماً فإنّه يكون ذا أبعادٍ ثلاثة)، فهذه القضيّة _ إذاً _ تنحلّ إلى شرطيّةٍ مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وإذا عرفت هذه المقدّمة، وأنّه لا فرق بين القضايا الشرطيّة والحمليّة، فنقول:

القيد الموجود يتصوّر على وجوهٍ، فإنّه:

تارةً: يرجع إلى الموضوع والمادّة، أي: يرجع إليهما في المرتبة السابقة على الحكم. وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادّة، أي: أن يفرض الموضوع والمتعلّق مقيّداً قبل ورود الحكم عليه، كما ذكرنا، بأن يلاحظ الصلاة مقيّدةً بالطهارة، ثمّ بعد ذلك يرد عليه الوجوب، وعليه: فالوجوب مطلق وغير مقيّدٍ بشيء، وإنّما الذي يكون مقيّداً هو الصلاة، كما عليه الشيخ الأنصاريّ(قدس سره).

وثانيةً: يفرض القيد راجعاً إلى المفهوم التركيبيّ، أي: أنّ النسبة التركيبيّة تكون هي المقيّدة بذلك القيد، وبعبارةٍ أُخرى: فالنسبة الإيقاعيّة التي تتكفّلها الهيئة تكون هي المقيّدة.

ص: 155

ثمّ إنّ المحقّق النائيني(قدس سره)، التزم _ كما أشرنا _ برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة، ففي نظره الشريف: أنّ القيد يرجع إلى المادّة، ولكن لا بمعنى: كون القيد من قيود الواجب، وأنّ الوجوب يكون فعليّاً؛ لأنّ مآل هذا الكلام هو الرجوع إلى الواجب المعلّق الذي التزم به صاحبالفصول(قدس سره)(1)، بل القيد يطرأ على المادّة بعد ورود النسبة عليها. وذلك بتقريب: أنّ الشيء قد يكون متعلّقاً للنّسبة الطلبيّة مطلقاً، أي: من غير تقييد، وقد يكون متعلّقاً لها حين اتّصافه بقيدٍ في الخارج، فمثلاً: الحجّ مقيّد بالاستطاعة الخارجيّة، فما لم يوجد هذا القيد، فيستحيل تعلّق الطلب به، ويستحيل كونه طرفاً للنسبة الطلبيّة، فالقيد راجع إلى المادّة، لكن لا بما هي هي، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.

وثالثةً: يمكن أن يكون القيد راجعاً إلى الطلب الذي يستفاد من الهيئة، كما عليه المشهور.

ورابعةً: أن يرجع القيد إلى المحمول المنتسب.

فعلى أيٍّ: فإذا أرجعنا القيد إلى الطلب، فمعناه: رجوعه إلى المعنى

ص: 156


1- انظر: الفصول الغرويّة: 79. قال(قدس سره): «وينقسم [أي: الواجب] باعتبارٍ آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، كالمعرفة، وليُسَمّ: منجّزاً، أو إلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، وليُسَمّ: معلّقاً، كالحجّ؛ فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور له» إلى آخر كلامه(قدس سره).

الحرفيّ، بخلاف ما لو أرجعناه إلى المحمول المنتسب؛ فإنّ رجوعه يكون إلى المعنى الاسميّ.

ثمّ إنّ رجوعه إلى المحمول المنتسب: تارةً يكون في رتبة الانتساب، واُخرى في المرتبة المتأخّرة عنه رتبةً أو زماناً.وإذا عرفت هذا، فلا يخفى: أنّ أداة الشرط تارةً تكون وظيفتها الربط بين الجملتين والمعنيين المتحصّلين، لا الفردين، فيكون التعليق بين الجملتين، ففي مثل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) فإنّ المعنى المتحصّل من الجزاء هو وجود النهار؛ لأنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فالمادّة التي في حيّز الطلب نحو: (إن استطعت فحجّ)، ليست مقيّدةً فحسب، بل المادّة بعد اتّصافها بالطلب؛ فإنّ الجزاء هو الحجّ المقيّد بالاستطاعة، وفي قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، هو الإكرام الواجب، أعني به: المادّة بعد الانتساب، وهذه البعديّة بمعنى التأخّر رتبةً لا زماناً.

إذاً: فاتّصاف المادّة بالطلب والوجوب فرع ورود النسبة الطلبيّة عليها، كقولك: (أكرمه)، وبعد تحقّق النسبة الطلبيّة وورودها على المادّة تكون مقيّدةً للجملة الطلبيّة، وهو الإكرام الواجب.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ التقييد متأخّر عن الاتّصاف الثابت في النسبة الطلبيّة، ولكن رتبةً لا زماناً.

وقد يرد على ذلك: أنّه يوجب النسخ، حيث إنّ المادّة قبل الاتّصاف

ص: 157

تقع في حيّز الطلب، فالمطلوب _ حينئذٍ _ هو نفس المادّة، ثمّ يرفع اليد عن نفس هذا الطلب المطلق وتقيّد المادّة الواجبة بقيدٍ، فالوجوب المطلق الثابت للمادّة بقوله: (أكرم زيداً) _ بناءً علىهذا _ يكون منسوخاً، وقد شرّع وجوب آخر لمادّةٍ تكون مقيّدةً بوجود زيد.

ولكن فيه: أنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو كان تأخّر الجملة الإنشائيّة الجزائيّة عن اتّصاف المادّة بالطلب هو التأخّر الزمانيّ لا الرتبيّ، وأمّا إذا كان رتبيّاً، فإنّه لا يلزم النسخ.

إذا عرفت هذا فنقول:

لو قيل _ مثلاً _ : (إن بنيت المسجد فصلّ)، فهنا اُمور ثلاثة: المادّة، وهي المسجد، والهيئة، وهي تدلّ على إنشاء النسبة بين الفعل وفاعله، والتعليق المستفاد من قوله: (إن بنيت).

فأمّا الإنشاء: فإنّه لا معنى لتعليقه.

وعلى هذا حملوا كلام الشيخ(قدس سره) من أنّ المراد من الهيئة هو الجملة الإنشائيّة التي هي غير قابلةٍ للتعليق؛ لأنّه إمّا موجود أو معدوم، فاذا أنشأ الضرب بقوله: (اضرب زيداً)؛ فإنّ هذا الضرب الخارجيّ الواقع على شخصٍ يقع بلا فرقٍ بين أن يكون المضروب زيداً أو عمراً، ولو علّق على كونه زيداً، فإذاً: لا معنى لتعليق الإنشاء على شيء.

وأمّا المنشأ: وهو النسبة بين الفعل والفاعل، فغير قابلٍ للتعليق والتقييد؛ لأنّ الهيئة لا تدلّ إلّا على مصداق النسبة، ولا دلالة لها على

ص: 158

مفهوم النسبة.وأيضاً _ وكما قلنا _: فإنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة وليس لها مفهوم عامّ حتّى يكون قابلاً للتقييد، بل تحق المعاني الحرفيّة التي منها الهيئة يكون في مواطن الاستعمال، فعلى القول بإيجاديّة المعاني الحرفيّة: فالنسبة غير قابلةٍ للتقييد، فلابدّ أن نقول بأنّ المادّة لابدّ أن تكون معلّقةً، وأنّ القيد لابدّ أن يرجع إلى المادّة.

ولكنّ هذا مخالف للقواعد العربيّة، فقولك: (إن بني المسجد فصلّ فيه)، لو كان قيداً للمادّة، فإنّ بناء المسجد يكون قيداً للواجب، فيجب تحصيله؛ فإنّ الظاهر من الجملة _ طبقاً لقواعد العربيّة _ هو: توقّف الصلاة في المسجد على بنائه، فيفهم منه وجوب البناء، ثمّ الصلاة فيه بعد ذلك.

وليس التعليق هنا كالتعليق في الطهارة التي هي شرط للصلاة حيث يجب هذا الشرط وهو الموضوع، ومع ذلك، لا يمكن أن يكون الشرط عائداً للنسبة الطلبيّة كما عرفت. فلا محالة: لابدّ أن يقال برجوعه إلى المادّة المنتسبة التي تدلّ عليها (صلّ)، فتكون الصلاة المنتسبة قد علّقت على بناء المسجد.

وبعبارةٍ أُخرى: تكون الصلاة الواجبة قد علّقت على بناء المسجد، ومع عدم البناء لا تفيد الصلاة، ونتيجته: أن يكون الوجوب مشروطاً، لا بمعنى إنشاء المنشأ كما مرّ ذكره.

ص: 159

ولكن يرد عليه الإشكال: بأنّه لو قلنا بأنّ النسبة من المعاني الحرفيّة فلا يمكن تصوّرها لذلك؛ فإنّ النسبة في المحمول المنتسب مغفول عنها، فكيف يمكن تصوّرها، مع أنّه لابدّ من تصوّر المعلّق عليه، وهو المحمول والنسبة أوّلاً ثمّ تعليقه بعد ذلك؟ ونحن نرى أنّ المعلّق ليس هو المادّة فقط، بل هو المادّة مع قيد الانتساب، فلابدّ _ إذاً _ من تصوّر الهيئة أوّلاً، وهذا خلف؛ لأنّه يرجع المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ.

ولكنّ الحقّ: هو ما ذكرناه، من أنّ الهيئة إخطاريّة، كما في جميع المعاني الحرفيّة، خلافاً للمحقّق النائيني(قدس سره)، فيتحصّل: أنّه يمكن تقييدها.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا اُمور:

الأوّل: عدم إمكان تقييد الهيئة بناءً على مبنى الميرزا النائيني(قدس سره)؛ لأنّ معاني الحروف في نظره الشريف معانٍ إيجاديّة.

والثاني: لا يمكن توصيف المادّة بما علّقت عليها؛ فإنّ المجيء ليس قيداً للإكرام؛ لأنّ المادّة لا يمكن وصفها بالتعليق، فلا يوصف بالإكرام الذي هو فعل لعمروٍ لدى مجيء زيد، حتّى يقال: إن كان قيداً للمادّة فيجب تحصيله، بل المعلّق هو الإكرام الواجب.

والثالث: عدم إمكان رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة؛ لأنّه يستلزم الخلف، كما مرّ.وقد مرّ الإشكال عليه: بأنّ الحكم لو ورد على المحمول المنتسب لورد الإشكال أيضاً، فإنّه لابدّ من تصوّر الانتساب، وهو معنىً حرفيّ.

ص: 160

ولكن أُجيب عنه: بأنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المعلّق عليه هي المادّة المتّصفة بالانتساب، وأمّا لو لاحظنا الموضوع، وهو المادّة، لا بنحو الاتّصاف بالنسبة، بل بحيث تقارن النسبة، وفي حال اقترانها بها، فلا يكون المعنى جزئيّاً حينئذٍ، ولا يكون المعنى جزءاً للمعلّق عليه الشرط، فلا يأتي المحذور أصلاً.

ولكن مع ذلك، يرد الإشكال: لأنّه يصبح الواجب معلّقاً.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الهيئة قابلة للتقييد، وأنّ المعنى الحرفيّ، ولو لم يكن مستقلّاً باللّحاظ، إلّا أنّه ملحوظ تبعاً لملاحظة غيره من المعاني الاسميّة، ولو قلنا بأنّ المعنى الحرفيّ يكون جزئيّاً وغير قابلٍ للتقييد في حدّ ذاته، إلّا أنّه بالنسبة إلى أحواله وأطواره قابل للتقييد حتماً، فالقيد _ إذاً _ راجع إلى الهيئة.

نعم، يتوجّه الإشكال على ما نسب إلى الشيخ(قدس سره) من أنّه لو كان قيداً للمادّة وأنّه لو قلنا برجوعه إليها طرّاً، فلابدّ أن لا يفرّق بين قيد الوجوب وقيد الواجب، فلابدّ أن ترجع القيود طرّاً إلى الواجب، مع أنّ هناك فرقاً بينهما، ولو كان شرط الوجوب راجعاً إلى الواجب فلا معنى لعقد البحث في عنوانين، مع أنّهم عدّوا مثل: البلوغ والعقل والحريّةمن شرائط الوجوب، وأمّا شرائط الواجب في الصلاة _ مثلاً _ فهي الاستقبال والطهارة وغيرها.

إذا عرفت هذا، فالفرق بين الواجب المشروط والواجب المطلق هو:

ص: 161

أنّ الوجوب المطلق إذا علم به المكلّف المنقاد لأمر المولى، شرع فوراً بالامتثال من دون انتظارٍ لشيءٍ آخر؛ لأنّه قد علم بأنّ التكليف تمّ في حقّه ووصل إليه من ناحية المولى.

وأمّا لو علم بأنّ الوجوب معلّق أو مشروط، وكان تعلّقه على وجود شيءٍ آخر، فلا يسعى لامتثاله بنحو من السعي؛ لأنّه يرى نفسه قبل تحقّق شرط الوجوب غير مكلّفٍ بشيء ليهتمّ ويسعى بامتثاله.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ معنى وجوب المطلق وحقيقته: إرادة الفعل من المكلّف على أيّ تقدير، وكان من آثاره انبعاث المكلّف المنقاد، إذا علم به، نحو الفعل بلا انتظار لشيءٍ أصلاً.

وأمّا الوجوب المشروط: فإنّه لمّا كانت حقيقته إرادة الفعل من المكلّف على تقديرٍ خاصّ، لا على كلّ تقدير، كان من آثاره _ إذا علم به قبل تحقّق الشرط المعلّق عليه لو كان منقاداً _ عدم الانبعاث نحو الفعل مباشرةً، بل ينتظر حصول الشرط المعلّق عليه ذلك الوجوب الذي بواسطته صار نوعاً خاصّاً مبايناً لنوع الوجوب المطلق.وليس معنى الوجوب المشروط: أنّه إنشائيّ، بل هو كالوجوب المطلق فعليّ، غاية الأمر: يختلف الفعليّان لاختلاف آثارهما واختلاف حقيقتهما، ولو كان وجوبه مشروطاً فإنّه يكون فعليّاً، ولكنّ الانبعاث غير مطلوبٍ منه؛ لأنّه لا يكون هناك انبعاث إلّا بعد حصول الشرط، ونظير هذا كثير، ففي صورة الجهل بالحكم يكون الحكم فعليّاً، وكذا في صورة

ص: 162

العلم مع التمرّد، فالحكم فعليّ وباقٍ على فعليّته.

وبعدما عرفت من الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب، فقد ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) في الفرق بينهما ما توضيحه:

أنّ الشرط تارةً تكون علّة لاتّصاف شيءٍ بالمصلحة، واُخرى يكون علّةً لوجود المصلحة في الخارج، فالأوّل: شرط الوجوب، والثاني: شرط الواجب.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ شرط الوجوب من مبادئ الإرادة وعللها، ولذا، لا تتعلّق به الإرادة، لأنّه من التقسيمات الأوّليّة، كالاستطاعة التي هي شرط للوجوب. نعم، إذا تحقّق توجد الإرادة.

وأمّا شرط الواجب، فهو معلول للإرادة، ولذا، يجب تحصيله، فشرط الوجوب _ إذاً _ لا تتعلّق به الإرادة، ولذا، يمكن أخذه في المادّة،ومعنى أخذه فيها: أنّه معلول للإرادة، مع أنّه علّة للإرادة، ويلزم بناءً على هذا: اجتماع النقيضين؛ لأنّه يلزم تعلّق الإرادة به إذا كان من قيود الواجب وعدم جواز تعلّقها به لكونه علّةً للوجوب ومن مقدّمات الإرادة.

ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره(قدس سره) لا يعدو أن يكون شرحاً لشرط الوجوب وشرط الواجب، ولا يزيد شيئاً عمّا ذكرناه.

وبعدما ذكرنا من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، فنقول:

ص: 163


1- انظر في ذلك: منتهى الدراية 2: 172.

إنّ كلّ ما يلاحظ مع الواجب، فإمّا أن يكون له دخل فيه وجوداً، وإمّا أن لا يكون له دخل فيه. فعلى الثاني: يسمّى ﺑ «المطلق»، وأمّا على الأوّل: فإن كان القيد من القيود التي لا يمكن تحصيلها، فحينئذٍ: يكون الوجوب منوطاً به بعد صحّة كونه قيداً للمادّة؛ لأنّه لو صحّ أن يكون قيداً لها، فلابدّ أن يقع تحت الطلب؛ لأنّه غير قابلٍ لتعلّق الطلب به لعدم القدرة عليه؛ فإنّ العبد لا يقدر على إيجاده، فالخطاب بالنسبة إليه يكون قبيحاً. وأمّا إذا كان العبد قادراً على إيجاده: فتارةً يكون الخطاب بلسان الجملة الشرطيّة، كقولك: (إن استطعت فحجّ)، واُخرى بلسان الجملة الحمليّة، كقولك: (الصلاة في المسجد واجبة)، أو (الحجّ واجب عند الاستطاعة). فإن كانت القضيّة شرطيّةً: فظاهرها أنّ الشرط للوجوب، وأنّ الوجوب مشروط به، وإن كانت حمليّةً:فظاهرها كون القيد قيداً للمادّة، وهذا إنّما يتمّ فيما لو استبان من الظهور الذي لا يمكن رفع اليد عنه إلّا مع القرينة على الخلاف.

وأمّا لو شكّ في رجوع القيد إلى المادّة أو الهيئة، ولم يعلم بأنّه قيد للمادّة أو الهيئة، أي: لم يكن ظهور في البين حتّى يعلم بأنّه قيد للمادّة فيجب تحصيله، أو قيد للهيئة حتّى لا يجب تحصيله، فهنا اُمور:

الأوّل: أنّه تارةً يشكّ بأنّ القيد قيد للوجوب أم لا؟ فإن كان هناك إطلاق فيؤخذ به، وأمّا إذا لم يكن هناك إطلاق، فمقتضى أصالة البراءة عدمه.

ص: 164

والثاني: إذا كان الشكّ في تقييد الواجب، فمقتضى الإطلاق المقاميّ عدم الوجوب، وكذا مقتضى الأصل هو البراءة.

والثالث: لو علم كون الوجوب مقيّداً، ولكن لم يعلم بأنّ هذا القيد كان على نحوٍ لو حصل وتحقّق بطبعه حتّى يصبح الواجب معلّقاً، أو أنّه اعتبر على نحو الإطلاق بحيث يجب تحصيله، فلا يمكن حينئذٍ التمسّك بالإطلاق أو الأصل لنفي تقييده، والمفروض حصول العلم بالتقييد ووقوع الشكّ في كيفية التقييد، فيمكن لذلك التمسّك بالبراءة لنفي الوجوب المستلزم لتحصيل القيد.

والرابع: إن شكّ في أنّ القيد قيد للواجب أم للوجوب، بنحو التخيير، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، إذ لم يمكن هناك ظهور يفهم منه أنّه قيدللمادّة أو للهيئة، حتّى يجب تحصيله في الأوّل دون الثاني. أمّا عدم إمكان التمسّك بالإطلاق: فلأنّ القيد إمّا أن يكون متّصلاً أو منفصلاً، ففي حال الاتّصال لا يمكن التمسّك به للإجمال، وفي حال الانفصال للتعارض. فالمرجع _ إذاً _ إلى الاُصول العمليّة، والمآل هو البراءة؛ لكون الشكّ فيه شكّاً التكليف؛ لأنّه لو كان قيداً للمادّة لوجب، أو للهيئة فلا يجب، فعند الشكّ تجري البراءة.

والخامس: لو دار أمر القيد بين أن يكون قيداً للواجب أو الوجوب على نحو المعلّق، فلا إشكال في عدم الوجوب.

ولا بأس هنا بذكر بعض الاُمور المرتبطة بمحلّ البحث:

ص: 165

الأوّل: أنّ وجوب المقدّمة بما أنّه مترشّح عن وجوب ذيها، فهو تابع في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها، فإذا كان وجوب ذي المقدّمة مشروطاً بشرطٍ، كان وجوبها كذلك، كما عليه صاحب الكفاية(قدس سره)(1).والثاني: فيما يتعلّق بالثمرة، وقد تعرّض لها صاحب الكفاية(قدس سره)، مبيّناً الثمرة بين القولين، أعني: ما اختاره هو في الواجب المشروط وما اختاره الشيخ(قدس سره).

قال): «وأمّا الشرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب. أمّا على ما هو ظاهر المشهور والمنصور: لكونه مقدّمةً وجوبيّة. وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة«: فلأنّه، وإن كان من المقدّمات الوجوديّة للواجب، إلّا أنّه أخذ على نحوٍ لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه، فإنّه جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط. فمعه: كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب، وهل هو إلّا طلب الحاصل؟!»(2).

ومحصّل ما أفاده): أنّ الشرط الذي يعلّق عليه الوجوب في الخطاب

ص: 166


1- كفاية الاُصول: ص 99. قال(قدس سره): «ثمّ الظاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النزاع أيضاً، فلا وجه لتخصيصه بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر: تكون في الإطلاق والاشتراط تابعةً لذي المقدّمة، كأصل الوجوب، بناءً على وجوبها من باب الملازمة».
2- كفاية الاُصول: ص 99.

يكون خارجاً عن محلّ النزاع، بناءً على ما هو المختار من رجوعه إلى الوجوب؛ لأنّه يكون مقدّمة وجوبيّةً، وقد عرفت عدم تأتّي النزاع فيها، فلا نعيده.

وأمّا على مختار الشيخ(قدس سره): فهو، وإن كان من قيود الواجب، إلّا أنّه قد أخذ بنحوٍ لا يكون قابلاً لترشّح الوجوب عليه؛ وذلك لأنّ الواجب هوالشيء على ذلك التقدير، فالوجوب متعلّق بذلك الشيء على تقدير الشرط، فتعلّق الوجوب به يكون من باب طلب الحاصل.

والثالث: ما تعرّض له صاحب الكفاية) بقوله:

«لا يخفى: أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقاً، وأمّا بلحاظ حالٍ قبل حصوله، فكذلك على الحقيقة، على مختاره(قدس سره)(1) [أي: الشيخ)] في الواجب المشروط؛ لأنّ الواجب، وإن كان أمراً استقباليّاً عليه، إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب عليه قبله»(2).

ص: 167


1- كفاية الاُصول: ص 100.
2- مطارح الأنظار: 1: 236 _ 237.

ص: 168

الواجب المعلّق والمنجّز

اشارة

لا يخفى: أنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه:

قد يكون وجوبه فعليّاً، كالواجب المطلق، فيتوجّه التكليف فعلاً إلى المكلّف بعد حصول شرطه.

وقد لا يكون وجوبه فعليّاً، بل تكون فعليّة الوجوب مقارنةً لفعليّة الواجب، بمعنى: أن يكون زمان الوجوب متّحداً مع زمان الواجب، ويسمّى هذا القسم ﺑ «الواجب المنجّز»، كالصلاة بعد دخول وقتها، فإذا دخل الوقت، فكما أنّ الواجب يكون فعليّاً، فإنّ الوجوب _ هو أيضاً _ يكون فعليّاً.

أمّا إذا كان الوجوب فعليّاً، ولكنّ الواجب ليس بفعليّ، بل يكون مقيّداً بزمان متأخّر؛ فإنّ فعليّة الوجوب فيه تكون سابقةً على فعليّة الواجب، ويتأخّر بذلك زمان الواجب عن زمان الوجوب، ويسمّى هذا القسم ﺑ «الواجب المعلّق»؛ لتعليق وجوب الفعل على زمان وهو بعد غير

ص: 169

حاصل، كالحجّ؛ فإنّ الوجوب يكون فعليّاً عند الاستطاعة أو في أشهر الحجّ، ولكنّ الواجب يكون معلّقاً على زمان الموسم.

وقد يُعبّر عنه بوجه آخر، بأن يقال:الواجب تارةً يكون مقيّداً بقيد متأخّر خارج عن اختيار المكلّف من زمان أو زمانيّ، وأُخرى: لا يكون مقيّداً كذلك، فعلى الأوّل: يسمّى بالمعلّق، وعلى الثاني بالمنجّز، لأنّ كليهما يكونان فعليّين.

فبناءً على التعريف الأوّل: يدخل الواجب المشروط بشرط متأخّر في هذا الفرض؛ لأنّ الوجوب فيه يكون حاليّاً، والواجب استقباليّاً.

وبناءً على الثاني: فهو يكون منجّزاً؛ لأنّ كليهما يكون حاليّاً.

قال في الفصول:

«و[الواجب]

ينقسم باعتبار آخر إلى: ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وليسمّ منجّزاً، أو إلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسمّ معلّقاً، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرّفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب، وهنا للفعل»(1).

ص: 170


1- الفصول الغرويّة: 79.

الكلام في إمكان الواجب المعلّق وعدمه:

قد اختلفوا في إمكان الواجب المعلّق وعدمه. ونسب إلى صاحب الفصول(قدس سره) القول بإمكانه، بل وقوعه، ونسب إلى الأكثر القول باستحالته.

وأمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سره)، فقد أنكر الواجب المعلّق، فقال:

«بأنّا لا نعقل للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسماً ثالثاً يكون هو المعلّق»(1).

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) إنّما يتمّ لو التزمنا بالواجب المشروط عند المشهور، وأنّ إطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط يكون مجازاً؛ لأنّ الشرط قيد للوجوب، وهو مفاد الهيئة، وأنّه لا وجوب حقيقةً قبل حصول الشرط، فلا محالة: يكون إطلاق الواجب عليه مجازاً بلحاظ الأول والمشارفة.

وأمّا الشيخ)، فالواجب المشروط عنده هو عين الواجب المعلّق؛ لأنّه إذا قلنا بأنّ القيد يرجع إلى المادّة في الواجب المشروط، فمعناه: أنّ الوجوب يكون فعليّاً وأنّ الواجب يكون استقباليّاً.

والذي دفع بصاحب الفصول إلى القول بذلك هو وجوب تحصيل المقدّمات قبل مجيء الواجب كمقدّمات الحجّ وغيرها من المقدّمات.وأمّا الشيخ)فهو إنّما أنكر الواجب المعلّق الذي ذكره صاحب الفصول(قدس سره)؛ لأنّ الواجب المعلّق _ بالمعنى الذي اختاره هو _ هو بعينه

ص: 171


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 2: 347.

الواجب المشروط، كما بيّنه صاحب الكفاية(قدس سره). فحينئذٍ: لا يكون للمعلّق _ بناءً على هذا _ معنىً معقول في قبال المشروط.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره): أنّ إنكار الشيخ(قدس سره) يرجع في الحقيقة إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له والذي اختاره صاحب الكفاية، لا إلى إنكار الواجب المعلّق بالمعنى الذي فرضه صاحب الفصول).

وبتعبيرٍ آخر: فهو لم ينكر واقع الواجب المعلّق الذي فرضه صاحب الفصول)، وإنّما أنكر تسميته بالمعلّق وهو الاسم الذي أطلقه عليه المشهور(1).

وعلى أيّ حال: فقد يقال باستحالة هذا النوع من الواجب، إذ لا فرق هناك بين الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة في أنّ الإرادتين تتوقّفان على العلم والتصديق بالغاية والميل.

وأيضاً: فهما تتوقّفان على تحريك العضلات وحصول الفعل بعده. ولا فرق بينهما من هذه الجهات والنواحي، وإنّما الفرق بينهما من جهةأُخرى، وهي أنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بفعل الغير، والتكوينيّة تتعلّق بفعل نفس المريد. كما أنّه لا فرق بينهما _ أيضاً _ من جهة عدم جواز انفكاك الإرادة من المراد، فكما أنّ المراد التكوينيّ غير قابل لأن ينفكّ

ص: 172


1- كفاية الاُصول: ص 101.

عن الإرادة التكوينيّة، فكذلك المراد التشريعيّ هو غير قابل لأن ينفكّ عن الإرادة التشريعيّة. نعم، بينهما تأخّر رتبي.

فإذا

عرفت هذا: فالواجب المعلّق مستحيل، بعدما بيّنّا من أنّ المراد لا يمكن أن يكون متأخّراً عن الإرادة، ولازم عدم جواز انفكاك الإيجاد عن التحريك وعن المتعلّق، هو استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المفروض: أنّ الوجوب فيه يكون فعليّاً، وأنّ ظرف الواجب فيه هو الاستقبال، فيلزم تخلّف المعلول عن العلّة زماناً.

وبعبارة أُخرى: فكما أنّ الإيجاب، وهو الإرادة، لا ينفكّ عن المراد التكوينيّ، فكذلك الإرادة هنا فهي لا تنفكّ عمّا تتعلّق به.

ولكن قد أجاب عن هذا صاحب الكفاية(قدس سره) بأنّ الإرادة قابلة لأن تنفكّ عن المراد، ونمنع من امتناع انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد؛ فإنّ الإرادة كما تتعلّق بأمر حاليّ، فهي _ كذلك _ تتعلّق بأمر استقباليّ إذا كان المراد بعيد المسافة.

فمثلاً: إذا فُرض أنّ الشخص يريد السفر لأجل حصول المال، وأنّ هذا السفر يتوقّف على مقدّمات كثيرة محتاجة إلى زمان طويل، فحينمايهيّئ المسافر نفسه لتحصيل هذه المقدّمات، فتكون الإرادة قد تعلّقت بشيء غير قابل للتحصيل إلّا بعد حصول تلك المقدّمات، فإنّ السفر المتوقّف على تلك المقدّمات أيضاً إنّما هو لحصول ذي المقدّمة أي: المال. فهنا، تكون الإرادة منفكّةً عن المراد بعد ما كانت منوطةً بتحصيل

ص: 173

المقدّمات ومضيّ الزمان.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المقصود من تعريف الإرادة بأنّها عبارة عن: «الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد» _ الموهِم لامتناع تعلّقها بالمتأخّر زماناً؛ لامتناع تحريك العضلات نحوه _ ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعليّ، بل المراد منه تحديد مرتبة الشوق الذي يسمّى ﺑ «الإرادة»، وأنّه هو الحدّ الخاصّ الذي يستتبع التحريك شأناً، لا فعلاً؛ لإمكان أن يتعلّق الشوق فعلاً بأمر استقباليّ غير محتاج إلى تمهيد مقدّمة، ويكون الشوق المتعلّق به أقوى وآكد ممّا تعلّق بأمر فعليّ، بحيث يستتبع التحريك فعلاً.

وأيضاً: فلو سلّم عدم إمكان انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد، فحال الإرادة التشريعيّة لا يختلف عن التكوينيّة؛ إذ الطلب لابدّ وإن يتعلّق بما هو متأخّر، وذلك لأنّ الطلب والأمر إنّما يكون لجعل الداعي وإحداثه في نفس المكلّف نحو المأمور به.ولا يخفى: أنّ حدوث الداعي يتوقّف على بعض المقدّمات، كتصوّر العمل بما يترتّب على الإتيان به من مثوبة، وعلى مخالفته من عقوبة، وهذا ممّا لا يمكن أن يتحقّق إلّا بعد البعث بزمان، ولو كان قليلاً جدّاً، فالبعث يتعلّق بالأمر بالمتأخّر عنه دائماً، وإذا لم يستحل ذلك مع قِصَر الزمان، فلا يستحيل _ أيضاً _ مع طوله؛ وذلك لأنّ ملاك الاستحالة والإمكان لا يتخلّف فيه الحال بين قِصَر المدّة وطولها بعد انطباق الموضوع عليها،

ص: 174

وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعيّة، فإذا فرض أنّ الانفكاك ممكن، ولم ير العقل مانعاً فيه، فطول الزمان وقصره لا يوجب اختلاف الحال فيه، فتدبّر(1).

وأمّا ما قيل: من ظهور تعريف الإرادة في أنّها: عبارة عن «الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات»، وبناءً على هذا: فيمتنع انفكاك الإرادة عن المراد؛ إذ يمتنع تحريك العضلات نحو ما هو متأخّر زماناً.

ففيه: أنّه لو سلّمنا والتزمنا بعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد، ولكنّ حركة العضلات: تارةً تكون مقصودةً بالأصالة كشرب الماء ونحوه، وأُخرى تكون مرادةً تبعاً، بعدما كانت هناك مقدّمات خارجيّة للمراد، وإنّما لا تنفكّ الإرادة عن المراد لو كان المراد منحصراً فيالمقصود الأصليّ، فيكون التحريك هناك فعليّاً، وأمّا إذا كان المراد هو التبعيّ، فلا يجب التحريك الفعليّ هناك، ونمنع _ حينئذٍ _ من صحّة تعريف الإرادة بالتحريك الفعليّ للعضلات.

نعم، الإرادة عبارة عن التحريك الفعليّ للعضلات في ظرفه، وحين إيجاد المراد. وأمّا الإرادة فإنّما لا توجب التحريك إلى الشيء بالفعل، لا لقصورٍ فيها، بل من جهة الموضوع، فكما يمكن أن تتعلّق الإرادة بالأمر الفعليّ، فكذلك يمكن أن تتعلّق بأمر متأخّر.

ص: 175


1- راجع: كفاية الاُصول: ص 102.

ثمّ إنّه لا محالة: ينفكّ الوجوب عن متعلّقه زماناً، فإذا فرضنا أنّ الغرض من الحثّ هو إحداث الداعي، وأنّ الداعي إلى إيجاده يتوقّف على تصوّر الأمر وما يتوقّف عليه، وهذا يحتاج إلى زمانٍ ما، ولو كان في غاية القِصَر، مع أنّه لا تخصيص للدليل العقليّ، فإذا قلنا بعدم جواز الانفكاك، فلا فرق بين قِصَر الزمان وطوله، وكذا إذا قلنا بجواز الانفكاك؛ فإنّه لا فرق _ أيضاً _ بين قِصَر الزمان وطوله؛ لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان، كما تقدّم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ زمان الواجب وامتثاله متأخّر عن نفس زمان الوجوب، ولا يمكن الانبعاث في آن زمان البعث؛ لأنّ زمان الامتثال ينفكّ عن زمان الإنشاء بالضرورة، فجميع الواجبات _ إذاً _ معلّقة، بمعنى: كون ظرف امتثالها متأخّراً عن زمان فعليّة الوجوب، ففيالتشريعيّات، كالمركّبات الارتباطيّة، تتخلّل الآنات بين الوجوب والواجب؛ فإنّ وجوب الشيء فعليّ وحاليّ، والواجب يكون استقباليّاً.

وبكلمةٍ: فإنّ تأخّر زمان الواجب والامتثال عن نفس الوجوب ضروريّ، فلا يمكن الانبعاث في زمان البعث وفي آن الخطاب.

ولكن بناءً على هذا القول: فلابدّ أن نقول بعدم مشروعيّة الواجبات المضيّقة _ بناءً على قول المدّعي لجواز تأخّر زمان الامتثال عن نفس الوجوب _ مع أنّا نرى أنّ زمان الامتثال وزمان الوجوب فعليّ، ولابدّ للواجب أن يقع في تمام الظرف المضروب له، فإذا فُرِض تأخّر زمان

ص: 176

الامتثال عن الخطاب، ولو بآنٍ ولحظة، فإنّه يلزم عدم وقوع المقيّد في تمام وقته المحدّد له، وهذا خلف؛ لأنّ الواجب المضيّق هو أن يكون زمان الواجب بمقدار زمان الوجوب، فإذا قلنا بأنّ زمان الامتثال يجوز أن يتأخّر عن زمان الوجوب، يلزم خلوّ آنٍ من النهار عن الصوم؛ لأنّه _ على الفرض _ لم يتحقّق الصوم في آن طلوع الفجر، ومن المعلوم: أنّ خلوّ آنٍ من النهار عن نيّة الصوم مبطل له، والالتزام بهذا الكلام موجب للغويّة تشريع الحكم في المضيّقات، وحينئذٍ: فلا مناص من القول بوحدة زمان الواجب والوجوب؛ فإنّ فعليّة الوجوب يتوقّف على جميع ما أُنيط به من القيود.وبعدما عرفنا أنّ الأحكام الشرعيّة مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، وأنّ معنى القضيّة الحقيقيّة _ كما سبق مراراً _ هو أخذ العنوان المأخوذ مرآةً لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم، فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود، بلا فرق بين القيود الاختياريّة وغيرها، كالبلوغ والعقل والزمان والقدرة، وإنشاء هذه القضيّة يكون أزليّاً، وأمّا فعليّتها فتكون مقيّدةً بوجود الموضوع مع جميع قيودها؛ إذ إنّ نسبة الموضوع إلى الحكم هي كنسبة العلّة إلى المعلول، فكما لا يمكن تخلّف المعلول عن علّته، فكذلك الحكم لا يمكن تخلّفه عن موضوعه، بلا فرق بين أن يكون تكليفيّاً، كوجود الصلاة المترتّبة على البلوغ والعقل وغيرهما، أم وضعيّاً، كالملكيّة المترتّبة على الإيجاب والقبول.

ص: 177

إذاً: فكما أنّه يشترط وجود باقي القيود _ غير الوقت _ قبل فعليّة الواجب، فكذلك بالنسبة إلى الوقت، فلا يمكن أن يتقدّم الوجوب عليه _ هو أيضاً _ ؛ لأنّه لا فرق بين القيود، فالكلّ مشترك في أخذه قيداً للموضوع كما قلنا في الحجّ؛ فإنّ القيود كلّها ترجع إلى الموضوع، وهو (حجّ أيّها المستطيع)؛ لأنّ الملاك في جميعها واحد.فمثلاً:

لو قلنا بأنّ الاستطاعة شرط في وجوب الحجّ، لمكان أنّ الموضوع مقيّد بها، فالوقت _ أيضاً _ يكون شرطاً فيه، لوجود نفس الملاك فيه، وإذا فرضناه كذلك فلا يمكن أن يقيّد الواجب به؛ لعدم إمكان تعلّق الخطاب به؛ لأنّه من البديهيّ اعتبار القدرة في متعلّق الخطاب، فلابدّ _ لذلك _ من أن يكون مقيّداً للوجوب، وأن يكون منوطاً ومشروطاً به.

وبعبارة أُخرى: فلا مائز بين الوقت وسائر القيود حتّى يفرض بأنّ التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطاً بها، وبالنسبة إلى الزمان يكون مطلقاً.

فإن كان لمكان تقدّم الإنشاء عليه؛ فإنّ الإنشاء متقدّم على جميع القيود؛ لأنّه أزليّ.

وإن كان لجهة عدم دخله في مصلحة الوجوب، وإنّما يكون له دخل في مصلحة الواجب، ففيه: أنّه بعدما أُخذ الموضوع مفروض الوجود، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة، فهذا _ أي: دخله في مصلحة

ص: 178

الوجوب _ ممّا لا يضرّ بالمقام، فلا يعقل أن يتقدّم التكليف عليه؛ لأنّ معناه: أنّ التكليف بالنسبة إليه مطلق، وهذا مستلزم للمحال؛ لأنّه يلزم تخلّف الحكم عن موضوعه، وقد ذكرنا أنّ تخلّف المعلول عن العلّة، كتخلّف الحكم عن موضوعه، محال، فلا يمكن أن يتقدّم الحكم علىالموضوع، ولا أن يتأخّر عنه، بل لابدّ أن يكون زمان الوجوب والواجب واحداً.

وقد استشكل في ذلك بعض المحقّقين المعاصرين)، بقوله:

«وظنّي:

أنّ الذي أوقعه في الاشتباه هو تخيّل أنّ الأمر بالمقيّد أمر بنفس القيد، فتخيّل أنّ الشيء الخارج عن تحت الاختيار والحاصل بنفسه كالوقت كيف يكون واجباً ويقع تحت البعث؟! وقد مرّ أنّ الأمر بالمقيّد ليس أمراً بنفس القيد، وإلّا، لم يبقَ فرق بين الجزء والشرط، بل أمر بالتقيّد، وقد تقدّم أنّ البعث إلى الشيء لا يتجاوز عمّا تعلّق به، وذات القيد خارج، والتقيّد داخل، وإيجاد القيد، وإن كان أمراً غير اختياريّ، كالزمان والسماء، إلّا أنّ إيجاد الصلاة تحت السماء مقدور، وإتيانها في وقته المزبور، لا قبله ولا بعده، أمر ممكن، فلو فرضنا أنّ القيد سيوجد في ظرفه، أو يمكن له الإيجاد في وعائه، يصير الواجب بالنسبة إليه مطلقاً، لا مشروطاً. فاتّضح: صحّة تقسيم الواجب المطلق إلى المعلّق والمنجّز»(1).

ص: 179


1- تهذيب الاُصول 1: 185_ 186.

وفيما ذكره(قدس سره) مواضع للنظر، إذ نقول:أوّلاً: إنّ الأمر يَرِد على نفس المشروط؛ لأنّ الأوامر تابعة للمصالح والمفاسد، والتقييد ليس بشيء حتّى يرد الأمر عليه، فبما أنّ الزمان ظرف، ففيه المصلحة، ولذا، فلو جيء بالحجّ في غير وقته فليس فيه أيّ مصلحة. فالمقيّد _ إذاً _ يرد تحت الأمر.

وثانياً: ما قاله: من أنّ هناك فرقاً بين الجزء والشرط، وأنّه إذا قلنا بذلك لم يبقَ فرق بين الجزء والشرط، فنقول: إذا ورد ذلك فليكن، وهو كما ورد من أنّ «الصلاة ثلاثة أثلاثٍ: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»(1)، وأمّا تفريقهم بين الشرط والجزء، فما أنزل اﷲ به من سلطان، بل نقول: الجزء قسمان: جزء خارجيّ وجزء داخليّ.

وثالثاً: ما مثّل به من الزمان والسماء، في غير محلّه؛ فإنّ إيجاد الصلاة تحت السماء لا تكون السماء معه دخيلةً في المصلحة، وأمّا الزمان، فإذا كان دخيلاً، فالكلام هو الكلام. ثمّ ما قاله(قدس سره) من أنّ إتيانه في وقته المزبور، لا قبله ولا بعده، أمر ممكن، فلو فرضنا أنّ القيد سيوجد في ظرفه أو يمكن له الإيجاد في وعائه، فيصير الواجب بالنسبة إليه مطلقاً، لا مشروطاً، فأنت ترى أنّه إذا لم يمكن الإتيان بهإلّا في ذلك الزمان فكيف يصبح مطلقاً بالنسبة إليه، إذاً: فما ذكره من أنّ تقسيم الواجب إلى

ص: 180


1- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح 1.

المعلّق والمنجّز صحيح، فغير تامّ.

وقد استدلّ _ أوّلاً _ على الواجب المعلّق:

بأنّه لابدّ من الالتزام بالواجب المعلّق في الواجبات الارتباطيّة، كالصلاة والصوم؛ فإنّ وجوب الجزء الأوّل من الصلاة يكون معلّقاً على حصول سائر الأجزاء، مع أنّ وجوب الجزء الأوّل فعليّ، وشرطه _ وهو الجزء الوسط والأخير _ متأخّر، والالتزام بأنّ الواجبات التدريجيّة تصير فعليّةً تدريجيّاً، خلاف الوجدان.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعدما ذكرناه من أنّ أجزاء الواجبات استقلاليّة ضمنيّة، فتكون الواجبات التدريجيّة تدريجيّة الحصول، بل يمكن ورود الإشكال بالنسبة إلى جميع الواجبات؛ بداهة أنّ كلّ خطاب مشروط بحياة المأمور إلى وقت إكمال العمل، وإلّا، فمجرّد إدراك جزء من الوقت غير كافٍ في تحقّق الوجوب، وفعليّة صلاة الظهر _ مثلاً _ منوطة بأن يدرك المكلّف أربع ركعات من أوّل الوقت بالنسبة إلى زمان يصبح وجوب العصر فعليّاً «إلاّ أنّ هذه قبل هذه».

والجواب عن هذا _ بعد فرض محاليّة الواجب المعلّق، والقول باستحالة الواجب المشروط والشرط المتأخّر _: أنّ الدخيل في الفعليّةهو عنوان التعقّب الذي هو مقارن للوجوب، لا نفس ما ينتزع عنه عنوان التعقّب.

ص: 181

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) بقوله:

«ولكن يمكن أن يقال: أمّا بالنسبة إلى الاُمور التدريجيّة: فالإرادة المحرّكة للعضلات نحو أوّل جزء منها ليست محرّكةً نحو الجزء باعتبار أنّه جزء المراد، بل باعتبار أنّه أوّل وجود المراد، والشروع في إيجاد المراد»(1).

فغير تامّ، بعد ما ذكرناه من أنّها واجبات استقلاليّة ضمنيّة، وليس وجوبها _ أي: وجوب الأجزاء _ باعتبار أنّه أوّل وجود المراد والشروع في المراد كما ذكره(قدس سره).

وقد استدلّ له ثانياً:

بأنّه: لو لم يمكن هذا القسم من الواجب، فيلزم جواز تفويت المقدّمات، والنتيجة هي: تفويت الواجب الذي هومتوقّف عليها، أي: لا يجب إتيانه قبل الموسم في الحجّ _ مثلاً _؛ فإنّ الحجّ لو لم يكن واجباً بغير الوجوب المعلّق لم يكن وجه لوجوب المسير؛ إذ إنّ وجوب المقدّمة متوقّف على وجوب ذيها، والمفروض: عدم وجوبذي المقدّمة قبل الوقت، فيلزم عدم وجوب المقدّمات المفوّتة وأنّه يجوز تركها، وهذا يؤدّي إلى ترك الواجب، مع أنّه لا يجوز تفويت الواجب.

فالنتيجة: أنّ التالي باطل والمقدّم مثله، فمع عدم جواز ترك المقدّمات

ص: 182


1- منتهى الاُصول: 1: 171.

يكشف عن فعليّة وجوب ذيها قبل الوقت، وهذا هو معنى الواجب المعلّق.

واستدلّ له ثالثاً:

بأنّه: لو لم نقل بالواجب المعلّق، ففي مثل وجوب الغسل على المكلّف ليلاً لصوم يوم غد؛ فإنّه لولا القول بالوجوب فعلاً، فكيف يمكن الالتزام بوجوب الغسل في اللّيل، مع أنّ الصوم غير واجب عليه إلّا بعد طلوع الفجر؟!

واستدلّ له رابعاً:

بأنّه: لولا فعليّة الوجوب، فكيف _ إذاً _ يحكم بوجوب التعلّم قبل دخول وقت الواجب، كوجوب تعلّم أحكام الصلاة قبل حصول وقتها، فإنّ الصلاة _ مثلاً _ إذا لم تكن واجبةً قبل دخول وقتها، لم يكن تعلّم أحكامها واجباً.

واستدلّ له خامساً:بأنّه: لولا وجوب الواجب المعلّق، فكيف يجب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحجّ؟!

واستدلّ له سادساً:

بأنّ استحالة الواجب المعلّق لو كانت، فإنّما هي من جهة انفكاك الفعليّة عن الانبعاث، فبناءً على هذا: لابدّ من إنكار الواجب الموسّع؛ لأنّه يجوز إتيانه في آخر الوقت، فتنفكّ الفعليّة عن الانبعاث في أوّل الوقت ووسطه.

ص: 183

واستدلّ له سابعاً:

بأنّه: كيف يجب الحكم بحفظ الماء قبل الوقت وبعدم جواز إراقته إذا علم عدم تمكّنه من الطهارة المائيّة بعد دخول الوقت؟!

ولكن بالنسبة إلى الدليل السادس نقول: لو فرضنا عدم إمكان الواجب المعلّق، فلا يلزم من ذلك عدم إمكان الواجب الموسّع، فإنّ الصلاة في أوّل الوقت تكون مصداقاً للواجب، ولكنّ الترخيص في بعض أجزاء الوقت جائز، والإتيان به في الجزء الأخير عقليّ، نظير التخيير الشرعيّ.

وقد تصدّى صاحب الكفاية(قدس سره) إلى تصحيح الفتوى بالوجوب هنا بوجوه ثلاثة:الوجه الأوّل: الالتزام بالواجب المعلّق في هذه الموارد. فيصحّ أن نحكم بوجوب المقدّمة المفوّتة قبل الوقت، وقبل فعليّة وجوب ذي المقدّمة.

والوجه الثاني: الالتزام بالوجوب المشروط بالشرط المتأخّر، فإذا علم بحصوله في وقته وظرفه يعلم بفعليّة الحكم فعلاً قبل حصول الشرط، فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة.

فبناءً على كلا الوجهين: لا يكون وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، بل يلزم الإتيان بالمقدّمة قبل الإتيان بذيها، وهذا ليس بمحذور.

والوجه الثالث: الالتزام بهذه المقدّمات بالوجوب النفسيّ التهيّئيّ، وذلك بعدما عُلِم من عدم سبق وجوب ذي المقدّمة؛ إمّا لعدم إمكانه

ص: 184

وعدم تصوّره ثبوتاً، أو لعدم مساعدة الدليل عليه؛ فإنّه لا محيص عن الالتزام بذلك؛ إذ الوجوب الغيريّ محال؛ لعدم وجوب ذي المقدّمة، فيلتزم بالوجوب النفسيّ، غاية الأمر: أنّه ليس لغرضٍ في نفس المقدّمة، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيّؤ للإتيان به في ظرفه(1).وقد استشكل المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) في الوجه الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) في جواب الإشكال:

بأنّ التخلّص منه ليس بالالتزام بالواجب المعلّق؛ لأنّه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخّر ما لم يلتزم بتأخّر زمان الواجب، وذلك ببيان: أنّ الغرض تصحيح وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها، فلابدّ من فرض تأخّر زمان الواجب وتقيّده بوقت معيّن متأخّر، فالالتزام بالشرط المتأخّر الملازم لفعليّة الوجوب المصحّح لوجوب المقدّمة فعلاً إنّما يتعقّل بناءً على الالتزام بالواجب المعلّق، فحاليّة الوجوب وفعليّته لتحقّق شرطه في ظرفه لا تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلّق، لكون المفروض تأخّر زمان الواجب عن زمان وجوبه(2).

وبالجملة: فالواجب بحسب الفرض مقيّد بزمان معيّن، فالالتزام بفعليّة الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدّماته التزام بالواجب المعلّق

ص: 185


1- كفاية الاُصول: ص 105.
2- نهاية الدراية 1: 357.

أيضاً؛ لأنّه التزام بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب، فلا محيص عن الالتزام به، وان التزم باشتراط الوجوب بالشرط المتأخّر وحصول الشرط في ظرفه.وقد يمكن المناقشة فيه: بأنّ دفع الإشكال المزبور عن تلك الموارد وما هو على شاكلتها لا يتوقّف على الالتزام بالواجب التعليقيّ؛ إذ كما يمكن دفعها بالالتزام به، يمكن دفعه _ كذلك _ بالقول بوجوبها وجوباً نفسيّاً، لكن لا لأجل مصلحة في نفسها، بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها، فيكون وجوبها للغير، لا بالغير(1).

ولكن يردّ عليه: بتعدّد العقاب، لو قلنا بالشرط المتأخّر، أي: أنّ الوجوب يكون مشروطاً بالشرط المتأخّر، أو الوجوب الكاشف عن تماميّة الملاك بعدما حكم العقل بوجوب تحصيل القدرة قبل حصول الشرط وقبل مجيء زمانه، وبوجوب حفظها بعد دخول الوقت؛ لعدم القدرة بعد ذلك على تحصيلها، ونستكشف من هذا: الوجوب الشرعيّ بقاعدة الملازمة، وهذا الوجوب، وإن كان نفسيّاً، إلّا أنّه لا يمكن أن يكون ترشّحيّاً، لعدم وجوب ذي المقدّمة بعد على الفرض.

ولكنّ هذا الجعل ليس لملاك في نفسه، بل لملاك في الغير، أي: في ذي المقدّمة، بمعنى: أنّ ملاك ذي المقدّمة لا يمكن تحصيله إلّا بجعلين،

ص: 186


1- انظر: محاضرات في الاُصول 2: 355.

لا بجعلٍ واحد، وهذان الجعلان مسبّبان عن ملاك واحد، ويسمّى ﺑ «متمّم الجعل».فيمكن القول: بوجوب هذه المقدّمات مع عدم وجوب ذيها فعلاً، ومع الإغماض عن ذلك، فيمكن الالتزام بحكم العقل بلزوم الإتيان بها؛ فإنّ العقل حاكم بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، كحكمه بقبح المخالفة الفعليّة، فبعد العلم بأنّ الحجّ في ظرفه ذو ملاك ملزم، وأنّه لو لم يأتِ بمقدّماته بالفعل لفات ذلك الملاك، فالعقل يستقلّ بلزوم الإتيان بتلك المقدّمات، ولو قبل شهر أو أكثر.

ثمّ إنّه(قدس سره) فرّق بين الواجبات:

ففي بعضها: أيّد ما التزم به صاحب الفصول(قدس سره) من كون الوجوب فيه فعليّاً والواجب استقباليّاً، كمسألة الحجّ والصوم(1)، فإنّ الظاهر من آيتيهما _ ﴿وَل__ِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾(2)، و﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(3) _ هو فعليّة وجوب الحجّ عند فعليّة الاستطاعة، وفعليّة وجوب الصوم عند حضور الشهر.وأمّا بالنسبة إلى الصلوات الخمس، فقد ذكر) أنّ الأدلّة لا تساعد على ذلك؛ فإنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور

ص: 187


1- محاضرات في الاُصول: 2: 355_ 356.
2- آل عمران: 97.
3- البقرة: 185.

والصلاة»(1)، هو تحقّق الوجوب بعد الزوال.

ولكنّ الحق: أنّه لا مجال لهذا التفصيل؛ لأنّه لو قلنا بالاستحالة عقلاً فهي غير قابلةٍ للتفكيك، وبعبارة اُخرى: فإن أمكن القول بوجوب الواجب المعلّق، فبها، وأمّا لو قلنا بالاستحالة، فلابدّ من رفع اليد عن ظواهر الأدلّة التي دلّت على ذلك، ولكن مع ذلك، يمكن المساعدة عليه بالدليل.

فلندخل هنا في صلب الموضوع، وهو أنّ المقدّمات هل يمكن أن تتّصف بالوجوب الغيريّ قبل وجود شرط الواجب، مع أنّ الواجب مشروط بالنسبة إليه أم لا؟

بعد الفراغ من لزوم الإتيان بهذه المقدّمات قبل الإتيان بالواجب في وقته بحيث لو لم يأتِ بها لفات الواجب في ظرفه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ النتيجة هي لزوم الإتيان بتمام مقدّمات الواجب المعلّق قبل زمانه أو التحفّظ عليها إذا حصلت قبل وقت الواجب مع علم المكلّف بعدم تمكّنه منها في وقته. ولكن بعدما فرضنا أنّ هذهالمقدّمات لا يمكن أن تتّصف بالوجوب الغيريّ قبل وجوب الشرط الذي يكون الواجب مشروطاً بالنسبة إليه، وإلّا، يلزم تحقّق المعلول قبل تحقّق علّته.

وأمّا لو فرضنا إمكان الواجب المعلّق ولكن لم يساعد الدليل على

ص: 188


1- وسائل الشيعة 1: 372، الباب 4 من أبواب الوضوء، ح1.

وقوعه، كوجوب تعلّم الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ، فلو قلنا بعدم وجوبه شرعاً عليهم _ كما هو الصحيح _ فلازمه: جواز تفويت الصلاة أوّل بلوغهم مقداراً من الزمن أو وجوب التعلّم قبل البلوغ بمقدار من الزمن يتمكّنون من التعلّم فيه.

ولا يمكن أن نقول: بأنّ التعلّم واجب في ذلك الظرف؛ لأنّه لابدّ من القول بسبق وجوب الصلاة على البلوغ، حتى لو فرضنا إمكان الالتزام بالواجب المعلّق؛ فإنّه غير مفيد هنا؛ لأنّه لا تكليف على الصبيان قبل البلوغ.

والحاصل: أنّه يمكن رفع الإشكال عن المقدّمات المفوّتة عن أمثال تلك الموارد _ بعد بيان الأقوال في المسألة _ بما بيّنّاه من أنّه على فرض عدم إمكان الواجب المعلّق يمكن الالتزام بوجوب تلك المقدّمات، ولا ملازمة بين المسألتين.

وإنّما يقع الكلام في كيفيّة ذلك الواجب وأنّه عقليّ أو شرعيّ؟!

ويقع الكلام هنا: تارةً في وجوب التعلّم، واُخرى في غيره.

أمّا الكلام في وجوب التعلّم:

فقد يقال: بوجوب التعلّم؛ لأنّه بعد العلم بتماميّة ملاك الواجب في ظرفه، وبأنّ ترك المقدّمة موجب لترك الواجب في ظرفه، فلابدّ من الإتيان بالمقدّمة في أوّل أزمنة الإمكان، لغرض تحصيل القدرة على

ص: 189

إتيان الواجب في ظرفه، وهذا الوجوب ليس من قبيل الفعليّ الترشّحي؛ لأنّ ذا المقدّمة لم يكن واجباً بالفعل _ لعدم حصول شرطه _ حتّى يترشّح الوجوب منه إلى المقدّمة، بل إنّما هو من ناحية أنّ ترك المقدّمة موجب لترك الملاك الملزم في ظرفه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ ترك المقدّمة يوجب العجز عن امتثال الأحكام في ظرفه.

ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى التعلّم بناءً على إمكان دخول هذه المسألة في المقدّمات المفوّتة حتّى تكون من المقدّمات الوجوديّة للواجب، أي: من المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود الواجب.

وأمّا إذا قلنا بأنّه، وإن لم يتعلّم وبقي على جهله، ولكن مع ذلك، فيمكنه الاحتياط حال الجهل، وقلنا بصحّة الاحتياط مع إمكان الامتثال التفصيليّ، فلا يكون الجهل سبباً موجباً لعجزه حينئذٍ.وبعبارة أُخرى: يمكن أن يقال: بعدم إمكان إرجاع هذه المسألة إلى مسألة المقدّمات المفوّتة؛ لأنّ مرجع تلك المسألة إلى مسألة القدرة، وباب التعلّم أجنبيّ عن ذلك؛ لأنّه وإن فرِض جهله بالحكم، إلّا أنّ ذلك لا يستلزم سلب قدرته؛ حيث إنّ الأحكام مشتركة بين الجاهل والعالم. فلا يكون تركه _ أي: ترك وجوب التعلّم _، من باب المقدّمات المفوّتة حتّى يدخل في قاعدة: «أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»، وحتّى يكون ملاكه ملاك تلك القاعدة.

ص: 190

بل الملاك في وجوب التعلّم هو عين ملاك الوجوب في الشبهات الحكميّة، فكما أنّ لكلّ من المولى والعبد وظيفةً هناك ولابدّ لكلٍّ منهما من العمل بها، ووظيفة المولى: إرسال الرسال وإنزال الكتب وجعل الأحكام، ووظيفة العبد: الفحص عمّا يريده المولى منه؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم العقاب عليه عند تركه للوظيفة وإخلاله بها، كما أنّ العقل يحكم بلزوم النظر في معجزة من يدّعي النبوّة، فإذا لم يكن النظر واجباً لم يكن للنبيّ- أن يحتجّ عليه لعدم تصديقه إيّاه؛ لأنّه يمكن للعبد _ حينئذٍ _ أن يحتجّ ويقول: ما كنت أعلم بأنّك نبيّ، وما كان النظر واجباً عليّ.

فتحصّل: أنّه في كلا الموردين يحكم العقل بالعمل بالوظيفة، أي: وجوب النظر في المعجزة وتعلّم أحكام الشرع، كما أنّه مع عدمالتمكّن من الاحتياط، أو مع القول بأنّ التمييز شرط في العبادات وعدم صحّة الاحتياط مع إمكان العلم التفصيليّ فيدخل في المقدّمات المفوّتة، فيجب التعلّم بحكم العقل بعد علمه الإجماليّ بالأحكام الموجب للفحص عنها حتّى يحصّل المؤمّن من تبعاتها.

مضافاً إلى ما ورد من الروايات الآمرة بوجوب التعلّم بقوله(علیه السلام): «إنّ اﷲ تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى

ص: 191

تعمل؟!»(1).

ولذا، احتمل بعض المحقّقين وجوب التعلّم نفسيّاً، كما عن المدارك(2).

ومن هنا استشكل المحقّق النائيني(قدس سره) في التفصّي بهما؛ لما عرفت من التزامه باستحالة كلٍّ من الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، كما أضاف إلى وجه الاستشكال:

أنّ الالتزام بهما لا ينفع في إثبات إيجاب التعلّم قبل البلوغ وقبل الاستطاعة؛ لعدم تحقّق التكليف بذي المقدّمة قبلهما جزماً، مع أنّهلو

التزم بتحقّق الوجوب قبلهما فلازمه: إيجاب سائر المقدّمات لا خصوص التعلّم، مع أنّه لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحجّ على من يعلم بتحقّق الاستطاعة فيما بعد. فما هو الفرق بينه وبين سائر المقدّمات الوجوديّة؟(3).

قد

يقال: يجب التعلّم بحكم العقل حتّى بالنسبة إلى الصبيّ المميّز؛ لأنّه لولا وجوب التعلّم عليه عقلاً، لفاته العمل في أوائل بلوغه، ولا إشكال في وجوب الصلاة عليه أوّل البلوغ، إذاً: فيجب عليه تعلّم أحكامها قبله.

ص: 192


1- بحار الأنوار 1: 178.
2- انظر: عناية الاُصول 4: 282، ومنتهى الدراية 6: 406.
3- راجع: أجود التقريرات 1: 149.

وما يقال: من أنّ الأحكام مشروطة بالبلوغ، فليس المراد أنّ جميع هذه الأحكام مشروطة به، حتى أمثال هذه الأحكام التي يستقلّ العقل بها؛ فإنّ هذه غير مشروطةٍ بالبلوغ، بل يكفي فيها التمييز، فيجب تعلّم المسائل قبل البلوغ بحكم العقل.

ثمّ هل يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ، نفسيّاً كان أو غيره، من هذا الحكم وبقاعدة الملازمة أم لا؟اختار المحقّق النائيني(قدس سره) ذلك(1)، بدعوى: أنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة _ بقاعدة الملازمة _ دليل على أنّ الشارع أيضاً أوجب ذلك حفظاً للغرض، فيكون ذلك الجعل متمّماً للجعل الأوّل.

والصحيح: أنّه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ منه؛ فإنّ العقل بنفسه يحكم باستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة، حيث يرى عدم جواز تفويت الغرض في وقته، فحكم العقل كافٍ في لزوم حركة العضلات، ومن هذا الحكم ينبعث لزوم الإتيان بالمقدّمات، كما هو الحال في مطلق موارد حكمه بذلك.

وفي مقام الإثبات أيضاً، إنّما تكون تلك الملازمة إذا كان العقل مدركاً لملاك الحكم، من المصلحة والمفسدة، ومن أين له السبيل إلى ذلك؟!

فلا تحتاج المسألة إلى مورد الأمر المولويّ، ولو فرِض وروده من

ص: 193


1- انظر: أجود التقريرات 1: 157.

الشارع، فهو إنّما يكون إرشاداً إلى حكم العقل، وعليه: فالتعلّم واجبٌ بحكم العقل، و يقبح العقاب على تركه إلّا إذا كان هناك مؤمّن شرعيّ أو عقليّ، وليس وجوبه نفسيّاً _ خلافاً لصاحب المدارك(قدس سره) _؛ لأنّه بحاجةٍ إلى دليلٍ حتّى يكون العقاب على تركه شرعاً.والعجب

من الشيخ) فإنّه وإن كان يبني على وجوب التعلّم عقلاً لا شرعاً، ومع ذلك، فقد حكم بفسق تارك تعلّم مسائل الشكّ والسهو ولو لم يتّفق الشكّ والسهو وفيها.

ثمّ إنّه لو ترك التعلّم وعلم، أو اطمأنّ، بالابتلاء وعدم التمكّن من التعلّم في ظرفه، أو احتمل الابتلاء، ففي هذه الصورة: تارةً تكون المسألة ممّا يبتلى بها غالباً كمسائل الشكّ في الصلاة، فلا إشكال في وجوب التعلّم في هذه الصورة بعد علمه بتوجّه التكليف إليه في ظرفه، بلا فرق بين أن تكون المسألة ممّا تعمّ بها البلوى أم لا.

وكذا في صورة الاحتمال بالابتلاء؛ لأنّه يكفي في حكم العقل بذلك كون الشخص واقعاً في معرض الابتلاء، ولو لم يعلم بذلك؛ لأنّ العقل حينما يأمر العبد بأنّ يعمل بالوظيفة، فيكفي في حكمه مجرّد الاحتمال بأنّه يقع في معرض ذلك، ومن هنا حكم العقل بوجوب تعلّم مسائل الشكّ والسهو، ولو لم يعلم المكلّف بابتلائه بهما.

نعم، في صورة العلم بعدم الابتلاء، فلا يجب.

وأمّا في الصورة الثالثة، أي: فيما لم تكن المسألة عامّة البلوى،

ص: 194

فلا تجب، ولعلّه لجريان أصالة عدم الابتلاء؛ فإنّ هذا الأصل يكون سبباً لدفع احتمال الابتلاء الذي هو موضوع وجوب التعلّم؛ فإنّالمكلّف في هذا الفرض ليس في محلّ الابتلاء، وإن كان يحتمله، ولكن هذا الابتلاء يُدفع بالأصل أي: استصحاب عدم الابتلاء.

وأمّا إذا فرض بأنّ المسألة ممّا يبتلى بها غالباً، وحكم العقل بلزوم التعلّم، فلا تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة؛ إذ ليس موضوع حكمه الابتلاء الواقعيّ حتّى يدفع بالأصل.

بل يمكن أن يقال: بعدم جريان العلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد جزماً، أي: في الموارد التي يكثر فيها الابتلاء، إذاً: فموضوع حكم العقل هو كونه في معرض الابتلاء كثيراً، ولا يمكن ارتفاعه باستصحاب عدم الابتلاء.

أمّا عدم كونه نفسيّاً مستقلّاً، وهو وجود الملاك في التعلّم ووجوبه نفسيّاً، ففيه: أنّه ليس في التعلّم أيّ ملاك، نعم، الملاك الموجود فيه هو الوصول إلى ملاكات الخطابات الواقعيّة.

وأمّا عدم كونه نفسيّاً بالمعنى الآخر، أي: لجهة كونه طريقاً إلى تحصيل الواجبات الواقعيّة، فإنّه مع ذلك لا نحتاج إلى القول بالوجوب النفسيّ في التعلّم مع حكم العقل بوجوبه. ولو فُرِض وضع حكمٍ من الشارع، فإنّما يكون إرشاديّاً.

إن قلت: إنّه بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع يمكن

ص: 195

إثبات الحكم الشرعيّ للتعلّم.قلنا: إنّ استكشاف الحكم الشرعيّ من العقل إنّما يتمّ فيما إذا كان الحكم العقليّ واقعاً في سلسلة علل الأحكام، أي: بأن يكون كاشفاً عن المصالح والمفاسد، لا ما إذا كان في سلسلة المعلولات كما فيما نحن فيه، بل مقامنا من باب: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1)، وهو حكم إرشاديّ محض.

ثمّ إنّ وجوب التعلّم على نحو الطريقيّة إنّما يتمّ فيما إذا كان مؤدّى الواجب عين الواقع عند المصادفة، فقولنا _ مثلاً _ : (قبول خبر الثقة لازم) فهو طريقيّ، ومعناه: أن مؤدّاه عين الواقع عند المصادفة. بخلاف المقام؛ فإنّ وجوب تعلّم أجزاء الصلاة ليس عين الصلاة؛ فإنّ تعلّم الشيء ليس نفس الشيء.

وأيضاً: فلو كان وجوبه شرعيّاً لكان جواب العبد حينما يقول له الباري: هلّا عملت، جواباً صحيحاً، إلّا أن يقال: بأنّ الوجوب وجوب نفسيّ تهيّئيّ، وقد مرّ أنّ الوجوب هنا ليس إلّا إرشاديّاً محضاً.

وأمّا الكلام في غير التعلّم

اشارة

وهو المقدّمات المفوّتة التي لو جيء بها لكان المكلّف قادراً على

ص: 196


1- النساء: 59.

إتيان الواجب في ظرفه، والتي يكون المكلّف غير قادر على الإتيان لولاها، كتحصيل الماء أو حفظ القدرة الذي يتوقّف الواجب عليها.

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان امور:

الأمر الأوّل: الفرق بين القدرة العقليّة والشرعيّة:

وذلك من وجهين:

أوّلهما: أنّ القدرة العقليّة هي التي لم تؤخذ في لسان الدليل، بل العقل يحكم بقبح تكليف العاجز من دون أن يعتبرها الشارع. وأمّا القدرة الشرعيّة، فهي ما اُخذت في لسان الدليل.

والثاني: أنّ للقدرة الشرعيّة دخلاً في ملاك الحكم، دون العقليّة، فإنّها دخيلة في حسن الخطاب.

الأمر الثاني: في بيان قاعدة«الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»:

اشارة

لا يخفى: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وأمّا خطاباً، فلا؛ لأنّ الخطاب يتعلّق بالمقدور، والفعل غير مقدور للمكلّف وخارج عن اختياره، فالخطاب إليه لغو محض.

أمّا عقابه بعد أن أجبر نفسه باختياره وسلب قدرته عليه، فلا مانع منه، فلا قبح فيه؛ لأنّ هذا الاضطرار منتهٍ إلى اختياره، فلا يحكم العقل بقبح هذا العقاب أبداً، فلو ألقى نفسه من شاهق، أو دخل الأرض المغصوبة

ص: 197

ولم يتمكّن من الخروج، فإنّ الخطاب والتكليف عنه ساقط حيث كان خارجاً عن اختياره، وأمّا عقابه، فلا.

إذا عرفت هذا، فنقول:

كيف يمكن أن يقال بوجوب المقدّمات المفوّتة قبل حصول الواجب النفسيّ، كالغسل قبل الفجر على من وجب عليه صوم ذلك اليوم؟

وبعبارةٍ أُخرى: فكيف يعقل وجوب المقدّمة قبل ذيها، مع أنّ وجوبها إنّما يكون من آثار وجوب ذيها؟!

وقد اُجيب عن هذا السؤال:

بقاعدة «أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»؛ حيث إنّ المصلحة تكون للواجب النفسيّ، وإن لم يتّصف بها الواجب فعلاً، وقبل تحقّق شرطه، ومع ذلك، إذا علم المكلّف بأنّ شرطه يتحقّق في المستقبل، ويتّصف الفعل بالمصلحة، فهذا الاتّصاف يلزمه _ عقلاً _ بحفظ قدرته إلى وقت الامتثال، وتحصيل القدرة عليه، حيث لو لم يحفظ قدرته بالفعل لم يكن قادراً على إتيان الواجب في ظرفه، فعدم حفظها موجب لتفويت الواجب.

وهذا هو ديدن العقلاء؛ فإنّهم إذا علموا بأنّه يأتي عليهم زمان تكون فيه مصلحة لهم بإتيان بعض الاُمور، فإنّهم يحتفظون بتلك الوسائل التي يتمكّنون معها من تحصيل تلك المصلحة في ظرفها، حتّى إذا لم يكونوا واجدين لشيء منها قبل مجيء ذلك الزمان، سعوا في تحصيل ذلك.

ص: 198

وهكذا بالنسبة إلى المفاسد، فإنّهم يعملون على دفعها بتهيئة الأسباب لذلك، إذا علموا بأنّهم سوف يبتلون بها في المستقبل لدى تهاونهم في دفعها فعلاً.

فإذا كان شأن العقلاء كذلك بالنسبة إلى المصالح والمفاسد، فليكن، هو أيضاً، شأن المكلّفين _ وهم من العقلاء أيضاً _ في المصالح التييريد الشارع تحصيلها في ظرفه، بقاعدة الامتناع بالاختيار، وبقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع.

وقد يقال في ردّ الإشكال:

إنّ وجوب المقدّمة هنا وجوب نفسيّ تهيّئيّ، لأجل إمكان الامتثال لواجبٍ آخر في ظرفه، فلو أهمل المكلّف تهيئة المقدّمات وتعذّر عليه امتثال الواجب عليه في ظرفه، فإنّه يستحقّ العقاب؛ لأنّه في تقصيره فيما سبق، أوجب عدم تمكّنه من إتيان الواجب في ظرفه.

ولكن قد أُجيب عن هذه القاعدة:

بأنّها إنّما تتم فيما إذا كان التفويت عن تقصير، أي: فيما إذا تحقّق التكليف في حقّ المكلّف مع اجتماع الشرائط، ولكن قصّر المكلّف في تهيئة مقدّمات امتثاله حتّى امتنع عليه الامتثال فيما بعد؛ فإنّ امتناع امتثاله في ثاني أزمنته، وإن أوجب سقوط الخطاب بالنسبة إليه، لكن بما أنّه عصى ذلك الخطاب، وكان هذا العصيان باختياره، فهو يستحقّ العقاب.

وأمّا قبل وقت وجوب الواجب وفعليّته، فلو قصّر عن تحصيل

ص: 199

المقدّمات التي لو قام بتحصيلها قبل تحقّق وقت الخطاب لتمكّن من امتثال الواجب في ذاته، ولكن لو تساهل ولم يحصّلها حتّى عجزعن امتثال الواجب في ظرفه، فلا يكون المكلّف بتساهله هذا في تحصيل هذه المقدّمات مقصّراً من امتثال التكليف أصلاً.

أمّا بالنسبة إلى ذي المقدّمة: فلأنّه لم يتوجّه إليه خطابٌ في ظرفه؛ لعدم قدرته على الامتثال إلّا في ظرفه.

وأمّا

المقدّمة: فلأنّه لم يتحقّق تكليفٌ بها؛ لأنّه لم يرد تكليف بها، لا شرعاً؛ لأنّه معلوم، ولا عقلاً؛ لعدم وجود ملاكٍ فيها.

وقد يقال: بوجوب حفظ المقدّمات وتحصيلها؛ إذ قبح التكليف والخطاب إنّما يكون إذا كان المكلّف عاجزاً، والمفروض أنّه لم يكن بعاجزٍ، بل هو قادر، ولو بحفظ قدرته.

ولكن نقول: ما الدليل على وجوب حفظ هذه القدرة؟ فهل للعقل إيجاب حفظ المقدّمة وقبح تفويتها؟!

لا مجال للالتزام بذلك؛ لأنّ حفظ المقدّمات وتحصيلها وقبح تفويتها وحرمتها إنّما هو للتوصّل إلى ذي المقدّمة، والمفروض عدم الدليل على وجوب هذا الحفظ أو تحصيلها قبل الوقت.

فقبح التفويت أو وجوب التحصيل، إنّما يكون إذا كانت الإرادة والفعليّة والبعث إلى ذي المقدّمة موجودة، فحينئذ: يجب تحصيل المقدّمات؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، ولا دليل _ حينئذٍ _على

ص: 200

وجوب المقدّمة، لا شرعاً، كما هو المعلوم، ولا عقلاً، إلّا من جهة حكم العقل بحفظ المقدّمة بعد وجوب ذي المقدّمة.

مسلك صاحب الكفاية (رحمة الله) في حلّ الإشكال:

سلك صاحب الكفاية(قدس سره) طرقاً ثلاثة لدفع الإشكال المزبور:

الأوّل: هو ما ذكرناه، وهو قاعدة الامتناع بالاختيار.

والثاني: أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكّن من إيجاد الأمر على طبقه؛ لعدم التفاته، أو لغير ذلك، كما لو رأى العبد ابن سيّده في الحوض، بحيث لو تركه لغرق، ولم يكن سيّده حاضراً، فإنّه يجب إنقاذه، تحصيلاً لغرض مولاه؛ لأنّه يعلم أنّه لو كان سيّده حاضراً، لأوجب عليه إنقاذ ابنه.

نعم، لو كان المولى متمكّناً من الأمر، ولم يأمر، لم يجب على العبد تحصيل غرضه في هذه الحال؛ لأنّ عدم أمره مع تمكّنه منه، يكشف عن عدم إرادته تحصيل هذا الغرض، ولو كان ملزماً في نفسه.

ولكن قد عرفت أنّ الكلام في أنّ العقل هل يحكم في مسألتنا أم لا؟

والثالث: أنّ القدرة على العمل:تارةً: لا تكون دخيلة في الملاك، بل تكون شرطاً عقليّاً لتصحيح التكليف، وإلّا، فالملاك بدونها حاصل.

وأُخرى: تكون دخيلة في الملاك، فتكون شرطاً شرعيّاً، وهي في هذا

ص: 201

الفرض، تارةً: تكون دخيلة في الملاك مطلقاً، في أيّ ظرفٍ تحقّقت، وأُخرى: تكون دخيلة على تقديرٍ خاصّ وظرفٍ معيّن، لا مطلقاً. والثانية: تارةً: تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب، ولو قبل تحقّق زمان الواجب، وأُخرى: تكون دخيلة فيه بعد تحقّق زمان الواجب، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصّلة للملاك أصلاً.

فالاحتمالات أربعة:

أمّا الأوّل والثاني: فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدّمات في أوّل أزمنة الإمكان.

وأمّا الثالث: فيفرّق فيه بين المقدّمات المفوّتة قبل حصول شرط الوجوب، والمقدّمات المفوّتة بعد حصوله، فلا يحرم تفويتها على الأوّل، دون الثاني.

وأمّا الرابع، فلا يجب الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب(1).وفيه: أنّ هذه التقسيمات إنّما هي في مقام الثبوت والإمكان، والكلام إنّما هو في مقام الإثبات.

وأمّا الجواب عمّا قيل من أنّ الوجوب هنا نفسيّ تهيّئيّ، فنقول:

إنّ المصلحة الموجودة فيها نفسيّاً: هل هي مصلحة التهيّؤ لواجب آخر أم لا؟

ص: 202


1- انظر: كفاية الاُصول: 104_ 105، وأجود التقريرات 1: 150_ 152.

فإن كانت كذلك فهي عين مصلحة الوجوب الغيريّ، ويرد الإشكال فيه كما سبق.

وإن كانت مصلحة شيءٍ آخر فلا تكون مقدّمةً لها حينئذٍ.

إن قلت: مصلحته لشيء آخر، وإن استلزمت تلك المصلحة التهيّؤ.

قلنا: هذا، وإن كان أمراً ممكناً في مرحلة الثبوت، إلّا أنّه خلاف الظاهر في مرحلة الإثبات.

مع أنّه لا جدوى لهذا البحث إذا فرض أنّ المقدّمة قد ورد عليها الأمر من الشارع؛ فإنّه لابدّ من الإتيان بها حينئذٍ، ولا فرق بين أن تكون واجبةً بالوجوب النفسيّ أم الغيريّ. والكلام إنّما هو فيما إذا لم يرد دليل من الشارع، ولم يأتِ ظرف ذي المقدّمة حتّى يقال: بأنّه لابدّ من تحصيل المقدّمة؛ لأنّك تتمكّن من إتيان ذي المقدّمة بعد تحصيل المقدّمة قبله، والمقدور بالواسطة مقدور.نعم، في صورةٍ واحدة يجب تحصيل المقدّمة حتّى لو لم يأتِ زمان امتثال ذي المقدّمة، وهي: ما إذا كان الملاك في الواجب تامّاً، وتكون القدرة المأخوذة هي القدرة العقليّة، وغير دخيلة في الملاك، كما في حفظ بيضة الإسلام، فإنّه يعلم أنّه لو لم يقم بتحصيل المقدّمات، أو لم يحافظ على قدرته كذلك، لما تمكّن فيما بعد، فالعقل يحكم حينئذٍ بوجوب تحصيل المقدّمات أو حفظها لئلّا يفوت الملاك الملزم في ظرفه.

ص: 203

ولكن يمكن أن نلتزم بوجوب المقدّمة عقلاً على الإطلاق؛ لأنّ ترك المقدّمة يكون مؤدّىاً لتعجيز المكلّف عن التكليف في ظرفه، مع أنّ المقتضي موجود، والعقل يحكم بعدم جواز هذا الترك وقبحه، إذاً _ لا محالة

_ يحكم العقل بلزوم إتيان المقدّمة في أوّل أزمنة الإمكان لكي يتمكّن من الإتيان بالواجب في ظرفه وحصول القدرة عليه، وليس هذا الوجوب لأجل أنّ الترك يؤدّي إلى تفويت الغرض الملزم.

ومن هنا عرفت ما فيما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من أنّ «ترك هذه المقدّمات، وإن استلزم ترك الواجب في موطنه، إلّا أنّه لا قبح فيه، وذلك لأنّ القبيح أحد أمرين: إمّا مخالفة التكليف الفعليّ، والمفروضعدمه، أو تفويت الغرض الملزم، والفرض خلافه، فإذاً ما هو الموجب لقبحه؟!»(1).

وبعبارة أُخرى: فقد عرفت حكم العقل بقبح ترك المقدّمة، لا من ناحية أنّ تركها يؤدّي إلى ترك الواجب الفعليّ؛ لأنّ الواجب ليس بفعليّ، لا قبل الوقت، كما هو معلوم، ولا بعد الوقت، لعدم القدرة عليه حينئذٍ.

فإن قلت: إنّ الوضوء قبل الوقت غير واجب، بل قيل: إنّه غير مشروع، فمقدّماته، كتحصيل الماء، لابدّ أن لا تكون واجبةً هي أيضاً.

قلنا: إنّ وجوب المقدّمات كان من جهة التعجيز لو تركها، ولذا

ص: 204


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 363.

أفتى بعض الفقهاء بوجوب حفظ الماء الحاصل قبل الوقت ووجوب تحصيله لو لم يحصل بعد الوقت، ولا يلتزمون بوجوب الوضوء قبل الوقت للصلاة، بل يلتزمون بعدم مشروعيّته.

والفرق واضحٌ؛ لأنّ الوضوء قبل الوقت لا يتّصف بالمصلحة الغيريّة، فلا يمكن أن يؤتى به بعنوان الواجب الغيريّ، كما أنّ نفس الصلاة لا تتّصف بالمصلحة النفسيّة إلّا بعد دخول الوقت.وقد يُستشكل _ بناءً على هذا _ بأنّه لو توضأ قبل الوقت لغير الصلاة ولم ينقضه، فكيف تقولون بصحّة الصلاة بهذا الوضوء بعد الوقت؟!

ولكن يُردّ هذا الإشكال: بأنّنا نستكشف من اتفاق العلماء على عدم مشروعيّة الوضوء للصلاة قبل الوقت، والاتّفاق على صحّة الصلاة مع الوضوء الذي جيء به قبل الوقت لأجل غايةٍ أُخرى، نستكشف أنّ الذي لا يتصف بالغيريّة هو الأول.

أمّا الوضوء الذي يؤتى به لغاية مشروعة، فإذا استمرّت الطهارة إلى دخول الوقت، فإنّه يتصف بالمصلحة الغيريّة.

ولو كنّا نحن والقاعدة، لقلنا بالفرق الذي ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) بين تفويت القدرة قبل الوقت بجعل نفسه محدثاً اختياراً، بجماعٍ أو نحوه، مع عدم تمكّنه من الماء بعد الوقت، وبين تفويتها بإهراق الماء، فاختيار الجواز في الأول دون الثاني في غير محلّه.

إلاّ أنّه(قدس سره) اختار ذلك من جهة استناده إلى رواية صحيحة.

ص: 205

ولكنّ اُستاذنا الأعظم(قدس سره) ادّعى أنّا لا نرى ورود أيّ رواية في هذا الموضوع، فضلاً عن الرواية الصحيحة(1).وممّا

ذكرناه ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من أنّه لا يجب حفظ القدرة قبل الوقت، ولا تحصيلها، تبعاً للمحقّق النائيني(قدس سره)، في أنّ مورد قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار هو فيما إذا كان الخطاب موجّهاً إليه من قبل المولى، ففي فرض أنّ الامتثال يكون فعليّاً وواجباً، فلو أعجز العبد نفسه بسوء اختياره ولم يحصل على القدرة في ظرف لزوم الامتثال بسبب تعجيزه نفسه، فالقاعدة تشمله، وأمّا قبل وجود الخطاب وفعليّة التكليف فلا يجب تحصيل المقدّمة ولا حفظها ولا تشمله القاعدة المزبورة(2).

ولكنّ الحق: بما أنّه لا فرق في نظر العقل بين هاتين الحالتين _ أي: بين كون الخطاب موجوداً فعلاً، أو كون وجوده في المستقبل _ إذ في كلتا الحالتين يحكم بلزوم التحصيل أو حفظ القدرة، كما مثّل اُستاذنا المحقّق(قدس سره) للمورد بما إذا نزل ضيفاً عند شخص وكان واجب الإكرام بنظر العقل إمّا بملاك شكر المنعم، أو الأمن من العقاب أو بأيّ ملاكٍ آخر في نظره، فكذلك في المقام، فإنّه لو علم بأنّ نزول الضيف عليه

ص: 206


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 2: 364_ 365.
2- محاضرات في اُصول الفقه 2: 364.

سيكون في الغد، ولكنّ الأسواق ستكون معطّلة في الغد لا يمكنه فيه تهيئة شيء من أسباب الإكرام، فإنّ العقل يحكم عليه بلزومدخول السوق الآن وتهيئة أسباب الإكرام، كما أنّه إذا كانت الأسباب موجودة عنده بالفعل، فاللّازم عليه حفظها إذا لم يمكن تحصيلها في الغد، فلو لم يفعل يعدّ في نظر العقل من الذين يجعلون امتناع امتثال التكليف عليهم بسوء الاختيار، ولا يقبح عقابهم حينئذ.

ثمّ فرّق(قدس سره) بين القدرة العقليّة والشرعيّة، ففصّل بينهما، بأنّ القدرة الشرعيّة:

إن أُخذت مطلقة، فحكمها حكم القدرة العقليّة من وجوب حفظها، ولا يعذر عند العقل لو تركها، أي: لو لم يحفظها أو لم يحصلها قبل ظرف وجوب الواجب.

وأمّا إذا اعتبرت القدرة خاصّة فلابدّ أن يرجع إلى دليل اعتبارها:

فتارةً: يظهر من الدليل أنّ القدرة أُخذت في خصوص زمان امتثال الواجب، فحينئذ: لا يجب تحصيلها أو حفظها.

وأُخرى: تتصوّر القدرة قبل حصول ذلك الأمر وفعليّة الواجب، فحينئذٍ: يجب تحصيلها بعد ورود الأمر، وإن لم يأتِ زمان الإتيان بالواجب. نعم، لا يجب تحصيلها أو حفظها قبل زمان الأمر(1).

ص: 207


1- منتهى الاُصول 1: 177_ 178.

ص: 208

الواجب النفسيّ والغيريّ

اشارة

لا يخفى: أنّهم قد ذكروا للواجب النفسي والغيري تعاريف: فالمشهور على أنّ الواجب النفسي: هو «ما أمر به لنفسه»، أو «ما وجب لا لواجب آخر»، والغيري: «ما أمر به لأجل غيره»، أو «ما وجب لواجب آخر».

وقد يُستشكل في هذا التعريف بالنسبة إلى الواجب النفسي، بدعوى: أنّه غير منعكس؛ لأنّه بناءً على هذا التعريف يَلزم أن يكون كلّ الواجبات النفسيّة، أو جلّها، خارجةً عن الواجب النفسي؛ لأنّ جلّها مطلوب لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها.

كما يرد الإشكال على التعريف الثاني بأنّه غير مطّرد؛ لدخول أكثر الواجبات في الواجبات الغيريّة؛ لأنّها تكون واجبة لأجل الغايات المترتّبة عليها ولأجل ما يترتّب عليها من الأثر والفائدة.وقد عدل صاحب الكفاية) عن هذا التعريف إلى تعريفٍ آخر، حاصله: أنّ الواجب الغيري هو: «ما أُمر به للتوصّل إلى واجب آخر»،

ص: 209

والنفسي: «ما لم يكن كذلك». وبالجملة: فالنفسي هو «الواجب الذي أُمر به لنفسه»، والغيري «ما أُمر به لغيره»(1).

ولكنّ هذا التعريف يرد عليه أيضاً: أنّ الواجبات التي تدعى نفسيّةً، كالصلاة والصوم، تصبح غيريّةً؛ لأنّها إنّما وجبت لأجل التوصّل إلى فوائدها، ككونها «قربان كل تقيّ»(2)، و«معراج المؤمن»(3)، فيعود الإشكال.

وربّما عُرّفا بتعريف آخر، كما عن المحقّق النائيني)(4)، وهو أنّ الواجب النفسي هو الذي لا تكون إرادته مترشّحة عن إرادة الغير، بلا فرق بين أن تكون المصلحة في نفسه أو في غيره، والغيري هو الذي تكون إرادته مترشّحة عن الغير.فبناءً على هذا: يشمل المقدّمات المفوّتة، بناءً على كونها واجبةً في نفسها، لكن لا لمصلحة في نفسها بل في غيرها، ولأنّها غير مترشّحة عن غيرها.

وقد عرّفهما بعض المحققين)(5) بتعريف آخر، وهو: أنّ الواجب

ص: 210


1- كفاية الاُصول: ص 107.
2- وسائل الشيعة 4: 43 _ 44، الباب 12 من أبواب الصلاة، الحديثان 1 و 2.
3- لم نعثر عليه في كتب الحديث، ولكن نقله صاحب مستدرك سفينة البحار عن رسول الله-، انظر: مستدرك سفينة البحار 6: 343.
4- أجود التقريرات 1: 168.
5- مقالات الاُصول 1: 322.

النفسي هو أن يكون الإيجاب الصادر عن المولى بدواً، بلا تبعيّةٍ لإيجاب آخر. والغيري إيجاب ناشئ عن إيجابٍ آخر.

وأيضاً: عرّفوا النفسي بأنّه: ما أمر به لأجل ملاك في نفسه، ومقابله الغيري، وهو: ما أمر به لا لملاكٍ في نفسه، بل لملاك في غيره(1).

وقد يرد على هذا التعريف الإشكال بخروج المقدّمات المفوّتة عنه، لو قلنا بأنّها واجبة بالوجوب النفسي؛ لأنّ وجوبها لا يكون لملاك في نفسها، بل لمصلحة في الغير.

وغير خفيّ عليك: أنّ كل أو جلّ هذه التعاريف مخدوشة، ولكن بما أنّ الواجب النفسي والواجب الغيري معلوم عند كلّ أحد، فنحن لسنا بحاجة إلى هذه التعاريف حتى يستشكل في بعضها بأنّها غير جامعة، وفي بعض آخر بأنّها غير مانعة، ولذا، نرى البعض أعرض عنتعريفهما، وشرع رأساً في بيان ما هو الحكم في مسألة ما إذا شكّ في واجب في أنّه نفسيّ أو غيريّ، كصلاة الطواف؛ لدوران وجوبها بين أن يكون وجوباً نفسيّاً وبين أن تكون شرطاً لصحّة الطواف إذا أتيت بها، وذلك _ كما ذكرنا _ لعدم خفاء معنى كلا الواجبين، أعني: الوجوب النفسي والوجوب الغيري. ونحن ها هنا نجري على ذلك.

وعلى هذا الأساس: فلو شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ، فما هو

ص: 211


1- نقله في منتهى الاُصول 1: 195.

مقتضى الإطلاق _ لو كان إطلاق في البين _؟! فنقول:

بعد إمكان تصوّر جامع للواجبين، وهو جامع الطلب _ كما مرّ في الأمر _ من أنّه قد وضع لجامع الطلب، وليس موضوعاً للوجوب ولا للندب، ولكن بما أنّ الغيريّة قيد زائد على مطلق الطلب؛ لأنّ تحقّق الوجوب الغيري منوط بتحقّق وجوب ذلك الغير، وإذا شككنا في الإناطة، حتى يكون غيريّاً، أو في عدم الإناطة، حتى يكون نفسيّاً، فعند الشكّ لابدّ من القول بالنفسيّة؛ لأنّ النفسيّة ليست أمراً زائداً على مطلق الطلب حتى تنفى بالإطلاق.

وبعبارة أُخرى: فإذا شككنا في واجب أنّ وجوبه نفسيّ أم غيريّ، فبما أنّ الغيريّة تحتاج إلى مؤونة زائدة، فتدفع بالأصل، فيتحصّل: أنّ الإطلاق، سواء كان من جهة الهيئة أو المادّة، يقتضي أن يكون الواجب نفسيّاً.ومن هنا ظهر فساد ما ذكره بعض المحققين)، من أنّه لا يمكن تصوّر جامع هنا، وذكر أنّ نظيره موجود في تحقيق معنى الوجوب والندب مع أنّ كلّاً من النفسيّة والغيريّة متقوّم بقيد زائد، وكذلك لو قلنا بأنّ البعث الكلّي هو الموضوع له، وهو جامع بينهما، وإن كان خلاف التحقيق؛ إذ عليه: يحتاج كلّ واحد إلى البيان، ولو من باب زيادة الحدّ على

ص: 212

المحدود(1).

ولكنّ الحقّ _ خلافاً لما ذكره(قدس سره) _: أنّ الجامع هو الطلب، وإنّما يحمل عند الإطلاق على الوجوب النفسي؛ لأنّ معنى الوجوب النفسي هو نفس الطلب، وأمّا الغيريّة، فلمّا كانت قيداً زائداً على أصل الطلب والإنشاء، فإنّها تدفع بالأصل. فحمل الواجب على النفسي يكون بمقتضى الأصل، وليست النفسيّة أمراً زائداً على أصل الطلب _ كما ذكره) _ حتى تنفى هي أيضاً، وحتى يقع التعارض بين الأصلين.

فبما ذكرنا من أنّ مقتضى النفسيّة هو نفس الطلب، وأن ليس هناك من قيد زائد، ظهر أنّه إذا شككنا في واجب في أنّه نفسيّ أو غيريّ، فيحمل على النفسيّة ببركة الإطلاق، بلا فرق بين إطلاق الهيئة، إذا أخذنا بإطلاق دليل الواجب الذي شككنا في كونه نفسيّاً أو غيريّاً،وبين إطلاق المادّة، أي: التمسّك بإطلاق الواجب، فحينئذٍ: يحمل على أنّه نفسيّ أيضاً، وليس ذلك من جهة مقتضى الانصراف إلى النفسي، كما ذكره بعض المحققين المعاصرين(قدس سره)(2).

هذا. وقد اعترض المحقق المذكور(قدس سره)(3) على التمسّك بالإطلاق

ص: 213


1- تهذيب الاُصول 1: 191.
2- تهذيب الاُصول 1: 192.
3- المصدر نفسه.

بوجهين:

الوجه الأول: أنّ معنى الهيئة حرفي، والمعنى الحرفي جزئيّ، وهو ليس قابلاً للإطلاق والتقييد.

ويرد عليه: أنّ ما ذكره(قدس سره) وإن كان تامّاً _ من جهة أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، خلافاً لصاحب الكفاية(قدس سره) الذي اختار أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عامّ _ إلّا أنّ المعنى، وإن كان جزئيّاً على الفرض، ولا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق اللّفظيّ، ولكنّه _ مع ذلك _ قابل لأن يتمسّك فيه بالإطلاق الأحوالي.

والوجه الثاني: أنّ المعنى الحرفي غير ملتفَت إليه، ومغفول عنه، ولذا، لا يقع محكوماً عليه ولا محكوماً به.ويرد عليه: ما ذكرناه مراراً من أنّ المعنى الحرفي غير مغفول عنه، بل يكون ملتفَتاً إليه؛ لأنّه ليس إيجاديّاً _ كما عليه المحقق النائيني(قدس سره) _، وقد مرّ في محلّه مفصّلاً أنّه اختياريّ، فلا نحتاج هنا إلى ما ذهب إليه بعض المحقّقين وتبعه الاُستاذ المحقّق من القول بالمحمول المنتسب، أو المادّة المنتسبة(1)، حيث كان في نظره الشريف عدم إمكان تقييد الهيئة؛ لأنّ معناها غير ملتَفتٍ إليه، فلا يمكن التمسّك بإطلاقه بعدما كان بينهما تقابل العدم والملكة، فالدليل على امتناع التقييد حينئذٍ هو بعينه الدليل

ص: 214


1- قد مرّ ذلك في مبحث المعنى الحرفي.

على امتناع الإطلاق.

ولكنّ ما ذكره) إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ التقابل بينهما هو التقابل العدم والملكة، أمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب _ كما عليه الاُستاذ الأعظم)(1) _ فيمكن عندئذٍ التمسّك بالإطلاق، ولو لم يمكن التقييد. وملخّص كلامه: أنّه يمكن تقييد المادّة المنتسبة، فتكون النتيجة: أنّ المادّة المنتسبة منظورة بكذا أو تكون مطلقة.

ولكنّ الحقّ: هو إمكان التمسّك بالإطلاق، وما ذكر من الإيرادين فهو غير وارد. هذا لو كان هناك إطلاق في البين.وأمّا إذا لم يكن، فلا محالة: يكون المرجع إلى الاُصول العمليّة، وهل هي تختلف باختلاف الموارد أم لا؟ فنقول:

أوّلاً:

لو قلنا بفعليّة الخطاب النفسي بشيء كالصلاة، من دون توقّفه على شرط غير موجود، ولكن ورد الشكّ في التقييد بمثل الطهارة، في أنّ وجوبها هل يكون لنفسها أو لغيرها، فيجوز الإتيان بالصلاة من غير طهارة؛ لأنّه بالنسبة إلى الطهارة يكون من قبيل الشكّ في التكليف، وأنّ التكليف بالصلاة هل هو مشروط بالطهارة أم لا؟ لو قلنا بذلك، لكان المقام من قبيل الأقلّ والأكثر، ويكون مورداً لجريان البراءة _ كما هو

ص: 215


1- مرّ أيضاً في المعنى الحرفي.

الحقّ _ ويأتي في محلّه. وأمّا نفس الطهارة، فهي وإن كانت مشكوكة الغيريّة، ولكن بما أنّ وجوبها معلوم على كل حال، إمّا لنفسها أو لغيرها، فهي لا تقع مورداً للبراءة.

وقد استشكل فيه بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«وفيه: أنّ إجراء البراءة في الصلاة غير جائز بعد العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسيّاً، أو وجوب الصلاة المتقيّدة به، والعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء الأعمّ من النفسي والغيري لا يوجب انحلاله إلّا على وجه محال، كما اعترف به القائل في الأقلّ والأكثر»(1).وفيه: أنّه يُرجع إلى لوازم الاُصول، وسيأتي بأنّها غير حجّة.

وثانياً:

أن يكون هناك شيء متيقّن الوجوب، ولكنّ وجوبه ليس بفعليّ، بل يكون مشروطاً بشرط لم يوجد بعد، فالظاهر هنا: هو عدم وجوب الإتيان بما يحتمل كونه وجوباً نفسيّاً أو غيريّاً؛ وذلك لجريان البراءة عن وجوبه، للشكّ في وجوب ما يحتمل اشتراطه به، وهو ليس ممّا يعلم بوجوبه على كلّ حال، ولذا، تجري البراءة بالنسبة إلى شرطيّة هذا المشكوك الغيريّة لذلك الغير المتيقّن الوجوب.

وقد يُتوهّم: أنّ هناك تناقضاً بين البراءتين؛ لأنّ لازم جريان البراءة

ص: 216


1- تهذيب الاُصول 1: 193.

بالنسبة إلى شرطيّة هذا المشكوك الغيريّة لذلك الغير المتيقّن الوجوب المشروط بشرط لم يوجد بعد، هو عدم تقيّد وجوب هذا المشكوك الغيريّة وعدم اشتراط وجوبه بذلك الشرط الذي لم يوجد بعد؛ ولازم جريان البراءة عن وجوبه قبل وجود ذلك الشرط هو اشتراط وجوبه به. وهما متناقضان كما لا يخفى.

ولكن يُجاب عنه: بأنّ التناقض والتنافي إنّما يتمّ لو كان بين نفس مؤدّى البراءتين، لا بين لوازمهما، كما هي الحال هنا؛ لِما قرّر في محلّه بأنّ الاُصول ليست بحجّة في لوازمها العقليّة.وثالثاً:

أن لا يكون هناك متيقّن الوجوب، فيُحتمل عدم وجوبه أصلاً، فيعلم إجمالاً بأنّه: إمّا أنّ هذا المشكوك الغيريّة والنفسيّة واجب نفسيّ، وإمّا أنّ ذلك الغير الذي هو محتَمل الوجوب واجب نفسيّ، فهنا: بالنسبة إلى غير محتَمل الوجوب، كالصلاة، تجري البراءة؛ لأنّ وجوبه كالوضوء مشكوك فيه بالشكّ البدويّ، فكونه واجباً بالوجوب النفسي غير معلوم، إذ المفروض عدم فعليّة وجوب ذلك الغير قبل الوقت، فلا محيص حينئذٍ عن جريان البراءة فيه عن وجوبه.

وأمّا

بالنسبة إلى الفعل المشكوك الغيريّة والنفسيّة، فلا مورد لجريان البراءة؛ للعلم بوجوبه، غاية الأمر: أنّه يكون مردّداً بين النفسيّة والغيريّة.

ص: 217

وقد يقال: بأنّ هذا العلم الإجماليّ _ أعني: العلم بوجوب المشكوك الغيريّة المردّد بين الوجوب الغيري والنفسي _ قابل للانحلال، وذلك بواسطة جريان البراءة في محتَمل الوجوب النفسي؛ لأنّه لو فرِض كونه واجباً بالوجوب الغيري، فلا يجب الإتيان به بعد فرض عدم وجوب الإتيان بما هو ذو المقدمة له ظاهراً بواسطة إجراء البراءة فيه، وإلّا، يخرج عن كونه مطلوباً غيريّاً، وهو خلاف الفرض،فلا يبقى إلّا الشكّ البدويّ بالنسبة إلى وجوبه النفسي، وهو مجرى البراءة.

ولكنّ هذا الكلام غير تامّ، ولا يمكن قياسه على عدم تنجّز الشرط مع عدم تنجّز المركّب المشروط به، مع تنجّز معظم أجزائه، أو تنجّز بعضها؛ فإنّ الجهل ببعض أجزاء المركّب، وإن أمكن جريان البراءة فيه _ بناءً على جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين _ إلّا أنّه لا وجه له مع كون الجهل متعلّقاً بجميع المركّب وتمامه؛ لأنّ المقدمة لا تطلب لأجل ذاتها، وإنّما تكون مطلوبةً من جهة حصول ذي المقدمة بتلك الخصوصيّة التي تحصل له بواسطة وجود تلك المقدمة وذلك الشرط الشرعيّ.

فمثلاً: إذا فرضنا أنّ للصلاة خصوصيّةً تؤثّر في حصول ملاكها بواسطة اقترانها بالوضوء الذي هو مقدّمة، فهنا: وإن أمكن إجراء البراءة بالنسبة إلى ذي المقدمة، ولكنّها لا تجري بالنسبة إلى المقدّمة بعد القول بجواز التفكيك بالتنجيز بين أجزاء الواجب وبين أجزاء مقدّماته، فلو قلنا بذلك _ ولابدّ من القول به بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر، وذلك بجريان البراءة

ص: 218

في الأكثر، كما عرفت _ فيمكن أن يقال: إنّ الواجب الواقعيّ، وإن لم يكن منجّزاً بالنسبة إلى جميع أفراده، ولكنّهيمكن أن يكون منجّزاً بالنسبة إلى بعضها، وعليه: فلا مانع من جريان البراءة بالنسبة إلى الواجب دون المقدمات.

وقد استشكل في ذلك بعض المحققين المعاصرين)بقوله:

«وأنت خبير: بأنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء وتردّده بين الوجوب النفسي والغيري لا يمكن إلّا مع العلم الإجماليّ بوجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء أو وجوب الوضوء نفسيّاً، وهذا العلم الإجماليّ لا يوجب الانحلال إلّا بوجه محال، كما عرفت. وتصوّر الشكّ البدويّ للصلاة مع العلم التفصيلي الكذائي بوجوب الوضوء، جمع بين المتنافيين. والعجب منه(قدس سره) حيث قال: لو علم بوجوب الوضوء، ولكن شكّ في كونه غيريّاً حتى لا يجب، فكيف جمع بين العلم بالوجوب والشكّ فيه؟»(1).

وما ذكره) غير تامّ؛ لما ذكرنا في المسألة بأنّ لوازم الاُصول غير حجّة.

وأمّا ما ذكره من العجب من وجوب الوضوء مع الشكّ في كونه غيريّاً، ففيه: أنّه ليس هناك ما يوجب العجب؛ لأنّ معنى العلم الإجماليّ هو العلم بأصل الوجوب والشكّ في كونه غيريّاً أو نفسيّاً.

ص: 219


1- تهذيب الاُصول 1: 194.

الكلام في استحقاق العقاب والثواب على الواجب الغيري:

تعرّض صاحب الكفاية(قدس سره) في هذا البحث إلى جهاتٍ ثلاث:

الجهة الاُولى:

في بيان عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته:

وقد ذُكِر لتقريبه وجوه، نذكر منها وجهين:

الوجه الأول: ما جاء في الكفاية من بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب والثواب على المقدمات، ولذا لا يرون من يترك واجباً ذا مقدمات متعدّدة أنّه مستحقّ لعقابات متعدّدة بعدد المقدمات، كما أنّهم لا يرون من يأتي بمثل هذا الواجب بمقدماته مستحقّاً لثوابات متعدّدة، بل لا يرونه مستحقّاً لغير عقاب واحد أو ثواب واحد على ترك الواجب أو فعله(1).

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني(قدس سره) في تعليقته على الكفاية، قال):«أنّ الوجوب المقدّمي _ كما عرفت _ وجوب معلوليّ، كما أنّ الغرض منه غرض تبعيّ، فيكون تحريكه ودعوته ومقرّبيّته كذلك، فكما أنّ المولى

ص: 220


1- كفاية الاُصول: ص 110.

بعد أمره بذي المقدّمة لا يتمكّن من عدم الأمر بالمقدّمة، فيكون البعث نحوها قهريّاً، كذلك انقياد العبد للأمر بذيها يوجب الانقياد بالعرض لمعلوله، وهو الأمر بها، ولا يعقل الانقياد للأمر النفسي والانبعاث عنه مع عدم الانقياد لمعلوله والانبعاث عنه، وإلّا، لم يكن منقاداً للأمر النفسي ومنبعثاً ببعثه، وهذا الانبعاث القهريّ كنفس الارتكازي، ربّما لا يلتفت إليه تفصيلاً، وحيث عرفت عدم استقلال الأمر المقدّمي في الباعثيّة، تعرف عدم استقلاله في المقرّبيّة وما يترتّب عليها عقلاً، وكذلك عدم الانبعاث إليها ليس إلّا تبعاً لعدم الانبعاث إلى ذيها، فلا بعد إلّا بتبع البعد المرتّب على ترك ذيها، فالاستقلال في استحقاق الثواب أو العقاب عقلاً محال»(1).

ومحصّل كلامه): أنّ الوجوب المقدّمي بما أنّه معلول لوجوب ذي المقدّمة، لكون الغرض منه غرضاً تبعيّاً لا استقلاليّاً، كانت محركيّته وباعثيّته تبعيّةً أيضاً بتبع باعثيّة ومحركيّة الأمر النفسي؛ فإنّ الانبعاث نحو امتثال الأمر النفسي لازم للانبعاث نحو الأمر الغيري، فإذا كانالانبعاث عن الأمر الغيري تابعاً للانبعاث عن الأمر النفسي كان أمراً ارتكازيّاً كنفس البعث الغيري، فقد لا يلتفت إليه بنحو التفصيل.

وكما أنّه غير مستقلّ في مقام البعث والانبعاث، فكذلك هو غير

ص: 221


1- نهاية الدراية 1: 197.

مستقلّ في مقام عدم الانبعاث؛ فإنّ عدم الانبعاث عنه يتبع عدم الانبعاث عن الأمر النفسي، وعليه: فلا يكون الانبعاث عنه موجباً للقرب، ولا عدمه موجباً للبعد، وبالتالي: فلا يكون امتثاله موجباً للثواب وعدمه موجباً للعقاب.

الجهة الثانية:

أنّه بناءً على عدم كون ترك الواجب الغيري موجباً لاستحقاق العقاب، فلو ترك مقدّمةً لواجب استقباليّ، بحيث لا يتمكّن من الواجب في ظرفه عند تركها، كما لو ترك إحدى المقدمات المفوّتة، كالغسل قبل الفجر للصوم؛ إذ بتركه لا يتمكّن من الصوم في ظرفه(1).

فهل يستحقّ العقاب على ترك الواجب النفسي من حين ترك المقدمة أو من زمان الواجب نفسه؟

لكلٍّ من الاحتمالين وجه.

الجهة الثالثة:

اشارة

في توجيه ما ورد في بعض النصوص من ترتّب الثواب على بعض المقدّمات، كما روي أنّ في كلّ خطوة في زيارة الحسين(علیه السلام) كذا من الثواب(2)، فإنّه بظاهره يتنافى مع نفي الثواب على المقدّمة الذي قرّر في

ص: 222


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 110.
2- كامل الزيارات: ص 133، فيما ورد في زيارة أبي عبد الله الحسين(علیه السلام).

الجهة الاُولى(1).

والكلام هنا: في أنّه إذا خالف الواجب الغيري فهل يستحقّ العقاب أم لا؟ وكذا فيما لو امتثل الواجب الغيري فهل يستحقّ الثواب أم لا؟ ثمّ إن كان استحقاق الثواب على امتثال الواجب النفسي متيقّناً واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته ممّا لا إشكال فيه، فهل الواجب الغيري كذلك أيضاً أم لا؟

يقع الكلام أوّلاً في الاستحقاق. والأقوال في المسألة على النحو التالي:الأول: ما قد يستفاد من كلام صاحب القوانين)(2)، من ثبوت استحقاق المثوبة والعقوبة على الأمر الغيري، فيكون حاله كحال الواجب النفسي، وهذا منسوب إلى المتكلّمين في المثوبة فقط.

والثاني: ما نُسِب إلى الغزاليّ(3)، من التفصيل بين الثواب والعقاب، بالالتزام بالأول دون الثاني، فإعطاء الثواب بالتفضّل والعقاب بالاستحقاق؛ لأنّ المكلّف الذي عرف اﷲ وأنّه تعالى هو الغنيّ المطلق والقادر المطلق، ومن بيده كلّ شيء، وعرف أنّه هو الفقير على الإطلاق،

ص: 223


1- كفاية الاُصول: ص 110.
2- راجع ما أفاده في القوانين في المقدّمتين السادسة والسابعة من مقدّمات مبحث مقدّمة الواجب.
3- ذكر هذه النسبة في منتهى الدراية 2: 253.

فهذا لا يمكنه أن يتفوّه بالاستحقاق دون التفضّل؛ فإنّ التفوّه بالاستحقاق لا يليق إلّا بجاهلٍ مقام ربّه وغافلٍ عن كونه ممكناً وناقصاً في حدّ ذاته وأنّ كلّ ما ملكه من الأعضاء والجوارح والنعم فليس منه، بل من اﷲ تعالى، وأنّه لذلك لا يستحقّ شيئاً، حتّى لو صرف هذه النعم في طريق العبوديّة.

والثالث: عكس ذلك، وهو الالتزام بثبوت العقاب دون الثواب، لكن لم يظهر قائله.

والرابع: أنّ كليهما على نحو التفضّل.والخامس: التفصيل بين القول بالتعبّد وتجسّم الأعمال وبين عدمه، بالقول بالاستحقاق في الأول دون الثاني منهما.

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان معنى الاستحقاق:

فهل

المراد من الاستحقاق هو ثبوت حقٍّ على المولى؛ لأنّه إطاعة، والمطيع مثله مثل الأجير حينما يعمل عملاً لشخص، فيستحقّ بذلك الاُجرة، فإذا لم يعطه الاُجرة، والحالة هذه، أي: والحالة أنّه مستحقّ لذلك، فقد ظلمه؛ لأنّ منعه من حقّه وعدم دفعه إليه وكفّ الفيض عنه، مع كونه مستحقّاً للفيض، ظلم، فمعنى الاستحقاق بناءً على هذا البيان هو: ثبوت الحقّ للعبد على المولى بإزاء عمله. وهذا القول مطابق لما عرّفوا به الواجب من أنّه: «ما يستحقّ فاعله المدح والثواب، وتاركه الذمّ والعقاب».

وفي اللّغة: استحقّ فلان الأمر، أي: استوجبه، ومنه ما ورد عن رسول

ص: 224

اﷲ-: «إذا استحقّت ولاية اﷲ والسعادة جاء الأجل بين العينين، وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر»(1).والصحيح: أنّ هناك فرقاً بين استحقاق العقاب واستحقاق الثواب، فأمّا الأول: أعني: استحقاق العقاب في صورة الترك والمخالفة، فيمكن أن يقال به، والعقل حاكم بذلك؛ لأنّ المخالفة الصادرة من المكلّف بعد أن أتمّ المولى عليه جميع النعم، حتى نعمة الوجود والقدرة، وبعد أن أعطاه العقل وبيّن له سبيل الرشد والغيّ بواسطة الرسول الباطن والظاهر، لا يمكن إلّا أن تكون كفراً بالمنعم حقيقةً وظلم عليه، فيحكم العقل باستحقاقه العقاب _ حينئذٍ _ من جهة ظلمه وكفرانه للنعمة.

وأمّا الثواب على العمل: فاستحقاقه له مشكل بعد فرض أنّ وجود المكلّف وقدرته وتوفيقه للطاعة وجميع ما يستعدّ به للإتيان بالعمل ليس منه، بل من اﷲ جلّ وعلا؛ ولأنّ الامتثال والإطاعة نوع وظيفة، والعمل بالوظيفة والانقياد لأوامر المولى موجب لاستحقاقه المدح والثناء عليه، لا أنّه يستحقّ الأجر تجاه عمله كالموالي والعبيد العرفيّين.

وأمّا لو كان المراد من الاستحقاق: قابليّة العبد بسبب ما صدر منه من الأعمال الحسنة، ومعناه: أنّه لائق ليعطى الثواب، ما دام عمله هذا لم يكن

ص: 225


1- الكافي 3: 258، كتاب الجنائز، باب النوادر، ح27.

مقروناً بالمعصية المانعة من هذه القابليّة، كما إذا أتى ببعض المعاصي بحيث صار سبباً للمنع من ورود الفيوضات الإلهيّة التي يستحقّ أن تفاض عليه على حسب قابليّته واستعداده. والاستحقاق بهذا المعنى شيء لا ينكر؛ ضرورة أنّ قابليّة المحلّ للفيوضات الإلهيّة_

حينئذٍ _ بلا فرق بين الفيوضات الدنيويّة أو الآخرويّة. وأيضاً: فالاستحقاق بهذا المعنى ليس محلّاً للنزاع بين المتكلّمين.

وأمّا لو كان المراد من الاستحقاق: أنّه يجب على اﷲ إعطاؤه الأجر والثواب لأجل أنّه وعده بذلك، ولأجل أنّه لا يخلف الميعاد، حيث إنّه وعد المتّقين بالجنّة، ووعده صدق غير مكذوب، ولا خلف فيه؛ لما في الخلف من القبح. فيجب عليه الوفاء بعد أن كان وعده جلّ وعلا سبباً لمزيد من الرغبة والانقياد للعبد.

ولكن فيه: أنّ لزوم الوفاء أجنبيّ عن مسألة الاستحقاق، بل هو عين التفضّل؛ لأنّ وعده جلّ وعلا لمن أتى بالمأمور به وترك المنهيّ عنه موجب لتقوية الأمر في إحداث الداعي، وظاهر: أنّ لزوم الوفاء ليس بمعنى الاستحقاق بل أحدهما أجنبيّ عن الآخر.

مسألة:

لو فُرض استحقاق العقاب، فهل هو على ترك المقدّمة أو على ترك ذيها؟

ص: 226

الظاهر: الثاني؛ إذ لو قلنا بأنّ استحقاق العقاب هو على ترك المقدّمة، فلو كان لذي المقدّمة مقدّمات كثيرة فتَرَكها، فلابدّ من القول بتعدّد العقاب، مع أنّه ليس هناك إلّا عقاب واحد.

وأيضاً: استحقاق العقاب على الأمر الغيري مشكل؛ لأنّه لا مفسدة فيه، بل المفسدة إنّما هي في ترك ذي المقدّمة، فالعقاب إنّما يترتب على مخالفة العبد الناشئة من مخالفة الأمر بذي المقدّمة.

ومن هنا ظهر الجواب عمّا نُسِب إلى المحقق السبزواري(قدس سره)(1) من ثبوت استحقاق العقوبة على مخالفة الأمر الغيري، لأنّ كون العقاب على ترك المقدمة كالقصاص قبل الجناية، فيتعيّن أن يكون العقاب على ترك المقدّمة.

توضيح الجواب: أنّه إنّما يتصوّر القصاص قبل الجناية إذا قلنا بأنّه يعاقب من زمان ترك المقدمة، وأمّا إذا قلنا بأنّه يعاقب من زمان تركه لذي المقدمة فليس بالقصاص قبل الجناية.

ثمّ إنّه بعدما عرفت أنّ العقاب يكون على ترك ذي المقدّمة، فهل يكون استحقاق العقاب لترك الأمر نفسيّ من حين مخالفة الأمر الغيري؛لأنّ هذا العصيان قد حصل حين ترك المقدّمة الذي صار سبباً لعدم التمكّن من الإتيان بذي المقدّمة في ظرفه، أم لا؟

ص: 227


1- حكى هذه النسبة في منتهى الدراية 2: 254.

الظاهر: الثاني؛ إذ قبل وجود ظرف الإتيان بذي المقدمة لا وجوب هناك حتى يعاقب على تركه.

فإذا عرفت ذلك نقول:

أمّا الاستحقاق بالمعنى الأول: فلا يمكن الالتزام به في الواجبات النفسيّة فضلاً عن الغيريّة.

وأمّا بالمعنى الثاني، أي: بمعنى: أنّه يثاب ويؤجر، فلا إشكال فيه إذا كان إتيانه بالواجب الغيري بقصد التوصّل لذلك، ولأجل التمكّن من الإتيان بالواجب النفسي في ظرفه؛ فإنّ الإتيان بهذا الداعي يكشف عن كون العامل بمقتضى الواجب الغيري بصدد العبوديّة والانقياد، فلو أتى بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي فقد أصبح أهلاً للثواب ويحصل عليه من حين شروعه بالمقدّمة؛ لأنّه كأنّما قد شرع في إطاعة المولى، حيث قد أتى بأمره وأظهر الانقياد من حينه، وهو ما يكون سبباً لقربه، وبعد أن أصبح أهلاً وقابلاً لذلك، فلا شكّ في أنّه يكون مستحقّاً للفيض.

وأمّا لو فُرض أنّه قد أتى بالمقدّمة بدون أن يقصد التوصّل، بل كان إتيانه بها لدواعٍ اُخر، عقلائيّة أو شهوانيّة، فإنّ عمله هذا لا يكون مقرّباًله، فلا يصبح بذلك أهلاً، فلا يستحقّ الفيض؛ لأنّ استحقاقه له إنّما هو من لوازم قربه. نعم، لو أتى بها من دون قصد التوصّل والامتثال، فهو وإن لم يثبت بذلك استحقاقه للثواب، إلّا أنّ الأمر المقدّمي يسقط بمجرّد إتيانه بالمقدمة.

ص: 228

وأمّا الاستحقاق بالمعنى الثالث، فإنّنا لو تتبّعنا الروايات لوجدنا أنّه يظهر منها: أنّه لا ثواب على الواجب الغيري بما هو واجب، ولا ثواب عليه لو لم يأتِ به بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي؛ لأنّ الوعد بالثواب ثابت في حقّ للمطيع والمنقاد، وهذا لا يَصدق عليه أحد هذين العنوانين إلّا إذا كان قد أتى به لأجل التوصّل إلى ذي المقدمة.

بل نقول: حتى لو فرضنا وجود دليل خاصّ في موردٍ معيّن دلّ على ترتّب الثواب بمجرّد الإتيان بالمقدّمة ولو بغير قصد التوصّل، فإنّه هذا الدليل _ حينئذٍ _ يكشف عن أنّ الإتيان بهذه المقدّمة إنّما يترتّب عليه الثواب لكونه من المستحبّات النفسيّة، لا من جهة امتثال الأمر المقدّمي، كما يستفاد هذا الاستحباب من ذكر الثواب على العمل.

ثمّ لو فرضنا أنّه قد أتى بالمقدّمة بقصد التوصّل فهل يكون له ثواب مستقلّ في عرض الواجب أم لا؟

الظاهر: هو الثاني؛ لأنّ الأمر الغيري لا مصلحة فيه، بل ليست حقيقة هذا الأمر إلّا البعث نحو إيجاد الواجب النفسي وتمكّنه منه بالإتيان بهفقط، فالثواب لا يكون إلّا على نفس الواجب النفسي وموافقة أمره؛ لأنّ المدار في حصول الإطاعة والعصيان هو العقل، فكما أنّه لو ترك جميع المقدمات التي أصبحت سبباً لترك ذي المقدمة في نفسه فالعقل لا يحكم إلّا بعقاب واحد، فكذلك لو أتى بجميع مقدّمات الواجب؛ فإنّه لا يحكم له إلّا باستحقاق ثواب واحد. فلو أنّه أتى بكل واحدةٍ من هذه

ص: 229

المقدّمات قاصداً بها التوصّل إلى الوجوب النفسي، فإنّ إتيانه بالمقدّمة بقصد التوصّل يكون _ في الحقيقة _ شروعاً في امتثال الواجب النفسي، وإطاعةً لنفس ذلك الواجب، فثواب المقدّمة ليس إلّا عين الثواب على ذي المقدّمة.

وأمّا ما ورد من الآيات والروايات التي تدلّ على ترتّب الثواب على نفس المقدمة، كقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ

يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(1)، وكذا ما ورد في ثواب زيارة سيّد الشهداء(علیه السلام) من أنّ له بكلّ خطوة حجّة بمناسكها وعمرة مقبولة(2)، وأنّ من حج البيت ماشياً كتب اﷲله سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم(3)، ومن زار أمير المؤمنين ماشياً كتب له بكل خطوة حجّة وعمرة(4).

فإنّ الظاهر من هذه الروايات أنّ الثواب قد ترتّب على نفس المقدّمة، مع أن مقتضى ما ذكرنا عدم استحقاق الثواب إلّا على نفس ذي المقدّمة.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ الاُمور الواردة في هذه الأدلّة مستحبّات في نفسها.

ص: 230


1- التوبة: 121.
2- الكافي 4: 580، أبواب الزيارات، باب فضل زيارة أبي عبد اﷲ الحسين(علیه السلام)؛ وكامل الزيارات 1: 273.
3- وسائل الشيعة 11: 80، الباب 32 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، ح9.
4- بحار الأنوار 97: 260.

وثانياً: أنّ الثواب فيها على نحو التفضّل، أو من باب انطباق عنوان راجح عليها، ويكون هذا العنوان سبباً لورود الثواب عليها، كعنوان تعظيم الشعائر؛ فإنّه خارج عن عنوان المقدميّة؛ لأنّ الثواب لم يرد علىه بعنوان أنّه مقدّمة، بل إنّما ورد على العنوان الذي هو مطلوب نفسيّ، لا على المطلوب من باب المقدّميّة. أويحمل على أنّ الثواب يترتّب على ذي المقدّمة، وإنّما يكون الثواب لأجل المشقّة الحاصلة في مقام امتثال الواجب النفسي، لكثرة مقدّمات ذلك الواجب.

الإشكال في عباديّة الطهارات الثلاث:

وقع الخلاف بين الأعلام في ترتّب الثواب على الواجب الغيري، كما مرّ، بعد الاتّفاق فيما بينهم على ترتّبه في الواجبات النفسيّة، وذلك من جهة أنّ الأمر الغيري توصّليّ، فلا يوجب استحقاق الثواب على إتيان متعلّقه، كيف؟! والواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام.

وبعبارة أُخرى: فليس معنى الأمر الغيري إلّا حصول الأمر النفسي وتمكّنه من إيجاده بإتيان مقدّمته، وليس في الأمر الغيري أيّة مصلحة؛ إذ هو لا يوجب قرباً حتى نقول بترتّب الثواب عليه.

بل يمكن أن يقال: بأنّه لا باعثيّة للأمر الغيري حقيقةً؛ لأنّ المكلّف حينما يريد أن يأتي بالمقدّمات وكان قصده من وراء ذلك هو الإتيان بالأمر النفسي؛ فإنّ الداعي في الحقيقة الداعي إنّما هو الأمر النفسي دون

ص: 231

الغيري؛ لأنّ وجوب الأمر النفسي كافٍ بمجرّده في حثّ العبد على تهيئة المقدّمات. فحينئذٍ: لو ورد هناك أمر بالشرط، فيحمل على أنّه من باب الإرشاد إلى شرطيّته.

ومن هنا وقع الإشكال في الطهارات الثلاث:

إذ كيف للثواب أن يترتّب على فعلها، مع أنّ الأوامر التي تعلّقت بها إنّما هي من قبيل الأوامر الغيريّة؟ وكيف يمكن تصوّر عباديّتها واعتبارقصد التقرّب عند إتيانها مع أنّ أوامرها غيريّة، والعباديّة إنّما تكون من شؤون الأوامر النفسيّة؟

ويمكن تصوّر ترتّب الثواب عليها بوجهين:

الأوّل: أن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، فإنّ الإتيان بالمقدّمة بهذا القصد يعدّ في نظر العقلاء متلبّساً بامتثال الواجب النفسي من ذلك الحين، ويكون المكلّف مستحقّاً للمدح والثواب من حين إتيانه بالمقدّمة، ولو لم يكن مشغولاً بالإتيان بذي المقدّمة بعد.

ولكنّ هذا الوجه غير تامّ؛ لأنّ الملاك والمصلحة إنّما يكون في ذي المقدّمة، فالثواب لا يكون إلّا عليه.

والثاني: أنّ ترتّب الثواب على الطهارات إنّما يكون لأجل الإتيان بها بقصد القربة، بلا فرق بين أن يقصد بها التوصّل أم لا، بل الامتثال لا يتحقّق فيها إلّا بإتيانها بقصد القربة، لا بقصد التوصّل، فالقول بأنّ الأوامر المتعلّقة بها غيريّة، والأوامر الغيريّة توصّليّة، غاية ما يعنيه: أنّه

ص: 232

لا يشتَرط في سقوطها وامتثالها الإتيان بمتعلّقها بقصد التقرّب، وإلّا، فإنّ الامتثال فيها _ كما ذكرنا _ لا يتحقّق بدون قصد التقرّب بها، وليس حالها حال بقيّة المقدّمات من ناحية كفاية امتثالها ووجودها في الخارج بأيّ شكلٍ اتّفق، ولو في ضمن الحرام.وقد يقال هنا: إنّ ما هو المطلوب أوّلاً وبالذّات ليس هو ذات المقدمة بما هي عبادة، بل العباديّة مأخوذة في الأمر الغيري، وفي الرتبة السابقة على تحقّقه، فحينئذٍ نسأل: ما هو المحقّق لعباديّتها؟ فإن كان هو الأمر الغيري، فيلزم الدور، على ما قرّره الشيخ(قدس سره) في كتاب الطهارة(1).

وتقريب الدور يتوقّف على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ رفع الحدث المانع من الصلاة _ وإن شئت فقل: الطهارة _ إنّما يتحقّق بالوضوء، إذا وقع هذا الوضوء على وجه العباديّة المتوقّف على تعلّق الأمر به كي يقصد الإتيان به بداعي ذلك الأمر فيكون عبادة. إذ من الواضح: أنّه إذا جاء بأفعال الوضوء من دون أن تتعنون بعنوان العباديّة، وبلا أن تكون على وجه العبادة، لم يتحقّق بها رفع الحدث ولا استباحة الصلاة.

والثانية: أنّه لا أمر بالوضوء لأجل الصلاة إلّا الأمر الغيري الثابت له بملاك المقدميّة.

ص: 233


1- كتاب الطهارة 2: 54.

وإذا تمّت هاتان المقدمتان يأتي الإشكال، وذلك لأنّ الأمر الغيري إنّما يتعلّق بالوضوء بما أنّه مقدمة _ باعتبار أنّه رافع للحدث المانع،ورفع المانع من المقدّمات _، ومقدّميّته متوقّفة على الإتيان به على وجه العبادة، _ إذ قد عرفت أنّ رفع الحدث المانع يتوقّف على إتيانه بنحو العبادة _، والإتيان به على وجه العبادة يتوقّف على الأمر به. فعليه: يكون الأمر الغيري متوقّفاً على مقدّميّته، ومقدّميّته متوقّفة على الأمر الغيري، فيلزم الدور.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمر الغيري متوقّف على عباديّتها، والمفروض أنّ عباديّتها متوقّفة عليه، وليس هناك أمر أو شيء آخر تتحقّق به عباديّتها، فلو كان هناك أمر آخر ورد عليها أوّلاً وأثبت عباديّتها فلا مناص إلّا بإتيانها بقصد ذلك الأمر، إلّا أن يقال: بأنّ الأمر الأوّل قد انعدم بعد ورود الأمر الغيري.

هذا كلّه إن كان المحقّق لعباديّتها هو الأمر الغيري.

وأمّا إن كان المحقّق لها هو الأمر النفسي، فباطل.

وقد ذكروا وجوهاً لبطلانه:

أوّلاً: أنّ هذا لا يتمّ في التيمّم لعدم استحبابه النفسي قطعاً. بل لقد استشكل بعضهم في استحباب النفسي في الوضوء أيضاً، ولو كان هذا الاستشكال ممّا لا يعتمد عليه بعد الاتفاق على استحبابه النفسي.ولكنّ

الحقّ: أنّ التيمّم من المستحبات النفسيّة _ خلافاً لما نسبه

ص: 234

صاحب التقريرات)(1) إلى الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّ ثبوت الاستحباب النفسي في التيمّم وإن أمكن استفادته من بعض الروايات، إلّا أنّه ممّا لم يعتمد عليه أحد ظاهراً _؛ لأنّ صاحب الجواهر) ادّعى الإجماع _ محصّلاً ومنقولاً _ على عباديّته بقوله: «فالواجب في التيمم النيّة، كغيره من العبادات، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً ومستفيضاً حدّ الاستفاضة إن لم يكن متواتراً، منّا، ومن جميع علماء الإسلام إلّا من شذّ»(2).

وثانياً: كيف يجمع بين الأمر النفسي والأمر الغيري؟! فإنّ الأول يكشف عن أنّ الملاك الموجود فيه ملاك لنفسه، والثاني يكشف عن كونه لغيره، فإذا ورد الأمر الغيري فلابدّ من انعدام الأمر الأوّل النفسي، وقد قلنا _ أيضاً _ بأنّه يصح إتيانها بقصد أمرها الغيري.

وقد أجاب عن الإشكال صاحب الكفاية)(3) وغيره: بأنّ عباديّة هذه العبادات إنّما نشأت من الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بذواتها،وحالها حال سائر المستحبّات التي يستحقّ فاعلها الأجر والثواب، ويحتاج في امتثالها إلى قصد القربة، وأنّ عباديّتها ليست متوقّفة على ورود الأمر الغيري حتى يلزم الدور، بل لو لم يتعلّق بها أمر غيريّ أصلاً

ص: 235


1- مطارح الأنظار 1: 348.
2- جواهر الكلام 5: 167.
3- كفاية الاُصول: ص 111.

ولم تكن هذه الأشياء ممّا يتوقّف عليها واجب نفسيّ، لكانت في نفسها راجحة ومطلوبة، غاية الأمر: أنّها تكون مطلوبة بالطلب الاستحبابيّ، لا الوجوبيّ.

وأمّا ما ذكر في الاعتراض عليه من أنّه: بمجرّد الأمر الغيري الوجوبيّ ينعدم الأمر النفسي الاستحبابيّ، لما هو مقرّر في محلّه من التضادّ بين الأحكام الخمسة، إمّا في حدّ ذاتها، أو باعتبار منشأ انتزاعها.

ففيه: أنّه لا يخفى: أنّنا إن قلنا بأنّ حقيقة كلٍّ من الوجوب والاستحباب هي عبارة عن نفس المراديّة والمطلوبيّة، وإنّما الفرق بينهما في مجرّد الشدّة والضعف، ويعرف الوجوب واللّزوم، أو جواز الترك وعدم اللّزوم، من الخارج، فحينئذٍ: لا منافاة بينهما أصلاً حتى يلزم حصول التّضاد المذكور.

وقد أجاب عنه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما لفظه:

«أنّ عروض الوجوب الغيري على ما كان مستحبّاً في نفسه، بناءً على نظريّتنا، لا يوجب اندكاك الاستحباب وتبدّله بالوجوب، بل هو باقٍ على محبوبيّته وملاكه الكامنين في الفعل، وإنّما يرفع حدّه _ وهوالترخيص في الترك _، وعليه: فإذا أتى المكلّف بها بداعي المحبوبيّة فقد تحقّقت العبادة»(1).

ص: 236


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 403.

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّه لو قلنا بأنّ الفرق بين الوجوب والاستحباب هو بصرف الشدّة والضعف، فالوجوب بمعنى الطلب الشديد، والاستحباب بمعنى الطلب الضعيف، فيكون كلاهما _ حينئذٍ _ بمعنى: المطلوبيّة والمراديّة، فلو ورد الأمر الوجوبيّ الغيري فإنّه لا يكون سبباً لانعدام واقع الإرادة الضعيفة، بل إنّما يوجب انعدام حدّ الضعف.

وفيه: أنّ هذا القول إنّما يتمّ بناءً على ما قلناه من أنّ كلّاً من الضعف والشدّة يعرفان من الخارج. وأمّا لو قلنا بأنّ الضعف دخيل في حقيقة الاستحباب كما أنّ الشدّة دخيلة في حقيقة الوجوب، يحصل التباين بينهما، والمركّب ينعدم بانعدام أحد أجزائه، فكيف يعقل أن يبقى بعد زوال حدّه؟! وإذا بقي حدّ الضعيف على حاله فكيف يجمع بينه وبين الوجوب؟!

وكذا لو قلنا بأنّ الوجوب عبارة عن طلب الشيء مع المنع من الترك، والاستحباب عبارة عن طلب الشيء مع الترخيص في الترك؛ فإنّه لا مجال _ بعد مجيء الوجوب _ لبقاء أصل الاستحباب، لا أنّه لاينعدم إلّا الترخيص الذي هو حدّ الاستحباب، وأمّا أصل الإرادة فباقٍ بلا زيادة ولا نقيصة؛ لأنّ المفروض أنّها فيهما شيء واحد.

وقد يرد على هذا أيضاً: أنّه هل يؤتى به بقصد أمره النفسي أو الغيري؟

قد يقال: باندكاك الأمر النفسي في الأمر الغيري.

ولكن فيه: أنّ هذا لا يدفع الإشكال؛ إذ لو اندكّ الأمر النفسي في الأمر

ص: 237

الغيري فكيف يمكن أن يؤتى به بقصد أمره النفسي وبعنوانه العباديّ؟

وأُجيبَ عن هذا: بأنّه بعد ورود الأمر الغيري لا يلزم انتفاء الأمر النفسي وذهابه بكلّه، أي: حتى مع ما كان فيه من المحبوبيّة والطلب، بل غاية ما هنالك: أنّ حدّه، الذي هو أمر عدميّ، قد زال، وإلّا، فإنّ نفس المطلوبيّة باقية على حالها، حتى بعد ورود الأمر الغيري.

ولكنّ الحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الطلبين المتعلّقين به، وهما الوجوب والاستحباب، ليسا في مرتبة واحدة، ولا هما في عرض واحد؛ فإنّ الوجوب الغيري ليس في عرض الاستحباب النفسي حتى يلزم انعدام هذا الأخير بمجيء الوجوب، بل يكون الاستحباب النفسي بمنزلة الموضوع للوجوب الغيري، فلا انعدام _ حينئذٍ _ ولا اندكاك.

وقد يُستشكل فيه _ كما في التقريرات _ بما لفظه:«... وذلك أيضاً لا يدفع الإشكال؛ إذ لا أقلّ من أن يكون اللازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النفسي، ولو في ضمن الطلب الوجوبي، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثواب على الطهارات، وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجهٍ لو لم يعلم باستحبابها النفسي أيضاً يكون كافياً في ذلك»(1).

وتوضيحه: أنّه بناءً على كون هذه الطهارات مطلوباتٍ نفسيّةً عباديّة،

ص: 238


1- مطارح الأنظار: 1: 348.

فلابدّ في الإتيان بها عبادةً من قصد أمرها النفسي، ولو في ضمن الطلب الوجوبي الغيري، مع أنّه لا إشكال فقهيّاً في صحّتها لو أتى بها بداعي الأمر الغيري المترشّح عن الأمر بذي المقدمة، ولو بلا التفات إلى الأمر النفسي المتعلّق بها، وإنّ اشتراط الإتيان بها بقصد أمرها النفسي خلاف ديدن الفقهاء وطريقتهم؛ فإنّهم يبنون على الاكتفاء بالإتيان بالطهارات بداعي أمرها الغيري وعدم اعتبار قصد أمرها النفسي، وهذا كاشف عن أنّ عباديّتها ناشئة من أمرها الغيري، فيعود المحذور حينئذٍ، وهو أنه كيف يمكن التقرّب بالأمر الغيري التوصّلي وتصحيح العباديّة به؟!

وأجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:«والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنّما هو لأجل أنّه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة، فافهم»(1).

وتوضيحه: أنّ قصد الأمر الغيري إنّما كان يمكن أن يكتفى به؛ لأنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو مقدّمة واقعاً؛ لأنّ الأمر يدعو إلّا إلى متعلّقه، ومتعلّقه _ في الحقيقة _ ليس هو ذوات الأفعال، بل هي مع قصد أمرها النفسي، وقصد الأمر النفسي يكون في ضمن قصد الأمر الغيري، فقصد الأمر الغيري قصد إجماليّ مستبطن في قصد الأمر النفسي، وهذا المقدار كافٍ في إثبات العباديّة المطلوبة، إذاً، المصحّح للعباديّة ليس هو الأمر

ص: 239


1- كفاية الاُصول: 111.

الغيري محضاً، بل قصده الذي يترتّب عليه قصد الأمر النفسي، وفي الحقيقة: فإنّ قصد أمرها الغيري قصد إجماليّ لأمرها النفسي.

ولكن قد يمكن الإشكال عليه: بأنّه إنّما يتمّ مع الالتفات إلى أنّ لها أوامر نفسيّة، وأمّا مع الجهل بذلك، أو عدم الالتفات إليه، والغفلة عنه، فلا يكون هناك داعٍ لإتيانها إلّا بقصد أوامرها الغيريّة، فمع هذه الغفلة، كيف يمكن أن يدّعى كفاية القصد إجمالاً؟! مع أنّ قصد الأمر النفسي يكون مطويّاً في قصد الأمر الغيري، فلا يكون الأمر النفسي حينئذداعياً، لا تفصيلاً ولا إجمالاً، إلى عباديّة الطهارات؛ لأنّ أوامرها مغفول عنها، أو أنّها مجهولة، ومعه: فكيف يمكن أن يقال بصحّة هذه العبادات؟!

وقد استشكل المحقّق الأصفهاني(قدس سره) فيما ذكره صاحب الكفاية:

بأنّ الأمر النفسي الاستحبابي، أو الجهة الراجحة النفسيّة، إمّا أن تكون ملتَفتاً إليها عند العمل، أو مغفولاً عنها بالمرّة، فإن كانت ملتَفتاً إليها كانت هي الداعية إلى العمل، لا الأمر الغيري، إذ لا حاجة حينئذٍ إلى توسيط دعوة الأمر الغيري. وإن كانت مغفولاً عنها، لم يتحقّق القصد إليها ولو إجمالاً، فلا تتحقّق العباديّة لكون المفروض قوامها بقصد الأمر النفسي(1).

ثمّ إنّ المحقق النائيني) أثبت عباديّة الطهارات الثلاث بطريقٍ آخر، وهو:

ص: 240


1- نهاية الدراية 1: 201.

أنّه لا فرق بين الأجزاء والشرائط، بل كلاهما متعلّق للأمر الضمني النفسي، إلّا أنّ الجزء دخيل قيداً وتقيّداً، والشرط دخيل تقيّداً لا قيداً، فالأمر الوارد على المركّب كما أنّه يشمل الأجزاء، فهو يشمل الشرائط أيضاً، فالإتيان بها بداعي أمرها النفسي الضمني ولو كان بمتمّم الجعل.وعليه: فعباديّة الطهارات إنّما هي باعتبار تعلّق الأمر النفسي، وبذلك تندفع الإيرادات؛ إذ المقرّبيّة والثواب ناشئان من امتثال الأمر النفسي الضمني، ولا أمر غيريّ في المقام كي يستشكل في عباديّته، وإشكال الدور يندفع بما يدفع به نفس الإشكال على تعلّق الأمر بنفس العمل وذي المقدمة المفروض كونه عباديّاً(1).

وبعبارة أُخرى: فلا احتياج في إثبات العباديّة للشرائط بالتمسّك بأمر آخر وإثبات استحباب مستقلّ له، ولو فُرض أنّ هناك أمراً مستقلّاً يثبت عباديّتها فإنّه يندكّ في ذلك الأمر الوجوبيّ، والذي _ كما ذكرنا _ هو مناط العباديّة في الأجزاء والشرائط، ولو قلنا بأنّ الفرق بين الأمرين إنّما هو بالشدّة والضعف، فتأمّل؛ لأنّ الاندكاك إنّما يتصوّر إذا كانا في مرتبة واحدة، وفي المقام يكون أحد الأمرين موضوعاً ومتعلّقاً للأمر الآخر.

لكنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامّ؛ لأنّه لا يتمّ إلّا بناءً على بسط الإرادة النفسيّة المتعلّقة بالمجموع المركّب على الشرائط، كما أنّها تنبسط على الأجزاء،

ص: 241


1- أجود التقريرات 1: 175.

وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، ولا هو التزم به(قدس سره)؛ لأنّه لو كان كذلك فيكون حال الشرائط حال الأجزاء في أنّها واجبات نفسيّة،فلا يبقى مجال لوجوبها الغيري، لا لأنّه يلزم اجتماع المثلين كما توهّم؛ لأنّ الوجوبين في رتبتين، وليسا في مرتبةٍ واحدة حتى يلزم اجتماع المثلين، بل للزوم لغويّة الوجوب الغيريّ.

بل _ بناءً على ما ذكر _ فلو كان القيد داخلاً تحت الأمر أيضاً كما أنّ التقيّد يكون كذلك، فلا يبقى فرق بين الأجزاء وبين الشرائط، مع أنّه(قدس سره) صرّح في كثير من الموارد بأنّ ذات الشرط خارج عن تحت الأمر والإرادة قيداً، وإنّما هو داخل تقيّداً.

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) بالنسبة إلى الصلاة صحيح، فإنّ الطهارات الثلاث تكون جزءاً للصلاة، كما ورد في الخبر: «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»(1)، فيمكن القول: بأنّ الأمر بالصلاة وارد على الشرائط أيضاً.

وقد استشكل عليه أيضاً: بأنّه يلزم من تعلّق الأمر النفسي الضمني الانحلالي بالطهارات الثلاث أن تكون هذه الطهارات متّصفة بالأمر النفسيّ أيضاً، كما تتّصف بالأمر الغيري من باب أنّها مقدّمة. بل قد يجتمع في الطهارات الثلاث أوامر ثلاثة: أوّلها: الأمر الغيري. والثاني:

ص: 242


1- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح1.

الأمر الاستحبابي النفسي. والثالث: الأمر الضمني.ولكنّ الأمر الاستحبابي يندكّ في الأمر الضمني، لا بمعنى: أنّه ينعدم الأمر الاستحبابي من أصله، بل بمعنى: أنّه يتبدّل حدّه بالحدّ الوجوبي؛ لأنّه من قبيل اللّبس فوق اللّبس، لا اللّبس بعد الخلع.

ثمّ بعد الاندكاك يتولّد منهما أمر واحد، وهو الأمر النفسي الوجوبي العبادي، فتكون الطهارات الثلاث واجبة بالوجوب النفسي العبادي، فيكون المقام نظير ما لو نذر الإتيان بالمستحبّات النفسية؛ فإنّه بعد النّذر يتولّد أمر وجوبي.

ولكن مع ذلك، فإنّ هذا الكلام إنّما يتم لو قلنا بأنّ الفرق بين الوجوب والندب إنّما هو بالمنع من الترك في الأوّل، وجواز الترك في الثاني، أو بالشدّة والضعف، وأمّا لوقلنا بأنّ الأمر قد وضع للطلب، وأنّ الطلب شامل للوجوب والندب معاً، فلا معنى للاندكاك حينئذٍ.

ثمّ رأى(قدس سره) أنّه بعد الاندكاك والتأكّد وتولّد أمر وجوبي نفسي متعلّق بالطهارات يتعلّق به أمر غيريّ، فيكون الأمر الغيري في طول الأمر النفسي الضمني ومتأخّراً عنه.

ولكنّ هذا الكلام في حدّ ذاته غير تامّ، كما سنذكره في جواب ما أفاده المحقق العراقي(قدس سره)، وخلاصة كلامه:

أنّ الأمر الغيري الوارد على المقدمات ينحلّ إلى أمرين وإرادتين: تتعلّق إحداهما بذوات هذه الأفعال، وتتعلّق الثانية بإتيانها بقصد أمرها.

ص: 243

وهاتان الإرادتان اللّتان انحلّت الإرادة المتعلّقة بالمجموع إليهما طوليّتان؛ لطوليّة متعلّقيهما؛ حيث إنّ الجزء الذهني من ذلك المركّب ليس في عرض الأجزاء الخارجيّة، بل نسبته إليها نسبة العرض إلى المعروض(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ قصد أمر الشيء ليس في عرض نفس الشيء، فإن تحقّق ووجدت هناك إرادتان طوليّتان: إحداهما: تكون متعلّقة بذوات هذه الأفعال، والأُخرى: بإتيانها بقصد أمرها، فالإرادة الاُولى ليست متوقّفة على أن يكون متعلّقها متعلّقاً للأمر؛ لأنّها تعلّقت بنفس الذّات، والإرادة الثانية وإن كانت متوقّفة على ثبوت أمر في الرتبة السابقة عليها، ولكنّها موجودة كذلك، وهي الإرادة المتعلّقة بذوات هذه الأفعال في الرتبة السابقة على الإرادة الثانية؛ فلا دور.

وهذا الذي ذكره(قدس سره) ليس تامّاً؛ لأنّ الإرادة الشخصيّة الواحدة لا يمكن أن تنحلّ إلى إرادتين طوليّتين، بل ليس هنا إلّا إرادة واحدة.

هذا. مضافاً إلى أنّ تعلّق الإرادة بالمجموع المركّب لا يمكن إلّا بعد فرض وجود أمر متعلّق بذوات هذه الأفعال في الرتبة السابقة على هذه الإرادة، والمفروض أنّه ليس من إرادة اُخرى في البين غير هذه الإرادة،فلا مناص إلّا من الالتزام باستحباب هذه الأفعال الثلاثة في حدّ أنفسها مع قطع النظر عن تعلّق الأمر الغيري بها(2).

ص: 244


1- نقله عنه في منتهى الاُصول 1: 212.
2- منتهى الاُصول 1: 212.

ولكنّ المقام هنا ليس _ كما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) _ من قبيل العامّ الاُصولي(1)؛ لأنّ الانحلال هناك من جهة أنّ الإرادة قد تعلّقت بالطبيعة، والطبيعة لها أفراد طوليّة وعرضيّة، فتنحلّ حسب انحلال الطبيعة وتبعاً لوجوداتها.

مضافاً: إلى أنّ تعلّق الإرادة هو في الحقيقة بالأجزاء الخارجيّة، وقصد القربة لا يمكن إلّا بعد وجود أمر مسبق متعلّق بذوات الأفعال في المرتبة السابقة على هذه الإرادة، وحيث إنّ المفروض أنّه ليس هناك إلّا إرادة واحدة، فلابدّ من فرض استحباب الطهارات الثلاث مع قطع النظر عن أمرها الغيري.

ولكن مع ذلك، فيمكن أن يقال بعباديّة الطهارات الثلاث، وذلك:

(أ) إمّا بقصد التوصّل بها إلى ذيها؛ فإنّه موجب لوقوع المقدّمة عباديّة.ولا يقال: بأنّ هناك دوراً؛ لأنّ قصد التوصّل إنّما يمكن إذا تعلّق بالمقدمة، والمفروض أنّها عبادة، فإذا كانت عباديّتها ناشئة عن قصد التوصّل، لزم الدور.

فإنّه يقال: إنّ المقدّمة مركّبة من ذوات الأفعال الخارجيّة ومن قصد التقرّب، وإنّ ذوات الأفعال التي هي جزء للمركّب في أنفسها تكون مقدّمة ولها دخل في إيجاد ذي المقدّمة، فحينئذ: يمكن أن يؤتى بها بقصد التوصّل بها إلى فعل الصلاة، وبذلك يتحقّق الجزء الثاني، وهو

ص: 245


1- منتهى الاُصول 1: 214.

التقرّب، غاية الأمر: أنّ القيد والمقيّد اللذان حصلا للمقدّمة، إنّما حصلا بناءً على الطوليّة، لا في عرض واحد.

وفيه: أنّ ما يكون دخيلاً في إيجاد ذي المقدّمة ليس هو نفس الأفعال فقط، بل الأفعال بما هي عبادة، فيعود الإشكال.

(ب) وإمّا بقصد أمرها غافلاً عن كونه مقدّمة للواجب، أو يبني على ذلك، كما إذا اغتسل الجنب غافلاً عن الإتيان بالصلاة بعده، أو يأتي بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة. وإن لم يكن ملتفتاً إلى الأمر النفسي المتعلّق بها ولم يكن قاصداً لامتثاله، فحينئذٍ: يكفي في عباديّة الطهارات الثلاث أن يأتي بها: إمّا بقصد أمرها النفسي، أو من جهة قصد التوصّل بها إلى الواجب الذي هو ذي المقدّمة.وأمّا ما قيل: من أنّ العباديّة تحصل بقصد أمرها النفسي بأن يكون الأمر الوارد على ذي المقدّمة منبسطاً على الأجزاء والشرائط، فقد مرّ مفصّلاً وبيّنا الإشكال الوارد عليه، وهو أنّه بناءً على هذا يكون حال الشرائط حال الأجزاء، فتصبح واجباتٍ نفسيّة ويلزم _ بناءً على هذا _ لغويّة وجود الأمر الغيري.

وكذا ظهر _ أيضاً _ فساد ما قيل: من أنّه بناءً على هذا يلزم اجتماع المثلين. فقد أجبنا عنه سابقاً: بأنّه لا يلزم ذلك، لمكان اختلاف الرتبة.

نعم، وكما مرّ أيضاً، فإنّ هذا إنّما يصحّ بالنسبة إلى الصلاة دون بقيّة العبادات من ذوات المقدّمات العباديّة.

ص: 246

الواجب التعييني والتخييري

اشارة

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان معنى كلٍّ من التعيينيّ والتخييريّ، فنقول:الواجب التعيينيّ: هو ما لا يجوز تركه مطلقاً، ولو إلى البدل، بل يكون متعيّناً على المكلّف بنفسه، كالصلوات اليوميّة؛ فإنّها واجبة بنفسها، ولا يجوز تركها مطلقاً، ولو مع فرض الإتيان بغيرها.

وأمّا الواجب التخييريّ: فهو ما لا يجوز تركه إلّا إلى بدل، كما في خصال الكفّارة؛ فإنّ عدم جواز ترك كلّ واحد من الأبدال مقيّد بعدم الإتيان بالآخر، وإلّا، فإنّ تركه يكون جائزاً.

وقد استشكل في هذا التعريف: بأنّه كيف يكون الواجب جائز الترك، مع استبطان الوجوب لعدم جواز الترك، ففرض جواز تركه مع وجوبه تناقض.

وقد اختار كلّ واحدٍ من العلماء طريقاً للتخلّص من هذا الإشكال.

ص: 247

وقد يقال: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد في مقام الثبوت، وأمّا في مقام الإثبات فلا إشكال، ضرورة وقوعه _ أي: الوجوب التخييريّ _ في الشرعيّات والعرفيّات، وفي المسألة أقوال:

القول الأول:

أنّ الواجب عبارة عمّا يختاره المكلّف في مقام الامتثال، أي: فكلّ فرد من الأفراد الذي اختاره المكلّف خارجاً هو الذي يكون واجباًعلى المكلّف واقعاً، مثلاً: في موارد التخيير بين القصر والإتمام، لو اختار المكلّف القصر _ مثلاً _ فيكون القصر هو الواجب عليه، ولو عكس فبالعكس.

وهذا المذهب نظير التصويب الذي قال به بعض العامّة، والذي مفاده أنّ حكم اﷲ إنّما هو ما أفتى به المجتهد.

ويردّه:

أوّلاً: أنّه _ في الحقيقة _ إرجاع للواجب التخييريّ إلى التعيينيّ.

وثانياً: أنّ الوجوب لو كان تابعاً للاختيار، فمعنى ذلك: أنّه قبل الاختيار لم يكن أحدهما واجباً.

وثالثاً: أنّه مخالف لقاعدة الاشتراك في التكليف، والتي مفادها: أنّ الأحكام مشتركة بالنسبة إلى جميع المكلّفين؛ وذلك لأنّ لازم الوجوب التخييري _ بناءً على هذا القول _: أنّ من اختار القصر فالواجب عليه هو

ص: 248

القصر، ومن اختار الإتمام فالواجب عليه هو الإتمام، فيختلف التكليف باختلاف المكلّفين، فلا اشتراك.

ورابعاً: أنّه على فرض العصيان وعدم الإتيان بأحد الطرفين أو الأطراف: فإمّا أن نقول بارتفاع الوجوب، ومعناه: أنّه لا عصيان حينئذٍ في الترك، وهو غير معقول؛ لأنّ الوجوب الذي لا يترتّب على تركه العصيان غير معقول. وإمّا أن نقول ببقائه بلا متعلّق، ففيه: أنّهذا

إنّما يتمّ فيما إذا كان ما اختاره قيداً للوجوب على ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين من دون أن يكون قيداً للواجب، وإلّا، فإنّ العصيان حينئذٍ متحقّق.

وخامساً: أنّ هذا مخالف لظاهر دليل الوجوب التخييريّ؛ فإنّ ظاهره: أنّ كلّاً من الوجوب والتكليف يتوجّهان إلى كلّ واحدٍ واحدٍ من الأبدال على السواء، لا أنّ الوجوب يكون مختصّاً بما يختاره المكلّف.

القول الثاني:

ما اختاره المحقق النائيني(قدس سره): من أنّ متعلّق الإرادة في الواجب التخييريّ هو الأمر المردّد بين أمرين أو أكثر. وهناك فرق بين الإرادة التشريعيّة والتكوينيّة، فإنّ الأخيرة يمتنع أن تتعلّق بالأمر بالمبهم، بخلاف الأُولى، فإنّه لا مانع من تعلّقها به.

والسرّ في ذلك: أنّ الإرادة التكوينيّة محرّكة لعضلات المريد نحو

ص: 249

الفعل، وتحرّك العضلات نحو المردّد غير ممكن. وأمّا الإرادة التشريعيّة: فهي بمعنى إحداث الداعي للمكلّف نحو الفعل،فكما أنّه يمكن أن تتعلّق بشيء معيّن لتوجيه المكلّف نحو إتيانه، فكذلك يمكن أن تتعلّق بأمر مردّد بين أمرين أو أكثر(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ الإرادة التكوينيّة، بما أنّها محرّكة لعضلات المريد نحو الفعل، فلا يُعقَل تحريكها نحو المردّد، ولا الكلّي، بل إنّما تتعلّق بالمعيّن؛ لأنّ هذه الإرادة علّة لوجود المُراد في الخارج، فلا يُعقَل فيه الإبهام.

وأمّا الإرادة التشريعيّة فحالها حال تطليق إحدى الزوجات مع عدم إرادة واحدة معيّنة منهنّ، فإنّ الإطلاق صحيح، وتعيّن المطلقة بالقرعة _ وإن كان هذا الطلاق _ حسب القاعدة _ باطل؛ لأنّ القرعة إنّما تجري لأمرٍ مجهول عنده ومعلوم عند اﷲ، وهنا هو غير معلوم أصلاً، لأنّه لا واقع له، فلا تجري القرعة.

هذا إذا قلنا بأنّ أدلّة القرعة إنّما تجري فقط في أمر يكون مجهولاً عنده ومعلوماً عند اﷲ، وأمّا إذا قلنا بأنّها تجري مطلقاً فلا يكون الطلاق باطلاً _.

وكيف كان، فبعدما كان التشريع من الاعتباريّات، فأمره ورفعه ووضعه

ص: 250


1- أجود التقريرات 1: 182.

بيد المُعتَبر. وإذا كان كذلك، فهو تارةً يعتبره بين فعلمبهمٍ وفاعلٍ معيّن، كالواجب التخييريّ، وقد يكون بالعكس فيعتبره بين فاعلٍ مبهمٍ وفعلٍ معيّن، كالواجب الكفائيّ، وكاعتبار الملكيّة لمالكٍ مبهم، كملكيّة الزكاة للفقراء والخمس للسادة.

وبعبارة

أُخرى: فإنّ الإرادة التشريعيّة كما أنّه لا مانع من تعلّقها بالكلّي بحذف جميع خصوصيّاته، أي: بالكلّي بما هو كلّيّ، بأن يكون المراد حقيقة نفس الطبيعة وغيرها من لوازم الوجود مراداً تبعاً، فإنّه يجوز أيضاً أن تتعلّق بالجزئيّ الحقيقيّ بحيث تكون لوازم الوجود مرادةً أيضاً، فيجوز أيضاً أن تتعلّق بأحد الأمرين أو الاُمور الذي له الوجوب التخييريّ.

فالفرق بين الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة من جهات:

الجهة

الاُولى: ما ذكرناه، من أنّ الإرادة التكوينيّة تكون محرّكة للعضلات نحو الفعل، وأمّا الإرادة التشريعيّة فهي من الاُمور الاعتباريّة.

والجهة الثانية: أنّ الإرادة التشريعيّة تنقسم إلى التعبّديّة والتوصّليّة، دون التكوينيّة.

والجهة الثالثة: أنّ الاُولى يجوز أن تتعلّق بالأمر المردّد والمبهم وبالكلّي، دون الثانية.وعليه: فقياس الإرادة التشريعيّة على التكوينيّة، حتى يترتّب عليه

ص: 251

امتناع تعلّق الإرادة التشريعيّة بالأمر المبهم في غير محلّه.

بل يمكن أن يقال تأييداً لكلامه(قدس سره): إنّ حال الواجب التخييريّ هو حال الإرادة المتعلّقة بصرف الوجود من الطبائع المأمور بها، فإنّه ينحلّ إلى كل فرد من تلك الطبيعة في الخارج. فكما أنّ الطبيعيّ لا وجود له في الخارج على نحو الاستقلال، فالمردّد أيضاً لا وجود له في الخارج على نحو الاستقلال. فمتعلّق الإرادة في محلّ البحث إنّما هو مفهوم (أحدهما) الذي ينطبق على كلّ واحدٍ منهما خارجاً على سبيل البدل، ويكون حاكياً عن كلّ واحد منهما، وهذا المفهوم جامع انتزاعيّ مأخوذ منهما، فيكون كلّ واحد منهما مصداقاً له.

ولكنّ ما أفاده(قدس سره) من الفرق بين الإرادتين التشريعيّة والتكوينيّة في عدم إمكان تعلّق الإرادة التكوينيّة بالمردّد وإمكان تعلّق التشريعيّة به، فليس على ما ينبغي، بل الإرادة التشريعيّة أيضاً لا يمكن أن تتعلّق بالمردّد؛ لأنّ إرادة العبد في مقام الامتثال تابعة لإرادة المولى، بمعنى: أنّها لابدّ أن تتعلّق بنفس ما تعلّقت به إرادة المولى الآمر؛ إذ لا معنى للامتثال إلّا الإتيان بمراد المولى، وإتيان مراده بالاختيار لا يكاد يمكن إلّا أن تتعلّق إرادته بعين ما تعلّقت به إرادة المولى.وبعبارة أُخرى: فإنّ تعلّق إرادة المولى بشيء إنّما يكون ويتحقّق لأجل أن يكون محرّكاً نحو للعبد نحو إرادة نفس ذلك الشيء الذي تعلّقت إرادته به، لا إلى شيءٍ آخر، فلابدّ وأن يكون ذلك الشيء الذي

ص: 252

أراده المولى قابلاً لأن تتعلّق إرادة العبد به أيضاً، وذلك لا يكون إلّا إذا كان ذلك الشيء متميّزاً له، لا مبهماً مردّداً.

فثبت: أنّ كلّ ما لا يمكن أن تتعلّق به الإرادة التكوينيّة فلا يمكن أن تتعلّق به الإرادة التشريعيّة، فلا فرق بين الإرادتين من هذه الجهة.

وأمّا ما أفاده) من أنّ هناك فرقاً بين الإرادتين من ناحية إمكان أن تتعلّق الإرادة التشريعيّة تتعلّق بالكلّي دون التكوينيّة.

ففيه: أنّ التكوينيّة أيضاً قد تتعلّق بالكلّي، باعتبار أنّ وجود الكلّي في الخارج لا يكون إلّا بعد تشخّصه بالخصوصيّات والعوارض المشخّصة، فتكون هذه المشخّصات متعلّقةً للإرادة بها بالعَرَض، بواسطة ملازمة وجودها لوجود الكلّي. فإذا كانت المصلحة الموجبة لتعلّق الإرادة في نفس الكلّي والطبيعة، ولم يكن للعوارض المشخّصة والخصوصيّات دخل فيه أصلاً، فلا محالة، يكون المراد بالذات هو نفس الطبيعة، وتكون تلك العوارض الملازمة لها مرادةً تبعاً، لعدم انفكاكها عن تلك الطبيعة وذلك الكلّي.وأمّا ما ذكره من أنّ الإرادة التشريعيّة تنقسم إلى التعبّديّة والتوصّليّة دون التكوينيّة:

ففيه: أنّه تفريق بلا فارق؛ فإنّ التعبّديّة _ كما ذكره الاُستاذ المحقّق)_ ليس لوناً للإرادة حتى تكون موجبةً لتقسيم الإرادة بقسمين، حتى نقول بوجود هذا التقسيم في التشريعيّة دون التكوينيّة، بل التعبّديّة تحصل

ص: 253

بوجود إرادتين: إحداهما: متعلّقة بنفس العمل. والثانية: بإتيانه بقصد مراديّتة بتلك الإرادة المتعلّقة بذات العمل(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ الخطابات التشريعيّة إن كانت مبرزة لما في نفس المولى من الحبّ والبغض، ولم يكن هناك أيّ إنشاء في البين، فلا يمكن أن يتعلّق الحبّ أو الكراهة بشيء مبهم غير معيّن. وإن كانت إنشاء، فلمّا كان الإنشاء مترتّباً على تصوّر ما فيه المفسدة أو المصلحة، فلا يُعقل تعلّق التصوّر والتصديق اللّذين يستتبعان الإنشاء بأمرٍ مبهم.

وأمّا ما نُسب إلى بعض المحقّقين(2) من كون الإرادة إنشاءً وجوبيّاً للمولى، بحيث يكون إنشاء النسبة متعلّقاً بكلّ واحد من الأبدال، لكن لا مطلقاً، بل بنحو العِدليّة المدلول عليها بكلمة (أو)، ولو لم تكن هذهالكلمة، كان كلّ واحد من الأبدال واجباً تعيينيّاً، وليس الإنشاء في شيءٍ منها مشروطاً بعدم الآخر حتى يلزم الواجب المشروط، كما هو أحد الوجوه الآتية.

لكنّ ما ذكره(قدس سره) إنّما يتمّ بناءً على إمكان تعلّق الإرادة بشيء مبهم، وهذا مخالف لمبناه من عدم الفرق بين الإرادتين في عدم جواز تعلّقهما في المبهم، حيث أفاد(قدس سره) في الردّ على قول المحقق النائيني) بإمكان

ص: 254


1- منتهى الاُصول 1: 217.
2- نقله في منتهى الدراية 2: 542 _ 543، عن اُستاذه في مجلس الدرس.

التفريق بين الإرادتين، من مساواة الإرادتين: التكوينيّة والتشريعيّة، في امتناع التعلّق بالمبهم، وعدم إمكان التفكيك بينهما في جواز تعلّق التشريعيّة بالمبهم، وعدم جواز تعلّق التكوينيّة به.

القول الثالث:

ما اختاره المحقق العراقيّ(قدس سره) من أنّ الإرادة وإن تعلّقت بكلّ واحدٍ من الطرفين أو الأطراف، ولكنّ كلّ واحدةٍ من الإرادتين ليست إرادة تامّة، بل كلتاهما تكونان ناقصتين، بمعنى: أنّ كلّ واحدةٍ منهما لا توجب سدّ جميع أبواب عدم متعلّقها، بل تسدّ أبواب عدمه إلّا باب عدمه في ظرف وجود الطرف الآخر، فلا تحريك لهذه الإرادة في ظرف وجود الطرف الآخر. فتحريكها للمكلّف نحو الفعل ليس تحريكاً تامّاً بحيثيحرّكه نحوه في جميع الظروف والحالات، فالقول بأنّها ناقصة باعتبار نقص في تحريكها وداعويّتها في بعض الظروف والحالات، كما لو أراد المولى الصوم _ مثلاً _ في كلّ حال إلّا في حال وجود العتق.

فيتحصّل من هذا شيئان:

الأوّل:

أنّ تعلّق الإرادة بالطرفين أو الأطراف يكون على وجه ناقص، ولازم هذا النقصان هو جواز ترك بعض الأطراف في ظرف وجود الآخر.

والثاني: أنّ تركه لجميع الأطراف موجب للإثم، لعصيانه وعدم

ص: 255

الإتيان بما هو متعلّق الإرادة الفعليّة (1).

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّه إذا كانت هناك إرادات متعدّدة فلا مانع من تعدّد العقاب لأنّه خالفها، ولم يمتثل الإرادات المتعدّدة، وتكون الإرادة تامّة عند ترك الجميع.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه يمكن أن يقال بعدم العقاب إذا كانت مصلحة جميع الأطراف واحدة، إذ لم تفت إلّا مصلحة واحدة، فلايكون إلّا عقاب واحد. وأمّا لو قلنا بتعدّد المصلحة، ولكن حيث لا يمكن تحصيل الجميع لعدم إمكان اجتماع الإرادتين معاً في عالم الوجود، لما بينها من تضادّ في الوجود، فأيضاً لم تفت إلّا مصلحة واحدة.

ثمّ لو قلنا بتعدّد المصلحة وإمكان اجتماعها، فعلى هذا الفرض: وإن فاتت مصالح متعدّدة، لكن حيث إنّ كلّها غير لازمة التحصيل، بل إيجاد إحداها كان كافياً عند المولى، بحيث ما كان يطالب بالبقيّة لو كان يأتي بإحداها، فلا يكون هناك إلّا عقاب واحد.

وثانياً: أنّه لا يمكن تصوّر النقصان في الإرادة، نعم، يمكن تأويله

ص: 256


1- انظر: منتهى الاُصول: 1: 217_ 218. وقال في نهاية الأفكار 1: 391 _ 392، ما نصّه: «إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير، فالمرجع فيه _ كما عرفت _ إلى وجوب كلّ واحدٍ منها، لكن بإيجابٍ ناقص، بنحو لا يقتضي إلّا المنع عن بعض أنحاء تروكه، وهو الترك في حال ترك البقيّة»، إلى آخر ما جاء في كلامه(قدس سره).

بضعف الشوق وتأكّده، نظير ما قال به جماعة في التفريق بين الوجوب والاستحباب.

والحقّ: أنّه لا يمكن تصوّر النقصان في الإرادة بأيّ معنى فسّرناه؛ لأنّها عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فما لم يصل إلى هذه المرتبة فلا يصدق عليه الإرادة.

وثالثاً: لو أردنا توجيه كلامه بأن نقول: إنّ معنى كلامه(قدس سره) هو أنّ إرادة كلّ واحد من الأطراف مقيّدة بعدم الطرف الآخر. ففيه: أنّ هذا رجوع إلى القول الأوّل.

القول الرابع:

اشارة

أنّ كلّ واحدٍ من الأطراف واجب ومتعلّق للإرادة التامّة، غاية الأمر: أنّ متعلّق كلّ واحدةٍ من الإرادتين ليس واجباً مطلقاً، بل وجوب كلّ واحدٍ منهما يكون مشروطاً بعدم وجود الآخر، فلا إطلاق في وجوب كلّ واحدٍ منهما يشمل حتى الوجوب الآخر.

ولكن يرد عليه الإشكال:

أوّلاً: أنّ وجوب كلٍّ من الطرفين _ بناءً على هذا القول _ متأخّر عن عدم الآخر؛ لأنّ المفروض أنّه مشروط به، والمشروط متأخّر عن شرطه، وعدم كل واحدٍ منهما في رتبة وجود نفسه؛ لأنّ النقيضين في مرتبة واحدة، فالنتيجة: أن يكون وجوب كلّ واحدٍ منهما متأخّراً عن وجود

ص: 257

الآخر، فيكون موقوفاً على وجود الآخر، والحال أنّه موقوف على عدمه، وهذا تناقض، وهو محال.

وثانياً: أنّ وجوب كلّ واحد من الأطراف _ بناءً على هذا القول _ يكون على نحو التعيين، لا التخيير.

وثالثاً: أنّه يستلزم تعدّد العقاب عند ترك الجميع؛ لحصول شرط وجوب الكلّ، وهو عدم وجود سائر الأطراف، فيكون الوجوب فعليّاً حينئذ بالنسبة إلى جميع الأطراف.ورابعاً: أنّ مرجع هذا _ كما ذكرنا سابقاً _ إلى أمرين: أوّلهما: تعدّد العقاب، وثانيهما: عدم إمكان الجمع بين الملاكات؛ لتضادّها في عالم الوجود، بمعنى: أنّ وجود كلٍّ من الافراد يكون مانعاً من استيفاء الآخر أو الأُخر.

وخامساً: لو فُرض تعدّد الملاكات في الأطراف، فلا يمكن أن يكون الملاك في كلّ واحد من الأطراف ملاكاً تامّاً لكي نلتزم بإناطة وجود كلٍّ من الأطراف بعدم الآخر؛ لأنّ هذه الإناطة إنّما تصحّ في مورد التزاحم الاتفاقيّ، أي: في باب التزاحم، حيث يتساوى الواجبان في الملاك، ويكون الملاك في كلٍّ منهما تامّاً، فإنّنا نقول هناك بتقييد كلّ واحدٍ من الخطابين بعدم وجود متعلّق الآخر؛ لأنّ ملاك كلّ واحدٍ من الحكمين هناك تامّ، والتقييد إنّما جاء من جهة العجز وعدم القدرة، كإنقاذ الغريقين مع عدم أولويّة أحدهما ورجحانه على الآخر حيث لا يمكن تحصيل كلا

ص: 258

الملاكين وإنقاذ كلا الشخصين؛

وذلك لأنّ فعليّة الخطاب مشروطة بأمرين:

أحدهما: كون المأمور به ذا ملاك تامّ.

والآخر: كونه مقدوراً للمكلّف.

وبانعدام كلّ واحدٍ من هذين ينعدم الخطاب، كما أنّه لو كان ذو الملاك التامّ مقدوراً في بعض الأحيان والظروف دون بعض آخر، فلامحالة

يتقيّد الخطاب ويُصبح مشروطاً بتلك الحال وبذلك الظرف، كما هو الحال في باب الحكمين، ولا معنى لسقوط الخطابين رأساً بعد وجود الملاك التامّ في كلّ واحد من المتعلّقين، بل لابدّ من تقيّد الخطاب بمقدار العجز؛ لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وهذا بخلاف محلّ البحث؛ فإنّ التزاحم هنا ليس اتّفاقيّاً، بل هو تزاحم دائميّ؛ لأنّه من باب تزاحم الملاكات، فلا يمكن هنا فرض وجود ملاك تامّ في كلّ واحدٍ من الطرفين أو الأطراف؛ لابتلاء كلّ واحدٍ منها بالمزاحم، وبما أنّ العجز والتزاحم دائمان، فلا محالة: يكون أحد الملاكين، أو الملاكات، هو المؤثّر، لا جميعها.

القول الخامس:

إرجاع

التخيير الشرعيّ إلى التخيير العقليّ، ويكون متعلّق الإرادة هو الجامع الانتزاعيّ؛ لما عرفت من أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، وأنّ المتباينات بما هي متباينات لا تؤثّر في واحد بمقتضى

ص: 259

القاعدة،

فلابدّ حينئذ أن يكون بين هذه الأطراف جامع يكون بهذا الجامع مؤثّراً في هذا الغرض الواحد، فمتعلّق الوجوب في الحقيقة واحد وهو الجامع لا الأفراد، حتى يُصبح التخيير شرعيّاً.وإذا كان المتعلّق هو الجامع، فلازمه: كون التخيير بين الأفراد عقليّاً؛ لأنّ مطلوبيّة كلّ واحدٍ معناه: مصداقيّته للجامع، فالجامع _ إذاً _ هو المتعلّق، دون الأفراد، فليس كلّ واحدٍ من الأفراد دخيلاً بخصوصيّته الشرعيّة في متعلّق الوجوب. نعم، تكون الخصوصيّة الفرديّة من لوازم الوجود، وهذا هو الفارق بين التخيير الشرعيّ والعقليّ.

وفيه:

أوّلاً: أنّ هذه القاعدة لا تجري إلّا في الواحد الشخصيّ البسيط من جميع الجهات، بل قد التزمنا في محلّه بعدم جريانها في الفاعل الموجَب، فضلاً عن المختار.

وعلى فرض التنزّل، فهي إنّما تتمّ في الواحد الشخصيّ، دون النوعيّ، كالاقتدار على الاستنباط الذي هو الغرض من علم الاُصول.

وثانياً: على فرض التنزّل والقبول بجريانها في المقام، فليس كلّ جامع ممّا يمكن أن يكون مورداً للتكليف، بل لابدّ وأن يكون جامعاً قريباً عرفيّاً، يعرفه المكلّف ويميّزه، حتى يكون حاله بالنسبة إلى الأطراف كحال سائر الطبائع بالنسبة إلى أصنافها وأفرادها، فيكون فعلاً اختياريّاً ينطبق على أطراف التخيير انطباق الكلّيّ الطبيعيّ على أفراده، ولا يندرج

ص: 260

في التكليف بالمجهول. فحتى لو سلّمنابتماميّة القاعدة، وبأنّها تجري حتى في الواحد النوعيّ، فإنّها لا تفيد هنا لإثبات مثل هذا الجامع.

وثالثاً: سلّمنا صحّة هذا القول في نفسه، إلّا أنّ لازمه: إرجاع الواجب التخييريّ إلى الواجب العقليّ، فيكون متعلّق الطلب _ حينئذٍ _ هو نفس الطبيعة، وهذا خلاف ظاهر الأدلّة؛ لأنّ الظاهر من مثل: (صُم) أو (أعتق) أو (أطعم) أنّ خصوصيّة كلّ واحد من الأطراف تكون مرادةً، فالإرادة _ بناءً على ما ذكر _ إنّما تعلّقت بالجامع والتخيير فيما بينها عقليّ، أي: أنّ العقل يخيّر المكلّف في إيجاد ذلك الجامع وتطبيقه في الخارج في ضمن هذه الخصوصيّة أو تلك، فالخصوصيّة على الثاني دخيلة في المطلوبيّة، دونها على الأوّل، وهو معنى التخيير العقليّ.

القول السادس:

أنّ متعلّق الإرادة هو العنوان الكلّيّ الانتزاعيّ، وليس هو الجامع الملاكيّ، وهو _ مثلاً _ مفهوم (أحدهما) أو (أحدها).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ المفهوم الانتزاعيّ لا ملاك له ولا مصلحة فيه، والإرادة والطلب والوجوب إنّما تكون تابعة للملاك والمصلحة، وعليه: فلا صلاحيّة لذلك العنوان لكي يكون متعلّقاً لشيءٍ من الطلب والإرادة.وثانياً: انّ المفهوم الانتزاعيّ لا مطابق له في الخارج؛ إذ الأطراف في

ص: 261

الخارج ليست إلّا عبارةً عن نفس الصوم والكفّارة والعتق، لا المفهوم المردد.

وثالثاً: إذا لم يكن العنوان صالحاً لأن يكون مركباً للملاك والمصلحة، فلا يمكن للإرادة أن تتعلّق به، وحينئذٍ: فلابدّ أن يكون متعلّق الإرادة هو محكيّ ذلك العنوان، لا نفسه، ومعه: يرجع الإشكال المتقدّم، وهو أنّه كيف جاز تعلّق الإرادة بهذه الأطراف، مع أنّ الظاهر من الأدلّة الواردة بلسان: (افعل هذا أو ذاك) هو أنّ المتعلّق ليس هو المفهوم المردّد؟! بل تكون كلّ الخصال واجبةً ومتعلّقةً للإرادة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: عدم صحّة ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من أنّ المتعلّق هو الجامع الانتزاعيّ؛ فإنّه إذا جاز أن تتعلّق به الصفات الحقيقيّة، «فما ظنّك بالحكم الشرعيّ الذي هو أمر اعتباريّ محض؟! وقد تقدّم منّا غير مرّة: أنّ الأحكام الشرعيّة اُمور اعتباريّة، وليس لها واقع موضوعيّ ما عدا اعتبار الشارع، ومن المعلوم: أنّ الأمر الاعتباريّ كما يصحّ أن تتعلّق بالجامع الذّاتيّ، كذلك يصحّ تعلّقه بالجامع الانتزاعي، فلا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال في ذمّة المكلّف»(1).وجه الفساد: أنّه غير ممكن كما مرّ، وقياسه على الجامع الذّاتيّ في غير محلّه، وكذا قياس الحكم الشرعيّ على الأمر الاعتباريّ المحض؛

ص: 262


1- محاضرات في الاُصول 2: 201.

لأنّ له واقعاً، غاية الأمر: أنّ واقعه هو وعاء الاعتبار.

القول السابع:

أنّ الواجب في الخارج هو كلّ واحد من الأطراف على نحو التعيين، غاية الأمر: أنّ الإتيان بأحدها يكون مسقطاً لوجوب باقي الأطراف، كما لو أنّ موضوعه بعد الإتيان بأحدها قد انتفى.

وفيه:

أوّلاً: لو كان كلّ واحد من الأطراف وافياً بغرضه، فلا وجه لوجوب كلّ واحدٍ منهما، أو منها، تعييناً مطلقاً؛ لأنّ الآمر لا يريد إلّا شيئاً واحداً، فهو في ظرف وجود أحدها لا يريد سائر الأطراف.

وثانياً: أنّه مخالف لظاهر الأدلّة؛ فإنّه يظهر من كلمة (أو) تعلّق الوجوب بكلّ واحد على نحو التخيير.

وثالثاً: لزوم تعدّد العقاب عند ترك الجميع، ومن المعلوم أنّه ليس في الواقع إلّا ملاك واحد، فتفويته لا يكون مستوجباً إلّا عقاب واحد.ورابعاً: أنّه يرجع إلى القول الرابع، وهو وجوب كلّ واحد من الأطراف عند عدم الإتيان بالآخر؛ لأنّ الآمر لا يريد سائر الأطراف في ظرف وجود أحدها، فلا محالة: تتقيّد الإرادة في كلّ واحد منها بعدم وجود الطرف الآخر.

ولكن قد يمكن التفريق بين القولين: بأنّه _ على هذا القول _ فعند وجود

ص: 263

أحد الأطراف تكون بقيّة الأطراف أيضاً واجبة، ولا يسقط الواجب عن بقيّة الأطراف إلّا من جهة عدم بقاء الموضوع، وبهذا يُفَرّق بين هذا القول وبين القول الرابع.

القول الثامن:

أنّ الواجب هو المعيّن عند اﷲ وفي علمه عزّ وجلّ، وإنّما الجهل والترديد حصل عندنا.

وفيه:

أوّلاً: أنّه خلاف ظاهر الأدلّة؛ فإنّ ظاهر الأدلّة هو أنّ الوجوب متعلّق بكلّ واحدٍ من الأطراف، لكن على نحو الترديد، لا كما يقتضيه هذا القول من وجوب كلّ واحدٍ منها على نحو التحديد.وثانياً: أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وإرادة اﷲ تعالى لا تتعلّق إلّا بشيءٍ يكون فيه المصلحة، وهذه المصلحة: إمّا أن تكون موجودة في أحد الأطراف، وإمّا أن تكون موجودة في جميعها.

فإن

كانت موجودة في أحدها المعيّن، فالواجب هو ذاك المعيّن، ولا معنى للترديد.

وإن كانت موجودة وتامّة في سائر الأطراف أيضاً، فلابدّ _ حينئذٍ _ من الإتيان بالجميع؛ لفرض إيجاب الجميع، وإلّا، للزم كفّ الفيض من مستحقّه.

ص: 264

وأمّا لو لم يكن فيها تامّاً، فكيف يسقط الواجب بالإتيان بها؟! ويلزم من هذا _ أيضاً _ تفويت الواجب التامّ الملاك بلا موجب ولا مبرر.

ولو كان في كلّ واحدٍ منها تامّاً، ولكن كان كلّ واحدٍ منها مغنياً وكافياً ووافياً بالغرض فلا وجه للقول بأنّ أحدهما المعيّن يكون واجباً، بل يكون كلّ واحد منها حينئذٍ واجباً في ظرف عدم وجود الآخر.

نعم، هذا يتمّ بالنسبة إلى العلم الإجماليّ، حيث إنّه يكون مردّداً في مقام الإثبات ومعلوماً في مقام الثبوت، ولا يتمّ في المقام؛ لأنّه لا معنى لصدور الخطاب على نحو الترديد.مع أنّه لو فُرِض أنّ المقام مقام العلم الإجماليّ، فلابدّ حينئذٍ من الإتيان بجميع الأطراف حتى يُعلم بحصول الواجب الواقعي.

إلّا أن يقال: إنّ سقوط الواجب بواسطة الإتيان بأحد الأطراف إذا كان من جهة استيفاء الغرض وحصول الملاك، فلا يجب الإتيان ببقيّة الأطراف حينئذٍ.

القول التاسع:

أنّ الواجب هو المجموع من حيث المجموع، ولكنّ الواجب يسقط بالإتيان بالبعض.

وفيه:

أوّلاً: أنّه على خلاف الظاهر من الأدلّة.

ص: 265

وثانياً: إنّ معنى القول بأنّ الواجب هو المجموع من حيث المجموع: أنّ كل واحد من الأطراف يكون دخيلاً وجزءاً للمأمور به، ومعه: فكيف يمكن الاكتفاء ببعضها؟!

وثالثاً: بما أنّ الاجتماع قيد زائد، فلو شككنا بأنّه قيد للمتعلّق أم لا؟ يمكن دفعه بالأصل.

القول العاشر:

أنّ متعلّق الوجوب هو الجامع الأصيل بحيث يكون الغرض قائماً به.

وفيه:

أوّلاً: أنّه لا يمكن تصوير جامع حقيقيٍّ بين الاُمور المتباينة.

وثانياً: سلّمنا إمكان تصوير الجامع الحقيقي، إلّا أنّ لازم هذا القول: أن يكون الملاك موجوداً في نفس هذا الجامع، لا في الأفراد، مع أنّ الملاك يكون دائماً في الأفراد، وأمّا الجامع إنّما هو بمنزلة القنطرة للوصول إلى الأفراد.

وثالثاً: أنّ نتيجة القبول بهذا القول هي: الإرجاع إلى التخيير العقليّ، وإنكار التخيير الشرعيّ.

ورابعاً: أنّه على فرض التنزّل، فلابدّ أن يكون الجامع قابلاً للإلقاء إلى المخاطب، بحيث يكون مميّزاً، وهذا ما لا يمكن تصويره هنا؛ فإنّ الفرد المردّد ليس مميّزاً، وإذا لم يكن مميّزاً في الخارج فلا يمكن معرفته لكي

ص: 266

يرِد الأمر عليه.

وإذا عرفت هذا:

فالإشكال المزبور وارد على جميع هذه التعاريف والأقوال، والأقلّ إشكالاً بينها إنّما هو القول السابع.ومع ذلك، فإنّ البحث عن إمكان الوجوب التخييري لا يكاد يكون مفيداً بعد التسليم بوقوعه في الخارج، فلا فائدة لهذا البحث إلّا الفائدة العلميّة، وليس له من أثرٍ عمليّ؛ فإنّ عدم معرفة الواجب المردّد غير مضرٍّ بعد وقوعه في الشرعيّات والعُرفيّات.

تكملة:

اشارة

لو

شكّ في الواجب أنّه تعيينيّ أو تخييريّ، فالأصل أن يكون تعيينيّاً لا تخييريّاً؛ لاحتياج التخييريّ إلى مؤونةٍ زائدة، والأصل عدمها.

الكلام في التخيير بين الأقلّ والأكثر

ويقع البحث فيه تارةً في الأقلّ والأكثر المأخوذين (بشرط لا)، وأُخرى في الأقلّ والأكثر المأخوذين (لا بشرط).

وأيضاً: فتارةً يقع البحث في الاُمور التدريجيّة، وأُخرى في الاُمور الدفعيّة.

والتخيير: تارةً: يكون عقليّاً، كما في صورة وحدة الغرض وكون

ص: 267

متعلّق الوجوب هو الجامع بين الفعلين.

وأُخرى: يكون شرعيّاً، كما في صورة تعدّد الملاك.ولا يخفى: أنّ المُراد ومحلّ البحث هنا هو التخيير الشرعيّ فقط.

وأمّا التخيير العقليّ فإمكانه في غاية الوضوح، خصوصاً فيما يُوجد دفعةً لا تدريجاً.

وكذا

لا مانع من التخيير الشرعيّ أيضاً، فيما إذا كان الأقلّ بشرط لا وبين الأكثر، كالتخيير بين القصر والإتمام في أماكن التخيير، لكنّه _ في الحقيقة _ يرجع إلى التخيير بين المتباينين، ويخرج عن التخيير بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ الشيء مأخوذاً (بشرط لا) مباين للشيء مأخوذاً (بشرط شيء).

وأمّا التخيير بين الأقلّ لا بشرط عن الزيادة وبين الأكثر تخييراً شرعيّاً، فلا يخلو من إشكال؛ لأنّه في التدريجيّات يحصل الغرض والواجب دائماً قبل الأكثر، خصوصاً في التدريجيّات التي أجزاؤها وأبعاضها منفصلة بعضها عن بعض، فينكشف بذلك: أنّ الواجب هو الأقلّ، ويسقط الأكثر ولا يتّصف بالوجوب حينئذٍ؛ لأنّ الوجوب تابع لما في متعلّقه من الغرض، فإذا فرض حصوله بالإتيان بالأقلّ يسقط الأمر، فلا يبقى وجه لوجوب الباقي.

هذا في التدريجيّات.

وأمّا في الدفعيّات: فيمكن أن يقال بإمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر،

ص: 268

كما إذا كان هناك مصلحتان: مصلحة قائمة بالأقلّ، ومصلحةقائمة بالأكثر، وكان كلّ واحد من الغرضين والمصلحتين وافياً بغرض الآمر، فلا محالة: يتعلّق الأمر بما فيه الغرض، وهكذا الإرادة فهي تتعلّق بكلّ منهما.

وأمّا القول بعدم الإمكان _ بدعوى: «أنّه لا يجوز ترك الزائد على الأقلّ إلّا إلى بدل»(1) _ فغير تامّ؛ لأنّ هذه القاعدة لا تجري بالنسبة إلى الأجزاء التي يدور أمرها بين الأقلّ والأكثر.

نعم، من خواصّ الواجب التخييريّ هو عدم جواز ترك مجموع الواجب إلّا إلى البدل.

وبعبارة أُخرى: فإذا وُجد الأكثر دفعةً، بحيث لا يكون للأقلّ في ضمنه وجود مستقلّ، كالخطّ الطويل إذا تحقّق دفعةً؛ فإنّه ليس للأقلّ الذي في ضمنه وجود مستقلّ، فيمكن التخيير.

وأمّا إذا كان للأقلّ وجود مستقلّ، ولو في ضمن الأكثر، كالتسبيحة، فلا تخيير هناك بعدما كان الأقلّ _ إذا أتى به _ وافياً للغرض.

ص: 269


1- منتهى الاُصول 1: 225.

ص: 270

الواجب العينيّ والكفائي

اشارة

والكلام فيه في اُمور:

الأوّل: في تعريف الواجب الكفائي:

لا يخفى: أنّ الوجوب في الواجب الكفائيّ يتعلّق بكلّ واحد من المكلّفين بنحو العامّ الاستغراقيّ، وأنّ الوجوب يسقط بفعل بعضهم، دون العينيّ؛ فإنّه لا يسقط عن أحدٍ منهم بفعل الآخرين، بل إنّما يسقط بفعل المكلّف نفسه فقط.

الأمر الثاني: الفرق بينه وبين الواجب التخييري:

الفرق بينهما: أنّ البحث في الواجب التخييريّ كان بالنسبة إلى متعلّق التكليف والمكلّف به كما مرّ، وأمّا الواجب الكفائي: فالبحث عنهبالنسبة إلى الفاعل والمكلّف، أي: أنّ المكلّف يكون جميع الآحاد وجميع الأشخاص، بمعنى: أنّ كلّ واحدٍ منهم يكون بدلاً عن الآخر،

ص: 271

بحيث لو ترك الكلّ لأثموا جميعاً.

وقد يظهر من الكفاية(1) أنّ البحث فيه هو على حدّ البحث في الوجوب التخييريّ.

إلّا أنّك عرفت أنّ موضوع البحث هناك كان عبارة عن متعلّق الحكم، وأمّا المبحوث عنه هنا فهو المكلّف.

الأمر الثالث: محلّ البحث في الواجب الكفائي:

ذكرنا في مبحث الواجب التخييريّ أنّ البحث إنّما يقع في مقام الإثبات، دون مقام الثبوت والفعليّة. وهذا الكلام _ بعينه _ يأتي هنا، بعد وضوح وجود الواجب الكفائي في الشرعيّات، كما في دفن الميّت وردّ السلام.

الأمر الرابع: في بيان كيّفيّة تعلّق الوجوب:

لا يخفى: أنّ التكليف باعتبار المكلّف به تارةً يقع بنحو صرف الوجود، وأُخرى باعتبار مطلق الوجود. وكذا بالنسبة إلى المكلّف، فهو تارةً يكون بنحو صرف الوجود من المكلّف، وأُخرى باعتبار مطلق وجوده منه. فبناءً على الأول يكون كفائيّاً، وأمّا بناءً على الثاني فإنّه يكون عينيّاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّ التكليف إذا كان بنحو مطلق الوجود والعامّ

ص: 272


1- كفاية الاُصول: 143.

الاستغراقيّ يكون الخطاب به انحلاليّاً من قبيل الواجب العينيّ، وإذا كان بنحو صرف الوجود فيكون من قبيل الواجب الكفائي.

وبما أنّ الواجب الكفائيّ مأخوذ على نحو صرف الوجود، فهو يسقط بفعل البعض، ويستحقّ الجميع العقوبة عليه لو تركوا العمل؛ لأنّ موضوع التكليف _ بحسب الفرض _ هو صرف الوجود من طبيعيّ المكلّف، فبامتثال أحد المكلّفين يتحقّق صرف الوجود الداعي إلى الأمر، فيسقط الغرض، وبسقوط الغرض يسقط الأمر أيضاً بتبعه.

وأمّا الوجه في استحقاق الجميع للعقاب عن تركهم له، فهو وجود المناط؛ لأنّ إتيان كلّ واحد من المكلّفين مصداق لصرف الوجود، فإذاكان كلّ واحدٍ منهم مخالفاً للتكليف المتوجّه إليه، فمن الطبيعيّ أن يكون مستحقّاً العقوبة.

وأمّا استحقاق الجميع للمثوبة عند امتثال الكلّ للتكليف؛ فلأنّ الفعل قد صدر من كلّ واحدٍ منهم، فينطبق عليه صرف الوجود، فامتثال كلّ واحدٍ للأمر المتوجّه إليه محقّق لصرف الوجود، فيوجب استحقاق كلّ ممتثلٍ للمثوبة.

هذا في صورة امتثالهم للأمر دفعة.

وإلّا، فإنّ كلّاً من الملاك والأمر يسقطان بمبادرة السابق منهم إلى العمل، فلا يبقى للأمر موضوع حينئذ، فليس ثمّة ما يوجب استحقاق الجميع للمثوبة.

ص: 273

الأمر الخامس: تصوير كيفيّة تعلّق الوجوب في الواجب الكفائيّ:

اشارة

قد ذكروا في تصويره وجوهاً:

الوجه الأوّل:

ما في الكفاية من أنّ الوجوب الكفائيّ سنخ من الوجوب يتعلّق بكل مكلّف، وهو يُعرف بآثاره ولوازمه، من عقاب الكلّ لو أخلّوا بامتثاله جميعاً، ومن سقوطه بامتثال البعض.

قال): «والتحقيق أنّه من سنخ الوجوب، وله تعلّق بكلّ واحد، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم، وذلك لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد، حصل بفعلٍ واحد، صادر عن الكلّ أو البعض. كما أنّ الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعةً، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكلّ، كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلولٍ واحد»(1).

وتوضيحه: أنّ التكليف في الوجوب الكفائيّ يتعلّق بكلّ واحد من المكلّفين على نحو العامّ الاستغراقيّ، فحاله في التعلّق بهم إنّما هو حال الوجوب العينيّ، وإن كان يسقط بفعل البعض وامتثاله عن الباقي.

فالوجوب، سواء كان كفائيّاً أم عينيّاً، سنخ واحد، وهو يتعلّق بكلّ

ص: 274


1- كفاية الاُصول: ص 143.

واحد

واحد من الأفراد، ولا يجوز أن يكون متعلّقاً بالمبهم؛ لأنّ ذلك غير معقول، لامتناع التحريك والبعث نحو المبهم. كما لا يجوز أنيكون متعلّقاً بالمعيّن؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فلابدّ وأن يكون متعلّقاً بالجميع، كالوجوب العينيّ، ولا فرق بينهما أصلاً من هذه الناحية. فإذا امتثل الكلّ كانوا جميعاً مستحقّين للثواب، وإذا عصى الكلّ وتركوا كانوا جميعاً مستحقّين للعقاب.

ولكن، هل يكون كلّ واحد منهم مستحقّاً لعقاب مستقلّ، أم أنّ هناك عقاباً واحد للكلّ؟!

الحقّ: أنّ الكلّ يستحقّون العقاب حينئذٍ، ولكن، هو عقاب واحد ليس أكثر؛ لأنّ الغرض واحد، فتفويت الجميع لذلك الغرض لا يكون إلّا تفويتاً للغرض الواحد، فيكون ما يستحقّونه حينئذٍ عقاباً واحداً.

وقد ظهر بذلك: أنّ ما ذكره بعض شارحي الكفاية _ بقوله: «فإذا امتثل الكلّ استحقّوا الثواب وإذا عصوا استحقّوا العقاب، بمعنى: استحقاق كلّ واحدٍ منهم عقاباً مستقلّاً كما في الواجبات العينيّة»(1) _ من تعدّد العقاب في صورة الترك والعصيان من الكلّ، غير صحيح.

نعم، ثمّة فرق بين الوجوب الكفائيّ والعينيّ، وهو أنّ الأول يسقط عن بقيّة المكلّفين بمجرّد أن يمتثله واحد منهم؛ وذلك لارتفاع موضوع

ص: 275


1- منتهى الدراية 2: 566.

التكليف حينئذ، فإنّ وجوب تجهيز الميّت _ مثلاً _: هوالميّت الذي لم يجهّز، وظاهر أنّ تجهيزه مرّةً واحدة يخرجه عن هذا الموضوع، وإلّا، فليس هناك فرق بين الكفائيّ والعينيّ في أصل حقيقة الوجوب، وإنّما الفرق من جهة الخصوصيّة المأخوذة في متعلّق الوجوب الكفائيّ، وهي خصوصيّة ترتفع بمبادرة واحد منهم إلى الامتثال، الأمر الذي يوجب سقوط الوجوب عن الباقي؛ لعدم بقاء الموضوع.

ومن

هنا ظهر: فساد ما يستفاد من كلام الاُستاذ المحقق(قدس سره)، من أنّه إذا كان الملاك في الوجوب الكفائيّ مطلقاً، كما هي الحال في الملاك في الوجوب العينيّ، فلا معنى حينئذٍ لسقوط الوجوب فيه بفعل الآخرين وإتيانهم بالمأمور به، بل لابدّ من بقائه، سواء فعل الآخرون أم لم يفعلوا.

قال): «وممّا ذكرنا تبيّن فساد ما احتمل أيضاً من كون كلّ واحد منهما واجباً عينيّاً، غاية الأمر: أنّه يسقط بفعل الآخر؛ لأنّه لو لم يكن الملاك مطلقاً، فلا وجه لوجوبها بالوجوب العينيّ؛ لأنّ الوجوب العينيّ عبارة عن إطلاق الوجوب، بمعنى: وجود الوجوب وتحقّقه مطلقاً، سواء فعل الآخرون أم لا»(1).وجه الفساد: أنّ سقوط الأمر ليس من جهة عدم الملاك، بل من جهة

ص: 276


1- منتهى الاُصول 1: 228.

عدم بقاء الموضوع.

الوجه الثاني:

ما نُسِب إلى جمع من العامّة، كالرازي والبيضاويّ، وعُزي إلى الشافعيّة(1)، وحاصله: أنّ الوجوب الكفائيّ يتعلّق بالبعض ممّن يُكتفى به في أداء الفعل، وذلك نظير ما ذكروه في الواجب التخييريّ من انّ الوجوب قد تعلّق بواحد لا بعينه، غاية الأمر: أنّ الإبهام هناك كان في المكلّف به، وأمّا هنا، فهو في المكلّف.

ولكن فيه:

أوّلاً: قد بيّنّا هناك أنّه لا يمكن تعلّق التكليف بالمبهم، فهو غير ممكن ها هنا أيضاً.

وثانياً: أنّه مخالف لظواهر الأدلّة في الواجبات الكفائيّة، كما في الحديث عن النبيّ- «لا تَدَعوا أحداً من اُمّتي بلا صلاة»(2)؛ فإنّ الظاهر أنّ الخطاب فيه متوجّه إلى الجميع، فيكون ظاهراً في العموم.وثالثاً: انّه ترجيح بلا مرجّح؛ إذ لا وجه لتعلّق الوجوب بالبعض.

ورابعاً: بناءً على هذا القول، فيمكن لكلّ واحدٍ منهم أن يجري الأصل بالنسبة إلى توجّه التكليف بالنسبة إليه.

ص: 277


1- انظر في هذه النسبة: هداية المسترشدين 2: 372.
2- وسائل الشيعة 3: 133، الباب 37 من أبواب صلاة الجنازة، ح3.

الوجه الثالث:

ما نُسِب إلى القطب الشيرازيّ(1)، وحاصله: أنّ الوجوب تعلّق بالمجموع من حيث هو، فإذا تركه الجميع أثموا وكان العصيان ثابتاً بالذّات للمجموع، ولكلّ واحد بالعرض، وأمّا إذا أتى به البعض سقط عن الباقين.

وفيه:

أوّلاً: أنّه مخالف لظاهر الأدلّة؛ فإنّه يظهر منها أنّ الوجوب وارد على كلّ واحد واحد، لا على المجموع بما هو.

وثانياً: أنّه لا معنى لسقوطه بفعل البعض، بعد عدم كون الفعل صادراً عن المجموع؛ فإنّ الأمر _ بناءً على هذا القول _ إنّما ورد على المجموع، فيكون المجموع هو المناط للسقوط.نعم، يمكن أن يقال بالسقوط _ حينئذٍ _ عن الباقين باعتبار انتفاء الموضوع وعدم بقائه؛ لأنّ الموضوع لوجوب الغسل _ مثلاً _ إنّما هو الميّت الذي لم يُغسّل، فبعد قيام أحدهم بتغسيله، وبعد تحقّق الغسل على وجه صحيح، فلا يبقى يصدق عليه عنوان الميّت الذي لم يُغسّل، فيسقط وجوبه حينئذٍ.

ص: 278


1- انظر: هداية المسترشدين 2: 373.

الوجه الرابع:

أنّ الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد من الأفراد يكون مشروطاً بترك الآخر. فلا يكون هناك وجوب على المكلّف إلّا إذا ترك صاحبه، فلو ترك الكلّ أثموا جميعاً، لحصول الترك الذي هو شرط الوجوب لجميعهم. وأمّا إذا فعله واحد منهم فلا يجب على الباقي، لعدم تحقّق الشرط بالنسبة إلى الباقي، لا أنّه يسقط عنهم، لأنّه لم يكن من الأول ثابتاً عليهم حتى يسقط عنهم، فإنّ السقوط فرع الثبوت.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: بأنّه بناءً على هذا الوجه، فلو أتى به الكلّ فلا يتّصف الفعل بعنوان الوجوب أصلاً، لعدم تحقّق شرط الوجوب، وهو ترك البعض، في حقّهم جميعاً. وهو فاسد ضرورة.وثانياً: بناءً على هذا الوجه، فإنّ الوجوب عند ترك البعض يكون عينيّاً.

وثالثاً: لو شكّ بأنّ غيره قد أتى بالفعل أم لا، تجري أصالة البراءة بالنسبة إلى الشاكّ فلا يثبت الوجوب عليه، وهو كما ترى.

ورابعاً: أنّ المناط هو على ظهور لسان الدليل، ولا شكّ في أنّ ظاهره كون الوجوب على كلّ واحد من الأفراد، فالقول بأنّ الوجوب على كلّ واحد يكون مشروطاً بترك الآخر، مخالَفةٌ لظاهر الدليل بلا موجب.

ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره الاُستاذ المحقق(قدس سره) من أنّ الواجب

ص: 279

الكفائيّ يكون متوجّهاً إلى «آحاد المكلّفين بالخطابات الانحلاليّة، كالواجب العينيّ. غاية الأمر: تلك الخطابات في الواجبات العينيّة مطلقة بالنسبة إلى إتيان الآخرين أو اشتغالهم بالإتيان، وفي الواجبات الكفائيّة مشروطة بعدم إتيان الآخرين حدوثاً وبقاءً»(1).

وخامساً: أنّه إرجاع للوجوب الكفائيّ إلى الواجب العينيّ المشروط، وهو إنكار للوجوب الكفائيّ رأساً، الأمر الذي لا نرى له توجيهاً.

وسادساً: أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ مع تعدّد الملاك في كلّ واحد من الأطراف، وامتناع استيفاء الجميع، بسبب وجود تزاحم في مقام الفعليّة،كإنقاذ الغريقين حيث لا يمكن إنقاذهما معاً، فإنّه _ حينئذٍ _ فقط يصحّ أن يقال: بأنّ إطلاق وجوب إنقاذ كلّ منهما لابدّ وأن يكون مقيّداً بترك الآخر، فيصبح الوجوب في كلّ منهما مشروطاً لذلك. وأمّا فيما نحن فيه، فبما أنّ الملاك في الواجب الكفائيّ ليس إلّا ملاكاً واحداً، فلا يكون لهذا الاشتراط المذكور أيّ معنىً أصلاً، كما هو ظاهر.

الوجه الخامس:

أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد منهما مشروطاً بعدم بناء الآخر على الإتيان بالفعل، فإذا علم بكون الغير بانياً على الإتيان بالفعل،

ص: 280


1- منتهى الاُصول 1: 226_ 227.

أو شكّ في عزم الغير على الإتيان به، فيسقط عنه الوجوب؛ لأنّه مصداق للشكّ في التكليف، فتجري فيه البراءة.

ويرد عليه:

أوّلاً: نفس ما ورد على الوجه السابق؛ فإنّ مآل هذا الوجه إلى رجوع الوجوب الكفائيّ إلى الوجوب العينيّ المشروط.

وثانياً: لو كان الجميع بانين على الإتيان بالفعل؛ فإنّ هذا الفعل من أحد منهم لا يكون متّصفاً بالوجوب؛ لعدم تحقّق شرط وجوبه، الذي هو البناء على الترك بحسب الفرض.وثالثاً: أنّ ما ذكروه في الواجبات الكفائيّة، هو أنّها لا تسقط عن الآخرين إلّا بإتيان القائم بالعمل بتمام ما هو الواجب، وأمّا مجرّد شروع بعضهم بالقيام به فلا يوجب سقوطه عن الآخرين على وجه الإطلاق، بل هو إنّما يسقط عنهم سقوطاً مشروطاً بالإتمام. والحال، أنّ ما يلزم بناءً على هذا القول هو سقوط الوجوب وعدم ثبوته في حقّ الآخرين بمجرّد أن يكون البعض بانياً على الإتيان به، ولو لم يشرع به بعد، فضلاً عن إتمامه.

فتحصّل: بطلان سائر الأقوال ما عدا القول الأوّل، وذلك لعدم جواز توجّه الخطاب إلى الواحد المبهم؛ لامتناع البعث والتحريك نحوه، وتعلّقه بواحدٍ معيّن إنّما هو ترجيح بلا مرجّح، وذلك نظير توجّه الخطاب إلى المردّد؛ فإنّ المردّد حيث لم يكن له وجود في الخارج، فلا

ص: 281

ملاك له، فلا معنى لتعلّق الخطاب به.

ومن هنا ظهر عدم صحّة ما ذكره بعض المحقّقين(قدس سره) بقوله:

«وما ربّما يدور في ألسنتهم أنّ المردّد لا وجود له، ولا يجوز البعث والإغراء بالنسبة إليه، فلا يُصغى إليه، ضرورة صحّة التكليف التخييريّ بين الفردين أو الأفراد».. إلى آخر كلامه(قدس سره)(1).وبناءً على ما ذكرناه: فلابدّ من أن يكون الوجوب متعلّقاً بكلّ واحد، حاله في ذلك حال الوجوب العينيّ، بلا فرق بينهما أصلاً من هذه الناحية. فيكون التكليف، كالمكلّف به، متعدّداً وعلى نحو العموم الاستغراقيّ في كلٍّ من الوجوب العينيّ والكفائيّ، فإذا امتثل الكلّ استحقّوا الثواب.

نعم، يرد الإشكال بناءً على هذا:

بأنّه كيف يصحّ أن يقال بتعدّد العقاب في الواجب الكفائيّ مع وحدة ملاكه؟! فإنّ وحدة الملاك لا يمكن يجتمع معها تعدّد الخطاب، بل إنّ الوحدة في الملاك تقتضي _ لا محالة _ وحدةً في الخطاب، لا تعدّداً.

ومعه: فكيف يمكن أن يقال: بأنّ حال الواجب الكفائيّ هو حال الواجب العينيّ من ناحية تعلّقه بكلّ واحدٍ من المكلّفين؟! فإنّ التعلّق بكلّ واحدٍ منهم إنّما هو فرع تعدّد الخطاب، ولا تعدّد فيه كما عرفت.

نعم، يمكن القول بأنّ الفرق بينه وبين الوجوب العينيّ هو سقوط

ص: 282


1- تهذيب الاُصول 1: 291.

الموضوع في الوجوب الكفائيّ بالامتثال الأوّل، أي: بأوّل مبادرةٍ إلى الامتثال من أحد المكلّفين، ففي وجوب التجهيز _ مثلاً _ الموضوع هو: الميّت الذي لم يجهّز أو لم يدفن، فإذا صدق هذا العنوان وجب دفنه أو تجهيزه، وأمّا بعد دفنه وتجهيزه، فلا معنىلوجوب تجهيزه أو دفنه ثانياً، لسقوط الموضوع بهذه المبادرة، كما هو ظاهر؛ ولأنّه تحصيل للحاصل.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه:

أنّ بين الواجب العينيّ والواجب الكفائيّ فرقاً، وهو أنّه لو ترك الكلّ الامتثال في الواجب العينيّ، فإنّ الجميع يعاقبون، بحيث يكون لكلّ واحد منهم عقاب مُستقلّ. وأمّا في الواجب الكفائيّ، فليس هناك في الصورة المزبورة إلّا عقاب واحد يشمل الجميع.

وكيفما كان، فحتى لو فُرض عدم تصوّر تعلّق الواجب الكفائيّ، إلّا أنّه مع ذلك، فلا إشكال في وقوعه في الشريعة المقدّسة، ومجرّد عدم إدراكنا لكيفيّة تعلّقه لا يدلّ على عدم وقوعه.

ملاحظة:

تعرّض اُستاذنا المحقق(قدس سره)(1) في المقام لذكر فرعٍ نقله عن الميرزا النائيني(قدس سره)، وقد أحببنا ذكره هنا أيضاً. وحاصله:

ص: 283


1- منتهى الاُصول 1: 228.

أنّه لو وجد جماعة من المتيمّمين ماءً مباحاً يكفي لوضوء أحدهم، فأفتى ببطلان تيمّمهم أجمع، لكون كلّ واحد منهم قادراً علىالحيازة والتمكّن من استعمال ذلك الماء، مع أنّ صحّة التيمم مشروطة _ كما هو معلوم _ حدوثاً وبقاءً، بعدم وجدان الماء وعدم التمكّن من استعماله.

ثمّ أجاب عنه(قدس سره) بما لفظه:

«وأنت خبير بأنّ قدرة كلّ واحدٍ منهم على الاستعمال _ على فرض صحّته وإغماض النظر عن الإشكال بأنّ الماء الذي لا يمكن استعمال الجميع له لا مجتمعاً ولا منفرداً كيف يمكن أن يكون استعماله مقدوراً لكلّ واحدٍ منهم _ إنّما يكون في فرض عدم مزاحمة الآخرين، وأمّا مع المزاحمة، فلا يبطل إلّا تيمّم الغالب منهم على الآخرين أو السابق إليه، وإلّا، إن لم يكن سبق أو غلبة، فلا يبطل تيمّم كلّ واحدٍ منهم»(1).

وحاصل ما أفاده): أنّه مع فرض المزاحمة، فليس هناك أحد منهم يكون قادراً على الاستعمال؛ وذلك لعدم قدرة كلّ واحد منهم على استعمال الماء، والممنوع عقلاً كالممنوع شرعاً، كما هو معلوم، فلا يبطل الوضوء. نعم، المتيمّم السابق أو الأقوى هو من يكون تيمّمه باطلاً.

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد أورد عليه في الحاشية بما نصّه:«بل الأقوى هو التفصيل بين صورتي سبق أحدهما إلى الحيازة

ص: 284


1- منتهى الاُصول 1: 228_ 229.

وعدمه. ففي الاُولى يبطل تيمّم السابق فقط، ويُستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء وبقاؤه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء. وأمّا في الصورة الثانية، فبما أنّ كلّاً من الشخصين المفروضين قادر على حيازة الماء واستعماله من دون مزاحم، فيبطل كلّ من التيمّمين. والوجه فيما ذكرناه هو: أنّ الأمر بالوضوء وبطلان التيمّم مترتّبان في لسان الدليل على وجدان الماء، فإذا تحقّق، يترتّب عليه كلّ من الأثرين، كما أنّه إذا لم يتحقّق، فلا يتحقّق شيء منهما، فالتفصيل بين بطلان التيمّم وعدم الأمر بالوضوء كما أُفيد في المتن لا وجه له»(1).

وتوضيح ما أفاده(رحمة الله):

أنّ بطلان التيمم كما أنّ موضوعه هو وجدان الماء، فكذلك الأمر بالوضوء، موضوعه وجدان الماء أيضاً. فكلّما فُرض تحقّق موضوع البطلان المذكور، فقد فُرض تحقّق موضوع الأمر بالوضوء أيضاً، فيكون هناك ملازمة بين بطلان التيمّم وبين الأمر بالوضوء، بعد أن كان عدم الوجدان موضوعاً لهما معاً. فلو التزمنا ببطلان تيمّم السابق منهما،في صورة سبق أحدهما إلى الحيازة دون الآخر؛ لأنّه يكشف عن عدم قدرة الآخر على الوضوء، فلابدّ من الالتزام بأنّ الآخر لا يبطل تيمّمه، حيث لم يكن قادراً على الوضوء.

ص: 285


1- أجود التقريرات 1: 189.

ص: 286

الأمر عقيب الحظر

إذا وقعت صيغة الأمر عقيب الحظر أو توهّمه، فهل تدلّ على الوجوب أم لا؟

في المسألة أقوال:

القول الأول: الإباحة.

وهل هي بمعناها العامّ أو الخاصّ؟

قال المحقّق الرشتي(رحمة الله) في البدائع: «الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الإباحة المطلقة المساوية لرفع الحرج في الفعل». وقال _ أيضاً _: «إذ الظاهر كما صرّح به غير واحد: أنّ قولهم بإفادته للإباحة لا يُراد به إفادتها الإباحة الخاصّة»(1). والإباحة بالمعنى الأعمّ هي القدر الجامع بين الأحكام الثلاثة وبين الإباحة بالمعنى الأخصّ.وقد نسب هذا القول في البدائع إلى صريح بعضٍ، وإلى صريح

ص: 287


1- بدائع الأفكار: ص 239.

المحكيّ عن الوافية، وصريح المحقّق القمّيّ(رحمة الله)، كما رأى أنّ هذا القول هو مراد من فسّر الإباحة برفع المنع، كما هو منقول عن الذريعة والنهاية(1).

القول الثاني: التوقّف، بمعنى إجمال الخطاب، وعدم ظهور اللّفظ في شيء، حتى الرخصة المطلقة(2).

القول الثالث: أنّه يُفيد الوجوب، على حدّ غيره من الأوامر الابتدائيّة. وهو منسوب(3) إلى بعض العامّة من أمثال الرازي والبيضاوي وغيرهما، وإلى بعض الخاصّة كما في الغنية والتهذيب والمنتهى وغيرها.

القول الرابع(4): أنّه يفيد الندب، إمّا بناءً على وضع الأمر له، فلا يخرج بالوقوع عقيب الحظر عن وضعه الأصليّ، بل يكون كما كانعليه، وإمّا بناءً على كون الموضوع له هو الوجوب، ولكنّه استعمل هنا في الندب مجازاً.

القول الخامس: وهو التفصيل الذي نُسب إلى العضدي أنّه نفى البعد عنه(5)، وهو أنّه يفيد الوجوب إن لم يكن معلّقاً بزوال علّة عروض النهي، والرجوع إلى الحكم السابق على الحظر والنهي إن كان معلّقاً بزوال علّة

ص: 288


1- انظر: بدائع الأفكار: ص 294.
2- نسبه إلى غير واحد. صاحب بدائع الأفكار: ص 294.
3- المصدر نفسه.
4- نقله صاحب البدائع من دون أن يسمّي قائله، انظر: بدائع الأفكار: ص 294.
5- المصدر نفسه.

عروض النهي. وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ﴾(1)، وقوله: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾(2).

القول السادس: ما نسب إلى الفصول(3)، من التفصيل بين ما كان الحكم السابق على عروض النهي هو الوجوب أو الندب، فيفيد الرجوع إليهما، وبين ما لم يكن كذلك، فالحكم هو الإباحة.

وكيف كان، فلا يخفى: أنّ المراد بالوقوع بعد الحظر هو صدوره لفظاً بعد الحظر الواقع، فمثل صلاة الحائض والنفساء بعد الحيضوالنفاس خارجة عن محلّ البحث؛ لأنّ وجوبها عليهما ليس بأمر جديد وحادث بعد انقضاء زمن الحيض والنفاس، بل بنفس الأمر الأوّل الذي كان قد اقتضى وجوبها عليهما.

والحقّ: أنّ ما ذكروه من الأقوال غير مفيد؛ فإنّها لا ترجع إلى معنى محصّل؛ لأنّها محفوفة بالقرائن، وكلامنا فيما إذا وقع الأمر عقيب الحظر من دون أن يكون محفوفاً بالقرائن.

وأمّا إذا كان مجرّداً عن القرائن عند وقوعه عقيب الحظر، فإنّه يدلّ على ما كان عليه الأمر.

فإن قلنا بأنّ الأمر يدلّ على الوجوب فبعد دفع الحظر يكون _ أيضاً _

ص: 289


1- المائدة: 2.
2- التوبة: 5.
3- بدائع الأفكار: ص 294.

كذلك.

وإن قلنا: بأنّه لا يدلّ على الوجوب، بل يدلّ على مطلق الطلب فنقول به هنا _ أيضاً _، إلّا أن يدّعى بأنّ وقوعه عقيب الحظر يكون قرينة صارفة عمّا كان عليه، وليست بالقرينة المعيّنة.

وعند الشكّ في وجود القرينة يمكن دفعه بالأصل، ولو فُرِض عدم جريان هذا الأصل، فيبقى وقوعه عقيب الحظر سبباً لإجماله، ولا يحتاج في التعيين إلى قرينة معيّنة للمراد؛ لأنّ وقوعه عقيب الحظر إنّما يكون صارفاً فقط.

ص: 290

المرّة والتكرار

ذهب بعضهم إلى أنّ الأمر يدلّ على التكرار.

وقال آخرون: بل هو يدلّ على المرّة.

واستدلّ الأول: بالأمر بالصلاة، فإنّ امتثاله بتكرار الإتيان بالصلاة كلّ يوم.

وفيه: أنّ دلالته على التكرار ليس من حاقّ الأمر، بل من دليل خارجيّ؛ لأنّ الأمر إنّما ورد على الطبيعة، فيكون من قبيل الأوامر الانحلاليّة التي تتعدّد حسب تعدّد موضوعاتها، وليس هذا محلّ الكلام، بل محلّ الكلام في التكرار إنّما هو بالنسبة إلى موضوع واحد، كتكرار إكرام العالم الواحد، كما إذا قال: أكرم عالماً. ولا نظنّ أنّ هناك من يلتزم بذلك.

كما أنّ نفس الصيغة في مثل هذا الاستعمال لا تدلّ على المرّة بالدلالة اللّفظيّة، بل الاكتفاء بالمرّة من جهة أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طرد العدم، وهو يتحقّق بأوّل الوجود؛ فإنّ العقل بعد إدراكه أنّ انطباق الطبيعيّ على

ص: 291

الفرد قهريّ، فإنّه يحكم بالإجزاء.ولا

يخفى: أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار، لا بهيئته، ولا بمادّته، ولا بمجموع مادّته وهيئته.

أمّا الثالث: فمحلّ وفاق؛ لأنّ المجموع المركّب من المادّة والهيئة ليس له وضع آخر، فإذا كان كلّ من الهيئة والمادّة لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار؛ فإنّ المجموع المركّب لا يمكن أن يكون دالّاً على شيءٍ منهما.

فبقي الوجهان الآخران، وهما المادّة والهيئة، فهل تدلّان على المرّة أو على التكرار؟

الحقّ: عدم دلالة المادّة عليهما؛ لأنّ المادّة في جميع المشتقّات _ ومنها الأمر _ إنّما وضعت لنفس الحدث الذي يصدر عن الفاعل من دون ملاحظةٍ لأيّ انتسابٍ فيه، أو فقل: هي موضوعة للطبيعة المهملة والمعرّاة عن كلّ قيد وشرط.

ومن هنا، كانت المادّة هي الأصل في الاشتقاق، على ما هو الصحيح. وأمّا القول بأنّ أصل الاشتقاق هو المصدر، فقول لا أساس له من الصحّة؛ إذ المصدر مشتقّ من المشتقّات، شأنه في ذلك شأن سائر الصيغ، وذلك لملاحظة النسبة إلى فاعلٍ ما فيه _ أيضاً _، فلا يمكن أن يكون مادّة محفوظة في سائر المشتقّات؛ لوضوح أنّ هذه النسبة الملحوظة فيه لا يمكن أن تكون محفوظة في جميعها.

ص: 292

قال في الكفاية(قدس سره):

«ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات، بل هو صيغة مثلها، كيف؟! وقد عرفت في باب المشتقّ مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادّة لها؟! فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّتها، كما لا يخفى»(1).

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّ المصدر أُخِذ فيه نحو من اﻟ (بشرط لائيّة)، فيمتنع أن يكون هو الأصل في الكلام؛ إذ لا يكون أصلاً في الكلام ومادّة للاشتقاق إلّا ما كان مأخوذاً بنحو اللّابشرط، حتى يجوز فيه أن يكون سارياً في جميع المشتقّات.

وعليه: فللمصدر معنىً مباين لمعنى سائر المشتقّات. ومعه: فكيف يمكن أن يكون المصدر بمعناه المباين لها الملحوظ بشرط لا مادّة لسائر المشتقّات، وعليه: فلا مانع من تصحيح دعوى اعتبار المرّة والتكرار في مادّة المشتقّات، وإن كنّا نقول بأنّ المصدر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار.

والصحيح: أنّ نفس المادّة ولو لم تدلّ إلّا على الحدث ونفس المعنى، إلّا أنّ المرّة والتكرار يمكن استفادتهما من القرائن.وأمّا ما قاله(قدس سره) فيمكن دفعه: بأن يقال: بأنّ المصدر وإن لم يكن هو

ص: 293


1- انظر: كفاية الاُصول: 78.

الأصل للمشتقّات، إلّا أنّ مادّته هي عين مادّة المشتقّات.

وحيث كانت كذلك، ولكن بما أنّ النسبة غير محفوظة في الجميع، فلا محالة: لا يؤخذ فيها، لا المرّة، ولا التكرار، بل هي إنّما تدلّ على الطبيعة ونفس الحدث فقط.

وأمّا الهيئة _ أي: هيئة الأمر _ فلا دلالة لها إلّا على طلب وجود ذلك الحدث، لا على خصوصيّةٍ أُخرى، فلا دلالة لها _ هي أيضاً _ لا على المرّة ولا التكرار.

ولنعم ما أفاده اُستاذنا الأعظم) في المقام بقوله:

«فالنتيجة: أنّ هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعيّ، فعندئذٍ: إن قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيّات المذكورة فهو، وإلّا، فالمرجع ما هو مقتضى الأصل»(1).

فلابدّ من معرفة أنّ مقتضى الأصل أيّ شيءٍ هو؟

فنقول: إذا عرفنا من الخارج أنّ المطلوب من الأمر هو صرف الوجود، كالحجّ، يحصل الامتثال ويسقط الأمر بالمرّة. كما أنّه لو عرفناأنّ المطلوب منه هو الوجود الساري، فلا يحصل الامتثال بالفرد، وليس معنى ذلك: إثبات دلالة الأمر على التكرار، بل إنّما هو من ناحية أنّ الأمر الانحلاليّ يتعدّد بتعدّد الموضوع.

ص: 294


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 207.

فوجوب الصلاة في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾(1)، يتعدّد بتعدّد الدلوك؛ لأنّ الظاهر منه: أنّه متعلّق بالوجود الساري، فلا يحصل الامتثال _ كما ذكرنا _ بمجرّد وجود أحد أفراده، بل لابدّ فيه من الإتيان بجميع الأفراد، وإن كانت نتيجته هو التكرار وإيجاد الطبيعة مراراً، ولمّا كان هذا لا يستفاد من ناحية الدلالة اللّفظيّة، فمن الواضح أنّه لا يصحّ معه أن يقال: إنّ صيغة الأمر تدلّ على التكرار، بل التكرار _ كما اتّضح _ إنّما يُفهم من انحلال القضيّة الكلّية إلى قضايا متعدّدة، ولا فرق في ذلك بين القضايا الكلّية والجزئيّة، بل حتى القضايا الجزئيّة لابدّ فيها من التكرار على هذا الفرض.

فما استدلّ به القائل بالتكرار من التمثيل بالصلاة في غير محلّه، كما بيّنّا آنفاً؛ لأنّ تكرار الصلاة لا يستفاد إلّا من دليلٍ خارجيّ، وهو الانحلال.تماماً كما أنّ دلالة بعض الأوامر على المرّة تكون بالدليل الخارجيّ، ومن الخارج فقط يُفهم أنّ المراد منه صرف الوجود، بل مطلق وجود الطبيعة المعرّاة حتى من هذا القيد؛ لأنّ كلّ القيود زائدة، فتُدفع بالأصل، والأمر _ كما مرّ _ لا يقتضي إلّا طرد العدم، ونقض العدم الأزليّ، وهو يتحقّق بأوّل الوجود.

وأمّا القول: بأنّه لا معنى لوقوع النزاع هنا؛ لأنّ كلّاً من المرّة والتكرار

ص: 295


1- الإسراء: 78.

قد يُستَفاد من القرائن، كمقدّمات الحكمة وغيرها. فالأمر تارةً يستفاد منه أنّ المادّة مطلوبة على نحو الاستمرار، وأُخرى يستفاد منه كفاية المرّة، وقد يقتضي إيجاد المطلوب بنحو الطبيعة السارية، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ﴾(1)، وقوله: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(2).

ففيه: أنّه غير تامّ؛ لأنّ النزاع في أنّ الأمر هل يدلّ على المرّة أم على التكرار، إنّما هو فيما إذا كانت الدلالة من نفس اللّفظ، لا من الخارج.

ثمّ إنّ المحكيّ عن صاحب الفصول(قدس سره): أنّ هذا البحث إنّما يأتي بالنسبة إلى الهيئة فقط، لاتّفاق الاُدباء على أنّ المصدر المجرّد عناللّام والتنوين يدلّ على الماهيّة المطلقة والطبيعة الصرفة، وحيث إنّ المصدر هو أصل المشتقّات، وهو المادّة لها، فلا يبقى _ حينئذٍ _ مورد للنزاع بالنسبة إلى المادّة.

قال) في الفصول _ ما لفظه _: «إنّما حرّرنا النزاع في الهيئة لنصّ جماعة عليه؛ ولأنّ الأكثر حرّروا النزاع في الصيغة، وهي ظاهرة، بل صريحة فيها؛ ولأنّه لا كلام في أنّ المادّة _ وهي المصدر المجرّد عن اللاّم والتنوين _ لا تدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي، على ما حكى السكاكيّ وفاقهم عليه، وخصّ نزاعهم في أنّ اسم الجنس هل يدل على الجنس من

ص: 296


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.

حيث هو أو على الفرد المنتشر بغير المصدر. ويؤيّد ذلك أو يدلّ عليه: عدم احتجاج القائل بالمرّة هنا بدلالة المادّة عليها، مع أنّ من الموادّ ما لا نزاع في دلالته على الدوام»(1).

وفيه:

أوّلاً: لا وجه للقول بأنّ المصدر أصلاً، بل الأصل إنّما هو (ض ر ب)؛ لأنّ المصدر هو أن يكون جارياً في جميع المشتقّات، وأنّ لها هيئةً وما كان ذا هيئة لا يمكن أن يقع أصلاً للغير.وثانياً: أنّه لا يمكن وجود المادّة بدون الهيئة، وإنّهما متلازمان، وعوارض أحدهما تُنسب إلى الاُخرى لمكان الاتّحاد.

فإذا عرفت هذا، فنقول:

إن قام الدليل من الخارج بحيث يدلّ على المرّة والتكرار فهو، وإن لم يقم عليه دليل، فتارةً: نتكلّم بما هو مقتضى الأصل اللّفظيّ، وأُخرى: بما هو مقتضى الأصل العمليّ.

وأيضاً: فتارةً يقع الكلام في الأفراد الطوليّة، وأُخرى في الأفراد العَرَضيّة.

أمّا بالنسبة إلى الأصل اللّفظيّ والأفراد الطوليّة، فنقول:

لا بأس بالتمسّك بالإطلاق لإثبات الاكتفاء بالمرّة، أي: بعد ما ذكرنا

ص: 297


1- الفصول الغرويّة: ص 71.

أنّ متعلّق الأمر هو صرف الوجود، وأنّ الاكتفاء بالمرّة يكون من جهة انطباق الطبيعة عليها خارجاً، الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر، فلا يبقى _ حينئذٍ _ أيّ مقتضٍ للتكرار.

وكذا الحال في الأفراد العَرَضيّة، والدلالة على الفرد؛ فإنّه يكفي الأخذ بما مقتضى الإطلاق، ويكتفى بالفرد الواحد من جهة انطباق الطبيعة عليه في الخارج الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر.وأمّا من ناحية الأصل العمليّ: فإنّه يكتفى بالمرّة أيضاً، ويكفي الإتيان بالفرد الواحد؛ لأنّ الزائد يحتاج إلى مؤونة زائدة، فيمكن رفعه بالأصل.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الثابت في ذمّة المكلّف هو طبيعيّ الفعل، فإثبات التكرار أو المرّة في الأفراد الطوليّة، والتعدّد وعدمه في الأفراد العَرَضيّة يحتاج إلى دليل، وحيث لا دليل عليه فمقتضى الأصل هو البراءة، فإذا رفعنا كلا الأمرين بالأصل، فلم يَبْقَ إلّا إيجاد الطبيعة، وهو يحصل بالمرّة.

ص: 298

الفور والتراخي

وممّا ذكرنا في حال دلالة الأمر على المرّة والتكرار، يظهر حال دلالته على الفور والتراخي، ونلتزم هنا _ أيضاً _ بعدم دلالة الأمر على شيءٍ منهما، لا بمادّته، ولا بهيئته، وإذا كان كلّ من الفور والتراخي خارجاً عن مدلول صيغة الأمر مادّةً وهيئةً، فلابدّ لها في الدلالة على كلٍّ منهما من دليل خارج عنه.

وأمّا ما ذكره المحقّق الشيخ عبد الكريم الحائريّ) _ بعد مقايسته للأوامر التشريعيّة على العلل التكوينيّة _ من حيث عدم جواز انفكاك معلولها عنها عقلاً؛ من «أنّ الأمر المتعلّق بموضوع خاصّ غير مقيّدٍبزمان، وإن لم يكن مدلوله اللّفظيّ ظاهراً في الفور ولا في التراخي، ولكن لا يمكن التمسّك به للتراخي بواسطة الإطلاق، ولا التمسّك بالبراءة العقليّة لنفي الفوريّة؛ لأنّه يمكن أن يقال: بأنّ الفوريّة، وإن كانت غير ملحوظة للآمر قيداً للعمل، إلّا أنّها من لوازم الأمر المتعلّق به، فإنّ

ص: 299

الأمر تحريك إلى العمل وعلّة تشريعيّة، وكما أنّ العلّة التكوينيّة لا تنفكّ عن معلولها في الخارج، كذلك العلّة التشريعيّة تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج، وإن لم يلاحظ الآمر ترتّبه على العلّة في الخارج قيداً»(1).

ففيه: أنّه لا يمكن قياس الأوامر التشريعيّة بالعلل التكوينيّة؛ فإنّ عدم الانفكاك عن المعلول في التكوينيّات إنّما هو من جهة ضرورة العقل، فلا يكون قابلاً للتخصيص. وأمّا التشريعيّات، فلا مانع من انفكاكها. مضافاً إلى أنّ الأمر _ أحياناً _ قد يُرى متعلّقاً بشيء، مع كونه مقيّداً بالتراخي، مع أنّنا لو قلنا بصحّة القياس المذكور لكان ذلك محالاً عقلاً.

والصحيح: أنّه لابدّ من الالتزام بأنّه لا علّيّه ولا معلوليّة بالنسبة إلى التشريعيّات، وإلّا، فإنّ المعلول _ في أيّ وعاء كان _ يستحيل انفكاكه عن العلّة. فالفوريّة إنّما هي عبارة عن لزوم المبادرة وعدم جوازالتأخير في الامتثال عن أوّل أزمنة الإمكان. وأمّا التراخي، فليس إلّا عبارة عن جواز ذلك.

ولكن مع ذلك، فكلّ منهما خارج عن مدلول صيغة الأمر، فثبوت كلّ واحد منهما يحتاج إلى دليل.

فإذا كان للصيغة إطلاق، كما لو علمنا بكون المتكلّم في مقام البيان،

ص: 300


1- كتاب الصلاة: ص 573.

فإنّ جريان الإطلاق في مدلول الصيغة يقتضي عدم تقييده بواحد منهما.

هذا من ناحية ما هو مقتضى الأصل اللّفظيّ في المسألة.

فإن لم نحرز الإطلاق، وشككنا في وجوب أحدهما، فلا يبقى مجال للتمسّك بالأصل اللّفظيّ، وتصل النوبة إلى الأصل العمليّ، ومقتضاه _ أيضاً _ عدم وجوب شيء منهما.

وكيف كان، فقد استدلّ للفور ببعض الآيات التي تدلّ المسارعة، كقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مِّن رَب_ّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)، بتقريب: أنّ المسارعة إلى الشيء تتحقّق بالمبادرة إلى الإتيان به في أوّل أوقات إمكانه، وأنّ المُراد هو المسارعة إلى أسباب المغفرة، لا إليها نفسها، لأنّ المغفرةإنّما

هي من فعل اﷲ تعالى، لا من فعل العبد، فلا يكون العبد مأموراً بالإسراع إليها، بل إلى ما يوجبها.

وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾(2)، فإنّه دالّ على وجوب استباق الخيرات، وهو المبادرة إلى فعلها في أوّل أوقات إمكانها.

وفي الحديث: «أنهاك عن التسرّع بالقول والفعل»(3)، أي: عن الإسراع والمبادرة إليهما من دون تأمّل.

ص: 301


1- آل عمران: 133.
2- البقرة: 148، والمائدة: 48.
3- بحار الأنوار 86: 339، ومجمع البحرين 2: 364، مادّة (سرع).

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ آيتي المسارعة والاستباق لا تدلّان على وجوب المسارعة، ولا يُستَفاد منهما حكم إلزاميّ مولويّ، بل المراد _ بقرينة ما ورد في ذيل الأُولى، أعني: قوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾(1) _ الوعظ والإرشاد إلى ما يستقلّ به العقل من حسن المسارعة والاستباق إلى ما بعث إليه المولى، وأين هذا من المولويّة؟!

وثانياً: ما عن بعض المحقّقين)(2)، وحاصله:أنّه يلزم من وجوب الاستباق إلى الخيرات عدمه؛ لأنّ الاستباق إلى الخيرات يقتضي _ بمفهومه _ وجود عددٍ منها، يتحقّق بفعل بعض دون بعض، مع كونهما من الخيرات.

وعلى فرض وجوب الاستباق إلى الخيرات، فالفرد الذي لا يتحقّق به الاستباق يلزم أن لا يكون من الخيرات، لمزاحمته بالفرد الآخر، وعلى فرض انتفاء كونه من أفراد الخيرات، يلزم عدم وجوب الاستباق فيما يتحقّق فيه، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وفيه: أنّ وقوع التزاحم بين الأهمّ والمهمّ، وتقديم الأهمّ، في باب الواجبات، لا يُخرج الواجب المزاحَم عن كونه واجباً، بل يبقى على وجوبه. فكذلك فيما نحن فيه، فإنّ تزاحم الخيرات وتقديم أحدها على

ص: 302


1- آل عمران: 133.
2- بدائع الأفكار (تقريرات العراقيّ(رحمة الله) 1: 252.

الآخر، لا يستوجب خروج الخير المزاحَم عن الخيريّة، وإن كان يسقط عنه الحكم بوجوب الاستباق؛ لأنّ هذا السقوط المفروض ناشئ عن التزاحم، لا التعارض.

ومعه: فيبقى ظهور مفهوم الاستباق على حاله.

على أنّنا لا نسلّم وقوع التزاحم؛ لأنّ الأمر إنّما يتعلّق بالطبائع دون الأفراد.سلّمناه، إلّا أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان إتيان الفعل في أوّل وقته مطلوباً واحداً، بحيث لو تأخّر لسقط عن المطلوبيّة، فحينئذٍ تكون مزاحمته لفردٍ آخر موجبةً لخروجه عن الفرديّة.

وأمّا لو فرضنا تعدّد المطلوب، بحيث يكون أصل وجود الفعل مطلوباً، والإتيان به في أوّل الوقت مطلوباً آخر، فلا تستلزم المزاحمة خروجه عنها، كما هو أوضح من أن يخفى.

وثالثاً: أنّ البناء على دلالة الآيتين على وجوب الفور مستلزم لت_خصي_ص الأكث_ر، لخروج المستحبّات طرّاً وكثير من الواجبات _ كالواجبات المضيّقة _ عن ذلك، فلا يبقى إلّا القليل من الواجبات، وتخصيص الأكثر مستهجن عرفاً، فيصلح لأن يكون قرينة صارفة للآيتين عن ظاهرهما، وهو الوجوب.

ورابعاً: الواجبات على قسمين: موسّعة ومضيّقة، ولا يمكن تصوير الاستباق في الثاني.

ص: 303

مسألة:

لو سلّمنا دلالة الأمر على الفور، فهل معنى ذلك: وجوب الإتيان بالفعل فوراً ففوراً، بحيث لو عصى، أو أخلّ به، ولو لعدم التمكّن، لوجب عليه الإتيان بالفعل في الزمان الثاني أم لا؟وجهان: مترتّبان على مفاد الصيغة ما هو؟

فهل مفادها هو وحدة المطلوب، بمعنى: كون الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة، بحيث تفوت المصلحة بفوات الفوريّة؟

أم أنّ مفادها هو تعدّد المطلوب، بمعنى: أنّ هناك مصلحتين: إحداهما قائمة بذات الفعل، والأُخرى قائمة بالفوريّة في كلّ زمان؟!

فعلى الثاني: لو لم يأتِ بالفعل في الآن الأوّل لوجب عليه الإتيان به في الآن الثاني، وهكذا...

وأمّا على الأوّل: فتكون الفوريّة دخيلة في الواجب ومقوّمة لأصل المصلحة القائمة به، وتكون بذلك كبقيّة القيود الدخيلة في الواجب، وحينئذٍ: فيكون حالها حال تلك القيود، فكما أنّ سقوط الأمر يكون باُمورٍ عدّة، منها: العصيان والامتثال وفوت الموضوع، فكذلك يكون السقوط بعدم الإتيان بالواجب فوراً؟

وغير خفيّ: بأنّه حتى مع تسليم دلالة الصيغة على وجوب الفور، فهي لا تدلّ على أزيد من مطلوبيّة الطبيعة فوراً، ولا دلالة لها على كيفيّة

ص: 304

مطلوبيّتها، من وجوب الفور في كلّ زمان، فلا يسقط الأمر بالفوريّة بالإخلال بها في الزمان الأوّل أو بعده، أو وجوب الفور في خصوص الزمان الأوّل، فيسقط الأمر به بالإخلال بالفوريّة.وبعبارة أُخرى: فإنّ الصيغة تكون قاصرة عن بيان كيفيّة مطلوبيّة الطبيعة، وأنّها هل تكون بنحو تعدّد المطلوب أو وحدته؟

ومعه: فلابدّ من الرجوع إلى الأصل. وبما أنّ الفوريّة قيد زائد، فيندفع بالأصل.

بل حتى ولو قلنا بأنّ قيد الفوريّة مستفادة من تعدّد المطلوب، إلّا أنّه _ مع ذلك _ لا يستفاد منه وجوب الإتيان بالفعل فوراً ففوراً؛ إذ غاية ما يستفاد من دليلها: أنّ الفوريّة في الإتيان بالفعل واجبة حيث أمكن. أمّا أنّه لو لم يمكن، ولم يتحقّق الإتيان في الآن الأوّل، فيتعيّن عليه الإتيان به في الآن الثاني والثالث، وهكذا، إلى آخر أزمنة الإمكان، فلا.

وقد يقال: إنّ المصلحة القائمة بالفعل الذي تعلّق به الأمر بنحو الفوريّة ذات مراتب، فإذا لم يأتِ بالفعل في الآن الأوّل، فلابدّ من الإتيان به في الآن الثاني، فتكون الفوريّة واجباً في واجب، فإذا لم يتحصّل في الزمان الأوّل كان لابدّ من الإتيان بالفعل في الزمان الثاني والثالث وهكذا...

ولكنّ الحقّ: أنّه لو التزمنا في المقام بتعدّد المطلوب، فسقوط أصل الفوريّة لا ينافي بقاء أصل وجوبها؛ فلو لم يأتِ به في الزمان الأوّل فلابدّ أن يأتي به في الزمان الثاني، فوراً ففوراً، وهكذا.. وذلك لأنّ مقتضى

ص: 305

إطلاق دليل الفوريّة هو اعتبار الفوريّة مطلقاً؛ لأنّ المولىلو كان في مقام البيان وأمر بالإتيان بالفعل فوراً، فلو أراد أنّ الفوريّة تكون مختصّةً بالزمان الأول، لكان عليه أن يبيّن ذلك، فلمّا أطلق، فهمنا وجوب الفوريّة في الآن الثاني والثالث وهكذا..

نعم، لو استفدنا من الدليل الفوريّة في الجملة، وكان المولى في مقام التشريع، فمقتضى الأصل العمليّ البراءة بالنسبة إلى عدا الزمان الأوّل.

ص: 306

الواجب الأصليّ والتبعيّ

اشارة

والكلام فيه يقع في اُمور:

الأمر الأوّل: في بيان الأقسام من حيث التبعيّة والأصليّة:

والوجوه المحتملة في الأصالة والتبعيّة ثلاثة:الوجه الأول: أن يُراد بالواجب الأصليّ: ما يكون مراداً بإرادة مستقلّة، فلا يكون ناشئاً ولا تابعاً لإرادة أُخرى.

وأمّا التبعيّ فهو ما يكون مراداً بإرادة أُخرى، كإرادة المقدّمات؛ فإنّها تكون تابعة لإرادة ذويها التي تكون واجبةً بالوجوب النفسيّ.

والوجه الثاني: أن يُراد بالواجب الأصليّ: ما كان ملحوظاً باللّحاظ التفصيليّ، وعلى نحو الاستقلال، للالتفات إليه كذلك.

وبالواجب التبعيّ: ما كان ملحوظاً على نحو الإجمال، لعدم الالتفات التفصيليّ إليه حتى يُلاحظ تفصيلاً؛ فالأصالة والتبعيّة تدوران مدار

ص: 307

اللّحاظ من حيث التفصيل والإجمال.

والوجه الثالث: أن يكون المراد بالواجب الأصليّ: ما يكون هو المقصود بالإفهام من الخطاب، أو فقل: ما دلّ عليه الدليل مطابقةً.

والمراد بالتبعي: ما لا تكون الدلالة عليه إلّا بالتبع والالتزام. فالأوّل: كدلالة الألفاظ على المناطيق، والثاني: كدلالتها على المفاهيم.

الأمر الثاني: أنّ البحث فيهما هل يكون ثبوتيّاً أم إثباتيّاً؟

ذكر صاحب الكفاية(رحمة الله) أنّ الظاهر: «أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعيّة في الواقع ومقام الثبوت، حيث يكون الشيء تارةًمتعلَّقاً

للإرادة والطلب مستقلاً، للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيّاً أو غيريّاً، وأُخرى: متعلَّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره، لأجل كون إرادته لازمة لإرادته، من دون التفاتٍ إليه بما يوجب إرادته، لا بلحاظ الأصالة والتبعيّة في مقام الدلالة والإثبات؛ فإنّه يكون في هذا المقام تارةً مقصوداً بالإفادة، وأُخرى غير مقصودٍ بها على حدة، إلّا أنّه لازم الخطاب، كما في دلالة الإشارة ونحوها»... إلى آخر كلامه«(1).

وحاصل

ما رامه(قدس سره): أنّ هذا التقسيم بحسب مقام الثبوت، لا

ص: 308


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 122_ 123.

الدلالة والإثبات، فالمراد من الواجب الأصليّ ما يكون مراداً بالإرادة الاستقلاليّة، بواسطة الالتفات إليه وما يترتّب عليه من المصالح والأغراض، أو توقّف وجود ما له المصلحة عليه، سواء كان واجباً نفسيّاً أو غيريّاً، فبناءً على ذلك: فكلٌّ منهما يمكن أن يتّصف بالأصليّة والتبعيّة، بعدما عرفت من أنّ الأصليّ هو ما يكون مقصوداً بالإفهام والخطاب، والتبعيّ ليس كذلك.

ولكنّ الحقّ: أنّ الأصليّ والتبعيّ بناءً على الوجهين الأوّلين يرجعان إلى مقام الثبوت؛ لما عرفت: من أنّ الواجب الأصليّ هو ما يكونمستقلاً بالإرادة وملتفَتاً إليه على التفصيل، والواجب التبعيّ هو ما تكون إرادته تابعة لإرادة الغير، أي: الواجبات النفسيّة.

وأمّا على الوجه الثالث، فهما راجعان إلى مقام الإثبات والدلالة؛ لأنّ المراد بالأصليّ _ على هذا الوجه _ هو ما يكون مقصوداً بالإفهام، وبالتبعيّ: ما تكون الدلالة عليه بالالتزام والتبع.

هذا. ويمكن أن يُتصوّر هنا قسم رابع، وهو: ما لم يكن الواجب مقصوداً بالإفهام من الخطاب أصلاً، لا أصالة ولا تبعاً، كما إذا كان الواجب قد استفيد من دليل لبّيٍّ، كالإجماع ونحوه.

وفي التعليق على كلام الكفاية المتقدّم قال اُستاذنا المحقّق(قدس سره):

«وأنت خبير بأنّ ما ذكره) إن كان مجرّد اصطلاح فلا مشاحّة، وإلّا، فظاهر لفظ الأصليّ والتبعيّ إذا أُسند الواجب إليهما يقتضي أن يكون

ص: 309

المراد

من الأصليّ _ مقابل التبعيّ بقرينة المقابلة _ هو الواجب الذي ليس وجوبه وإرادته تابعة لإرادة غيره ووجوبه. ومثل هذا المعنى ينحصر في الواجب النفسيّ، وأن يكون المراد من التبعيّ هو الواجب الذي يكون وجوبه تبعاً لوجوب شيءٍ آخر، وإرادته ناشئة من إرادةٍ أُخرى، ومثل هذا المعنى ينحصر في الواجب الغيريّ؛ وذلك لأنّ الواجب الغيريّ مع النفسيّ الذي يكون ذلك الغيريّ مقدّمةً له متعاكسان وجوداً ووجوباً، فوجود النفسيّ مترتّب على وجود الغيريّ؛لأنّه من أجزاء علّة وجوده، كما أنّ وجوب الغيريّ مترتّب على وجوب النفسيّ، وهذا هو الظاهر من التبعيّة، فبناءً على هذا: لا فرق بين أن تقول: الواجب الأصليّ والتبعيّ، وبين أن تقول: الواجب النفسيّ والغيريّ»(1).

نعم، لو كان المراد هو الأصالة والتبعيّة في مقام الإثبات والدلالة، فحينئذ: يتّصف بهما كلّ واحدٍ من النفسيّ والغيريّ. وليس ببعيد أن يكون البحث كذلك، أي: بحثاً في مقام الإثبات، لا في مقام الثبوت؛ فإنّهم يذكرون الأصليّ والتبعيّ في قبال النفسيّ والغيريّ. ولولا أنّه بحث في مقام الإثبات، لا الثبوت، لكان ذكرهما لغواً.

أمّا

اتّصاف الواجب النفسيّ بالأصالة: ففيما إذا كان مقصوداً بالإفادة، كوجوب الصلاة. وأمّا اتّصافه بالتبعيّة: فلوضوح أنّ

ص: 310


1- منتهى الاُصول 1: 235_ 236.

الواجب النفسيّ قد لا يكون مقصوداً بالإفادة، بل يستفاد بتبع شيءٍ آخر، بحيث يكون المقصود بالإفادة هو ذلك الشيء، ويكون الواجب النفسيّ مفاداً تبعاً له.وذلك نظير ما دلّ على شرطيّة تقدّم الظهر لصحّة العصر(1)؛ فإنّ المقصود منه بالإفادة هو شرطيّة تقدّمها، لا كونها واجباً نفسيّاً.

وأمّا اتّصاف الواجب الغيريّ بالتبعيّة، فكأغلب المقدّمات. وأمّا اتّصافه بالأصالة، فكالذي في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأي_ْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾(2)، حيث يكون التوجّه والالتفات إليه تفصيلاً، فمع كونه مقدّميّاً، يكون واجباً أصليّاً.

ص: 311


1- كقوله(علیه السلام) في خبر عبيد بن زرارة، قال: سألتُ أبا عبد الله(علیه السلام) عن وقت الظهر والعصر، فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقتٍ منهما جميعاً حتى تغيب الشمس. انظر: وسائل الشيعة 4: 126، باب 4 من أبواب المواقيت، ح5.
2- المائدة: 6.

ص: 312

الواجب الموسّع والمضيّق

لا يخفى: أنّ كلّ واجب فهو محتاج إلى زمانٍ يؤتى فيه بالعمل، بمعنى: أنّ الإتيان به لابدّ أن يقع في وقت من الأوقات. غاية الأمر: أنّ الوقت قد يكون دخيلاً وقيداً في لسان الدليل، وقد لا يكون كذلك، بأن لا يكون للزمان في لسان الدليل دخل في الواجب شرعاً.

فإن كان الواجب من قبيل الأول: سمّي ﺑ «الواجب الموقّت»، كالواجب في الصلوات اليوميّة. وإن كان من قبيل الثاني سُمّي ﺑ «الواجب غير الموقّت»، كالواجب في صلاة الزلزلة.

ثمّ إنّ الواجب الموقّت _ بدوره _ ينقسم إلى قسمين:

فإنّ الزمان إمّا أن يكون بقدر الفعل ومساوياً له، وإمّا أن يكون أوسع منه؛ فالأوّل: الواجب المضيّق، كصيام شهر رمضان. والثاني: الواجب الموسّع، كالصلاة اليوميّة.

وأمّا العكس، أي: أن يكون العمل أوسع من الزمان، فمحال؛ لأنّ

ص: 313

المظروف لا يمكن أن يكون أوسع من الظرف، كما هو ظاهر.

فإذا كان للواجب دليلان، وكان أحدهما مطلقاً، وكان المستفاد من الآخر التقييد بالوقت، أعمّ من أن يكون على نحو الواجب الموسّع أوالمضيّق، فلا محالة: يكون بين هذين الدليلين تنافٍ، فيحمل المطلق على المقيّد.

وليس المقام من قبيل تعلّق الحكم بالمطلق على نحو مطلق الوجود، كما في «أكرم عالماً» و«أكرم عالماً هاشميّاً»، حتى لا يكون حمل المطلق على المقيّد جائزاً، وحتى يكون المتعيّن أن يُحمل المقيّد على أفضل الأفراد، بل إنّما هو هنا من قبيل تعلّق الحكم بالمطلق على نحو صرف الوجود، وفي مثل ذلك، يتعيّن حمل المطلق على المقيّد.

هذا، وقد يُستشكل على كلا الواجبين: المضيّق والموسّع.

الإشكال على الواجب المضيّق:

أمّا الإشكال على الواجب المضيّق، فحاصله:

أنّه غير ممكن؛ لأنّه يلزم فيه أحد محذورين، هما: إمّا تقدّم المعلول على علّته، أو تأخّره عن العلّة زماناً.

توضيح ذلك: أنّ الزمان لابدّ وأن يكون أزيد من مقدار امتثاله، ولو بآنٍ ما؛ لتأخّر الانبعاث عن البعث، وترتّبه عليه، ففي الصوم الذي يكون وجوبه مشروطاً بأوّل آن طلوع الفجر، وهنا:

ص: 314

فإذا فُرض تقدّم الوجوب عليه، لزم تقدّم المعلول والمشروط على العلّة والشرط، أعني: آن طلوع الفجر، وهو محال؛ لأنّ المفروض أنّ الوجوب متوقّف على الطلوع، وهذا التقدّم واضح البطلان.

وإذا فُرِض تأخّر الوجوب عن موضوعه، وهو طلوع الفجر، لزم خلوّ آن من آنات النهار عن الصوم، فيلزم تأخّر المعلول عن العلّة زماناً. أو فقل: لزم تأخّر الحكم عن موضوعه، مع أنّ الحكم بالنسبة إلى موضوعه هو كالمعلول بالنسبة إلى علّته، فكما أنّ العلّة والمعلول يتّحدان زماناً ويختلفان رتبةً، فكذلك الحال في الموضوع والحكم.

ولكنّ الحقّ: عدم ورود هذا الإشكال؛ لما أفاده الميرزا النائيني) بقوله:

«وجوابه: أنّ لزوم تقدّم البعث على الانبعاث، وإن كان بديهيّاً، إلّا أنّ تقدّمه عليه ليس بالزمان، بل بالرتبة؛ بداهة أنّه لا يزيد على تقدّم العلل التكوينيّة على معلولاتها؛ فإنّه أيضاً بالرتبة لا بالزمان، فلا مانع من كون أوّل آن الفجر زمان الوجوب والانبعاث كليهما.

نعم، لابدّ من أن يكون علم المكلّف بحدوث الوجوب عند الفجر متقدّماً على الفجر زماناً، ليتمكّن من الانبعاث حينه، ولعلّ المستشكلخلط بين تقدّم العلم على الانبعاث وتقدّم البعث عليه، وقد عرفت أنّ

ص: 315

اللّازم هو الأوّل دون الثاني»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الإشكال المزبور غير وارد؛ وذلك لاتّحاد زمان الوجوب والواجب والانبعاث؛ فإنّ الطلوع _ وهو واحد _ هو زمان البعث والانبعاث والواجب، وتأخّر الانبعاث عن البعث إنّما يكون تأخّراً رتبيّاً لا زمانيّاً.

نعم، يتوقّف الانبعاث على العلم بالبعث قبل طلوع الفجر، وهو غير تأخّر الانبعاث زماناً عن صدور البعث من المولى.

وبالجملة: فإنّ انبعاث المكلّف عن بعث المولى يتوقّف على علمه قبل طلوع الفجر بوجوب الصوم حين الطلوع حتى يتمكّن من الانبعاث فيه، بعد وضوح موضوعيّة العلم بالبعث عقلاً للانبعاث، وعدم موضوعيّة نفس البعث بوجوده الواقعيّ له.

أقول:

ولا يخفى: أنّ هذا الإشكال، وكذلك الإشكال الآتي ذكره إن شاء اﷲ تعالى في الواجب الموسّع، إنّما يأتي بالنسبة إلى مقام الثبوت، وأمّا في مقام الإثبات، فلا؛ إذ لا إشكال في وجود كلٍّ منهما ووقوعه فيالخارج في الشريعة المقدّسة، كيف لا؟! وقد عرفت فيما سبق أنّ المضيّق يمثّل له بالصوم، وللموسّع بالصلاة اليوميّة.

ص: 316


1- انظر: أجود التقريرات 1: 190_ 191.

الإشكال على الواجب الموسّع:

قد يُستشكل على الواجب الموسّع بأنّه غير ممكن؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين، وذلك لوضوح أنّ جواز ترك الواجب في بعض أجزاء الزمان الموسّع ينافي الوجوب الذي هو عدم جواز الترك، فلو قيل _ مثلاً _ «صلّ من الدلوك إلى الغروب»، كان المراد منه: أنّ لك الخيار في أن تأتي بالصلاة في أيّ جزء من أجزاء الزمان، كالأوّل والآخر والوسط. ومقتضى ذلك: أنّه يجوز ترك الواجب في أوّل الوقت، لجواز تأخيره إلى الوسط، أو إلى الآخر.

ومن المعلوم: أنّ جواز ترك الواجب في بعض أجزاء الزمان ينافي الوجوب ويناقضه؛ لأنّ الوجوب _ كما ذكرنا _ إنّما هو عدم جواز الترك، فيلزم التناقض، بل إنّ معنى عدم جواز تأخيره عن ذلك الوقت أنّ الوجوب مختصّ بذلك الوقت، ولذا، لا يجوز تأخيره عن ذلك الوقت، فلو صلّى في غير ذلك الوقت كان قضاءً.

والجواب عن هذا الإشكال:

اشارة

أنّ الواجب الموسّع هو كالواجب التخييريّ، فكما أنّ الأمر في الواجب التخييريّ وارد على شيئين أو أكثر ويكون التخيير بينهما أو بينها عقليّاً، فكذلك في الواجب الموسّع، وعليه: فيكون المطلوب هو الجامع، ولا مانع في ذلك بعد أن كان الجامع وافياً بالغرض؛ فإنّ الأمر

ص: 317

إذا تعلّق بالجامع، فالعقل يخيّر المكلّف في تطبيقه _ أي: الجامع _ على أيّ فرد من الأفراد يشاء، بلا فرق بين أن تكون الأفراد طوليّة أو عرضيّة.

وإنّما

كان هذا التخيير في الانطباق عقليّاً؛ لأنّه _ أوّلاً _ لم يرد في لسان الدليل، وثانياً: لأنّ الغرض ليس متعدّداً، بل ليس هناك إلّا غرض واحد تعلّق بالجامع، تماماً كما أنّ الأمر لم يرد إلّا على الجامع. وحينئذ: فتكون نسبة الأفراد إلى الواجب الموسّع نسبة أفراد الطبائع إلى نفس طبائعها.

وأمّا ما قيل: من أنّ «الوقوع أدلّ دليلٍ على الإمكان»(1).فغير تامّ؛ لأنّ كلامنا _ كما لا يخفى _ إنّما في مقام الإمكان، وأنّه كيف يمكن ذلك، وإلّا، فلا إشكال ولا خلاف في وقوعه في الشريعة المقدّسة.

فالصحيح في الجواب _ إذاً _ هو ما ذكرناه، من أنّ الأمر في المقام ورد على الجامع، والتخيير بين أفراد الزمان يكون عقليّاً.

مضافاً إلى أنّ جواز الترك إنّما يكون منافياً للوجوب إذا لم يكن إلى بدل، وأمّا إذا كان إليه، فلا منافاة أصلاً، كما هي الحال في الوجوب التخييريّ أيضاً.

ثمّ ها هنا بحث ذكروه يتعلّق بالواجب الموقّت مطلقاً، أي: سواء كان

ص: 318


1- انظر: منتهى الدراية 2: 571. ذكره في مقام توضيح قول الآخوند): «ووقوع الموسّع، فضلاً عن إمكانه، ممّا لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات، كما يظهر من المطوّلات». راجع: كفاية الاُصول: ص 144.

موسّعاً أم مضيّقاً، وهو أنّ الأصل هل يقتضي سقوط الواجب فيما بعد الوقت أم يقتضي عدم السقوط؟

وربّما يُعَنون هذا البحث بعبارة أُخرى، بأن يقال:

إنّ دلالة الأمر على الوقت هل تقتضي كون الوجوب متوقّفاً على بقاء الوقت أم لا تقتضي ذلك؟

وربّما يُختار في التعبير عنه عبارة ثالثة، فيقال: هل يمكن استفادة القضاء خارج الوقت من نفس الأمر الأوّل، أم تحتاج استفادته إلى أمر جديد؟وبالجملة: فإنّ مصبّ البحث ها هنا هو أنّ تعلّق الأمر بالواجب الموقّت، موسّعاً كان أم مضيّقاً، هل يدلّ على لزوم الإتيان بالواجب في خارج الوقت إن لم يكن قد أتى به فيه، أم لا، بل يحتاج ذلك إلى أمر آخر، لسقوط الأمر بالموقّت بفوات الوقت؟

ولا يخفى: أنّ إطلاق القضاء على الإتيان بالفعل في خارج الوقت لا يكون بناءً على القول الأول إلّا من باب المجاز، كما أنّ تعبيرهم بأنّ القضاء هل يكون بالأمر الأوّل، أو بالأمر الجديد، لا معنى له، بل يُحمل على التسامح في التعبير؛ لظهور أنّه لا معنى لتسمية الفعل المأتيّ به خارج الوقت قضاءً مع دلالة الدليل الأوّل على بقاء الوجوب، بل على بقاء الواجب، بعد الوقت؛ إذ مع دلالة الدليل على ذلك، فلا يكون هناك فرق بين الإتيان بالواجب قبل خروج الوقت، وبين الإتيان به بعده، بل يكون

ص: 319

الواجب في خارج الوقت واجباً حقيقةً حينئذٍ، وليس بدلاً للواجب، ولا قضاءً.

وعليه: فلا يصحّ إطلاق القضاء عليه إلّا تجوّزاً ومسامحة.

وكيف كان، فقد وُجد في الإجابة عن هذا السؤال أقوال:

الأوّل: أنّه لا يدلّ عليه مطلقاً.

والثاني: أنّه يدلّ عليه مطلقاً.والثالث: التفصيل بين التوقيت بالمتّصل والمنفصل، فلا دلالة إذا كان من قبيل الأوّل.

والرابع: نفس التفصيل المذكور، ولكن بشرط أن يكون لدليل التوقيت المنفصل إهمال، وأن يكون في دليل الواجب إطلاق.

واختار المحقّق صاحب الكفاية) أنّه: «لا دلالة للأمر بالموقّت بوجهٍ على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به»(1).

ولا يخفى: أنّه يمكن أن يتصوّر لدليل القضاء في مقام الثبوت أقسام ثلاثة:

الأوّل: أن يكون بمعنى تعدّد المطلوب، بحيث يكون هناك طلبان، ويكون كلّ واحد منهما في عرض الآخر، يتعلّق أحدهما بنفس الصلاة،

ص: 320


1- كفاية الاُصول: ص 144.

ويتعلّق الآخر بإتيانها في الوقت.

وعليه: فإذا انتهى الوقت يبقى وجوب أصل الصلاة على حاله.

والثاني: أن يكون هناك أمر واحد كاشف عن ركنيّة الوقت في حال التمكّن، وليس قيداً على الإطلاق، وليس في الوقت إلّا أمر واحد، غايةالأمر: أنّه يتعلّق بالمقيّد في حال الاختيار، مع جهة دخل القيد في الموضوع، ويتعلّق بالمطلق في حال عدم التمكّن من القيد.

والثالث: أن لا يكون الأمر كاشفاً عن تعدّد المطلوب، بل تكون المصلحة مترتّبة على أصل الصلاة، بقيد الوقت، بحيث لا يكون لها في خارج الوقت مصلحة، وعليه: فيتعيّن أن يكون القضاء بأمر جديد.

وإذا عرفت هذا، يظهر لك أنّه في الصورتين الأُوليين يكون القضاء مستفاداً من الأمر نفسه، دون الصورة الأخيرة.

وقد ادّعى) الفرق بين كون التقييد بالوقت بدليل متّصل، وكونه بالدليل المنفصل، فلا دلالة في الصورة الاُولى.

وأمّا في الصورة الثانية، فيدلّ الدليل على ثبوت الحكم بعد الوقت، لظهور التقييد بالمنفصل في كون التقييد بنحو تعدّد المطلوب لا وحدته، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر على حاله.

نعم، يُستثنى من ذلك صورة واحدة أشار إليها في الكفاية، وهي: ما إذا كان دليل الواجب مطلقاً، وكان دليل التقييد بالوقت منفصلاً مجملاً؛ فإنّه إذا كان مجملاً من ناحية التمكّن من الإتيان بالعمل في الوقت وعدمه،

ص: 321

ولم يكن له إطلاق يُثبت التوقيت في كلا الحالين، كان القدر المتيقّن منه هو التقييد بالوقت في صورة التمكّن، وأمّا فيصورة

عدم التمكّن، فلا يكون التقييد به معلوماً، فنرجع إلى إطلاق دليل الواجب المتكفّل لإثبات الوجوب في مطلق الزمان.

وبعبارة أُخرى: يكون الحال في هذه الصورة كما لو كان التقييد بالوقت قد ورد _ رأساً _ في خصوص حالة التمكّن، فيثبت الواجب بعد الوقت بإطلاق الدليل.

وإليك نصّ عبارته):

«نعم، لو كان دليل التوقيت بدليلٍ منفصل، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب، لا أصله»(1).

وإذا عرفت ذلك:

فالحقّ هو القول الأول؛ لأنّ الظاهر من دليل تقييده بالوقت أنّه على نحو وحدة المطلوب، وليس من قبيل تعلّق الحكم بالمطلق على سبيل مطلق الوجود، كما في قولك: أكرم عالماً، وأكرم عالماً هاشميّاً، لكيلا يكون هناك تنافٍ بينهما.

ص: 322


1- كفاية الاُصول: ص 144.

نعم، إذا كان التنافي بين المطلق والمقيّد تنافياً بنحو السلب والإيجاب فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد، وذلك لأجل أظهريّة المقيّد، كقولك: اعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة؛ لأنّ التمسّك بالمطلق إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك بيان، والمقيّد بيان كما لا يخفى.

ويدلّ على ما ذكرناه، قوله(علیه السلام): «لا تُعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود»(1). فإنّه ظاهر في كون الوقت قيداً للمأمور به، الأمر الذي يعني: أنّ المأمور به هو المقيّد بالوقت، لا المطلق بدون الوقت.

وإنّما

قلنا بأنّه لابدّ في صورة التنافي من حمل المطلق على المقيّد _ كما في المثال المزبور _ لأنّنا لو لم نقل بالحمل حتى في هذه الصورة، لزم انسداد باب حمل المطلق على المقيّد في جميع موارد تقدّم المقيّد على المطلق، ولا خصوصيّة هنا لقيديّة الوقت، بل التقييد بالوقت كالتقييد بغيره من الأوصاف، فكما أنّ التقييد بالإيمان _ في المثال _ يوجب انحصار العتق الواجب في المؤمنة، وعدم وجوب عتق الكافرة، فكذلك التقييد بالوقت، أي: أنّه خارج الوقت لا يكون واجباً.فتحصّل: أنّ الظاهر من دليل التقييد هو وحدة المطلوب، فيكون الموضوع هو المجموع من القيد والمقيّد. وأمّا انّ ذات المقيّد يكون

ص: 323


1- وسائل الشيعة 1: 371_ 372، باب 4 من أبواب الوضوء، ح8.

مطلوباً في حالة عدم وجود القيد، أو عدم إمكانه، فيحتاج إلى دليل من الخارج، بلا فرق بين أن يكون دليل التقييد منفصلاً أو متّصلاً.

وممّا ذكرنا، ظهر: أنّه لا يمكن المساعدة على ما اختاره صاحب الكفاية(قدس سره) من التفصيل بين ما لو كان التقييد بالدليل المتّصل، كأن يقال: صلّ فيما بين دلوك الشمس إلى الغروب، فلا يدلّ على التعدّد، وبين ما لو كان تقييداً بالدليل المنفصل، كأن يقال: اغتسل، ثمّ يرد دليل بعد ذلك على وجوب الغسل أو استحبابه يوم الجمعة، فيدلّ على التعدّد.

وجه عدم تماميّة هذا التفصيل: أنّ دليل التوقيت، أي: التقييد بدليل منفصل، إمّا أن يدلّ على التقييد أو لا؛

فإن دلّ على التقييد، فحاله حال الدليل المتّصل، فلا يمكن للوجوب أن يبقى بعد أن ظهر من الدليل أن المصلحة تترتّب لا على مطلق الصلاة، بل عليها موقّتةً بوقت، فلا يُستَفاد من الدليل تعدّد المطلوب.

وان لم يدلّ على التقييد، فهو خارج عن محلّ البحث، فليس المقام من باب تعدّد الوجوب، وعليه: فإثبات وجوب الفعل بعد الوقت يحتاج إلى الدليل، ولا يكفي في ذلك نفس الدليل الأول، ولو شكّ فيذلك، أي: في شمول الوجوب والمصلحة لخارج الوقت، فإنّ الأصل عدمه.

هذا، إذا لم نقل بمفهوم الوصف، وإلّا، فإنّ التوقيت يدلّ على عدم الوجوب بعد الوقت.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الكلام في تصوير المطلق والمقيّد _ بناءً على كون

ص: 324

التقييد بدليل منفصل _ لا يخلو من صور أربع:

الاُولى: ثبوت الإطلاق لكلٍّ من دليلي الواجب والتقييد.

والثانية: عدم إطلاق شيءٍ منهما، بأن كانا مهملين.

والثالثة: إطلاق دليل المقيّد _ أعني: الواجب _ دون دليل القيد _ أعني: التوقيت _.

والرابعة: عكس الصورة السابقة، بأن يكون دليل التوقيت مطلقاً، ودليل الواجب مهملاً.

أمّا في الصورة الاُولى:

فقد يقال: إنّ معنى إطلاق دليل الواجب: أنّ الشيء واجب في الوقت وخارجه، فيكون من باب تعدّد المطلوب، ومعنى إطلاق دليل التوقيت: أن يكون الوقت دخيلاً في جميع مراتب المصلحة، بمعنى: أنّه إذا خرج الوقت فلا مصلحة في الواجب، ولا يكون بعد خروج الوقتواجب؛ لأنّه لم يكن فيه المصلحة بعد ذلك، فيكون من باب وحدة المطلوب.

فلابدّ في هذه الصورة من الأخذ بإطلاق دليل التقييد؛ لحكومته على إطلاق دليل الواجب، أي: فيكون إطلاق دليل التقييد مضيّقاً لإطلاق دليل الواجب؛ ومعنى تضيّقه هو: الحكم بعدم وجوبه بعد الوقت.

وأمّا في الصورة الثانية:

فيكون المرجع إلى الاُصول العمليّة، من استصحاب الوجوب، لو لم نقل باختلاف الموضوع. ومع عدم جريانه، تصل النوبة إلى

ص: 325

البراءة؛ إذ لو كان وجوب صلاة الظهر مقيّداً بالوقت، فيقع الشكّ في وجوبها بعد الوقت، فنستصحب الوجوب، ولكن مع الشكّ في جريان الاستصحاب _ حيث إنّه لابدّ من وجود الموضوع في كلتا الحالتين حتى يمكن الاستصحاب _ لا يكون جريانه ممكناً، ومع عدم إمكان جريانه وحصول الشكّ في الوجوب بعد خروج الوقت، تصل النوبة إلى البراءة عن وجوب القضاء.

وأمّا في الصورة الثالثة:

فيؤخذ بإطلاق دليل الواجب.

وأمّا في الصورة الرابعة:

فعلى العكس، أي: فيؤخذ بإطلاق دليل التوقيت؛ لأنّه دخيل في تمام المصلحة فمع عدم وجوده فلا مصلحة فيه.

وقد يُفَرّق بين كون التكليف بلسان الأمر، كما لو قيل: اقرأ السورة في الصلاة، وبين عدم كونه كذلك، كما لو قيل: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب.

فلو كان من قبيل الأوّل، فيجب الإتيان به ما بعد الوقت أيضاً؛ لأنّ الأمر _ كما مرّ في محلّه _ يرد على المقدور، والتكليف مختصّ به، وأمّا العاجز فلا يكون التكليف عليه منجّزاً، ففي صورة الشكّ، يتمكّن من الأخذ بإطلاق الدليل، فلابدّ _ حينئذٍ _ من الإتيان به في خارج الوقت أيضاً.

ولكنّ

الحقّ: أنّه لا فرق بين ورود الدليل بصيغة الأمر أو بغيره، لأنّ

ص: 326

الأمر حينما يرد على المركّبات، فهي تكون من باب الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة، فإذا ورد بصيغة الأمر، كقولك: اقرأ السورة، كان إشارة إلى الجزئيّة وإرشاداً إليها، فلا يبقى فيه ظهور وإطلاق حتى يمكن التمسّك به.

وكما ذكرنا سابقاً، فإنّ ظ_اهر دلي_ل التوقي_ت هو وح_دة المطل_وب، لا تعدّده. وإنّ حكم التقييد بالوقت هو حكم سائر التقييدات، ﻛ «أعتق رقبة مؤمنة»، فبانتقاء القيد ينتفي الحكم؛ لأنّالمصلحة تنتفي بتمام مراتبها، لا أنّ الوقت دخيل في بعض مراتب المصلحة، حتى يقال بتعدّد المطلوب، فالظاهر من الدليل: هو وحدة المطلوب، فإذا أُريدَ إثبات القضاء في خارج الوقت، فلابدّ من ورود دليلٍ آخر يدلّ عليه غير دليل التوقيت، فثبوت القضاء في جميع الصور المذكورة يحتاج إلى دليل آخر.

وبالجملة: فبعد قيام الدليل _ في بعض الموارد _ على وجوب الفعل في خارج الوقت عند فوته في الوقت، يقع البحث في أنّ التقييد بالوقت هل يكون من باب تعدّد المطلوب، وكونه واجباً في واجب؟ أو يكون من باب التقييد، ولكنّ قيديّته مقصورة على حال التمكّن؟ أو أنّه لا يكون هذا ولا ذاك، بل يكون القضاء واجباً آخر مغايراً للواجب الأوّل بحسب العنوان، وليس هو ذلك الواجب بعينه وإنّما سقط قيده؟

والفرق بين هذه الوجوه الثلاثة:

أنّه لو كان من قبيل الواجب في واجب، ففي صورة ترك القيد عمداً فاللّازم حصول الامتثال بالنسبة إلى أصل الواجب، وإن تحقّق العصيان

ص: 327

بالنسبة إلى الواجب الآخر.

ولو كان بعنوان القيديّة المختصّة بحال التمكّن، فإذا ترك القيد عمداً مع التمكّن منه، فاللّازم عدم حصول الامتثال لو أتى به خارج الوقت وبدون القيد.وأمّا على الوجه الثالث، فالواجب في خارج الوقت يكون مغايراً للواجب في الوقت، ومعنوناً بغير عنوانه، وهذا بخلافه على الوجهين الأوّلين، فإنّ الواجب في خارج الوقت بناءً عليهما هو ذلك الواجب في الوقت بعينه، وإنّما الساقط قيد من قيوده، وحينئذٍ: فلا يصدق على الإتيان به بعد الوقت أنّه قضاء، ولا يصدق عليه الفوت؛ لأنّ نفس الواجب يكون باقياً بعينه، والقضاء عبارة عن الإتيان بما فات من الواجب في خارج الوقت.

والصحيح من هذه الوجوه ثالثها، فلابدّ من ورود دليل آخر على وجوب القضاء سواء كان تركه عمداً أو سهواً، لعدم التمكّن أو لغيره؛ وذلك لأنّ المستفاد من دليل القضاء أنّه واجب مغاير للواجب الأول، وأنّه إنّما يكون بدلاً عنه وقائماً بمصلحته.

وقد أيّد الميرزا النائينيّ) ذلك _ أيضاً _ بما لفظه: «أنّه ربّما يتحقّق الفعل زماناً بين وجوب الأداء ووجوب القضاء، كما إذا لم يبقَ من الوقت مقدار ركعة، ولم يتحقّق الغروب بعد، فإنّه لم يكن مكلّفاً في هذا المقدار

ص: 328

من الزمان إلى أن يتحقّق الغروب لا بالأداء ولا بالقضاء»(1).أمّا

عدم وجوبه أداءً؛ فلعدم بقاء الوقت الكافي، لا الحقيقيّ منه ولا التنزيليّ.

وأمّا عدم وجوب القضاء؛ فلأنّه لابدّ وأن يكون في خارج الوقت، والوقت لم يخرج بعد بحسب الفرض، وليس هناك وجوب آخر في البين غير معنون بأحد ذينك العنوانين، فيظهر منه: أنّ المكلّف به في خارج الوقت مغاير لما كُلِّف به أوّلاً؛ إذ قد انفصل الأمر القضائيّ عن الأمر الأدائي ولو بمقدار نصف ركعة.

ولكن قد استشكل عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سره) بما حاصله:

أنّه يمكن أن يؤتى به قضاءً؛ لأنّ القضاء مترتّب على فوت الفريضة والواجب، وقد فات، وموضوع القضاء ليس إلّا فوت الفريضة والواجب وعدم التمكّن من إدراكهما في الوقت، لا خروج الوقت بتمامه.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«وأنت خبير بأنّه يمكن أن تشمله أدلّة وجوب القضاء؛ لأنّ موضوعها فوت الواجب والفريضة، وعدم إمكان إدراكها في الوقت، لا خروج الوقت بتمامه، ولا مخصّص لهذا العموم، لا عقلاً ولا شرعاً»(2).

ص: 329


1- فوائد الاُصول 1: 239.
2- منتهى الاُصول 1: 234.

ولكنّك تعلم: أنّ معنى القضاء إنّما هو الإتيان بها في خارج الوقت حين إتيانه حتى لو صدق الفوت عليه، ومعنى «يقضي ما فاته كما فاته»(1)، أي: يأتي خارج الوقت مثلما فاته في الوقت.

وملخّص الكلام: أنّ القيد ركن، ويؤيّد ذلك حديث «لا تُعاد»(2)، فإنّ المستفاد منه: أنّ الوقت ركن ودخيل في المطلوبيّة. وأيضاً: فلو كان مطلوباً على حدة ما كنّا مُحتاجين إلى قاعدة الميسور، كقوله في خبر عبد الأعلى: «امسح على المرارة»(3)، حيث استدلّ بأنّ اللّازم الإتيان بالواجب المتعذّر بعض قيوده، ويظهر منه وحدة المطلوب.

ثمّ إنّه لو شككنا في فوت واجب، فهل يمكن لنا إحراز الفوت باستصحاب عدم الإتيان في الوقت أم لا؟

هذا لا يكون ممكناً إلّا إن قلنا بأنّ الفوت أمر عدميّ.

وأمّا إذا قلنا بأنّه أمر وجوديّ، فلا يثبت الفوت باستصحاب عدم الإتيان في الوقت؛ لأنّه يكون من لوازمه، فيكون أصلاً مثبتاً، ومعلومأنّ

ص: 330


1- وسائل الشيعة 8: 268، باب 6 من أبواب قضاء الصلوات، ح6.
2- وسائل الشيعة 1: 371_ 372، باب 4 من أبواب الوضوء، ح8.
3- انظر: وسائل الشيعة 1: 464، باب 39 من أبواب الوضوء، ح5. ولفظ الخبر كالتالي: عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: قلتُ لأبي عبد الله(علیه السلام): عثرتُ، فانقطع ظفري، فجعلتُ اصبعي على مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يُعرَف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَليكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحجّ: 78]، امسح عليه.

الاُصول لا تثبت لوازمها. فتصل النوبة إلى أصالة الاشتغال؛ لأنّ ذمّته قد اشتغلت بالواجب قطعاً من أوّل الوقت، فالشكّ شكّ في فراغ ذمّته، ومقتضى الاشتغال اليقينيّ هو الفراغ اليقينيّ.

والحقّ: عدم جريان الاستصحاب ها هنا؛ وذلك لحكومة قاعدة «الوقت حائل»، والتي مفادها: أنّ الشكّ لا اعتبار به بعد مضيّ الوقت.

نعم، لا بأس بجريان هذا الاستصحاب في غير باب الصلاة من الموقّتات التي يجب فيها القضاء على تقدير فوتها، كالصوم في بعض أقسامه.

وأمّا الشكّ هنا، فلا اعتبار به كما ذكرنا؛ لأنّ التكليف الثابت في الوقت قد سقط يقيناً، إمّا بالامتثال أو بخروج الوقت.

ص: 331

ص: 332

مبحث الإجزاء

اشارة

ولابدّ قبل خوض البحث فيه من تقديم نقاط:

النقطة الاُولى:

في أنّ هذا البحث هل هو من المباحث اللفظيّة أم العقليّة؟

قد يقال في عنوان هذه المسألة _ كما صنعه في الكفاية _: «الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟»(1)، ولكنّ جعلالمسألة معنونة بهذا العنوان يوجب خروجها عن المسائل اللفظيّة والدخول في المسائل العقليّة.

ومن هنا لجأ بعضهم إلى استخدام تعبير آخر، على أساسه تكون هذه المسألة داخلة في مباحث الألفاظ، وهو: «الأمر هل يقتضي الإجزاء عند الإتيان بالمأمور به على وجهه أم لا؟»(2).

ص: 333


1- كفاية الاُصول: ص 81.
2- نقله في: منتهى الاُصول 1: 238، عن جمع.

ولكن لا يخفى: ما في هذا التعبير الثاني من المسامحة؛ لأنّ الإجزاء لا يستند إلى الأمر، ولا يكون من مقتضىاته، بل إنّما يستند إلى فعل المكلّف وما هو الصادر منه.

فالأحسن في عنونة هذا المبحث أن يقال: «إنّ امتثال الأمر على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟».

والنقطة الثانية:

أنّ البحث في هذه المسألة ليس في الدلالة وما يقتضيه مقام الإثبات، بل إنّما هو في مرحلة الواقع والثبوت؛ فإنّ ما يُراد إثباته في هذا البحث هو أنّ الإتيان بالمأمور به علّة لسقوط الغرض؛ لأنّ وجود الغرض علّة لوجود الأمر حدوثاً وبقاءً، فعند تحقّق الغرض وحصولهيسقط

الأمر، لا محالة، وإلّا وجد المعلول بغير علّته؛ وبسقوطه، فلا يجب الإعادة ولا القضاء، بمعنى: أنّه لا يجب الإتيان بالمأمور به ثانياً بعد حصول الغرض، لا من باب الإعادة ولا القضاء.

فظهر

مما ذكرنا: أنّ البحث هنا ليس من المباحث اللفظيّة، وهذا لا ضير فيه، ولا ينافيه إدراجهم لهذا البحث في ضمن المباحث اللّفظيّة؛ فإنّ الاُصوليّين لم يفردوا باباً للبحث عن الأحكام العقليّة، بل ذكروها في أبواب متفرّقة، ومن بينها: المسألة التي هي محلّ الكلام هنا.

وعليه: فلا يختلف حال مسألة الإجزاء عن حال مسألة مقدّمة

ص: 334

الواجب، التي ذكروها ضمن المباحث اللّفظيّة مع أنّ البحث فيها ينصبّ حول أنّ العقل هل يحكم بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أم لا؟

كما ظهر أيضاً: أنّ معنى الاقتضاء هو العلّيّة والتأثير في سقوط الأمر، لا مجرّد الكشف والدلالة اللّذين هما من شؤون اللّفظ، فالإجزاء هو بمعنى: أنّ الإتيان بالمأمور به يكون علّة للسقوط، لا أنّه مجرّد كاشف وحاكٍ عنه.

والنقطة الثالثة:

في أنّ هذه المسألة لا ربط لها بمسألتي المرّة والتكرار، ولا لمسألة تبعيّة القضاء للأداء؛ لأنّ البحث فيهما إنّما ينصبّ على ذات المأمور به، وتعيين حدوده وقيوده شرعاً بحسب الثبوت ومقام التشريع، وأمّا فيما نحن فيه، فالبحث ينصبّ على المأمور به بعد أن ثبت بحدوده وقيوده شرعاً، فهل يكون امتثاله موجباً لسقوطه أم لا؟ فلا ربط بين المسألتين أصلاً.

وبعبارة أُخرى: فالبحث هناك عن تعيين مدلول الصيغة، وأمّا هنا، فهو بحث عن المأمور به بعد الفراغ عن ذلك، فتكون مسألة المرّة والتكرار بمنزلة الموضوع لهذه المسألة، فيقال مثلاً: إنّ إيجاد الطبيعة مرّة _ لو قلنا بدلالتها على المرّة _ أو مكرّرة _ لو قلنا بأنّ التكرار هو مدلول الصيغة _

ص: 335

هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

وكذا يقال أيضاً بالنسبة إلى مسألة تبعيّة القضاء للأداء؛ فإنّ الظاهر الفرق بينهما؛ فإنّ ما وقع البحث عنه في مسألة التبعيّة هو _ كما مرّ _ في تعدّد المطلوب وعدم تعدّد المطلوب.وهل أنّ الأمر الأوّل يدلّ على إيجاد المأمور به في خارج الوقت إن فاته في الوقت كما يدلّ على وجوب إيجاده في الوقت أم لا، بل إذا فات الوقت فات معه الموقّت؟

وأين هذا من محلّ البحث في مسألة الإجزاء، وهو أنّ الإتيان بالمأمور به هل يكون مجزياً عن الأمر الواقعي أم لا؟

وبعبارة أوضح: فالموضوع في المسألتين مختلف؛ فإنّ موضوع مسألة تبعيّة القضاء هو الفوت في الوقت، وأمّا موضوع مسألة الإجزاء فهو الإتيان بالمأمور به في وقته.

والنقطة الرابعة:

في أنّ الأمر تارةً يكون واقعيّاً، وأُخرى يكون ظاهريّاً، وثالثةً اضطراريّاً، والبحث في مسألة الإجزاء يقع في جميع هذه الصور الثلاث.

ولا يخفى هنا: أنّ الإجزاء وسقوط الأمر أعمّ من القبول؛ إذ يكفي في سقوط الأمر أن يُؤتى بالواجب جامع الأجزاء والشرائط، ولكنّ صرف الإتيان به كذلك أعمّ من وقوعه مقبولاً عند اﷲ تعالى أو لا؛ إذ قديحول

ص: 336

بين الإتيان بالواجب وبين قبوله موانع كثيرة، كما أنّ للقبول مراتب متفاوتة.

وإذا عرفت ذلك، فالكلام أوّلاً يقع فيما يقتضيه مقام الثبوت.

وقد يقال _ بدواً _: لو فرضنا كون هذه المسألة عقليّة لكان هذا منافياً لما هو المبحوث عنه فيها، وهو أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ هل يكون مجزياً عن المأمور به بالأمر الواقعيّ أم لا؟

وجه المنافاة: أنّ البحث عن الإجزاء نفياً وإثباتاً إنّما يرجع إلى أنّ الأمر هل له دلالة عليه أم لا؟ وهذا أجنبيّ تماماً عن حديث الملازمة العقليّة.

ولكن يمكن الجواب عنه: بمنع المنافاة، إذ إنّ فرض المسألة عقليّة يتضمّن البحث عن دلالة الأمر أيضاً بالتبع؛ لأنّ البحث عن الدلالة وعدمها يندرج في مبادئها؛ فإنّ من يقول بالإجزاء يبحث عن أنّ الأمر هل يدلّ على وجود مصلحة في المأمور به بالأمر الظاهريّ بنحو تبقى معه المصلحة الواقعيّة أم لا؟

فالبحث _ إذاً _ يتناول بالتبع البحث عن دلالة الأمر أيضاً، ومعه: فالمسألة عقليّة، ولكنّها _ في الوقت عينه _ تدخل في المباحث اللّفظيّة بالتبع.ويشهد لذلك: أنّ البحث في مسألة الإجزاء يجري في جميع الواجبات، ولو لم يكن الدليل على وجوها من قبيل الدليل اللفظيّ، بل

ص: 337

حتى ولو كان دليلاً لبّيّاً، ومع الشمول لذلك، فلا معنى لجعل الإجزاء مدلولاً للّفظ فقط، ولا وجه لجعل المسألة لفظيّة محضة.

والنقطة الخامسة:

في ما هو المُراد من كلمة «وجهه» في عنوان المسألة:

قال في الكفاية: «الظاهر أنّ المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يُؤتى به بقصد التقرّب في العبادة»(1).

لا يخفى: أنّه ليس المراد من الوجه هنا ما هو المعتبر عند المتكلّمين في العبادة من قصد الوجوب أو الاستحباب أو جهتهما، بل المراد منه: الكيفيّة التي اعتبرت في متعلّق الأمر، بمعنى: أنّ إتيان الواجب على الوجه الذي أُمر به، بحيث يقع تامّ الأجزاء والشرائط، وبالكيفيّة التي تعلّق بها الأمر، يكون مجزياً ومسقطاً لأمره.ويُرشد إلى صحّة ما ذكرناه: أنّ قصد الوجه غير معتبر في صدق الامتثال للواجب عند المشهور، مع أنّهم في مبحث الإجزاء بحثوا المسألة بهذا الشكل، فقالوا: الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

ص: 338


1- كفاية الاُصول: ص 81.

وبذلك ظهر: أنّه لا منافاة بين المبحوث عنه هنا في مسألة الإجزاء وبين إنكار لزوم قصد الوجه عندهم.

وبه أيضاً ظهر: عدم صحّة ما قد يقال: من أنّ ذكر الوجه في العنوان إنّما هو لإدخال قصد الوجه؛ إذ لا دليل على اعتبار قصد الوجه.

هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فلو كان هذا هو المراد من الوجه لكان البحث مختصّاً بباب العبادات، دون مطلق المأمور به، ولو توصّليّاً، فتكون الواجبات التوصّليّة خارجة عن حريم النزاع، مع أنّ البحث عندهم عامّ.

ثمّ لو تنزّلنا بأنّ المراد من الوجه هو ما ذكره المتكلّمون، فلا معنى لإفراده وتخصيصه بالذكر دون سائر الأجزاء والقيود والشرائط؛ إذ على تقدير اعتباره ولزومه، فلن يكون حاله إلّا كحال تلك القيود والأجزاء والشرائط.

وبعد التقديم بهذه النقاط نقول:لو أتى بالمأمور به تامّ الإجزاء والشرائط، وبالكيفيّة التي تعلّق الأمر بها، أجزأ وسقط الأمر به عقلاً، سواء كان ذلك الأمر أمراً واقعيّاً أم ظاهريّاً أم اضطراريّاً، وبالجملة: فالإتيان بالمأمور به على وجهه بكلّ أمر يقتضي الإجزاء عن أمره عقلاً، حتى في الأمر الظاهريّ والاضطراريّ، فإنّهما يسقطان بامتثالهما على النحو المزبور، ولو لم يؤدّ ذلك إلى سقوط أمر آخر، فمثلاً: لو أتى بالأمر الاضطراريّ على وجهه، فإنّه مجزٍ ومسقط

ص: 339

لنفس هذا الأمر الاضطراريّ، ولو لم يكن مسقطاً للأمر الواقعيّ الأوّليّ.

وإذا عرفت هذا، فالنزاع _ في الحقيقة _ إنّما هو في دلالة الدليل على الإجزاء للمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ عن الأمر الواقعيّ أو عدم دلالته؟

وأمّا الكلام في أصل مبحث الإجزاء فيقع في مسائل ثلاث:

المسألة الأُولى: في أنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء عن نفس أمره أم لا؟ أعمّ من أن يكون هذا الأمر واقعيّاً أم ظاهريّاً أم اضطراريّاً.

والمسألة الثانية: هل يكون الإتيان بالمأمور به الواقعيّ الثانويّ (الاضطراريّ) مجزياً عن الأمر الواقعيّ، ولو تبدّل الموضوع وزال العذر، سواء كان في الوقت أم خارجه، أم لا يكون كذلك، بل لابدّ من الإتيان به ثانياً، إمّا في الوقت أو خارجه؟والمسألة الثالثة: هل يقتضي الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ الإجزاء عن الأمر الواقعيّ، ولو مع انكشاف الخلاف ظنّاً أو علماً، أم لا؟

أمّا الكلام في المسألة الاُولى: وهي: إجزاء كلّ مأمور به عن أمره:

فثبوت

الإجزاء فيها ممّا لا شكّ فيه؛ إذ بعد الإتيان بالمأمور به يسقط الأمر قهراً، ولا يجب الإتيان به ثانياً بمقتضى ذلك الأمر، لا أداءً ولا قضاءً؛ إذ يحصل الغرض بإيجاد ما تعلّق به الأمر، فيسقط الأمر به لا محالة، وإلّا، فلو كان باقياً بعد فرض حصول متعلّقه، لزم أن يكون من قبيل تحصيل

ص: 340

الحاصل، بلا فرق بين أن يكون المأمور به توصّليّاً أو تعبّديّاً.

وبعبارة أُخرى: فبعد الإتيان بالمأمور به تامّ الأجزاء والشرائط فإمّا أن يكون الغرض والملاك قد حصل أو لا.

فالثاني: وهو عدم كونه وافياً بالغرض مع صدق المأمور به عليه خلف.

وأمّا الأول: فيلزمه سقوط الأمر؛ لحصول الغرض، والأمر تابع لحصول غرضه، فبعد حصوله يسقط الأمر قهراً، وإلّا، لم يكن تحصيله غرضاً للأمر وغاية له، وهذا خلف أيضاً.فالحاصل: أنّ إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره ضروريّ، وهو ممّا لا كلام ولا خلاف فيه.

الامتثال عقيب الامتثال:

وقد ظهر بما بيّنّاه: أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير معقول.

ولكنّ صاحب الكفاية) ادّعى جوازه في بعض الموارد، وهو ما إذا لم يكن المأمور به علّة تامّة لحصول الغرض. قال(قدس سره) ما لفظه:

«نعم، لا يبعد أن يقال: بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانياً بدلاً عن التعبّد به أوّلاً _ لا منضمّاً إليه كما أشرنا إليه في المسألة السابقة _، وذلك فيما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض، وإن كان وافياً به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماءٍ أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه

ص: 341

بعد؛ فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أُهريق الماء واطّلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيةً، كما إذا لم يأتِ به أوّلاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلّا لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ: يكون له الإتيان بماءٍ آخر موافق للأمر، كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه.نعم، فيما كان الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه، فأهرقه، بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة، فله إليه سبيل، ويؤيّد ذلك، بل يدلّ عليه: ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعةً، وأنّ اﷲ تعالى يختار أحبّهما إليه»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الإتيان بالمأمور به:

تارةً: يكون هو العلّة التامّة في حصول الغرض، كما إذا أمر المولى عبده بأن يُهرق له الماء في فمه لكي يرفع عطشه، ففعل العبد ما أمره به مولاه، فإنّ المأمور به حينئذ يكون علّة تامّة لحصول الغرض، وهو رفع العطش عن المولى. وفي هذا الفرض، لا يجوز تبديل الامتثال بعد الامتثال عقلاً؛ لسقوط الأمر بمجرّد الإتيان بالفعل، فلا يبقى محلّ للامتثال ثانياً.

ص: 342


1- كفاية الاُصول: 83 _ 84.

وأُخرى: لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض، بل تكون نسبته إليه نسبة المقتضي أو المعدّ، وذلك كما إذا توقّف حصول الغرض على أمرٍ اختياريٍّ للمولى، فإذا أمره المولى بإحضار الماء لرفع العطش عنه، فمن الواضح: أنّ الغرض لا يحصل بمجرّد إحضار الماء، بل إنّمايتوقّف حصوله على شرب المولى لهذا الماء ورفع عطشه به. وفي هذا الفرض، يرى صاحب الكفاية) أنّه يجوز له _ عقلاً _ تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر أفضل منه، ليكون امتثالاً للأمر الأوّل، إذ المفروض أنّه لم يحصل الغرض بالإتيان به أوّلاً.

وقد أيّد) دعواه هذه بما ورد في بعض الأخبار من جواز إعادة الصلاة جماعة لمن كان قد صلّى فرادى، كما في المرويّ عن أبي بصير، قال: «قلت لأبي عبد اﷲ(علیه السلام): اُصلّي ثمّ أدخل المسجد، فتُقام الصلاة وقد صلّيتُ، فقال: صلّ معهم، يختار اﷲ أحبّهما إليه»(1).

وأمّا المحقق النائيني(قدس سره)، فقد ذهب إلى أنّ تبديل الامتثال وإن كان ممكناً عقلاً وثبوتاً، إلّا أنّه يحتاج إلى دليل إثباتيّ، وهذا بناءً على مسلكه القائل بأنّ العبادات بالنسبة إلى آثارها معدّات، وليست من قبيل العلّة التامّة بحيث لا يتخلّف ولا يتأخّر وجود المعلول منها، بل يمكن أن توجد العلّة ويتخلّف المعلول، أعني: القبول وترتّب الآثار عليها، فترتّب

ص: 343


1- وسائل الشيعة 8: 403، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 10.

الآثار يحتاج إلى أشياء أُخر لا ربط لها بفعل العبد، ككون العمل بحاجة إلى التصفية من قبل الملائكة وغير ذلك من الجهات، فلو أتى بفرد آخر، أمكن أن يصير هو الآخر مصفّىً ومورداً للقبول.وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سره):

«الذي يظهر من بعض الأعلام: أنّ تبديل الامتثال يكون على القاعدة، وللمكلّف أن يبدّل امتثاله، و يعرض عمّا امتثل به أوّلاً، و يأتي بالفعل ثانياً، هذا. ولكنّ الإنصاف: أنّه لا يمكن المساعدة على ذلك، بل يحتاج تبديل الامتثال إلى قيام دليل على ذلك؛ فإنّ تبديل الامتثال يحتاج إلى عدم سقوط الغرض عند سقوط الأمر، كما لو أمر بالماء لغرض الشرب، وأتى به العبد والمولى لم يشربه بعد؛ فإنّ الأمر بالإتيان بالماء، وإن سقط، إلّا أنّ الغرض بعد لم يحصل، فللعبد تبديل الامتثال ورفع ما أتى به من الماء وتبديله بماء آخر، فيحتاج تبديل الامتثال إلى بقاء الغرض أو مقدار منه، وإمكان قيام الفعل الثاني مقام الغرض. و هذا _ كما ترى _ يحتاج في الشرعيّات إلى دليل يكشف عن ذلك، ومع عدم قيامه لا يمكن للمكلّف التبديل من عند نفسه، ولم نعثر في الشريعة على دليل يقوم على جواز تبديل الامتثال»(1)، إلى آخر ما جاء في كلامه«.

ولكنّ هذا الكلام في حدّ نفسه مورد للتأمّل؛ لأنّ سقوط التكليف

ص: 344


1- فوائد الاُصول 1: 243.

والأمر شيء، ووقوعه مقبولاً شيء آخر؛ إذ بمجرّد إتيانالمكلّف بالفعل تامّ الأجزاء والشرائط يسقط الأمر به، وبعده فلا يبقى أمر ولا بعث حتى يتأتّى الانبعاث عنه، فالامتثال عقيب الامتثال يحتاج إلى دليل.

وقد استشكل المحقّق الأصفهاني) فيما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«قد أشرنا في آخر مبحث المرّة والتكرار إلى أنّ إتيان المأمور به بحدوده وقيوده علّة تامة لحصول الغرض، فيسقط الأمر قهراً، والمثال المذكور في المتن كذلك؛ لأنّ الغرض الذي يعقل أن يكون باعثاً على الأمر بإحضار الماء هو تمكّن المولى من دفع عطشه به، لا نفس رفع العطش خصوصاً مع أنّ مصالح العبادات فوائد تقوم بها وتعود إلى فاعليها، لا أنّها عائدة إلى الأمر بها حتّى يتصوّر عدم استيفاء غرضه منها، بل من الأوفى، كما لا يخفى»(1).

وتوضيح ما أفاده:

أنّه يستحيل أن لا يكون المأمور به علّة تامّة لحصول الغرض لتبعيّة الأمر لتحصيل الغرض من المأمور به، فيستحيل أن يتوسّط بين الفعل وحصول الغرض مقدّمة غير اختياريّة للمكلّف، بل المأمور به لا ينفكّعن الغرض من الأمر. وأمّا ما ذكر من مثال الأمر باحضار الماء للشرب،

ص: 345


1- نهاية الدراية 1: 263.

فالغرض من الأمر ها هنا ليس هو نفس الشرب فإنّه أمر اختياريّ للمولى لا يرتبط بالعبد، فلا معنى لانبعاث الأمر عنه، بل الغرض منه هو التمكّن من الشرب، وهو لا ينفكّ عن المأمور به، كما لا يخفى.

وعليه: فالإتيان بالفعل مطلقاً يكون موجباً لحصول الغرض؛ لأنّه علّة تامّة له، المُستَلزِم لسقوط الأمر المانع من جواز تبديل الامتثال.

وأمّا ما استُشكل به على صاحب الكفاية(قدس سره) من «أنّ الكلام يدور بين الجواز عقلاً والمنع عقلاً، فلا معنى للاستدلال على الجواز بالروايات وبالدليل في مقام الإثبات»(1).

ففيه: أنّ ما أراده صاحب الكفاية(قدس سره) هو أن يأتي بأقوى دليل على إمكان الشيء، وهو وقوعه، وكلامنا إنّما هو في أنّ تبديل الامتثال هل هو ممكن عقلاً أم لا؟

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ مسألة الامتثال عقيب الامتثال تحتاج إلى دليل ففي بعض الموارد، ورد الدليل، كما فيما دلّ على جواز إعادة الصلاة جماعة، وأمّا الامتثال عقيب الامتثال بمعنى: انبعاث المكلّف ثانياً بنفسالأمر الأوّل، فغير تامّ، كما عرفت؛ إذ بعد الإتيان بالمأمور به تامّ الإجزاء والشرائط سقط الأمر الأوّل، فلا يكون هناك أمر حتى يكون الانبعاث عنه للإتيان بالمأمور به ثانياً.

ص: 346


1- منتقى الاُصول 2: 13.

وبالجملة: فلمّا لم يكن تبديل الامتثال موافقاً للقاعدة، كان بحاجة إلى دليل، إلّا أن يكون الغرض لم يحصل بعد، بأن لا يكون الإتيان بالمأمور علّة تامّة لحصوله، فهنا لا مانع من الإتيان به ثانياً. كما لو أمر المولى عبده بالإتيان بالماء ليشربه، فأتى العبد بالماء، فما دام الشرب لم يحصل بعد من المولى، فيكون ملاك الأمر باقياً وموجوداً، ومعه فلا ضير للعبد في الإتيان له بفرد آخر من الماء ثانياً.

بل يمكن أن يقال: بأنّ مسألة إعادة المنفرد صلاته جماعةً أو الإمام مرّةً أُخرى إماماً، هو من قبيل الامتثال عقيب الامتثال، ولكنّ الجواز هنا لم يكن من جهة القاعدة، بل من جهة قيام الدليل على الجواز.

وأمّا المحقق العراقيّ) فقد رأى أنّ الحكم هنا يبتني على ما هو المختار من القولين في باب مقدّمة الواجب، قال):

«وأمّا

لو لم يكن مجرّد الإتيان بالمأمور به علّة تامّةً لحصول الغرض وتحقّقه، بل كان لاختيار المولى أيضاً دخل في حصول غرضه، كما نظيره في العرفيّات في مثل أمر المولى عبده بإتيان الماء وإحضاره عنده لأجل الغرض الذي هو رفع عطشه بشربه إيّاه، حيث إنّه في مثلهذا الفرق لا يكون مجرّد الإتيان بالماء وإحضاره عند المولى علّة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه، بل كان لاختيار المولى وإرادته إيّاه للشرب أيضاً دخل في تحقّقه؛ لكونه هو الجزء الأخير من العلّة لحصول غرضه، الذي هو رفع عطشه، ففي مثله: حيثما كان الإرادة المتعلقة بإيجاد الماء

ص: 347

بحسب اللّبّ إرادة غيريّة وتكون الإرادة النفسيّة لبّاً هي المتعلّقة بحيث رفع العطش، فلا جرم يبتني جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً وعدم جوازه على القولين في باب مقدّمة الواجب: بأنّ الواجب هل هو مطلق المقدّمة ولو لم تُوصل؟ أو أنّ الواجب هو خصوص الموصلة منها؟

فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة: يكون حال هذا الفرض حال الفرض السابق، من علّيّة الإتيان بالمأمور به لسقوط الأمر وحصول الغرض، فكما أنّه في ذلك الفرض بإتيان المأمور به يسقط الأمر والتكليف، ولا يجب على المكلّف، بل لا يجوز عليه، الإتيان به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعة، كذلك في هذا الفرض، فبإتيان المأمور به في هذا الفرض أيضاً يسقط الأمر به، فلا يجوز له الإتيان به ثانياً بعنوان امتثال الأمر الأوّل فضلاً عن وجوبه.

وأمّا على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، لا مطلقها، فلازمه: هو جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعةمع عدم اختيار المولى إيّاه؛ إذ ما دام عدم اختيار المولى للمأتيّ به الأوّل حيثما كان الغرض الداعي على الأمر بعد بحاله، كان الأمر بالإيجاد والإتيان أيضاً على حاله من الفعليّة، غايته: أن ليس له الفاعليّة والمحرّكيّة بعد الإتيان بالمأمور به أوّلاً بملاحظة صلاحيّة المأتيّ به للوفاء بالغرض، لا أنّه يسقط رأساً بمجرّد الإتيان بالمأمور به، ونتيجة ذلك التفكيك بين فعليّة الأمر وفاعليّته هو: جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً ما دام بقاء المأتيّ به

ص: 348

الأوّل على صلاحيّته للوفاء بغرض المولى ووجوب الإتيان به في فرض خروجه عن القابلية المسطورة _ كما في المثال من فرض إراقة الماء المأتيّ به لغرض الشرب قبل اختيار المولى إيّاه _ إذ حينئذٍ: ربّما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الإتيان بفرد آخر من الطبيعيّ المأمور به كما لا يخفى، ونتيجة ذلك في فرض تعدّد الإتيان بالمأمور به هو: وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما، لا بهما معاً، وصيرورة الفرد الآخر غير المختار لغواً محضاً، لا أنّه يتحقّق به الامتثال أيضاً كي يكون قضيّة الإتيان بالمأمور به متعدّداً من باب الامتثال عقيب الامتثال»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الفعل الذي يكون متعلّق الأمر:إمّا أن يكون بنفسه مشتملاً للغرض الداعي للمولى إلى الأمر به فيكون تحقّقه في الخارج علّة تامّة لحصول الغرض، أي: غرض المولى، فحينئذ: بمجرّد الإتيان به يسقط الأمر.

وإمّا أن لا يكون نفس التحقّق والإتيان به علّة تامّة، بل إنّ فعل العبد يكون مقدّمة لما يترتّب عليه غرض المولى، وهو رفع العطش بشرب الماء مثلاً، أو يكون مقدّمة لفعل المولى الجوانحيّ، كما إذا كان الإتيان لأجل اختيار أحبّ الصلاتين.

فإذا كان فعل الأمر مقدّمة، فالأمر المتعلّق به أمر مقدّميّ غيريّ، فبناءً

ص: 349


1- نهاية الأفكار 1: 224 _ 225؛ وانظر أيضاً: بدائع الأفكار 1: 263.

على وجوب المقدمة الموصلة: فإذا أتى بالفعل متعدّداً، فأيّهما اختاره المولى هو الذي يقع على صفة الوجوب، سواء كانت الصلاة الاُولى أو الثانية، فالامتثال يحصل بما اختاره اﷲ.

فلو شرب الماء من أحد الكأسين، فكان الواجب هو ما اختاره، وكذا بالنسبة إلى الصلاة المعادة، فالتي اختارها المولى هي التي تكون واجبة، وعلى هذا يُحمل ما ورد من الروايات الواردة في هذا الباب الدالّة على استحباب الإعادة بعد إتيان المكلّف به.

فظهر: أنّ نفس الإتيان ليس غرضاً أصليّاً للمولى، بل ماوقع عليه اختياره هو الذي يكون واجباً، فالفرد الذي لا يقع عليه اختياره لا يكون واجباً.ولكنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامّ؛ لأنّ الصلاة التي هي أفضل الطاعات والتي وجوبها النفسيّ من المسلّمات، تخرج _ بناءً عليه _ عن الواجب النفسيّ، ليكون وجوبها غيريّاً، ولا يمكن الالتزام به.

بل

لو التزمنا في جميع العبادات بهذا الرأي، لكان من الواجب _ حينئذٍ _ أن يقال: بأنّه ليس لنا واجب نفسيّ أصلاً، وهو واضح البطلان.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ الواجب هي الصلاة الاُولى خاصّةً؛ لاشتمالها على المصلحة الملزمة، فهي التي تقع على صفة الوجوب، وأمّا الثانية: فهي مشتملة على مصلحة راجحة، ولكنّها ليست على نحو الإلزام، بل تقع على نحو الاستحباب، ولذا يجوز الاقتصار على الاُولى.

ص: 350

ففيه: أنّ الظاهر من قوله(علیه السلام)، «يختار

اﷲ أحبّهما إليه»(1): أنّه يجعله محقّقاً لامتثال أمره بالصلاة الواجبة، أي: أنّ اﷲ يختار أحبّ العملين، ويجعله محقّقاً للامتثال دون العمل الآخر، وإن صدر من المكلّف أوّلاً.

وأيضاً: فبناءً على هذا المبنى، لا نتمكّن من الجزم بكون ما أتى به من أفراد المكلّف به واجباً، أوّلاً كان أو ثانياً؛ لأنّه لا يُدرى أيّالفردين هو الذي يُتوصّل به إلى المولى، بل لابدّ أن يأتي بكل من الفردين رجاءً حتى يحصل على مُراد المولى وغرضه.

وقد نُسِب إلى المحقق الشيخ كاظم الشيرازي(قدس سره)(2) وجه آخر، حاصله:

أنّ المولى إذا كان له غرض أقصى لا يحصل بمجرّد أن يؤتى بالفعل؛ فإنّ العُرف في مثل هذا الحال يرى أنّ المكلّف مخيّر بين إبقاء الفرد الأوّل وبين إتلافه والإتيان بفرد جديد آخر، أي: أنّ هناك وجوباً تخييريّاً تعلّق بإبقاء الفرد الأوّل والإتيان بفرد آخر على نحو التخيير.

وأمّا بناءً على القول المشهور، وهو أنّ المقام ليس من باب المقدّمة الموصلة، فلا يمكنه الإتيان بالفرد الثاني بعد الإتيان بالفرد الأوّل بعنوان الوجوب، لا بعنوان بالرجاء، لما بيّنّاه من سقوط أمره وتحقّق امتثاله للواجب.

ص: 351


1- في الخبر المرويّ عن أبي بصير، وقد مرّ تخريجه آنفاً.
2- انظر: منتقى الاُصول 2: 15 _ 16.

فالحقّ: أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير ممكن، وأنّ الصلاة الاُولى هي التي تكون مشتملة على المصلحة الملزمة فقط، وأمّا الثانية فهي مشتملة على مصلحة راجحة، ولا تقع على صفة الوجوب أصلاً، وليس معنى أنّ اﷲ تعالى يختار أحبّهما إليه، أنّه تعالى يجعله محقّقالامتثال دون العمل الآخر، بل بمعنى: أنّه يجعل أحدهما مقبولاً عنده، وقد عرفنا أنّ القبول شيء والسقوط شيء آخر، وكذلك فالقبول شيء والوقوع على صفة الوجوب شيء آخر، فإذا أتى بالصلاة منفرداً سقط التكليف والأمر، وأمّا الامتثال الثاني، فمستحبّ، ولا يقع على صفة الوجوب أصلاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّ غاية ما يدلّ عليه «يختار اﷲ أحبّهما إليه» هو: أنّه تعالى يقبل أحدهما، والاختيار والقبول شيء والامتثال وسقوط الأمر شيء آخر، كما مرّ، فيكون الإتيان بالصلاة الأُولى علّة تامّة لحصول الغرض وسقوط الأمر.

وأمّا الكلام في المسألة الثانية: وهي إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ عن الأمر الواقعيّ:

اشارة

فمثلاً: إذا كان مأموراً بالصلاة مع التيمّم، ثمّ ارتفع العذر فهل يجب عليه الإتيان بالصلاة مع الوضوء أم لا يجب بل يكون الإتيان بالصلاة مع التيمم مجزياً عنه؟

وبعبارة أُخرى: فهل يَثبت اقتضاؤه للإجزاء بالنسبة للإعادة عند زوال العذر في الوقت؟ أم أنّه يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى القضاء خارج الوقت

ص: 352

عند استيعاب العذر لتمام الوقت وزواله بعد الوقت؟فمثلاً: لو تعذّر أحد أجزاء المأمور به أو شروطه، وأتى المكلّف بما هو فاقد القيد بعد تعلّق الأمر الاضطراريّ به، فهل يكون هذا الإتيان كافياً في مقام الامتثال، بحيث لا يجب الإعادة في الوقت ولا القضاء خارجه، بعد وجدان القيد، وبعد إمكان الإتيان به فيهما تامّ الأجزاء والشرائط؟ أم أنّه لا يكون كافياً كذلك؟

وبعبارة

أُخرى: يمكن أن يقال: بأنّ تعلّق الأمر الاضطراريّ وافٍ بتمام مصلحة الأمر الاختياريّ، وهذا القيد الذي سقط وجوبه بالتعذّر كالطهارة المائيّة، ليس ركناً لمصلحة الأمر بالصلاة، وإلّا، فلو كان ركناً، فمع عدم إمكانه، كيف يأمر المولى به، كما في الأمر بالطهارة الترابيّة؟! فإنّ أمره به _ حينئذٍ _ يكون أمراً بشيءٍ لا ملاك ولا مصلحة فيه، مع أنّ الأوامر _ كما هو الحقّ عند الإماميّة _ تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فمن أمره بالصلاة مع الطهارة الترابيّة، ينكشف الإجزاء بالإتيان بها كذلك، وينكشف _ أيضاً _ بأنّه في حال تعذّر الطهارة المائيّة يكون المأمور به تامّ المصلحة.

وعليه: فلابدّ من القول بالإجزاء، كما عليه أكثر المحقّقين.

وقبل الدخول في صلب الموضوع، لابدّ من بيان أنّ موضوع الأمر الاضطراريّ لابدّ وأن يكون متحقّقاً في الواقع، أي: لابدّ من أن يكون للأمر الاضطراريّ ثبوت واقعيّ حين الإتيان بالعمل، وذلك كما لوأُخذ

ص: 353

في موضوعه الاضطرار آناً ما، فتحقّق كذلك، أو كان موضوعه الاضطرار المستمرّ إلى نهاية الوقت، فتحقّق كذلك أيضاً، فإنّه في كلا الحالين يكون للأمر الاضطراريّ ثبوت واقعيّ. وأمّا إذا لم يكن موضوعه متحقّقاً في الواقع، ولم يكن الأمر الاضطراريّ ثابتاً، كما إذا فرض تحقّق الموضوع بالوجدان أو بالاستصحاب _ بناءً على إمكان جريانه في مثل الفرض _، ثمّ انكشف الخلاف وعدم تحقّقه واقعاً، كما لو كان موضوع الأمر هو الاضطرار تمام الوقت، فتخيّل أنّه يستمرّ الاضطرار معه إلى نهاية الوقت، أو قلنا بصحّة إجراء الاستصحاب في أمر استقباليّ، فاستصحب بقاء الاضطرار إلى نهاية الوقت، فجاء بالعمل الاضطراريّ ثمّ انكشف الخلاف بارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت.

والذي هو محلّ البحث هنا ليس هو هذا القسم من الاُمور الاضطراريّة؛ إذ لا مأمور بالأمر الاضطراريّ فيه؛ لعدم وجود الأمر الاضطراريّ أصلاً كي يقع الكلام في إجزائه، فالحكم في هذا الفرض إنّما هو حكم المأمور به بالأمر الظاهريّ، وإنّما المبحوث عنه هنا هو القسم الأوّل.

وإذا اتّضح ذلك، فالكلام في هذا البحث يقع في اُمور:

الأمر الأول:

أن يكون متعلّق الأمر الاضطراريّ وافياً بتمام الغرض ومصلحة الأمر الاختياريّ، ولو كان هذا الاضطرار بسوء اختياره، ويكون الاضطرار

ص: 354

_ كالاختيار _ من الصفات المنوّعة، كالقصر والإتمام وغيرهما ممّا يوجب تعدّد الموضوع، فالاضطرار والاختيار دخيلان في الموضوع والمصلحة، بل يجوز للمكلّف حينئذٍ _ بناءً على هذا الفرض _ أن يوقع نفسه في الاضطرار باختياره، لو فُرِض أنّ موضوع الاضطراريّ كان واقعاً في طول موضوع الاختياريّ؛ إذ ما دام وافياً بتمام الغرض، ولم يفت من المصلحة شيء، فيكون ذلك جائزاً.

بل يمكن أن يقال: بأنّ الأمر تعلّق بالجامع لمتعلّق الأمرين، ولكنّ فعليّة أثر كلّ منهما مختصّة بحالٍ من الأحوال، فبناءً على هذا: يجوز البدار بعد أن أحرز وفاء المأمور به الاضطراريّ بملاك الأمر الواقعيّ ولم يفت مصلحة الواقع، بل يكون راجحاً إذا أدرك فضيلة أوّل الوقت، ولا إشكال في الإجزاء؛ لأنّ الغرض حصل بتمامه وكماله، فسقط الأمر، ولا وجه _ حينئذٍ _ للإعادة في الوقت، ولا القضاء.

الأمر الثاني:

أن لا يكون الفعل الاضطراريّ وافياً بتمام مصلحة الفعل الاختياريّ، بل يبقى منه شيء، فحينئذ: إمّا أن يكون الباقي من المصلحة قابلاً للتدارك، وإمّا أن لا يكون كذلك.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون بحيث يجب استيفاؤه، أو يكون استيفاؤه راجحاً فقط.

ص: 355

وقد تعرّض صاحب الكفاية(قدس سره) إلى بيان أنحاء ما يمكن أن يقع عليه المأمور به الاضطراريّ ثبوتاً، وأنّها أربعة، قال(قدس سره):

«تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلّم فيه: تارةً: في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراريّ من الأنحاء، وبيان ما هو قضيّة كلٍّ منها من الإجزاء وعدمه. وأُخرى: في تعيين ما وقع عليه. فاعلم: أنّه يمكن أن يكون التكليف الاضطراريّ في حال الاضطرار كالتكليف الاختياريّ في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة وكافياً فيما هو المهمّ والغرض، ويمكن أن لا يكون وافياً به كذلك، بل يبقى منه شي ء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحبّ. ولا يخفى: أنّه إن كان وافياً به يجزي، فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك، لا قضاءً، ولا إعادة، وكذا لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه، ولايكاد

يسوغ له البدار في هذه الصورة إلّا لمصلحةٍ كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدارٍ من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ، فافهم.

لا يقال: عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء. فإنّه يقال: هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت. وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاُولى فيدور مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طروّ الاختيار ذا مصلحة ووافياً بالغرض. وإن لم يكن وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقاً، و لو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي

ص: 356

ممّا يجب تداركه فلا يجزي، بل لابدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلّا، فيجزي. ولا مانع عن البدار في الصورتين، غاية الأمر: يتخيّر في الصورة الاُولى بين البدار والإتيان بعملين: العمل الاضطراريّ في هذا الحال، والعمل الاختياريّ بعد رفع الاضطرار، أو الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار. وفي الصورة الثانية يُجزي البدار، ويستحبّ الإعادة بعد طروّ الاختيار. هذا كلّه فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراريّ من الأنحاء»(1).وملخّص ما أفاده(قدس سره): أنّ لدينا بحسب مقام الثبوت صوراً أربع: لأنّه:

إمّا أن يكون وافياً بملاك الأمر الواقعيّ بتمامه أو لا يكون وافياً به بتمامه. والثاني: إمّا أن يكون المقدار الباقي من المصلحة والملاك ممّا لا يمكن تداركه، أو يكون ممّا يمكن تداركه. والثاني: إمّا أن يكون ذلك المقدار مصلحة ملزمة، أو لا يكون كذلك، فالصور أربعة.

الاُولى: أن يكون وافياً بتمام ملاك الأمر الواقعيّ.

الثانية: أن يكون وافياً ببعض الملاك، ولكنّ المقدار الباقي ممّا لا يمكن تداركه.

الثالثة: أن يكون وافياً ببعض الملاك، وأمكن تدارك الباقي، وكان ملزماً.

ص: 357


1- كفاية الاُصول: ص 84 _ 85.

الرابعة: أن لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه ملزماً، بل بنحو يوجب الاستحباب.

أمّا الصورة الثالثة: _ وهي ما لو كان وافياً ببعض الملاك، وأمكن تدارك الباقي، وكان لازم الاستيفاء _ فلابدّ فيها من الإعادة، ويُلتزم فيها بعدم الإجزاء به.

وأمّا بالنسبة إلى البدار، فقد يقال: لا مانع منه؛ لأنّه لا يكون سبباً لتفويت مصلحة الواقع بعد فرض لزوم الإتيان بالفعل بعد ارتفاع العذر.وبعبارة أُخرى: فالمكلّف مخيّر بين البدار بأن يأتي بالفعل الاضطراريّ ثمّ بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، وبين أن يؤخّر ويأتي بالفعل الاختياريّ فقط حين ارتفاع العذر؛ لأنّ المصلحة تُستوفى في الصورتين.

وقد يقال: بترجيح البدار إذا أراد أن يراعي مصلحة الوقت أيضاً.

وأمّا الصورة الرابعة: _ وهي ما لا يكون وافياً بتمام الغرض، وكان ممكن الاستيفاء، لكنّه غير لازم التدارك _:

فالحقّ

فيها هو الإجزاء، بعد أن لم تكن المصلحة الفائتة سبباً للأمر الإلزاميّ، نعم، تكون منشأ للأمر الاستحبابيّ. ولا إشكال في هذه الصورة في جواز البدار والاضطرار اختياراً، ولو مع العلم بزوال العذر؛ لأنّ ما يفوت من المصلحة بسببهما غير لازم التحصيل، فلا يكون ثمّة مانع من تفويته عقلاً. فيقال حينئذٍ: حكمه حكم استحباب الجمع، فيبادر بالعمل ثمّ يأتي به ثانياً، أو يؤخّر العمل ويأتي بالعمل الاختياريّ بعد زوال العذر.

ص: 358

ولكن يرد الإشكال على ما ذكره في هذه الصورة:

أوّلاً: أنّه من التخيير بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، وهو _ كما قُرّر في محلّه _ محلّ إشكال.وثانياً: أنّ اللّازم حينئذٍ هو الإتيان بكلا العملين بعد أن فرض أنّ لكلّ منهما مصلحة، لا أن يكون مخيّراً بين وجوبهما أو وجوب الفعل التامّ بعد رفع الاضطرار تخييراً؛ إذ لا يكون هناك إلّا مصلحة واحدة، لا مصلحتان. وواضح أنّ التخيير إنّما يُتصوّر فيما لو كان إتيانه بأحد الفعلين كافياً له عن الإتيان بالثاني.

وهذا في محلّ البحث غير معقول؛ إذ بعد فرض أنّ الشارع لم يرفع اليد عن الفرد الاختياريّ، سواء كان قد أتى بالاضطراريّ أم لا، بل أوجب على المكلّف الإتيان به على كلّ من تقديري: الإتيان بالعمل الاضطراريّ الناقص في أوّل الوقت، وعدم الإتيان به، فلا معنى لإيجابه الفرد الناقص، فإذا كان المكلّف متمكّناً من الفرد الاختياريّ، وهو الصلاة مع الطهارة _ مثلاً _، فلا تصل النوبة إلى الطهارة الترابيّة، إذ يكون الأمر الثاني (الاضطراريّ) واقعاً في طول الأمر الأوّل (الاختياريّ)، فينتج عنه: عدم جواز البدار. وأمّا ما قلناه سابقاً من جواز البدار وعدمه، فإنّما هو من جهة النظر في نفس الشيء.

وأمّا افتراض جوازه بملاك آخر أجنبيّ عن ملاك الواقع، فهو فرض خارج عن محلّ البحث، ولا صلة له بمحلّ الكلام.

ص: 359

وأمّا افتراض وجود مصلحة في نفس البدار، ولأجل تلك المصلحة جاز البدار، فهو _ أيضاً _ فرض خارج عن محلّ البحث.وأمّا الصورة الثانية: _ وهي ما لو كان وافياً ببعض الغرض، ولكن كان المقدار الباقي ممّا لا يمكن تداركه _، فلا إشكال في الإجزاء فيها، لعدم وجود الأمر الواقعي بعد أن كانت المصلحة الفائتة غير ممكنة التدارك، فلا ينشأ عن هذه المصلحة أمر بالفعل؛ لعدم إمكان تحصيلها.

وأمّا الصورة الأُولى: فهي تقتضي الإجزاء بلا كلام؛ لحصول تمام ملاك الأمر الواقعيّ بالمأمور به الاضطراريّ، فلا مجال لوجود الأمر الواقعيّ حينئذٍ، وكذا لا إشكال في جواز البدار حقيقة وواقعاً، لعدم الفرق _ حينئذٍ _ بين الفرد الاضطراريّ والفرد الاختياريّ في الوفاء بالملاك والغرض أصلاً.

هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية) في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فقد ذهب صاحب الكفاية أنّ لأدلّة الأمر الاضطراريّ إطلاقاً يُتمسّك به في المقام، وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«وأمّا

ما وقع عليه: فظاهر إطلاق دليله، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمْ

تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾(1)، وقوله(علیه السلام): (التراب أحد الطهورين)(2)،و(يكفيك

ص: 360


1- النساء: 43؛ والمائدة: 6.
2- انظر: وسائل الشيعة 3: 381، باب 21 من أبواب التيمّم، ح1، ولكنّه فيه بلفظ: «فإنّ التيمّم أحد الطهورين».

عشر سنين)(1)، هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، ولابدّ في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص. وبالجملة: فالمتّبع هو الإطلاق لو كان، وإلّا، فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكّاً في أصل التكليف، وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أَوْلى. نعم، لو دلّ دليله على أنّ سببه فوت الواقع، ولو لم يكن هو فريضة، كان القضاء واجباً عليه لتحقّق سببه، وإن أتى بالغرض، لكنّه مجرّد الفرض»(2).

فلو تمّ ما ادّعاه(قدس سره) من الإطلاق، فيكون مجزياً لا محالة، ولا يجب معه القضاء ولا الإعادة، ولا يدلّ على وجوبه ثانياً من دليل.

وأمّا إن لم يكن هناك إطلاق، فالمرجع _ حينئذٍ _ إلى الأصل العمليّ، ولا يخفى: أنّ دليلي المبدل والبدل إمّا مطلقان، وإمّا مبهمان، وإمّا دليل البدل مبهم دون دليل المبدل، وإمّا بالعكس، فالصور أربع.

وإنّما يُرجع إلى الأصل في واحدة من هذه الصور الأربع، وهي ما إذا كان كلٌّ من دليلي البدل والمبدل مبهماً؛ لأنّ الدليل حينئذٍ يكون مفقوداً، لعدم إمكان التمسّك بكلّ منهما مع إبهامه.وأمّا إذا كان كلاهما مطلقاً، أو كان دليل المبدل مبهماً ودليل البدل مطلقاً، فيرجع إلى إطلاق دليل البدل، لحكومته على إطلاق دليل المبدل

ص: 361


1- وسائل الشيعة 3: 380، باب 20 من أبواب التيمّم، ح7، بلفظ: «يكفيك الصعيد عشر سنين».
2- كفاية الاُصول: ص 85 _ 86.

في الصورة الأُولى، وعدم مانع من الرجوع إليه في الصورة الأخيرة، وهي إبهام دليل المبدل وإطلاق دليل البدل، ضرورة أنّ دليل المبدل يكون ساقطاً عن الحجّيّة بعد فرض إبهامه، فيرجع إلى إطلاق دليل المبدل بلا مانع.

وأمّا لو كان كلّ منهما مبهماً، فلا يمكن التمسّك بهما كما ذكرنا، لعدم وجود الإطلاق فيهما، فتكون النتيجة بعد الرجوع إلى الأصل العمليّ هي: عدم الإعادة في الوقت والقضاء خارج الوقت.

ولكنّ الحقّ: هو التفصيل _ كما ذكره بعض المحقّقين(1) _ بين الإعادة والقضاء، بالرجوع إلى الأصل في الثاني دون الأوّل؛ إذ مع ارتفاع الاضطرار في الوقت، تجري قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الإعادة، لكونه من صغريات التعيين والتخيير، حيث إنّ الصلاة مع الطهارة المائيّة _ مثلاً _ مفرّغة للذمّة قطعاً، بخلاف الصلاة مع الترابيّة، فإنّ مفرّغيّتها لها مشكوكة، فلا يكتفى بها عقلاً في مقام الامتثال.وأمّا الثاني، وهو زوال العذر خارج الوقت، فتجري البراءة في وجوب القضاء، للشكّ في تحقّق موضوعه، وهو فوت الفريضة في الوقت، حيث إنّ من المحتمل انقلاب الواقع إلى المأمور به الاضطراريّ، فلم يفت فريضة في الوقت حتى يجب قضاؤها، ومن المحتمل عدم انقلابه إليه،

ص: 362


1- انظر: منتهى الدراية 2: 36 _ 37.

فيصدق الفوت الموجب لقضائه، فيكون الشكّ حينئذٍ في التكليف، وهو مجرى البراءة.

نعم، في صورة ما لابدّ من القول بعدم الإجزاء والقضاء خارج الوقت، وهي ما إذا فرضنا أنّ الاضطرار كان من الأوصاف المنوّعة؛ فإنّه إذا كان كذلك، أوجب الاختلاف في الأحكام بالنسبة إلى محلّه، فيكون حاله حال السفر والحضر، وحينئذ: فلا معنى لسقوط واجب آخر بإتيان الواجب، ولا معنى للقول بالإجزاء عن الأمر المتعلّق بموضوع آخر.

هذا. ولكنّ القول بأنّ المقام يكون من قبيل السفر والحضر ضعيف.

وخلاصة البحث: في إجزاء الأمر الاضطراريّ عن الواقعيّ في بيان اُمور:

الأوّل: أنّه لابدّ في الأمر الاضطراريّ أن يكون مستوعباً لتمام الوقت، فلو لم يكن مستوعباً كذلك، مع أنّ المطلوب هو صرف الوجود في تمام الوقت المضروب له، لم يَصدق عليه أنّه مضطرّ؛ لأنّه قادر علىالإتيان به في بعض الوقت، ففي هذه الصورة: لا يجوز البدار مع علمه بارتفاع الاضطرار في وقتٍ ما؛ وذلك لأنّ جواز البدار منوط بالعلم بعدم ارتفاع العذر، إلّا إذا كان هناك دليل على الجواز _ كما ورد في باب التقيّة بأقسامها _ فيُتّبع، حتى بالنسبة إلى التقيّة المداراتيّة. والمُراد بالتقيّة المداراتيّة هو: الحثّ على مداراتهم بحضور جنائزهم وصلواتهم. وأمّا إذا دلّ دليل على الإجزاء في غير المستوعب أيضاً، فإنّه يكون مجزياً؛ لأنّ

ص: 363

مؤدّاه هو تنزيل البدل الاضطراريّ مقام الاختياريّ.

الثاني: أنّ الاضطرار لو كان سبباً للتنوّع، كالسفر والحضر، لكان الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ مجزياً.

الثالث: أنّ تشريع الحكم الاضطراريّ دليل على أنّ اشتمال متعلّق الأمر الاضطراريّ على مصلحة لازمة الاستيفاء في الوقت، وعدم الاهتمام بما يفوت في الوقت من مصلحة الشرط والجزء المضطرّ إلى تركه؛ إذ مع الاهتمام به لا وجه لتشريع الحكم الاضطراريّ المفوّت له، فلابدّ أنّ تكون المصلحة القائمة بالجزء أو الشرط المتروك اضطراراً ساقطة كخطابه، أو غير لازمة الاستيفاء، فوجوب الإتيان بالعمل الاختياريّ بعد الإتيان بالعمل الاضطراريّ محتاج إلى تشريعٍ ثانويّ،ولا يفي به تشريع المبدل أوّلاً؛ لأنّ الأمر بالجزء أو الشرط المضطرّ إلى تركه قد سقط، وليس هناك شيء يكون كاشفاً عن بقاء المصلحة.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى: بأنّ دليل الجزء يكون كاشفاً عن الركنيّة، ففرض جزئيّته حينئذٍ، يكون كاشفاً عن ركنيّته.

وأمّا لو فُرِض أنّ متعلّق الأمر الاضطراريّ لم يكن وافياً بتمام الغرض، بل يكون وافياً بمرتبة منه، فيكون ملزماً مع مراعاة الوقت، فكان المقدار الفائت لازم الاستيفاء، فيشمله دليل: «من فاتته فريضة فليقضها كما

ص: 364

فاتته»(1)، وإن قلنا بأنّ المصلحة الملزمة الفائتة واجبة الاستيفاء.

ولكن قد ذكرنا بأنّ ما يجب امتثاله إنّما هو ما طلب تحصيله لأجل المصلحة.

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) بقوله:

«وأمّا على الوجه الثاني؛ فلأنّه وإن فات من المكلّف مقدار من المصلحة، إلّا أنّ ذلك المقدار ممّا لا يمكن استيفاؤه؛ لأنّ استيفاءه إنّما يكون في طيّ استيفاء المصلحة الصلاتيّة وفي ضمنه، والمفروض: أنّ المكلّف قد استوفى المصلحة الصلاتيّة في ضمنالطهارة

الترابيّة، فلا يمكنه استيفاء مصلحة الطهارة المائيّة؛ إذ ليست مصلحتها قائمة بنفسها، بل في ضمن الصلاة، مع أنّ القضاء لا يدور مدار فوت المصلحة، بل يدور مدار فوت المكلّف به، والمفروض أنّه قد أتى به في وقته، فلا يمكن قضاؤه»(2).

وتوضيحه: أنّ الفاقد _ على فرض عدم وفائه بتمام مصلحة الواجد، وفوت مقدار منها _ لا يلزم إعادته؛ لأنّه لا يمكن استيفاء ذلك المقدار؛ لعدم إمكان تحصيلها منفرداً؛ لأنّ حصولها لابدّ وأن يكون في ضمن مصلحة أصل المأمور به، والمفروض: أنّ أصل مصلحة المأمور به قد

ص: 365


1- عوالي اللآلي 2: 54، ح143.
2- فوائد الاُصول 1: 245.

حصل، وتحصيل الحاصل محال.

فيرد عليه: أنّه ولو لم يكن واجباً استيفاؤه منفرداً، إلّا أنّه يمكن في ضمن أصل العمل، وتكرار العمل يكون _ حينئذٍ _ من باب المقدّمة لحصول المقدار الفائت، والمقدور بالواسطة مقدور.

نعم، لو دلّ دليل على عدم جواز تكرار أصل العمل، فكلامه تامّ حينئذٍ، ولكنّ هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام.

الرابع: لو فُرِض أنّ الجزء له ملاك في الواقع، ولكن ما دام الشارع لم يطلبه، فهو غير واجب الاستيفاء، فالعقل إنّما يحكم بحسن إطاعة العبدوامتثاله فيما أمر المولى به، والغرض والمصلحة ليسا هما ما حكم الشارع بهما. نعم، إذا انكشف من الخارج أنّ الملاك موجود، وأنّ المولى يريده، ولكن لم يكن قادراً على إنشاء الحكم به لجهة وجود مانع خارجيّ، فحينئذ: يجب عليه الامتثال بعد رفع المانع، لكي يحصل على ما يريده المولى.

الخامس: أنّ دليل الاضطرار في عمومه وخصوصه هو كدليلي الضرر والحرج، من الأدلّة الواقعيّة النافية للحكم، فيكون رافعاً للحكم المتعلّق بالجزء أو الشرط، بلا فرق بين أن تكون القدرة شرطاً للملاك والخطاب معاً أم شرطاً للخطاب فقط.

السادس: بعد أن عرفنا حكومة دليل الأمر الاضطراريّ، ينكشف لنا أنّ الإتيان بالمأمور به بهذا الأمر الاضطراريّ يكون هو تمام الوظيفة.

ص: 366

وأمّا الكلام في المسألة الثالثة: وهي إجزاء المأمور به بالأمر الظاهريّ عن المأمور به بالأمر الواقعيّ:

لا يخفى: أنّ المُراد من الحكم الواقعي هو ما يستنبطه المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة.فإذا قلنا: بأنّ الأمارات تكون حجّة من باب الطريقيّة المحضة، كانت من الأدلّة الاجتهاديّة، وكان الحكم المأخوذ منها حكماً واقعيّاً، بخلاف الحكم في مورد الاُصول، فإنّه يكون ظاهريّاً، فيكون الفرق بينهما ظاهراً.

وأمّا إذا قلنا بجعل الحكم في مورد الأمارات، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فهو حكم ظاهريّ، كما أنّ ما يستنبط من الاُصول العمليّة يكون حكماً ظاهريّاً، فحينئذٍ: يكون بينهما اشتراك في جهة، وهي: عدم إجزائهما عن الواقع لو انكشف الخلاف، ولكن يختلفان: في أنّ الأوّل يستخرج من الأمارات، والثاني من الاُصول.

والكلام في هذه المسألة إنّما هو في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهريّ عن المأمور به بالأمر الواقعيّ لو انكشف الخلاف، كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة، فأتى بالصلاة بلا سورة، وانكشف له لاحقاً أنّ الإتيان بالسورة كان واجباً، فهل تكون هذه الصلاة التي جيء بها بدون السورة مجزية عن الواقع أم لا؟

ولا يخفى: أنّ انكشاف الخلاف تارةً يكون قطعيّاً، وأُخرى يكون

ص: 367

ظنّيّاً، بالظنّ المُعتَبر أو بمطلق الحجّة المعتبرة شرعاً.

والكلام فيها يقع في صور ثلاث:

الصورة الأُولى: أن يكون المأمور به بالأمر الظاهريّ مفاد القطع.والصورة الثانية: أن يكون المأمور به بالأمر الظاهريّ مفاد الأمارات.

والصورة الثالثة: أن يكون المأمور به بالأمر الظاهريّ مفاد الاُصول العمليّة.

وقبل الخوض في محلّ الكلام لابدّ من التنبيه على ما هو موضوع البحث هنا، فنقول:

إنّما يأتي بحث الإجزاء فيما إذا كان للحكم الظاهريّ ثبوت واقعيّ انقطع بانكشاف الواقع وانتهى أمده بمعرفة الواقع، وامّا إذا لم يكن له ثبوت واقعيّ، بل كان له وجود تخيّليّ يتّضح انتفاؤه من أوّل الأمر بانكشاف الواقع، بل في الواقع، لم تقم حجّة واقعيّة في حقّه، بل تخيّل أنّه حجّة، وفي الواقع لم يكن إلّا جهلاً مركّباً، فهذا يكون خارجاً عن محلّ البحث؛ إذ لم يثبت الحكم الظاهريّ في حقّ الجاهل جهلاً مركّباً وإن كان معذوراً حين العمل لجهله المركّب، وهو لا يستلزم ثبوت الحكم الظاهريّ، ومعه: فلا تصل النوبة إلى الحديث عن أنّ هذا الحكم الظاهريّ المتخيّل هل يكون مجزياً عن الحكم الواقعيّ أم لا؟

وفي هذا يقول صاحب الكفاية(قدس سره):«ولا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ؛ فإنّه لا

ص: 368

يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى»(1).

ولا يخفى: أنّ تبدّل رأي المجتهد وانكشاف كون الحكم الواقعيّ خلاف ما كان يرتئيه أوّلاً، تارةً يتصوّر بالنسبة إلى عمل نفسه، وأُخرى بالنسبة إلى مقلّديه.

أمّا بالنسبة إلى عمل نفسه، فهذا لا يدخل في موضوع البحث؛ لأنّ الحكم الظاهريّ الثابت في نظره أوّلاً بواسطة الاستناد إلى حجّة حكم تخيّليّ، ثمّ بعد العمل به انكشف أنّه قد اشتبه في استفادة الحكم المزبور؛ إمّا لاشتباهه في دلالة الدليل، فكان يتخيّل ظهوره في شيء، ثمّ يظهر له أنّه ظاهر في غيره، أو من جهة الخطأ في سند الدليل بتخيّله أنّ المخبر ثقة فانكشف خلافه.

وبعبارة أُخرى: فإنّه بالنسبة إلى عمل المجتهد نفسه، فليس للحكم الظاهريّ المتخيّل الذي عمل به وجود واقعي في حقّه؛ لأنّه لم يكن مستند هذا الحكم إلى حجّة، وإذ لم ينشأ الحكم عن قيام الحجّة، كان حكماً تخيّليّاً انكشف عدمه من أوّل الأمر بانكشاف عدم حجّيّة مااستند إليه في مقام الحكم، فلا يَصدق عليه الحكم الظاهريّ، فلو قلنا بإجزاء الحكم الظاهريّ عن الواقعيّ، فهو لا يشمل هذا الفرد قطعاً.

ص: 369


1- كفاية الاُصول: ص 88.

نعم، يتأتّى بحث الإجزاء في الفرض بالنسبة إلى عمل مقلّديه، بعدما كان قول المجتهد بالنسبة إليه حجّة واقعاً، فيكون الحكم الأوّل ثابتاً عليهم في مرحلة الظاهر واقعاً، وهو وإن كان قد ارتفع بالحكم الثاني المستنبط أخيراً، إلّا أنّه ارتفع من حين حصول الرأي الثاني، لا من أوّل الأمر.

فتحصّل: أنّه يُشكل الإجزاء بالنسبة إلى عمل نفسه، وأمّا بالنسبة إلى عمل مقلّديه فيتأتّى البحث بالإجزاء وعدمه؛ لأنّ قول المجتهد حجّة للمقلّد، فالحكم يكون ثابتاً من الأوّل في حقّهم، أي: مرحلة الظاهر واقعاً، فارتفاع الحكم الأوّل بالحكم المستنبط أخيراً كان من حين الرأي الثاني، لا من أوّل الأمر.

وملخّص القول: أنّه لا وجود للحكم الظاهريّ في صورة القطع بالواقع، إذا كان هذا القطع من قبيل الجهل المركّب، وإذا لم يكن هناك من حكم ظاهريّ، فمن الواضح: أنّه لا يتأتّى فيه البحث أصلاً في أنّه هل يكون مجزياً عن الواقع أم لا؟

وإنّما يبحث فيما إذا كان للحكم الظاهريّ ثبوت واقعيّ في زمان محدود يتحدّد بانكشاف الخلاف، بحيث يكون انكشاف الخلاف رافعاًللحكم الظاهريّ من حينه، لا من أوّل الأمر، فهو لا يكشف عن عدم ثبوت الحكم الظاهريّ، بل يكون رافعاً له.

وأمّا المأتيّ به بالأمر الظاهريّ الشرعيّ، فهو تارةً يكون كاشفاً عن

ص: 370

الخلاف القطعيّ، كما إذا قام خبر الواحد على عدم وجوب السورة في الصلاة، فأفتى به المجتهد، وعمل هو ومقلّدوه عليه مدّة من الزمن، ثمّ بعد ذلك عثر على خبر متواتر قطعيّ يدلّ على وجوب السورة، ففي مثل هذه الصورة:

الحقّ عدم الإجزاء، سواء كان بالنسبة إلى الإعادة أو بالنسبة إلى القضاء، إلّا إذا كان مؤدّى دليله هو جعل الحكم وإنشاؤه، كإنشاء الحلّيّة والطهارة. فإنّه في هذا الفرض، لا يمكن أن نلتزم بالإجزاء إلّا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلّق الأمارة عند قيامها على الخلاف، وهذا، كما ترى، عين القول بالتصويب.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سره) التزم بعدم الإجزاء في موارد الأمارات الجارية في تنقيح ما هو الموضوع أو المتعلّق بناءً على الطريقيّة، وبالإجزاء بناءً على السببيّة.

وأمّا الاُصول والأمارات الجارية في نفس الأحكام الشرعيّة، فقد التزم بعدم الإجزاء في مواردها مطلقاً، قيل بالطريقيّة أو السببيّة.

وإليك نصّ كلامه« _ ننقله بطوله لما فيه من الفائدة _:«والتحقيق: أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه، وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلّيّة، بل واستصحابهما في وجه قويّ، ونحوها، بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلّيّة، يجزي؛ فإنّ دليله يكون حاكماً

ص: 371

على دليل الاشتراط ومبيّناً لدائرة الشرط، وأنّه أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل. وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً، كما هو لسان الأمارات، فلا يجزي، فإنّ دليل حجّيّته حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعيّ، فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً. هذا على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات من أنّ حجّيّتها ليست بنحو السببيّة، وأمّا بناءً عليها، وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقةً صحيحاً كأنّه واجد له، مع كونه فاقده، فيجزي لو كان الفاقد معه _ في هذا الحال _ كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، ويجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي، إن وجب، وإلّا، لاستحبّ. هذا مع إمكان استيفائه، وإلّا فلا مجال لإتيانه كما عرفت في الأمر الاضطراريّ. ولا يخفى: أنّ قضيّة إطلاق دليل الحجّيّة _ على هذا_ هو الاجتزاء بموافقته أيضاً، هذا فيما إذا أحرز أنّ الحجّيّة بنحو الكشف والطريقيّة، أو بنحو الموضوعيّة والسببيّة. وأمّا إذا شك فيها ولم يحرز أنّها على أيّ الوجهين، فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليّاً في الوقت لا يُجدي، ولا يُثبت كون ما أتى به مسقطاً إلّا على القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمّته بما يشكّ

ص: 372

في فراغها عنه بذلك المأتيّ.

وهذا بخلاف ما إذا علم أنّه مأمور به واقعاً وشكّ في أنّه يُجزي عمّا هو المأمور به الواقعيّ الأوّليّ، كما في الأوامر الاضطراريّة أو الظاهريّة، بناءً على أن يكون الحجّيّة على نحو السببيّة، فقضيّة الأصل فيها، كما أشرنا إليه، عدم وجوب الإعادة، للإتيان بما اشتغلت به الذمّة يقيناً، وأصالة عدم فعليّة التكليف الواقعيّ بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأمّا القضاء، فلا يجب، بناءً على أنّه فرض جديد، وكان الفوت المعلّق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الإتيان، إلّا على القول بالأصل المثبت، وإلّا فهو واجب كما لا يخفى على المتأمل، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ هذا كلّه فيما يجري في متعلّق التكاليف، من الأمارات الشرعيّة والاُصول العمليّة، وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف،كما

إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لإجزائها مطلقاً. غاية الأمر: أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضاً ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة كما لا يخفى، إلّا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد»(1).

ص: 373


1- كفاية الاُصول: ص 86 _ 87.

وبالجملة: فليس مفاد الأمارة إلّا الحكاية عن الواقع، أو المنجّزيّة والمعذّريّة، فالمجعول فيها ليس إلّا الطريقيّة، من دون أن توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل المتعلّق باقٍ على ما كان عليه قبل قيام الأمارة، ولم يكن ما دلّت عليه الأمارة إلّا السراب؛ إذ _ كما ذكرنا مراراً _ ليس لنا أمر ظاهريّ، بل ظاهر الحكم وإتيانه بهذا العمل الذي هو مؤدّى الأمارة لا يُفيد، لكونه لم يأتِ بالمأمور به الواقعيّ.

وفي الواقع: فإنّ حال الأمارات ليس إلّا كحال العلم، وإنّما الفرق بينهما أنّ حجّيّة العلم ذاتيّة له، وحجّيّة الأمارة إنّما تثبت لها بالجعل، ولكن في كلتا الحالتين: فلو انكشف الخلاف، فلا يكون مجزياً، حتىعلى القول بالمصلحة السلوكيّة، ولو كان نوعاً من التصويب أيضاً، ولكن، ومع ذلك، فلا يمكن القول بالإجزاء؛ إذ حتى بناءً على ذلك، فليس المراد أنّها توجب حدوث مصلحة في المتعلّق، فلا تكون مفيدة للإجزاء عند كشف الخلاف.

ولك

أن تقول: إنّ حجّيّة الأمارات إمّا أن تكون على نحو الطريقيّة، وامّا أن تكون على نحو السببيّة. وعلى السببيّة، فإمّا أن تكون المصلحة في المتعلّق أو السلوك أو الحكم. وإن كانت على نحو الطريقيّة، بأن تكون طريقاً إلى الحكم أو إلى موضوع الحكم، فإنّ معنى الطريقيّة أنّه لابدّ من الإتيان بالعمل الواقعيّ، والمطلوب إنّما هو حصول المصلحة الواقعيّة، فعلى تقدير خطأ الأمارات وانكشاف الخلاف، لم يكن قد أتى بما هو

ص: 374

المطلوب منه، ولم يكن ممتثلاً للتكليف المتوجّه إليه، فلو فُرِض أنّه كان في الواقع مكلّفاً بصلاة الظهر في يوم الجمعة، فأتى بالجمعة، ثمّ انكشف له الخلاف، فالذي كان عليه واجباً في الواقع هو الظهر، فلم يكن المكلّف في هذه الحالة ممتثلاً للتكليف المتوجّه إليه في الواقع، فكان ما أتى به سراباً، ولم يكن ماءً، مع أنّ المطلوب منه هو إتيان الماء. فلو قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شيء، ثمّ انكشف الخلاف، لم يكن مجزياً.فإن قلت: بناءً على المعنى الآخر للطريقيّة _ وهو أنّ لسان الحجّيّة في الأمارات هو لسان تنزيل المؤدّى منزلة الواقع _ نستكشف: أنّ مصلحة الجعل تكون وافيةً بمصلحة الواقع، فيقال _ حينئذٍ _ بالإجزاء. نعم، إذا كان الجعل بلسان تتميم الكشف، أو وجوب العمل على طبق المؤدّى، فلا يكون مجزياً حينئذٍ؛ لأنّ معنى الجعل هو أن يكون الشيء ذا مصلحة، بحيث يكشف عن أنّ تلك المصلحة تكون وافيةً بمصلحة الواقع.

قلت: الصحيح في الفرض المذكور هو القول بعدم الإجزاء؛ إذ حتى لو فُرِض في الأمارة مصلحة، ولكنّ جعل تلك المصلحة لم يكن إلّا من باب التسهيل على المكلّفين، وبين المصلحتين _ أعني: مصلحة التسهيل ومصلحة الحكم الواقعيّ _ مباينة، ومعه: فكيف يتصوّر أن تفي إحداهما عن الأُخرى؟ هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يكون نظير خطاب المولى للمكلّف بالعمل على طبق الواقع، فكما أنّ التعبّد بالعمل على طبق

ص: 375

المؤدّى لا يستلزم أن يكون العمل ذا مصلحة تكون وافية بمصلحة الواقع عند الفوت، فكذلك المصلحة في تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، لا يلزم أن تكون وافية أيضاً.وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمارات إن كانت حجّة من باب تتميم الكشف، وجعل ما فيها من الكشف الناقص بمنزلة الكشف التامّ بواسطة الاعتبار، فعند قيام الأمارة لم تحدث في المتعلّق مصلحة من طرفها، وليس هناك من جعل شرعيّ في البين، فيكون حال الأمارات عين حال القطع، فكما أنّه بواسطة قيام القطع لا تحدث مصلحة في المتعلّق حتى نقول بإجزائه، حيث لم يكن هناك جعل من الشارع، فلم يكن هناك وجه للقول بالإجزاء، فكذلك بالنسبة إلى قيام الأمارات والاُصول مطلقاً، سواء كانت تنزيليّة أم غيرها.

وحيث لم يكن هناك مصلحة في المتعلّق ولا جعل، فيكون حال الأمارات والاُصول حال القطع عند انكشاف الخطأ، بلا فرق بين أن تكون الأمارات قائمة على الحكم الشرعيّ، وضعيّاً كان أو تكليفيّاً، أو على موضوع حكم شرعيّ؛ إذ لو قامت الأمارة على موضوع ما، واعتبره الشارع موضوعاً لحكم شرعيّ، أو على موضوع خارجيّ كان ذا حكم شرعيّ، فحالها _ إذ ذاك _ حال الحكم الشرعيّ في عدم الإجزاء؛ لعدم جعل شرعيّ هناك من قبل الشارع، وعدم تغيّر الموضوع الخارجيّ عمّا هو عليه بواسطة الأمارة.

ص: 376

ثمّ إنّه قد يقال بالإجزاء في الأمارات التي تجري في الموضوعات؛ لحكومة دليل حجّيّة الأمارة على ما دلّ على اعتبارالموضوعات الواقعيّة، فالشيء الفلاني ولو كان بحقيقته الواقعيّة جزءاً، إلّا أنّ دليل حجّيّة الأمارة، بما أنّه كان حاكماً، فيكون سبباً في التوسعة في الجزء والشرط، فيترتّب على ذلك: أن يكون المراد من الجزء والشرط ما هو أعمّ من الجزء والشرط الواقعيّ. فالوضوء الذي قامت الأمارة على طهارة مائه مثلاً، يكون _ بناءً عليه _ واجداً لشرائط الوضوء الواقعيّ، فيكون انكشاف الخلاف موجباً لارتفاع الموضوع.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا إجزاء، وليس هناك ارتفاع للموضوع أصلاً، وبما أنّ جعل الأمارة هو من باب الطريقيّة، فلا يكون سبباً لتغيّر الموضوع الواقعيّ عمّا كان عليه.

فلو فُرِض أنّ موضوع الوضوء كان هو الماء، ودلّت الأمارة على أنّ المائع الفلاني ماء، فبقيام الأمارة على ذلك المائع الذي هو ماء الرمّان أو الزبيب _ مثلاً _ لا يصبح هذا المائع ماءً، لا حقيقةً، كما هو واضح، ولا تنزيلاً؛ لأنّ هذا التنزيل لم يدلّ على أكثر من ترتيب الآثار الواقعيّة على مؤدّى الأمارة. ولا دلالة له على أنّ العمل على طبق الأمارة يكون سبباً لحدوث مصلحة له تفي بمصلحة الواقع حتى في حال الشكّ.

نعم، لو ثبت هذا التنزيل وقلنا بالسببيّة والموضوعيّة في الأمارات التي قامت على الموضوعات، فنلتزم بالإجزاء، وكذا نلتزم بأنّالتصويب

ص: 377

المجمع على بطلانه هو التصويب في الأحكام، لا الموضوعات، ولكن أنّى لهذا القول أن يكون صحيحاً مع ما نراه من أنّ لسان أدلّة حجّيّة الأمارات في الأحكام والموضوعات ليس إلّا التسهيل، ومصلحة التسهيل _ كما عرفت _ مباينة لمصلحة الواقع، فلا تفي بها.

هذا كلّه بناءً على الطريقيّة.

وأمّا بناءً على السببيّة، فهل يجزي عن الواقع مطلقاً، سواء كان مؤدّى الأمارة حكماً أو موضوعاً أم لا يجزي عنه؟

فنقول: إنّ السببيّة والموضوعيّة على أقسام أربعة:

الأوّل: وهو كون الأحكام الواقعيّة تابعة لآراء المجتهدين، وليس هناك في الواقع أحكام واقعيّة محفوظة بحيث قد يصيبها المجتهد ويصل إليها بتوسّط الأمارات والأدلّة، وقد يخطئ، بل إذا تبدّل رأيه إلى رأي آخر كان من باب تبدّل الموضوع؛، لانقلاب الحكم بانقلابه، ولا يُعقَل انكشاف الخلاف أصلاً؛ لأنّ ما هو الواقع إنّما هو ما توصّل إليه برأيه، وليس وراء رأيه شيء. وهذا هو التصويب الأشعريّ، وهو باطل شرعاً وعقلاً؛ إذ هو محال مجمع على بطلانه.

والثاني: أن تحدث في مؤدّى الأمارات والاُصول _ بواسطة قيامهما على الحكم الشرعيّ _ مصلحة أو مفسدة تكون غالبة على مصلحة الواقع أو مفسدته، فيكون الحكم مجعولاً على طبقهما دون الواقع،فيكون الحكم الواقعيّ الفعليّ هو مؤدّى الأمارات والاُصول، ويبقى الحكم

ص: 378

الواقعيّ الأصليّ في مرتبة الشأن، وهذا هو التصويب المعتزليّ، وليس بمحال، ولكنّ الإجماع من الطائفة منعقد على خلافه، وإن كان يظهر من كلام شيخ الطائفة(قدس سره) وبعضٍ آخر تصديق هذا القسم من التصويب(1).

والثالث: وهو من التصويب أيضاً، بمعنى القول بالمصلحة السلوكيّة، أي: بأنّ المصلحة تكون في السلوك، وهذا _ أيضاً _ باطل وتصويب؛ لاستلزامه اجتماع المصلحتين المتضادّتين، كما سنذكره في محلّه، إن شاء اﷲ تعالى.

والرابع: ما ورد عن المحقق العراقيّ(قدس سره)(2) من أنّ المتعلّقات وموضوعات الأحكام لها مصالح ومفاسد في الرتبة السابقة على الجهل بتلك الأحكام، وهي مناطات الأحكام الواقعيّة، ولها _ أيضاً _ مصالح ومفاسد في الرتبة المتأخّرة عن الجهل بها، وهي مناطات الأحكام الظاهريّة.وقد يُتوهّم أنّ هذا القسم الرابع هو نفس القسم الثاني المتقدّم، ولكنّ الصحيح أنّ بينهما فرقاً؛ إذ في القسم الثاني _ كما مرّ _ تتبدّل المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلا تقتضي جعلاً على طبقها، فليس في البين إلّا تلك الأحكام الظاهريّة. وأمّا في هذا القسم، فلكلّ متعلّق وموضوع جُعِل حكمان: واقعيّ وظاهريّ، ولا تناقض في البين؛ لاختلاف رتبة هذين

ص: 379


1- نقله اُستاذنا المحقّق¨ في منتهى الاُصول 2: 591.
2- انظر: نهاية الأفكار 1: 244 _ 245.

الحكمين، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة _ مثلاً _ وفرضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر، فلم توجب الأمارة تغييراً للواقع ولا انقلاباً له، ولم تؤدّ إلى جعل غير الواجب واجباً، بل إنّما تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في السلوك ويتدارك ما فات من مصلحة الواقع، ومعنى اختلاف الرتبة: أنّه لا الحكم الواقعيّ ينزل إلى مرتبة الظاهريّ، ولا الحكم الظاهريّ يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، بل كلّ واحد منهما يقف على موضوعه.

ولكنّ هذا أيضاً من التصويب الباطل؛ لما يأتي في مبحث الجمع بين الحكمين الظاهريّ والواقعيّ، حيث نقول: بأنّ الحكم الظاهريّ ولو لم يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، ولكنّ الحكم الواقعيّ بإطلاقه يشمل حتى هذه المرتبة ويكون ناظراً إليه، فيحصل اجتماع الضدّين.

فظهر مما ذكرنا: أنّ التصويب يأتي في جميع هذه الأقسام، وهو باطل إمّا عقلاً وإمّا إجماعاً وإمّا حقيقةً.وإذا عرفت ذلك، نقول:

أمّا على القول الأوّل: وهو القول بأنّ الحكم ينحصر في مؤدّى الأمارة، أو أنّ الحكم الواقعيّ ينقلب بعد قيام الأمارة إلى ما هو مؤدى الأمارة، فلا شكّ في أنّه _ بناءً على صحّة هذا القول _ يكون مجزياً، فلا يحتاج إلى القضاء ولا إلى الإعادة.

وأمّا على القول الثاني: وهو أنّ قيام الأمارة يوجب حدوث مصلحة

ص: 380

في مؤدّاها تجبر ما فات من مصلحة الواقع، كمن صلّى أوّل الوقت، أو مصلحة تمام الواقع مع انكشاف الخلاف، في آخر الوقت أو خارجه، فإن قلنا بأنّ الصلاة _ مثلاً _ مشروطة بالطهارة المائيّة، وعلم بأنّ الماء كان نجساً، إمّا في داخل الوقت، أي: في الشق الأخير من الوقت، أو في خارجه، فلا شكّ في الإجزاء حينئذٍ أيضاً.

وأمّا على القول الثالث: وهو أنّ قيام الأمارة على شيء يكون موجباً لحدوث مصلحة تكون غالبة على مصلحة الواقع، كما إذا قامت الأمارة على طهارة ماء، وكان في الواقع نجساً، فتوضّأ به المكلّف وصلّى، فبقيام هذه الأمارة تحدث في الوضوء مصلحة تكون غالبة على الإتيان بالوضوء بالماء الطاهر، وهذا النوع من السببيّة وإن لم يكن من التصويب المجمع على بطلانه أو الفاسد، عقلاً أو شرعاً، ولكنّه على خلاف ظاهر الأدلّة.وأمّا على القول الرابع: وهو أن تكون المصلحة في نفس الأخذ بالشيء _ كما مرّ _، أي: في السلوك، لا المتعلّق، وهذه المصلحة السلوكيّة تحافظ على الواقع باقياً على حاله في صورتي الخطأ والإصابة.

غاية الأمر: أنّه في صورة الخطأ يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك الأمارة، أي: بمقدار ما فات منه، وبسبب مخالفتها للواقع، فيجب عليه تدارك ما بقي عند انكشاف الخلاف؛ فلو أفتى بوجوب القصر في مكان عملاً بأمارة وردت بذلك، وكان في الواقع يجب عليه الإتمام، ثمّ انكشف له خطأ الأمارة، فحينئذ: إذا كان الانكشاف في

ص: 381

الوقت، وجبت الإعادة لإحراز المصلحة الواقعيّة والوقتيّة، حتى وإن كانت المصلحة الوقتيّة الفائتة متداركة بسلوكه الأمارة؛ فالقول بالسببيّة بهذا المعنى هو عين القول بالطريقيّة.

وأمّا بالنسبة إلى القضاء، فلا، بل هو مقتضٍ للإجزاء، ولا تجب عليه الإعادة؛ لأنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا فرض وفاؤه بمصلحة الصلاة في الوقت _ كما هو مقتضى القول بالسببيّة _ كان ذلك موجباً للإجزاء، كما إذ لم ينكشف الخلاف أصلاً، وكانت مصلحة الصلاة الفائتة متداركة بسبب سلوك الأمارة، فحينئذٍ: لا شيء على المكلّف أصلاً.ولا

يخفى: أنّ هذا النوع _ أيضاً _ من التصويب، كما سبق، لتأديته إلى رجوع الواجب التعيينيّ إلى التخييريّ؛ إذ بناءً عليه: فإنّ مصلحة صلاة الظهر _ مثلاً _ في وقتها الواقعيّ تكون قائمةً بأحد الشيئين: إمّا بصلاة الجمعة، أو بما كان مؤدّى للأمارة، فيما لو لم ينكشف الخلاف في الوقت. ولا يخفى: أنّ انقلاب التعيينيّ إلى التخييريّ نوع من التصويب.

وعلى أيّ حال، فغاية ما يمكن أن يتصوّر في الإجزاء _ بناءً على القول بالسببيّة _ هو: أن يكون في المتعلّق مصلحة مسانخة لمصلحة الواقع، بحيث لا تبقى للواقع مصلحة بعد قيامها، أو يكون وافياً بمصلحته عند فوتها.

ص: 382

وأمّا ما التزم به في الكفاية من القول بالإجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو المتعلّق بناءً على السببيّة، فقد بيّنه بما حاصله:

بأنّه حيث يكون مؤدّى الأمارة بقيام الأمارة ذا مصلحة واقعيّة، فيتأتّى فيه الاحتمالات الثبوتيّة المتأتيّة في المأمور به الاضطراريّ من أنّ المصلحة إمّا أن تكون وافية بتمام مصلحة الواقع أو بعضها، ولم يمكن تدارك الباقي، أو أمكن، وكان لازم التدارك، أو غير لازم التدارك، وقد تقدّم أنّ جميع الاحتمالات الثبوتيّة _ غير الاحتمال الثالث _ ملازمللإجزاء، كما عرفت أنّ مقتضى الإطلاق نفي الاحتمال الثالث المستلزم لثبوت الإجزاء(1).

وقد مرّ شرح هذه الاحتمالات آنفاً عند الحديث عن إجزاء الإتيان المأمور به بالأمر الاضطراريّ.

ولكن قد أُورد عليه: بأنّ هذا إنّما يتم بناءً على السببيّة التي يلتزم بها المصوّبة وأهل الخلاف، دون التي يلتزم بها أهل الحقّ المخطّئة(2).

وأمّا في صورة الشكّ في أنّه هل هذا يكون على نحو الاستيفاء التامّ، أي: أنّ ما دلّت عليه الأمارة بعد الإتيان بالمتعلّق يكون مجزياً عن تمام الواقع، فهل يمكن التمسّك بالإطلاق أم لا؟ فنقول:

أمّا الإطلاق اللفظيّ، فغير ممكن؛ لأنّ التغيير غير ممكن، إذ كما يمكن

ص: 383


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 86، وقد نقلنا نصّ كلامه هذا سابقاً.
2- راجع: أجود التقريرات 1: 202، وفوائد الاُصول 1: 255.

في صورة العلم أن يقول المولى: اعمل بالأمارة، أو: اعمل على طبق الواقع، أو اعمل بهما جميعاً، إلّا أنّه في حالة الجهل لا يمكن أخذ القيد وعدله، ومعه: فكيف يصحّ لنا أن نتمسّك بالإطلاق وأن نقول بكفاية العمل بمؤدّى الأمارة وإجزائه عن إتيان الواقع.وأمّا الإطلاق المقاميّ، فعلى فرض إمكان التمسّك به، يمكن للمولى أن يقول: اعمل بالأمارة؛ لأنّه كان في مقام البيان، فلو انكشف الخلاف، فيمكنه الأمر بالعمل على طبق الواقع، فلمّا لم يبيّن، أمكن التمسّك بالإطلاق، ولكن التمسّك به هنا غير مفيد؛ إذ يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الأحكام الواقعيّة؛ إذ يمكن أن يقال: بأنّ هذه الأدلّة تكون بياناً، وبالاستفادة من إطلاقها يثبت أنّه لابدّ في صورة الخطأ من الإتيان بما هو الواقع، إعادةً في الوقت، وقضاءً خارجه.

وعلى فرض عدم إمكان التمسّك بالإطلاق، فلابدّ من الإعادة عند كشف الخلاف؛ لأنّ أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف موجبة للإعادة.

فإن قلت: الأصل عدم كون التكليف بالواقع فعليّاً.

قلت: هذا غير مفيد؛ لأنّه لا يُثبت كون ما أتى به مسقطاً للتكليف إلّا بناءً على الأصل المثبت، بعد العلم باشتغال ذمّته، ومعلوم أنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ.

ولكنّ المحقّق الخراساني(قدس سره)، فرّق في المقام بين ما إذا كان الحكم

ص: 384

الظاهريّ _ أعني: مؤدّى الأمارة الذي هو حكم ظاهري شرعيّ _ قد جُعل موضوعاً لحكم آخر، أو قيداً لموضوع حكم آخر، كالطهارة المجعولة قيداً للماء والتراب مع كونها شرطاً في صحّةالدخول في الصلاة، وبين ما إذا كان حكماً شرعيّاً غير مجعول لحكم آخر، فهو موجب للإجزاء في الصورة الاُولى دون الثانية(1).

والوجه في الإجزاء في الصورة الأُولى، هو أنّ الشارع نزّل الطهارة الظاهريّة، أي: التي أدّت إليها الأمارة، منزلة الطهارة الواقعيّة، فعند قيام أمارة على طهارة الماء النجس في الواقع، فالقيام يكون سبباً لجعل الطهارة له شرعاً في حال الجهل بنجاسته، فيكون طاهراً واقعاً في هذه الحال، فإذا فرض أنّ الطهارة الظاهريّة نزّلت منزلة الطهارة الواقعيّة، فالعمل المشروط بالطهارة، وهي الصلاة، تكون واجدة لما هو شرطها، فالإجزاء يستفاد من إطلاق دليل الأمارة، فيكون دليل الأمارة حاكماً على الأدلّة التي دلّت على أنّ الصلاة لابدّ أن تكون مع الوضوء بالماء الطاهر واقعيّاً.

وأمّا إذا كان مؤدّى الأمارة حكماً شرعيّاً، ولكنّه كان غير مجعول موضوعاً لحكم آخر، أو قيداً لموضوع حكم آخر، ففي هذه الصورة لا يثبت الإجزاء؛ لأنّ قيام الأمارة، وإن كان يُحدث مصلحة في المتعلّق

ص: 385


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 86، وقد نقلنا آنفاً نصّ هذا الكلام.

كما هو مقتضى بعض الأقوال المتقدّمة، ولكن لم تكن هذه المصلحة مصلحة الواقع مع أنّ الدليل على وجوب أصلالمشروط يدعو إلى الإتيان بنفس الواجب، بعدما كانت المصلحة الفائتة منه غير متداركة، فحينئذٍ: لا يكون الإتيان بمؤدّى الأمارة موجباً للإجزاء، إلّا أن يدلّ دليل من الخارج على كفاية مؤدّى الأمارة عن الواقع.

ولكن لا يخفى: أنّ ظاهر الأدلّة الواقعيّة هو أنّ الشرط هو الطهارة الواقعيّة. فحتى لو كان ظاهر دليل الأمارة _ بناءً على السببيّة _ هو ترتّب آثار الواقع على المؤدّى من جهة مصلحة حدثت بسبب قيام الأمارة، إلّا أنّ الذي يستفاد من الأمارة مع ذلك هو أنّ الشرط هو الطهارة الواقعيّة، لا ما نزّل منزلتها.

وأمّا بالنسبة إلى الاُصول العمليّة، فالظاهر _ أيضاً _ هو عدم الإجزاء فيها، بلا فرق بين ما كان منها من قبيل الاُصول المحرزة، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ، أو من قبيل الاُصول غير المحرزة، كبقيّة الاُصول العمليّة؛ فإنّ الاُصول العمليّة ما هي إلّا وظائف عمليّة ممهّدة من قبل الشارع ليرجع إليها عند الشكّ، لا أنّها أحكام ظاهريّة، وهذه الوظائف مجعولة من قبل الشارع للشاكّ في تكليفه، كما في قاعدتي الطهارة والحلّ؛ إذ ليس فيهما حكم ظاهريّ، بل في الكلّ يكون ظاهر الحكم مخصوصاً بمورد الشكّ؛ لأنّ القاعدتين تقرّران وظيفة للمكلّف يعمل بها عند التحيّر والشكّ في حلّيّة شيء وطهارته،فتكون وظيفة

ص: 386

المكلّف في ظرف الشكّ هي العمل على طبق هذا المشكوك بأن يحسبه طاهراً أو حلالاً.

وما ذكرنا من عدم الإجزاء في الإتيان بما هو مؤدّى الأصل العمليّ، لا يُفَرّق فيه بين أن يكون متعلّق الاُصول حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ، ففي الكلّ لا يمكن القول بالإجزاء عند انكشاف الخلاف؛ لأنّ الاكتفاء بمؤدّى الأمارة عن الواقع، إنّما هو فيما إذا بقيت الأمارة على حجّيّتها، وأمّا لو انكشف الخلاف بأمارة أقوى، امتنع الاكتفاء بمؤدّى الاُولى؛ لأنّ غاية ما تدلّ عليه الأمارة _ بناءً على الطريقيّة _ ليس إلّا المعذريّة والمنجزيّة، وهي عدم صحّة المؤاخذة على ترك الواقع إذا لم ينكشف الخلاف، ولكن قد انقطعت بقيام الأمارة الأقوى، فلابدّ وأن تترتّب الآثار الواقعيّة التي تقضي بها الأُخرى، وهو وجوب الإعادة، إذا كان الانكشاف في الوقت، والقضاء إذا كان خارجه.

تنبيهان:

وينبغي التنبيه هنا على أمرين:الأمر الأوّل: أنّه لو عمل المكلّف عملاً على مدى سنين، وأهمل بعض أجزائه وشرائطه لعذر، بأن كان قاطعاً بأنّ هذا الجزء ليس بواجب، وكان تركه في الحقيقة عن دليل، فليس هنا ما يوجب توهّم الإجزاء بعد كشف الخلاف؛ لأنّه لا دليل على الإجزاء، والقاعدة تقتضي عدم الإجزاء.

ص: 387

نعم، في صورة قيام الدليل كما لو كان جزء الصلاة أو شرطه، فنقول بالإجزاء حينئذٍ تمسّكاً بحديث «لا تعاد» فإنّه دالّ على الاكتفاء به.

والأمر الثاني: بعد أن التزمنا بعدم الإجزاء، فلا يُفَرّق بين عمل المجتهد والمقلّد، فكما أنّ المجتهد إذا انكشف له الخلاف والخطأ في اجتهاده كان مقتضى القاعدة عدم الإجزاء فيما عمل به، ولو كان هذا العمل طبقاً لاجتهاده السابق، فكذلك بالنسبة إلى المقلّد، فإذا قلّد بعض من يقول بعدم وجوب السورة أو عدم كون الارتماس مفطراً، ثمّ رجع المجتهد من رأيه، أو مات ذلك المجتهد وقلّد من يقول بوجوب السورة، أو بمفطريّة الارتماس، فإنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء حينئذٍ، بل لابدّ من إعادة العمل.

أدلّة القول بالإجزاء:

اشارة

ثمّ إنّ القائلين بالإجزاء ذكروا له وجوهاً:

الوجه الأوّل:

اشارة

أنّه لو لم نقل بالإجزاء فإنّه يلزم العسر والحرج، من جهة أنّه لو ربّما يتّفق أنّ إنساناً عمل عملاً مدّة طويلة باجتهاده أو اجتهاد مقلَّده، ثمّ تبدّل اجتهاده أو اجتهاد مقلَّده، فلو لم نقل بالإجزاء يلزم أن يقضي عمل هذه المدّة بطولها. أو كان قد عامل معاملات كثيرة من أنواع مختلفة من العقود والإيقاعات، باجتهاده أو اجتهاد مقلَّده، ثمّ تبدّل اجتهاده أو اجتهاد مقلَّده،

ص: 388

فلو قلنا ببطلان تلك المعاملات جميعاً، لزم العسر والحرج الشديدان، وهما منفيّان في لسان الشارع.

وفيه:

أنّ دليل نفي العسر والحرج حاكم على أدلّة الأحكام الواقعيّة ومضيّق لموضوعها، وتكون هذه الحكومة حكومة واقعيّة في جانب المحمول، فمعنى رفع الضرر والحرج أنّ الحكم الحرجيّ مرفوع واقعاً، ولكنّ عدم الإجزاء ليس حكماً واقعيّاً؛ لأنّه ليس مجعولاً للشارع حتى يُرفع بقاعدة رفع العسر والحرج.نعم،

وجوب الإعادة والقضاء لو كان حرجيّاً، يمكن رفعه، ولكن قد ذكرنا مراراً أنّ أدلّة الضرر والحرج إنّما يرفعان الضرر الشخصيّ لا النوعيّ، فيختلف بالنسبة إلى الأحكام وإلى الأشخاص، فالقول بالإجزاء في جميع الموارد بواسطة كون عدم الإجزاء في بعض الموارد لبعض الأشخاص ضرريّاً أو حرجيّاً، لا وجه له.

الوجه الثاني:

اشارة

أنّه لا وجه لترجيح الاجتهاد الثاني على الأوّل، بل هناك حجّتان، كل واحدة منهما كانت حجّة جب العمل على طبقها في زمانها، فقيام الحجّة الثانية لا يمنع من حجّيّة الاُولى في ظرفها، ولا وجه لتقديم الثانية على الاُولى لكي نلتزم بمقتضاها بعدم الإجزاء؛ لأنّ تقديمها على الاُولى ترجيح عليه بلا مرجّح.

ص: 389

وفيه:

أنّ المقام ليس من قبيل تعارض الأمارتين وترجيح إحداهما على الأُخرى حتى يكون ترجيحاً بلا مرجّح، بل قد يكون من باب ترجيح المرجوح على الراجح في بعض الصور، كما إذا مات المقلَّد الأوّل، وهو أعلم من الحيّ الذي رجع إليه، بناءً على القول بجواز تقليد غير الأعلم في مثل هذه الصورة، فعدم الإجزاء ليس من هذه الجهة، بل من جهة أنّ ما هو الطريق الفعليّ في حقّه ليس إلّا الاجتهاد الثاني، فإنّالحجّة الثانية ولو لم تكن تنفي الحجّة الاُولى في ظرفها، إلّا أنّها تمنع من حجّيّتها بقاءً، وبالعمل على طبق الاُولى يكون ما أتى به باطلاً، وليس له طريق إلى صحّته فعلاً، فلا تكون الحجّة عليه في الواقع فعلاً إلّا الثانية، وهي تقتضي أنّ الحكم الواقعيّ لم يكن هو ما أدّت إليه الحجّة السابقة، فبمقتضى الحجّة الثانية لابدّ من ترتّب الآثار الواقعيّة بعدما انكشف بأنّ الاُولى كانت سراباً، ومقتضى الحجّة الثانية هو ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع في ظرفه، والحجّة الاُولى قد سقطت بقيام الأمارة الثانية، وليس هناك من حجّة فعليّة تعارض الحجّة الثانية.

وبالجملة: فهو باعتبار الحجّة الفعليّة يرى بطلان العمل الذي عمله أوّلاً، ولو كان مستنداً إلى حجّة في حقّه سابقاً؛ لأنّ الحجّة الفعليّة تكشف عن بُطلان العمل الذي كان قد عمله أوّلاً، وأنّه لم يأتِ بالواقع، فيكون عليه أن يعيد أو أن يقضي، وليس له دليل آخر يعتمد عليه في عدم

ص: 390

وجوب القضاء أو الإعادة.

وقد يقال هنا: إنّ الإتيان بالوظيفة الظاهريّة التي هي مخالفة للوظيفة الواقعيّة، لم يكن بلا دليل، بل كان عن استنادٍ إلى ما هو حجّة في ظرفه؛ ومعلوم أنّ مآل الحجّيّة إلى الاكتفاء بما قامت عليه عن الواقع، والحجّة الثانية لا تنفي الحجّيّة عن الاُولى في ظرفها، بل إنّما تمنع عنحجيّتها بقاء واستمراراً، كما مرّ، فيكون مقتضاها هو الاستناد في مقام العمل في ظرفه إلى الحجّة.

ولكن فيه: أنّه بعدما كانت الحجّيّة في باب الأمارات بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، فإنّ العبد يكون موظفاً بالعمل بما تؤدّي إليه الأمارة، بحيث لو خالف الواقع يكون معذوراً ما دامت الأمارة قائمة ولم ينكشف الخلاف، ويكتفي عن الواقع حال قيامها واستمرارها، وأمّا لو انقطعت حجّيّتها ببركة قيام الحجّة الفعليّة، وانكشف بأنّ الواقع كان على خلاف ما أدّت إليه الحجّة الاُولى، لزم عدم ترتيب آثار الواقعيّة عليها، ونحكم بعد انكشاف الخلاف بأنّ ما أُتي به بناءً عليها لم يكن هو الواقع، ومعه: فلا مجال للاكتفاء بالوظيفة التي عمل بها، وهي الوظيفة الظاهريّة، بعد العلم بأنّها على خلاف الواقع، ببركة الحجّة الثانية.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الاكتفاء بمؤدّى الحجّة الاُولى إنّما يثبت ما دامت قائمة وحجّة، وأمّا إذا زالت عنها الحجّيّة، فلا دليل على الاكتفاء بما عمله ظاهراً عن الواقع، والمعذّريّة إنّما هي بمعنى عدم صحّة المؤاخذة

ص: 391

على ترك الواقع، وتكون ثابتة لو لم ينكشف الخلاف أصلاً، وأمّا لو انقطعت بقيام الأمارة الاُخرى، فلابدّ _ حينئذ _ من ترتيب الآثار الواقعيّة التي تقضي بها الأمارة الثانية، ومن تلك الآثار: الإعادة أو القضاء.

الوجه الثالث:

أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين، كما ادّعاه صاحب الفصول(قدس سره)(1)، فإذا اجتهد في واقعة واستنبط حكمها لا يبقى مجال للاجتهاد الثاني.

وفيه:

أنّ هذه الاستحالة إنّما تتصوّر فيما إذا كان هناك واقعة واحدة وحصل اجتهادان من شخص واحد بالنسبة إلى نفس تلك الواقعة ،ولكنّ هذه الصورة أجنبيّة عن محلّ كلامنا؛ لأنّ كلامنا إنّما هو فيما إذا كان هناك تبدّل في الاجتهاد والرأي، ولا محالة يكون الرأي الثاني متأخّراً زماناً عن الرأي الأول، وأمّا لو كان الكلام المذكور ناظراً إلى صدور اجتهادين من شخص واحد في زمانين، أو من شخصين صدر من كلّ منهما فتوى مخالفة لفتوى الآخر، ولو في زمان واحد، فلا استحالة في البين أصلاً.

ص: 392


1- راجع: الفصول الغرويّة: ص 409، قال(قدس سره) في فصل رجوع المجتهد عن الفتوى ما نصّه: «إذ الواقعة الواحدة لا يحتمل اجتهادين، ولو بحسب زمانين؛ لعدم دليلٍ عليه، ولئلّا يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيّين عن الشريعة السمحة؛ لعدم وقوفٍ للمجتهد غالباً على رأيٍ واحد، فيؤدّي إلى الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال...»، إلى آخر كلامه(قدس سره).

الوجه الرابع:

وتوضيحه يبتني على بيان معنى النسخ الاصطلاحيّ، وقد عرّفه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بأنّه:

«رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيّة أم الوضعيّة، وسواء أكان من المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الاُمور التي ترجع إلى اﷲ تعالى بما أنّه شارع» إلى أن يقول: «وإنّما قيّدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، وارتفاع مالكيّة شخص لماله بسبب موته؛ فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمّى نسخاً، ولا إشكال في إمكانه وقوعه، ولا خلاف فيه من أحد»(1).

وقال الطريحيّ في مجمع البحرين:

«النسخ الشرعيّ: إزالة ما كان ثابتاً من الحكم بنص شرعيّ»(2).

وإذا اتضح ذلك نقول:ذكر أصحاب هذا الوجه أنّ الاجتهاد الأوّل مع الثاني هو مثل الدليل الناسخ مع المنسوخ، فكما أنّه كما يجب العمل على طبق الدليل المنسوخ إلى زمان النسخ، ومن زمان وجود الناسخ يجب ترتيب الأثر

ص: 393


1- البيان في تفسير القرآن: ص 277 _ 278.
2- مجمع البحرين 4: 303، باب (نسخ).

عليه من دون نفي أثر المنسوخ إلى زمان وجود الناسخ، لا أنّه يكشف عن بطلان العمل من أوّل الأمر، فكذلك في باب الاجتهاد، يجب ترتيب الأثر على ما استنبطه أوّلاً إلى زمان الاجتهاد الثاني، ومن زمن الاجتهاد الثاني يجب ترتيب الأثر عليه من دون نفي آثار الاجتهاد الأوّل إلى زمان الاجتهاد الثاني.

وفيه:

أنّه قياس مع الفارق؛ فإنّ النسخ كالبداء، فكما أنّ البداء هو بمعنى الإبداء، فكذلك النسخ، هو بمعنى انتهاء الأمد؛ فإنّ أمد ذلك الحكم يستمرّ إلى زمان وجود الناسخ، وليس فيه انكشاف للخلاف.

نعم، كان ظاهر الدليل هو استمرار الحكم، فلمّا جاء الناسخ زال ذلك الظهور، بخلاف ما هو محلّ الكلام، بناءً على مسلك جعل الطريقيّة؛ فإنّ مؤدّاه ليس حكماً مجعولاً أصلاً، بل ليس في البين إلّا إدراك الواقع أو الجري العمليّ على طبقه، فإذا تبدّل الاجتهاد، فلا إحراز ولا حكم إثباتيّ في البين. نعم، لو قلنا بمسلك جعل الحكم في مؤدّى الأمارة، كان لهذا الكلام وجه حينئذٍ.

الوجه الخامس:

الإجماع؛ فإنّه منعقد على القول بالإجزاء.

وفيه:

أنّ هذه المسألة _ كما عرفنا _ خلافيّة، ومع وجود الخلاف بهذه

ص: 394

الدرجة الواضحة، فكيف يمكن أن يُدّعى انعقاد الإجماع؟ فيكون إجماعاً منقولاً، ولا حجّيّة له.

على أنّه لو فُرِض محصَّلاً، لكان محتمل المدركيّة، بل مظنونها، فيكون التعويل عليه مشكلاً غاية الإشكال.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما يمكن أن يقال: من أنّه في إجزاء الإتيان بما يصحّ الاعتذار به، كما في مورد الأمارات والاُصول والقواعد المعتَبرة عن الواقع عند كشف الخلاف، فهو من لوازم اعتبارها وصحّة الاعتذار بها؛ لأنّها إن طابقت الواقع، فلا ريب في الإجزاء، وإن خالفت، فالمكلّف معذور في ترك الواقع، لعموم أدلّة اعتبارها، وامتنان الشارع على اُمّته في هذا الأمر العامّ البلوى.

إذ فيه: ما ذكرناه سابقاً من أنّه لابدّ من استمرار الدليل للحكم الظاهريّ، وعدم انكشاف الخلاف، وإلّا، فلو انكشف الخلاف، كان لابدّ من الإعادة في الوقت، والقضاء خارجه.فظهر

مما ذكرنا: أنّه يجب القول بعدم الإجزاء، فلا يمكن ترتيب آثار الصحّة على العمل الذي كان على طبق الاستنباط الأوّل، فإذا رأى المجتهد الثاني أنّ العمل على رأي المجتهد الأوّل باطل وعلى خلاف الواقع، فكيف يمكنه، أو للمقلّد، أن يبنيا على الصحّة بالنسبة إلى الأعمال التي كان قد أتى بها على طبقه؟! فالحقّ _ إذاً _ عدم الإجزاء.

ص: 395

تنبيهات:

اشارة

وفي ختام هذا البحث، لا بأس بالتعرّض لبعض التنبيهات تبعاً لجملة من المحقّقين:

التنبيه الأوّل:

وقد أسلفنا الكلام فيه، وهو ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بقوله:

«لا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ؛ فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى. نعم، ربّما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها، ومعه: لا يبقى مجال لامتثالالأمر الواقعيّ، وهكذا الحال في الطرق، فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعيّ أو الطريقيّ للإجزاء، بل إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة في متعلّقهما كما في الإتمام والقصر والإخفات والجهر»(1).

وحاصله _ كما مرّ _: أنّ موضوع البحث في الإجزاء ما إذا كان هناك حكم ثابت ظاهريّ أو اضطراريّ، فحينئذ: يبحث عن كونه مجزياً عن الواقع وعدمه.

ص: 396


1- كفاية الاُصول: ص 88.

أمّا إذا لم يكن هناك حكم متقرّر له ثبوت، وإنّما تخيّل ثبوته، فهو أجنبيّ عن بحث الإجزاء؛ إذ لا حكم أصلاً لكي يُبحث عن إجزائه وعدمه، بل عدم الإجزاء في مثله ممّا لا كلام فيه، مثلاً: لو قطع بحكم، ثمّ انكشف خلافه، فلا إشكال في عدم إجزاء ما عمل به بواسطة ما قطع به؛ لأنّ القطع لا يثبت الحكم لا واقعاً ولا ظاهراً، بل بعد انكشاف الخلاف لم يبقَ في البين إلّا تخيّل لثبوت الحكم، فلا يكون المأتيّ به مجزياً، بعد أن لم يكن هو الواقع، ومعلوم أنّ الواجب إنّما هو إتيان ما هو الواقع حقيقةً، لا ما تخيّل أنّه الواقع.

نعم، إذا دلّ دليل على الإجزاء، ولو كان جهله عن تقصير، كما إذا صلّى جهراً في موضع الإخفات وبالعكس، وكما إذا صلّى تماماً فيالسفر مع الجهل بكون الوظيفة غير ما أتى به؛ فإنّ الدليل هنا دلّ على الاكتفاء بما أتى به، ولا يحتاج إلى الإعادة، وإلّا، فمع عدم قيام دليل إثباتيّ على ذلك، فلابدّ من الإعادة.

التنبيه الثاني:

وقد ذكره صاحب الكفاية) أيضاً، بقوله:

«لا يذهب عليك: أنّ الإجزاء في بعض موارد الاُصول والطرق والأمارات _ على ما عرفت تفصيله _ لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد؛ فإنّ الحكم الواقعيّ بمرتبته محفوظ فيها، فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلّا

ص: 397

الحكم الإنشائيّ المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوّليّة بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات، وإنّما المنفيّ فيها ليس إلّا الحكم الفعليّ البعثيّ، وهو منفيّ في غير موارد الإصابة، وإن لم نقل بالإجزاء، فلا فرق بين الإجزاء وعدمه إلّا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهريّ، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة. وسقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله، غير التصويب المجمع على بطلانه، وهو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة، كيف؟! وكان الجهل بهابخصوصيّتها أو بحكمها مأخوذاً في موضوعها، فلابدّ من أن يكون الحكم الواقعيّ بمرتبته محفوظاً فيها، كما لا يخفى»(1).

ومحصّل ما أراده(قدس سره): هو بيان عدم الملازمة بين الإجزاء والتصويب، فإنّه قد يتوهّم وجود ملازمة بينهما؛ لأنّ مرجع الإجزاء ومآله إلى كون الواقع هو مؤدّى الأمارة، الذي هو التصويب.

والذي يدّعيه صاحب الكفاية) في هذا المقام، هو القول بنفي ملازمة بين الإجزاء والتصويب، بل بعدم معقوليّته أصلاً؛ لاستلزامه عدم الشيء من وجوده.

ص: 398


1- كفاية الاُصول: ص 88.

بيان ذلك: أنّ الحكم في نظر صاحب الكفاية(قدس سره) له مراتب أربع، وهي: مرتبة الاقتضاء، ومرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعليّة، ومرتبة التنجيز، وشرح مقصوده من هذه المراتب، وبيان الصحّة أو السقم فيها موكول إلى محلّه.

والذي يرتبط بمحلّ الكلام فعلاً من هذه المراتب، هو مرتبة الفعليّة والإنشاء، دون مرتبتي: الاقتضاء والتنجّز؛ فإنّه لا ربط لهما بمحلّ الكلام، فلا نبحث عنهما هنا.ثمّ إنّ الذي ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره) في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، أنّ الحكم الواقعيّ في موارد الطرق والأمارات إنشائيّ، بحيث لو حصل العلم به يصبح فعليّاً، بلا فرق بين القول بالطريقيّة أو بالسببيّة، فإنّ الحكم في الواقع يبقى في مرتبة الإنشاء، وتكون الأمارة مانعة من فعليّته لا أكثر. ولا يخفى: أنّ الحكم الذي دلّت الأدلّة على كونه مشتركاً بين العالم والجاهل هو الحكم الإنشائيّ، وأمّا الحكم الفعليّ فهو مختصّ بالعالم؛ لأنّ موضوعه هو العلم بالحكم الإنشائيّ.

وإذا عرفت ذلك، ظهر:

أنّ القول بالإجزاء لا يلازم التصويب بمعنى: ارتفاع الحكم الواقعيّ؛ لأنّ الحكم الواقعيّ يبقى على ما هو عليه بناءً على السببيّة، وكذا الحال لو قلنا بالإجزاء بناءً على الطريقيّة، بل التصويب في مورد الأمارة والحكم الظاهريّ غير معقول؛ لأنّ الجهل بالحكم الواقعيّ مأخوذ في موضوع الحكم الظاهريّ، فلابدّ أن يفرض ثبوت واقع يتعلّق به العلم والجهل،

ص: 399

فلو فُرِض ارتفاع الحكم الواقعيّ بقيام الأمارة، فحينئذٍ: يرتفع الشكّ في الواقع، فيلزم ارتفاع موضوع الحكم الظاهريّ، وذلك محال؛ لأنّه يلزم من وجود الحكم الظاهريّ عدمه.وفيه: أنّه إن قلنا بأنّ الأحكام الواقعيّة أحكام إنشائيّة كان الحقّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره) في المقام، من عدم الملازمة بين الإجزاء والتصويب.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الحكم المشترك بين الجاهل والعالم هو الحكم الفعليّ، وأمّا الحكم الإنشائيّ فلا تقع فيه جهة البعث، وفي الواقع، فالحكم الواقعيّ في موارد الطرق والأمارات، ليس حكماً إنشائيّاً، بل هو حكم فعليّ، فبناءً على الإجزاء والقول بالسببيّة يلزم التصويب؛ لأنّ مآل السببيّة هو إلى رفع الحكم الواقعيّ بعد ثبوت المصلحة المعادلة لمصلحة الواقع في مؤدّى الأمارة، فيكون هذا سبباً لارتفاع الحكم الواقعيّ، فبعد الإتيان بمؤدّى الأمارة الذي فيه مصلحة يستوفى بها مصلحة الواقع، لم يبقَ مجال لامتثال الواقع، بل يرتفع الوجوب التعيينيّ الواقعيّ ويصير الوجوب الثابت تخييريّاً، فيكون المكلّف مخيّراً بين العمل بالواقع والعمل بالأمارة.

التنبيه الثالث:

وقد ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) بقوله:

«أنّه لا فرق فيما ذكرناه من كون عدم الإجزاء هو مقتضى القاعدة

ص: 400

الأوّليّة بين اختلاف الحجّة بالنسبة إلى شخص أو شخصين، كما إذا فرضنا اختلاف المجتهدين في الفتوى، فلا يجزي فتوى أحدهمابالنسبة إلى الآخر، أو لمقلّديه، ولا فرق في ذلك بين المعاملات وأبواب الطهارات والنجاسات وأبواب العبادات، إذا كان أحدهما محلّاً لابتلاء الآخر، مثلاً: إذا كان أحد الشخصين يرى جواز العقد بالفارسيّ وطهارة العصير العنبيّ وعدم جزئيّة السورة للصلاة، فلا يمكن لمن لا يرى تلك الاُمور أن يكون أحد طرفي العقد معه، أو أن يعامله معاملة الطاهر في فرض العلم بملاقاته للعصير، أو يقتدي به في الصلاة، أو يستأجره لها، مع فرض تركه للسورة، فالمسألة في جميع ذلك محلّ إشكال، لعدم تماميّة الإجماع على الإجزاء، مع كون عدمه مقتضى القاعدة، وإشكال الجميع هو باب الطهارة والنجاسة، إلّا أن يقال بكون الغيبة من المطهّرات، ولو مع عدم اعتقاد الغائب لنجاسته، كما أفتى به صاحب الجواهر(قدس سره) ومال إليه سيد أساتيذنا المحقق الشيرازيّ، وقد نقل الاُستاذa أنّه كان يفتي به شفاهاً»(1).

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد استثنى من عدم الإجزاء مسألتين: إحداهما: مسألة النكاح، والأُخرى: مسألة الطلاق. قال):

«ولكن

يستثنى من ذلك مسألتان: إحداهما: مسألة النكاح، والاُخرى:

ص: 401


1- أجود التقريرات 1: 208.

مسألة الطلاق. أمّا المسألة الاُولى: فقد وجب على كلّأحد ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كلّ قوم، وإن كان فاسداً في مذهبه، فلو رأى شخص صحّة النكاح بالعقد الفارسيّ وعقد على امرأة كذلك، ويرى الآخر بطلانه، واعتبار العربيّة فيها، لزمه ترتيب آثار الصحّة على نكاحه، وإن كان فاسداً في نظره، بأن يحكم بأنّها زوجته، وبعدم جواز العقد عليها، وغير ذلك من الآثار المترتّبة على الزواج الصحيح. ومن هنا، وجب ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كلّ ملّة، وإن كانوا كافرين، وبذلك يظهر حال المسألة الثانية حرفاً بحرف»(1).

وبهذا تمّ الكلام في الجزء الثاني، ويتلوه الجزء الثالث إن شاء اﷲ تعالى، والحمد ﷲ ربّ العالمين.

ص: 402


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 103 _ 104.

الفهرس

ص: 403

ص: 404

الفهرس

مبحث الأوامر (7-25)

مبحث الأوامر..... 7

الأمر الأوّل: هل الأوامر من المسائل الاُصوليّة أم لا؟ 7

الأمر الثاني: قد يستعمل الأمر في عدّة معان 8

الأمر الثالث: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر....... 12

الأمر الرابع: الأمر ينقسم إلى المولويّ والإرشاديّ....... 15

الأمر الخامس: ما وُضِع له الأمر..... 17

الكلام في الطلب والإرادة (27-81)

الكلام في الطلب والإرادة... 27

الروايات الدالّة بظاهرها على الجبر..... 59

معنى القضاء والقدر....... 60

تنبيه .... 74

الرواية الاُولى....... 75

الرواية الثانية... 76

الرواية الثالثة... 76

ص: 405

الكلام في صيغة الأمر (83-104)

الكلام في صيغة الأمر.... 83

هل صيغة الأمر حقيقة في الوجوب أو في الندب؟....... 88

الأمر الأوّل: في بيان معنى الوجوب والاستحباب....... 89

والأمر الثاني: في بيان بساطة الوجوب والندب وتركيبهما....... 89

الكلام في مدلول الجملة الخبريّة في مقام الطلب....... 102

التعبّديّ والتوصّليّ (105-124)

التعبّديّ والتوصّليّ.... 105

إطلاق الصيغة هل يقتضي التعبّديّة أم التوصّليّة؟ 105

المقدّمة الاُولى: في بيان معنى التعبّديّ والتوصّليّ....... 105

المقدّمة الثانية: هل التعبّديّة موجودةٌ عند غير المسلمين...؟... 106

المقدّمة الثالثة: خلاصة الفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ ....... 106

المقدّمة الرابعة: تقسيم الواجب التعبّديّ... 107

المقدّمة الخامسة....... 108المقدّمة السادسة: معنىً آخر للتعبّديّ والتوصّليّ 108

الكلام في أقسام القدرة....... 111

كلام الاُستاذ الأعظم)..... 113

ما هو مقتضى الأصل؟.... 117

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر (125-140)

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر 125

ص: 406

الاُولى: في بيان التقابل بين الإطلاق والتقييد. 126

الثانية.... 127

الثالثة.... 127

ما استدلّ به على التعبّديّة.... 135

الأمر الأوّل...... 135

الأمر الثاني...... 138

والأمر الثالث... 138الواجب المطلق والمشروط (141-167)

الواجب المطلق والمشروط...... 141

الأمر الأوّل...... 141

الأمر الثاني...... 141

الأمر الثالث..... 143

القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة...... 147

الفرق بينهما.... 148

قضايا الأحكام حقيقيّة أم خارجيّة؟..... 150

عودة إلى أصل البحث... 153

الواجب المعلّق والمنجّز (169-207)

الواجب المعلّق والمنجّز..... 169

الكلام في إمكان الواجب المعلّق وعدمه.. 171

أمّا الكلام في وجوب التعلّم..... 189

ص: 407

الأمر الأوّل: الفرق بين القدرة العقليّة والشرعيّة 197

الأمر الثاني: في بيان قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار».... 197

مسلك صاحب الكفاية ) في حلّ الإشكال 201الواجب النفسيّ والغيريّ (209-246)

الواجب النفسيّ والغيريّ..... 209

الكلام في استحقاق العقاب والثواب على الواجب الغيري....... 220

الجهة الاُولى... 220

الجهة الثانية.... 222

الجهة الثالثة ... 222

مسألة.... 226

الإشكال في عباديّة الطهارات الثلاث....... 231

الواجب التعييني والتخييري (247-269)

الواجب التعييني والتخييري...... 247

القول الأول..... 248

القول الثاني..... 249

القول الثالث.... 255

القول الرابع..... 257القول الخامس...... 259

القول السابع.... 263

القول الثامن.... 264

ص: 408

القول التاسع.... 265

القول العاشر ....... 266

تكملة... 267

الكلام في التخيير بين الأقلّ والأكثر.... 267

الواجب العينيّ والكفائي (271-285)

الواجب العينيّ والكفائي..... 271

الأوّل: في تعريف الواجب الكفائي...... 271

الأمر الثاني: الفرق بينه وبين الواجب التخييري 271

الأمر الثالث: محلّ البحث في الواجب الكفائي 272

الأمر الرابع: في بيان كيّفيّة تعلّق الوجوب 272

الأمر الخامس: تصوير كيفيّة تعلّق الوجوب في الواجب الكفائيّ...... 274

الوجه الأوّل.... 274

الوجه الثاني ... 277

الوجه الثالث... 278الوجه الرابع.... 279

الوجه الخامس..... 280

ملاحظة..... 283

الأمر عقيب الحظر (287-290)

الأمر عقيب الحظر.... 287

ص: 409

المرّة والتكرار (291-298)

المرّة والتكرار..... 291

الفور والتراخي (299-306)

الفور والتراخي.... 299

مسألة.... 304الواجب الأصليّ والتبعيّ (307-311)

الواجب الأصليّ والتبعيّ..... 307

الأمر الأوّل: في بيان الأقسام من حيث التبعيّة والأصليّة....... 307

الأمر الثاني: أنّ البحث فيهما هل يكون ثبوتيّاً أم إثباتيّاً؟....... 308

الواجب الموسّع والمضيّق (313-331)

الواجب الموسّع والمضيّق... 313

الإشكال على الواجب المضيّق...... 314

الإشكال على الواجب الموسّع....... 317

مبحث الإجزاء (333-402)

مبحث الإجزاء.... 333

النقطة الاُولى... 333

والنقطة الثانية....... 334

ص: 410

والنقطة الثالثة....... 335

والنقطة الرابعة...... 336والنقطة الخامسة... 338

الامتثال عقيب الامتثال ....... 341

الأمر الأول...... 354

الأمر الثاني...... 355

تنبيهان....... 387

أدلّة القول بالإجزاء... 388

تنبيهات..... 396

الفهرس (403-411)

الفهرس.... 403

ص: 411

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.