شَمسُ الأُصُول المجلد 1

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

آیة الله العظمی الحاج الشیخ شمس الدين الواعظي

دار المحجة البيضاء

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الواحد الأحد االفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

والصلاة والسلام على النبي الأكرم والرسول الأعظم محمدٍ وآله الهداة المهديّين الطاهرين من كل رجس، المنزّهين من كلّ عيب.

وبعد:

فقد كان من المقرّر إكمال هذه الدورة الأصولية تقريراً لأبحاثنا بقلم حجة الاسلام السيد مجتبى الشاهرودي (دام عزه)، وبعد تغيير النظام في العراق منّ الله - تبارك وتعالى - علينا بالعودة الى بلدنا المحروس بالله، ومجاورة إمامنا ومولانا أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وعدم مجيء المقرّر المشار إليه آنفاً الى العراق، ارتأينا إعادة كتابة هذه الدورة من جديد مبتدئين بالمجلّد الأوّل، حيث حذفنا بعضالمطالب، وأضفنا الكثير، وأتممنا هذه الدورة الاصولية الموسومة ب-«شمس الأصول» بتوفيق من الله تعالى وبحوله وقوّته، وببركة جوار باب مدينة العلم(علیه السلام).

وقد اعتمدت غالباً في العرض والمناقشة على مطالب وآراء اثنين من أساتذتي هما: وحيد عصره وفريد دهره آية الله العظمى السيد البجنوردي، ومرجع الطائفة وزعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس الله أسرارهما).

ص: 7

وسيجد الباحث الكريم آراء قسم آخر من فطاحل العلماء مدرجة ضمن المتن، وذلك لسهولة التعرّف والاطّلاع عليها. وقد ألزمنا أنفسنا بذكر الآراء بالنص من مصادرها في الغالب.

ختاماً نشكر الله على جميع نعمه وآلائه، ونحمده على أن وفقنا الى خدمة العلم والعلماء، وجعلنا من حفظة هذا التراث الذي ورثناه عمّن ورثه عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم اجمعين، وأن يوفق جميع المشتغلين في خدمة الدين والمذهب إنه سميع مجيب.

شمس الدين الواعظي

13/ رجب المرجب/ 1425

ص: 8

مقدّمة: وفيها اُمور

اشارة

وقبل الخوض في تحقيق المسائل المبحوث عنها في علم الاُصول، فلابدّ من التعرّض لبيان اُمورٍ ترتبط بها وتمهّد لها:

الأمر الأوّل: في بيان معنى مصطلح «العلم»

كثيراً ما يطلق لفظ «العلم» ويراد به أحد معنيين:المعنى الأوّل: وهو معناه الحقيقيّ، وهو: انكشاف الواقع للنفس، وهذا هو الاعتبار الذي لاحظه المنطقيّ في تقسيمه له إلى: التصوّر والتصديق.

والثاني: القواعد التي تمهّد لغرض تحصيهل الفوائد المترتّبة عليها؛ فإنّها أيضاً تسمّى: علماً؛ إذ يقال - مثلاً -: علم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاُصول، و... ويقال أيضاً: فلان يعرف علم النحو أو لا يعرفه. فيكون العلم بهذا المعنى الثاني متعلّقاً للعلم بالمعنى الأوّل، المقابل للجهل.

ص: 9

ثمّ إنّ العلم بالمعنى الأوّل، تارةً يكون بمعنى: (اليقين)، فقد يتعدّى إلى مفعولين، واُخرى يكون بمعنى: (المعرفة)، فيكون متعدّياً إلى مفعولٍ واحد فقط.

وسيأتي لاحقاً أنّ علم الاُصول هو: العلم بالقواعد الممهّدة - بفتح الهاء - لاستنباط الأحكام الشرعيّة، والتي هي قضايا جعليّة اعتباريّة، كما يأتي توضيحه، إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: في رتبة هذا العلم

أعني: رتبته بالنسبة إلى سائر العلوم، وأنّه متقدّم عليها أو متأخّر عنها.

والكلام تارةً بالقياس إلى علم الكلام، واُخرى بالنسبة إلى سائر العلوم.

أمّا بالنسبة الى سائر العلوم:

فلا يخفى: أنّ العلوم ليست كلّها في عرضٍ واحد، وفي نفس المرتبة، بل ربّ علم يكون مقدّمة لعلم آخر، كما هو الحال في علم الفقه بالنسبة إلى علم الاُصول؛ فإنّ من الواضحات التي لا تكاد تخفى: أنّه متأخّر عن علم الاُصول؛ إذ الاُصول منجملة مقدّماته، بل الاُصول بالنسبة إليه كالعلّة التامّة، لمكان توقّف الاستنباط الفقهيّ على المسائل الاُصوليّة.

وكون الاُصول متقدّماً على علم الفقه لا ينافي تأخّره عن جملةٍ من

ص: 10

العلوم الاُخرى، كما لا يخفى، كعلوم اللّغة والمنطق. كما أنّه لا ينافي كونه أجنبيّاً بالنسبة إلى علومٍ اُخرى، كالرياضيّات والطبّ وغيرهما.

وقضيّة تأخّر علم الفقه عن علم الاُصول، مع تأخّر الاُصول عن علومٍ اُخرى، أن يكون علم الفقه بدوره متأخّراً عن تلك العلوم؛ لأنّ ما يتأخّر عمّا هو متأخّر، يكون متأخّراً أيضاً، كما لا يخفى.

وبالجملة: فنسبة بعض العلوم إلى علم الفقه هي نسبة الجزء الأخير من العلّة إليها، وذلك من قبيل: علم الاُصول بالنسبة إليه.

وأمّا بعضها الآخر فنسبته إلى علم الفقه نسبة المقدّمات الإعداديّة للشيء إليه، وهي علوم كالنحو والصرف ومتن اللّغة، وكذا الرجال، على ما قيل.

وهذا النحو من العلوم، وإن كان من المقدّمات الدخيلة في استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها، إلّا أنّها مع ذلك ليست بمثابة الجزء الأخير من العلّة، وإنّما هي من مقدّماته الإعداديّة.

وإن شئت فقل: إنّ وقوع مسائل هذه العلوم في مقدّمات الاستنباط ودخلها في الفقه لا يكون كافياً في استنتاج الحكم الشرعيّ بالاستقلال، بل لا بدّ أن تنضمّ إليها مسألة اُصوليّة تكون هي الكبرى في قياس الاستنباط، وتصبح معها مسائل هذه العلوم بمنزلة الصغرى، وإلّا فهي من دون انضمام هذه الكبرى إليها لا تكون منتجة، ولا يترتّب عليها شيء من الآثار الشرعيّة المطلوبة.

ص: 11

والوصول إلى استنباط الحكم الشرعيّ، وإن كان متوقّفاً على معرفة هذه العلوم، بحيث لا يمكن أن تتمّ عمليّة الاستنباط من دونها، كعلم النحو الذي لا مجال للوصول إلى الحكم الشرعيّ إلّا بتطبيق قوانينه وقواعده من حيث الإعراب والبناء، أو علم الصرف الذي تتوقّف عمليّة الاستنباط على معرفة أحكامه من حيث الصحّة والاعتلال مثلاً، أو كعلم الرجال ومدخليّته في الاستنباط من حيث وثاقة الرواة مثلاً، أو علم متن اللّغة ومدخليّته من حيث معرفة معاني الألفاظ العربيّة، إلّا أنّ معرفة هذه العلوم ومسائلها ليست دخيلةً في عمليّة استنباط الأحكام إلّا في الجملة، وذلك كما أشرنا آنفاً، لا على نحو الاستقلال، بل بشرط انضمام كبرى اُصوليّة إليها.

هذا كلّه من ناحية تراتبيّة هذه العلوم، ونسبة بعضها الى بعض، ونسبة العلوم الدخيلة في الاستنباط الفقهيّ إلى علم الفقه.

وأمّا من حيث الشرف والأفضليّة:

فقد يقال: بأنّ علم الفقه من أشرف العلوم، وأنّه أشرف حتّى من علم الكلام نفسه، وإن كان المبحوث عنه في علم الكلام هو المبدأ والمعاد.

ولكنّ التّصديق بدعوى أشرفيّة هذا العلم يتوقّف على معرفة فوائده والوقوف على الآثار التي من شأنها أن تترتّب عليه، فلابدّ لذلك من التعرّض لبيانها.

ص: 12

فوائد علم الفقه وآثاره

فمنها:

أنّ صحّة التقليد متوقّفة على علم الفقه، كما أنّ الوصول إلى مرحلةٍ يستغنى فيها عن التقليد ولا يحتاج إليه معها متوقّف أيضاً على هذا العلم؛ إذ ممّا يستقلّ العقلبحسنه ومرغوبيّته: أنّه لا بدّ من وجود الفقيه الذي تكون له القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة من مداركها.

وإنّما كان العقل يستقلّ بحسن ذلك؛ لما فيه من التأدّي إلى الارتقاء والعروج عن حضيض التقليد والجهل إلى حيث ذروة الاجتهاد وسنام العلم، وحيث إنّ الفقه هو الذي يسبّب هذا الارتقاء، دون غيره، فيكون هو الأشرف.

ومنها:

أنّ تحصيل مسائل علم الفقه يؤهّل الإنسان ويعدّه لمعرفة الطرق النافعة اُخرويّاً، ويمكّنه من تمييزها عن غيرها من الطرق المضرّة.

وظاهر: أنّه ليس في نظر العقل ما هو أهمّ من ذلك، ولمّا كان الفقه هو العلم المؤدّي إليه، فيكون - لا محالة - هو الأشرف والأهمّ.

ومنها:

أنّ معرفة الإنسان بعلم الفقه، وإلمامه بمسائله إلى أن يحصل على ملكة الاجتهاد وينال درجته الرفيعة التي تمكّنه من استنباط واستخراج

ص: 13

الأحكام الشرعيّة هو سبب للتحلّي بحلية الرئاسة الإلهيّة التي خصّ الله تعالى بها أولياءه وأهل طاعته، ليصبح بذلك واحداً من خلفاء الأئمّة( ونوّابهم، وممّا لا ريب فيه أنّ هذا - أيضاً - هو ممّا يرغب به العقل ويحثّ عليه الشرع.

فائدة علم الكلام

وأمّا علم الكلام، ففائدته منحصرة في الحفاظ على النفس وفي التمكين من دفع الشبهات والشكوك التي يواجه بها الدين الحقّ.وأمّا تلك الفوائد المهمّة التي ذكرناها لعلم الفقه، فهي ليست من آثاره التي تترتّب عليه.

وفي ضوء ما تقدّم، نجزم بأنّ مكانة علم الفقه ورتبته في الشرف متقدّمة على غيره من العلوم، بما فيها علم الكلام.

وقد انقدح بذلك: أنّ كون علم الاُصول بمنزلة الجزء الأخير للعلّة بالنسبة إليه، لا يقتضي كونه - أي: علم الاُصول - أشرف منه وأعلى منزلةً؛ إذ لو كان الفقه أشرف من علم الكلام، فهو أشرف من علم الاُصول بطريقٍ أولى. كذا قد يقال.

ولكنّ التحقيق: أنّ شرف العلم إنّما يكون بشرافة موضوعه أو غايته، ولازم ذلك: أن يكون علم الكلام أشرف العلوم على الإطلاق؛ إذ:

أوّلاً: موضوعه أشرف الموضوعات على الإطلاق، وهو المبدأ، وهو الله تبارك وتعالى.

ص: 14

وثانياً: غايته أشرف الغايات، وهي معرفة اُصول الدين، التي هي من أجلّ الغايات وأسماها.

الأمر الثالث: الفرق بين المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة

فرّق المحقّق النائينيّ(قدس سره) بينهما بما لفظه:

«إنّ نتيجة المسألة الفقهيّة، قاعدةً كانت أو غيرها، بنفسها تلقى إلى العامّيّ غير المتمكّن من الاستنباط، فيقال له: كلّما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط وجبت الصلاة، فيذكر في الموضوع جميع قيود الحكم الواقعيّ، أو يقال: كلّما فرغت منعملٍ وشككت في صحّته وفساده، فلا يجب عليك الاعتناء به، فيذكر له جميع قيود الحكم الظاهريّ.

وهذا بخلاف المسألة الاُصوليّة، فإنّ إعمال نتيجتها مختصّ بالمجتهد، ولا حظّ للمقلّد فيها، ولا معنى لإلقائها إليه، بل الملقى إليه يكون الحكم المستنبط من تلك المسألة»(1).

وحاصله: أنّ النتيجة في المسائل الفقهيّة، قاعدةً كانت أو غيرها، يمكن إلقاؤها بنفسها إلى العامّيّ، على أن يذكر المجتهد في موضوع الحكم كافّة القيود المأخوذة في الحكم ثمّ يلقيه إليه، فيقول له - مثلاً - كلّما دخل عليك وقت صلاة الظهر، وكنت واجداً للشرائط، فقد وجبت عليك الصلاة.

ص: 15


1- هذه عبارته(قدس سره) في أجود التقريرات: 9- 10، وورد نظير لها في كلامه في فوائد الاُصول 4: 309- 310.

وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة؛ فإنّها لا تفيد العامّيّ ولا تنفعه، فلا يمكن أن تلقى إليه ما دام غير متمكّن من الاستنباط، بل يكون إعمالها في مواردها من وظيفة المجتهدين فقط.

اعتراض اُستاذنا الأعظم(قدس سره)

اعتراض اُستاذنا الأعظم(قدس سره)(1):

لا يخفى: أنّ هذا الكلام المتقدّم، وإن كان تامّاً فيما يتعلّق بالمسائل الاُصوليّة - على ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) - لأنّ إعمال هذه القواعد في مواردها وأخذ النتيجة منها إنّما يكون من وظائف المجتهدين فقط دون المقلّدين، إلّا أنّه - على إطلاقه - ليس تامّاً بالنسبة إلى المسائل الفقهيّة؛ فإنّ كثيراً من المسائل الفقهيّة لا يختلف حالها من هذه الجهة عن المسائل الاُصوليّة، وذلك - مثلاً - كمسألة استحباب كلّ عملٍ بلغعليه الثواب، ولو بالخبر الضعيف، بناءً على أنّ هذا الاستحباب هو المستفاد من أخبار «من بلغ»(2)، وأنّ الظاهر منها كونها بصدد إثباته، وليست للإرشاد ولا لبيان حجّيّة الخبر الضعيف، بل هي لمجرّد بيان: أنّ العمل بهذا الخبر الضعيف يكون موجباً لترتّب الثواب؛ فإنّ هذه من المسائل الفقهيّة بلا إشكال، ولكنّها - مع ذلك - تعدّ من وظائف المجتهد التي لا يمكن إلقاؤها إلى العامّي، لعدم قدرته على تشخيص مواردها من الروايات وتطبيق أخبار الباب عليها.

ص: 16


1- المقصود من الاُستاذ الأعظم إنّما هو سيّدنا واُستاذنا، واُستاذ الفقهاء والمجتهدين، المرجع الدينيّ الأعلى، الإمام الخوئيّ(قدس سره).
2- انظر: وسائل الشيعة 1: 59، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات.

ويمكن التمثيل لذلك - أيضاً - بقاعدة: «ما لا يضمن بصحيحه لايضمن بفاسده»؛ فإنّها - أيضاً - قاعدة فقهيّة، والذي يستفاد منها حكم كلّيّ، وهو - مثلاً - الحكم بعدم الضمان في الهبة الفاسدة.

ومن هذه القواعد أيضاً: قاعدة الطهارة، فيما إذا نزا كلب على شاةٍ فأولدها؛ فإنّه - حينئذٍ - لا يلحق بأحدهما لعدم شباهته بهما، فيكون مشكوك الطهارة ويحكم بطهارته للقاعدة.

أو كقاعدة نفي الضرر، التي يستفاد منها عدم وجوب الوضوء الضرريّ.

أو قاعدة نفي الحرج، التي يثبت بها عدم وجوب الوضوء الحرجيّ.

فهذه كلّها قواعد فقهية، ولكنّ استفادة الحكم الشرعيّ منها هو من وظيفة المجتهد، وليس بمقدور العامّي أن يطبّقها على مواردها وأن يقوم بتشخيص الحكم المستفاد منها(1).أقول: بالنسبة إلى قاعدة (من بلغ)، يمكن القول: بأنّها تندرج في المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ استفادة الاستحباب منها تتوقّف على معرفة الخبر الضعيف وتمييزه عن غيره، المتوقّف بدوره على الاطّلاع على أحوال رجال الحديث وشؤونهم. وبما أنّها من المسائل الاُصوليّة، فلا يمكن أن تلقى إلى العامّيّ، لعدم قدرته على استفادة الحكم منها. هذا من جهة.

ص: 17


1- انظر محاضرات في الاُصول 1: 7- 8. (المجلّد 43 بترتيب موسوعة الإمام الخوئيّ(قدس سره)).

ومن جهةٍ اُخرى، فإنّ مآل هذه القاعدة لمّا كان إلى إثبات الاستحباب، فيمكن القول بدخولها تحت المسألة الفقهيّة.

والحاصل: أنّ لهذه القاعدة اعتبارين ولحاظين، بأحدهما يمكن اعتبارها اُصوليّةً، وبالآخر تكون مندرجةً في القواعد الفقهيّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قاعدة التسامح يمكن أن تعدّ من المسائل الاُصوليّة وليست من القواعد الفقهيّة.

ومن هنا يظهر: أنّ الاعتراض بقاعدة التسامح في أدلّة السنن بشأن القواعد الفقهيّة غير واردٍ أصلاً. هذا.

والصحيح في التفريق بين المسألتين أن يقال:

إنّ كلّاً من المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة يمكن أن تقع كبرى في قياس الاستنباط، ولا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً؛ وإنّما الفرق في أنّ الذي يستنتج من ضمّ الصغرى إلى الكبرى في المسائل الاُصوليّة يكون - دائماً - حكماً كلّيّاً، بخلاف المستنتج من ضمّ الصغرى إلى القاعدة الفقهيّة؛ فإنّه غالباً ما يكون حكماً جزئيّاً، وإن كان قد يتّفق في بعض الموارد أن يكون المستنتج منه حكماً كلّيّاً أيضاً، كما في قاعدتي: ما يضمن وما لا يضمن، وفي بعض فروع العلم الإجماليّ، وفي قاعدة الفراغ وغيرها.فمثلاً: إذا علم المكلّف إجمالاً بعد فراغه من صلاتي الظهر والعصر بنقصان ركعةٍ من إحداهما، ولم يدرِ أنّها من الظهر أو العصر؛ فإنّ الحكم

ص: 18

هنا حكم كلّيّ، وهو: الصحّة لقاعدة الفراغ. وفي هذا المورد وأمثاله لايتمكّن العامّيّ من تعيين الوظيفة بنفسه، بل يكون المرجع إلى المجتهد في ذلك.

وبعبارة اُخرى: فإنّ المائز بين المسألة الاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة، إنّما هو أنّ القاعدة الفقهيّة، حتّى لو فرضنا أنّها دائماً تقع كبرى في قياس الاستنباط، كالمسائل الاُصوليّة، وأنّها لا فرق بينها وبين المسائل الاُصوليّة من هذه الجهة، إلّا أنّ النتيجة في مورد القاعدة تكون في الغالب حكماً جزئيّاً متعلّقاً بعمل آحاد المكلّفين وبلا واسطة، أي: من دون أن يكون المكلّف في مقام العمل بحاجةٍ إلى أيّ-ة مؤونةٍ اُخرى.

وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة؛ فإن النتيجة في مواردها لا يمكن أن تتعلّق بعمل الآحاد إلّا بعد تطبيقها على الموارد الخاصّة الجزئيّة، والذي يتمكّن من هذا التطبيق إنّما هو المجتهد.

وإن شئت فقل: إنّ النتيجة التي تتحصّل من المسائل الاُصوليّة تنفع المجتهد فقط، بمعنى: أنّه ليس هناك أيّة فائدةٍ تعود إلى العامّيّ المقلّد مباشرةً، ولذا، فليس للمجتهد أن يفتي بمضمون النتيجة التي أدّت إليها المسألة الاُصوليّة، كأن يفتي في رسالته العمليّة بحجّيّة خبر الواحد مثلاً؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ تطبيق النتيجة على الصغريات إنّما هو من وظائف المجتهد وشؤونه دون المقلّد.

وأمّا القواعد الفقهيّة، فلمّا كانت نتيجتها غالباً ما تنفع المقلّد، جاز

ص: 19

للمجتهد أن يفتي بها تاركاً أمر تطبيقها إلى المقلّد نفسه وبيده، كما إذا أفتى بحجّيّة قاعدة الضرر والتجاوز والفراغ، فإنّ تطبيقها على الصغريات بيد المقلّد نفسه.

كلام المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره):

وبما بيّنّاه: يظهر صحّة ما أفاده المحقّق الأصفهاني): من أنّ الضابط للمسائل الاُصوليّة أنّها عبارة عن «القواعد الممهّدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ».

وأمّا التعريف المشهور لعلم الاُصول فليس شاملاً للعديد من المسائل الاُصوليّة، كأصالة الإباحة - بناءً على كون المجعول فيها هو الحلّية الظاهريّة وأنّها ليست ناظرةً إلى الواقع لا من جهة الحكم المماثل ولا المعذّريّة -، وكذا مسألة الانسداد - بناءً على الحكومة(1)-.

الفرق بين المسائل الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم

وأمّا المائز بين المسائل الاُصوليّة وبين مسائل سائر العلوم؛ فإنّ المسألة الاُصوليّة هي - كما اتّضح - عبارة عن الكبريات التي تقع، بعد ضمّ صغرياتها إليها، في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة الشرعيّة.

وأمّا مسائل سائر العلوم، فهي، وإن كانت - بدورها - يمكن أن تقع في طريق الاستنباط، إلّا أنّها لا تقع كبرى في قياسه أبداً، بل هي دائماً:

ص: 20


1- انظر: نهاية الدراية 1: 19.

الصغرى التي تنضمّ إلى المسألة الاُصوليّة الواقعة في رتبة الكبرى.

فعلم الرجال - مثلاً - يتكفّل بتشخيص خبر الثقة، وأمّا المسألة الاصوليّة فنتيجتها حجّيّة خبر الثقة.

وصورة القياس من المسألة الاُصوليّة والاُخرى الرجاليّة كأن يقال:

إنّ وجوب صلاة الجمعة ممّا أخبر به الثقة.

وكلّ ما أخبر به الثقة يجب اتّباعه.فتكون النتيجة: وجوب صلاة الجمعة.

وبعبارةٍ ثانية:

فالفرق بين المسألة الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم: أنّ هذه الأخيرة بالنسبة إلى علم الاُصول إنّما تكون من المبادئ، أي: أنّها خارجة عن علم الاُصول ومن مبادئه والمعدّات له، فلا تذكر فيه إلّا على سبيل الاستطراد، وذلك كما لو بحث في علم الاُصول عن كلمة «الصعيد» هل هي ظاهرة في مطلق وجه الأرض أو التراب الخ الص؟ فإنّ هذا البحث لا يمكن أن يدّعى فيه كونه اُصوليّاً، كما هو أوضح من أن يخفى.

الأمر الرابع: موضوع علم الاُصول

جرت عادة المصنّفين واستقرّ ديدنهم على التمهيد لأبحاثهم باُمورٍ درجوا على بحثها تحت عنوان (المقدّمة). وقد تعارفوا على تسمية هذه الاُمور ﺑ «المبادئ»، لما لها من دخلٍ بالعلم الذي هم بصدد التصنيف فيه.

ومن جملة الاُمور التي بحثوها في المقدّمة: بحث «موضوع العلم»،

ص: 21

وأنّه هل يجب أن يكون للعلم موضوع أم لا؟ وأنّه على فرض وجوبه، فهل يجب في هذا الموضوع أن يكون أمراً شخصيّاً نظير: الكلمة والكلام في علم النحو؟ أم يكفي فيه أن يكون كلّيّاً وعامّاً، كما في: (عمل المكلّف)، الذي هو الموضوع لعلم الفقه.

مذهب الاُستاذ الأعظم(قدس سره):

اختار اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أنّه لا دليل على اقتضاء كلّ علمٍ وجود الموضوع، وتقرير كلامه - على نحو الاختصار - كما يلي:إنّ غاي-ة ما قي-ل - أو يم-كن أن يق-ال - في لزوم الموضوع في كلّ علمٍ:

إنّ الغرض من أيّ علمٍ من العلوم أمر وحدانيّ، فالغرض من علم الاُصول - مثلاً - هو: (الاقتدار على الاستنباط)، ومن علم النحو: (صون اللّسان عن الخطأ في المقال)، ومن علم المنطق: (صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج)، وحيث إنّ هذا الغرض الواحد يترتّب على مجموع القضايا التي بالرغم من تباينها في الموضوعات والمحمولات، دوّنت في علمٍ واحدٍ، واُعطيت اسماً فارداً؛ فإنّه يستحيل - لذلك - أن يكون المؤثّر في هذا الغرض هو هذه القضايا بهذه الصفة؛ لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير ف-ي الواحد بما هو واحد، ممّا يكشف إنّاً عن أنّ المؤثّر فيه جامع ذاتيّ وحدانيّ بقانون أنّ (الواحد لايصدر إلّا من واحدٍ).

إلّا أنّ هذا البرهان المزبور لا ينهض لإثبات المدّعى؛ إذ يرد عليه:

ص: 22

أنّه، وإن سلّم في العلة والمعلول الطبيعيّين - دون الفواعل الإراديّة - إلّا أنّه إنّما يكون صحيحاً بالنسبة الى العلّة التي تكون بسيطةً من جميع الجهات، وإن استشكلوا فيه هناك أيضاً.

على أنّ الأصل في جريان هذه القاعدة هو العلّة الموجبة، وإن كانت قد وقعت - هناك أيضاً - محلاً للنّقاش(1).

وأمّا اُستاذنا المحقّق(قدس سره)(2) فقد قسّم العلوم إلى قسمين:

القسم الأوّل: ما دوّن لأجل معرفة حقائق الأشياء. والعلوم من هذا القسم لا بدّ لها من موضوع، بل - والتعبير للمحقّق(قدس سره) نفسه -: «لا يمكن أن لا يكون لها موضوع، بلالقول بعدمه خلف، لأنّ المفروض، كما بيّنّاه، أنّهم عيّنوا حقيقةً من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها ومفاد هلّيّتها المركّبة»، كما هو الحال في علم الفلسفة.

والقسم الآخر: هو مجموع القضايا التي تختلف في الموضوعات والمحمولات، ولكنّها مع ذلك، جمعت ودوّنت لأجل غرض خاص وترتّب غاية مخصوصة عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية ما دوّنت ولا جمعت، فالذي تكفّل بجمع المسائل في هذا القسم ليس إلّا تلك الغاية(3).

ص: 23


1- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 25.
2- مرادنا من «الاُستاذ المحقّق»: وحيد عصره ونادرة دهره، آية الله العظمى السّيّد البجنورديّ(قدس سره).
3- راجع: منتهى الاُصول 1: 7.

وأمّا المحقّق العراقيّ): فقد ذهب إلى أنّ وحدة العلم لا تكون بوحدة الاعتبار بل هي إنّما تكون بوحدة الغرض. قال(قدس سره):

«إنّ وحدة العلم وتعدّده إنّما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدّده، وعليه: فمتى كان الغرض والمهمّ واحداً كانت القواعد الدخيلة في ترتّب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علمٍ واحد وكانت تفرد بالتدوين وإن كانت متعدّدةً موضوعاً ومحمولاً»(1).

وعلى هذا الأساس: فلا يتوقّف حقيقة العلم وصيرورته علماً - بنظر المحقّق المذكور - على تحقّق جامع وحدانيٍّ بين موضوعات مسائله ليكون ذلك الجامع هو موضوع العلم.

مناقشة أدلّة القائلين بلزوم وحدة الموضوع:

الدليل الأوّل:

أنّ الغرض من أيّ علمٍ من العلوم غرض وحدانيّ يترتّب على مسائله المتشتّتة، فالغرض في علم الاُصول - مثلاً - هو الاقتدار على الاستنباط، وفي علم النحو هو صون اللّسان والقلم عن الخطأ في المقال والكتابة، وفي علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج؛ وإذا كان كذلك، لم يمكن لهذا الغرض الوحدانيّ أن يكون مترتّباً على مجموع القضايا المتباينة من حيث الموضوع والمحمول، وإن جعلت معاً في علمٍ واحد؛

ص: 24


1- نهاية الأفكار 1: 9- 11.

إذ لا يمكن أن تكون هذه القضايا - لاختلافها - مؤثّرةً في شيء واحد؛ لأنّ لازم ذلك: تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد، وهو محال؛ وذلك لما قرّر في محلّه، من أنّ الاُمور المتباينة لا يمكن أن يكون لها أثر واحد، لقاع-دتي: «الواح-د لايصدر إلّا من الواحد»، أي: أنّ كلّ معلولٍ لا بدّ له من علّةٍ واحدة، و«أنّ الواحد لايصدر عنه إلّا الواحد»، أي: أنّ العلّة الواحدة لا يكون لها إلّا معلول واحد.

وهو واضح إذا التفتنا إلى المبدأ القائل بأنّه لا بدّ أن يكون هناك نوع من السنخيّة بين العلّة والمعلول، وهذه السنخيّة هي ما يبرّر صدور هذا المعلول عن هذه العلّة الخاصّة - مثلاً - وعدم صدوره عن علّةٍ اُخرى غيرها، واشتراط هذه السنخيّة لازم ولا بدّ منه، وإلّا، أمكن أن يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء، ويكون كلّ شيء علّةً لكلّ شيء.

وبالجملة: فالمعلولان المتخالفان لابدّ أن تكون علّتهما كذلك، والعلّة الخاصّة لهذا المعلول لايمكن أن تكون علّةً لمعلولٍ آخر.

وفي مقامنا، قالوا: لذلك، أي: لقاعدة الواحد، لا بدّ أن يكون المؤثّر في الغرض الوحدانيّ جامع ذاتيّ وحدانيّ، وهو الموضوع للعلم. فلكلّ علمٍ - إذاً - موضوع واحد.ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ هاتين القاعدتين لا تجريان في الواحد بالنوع، بل محلّهما الواحد البسيط من جميع الجهات، وهو ذات الباري تعالى، حيث يُقال:

ص: 25

إنّ ذات الواجب تعالى، بما أنّه بسيط من جميع الجهات، فلا يمكن أن يكون له معلولات متعدّدة؛ لأنّ هذا يفترض أن يكون لكلّ معلولٍ جهة في ذاته، ولازم ذلك تركيب ذات الواجب، وهو محال. وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.

وثانياً: لا نسلّم أنّ هاتين القاعدتين تأتيان هناك أيضاً.

وثالثاً: يمكن أن يقال: بأنّ هذا الدليل إنّما يتمّ في مورد العلّة الموجبة - ولو أنّها في ذلك المورد أيضاً محلّ كلام كما نبّهنا عليه سابقاً -.

وأمّا الباري سبحانه، فبما أنّه تعالى فاعل مختار، فإنّ هذا الكلام لايصحّ في حقّه البتّة، بل يمكن أن يصدر عنه الأشياء الكثيرة المتباينة. وتفصيل الكلام في هذه المسألة في محلّه.

وأمّا ما أُورد على هذا الدليل من أنّ أغراض العلوم المذكورة - مثلاً - لا يمكن أن تترتّب على نفس مسائل العلم في حدّ ذاتها، وإلّا - لو كان الأمر كذلك - للزم ألّا يقع أيّ خطأٍ في الفكر أو المقال بعد تعلّم تلك المسائل وتحصيلها.

فقد أُجيب عنه: بأنّ مسائل كلّ علمٍ تكون - هي في نفسها - سبباً في ترتّب الغرض، وليست بعلّةٍ تامّة له، وإذا كان كذلك، فلا يكون تعلّم تلك المسائل موجباً لترتّب الغرض دائماً، بل إنّما يوجبه عند توفّر الشرائط وفقد الموانع فقط.

ص: 26

ومن هنا، كان من الأحسن أن يقال: إنّ تعلّم المسائل في علم المنطق أو النحو - مثلاً - ليس علّةً تامّةً لعدم الخطأ في الفكر أو المقال، بحيث لا يتخلّف ذلك عنتعلّمها، بل إنّما يكون تعلّمها سبباً لترتّب الغرض إذا وجدت الشرائط وفقدت الموانع.

والدليل الثاني:

أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع، لأنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات.

وخالف في ذلك صاحب الكفاية) الذي ذهب إلى أنّ تمايز العلوم يكون بالتمايز بين أغراضها المترتّبة على المسائل المختلفة موضوعاً ومحمولاً، لا بتمايز الموضوعات، كما قد اشتهر بينهم؛ وذلك لتحسين العقلاء تدوين علمٍ واحدٍ للمسائل التي يترتّب عليها غرض واحد، وإن كانت هذه المسائل متشتّتةً ومختلفةً من حيث الموضوع والمحمول، وبالعكس أيضاً: لتقبيحهم تدوين علمٍ واحدٍ للمسائل التي يتعدّد الغرض المترتّب عليها، ولو كان الموضوع في جميعها واحداً (1).

ص: 27


1- كفاية الاُصول: 7- 8. وإليك نصّ كلامه(قدس سره): «وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل؛ فإنّ حُسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة أو أزيد في جملة مسائلهما المختلفة لأجل مهمّين ممّا لا يخفى. وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان كلّ باب، بل كلّ مسألة من كلّ علم علماً على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، كما لا يكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد».

ولكن، يمكن أن يجاب عن ذلك:

بأنّ الغرض من العلم ليس إلّا الفوائد المترتّبة على نفس المسائل. وبديهيّ أنّ هذه الفوائد تكون متأخّرةً في الرتبة عن المسائل نفسها، وحينئذٍ: ففي مقام التعريف والتمايز، فلا محالة يكون التعريف بنفس المسائل أولى، إذ هي الأسبق رتبةً.

وربّما يستشكل على هذا الدليل أيضاً - ودفاعاً عن صاحب الكفاية(قدس سره) - بما حاصله:

أنّ التمايز بين العلوم لو كان بتمايز موضوعاتها، فلو وجد علمان - أو أكثر -، وكانا متّحدين في موضوعهما، كما هي الحال بالنسبة إلى علمي النحو والصرف،المشتركين في أنّ موضوعهما هو: الكلمة والكلام اجمالاً، فحينئذٍ، كيف يمكن التمييز بينهما؟ ويُجاب عنه: بأنّ الكلمة والكلام لا يقعان موضوعين لهذين العلمين من حيثيّةٍ واحدة وبنفس اللّحاظ، بل بحيثيّتين ولحاظين مختلفين، فإنّ موضوع علم النحو هو: الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء، وأمّا موضوع علم الصرف: فهو الكلمة، ولكن من حيث الصحّة والاعتلال.

ولكن قد يستشكل على هذا الجواب: بأنّ الحيثيّة المذكورة، هل هي حيثيّة تعليليّة أم أنّها تقييديّة؟ أمّا الاُولى: فلا معنى لها هنا، وأمّا الثانية: فهي لا تجدي نفعاً؛ لأنّها لا تصلح للتمييز بين العلمين المذكورين؛ إذ

ص: 28

الكلمة حال تقييدها بحيثيّة الإعراب والبناء يبحث عنها في علم الفصاحة أيضاً.

ولكن يجاب عنه: بأنّ المراد من التقييد بالحيثيّة ليس هو حال التقييد بها، بل المراد: أنّ التقييد بها شرط.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات، لا بتمايز الأغراض، ولا أيضاً بتمايز المحمولات - على فرض اختلافها كما في مسألتي: (الفاعل مرفوع) و(الفاعل ركن) -.

أمّا عدم كون الملاك في تمايز العلوم هو التمايز بالمحمولات: فلأنّه يقتضي أنّ المسائل المختلفة من حيث المحمول تكون علوماً مختلفةً، وهو ما لم يلتزم به أحد.

على أنّه لو سلّم حصول تمايز العلوم أحياناً بتمايز المحمولات، إلّا أنّه مع ذلك، فالقول بكون التمايز بالموضوع هو الملاك لتمايز العلوم أولى نظراً لأسبقيّة الموضوع وتقدّمه على المحمول رتبةً.وأمّا عدم كون الملاك هو التمايز بالأغراض، فلجواز أن يكون لدينا علمان يشتركان في غرضٍ واحد، كما هو الحال في علمي النحو والصرف، فإنّ الغرض منهما واحد، وهو: صون اللّسان عن الخطأ في المقال، ومع ذلك، فقد جعلا علمين مستقلّين.

فالحقّ: أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة لهذا الموضوع، وبه يمتاز عن غيره من العلوم.

ص: 29

اعتراض الاُستاذين: الخوئيّ والبجنورديّ(رحمة الله):

وقد اعترض على ذلك كلا الاُستاذين(1) بما حاصله:

أنّه إن اُريد من الجامع: الجامع الذاتيّ الماهويّ، حتى تكون نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى أفراده، فهذا غير ممكن؛ لأنّ موضوعات مسائل الفقه - مثلاً - بعضها يندرج تحت مقولة الجوهر، كالماء والدم والمنيّ، وبعضها تحت مقولة الوضع، كالقيام والركوع والسجود، وثالث تحت مقولة الكيف المسموع، كالقراءة في الصلاة ونحوها، وآخر تحت الاُمور العدميّة، كالتروك في بابي الصوم والحجّ. فإنّ ترك المفطرات - كما ذكر المحقّق العراقيّ(رحمة الله) - يكون واجباً، حيث كان فعلها محرّماً.

بل حتّى لو فرضنا القدرة على تصوير الجامع الذاتيّ بين المسائل المختلفة؛ فإنّ ذلك لا يجدي أيضاً، إذ من المعلوم أنّ العوارض المبحوث عنها في علم الفقه - مثلاً - ليست ذاتيّةً لموضوعه الذي هو فعل المكلّف، فإنّ الفقه يبحث فيه عن الأحكام الخمسة، وواضح أنّ أيّ واحدٍ من هذه الأحكام الخمسة لا يعرض على فعل المكلفبما هو فعله مطلقاً، فالوجوب - مثلاً - لا يعرض على فعله بما هو فعله مطلقاً، بل بما هو صلاة، فالخصوصية الصلاتيّة التي يتقيّد بها الفعل مقوّمة لمتعلّق

ص: 30


1- راجع محاضرات في الاُصول 1: 24، ومنتهى الاُصول 1: 9.

الوجوب، وكذا الحال في بقيّة العبادات..

ومن هنا، فلو أتى بالصلاة غير قاصدٍ عنوانها، بل كان قاصداً إلى مجرّد عنوان الفعل، أي: من حيث هو فعل صادر عن المكلّف، لما صحّ منه ذلك.

وعليه:

وبما أنّ هذه العناوين والاعتبارات والخصوصيّات دخيلة في متعلّق الحكم والتكليف، وهي اُمور مختلفة متشتّتة، فلذا لم يكن من الممكن فرض وجود جامعٍ ماهويٍّ بينها، بل كما قال اُستاذنا الأعظم(رحمة الله):

«أنّه لا يعقل وجود جامع ذاتيّ بين المقولات: كالجواهر والأعراض، لأنّها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة، فلا اشتراك أصلاً، بين مقولة الجوهر مع شيءٍ من المقولات العرضيّة، ولا بين كلّ واحدةٍ منها مع الاُخرى، وإذا لم يعقل تحقّق جامع مقوليّ بينها فكيف بين الوجود والعدم؟(قدس سره)»(1).

هذا كلّه إذا اُريد من الجامع: الجامع الذاتيّ المقوليّ.

وأمّا إذا قلنا: بأنّ المراد به: الجامع العرضيّ. فيرد عليه حينئذٍ:

أنّ المحمولات، هي أيضاً، يمكن فيها تصوير الجامع من هذا القبيل، فلماذا لا يكون تمايز العلوم بتمايز المحمولات؟

ص: 31


1- محاضرات في الاُصول 1: 25.

وأيضاً: فإنّ القول بالجامع العرضيّ لا يوافق ما ذهبوا إليه في بيان المقصود من موضوع العلم من أنّ «موضوع كلّ علمٍ هو ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتيّة»؛ إذ أنّى لمحمولات المسائل أن تكون من العوارض الذاتية لذلك الموضوع، والذي هو - بحسب الفرض - المفهوم العامّ العرضيّ؟(قدس سره)ولكنّ الحقّ: أنّ مسائل علم الفقه، وإن كانت ترجع إلى قضايا جعليّةٍ واعتباريّة، إلّا أنّه - ومع ذلك - فبالإمكان تصوير موضوعٍ يكون جامعاً حقيقيّاً لموضوعاتها؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت - كما قلنا - عبارةً عن قضايا اعتباريّة بلحاظ أنّها لا توجد ولا تثبت إلّا باعتبار المعتبر وإنشائه، إلّا أنّها بلحاظٍ آخر، وهو لحاظ نفس الاعتبار ومبادئ الحكم، تكون حقيقيّةً وتندرج تحت مقولة الكيف النفسانيّ.

وبهذا اللّحاظ لا يكون ثمّة محذور أصلاً في تصوير الجامع الحقيقيّ، بل يكون ذلك ممكناً، خلافاً لما ذهب إليه الاُستاذ الأعظم) وجمع من المحقّقين من تلامذته، متذرّعين لذلك بما عرفت فساده من أنّ: المسائل في مثل علم الفقه قضايا جعليّة اعتباريّة، فلا يعقل في حقّها الجامع الحقيقيّ، لأنّ الجامع الحقيقيّ لا بدّ وأن يكون من سنخ أفراده، فإذا كانت هي جعليّةً واعتباريّةً بحسب الفرض، فكيف يتأتّى بعد ذلك أن يفرض لها جامع حقيقيّ وغير اعتباريّ؟

ص: 32

تمايز العلوم فيما بينها بأيّ شيءٍ هو؟

ثمّ إنّ اُستاذنا المحقّق)، بعد ذهابه إلى أنّ تمايز العلوم إنّما يتحقّق بتمايز الأغراض لا الموضوعات، قال:

«ولا أدري(قدس سره)(قدس سره) أيّ ملزمٍ ألزمهم بالقول بوجود موضوعٍ واحد جامعٍ لجميع موضوعات المسائل...، حتى أنّ صاحب الكفاية(قدس سره) - بعدما يئس من تعيين موضوعٍ كلّيٍّ متّحدٍ مع موضوعات مسائل علم الاُصول - قال بوجود جامعٍ مجهول العنوان(1)، كأنّه نزلوحي سماويّ أو دلّ دليل عقليّ ضروريّ على وجود موضوعٍ كلّيٍّ جامعٍ لجميع موضوعات المسائل في كلّ علم»(2).

إلّا أنّه(قدس سره) عاد، بعد هذا الإنكار، ليعترف بأنّه لا بدّ من فرض وجود الموضوع في بعض العلوم، ونحن قد نقلنا عنه سابقاً أنّه يقسّم العلوم إلى قسمين، وأحد هذين القسمين «لا يمكن أن لا يكون لها موضوع، بل القول بعدمه خلف، لأنّ المفروض، كما بيّنّاه، أنّهم عيّنوا حقيقةً من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها ومفاد هلّيّتها المركّبة - إلى أن يقول(قدس سره) -: كما أنّهم عرّفوا الحكمة بأنّها: العلم بأحوال أعيان الموجودات على قدر الطاقة البشريّة، وجعلوا موضوعها مفهوماً عامّاً يشمل جميع

ص: 33


1- انظر: كفاية الاُصول: 8.
2- منتهى الاُصول 1: 7 - 8.

الحقائق، وهو مفهوم الموجود. وبهذا الاعتبار يقسّمون الحكمة إلى النظريّة والعمليّة، والنظريّة إلى الإلهيّة و الطبيعيّة والرياضيّة. فهي - بهذا الاعتبار - علم واحد، له موضوع واحد مندرج فيه جميع العلوم الحقيقيّة التي ليس الغرض منها إلّا معرفة حقائق الأشياء، ولكنّهم - مع ذلك - أفردوا البحث عن بعض الحقائق و جعلوه عامّاً على حده، وسمّوه باسم مخصوص - إلى أن يقول -: وقسم آخر عبارة عن مجموع قضايا مختلفة الموضوعات والمحمولات، جمعت ودوّنت لأجل غرضٍ خاصّ، وترتّب غايةٍ مخصوصةٍ عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية لم تدوّن تلك المسائل ولم تجمع، ولا فائدة في معرفتها وتسميتها باسمٍ مخصوص»(1). هذا تمام كلامه(قدس سره) نقلناه مع شيءٍ من الاختصار.وملخّص القول: أنّ اُستاذنا المحقّق) كان يرى بأنّ بعض العلوم - كما عرفت - يحتاج إلى الموضوع.

وهو - أيضاً - ما تبنّاه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) عندما قال: «الثاني: أنّه لامنافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم، و بين أن يكون لبعض العلوم موضوع، وذلك لأنّ ما ذكرناه إنّما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كلّ علم..»(2)؛ لأنّه لو قلنا بإمكان الموضوع، فلابدّ أن نلتزم بوجود الموضوع لكلّ

ص: 34


1- راجع: منتهى الاُصول 1: 6 - 7.
2- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 27.

علمٍ، أو أن لا نلتزم به أصلاً، حتّى بالنسبة إلى بعض العلوم، ضرورة أنّ أدلّة العقل وأحكامه أبيّة عن التخصيص.

فالحقّ: أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوع، لا الأغراض، وأنّ قاعدة: إنّ كلّ علمٍ لا بدّ له من موضوعٍ واحدٍ تدور حوله بحوثه، ويمتاز به عن غيره من العلوم، هذه القاعدة، تشير إلى مطلبٍ ارتكازيٍّ.

ومن هنا ظهر الجواب عمّا أشار إليه الاُستاذ المحقّق بقوله: «ولا أدري(قدس سره) أيّ ملزمٍ ألزمهم بالقول بوجود موضوع واحد.... إلخ»:

إمّا بما ذكرناه آنفاً: من أنّ المحمولات متأخّرة في الرتبة عن نفس الموضوعات، فالتعريف والتمييز بالموضوع يكون أولى؛ لمكان أسبقيّته.

وإمّا بأنّ المحقّقين من العلماء متّفقون على أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع، ولا يضرّ أن يكون الموضوع هو الكلّيّ الذي يكون عين وجود أفراده في الخارج. وهذا الجامع حقيقيّ، وليس عرضيّاً ومن قبيل المفاهيم العامّة، كما لا يخفى تماماً، كالذي ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) تحت عنوان: القسم الأوّل من العلوم.نعم، يبقى الإشكال بأنّ موضوعات المسائل الفقهيّة بعضها يندرج تحت مقولة الجوهر، كالدم، وبعضها الآخر من قبيل الأعراض، ولا جامع حقيقيّ بين الجوهر والعرض.

وكيف كان، فينبغي أن يعلم:

ص: 35

أنّه يكفي في التمييز تصوير جامعٍ بين الموضوعات، ولسنا بحاجةٍ إلى تصوير جامعٍ بين المحمولات والموضوعات معاً - كما نسب الى المحقّق العراقيّ) -(1) مضافاً إلى أنّه لم يلتزم به أحد.

وممّا ذكرنا عرفت أنّه يمكن أن يتصوّر للعلم موضوع، ويكون هذا الموضوع هو الجامع، كما أنّ هذا الموضوع الجامع هو - في المحصّلة - ما يكون مناطاً لوحدة العلم، لا الغرض.

خلافاً لما يظهر من قول اُستاذنا المحقّق(قدس سره): «أنّ وحدة العلم بوحدة الغرض لا الموضوع، وأنّ القضية الواحدة يمكن أن تترتب عليها غاية واحدة بسيطة مع اختلاف موضوعها مع محمولها»(2)؛ فإنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامٍّ بعد الذي ذكرناه من أنّ موضوع العلم هو الكلّيّ الذي يكون نفس موضوعات المسائل خارجاً.

نعم، إنّما يرد هذا الإشكال، لو تصوّرنا الموضوع أمراً شخصيّاً. هذا.

وقد ظهر ممّا قدّمناه - أيضاً -:

ص: 36


1- نسبه إليه صاحب منتهى الاُصول 1: 8، وتجده أيضاً في نهاية الأفكار 1: 9.
2- منتهى الاُصول 1: 8. أقول: الموجود في منتهى الاُصول ما يلي: «لأنّ مناط وحدة القضيّة والعلم التصديقيّ وحدة الحكم لا وحدة الموضوع والمحمول، والقضيّة الواحدة يمكن أن تترتّب عليها غاية واحدة بسيطة مع اختلاف موضوعها مع محمولها». وأنت خبير بأنّ هذه العبارة أجنبيّة عن كون المناط في وحدة العلم - بمعنى: الفنّ، ونفس المسائل - هو وحدة الغرض.

عدم تماميّة ما ذكره الاُستاذ الأعظم) من أنّه «لا دليل على اقتضاء كلّ علم وجود الموضوع، بل سبق: أنّ حقيقة العلم عبارة عن جملةٍ من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرضٍ واحدٍ دعا إلى تدوينها علماً»(1).

وذلك لما ذكرناه - غير مرّة - من أنّ الدليل على هذا الاقتضاء موجود، وهو الأسبقيّة والأولويّة وشبه الاتّفاق بين المحقّقين على أنّ تمايز العلوم يكون بالموضوع لا بالغرض، بل - وكما قال بعض المحقّقين المعاصرين(قدس سره) - فإنّ «قاعدة أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً تدور حوله بحوثه، ويمتاز به عن غيره من العلوم، تشير إلى مطلبٍ ارتكازيٍّ مقبولٍ بأدنى تأمّل»(2).

العوارض الذاتيّة

المشهور بينهم: أنّ موضوع كلّ علمٍ هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، بلا خلافٍ في ذلك.

والمشهور بينهم - أيضاً -: أنّ الأعراض تنقسم إلى أقسامٍ سبعة، على خلافٍ - نقل - بين القدماء والمتأخّرين في تفسير معنى العرض.

فقيل: إنّ (العوارض) جمع ﻟ (عرض)، وإنّ المراد به هنا: مطلق ما يحمل على الشيء ممّا يكون خارجاً عنه، وهو المعبّر عنه في لسان

ص: 37


1- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 25.
2- بحوث في علم الاُصول 1: 41.

أهل المعقول ﺑ(العرضيّ)، كالبياض والسواد. وأمّا (العرض) الذي هو مقابل للجوهر فهو ليس مشمولاً له، كما قال المحقّق السبزواريّ في منظومته(1):

وعرضيّ الشيء غير العرض*** ذا كالبياض ذاك مثل الأبيض.

فالذي هو العرض حقيقةً هو البياض، لا الأبيض، وإنّما الأبيض ذات ثبت له البياض.

والعرض بهذا المعنى - أعني: العرضيّ - ينقسم إلى الخاصة والعرض العامّ، وهما محمولان خارجان عن ذات موضوعيهما، بل ربّما اتّسع ليشمل غير ذلك أيضاً، أي: المحمول الذي يكون من ذاتيّات الموضوع، كالجنس المحمول على النوع، كما في: (الإنسان حيوان)، وعلى الفصل، كما في: (الناطق حيوان).

أقول: المراد من (العرض) الذي يقع محلاً للبحث في هذا العلم إنّما هو القسم الأوّل خاصّةً، دون الثاني، أي أنّ المراد به هنا: خصوص المحمول الذي يكون خارجاً عن ذات الموضوع، دون ما يكون مقوّماً له ومن ذاتيّاته.

كما أنّه لا يراد من (العرض) هنا: مطلق ما يحمل على الشيء كما ذكره اُستاذنا الأعظم(قدس سره)(2).

ص: 38


1- غرر الفرائد (شرح منظومة السّبزواريّ(قدس سره)): ص 39.
2- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 25.

تقسيم العرض

وإذا اتّضح ذلك نقول: ينقسم العرض عندهم إلى عرض ذاتيّ وعرض غريب. وذلك أنّهم قالوا:العرض:

1) إمّا أن يلحق الشيء لذاته، كالتعجّب للإنسان.

2) أو لجزئه المساوي، كالتكلّم العارض للإنسان بواسطة الناطق الذي هو ذاتيّ ومساوٍ له.

3) أو للخارج عنه المساوي له، كالضحك الذي يعرض للإنسان بواسطة التعجّب، وهو وإن كان خارجاً عن ذات الإنسان، إلّا أنّه مساوٍ له.

4) أو لجزئه الأعمّ، كالحركة الإراديّة التي تعرض للإنسان بواسطة الحيوان، والذي هو جزؤه الأعمّ.

5) أو للخارج الأعمّ، كالتحيّز العارض للأبيض بواسطة الجسم، وهو خارج عن حقيقة الأبيض.

6) أو للخارج الأخصّ، كالضحك الذي يعرض الحيوان بواسطة الإنسان، وهو - كما هو واضح - أخصّ من الحيوان.

7) أو بواسطة الأمر المباين، كالحرارة العارضة للماء بواسطة أمرٍ مباينٍ له، وهو النار.

ص: 39

وقد وقع الخلاف بينهم في العارض للجزء الأعمّ: فعن القدماء: أنّه من العوارض الغريبة.

ولكنّ ما نسب الى بعض المتقدّمين - وهو المشهور لدى المتأخرين - أنّه من جملة العوارض الذاتيّة.

وعلى كلّ حال، فقد رأى جماعة من المحقّقين - منهم: صاحب الكفاية والمحقّقان النائينيّ والعراقيّ) (1) -:أنّه بناءً على التعريف الذي تبنّاه القوم لمفهوم (موضوع العلم)، فإنّ البحث عن كثيرٍ من مسائل العلوم سوف يكون - لا محالة - بحثاً عن العوارض الغريبة لهذا الموضوع.

ومن هنا، وجدوا أنّه لا محيص من العدول عن التفسير المشهور للقوم واعتماد تفسيرٍ آخر، حاصله: أنّ المناط في كون العرض ذاتيّاً، هو ألّا يتوسّط بين العرض وبين معروضه أيّ شيءٍ آخر يكون هو المعروض في الحقيقة.

ولذا، فقد عرّفه الآخوند الخراسانيّ) في الكفاية، بأنّه: «ما يعرض للشّيء بلا واسطةٍ في العروض»(2).

ومن هنا، كان لا بدّ - أوّلاً وقبل كلّ شيء - من بيان وتحديد ما هو المقصود من (الواسطة)، فنقول:

ص: 40


1- انظر: كفاية الاُصول: 7، وفوائد الاُصول 1: 21، ونهاية الأفكار 1: 16- 18.
2- كفاية الاُصول: 7.

الواسطة تارةً تكون واسطةً في العروض، وثانيةً واسطة في الثبوت، وثالثةً في الإثبات.

والواسطة - أيضاً -: تارةً تكون جليّة، كالحركة للسّفينة، واُخرى تكون خفيّةً، كالسطح الذي هو واسطة في نسبة البياض الى الجسم، فإنّه في الحقيقة والواقع يعرض على السطح، ولو كان بنظر العرف ليس عارضاً عليه، بل على الجسم.

فأمّا الواسطة في الثبوت، فالمقصود بها: ما كان علّةً لثبوت العرض لمعروضه حقيقةً، بلا فرق بين أن يكون هذا العرض قائماً به، كالنار التي تكون واسطةً في عروض الحرارة للماء؛ أم لا، كالحركة التي تكون سبباً وعلّةً لعروض الحرارة على الجسم.وأمّا الواسطة في الإثبات، فيراد منها: ما يكون علّةً للعلم بوجود الشيء، كعلّيّة العلم بالدخان للعلم بوجود النار.

وأمّا الواسطة في العروض، فهي: أن ينسب العرض إلى الواسطة حقيقةً، وإلى ذي الواسطة مجازاً، كحركة السفينة، فإنّها - أي: الحركة - محمولة على السفينة حقيقةً، وتنسب الى الجالس فيها مجازاً.

العرض الذاتيّ بين المتقدّمين والمتأخّرين

إذا عرفت هذا، فاعلم:

أنّ المعيار في صدق العرض الذاتيّ عند المتأخّرين من المحقّقين،

ص: 41

هو أنّه: ما يصحّ حمله على الشيء بلا عنايةٍ وتجوّز في، فالعرض الذاتيّ عندهم هو كلّ ما يصحّ حمله على الشيء وإسناده إليه حقيقةً.

أو فقل: هو كون العارض محمولاً حقيقةً على المعروض، ويكون إسن-اده إليه من إسناد الشيء إلى ما هو له، بحيث لا يصحّ سلبه عنه حقيقةً.

ففي علم النحو - مثلاً -: لمّا كان يصحّ حمل عوارض النوع، كالرفع الع-ارض للفاعل والنصب العارض للمفعول، على الجنس - وهو الكلمة - حقيقةً، فإنّ البحث عن رفع الفاعل ونصب المفعول في هذا العلم، وإن كان بحثاً عن أعراض أنواع الكلمة - والتي هي موضوع علم النحو - لا نفسها، إلّا أنّه يصدق عليه حقيقةً أنّه بحث عن الكلمة نفسها، وذلك لإمكان حمل هذه العوارض على الكلمة وإسنادها إليها حقيقةً ومن باب إسناد الشيء إلى ما هو له.وعلى هذا الأساس، فلا يكون للعرض الذاتيّ إلّا مصداق واحد، وهو ما كان عروضه للشيء بلا بواسطةٍ في العروض، كحركة السفينة بالنسبة الى الجالس فيها؛ فإنّها بالنسبة إليه مجاز، وبالنسبة إلى السفينة حقيقة.

وجميع ما لا يكون عروضه بواسطةٍ في العروض، فهو عندهم داخل في العرض الذاتيّ، حتّى ذاك الذي يكون عروضه للشيء بواسطة أمرٍ مباينٍ له وخارجٍ عنه، كعروض الحرارة للماء، بواسطة الأمر المباين له وهو النار؛ إذ ما دام عروضها للماء حقيقيّاً، بحيث لا يصحّ سلبها عنه في

ص: 42

الحقيقة، فتكون بالنسبة إلى الماء من أعراضه الذاتيّة، ولو أنّ عروضها عليه لم يكن إلّا بواسطة مباينه.

وأمّا بناءً على تعريف القوم؛ فإنّ هذا يكون داخلاً في العرض الغريب.

ولكنّ تعريف المتأخّرين أحسن ممّا ذكروه؛ وذلك لسلامته من أن يخرج عن العلم جلّ مسائله، ألا ترى أنّ الرفع والنصب المبحوث عنهما في علم النحو، لا يعرضان على الكلمة والكلام إلّا بواسطة الفاعليّة والمفعوليّة، اللّذان هما بالنسبة إلى الكلمة والكلام من قبيل الخارج الأخصّ، فلا يندرجان في الأعراض الذاتيّة إلّا إذا أخذنا بتعريف المتأخّرين؟! وكذا الحال فيما يرتبط بالبحث عن حجيّة الخبر الواحد في علم الاُصول - مثلاً -، فإنّ الحجيّة، وإن كانت لا تعرض على الخبر إلّا بواسطة الجعل الذي هو مباين لنفس الخبر، إلّا أنّ البحث عنها مع ذلك بحث عمّا هو من الأعراض الذاتيّة، لكونها محمولةً على الخبر حقيقةً ولا يمكن سلبها عنه.

اعتراض المحقّق الأصفهانيّ:

ومن هنا ظهر: عدم ورود الإشكال الذي أفاده المحقّق الأصفهانيّ) وحاصله: أنّ مسائل العلوم كثيراً ما تشتمل على البحث عمّا لا يكون عرضاً ذاتيّاً لموضوع العلم، لدخالته في الغرض المطلوب(1).

ص: 43


1- نهاية الدراية: 1: 3.

وكذا لا يرد ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) - في السياق عينه - من أنّ ما يبحث عنه في العلم قد لا يكون من العوارض الذاتيّة لموضوعات المسائل، فضلاً عن موضوع العلم، وذلك لترتّب الغرض عليه، كما هي الحال في كثيرٍ من المحمولات في مسائل علم الفقه(1).

وجه عدم الورود: أنّ المقصود من العوارض الذاتيّة عند صاحب الكفاية(قدس سره): ما لا تكون أعراضاً غريبة.

ولذلك قال(قدس سره): «بلا واسطة في العروض»(2).

تعريف موضوع العلم

قال صاحب الكفاية) في تعريفه: «وهو نفس موضوعات مسائله عيناً»(3).

وقد يشكل فيه: بأنّ موضوع المسألة في بعض العلوم قد يكون جزءاً من موضوع العل-م، لا عينه ومتّحداً مع-ه، وذلك كما في علم الطبّ - مثلاً - فإنّ موضوعه هو بدن الإنسان إجمالاً، مع أنّ ما يبحث عنه في هذا العلم هو أجزاؤه،كالرأس والرقبة واليد والرجل وغيرها، والكلّ - كما لا يخفى - لا يصدق على الجزء، ولا ينطبق عليه خارجاً،

ص: 44


1- محاضرات في اُصول الفقه: 1: 29.
2- كفاية الاُصول: 7.
3- كفاية الاُصول: 7.

وإنّما هو مباين له. وإنّما الكلّيّ هو الذي ينطبق على الجزئيّات.

ولكنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ فيما لو قلنا: بأنّ موضوع علم الطبّ هو البدن، وأمّا لو قلنا: بأنّه هو الكلّيّ، وإن لم يتشخّص، فحينئذٍ لا ورود له، كما هو ظاهر.

وبهذا التعريف لموضوع العلم، لا يرد ما ذكره علماء الميزان: من أنّ موضوع العلم قد يكون مغايراً لموضوعات مسائله، وحينئذٍ: فلا تكون محمولات المسائل أعراضاً ذاتيّةً بالنسبة إلى موضوع العلم، إذ المفروض أنّه غير موضوعات المسائل، وليس متّحداً معها.

نعم، ما يرد على صاحب الكفاية) أنّ قوله - بعد التعريف المذكور -: «وما اتّحد معها خارجاً»(1)، غير تامٍّ؛ لأنّ الاتّحاد لا ينحصر في الاتّحاد الخارجيّ، بل يشمل الاتّحاد الواقعيّ أيضاً، وبناءً على اشتراط الاتّحاد بين موضوع العلم وموضوعات المسائل خارجاً فقط، كما صنعه الآخوند) في العبارة المذكورة، تخرج المسائل المنطقيّة، فإنّ موضوعاتها من المعقولات الثانويّة باصطلاح أهل المنطق.

وهذه - كما هو معلوم - لا وجود لها في الخارج حتى يتّحد معها الموضوع خارجاً، فلذلك، لا بدّ من إصلاح العبارة أعلاه، بأن يراد من الاتّحاد: الاتّحاد الواقعيّ والنفس الأمريّ، أعمّ من أن يكون اتّحاداً في الذهن أو في الخارج. هذا.

ص: 45


1- كفاية الاُصول: 7.

وإنّ اشتراطنا في موضوع العلم أن يكون كلّيّاً ومتّحداً مع موضوعات المسائل يدفع إشكالاً آخر يمكن أن يطرح في البين، وهو: أنّهم يقولون: موضوع علم النحو - مثلاً - هو الكلمة والكلام:فإن اُريد: أنّ الموضوع لعلم النحو هو كلّ منهما على سبيل الانفراد والاستقلال، تحوّل علم النحو إلى علمين اثنين.

وإن اُريد: أنّ الموضوع له واحد معيّن منهما، لم يكن هذا الواحد المعين موضوعاً، لعدم كونه جامعاً لجميع موضوعات المسائل حينئذٍ.

وإن اُريد: أنّ الموضوع له واحد غير معيّنٍ منهما، صار الموضوع مبهماً.

وإن اُريد: أنّهما موضوع له على سبيل الاجتماع، لزم عدم صدقه على كلّ واحد من موضوعات المسائل.

وقد يقال - في الدف-اع عن صاحب الكفاية -: بأنّه(قدس سره) إنّما جعل الموضوع نفس موضوعات المسائل فراراً عن مخالفة القاعدة التي ذكرناها سابقاً - أعني: قاعدة أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، ويستحيل صدوره عن كثير - بدعوى أنّ الغرض الذي يترتّب على علم الاُصول غرض وحدانيّ، وهو: القدرة على الاستنباط، وبما أنّه وحدانيّ فارد، لم يمكن صدوره عن الكثير، أي: عن المسائل المختلفة موضوعاً ومحمولاً، فكان لا بدّ - بنظر صاحب الكفاية - من جعل الموضوع كلّياً، وإلّا، لورد عليه هذا الإشكال.

ص: 46

ولكن يجاب عنه: بأنّ مورد القاعدة - على ما أسلفنا - هو الواحد البسيط من جميع الجهات، دون ما له جهات متعدّدة، فإنّ القدرة على الاستنباط التي تترتّب على مباحث الألفاظ هي غير القدرة المترتّبة على مبحث حجّيّة الأمارات، فكما أنّ الموضوعات كثيرة ومتعدّدة، فإنّ الأغراض كذلك أيضاً. وبالجملة: فليس هناك أيّ مخالفةٍ لقاعدة الواحد، حتّى لو سلّمنا أنّها تشمل المورد أيضاً.

موضوع علم الاُصول

هل لهذا العلم موضوع أم لا؟(قدس سره)

مختار المشهور والمحقّق القمّيّ :

قد يقال - كما هو المشهور واختاره المحقّق القمّيّ)(1) -: بأنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة، بوصف دليليّتها.

ولكن قد يرد عليه: بأنّه بناءً على ذلك: يخرج عن علم الاُصول جملة من مهمّات المسائل الاُصوليّة، كمباحث الحجّيّة والأمارات وأمثالهما، لتدخل هذه المسائل - التي هي من صميم علم الاُصول - في المبادئ؛ إذ البحث عن العوارض بحث عمّا هو مفاد «كان» الناقصة لا التامّة، فلو كانت الحجّيّة قيداً للأدلّة، التي هي موضوع العلم؛ فإنّ البحث عن الحجّيّة والدليليّة - حينئذٍ - سيكون بحثاً عن وجود الموضوع، والذي هو

ص: 47


1- انظر: منتهى الدراية: 1: 15.

مفاد «كان» التامّة، فيكون البحث عن ظواهر الكتاب مثلاً، بل البحث عن حجّيّة الظواهر مطلقاً.

وكذلك، فإنّ البحث عن حجّيّة العقل والإجماع والاُصول العمليّة والملازمات العقليّة، لن يكون بحثاً عن عوارض الأدلّة، بل سيكون بحثاً عن ثبوت الموضوع.

وهذا يعني: أنّ هذه المسائل المهمّة ستدخل في مبادئ وتخرج عن مسائل الاُصول ومقاصده. هذا أوّلاً.

وثانياً: ما ذكره المحقّق العراقيّ)، من أنّ مسائل علم الاُصول تنقسم إلى أربعة أقسام:

أ - قسم يدور البحث فيه عن أنّ الأمر الكذائي حجّة أم لا، وعن تشخيص الحجّة وتمييزها عن غيرها، كمباحث الأمارات ومباحث التعادل والتراجيح.

ب - وقسم يبحث فيه عمّا ينتهي إليه أمر الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل.ج - وقسم يبحث فيه عن أحوال الألفاظ، وظهورها فيما يذكر لها من المعاني، كمباحث الألفاظ.

د - وقسم يبحث فيه عن أحوال الأحكام الخمسة، كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّمته.

ولا شيء من هذه الأقسام يبحث عن أحوال واحدٍ من الأدلّة:

ص: 48

أمّا القسم الأوّل: فلأنّه يعالج السؤال حول كون الشيء تثبت له الحجّيّة والدليليّة أم لا، لا أنّه يبحث فيه عن أحوال الدليل.

وأمّا الثاني: فلعدم ارتباطه بالأدلّة الأربعة.

وأمّا الثالث: فلأنّه يبحث عن أحوال الأحكام بما هي أحكام، من دون نظرٍ إلى كونها مستفادةً أو غير مستفادةٍ من الأدلّة.

وأمّا الرابع: فلأنّ البحث فيه ليس عن أحوال الأدلّة، بل هو يبحث عن أحوال الألفاظ بما هي ألفاظ، لا من حيث كونها من ألفاظ الكتاب والسنّة. فالبحث عن دلالة الأمر على الوجوب مثلاً، ليس بحثاً عنه بعنوان أنّه أمر واقع في الكتاب والسنّة، بل بلحاظ كونه كلاماً عرفيّاً، وبما أنّه أحد أفراد الكلام الكلّيّ والمطلق، لا بما أنّه أمر كتابيّ بخصوصه.

مختار الفصول ومناقشته:

نعم، لو فرضنا بأنّ موضوع علم الاُصول هو ذوات الأدلّة، لا بوصف الدليليّة - كما هو مختار الفصول(1) - اندرج البحث عن الحجيّة حينئذٍ في البحث عن عوارض الأدلّة، لا في المبادئ.ولكن يرد عليه الإشكال أيضاً: بخروج كثيرٍ من المسائل عن كونها مسائل اُصوليّة، كالبحث عن حجّيّة الخبر الواحد - مثلاً -، فإنّه ليس بحثاً عن عوارض الأدلّة: أمّا أنّه ليس بحثاً عن عوارض الكتاب والإجماع والعقل، فظاهر، وبلا فرقٍ بين أن تكون هذه الثلاثة موضوعاً لعلم

ص: 49


1- انظر: الفصول الغرويّة: 4.

الاُصول بذاتها، أو بوصف دليليّتها. وأمّا أنّه ليس بحثاً عن عوارض السنّة، فظاهر أيضاً، لأنّ السنّة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، بل هو بحث عن عوارض الخبر، وليس الخبر نفس السنّة حتى يكون البحث عن حجيّتها من عوارضها، كما لا يخفى.

وكذا الحال بالنسبة للبحث عن حجّيّة أحد الخبرين - أعني: مبحث التعادل والتراجيح - فإنّه أيضاً ليس بحثاً عن حجّيّة الأدلّة، سواء كانت النتيجة هي الترجيح أو التخيير.. وهكذا أيضاً: البحث عن المرجّحات ومباحث الملازمات العقليّة، فإنّ البحث في مسألة الملازمات يرجع إلى البحث عن الاستحالة والإمكان، وهذا ليس بحثاً عن أحوال الأدلّة مطلقاً.

فإن قلت: لا نحتاج إلى العدول عن الرأي المشهور، وهو - كما مرّ -: أنّ الموضوع لعلم الاُصول هي الأدلّة الأربعة بوصف الدليليّة، ولا إلى ما اختاره صاحب الفصول) من أنّ الموضوع هو ذوات الأدلّة، لا نحتاج إلى ذلك، لكي ندخل مسألة حجيّة خبر الواحد في المسائل الاُصوليّة، ولكي يكون البحث عن حجيّة الخبر بحثاً عمّا هو من عوارض الموضوع.

وذلك لأنّه بناءً على أن يكون الموضوع هو الأدلّة بوصف الدليليّة أيضاً، فإنّ البحث المذكور يكون بحثاً عن عوارض السنّة؛ إذ البحث عن حجّيّة الخبر يرجع في حقيقته إلى البحث عن أنّ السنّة الواقعيّة هل تثبت بخبر الواحد أم لا.وبناءً على ذلك: تدخل مسألة حجّيّة الخبر في ضمن المسائل

ص: 50

الاُصوليّة، ولا يلزم أن تكون من المبادئ التصديقيّة الخارجة عن مقاصد الفنّ. وكذا يقال بالنسبة إلى البحث عن أحد الخبرين المتعارضين.

قلنا: إنّ البحث عن العوارض - كما نبّهنا عليه آنفاً - لا بدّ وأن يكون راجعاً إلى البحث عن المحمولات المترتّبة ممّا ينطبق عليه أنّه مفاد «كان» الناقصة والهليّة المركّبة. والمرجع في البحث عن حجّيّة الخبر حينئذٍ - بناءً على هذا القول - يرجع إلى ثبوت السنّة ووجود الموضوع، والبحث عن وجود الموضوع ليس بحثاً عن المحمولات المترتّبة، وإنّما هو بحث عن الوجود المحموليّ، وعليه: فلا يكون هذا البحث من المسائل، بل يكون من جملة المبادئ. هذا.

بالإضافة إلى أنّنا نسأل عن المراد من الثبوت، ثبوت السنّة بالخبر ما هو؟ فإن اُريد منه: الثبوت التكوينيّ الواقعي، أي: أن يصبح خبر الواحد واسطةً وعلّةً لثبوت السنّة واقعاً، فهو غير معقولٍ، كما لا يخفى؛ لأنّ خبر الواحد لا يقع في سلسلة علل وجود السنّة حتّى يكون علّةً لثبوتها واقعاً، كيف؟ وهو متأخّر عنها، ودوره بالنسبة إليها دور الحاكي، وبديهيّ أنّ الحكاية عن الشيء تقع في مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه.

وإن أُريد منه: الثبوت التعبّديّ الذي مرجعه إلى حكم الشارع بالحجّيّة ولزوم العمل بمضمون الخبر تعبّداً، فحينئذٍ يندرج في العوارض، ولكنّه لا يجدي شيئاً، إذ يكون من عوارض الخبر لا السنّة، أو فقل: يندرج في

ص: 51

عوارض السنّة المشكوكة، لا السنّة الواقعيّة، والذي هو الموضوع لعلم الاُصول إنّما هي السنّة الواقعيّة، ونتيجة البحث في هذه المسألة - حينئذٍ - ترجع إلى البحث العوارض الغريبة عن السنّة الواقعيّة.

والحاصل: أنّه لا ينفع في دفع الإشكال أن يقال: بأنّ هذا الثبوت من عوارض السنّة لا من عوارض الخبر. هذا.بالإضافة - أيضاً - إلى بقاء الإشكال على حاله بالنسبة إلى المستلزمات العقليّة.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرنا:

أنّ موضوع علم الاُصول هو الجامع الذي ينطبق على موضوعات مسائله في نفس الأمر والواقع، لا ذوات الأدلّة، ولا الأدلّة بقيد الدليليّة. أو فقل: هو الجامع للأدلّة التي تشترك في الاستدلال الفقهيّ. والبحث في هذا الفنّ عن حجّية هذه الأدلة من حيث إنّها يمكن للفقيه أن يستند اليها في مقام الاستنباط الفقهيّ.

لا يقال: إنّ البحث في جملةٍ من المسائل الاُصوليّة لا يصدق عليه أنّه بحث عن الحجّيّة، كما هي الحال في مسألة: الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

فإنّه يقال: النتيجة المتحصّلة من البحث في هذه المسألة هي: دليليّة أو عدم دليليّة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته.

وكذا الحال في نظائر هذه المسألة.. كمسألة قبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ

ص: 52

مآل البحث فيها إلى أنّ عدم البيان هل يكون دليلاً، عقلاً أو شرعاً، على المعذّريّة وعدم الوجوب، أم لا يكون كذلك؟(قدس سره) فتكون داخلةً في مسائل هذا العلم بلا أدنى تأمّل.

فتلخّص: أنّه بناءً على ما اخترناه في موضوع هذا الفنّ، لا يرد الإشكال بخروج جملةٍ من أهمّ المسائل والمقاصد عنه.

الأمر الخامس: تعريف علم الاُصول

والمشهور بينهم في تعريف هذا العلم أنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة».وقد عدل عن هذا التعريف صاحب الكفاية(قدس سره) قائلاً: «وإن كان الاُولى تعريفه بأنّه: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام»(1).

وقد يقال في الاعتراض على التعريف المشهور - أوّلاً -:

إنّ التعريف الثاني أولى من التعريف الأوّل، لعدم اشتماله على كلمة (العلم)، بخلاف الأوّل؛ وعليه: فيكون التعريف الثاني - لذلك - متطابقاً مع المعرّف، الذي هو علم الاُصول، أكثر؛ لأنّ حقيقة هذا العلم - ككلّ علمٍ من العلوم -: أنّه عبارة عن نفس المسائل، لا العلم بها.

ص: 53


1- كفاية الاُصول: 9.

ولكنّ الحقّ: أنّ قولهم: «العلم بالمسائل» لا يضرّ؛ لأنّ الغرض في أيّ علمٍ كان لا يترتّب على واقع قواعده، وإنّما يترتّب على العلم بها، ألا ترى أنّ القدرة على الاستنباط - مثلاً - تتوقّف على العلم بقواعد الاُصول، لا على نفس القواعد بوجودها الواقعيّ فقط؟(قدس سره)

وقد يرد على التعريف المشهور - ثانياً -:

أنّ ظاهره كون المناط في المسألة الاُصوليّة هو فعليّة وقوع هذه القواعد في طريق الاستنباط، وأنّه لا يكفي شأنيّتها، مع أنّ هذه المسائل لا يترتّب عليها الاستنباط الفعليّ إلّا بعد ضمّ صغرياتها إليها.

ولعلّه لأجل هذا أيضاً كان عدول صاحب الكفاية(قدس سره) عن التعريف المشهور إلى التعريف الثاني، جاعلاً إيّاه أولى من التعريف الأوّل.

ولكن نقول: لو قلنا في تعريف هذا العلم: هو «العلم بالقواعد الممهّدة التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام» لسلم من ورود هذا الإشكال عليه، كما لا يخفى؛لاشتماله على ما يدلّ على أنّ المعتبر في اُصوليّة المسألة هو شأنيّة وقوعها في طريق الاستنباط، لا وقوعها الفعليّ.

وقد يرد عليه - ثالثاً -:

أنّه بناءً عليه: يلزم أن يكون البحث في كثيرٍ من المسائل المهمّة التي يتمّ تناولها في الكتب الاُصوليّة بحثاً استطراديّاً، كمسائل الاُصول العمليّة، وكمسألة حجّيّة الظنّ في حالة الانسداد، بناءً على الحكومة.

ص: 54

أمّا استطراديّة الاُولى:

فلأنّها وظائف للشّاكّ في مقام العمل، وليست ممّا يمهّد لاستنباط الأحكام كما هي وظيفة المسألة الاُصوليّة، بل هي إمّا أحكام بأنفسها، بناءً على إمكان الجعل للحكم الظاهريّ، وإمّا مجرّد ترخيصٍ في الترك بناءً على عدمه.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الاُصول العمليّة: إمّا أن لا يكون مفادها حكماً شرعيّاً، ولا يتوصّل بها إلى حكمٍ شرعيٍّ، وهي الاُصول العقليّة، كالبراءة والاشتغال العقليّين، فإنّ مفادهما فقط هو المعذّريّة والمنجّزيّة، من دون أن تكون إحداهما واسطةً في الاستنباط. وإمّا أن يكون مفادها حكماً شرعيّاً، وذلك كأصالة الحلّ ونحوها، والاستصحاب، بناءً على كونه يتكفّل بإثبات حكمٍ مماثلٍ؛ فإنّ هذه لا تعين على استنباط حكمٍ شرعيٍّ، وإنّما تكون، هي بنفسها، حكماً شرعيّاً، وهو الحلّيّة - مثلاً -.

ولهذا، فقد زاد صاحب الكفاية) على هذا التعريف جملةً اُخرى وهي قوله: «أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»(1).

ولكن، إذا فسّرنا التعريف المشهور، فقلنا: بأنّ المراد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط إنّما هو: أنّ هذه القواعد كبريات لا بدّ من انضمام صغرياتها إليهاحتى يمكن أن يستنتج الحكم الكلّيّ الإلهيّ، سواء كان هذا الحكم حكماً واقعيّاً أو ظاهريّاً، شرعيّاً أو عقليّاً.

ص: 55


1- كفاية الاُصول: ص 9.

وبعد هذا التفسير، فلا يبقى مجال للإشكال المزبور، ومعه: فلا نحتاج إلى زيادة جملة: «أو التي ينتهى إليها في مقام العمل».

نعم، يرد الإشكال: بأنّ الكبرى العقليّة لا تثبت الحكم الكلّي الإلهيّ إلّا بعد إثبات الملازمة أوّلاً. فلو اُريد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط: أنّها أمارة وحجّة على إثبات الحكم الواقعيّ، لكان الإشكال متّجهاً، ولكنّا بحاجةٍ إلى هذه الزيادة.

ولكن الحقّ أنّ التعريف ليس تامّاً، وذلك من جهتين:

الاُولى: أنّ الحكم الموجود في موارد الاُصول العمليّة ليس حكماً يصار إلى استنتاجه من القاعدة الاُصوليّة، وإنّما هو نفس القاعدة الاُصوليّة، ونفس الأصل العمليّ.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الاُصول العمليّة - والتعبير للاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1) - لا تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعيّ الكليّ لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها وأفرادها، كتطبيق الطبيعيّ على أفراده، وهو ليس من باب استنباط الأحكام الشرعيّة منها وتوسيطها لإثباتها.

وأمّا الاُصول العقليّة والظنّ الانسداديّ: فهما لا ينتهيان إلى حكمٍ شرعيٍّ أصلاً، لا واقعاً ولا ظاهراً.

ص: 56


1- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 11.

والجهة الثانية: أنّ قسماً من الاُصول العمليّة لا ينتج حكماً شرعيّاً، حتى الظاهريّ منه، وإنّما هو مجرّد وظيفةٍ عمليّةٍ يقرّرها العقل بعد العجز عن الوصول إلى الحكم الشرعيّ.

وأمّا استطراديّة حجيّة الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة

فلأنّه لا علم هناك بالحكم في مورده، لا واقعاً: لأنّ باب العلم مسدود بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة؛ ولا ظاهراً: لعدم جعلٍ هناك من قبل الشارع أصلاً.

ولا فرق في ذلك:

بين أن يكون المراد من الظنّ: الظنّ على مسلك الحكومة، أعني: حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط وبجواز الاكتفاء بالامتثال الظنّيّ والعمل بالمظنونات؛ لأنّ جواز الاقتصار على الامتثال الظنّيّ وعدم لزوم الامتثال اليقينيّ لا دخل له بعالم استنباط الأحكام، بل إنّما يرتبط بعالم فراغ الذمّة والامتثال والتعذير عن الواقع، ولو في ظرف الموهومات.

وبين أن يكون المراد: أنّ العقل يرى، ببركة مقدّمات الانسداد، الحجّيّة للظّنّ، أي: أنّ للمكلّف أن يقتصر في الامتثال وأداء التكليف على المظنونات استناداً إلى مرجعيّةٍ معيّنةٍ، وهي: حجيّة الظنّ بنظر العقل. وبناءً على ذلك، فإنّ حجّيّة الظنّ عقلاً لا تعني إلّا كونه - أي: الظنّ - منجّزاً وحجّةً على العبد، وأين هذا من كونه يستنبط منه أيّ حكمٍ من الأحكام؟(قدس سره) فتأمّل.

ص: 57

وقد يستشكل في هذا التعريف أيضاً

بأنّه ليس مانعاً للأغيار، لتناوله للقواعد الفقهيّة، فإنّها - أيضاً - ممّا يستنبط منه حكم شرعيّ.

ولكن، يردّه: أنّ القواعد الفقهيّة، وإن كانت تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، إلّا أنّ ذلك أبعد ما يكون عن باب الاستنباط، وإنّما هو من باب التطبيق.وبعبارةٍ اُخرى أدقّ: فهي نفس الحكم الشرعيّ، لا أنّه يستخرج منها الحكم الشرعيّ. فإنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه» هو لجميع الضمانات الموجودة في البيع والإجارة وغيرهما، لا أنّها مجرد طريقٍ للحكم أو كاشفٍ عنه.

وأمّا عدول صاحب الكفاية(قدس سره) عن التعبير ﺑ-(العلم) إلى التعبير ﺑ-(الصناعة)، وقوله: بأنّ ذلك أولى، فقد قيل في وجهه: إنّ أولويّة التعريف الثاني من جهة أنّ علم الاُصول ليس له قواعد مضبوطة كسائر العلوم حتى يعرّف بأنّه عبارة عن (العلم بالقواعد).

ولكنّ الصواب: عدم تمامية ذلك - لو كان هو المراد له(قدس سره) حقّاً كما قيل - لأنّنا لا نسلّم عدم كون قواعد علم الاُصول قواعد مضبوطةً، بل هي مضبوطة ومدوّنة في كتب الاُصول.

بل نزيد على ذلك: أنّ الإشكال يرد على التعريف الذي جاء به هو(قدس سره)،

ص: 58

والذي أخذ فيه قيد (صناعة)؛ فإنّ لازمه - لو قلنا: بأنّ الصناعة هي الملكة - هو كون ذوات القواعد خارجةً عن علم الاُصول.

فالاُولى لذلك - وخلافاً للكفاية - أن يعرّف علم الاُصول بما جاء في التعريف الأوّل، أي: بأن يقال: هو العلم بالقواعد ... إلخ.

هذا كلّه، لو لم نقل: بأنّ المقصود من العلم هو نفس القواعد - كما فيما إذا قيل: العلم الكذائي موضوعه كذا، والغرض منه كذا - وإلّا، فلو قلنا بذلك، لكان لفظ العلم زائداً ومستدركاً، كما لا يخفى.

وقد اعترض على هذا التعريف أيضاً، بأنّه يشمل بعض القواعد الفقهيّة، كقاعدة الطهارة، ويدخلها تحت المسألة الاُصوليّة.واعتذر عن هذا الاعتراض: بالمنع، لأنّ قاعدة الطهارة - مثلاً - تختصّ ﺑ «باب الطهارة»، والمسألة الاُصوليّة هي التي لا تختصّ ببابٍ دون باب(1).

ولكن هذا الاعتذار لا يتمّ إلّا إذا أخذنا هذا القيد، أعني: عدم الاختصاص ببابٍ دون باب، في تعريف علم الاُصول، أو لو أخذنا بالتعريف الذي تبنّاه بعض محقّقي المعاصرين) لعلم الاُصول وهو أنّ «علم الاُصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهيّ ... إلخ»(2).

وأمّا على التعريف المشهور، وكذا على تعريف الكفاية، فالإشكال

ص: 59


1- نسبه اُستاذنا المحقّق) إلى صاحب الكفاية(قدس سره) في منتهى الاُصول 1: 4.
2- بحوث في علم الاُصول 1: 31.

وارد ومتّجه، إلّا أن يقال: بأنّها من المسائل الاُصوليّة وليست بخارجةٍ عن المسائل الاُصوليّة حقيقةً.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق في ردّ هذا الاعتراض: من أنّ القاعدة المذكورة من المسائل الاُصوليّة، وليست بخارجةٍ عنها، غاية الأمر: أنّهم لم يتعرّضوا لها في الاُصول العمليّة، وما ذلك إلّا لكونها متّفقاً عليها، فلا تحتاج الى البحث هناك(1):

فلا يمكن المساعدة عليه بوجهٍ: لأنّ بعض المسائل الاُصوليّة اتّفاقيّة أيضاً، ومع ذلك فقد ذكروها في علم الاُصول وجعلوها من المسائل الاُصوليّة.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ) أفاد:«أنّ المراد بوقوع تلك القواعد [يعني: القواعد الاُصوليّة] في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة هو أن تكون ناظرةً إلى إثبات الحكم بنفسه، أو بكيفيّة تعلّقه [أي: الحكم] بموضوعه»(2).

وقال أيضاً:

«إنّ مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمفهوم والمنطوق، [على سبيل المثال] ناظرة الى كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع، فهي داخلة في علم الاُصول».

ص: 60


1- منتهى الاُصول 1: 4.
2- منتهى الاُصول 1: 3- 4.

إلى أن يقول: وهذا «بخلاف مبحث المشتقّ ونظائره، ممّا هو راجع إلى تشخيص الموضوع، فهي خارجة، لأنّها ليست ناظرةً إلى إثبات الحكم بنفسه ولا إلى كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع».

ولكنّ الحقّ: أنّ البحث في مسألة العامّ والخاصّ لا يدور حول كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع فيها، بل إنّما هو راجع إلى تشخيص الموضوع من جهة السعة والضيق، فعلى غرار ما أفاده المحقّق العراقيّ) في مسألة المشتقّ - مثلاً -: فلابدّ من القول بخروجها من هذا العلم.

فالظاهر - إذاً -: أنّ أحسن التعاريف لعلم الاُصول أن يقال: «إنّه القواعد التي يمكن أن تقع في كبرى القياس، بحيث لو انضمّت إليها صغرياتها استنتج منها الحكم الكلّي الإلهيّ أو الوظيفة العمليّة».

وأمّا الاُستاذ الأعظم(قدس سره)، فقد ذكر في تعريف علم الاُصول:

أنّه «هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الإلهيّة من دون حاجةٍ إلى ضميمة كبرى أو صغرى اُصوليّةٍ اُخرى إليها».وفي تحديد الضابطة للمسألة الاُصوليّة يقول(قدس سره):

«أن تكون استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب التطبيق، أي: تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها، كتطبيق الطبيعيّ على أفراده. والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول هي: الاحتراز عن القواعد الفقهيّة، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحك-ام

ص: 61

الشرعيّة الإلهيّة، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسي-ط، بل من باب التطبيق، وبذلك خرجت عن التعريف».

ثمّ إنّه) ذكر بعد ذلك اعتراضاً أورده على هذه الضابطة التي اختاره لنفسه، وحاصله:

«أنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّةٍ من المباحث الاُصوليّة المهمّة عن علم الاُصول: كمباحث الاُصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة، والظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة...».

وقد تولّى)، هو بنفسه، مهمّة الجواب عن هذا الإشكال لاحقاً، إذ قال:

«إنّ هذا الإشكال مبتنٍ على أن يكون المراد بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف: الإثبات الحقيقيّ، بعلمٍ أو علميٍّ، إذ على هذا لا يمكن التفصّي عن هذا الإشكال أصلاً، ولكنّه ليس بمرادٍ منه، بل المراد به معنىً جامع بينه وبين غيره، وهو الإثبات الجامع بين أن يكون وجدانيّاً أو شرعيّاً أو تنجيزيّاً أو تعذيريّاً. وعليه: فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط، لأنّها تثبت التنجيز مرّةً والتعذير مرّةً اُخرى، فيصدق عليها - حينئذٍ - التعريف، لتوفّر هذا الشرط فيها، ولا يلزم إذاً محذور دخول القواعد الفقهيّة فيه»(1).وبهذا يتمّ الكلام فيما أردنا ذكره في هذه المقدّمة.

ص: 62


1- محاضرات في الاُصول 1: 11- 12.

المقصد الأوّل: في الوضع

وفيه فصول:

ص: 63

ص: 64

الفصل الأوّل: في حقيقة الوضع

اشارة

من جملة الاُمور التي طاولها البحث الاُصوليّ وتناولتها كتب هذا الفنّ: (مبحث الوضع).

وقد قيل: بأنّه إنّما بحث عنه هنا؛ لأنّه لم يبحث عنه في أيّ علمٍ آخر، حتّى علم متن اللّغة؛ إذ من الواضح: أنّ كتب اللّغة لم تتكفّل ببيان حقيقة الوضع وماهيّته، وإنّما وقع البحث فيها عن كيفيّة وموارد الاستعمال.

ولكنّ الحقّ: أنّه قد وقع البحث عنه عند بعض اللّغويّين، وقد ذكرته بعض كتب اللّغة(1).

ص: 65


1- بحث عنه ابن جنّي في كتابه: (الخصائص): 40 - 45، «باب القول على أنّ اللغة إلهام هي أم اصطلاح»، قال: «هذا موضع محوج إلى فضل تأمّلٍ، غير أنّ أكثر أهل النظر على أنّ أصل اللّغة إنّما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف، إلاّ أنّ أبا عليٍّ) قال لي يوماً: هي من عند الله، واحتجّ بقوله تعالى: ﴿وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كلُّ-هَا﴾ - إلى أن قال - : وهذا أيضاً رأي أبي الحسن الأخفش. على أنّه لم يمنع قول من قال - : إنّها تواضع منه، على أنّه فسّر هذا بأن قيل: إنّ الله سبحانه علّم آدم جميع المخلوقات بجميع اللّغات: العربيّة والفارسيّة والسّريانيّة والعبرانيّة والروميّة، وغير ذلك من سائر اللّغات، فكان آدم وولده يتكلّمون بها، ثمّ إنّ ولده تفرّقوا في الدنيا، وتعلّق كلّ منهم بلغةٍ من تلك اللّغات، فغلبت عليه واضمحلّ عنه ما سواها، لبعد عهدهم بها».

وعلى أيّة حالٍ، فالبحث عن الوضع إنّما يكون بعد البناء على أنّ دلالة الألفاظ على معانيها لم تكن ذاتيّةً محضةً، وإلّا، فلا يكون هناك مجال لهذا البحث أصلاً.وفي المسألة وجوه ثلاثة:

أوّلها: أنّ دلالة الألفاظ على معانيها دلالة ذاتيّة محضة، بمعنى: أنّ لا منشأ لدلالة الألفاظ على معانيها إلّا وجود مناسبةٍ ذاتيّةٍ وطبعيّةٍ بينها وبين هذه المعاني.

والثاني: أنّ العلاقة التي تربط بين الألفاظ والمعاني لا تحصل إلّا بتوسّط الجعل، والذي هو الوضع.

والثالث: أنّها علاقة بالذات وبالجعل معاً.

والحقّ هو الوجه الثاني.

أمّا أوّلاً:

فلأنّ هذه الدلالة إن كانت بالطبع، لم يمكن الجهل باللّغات أصلاً، ولا اختلفت اللّغة باختلاف الأعصار والاُمم، بل لو كانت هذه الدلالة موجبةً بذاتها لأن يكون سماع اللّفظ علّةً للانتقال إلى فهم المعنى، من دون جعلٍ ولا اعتبار، فنتيجة ذلك: لزوم إحاطة كلّ شخص بكلّ اللّغات،

ص: 66

وهو كما ترى، لا أساس له من الصحّة.

وأمّا ثانياً:

فلأنّه لو فرض أنّ هناك معنىً واحداً بسيط الذات، وكان له ألفاظ عدّة، من لغةٍ واحدةٍ أو من لغات متعدّدة:

فإمّا أن يكون الربط موجوداً بينه وبين جميع هذه الألفاظ معاً.

وإمّا أن لا يكون هناك ربط بينه وبين شيءٍ منها أصلاً.

وإمّا أن يكون ثمّة ربط بينه وبين بعض هذه الألفاظ دون البعض الآخر.

أمّا الأخير: فواضح البطلان، لأنّ هذا البعض الذي لا ربط بينه وبين المعنى كيف كان من الألفاظ التي تدلّ على ذلك المعنى، كما هو المفروض؟(قدس سره) وأمّا الثاني: فبطلانه أوضح، كما لا يخفى.وأمّا الأوّل: فيستلزم التركيب في الذات وخروجها عن البساطة.

ومن هنا ظهر: أنّ ما قد نسب إلى البعض، وهو سليمان بن عباد: من «كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع، أي: كانت هناك خصوصيّة في ذات اللّفظ اقتضت دلالته على معناه، من دون أن يكون هناك وضع وتعهّد من أحد»(1)، فغير تامٍّ.

ص: 67


1- فوائد الاُصول 1: 29 - 31.

الفرق بين الأمر الحقيقيّ والجعليّ

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الوضع على هذا القول، أمر حقيقيّ وتكوينيّ، وليس أمراً جعليّاً.

والفرق بين الأمر الحقيقيّ وبين الأمر الجعليّ: أنّ الحقيقيّ هو ما كان له نحو ثبوت في نفس الأمر والواقع، بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل. ويقابله: الأمر الجعليّ؛ فإنّ ثبوته متقوّم بجعل الجاعل من دون أن يكون له تقرّر في نفس الأمر.

وممّا يترتّب على هذا: أنّ اختلاف الأنظار في ثبوت الأمر الحقيقيّ لا يوجب تغيّراً في ثبوته، ولا يستلزم التبدّل فيه، بل هو على ما هو عليه من التقرّر والثبوت، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كلٍّ من المختلفين للآخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه، بل يكون كما كان بلا تغيّرٍ ولا تبدّل.

وأمّا اختلاف الأنظار في الأمر الجعليّ؛ فإنّه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره، فيوجب تبديلاً فيه، ويكون ثابتاً بالنسبة إلى بعضٍ وغير ثابتٍ بالنسبة إلى آخرين، وهو لا يرجع إلى التخطئة في النظر، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر.وذلك نظير ما لو اعتبر قوم شخصاً ما رئيساً لهم، ولم يعتبره آخرون كذلك، بل اعتبروا شخصاً غيره رئيساً، فإنّ اختلاف النظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كلٍّ من الفريقين للآخر في دعواه؛ إذ لا واقع للرئيس

ص: 68

غير الاعتبار، وإنّما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف في الاختيار وفي الاعتبار والجعل، وذلك يستلزم أن يكون لكلٍّ منهما رئيس غير الرئيس الذي للآخر.

تقسيم الأمر الحقيقيّ

ثمّ إنّ الاُمور الحقيقيّة على نوعين:

النوع الأوّل: ما يكون له وجود في الخارج، ويكون الخارج ظرفاً لوجوده، وهو: المقولات العشر: أي: الجوهر والأعراض التسعة.

والنوع الثاني: ما لا وجود له منحازاً ولا له ما بإزاء، ويعبّر عنه: بما لا يكون الخارج ظرفاً لنفسه، وذلك كالملازمات العقليّة، فإنّ الملازمة بين شيئين من الاُمور الحقيقية التي لها تقرّر في نفس الأمر ولا ترتبط بجعل جاعلٍ، إلّا أنّها لا وجود لها في الخارج ينحاز عن وجود المتلازمين.

وإذا اتّضح ذلك، نقول:

الوضع، وإن سلّمنا أنّه من الاُمور الحقيقيّة، إلّا أنّه - لا محالة - لا يمكن أن يكون من القسم الأوّل؛ لأنّ هذا القسم منحصر بالمقولات العشر، وليس الوضع من أحدها؛ إذ هو ليس من الجوهر، كما لا يخفى؛ لأنّه ارتباط بين اللّفظ والمعنى، ولا وجود لشيءٍ جوهريّ، كالجسم، بين اللّفظ والمعنى، كما هو ظاهر.

ص: 69

كما أنّه ليس من بقيّة المقولات العرضيّة؛ لأنّ العرض بدون المعروض في الخارج ليس بشيءٍ، فوجوده لا يكون إلّا في ضمن وجود المعروض الموجود خارجاً،والمفروض: أنّ الارتباط المدّعى كونه من الاُمور الحقيقيّة ليس بين اللّفظ الموجود والمعنى، بل بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى؛ لوضوح أنّ استعمال اللّفظ متأخّر عن الوضع وعن ثبوت الارتباط بينه وبين المعنى، ووجود اللّفظ إنّما يكون بالاستعمال، فالارتباط المدّعى حاصل قبل وجود اللّفظ؛ لأنّه ثابت قبل الاستعمال، بل ولو لم يحصل الاستعمال بعد.

وهذا يعني: أنّه ليس من سنخ الأعراض، وإلّا، لكان ثبوته متوقّفاً على وجود اللّفظ فعلاً، الذي هو - بدوره - متوقّف على الاستعمال.

فتحصّل: أنّ القول بكون دلالة اللّفظ على المعنى أمراً ذاتيّاً ليس بصحيحٍ، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً من أنّه لا ينسبق المعنى إلى الذهن من اللّفظ بدون الوضع، ولأنّ الجاهل بالوضع لا يفهم المعنى من اللّفظ.

الاعتراض بلزوم الترجيح بلا مرجّحٍ

نعم، بقي هناك إشكال، وهو: أنّ قيام الواضع باختيار لفظٍ خاصّ لمعنىً المخصوص لابدّ وأن يكون مستنداً إلى مرجّحٍ ما، وإلّا لكان من الترجيح بلا مرجّح، وهو محال.

والجواب عن هذا الإشكال:

أوّلاً: سلّمنا استحالة الترجيح بلا مرجّح، إلّا أنّه لا يلزم أن يكون

ص: 70

المرجّح هو المناسبة الذاتيّة، بل يجوز أن يكون أمراً خارجيّاً.

وثانياً: إنّ ما هو المحال إنّما هو الترجّح بلا مرجّحٍ، وأمّا الترجيح بلا مرجّح فلا استحالة فيه أصلاً، بل ولا قبح أيضاً.وعلى فرض التنزّل والقول: بأنّه قبيح أو محال، فنقول: يكفي وجود المرجّح الخارجيّ والنوعيّ في طبيعيّ الفعل، ولو لم يكن هناك مرجّح في شيءٍ من الأفراد، ولو لم يكن هناك ربط ذاتيّ بين هذا اللّفظ الخاصّ وذاك المعنى المخصوص الذي وضع هو له.

وحينئذٍ:

جاز وجود المصلحة والمرجّح في طبيعيّ الوضع، وهو - مثلاً - أنّ التفهيم والتفهّم منوط بالوضع في بعض الموارد، وبعد وجود هذه المصلحة في الطبيعيّ، فلا يلزم وجود مرجّحٍ في كلّ موردٍ من الموارد، بل تكون هذه المصلحة النوعيّة كافيةً لذلك، ولا يكون هناك قبح أصلاً.

ومن هنا ظهر:

بطلان القول الثالث الذي اختاره المحقّق النائينيّ) بقوله:

«اختلف العلماء في أنّ دلالة الألفاظ هل هي ذاتيّة محضة، أم جعليّة صرفة، أو بهما معاً؟ والحقّ هو الثالث، فإنّا نقطع - بحسب التواريخ التي بين أيدينا - أنّه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثّرة في لغةٍ واحدةٍ لمعانيها التي تدلّ عليها، فضلاً عن سائر اللّغات.

ص: 71

كما أنّا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتيّة بحيث يفهم كلّ شخصٍ من كلّ لفظٍ معناه المختصّ به... إلخ»(1).

وحاصله: أنّ الدلالة ليست ذاتيّةً صرفة؛ لوضوح عدم تبادر المعاني من الألفاظ من حيث هي هي، ولو كانت هناك دلالة ذاتيّة للزم انسباق المعنى من اللفظ لكلّ أحد بمجرّد إلقاء اللّفظ إليه؛ كما أنّ هذه الدلالة لا يمكن أن تكون بالجعلالصرف؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، فلا جرم - إذاً - أنّ هذه الدلالة هي بجعل الجاعل بالإضافة إلى المناسبة الذاتيّة.

وقد عرفت ما فيه، وأنّه يكفي المرجّح الخارجيّ أو النوعيّ، ولا ينحصر المرجّح في الذاتيّ.

فالمتعيّن هو القول الثاني، دون الأوّل والأخير.

وإذا عرفت ذلك، فالبحث في الوضع من جهتين:

الجهة الاُولى: في بيان معنى الوضع

وما ينبغي أن يعلم هنا: أنّ الوضع تارةً يطلق ويراد منه المعنى الاسم المصدريّ، واُخرى يراد منه المعنى المصدريّ.

فعلى الأوّل: يكون الوضع عبارةً عن ارتباطٍ خاصّ بين اللّفظ والمعنى. وعلى الثاني: فهو عبارة عن اختصاص اللّفظ بالمعنى.

ص: 72


1- أجود التقريرات 1: 10.

والجهة الثانية: أنّه قد وقع الخلاف في معنى الوضع

فمنهم من فسّره بالالتزام والتعهّد، أي: بأن يتعهّد الواضع بإرادة المعنى من اللّفظ حين استعماله للّفظ بلا قرينةٍ. وهذا القول منسوب إلى الفاضل النهاونديّ(1).

ومعنى الوضع - على هذا القول - هو أنّ الواضع يتعهّد بأن لا يأتي باللّفظ إلّا إذا أراد إفهام معناه المعيّن، ليجعل بذلك نوعاً من السببيّة بين اللّفظ والمعنى.وبعبارة اُخرى: فإنّ هذا التعهّد يكون هو السبب لنشوء هذا الارتباط بين اللّفظ والمعنى. ويشترط فيه: أن يكون ظاهراً أنّ الغرض من النطق بهذا اللّفظ هو إرادة إفهام ذلك المعنى الخاصّ، وأن ليس له من داعٍ آخر سوى إفهام هذا المعنى.

وممّا يترتّب على هذا القول: أنّه لا بدّ أن يكون كلّ مستعملٍ واضعاً حقيقةً، وهذا غير معقول، لأنّ كلّ شخصٍ مسؤول عن تعهّداته هو، ولا يعقل أنّ يكون تعهّد الواضع الواحد محققا للدّلالة على قصد إفهام المعنى من قبل غيره.

وممّا يترتّب عليه أيضاً: أن يكون الواضع للّغة متعدّداً، وليس واحداً، وأن لا يكون هناك فرق بين الواضعين المختلفين وبين الواضع الأوّل،

ص: 73


1- نسبه إليه في منتهى الدراية: 1: 23.

إلّا في أنّ الواضع الأوّل أسبق من غيره إلى الاستعمال والتعهّد، وهو كما ترى.

ويترتّب عليه أيضاً: أنّ الدلالة الوضعيّة بناءً عليه دلالة تصديقيّة وليست تصوريّةً.

ويرد عليه أيضاً: أنّ متابعة هذا المتعهّد لماذا يجب أن تكون ملزمةً للآخرين؟(قدس سره) وأيضاً: فلو قلنا بهذا القول: لبطل تقسيم اللّفظ إلى قسميه المشهورين: التعيينيّ والتعيّنيّ.

وبالجملة: فإنّ القول بالتعهّد في تفسير الوضع، مع كونه واحداً من أهمّ الظواهر العرفيّة والعقلائيّة، واضح البطلان؛ لأنّه معنىً دقيق لا تدركه ولا تصل إليه أذهان أهل العرف عادةً.

وأمّا صاحب الكفاية)، فقال:

«الوضع هو نحو اختصاصٍ للّفظ بالمعنى، وارتباط خاصّ بينهما، ناشئ من تخصيصه به تارةً، ومن كثرة استعماله فيه اُخرى»(1).ولكنّ هذا التعريف للوضع غير تامّ؛ لأنّ الاختصاص لا يمكن أن يشكّل حقيقة الوضع، كيف؟(قدس سره) وهو إنّما يحصل بعد الوضع.

ومنهم من فسّره: بجعل اللّفظ علامةً للمعنى. وهو ما اختاره اُستاذنا المحقّق(قدس سره)، وفسّره بأنّه عبارة عن «الهوهويّة والاتّحاد بين اللّفظ

ص: 74


1- كفاية الاُصول: 9.

والمعنى في عالم الاعتبار»(1).

ثمّ هذا الاتّحاد والهوهويّة، هل هو اعتباريّ، حصل من جهة الجعل أو كثرة الاستعمال أم لا؟ والحقّ: أنّ هذا الاتّحاد حصل من جهة طبيعيّ اللّفظ والمعنى، لا بمعنى: أنّ آثار اللّفظ تترتّب على المعنى حتّى يقال: بأنّ الحكومة والتنزيل يكونان بلحاظ الآثار، وحتّى يستشكل بأنّه ليس هناك من أثر جعليّ يترتّب على المعنى لكي يكون قابلاً لاعتبار ترتّبه على اللّفظ، ولكي يحصل به غرض الوضع، ويكون حاصلاً في الواقع ومع قطع النظر عن الخارج.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ طبيعيّ اللّفظ مستعدّ لإحضار طبيعيّ المعنى في ذهن من يسمع ذلك اللّفظ. ويكون هذا الاعتبار اعتباراً للعينيّة بالحمل الأوّليّ.

فالوضع - إذاً - من الاُمور الواقعيّة، ولكن ببركة الجعل والاعتبار، لا من الاُمور التكوينيّة.

ولا يخفى: أنّ مرادنا من الاعتبار هنا: جعل المؤدّى هو الواقع، ومن باب التوسعة في الموضوع، نظير: «الطواف في البيت صلاة». فهو ليس من الاُمور الاعتباريّة المحضة، ولا من الاُمور الانتزاعيّة، بل - كما ذكرنا - فهو من الاُمور الواقعيّة ببركة الجعل.

ص: 75


1- منتهى الاُصول: 1: 15.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ حقيقة الوضع عبارة عن: أن يعتبر المعتبر وجود اللّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، بحيث يصبح اللّفظ هو هو، ولكن في عالم الاعتبار، لا تكويناً.

وعند الاستعمال، يكون نظر المتكلّم إلى المعنى استقلاليّاً وإلى اللّفظ آليّاً، أي: فيكون نظره محصوراً فقط في إلقاء المعنى إلى المخاطب وإيجاده باللّفظ، ويكون نظره الاستقلاليّ منحصراً إلى المعنى، تماماً كالنظر إلى المرآة لرؤية الوجه.

وحينما نقول: بأنّ هذا الجعل ليس من الاُمور التكوينيّة، فإنّما نعني بذلك: أنّها ليست كإحدى المقولات: أي: لا من مقولة الجوهر؛ لأنّ الجواهر منحصرة في الخمسة: العقل والنفس والصورة والمادّة والجسم. ولا من الأعراض المنحصرة في التسع، لأنّها ليست قائمةً بنفسها في الخارج، بل الأعراض متقوّمة بالغير.

لكنّ الصواب ما ذكرناه:

من أنّ حقيقة الوضع أنّه عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى الموضوع له، ولا يتوقّف ثبوتها وتحقّقها على وجودها في الخارج، بل هذه الملازمة والربط ثابتان في الواقع ونفس الأمر بينهما، أي: بين طبيعيّ اللّفظ ومعناه الموضوع هو له.

وهي نظير ملازمة الزوجيّة للأربعة، غاية الأمر: أنّ الملازمة بين الزوجيّة والأربعة من الاُمور التكوينيّة والأزليّة، وأمّا الملازمة هنا، فهي

ص: 76

وإن كانت حقيقيّةً أيضاً، ولكنّ ذلك بعد الجعل والاعتبار، لا قبل ذلك. لا بمعنى: أنّ الجعل والاعتبار مقوّمان لذات هذه الملازمة ودخيلان في حقيقتها، بل بمعنى: أنّهما هما العلّة لحدوثها، وأنّها بعد تحقّقهما - فقط - تصبح من الاُمور الواقعيّة.

وقد بينّا فيما سبق: أنّ هذه الملازمة ثابتة في الواقع ونفس الأمر، وأنّها ليست متوقّفةً على وجودها في الخارج، ولذا يصحّ وضع اللّفظ للمعنى المعدوم والذييستحيل وجوده في الخارج كشريك الباري أو الدور أو التسلسل، أي: فيصحّ وضع اللّفظ للحصّة التي يستحيل وجودها في الخارج، فلو أنّ الملازمة كانت تندرج تحت شيءٍ من المقولات، لكان لا بدّ من تحقّقها بواسطة اللّفظ والمعنى، ويستحيل تحقّقها بدونهما.

وقد تلخّص بما أوضحناه: أنّ بين اللّفظ والمعنى ربطاً خاصّاً متحقّقاً وواقعيّاً، حتّى مع قطع النظر عن الوجود الخارجيّ.

ثمّ إنّهم ذكروا: أنّ الوضع قابل للإنشاء والإيجاد الخارجيّ - كوضع الحجر على الحجر، وكالبيع الذي هو قابل للإنشاء الموجد لمفهومه، وكالمعاطاة للفعل الموجد لمصداقه -.

وقد قالوا في تعريف الوضع : أنّه من باب «تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه»(1).

ص: 77


1- انظر - مثلاً -: بدائع الأفكار: 34، والفصول الغرويّة: 14.

فبقيد (بنفسه): تخرج المجازات، ضرورة أنّ الدلالة عليها لا تكون إلّا بمعونة القرينة.

ولكن، قد استشكل في هذا التعريف: بأنّه يخرج الألفاظ المشتركة لاحتياجها هي أيضاً في الدلالة على معانيها إلى القرينة.

ويمكن دفعه: بأنّ الدلالة على جميع المعاني في المشترك حاصلة، ومن دون قرينة، وإنّما يحتاج إلى القرينة لتعيين المراد.

واستشكل في هذا التعريف أيضاً: بأنّه مخرج للحروف؛ لأنّ دلالتها على معانيها لا تكون إلّا بمعونة مدخولها؛ فإنّ كلمة «من» - مثلاً - لا تدلّ على شيءٍ قبل ذكر مثل: «البصرة والكوفة».والصحيح في الجواب عن هذا الإشكال: أنّ المعنى على قسمين: استقلاليٍّ وآليّ، وأنّ ذكر المتعلّق في الحروف إنّما هو لتحقّق نفس المعنى الآليّ، لا لتحقّق دلالة الحرف على ذلك المعنى الآليّ، بل دلالته عليه بنفسه وبلا معونة. هذا إذا قلنا: بأنّ للحروف معنى.

ولكن، وبالرغم من هذا الجواب، فإنّ التعريف المزبور، مع ذلك، لا يسلم من ورود الإشكال، ولو من جهةٍ اُخرى، وهي: أنّه غير شاملٍ للوضع التعيّنيّ.

فالأحسن في تعريف الوضع: أن يؤخذ بمعناه الاسم المصدريّ، ليكون الوضع عبارةً عن: «الارتباط الحاصل بين اللّفظ والمعنى، تارة بالتعيين واُخرى بالتعيّن»، فتأمّل.

ص: 78

وأورد هنا بعض المعاصرين: بأنّ الغرض المقصود من عمليّة الوضع هو تحقيق دلالة اللّفظ على المعنى لحصول التفهيم بها. والدلالة - كما لا يخفى - تقتضي اثنينيّة الدالّ والمدلول، وعليه: فاعتبار الوحدة بين الدالّ والمدلول يكون لغواً وعبثاً؛ لأنّه بلا أثر؛ إذ لا يترتّب عليه أثر الوضع؛ لأنّه يقتضي التعدّد(1).

وفيه: أنّ الوحدة إنّما هي لأجل سراية القبح أو الحسن من أحدهما إلى الآخر، فلا نسلّم أنّه يكون بلا أثر. وأمّا الاثنينيّة: فإذا كانت حقيقيّة فهي موجودة بناءً على الهوهويّة.

نعم، الاثنينيّة الادّعائيّة والمجازيّة غير موجودة. فهو هو ادّعاءً، وفي الحقيقة: فإنّ اعتبار شيء شيئاً، سواء كان له وجود خارجيّ، كاعتبار الجاعل لها لما قد يكون أو لم يكن له إلّا في عالم الاعتبار، كاعتبار الشخص رئيساً.وأمّا ما ذكره - هذا المعاصر نفسه - من الإشكال: من أنّ الإنسان إذا تصوّر بعض المعاني ولم يذكر اللّفظ لم يعدّ مخالفاً لتعهّده وناقضاً لبنائه، إذ لا يرى الشخص ملزماً بذكر ألفاظ جميع ما يتصوّره من المعاني، ولو بلغت من الكثرة إلى حدٍّ كبير، كما لو قرأ الشخص كتاباً طويلاً في ليلةٍ واحدة، أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها(2).

ص: 79


1- انظر: منتقى الاُصول 1: 57.
2- منتقى الاُصول 1: 61.

ففيه: أنّه ليس المراد من التعهّد تصوّر المعاني على الإطلاق، بل عند الاستعمال.

وقد يستشكل: بأنّه إذا اُريد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى، فيستلزم أن يكون مدلول اللّفظ هو نفس إرادة التفهيم، لا المعنى، وإنّما يكون المعنى حينئذٍ من قيود المدلول لا نفسه. بمعنى: أنّ المدلول هو الحصّة الخاصّة من الإرادة، وهي الإرادة المتعلّقة بهذا المعنى - نظير ما إذا تعهّد بالإشارة بالإصبع عند مجيء زيد، فإنّ مدلول الإشارة يكون نفس المجيء، لا زيداً، بل يكون زيد من قيود المدلول -(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ إرادة التفهيم - حتّى بناءً على هذا التفسير للتعهّد - لا تكون مدلولاً للّفظ، بل مدلول اللّفظ هو المعنى، وإرادة التفهيم ما هي إلّا نوع تعهّدٍ منه، وتكون خارجةً عن مدلول اللّفظ.

وما قيل: من أنّه لا يلزم الترجيح بلا مرجّح، بل مقامنا من باب سلوك الهارب أحد الطريقين وتناول الجائع أحد الرغيفين.فمردود: بأنّه مغالطة واضحة، فالهارب من الأسد السالك لأحد الطريقين، والجائع الآكل لأحد الرغيفين المتساويين، خارج عن محلّ البحث.

ص: 80


1- منتقى الاُصول 1: 41.

إذ الكلام هنا إنّما هو عن إرادة الفاعل المختار، لا عن فعله الذي يكون خارجاً عن اختياره لجوعٍ أو خوفٍ أو غير ذلك - دون ما يكون خوفه أو جوعه قليلاً بحيث لا يضطرب ولا يخرج عن الاختيار -.

وبالجملة: فمورد هذين المثالين خارج عن محلّ البحث وأجنبيّ عن مسألة الترجيح بلا مرجّح؛ فإنّ المورد الدقيق لما نحن فيه: ما إذا كان هناك شيئان متساويان من جميع الجهات، ولا ميز لأحدهما على الآخر أصلاً؛ فاختيار الفاعل المختار لأحدهما، والحالة هذه، يكون من باب الترجيح بلا مرجّح.

وبما حقّقناه، ظهر:

بطلان ما أفاده المحقّق الكبير السيّد محمود الشاهروديّ(قدس سره) من التمثيل للمورد بأنّه إذا بني سقف - مثلاً - على جدارين، وكان ثقل ذلك السقف من جميع الجوانب بنسبةٍ واحدة، فإذا مال الجدار من جانبٍ دون آخر، مع انحفاظ تلك النسبة، فإنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح ووجود ذلك الميل بلا علّةٍ.

وجه البطلان: أنّ ما ذكره(قدس سره) هو الترجّح بلا مرجّح، لا الترجيح بلا مرجّح. مع أنّه الميل كذلك غير ممكنٍ، إلّا أن يكون هناك ضعف في ذلك الجانب، فيكون هو المرجّح.

وكيف كان، فلازم ما أثبتناه من القول المختار، وهو: أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّة، أن يكون الوضع قابلاً للإنشاء والإيجاد.

ص: 81

وأورد عليه: أنّ بين الألفاظ والمعاني مباينةً واضحة، ولا يمكن إيجاد المعنى باللّفظ.وفيه: أنّه بعد الالتفات إلى ما ذكرناه سابقاً - من أنّ العلاقة بين اللّفظ والمعنى حقيقيّة، وإن لم تكن تكوينيّةً، بل تحصل هذه العلاقة بعد الوضع، والوضع يكون سبباً لها وعلّةً لحدوثها - فلا يبقى مجال لهذا الإيراد أصلاً.

من هو الواضع؟!

هل الواضع هو الله تعالى أم البشر - كيعرب بن قحطان على ما قيل من أنّه هو الواضع للغة العرب - أم كلاهما؟ اختار بعضهم(1) القول الأوّل: أي: أنّ الواضع هو الله عزّ وجلّ. وقد استدلّ القائلون بذلك:

تارةً: بعدم تناهي المعاني، وعدم إحاطة أحدٍ غيره تعالى بها، إذ إنّ ما سوى الباري تبارك وتعالى من المخلوقات متناهٍ، وإذا لم يكن للمخلوق الإحاطة بها، فكيف - يا ترى - يمكنه أن يتصوّر المعاني غير المتناهية ليضع الألفاظ لها؟ بل هو عاجز عن الإحاطة بألفاظ لغةٍ واحدة فضلاً عن جميع اللّغات.

وفيه: أنّ الإنسان يضع من الألفاظ بمقدار حاجته، وأمّا الزائد عن

ص: 82


1- ومن بين هؤلاء: الميرزا النائينيّ)، انظر: فوائد الاُصول 1: 30.

ذلك فيكون لغواً، فهو لا يحتاج إلى الإحاطة بجميع الألفاظ، بل إنّما يحتاج إلى الإحاطة بما يحتاج إليه منها.

واُخرى: بما نشاهده من استيعاب الأوضاع اللّغويّة لدقائق فنّيّةٍ عالية - سواء ما كان منها مرتبطاً بجانب اللّفظ أو بجانب المعنى - تفوق عادةً طاقة جماعةٍ من الناس وقدرتهم على نسجها وإبداعها. فما ظنّك بشخصٍ واحد؟(قدس سره)وفيه: أنّ هذا الإشكال - على فرض وروده - فإنّما هو فيما إذا قلنا بكون الواضع واحداً.

والتحقيق أن يقال: بأنّ الواضع هم البشر أنفسهم، ولكن بسبب القوّة المودعة فيهم، والتي تسنّت لهم وحصلوا عليها من قبل ربّهم وخالق الكائنات جلّ وعلا، وأنّ البشر إنّما يضعون الألفاظ على حسب ما تدعو إليه حاجتهم، ولإبراز ما في ضمائرهم من المعاني.

وكما أنّ الله تبارك وتعالى قد أودع القوّة في البشر التي بواسطتها اخترعوا صناعاتٍ عجيبة، وتوصّلوا إلى ما توصّلوا إليه، كما نراه جليّاً في هذا العصر، فكذلك أودع الله في الإنسان قوّةً تمكّن بواسطتها من وضع الألفاظ للمعاني. وأمّا سعة دائرة الوضع وضيقها، فهي تبع لدائرة الحاجة سعةً وضيقاً.

وحيث كان كذلك، فالوضع - بهذا الشكل - لا يستلزم سبق إحاطة الواضع بجميع الألفاظ، بل لو فرضنا إمكان إحاطة البشر بجميع

ص: 83

الألفاظ، فإنّ وضعها للمعاني غير المتناهية، مع عدم احتياجهم إلى الجميع، وإمكان استغنائهم بأقلّ من هذا المقدار، لغو محض.

لا يقال: ليس، ولم يكن، بمقدور الإنسان البدائيّ أن يستفيد من اللّفظ لإخطار المعنى الكذائيّ لولا الإلهام من الله تبارك وتعالى، الذي بواسطته تعرّف على كيفيّة وضع اللّفظ، والذي بواسطته فقط، تمكّن من درك التعهّد والهوهوية وأمثالهما. وعلى فرض أنّه كان بإمكانه ذلك، فكيف كان في وسعه أن يفهم الآخرين بأنّه متى ما استعمل اللّفظ الكذائيّ فإنّه يكون قاصداً لإخطار المعنى الكذائيّ.فإنّه يقال: قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الوضع ليس من الله تعالى، لا بوحيٍ منه إلى نبيٍّ من أنبيائه، ولا بإلهامٍ منه إلى البشر، بل إنّما كان بالقوّة المودعة فيهم، بحيث كانوا يبرزون مقاصدهم بحسب فطرتهم.

وقد يستشكل - استنصاراً للقول بإلهيّة الوضع -: بأنّه لو كان هناك واضع بشريّ معيّن كان هو الذي أبدع كلّ هذا النظام اللّغويّ المنسّق والمتكامل، لنقل ذلك في التاريخ، ولخلد ذكره في الشعوب، بينما لا يوجد شيء من ذلك كلّه في تاريخ أي ملّةٍ من الملل، ولا أيّة لغةٍ من اللّغات، ولا أخبر أحد عن حدوث وضعٍ في أيّ عصرٍ من العصور، مع أنّ من وظيفة المؤرّخين، كما لا يخفى، تصدّيهم لضبط الأخبار السابقة(1).

ص: 84


1- راجع: أجود التقريرات 1: 11.

ولكنّ هذا الإشكال: إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ الواضع شخص واحد معروف أو جماعة معيّنون؛ وأمّا لو كنّا نقول: بأنّ الواضع كلّ واحدٍ من أفراد البشر، فإنّ الناس كان يضعون الألفاظ للمعاني، كلّ على حسب حاجته، وإن لم تكن موضوعةً من قبل، فلا محلّ لهذا الإشكال أصلاً.

ألا ترى أنّنا لو جعلنا طفلين صغيرين في معزل عن الناس كافّةً لاخترعا لنفسيهما لغة خاصّة بهما بواسطة القوة المودعة فيهما من قبل الله تبارك وتعالى، يبيّن بها كلّ واحدٍ للآخر ما في ضميره؟(قدس سره) وقد تنبّه إلى ذلك بعض اللّغويّين(1).

ص: 85


1- قال الاُستاذ محمّد الأنطاكيّ في لبابه الوجيز في فقه اللّغة: 66 - 67 ما لفظه: «وأخيراً: كيف السّبيل إلى معرفة أصل اللّغة وكيفيّة نشأتها الاُولى؟(قدس سره) هناك تجربة مضمونة النتائج حاسمة الجواب في هذه المشكلة، يقترح علينا فتدريس إجراءها كان بحكم يسخف التفكير فيها، يقول: (في أحضان المجتمع تكوّنت اللّغة). ولدت اللّغة يوم أحسّ النّاس بالحاجة إلى التفاهم فيما بينهم، وتنشأ من احتكاك بعض الاشخاص الذين يملكون أعضاء الحواسّ ويستعملون في علائقهم الوسائل التي وضعتها الطبيعة تحت تصرّفهم: الإشارة اذا أعوزتهم الكلمة، والنظرة إذا لم تف الإشارة. والاختبار الذي يمكن إجراؤه في هذا المجال: هو أن يوضع طفلان أو عدّة أطفال بعضهم مع بعض، ممّن يكون لهم جهل تامّ بكلّ شيءٍ عن اللّغة، وبعد إقصائهم إقصاءً تامّاً عن كلّ مؤثّرٍ تعليميٍّ، فعندئذٍ: إذا أغمضنا النظر عمّا قد يكون عندهم من استعداداتٍ موروثة، فليس من شكٍّ في أنّهم - ومهما كانت جنسيّتهم - سيخلقون بفطرتهم لغةً لحسابهم الخاصّ. وهذه اللّغة لن تكون هي الفرنسيّة أو الانجليزيّة أو غيرهما من اللّغات المعروفة; لأنّ الحاجة توجّه الشّخص حتماً إلى العمل، ولا بد أن الاُمور في بداية أمرها كانت قد وقعت على هذه النّحو». انتهى، نقلنا كلامه بتمامه، مع شيءٍ من التصرّف اليسير.

وليس المراد من الوضع هو وضع الشيء من باب وضع الحجر على الحجر، أو التعهّد، حتّى يكون الوضع مسبوقاً بالاستعمال، بل إنّ كلّ مستعملٍ يكون واضعاً.

كما أنّه ليس من المجعولات الإنشائيّة - من قبيل: التمليك بعوضٍ معلومٍ في باب البيع مثلاً -. وتكون دلالة اللّفظ على المعنى تصوّريّةً عندما ينتقل المعنى إلى ذهن السامع بمجرّد استعمال اللّفظ، ولو كان قد صدر منه من دون اختيارٍ، ولو كان صدوره من متكلّمٍ غير ذي شعور.

وأمّا ما قيل: من أنّ الواضع هو الله جلّ وعلا، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا﴾(1)، بتقريب: أنّ تعليم الشيء فرع وجود ذلك الشيء، وعليه: فالوضع لجميع اللّغات كان ثابتاً حين تعليمه سبحانه وتعالى إيّاه، فلا جرم يكون الواضع هو الله تعالى. وما قيل - أيضاً - في تفسير قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلّمَهُ البَيَانَ﴾(2): «إنّ المراد من (الإنسان) هو آدم(علیه السلام)، والمراد من (البيان) اللّغات كلّها»(3).

فمردود: لأنّ المراد من الأسماء في الآية الشريفة هو المسمّيات، لا اللّغات. كلفظ «الاسم»، فإنّه لمّا كان إشارةً إلى اللّفظ الدالّ على المسمّى، ومن جملة المسمّيات: لفظ «الاسم» نفسه، فقد دلّ عليه. وقد

ص: 86


1- البقرة: 31.
2- الرحمن: الآيتان 3 و4.
3- نقل هذا القول الثقة الطبرسيّ) في كتابه: جوامع الجامع: 217.

يكون مغايراً كلفظ «الجدار» الدالّ على معناه المغاير، و قد يطلق «الاسم» على نفس المسمّى أيضاً، وهو المراد هنا لبعضالقرائن الموجودة في نفس الآية، كقوله تعالى: ﴿ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾(1)، إذ على تقدير كون الأسماء مراداً بها مظاهرها كان اللّازم أن يقال: (ثمّ عرضها على الملائكة)، لا (عرضهم). ولهذا نظير أيضاً، وهو ما قيل: من أنّ المراد بالاسم في ﴿بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ﴾، هو المسمّى.

والمتحصّل: أنّ معنى تعليمه الأسماء هو أنّه تعالى علّمه المسمّيات، أي: أراه الأجناس التي خلقها، وعلّمه بأنّ هذا - مثلاً - «فرس»، وذاك «بعير»، وهكذا.. وكذا علّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة والدنيويّة.

وعليه: فالواضع ليس هو البشر بمعنى أنّ الإنسان هو الذي يلتزم أو يتعهّد، لأنّه لو كان هناك واضع خاصّ كذلك لوصلت إلينا أخباره.

فإن قلت: فإنّ قسماً من البشر أرادوا لأنفسهم لغةً فيما اختار الآخرون لغةً اُخرى خاصّةً بهم. وهذا شاهد أكيد على أنّ وضع اللّغات كان بالتزام البشر وتعهّدهم هم أنفسهم.

قلنا: بل كان ذلك بإرادةٍ من الله وتعليمه البشر. فهو الذي أراد هذا الاختلاف في الألسن، كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ

ص: 87


1- البقرة: 31.

السّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَألْوَانِكُمْ﴾(1)، كما أنّه هو تعالى من أراد للنّاس أن يكونوا شعوباً وقبائل: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ﴾(2).

في حقيقة الوضع

قد عرفت وقوع الخلاف في معنى الوضع.. فهل هو بمعنى الالتزام والتعهّد - كما نسب إلى المحقّق النهاونديّ - أو هو عبارة عن جعل اللّفظ علامةً على المعنى أو بمعنى الهوهويّة والاتّحاد بين اللّفظ والمعنى - كما هو قول اُستاذنا المحقّق) - كما عرفت سابقاً -؟(قدس سره) أمّا القول الثاني: وهو جعل اللّفظ علامةً على المعنى، فوضع الألفاظ بناءً عليه يكون كالوضع الحقيقيّ، نظير: وضع العلم على رأس الفرسخ، غاية الأمر: أنّ الوضع في الأوّل اعتباريّ وفي الثاني حقيقيّ، ومعنى كونه اعتباريّاً: أنّ اللّفظ لم يجعل يدلّ واقعاً على أمرٍ خارجيٍّ على نحو الحقيقة، كوضع العلم خارجاً في الموضع الخاصّ للدّلالة على شيءٍ معيّن.

وقد اعترض الاُستاذ الأعظم على هذه المماثلة بما لفظه:

«أنّ وضع اللّفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقيّ كوضع العلم على

ص: 88


1- الروم: 22.
2- الحجرات: 13.

رأس الفرسخ. والوجه في ذلك هو: أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركانٍ: الركن الأوّل: الموضوع، وهو العلم. الركن الثاني: الموضوع عليه، وهو ذات المكان. الركن الثالث: الموضوع له، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ. وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ، فإنّه يتقوّم بركنين: الأوّل: الموضوع، وهو اللّفظ. الثاني: الموضوع له، وهو دلالته على معناه، و لا يحتاج إلى شي ءٍ ثالثٍ ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه. وإطلاقه على المعنى الموضوع له، لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة، فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة. مع أنّ لازم الصيغة المذكورة هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه»(1).

ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّه يكفي التعدّد الاعتباريّ، ولا حاجة إلى التعدّد الخارجي؛ فإنّ المعنى: من جهة أنّه وضع اللّفظ عليه، فهو مكان الفرسخ، وبمثابة الموضوع عليه؛ ومن جهة أنّه يدلّ باللّفظ عليه، فبهذا الاعتبار يقال له: الموضوع له. على أنّه يمكن فرض التعدّد هنا أيضاً، فالواضع حينما يريد وضع اللّفظ للمعنى، فإنّه - أوّلاً - يتصوّر المعنى في الذهن، ثمّ بعد ذلك يقوم بوضع اللّفظ له. فالموضوع عليه - إذاً - هو الصورة الذهنيّة الدالّة على الشيء الخارجيّ، و الموضوع له هو الدلالة على أنّه صورة الشيء.

ص: 89


1- محاضرات في الاُصول 1: 44، بتصرّفٍ يسير.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ الوضع عبارة عن الملازمة بين طبيعيّ اللّفظ وبين المعنى الموضوع له، وهذه الملازمة هي - وكسائر الاُمور الاعتباريّة - اعتبارها بيد المعتبر.

ففيه: أنّ الصحيح كونها من الاُمور الواقعيّة، وأنّها ليست من الاُمور الاعتباريّة المحضه - خلافاً لما ذكره بعض المعاصرين - ولا من الاُمور التكوينيّة، وإنّما هي موجودة في حاقّ الواقع وفي نفس الأمر. فالوضع - بناءً على ذلك - أمر واقعيّ غير قابلٍ للجعل، بل إذا كان السامع عالماً بالوضع فينبغي أن يحصل الانتقال من اللّفظ إلى المعنى عنده بمجرّد أن يلقى اللّفظ إليه، بل إنّ هذا الانتقال بالنسبة إليه ينبغي أن يكون بديهيّاً.

وأمّا على القول الأوّل - الذي يرى بأنّ الوضع هو بمعنى التعهّد -: فالوضع، بناءً عليه، ليس أمر اعتباريّاً، وإنّما حقيقته هي التعهّد والتباني. وهذا التباني يكون من قبل الواضع بأن لا يتلفّظ بالكلمة إلّا إذا اُريد إبراز ما تعلّق به قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظٍ مخصوص، فأيّ متكلّمٍ فهو متعهّد في نفسه، مهما كان الشعب أو الملّة التي ينتمي إليها، ومضمون هذا التعهّد: أنّه متى ما أراد معنى خاصّاً فإنّه يبرزه بلفظٍ خاصّ(1).ونتيجة هذا التعهّد: أنّه متى سمع السامع بما ينطق به المتكلّم من كلمةٍ خاصّة، فإنّ ذهنه ينتقل - مباشرةً - إلى تصوّر معناها، ليفهم أنّ المتكلّم أراد ذلك، وأنّه قاصد تفهيمه له.

ص: 90


1- منتقى الاُصول 1: 53.

وبناءً على هذا، فكلّ مستعملٍ واضع حقيقةً، ولا فرق بين المستعمل العاديّ وبين الواضع، إلّا في أنّ الأخير هو الأسبق في الوضع، لا أنّ الأوّل هو الوحيد الواضع حقيقةً دون غيره.

وبعبارةٍ اُخرى: أنّ العلاقة الخاصّة التي تربط بين اللّفظ والمعنى لا تتحقّق إلّا بعد النطق باللّفظ لإفهام المعنى، وتعتبر هذه الدلالة من الدلالات التصديقيّة لا التصوّريّة؛ إذ بعد حصول هذا التعهّد فإنّ هذا اللّفظ بالكشف التصديقيّ عن إرادة المتكلّم، وعن أنّه في مقام إفهام المعنى.

ولكنّ الحقّ - كما أشرنا إليه سابقاً -: أنّ معنى الوضع هو الاتّحاد والهوهويّة بين اللّفظ والمعنى.

ويحصل هذا الاتّحاد تارةً من جعل اللّفظ بإزاء المعنى، واُخرى من كثرة الاستعمال، وهو من الاُمور الاعتباريّة كما مرّ، وليس بأمرٍ تكوينيٍّ، لأنّه لا يحصل إلّا بواسطة الجعل والإنشاء.

وبما ذكرنا ظهر: أنّ حقيقة الوضع حقيقة ادّعائيّة، وليس الوضع في باب الألفاظ كوضع العلم على رأس الفرسخ ليدلّ على أنّ المكان الموضوع هو فيه هو رأس الفرسخ، كما عرفت، لأنّ هذا معناه: أنّ دلالة العلم على رأس الفرسخ من باب الانتقال من اللّازم إلى الملزوم، كالانتقال من تصوّر الدخان إلى تصوّر النار.

بل فيما نحن فيه، فإنّ السامع حين يسمع الكلام وينتقل منه إلى المعنى

ص: 91

المراد، فإنّ هذا الانتقال يكون بمعنى فناء اللّفظ في المعنى، وليس من باب تصوّرشيءٍ للانتقال منه إلى شيءٍ آخر، بل كأنّه، ومنذ البداية، أحسّ بالمعنى بسبب سماعه للّفظ، وهذا يعني: أنّه يكون حين سماع اللّفظ غافلاً عن وجود اللّفظ، ومتّجهاً في تصوّره إلى المعنى فقط، كما حين النظر إلى المرآة، فإنّ الناظر إليها لا يرى فيها ابتداءً إلّا صورته، لا أنّه يرى صورته بواسطة النظر إلى المرآة، وليس هذا الفناء بمعنى فناء الواسطة في ذي الواسطة.

ومعلوم: أنّ إلقاء الشيء لا يكون إلقاء شيء آخر، إلّا إذا حصل بينهما الهوهويّة والاتّحاد، وبديهيّ أنّه لا يكفي في ذلك مجرّد التعهّد أو جعل العلامة أو غيرهما.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ التباين بين اللّفظ والمعنى قائم وموجود، فلا يمكن أن يكون إلقاء أحدهما إلقاء الآخر بجعل اللّفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى، الأمر الذي يوجب حصول الاتّحاد و الهوهويّة.

هذا بالإضافة إلى أنّهم ذكروا أنّ للشيء وجوداتٍ أربع: الأوّل: الوجود الخارجيّ، والثاني: الوجود الذهنيّ، والثالث: الوجود الكتبيّ، والرابع: الوجود اللّفظيّ.

فلو لم يكن هناك اتّحاد بين الشيئين، فكيف يمكن أن يصبح وجود شيءٍ أجنبيٍّ وجوداً للآخر.

وأيضاً: فلولا هذا الاتّحاد والفناء، فكيف يسري حسن اللّفظ أو قبحه

ص: 92

وبالعكس؟(قدس سره) والتعهّد بمجرّده غير كافٍ.

بل، وعلى كلّ حال، فالسراية من اللّفظ إلى المعنى، وبالعكس، متوقّفة على الاتّحاد والهوهويّة.

وأمّا الإشكال الذي أورده الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1) على أصل المبنى القائل بأنّ (الوضع بمعنى الهوهويّة) بما حاصله:أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى تفسير بمعنىً دقيقٍ بعيدٍ عن أذهان عامّة الواضعين غاية البعد، ولا سيّما القاصرين منهم، كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة، بل قد يصدر الوضع عن بعض الحيوانات أيضاً.

فمردود عليه: لأنّ هذا الإشكال - هو بعينه - يرد على ما اختاره هو(قدس سره) في تفسير حقيقة الوضع، لأنّ الوضع بمعنى التعهّد أيضاً دقيق وبعيد عن الأذهان غاية البعد. وعلى تقدير تحقّقه، فكيف ينتقل المعنى إلى الذهن بصرف السماع لولا وجود هوهويّةٍ واتّحادٍ بينهما؟(قدس سره) ولا يكفي لذلك مجرّد التعهّد.

ص: 93


1- محاضرات في الاُصول 1: 41.

ص: 94

الفصل الثاني: في أقسام الوضع

اشارة

ممّا ينبغي أن يعلم: أنّ الوجوه المتصوّرة للوضع عقلاً أربعة. ويقع الكلام: تارةً في إمكان هذه الصور، واُخرى في وقوعها. وهذه الوجوه الأربعة هي:

1) الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

2) الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

3) الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

4) الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

والممكن من هذه الصور الأربعة ثلاث فقط.وقبل الشروع في بيان كلّ واحدةٍ من هذه الصور وبيان الممكن وما وقع في الخارج منها، نقول:

بما أنّ الوضع نوع من الجعل، فيكون - لا محالة - من أفعال الواضع، وتوصيفه بهذه الأقسام توصيف مسامحيّ، وإلّا، فإنّ المتّصف بها - في

ص: 95

الواقع - هو الملحوظ للواضع عند الوضع. فمثلاً: إنّ معنى الوضع العامّ: أنّه الوضع الذي لاحظه الواضع عامّاً.

ثمّ لا يخفى: أنّ الوضع بما أنّه من الاُمور الإنشائيّة فيكون متقوّماً بالتصوّر واللّحاظ، وبما أنّه من الاُمور النسبيّة فيكون أيضاً متقوّماً باللّفظ والمعنى. ممّا يعني: أنّ على الواضع حين الوضع أن يلاحظ كلّاً منهما.

وإذا عرفت هذا، فاعلم: أنّ المعنى المتصوّر:

تارةً:

يكون عامّاً ويوضع اللّفظ بإزاء ذلك المعنى العامّ، فيسمّى الوضع في هذه الصورة ﺑ-«الوضع العامّ والموضوع له العامّ».

واُخرى:

يتمّ وضع اللّفظ بإزاء مصاديق ذلك العامّ، لكفاية تصوّر المصاديق إجمالاً في ضمن المعنى الكلّيّ الجامع لها، ليصير اللّفظ بذلك كالمشترك اللّفظيّ، من جهة: أنّ هناك لفظاً واحداً موضوعاً للمعاني المتعدّدة، بلا فرقٍ بين أن يكون ذلك بوضعٍ واحدٍ بعد جمعها في لحاظٍ واحدٍ، أو بأوضاعٍ متعدّدة، وهذا ما يسمّى ﺑ-«الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ».وقد صوّر المحقّق العراقيّ)، وتبعه الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1)، الإشكال في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بما حاصله:

أنّ هذا القسم غير معقول، بتقريب: أنّ أيّ مفهومٍ في مرحلة المفهوميّة،

ص: 96


1- انظر: نهاية الأفكار 1: 37، ومحاضرات في الاُصول 1: 50.

جزئيّاً كان أو كلّيّاً، لا يحكي إلّا عن نفسه، فيستحيل أن يحكي مفهوم عن مفهوم آخر، فكما لا يعقل أن يحكي المفهوم الخاصّ بما هو خاصّ عن مفهوم عامّ أو خاصّ آخر، فكذلك لا يعقل أن يحكي المفهوم العامّ بما هو، عن مفهوم خاصّ أو عامّ آخر، بداهة أنّ لحاظ كلّ مفهوم وتصوّره هو عين إراءة شخصه، لا إراءة شي ء آخر به، فكيف يكون معرفة لغيره بوجهٍ؟ وعليه: فلا يمكن الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وفيه - كما ذكرنا -: أنّ تصوّر العامّ تصوّر للخاصّ بالإجمال؛ إذ العامّ يمكن أن يكون عنواناً للخاصّ وحاكياً عنه، ولا يضرّ في الوضع التصوّر غير التفصيليّ.

وقد يستشكل: بأنّه لا بدّ في الوضع من لحاظ الموضوع له، والمفروض أنّ الذي وضع له اللّفظ هو الخاصّ، فهذا الخاصّ هل هو ملحوظ للواضع أم لا؟! فإن قيل: الواضع لم يلحظ الخاصّ الموضوع له، فنقول: فكيف إذاً قام بوضع اللّفظ له.

وإن قيل: بل لاحظه، قلنا: فيلزم - حينئذٍ - أن يكون الوضع خاصّاً، للحاظ الخاصّ نفسه، وهو خلف الفرض.

ولكن الحقّ: أنّه لا يعتبر في الوضع اللّحاظ التفصيليّ، بل يكفي اللّحاظ الإجماليّ، ويمكن الحكم عليه بواسطة عنوان العامّ المشير إليه، ولو من دون الالتفات أصلاً إلى نفس المعنون، إمّا للجهل بجميع

ص: 97

خصوصيّاته الموجودة لجزئيّته، أو لعدم إمكانالالتفات إليه، كما لو كان الحكم على مضادّ حكم العامّ وكان غير محدودٍ عرفاً، بحيث لا يمكن الالتفات إليه بخصوصيّاته جميعاً.

وبالجملة: فلا إشكال في إمكان الوضع للأفراد بلا التفاتٍ إليها تفصيلاً، بل تتصوّر بواسطة عنوان العامّ المشير إليها، أي: أنّ العامّ يجعل طريقاً إلى أفراده، ويوضع اللّفظ للفرد بتوسّطه؛ لأنّ العامّ وجه للأفراد، فتصوّره يكون تصوّراً للأفراد، وهذا المقدار كافٍ في صحّة الوضع لها بلا لحاظها بخصوصيّاتها.

ومن هنا ظهر: ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين من أنّ تحقّق الوضع لا يتوقّف على لحاظ الموضوع له حتّى إجمالاً، بل يمكن الوضع لمعنىً مع عدم لحاظه بالمرّة أصلاً(1).

وثالثةً:

يكون المعنى الملحوظ والمتصوّر خاصّاً، ويوضع اللّفظ بإزاء هذا الجزئيّ والخاصّ، وفي هذه الحالة، يكون الوضع والموضوع له - كلاهما - خاصّين، ويسمّى ﺑ: «الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ».

ورابعةً:

يكون المعنى الملحوظ والمتصوّر خاصّاً أيضاً، ولكن يوضع اللّفظ

ص: 98


1- منتقى الاُصول 1: 75.

بإزاء كلّيّه الجامع بين ذلك المعنى الملحوظ وبين غيره من الجزئيّات المشاركة له في ذلك الكلّيّ، ويسمّى هذا القسم: ﺑ-«الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ».

وإذا اتّضحت هذه الأقسام، فنقول:

المشهور على أنّ الأخير من هذه الأقسام غير ممكن، وعليه: فالصور في مرحلتي الإمكان والوقوع ثلاثة فقط.وقال صاحب البدائع(قدس سره): هي في مقام التصوّر والإمكان أربعة، وفي مرحلة الوقوع ثلاثة(1).

وفي الكفاية: أنّها في مقام التصوّر أربعة، وفي مقام الإمكان ثلاثة، وفي مقام الوقوع اثنان(2).

وكيف كان، فلا يخفى: أنّ القسم الرابع غير واقعٍ في الخارج أصلاً، فهل هو ممكن أم لا؟ قيل: بإمكانه؛ لأنّ الخاصّ - لاشتماله على الكلّيّ، وهو العامّ - فحين تصوّره يتصور معه الكلّيّ أيضاً؛ لاندراج الكلّيّ فيه.

وهذا المقدار من التصوّر يكفي في وضع اللّفظ بإزاء الكلّيّ. فبعد أن كان المتصوّر التفصيليّ هو الخاصّ، وكان تصوّر الخاصّ تفصيلاً تصوّراً

ص: 99


1- بدائع الأفكار: 39.
2- كفاية الاُصول: 10.

للعامّ إجمالاً، فإنّ هذا المقدار من التصوّر كافٍ في وضع اللّفظ له، ولو فرض أنّ المتصوّر التفصيلي وأوّلاً وبالذات هو الخاصّ لا العامّ.

والتحقيق: أنّ هذا القسم غير معقولٍ البتّة؛ وذلك لما ذكرناه سابقاً من أنّ الواضع لا بدّ له في مقام الوضع من أن يتصوّر المعنى واللّفظ معاً، فإذا فرض أنّه لم يتصوّر حين الوضع إلّا المعنى الخاصّ، فكيف يعقل أن يضع اللّفظ بإزاء المعنى العامّ الشامل للخاصّ المتصوّر وللأفراد المماثلة له غير المتصوّرة؟! إنّ لازم ذلك: هو تحقّق الوضع لمعنىً لم يتصوّره الواضع حين الوضع أصلاً.وبعبارة اُخرى: فإنّ الخاصّ، بما هو خاصّ، مباين للعامّ ولبقية أفراده، وكيف يمكن أن يكون المباين وجهاً وعنواناً للمباين الآخر؟! وعليه: فبما أنّ الخاصّ بما هو خاصّ لا يصلح لأن يكون وجهاً للعامّ وعنواناً له، فلا يكون تصوّره تصوّراً للعامّ أبداً، ولو بنحو الإجمال.

إن قلت: يكفي لكي يكون تصوّر الخاصّ علّةً لتصوّر العامّ لحاظ علقة التضادّ بينهما، فإنّ الذهن كثيراً ينتقل إلى أحد الضدّين بعد تصوّره للضدّ الآخر.

قلت: ولكنّ هذا ليس من التصوّر بالوجه والعنوان لكي يكون مرجعه إلى إمكان حمله على ذي الوجه والعنوان، كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّ العامّ هناك وجه للخاصّ ومحمول عليه،

ص: 100

دون العكس، أي: فلا يكون الخاصّ وجهاً للعامّ.

وبعبارةٍ أوضح: فإنّ الطبيعة اللّابشرط، لسعتها وعدم تقييدها بأيّ قيدٍ، فهي تجتمع مع ألف شرط، وأمّا المقيّد بقيدٍ فهو لا يمكنه أن يتّحد وينطبق على تلك الطبيعة الوسيعة المطلقة المجرّدة عن كلّ قيد حتى قيد اللّابشرطيّة.

أو فقل: إنّ الخصوصيّة المقوّمة للخاصّ تناقض العموم وتنافيه، ولا يمكن انطباقه على العامّ إلّا بإلغاء الخصوصيّة، ومع الإلغاء، فإنّ الخاصّ يخرج عن كونه خاصّاً، فكيف يمكن - حينئذٍ - أن يكون الشيء مرآةً وعنواناً لنقيضه؟(قدس سره) وقد عرفت أنّ الوضع من الأفعال الاختياريّة، وهو لا يحصل إلّا بتصوّر اللّفظ والمعنى، فإذا امتنع أحد التصوّرين امتنع أصل الوضع، كما هو أوضح من أن يخفى.

و من هنا ظهر: فساد ما ذكروه من إمكان هذا القسم، ببيان: أنّ الخاصّ ولو لم يكن وجهاً وعنواناً للعامّ، إلّا أنّ تصوّره يمكن أن يكون تصوّراً للعامّ، فإذا تصوّر الإنسان موجوداً خاصّاً فإنّه - لا محالة - يتصوّر أنّ هذا الموجود فرد لطبيعيٍّ ينطبق عليهوعلى أمثاله من أفراد هذه الطبيعة المعيّنة، فإذا أراد أن يضع اسماً خاصّاً لهذا الطبيعيّ أمكنه ذلك، وهذا التصوّر الإجماليّ كافٍ في الوضع، والمفروض: أنّ التصوّر التفصيليّ والتحليليّ للخاصّ لازمه التصوّر الإجماليّ للعامّ، ولو فرض أنّ هذا

ص: 101

التصوّر التفصيليّ له لا يكون تصوّراً تفصيليّاً للعامّ.

وعلى هذا المبنى يندفع الإشكال: بأنّ تصوّر الخاصّ لا يكون تصوّراً للعامّ لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

وقد اُجيب عن هذا البيان: بأنّ تصوّر العامّ، حتّى ولو فرض إمكانه عند تصوّر الخاصّ وبواسطته، إلّا أنّه لا يظهر من هذه الملازمة كون الخاصّ عنواناً ووجهاً للعامّ، كما مرّ.

وفي المقام إشكال آخر نقضيّ، حاصله:

أنّ الخاصّ بما هو خاصّ، وإن لم يكن وجهاً وعنواناً ومرآةً للعامّ، بحيث يكون تصوّره تصوّراً للعامّ بنحو إجماليّ، إلّا أنّ هذا الإشكال - بعينه - متحقّق في عكسه أيضاً، فإنّ العامّ بما هو عامّ لا يمكن - هو أيضاً - أن يكون وجهاً للخاصّ بما هو خاصّ.

وفيه: أنّ العامّ لا يكون عنواناً للخاصّ إلّا مع إلغاء الخصوصيّة، أي: الطبيعة اللّابشرطيّة، وعدم تقييده بأيّ قيدٍ، حتّى قيد (الإطلاق)، وحينئذ فقط يكون العامّ عنواناً ومرآةً للخاصّ ويجتمع معه، لأنّه إذ ذاك يجتمع مع ألف شرطٍ.

فتحصّل: أنّ الأقسام الممكنة تنحصر في ثلاثة. ومن هذه الثلاثة قسمان واقعان بالاتّفاق، وهما:

الأوّل: الوضع العامّ والموضوع له العامّ، كأسماء الأجناس.

والثاني: الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، كما في الأعلام

ص: 102

الشخصيّة.وأمّا القسم الثالث - و هو الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ -:

فقد اختلف فى وقوعه في الخارج أو عدم وقوعه.

والمشهور على أنّ وضع الحروف والهيئات من هذا الباب، ولكنّ صاحب الفصول) اختار أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له فيها عامّ، وإنّما يكون المستعمل فيه خاصّاً(1).

ولا يخلو من تأمّل؛ إذ بناءً على هذا القول يكون لزاماً على اللّفظ أن لا يستعمل في معناه الموضوع له أصلاً، وقبحه ظاهر. مضافاً إلى أنّه يوجب بطلان حكمة الوضع، ويكون الوضع لغواً من هذه الجهة.

وفي الكفاية: القول بعموميّة الثلاثة فيها: الوضع والموضوع له والمستعمل فيه(2).

وحيث إنّ تحقيق المسألة متوقّف على معرفة معاني الحروف وبيان ما هو الموضوع فيها، فلابدّ أن ننقل الكلام إلى بيان المعنى الحرفيّ وتمحيص الأقوال الواردة فيه.

ص: 103


1- الفصول الغرويّة: 16.
2- كفاية الاُصول: 11.

ص: 104

الفصل الثالث: في المعنى الحرفيّ

اشارة

وفيه أقوال:

القول الأوّل:

ما اختاره صاحب الكفاية(قدس سره)(1) تبعاً للرضيّ، وحاصله:

أنّه لا فرق بين المعنى الاسميّ وبين المعنى الحرفيّ، لا من جهة المعنى الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل الموضوع له والمستعمل فيه في كليهما عامّان، أي: أنّ المعنى الحرفيّ هو نفس المعنى الاسميّ.

ومن هنا نجد: أنّ المعنى الذي يؤدّى بالحرف قد يعبر عنه، هو نفسه، بواسطة الاسم، كلفظ (الابتداء) الذي يعبّر به عن معنى (من)، فيقال مثلاً: إنّ (من) تدلّ على (الابتداء).

ص: 105


1- كفاية الاُصول: 11. قال(قدس سره): «والتحقيق - حسبما يؤدّي إليه النظر الدقيق - أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء».

وعليه: فكلمة «من» وكلمة «الابتداء» موضوعتان لمعنىً واحد ومسمّىً فارد.

فإن قلت: المستفاد من لفظ (الابتداء) هو الابتداء الاستقلاليّ وأمّا المستفاد من لفظ (من) فهو الابتداء الآليّ، وحينئذٍ: فكيف يكون كلاهما بمعنىً واحد؟(قدس سره) قلت: ليس لحاظ الآليّة والاستقلاليّة في كلٍّ منهما جزءاً للمعنى الموضوع له ولا للمعنى المستعمل فيه، وإنّما يكون اللّحاظ من قيود الوضع ومميّزاته؛ إذ كما أنّمعنى الاستقلاليّة لا يكون جزءاً لأحدهما في باب الأسماء، فكذلك معنى الآليّة لا ينبغي أن يكون جزءاً لأحدهما في باب الحروف.

وبالجملة: فإنّنا نسأل القائلين بكون المعنى المستعمل فيه في الحروف خاصّاً عن مرادهم من الخصوصيّة؟ فإن أرادوا بها: الخصوصيّة الخارجيّة، ليكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً خارجيّاً، ففيه: أنّ المستعمل فيه في الحروف كثيراً ما يكون كلّيّاً بحيث يصدق على كثيرين ولو بالعموم البدليّ، كقولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، ألا ترى أنّ المخاطب لو جعل ابتداء سيره من أيّة نقطةٍ من نقاط البصرة لكان ممتثلاً لهذا الأمر المتوجّه إليه؟(قدس سره) وإن كان المراد بها: الجزئيّة الذهنيّة، ففساده واضح.

أمّا أوّلاً: فلأنّه لو كان اللّحاظ جزءاً للموضوع له والمستعمل فيه في

ص: 106

الحروف لكان هذا المعنى - حينئذٍ - من قبيل الكلّيّ العقليّ، فيلزم عدم صدقه على الخارجيّات؛ لأنّ المستعمل فيه حينئذٍ يكون مركّباً من جزأين اثنين: أحدهما: ذات المعنى، والآخر: اللّحاظ.

ومعه: فلا يكاد يمكن امتثال الأمر في مثل قولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، لأنّ ما هو موجود في الذهن بقيد الذهنيّة مباين لما هو موجود في الخارج، كما هو معلوم، ولا يصدق أحدهما على الآخر، فلا يكون من الممكن - حينئذٍ - إيجاده؛ فإنّ تركّب المستعمل فيه من المعنى واللّحاظ، يوجب تقيّده بالوجود الذهنيّ؛ لأنّ اللّحاظ أمر ذهنيّ، موطنه الذهن، والشيء المقيّد بالوجود الذهني لا يمكن أن يحصل في الخارج، كما لا يخفى.ممّا يعني: أنّه لا بدّ حين الاستعمال من تجريد المعنى عن التقيّد بالأمر الذهنيّ الذي هو خصوصيّة اللّحاظ، ليصبح الابتداء مثلاً - بعد التجريد - في مثل قوله: «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّاً طبيعيّاً قابلاً للانطباق على الخارجيّات.

وثانياً: لو كان المعنى في باب الحروف جزئيّاً للزم الاحتياط في مقام الامتثال عند ورود الأمر في مثل قوله: «سر من البصرة»، وذلك بالسير من جميع نقاط البصرة؛ لأنّ المطلوب بحسب الفرض هو الابتداء الخاصّ، أي: من نقطةٍ خاصّة، غاية الأمر: أنّها مردّدة بين العديد من النقاط، وليس ذلك على نحو البدليّة، ليكفي الابتداء من أيّة نقطةٍ كانت، وحينئذٍ: فيكون

ص: 107

المقام من باب الاشتباه في المكلّف به، والحكم في مثل هذا المورد هو الاحتياط، ولكن، ليس بناء العقلاء على ذلك في مثل هذا الأمر المذكور.

وثالثاً: المفروض أنّ الاستعمال يتقوّم بلحاظ كلٍّ من اللّفظ والمعنى معاً، فلو كان اللّحاظ المذكور جزءاً للموضوع له أو المستعمل فيه، لكان لا بدّ عند الاستعمال من لحاظٍ آخر يتعلّق بهذا اللّحاظ.

فمثلاً: عند استعمال كلمة «من»، المزعوم أنّ معناها مركّب من معنى (الابتداء) ومن اللّحاظ، فلابدّ من لحاظين اثنين يكون أحدهما متعلّقاً بالآخر:

أمّا الثاني منهما: فهو بحسب الفرض جزء من المعنى.

وأمّا الأوّل: فهو المقوّم للاستعمال؛ إذ لا معنى للاستعمال إلّا لحاظ ما يراد من المعنى وإلقاء اللّفظ بإزائه، ومن المعلوم: أنّ تعدّد اللّحاظ في مقام الاستعمال على خلاف الوجدان، وعليه: فلا يمكن إلّا أن يكون المستعمل فيه هو ذات المعنى صرفاً، لا مركّباً من ذات المعنى ومن اللّحاظ.وبعبارةٍ اُخرى: فلو كان اللّحاظ جزءاً من معنى الكلمة، فلابدّ عند استعمالها من لحاظين:

أوّلهما: اللّحاظ الوضعيّ، وهو الذي يكون دخيلاً فيه بحسب الوضع.

والثاني: اللّحاظ الاستعماليّ، وهو الذي يلاحظه المستعمل كمقدّمةٍ للاستعمال. وحينئذٍ: فيجتمع اللّحاظان.

ص: 108

ثمّ إنّ الاستعمال متوقّف على تصوّر المستعمل فيه، فلو فرض أنّ اللّحاظ جزء من المعنى ومقوّم له، لزم تعلّق اللّحاظ بالمعنى الملحوظ، وهو باطل؛ لأنّ الموجود لا يقبل الوجود ثانياً.

ولو كان اللّحاظ مقوّماً للمعنى، للزم عدم صدقه على الخارجيّات إلّا بالتجريد، لأنّ المقيّد بالوجود الذهنيّ يكون محلّه الذهن لا الخارج، فبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجيّ، ومع التجريد فلا يكون الاستعمال إلّا مجازيّاً، وهذا يعني: أن لا يستعمل اللّفظ في معناه الموضوع له أبداً، وهو كما ترى.

تنبيه:

لا يخفى: أنّ مراد القائلين بجزئيّة المعنى هو جزئيّته باللّحاظ، أي: بمصداق اللّحاظ، لا بمفهومه، أي: أنّه لا بدّ من توفّر مصداقٍ للّحاظ في مقام الاستعمال، بحيث يكون هذا المصداق دخيلاً في المستعمل فيه، شطراً أو شرطاً.

ومعلوم: أنّ اللّحاظ المصداقيّ جزئيّ ذهنيّ، فكذا يكون ما يقيّد به.

وإذا كان المعنى المستعمل فيه في الحرف جزئيّاً دائماً، فلا معنى للقول بكلّيّة المعنى الموضوع له؛ لاستلزامه المجاز بلا حقيقة؛ إذ لا يتحقّق الاستعمال في نفس ذلك الكلّيّ الموضوع له أبداً.ومن هنا ظهر: ما في القول المنسوب إلى التفتازانيّ في كيفيّة وضع

ص: 109

الحروف، وهو: أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له فيها عامّ، وإنّما الخاصّ المستعمل فيه(1).

وأمّا بحسب المفهوم: فالاختلاف بين المفهومين محلّ اتّفاقٍ.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الموجود الخارجيّ على قسمين:

أحدهما: ما كان موجوداً في نفسه، أي: لا في موضوع، كالجوهر.

والآخر: ما كان موجوداً في غيره، كالأعراض، وكالموجود الذهنيّ الذي تقوّمه باللّحاظ، فالوجود الذهني - والذي هو عبارة عن نفس اللّحاظ - تارةً يكون مستقلاً في نفسه، ومستقلاً بالمفهوميّة بحسب اللّحاظ، واُخرى يكون موجوداً في غيره، وغير مستقلٍّ بالمفهوميّة بحسب اللّحاظ، بمعنى: أنّ لحاظ الذهن له يكون في ضمن لحاظ الغير.

وخلاصة القول:

أنّ لحاظ الاستقلاليّة والآليّة في كلٍّ منهما ليس جزءاً للموضوع له ولا للمستعمل فيه، وإنّما يكون من قيود الوضع ومميزاته، وأنّه كما أنّ اللّحاظ الاستقلاليّ ليس جزءاً لأحدهما في الأسماء، فليكن اللّحاظ الآليّ أيضاً في الحروف كذلك.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)(2) من أنّ المقام يكون من باب الكلّيّ

ص: 110


1- انظر: منتهى الدراية 1: 39.
2- راجع: كفاية الاُصول: 11. قال(قدس سره): «مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات؛ لامتناع صدق الكلّيّ العقليّ عليها، حيث لا موطن له إلّا الذهن...».

العقليّ، فمحلّ تأمّل؛ لأنّ الكلّيّ العقليّ - في اصطلاحهم - هو المجموع من العارض والمعروض، كالإنسان الكلّيّ، لأنّ ما قيّد به المفهوم - وهو الكلّيّة - لا موطن له إلّا العقل.ولكنّ هذا المصطلح، بهذا المعنى، لا ينطبق على مقامنا؛ إذ إنّ ما قيّد المعنى هنا هو اللّحاظ لا وصف الكلّيّة، ولعلّ التعبير عنه ﺑ (الكلّي العقليّ) لأجل أنّ نفس المعنى يكون كلّيّاً، وأمّا قيده - وهو اللّحاظ - فيكون عقليّاً، حيث كان موطنه هو العقل، وإلّا، فالاُولى بعد كون المقيّد به المعنى هو اللّحاظ أن يعبّر عنه ﺑ (الجزئيّ الذهنيّ).

ورابعاً: إنّ لحاظ المعنى الحرفيّ هو كلحاظ المعنى الاسميّ، ولكنّ اللّحاظ في الأوّل هو بمعنى كونه حالةً لغيره، وأمّا الثاني فهو بمعنى كونه مستقلّاً. وكما أنّ أحداً لم يتوهّم أنّ اللّحاظ الاستقلاليّ يكون مأخوذاً في المعنى الاسميّ، فكذلك اللّحاظ الآليّ.

ولكن ناقش في ذلك المحقّق العراقي(قدس سره)(1)، بما حاصله:

أنّ المعنى الموضوع له اللّفظ يستحيل فيه أن يكون مهملاً، بل هو في حدّ ذاته إمّا مستقلّ وإمّا غير مستقلّ، وإلّا، يلزم ارتفاع النقيضين، ولا جامع بين النقيضين حتّى يكون هو الموضوع له.

ولكنّ ما ذكره المحقّق المذكور) إنّما يصحّ بلحاظ النسبة إلى حاقّ الواقع، فإنّ (الرقبة) في حاقّ الواقع - مثلاً - إمّا أن تكون مقيّدةً بالإيمان

ص: 111


1- نقله عنه في: منتهى الاُصول 1: 19.

وإمّا أن لا تكون كذلك، ولا يمكن لها، بهذا اللّحاظ، أن تخلو من قيد الإيمان ومن نقيضه معاً.

ولكنّ عدم إمكان خلوّها منهما في الواقع لا ينافي عدم تقيّدها بذلك القيد ولا بنقيضه، بل يمكن أن يكون ما وضع له لفظ (الرقبة) غير مقيّدٍ بالإيمان ولا بعدمه.

ومقامنا أيضاً من هذا القبيل، فإنّ الموضوع له إنّما هو الماهيّة المهملة، والتي لم تقيّد حتّى بقيد الإطلاق، فيمكن أن تكون في حدّ نفسها لا مستقلّةً ولا غير مستقلّة.وتلخّص: أنّ المعنى الحرفيّ لا يصير جزئياً باللّحاظ الآليّ حتى يقال: بأنّ المستعمل فيه في باب الحروف يكون خاصّاً، وأنّ التفكيك بين اللّحاظين يحتاج إلى دليل.

فلا فرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ، وكلّ من الآليّة والاستقلاليّة خارجتان عن حريم المعنى؛ لأنّ المعنى في حدّ ذاته لا يتّصف بهما.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سره) أورد على نفسه فقال:

«إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين صحّ استعمال كلٍّ منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة كما هو واضح»(1).

ص: 112


1- كفاية الاُصول: 12.

وحاصله: أنّه لو كان هناك ترادف بين كلمة (من) ولفظة (الابتداء) - مثلاً - لصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر، كما هو الشأن في كلّ الألفاظ المترادفة، ولكنّ بطلان هذا الاستعمال في غاية الوضوح، لعدم جواز أن يقال: (سرت ابتداء البصرة)، مكان قولك: (سرت من البصرة).

ثمّ أجاب عنه(قدس سره) بما لفظه:

«قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلٍّ منهما بوضعٍ، حيث إنّه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرّت إليه الإشارة غير مرّةٍ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخروإن اتّفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته»(1).

وتوضيح كلامه): أنّ الاختلاف في كيفيّة الوضع بين الاسم والحرف هو الذي أوجب عدم الترادف بينهما، وذلك أنّ الاسم وضع ليراد به المعنى في نفسه، وأمّا الحرف فقد وضع واُريد به أن يكون آلةً لملاحظة مدخوله.

ص: 113


1- المصدر نفسه.

فالاستقلاليّة والآليّة ملحوظتان للواضع من جهة كيفيّة وضعه لكلٍّ من الاسم والحرف.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ المعنى في كلٍّ من الاسم والحرف واحد، وإنّما يفترقان من جهة اللّحاظ في عمليّة الوضع، أي: في أنّ الواضع وضع الاسم للمعنى لكن في حال إرادته بنفسه، وأمّا الحرف فقد وضعه لنفس المعنى ولكن في حال إرادته آلةً وحالةً لغيره، من دون أن يكون شيء من ذلك قيداً في المعنى، فالاسم والحرف بمعنىً واحد، غاية الأمر: أنّ دائرة الوضع ضيّقة من أوّل الأمر، من باب (ضيّق فم الركيّة)، لأنّ وضع الحروف للمعنى في حالٍ من الأحوال، ووضع الأسماء يكون في حالٍ آخر، من دون أن تكون الحالة قيداً للمعنى.

وقد يرد على جوابه هذا:

بأنّ المرجع في ما ذكر من الاختلاف في كيفيّة الوضع: لو كان إلى ما هو من قبيل الاشتراط على المستعمل، كما قد يتوهّم، ليكون - حينئذٍ - مثل الشروط الواقعة في ضمن العقد، فيرد عليه: أنّه لا دليل على لزوم الوفاء بهذا الشرط في مثل المقام بعد ما كان الاستعمال فيما خالف الشرط لا يستلزم الخروج عن المعنى الموضوع له إلىغيره. وأيضاً: فهذا يستوجب - لا محالة - تقييد الموضوع له، وهو ليس إلّا رجوعاً عمّا هو فرضه(قدس سره).

وأمّا إذا قلتم: بأنّه لا يرجع الشرط إلى الموضوع له، بل يكون من

ص: 114

باب تعدّد المطلوب، فحينئذٍ: يتحقّق الامتثال بمجرّد الإتيان بالموضوع له بدون القيد، لفرض تعدّد المطلوب.

فتكون النتيجة: جواز استعمال الحرف في مكان الاسم وبالعكس، بعدما كان الشرط خارجاً عن حيّز الموضوع له، وهذا خلف، وعليه لا يكون هذا الاستعمال غلطاً ولا مستهجناً.

وليس هذا الشرط من الشروط الشرعيّة حتى تحرم مخالفته.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فهو إنّما يتمّ إذا كان الواضع شخصاً معيّناً.

بل حتّى لو فرضنا أنّه شخص معيّن، فلا يمكن المساعدة عليه - أيضاً - من جهةٍ اُخرى، وهي: أنّ جعل هذا الشرط ليس من وظيفة الواضع، وإنّما وظيفته مجرّد جعل العلقة بين الألفاظ ومعانيها، وأمّا تعيين طريقة الاستعمال أو إلزامهم بشروطٍ معيّنة، فخارج عن حدود صلاحيّاته.

إشكال بعض المحقّقين:

وقد استشكل بعض المحقّقين)(1) على هذه الإرادة - أعني: إرادة المعنى بما هو في نفسه في الاسم، وإرادته بما هو حالة لغيره في الحرف - فوجّهها: بأنّ الوضع للاسم والحرف ينشأ بشرطين، بنحو الشرط المتأخّر، نظير الإنشاءات التعليقيّة الشرعيّة، كالوصيّة التمليكيّة، فإن الملكيّة هناك منوطة بالموت.

ص: 115


1- هو المحقّق الشّاهروديّ) كما جاء في تقريرات السّيّد المروّج). (غير مطبوع).

والوضع - أيضاً - من الاُمور الاعتباريّة، فيمكن للواضع أن يضع اللّفظ لمعنىً ما، ولكن معلّقاً على إرادة المستعملين، فإرادة المعنى في نفسه شرط للواضع - كشرطيّة الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ - ومع حصول الشرط، وهو هنا: الإرادة المذكورة، يصير الموضوع له فعليّاً. إذاً، فحصول الوضع وفعليّته منوطة بتحقّق الشرط.

ولكنّه) عاد ليستشكل على هذا التوجيه: بأنّ هذه الإرادة المزعومة هل هي الإرادة الاستعماليّة أم غيرها؟ فإن كانت الاُولى: لزم المحال؛ إذ يلزم أن يكون الوضع بعد الإرادة الاستعماليّة التي هي متأخّرة عن الوضع، ضرورة ترتّب الاستعمال على الوضع وتأخّره عنه، فيلزم تأخّر الوضع عمّا هو متقدّم عليه رتبةً. وهذا لايتمّ إلّا بناءً على القول بتبعيّة الدلالة للإرادة.

وإن كانت غيرها: فيكذّبها الوجدان؛ إذ إنّ إرادة المعاني إنّما تحصل باعتبار اللّفظ الذي هو موضوع له، ممّا يعني إرادتها تكون متأخّرة عن الوضع.

أقول: الإشكال الذي أورده هذا المحقّق على الشقّ الأوّل - أعني: أن تكون الإرادة هي الإرادة الاستعماليّة - إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ الوضع مقدّم على الاستعمال، وأمّا لو قلنا: إنّه عين الاستعمال، فلا.

وإن كان المرجع في هذا - أي ما قاله صاحب الكفاية - إلى أنّ اللّحاظ قد أخذ على نحو الداعي، أي: أنّ الداعي للواضع في وضعه الحروف

ص: 116

لمعانيها هو أن تكون هذه المعاني حالةً للغير.

ففيه: أنّه أيّ دليلٍ قام على اعتبار هذا الداعي؟ وقد ذكرنا: أنّه لا يضرّ تخلّف الشرط فكيف بتخلّف الداعي؟(قدس سره)اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ وزانه كوزان الملاكات بالنسبة إلى الأوامر، فكما أنّ الأوامر تكون تابعةً للمصالح والأغراض الداعية إلى الطلب والأمر، فإذا كانت هذه المصالح ضيّقةً فلا يبقى مجال لإطلاق الأمر وتوسعته بحيث يشمل ما هو أزيد عن مقدار المصلحة الموجودة فيه؛ لأنّ ضيق المصالح والأغراض موجب لضيق دائرة المنشأ والمجعول.

ففي المقام - أيضاً - إذا كان غرض الواضع هو وضع اللّفظ للمعنى لا على نحو الإطلاق، بل لكي يدلّ على معناه بما هو حالة للغير وباللّحاظ الآليّ، فإنّ دائرة الموضوع ووضعه ستتضيّق، لا محالة.

وهذا التقييد ليس على سبيل التقييد في المعنى ليرد الإشكال بأنّه يستحيل تقييد المعنى باللّحاظ المتأخّر عنه، بل اللّازم من تضييق دائرة الوضع هو عدم صحّة استعمال أحدهما في مكان الآخر.

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ ضيق الوضع يوجب عدم صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر حقيقةً، ولكنّه لا يوجب عدم صحّته مجازاً، وهذا الذي ذكره يرجع في مآله إلى مفهوم اللّحاظ، وكلامنا هنا - كما عرفت - في مصداق اللّحاظ؛ إذ هو الجزء وهو الذي يكون دخيلاً في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.

ص: 117

وأيضاً: فلو كانت الحروف والأسماء مشتركةً في المعنى، وكان كلّ من الاستقلاليّة والآليّة وعدمهما خارجاً عن حريم المعنى، فلازم هذا: جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، ولو مجازاً، مع أنّه من أفحش الأغلاط؛ لأنّ العلقة الداخليّة موجودة هنا، فإذا كان استعمال اللّفظ في غير ما وضع له جائزاً من جهة العلّة الخارجيّة، فاستعماله هنا يكون جائزاً بطريق أولى، لأنّها هنا ذاتيّة.وبالجملة: فعدم جواز استعمال أحدهما في مكان الآخر، ولو مجازاً، دليل على أنّ بين المعنيين تبايناً ذاتيّاً. هذا.

مضافاً إلى أنّ هذا الفرق المذكور ليس بقاعدةٍ كلّيّة ومطّردة لكي تجري في كلّ الحروف والأسماء، فمثلاً: لو قلنا: بأنّ الملاك في الحرفيّة هو أن يكون لحاظ المعنى على نحو الآليّة، فإنّ جملةً من الاسماء ستتحوّل لتصبح حروفاً.

وقد مثّل لذلك الاُستاذ الأعظم) ﺑ-«التبيّن المأخوذ غايةً لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوُاْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأبْيَضُ﴾ الآية(1) فإنّه قد أخذ مرآةً وطريقاً إلى طلوع الفجر، من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها، فبذلك يعلم: أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آليّاً»(2).

ص: 118


1- البقرة: 187.
2- محاضرات في اُصول الفقه 1: 58.

ولكنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو لم نأخذ التبيّن على أنّه تمام الموضوع للحكم المذكور في الآية، وإلّا، فلا يكون لحاظه آليّاً، بل يكون استقلاليّاً حينئذٍ، كما هو واضح.

وفيما أفاده الاُستاذ الأعظم) أيضاً: أنّ الحرف ينقلب اسماً في مثل جملة: «جاء زيد مع عمرو»، «فإذا كان مجيء زيدٍ معلوماً، ولكن كانت كيفيّة مجيئه مجهولةً عند أحدٍ، فلم يعلم أنّه جاء مع غيره أو جاء وحده، فسأل عنها، فقيل: إنّه جاء مع عمروٍ، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والاستفادة في مثل ذلك إنّما هو هذه الخصوصيّة التي هي من المعاني الحرفيّة، دون المفهوم الاسميّ، فإنّه معلوم، بلإنّ الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف: النظر الاستقلاليّ والقصد الاُولى بإفادة الخصوصيّات والكيفيّات المتعلّقة بالمفاهيم الاسميّة»(1).

فالحقّ: هو المباينة بين المعنيين تبايناً ذاتيّاً. وما أبعد ما بين هذا القول وبين قول من التزم بأنّه لا معنى للحرف أصلاً، كما سنبيّن.

القول الثاني:

ما عن نجم الأئمّة الرضيّ)(2): من أنّ الحروف لا معنى لها، أي: ليس لها معنى بحيث يوضع لها لفظ الحرف، بل جعل علامةً على خصوصيّة

ص: 119


1- المصدر نفسه.
2- حكاه عنه في: محاضرات في اُصول الفقه 1: 59.

المعنى في مدخوله، ويكون حالها كحال وجوه الإعراب، فكما أنّ الرفع يدلّ على فاعليّة الفاعل، ﻛ (زيد) في قولك: (قال زيد)، فإنّ (من) كذلك تدلّ على ابتدائيّة مدخولها، وهو (البصرة) في قولك - مثلاً -: (سرت من البصرة)، و(في) أيضاً تدلّ على ظرفيّة مدخولها ﻛ (الدار) في قولنا - مثلاً -: (زيد في الدار).

والحاصل: أنّه وكما أنّ الرفع علامة للفاعليّة، ولا معنى له في نفسه أصلاً، فكذلك الحرف، فهو ليس إلّا علامةً لمعرفة معنى الغير، ولا يدلّ على معنىً أصلاً.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ نفس الخصوصيّة التي دلّت عليها الحروف هي بعينها نفس معانيها؛ إذ بعدما ثبت أنّ الألفاظ موضوعة لذات معناها، كلفظ (زيد) الموضوع لذات المعنى، ولفظ (الدار) الموضوعة لنفس معنى الدار، فإنّ بين (زيد) و(الدار) أو (البصرة)و(الكوفة) مثلاً خصوصيّةً ما تكون خارجةً عمّا وضعت له هذه الألفاظ من المعاني. وما يدلّ على تلك الخصوصيّة إنّما هو الحرف.

فلو لم تكن تلك الخصوصيّة مستفادةً من كلمة (في)، بل من نفس لفظ (الدار) عند الاستعمال، لكان هذا الاستعمال غلطاً، ولا نظنّ أحداً يلتزم بذلك.

وإن كانت تلك الخصوصيّة مدلولاً عليها بالحروف، فهذا اعتراف بأنّ

ص: 120

للحروف معنىً، وهو المطلوب.

ومن هنا يظهر الحال فيما ذكره في أجود التقريرات بقوله: «ومنه يظهر الحال في المقيس عليه وهو الإعراب، فإنّا نلتزم فيه بما نلتزمه في الحروف من دلالتها على معانٍ قائمةٍ بمدخولها»(1)؛ فإنّا لا نحتاج في المقيس عليه - وهو الإعراب - أن نلتزم بما ذكره هذا المحقّق«؛ وذلك لأنّ الدلالة على الإعراب هي النسبة الصدوريّة أو الوقوعيّة أو الحلوليّة، فلا يكون الإعراب دالاً على ذلك، وهذا بخلاف المقام، فإنّ ما يدلّ على النسبة هو الحروف.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام بعض المحقّقين المعاصرين.

وأمّا منعه دلالة حركات الإعراب على معنىً لنفس الوجه، ففيه: أنّه يستفاد من حركات الإعراب معانٍ وخصوصيّات خارجة عن أصل مدلول الاسم، ولذلك يتغيّر المعنى بتغيّرها وتبدّلها، وذلك ظاهر جدّاً.

وثانياً: إنّ هذا القول مخالف لما اتّفقت عليه كلمة النحويّين في تقسيمهم للكلمة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والحرف؛ فإنّا لو جرّدنا الحرف عن المعنى لم يصحّ أن تقسّم الكلمة إلّا إلى قسمين فقط. فتأمّل.

ص: 121


1- أجود التقريرات 1: 16.

القول الثالث:

وهو المنسوب إلى المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1)، وحاصله:

أنّ معاني الحروف إيجاديّة، وليست إخطاريّةً كمعاني الأسماء، فالمعنى الحرفيّ يباين المعنى الاسميّ من جهة الذات والصفة، فالأسماء تدلّ على المعاني الاستقلاليّة، وأيضاً: فالمعاني الاسميّة عبارة عن الصور التي تحضر في الذهن ويكون لها مطابق في الخارج.

وأمّا الحروف: فليس لها مفهوم متصوّر في الذهن كالمفاهيم الاسميّة، فإنّ ما تحكي عنه كلمة (من) - مثلاً - ليس هو النسبة الابتدائيّة المقرّرة في الذهن، وإنّما هو عبارة عن وجودٍ ذهنيٍّ يحصل به الربط بين المعاني الاسميّة أو بين الاسم والفعل، فتحقّق هذا الربط بآلة هي آلة الحروف الموضوعة لإيجاد تلك المعاني المربوطة، فكلمة (من) موضوعة لإيجاد الربط الابتدائيّ بين السير والبصرة في مثل قولك: (سرت من البصرة)، وكلمة (على) لإيجاد النسبة الاستعلائيّة بين (زيد) و(السطح)، في مثل: (زيد على السطح).

وبعبارةٍ اُخرى: فالحروف لا مفهوم لها، ولا يمكن تصوّرها على نحو الاستقلال، وتصوّر الشيء فرع وجوده؛ لأنّ تصوّره بصورته منوط بإدراكه بإحدى الحواسّ الظاهرة؛ فإنّ المفهوم مترتّب على التصوّر، وهو

ص: 122


1- انظر: أجود التقريرات 1: 16 فما بعدها.

على الوجود، فإذا قلت مثلاً: (البصرة، سير)؛ فإنّ هاتين الكلمتين تدلّان على مفهومين لا ربط بينهما، فتأتي كلمة (من) لتكون هي - في أصل وضعها - ما يوجد الربط الابتدائيّ بين هذين المفهومين.وبعبارةٍ أوضح: فبما أنّ المعاني الاسميّة لا ارتباط لبعضها مع الآخر، احتيج في مقام تأليف الكلام منها إلى رابطٍ يربط بعضها بالآخر، ولا يمكن أن يكون ذلك الرابط من سنخ المعاني الإخطاريّة، لأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى رابطٍ آخر، وهكذا.. فيتسلسل الأمر إلى غير النهاية؛ لأنّ المعاني الإخطاريّة مستقلّة في نفسها وليست برابطة.

فتعيّن: أنّ ما يراد له أن يكون رابطاً، فلابدّ فيه أن يكون من سنخ حقيقة الربط، وهو الوجود الذهنيّ الذي يصل بين المعاني الإخطاريّة فيربط بعضها ببعض، والموضوع للرّبط بين هذه المعاني في الذهن إنّما هو الحروف.

وملخّص القول:

أوّلاً: أنّ المائز بين المعنى الاسميّ والحرفيّ هو أنّ المعاني الاسميّة إخطاريّة وأمّا الحرفيّة فإيجاديّة، وحقيقة الحروف هي الربط، فحال الحرف كحال اللّاصق الذي به تلتصق الأجزاء المتفرّقة بعضها ببعض.

وثانياً: أنّ المعاني الحرفيّة لا استقلال لها في هويّة ذاتها، بل هي قائمة بغيرها، فالارتباط الذي تدلّ عليه الحروف والهيئات يكون قائماً بالطرفين.

ص: 123

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الحروف لا معنى لها في حدّ ذاتها وبالاستقلال، وإنّما يوجد معناها في موطن الاستعمال لا قبل ذلك، إذ لا وجود لها قبل ذلك لكي يتصوّر ثمّ يتعقّل، لما ذكرناه من توقّف التعقّل على التصوّر، وهو على وجوده خارجاً حتى يدرك بإحدى الحواس.

فالحاصل: أنّ معاني الحروف لا موطن لها إلّا وعاء الاستعمال - كما مرّ - وليس لها تقرّر في وعاء الواقع والذهن؛ فإنّ الموضوع له في الحروف ليس هو مفاهيم النسب والارتباطات، بل مصاديقها التي توجد في مواطن الاستعمال، فإذا قلنا: (زيد، الدار، الكتاب ..)، فإنّ لكلّ واحدٍ من هذه الألفاظ مفهوماً مستقلاً، وعندمانلقيهما إلى المخاطب تقع في ذهنه صورتهما ومعناهما الواقعيّ، ولكنّ مفهوم لفظ (في) لا يكاد يحضر في الذهن إلّا مع حضور متعلّقيه وركنيه، وهما (زيد) و(الدار)، فالمعنى الاسميّ مستقلّ في التصوّر، ولا كذلك المعنى الحرفيّ، بل هو يدور مدار الاستعمال حدوثاً وبقاءً.

أو فقل: إنّ حال المعنى الحرفيّ حال العرض في معروضه، إذ ما يلتفت إليه إنّما هو نفس وجود العرض، وأمّا قيامه بالمحلّ وفناؤه فيه فمغفول عنه، فإذا قلنا: (زيد قائم) حضر إلى ذهننا مفهوم زيد ومفهوم القيام، ولكنّ هذين المعنيين إذا أُخذا مستقلّين كان بينهما التباين، ولا يفهم منهما المعنى الجمليّ إلّا بعد تحقّق الربط بينهما، فلو لم يوجد الربط لم يتمّ الكلام ولم يصحّ الإخبار بقيام زيد. فحال هذا الربط إذاً، هو حال ربط العرض

ص: 124

بالمحلّ، ويكون مغفولاً عنه كحال العرض مع معروضه.

وثالثاً: لو كان المعنى الحرفيّ إخطاريّاً، وهو عين المعنى الاسميّ، فلابدّ أن يصحّ استعمال الاسم مكان الحرف، وبالعكس، مع أنّ هذا الاستعمال غير جائزٍ، لا حقيقةً ولا مجازاً، الأمر الذي يكشف، كشفاً قطعيّاً عن المباينة وعدم السنخيّة بينهما أصلاً، فللحروف معانٍ، ولكن ليس لها مفاهيم، ولا يجب أن يكون المفهوم لكلّ ما له معنى؛ لما ذكرناه من أنّ معناها لا يوجد إلّا في موطن الاستعمال، لا قبل ذلك حتّى يكون موجوداً ويدرك بإحدى الحواسّ وقابلاً للتصوّر والتعقّل.

وإنّ المعنى الحرفيّ مغفول عنه وغير ملتفتٍ اليه، بخلاف الاسميّ، لأنّه - أي: المعنى الحرفيّ - لا يكون من المفاهيم المتقرّرة حتّى يكون قابلاً للّحاظ.

وممّا ذكرناه من المباينة بينهما، يظهر:

عدم فرض إمكان وجود جامعٍ بينهما حتّى يحتاج في تمييزها عن الآخر بمميّز.وظهر أيضاً: أنّ للحرف فناءين، وأمّا الاسم فليس له إلّا فناء واحد، وهو فناؤه في المعنى.

وأمّا فناءا الحرف: فأوّلهما: نفس فناء الاسم - أي فناء اللّفظ في المعنى - والآخر: فناء المعنى الحرفيّ في معنىً آخر اسميّ، فإذا قلت: (زيد على السطح) مثلاً، فإنّ كلمة (على) في هذه الجملة موجدة للاستعلائيّة

ص: 125

القائمة بالسطح، كقيام العرض بمعروضه.

وبالجملة: فالمعاني الحرفيّة إيجاديّة؛ لأنّها لا وجود لها قبل الاستعمال ولأنّها غير ملتفتٍ إليها، ولا تقرّر لها في أيّ وعاءٍ من أوعية الواقع، لا ذهناً ولا خارجاً، بل لا موطن لها حتى في عالم الاعتبار قبل الاستعمال؛ لأنّ الالتفات إليها متوقّف على تصوّرها وإحضارها في الذهن، فإذا فرض أنّه لا وجود لها في غير موطن الاستعمال، وأن ليس لها قبل الاستعمال أيّ وجودٍ أصلاً، فلا يمكن تصوّرها ولا الالتفات إليها في المرتبة السابقة على الاستعمال؛ لأنّ الالتفات إليها قبل الاستعمال إنّما يكون ممكناً مع فرض إمكان وجودها في الذهن، والمفروض - كما ذكرنا - أن لا وجود لها في أيّ وعاءٍ غير وعاء الاستعمال، وإذا لم يكن لها وجود قبل الاستعمال، امتنع إطلاق وتقييد اللّحاظين فيه.

وقد استدلّ المحقّق النائينيّ) على مبناه هذا بوجوه(1):

الأوّل: بما روي عن أبي الأسود الدؤليّ، عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد معنىً في غيره»(2).ثمّ ذكر(قدس سره) أنّه يظهر من عدوله(علیه السلام) عن الإنباء إلى الإيجاد بالنسبة إلى

ص: 126


1- فوائد الاُصول 1: 50.
2- انظر: بحار الأنوار 40: 162.

الحرف: أنّ المعنى الحرفيّ لا تقرّر له في أيّ وعاءٍ غير وعاء الاستعمال حتى يدلّ عليه الحرف ويحكي عنه كحكاية أخويه عن معنييهما. ممّا يعني: أنّ الحرف هو فقط آلة لإيجاد معناه.

قال ): «وأمّا قوله(علیه السلام): (والحرف ما أوجد معنىً في غيره)، فكذلك، أي: أنّه منطبق على ما ذكرناه من أنّ معاني الحروف إيجاديّة بقيودها الأربعة، إذ لازم كونه ما أوجد معنىً في غيره، هو أن يكون المعنى إيجاديّاً، وأن يكون ذلك المعنى قائماً في غيره، وأن لا يكون له موطن غير الاستعمال، وأن يكون مغفولاً عنه، على ما عرفت: من أنّ القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير»(1).

ومّما يؤيّد ذلك: ما يظهر من تعبير أهل العربيّة وقولهم: «كلمة (في) للظرفيّة»، حيث لم يقولوا: «(في) هي الظرفيّة».

الثاني: أنّ حرف النداء مثل (يا) في «يا زيد»، لا يمكن أن يكون منبئاً وحاكياً عن النسبة الابتدائيّة المتقرّرة في غير موطن الاستعمال، إذ قبل الاستعمال لا منادىً ولا منادٍ، بل هذه العناوين إنّما توجد بنفس الاستعمال.

الثالث: لا شكّ ولا شبهة في أنّ مفاهيم أجزاء الجملة مفاهيم بسيطة في الأذهان، لا يرتبط بعضها ببعض، بلا فرق بين أن تكون تلك الجمل اسميّةً أو فعليّةً، خبريّةً أو إنشائيّة، ناقصةً أو تامّة.

ص: 127


1- فوائد الاُصول 1: 50.

مثلاً: في مثل قولك: «الماء في الكوز»، لو تصوّرت كلاً من الماء والكوز لوجدت أنّهما موضوعان لمفهومين متغايرين لا ربط لأحدهما بالآخر، ولا يمكنتأليف الكلام منهما لولا كلمة (في)، فلو أنّك استعملت كلمة (في) في مفهوم النسبة الظرفيّة، لا في حقيقة الظّرفيّة ومصداقها، لأصبحت دالّةً - هي أيضاً - على معنىً مستقلّ.

وحينئذٍ: فلابدّ أن نسأل: ما هو الرابط بين هذين المفهومين المستقلّين المتغايرين، وكيف تحقّق الربط بينهما؟! ومن هنا يظهر: أنّ الموجد للربط بين المعاني المتغايرة إنّما هو الحروف والهيئات، ولا بدّ حينئذٍ أن تكون الحروف والهيئات موضوعةً لمصاديق النسب والارتباطات، لا لمفاهيمهما؛ إذ من دون ذلك لا يكاد يمكن أن يحصل الربط بين هذه الاُمور المستقلّة والمتباينة من حيث المفهوم.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ الرواية عامّيّة لا يعتمد عليها.

ففيه - كما نسب إلى المحقّق الجليل السيّد علي البهبهانيّ) - : «أن ّ الرواية مشتهرة بين أهل العربيّة اشتهار الشمس في رابعة النهار»(1)، بل هي مشهورة بين العامّة والخاصّة.

هذا وينبغي أن يعلم: أنّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) في الاستدلال على مبناه هذا فغير تامٍّ.

ص: 128


1- فوائد الاُصول 1: 50، (الهامش).

عدم تماميّة أدلّة المحقّق النائينيّ):

أمّا أوّلاً: فلأنّ الرواية قد حكيت بأشكالٍ مختلفة، منها: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ به، والحرف ما جاء لمعنىً»، ومنها: «الاسم ما دلّ على المسمّى، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنىً ليس باسمٍ ولا فعل»ومنها: «إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد معنىً في غيره». كما قد رويت أيضاً بألفاظٍ اُخرى(1).

ومن الروايتين الأوليين: تظهر الإخطاريّة لا الإجاديّة. نعم، الرواية الأخيرة تدلّ على مبناه. وعليه: فمع اختلاف المتن، فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية، حتّى وإن كانت متواترةً من جهة الصدور.

وأمّا ثانياً: فلأنّه لا فرق بين القضيّة المعقولة والقضيّة الملفوظة، فكما أنّ القضيّة الملفوظة تحتاج إلى رابط، فالقضيّة المعقولة أيضاً تحتاج إليه، وبناءً على إيجاديّة المعنى الحرفيّ، يلزم إنكار القضيّة المعقولة؛ لعدم ربطٍ ذهنيٍّ يربط بين الطرفين، اللّهمّ إلّا أن يلتزم بإمكان تحقّق القضيّة وتأليفها من دون ربطٍ بين طرفيها، وهو كما ترى.

وأمّا ثالثاً: فلا شكّ في أنّ المتكلّم إذا أراد أن يلقي كلاماً إلى مخاطبه، فلابدّ له أن يتصوّر أجزاء الكلام بما فيه من النسب والارتباطات، حتى

ص: 129


1- راجع: تأسيس الشيعة، تأليف العالم الجليل السّيّد حسن الصدر): 46- 61؛ وكتابنا الكشف الجليّ: 53 - 55.

تكون الجملة الملفوظة مطابقةً للجملة المعقولة من المسند والمسند إليه، وكذا يعتبر تصوّر النسب والارتباطات التي تدلّ عليها الحروف والهيئات.

وبعبارةٍ اُخرى: فبعد ما ذكرناه من أنّه لا بدّ من تطابق القضيّة المعقولة مع الملفوظة فالكلام الملقى إلى المخاطب كما أنّه يشتمل على ألفاظٍ تدلّ على مفاهيم مستقلّة لا بدّ من تصوّرها قبل إلقائها إلى المخاطب، فهو كذلك يشتمل على الحروف والهيئات التي تحكي عن الارتباطات والنسب، وهذه لا بدّ من تصوّرها أيضاً.

وهل يعقل إلقاء كلام مفيد إلى المخاطب من دون تصوّر أطرافها بعدما ذكرناه من لزوم التطابق بين القضيّتين؟(قدس سره) فإذا اُلقيت مفاهيم متعدّدة يرتبط بعضها مع بعض، فكماأنّ إبراز تلك المفاهيم والمعاني المستقلّة يكون بالألفاظ من الأسماء والأفعال، فكذلك إبراز تلك النسب يكون بواسطة الحروف والهيئات، فالحاكي عن نفس تلك المفاهيم والمعاني المستقلّة لا يغني عن ما يحكي عن خصوصيّاتها؛ لعدم دلالتها عليها؛ لأنّ المفروض أنّ اللّفظ لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة المهملة المعرّاة عن كلّ خصوصيّةٍ وارتباط.

وعليه: فكما أنّ المفاهيم تحتاج إلى دالٍّ، فالخصوصيّات تحتاج إلى دالّ آخر.

ونتيجة ما ذكرنا: أنّ مداليل الحروف والهيئات هي تماماً كمداليل

ص: 130

الأسماء إخطاريّة، وليست إيجاديّة.

وعليه: فما ذكره المحقّق النائينيّ) من أنّ المعنى الحرفيّ والاسميّ بينهما تباين بالذات هو الحقّ، وقد مرّ: أنّ التباين بينهما ذاتيّ، وليس من جهة اللّحاظ، ولكنّنا لا نوافقه فيما ذهب إليه من التفريق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء بجعل الاُولى إيجاديّة، والثانية إخطاريّة، بل نقول: إنّ معاني الحروف كمعاني الأسماء إخطاريّة، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، وإنّما الفرق من جهة اُخرى، وهو: أنّ الأسماء تحكي عن مفاهيم استقلاليّة، وأمّا الحروف فتحكي عن مفاهيم غير استقلاليّة.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الحروف تدلّ على معانيها التي وضعت بإزائها، أي: التي تكون سبباً للرّبط في الكلام بين المفاهيم المتباينة، والتي لم تكن مرتبطةً بعضها ببعض لولا الحروف، لا أنّ الحروف توجب الربط في نفس ذلك التركيب بحيث لا يكون لها واقع خارج تركيب الكلام.وتحصّل: أنّ للحرف نحو ثبوت في وعاء المفاهيم المستقلّة، ومن هنا نرى أنّ بعض هذه الحروف ليست بمغفولٍ عنها، بل يتعلّق بها اللّحاظ الاستقلاليّ، كما لو أردت أن تسأل عن كيفيّة مجيء زيدٍ مع علمك بأصل مجيئه.

ومعه: فلا وجه للقول بأنّ المعاني الحرفيّة لا مفهوم لها بما هي معانٍ حرفيّة

ص: 131

خارجاً عن التراكيب الكلاميّة. إلّا أن يقال: إنّ الحرف بمجرّد تعلّق اللّحاظ الاستقلاليّ به يخرج عن كونه حرفاً، ويدخل في المعنى الاسميّ، كما في قولك: إنّ (على) للاستعلاء، فإنّ هذا الحرف تحوّل عن الحرفيّة ليصير اسماً مبتدءاً، إذ كلّ ما يكون مغفولاً عنه مع البقاء على مغفوليّته فهو حرفيّ، ولكنّه وبمجرّد استقلاله يلحظ مستقلّاً، فيصير معنىً اسميّاً.

القول الرابع:

ما في هداية المسترشدين من التفصيل في الحروف، فبعض الحروف إيجاديّ، كحروف النداء والتمنّي والترجّي، وبعضها إخطاريّ، ﻛ (من) و(إلى) و(على) و(في)، فاستعمال (من) في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» - مثلاً - موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء، واستعمال (إلى) فيه موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الانتهاء، فهما حاكيان عمّا وقع في الخارج من باب حكاية الألفاظ عن معانيها.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«الغالب في أوضاع الألفاظ أن تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللّفظ فيها، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللّغات، وحينئذٍ: فقد يكون ذلك المعنى أمراً حاصلاً بقصده في نفسه، مع قطع النظر عن اللّفظ الدالّ عليه، فليس من شأن اللّفظإلّا إحضار ذلك المعنى ببال

ص: 132

السامع. وقد يكون ذلك المعنى حاصلاً بقصده من اللّفظ من غير أن يحصل هناك معنىً قبل أداء اللّفظ، فيكون اللّفظ آلةً لإيجاد معناه وأداةً لحصوله.

ويجري كلّ من القسمين في المركّبات والمفردات: فالأوّل من المركّبات: الإخبارات، والثاني منها: الإنشاءات؛ ولذا قالوا: إنّ الخبر ما له خارج يطابقه أو لا يطابقه، والإنشاء ما ليس له خارج، بل يحصل معناه بقصده من اللّفظ.

والنوع الأوّل من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة، فإنّها إنّما تقضي بإحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد إثبات تلك المعاني في الخارج، وهي أعمّ من أن تكون ثابتةً في الواقع أو لا.

والنوع الثاني منها: كأسماء الإشارة والأفعال الإنشائيّة - بالنسبة إلى وضعها النسبيّ - وعدّة من الحروف، كحروف النداء والحروف المشبّهة بالفعل ونحوها؛ فإنّ كلّاً من الإشارة والنسبة الخاصّة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال (هذا) و(اضرب) و(يا) و(إنّ) في معانيها»(1). انتهى موضع الحاجة من كلامه(اعلی الله مقامه).

ولكن، ومّما ذكرنا لك ظهر بطلان هذا التفصيل، وأنّه لا معنى لإيجاديّة الحروف مطلقاً.

ص: 133


1- هداية المسترشدين 1: 145 - 146.

القول الخامس:

ما اختاره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1): وحاصله: أنّ المعنى الحرفيّ هو من قبيل الوجود الرابطي، كالأعراض.وبيان ذلك: أنّ الفلاسفة - على ما قيل - يقسّمون الوجود إلى أقسامٍ أربعة:

الأوّل: الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه، وهو وجود الواجب تعالى شأنه، فإنّه موجود قائم بذاته، وليس معلولاً لغيره.

الثاني: الوجود في نفسه و لنفسه ولكن بغيره، وهو وجود الجوهر، فإنّه قائم بذاته، ولكنّه معلول لغيره.

الثالث: الوجود في نفسه ولكن لغيره، وهو وجود العرض؛ فإنّه غير قائم بذاته، بل متقوّم بموضوع في الخارج، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع متحقّق في الخارج. ويعبّر عن هذا القسم في الاصطلاح ﺑ-(الوجود الرابطيّ).

والرابع: الوجود لا في نفسه، وهو المعبّر عنه ﺑ-(الوجود الرابط)، في قبال (الوجود الرابطيّ)، وهو وجود النسبة والربط، فإنّ حقيقة النسبة لا وجود لها في الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبين، بلا استقلالٍ

ص: 134


1- بدائع الأفكار 1: 50.

لها أصلاً، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها.

بخلاف العرض، فإنّه بذاته غير متقوّمٍ بموضوعه، وإنّما التقوّم بموضوع من لوازم وضروريّات وجوده.

وإذا اتّضح ذلك، فإنّ الحروف قد وضعت لمعنىً ملحوظٍ بما أنّه حالة للغير ونعت له؛ لأنّه لا يتصوّر بنفسه في الذهن مع غضّ النظر عن الغير، بل لا يمكن وجوده في الذهن مستقلّاً وفي غير الموضوع، كالأعراض الخارجيّة التي لا توجد مستقلّاً وفي غير الموضوع، بل وجوداتها في أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها.

فمفهوم (من) - مثلاً - ليس هو في الذهن بمعنى: طبيعة الابتداء، حتّى يمكن أن يخبر عنها وأن تلاحظ مستقلّة، وإنّما معنى (من): خصوص الابتداء الذي هو حالةللبصرة - مثلاً - وبما أنّ معناه غير مستقلّ، فلا يكون من الممكن أن يخبر عنه، وهذا يعني: أنّ (من) لا تدلّ على شيءٍ.

وبالجملة: فالمعنى الحرفيّ حاله حال الأعراض، فكما أنّ الأعراض لا توجد في الخارج مستقلّةً، ولا توجد فيه إلّا في الموضوع، فإنّ الحرف كذلك أيضاً، لا يوجد إلّا حالةً لمعنىً آخر وقائماً به، وليس قيامه بنفسه كقيام المعنى الاسميّ بنفسه.

ولعلّ هذا هو المراد من قولهم: «الحرف ما دلّ على معنىً في غيره». وعليه: فالمعنى الحرفيّ من قبيل الوجود الرابطي، لا الوجود النفسيّ ولا الوجود الرابط.

ص: 135

وفيه:

أوّلاً: قد ذكرنا سابقاً: أنّ المعنى الحرفيّ من قبيل الوجود الرابط، وليس من قبيل الوجود الرابطيّ، كما أنّه ليس من قبيل الوجود النفسيّ المحض؛ إذ من المعلوم بالضرورة عدم استقلاليّة معناه، ولو كان من قبيل الأعراض والوجود الرابطيّ لاحتاج إلى طرفٍ واحد فقط، والوجدان حاكم بأنّه يحتاج إلى طرفين.

وثانياً: المتكلّم حينما يريد أن يلقي جملةً ما، فلابدّ له من تصوّرها أوّلاً، ليلقيها لاحقاً على طبق ما تصوّره، ولا شكّ في أنّ الربط الذهنيّ كالربط الخارجيّ، فكما أنّ الربط الخارجيّ قائم بالطرفين، ولا استقلال له بدونهما، فكذلك الربط الذهنيّ.

وعليه: فالحروف والهيئات تربطان بين الاُمور المستقلّة التي لا ارتباط فيما بينها، فإنّ كلمة (زيد) و (قيام) الموجودين في الجملة - مثلاً - لو قمنا بتصوّر مفهوم كلّ واحدٍ منهما على حدة، فلا مجال لتصوّر أيّ ارتباط بينهما، وكذا لو فرض وجود زيد في الخارج بلا قيام، أو وجود قيام بلا زيد، فهل يمكن الارتباط بين هذين الموجوديناللّذين لا وجود للارتباط بينهما؟(قدس سره) وكذا الحال في موطن الذهن، فإنّه لا يمكن جعل الارتباط بين شيئين لا ارتباط بينهما، إلّا بواسطة الآلة.

فتحصّل: أنّه كما أنّ الربط الخارجيّ قائم بالطرفين، فكذلك الربط الذهنيّ.

ص: 136

ثمّ إنّه حسب تقسيم الفلاسفة: فوجود العرض وجود في نفسه لغيره، والوجود الرابط وجود لا في نفسه، وهو في مقابل الوجود الرابطيّ.

القول السادس:

ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره)، قال:

«التحقيق: أنّ المعاني الحرفية و المفاهيم الأدوية، وإن كانت مرتكزةً في أذهان كلّ أحدٍ ومعلومة لديه إجمالاً، ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها، إلّا أنّ الداعي إلى البحث عنها في المقام: حصول العلم التفصيليّ بها.

وبيان ذلك: أنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقةً، ولا اشتراك لهما في طبيعيّ معنىً واحد. وقد تبيّن حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها، وأنّه لا شبهة في تباين المعنى الاسميّ والحرفيّ بالذات، فلا حاجة إلى الإعادة و البيان. ونتكلّم فيها فعلاً من ناحيةٍ اُخرى - بعد الفراغ عن تلك الناحية - وهي أنّ المعاني الحرفيّة التي تباين الاسميّة بتمام الذات ما هي؟ فنقول:

إنّ الحروف على قسمين: أحدهما: ما يدخل على المركّبات الناقصة و المعاني الإفراديّة ﻛ (من) و(إلى) و(على) ونحوها. والثاني: ما يدخل على المركّبات التامّة ومفاد الجملة، كحروف النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي وغير ذلك.

ص: 137

أمّا القسم الأوّل: فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيودٍ خارجةٍ عن حقائقها، ومع هذا، لا نظر لها إلى النسب والروابطالخارجيّة، ولا إلى الأعراض النسبيّة الإضافيّة، فإنّ التخصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

توضيح ذلك: أنّ المفاهيم الاسميّة، بكلّيّتها وجزئيّتها، وعمومها وخصوصها، قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها، ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الحصص المنوّعة، كإطلاق (الحيوان) - مثلاً - بالإضافة إلى أنواعه التي تحته؛ أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة، كإطلاق (الإنسان) بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده؛ أو بالقياس إلى حالات شخصٍ واحدٍ، من كمّه وكيفه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مرّ الزمن.

ومن البديهيّ: أنّ غرض المتكلّم، في مقام التفهيم والإفادة، كما يتعلّق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته، كذلك قد يتعلّق بتفهيم حصّةٍ خاصّةٍ منه، فيحتاج - حينئذٍ - إلى مبرزٍ لها في الخارج. وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكلّ واحدٍ من الحصص أو الحالات مبرز مخصوص، لعدم تناهي الحصص والحالات، بل عدم تناهي حصص أو حالات معنىً واحدٍ، فضلاً عن المعاني الكثيرة، فلا محالة، يحتاج الواضع الحكيم إلى

ص: 138

وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلم تفهيمها، وليس ذلك إلّا الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالّة على النسب الناقصة، كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيف، فكلّ متكلّمٍ متعهّد في نفسه بأنّه متى ما قصد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ من معنىً، أن يجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه، على نحو القضيّة الحقيقيّة؛ لا بمعنى أنّه جعل بإزاء كلّ حصّةٍ أو حالةٍ حرفاً مخصوصاً، أو ما يحذو حذوه، بنحو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، لما عرفت: من أنّه غير ممكنٍ من جهة عدم تناهي الحصص. فكلمة (في) في جملة:(الصلاة في المسجد حكمها كذا)، تدلّ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ من الصلاة، وفي مقام بيان حكم هذه الحصّة، لا الطبيعة السارية إلى كلّ فرد. وأمّا كلمتا (الصلاة) و(المسجد)، فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللّابشرط، بدون أن تدلّا على التضييق والتخصيص أصلاً.

ومن هنا: كان تعريف الحرف ﺑ (ما دلّ على معنىً قائمٍ بالغير) من أجود التعريفات وأحسنها، وموافق لما هو الواقع ونفس الأمر ومطابق لما ارتكز في الأذهان من أنّ المعنى الحرفيّ خصوصيّة قائمة بالغير وحالة له».

إلى أن قال: «وبكلمةٍ واضحة: إنّ وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع، فإنّ القول بالتعهّد - لا محالة - يستلزم وضعها لذلك، حيث عرفت: أنّ الغرض قد يتعلّق بتفهيم الطبيعيّ وقد يتعلّق بتفهيم الحصّة، والمفروض أنّه لا يكون عليها دالّ ما عدا

ص: 139

الحروف وتوابعها، فلا محالة يتعهّد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصّةٍ خاصّة...».

إلى قوله: «ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحصص موجودةً في الخارج أو معدومةً، ممكنةً كانت أو ممتنعةً.

ومن هنا: يصحّ استعمالها في صفات الواجب تعالى، والانتزاعيّات: كالإمكان والامتناع ونحوهما، والاعتباريّات: كالأحكام الشرعيّة والعرفيّة، بلا لحاظ عنايةٍ في البين.

مع أنّ تحقّق النسبة في تلك الموارد - حتّى بمفاد هل البسيطة - مستحيل. وجه الصحّة هو: أنّ الحروف وضعت لإفادة تضييق المعنى في عالم المفهوميّة، مع قطع النظر عن كونه موجوداً في الخارج أو معدوماً، ممكناً كان أو ممتنعاً، فإنّها على جميع التقادير تدلّ على تضييقه وتخصيصه بخصوصيّةٍ ما على نسقٍ واحد، فلا فرقبين قولنا: (ثبوت القيام لزيد ممكن)، و(ثبوت القدرة لله تعالى ضروريّ) و(ثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع)، فكلمة (اللاّم) في جميع ذلك استعملت في معنىً واحدٍ، وهو: تخصّص مدخولها بخصوصيّةٍ ما في عالم المعنى، بلا نظرٍ لها إلى كونه محكوماً بالإمكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع، فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن مدلولها.

ومن هنا: يكون استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسقٍ واحدٍ، بلا لحاظ عنايةٍ في شيءٍ منها».

ص: 140

انتهى ما أردنا نقله من كلامه«(1).

والذي يظهر: أنّ السبب في اختياره(قدس سره) لهذا القول اُمور:

أوّلها: أنّ المعنى المشار إليه يشترك في جميع الموارد لاستعمال الحرف في الواجب تعالى والممكن والممتنع على نسقٍ واحد.

الثاني: بطلان سائر الأقوال.

الثالث: أنّ ما سلكه في حقيقة الوضع من أنّه التعهّد ينتج ضرورة أنّ المتكلّم إذا قصد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.

والرابع: موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفيّ؛ فإنّ الناس يستعملونها لإفادة الحصص في المعاني وتضييقها في عالم المعنى، غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها، وعن إمكان تحقّقها أو عدم إمكانه. وعدم العناية في ذلك كلّه يكشف كشفا قطعيّاً عن أنّ الموضوع له الحرف هو ذلك المعنى وفي نفس المعاني، كان له وجود خارجيّ أم لا.

وقداُجيب عن ذلك:

بأنّ ما ذكر أوّلاً: من التباين بين المعنى الاسميّ والحرفيّ تبايناً ذاتياً حقيقيّاً هو الحقّ، كما مرّ بأنّه ليس التباين بينهما هو باللّحاظ.

ص: 141


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 75، فما بعدها.

وأمّا ما ذكر ثانياً: من أنّه من نتائج ثمرات مسلكنا - وهو التعهّد - فإنّه غير تامٍّ؛ لأنّه بناءً على الهوهويّة أيضاً ، يمكن لنا أن نقول به.

مع أنّه لا ملازمة بين البحثين أصلاً؛ لأنّ ما يقع البحث هنا هو أنّ الملاك الذي أحرزنا كونه موجوداً في الشيء، بأيّ مقدارٍ يكون موجوداً فيه؟ وهل هذا الملاك مأخوذ على نحو الإطلاق أم التقييد - أي الحصّة الخاصّة -؟ أو فقل: هل تحصل الحاجة على نحو الاستيعاب؟ أم أنّه يكفي ولو بالحصّة الخاصّة؟ فإذا كان على نحو الاستيعاب فيضع اللّفظ له، وإذا كان على نحو الحصّة الخاصّة فلابدّ من تقييده، بلا فرق بين أن يكون الوضع هو التعهّد أو الهوهويّة أو غير ذلك.

ولكنّ النسبة موجودة، والكلام في البحث اللّفظيّ، وعروض النسبة إنّما هو ممنوع بين الذات المقدّسة والوجود في الخارج، بل في الذهن، وأمّا الألفاظ والربط الذهنيّ فقوامه - كما هو ظاهر - بالمفاهيم، لا بالوجودات الخارجيّة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ معنى (من) إخطاريّ، ولكنّ وعاءه بعد ثبوت المفاهيم المتباينة، وبعد وجود ركنيه، فما لم تتمّ ملاحظة السير والبصرة - مثلاً - ولم تلاحظ النسبة بينهما بحيث يفهم عند إلقاء الكلام بأنّ المراد ليس مطلق السير، بل السير من مكانٍ خاصّ، فلذلك لا ينطبق السير هنا على غير السير من البصرة، وحيث إنّ المراد منحصر في هذه الحصّة الخاصّة من السير، فإنّ ملاحظة المفهومين مع النسبة الكائنة بينهما أمر

ص: 142

ضروريّ، وإذا لوحظت هذه المفاهيم في المرتبة السابقة، فعند ذلك تحصل الحصّة وتتحقّق.فظهر بذلك: أنّ المعنى الحرفيّ موضوع للنّسبة الحاصلة بين السير والبصرة. أي: أنّه موضوع لشيء يكون سبباً للتحصّص، إذ بعدما دلّ كلّ من السير والبصرة على معنىً خاصّ، وبعد أن كان ما يدلّ على النسبة بينهما هو الحرف، فيكون الحرف هو الذي بسببه يحصل التحصّص، لا أنّ الحرف هو بمعنى التحصّص لكي يصبح مدلوله معنىً اسميّاً، والحصّة لا تخرج بالتحصّص عن المفهوميّة الاسميّة، وهي موضوعة للنسب والرابط والتحصص والتضييق سبب لا مسبب، فلا يمكن التضييق بدون النسبة والربط بين مفهومٍ ومفهومٍ آخر.

فمراده(قدس سره): إن كان المسبّب، فهو عين ما قاله الميرزا النائيني)؛ وإن كان المسبّب، أعني: نفس مفهوم التضييق أو مصداقه، فيلزم - بناءً على الأوّل - أن يكون من المعاني الاسميّة، وأمّا بناءً على إرادة المصداق والوجود الخارجيّ، فيرد عليه: أنّ الوجود الخارجيّ لا يقبل الانتقال.

ثمّ إنّ الحكمة إنّما تقتضي تعلّقه بتفهيم نفس الحصّة، لا بالتحصيص والتضييق، وحينئذٍ: فيكون مقتضى الحكمة هو وضع الحرف لنفس الخصوصيّة الموجبة للتضييق، لا لنفس التضييق والتحصيص.

وأيضاً: فلو وضع لنفس المصداق، لزم تحقّق الترادف بين مصاديق

ص: 143

التضييق، مع أنّه ليس بينها أيّ ترادف، وإنّما هو التباين؛ لأنّ مفهوم أحدها غير الآخر.

ثمّ إنّه حتّى لو قلنا ببطلان بقيّة الوجوه، فإنّ هذا لا يستلزم صحّة ما ذكره(قدس سره).

الخبر والإنشاء

ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سره) بعد أن اختار اتّحاد المعنى الحرفيّ والاسميّ بالذات والحقيقة، وأنّ الاختلاف بينهما مقصور على الاختلاف باللّحاظ، قال:«ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا فيما استعملا فيه»(1).

وحاصل ما أفاده): أنّ الاختلاف بين الخبر والإنشاء اختلاف باللّحاظ فقط دون الذات والحقيقة، وأنّ الإخباريّة والإنشائيّة هما من شؤون مقام الاستعمال، من دون دخلٍ لهما في المعنى، وأنّ طبيعيّ الموضوع له فيهما واحد، وهو نسبة المبدأ إلى الذات، فيكون الخبر عبارةً عن الكلام الذي يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، والإنشاء ما لا يكون لنسبته خارج كذلك.

ص: 144


1- كفاية الاُصول: 12.

وعليه: فإن قصد بالكلام الحكاية عن النسبة كان خبراً، وإن قصد إيجادها في الخارج كان إنشاءً.

مختار المحقّق الأصفهانيّ):

اختار المحقّق الأصفهاني(قدس سره) أنّ المعنى الحرفيّ هو كالوجود الرابط، من حيث كونه متقوّماً بالطرفين، ولا وجود ولا تحقّق له إلّا في ضمن طرفين، وأنّ وجوده ليس منحازاً عن وجوديهما، وإنّما نقطة الاختلاف بين المعنى الحرفيّ وبين الوجود الرابط: أنّ المعنى الحرفيّ موطنه الذهن، والوجود الرابط موطنه الخارج.

بل يمكن أن يقال: إنّ المعنى الحرفيّ قسم من الوجود الرابط، وهو: الوجود الرابط في الذهن القائم بمفهومين، والذي قد يعبّر عنه ﺑ«النسبة والربط بين المفاهيم» دون الوجود الرابط في الخارج المعبّر عنه ﺑ«النسبة الخارجيّة».والذي يشهد على أنّ اختياره هو كون المعنى الحرفيّ الربط في الذهن هو ما ذكره في كتابه «الاُصول على النهج الحديث»، من أنّ الفرق بين المعنى الاسميّ والحرفيّ كالفرق بين الوجود الرابط والوجود المحموليّ(1).

ص: 145


1- الاُصول على النهج الحديث: 22- 24.

وقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بوجهين:

الأوّل: أنّه لو سلّمنا تحقق وجود للرّابط والنسبة خارجاً غير وجود الجوهر والعرض، فلا نسلّم وضع الحروف والأدوات لها؛ لما تقدّم من امتناع الوضع للموجودات الذهنيّة والخارجيّة، وتعيّن وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيّات؛ لأنّ المقصود من الوضع هو التفهيم، وهو يحصل بحصول صورة المعنى في الذهن باستعمال اللّفظ، والموجود الخارجيّ لا يقبل الإحضار في الذهن؛ لأنّه خلف كونه خارجيّاً، وأمّا الموجود الذهنيّ فهو غير قابل للإحضار ثانياً؛ لأنّ الموجود الذهنيّ لا يقبل وجوداً ذهنيّاً آخر.

وعليه: فيمتنع الوضع للموجود، خارجيّاً كان أم ذهنيّاً، للغويّته وعدم ترتّب أثر الوضع عليه.

والثاني: أنّه لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا إمكان الوضع للموجود بما هو موجود، فلا نسلّم وضع الحرف للنّسبة؛ لاستعماله بلا مسامحةٍ في موارد يمتنع فيها تحقّق نسبةٍ ما، حتّى بمفاد (هل) البسيطة، فلا فرق بين قولنا: (الوجود للإنسان ممكن)، و(لله ضروريّ)، و(لشريك الباري ممتنع). فإنّ (اللّام) مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد، بلا عناية في أحدها، مع أنّه يستحيل فرض استعمالها في النسبة فيبعضها، حتّى بمفاد (كان) التامّة، لعدم تحقّق أيّ نسبةٍ بين الواجب وصفاته، لأنّ النسبة

ص: 146

إنّما تتحقّق بين ماهيّةٍ ووجودها، نظير ما في قولك: (زيد موجود)(1).

ولكن، لا يخفى:

أنّ هذا الكلام مجرّد دعوىً بلا دليل، ولا يمكن أن يدّعى إلّا في خصوص الألفاظ المشتركة، كصيغة (بعت) و(ملكت) و (قبلت) وغيرها ممّا يستعمل في الإخبار تارةً وفي الإنشاء اُخرى. وأمّا الألفاظ المختصّة بأحدهما - كصيغة (افعل) المستعملة دائماً في الإنشاء، وكالجملة الاسميّة، المستعملة دائماً في الإخبار، نحو: (زيد قائم) - فإنّه لم تعهد هناك صحّة قصد الإخباريّة بالألفاظ المختصّة بالإنشاء، ولا الإنشائيّة بالألفاظ المختصّة بالإخبار.

فكلامه(قدس سره) - إذاً - مختصّ بالصيغ المشتركة التي تستعمل فيراد بها الإنشاء تارةً والإخبار اُخرى؛ فإنّ المعنى - كما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) - في مثلها واحد، كما ذكرنا، وهو نسبة المبدأ إلى الذات.

والإخباريّة والانشائيّة ليستا إلّا من الأغراض الداعية إلى الاستعمال، فإنّ الداعي في مقام الإنشاء إنّما هو إيجادها في الخارج، وفي مقام الإخبار الحكاية عنها.

وعليه: فليس الاختلاف بينهما ذاتيّاً، لا من جهة الموضوع له، ولا من جهة المستعمل فيه، وإنّما يختلفان بحسب الداعي، فاستعماله في

ص: 147


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه: 1: 76.

الإنشاء ليس بمجازٍ، ولا هو على خلاف الموضوع له، بل المعنى في مثله واحد، وهو نسبة المبدأ إلى الذات.

فاتّضح: أنّ الانشائيّة والإخباريّة هما من الأغراض التي تكون داعيةً إلى الاستعمال، بمعنى: أنّه لو قصد المستعمل الإيجاد فهو الإنشاء، وإن قصد الحكاية عن النسبة الواقعيّة فهو الإخبار، وإلّا، فإنّ الصيغة، كما ذكرنا، تستعمل في كلٍّ من الإنشاءوالإخبار، وأمّا مدلولها الذاتيّ فليس شيئاً سوى إيقاع النسبة بين المسند والمسند اليه، فكلمة (بعت) - مثلاً - تستعمل في معناها الموضوع له، وهو نسبة البيع إلى الفاعل، لا أنّها تستعمل تارةً في الإنشاء واُخرى في الإخبار، بل لو قصد المتكلّم الحكاية عن النسبة كان إخباراً، وإن قصد إيجادها كان إنشاءً. فالإنشائيّة والإخباريّة هما نظير الاستقلاليّة والآليّة، خارجتان عن كلٍّ من المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.

وعليه: فإن قصدت بها الإنشاء واستعملتها في الإنشاء، فلا يكون ذلك مجازاً؛ لأنّ المفروض أنّه قد استعمل في الموضوع له.

الأقوال في معنى الإنشاء:

ثمّ إنّ في بيان ما هو المراد من الإنشاء احتمالاتٍ ووجوهاً، بل أقوال أربعة:

الأوّل: إيجاد المعنى باللّفظ في نفس الأمر.

والثاني: إيجاده باللّفظ بالعرض، أي: في وعاء الاستعمال.

ص: 148

والثالث: إيجاده باللّفظ في الوعاء المناسب له.

والرابع: إبراز الصفات النفسانيّة باللّفظ.

وأمّا الموضوع له في الجملة الخبريّة فهو عند المشهور ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج.

أمّا القول الأوّل: فهو مختار المحقّق صاحب الكفاية)(1)، وتوضيحه:

أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه، من الذهن أو الخارج، بخلاف الخبر؛ فإنّه عبارة عن الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه. والمراد من وجوده في نفس الأمر هو: ما لا يكون بمجرّد فرضفارضٍ، لا أنّه ما يكون بحذائه شيءٍ في الخارج، فملكيّة المشتري للمبيع لم يكن لها أيّ ثبوتٍ قبل إنشاء التمليك، وإنّما ثبوتها لا يعدو الفرض، كفرض إنسانيّة الجماد وبحر من زئبق وأنياب أغوال، ولكن بعد إنشائها حصل لها نحو ثبوتٍ وخرجت عن مجرّد الفرض، وإن لم يكن بإزائها شيء في الخارج.

فالمعنى الإنشائيّ يوجد بوجودٍ إنشائيّ، ويحصل له نحو تقرّر في عالم الإنشاء، وهذا غير مختصٍّ بالاُمور الاعتباريّة، بل يتعدّاها ليشمل الخارجيّة منها، كالتمنيّ والاستفهام، ممّا يعني: أنّ إنشاء الصفات الواقعيّة النفسانيّة هو - أيضاً - أمر ممكن.

ص: 149


1- فوائد الاُصول: 285، المطبوعة ضمن الحاشية.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الإنشاء يتحقّق، ولو لم يكن للصّفة الحقيقيّة وجود في الخارج أصلاً، ويترتّب عليه آثاره، لو كانت له آثار. كما أنّه لا يعتبر في الوجود الإنشائيّ ترتّب أثرٍ شرعيٍّ أو عرفيٍّ عليه، ولذا لو تكرر اللّفظ الواحد المنشأ مراراً، فإنّه لا يخرج كلّ منها عن الإنشاء، بل يوجد المعنى بكلّ إنشاءٍ بوجودٍ إنشائيّ مستقلّ غير الآخر، ولا يكون من قبيل إيجاد الموجود كي ينفي كونه إنشاء.

وبكلمةٍ: فالإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائيّ اعتباريّ غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع، ومن أجل ذلك كان خفيف المؤونة، ولا يتوقّف على ترتّب أثر عقلائيّ عليه، ولذا، كان إنشاء المجنون لا عن قصد إنشاء، كما أنّه يصلح لأن يسري في الصفات الحقيقيّة الواقعيّة، ولا تتوقّف صحّته على ثبوت تلك الصفات في نفس الأمر والواقع في عالمها الخارجيّ. كما في قول الشاعر: (ألا ليت الشباب يعود يوماً).

والفرق بين الإنشاء والخبر من جهتين:

الاُولى: أنّ مفاد الإنشاء مفاد كان التامّة لا الناقصة.والثانية: أنّ مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن، ومفاد الخبر يحكى به بعد أن كان أو يكون.

وقد يستشكل على هذا:

أوّلاً: بأنّ الإنشاء - وكما يظهر من العبارة - يكون متقوّماً بقصد الإيجاد،

ص: 150

وأمّا الإخبار فهو متقوّم بقصد الحكاية، فلو فرض أنّ كلاماً لم يقصد به شيء من الأمرين فإنّه لا يكون إنشاءً ولا إخباراً، وهذا مخالف لما صدر من أهل الأدب من حصرهم الكلام التامّ الذي يصحّ السكوت عليه في قسمي الإنشاء والإخبار. ولذا نراهم يدخلون كلام الهازل والساخر في الإخبار لو كان قد صدر منهما بنّحو الحكاية، ولو لم يكن لهما أيّ قصد في ذلك، وأمّا لو صدر منهما بنحو الإنشاء فإنّهم يدخلونه في الإنشاء، على الرغم من صدور هذا الكلام بلا قصدٍ.

وثانياً: لو كان الإنشاء متقوّماً بقصد الإيجاد، والإخبار متقوّماً بقصد الحكاية، للزم - عند الاستعمال - تعلّق القصد بالقصد؛ لأنّ هذا القصد مقوّم للإنشاء أو الإخبار، فلو أراد - مثلاً - إيجاد البيع وحصوله في الخارج، فلابدّ من قصده ثانياً عند الإنشاء، وكذا في الإخبار، مع أنّا لا نرى - بالوجدان - إلّا قصداً واحداً.

وقد أورد الاُستاذ الأعظم)(1):

على الإشكال الأوّل: بأنّه لا وجود لكلامٍ لا يقصد به الإنشاء أو الحكاية، بل الكلام التامّ المفيد لا ينفكّ عن قصد أحدهما؛ لأنّ دلالته تصديقيّة لا تصوّريّة.

وعلى الإشكال الثاني: بأنّه أنما يتمّ لو أخذنا قصد الإنشائيّة أو

ص: 151


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 84.

الإخباريّة في الموضوع له أو المستعمل فيه كي يقال: إنّ أحد القصدين هو جزء الموضوع والثاني متعلّق به، ولكنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ الموضوع مطلق وليس مقيّداً بقصد الحكايةولا الإيجاد، بل هذا القصد مأخوذ في العلقة الوضعيّة، بمعنى: أنّها في مقام الاستعمال تقيّدت في الإنشاء بقصد الإيجاد وفي الإخبار بقصد الحكاية.

فهو لا يخرج عن حقيقيّة الاستعمال، بل هو استعمال واحد؛ لأنّ المراد من ثبوت المعنى باللّفظ: إمّا أن يكون بحيث ينسب الثبوت إلى اللّفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض، أو أن يراد ثبوته منفصلاً عن اللّفظ بآليّة اللّفظ، بحيث ينسب الثبوت إلى كلٍّ منهما بالذات.

لا مجال للثاني، لأنّ وجود الماهيّات - بالذات - منحصر في العينيّ والذهنيّ، وسائر أنّحاء الوجود من اللّفظيّ والكتبيّ وجود بالذات للّفظ والكتابة وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى.

ولا يخفى: أنّ آليّة وجود اللّفظ وعلّيّته لوجود المعنى بالذات لا بدّ من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والخارج، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقّف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه، والواقع بخلافه، إذ لا يوجد باللّفظ موجود آخر يكون مطابقاً للمعنى أو مطابقاً لإيجاد اللّفظ بالمعنى.

والحقّ: هو الوجه الأوّل، وهو أن ينسب وجود واحد إلى اللّفظ والمعنى بالذات في الأوّل، وبالعرض في الثاني، وهو إيجاد المعنى

ص: 152

باللّفظ بالعرض. وهذا هو القول الثاني، وهو قول المحقّق الأصفهانيّ) وادّعى أنّه مراد صاحب الكفاية(قدس سره)(1).

وإنّما قيّدوه بنفس الأمر مع أنّ وجود اللّفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضاً بالعرض، تنبيهاً على أنّ اللّفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود للمعنى تنزيلاً في جميع النشآت، فكأنّ المعنى ثابت في مرتبة ذات اللّفظ بحيث لا ينفكّ عنه في مرحلةٍ من مراحل الوجود.فإن قلت: هذا جارٍ في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون الاختصاص بالإنشائيّات.

قلت: الفرق أنّ المتكلّم قد يتعلّق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللّفظ المنزّل منزلتها، وقد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللّفظ المنزّل منزلتها، ﻓ (بعت) - مثلاً - إنشاءً وإخباراً واحد، وهي النسبة المتعلّقة بالملكيّة، وهيئة (بعت) وجود تنزيليّ لهذه النسبة الإيجاديّة القائمة بالمتكلّم والمتعلّقة بالملكيّة، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودها التنزيليّ والجعليّ اللّفظيّ، فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الإنشاء.

وقد يقصد - زيادةً على ثبوت المعنى تنزيلاً - الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضاً، وهو الإخبار.

ص: 153


1- انظر: نهاية الدراية 1: 113.

وكذلك في صيغة (افعل) ﻛ (اضرب) فإنّه يقصد به ثبوت البعث الملحوظ نسبةً بين المتكلّم والمخاطب والمادّة، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعليّ التنزيليّ اللّفظيّ، وهذا لا يقاس ولا ينتقض بالأسماء المفردة، فإنّها لا تلاحظ، ولعدم النظر إلى وجودها خارجاً ثبوتاً لفظيّاً.

وأمّا القول الثالث: فهو المشهور في تفسير الإنشاء، وحاصله:

أنّ الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللّفظ في عالم الاعتبار العقلائيّ. أي: أنّ المعنى الاعتباريّ في نفسه يوجد له فرد حقيقيّ بواسطة اللّفظ، فيكون إلقاء اللّفظ سبباً لتحقّق اعتبار العقلاء للمعنى، فالإنشاء هو التسبيب باللّفظ إلى الاعتبار العقلائيّ للمعنى.

إذاً، فهذا القول يتّفق مع قول صاحب الكفاية) في أنّه إيجاد للمعنى بنحو وجودٍ، وفي عالمٍ آخر غير عالم اللّفظ أو الخارج أو الذهن. وإنّما يختلف عنه: في أنّوجوده على اختيار صاحب الكفاية(قدس سره) نحو وجودٍ إنشائيٍّ من سنخ الاعتباريّات، بحيث يختلف عن سائر الاعتباريّات، فالملكيّة بإنشائها ﺑ (ملكت) توجد - على اختيار صاحب الكفاية - بوجودٍ إنشائيٍّ اعتباريٍّ غير وجودها الاعتباريّ الثابت لها في نفسها وفي وعائها المفروض لها.

وأمّا على هذا القول: فهي توجد بوجودها الاعتباريّ الثابت لها في حدّ ذاتها، وتتحقق في وعائها المقرّر لها، وهو عالم الاعتبار العقلائيّ.

ص: 154

وتظهر الثمرة في اختلاف القولين فيما يحرّر في محلّه من بطلان الصيغة مع التعليق، وأنّه يعتبر في صحّة العقد تنجيزه، وكذا في نفوذه، ويستثنى من ذلك ما إذا كان التعليق قهريّاً، فإنّه لا يضرّ التعليق عليه وعدمه، بل لا ثمرة فيه إن كان قهريّاً، كما في التعليق على رضا المالك في بيع الفضولي فإنّ الأثر بحسب الاعتبار العقلائيّ إنّما يترتّب مع رضا المالك، فالإنشاء لا ينفذ إلّا على تقدير الرضا.

ووجه ظهور الثمرة في هذا البحث: أنّه إذا التزم بأنّ معنى الإنشاء ما هو المشهور من أنّه استعمال اللّفظ بقصد إيجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائيّ، يتصوّر حينئذٍ قهريّة تعليق هذا على أمرٍ ما، كما لو كان الاعتبار العقلائيّ متوقّفاً على شيءٍ - كالمثال السابق -.

وأمّا لو التزم بأنّ معناه ما اختاره صاحب الكفاية) من أنّه استعمال اللّفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائيّ، فلا يتصوّر قهريّة التعليق على شيء؛ لأنّه مرتبط بنفس المنشئ، بمعنى: أنّ هذا الوجود الإنشائيّ وإن كان عقلائيّاً، إلّا أنّه بقصد الإنشاء، فارتباطه بالمنشئ، لا بالعقلاء كي يتوقّف عندهم في بعض الصور على شيءٍ ما؛ لأنّ ما يقصد إيجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباريّ العقلائيّ، بل المقصود إيجاده:هو المعنى بوجود إنشائيّ غير وجوده في وعائه المقرّر له، من اعتبار أو غيره، وذلك لا يتوقّف على رضا المالك.

وبالجملة: فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقّق مصداقٍ لصورة

ص: 155

التعليق القهريّ، بخلاف ما لو التزم بما التزم به صاحب الكفاية(قدس سره)، فإنّه يلزم أن نقول ببطلان العقد في التعليقيّ مطلقاً، قهريّاً كان أم غيره، كما عليه صاحب الكفاية.

ولكن يشكل - بناءً على هذا - بأنّه يلزم اختصاص إنشاء بعض العقود والإيقاعات بما كان وعاؤه الاعتبار، ولا يشمل ما يكون من الاُمور الحقيقيّة الواقعيّة التي لها ما بإزاء في الخارج، كبعض الصفات النفسيّة مثل التمنّي والترجّي والطلب والاستفهام؛ لأنّ وجودها في وعائها تابع لتحقّق أسبابها التكوينيّة، سواء تحقّق اعتبارها أم لم يتحقّق، اذ ليست هي من الاعتبارات التي تدور مدار اعتبارها وجوداً وعدماً، فلا معنى للتسبيب لإيجادها باللّفظ، كما لا يخفى.

مع أنّ عدّها من الإنشائيّات وكون صيغها من الاُمور الإنشائيّة محلّ اتّفاق.

وأيضاً: فإنّ معرفة تحقّق الاعتبار العقلائيّ تكون بترتيب الآثار من العقلاء عليه، ومعاملته معاملة الثابت حقيقةً، ومع عدم ترتّب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار، لأنّه لغو مع عدم ترتيب الأثر.

فعليه: يلزم عدم تحقّق الإنشاء في المورد الذي يعلم بعدم ترتيب الأثر، لعدم قصد التسبيب من المنشئ، مع علمه بعدم تحقّق المسبّب والمفروض تقوّم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائيّ، وذلك يوجب خروج كثير من الموارد عن الإنشاء:

ص: 156

منها: الإنشاء المكرّر والصيغ المتكرّرة، لوجود المعنى في عالم الاعتبار بأوّل إنشاءٍ، فلا يوجد بالإنشاء الثاني والثالث، إذ لا يوجد المعنى في عالم الاعتبار العقلائيّ مرّةً ثانيةً مع فرض ثبوته للغويّة الاعتبار ثانياً.ومنها: بيع الغاصب، فإنّه يعلم بعدم ترتيب الأثر على إنشائه.

ومنها: بي-ع الفض-وليّ م-ع علم-ه بعدم لحوق الإج-ازة، فإنّ العقلاء لا يعتبرون الملكيّة بأثر إنشائه.

ومنها: بيع غير مقدور التسليم.

ومنها: المعاملة الغرريّة.

وغير ذلك من الموارد التي لا يترتّب عليها الأثر بنظر العقلاء، مع صدق الإنشاء عليها عرفاً، ولذا لا يصحّ إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبيّ والطفل غير المميّز.

وقد اُجيب عن الأوّل: بأنّ معنى الإنشاء ليس هو استعمال اللّفظ في المعنى بقصد إيجاده في عالم الاعتبار، بل استعماله لا بقصد الحكاية، سواء قصد به الإيجاد أو لم يقصد، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الإيجاد.

وأمّا الإشكال بلزوم خروج أكثر الإنشائيّات عن الإنشاء فقد اُجيب عنه في مورد الصيغ المتكرّرة: بالالتزام فيما لا يقبل التأكيد والشدّة والضعف، كالملكيّة، بلغويّة الإنشاء الآخر، وأنّه لا يعدّ إنشاءً، وفيما

ص: 157

يقبل الشدّة والضعف، كالطلب ونحوه، بأنّ الإنشاء الآخر تأكيد للأوّل، بحيث يكون كلّ منهما دالّاً على مرتبةٍ ما من الإرادة والطلب، فيتأكّد ولا يكون لغواً.

وأمّا بيع الغاصب، فقد اُجيب عن الإشكال به بأنّ الغاصب وإن علم بعدم كونه مالكاً، إلّا أنّه حيث يكون في مقام الإنشاء يدّعي لنفسه الملكيّة، ويبني على أنّه هو المالك ومن له حقّ التصرّف، من باب الحقيقة الادّعائيّة، وعليه: فيترتّب عليه ما يترتّب على المالك من إمكان قصد الإيجاد، ولو لم يتحقّق الإيجاد حقيقةً.ولكنّ هذا الجواب لا يتأتّى في بيع الفضوليّ، لأنّه لا يدّعي لنفسه الملكيّة كالغاصب، فيبقى الإشكال فيه على حاله. كما يبقى الإشكال في بيع غير المقدور والمعاملة الغرريّة وبيع الفضوليّ مع علمه بعدم لحوق الإجازة.

وأمّا القول الرابع: فهو ما التزم به اُستاذنا الأعظم(قدس سره)، قال):

«فالصحيح هو أنّ الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانيٍّ غير قصد الحكاية، ولم توضع لإيجاد المعنى في الخارج. والوجه في ذلك هو:

أنّهم لو أرادوا بالإيجاد: الإيجاد التكوينيّ، كإيجاد الجوهر والعرض، فبطلانه من الضروريّات التي لا تقبل النزاع، بداهة أنّ الموجودات

ص: 158

الخارجيّة بشتّى أشكالها وأنواعها، ليست ممّا توجد بالإنشاء، كيف؟(قدس سره) والألفاظ ليست واقعةً في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.

وإن أرادوا به: الإيجاد الاعتباريّ كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك، فيردّه: أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفسانيّ من دون حاجةٍ إلى اللّفظ والتكلّم به، ضرورة أنّ اللّفظ في الجملة الإنشائيّة لا يكون علّةً لإيجاد الأمر الاعتباريّ، ولا واقعاً في سلسلة علّته، فإنّه يتحقّق بالاعتبار النفسانيّ، سواء كان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن. نعم، اللّفظ مبرز له في الخارج، لا أنّه موجد له، فوجوده بيد المعتبر وضعاً ورفعاً، فله أن يعتبر الوجوب على ذمّة أحدٍ وله أن لا يعتبر، وله أن يعتبر ملكيّة مالٍ لشخصٍ، وله أن لا يعتبر ذلك، وهكذا...

وأمّا الاعتبارات الشرعيّة أو العقلائيّة، فهي وان كانت مترتّبةً على الجمل الإنشائيّة، إلّا أنّ ذلك الترتّب إنّما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً، والمفروض في المقام: أنّ الكلام في تحقيق معانيها، و فيما يترتّب عليه تلك الاعتبارات.و بتعبيرٍ آخر: إنّ الجمل الإنشائية وإن كانت ممّا يتوقّف عليها فعليّة تلك الاعتبارات وتحقّقها خارجاً، ولكن لا بما أنّها ألفاظ مخصوصة، بل من جهة أنّها استعملت في معانيها.

على أنّ في كلّ موردٍ من موارد الإنشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء

ص: 159

أو من الشرع، فإنّ في موارد إنشاء التمنّي والترجّي والاستفهام ونحوها، ليس أيّ اعتبارٍ من الاعتبارات، لا من الشارع ولا من العقلاء حتّى يتوصّل بها إلى ترتّبه في الخارج.

إذا عرفت ذلك فنقول: قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الجملة الإنشائيّة - بناءً على ما بيّنّاه من أنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفسانيّ - موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانيٍّ خاصّ، فكلّ متكلّمٍ متعهّد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلّم بالجملة الإنشائيّة، مثلاً: إذا قصد إبراز اعتبار الملكيّة يتكلم بصيغة (بعت) أو (ملكت)، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجيّة يبرزه بقوله: (زوّجت) أو (أنكحت)، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادّة على عهدة المخاطب يتكلّم بصيغة (افعل) ونحوها، وهكذا...

ومن هنا قلنا: إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبريّة في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجيّ، فكما أنّها مبرزة لاعتبارٍ من الاعتبارات، كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما، فكذلك تلك، مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا وجه لما ذكره المحقّق صاحب الكفاية(قدس سره) من أنّ طبيعيّ المعنى في الإنشاء والإخبار واحد، وإنّما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال، فإنّك عرفت اختلاف المعنى فيهما، فإنّه في الجملة الخبريّة شي ء، وفي الجملة الإنشائيّة شي ء آخر.

ص: 160

وممّا يؤكّد ما ذكرناه: أنّه لو كان معنى الإنشاء والإخبار واحداً بالذات و الحقيقة، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي، كان اللّازم أن يصحّ استعمال الجملةالاسميّة في مقام الطلب، كما يصحّ استعمال الجملة الفعليّة فيه، بأن يقال: المتكلّم في الصلاة معيد صلاته، كما يقال: إنّه يعيد صلاته، أو إنّه إذا تكلّم في صلاته أعاد صلاته، مع أنّه من أفحش الأغلاط، ضرورة وضوح غلطيّة استعمال (زيد قائم) في مقام طلب القيام منه، فإنّه ممّا لم يعهد في أيّ لغةٍ من اللّغات. نعم، يصحّ إنشاء المادة بالجملة الاسميّة، كما في جملة (أنت حرّ في وجه اللّه)، أو: (هند طالق)، و نحو ذلك»(1).

وفيه:

أوّلاً: أنّ ما اعتبره من الاعتبار الشخصيّ لا يحتاج إليه، فإنّه يكفي الاعتبار العقلائيّ.

نعم، لو لم يكن هناك اعتبار عقلائيّ فحينئذٍ تصل النوبة إلى الاعتبار الشخصيّ.

وثانياً: إنّ معنى اعتبار العقلاء هو بناء المعتبر على ما اعتبره، فيقال عند اعتبار العقلاء الملكية لزيد: إنّهم بنوا على أنّه مالك، وأنّهم يرونه مالكاً، ونحو ذلك من التعابير المترادفة. وعليه: فاعتبار الشخص زيداً

ص: 161


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 88، فما بعدها.

مالكاً - عند إرادة بيعه شيئاً - معناه أنّه بنى على أنّه مالك، ثمّ بعد ذلك يقوم بإبراز هذا الاعتبار باللّفظ.

ولكنّ الاعتبار بهذا المعنى لا أثر له، وهو مخالف للوجدان، فإنّ الشخص قبل إجراء الصيغة لا يبني على أنّه مالك، ولو فرض، فلا يرتّب عليه آثار الملكيّة في نفسه، ولا ينظر إليه نظر المالك، بل هو يقصد تمليكه بالصيغة، بحيث يبني على مالكيّته بعد إجراء الصيغة لا قبله.

وقد أورد(قدس سره) على أصل المبنى: بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناءً على ما هو المتسالم عليه بينهم، من أنّ الجملة الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها، فإذا كانتالجملة حينئذٍ على نحو الحكاية، فتتّصف بالصدق والكذب، أي: فإذا طابقت النسبة الكلاميّة النسبة الخارجيّة فتكون صادقةً، وإلّا فهي كاذبة.

وأمّا الجمل الإنشائيّة، فهي موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج - ويعبّر عنه بالوجود الإنشائيّ - ولا واقع هناك حتّى تطابقه أو لا تطابقه. وقالوا: إنّ الوجود الإنشائيّ نحو من الوجود، ولذا لا تتّصف بالصدق ولا الكذب.

فبناءً على هذا المبنى يصحّ أن نقول: لا مانع من أن يكون المعنى واحداً في كلتا الجملتين، والاختلاف بينهما إنّما يقع من ناحية الداعي إلى الاستعمال(1).

ص: 162


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 84 - 85.

ولكنّ الحقّ: أنّه بناءً على القول بالتعهّد في الوضع - أي: بأنّه متى ما أراد معنىً يتعهّد أن يتكلّم بلفظٍ مخصوص - فبما أنّ ثبوت النسبة وعدمها ليس من الاُمور الاختياريّة، فلا يتعلّق بهما التعهّد؛ لأنّه إنّما يتعلّق بأمرٍ اختياريٍّ.

وعليه:

فالجملة الخبريّة ليست موضوعةً لثبوت نسبة أو عدم ثبوتها، وإنّما الذي يمكن أن يلتزم به هو: قصد الحكاية والإبراز عن الأمر النفسانيّ؛ بأن تكون الجملة الخبريّة قد وضعت - بمقتضى تعهّد الواضع - لقصد الحكاية عن الثبوت أو النفي عن الواقع، والجملة إنّما تكون مبرزةً لما يريده الواضع، فهي بنفسها تكون مصداقاً للحكاية، ودلالتها هذه دلالة تصوّريّة، لأنّها غير منفكّةٍ عنها، ولو لم يكن المتكلّم في مقام التفهيم والإفادة، بشرط ألّا ينصّب في مقام الإثبات القرينة على الخلاف.

نعم، كلامه حينئذٍ يكون على خلاف تعهّده، ولذا نرى: أنّ المتكلّم إذا أتى بالجملة الخبريّة، فبما أنّ الدلالة تكون موجودة فظاهر كلامه حجّة عليه ببناء العقلاء، وليس هذا إلّا من جهة التزامه وتعهّده، وليست الجملة الخبريّة إلّا حاكيةً عن الواقع أو مبرزةًله، ولا تتّصف من جهة الدلالة الواقعيّة بالصدق أو الكذب؛ لأنّ هذه الدلالة ثابتة، سواء كانت الحكاية مطابقةً للواقع والخبر صادقاً، أم لم تكن وكان هو كاذباً.

فقولك: (زيد عادل) - مثلاً - يدلّ على أنّ المتكلّم في مقام قصد

ص: 163

الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد، وأمّا ثبوت العدالة له واقعاً حتّى تكون الجملة الخبريّة مطابقةً له، أو عدم ثبوتها له كذلك حتّى تكون كاذبةً، فخارج عن الدلالة بالكلّيّة.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا فرق بين الجملة الخبريّة والإنشائيّة بالنسبة إلى الدلالة الوضعيّة، فكما أنّ الجملة الإنشائيّة لا تتّصف بالصدق والكذب، بل هي مبرزة، فكذلك بالنسبة إلى الجملة الخبريّة، فإنّها حاكية ومبرزة، حتّى ولو كان المخاطب على علمٍ بكذب المتكلّم في إخباره، فعلى هذا: تكون الجملتان مشتركتين في أصل الإبراز والحكاية؛ وإنّما الفرق بينهما في أنّ أمر الخبريّة متعلّق بالخارج، فإن طابقها كانت صادقةً، وإلّا فكاذبة. وأمّا الإنشائيّة، فأمرها غير مرتبطٍ بالخارج بتاتاً، بل هو أمر نفسانيّ، ومن هنا كانت لا تتّصف بالصدق ولا بالكذب.

وعلى هذا الأساس: فالصدق والكذب في الجملة الخبريّة بحسب ما لها من المدلول، لا بحسب الجملة نفسها، وإنّما تتّصف نفس الجملة بهما بالتّبع والمجاز.

وبالجملة: فما في الجملة الإنشائيّة هو - أيضاً - عبارة عن الإبراز، ولكنّه إبراز نفسانيّ، مغاير لقصد الحكاية، وليس بمعنى الإيجاد؛ لما عرفت من أنّ المقصود من الإيجاد فيها لو كان هو الإيجاد التكوينيّ، كان باطلاً بالضرورة؛ لأنّ الموجودات الخارجيّة لا تقع في سلسلة عللها.

ص: 164

وإن كان المراد: الإيجاد الاعتباريّ - كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة - فإنّا لا نحتاج فيها إلى اللّفظ والتكلّم به، بل يكفي في ذلك نفس الاعتبار؛ لأنّ اللّفظ في الجملة الإنشائيّة ليس بعلّةٍ لإيجاد الأمر الاعتباريّ، كما أنّهليس واقعاً في سلسلة علله، بل هو يتحقّق بالاعتبار النفسانيّ، سواء أكان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ اللّفظ مبرز له في الخارج، لا أنّه موجد له، بل وجوده يكون بيد المعتبر، فبناءً على أنّ الوضع هو التعهّد والالتزام النفسانيّ - كما ذكرنا - فإنّ الجملة مبرزة لإنشاء الأمر النفسانيّ - كما قلناه - فإذا قصد أن يبرز اعتبار الملكيّة فهو - على وفق تعهّده - يأتي بالجملة بالإنشائيّة ﻛ (بعت) أو (ملّكت).

ومن هنا ظهر: أنّ هناك اختلافاً بين الجملة الإنشائيّة والإخباريّة في المعنى، وليس في الداعي فقط.

نعم، لا فرق بينهما من جهة الدلالة الواقعيّة والإبراز الخارجيّ؛ بل الجملة الإنشائيّة مبرزة لاعتبارٍ من الاعتبارات، كالملكيّة والزوجيّة، والخبريّة مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر. فليس الفرق والاختلاف بينهما من جهة الداعي.

وأمّا ما ذكر: من أنّ معنى الإنشاء والإخبار، لو كان واحداً من جهة الذات والحقيقة، وكان الاختلاف بينهما من جهة الداعي، لكان اللّازم أن يصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب، كما يصحّ استعمال

ص: 165

الجملة الفعليّة فيه، مع أنّه من أفحش الأغلاط.

فغير تامٍّ؛ لأنّ المراد في محلّ البحث إنّما هو ما يكون ﻛ (بعت)، التي تستعمل تارةً في الإنشاء واُخرى في الإخبار. وأمّا الجملة الاسميّة ﻛ (زيد قائم)، والإنشائيّة ﻛ (اضرب)، فهذه لم يقل أحد بجواز استعمال كلّ واحدةٍ منهما بدلاً عن الاُخرى، بمن في ذلك صاحب الكفاية نفسه(قدس سره).

والصواب: أنّ الإنشائيّة والإخباريّة خارجتان عن الموضوع له؛ لأنّ الهيئة لا تدلّ على أكثر من نسبة المبدأ إلى الذات، وأمّا كيّفيّة النسبة فهي إنّما تستفاد من الخارج.مضافاً، إلى أنّ المتيقّن هو نسبة العرض إلى المعروض، وأمّا قصد الحكاية أو الإيجاد فخارج عن حقيقة معاني الهيئات، ولو فرض في معنى الإنشاء أنّه الإنشاء باللّفظ للزم أن تكون الألفاظ سبباً.

وحينئذٍ: يأتي ما أورده الاُستاذ الأعظم) من أنّه هل المراد به السبب التكوينيّ أم الاعتباريّ؟ وكلاهما غير تامٍّ، فراجع ما ذكره(قدس سره) ثمّة(1).

ولكن يمكن الجواب عن هذا:

بأنّ السببيّة إنّما تضرّ بناءً على التأسيسيّة، وأمّا بناءً على الإمضائيّة، بأن تكون السببيّة من الاُمور العقلائيّة، غاية الأمر: أنّ الشارع أمضى تلك

ص: 166


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 88.

الملكيّة العقلائيّة المنشأة باللّفظ، دون تلك التي تنشأ بالحصى والمنابذة، فلا مانع في أن يكون الإنشاء بهذا المعنى.

هذا. مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: بأنّ اللّفظ ليس سبباً، وإنّما هو من قبيل الآلة - كآليّة المفتاح لفتح الباب - وحينئذٍ: فيمكن أن يقال: بأنّ الإنشائيّة والإخباريّة دخيلتان في الموضوع له، فيقال - مثلاً -: صيغة (افعل) موضوعة لإنشاء الطلب، وهكذا..

والتحقيق: أنّهما خارجتان، كخروج الآليّة والاستقلاليّة في الحروف - كما قيل -، إذ سواء كانت الجملة الخبريّة بالفعل الماضي أو المضارع، فإنّها تدلّ على نسبة المبدأ إلى الذات.

وأمّا الكيفيّة التحقيقيّة أو التلبّسيّة فتفهم من الخارج.نعم، بما أنّ المتبادر من الفعل الماضي هو أنّ المتكلّم في مقام الإخبار، فلو اُريد أن تستعمل في الإنشاء فلابدّ من نصب قرينةٍ لذلك، بخلاف ما لو اُريد منها قصد الحكاية، فإنّها حينئذٍ لا تحتاج إليها.

ص: 167

ص: 168

الفصل الرابع: استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريف المجاز

قالوا: المراد من المجاز استعمال اللّفظ في غير ما وضع له، فالدلالة على المعنى المجازيّ هي دلالة اللّفظ على معنىً لم يكن مدلوله بحسب المعنى اللّغويّ، ولا بدّ معه من قرينة تكشف عن عدم إرادة المعنى الحقيقيّ.

وقال السكّاكيّ: المجاز هو استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ الذي يكون فرداً من أفراد الحقيقيّ ادّعاءً، وإنّ المفهوم الذي لم يوضع له اللّفظ - «المعنى المجازيّ» - هو نفس المفهوم الذي وضع له اللّفظ بالحمل الأوّليّ، أي: أنّ مفهوم (الرجل الشجاع) هو نفس مفهوم (الحيوان

ص: 169

المفترس)، فيستعمل لفظ (الأسد) في كليهما على أساس هذه العينيّة المدّعاة، أو أنّ غير ما وضع له مصداق لما هو موضوع له، على نحو أنّه يحمل عليه المعنى الموضوع له بالحمل الشائع الصناعيّ عليه، فيستعمل اللّفظ في المعنى الموضوع له، ولكنّه يطبّق على فرد ادّعائيّ.

الأمر الثاني: في منشأ دلالة اللّفظ على المعنى المجازيّ

ويقع البحث هنا في أنّه بناءً على قول المشهور فمن أين نشأت دلالة اللّفظ على المعنى المجازيّ، مع أنّه ليس هناك وضع يجمع بينهما؟! قد يقال: نشأت هذه الدلالة من القرينة على المجاز.

ولكنّ هذا غير تامّ؛ فإنّ القرينة لا يؤتى بها لإخطار المعنى المجازيّ، بل إنّما جيء بها للصرف عن المعنى الحقيقيّ، ففي قولنا: (رأيت أسداً يرمي)، ليس في كلمة (يرمي) دلالة، ولو التزاماً، على معنى (الرجل الشجاع)، بل هي إنّما تدلّ على عدم كون المراد من لفظ (الأسد) الحيوان المفترس، وأمّا أنّه اُريد به الرجل الشجاع، فلا دلالة لها عليه.وإذا ما قلنا بذلك، فلابدّ أن نقول بأنّ دلالة اللّفظ في كلّ منهما دلالة وضعيّة، ولا يكون هناك وضع نوعيّ وطوليّ في المعنى المجازيّ، بأن يقال: إنّ لفظ (الأسد) موضوع لما يشبه معناه الحقيقي، أو يقال: إنّ الوضع في المعنى المجازيّ مقيّد بفرض وجود القرينة على المعنى المجازيّ، بأخذها قيداً في الوضع للمعنى أو في اللّفظ الموضوع.

ص: 170

الأمر الثالث: ملاك صحّة الاستعمال المجازيّ

لا يخفى: أنّه قد يحسن استعمال اللّفظ في غير معناه الموضوع له، وهذا الاستعمال قد يكون لمناسبة ما، إمّا بين المعنيين: الحقيقيّ والمجازيّ، وإمّا بين اللّفظ وبين المعنى المستعمل فيه. كما إذا وضع لفظ (الأسد) للحيوان المفترس، واستعمله المتكلّم في الرجل الشجاع لعلاقة بينهما، فيكون استعمله في معنىً مناسب للمعنى الموضوع له.

فإذا عرفت هذا: فهل صحّة الاستعمال حينئذ تكون بالوضع أو بالطبع؟ أي: فهل يحتاج استعمال اللّفظ في المعنى المناسب للموضوع له إلى وضع نوعيّ بالنسبة إلى أنواع العلائق المعروفة، أو إلى ترخيص من الواضع في استعمال اللّفظ في معنىً بشرط أن يكون بين هذا المعنى وبين المعنى الموضوع له إحدى العلائق المعروفة؟! أم أنّه لا حاجة إلى ذلك، بل لا تتوقّف صحّة الاستعمال على الإذن، وإنّما المعتبر في صحّة الاستعمال في المعنى المجازيّ هو المناسبة التي يقبلها طبع أهل الاستعمال وجبلّتهم الغريزيّة وسليقتهم وطبعهم السليم؟ ذهب صاحب الكفاية(قدس سره) إلى الثاني، فقال):«صحّة استعمال اللّفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان. أظهرهما: أنّه بالطبع، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال

ص: 171

فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحّته إلّا حسنه»(1).

وحاصله: أنّ الوجدان شاهد بحسن الاستعمال في ما يناسب المعنى الذي وضع له، ولو مع منع الواضع عن هذا الاستعمال، فيكون قبول الطبع السليم هو الملاك في صحّة الاستعمال، لأنّ حسنه مع المنع من الواضع دليل على عدم توقّف صحّة الاستعمال المجازيّ على وضع الواضع، فإطلاق لفظ (القمر) على حسن الوجه، واستعماله فيه صحيح وإن لم يقبله الواضع.

وبالعكس، فإنّ الاستعمال في ما لا يناسب ما وضع له مستهجن، ولو مع ترخيص الواضع به.

وعلى القول بالوضع، فهل للمعنى المجازيّ وضع جديد، أم أنّه من لوازم المعنى الحقيقيّ؟ وليس هناك حاجة إلى وضع جديد، بل تكون محاولة تحصيل هذه الدلالة بالوضع الجديد من قبيل تحصيل الحاصل، أي أنّ اللّفظ يكتسب بسبب وضعه للمعنى الحقيقيّ صلاحيّة الدلالة على كلّ معنى مقترن بالمعنى الحقيقيّ، وبما أنّ اللّفظ يقترن بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، فإنّ هذه الصلاحيّة التي له تصبح فعليّةً، ويكون اللّفظ دالاً فعليّاً على المعنى المجازيّ، وهذه الدلالة بما أنّها تتبع الدلالة الوضعيّة فإنّها تكون في طولها.

ص: 172


1- كفاية الاُصول: 13.

وهذا على خلاف ما هو المشهور من أنّ اللّفظ موضوع للمعنى المجازيّ بالوضع النوعيّ؛ فإنّ ظاهره هو الوضع الجديد، والوضع المجازيّ النوعيّ عندهم مقيّد بفرضوجود القرينة على المعنى المجازيّ، فتكون القرينة مأخوذةً قيداً للوضع أو في اللّفظ الموضوع، وإذا لم يكن هناك قرينة فلابدّ حينئذ من الحمل على المعنى الحقيقيّ.

والمشهور على الأوّل، وأنّ ملاك صحّة الاستعمال في المعنى المجازيّ هو بالوضع، أيّ: فلابدّ من إذن الواضع وترخيصه، سواء قبله الطبع أم لا.

وهل هذا الوضع من قبيل الوضع الشخصيّ أم الوضع النوعيّ؟ لا يخفى: أنّ الوضع هنا لا يمكن أن يكون من قبيل الوضع الشخصيّ، كالأعلام الشخصيّة الذي تتمّ فيه ملاحظة كلّ من مادّة اللّفظ وهيئته وخصوصيّة المعنى.

كما أنّه ليس من قبيل الوضع النوعيّ الملحوظ فيه الهيئة خاصّةً مع غضّ النظر عن المادّة، كما في هيئة الفاعل والمفعول أو غيرهما من المشتقّات. ولا من قبيل وضع المادّة فقط، كوضع (ض، ر، ب).

وإنّما المراد وضع كلّ من المادّة والهيئة لكلّ معنى يناسب المعنى الموضوع له، كلفظ (الأسد) الذي وضع لكلّ ما يناسب الحيوان المفترس من جهة علقة الشجاعة.

وبعبارة أُخرى: إذا كان بين الوضع الأوّل وبين أيّ معنىً من المعاني

ص: 173

أحد العلائق المعهودة، فحينئذٍ: يصحّ استعمال هذا اللّفظ في ذلك المعنى، ويكون هذا من الوضع النوعيّ باعتبار عدم لحاظ خصوصيّة المعنى فيه، بل هو شامل لكلّ معنىً مناسب للمعنى الأوّل، كما أنّ وضع الهيئات يكون كذلك، لأنّه لا يلحظ فيه خصوصيّة أيّة مادّة من الموادّ.

والحقّ: أنّ استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ليس بالوضع، بل بالطبع، وأنّه ليس للواضع أيّ منع أو ترخيص؛ إذ ليست وظيفته إلّا وضع اللّفظ لمعنى مخصوص، وغاية ما يوجبه فعله هذا هو نشوء الارتباط بين اللّفظ وبين ما وضع له، وأمّا غيرالمعنى الموضوع له من المعاني فهو باق على أجنبيّته بالنسبة للّفظ، وعليه: فلا يكون من وظيفة الواضع المنع ولا الترخيص.

وأمّا القول بأنّ الاستعمال في المعنى المجازيّ يستند إلى الوضع النوعيّ ففيه:

أوّلاً: أنّه مجرّد إمكان، ولا دليل عليه.

وثانياً: أنّه يخرج المعنى المجازيّ عن كونه معنى مجازيّاً ويدخله في ما وضع له؛ لأنّ اللّفظ قد وضع له هو أيضاً، غاية الأمر: أنّه بالوضع النوعيّ لا الشخصيّ، أو فقل: يلزم أن يكون اللّفظ دائماً مستعملاً فيما وضع له بالادّعاء والتنزيل - كما قاله السكّاكيّ -، نحو: (الطواف بالبيت صلاة)، فإنّه ينزّل ما لم يوضع له اللّفظ منزلة ما قد وضع له بادّعاء منه، فإذا استعمله فيه كان الوضع حقيقيّاً، وفيه نوع من المبالغة المطلوبة.

ص: 174

وأمّا بناءً على القول باستعماله بتجوّز ﻛ (زيد قمر)، فليس فيه هذه المبالغة، فلا يكون حسنه كالأوّل.

وأمّا ما قيل: من أنّ فيه مبالغةً بناءً على القول المشهور أيضاً؛ لأنّ كلمة (أسد) ليست مرادفةً في مدلولها المجازيّ لكلمة (الرجل الشجاع)، وإنّما هي تزيد عليه غالباً بملاحظة أنّ الرجل الشجاع بما هو شجاع يكون شبيهاً بالحيوان المفترس، فكأنّ الكلام يستبطن تشبيهاً.

ففيه: أنّه نعم، فيه مبالغةً حتّى لو بنينا على المشهور، غاية الأمر: أنّه بناءً على قول السكّاكيّ أبلغ؛ إذ فرق بين قولك: (زيد يشبه العادل)، وبين قولك: (زيد هو العادل نفسه). ولكن يرد على هذا أيضاً: أنّه استعمال في غير ما وضع له.وثالثاً: أنّه مخالف لما ذكره علماء العربية في تعريف المجاز من أنّه: اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له، وإن قال بعضهم: المجاز هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

فإن قلت: إنّ مرادهم من (في غير ما وضع له) الوضع الشخصيّ، لا النوعيّ.

قلنا: هذا يحتاج إلى دليل، وليس.

ورابعاً: لا يستلزم انحصار الحقيقي في الشخصيّ، ويصبح اللّفظ المستعمل في المعنى الموضوع له بالوضع النوعيّ داخلاً في المعنى الحقيقيّ.

ص: 175

وخامساً: لا يمكن أن تتوقّف صحّة استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ على ترخيص الواضع، لما بيّناه من أنّ حقيقة الوضع ليست إلّا الهوهويّة والاتّحاد الاعتباريّ بين اللّفظ والمعنى، وإلّا، لم يكن إلقاؤه إلقاءً للمعنى، ولا وجوده وجوداً لفظيّاً للمعنى. فتكون وظيفة الواضع - حينئذٍ - منحصرةً في جعل اللّفظ حاكياً عن المعنى، ومعه: فلا يبقى مجال لترخيصه ولا لوضعه النوعيّ ولا لمنعه.

وسادساً: هذا إنّما يتمّ بناءً على كون الواضع شخصاً واحداً، وأمّا لو قلنا: بأنّ كلّ مستعمل واضع حقيقةً، وأنّ الوضع لا ينحصر في شخص معيّن، فحينئذ لا يبقى مجال لهذا البحث أصلاً.

ص: 176

الفصل الخامس: إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه

اشارة

لا شكّ ولا ريب في صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه، والمراد به: نوع اللّفظ، فحينئذ يكون اللّفظ حاكياً عن اللّفظ نفسه.

وقد مثّل له صاحب الكفاية (قدس سره)بقوله: «كما إذا قيل: (ضرب فعل ماض)»(1)، وإن كان في تمثيله هذا نوع من المسامحة، ضرورة عدم شمول النوع لشخص (ضرب) الموجود في المثال، فالأفضل تبديل المثال لذلك.

وأمّا إطلاق اللّفظ وإرادة صنفه كما يقال: «(زيد) في: (ضرب زيد) فاعل» أي: المراد به كلّ اسم وقع عقيب فعل يقوم بذلك الاسم قياماً صدوريّاً ﻛ (ضرب زيد)، أو حلوليّاً، كما في (مرض زيد)، ومن هذا القبيل أيضاً: (مات زيد).

وأمّا استعمال اللّفظ وإرادة شخصه، كما تقول: «(زيد) في (ضرب

ص: 177


1- كفاية الاُصول: 14.

زيد) فاعل» وتريد شخص هذا اللّفظ المذكور في المثال، فهل هو صحيح مطلقاً أم أنّه بحاجة إلى نوع من التأويل؟ تحقيق المقام يستدعي بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

قد عرفت أنّ صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة المعنى المجازيّ إنّما هو بالطبع لا بالوضع، وإلّا، لكانت المهملات - أيضاً - موضوعة، ولكنّ دعوى الوضع في المهملات بلا دليل.

ومن هنا يتّضح: أنّ ما ذكره الاُستاذ الأعظم)(1) من أنّ الواضع لو كان متعدّداً، لكان كلّ مستعمل واضعاً، ولم يستبعد وجود الوضع في المهملات؛ فإنّه كما تعهّد باستعمال الألفاظ في معانيها كذلك قد تعهّد بأنّه متى ما أراد تفهيم نوع اللّفظ أو صنفه أو مثله يبرزها به، ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع.

لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّه مجرد دعوى وإمكان، ولا دليل عليه.

الأمر الثاني:

أنّ إطلاق اللّفظ في مثل هذه الاُمور ليس من قبيل استعمال اللّفظ في المعنى؛ إذ لا وجود ههنا إلّا لانتقال واحد، وهو الانتقال من اللّفظ إلى

ص: 178


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 95.

صورته فقط، بخلاف استعمال اللّفظ في المعنى؛ فإنّ الانتقال فيه من اللّفظ إلى صورته أوّلاً، ثمّ منها إلى المعنى.

الأمر الثالث:

أنّه بعد ما اخترنا أنّ الوضع هو الهوهويّة، فيكون الاستعمال عبارةً عن إلقاء المعنى بإلقاء اللّفظ، فيكون المنظور إليه هو المعنى لا اللّفظ، بل اللّفظ كالمرآة منظور فيه، لا إليه، وهذا هو معنى قولهم: إفناء اللّفظ في المعنى.

وأمّا مورد بحثنا فهو من قبيل النظر إلى المرآة، لأنّ المتكلّم هنا ناظر إلى اللّفظ فقط وغافل عن المعنى. فإذا كان هذا هو معنى الاستعمال، فكيف يمكن استعمال الشيء في نفسه، وكيف يكون الشيء في آن واحد ملتفتاً إليه ومغفولاً عنه؟؟ ليس هذا إلّا التناقض.

وقد أجاب عن هذا صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«يمكن أن يقال: إنّه يكفي تعدّد الدالّ والمدلول اعتباراً، وإن اتّحدا ذاتاً، فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّاً، ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً..»(1).

وحاصله: أنّه يكفي في رفع المحذور التعدّد الاعتباريّ، ففي استعمال اللّفظ وإرادة شخصه، وإن كان الدالّ والمدلول أمراً واحداً، إلّا أنّه يكفي

ص: 179


1- كفاية الاُصول: 14.

تعدّدهما من حيث الاعتبار، ولا يلزم أن يكون الدالّ والمدلول متعدّدين ذاتاً، فاللّفظ من جهة صدوره عن لافظ يتّصف بأنّه دالّ، ومن جهة أنّ شخصه هو مقصوده ومتعلّق إرادته يتّصف بأنّه مدلول.

واستشكل فيه الاُستاذ المحقّق) (1) بما مفاده: أنّه لا يفيد التوجيه ولا التأويل بالتغاير الاعتباريّ؛ لما ذكرناه من أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّة وإفناء اللّفظ فيالمعنى، فكأنّه لم يلق إلى المخاطب إلّا المعنى، وكأنّه لم ينظر إلّا إليه، ولا يعقل استعمال الشيء في نفسه، كما لا يخفى؛ لأنّ لازم ذلك هو فناء الشيء في نفسه، والفناء غير ممكن إلّا بين شيئين متغايرين بالوجود.

ولكن أجاب عنه المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) بما لفظه:

«التحقيق: أنّ المفهومين المتضايفين ليسا متقابلين مطلقاً، بل التقابل في قسم خاصّ من التضايف، وهو ما إذا كان بين المتضايفين تعاند وتناف في الوجود، كالعلّيّة والمعلوليّة، ممّا قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد، لا في مثل العالميّة والمعلوميّة، والمحبّيّة والمحبوبيّة، فإنّهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات، كما لا يخفى، والحاكي والمحكيّ، والدالّ والمدلول، كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني، حيث لا برهان على امتناع حكاية الشي ء عن نفسه»(2).

ص: 180


1- منتهى الاُصول 1: 34.
2- نهاية الدراية 1: 36- 37.

وتوضيحه: أنّ المتضايفين ليسا بمتقابلين على الإطلاق، وإنّما يكون التقابل بينهما في قسم خاصّ منهما، وهو ما إذا كان المتضايفان متعاندين ومتنافيين في الوجود، بحيث لا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد، كالعلّيّة والمعلوليّة، والاُبوّة والبنوّة؛ فإنّه لا يمكن اجتماع العلّيّة والمعلوليّة بالنسبة إلى شخص واحد، وكذلك، فلا يمكن لشخص واحد، ومن جهة واحدة، أن يصدق عليه أنّه ابن وأب، وأن تجتمع فيه الاُبوّة والبنوّة، بأن يكون أباً وابناً للشّخص عينه.وأمّا القسم الآخر من التضايف، فهو ما لا تعاند بينهما في الوجود، وذلك كالعالميّة والمعلوميّة، وكالمحبّيّة والمحبوبيّة، فإنّه يمكن اجتماعهما في واحد ولو كان هذا الواحد من غير ذي الجهات.

والحاكي والمحكيّ، والدالّ والمدلول، هما من هذا القبيل؛ إذ لا دليل على امتناع حكاية الشيء عن نفسه، أو دلالته على نفسه، بل قد ورد في دعاء الصباح لأمير المؤمنين(علیه السلام): «يا من دلّ على ذاته بذاته»(1)، وقال إمامنا زين العابدين(علیه السلام) أيضاً: «أنت دللتني عليك»(2).

وفيه: أنّ هذا إنّما يتمّ بناءً على أنّ إلقاء اللّفظ هو بمعنى الحكاية أو الدلالة، وأمّا إذا كان بمعنى الفناء والهوهويّة فلا؛ لأنّه لا يمكن - كما ذكرنا - فناء الشيء في نفسه، وكذا لا يمكن أن يكون الشيء مغفولاً عنه

ص: 181


1- بحار الأنوار 84: 339.
2- مصباح المتهجّد: 582.

وغير مغفول عنه في آن واحد، بل إنّ هذا لا يعقل إلّا بين شيئين. هذا. والإشكال هنا يرتفع بناءً على مسلك الهوهويّة أكثر من أيّ مسلك آخر؛ لأنّ الهوهويّة في المقام حقيقيّة، فينسجم المقام مع هذا المسلك، فإنّه هو هو حقيقةً، بلا حاجة إلى تكلّف أن نجعله إيّاه لحاظاً.

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره): فإنّه بعد تسليمه بصحّة ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ) من أنّ التقابل في قسم خاصّ من المتضايفين، وليس مطلقاً، ذكر أنّ اجتماع الدالّ والمدلول هنا في شيء واحد أمر غير ممكن؛ لأنّ مقامنا من قبيل العلّيّة والمعلوليّة، لأنّ حضوراللّفظ الملقى إلى المخاطب هو السبب والعلّة لحضور المعنى، فكلّ مخاطب، بل كلّ سامع عند سماع اللّفظ ينتقل ذهنه إلى اللّفظ أوّلاً، وبسببه ينتقل إلى المعنى ثانياً.

وبديهيّ أنّ العلّيّة والمعلوليّة يقتضيان الاثنينيّة والتعدّد، وأنّه لا يعقل أن يكون شيء واحد علّةً ومعلولاً.

ثمّ قال: «ومن هنا يظهر: أنّ قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق، فإنّ سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة، إذ إنّها بمعنى ظهور ذاته بذاته وتجلّي ذاته لذاته، بل ظهور جميع الكائنات بشتّى ألوانها وأشكالها من المادّيّات والمجرّدات بذاته تعالى، وهذا بخلاف

ص: 182

الدلالة هنا فإنّها بمعنى الانتقال من شي ء إلى شي ء آخر»(1).

وقد يستشكل على أصل هذا الاستعمال - أعني: استعمال اللّفظ وإرادة شخصه - بأنّ لازمه كون القضيّة الواقعيّة مركّبةً من جزأين، فإنّ القضيّة اللّفظيّة بموضوعها ومحمولها والنسبة التي بينهما لا تحكي إلّا عن القضيّة الواقعيّة، وبحسب الفرض، فإنّ القضيّة الواقعيّة لا موضوع لها في المقام في قبال القضيّة اللّفظيّة، وأنّه ليس في الواقع إلّا المحمول والنسبة، مع أنّ النسبة يستحيل أن توجد بدون طرفيها وركنيها(2).

وتلخّص: أنّ إطلاق اللّفظ وإرادة شخصه غير ممكن من جهتين:

الاُولى: أنّ هذا الاستعمال ليس من قبيل استعمال اللّفظ في المعنى؛ لوجود المغايرة بين اللّفظ والمعنى، ممّا يجعل فناء أحدهما في الآخر أمراً ممكناً، ويمكنأيضاً، وبلا محذور، أن يلاحظ أحدهما باللّحاظ الآليّ والآخر باللّحاظ الاستقلاليّ، كما هو معنى الاستعمال.

وأمّا فيما نحن فيه، فذلك غير ممكن؛ لأنّ فناء اللّفظ في نفسه غير ممكن، وكذا لا يمكن أيضاً أن يتعلّق اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ بشيء واحد.

والثانية: أنّ ما نحن فيه ليس من باب استعمال اللّفظ في شيء، مضافاً إلى أنّ القضيّة لا بدّ أن تتركّب من ثلاثة أجزاء: الموضوع، والمحمول،

ص: 183


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 98.
2- الفصول الغرويّة: ص 23.

والنسبة. وبما أنّ هذه القضيّة ليس لها موضوع، فلم يبق هناك إلّا المحمول، والقضيّة، أيّة قضيّة كانت، لا يمكن أن تتركّب القضيّة من جزأين؛ كيف؟(قدس سره) والنسبة لا يعقل أن تتحقّق بدون ركنيها.

ولكنّ صاحب الكفاية(قدس سره) أجاب عن هذا الإشكال، بما نصّه:

«مع أنّ حديث تركّب القضيّة من جزأين - لولا اعتبار الدلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلّا كان أجزاؤها الثلاثة تامّةً، وكان المحمول فيها منتسباً إلى شخص اللّفظ ونفسه، غاية الأمر: أنّه نفس الموضوع لا الحاكي عنه، فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقّة»(1).

وتوضيحه: أنّ القضيّة هنا أيضاً مركّبة من ثلاثة أجزاء: موضوع ومحمول ونسبة؛ وذلك لأنّ الإشكال إنّما يأتي لو كان المقام من باب استعمال اللّفظ في المعنى، باعتبار أنّ المعنى لا يوجد في الذهن إلّا بواسطة اللّفظ، فحينئذ يكون اللّفظ واسطةً في وجوده وحضوره ولا يكون هو بنفسه موضوعاً للقضيّة، بل هو لفظ الموضوع وحاك عنه.فموضوعيّة اللّفظ لها إنّما هي من جهة أنّه الواسطة لإحضار ما هو موضوع فيهما حقيقةً، فاللّفظ ليس بموضوع، وإنّما هو حاك.

نعم، في القضيّة اللّفظيّة يكون اللّفظ هو الموضوع، ولكن مقامنا ليس

ص: 184


1- كفاية الاُصول: ص 15.

من هذا القبيل؛ فإنّ حال الموضوع هنا حال بقيّة الموجودات الخارجيّة، فإنّه لا يحتاج لوجوده وحضوره في الذهن إلى أيّة واسطة، وليس حاله حال اللّفظ بالنسبة إلى معنى بحيث يكون حاكياً عنه، وحينئذ: فلا يلزم محذور تركّب القضيّة من جزأين، بل هذا المحذور إنّما يأتي لو كان الموضوع يحتاج إلى الواسطة، وبما أنّ الموضوع هنا هو نفس اللّفظ الخارجيّ، لا بما هو حاكٍ عن المعنى الذي صدر عن المتكلّم، أي: نفس اللّفظ، فيكون هو الموضوع، ويكون محموله هو الصورة الذهنيّة، فتتركّب القضيّة من ثلاثة أجزاء.

ولا يضرّ هنا خلوّ القضيّة عن الموضوع اللّفظيّ المسمّى ﺑ (الصناعيّ)، والذي يكون حاكياً عن الموضوع الواقعيّ، وإنّما الذي يضرّ هو خلوّ القضيّة عن الموضوع الواقعيّ، وأمّا عدم كونه حاكياً فغير مضرّ.

واستشكل على هذا اُستاذنا المحقّق) بقوله:

«لا يمكن تشكيل القضيّة من موضوع خارجيّ ومفهوم ذهنيّ، كما هو مفروضه، لأنّه - بناءً على ما ذكره [أي: صاحب الكفاية)] - نفس شخص اللّفظ الخارجيّ الّذي صدر عن المتكلم في ذلك الكلام الذي هو من مقولة الكيف المسموع صار موضوعاً، وما هو معنى المحمول - و المراد منه، أي: الصورة الذهنيّة التي يحكي عنها - يكون محمولاً. وهذا ما قلنا من لزوم تركب القضيّة من موضوع خارجيّ ومفهوم ذهنيّ.

ص: 185

وأمّا عدم إمكان هذا المعنى فلأنّ ظرف الحكم وتشكيل القضيّة ليس إلّا الذهن، ولذلك قالوا: إنّ القضيّة لا بدّ لها من تصوّرات ثلاثة، غاية الأمر: اختلفوا في أنّها شروط أو شطور»(1).

وملخّصه: أنّ هذه الصورة من القضيّة التي تحدّث عنها المحقّق الخراسانيّ) مستحيلة؛ لأنّها قد تركّبت من موضوع خارجيّ ومحمول ذهنيّ، مع أنّ القضيّة الذهنيّة لا بدّ أن يكون موضوعها ومحمولها في الذهن، والخارجيّة لا بدّ أن يكون محمولها وموضوعها في الخارج. وعليه: فلا يمكن فرض وجود هكذا قضيّة واقعاً.

هذا. ولكن يمكن أن يقال:

أوّلاً: نحن إنّما نسمّيها بالقضيّة الذهنيّة باعتبار جزئها - وهو المحمول - كما يقال لزيد: (مجروح) باعتبار جزء من بدنه.

وثانياً: لا ضير في الاصطلاح، إلّا يقال: القضيّة لفظيّة؛ لأنّ مدّعى المحقّق الخراسانيّ) إنّما هو صدق هذه القضيّة بدون تأويل، وأمّا تسميتها فأمر لا يهمّه.

ص: 186


1- منتهى الاُصول 1: 34.

الفصل السادس: في أقسام الدلالة

هل الألفاظ موضوعة لذوات المعاني من حيث هي هي أم أنّها موضوعة لها بما هي مرادة؟ لا إشكال في أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني بما هي هي، لا بما أنّها مرادة، وإلّا، لزم إشكالات:

الإشكال الأوّل: أنّ الإرادة وقصد المعنى من مقوّمات الاستعمال، فلو أخذت هذه الإرادة قيداً أو جزءاً، لزم تعدّد اللّحاظ، بل يكون مستحيلاً للزومه الدور؛ لأنّ هذه الإرادة والقصد ناشئة من طور الاستعمال المتأخّر عن المعنى، فيكون مقامنا كمقام استحالة قصد الأمر في المتعلّق المتقدّم عليه رتبة؛ لأنّ قصد الأمر يكون متأخراً عن متعلّقه، فإذا توقّف شيء من المتعلّق على الأمر لزم الدور.

فإن كان البناء على أنّ هذه الإرادة مغايرة للإرادة الاستعماليّة لزم من ذلك محاذير عدّة:

ص: 187

منها: وجود إرادتين: إحداهما: تكون جزءاً للمستعمل فيه، والثانية: هي التي يحتاج إلى وجودها في مقام الاستعمال.

ومنها: أنّ حمل الوصف على ذات مّا إنّما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجيّ على الذات الخارجيّة، ففي قولك: (زيد قائم)، حمل الوصف على الذات في الخارج، فإذا كان الموضوع له لفظ (زيد) و(قائم)، هو المعنى المتعلّق بالإرادة، كان المعنى أمراً ذهنيّا، لتقييده بما هو ذهنيّ، وهو الإرادة، فكان لا بدّ من تجريده عن الإرادة عند الحمل، وهو يستلزم التجوّز، بل لغويّة أخذ الخصوصيّة في الموضوع.

ومنها: أنّه بناءً على ذلك فلابدّ من تجريده، ففي قولك: (نصر زيد) - مثلاً - يكون المسند هو ذات (نصر) لا (نصر) المرادة، ممّا يعني: أنّه لابدّ أن نلتزم بالمجاز في جميع الاستعمالات، أي: بأنّ اللّفظ الموضوع لمجموع المعنى والإرادة يستعملدائماً في خصوص المعنى، دون المجموع، ممّا يعني: بقاء الوضع بلا فائدة ولا حكمة.

والإشكال الثاني: يلزم - بناءً على هذا - أن يكون الوضع في جميع الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً دائماً؛ لأنّ المفروض أنّ هذه الإرادة التي أصبحت جزءاً للموضوع له أو قيده موجبة لصيرورته جزئيّاً.

فإن قلت: وأيّ محذور يترتّب على ذلك؟ قلنا: إنّه خلاف ما ذهبوا إليه من تقسيم الوضع إلى أربعة أقسام.

ص: 188

والإشكال الثالث: لو كانت المعاني مقيّدةً بالإرادة لدخلت في الاُمور الذهنيّة، ولا يمكن حينئذ أن تصدق على الخارجيّات.

والإشكال الرابع: لو كان كذلك، لكان على خلاف المتبادر؛ لأنّ ما يتبادر إلى الذهن من اللّفظ هو نفس المعنى، لا المراد.

والإشكال الخامس: أنّه لا يبقى لأيّ لفظ معنى بسيط أصلاً؛ لاستلزامه تركّب جميع المعاني الموضوع لها اللّفظ من المعنى والإرادة.

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي(قدس سره)(1):

من أنّ انحصار اللّفظ بذلك: - أي وضعه للمعنى مع قيد المراد - يستلزم كون اللّفظ موضوعاً للمركّب من المعنى الاسميّ، وهو ذات المعنى، والحرفيّ، وهو التقيّد، أي: من الآليّة والاستقلاليّة، وهو أمر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبّع.

فقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بأنّ «الاختلاف بين المعنى الحرفيّ والاسميّ - كما عرفت - اختلاف بالذات والحقيقة، لا باللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ. فالمعنى الحرفيّ حرفيّ، وإن لوحظ استقلالاً، والمعنى الاسميّ اسميّ، وإن لوحظ آليّاً، و قد اعترفهو(قدس سره) أيضاً بذلك. وعليه: فالإرادة معنىً اسميّ، وإن لوحظت آلةً، ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسميّ إلى المعنى الحرفيّ حتّى يلزم وضع اللّفظ لمعنىً مركّب من معنىً اسميّ وحرفيّ.

ص: 189


1- بدائع الأفكار 1: 92 (تقريرات الميرزا هاشم الآمليّ)).

على أنّك قد عرفت أنّ المعنى الحرفيّ كالمعنى الاسميّ ملحوظ استقلالاً لا آليّاً، فلا وجه حينئذ لتخصيص الإيراد بصورة أخذ الإرادة قيداً لا جزءاً. إلّا أن يكون مراده من المعنى الحرفيّ نفس التقيّد بالإرادة لا نفس الإرادة، فإنّه معنىً حرفيّ.

ولكنّه مدفوع: أوّلاً: بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركّبة أو المقيّدة، فإنّ معانيها متضمّنة للمعنى الحرفيّ لا محالة، إذ كلّ جزء مقيّد بجزء آخر، فالتقيّد معنىً حرفيّ.

وثانياً: أنّه لا مانع من وضع لفظ لمعنىً مركّب من معنىً اسميّ وحرفيّ إذا دعت الحاجة إليه، فإذا فرض أنّ الغرض تعلّق بوضع الألفاظ للمعاني المقيّدة بإرادة المتكلّم، فلا مانع من وضع الألفاظ لها كذلك، إذ الوضع فعل اختياريّ للواضع، فله أن يقيّد المعنى الموضوع له بأيّة قيود شاء، ولا محذور فيه، والاستقراء المدّعى في كلامه(قدس سره) لو تمّ، فلا يدلّ على استحالة ذلك الوضع. على أنّ ذلك لو تمّ، فإنّما يتمّ إذا كان الواضع من أهل كلّ لغة واحداً أو جماعةً معيّنين ليثبت له الطريقة الخاصّة في الوضع، التي فرض عدم جواز التخلّف عنها، إلّا أنّه فرض في فرض.

وثالثاً: أنّه لا أساس لذلك الإيراد أصلاً، فإنّه مبتن على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له، وأمّا إذا لم تؤخذ فيه أبداً، بل كانت مأخوذةً في العلقة الوضعيّة، فلا مجال لذلك الإيراد»(1).

ص: 190


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 107.

وأقول:أوّلاً: إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ بناءً على القول بالفرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ باللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ، ولكن الاختلاف بينهما - كما مرّ عليك - اختلاف بالذات، والمعنى الحرفيّ أيضاً ملحوظ استقلالاً.

وثانياً: إنّ جميع المعاني المركّبة أو المقيّدة مركّبة من معنى اسميّ وحرفيّ؛ لأنّ التقيّد معنىً حرفيّ.

ولكنّ هذا النقض إنّما يتمّ بناءً على ارتباط الأجزاء بعضها ببعض في الموضوع له.

وأمّا إذا قلنا بأنّ اللّفظ موضوع لذوات الأجزاء، فلا، وسيأتي تحقيق ذلك في الأبحاث الآتية، كمبحث الوضع للصّحيح والأعمّ ومبحث مقدّمة الواجب، وشمول المقدّمة للأجزاء، فإنّه يبتني على كون المركّب هل هو ذوات الأجزاء أو بوصف الاجتماع.

وثالثاً: لا مانع من ذلك إذا دعت إليه الضرورة ولم تؤخذ الإرادة قيداً للموضوع له، بل كانت مأخوذةً في العلقة الوضعيّة، كما أشار إليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فيما عرفت.

المراد من كلام العلمين:

قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«وأمّا ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسيّ من مصيرهما إلى أنّ الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظراً إلى كون الألفاظ

ص: 191

موضوعةً للمعاني بما هي مرادة، كما توهّمه بعض الأفاضل، بل ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقيّة، أي: دلالتها على كونها مرادةً للافظها، تتبع إرادتها منها ويتفرّع عليها، تبعيّة مقام الإثبات للثّبوت، وتفرّع الكشف على الواقع المكشوف، فإنّه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال.ولذا، لا بدّ من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصوّريّة، أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.

إن قلت: على هذا: يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شي ء، ولم يكن له من اللّفظ مراد.

قلت: نعم، لا يكون حينئذ دلالة بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالةً. ولعمري(قدس سره) ما أفاده العلمان من التبعيّة على ما بيّنّاه واضح لا محيص عنه. ولا يكاد ينقضي تعجّبي(قدس سره) كيف رضي المتوهّم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلاً عمّن هو علم في التحقيق والتدقيق»(1).

وحاصله: أنّ ما ورد عن العلمين: الشيخ الرئيس، والمحقّق الطوسيّ:

ص: 192


1- كفاية الاُصول: 16- 18.

من أنّ الدلالة تتبع الإرادة(1)، فليس المراد منه أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، أي: أنّ الإرادة قد أخذت في المعنى الموضوع له شطراً أو شرطاً، بل المقام من باب أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يمكن بعد إحراز كون المتكلّم في مقام البيان، وهي الإرادة الجديّة، ومعناها: أنّ المعنى الموضوع له اللّفظ مراد للمتكلّم إرادةً جدّيّةً، بحيث يصحّ للمخاطب أن يحتجّ به عليه. وهذه الدلالة تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.

وتوضيح ذلك: أنّ الدلالة على أقسام ثلاثة:القسم الأوّل: الدلالة التصوّريّة: بمعنى: خطور المعاني الإفراديّة من ألفاظها إلى نفس المخاطب بمجرّد التكلّم، وهذا لا يتوقّف على شيء سوى العلم بالوضع.

فكلّ من علم بالوضع ينتقل المعنى إلى ذهنه حين سماع اللّفظ، بلا فرق بين أن يكون المعنى مراداً للّافظ أم لا، بل حتّى لو فرض أنّه لم يرده، أو نصب قرينةً على عدم إرادته، بل ولو فرض صدروه من لافظ بلا شعور ولا اختيار، أو عن اصطكاك حجر بحجر، فإنّ هذه الدلالة تحصل وتتحقّق.

ص: 193


1- راجع: الشفاء، قسم المنطق، في المقالة الاُولى من الفنّ الأوّل، الفصل الثامن: 42، عند قول الشيخ: «وذلك لأنّ معنى دلالة اللّفظ هو أن يكون اللّفظ اسماً لذلك المعنى على سبيل القصد الأوّل». وحكى العلّامة الحلّيّ) في كتابه: الجوهر النّضيد في شرح التجريد: 4 عن اُستاذه المحقّق الطّوسيّ) قوله: «بأنّ اللّفظ لا يدلّ بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد».

وعليه: فهذه الدلالة من الاُمور القهريّة الخارجة عن الاختيار، وهي لا تتوقّف على شيء كما بيّنّا، سوى العلم بالوضع وسماع اللّفظ.

القسم الثاني: الدلالة التصديقيّة: وهي حضور معنى الجملة إلى الذهن بعد ضمّ المعاني الإفراديّة بعضها إلى بعض وملاحظة القرائن والأخذ بظواهرها، وما يترتّب على هذه الدلالة هو صحّة إسناد مضمون الكلام إلى المتكلّم ظاهراً، بأن يقال: إنّ كلامه كان كذا وكذا... ويجب عند أهل المحاورة العمل على طبقها، والمشي على وفقها، وهذه الدلالة غير متوقّفة على إرادة المتكلّم، فيؤخذ بظهور كلامه، كان يريده في حاقّ الواقع أم لم يكن. نعم، تتوقّف هذه الدلالة على عدم العلم بإرادة الخلاف؛ لأنّه لو أتى بما يصلح للقرينيّة لهدم الظهور، وأصبح الكلام - بالتالي - غير قابل للأخذ بظهوره.

القسم الثالث: الدلالة التصديقيّة الجدّيّة: أيّ أن الإرادة الجدّيّة مطابقة للإرادة الاستعماليّة، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء، إلّا أنّها تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان وإرادة ما يقوله.ولا شكّ في تبعيّة هذه الدلالة للإرادة، بل يكون ذلك من قبيل الضرورة بشرط المحمول، ومن المعلوم: أنّ احتجاج العبد إنّما يصحّ بعد إحرازه أنّ المولى كان في مقام البيان، ولو بأصل عقلائيّ.

وعليه: فما ذكره بعض المحقّقين من أنّ الأساس في كون الظواهر مرادةً هو بناء العقلاء على حجّيّة الظواهر، ولو مع عدم العلم بقصد

ص: 194

المتكلّم لها، لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ كون نفس الظواهر كاشفةً عن الإرادة الجدّيّة للمتكلّم، وترتيب الآثار على إرادته، كما هو الحال في التقارير والسجلّات محلّ تأمّل.

وقد ظهر: أنّ مراد المحقّق من تبعيّة الدلالة للإرادة هو الثالث من هذه الأقسام.

وخلاصة الكلام: أنّ الألفاظ قد وضعت لنفس المعاني، لا للمعاني المقيّدة بنحو من أنحاء الإرادة، بلا فرق بين أن يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، أو أن يكون كلاهما داخلاً، أو كلاهما خارجاً، بأن يكون المعنى ظرفاً للقيد.

وغاية ما يمكن أن يستدلّ به على مطلبهم هو: أنّ الوضع من الأعمال العقلائيّة، ولا شبهة في أنّ الواضع حينما أراد الوضع كان دافعه إلى ذلك هو تسهيل الطريق إلى الإفادة والاستفادة، وهو - طبعاً - يكون متعلّقاً لإرادة المتكلّم، وعليه: فيكون الموضوع له هو المعنى المقيّد بالإرادة.

وفيه: أنّه إن اُريد من كون الموضوع له هو المعنى الذي يكون مقيّداً بالإرادة، ولو كان التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، فتأتي المحاذير السابقة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ لمثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلّ اللهُ الْبَيْعَ﴾(1)، دلالات ثلاثاً:

ص: 195


1- البقرة: 275.

إحداها: الدلالة التصوّريّة: وهي أنّ معاني الأفراد تخطر في الذهن بمجرد السماع بعد إلقاء الألفاظ، وقد قلنا: بأنّ هذه الدلالة قهريّة لا تتوقّف على شيء غير العلم بالوضع وسماع اللّفظ، ولو كان صادراً من لافظ ساه أو نائم أو غير ذي شعور.

والثانية: حضور المعنى المتحصّل من الجملة في الذهن بعد ارتباط هذه المعاني بعضها ببعض وإلقائها إلى المخاطب وملاحظة القرائن، وبعد هذا الإلقاء يصحّ نسبة مضمون الكلام إلى المتكلّم بأن يقال: إنّه قال بجواز البيع - مثلاً -.

وهذه الدلالة قسم من الدلالة التصديقيّة نظراً إلى دلالة الجملة الملفوظة على المعنى المتحصّل الذي توقّف على إسناد المحمولات إلى موضوعاتها، والإذعان من السامع بأنّ مضمون كلامه كان كذا وكذا. وأمّا إذعانه بأنّ مضمون كلامه مراد له فهو لا يظهر من هذه الدلالة.

والثالثة: دلالة الكلام على كون المعنى المتحصّل منه مقصوداً ومراداً للمتكلّم، بحيث يصحّ للمخاطب أن يحتجّ بها عليه. وهذه الدلالة تتوقّف على إحراز أنّ المتكلّم كان في مقام البيان. والدلالة التصديقيّة التي تكون تابعةً للإرادة هي هذه الدلالة. ولا ينبغي الارتياب في تبعيّتها لها، كيف لا؟(قدس سره) وصحّة احتجاج العبد على مولاه بظاهر كلامه منوطة بإحراز كون المولى في مقام البيان، ولو بأصل عقلائيّ.

فحينئذٍ: يصحّ أن يقال - مثلاً: - إنّ المتكلّم أراد حلّيّة البيع، وإنّ هذه

ص: 196

الحلّيّة التي هي مضمون الجملة كانت مرادةً ومقصودةً له، لا أنّه تكلّم بها على سبيل التقيّة أو الهزل مثلاً.

وبعبارة أُخرى: فهذه الدلالة هي بمعنى أنّ المتكلّم قال بمضمون الكلام، أي قال: بالحلّيّة - مثلاً -، فهي موجودة في القسم الثاني. وأمّا الدلالة على أنّه كان مراده جدّيّاً، وأنّه قال كلامه هذا لا عن تقيّة، فلا تثبت إلّا بعد الإحراز، كما بيّنّا.وتحصّل: أنّ الدلالة التفهيميّة لا تتوقّف على شيء غير السماع، وإحراز أنّ المتكلّم كان في مقام التفهيم، وهي موجودة حتى فيما إذا علم بكذب المتكلّم، إلّا إذا نصب قرينةً منفصلةً على أنّه ليس في مقام التفهيم.

وأمّا الإرادة الجدّيّة - والتي هي القسم الثالث - فتحتاج، علاوةً على ذلك إلى شيء آخر، وهو الإحراز، حتى تجعل الإرادة الاستعماليّة موافقة للإرادة الجديّة، ومقام الإثبات مطابقاً لمقام الثبوت والواقع. وأمّا الإرادة التفهيميّة فهي موجودة دائماً، بمقتضى الوضع والقانون اللّغويّ، سواء كانت متصادقة مع الإرادة الجدّيّة أم لم تكن.

ص: 197

ص: 198

الفصل السابع: في وضع المركّبات

لا يخفى: أنّ المركّبات لا تحتاج إلى وضع ثالث بمجموع موادّها وهيئاتها مضافاً إلى وضع أجزاء المركّب التي لها موادّ وهيئات، فلو قلت - مثلاً: - «زيد قائم»، فلكلّمن (زيد) و(قائم) مادّة وصورة، فلزيد وضع شخصيّ، لمادّته؛ لأنّه قد وضع لحصّة خاصّة من الإنسان ذات مشخّصات خاصّة.

وله - أيضاً - وضع نوعيّ هو وضع هيئة (زيد) التي تنشأ من جهة إعرابه رفعاً على الابتداء. وكذا الحال في كلمة (قائم)، فإنّها قد وضعت بوضع شخصيّ لذات متّصفة بالقيام، ووضعت بهيئتها الحاصلة من جهة رفعها بالخبريّة وضعاً نوعيّاً.

وأمّا هيئة الجملة، فهي تحصل بعد ضمّ كلّ واحد من الأجزاء إلى الآخر، أي: - في المثال - بعد ضمّ (زيد) إلى (قائم) والربط بينهما. ولولا هذا الربط والضمّ، لكان كلّ من الجزأين أجنبيّاً عن الآخر.

ص: 199

وبعد هذا، فلا حاجة إلى وضع ثالث للمركّبات، أي: لمجموع المركّب بمادّته وهيئته؛ لعدم فائدة فيه، حيث إنّ الغرض من الوضع هو تسهيل التفهّم والتفهيم، وهذا الغرض حاصل بدونه، فأيّة حاجة تبقى إلى هذا الوضع؟(قدس سره) ولكن لا يخفى: أنّ ما قلناه: من أنّ الوضع في المواد هو من قبيل الوضع الشخصيّ مختصّ بالجوامد.

وأمّا المشتقّات فالوضع بالنسبة إلى موادّها لا يكون إلّا نوعيّاً.

والمراد بالنوعيّة: عدم الاختصاص بمادّة أو هيئة، فمادّة (نصر) نوعيّة، أي: لأنّها لنفس المعنى في ضمن أيّة هيئة كانت، تماماً كهيئة (فاعل) التي هي لمن قام به المبدأ في ضمن أيّة مادّة كانت، وكذلك مادّة (ض ر ب) - مثلاً - فإنّها موضوعة للحدث الكذائيّ، ولو في ضمن أيّة هيئة كانت.

ومن هنا ظهر: أنّ الموادّ - كالأعلام الشخصيّة - إذا أصبحت في ضمن الجملة، فإنّ هيئاتها تكون موضوعةً بوضع نوعيّ، كهيئة (زيد) في المثال المتقدّم، والمرادبها:

المرفوعيّة التي تحصل من جهة إعرابه. وعليه: فما أفاده الاُستاذ المحقّق) من أنّ الجوامد بمادّتها وهيئتها شخصيّة، لا يمكن المساعدة عليه على إطلاقه(1).

وقد يقال هنا: إنّ نسبة الهيئة إلى المادّة كنسبة العرض إلى المعروض،

ص: 200


1- منتهى الاُصول 1: 37.

فإنّ المادّة لها تجوهر واستقلال في ذاتها، فيمكن أن تلاحظ مستقلّةً، وتوضع لمعنىً، ولو لم تلاحظ الهيئة معها.

وأمّا الهيئة فلمّا لم يكن لها استقلال، لم يكن من الممكن ملاحظتها مستقلّةً، بل لا بدّ من ملاحظتها في ضمن مادّة من الموادّ.

ولكنّ الصحيح: أنّه كما لا يمكن تصوّر وضع الهيئات على نحو الاستقلال، ومع قطع النظر عن لحاظ الموادّ، فكذلك الموادّ لا يمكن لحاظها مع قطع النظر عن الهيئات.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) هنا: أنّه يلزم - بناءً على القول بالوضع الثالث - دلالة اللّفظ على معناه مرّتين، ففي مثل «زيد قائم»، تارةً تكون الدلالة بملاحظة وضع مفرداتها، واُخرى بملاحظة وضع مجموعهما مع هيئة المركّب. وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«مع استلزامه الدلالة على المعنى تارةً بملاحظة وضع نفسها، واُخرى بملاحظة وضع مفرداتها»(1).

وعلّق عليه اُستاذنا المحقّق) بقوله: «وأمّا حديث دلالة الجملة على المعنى المقصود منها مرّتين بواسطة تعدّد فلا محذور عقليّ فيه أصلاً. نعم، إنّه خلاف الوجدان»(2).

ص: 201


1- كفاية الاُصول: 18.
2- منتهى الاُصول 1: 39- 40.

والحقّ: أنّ فيه محذوراً، كما اختاره الاُستاذ الأعظم)، قال: «وأمّا في مقامنا، فلو التزمنا بتعدّد الوضع، للزمنا الالتزام بعرضيّة الانتقالين، وذلك لأنّ المركّبات بما هي لو كان لها وضع، فلا محالة، كان وضعها لإفادة ما يستفاد من مجموع الهيئة والمادّة في الجملة، لعدم معنىً آخر على الفرض.

وعليه: فلزمنا الالتزام بعرضيّة الانتقالين لتحقّق كلّ من الدالّين في عرض تحقّق الآخر، وهذا مخالف للوجدان، كما هو واضح»(1).

ص: 202


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 110- 111.

الفصل الثامن: علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

وهي عدّة:

العلامة الاُولى: التبادر

والكلام فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ هذا البحث هل له أثر في مقام العمل أم لا؟ قيل: لا أثر له في مجال العمل، لأنّ المدار في معرفة مراد المتكلّم من الكلام على ظهور الكلام في المعنى، سواء كان حقيقيّاً أو مجازيّاً؛ فإنّ الظاهر هو الحجّة بلاكلام، وأمّا مجرّد كون المعنى حقيقيّاً، وإثبات ذلك بالتبادر، فلا يجدي في الحكم بكونه مراداً من اللّفظ ما لم يكن للّفظ فيه ظهور.

نعم، تظهر الفائدة في هذا البحث فيما لو بنينا على أصالة الحقيقة تعبّداً، فإنّه لا بدّ من الالتزام حينئذ بكون المراد هو المعنى الحقيقيّ، ولو لم يكن اللّفظ ظاهراً فيه.

ص: 203

فتعيين المعنى الحقيقيّ بإحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء.

لكنّ التحقيق: عدم البناء على أصالة الحقيقة تعبّداً، وكون المدار في تعيين المراد على ظهور الكلام، وهو لا يرتبط بتعيين المعنى الحقيقيّ، لأنّ ما يكون الكلام ظاهراً فيه يكون متّبعاً، وإن لم يكن معنىً حقيقيّاً، وما لا يكون ظاهراً فيه، لا يبنى على إرادته، وإن كان معنىً حقيقيّاً قد وضع له اللّفظ.

وبهذا يكون البحث عن علامات الحقيقة بحثاً سطحيّاً، لأنّه لا يفيد إلّا من الناحية العلميّة والنظريّة دون العمليّة، كما هو الحال أيضاً في بعض أبواب الاُصول الاُخرى.

الأمر الثاني: أنّ التبادر علامة على الوضع لأنّه بمعنى انسباق المعنى إلى الذهن.

والأمر الثالث: أنّ التبادر الذي يصلح لأن يكون علامةً على الوضع، هل يجب فيه أن يكون من حاقّ اللّفظ، أو يكفي فيه أن يكون ناشئاً من القرينة؟(قدس سره) الحقّ: أنّه يجب فيه أن يكون من حاقّ اللّفظ، لأنّه لو كان كذلك، لكشف بالكشف الإنّيّ عن كون اللّفظ موضوعاً للمعنى المتبادر. وبتقييد التبادر بكونه من حاقّ اللّفظ، يخرج التبادر الحاصل من مقدّمات الحكمة، والتبادر الحاصل من الشهرة أو كثرة الاستعمال أو بقرينة

ص: 204

اُخرى، كانصراف (الماء) إلى (ماء الفرات) بقرينة مثل: (سكّان الكوفة).قال صاحب الضوابط(قدس سره): «التبادر هو بمعنى سبق المعنى من بين المعاني إلى الذهن، لا سبق الذهن إلى المعنى، كما قاله البعض؛ لأنّ السبق أمر إضافيّ يحتاج إلى السابق والمسبوق والمسبوق إليه، فهو بالنسبة إلى المعنى الأوّل متصوّر؛ لأنّ المعنى المتبادر سابق، والمعنى الآخر مسبوق، والذهن مسبوق إليه، بخلاف المعنى الآخر؛ لعدم وجود مسبوق هناك. ولكنّ الظاهر: أنّ مراد من عبّر بتلك العبارة هو مجرّد انتقال الذهن أوّلاً إلى هذا المعنى، دون غيره من المعاني من باب التسامح»(1). انتهى.

وقال(قدس سره) أيضاً: «التبادر تارةً ينشأ من حاقّ اللّفظ، واُخرى ينشأ من القرينة - كالشهرة في المجاز، كلفظ الصلاة المتبادر منه: الأركان المخصوصة - واُخرى من الشيوع في الفرد الشائع - كقولنا: (أسد يرمي) - فالأوّل: هو التبادر الوضعيّ، والثاني هو التبادر الإطلاقيّ، والمراد في محلّ البحث: هو التبادر الأوّل». انتهى.

وعليه: فالمعتبر من أماريّة التبادر - كما قيل - إنّما هو فيما إذا كان من حاقّ اللّفظ حتى يدلّ على الحقيقة، لا من القرائن، فإذا كان انسباق المعنى إلى الذهن من حاقّ اللّفظ؛ فإنّ هذا يكشف عن علقة خاصّة بين ذلك اللّفظ والمعنى، وإلّا، فلماذا تبادر هذا المعنى من هذا اللّفظ دون غيره من المعاني؟(قدس سره)

ص: 205


1- الضوابط: 30.

فالتبادر يكشف عن الوضع والهوهويّة بين اللّفظ والمعنى، وأمّا إذا كان التبادر لا من حاقّ اللّفظ، بل بواسطة القرائن، فلا يستكشف منه ذلك.

وقال صاحب الضوابط(قدس سره) أيضاً: «وقالوا: بحجّيّته وكاشفيّته عن الوضع باتّفاق العلماء، وإطباق أهل اللّسان، وبالدليل العقليّ».

تقرير هذا الدليل العقليّ: أنّ جميع المعاني بالنسبة إلى الألفاظ متساوية، فالداعي إلى السبق: إمّا هو القرينة، والمفروض فقدها. وإمّا هو الوضع، فالمطلوب حاصل.وإن لم يكن شيء منهما: لزم الترجيح بلا مرجّح. فظهر: أنّ التبادر معلول الوضع، فيحصل من العلم به العلم بالوضع.

ثمّ إنّه قسّم التبادر إلى قسمين:

التبادر بالمعنى الأخصّ، وهو: ما كان مركّباً من النفي والإثبات، بأن يعتبر المتبادر هذا المعنى فقط، فيظهر منه عدم كون الغير موضوعاً له ومراداً.

والتبادر بالمعنى الأعمّ، بأن يتبادر هذا المعنى لا فقط، كما في المشتركات، فإنّ تبادر أحد المعاني لا ينفي تبادر غيره، وكلّ من القسمين علامة الحقيقة.

ثمّ إنّ عدم التبادر بالمعنى الأعمّ ملازم للمجازيّة. وأمّا عدم التبادر بالمعنى الأخصّ فحيث إنّه موجود في المشتركات، فهو لا يدلّ على

ص: 206

المجازيّة، لعدم دلالة الأعمّ على الأخصّ.

وأمّا تبادر غير الأعمّ، فأمره بالعكس، وهو لا يلازم المجازيّة، لوجوده في المشترك، وتبادر الغير بالمعنى الأخصّ ملازم للمجازيّة. وبذلك اندفع ما اُورد على عدم التبادر.

والصحيح: أنّه لا مجال للتبادر من المشتركات. ولذا قيل: بأنّه عند الاستعمال يحتاج إلى القرينة المعيّنة للمراد.

ثمّ إنّ التبادر الذي هو علامة على الوضع هو تبادر العالم للجاهل، لا الجاهل للجاهل، لأنّه مستلزم للدّور؛ ولا العالم للعالم، لأنّه من تحصيل الحاصل؛ ولا الجاهل للعالم، لأنّه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى العالم.

ثمّ هل إنّ التبادر من شخص واحد بالنسبة إلى نفسه ممكن أم لا؟ قد يقال: بعدم الإمكان؛ لأنّه لو كان عالماً لكان تحصيلاً للحاصل، ولو كان جاهلاً، لزم الدور.وقد أجاب(قدس سره) عن هذا: بأنّ هذا الإشكال إنّما يأتي لو كان الشخص عالماً وجاهلاً من كلّ الجهات، وأمّا إذا كان عالماً بالإجمال وجاهلاً بالتفصيل وهو من أهل اللّسان، فلا محذور، فإنّ العلم التفصيليّ متوقّف على العلم الإجماليّ عنده، ولا عكس.

وقد اعتُرض على القول: بأنّ التبادر علامة للوضع دوريّ، لأنّ التبادر موقوف على العلم بالوضع، وهو موقوف على التبادر؛ لأنّ انسباق هذا

ص: 207

المعنى الخاصّ إلى الذهن من بين المعاني منوط بالعلم بالوضع له، وإلّا لزم الترجّح بلا مرجّح.

وأُجيب عنه: بأنّ هناك مغايرةً بين العلمين، أي: العلم بالوضع الذي يتوقّف على التبادر، والعلم بالوضع الذي يتوقّف التبادر عليه، أو: العلم بالوضع الذي هو علّة للتبادر، والعلم بالوضع الذي هو معلول له؛ وذلك لأنّ العلم بالوضع الذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ، وأمّا العلم بالوضع الذي يتوقّف عليه التبادر فهو العلم الإجماليّ، فلو فرض - مثلاً - أنّ اللّفظ موضوع لأحد المعاني المتعدّدة، ثمّ حصل له النسيان - أي: نسيان ذلك المعنى الخاصّ -، فإنّ إجماليّة العلم ودورانه بين معان عدّة، وارتكازيّته باعتبار بقاء ذلك المعنى في قوّة الحافظة، وإن ذهب عن الذاكرة.

وأجاب صاحب الكفاية(قدس سره):

«الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإنّ العلم التفصيليّ بكونه موضوعاً له موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الإجماليّ الارتكازيّ به، لا التفصيليّ، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى»(1).

ص: 208


1- كفاية الاُصول: 19.

وحاصله: أنّ التبادر المفروض كونه علامةً: إمّا أن يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم، وإمّا أن يراد به التبادر لدى العالم وأهل اللّغة حتى يكون علامةً على الوضع. فعلى الأوّل: التبادر، وإن كان يتوقّف على العلم بالوضع، إلّا أن المراد به العلم الارتكازي الإجماليّ، وهو حصول صورة الشيء في النفس ارتكازاً ومن دون التفات إليها، وإنّما يلتفت إليها بموجبات. والعلم الذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالوضع والالتفات إليه، وعليه: فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر بالإجمال والتفصيل، وهو كاف في رفع غائلة الدور.

وقد استشكل على هذا بوجهين:

أوّلهما: أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ لأنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان عالماً بالوضع ثمّ نسي وغابت عن ذهنه تلك الصورة، ممّا يعني: أنّ ارتباط اللّفظ بالمعنى موجود في مكان ما في النفس، وحينئذ فقط يكون التبادر علامةً على الوضع.

وأمّا إذا لم يكن قد علم بالوضع أصلاً، ولم تكن تلك الصورة موجودةً في خزانة الذاكرة، فلا يحصل التبادر حينئذ أصلاً لكي يتأتّى أن يقال: التبادر علامة على الوضع.

ثانيهما: أنّ العلم الإجماليّ بكون أحد المعاني المعلومة تفصيلاً هو ما وضع له اللّفظ لا يوجب تبادر خصوص الموضوع له من بين تلك المعاني قطعاً، بل جهل السامع بالمعنى الموضوع له معيّناً بعد سماع

ص: 209

اللّفظ، كجهله به قبل سماعه، والعلم الإجماليّ لا يؤثّر في انسباق خصوص المعنى الموضوع له، فينحصر سبب الانسباق في صورة العلم التفصيليّ بالوضع. وفي هذه الصورة لا حاجة إلى التبادر - كما لا يخفى - فكيف يكون التبادر حينئذ علامةً على الوضع؟(قدس سره) ثمّ إنّ اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أضاف إلى ذلك قائلاً:«ثمّ لا يخفى: أنّ تبادر المعنى من نفس اللّفظ من دون قرينة لا يثبت به إلّا وضع اللّفظ لذلك المعنى وكون استعماله فيه حقيقياً في زمان تبادره منه، وأمّا وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه، فلا يثبت بالتبادر المتأخّر، فلابدّ في إثبات ذلك من التشبّث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجّيّته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائيّة وبناء أهل المحاورة عليه، فإنّهم يتمسّكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه، بل على ذلك الأصل تدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة، ضرورة أنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرةً في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا، ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضاً، ما لم تثبت قرينة على خلافها، وسمّي ذلك الاستصحاب ﺑ (الاستصحاب القهقرى)؛ فإنّه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة، فإنّ المتيقّن فيه أمر سابق،

ص: 210

والمشكوك فيه لاحق، على عكس الاستصحاب القهقرى، فإنّ المشكوك فيه أمر سابق، والمتيقّن لاحق»(1).

وحاصله: أنّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع وعلامةً له في ظرفه، أي: أنّه يكشف عن الوضع في زمان التبادر، أمّا قبله فلا يكشف عن الوضع.

وعليه:

فتبادر المعنى فعلاً من اللّفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في إثبات أنّه هو المعنى الموضوع له سابقاً وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بأنّ الشارع أراده، فلابدّ من ضمّ أصل عقلائيّ للتبادر ينفع في المقصود، وهو الاستصحاب القهقرى، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان.وهذا الاستصحاب، وإن كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع؛ لأنّ ملاكها اليقين السابق والشكّ اللّاحق، على العكس في هذا الاستصحاب، لأنّ الشكّ سابق واليقين لاحق، وبهذا الاعتبار سمّي ﺑ (القهقرى)، فلا يكون مشمولاً لأدلّة الاستصحاب، ولكنّه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور، ولولاه لما قام لاستنباط الأحكام الشرعيّة من النصوص أساس؛ إذ ظهورها في معنىً في زماننا - بناءً على هذا - لا يكون دليلاً على الحكم، ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان

ص: 211


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 114- 115.

الاستعمال، ولا مثبت لذلك سوى هذا الاستصحاب، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط. هذا.

وقد أجاب عن إشكال الدور كلّ من المحقّقين: الأصفهاني والعراقي*(1).

أمّا المحقّق الأصفهاني) فقد ذكر:

أنّ التبادر ليس معلولاً للعلم بالوضع، بل لنفس الوضع، وهو من مقتضيات الوضع، ولذا نرى أنّه يكشف عنه إنّاً، وأمّا العلم بالوضع فإنّما هو شرط في تأثير الاقتضاء الثابت للوضع في التبادر.

ولكن، يجاب عنه - بما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين(قدس سره):- بأنّ هذا الجواب هو أيضاً يؤدّي إلى وقوع الدور من ناحية الشرط، لتوقّف التبادر على العلم بالوضع باعتبار كونه شرطاً، وتوقّف العلم على التبادر باعتبار كونه علامةً.

وأمّا المحقّق العراقيّ) فقد أجاب عن أصل الدور بما حاصله: أنّه ولو فرض أنّ التبادر متوقّف على العلم التفصيليّ بالوضع، ولكنّه يكفي في ارتفاع الدور التغاير بينالموقوف والموقوف عليه بالشخص، ولا نحتاج إلى التغاير بالنوع، ولا بالصنف؛ لأنّ هناك مغايرةً بين العلم الشخصيّ الحاصل بالتبادر والعلم المتوقّف عليه التبادر.

ص: 212


1- راجع: نهاية الدراية 1: 45، وبدائع الأفكار 1: 97.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ الإشكال على التبادر ونحوه وارد؛ لأنّ جعله طريقاً للعلم بالوضع لغو، إذ العلم بالوضع من مقدّمات التبادر، فالتوصّل به إلى العلم بالوضع ثانياً يكون لغواً. بل وهو باطل أيضاً من جهة اُخرى، لأنّه لو فرض أنّ العلم بالوضع معلول للتبادر، والتبادر هو علّة العلم بالوضع، فلا يمكن أن يكون المعلول والعلّة - اللّذان هما في الخارج شيء واحد - متعلّقين لعلمين تفصيليّين؛ إذ يكون معناه: أنّ العلم التفصيليّ بالوضع الذي هو معلول للعلم التفصيليّ بالتبادر الذي هو العلّة. وكذا العلم التفصيليّ بالتبادر والذي هو علّة للعلم التفصيليّ بالوضع.

وبعبارة اُخرى: فإنّ كلام المحقّق العراقيّ) وإن كان يرفع مشكلة الدور، إلّا أنّه لا يرفع مشكلة اللّغويّة.

وبعد أن قلنا بأنّ التبادر - كما هو المشهور - من دلائل الوضع، وأنّ استماع اللّفظ موجب لتصوّر المعنى، وهذا لا يكون إلّا بسبب ارتباط ذلك اللّفظ بذلك المعنى وعلاقته به في نظر السامع، ولا حقيقة للوضع عندنا إلّا ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فيكون هذا التبادر من آثار ذلك الارتباط في نظر السامع.

وهذا في الجملة واضح. وإنّما المهمّ إحراز كون ذلك الانسباق مستنداً إلى سماع اللّفظ بشخصه، لا ببعض القرائن، ولو أنّها لا تنفكّ غالباً عنه.

ص: 213

ثمّ على فرض كون التبادر علامةً على الحقيقة، فلابدّ من إحراز كون التبادر من حاقّ اللّفظ، أي: لا بدّ من العلم بذلك، وأمّا مع الشكّ في أنّ التبادر هل كان من حاقّ اللّفظ أو من جهة القرينة، فإنّ هذا التبادر لا يكون علامةً على الوضع.فإن قلت: يمكن اكتشاف أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ بأصالة عدم القرينة.

قلنا: إن كان المراد من الأصل الاستصحاب العدم المحموليّ، فهو وإن كان له حالة سابقة، إلّا أنّه لا يجري، لأنّه مثبت. وإن كان المراد منه العدم النعتيّ، فلا حالة سابقة له.

مضافاً إلى أنّ هذا الأصل - على كلا التقديرين - لا دليل على حجيّته، لأنّه لا يترتّب عليه حكم شرعيّ.

وأمّا إثبات أصالة عدم القرينة ببناء العقلاء، فهو وإن ثبتت حجّيّته، إلّا أنّ الدليل - كما هو معلوم - إذا كان لبّيّاً يؤخذ بالقدر المتيقّن، ولمّا كان هذا البناء لبّيّاً، فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن منه، وهو ما إذا كان الشكّ في مراد المتكلّم، بأن يشكّ أنّ مراده هل كان هو المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ، فحينئذ يثبت كونه مراده بأصالة عدم القرينة. وأمّا إذا كان مراده معلوماً، وكان الشكّ في أنّ هذا المراد المعلوم هل هو المعنى الحقيقيّ أم المجازيّ، فلا يثبت بأصالة عدم القرينة كونه هو المعنى الموضوع له، ولا أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ.

ص: 214

العلامة الثانية: صحّة السلب وعدمها

والمراد من علاميّة عدم صحّة السلب هو أنّ صحّة الحمل علامة على الحقيقة، كما أنّ المراد من علاميّة صحّة السلب هو أنّ عدم صحّة الحمل علامة على المجازيّة، بلا فرق بين أن يكون تجوّزاً في الإسناد أو في الكلمة.

ثمّ إنّه، وقبل الدخول في صلب هذا البحث - وهو أنّ صحّة السلب هل هي علامة على الحقيقة أم لا؟ - فلا بدّ لنا من التعرّض لشرح قسمي الحمل، فنقول:القسم الأوّل: هو: الحمل الأوّليّ الذاتيّ، وهو: أن يكون الموضوع والمحمول متّحدين من جهة المفهوم والموجود، ويكون التغاير بينهما من جهة الاعتبار، أي: بأن يكون الإجمال في الموضوع والتفصيل في المحمول، كقولك: (الإنسان حيوان ناطق).

وسمّي بالحمل الأوّليّ: لكونه أوّليّ الصدق، أو لأنّه أوّل مراتب الحمل. ويسمّى بالذاتيّ؛ لأنّه جار على الذاتيّات.

والقسم الثاني: هو الحمل الشائع الصناعيّ، وهو أن يكون الموضوع والمحمول متّحدين خارجاً، وإن كانا متغايرين مفهوماً، كحمل النوع على الفرد في قولك (زيد إنسان)، فإنّهما وإن كانا متّحدين في الخارج، إلّا أنّ مفهوم (زيد) الذي هو الجزئيّ، مختلف عن مفهوم (الإنسان)،

ص: 215

الذي هو الكلّي. وتسمية هذا القسم ﺑ (الحمل الشائع): لشيوعه في الصناعات والعلوم. وقد يسمّى ﺑ (الحمل العرضيّ) لكون مناط هذا الحمل هو الاتّحاد في الوجود فقط.

وإذا عرفت ذلك: فهل مناط عدم صحّة السلب، الذي هو عين صحّة الحمل، يأتي في كلا القسمين أم لا؟ قد يقال: إنّه، وبعد أن ثبت أنّ حقيقة الوضع عبارة عن جعل الهوهويّة بين اللّفظ والمعنى، أي: جعل اللّفظ وجوداً ادّعائيّاً للمعنى، فصحّة سلب اللّفظ عن معنىً مع قبول ذلك الادّعاء، علامة على أنّه ليس هناك ادّعاء وتنزيل في البين.

وأمّا عدم صحّة السلب - أي: صحّة الحمل والجري - إذا كان بالحمل الأوّليّ الذاتيّ فيمكن أن يقال: بأنه علامة كون اللّفظ حقيقةً في ذلك المعنى، وإن كان لا يخلو عن نظر أيضاً؛ لأنّ اللّفظ لم يجعل وجوداً تنزيليّاً لذلك المعنى التفصيليّ، بلالعلاقة والارتباط جعل بينه وبين الصورة البسيطة من ذلك المعنى، لا الصورة التحليليّة العقليّة المسمّاة بالحدّ التامّ مثلاً.

وأمّا إذا كان بالحمل الشائع الصناعيّ، فلا يدلّ على أزيد من اتّحاد وجوديّ بينهما.

وبعبارة اُخرى: لا يدلّ إلّا على أنّ اللّفظ الحاكي عمّا هو الموضوع مع اللّفظ الحاكي عن المحمول - بما لهما من المفهوم - متّحدان وجوداً،

ص: 216

سواء كانا كلّيّين أو مختلفين.

نعم، إذا كان الموضوع فرداً و مصداقاً ذاتيّاً للمحمول، كقولنا: (زيد إنسان) يدلّ على أنّ المحمول تمام حقيقة الموضوع وماهيته. وهذا أيضاً شي ء يعلم من الخارج، لا من ناحية صرف الحمل، فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الحمل الشائع لا أماريّة له، لا على الحقيقة ولا على المجاز.

وإنّما قلنا: بلا فرق بين أن يكون المجاز في الكلمة أو الإسناد؛ لأنّه لو فرض أنّ الرجل الشجاع فرد حقيقيّ ادّعائيّ للأسد، وأنّ المجاز في الإسناد والأمر العقلي، فصحّة السلب تكشف عن أنّ الرجل الشجاع معنى مجازيّ للأسد، وإن كان حقيقةً ادّعائيّةً عند السكّاكيّ(1).

ولكن مع ذلك كلّه، فإنّ إشكال الدور قد يأتي هنا أيضاً؛ لأنّ عدم صحّة السلب وصحّة الحمل تتوقّف على العلم بالوضع، فلو كان العلم بالوضع موقوفاً على عدم صحّة السلب لدار.

والجواب عن الدور بالإجمال والتفصيل هنا يرد عليه نفس ما ورد في التبادر، كما سبق.

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد قال:«إنّ صحّة شي ء من ذينك الحملين لا تكون علامةً للحقيقة، ولا يثبت بهما المعنى الحقيقيّ. وتفصيل ذلك: أنّ الحمل الذاتيّ لا يكشف إلّا

ص: 217


1- انظر: شرح المختصر: 108.

عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً، ومغايرتهما اعتباراً، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ. مثلاً: حمل (الحيوان الناطق) على (الإنسان) لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقةً، ولا نظر فيه إلى أنّ استعمال لفظ (الإنسان) فيما اُريد به حقيقيّ أو مجازيّ، ومن الظاهر: أنّ مجرّد الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.

و على الجملة: فصحّة الحمل الذاتيّ بما هو، لا يكشف إلّا عن اتّحاد المعنيين ذاتاً، وأمّا أنّ استعمال اللّفظ في القضيّة استعمال حقيقيّ، فهو أمر آخر أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها. نعم، بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً، كما نسب إلى السيّد المرتضى(قدس سره) يمكن إثبات الحقيقة، إلّا أنّه لم يثبت في نفسه، كما ذكرناه غير مرّة. على أنّه لو ثبت، فهو أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها.

وبكلمة اُخرى: إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل، وإلّا فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز، فهما يرجعان إلى عالم اللّفظ والدالّ، وبين الأمرين مسافة بعيدة»(1).

وملخّصه: أنّ صحّة الحمل بنوعيه: الأوّليّ الذاتيّ والشائع الصناعيّ لا تدلّ على الحقيقة والوضع.

ص: 218


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 116- 117.

بيان ذلك: أنّ الحمل الأوّليّ لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً، ولا نظر في ذلك في حال الاستعمال إلى كونه حقيقيّاً أو مجازيّاً، فقولنا: (الحيوان الناطق إنسان) لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقةً.وأمّا أنّ استعمال لفظ الإنسان فيما اُريد به حقيقيّ أو مجازيّ، فهو أجنبيّ عن مفاد الحمل، فلا يدلّ على الوضع، وهكذا الحال في الحمل الشائع، فإنّه لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول وجوداً، بلا نظر إلى حال استعمال المحمول فيما اُريد وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ. وظاهر أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز.

وفي الحقيقة: فإنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل، وإلّا، فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز، فهما يرجعان إلى عالم اللّفظ والدالّ. وبين الأمرين مسافة بعيدة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) بعد أن أشار إلى حمل اللّفظ بما له من المعنى الارتكازيّ بلا قرينة، ذكر:

أنّ التحقيق يقتضي جعل نفس الحمل والسلب علامةً للحقيقة والمجاز فيما كان النظر إلى صحّة الحمل وعدمها عند العرف، لا جعل صحّة الحمل وصحّة السلب علامةً للحقيقة والمجاز، لأنّ العلم بصحّة الحمل يحتاج إلى سبب آخر، من تنصيص أهل اللّسان أو التبادر أو

ص: 219

نحوهما، فيخرج عن كونه علامةً ابتدائيّةً مستقلّةً، بخلاف نفس الحمل والسلب، فإنّه بنفسه علامة الاتّحاد والمغايرة من دون توقّف على أمر آخر.

العلامة الثالثة: الاطّراد

قد ذكروا: أنّ الاطّراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز، ومعنى الاطّراد هو: كون الاستعمال مطّرداً في جميع الموارد، كاستعمال الكلّيّ في الفرد باعتبار أنّه مصداق لذلك الكلّيّ، كلفظة (الإنسان) المستعملة في (زيد) باعتبار أنّه فرد ومصداق للحيوان الناطق، فإنّ هذا المعنى مطّرد في جميع الموارد، فإذا جاز استعمال لفظ (الإنسان)في كلّ ما هو مصداق للحيوان الناطق باعتبار أنّه فرد له، يستكشف من هذا الاطّراد أنّ بين اللّفظ والمعنى علاقةً وارتباطاً، وتلك العلاقة لا تحصل إلّا بالوضع.

وبعبارة اُخرى: فإذا صحّ الإطلاق على نحو الاطّراد، كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة؛ لأنّ صحّة هذا الاستعمال وإطلاقه على نحو الاطّراد يكشف عن المعلوليّة لعلّة ما، وتلك العلّة: إمّا أن تكون هي الوضع أو العلاقة، وحيث لا اطّراد لأنواع العلائق المصحّحة للتجوّز، كما في استعمال لفظة (الأسد) في (زيد الشجاع) باعتبار المشابهة في الشجاعة، فإنّه ليس مطّرداً لكلّ ما يشابهه في الشجاعة؛ إذ لا يصحّ استعماله في (الهرّ الشجاع) مثلاً.

ص: 220

ومن هنا نستكشف أنّ لفظة (الأسد) ليس موضوعاً لكلّ ما يشبه الحيوان المفترس؛ بخلاف ما لو كان هناك اطّراد، فإنّه يعلم أنّ ذلك لم يكن مستنداً إلى العلاقة المصحّحة للتجوّز، وبالتالي: فلا مجال إلّا أن يكون الاستناد إلى الوضع، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة، وهو المطلوب.

ولكن نوقش فيه: بأنّ الاطّراد ليس لازماً مساوياً للوضع حتّى يكون علامةً للحقيقة والوضع، وإنّما هو لازم أعمّ، فلا يكون الاطّراد دليلاً عليه، لعدم دلالة العامّ على الخاصّ؛ ووجه أعمّيّته هو: وجود الاطّراد في المجاز أيضاً، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف - كشجاعة الأسد مثلاً - توجب جواز استعمال لفظ (الأسد) في كلّ مورد وجد فيه علاقة المشابهة، فالاطّراد حينئذ بلحاظ كلّ واحدة من العلائق الموجودة حاصل، مع أنّ استعمال اللّفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز. وعليه: فاطّراد الاستعمال أعمّ من أن يكون على نحو الحقيقة.

وقد أُجيب عن هذا: بأنّ الاطّراد في المجازات إنّما يكون بلحاظ أشخاص هذه العلائق، أي: خصوص العلائق المصحّحة للاستعمال، لا كلّ علاقة ولو لم تكنمصحّحةً له، كاستعمال (الأسد) في الرجل الشجاع؛ فإنّ استعماله هذا وإن كان مطّرداً، إلّا أنّ اطّراده إنّما هو باعتبار شخص هذه العلاقة الخاصّة المصحّحة للتجوّز التي هي موجودة بينه وبين الأسد خصوصاً، ولذا نرى عدم جواز استعماله في النملة الشجاعة

ص: 221

- مثلاً - مع أنّ نوع العلاقة موجود فيها أيضاً.

وهذا بخلاف الاطّراد في الحقائق، فإنّه يكون باعتبار أنواع العلائق، لا أشخاصها، فكلّ فرد فيه الحيوانيّة والناطقيّة يصحّ إطلاق لفظ (الإنسان) عليه، وكذا لفظ (العالم) مثلاً، فإنّه بلحاظ وضعه يصحّ ويطّرد استعماله فيشمل كلّ فرد اتّصف بالإدراك وكانت له صفة العلم، من دون خصوصيّة لمن استعمل فيه، فيطرد استعماله في زيد العالم وعمرو العالم وبكر العالم، وغيرهم من الذوات المتّصفة بالإدراك.

وقد أُجيب عن الإشكال المزبور - أي: الإشكال بوجود الاطّراد في المجاز أيضاً : - بأنّ تقييد الاطّراد بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة أو بدون الادّعاء يوجب اختصاص الاطّراد الذي هو أمارة على الوضع بالحقيقة.

هذا. ولكنّ هذا القيد، وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد بالمعنى الحقيقيّ، لكنّه مستلزم للدّور؛ لأنّ الاطّراد على هذا الوجه موقوف على معرفة الموضوع له، والمفروض توقّف هذه المعرفة على الاطّراد، حيث إنّه علامة الوضع.

والجواب عنه بالإجمال والتفصيل لا يتأتّى هنا، لأنّه لا سبيل للجاهل إلى إحراز كون الاطّراد عند العالم لأجل الوضع وعلى وجه الحقيقة، والمفروض: أنّ علاميّته على الحقيقة منوطة بكون الاستعمال على سبيل الحقيقة، ومع العلم بكونه على هذا الوجه، لا يكون الاطّراد علامةً، لأنّه

ص: 222

تحصيل للحاصل.وبالجملة: فبعدما اُخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع، فلابدّ من حصولها تفصيلاً، وحصول الالتفات إليها يعلم بحصول الدليل والعلم بها إلى مدلولها.

وأمّا العلم الارتكازيّ الإجماليّ فهو لا يجدي في التوصّل إلى المطلوب، إذ لايعلم به ثبوت العلامة والدليل.

ولكنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) أثبت كاشفيّة الاطّراد عن الحقيقة - في الجملة - ولكن بمعنىً آخر. قال):

«والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو أنّ الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاصّ في معنىً مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينةً على إرادة المجاز، فهذا طريقة عمليّة لتعليم اللّغات الأجنبيّة، واستكشاف حقائقها العرفيّة.

توضيح ذلك: هو أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم، إذا تصدّى لتعليم اللّغة السائرة في هذا البلد، رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنىً، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنىً آخر، وهكذا... ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقيّة أو المجازيّة، فإذا رأى أنّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد، حصل له العلم بأنّها معان حقيقيّة؛ لأنّ جواز الاستعمال معلول

ص: 223

لأحد أمرين: إمّا الوضع، أو القرينة، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطّراد، فلا محالة: يكون مستنداً إلى الوضع، مثلاً: إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ (الماء) في معناه المعهود، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقيّة، أو من المعاني المجازيّة، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينةً من جهةالاطّراد علم بأنّه من المعاني الحقيقيّة، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حاليّة أو مقاليّة.

وبهذه الطريقة - غالباً - يتعلّم الأطفال والصبيان اللّغات والألفاظ. فقد تحصّل من ذلك: أنّ الاطّراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة، بل أنّ هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً، فإنّ تصريح الواضع، وإن كان يعلم به الحقيقة، إلّا أنّه نادر جدّاً، وأمّا التبادر: فهو وإن كان يثبت به الوضع كما عرفت، إلّا أنّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع، إمّا من جهة تصريح الواضع، أو من جهة الاطّراد، والأوّل نادر، فيستند إلى الثاني لا محالة»(1).

وفي كلامه هذا(قدس سره) مواقع للنظر:

أوّلاً: كيف له أن يتمكّن من معرفة أنّ العرب تستعمله بدون قرينة لو لم يعلم ذلك بالوضع؟(قدس سره) وثانياً: أنّ المجاز المشهور - هو أيضاً - يستعمل بدون قرينة، فينبغي أن يقال - حينئذ - بأنّه حقيقة، وهو كما ترى.

ص: 224


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 124.

وثالثاً: إنّ التبادر حجّة في إثبات الوضع والحقيقة بذاته، لا من جهة تصريح الواضع ولا الاطّراد؛ لأنّ تصريح الواضع، لو كان، فلا نحتاج معه إلى التبادر، على أنّه ليس هناك من واضع خاصّ - كما ذكرنا -، وأمّا أهل اللّغة فهم إنّما يبيّنون مواضع الاستعمال، وليسوا - غالباً - بصدد تبيان المعنى الحقيقيّ.

ثمّ إنّ الاُستاذ الأعظم) في بيان كون الاطّراد من علامات الحقيقة ذكر: أنّ إطلاق لفظ باعتبار معنىً كلّيّ على فرد من الأفراد، مع القطع بعدم كون ذلك الفرد من حيث الفرديّة معنى حقيقيّاً له، إن كان مطّرداً كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة، وإن لميكن مطّرداً كشف عن كونه من المعاني المجازيّة، وذلك كإطلاق لفظ (الأسد) على كلّ فرد من أفراد الحيوان المفترس، مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقيّة، لمّا كان مطّرداً، فيكشف ذلك عن أنّ (الحيوان المفترس) معنىً حقيقيّ له.

وأمّا إطلاقه على كلّ فرد من أفراد الشجاع، فلمّا لم يكن مطّرداً، فإنّه يصحّ باعتبار هذا المفهوم الكلّيّ إطلاقه على الإنسان، وعلى جملة من الحيوانات، إلّا أنّه لا يصحّ إطلاقه على كلّ فرد فرد من الحيوان، ﻛ (النملة الشجاعة) - مثلاً -، كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازيّة(1).

ص: 225


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 1: 122.

وقد أجاب هو(قدس سره) عن هذا(1):

بأنّ انطباق الكلّيّ على أفراده أمر عقليّ وأجنبيّ عن الاستعمال بالكلّيّة، فلا يمكن أن يكون المعنى كلّيّاً ومع ذلك لا يصدق على تمام أفراده ولا يصحّ إطلاقه على جميع مصاديقه.

وأمّا عدم صدق بعض المفاهيم على جميع الأفراد في بعض الموارد فإنّما هو لضيق دائرة هذا المفهوم من ناحية تخصّصه بخصوصيّة ما عرفاً. وبما أنّ المفهوم ضيّق فهو لا ينطبق إلّا على أفراد تلك الحصّة الخاصّة، دون غيرها، فإنّ سعة الانطباق وضيقه يدور مدار سعة المفهوم وضيقه.

فمثلاً: إذا لاحظنا مفهوم (الإنسان) بما له من السعة والإطلاق، نجد أنّه - لا محالة - ينطبق على كلّ فرد فرد، من دون تخصيص في البين. ولكن، إذا لاحظناه بما لهمن الخصوصيّة، أي: لاحظنا الحصّة الخاصّة ﻛ (الإنسان العالم)، فإنّه حينئذ لا ينطبق إلّا على أفراد تلك الحصّة.

فعدم الاطّراد بهذا المعنى، أو الاطّراد مشترك فيه بين المعنيين: الحقيقيّ والمجازيّ، ولذا نرى عدم اطّراد (الأسد) على مفهوم الشجاع، لأنّه قد اُريد منه الحصّة الخاصّة.

فمعنى الاطّراد - إذاً - هو استعمال اللّفظ الخاصّ في معنى مخصوص في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما هو محتمل للقرينيّة على إرادة المجاز؛

ص: 226


1- المصدر السابق 1: 122- 123.

إذ إنّ هذه الإطلاقات في جميع الموارد تكون لعلّة ما، وهي: إمّا القرينة، والمفروض انتفاؤها، وإمّا من جهة الاطّراد، فكانت العلّة هي الوضع.

وإذا عرفت ذلك: فإذا فرضنا أنّنا لم نصل إلى معرفة الوضع والحقيقة لا بالتبادر ولا بغيره من هذه العلائم المذكورة، فبأيّ شيء يمكن معرفة المعنى الحقيقيّ؟(قدس سره) أبتنصيص من الواضع؟ والحال أنّه غير موجود؛ لأنّ عمل الواضع مقصور على بيان موارد الاستعمالات، وليس من شأنه التعرّض لبيان المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ.

نعم، لو نصّ الواضع في بعض الموارد على أنّ اللّفظ الفلانيّ حقيقة في معنى الفلانيّ، وحصل من قوله هذا العلم بالوضع، فهو، وإلّا، فليس هناك دليل على حجّيّة قوله.

قد يقال: بأنّ المعرفة منحصرة بأن يكون تبادر المعنى من اللّفظ عند العالمين.

وفيه - مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً وعلى فرض التنزّل -: أنّ التبادر لا بدّ وأن يحصل من حاقّ اللّفظ ونفس الوضع ومن دون القرينة، وإحرازه كذلك في غاية الإشكال.

وأمّا الثمرة من هذا البحث فقد يقال فيها

إنّها عبارة عن ظهور الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، كلفظ (الظاهر) و(الباطن) و(الصعيد) - وغيرها ممّا اُخذ موضوعاً للأحكام -

ص: 227

الشرعيّة في معانيها مع العلم بالأوضاع، فتحمل الألفاظ عليها، وتكون معاني هذه الألفاظ معلومةً ولا إجمال فيها، وأمّا مع الجهل بها، فينسدّ باب الاستنباط.

ولكنّ هذا الكلام غير تامّ؛ وذلك لأنّ لبعض هذه الألفاظ قدراً متيقّناً، كلفظ (الصعيد)، فإنّ القدر المتيقّن من معنى هذا اللّفظ هو (التراب الخالص)، فيحمل عليه، ويجري الأصل في المشكوك فيه؛ وأمّا بعضها الآخر، فيمكن معرفة معانيها من خلال القرائن.

وعليه: فلا حاجة إلى معرفة المعنى الحقيقيّ والعلم بالوضع، ومعه: فلا ثمرة لهذا البحث أصلاً.

ص: 228

الفصل التاسع: في تعارض الأحوال

أي: التعارض بين التجوّز والاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار والاستخدام، فتارةً يقع التعارض بين الحمل على أحد هذه الوجوه وبين المعنى الحقيقيّ.وينبغي أن يعلم هنا: أنّا إنّما عبّرنا بهذا التعبير تبعاً لبعض المحقّقين من السلف قدس سره تبرّكاً بالتبعيّة لهم، وإلّا، فإنّ الاشتراك والنقل من الحقيقة وليسا بمجاز، بل التخصيص أيضاً - بناءً على المسلك المختار - لا يوجب التجوّز كي يصبح مقابلاً للحقيقة، فجعل الحقيقة في قبال هذه الوجوه لا وجه له إلّا أن يكون مسامحة.

وكيفما كان، فلو فرضنا عدم وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، ولكن دار الأمر بين الحمل عليه والحمل على إرادة أحد هذه الوجوه التي هي على خلاف المعنى الحقيقيّ، فالأصل هو الحمل على المعنى الحقيقيّ، إذ إنّ مقتضى الأصل عدم التجوّز عند احتماله، وعدم

ص: 229

وضع آخر في عرض الأوّل، وعدم الاشتراك، وهكذا...

وأمّا إذا دار الأمر بين هذه الوجوه فيما بينها، فجميع ما ذكروه من المرجّحات - من قبيل: ترجيحهم المجاز على الاشتراك بدعوى كثرته واتّساع بابه، ولأنّ القول بالمجاز فيه مراعاة جانب الفصاحة والبلاغة، وغير ذلك من الاستحسانات - لا دليل على حجيّتها.

وبالجملة: فالمتّبع هنا هو الظهورات العرفيّة، لأنّها هي ما قامت عليه السيرة العقلائيّة.

وأمّا مع عدم انعقاد الظهور فإنّ اللّفظ يصبح مجملاً.

ص: 230

الفصل العاشر: الحقيقة الشرعيّة

اشارة

وقبل الدخول في صميم البحث ينبغي بيان اُمور:

الأمر الأوّل: هل قام الشارع بنقل الألفاظ من معانيها اللّغويّة إلى معانيها الشرعيّة ووضعها لتلك المعاني حتّى تثبت الحقيقة الشرعيّة؟(قدس سره) أم أنّه لم ينقلها، وإنّما استعمل الألفاظ في المعاني الشرعيّة بنحو المجاز وأقام عليه القرينة، فالحقيقة الشرعيّة غير ثابتة، ولفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوع للدّعاء لغةً، والشارع عندما استعمله في الأركان المخصوصة استعمله فيه بالقرينة؟(قدس سره) والأمر الثاني: الوضع قسمان: تعيينيّ وتعيّنيّ.

فهل الوضع الثابت - على القول بالنقل وثبوت الحقيقة الشرعيّة - وضع بالمعنى الأوّل أم الثاني؟(قدس سره) الظاهر الثاني.

والأمر الثالث: في الأقوال الواردة في هذه المسألة وقد ذكروا فيها أقوالاً ستّة:

ص: 231

القول الأوّل: الثبوت مطلقاً، بلا فرق بين العبادات والمعاملات، وكذا بين الألفاظ الكثيرة الدوران وغيرها، وبين الألفاظ المتداولة في عصر النبيّ- وغيرها.

والثاني: العدم مطلقاً.

والثالث: الفرق بين الألفاظ الكثيرة الدوران، كالصلاة والصوم وغيرها، بالثبوت في الاُولى دون الثانية.

والرابع: الفرق بين ألفاظ العبادات والمعاملات، بثبوتها في الاُولى دون الثانية.

والخامس: التفصيل بين الألفاظ المتداولة في عصر النبيّ- وبين عصر الصادقين'، بالنفي في الاُولى والثبوت في الثانية.

والسادس: التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران في زمان الشارع وما بعده من عصر الصادقين' وما بعده من سائر الأعصار.ولكنّ هذا القول يجب ألّا يعدّ من أقوال ثبوت الحقيقة الشرعيّة؛ لأنّه لو فرض ثبوتها بعد عصر النبيّ- والأئمّة( ف-أيّة ثم-رة تترتّب علي-ه؟(قدس سره) وأنّى للاستعم-ال بع-د عصوره-م( أن يصب-ح حقيقةً شرعيّة؟(قدس سره) وبخروجه عن الحقيقة الشرعيّة يخرج عن أصل هذا البحث، كما لا يخفى، وبخروجه، فلابدّ من إخراج القول الخامس عن البحث أيضاً.

والأمر الرابع: ما هو المراد من الحقيقة الشرعيّة؟ المراد منها: أنّ الشارع وضع أسماءً خاصّةً لمعان شرعيّة، بلا فرق

ص: 232

بين أن تكون تلك المعاني مخترعةً من نفس الشارع أم كانت موجودة قبل شرعنا.

وبلا فرق في ذلك بين ألفاظ العبادات والمعاملات، فلو فرض أنّ هناك اُموراً عرفيّةً كانت موجودةً منذ الشرائع السابقة وقد أمضاها الشارع في شرعنا، فإنّ هذا يمكن القول بدخوله في الحقيقة الشرعيّة هو أيضاً؛ إذ يجوز أن يكون الشارع قد اصطلح عليه في شرعنا باصطلاح خاصّ، وأن يكون قد سمّاه بتسمية خاصّة، فحينئذ: يكون من الحقيقة الشرعيّة عنده.

نعم، إنّما تخرج المسألة عن محلّ البحث فيما إذا كان الشارع قد أمضى التسمية أيضاً.

وبهذا ظهر: ما فيما ذكره بعض المحقّقين - كصاحب الكفاية(قدس سره) - من أنّ النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه إنّما يجري بناءً على كون المعاني الشرعيّة مستحدثةً في شرعنا، وأمّا بناءً على وجودها في الشرائع السابقة - كما هو مقتضى غير واحدة من الآيات الشريفة - فلا مجال للنزاع في ثبوتها فيها.

وفيما يلي نصّ كلامه(قدس سره):«هذا كلّه. بناءً على كون معانيها مستحدثةً في شرعنا. وأمّا بناءً على كونها ثابتةً في الشرائع السابقة، كما هو قضيّة غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِيِنَ

ص: 233

مِنْ قَبْلِكُمْ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَأَذِّنَ فِي النّاسِ بِٱلْحَجِّ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْصَانِ-ي بِٱلْصّلَاةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾(3)، إلى غير ذلك... فألفاظها حقائق لغويّة، لا شرعيّة. واختلاف الشرائع فيها جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة، إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى»(4).

فقد عرفت ممّا ذكرناه: أنّ الشارع وإن كان قد أمضى تلك الحقائق، إلّا أنّه يمكنه أن يصطلح عليها ويسمّيها بنفسه بتسمية خاصّة، وحينئذ أيضاً يأتي هذا البحث.

ومجرّد ورودها في القرآن المجيد أو وجود حقائقها في الشرائع السابقة، لا يكون دليلاً على أنّها مسمّيات لنفس هذه الأسماء، بل لعلّها كانت مسمّاةً بأسماء اُخرى، بل إنّ مجرّد ثبوتها في الشرائع السابقة لا يثبت به الحقائق اللّغويّة، فضلاً عن الشرعيّة، بل ثبوتها متوقّف على أمرين:

الأوّل: ثبوت تلك الماهيّات في الشرائع السابقة.

ص: 234


1- البقرة: 183.
2- الحجّ: 27.
3- مريم: 31.
4- كفاية الاُصول: 21- 22.

والثاني: تسميتها بهذه الأسماء أنفسها.

والأمر الخامس: أنّ الوضع - كما عرفت آنفاً - على قسمين: تعيينيّ وتعيّني.والأوّل - أيضاً - على قسمين؛ لأنّ الوضع تارةً يتحقّق بتصريح من الواضع بإنشائه، كما إذا قال: وضعت اللّفظ الكذائيّ للمعنى الفلانيّ. وتارةً يتحقّق بنفس استعمال لفظ في معنى يقصد الوضع له والحكاية عنه، فبنفس هذا الاستعمال يحصل الوضع، كما إذا قال لولده - الذي لم يعيّن له اسماً من قبل -: ناولني ولدي هذا زيداً، قاصداً بذلك تسمية ولده بهذا الاسم. فإنّه بنفس الاستعمال عيّن له الاسم، وقبل الاستعمال لايكون المستعمل فيه موضوعاً له، وإنّما يصير المعنى حقيقيّاً لهذا اللّفظ بنفس الاستعمال.

قد يقال: إنّه لا يكون هذا من الاستعمال في المعنى الحقيقيّ؛ لأنّه لا بدّ فيه من أن يكون الوضع سابقاً على الاستعمال، ولا في المعنى المجازيّ؛ لأنّه وإن كان توفّر على القرينة، إلّا أنّها ليست للدّلالة على المعنى المجازيّ حتى تكون صارفةً عن المعنى الحقيقيّ، بل إنّما هي للدلالة على قصد الوضع بهذا الاستعمال.

ومن هنا يتّضح الجواب المنقول عن المحقّق النائينيّ) في المقام(1)،

ص: 235


1- نقله عنه في تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره) : 65.

وملخّصه: أنّ الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ فانياً في معناه، ومن المعلوم: أنّ إضافة المعنى إلى اللّفظ بحيث ينسب إليه - حيث يقال: إنّ هذا المعنى هو معنى ذلك اللّفظ - منوطة بحصول العلقة بين اللّفظ والمعنى الناشئة عن الوضع، فلابدّ في صحّة الاستعمال من تقدّم الوضع عليه، وإذا كان الاستعمال متأخّراً عن الوضع فكيف يتحقّق به الوضع؟(قدس سره) وأمّا ادّعاء الوضع التعيينيّ بالمعنى الأوّل فهو مشكل؛ لأنّه لو كان مثل هذا الوضع من قبل الشارع لشاع وظهر لنا، فإنّه ليس من الاُمور التي تخضع لدواعي الإخفاء، بلمقامنا من باب «لو كان لبان»، وليس من باب «عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود».

وأمّا بالمعنى الثاني - أي: تحقّق الوضع التعيينيّ بنفس الاستعمال - فالحقّ: أنّه غير ممكن؛ وذلك لاستلزامه الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ؛ فإنّ الوضع يقتضي تصوّر اللّفظ ولحاظه استقلالاً لكي يتمكّن من وضعه للمعنى، وأمّا الاستعمال، فإنّ معناه وحقيقته إفناء اللّفظ في المعنى، الأمر الذي يقتضي لحاظ اللّفظ آلةً ومرآةً.

وعليه: فقصد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال يستلزم الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ، وهو ممتنع، كما هو ظاهر.

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق):

بأنّه على تقدير صحّة مثل هذا القسم من الوضع التعيينيّ ، يكون هذا الاستعمال حقيقةً، لا أنّه لا حقيقة ولا مجاز؛ لأنّه لا يشترط في تأخّر

ص: 236

الاستعمال عن الوضع التأخّر الزمانيّ، وإنّما يكفي التأخّر الرتبيّ، كما هو الشأن في باب العلّة والمعلول.

ثمّ قال(قدس سره): «وبمثل هذا البيان صحّحنا إحدى المقدّمات المهمّة في باب الترتّب، وقلنا: إنّ فعليّة الأمر بالأهمّ وامتثاله وعصيانه مع فعليّة الأمر بالمهمّ وامتثاله وعصيانه، كلّ هذه الستّة في زمان واحد، مع أنّ المفروض أنّ عصيان الأمر بالأهمّ من مقدّمات فعليّة الأمر بالمهمّ وموضوع له وداخل في سلسلة علله»(1).

وأمّا إشكال الجمع بين اللّحاظين فقد أجاب عنه المحقّق العراقيّ(قدس سره): بأنّ الملحوظ باللّحاظ الاستقلاليّ في مقام الوضع هو طبيعيّ اللّفظ وهو الملتفت إليه، كما هو واضح، وأمّا الملحوظ باللّحاظ الآليّ في مقام الاستعمال فهو شخص اللّفظالمستعمل، وعليه: فلا يلزم من الوضع على النحو المزبور اجتماع اللّحاظين المتنافيين في موضوع واحد.

قال(قدس سره): «تتميم للمرام بإرشاد في المقام، وهو: أنّ حقيقة الوضع كما أنّه قد يتحقّق بجعل قبل الاستعمال، فقد يتحقّق بنفس استعمال لفظ في معناه بقصد حصوله.

وتوهّم أوله إلى اجتماع اللّحاظين غلط، إذ النظر المرآتيّ متوجّه إلى شخص اللّفظ والمعنى حال الاستعمال، وهما غير ملحوظين استقلالاً

ص: 237


1- منتهى الاُصول 1: 46.

حين الوضع، وما هو ملحوظ كذلك، فهو طبيعة اللّفظ وطبيعة المعنى حين وضعه، وأحدهما غير الآخر في مقام اللّحاظ، كما لا يخفى...»(1).

وفيه: أنّه لا شكّ في إمكان كون شخص اللّفظ حاكياً عن نوعه، ومعلوم: أنّه لا يلزم من ذلك اجتماع اللّحاظين الآليّ والاستقلاليّ، ولكنّ هذا الكلام أجنبيّ عن محلّ بحثنا، لأنّ كلامنا هنا في استعمال اللّفظ في المعنى وفنائه فيه وإرادة ذلك المعنى، فإذا قال شخص: «ناولني ولدي محمّداً» قاصداً بذلك التسمية بهذا الاسم بنفس هذا الاستعمال، فقد اجتمع فيه اللّحاظان الآليّ والاستقلاليّ.

وقد أُجيب عن هذا(2): بأنّ اللّحاظ الآليّ تعلّق بشيء والاستقلاليّ بشيء آخر، فإنّ الوضع قد حصل قبل الاستعمال بالبناء القلبيّ، وقد جاء الاستعمال ليكون مظهراً له وكاشفاً عنه.

وبمثل ذلك قال الشيخ الأنصاريّ) - في باب الفسخ الفعليّ بالأفعال المتوقّفة على الملك -: بأنّ الفسخ يحصل بالبناء، ويكون الفعل كاشفاً عنه.وأنت ترى: أنّ هذا الكلام خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ مفروض البحث فيما إذا حصل الوضع بنفس الاستعمال لا بشيء آخر قبله.

ص: 238


1- مقالات الاُصول 1: 67 - 68.
2- منتهى الاُصول 1: 48.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: ما في كلام اُستاذنا المحقّق(قدس سره) «من أنّ الوضع بالمعنى الاسم المصدريّ - أي: تلك العلاقة وذلك الارتباط - من الاُمور الاعتباريّة، فلابدّ وأن يكون له سبب عرفيّ أو شرعيّ، وسببيّة البناء عندهم لذلك غير معلوم، وإلّا لو كان البناء القلبيّ عندهم سبباً لذلك، ولو باعتبار تعقّبه بذلك الاستعمال مبنيّاً على ذلك البناء، لكان هذا الوجه لتصوير الوضع التعيينيّ حسناً في نفسه، وإن كان غير مربوط بما قيل من تحقّق الوضع بنفس مثل ذلك الاستعمال»(1).

وحاصله: أنّه لو ساعد البناء العرفيّ على مثل هذا الوضع، وعلمنا أنهم في مقام تسمية أولادهم يبنون على وجود مثل هذه العلاقة في هذا النوع من الاستعمالات، فلابدّ أن يحمل على أنّ البناء القلبيّ عندهم سبب لتلك العلقة إذا كان متعقّباً بمثل ذلك الاستعمال.

وكذلك يظهر الإيراد فيما ذكره اُستاذنا الأعظم(قدس سره)، ونصّ كلامه):

«بل لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في آن واحد، لم نسلّم استلزامه الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ، فإنّ هذا اللّازم مبتن على مذهب المشهور في مسألة الاستعمال، حيث إنّهم يرون الألفاظ في مرحلة الاستعمال آليّات، وأمّا على المذهب الصحيح من أنّ حال الألفاظ حال المعاني في مقام الاستعمال، فكما أنّ

ص: 239


1- المصدر نفسه.

المعاني ملحوظة استقلالاً، فكذلك الألفاظ، ومن هنا يلتفت المتكلّم إلى خصوصيّات الألفاظ الصادرة منه، من كونها لغةً عربيّةً أو فارسيّةً أو غيرذلك، فلا يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ»(1).

وملخّص ما أفاده(قدس سره): أنّ هذا الإشكال إنّما يرد لو كانت الألفاظ في مرحلة الاستعمال ملحوظةً باللّحاظ الآليّ، كما هو مذهب المشهور، وأمّا لو قلنا: بأنّها استقلاليّة: فإنّ الألفاظ في مقام الاستعمال كالمعاني في أنّها تلاحظ استقلالاً، ولذا نرى أنّ المتكلّم في مقام التكلّم يلتفت إلى أنّ هذا اللّفظ عربيّ أو غيره.

إذ يرد عليه: أنّها في مقام الاستعمال لا تلحظ إلّا آليّةً، وتكون مثل النظر إلى المرآة، فإنّها غير ملتفت إليه غالباً، وحصول الالتفات إليها أمر نادر.

أمّا القسم الثاني - وهو الوضع التعيّني -: فهو - بدوره - يتوقّف أوّلاً على عدم وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني قبل شرعنا، وإلّا تصبح حقائق لغويّة. وثانياً: إنّما يتمّ لو فرض عدم سبق وضع شرعيّ تعيينيّ.

وعلى أيّ حال، فلو ثبت، فهل هو بمعنى كثرة الاستعمال في خصوص لسان الشارع - أي النبيّ- -؟؟ أم يكفي كثرة الاستعمال في

ص: 240


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 128.

عصره ولو كان على لسان غيره؟ وأيضاً: فلو كان ثبوته بالمجموع من الصادر عن لسان الشارع والمتشرّعة معاً، فهل تثبت الحقيقة الشرعيّة أم المتشرعيّة؟؟ الحقّ: أنّ المراد من الحقيقة الشرعيّة هو حصولها في عصر النبيّ-، ولا يشترط في ثبوتها الحصول على لسان النبيّ- خاصّةً.

ولكن، ومع ذلك، فحصول الحقيقة الشرعيّة في عصره محلّ كلام؛ إذ غاية ما فيه هو الإمكان، والإمكان - كما لا يخفى - لا يدلّ على الوقوع. فثبوت الحقيقة الشرعيّة في خصوص لسانه- ممنوع، بل لا بدّ أن تثبت في عصره حتى يصدق عليها الحقيقةالشرعيّة، وحينئذ: فإذا ورد لفظ (الصلاة) في عصره- فيحمل على الأركان المخصوصة، لا على الدعاء.

وما قيل: من حصول التبادر، فإن اُريد منه: التبادر في عصرنا فغير مفيد، وإن اُريد: التبادر في عصر النبي- فغير ثابت، وعليه: فثبوت هذه الحقائق في عصره- ولو حصلت من كثرة الاستعمال أيضاً ممنوع.

فإن قلت: إذا ثبت تبادر الحقيقة الشرعيّة عندنا فيمكن إثباته في زمان النبيّ- عن طريق الاستصحاب القهقرى.

قلت: سلّمنا حجّيّة هذا الاستصحاب، ولكنّه معارض باستصحاب عدم النقل عن المعاني اللّغويّة.

هذا. ولكن يمكن ادّعاء ثبوت الحقيقة الشرعيّة خصوصاً في أواخر

ص: 241

عصره-، بعد استعمالها لمدّة مديدة، وذلك في الألفاظ الكثيرة الاستعمال، من أمثال لفظ (الصوم) و(الصلاة).

ثمرة هذا البحث

قد يقال: تظهر الثمرة من هذا البحث بحمل الألفاظ على المعنى المدّعى وضع الألفاظ المزبورة لها إن قلنا بثبوت الوضع والحقيقة الشرعيّة، وعدم حملها عليها، بناءً على عدمه.

ولكن قد اُجيب عن هذا: بأنّ الثمرة غير مثمرة؛ لأنّا نعلم بأنّ الشارع لم يستعمل هذه الألفاظ في شريعته إلّا في المعاني المستحدثة ولو كان استعمالها بعنوان المجاز. ولكن هذا مجرّد دعوى وثبوته يحتاج إلى دليل.وخلاصة البحث: أنّه بناءً على عدم ثبوتها يلزم حمل الألفاظ الصادرة عن المعصوم المجرّدة عن القرائن على المعاني اللّغويّة، وأمّا على القول بثبوتها فإن علم تأخّر الاستعمال عن زمان الوضع، سواء كان تعيينيّاً أم تعيّنيّاً، وجب حملها على المعاني الشرعيّة.

وأمّا إذا شك في تاريخ الاستعمال، وأنّه هل كان قبل وضع هذه الألفاظ للمعاني الشرعيّة أم بعده؟ فهل تحمل على المعاني اللّغويّة، لأصالة تأخّر الوضع عن الاستعمال، أو أصالة عدم النقل إلى زمان استعمالها؟؟ أم تحمل على المعاني الشرعيّة لأصالة تأخّر الاستعمال

ص: 242

عن الوضع ؟ فيه إشكال؛ أمّا:

أوّلاً: فلكونه من الأصل المثبت.

وأمّا ثانياً: فللتعارض، كما ذكرنا.

وأمّا إذا كان المراد من الأصل: الأصل العقلائيّ فعند الشكّ في النقل حين الاستعمال فيحمل على المعنى اللّغويّ بأصالة عدم النقل.

قد يقال: هذا الأصل لا يجري؛ لأنّ بناءهم عليه إنّما هو فيما إذا كان الشكّ في أصل النقل، وأمّا إذا علم النقل وشكّ في التقدّم والتأخّر، فلم يثبت بناؤهم عليه.

ولكنّ الظاهر: أنّه لافرق في بناء العقلاء بين الشكّ في أصل النقل وبين الشكّ في التقدّم والتأخّر. فسقوط هذا الأصل إنّما يكون لأجل المعارضة، كما ذكرنا، لا لعدم حجيّته في نفسها عند الجهل بتاريخ النقل.

ثمّ إنّهم قد ذكروا: أنّه لا ثمرة عمليّة لهذا النزاع؛ إذ لا إشكال في حمل ألفاظ النصوص الواردة عن الأئمّة( على المعاني المستحدثة، وإنّما الكلام في الألفاظ الصادرة عن النبيّ-، فهذه يؤخذ بها ويتعيّن حملها على المعاني الشرعيّة إن كان رواتها من قبل الأئمّة(.وأمّا الروايات الواردة عن لسانه- لا عن طريق الأئمّة(، فلو فرضنا جواز الأخذ بهذه الروايات، إلّا أنّها غالباً ما تكون محفوفةً بالقرائن.

نعم، تظهر الثمرة في الروايات الواردة عن لسانه الخالية عن القرينة.

وأمّا ما ذكر من الثمرة في النصوص القرآنيّة، فهي - أيضاً - غير مثمرة؛

ص: 243

لأنّ المراد من الألفاظ الموجودة في القرآن غالباً المعاني المستحدثة، لا نفس معانيها اللّغويّة.

وإن كانت هذه الألفاظ قد وردت - أحياناً - واُريد منها غير المعاني المستحدثة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنّ ٱللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلّوُنَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَٱللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(2)، إلى غيرهما من الآيات.

وأمّا بالنسبة إلى المعاملات، فلا يكون هذا البحث مثمراً أيضاً؛ لأنّ ألفاظ المعاملات - من أمثال لفظ (البيع) - ليست مستعملة إلّا في نفس معانيها العرفيّة.

نعم، غاية الأمر: أنّ الشارع المقدّس قد زاد فيها قيوداً، من جهة الأسباب المحصّلة، ومعلوم أنّه ليس كلّ تغيير وتبديل يكون موجباً لحصول النقل، بل أصل معناها العرفيّ باق على حاله، والشارع لم يتصرّف في أصل المعنى، غاية ما هنالك: أنّه خطّأ العرف في جعلهم التعامل الربويّ ناقلاً، فأبطله ونهى عنه، كما نهى عن بيع المنابذة والحصاة.

وبالجملة: فهو قد خطّأ العرف في الأسباب الموجبة للنّقل والانتقال، ومعناه: أنّه ليس كلّ سبب محصّل للتبديل شرعاً وموجب للتمليك.

ص: 244


1- الأحزاب: 56.
2- التوبة: 103.

الفصل الحادي عشر: الصحيح والأعمّ

اشارة

لا يخفى: أنّه قد وقع الخلاف بينهم: في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام لخصوص الصحيحة منها أو للأعمّ؟؟ وقبل الدخول في البحث لا بدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في تصوير النزاع:

فنقول: النزاع هنا ليس متوقّفاً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وليس منحصراً على القول بها، وإن كان القدر المتيقّن من هذا البحث هو ذلك. وإلّا، فبناءً على ثبوت الحقائق العرفيّة مع إمضاء الشارع لها يأتي البحث أيضاً في أنّ ألفاظ العبادات هل استعملت في خصوص الماهيّة الصحيحة أو فيما يعمّ الفاسد منها؟ ومن هنا ظهر ما في كلام صاحب الكفاية(قدس سره) من «أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، وفي جريانه على القول

ص: 245

بالعدم إشكال»(1)، إذ لا وضع لكي يقال بأنّ الموضوع له هو الصحيح أو الأعمّ.

وكذا يرد الإشكال على ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«لا يخفى: أنّه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص النزاع بالقول بثبوتها، لا يكون هذا المبحث مبحثاً مستقلّاً في مقابل المبحث السابق - أعني مبحث الحقيقة الشرعيّة - بل يكون من فروعه ومترتّباً عليه؛ لأنّه نتيجة أحد القولينفي تلك المسألة، إذ لا يجري الكلام في هذه المسألة على كلا تقديري تلك المسألة. والذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم إمكان تصوير النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه، وبصورة تتناسب مع علميّة المبحث والنزاع، إذ ادّعى أنّ تصويره في غاية الإشكال»(2).

وأمّا على القول بعدمهما، وأنّ الألفاظ المزبورة مستعملة في المعاني المذكورة مجازاً، فقد استشكل البعض في عدم جريان النزاع فيها.

ولكنّ الحقّ: أنّ النزاع جارٍ هنا أيضاً؛ لأنّ المعنى الذي استعمل لفظ (الصلاة) فيه ويحمل اللّفظ عليه عند وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، هل هو خصوص التامّ أم الأعمّ منه ومن الناقص؟

ص: 246


1- كفاية الاُصول: 23.
2- منتقى الاُصول 1: 197.

وبعبارة اُخرى: فأيّ المعنيين هو الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقيّ، هل هو الصحيح من أفراد المعنى الشرعيّ أم هو الأعمّ منه ومن الفاسد؟ وكذا يأتي النزاع على ما هو منسوب إلى الباقلّاني(1)، من أنّ هذه الألفاظ قد استعملت في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة، ولكنّه أراد المعاني الشرعيّة بنصبه للقرائن، على سبيل تعدّد الدالّ والمدلول، أي: أنّ أصل المعنى قد استفيد من هذه الألفاظ أنفسها، وعرفت إرادة الخصوصيّات من دوالّ اُخرى، وهي القرائن.

وتصوير النزاع على هذا القول بأن يقال:

إنّ هذه القرائن الدالّة على الخصوصيّات الزائدة على أصل المعنى اللّغويّ، هل اُريد بها الخصوصيّات الصحيحة أم الأعمّ منها؟أي - وبعبارة اُخرى -: فإنّ الصلاة والزكاة والحجّ ليست اُموراً مخترعة ومستحدثة، لا في شرعنا ولا في الشرائع السابقة، وإنّما هي معان لغويّة قديمة، وهي: (الدعاء) و(النموّ) و(القصد)، ونحو ذلك..

غاية الأمر: أنّ الشارع قد أضاف إليها أجزاءً وشرائط، فتلك الألفاظ مستعملة في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة، وأمّا الأجزاء والشرائط الزائدة فهي إنّما تستفاد من قرينة مضبوطة في كلامه-.

ثمّ إنّه قد يقال: لا يجري هذا النزاع هنا؛ لأنّ مورد بحثنا هو ألفاظ

ص: 247


1- كفاية الاُصول: 23 - 24.

العبادات خاصّةً، كما يقال في عنوان هذا البحث: هل وضعت ألفاظ العبادات للصّحيح أم للأعمّ؟ ولكنّ الحقّ: أنّ النزاع غير مختصّ بالعبادات، بل هو يأتي في المعاملات أيضاً، كما فعل صاحب الكفاية) الذي عنون النزاع في باب المعاملات أيضاً(1).

بل ذكر في التقريرات أنّ هذا البحث يعمّ المعاملات أيضاً؛ إذ قال فيه ما لفظه: «هل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات، كما هو المأخوذ في العنوان، أو يعمّ ألفاظ المعاملات؟؟ ظاهر جماعة منهم: الشهيدان، هو الثاني وارتضاه بعض الأجلّة»(2).

الأمر الثاني:

أنّ البحث يمكن أن يتصوّر بناءً على القول بعدم ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، وأمّا إذا قلنا: بثبوت ذلك، فمعناه: أنّ الصلاة موضوعة لخصوص تامّالأجزاء والشرائط، والتي هي صلاة المختار، فالواضع حين الوضع تصوّر ذلك المعنى التامّ، وأمّا الصلوات الناقصة جزءاً أو شرطاً، وصلوات ذوي الأعذار كلّها، فهي أبدال ومسقطات لها، لا أنّها صلاة.

فلم يبقَ فرد مختلف فيه حتّى يبحث في أنّ الموضوع له هل هو الجامع

ص: 248


1- كفاية الاُصول: 34.
2- مطارح الأنظار 1: 37 - 38.

للأفراد الصحيحة خاصّة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة؟ ولكن يرد الإشكال في أنّه: ما هو ذلك المعنى التامّ للمصلّي المختار؟ فإنّه تارةً يكون في أربع ركعات، إذا كان المصلّي حاضراً، واُخرى يكون في ركعتين، كما لو كان مسافراً... وتارةً يكون في ركعة واحدة، من دون أن تكون ناقصةً أو لذوي الأعذار، كصلاة الوتر، فإنّها تامّة في الركعة الواحدة للمصلّي المختار.

وظاهر: أنّه لا يمكن تصوير الجامع بين اﻟ (بشرط شيء) واﻟ (بشرط لا) - والأوّل كصلاة الرباعيّة، والثاني كصلاة الثنائيّة - إلّا بالجامع الذي فرضه المحقّق الخراساني(قدس سره) وهو: «معراج المؤمن»، ونحوه(1).

هذا مع الإغماض عن الأخبار الواردة.

وأمّا الأخبار: فإنّ بعضها يجعل الأصل أربعةً، بدليل أنّه يعوّض للمسافر عن الركعتين الساقطتين بثلاثين من التسبيحات الأربعة(2). وبعضها الآخر(3) يجعل أصل الصلاة مثنى، ويقول: إنّ ما فرضه الله هو الاثنتان الأوليان، وأمّا الركعتانالأخيرتان، فهما ممّا فرضه النبيّ-، ولذا كانتا تقبلان الشكّ، بخلاف ما فرضه الله تعالى، فإنّ الشكّ يبطله.

ص: 249


1- كفاية الاُصول: 24.
2- وسائل الشيعة 8: 523، الباب 24 من أبواب صلاة المسافر، ح1 و2.
3- وسائل الشيعة 8: 188، الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة، ح1 و2.

الأمر الثالث: ما المراد من الصحّة؟

ما المراد من الصحّة إذا عرفنا بأنّ التقابل بين الصحّة والفساد هو تقابل العدم والملكة، لا تقابل التضادّ ولا السلب والإيجاب؟ لا يخفى: أنّ الفقهاء عرّفوا الصحّة: ﺑ (إسقاط الإعادة أو القضاء)، وعرّفها المتكلّمون بتعريف آخر، وهو: (موافقة الأمر أو الشريعة).

قال صاحب التقريرات): «قد تقدّم منّا الإشارة إلى ما هو المراد بلفظ الصحيح، ونزيد توضيحاً في المقام، فنقول: ليس المراد به ما هو المنسوب إلى الفقهاء: من أنّ الصحيح هو ما أسقط القضاء، أو إلى المتكلّمين: من أنّه ما وافق الشريعة...

إلى أن قال: بل المراد به الماهيّة الجعليّة الجامعة للأجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليها، ويعبر عنه بالفارسيّة ﺑ «درست»، وهو معناه لغةً. وقد ذكرنا في محلّه: أنّ الفقهاء والمتكلّمين أيضاً لم يصطلحوا على إبداع معنىً جديد غير ما هو المعهود منه في اللّغة»(1). انتهى.

والصواب: أنّ الصحّة إنّما هي بمعنى التماميّة تكويناً أو تشريعاً، وليس هذا الاختلاف بين الفقهاء والمتكلّمين هنا من باب الاختلاف فيما

ص: 250


1- مطارح الأنظار 1: 45.

هو مفهوم الصحّة، بل من باب الاختلاف في الأغراض، وكلا التعبيرين من باب التفسير باللّازم؛ لأنّ كلاً من إسقاط الإعادة والقضاء وموافقة الشريعة لازم من التماميّة، وليس نفسالتماميّة، وإنّما حينما كان غرض الفقيه البحث عن أفعال المكلّفين عرّفهما بإسقاط القضاء أو الإعادة وعدم إسقاطهما.

وأمّا المتكلّمون فلمّا كان غرضهم الحديث عمّا يرجع إلى المبدأ والمعاد وأفعاله وصفاته تعالى، والتي منها أوامره ونواهيه، بحيث إنّ موافقة هذه الأوامر وامتثالها تكون سبباً لاستحقاق المثوبة، ومخالفتها سبباً لاستحقاق العقوبة، فلذلك عرّفوا الصحّة بموافقة الأمر والشريعة، والفساد بمخالفتهما.

ومعلوم أنّ الاختلاف في النظر إلى اللّازم لا يوجب اختلافاً في حقيقة الملزوم، وإلّا، فالصحّة عند الكلّ بمعنى واحد، وهو التماميّة.

ولكنّ المحقّق الأصفهاني(قدس سره) ادّعى: أنّ مثل موافقة الأمر وإسقاط الإعادة هما من مقوّمات التماميّة، حيث لا واقع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث موافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء أو ترتّب الأمر المطلوب.

ولا يخفى: أنّه يمتنع أن يكون الأثر من لوازم التماميّة، لأنّ ما يكون من مقوّمات الشيء لا يكون من لوازمه وآثاره، ونسبة اللّازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة العلّة والمعلول، وهو خلف فرض كونه مقوّماً.

ص: 251

قال(قدس سره):

«إلّا أنّ حيثيّة إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التماميّة بالدقّة، بل من الحيثيّات التي يتمّ بها حقيقة التماميّة، حيث لا واقع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث إسقاط القضاء، أو من حيث موافقة الأمر، أو من حيث ترتّب الأثر، إلى غير ذلك، واللّازم ليس من متمّمات معنى ملزومه، فتدبّر»(1).

وردّه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) بأنّ الصحّة بمعنى التماميّة، والتماميّة على قسمين:الأوّل: أن يلاحظ بلحاظ نفسه، وهو معنى تامّ الأجزاء والشرائط.

الثاني: أن يلاحظ بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء؛ وهذه التماميّة لا واقع لها مع قطع النظر عن الآثار واللّوازم، بل كونه تامّاً في مقام الامتثال والإجزاء لا يعني به إلّا كونه مسقطاً للإعادة والقضاء وموافقاً للأمر، فقد خلط المحقّق الأصفهانيّ) بيّن تماميّة الشيء في نفسه - أي: جامعيّة الأجزاء والشرائط - وبين وتماميّته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء، فإنّ هذه التماميّة هي - كما بيّنّا - التماميّة التي لا واقع لها مع قطع النظر عن هذه الآثار واللّوازم.

أو يمكن أن يقال: بأنّه قد خلط بين واقع التماميّة وعنوانها، فإنّ عنوان

ص: 252


1- نهاية الدراية 1: 58 - 59.

التماميّة عنوان انتزاعيّ ينتزع من الشيء بلحاظ أثره، فحيثيّة ترتّب الآثار من متمّمات حقيقة ذلك العنوان، ولا واقع له إلّا الواقعيّة من حيث ترتّب الآثار، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام؛ فإنّ كلمة (الصلاة) - مثلاً - لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورةً، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه، وهو الأجزاء والشرائط، ومن الظاهر: أنّ حيثيّة ترتّب الآثار ليست من متمّمات حقيقة تماميّة هذه الأجزاء والشرائط(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ الصحّة هي بمعنى إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الأمر، ولذا يقال: الصلاة صحيحة، أي: هي موجبة لإسقاط الإعادة والقضاء أو موافقة الأمر.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الفرق بين الصحّة والفساد وبين النقص والتمام هو أنّ التقابل هو التضادّ في الأوّل وعدم الملكة في الثاني.

وقد يقال هنا: إنّ الصحّ-ة والفس-اد م-ن الاُم-ور الإض-افيّة، فالص-لاة - مثلاً - تارةً تكون صحيحةً باعتبار اشتمالها على تمام ما لها من الأجزاء، وإن كانت فاسدةً باعتبار فقدها للشرائط، وقد يكون الأمر بالعكس، أي: فتكون صحيحةً باعتباراشتمالها على الشرائط وإن كانت فاسدةً باعتبار أنّها فاقدة للأجزاء، ومن هنا ذهب بعض إلى القول بأنّ وضع ألفاظ العبادات للصّحيح بالنسبة إلى الأجزاء، وللأعمّ بالنسبة إلى الشرائط(2).

ص: 253


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 135- 136.
2- انظر: فوائد الاُصول 1: 60.

ولكنّ الحقّ - كما ذكرنا - أنّ المراد من الصحيح هو تامّ الأجزاء والشرائط، غاية الأمر: أنّ الشرائط تكون دخيلةً في الصحّة دخول التقيّد وخروج ذات القيد.

وإذ عرفت أنّ المراد من الصحيح هو تامّ الأجزاء والشرائط فنقول: يأتي البحث هنا في أنّ المراد من الشرائط التي تكون دخيلةً في الصحّة هل هي مطلق الشرائط - التي تأتي بعد الطلب - أم لا؟ وذلك أنّ الشروط على قسمين:

أ - الشروط التي تكون ملحوظةً في مرحلة الجعل وتعيين المسمّى، كالطهارة والاستقبال والستر، وغير ذلك من الشروط التي تكون سابقةً على الطلب.

ب - الشروط التي تأتي بعد تعلّق الطلب، كقصد الأمر والوجه. وهذه، لا يمكن اعتبارها دخيلةً في الصحّة، كما لا يعقل فيها أن تكون دخيلةً في المسمّى، كيف؟ وهي متأخّرة عن المسمّى بمرتبتين، وبديهيّ: أنّه لا يمكن أخذ ما هو المتأخّر في المتقدّم.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ اختلاف حالات المكلّفين بالنسبة إلى السفر والحضر والصحّة والمرض والقدرة والعجز والخوف والأمن وغير ذلك لا يكون سبباً لاختلاف الصحّة، فالصلاة في السفر - مثلاً - ركعتان، وفي الحضر أربعة، وهي في حال الاختيار - مثلاً - مع الوضوء وعند الاضطرار مع التيمّم. والصحّة في الكلّ بمعنىً واحد.

ص: 254

ولا يخفى - أيضاً -: أنّ الاُمور المترتّبة على الأمر، من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، بما أنّها متقدّمة على الأمر والجعل - كما مرّ - فهي تكون دخيلةً في الصحّة.

وأمّا الاُمور المتأخّرة - كقصد الأمر والقربة وعدم المزاحم - فهي وإن كانت دخيلةً في الملاك، ولكن مع ذلك لا يمكن أخذها في المتعلّق؛ ضرورة أنّه لا يجوز أخذ ما هو المتأخّر في المتقدّم.

وأمّا ما قيل: من أنّ شرطيّة شيء لشيء، هو أن يكون الشرط خارجاً عن المشروط، غاية الأمر: أنّ المشروط إذا أراد أن يكون مؤثّراً، فإنّ تأثيره منوط بوجود الشرط وعدم المانع، فإذا قلنا: بأنّ الصلاة - مثلاً - مشروطة بالطهارة، فهذا يعني - لا محالة -: أنّ هذا الشرط خارج عن حقيقة الصلاة.

فيردّه: أنّه ليس المراد من دخل الشرط في الصحّة وفي وجود المسمّى - بناءً على قول الصحيحي - أنّها داخلة في مفهوم الصلاة، بل المراد أنّ المسمّى ليس هو ذوات الأجزاء مطلقاً وكيفما اتّفق، بل المراد أنّ هذه الأجزاء مقيّدة بوجود أو عدم شيء معه أو قبله أو بعده، على أن يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً.

الأمر الرابع: في تصوير الجامع:

اعلم أنّه لا بدّ من تصوير جامع بناءً على كلا قولي: الصحيحي والأعمّي، مثلاً نقول: بأنّ الصلاة الصحيحة على اختلاف أجزائها

ص: 255

وشرائطها كلّها أفراد للكلّيّ والجامع الواحد الذي ينطبق على كلّ أفرادها مع تباينها، ويكون هذا الجامع الكلّيّ هو الموضوع له لفظ (الصلاة)، وهو الجامع لشتات تلك الحقّائق المختلفة. وعلى القول بالأعمّ لا بدّ أن يكون كذلك أيضاً، غاية الأمر: أنّ الجامع في الأعمّ أوسع منه في الصحيح.ويمكن كشف هذا الجامع:

أوّلاً: من جهة الوجدان، بأنّا نرى بأنّ الوضع في عبادات ليس من قبيل الوضع في باب المشترك اللّفظيّ حتّى تكون هناك أوضاع متعدّدة، ولكي يكون لفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوعاً لكلّ فرد فرد، بل المتسالم عليه بينهم أنّه من قبيل الاشتراك المعنويّ، ففي جميع الموارد يكون الموضوع له هو الكلّيّ المنطبق على أفراده، وهذا الكلّيّ والقدر الجامع هو المسمّى ﺑ (الصلاة).

وثانياً: أنّه بعد الفراغ من البحث في (الصلاة) وهل أنّها قد وضعت للصّحيح منها أو للأعمّ؟ فيقع البحث حينئذ في تعيين الموضوع له، ممّا يعني: أنّه لا بدّ من قدر جامع يكون هو الموضوع له. فإذا قلنا: بأنّ الموضوع هو الكلّيّ الذي ينطبق على الأفراد، فيكون الوضع هنا من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ومن هنا ذكرنا: أنّه لا بدّ من تصوير الجامع على كلا القولين.

وثالثاً: أنّ المستفاد من الروايات هو ترتيب الأثر الواحد على كلّ

ص: 256

فرد فرد من الصلوات الصحيحة من حيث الكمّيّة والكيفيّة، وهذا يستلزم وحدة المؤثّر، بناءً على ما قرّره أهل المعقول: من القاعدة القائلة بعدم إمكان صدور الواحد إلّا من الواحد، وأنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فلا العلّة الواحدة يمكن أن يكون لها معلولات متعدّدة، ولا المعلول الواحد يمكن أن يكون له علل متعدّدة، وإلّا، لأمكن أن يكون كلّ شيء علّةً لكلّ شيء؛ لأنّ المعلولين المتباينين لابدّ وأن يكون بين علّتيهما تباين، بعدما كان بين العلّة والمعلول نوع من السنخيّة، فعلّة هذا المعلول لا يمكن أن تكون علّةً لمعلول آخر، وبما أنّ ذات الباري بسيطة من جميع الجهات، فلا يمكن أن يكون له معلولات متعدّدة، وبما أنّهم رأوا الاختلاففي الموجودات. فلذلك قالوا: بالنسبة إلى خلق العالم لابدّ من اختيار أحد المسلكين:

إمّا المسلك الأفلاطونيّ القائل بالعقل الطوليّ، فالذي يصدر من الواجب هو العقل الأوّل، الذي له وجود وماهيّة، فمن وجوده صدر العقل الثاني ومن ماهيّته الفلك الأوّل، ومن وجود العقل الثاني، العقل الثالث ومن ماهيّته الفلك الثاني، وهكذا... إلى العقل التاسع.

أو اختيار مذهب أرسطو، القائل بالعقول العرضيّة، وأنّه يصدر من الواجب العقل الأوّل، ومن جهة وجوده يحصل عقل واحد، ومن جهة كسبه ونوارانيّته يصدر العقل الثاني، وهكذا فمن جهة وجودهما يصدر عقل، ومن جهة استشراقهما عقل، كما في وضع المرآة أمام الشمس، ولو

ص: 257

وضعت مرآةً اُخرى تقابل ذلك النور أو الشمس لظهر منه نوران اثنان.

ولكنّ هاتين القاعدتين إنّما تكونان صحيحتين بالنسبة إلى الفاعل الموجب، وأمّا الفاعل المختار الذي هو قادر وفاعل للأشياء فالتمسّك بهما فيه ليس بصحيح، فإنّنا نرى الشمس - مثلاً - يخرج منها نور وحرارة، فالتمسّك بهذه القاعدة ليس بصحيح، ولا يمكن أن يكون هناك معلول واحد صدر من علل متعدّدة.

وفي المقام، بما أنّ هناك أثراً واحداً فالمؤثّر والعلّة يكون واحداً، وهو الجامع، وإلّا، فلو كان الأثر الوحدانيّ مستنداً إلى خصوصيّة كلّ فرد، للزم أن يكون هناك علل متعدّدة تؤثّر في معلول واحد، وهو ممتنع.

ولكن قد بيّنّا في محلّه أنّ مورد هذه القاعدة إنّما هو الواحد الشخصيّ، دون النوعيّ، وإن كان جريانها هناك أيضاً محلّ تأمّل.وفي مقامنا، بما أنّه من الواحد النوعيّ، فلا يضرّ أن يكون المؤثّر متعدّداً بعدما كان لهذا الأثر مراتب متفاوتة بالشدّة والضعف. نعم، لو كان الواحد شخصيّاً فإنّه يأتي هذا الإشكال الذي ذكروه.

ثمّ على فرض التنزّل والتسليم بجريان القاعدة في الواحد النوعيّ أيضاً، لكن إنّما هو فيما إذا كان المؤثّر من قبيل العلّة التامّة، لا من قبيل المعدّات، وما نحن فيه من قبيل الثاني، لا الأوّل، أي: فتصير الصلاة سبباً لكمال النفس، ممّا يجعلها بمثابة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما إلى ذلك من الآثار...

ص: 258

ورابعاً: إنّا نرى صحّة استناد الصلاة إلى كلّ واحد من المصلّين مع اختلافهم من جهة الصنف أو الفرد، كما لو كان هناك جماعة يصلّون معاً، ولكنّ أحدهم يصلّي الظهر وآخر يصلّي العصر وثالث يصلّي للزلزلة وآخر للكسوف، وهكذا... فإنّه مع هذا، يصحّ أن تسند الصلاة إلى كلّ واحد منهم، فيقال: إنّ هؤلاء يصلّون...

وبما أنّ الثابت لدينا هو عدم جواز استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى، وحيث صحّ الإسناد إلى كلّ واحد من المصلّين، فنستكشف بذلك أنّ هناك جامعاً وسيعاً يصحّ انطباقه على كلّ واحد من الأفراد، وهو المطلوب.

وهنا إشكال معروف لصاحب التقريرات(قدس سره)(1)، وحاصله: أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة الذي قد وضع له لفظ الصلاة لا يكاد يكون أمراً مركّباً، لأنّه إن كان مركّباً من أجزاء خاصّة، فهذا باطل جدّاً؛ إذ ليس لنا أجزاء مخصوصة معيّنة تكون ملاكاً للصّحّة، بحيث كلّما وجدت هي صحّت الصلاة، وكلّما انتفت هي بطلت الصلاة؛ إذكلّ ما فرض جامعاً من الأجزاء كان صحيحاً في حال وفاسداً في الآخر؛ هذا إذا كان الجامع

ص: 259


1- مطارح الأنظار 1: 46 - 47، قال(قدس سره): «فذلك القدر الجامع لا يعقل أن يكون أمراً مركّباً موجوداً في تلك الماهيّات؛ لما عرفت من أنّه كلّ ما يتصوّر جامعاً فيحتمل أن يكون ذلك المركّب فاسداً وصحيحاً بالنسبة إلى موضوعين، فلا محالة: لا بدّ من أن يكون ذلك القدر الجامع أمراً بسيطاً يحصل في الواقع بواسطة تلك الأفعال المركّبة الخارجيّة، وتكون هذه المركّبات محقّقةً له إذا وقعت صحيحةً، دون ما إذا وقعت فاسدة».

مركّباً من أجزاء. فلابدّ - لذلك - من أن يكون الجامع بسيطاً.

وقد يستشكل في ذلك: بأنّ الجامع لا بدّ أن يكون انتزاعيّاً، كعنوان (الناهي عن الفحشاء والمنكر)؛ إذ لا يمكن أن يفرض جامع حقيقيّ بين ذوات تلك الحقائق المختلفة المتّصفة بالصحّة؛ لأنّه فرض الجامع الحقّيقيّ يستدعي إلقاء الخصوصيّات بين أفراد الصلاة - مثلاً - والأخذ بما هو المشترك والساري بين جميع الأفراد، والمفروض: أنّ لتلك الخصوصيّات دخلاً في الصحّة، فمثلاً: صحّة الصلاة للمختار متقوّمة بالقيام، بخلاف المريض غير المتمكّن منه.

فلو فرض كون الجامع هو الصلاة التي يكون القيام دخيلاً في موضوعها لم يمكن أن يصدق على الصلاة التي لا قيام فيها، بل المراد من الجامع: الجامع البسيط الذي يتّحد مع أفراده، ويمكن نسبته إلى كلّ فرد فرد منها.

وبعبارة اُخرى: هو الجامع الذي يتّحد مع الصلاة الواجدة لجميع الخصوصيّات والفاقدة لها على حدّ سواء.

وقد استُشكل على هذا بأنّه لو فرض أنّ الصلاة موضوعة للعنوان البسيط وكان الماُمور به هو العبادة المعنونة بهذا العنوان المعلوم، فمتعلّق التكليف معلوم، ويكون الشكّ في حصول هذا العنوان بإتيان الأقلّ، فبناءً على هذا: لا يمكن إجراء البراءة عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة؛ لرجوع هذا الشكّ هنا إلى الشكّ في السقوط، لا الشكّ في أصل الثبوت، ومعلوم: أنّ مجرى البراءة إنّما هو الشكّ في الثبوت، وأمّا

ص: 260

الشكّ في السقوط بعد الفراغ عن الثبوت فهو مجرىً لقاعدة الاشتغال.

إلّا أن نقول: بأنّ الجامع ليس نفس العنوان الانتزاعيّ، بل هو المحكيّ عنه بذلك العنوان المتّحد مع جميع الأفراد، فيرجع الشكّ في شرطيّة شيء أو جزئيّته لذلكالمركّب إلى الشكّ في نفس ذلك الكلّيّ باعتبار سعته أو ضيقه، أو فقل: إلى الشكّ في الثبوت.

ثمّ إنّه إنّما يجري الاحتياط في الشكّ في المحصّل، إذا كان المحصّل عقليّاً، وأمّا لو كان شرعيّاً فهو مجرىً للبراءة.

ثمّ يرد الإشكال على أصل هذا الكلام بأنّه إذا كان الموضوع نفس المعنون فكيف يمكن أن يتصوّر جامع بين اﻟ (بشرط شيء) واﻟ (بشرط لا)؟ وكيف له أن يكون بسيطاً؟(قدس سره) فلابدّ لذلك من بيان الأقوال في كيفيّة تصويرهم للجامع:

الأقوال في كيفيّة تصوير الجامع:

القول الأوّل:

ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) - تبعاً للشيخ الأنصاريّ(قدس سره)(1) -: ونصّ

ص: 261


1- مطارح الأنظار 1: 49، قال(قدس سره): «فالوجه في المقام هو الالتزام بأنّ المراد من الأجزاء والشرائط الشخصيّة منها. وأمّا ما عرفت من الإشكال على ذلك التقدير: من لزوم استعمال اللّفظ في غير المركّب الجامع للشرائط الواقعيّة الاختياريّة مجازاً، فيمكن دفعه: بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسميتهم إيّاها صلاة، فصارت حقيقةً عندهم، لا عند الشارع، من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التامّ من غيره أيضاً، كما سوّى كلّ ما هو مسكر خمراً، وإن لم يكن مأخوذاً من العنب، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه، وليس ذلك بالبعيد».

كلامه(قدس سره): «أنّ لفظة (الصلاة) موضوعة بإزاء الصلاة التامّة، ويكون إطلاقها على الفاسد أو الصحيح الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط بحسب اختلاف حال المكلّف بالعناية والتنزيل وادّعاء أنّها هي، إذا كان هناك مصحّح للادّعاء، بأن لا تكون فاقدةً لمعظم الأجزاء والشرائط، وإن لم يكن هناك مصحّح الادّعاء، فيدور إطلاق الصلاة عليه مدار إطلاق الشارع، وبعد الإطلاق الشرعيّ يمكن التنزيل والادّعاء بالنسبة إلى ما يكون فاقد البعض وما هو فاسد من تلك الحقيقة التي أطلق عليها الشارع (الصلاة)، وحينئذ: لا يلزمهناك مجاز ولا سبك من المجاز، بل يكون الإطلاق على نحو الحقيقة، غايته: أنّه لا حقيقة، بل ادّعاء»(1).

وتوضيحه: أنّ لفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوع للصّلاة التي تكون جامعةً لجميع الأجزاء والشرائط، وهو الصحيح التامّ للمختار، ويكون إطلاقها على الفاقد من أفراد الصحيح بالعناية والتنزيل - نظير ما ادّعاه السكّاكيّ من أنّ الرجل الشجاع فرد من أفراد الأسد ادّعاءً - والحقّيقيّ الادّعائيّ يشترط فيه أن يكون هناك مصحّح لهذا الادّعاء.

فلو لم يكن هناك مصحّح له - كصلاة الغرقى - التي يطلق عليها اسم (الصلاة)؛ فإنّ إطلاق الصلاة عليه يدور مدار إطلاق الشارع، وبما أنّ الشارع أطلق عليه الصلاة فيمكن التنزيل والادّعاء.

ص: 262


1- فوائد الاُصول 1: 63.

ولكنّنا حينما نتفحّص الروايات نجد أنّ الشارع لم يطلق عليها اسم الصلاة، وإنّما عرف صدق (الصلاة) على صلاة الغرقى من لسان العلماء. وأمّا الصلاة الفاسدة، فلا يطلق عليها الصلاة إلّا من جهة المشابهة، ولذلك، فنحن لا نحتاج هناك إلى تصوير للجامع.

ولكنّ هذا الكلام لا يخلو عن إشكال؛ لأنّ لازمه أن يطلق لفظ (الصلاة) على سائر الأفراد بالعناية والتنزيل، وأن يجوز سلب الصلاتيّة عنها.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما ذكره بعض الأساتيذ(1) من عدم صدق (الصلاة) حقيقةً على الصلوات الاضطراريّة، وإنّما هي مسقطات وأبدال مع كونها صلوات حقيقةً.وعلى فرض التنزّل، فإنّما يتمّ ذلك بالنسبة إلى كلّ صلاة مع ناقصتها، كالظهر التامّ مع ناقصه.

وأمّا بالنسبة إلى الأفراد التامّة كالمسافر والحاضر والظهر والعصر والصبح والمغرب والعشاء فلا؛ لأنّ الرباعيّات أخذت الركعتان فيها (بشرط شيء) وفي الصبح - مثلاً - (بشرط لا). فكيف يمكن حينئذ تصوير الجامع بين اشتراط وجود الركعتين واشتراط عدمهما؟(قدس سره) وقد يجاب عن هذا: بأنّ الجامع هو وجود الركعتين، غاية الأمر: أنّهما قد قيّدتا في المسافر بشرط العدم، وفي الحاضر بشرط انضمام الركعتين

ص: 263


1- راجع: نهاية الأفكار 1: 81.

الاُخريين إليهما، فالجامع هو ذات الركعتين.

ولكن قد ذكرنا: أنّه لا يمكن وجود الجامع بين الواجد والفاقد وبين اﻟ (بشرط لا) و اﻟ (بشرط شيء).

وأيضاً: فلابدّ من القول: بتعدّد الوضع والاشتراك اللّفظي هنا، ولكنّ ما استفدناه من الروايات عكس ذلك، وأنّ الأصل في الصلوات هي الأربع، وإنّما لأجل التسهيل على المسافر سقط منها ركعتان.

وعليه:

فلابدّ أن نقول: بأنّ الجامع هو الركعات الأربع لا الركعتان. ولكن في بعض الأخبار: أنّ أصل الصلاة مثنى؛ إلّا أن نحملها على المستحبّات، ويمكن أن يكون الجامع هو (اللّا بشرط المقسمي) الذي يندرج تحته كلّ من: اﻟ (بشرط لا) واﻟ (بشرط شيء) و(اللّا بشرط القسمي).

القول الثاني:

ما اختاره المحقّق الأصفهاني)(1)، وهو: أنّ الماهيّة إذا كانت مؤتلفةً من مقولات متباينة واُمور عديدة، بحيث تزيد وتنقص من جهة الكمّيّة والكيفيّة، فمقتضى الوضع لها - بحيث يعمّ كلّ تلك الموارد مع تفرّقها وتشتّتها - أن تلاحظ على نحو مبهم غاية الإبهام، بل تعرف بمعرفيّة بعض العناوين غير المنفكّة عنها - كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر مثلاً - فيوضع اللّفظ لها.

ص: 264


1- نهاية الدراية 1: 64، وراجع: منتهى الاُصول 1: 56.

وقد شبّه(قدس سره) ذلك بالخمر، فإنّها مبهمة من جهات عديدة، فهي مبهمة - مثلاً - من حيث اتّخاذها من العنب أو التمر أو الشعير أو غير ذلك، ومن حيث الإسكار شدّةً وضعفاً، ومن حيث الطعم واللّون والرائحة؛ وكذلك الحال في مثل (الصلاة)، فإنّها كالخمر في أنّها موضوعة لماهيّة مبهمة من حيث قلّة الأجزاء وكثرتها ودخول البعض في حالة وخروج بعضها الآخر في حالة اُخرى.

وفيه: أنّه إن كان المراد من الإبهام إبهام الماهيّة من حيث ذاتيّاتها، فهو غير ممكن؛ لعدم إمكان التخلّف والاختلاف في الذاتيّات. بل إنّ أسامي العبادات والمعاملات هي كأسماء الأجناس لا إبهام فيها من حيث المفهوم والماهيّة، وإنّما يكون إبهامها بحسب الوجود.

وإن كان المراد من الماهيّة المبهمة عنده المفهوم الانتزاعيّ من أحد هذه المركّبات التي صارت متعلّقةً للأوامر الشرعيّة، ففيه: أنّه على خلاف الوجدان؛ لأنّ أسامي العبادات - كالمعاملات أيضاً - تحكي عن عناوين تفصيليّة حقيقيّة، ويكون الإبهام في منشأ الانتزاع، وإلّا، فلا معنى للإبهام في المفهوم الانتزاعيّ مع معلوميّة منشأ الانتزاع.وأمّا قياسه على الخمر فهو قياس مع الفارق، إذ الخمر - كبقيّة أسماء الأجناس - لا إبهام فيها أصلاً من ناحية الماهيّة، بل إبهامها من جهة أنّه لم تؤخذ في التسمية فيها مادّة خاصّة، كما أنّه لم تلاحظ جهة خاصّة، كالسكّر أو الطعم أو اللّون، بل هي مأخوذة فيها بنحو اﻟ (لا بشرط).

ص: 265

وبكلمة: فإنّ الملاك في التسمية هو وجود الصورة الخمريّة، ولو في ضمن أيّة مادّة من الموادّ، لا أنّها مختصّة بما يؤخذ من العنب، كما هو الحال في (الباب) - مثلاً - فإنّه ما دامت صورته موجودةً يطلق عليه اسم (الباب)، بلا فرق بين أن يكون مصنوعاً من الحديد والخشب أو غير ذلك، فهي من هذه الجهة (لا بشرط).

وأمّا الصلاة فمنشأ الانتزاع فيها اُمور خارجيّة، والإبهام فيها بمعنى قلّة الأجزاء وكثرتها، وخروج بعض الأشياء في حالة أو حين من الأحيان عنها، ودخول ذلك البعض في حالة اُخرى أو حين آخر فيها. فلذلك لا يمكن أن يكون هو جامعاً لها، وكيف يتصوّر الجامع أصلاً مع هذا الاختلاف في الماهيّة بحيث يشمل الماهيّة (بشرط شيء) و(بشرط لا)؟(قدس سره) القول الثالث:

أن يفهم الجامع من عنوان المسقطيّة، فإنّ الصلوات بجميع أقسامها - أي: الصلوات التامّة الاختياريّة والناقصة - كلّها تكون مجزئةً ومسقطةً للأمر، فالموضوع لتلك الأفراد هو ذلك العنوان المبهم الذي يفهم من عنوان المسقطيّة.

وبعبارة أُخرى: فإنّ جميع الأفراد الصحيحة كمّاً وكيفاً، فالجامع لها هو ما تدلّ عليه المسقطيّة والمفرّغ لما في الذمّة. وحينما نرى أنّ هناك أثراً واحداً وهو الإجزاء وإسقاط الأمر بالنسبة إلى جميع الأفراد الصحيحة، فإنّنا نستكشف من هذا الأثر الواحد أنّه لا بدّ أن يكون هناك شيء وحدانيّ يوثّر في مسقطيّة تلك الأفرادالصحيحة، وإلّا، يلزم أن

ص: 266

تكون العلل المتعدّدة المختلفة المتباينة مؤثّراً في الواحد، وقد مرّ عدم إمكان تأثير العلل المتعدّدة في المعلول الواحد.

والفرق بين هذا القول والقول الذي اختاره صاحب الكفاية(قدس سره) أنّ هذا الجامع وقع في سلسلة المعلولات المترتّبة على الحكم، وذلك الجامع وقع في سلسلة العلل وهو الاستكشاف، حيث هو الأثر وهو النهي عن الفحشاء واحد. فنستكشف بأنّ المؤثّر - وهو العنوان الكلّيّ - أيضاً واحد، أي الجامع المنطبق على جميع الأفراد.

وقد استُشكل فيه:

أوّلاً: بأنّ هذا لا يكشف عن وجود جامع؛ لإمكان أن تكون المصلحتان: الاضطراريّة والاختياريّة مختلفتين، ولو أنّ المصلحة الثابتة في الاختياريّ توجب السقوط، وكذا في الاضطراري، وأنّ المقام نظير المقام في الحجّ والصوم، فإنّ لكلّ واحد منهما مصلحةً مغايرةً لمصلحة الاُخرى. فلا يمكن تصوير جامع يكشف عن مصلحة واحدة في جميع الأفراد الاختياريّة والاضطراريّة.

وثانياً: إذا وضع الصلاة للجامع فالجامع لا بدّ أن يكون مبيّناً بحيث يمكن إلقاؤه إلى المكلّف، ولا جامع المذكور مجهول ومبهم.

وثالثاً: أنّ سقوط الأمر مترتّب على الإتيان، وهو متوقّف على وجود المصلحة المقتضية للسّقوط، وتكون التسمية في المرتبة السابقة على الأمر والسقوط.

ص: 267

ورابعاً: ينسدّ باب البراءة؛ إذ - حينئذ - ومع عدم معرفة الجامع، يكون الشكّ شكّاً في المحصّل، فتخضع لقانون الاحتياط، لا البراءة، دائماً.

ولكن لا يخفى: أنّ الاحتياط إنّما يجري في الشكّ في المحصّل إذا كان عقليّاً، وأمّا إذا كان شرعيّاً فشكّه يكون خاضعاً لقانون البراءة.

القول الرابع:

ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1): من أنّ المقولات، وإن كانت متباينةً من حيث الذات، بحيث لا يمكن تصوير جامع بين هذه المقولات، ولكن بما أنّ كلّ مقولة حاوية لمرتبة من الوجود غير المرتبة الاُخرى الحاوية لها، فإنّ الجامع بين الأفراد هو مرتبة من الوجود سارية في جميع وجودات الأفراد، وتلك المرتبة المشتركة بين جميع المقولات المتباينة - التي تتركّب منها حقيقة الصلاة - قد اُخذت موضوعاً ووضع لها لفظ (الصلاة)، وهي غير محدودة بحدّ خاصّ من حيث الزيادة والنقيصة والقوّة والضعف، بل هي مأخوذة على سبيل التشكيك.

وليس المراد من تلك المرتبة هو حقيقة الوجود الواسعة المشتركة بين جميع الوجودات الممكنة والواجبة؛ لأنّه بناءً على هذا يكون بين لفظي: (الصلاة) و(الوجود) ترادف، كما هي الحال بين لفظي: (الإنسان) و(البشر)، ولازم هذا: صدق الصلاة على كلّ موجود، بل المراد: أنّ لكلّ عبادة مرتبةً خاصّةً من الوجود ساريةً في جميع وجودات أفرادها، وتكون

ص: 268


1- بدائع الأفكار 1: 117، وراجع أيضاً منتهى الاُصول 1: 57 - 58.

مشتركة بين تلك الأفراد فقط، بحيث تشمل جميع الأفراد من تلك المرتبة، ولا يخرج منها حتّى فرد واحد، كما أنّها لا تنطبق على أفراد عبادة اُخرى؛ لأنّها ليست داخلةً في تلك المرتبة، فلا تكون جامعةً لها.

وبعبارة أُخرى: فلكلّ واحد من هذه العبادات وجود سعيّ بمقدار سعة أفرادها، فقهراً لا يخرج فرد من تلك العبادة عن دائرة انطباقه، ولا يدخل فرد آخر من عبادة اُخرى في في تلك الدائرة.

ويمكن أن ينظّر للمقام بالكلمة والكلام، ولكن من حيث الجامع الوجوديّ والوجود السعيّ لا الذاتيّ الماهويّ؛ لأنّه من جهة النقصان والزيادة قابل للتشكيك؛ لأنّه يصدق على الزائد والناقص أيضاً.ولكن قد يرد عليه الإشكال:

بأنّه بعد أن كان الوجود مساوقاً للتشخّص، فإن كان المراد بالوجود السعي: عموم الوجود والانطباق على كثير فإنّه غير معقول؛ لأنّ معناه أن ينطبق على جميع العبادات.

وإن كان المراد مرتبةً من الوجود: فلا يمكن أن تكون ساريةً في جميع وجودات الطبيعة، بحيث يكون له عموم انطباق وسعة في الصدق حتّى يكون جامعاً بين الأفراد الكثيرة ومنطبقاً عليها.

وبعبارة اُخرى: فإنّ كون الشيء وجوداً ومرتبةً منه ينافي كونه جامعاً.

ولكنّ الحقّ: أنّه وإن كان الشيء بمعنى المرتبة، ولكن بعد أن فرضنا

ص: 269

التشكيك بين أفرادها فمن الممكن أن تكون جامعةً لتلك الأفراد التي تكون تحت تلك المرتبة.

أو فقل: إنّ بين أفراد كلّ نوع من الأنواع سنخيّةً وجوديّةً، وهذه السنخيّة لا تكون بين أفراد نوع آخر، بل هي معنى مشترك بين جميع أفراد ذلك النوع، فالسنخيّة الموجودة بين زيد وعمرو - مثلاً - ليس نفس السنخيّة الموجوده بينه وبين الفرس.

ولعلّ المراد من قوله: «الوجود السعي» هو هذا المعنى، وهذا مقول بالتشكيك من حيث الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف.

فليس المراد من الوجود الوجود الخارجيّ؛ لأنّه لا يتلاءم مع الكثرة والعدد والضعف والقوّة، فالسنخيّة الموجودة بين أفراد الصلاة هي غير السنخيّة الموجودة بين أفراد الصوم.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الجامع هو السنخيّة وقد وضع لفظ الصلاة لها.

الجامع بين الأعمّ والصحيح والفاسد:

ثمّ لو فرضنا عدم إمكان وجود جامع بين الأفراد الصحيحة فقط، فهل يمكن فرض جامع بين الأعمّ من الصحيح والفاسد أم لا؟ والجواب:

أنّه قد صوّر العلماء الجامع بين الصحيح والأعمّ بوجوه:

ص: 270

منها:

ما عن صاحب القوانين) (1): من أنّه عبارة عن الأركان، وأمّا ما عداها من الشروط والشطور فهي دخيلة في الماُمور به لا المسمى، فمع فقدانها وعدم إتيانها من غير عذر يوجب انتفاء الماُمور به لا المسمّى.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه لا تصدق الصلاة قطعاً مع وجود الأركان دون سائر الأجزاء والشرائط، وتصدق مع وجود بعض الأركان ووجود سائر الأجزاء والشرائط.

وثانياً: أنّه يصحّ السلب عن الأركان الفاقدة لجميع الأجزاء والشرائط.

وثالثاً: لا أثر للفاسد أصلاً حتّى تجري قاعدة أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد.

ورابعاً: يلزم المجاز عند استعمال لفظ الصلاة في جميع الأركان مع سائر الأجزاء والشرائط؛ لأنّه يكون من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ.

وخامساً: بناءً على ذلك فالطهارة ليست داخلةً في التسمية، مع أنّه لولاها لم يصدق عليها الصلاة، مع أنّه قد ورد عن أبي عبد الله(علیه السلام) في

ص: 271


1- منتهى الدراية 1: 116.

مقام تحديد الصلاة قوله: «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع وثلث سجود»(1).وأورد عليه المحقّق النائيني(قدس سره)(2) بما حاصله:

أنّه إن اُريد عدم دخولها في المسمّى دائماً فيرد عليه الإشكال المتقدّم، وهو أنّه يلزم عند استعمالها في الصحيح أن يكون مجازاً، من باب استعمال لفظ الجزء في الكلّ.

وإن اُريد أنّها دخيلة عند وجودها وليست بدخيلة عند عدمها، فهذا أيضاً غير تامّ، إذ لا يمكن أن تكون الماهيّة (بشرط شيء) في زمان و(بشرط لا) في زمان آخر، ولا يمكن أن يكون الشيء جزءاً للماهيّة مرّةً وخارجاً عنها اُخرى.

ثمّ استشكل(قدس سره) على نفسه بقوله:

«إن قلت: ألستم تقولون بالتشكيك في الوجود وفي بعض الماهيّات كالبياض والسواد، وأنّ المعنى الواحد يصدق على الواجد والفاقد، فالوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على اختلاف مراتبه، وكذا السواد يصدق على الضعيف والقويّ، وليكن الصلاة أيضاً صادقةً على التامّ من جميع الجهات وعلى الناقص أيضاً».

ص: 272


1- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح1.
2- أجود التقريرات 1: 41.

وأجاب عنه: بما حاصله: أنّه إن أرادوا التشكيك في حقيقة الوجود فإنّه مجهول لدينا، ولا يعلم إلّا بالكشف من جهة المجاهدة، وأمّا الماهيّات، فإنّه يجري فيها التشكيك، لكن لا مطلقاً، بل إذا كانت الماهيّة بسيطةً من جميع الجهات، وأمّا إذا كانت مركّبةً من جنس وفصل ومادّة وصورة، فلا، وبما أنّ الصلاة - أيضاً - مركّبة من مقولات وأركان، فلا يتصوّر فيها التشكيك.

ثمّ على فرض التنزّل، فلا يمكن تصوّر جامع لها؛ لأنّها تختلف باختلاف الأشخاص من المسافر والحاضر والقادر والعاجز حتّى الغريق، فإنّ الركوع والسجود لهما مراتبباختلاف الحالات، فكيف يمكن تصوير جامع بينها خصوصاً مع فرض الإيماء أيضاً من الركوع والسجود؟(قدس سره) وقد أورد اُستاذنا الأعظم(قدس سره)(1) على الإشكال الذي ذكر - من عدم إمكان أخذ الشيء جزء للماهيّة تارةً وخارجةً اُخرى - بأنّ هذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى المركّبات الحقّيقيّة التي تتركّب من الجنس والفصل والمادّة والصورة بحيث لا يمكن وجودها بدون الأجزاء، ولا يمكن تبديل الأجزاء بغيرها، من جهة احتياج كلّ جزء إلى الآخر، فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلاً لماهيّة فلا يمكن أن يكون جنساً وفصلاً لآخر، أو أن يكون جزءاً مرّةً وغير جزء مرّةً اُخرى، أو يختلف باختلاف الأزمنة من حيث دخول جزء وخروجه.

ص: 273


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 159- 162.

وأمّا المركّبات الاعتباريّة التي تتركّب من أمرين مختلفين أو أكثر، ولا ربط حقيقةً بين أجزائه، فلا؛ لأنّه لا افتقار ولا ارتباط بينها، بل كلّ واحد منها موجود مستقلّ في قبال الآخر، ومباين للآخر في التحصّل والفعليّة، وليست الوحدة العارضة عليها وحدةً حقيقيّةً، بل اعتباريّة، فحينئذٍ: لا مانع في كون الشيء داخلاً في المركّب تارةً وخارجاً عنه تارةً اُخرى.

ثمّ ذكر(قدس سره) أنّ مقامنا من قبيل لفظ (الدار) فإنّه موضوع لمعنىً مركّب، وهو ما اشتمل على الحيطان والساحة والغرفة، وهي الأجزاء الرئيسيّة، ولولاها لما صدق عليها عنوان (الدار)، فهذه الأجزاء تدور مدار صدق الاسم عليها، وحينئذ: فإذا أضيف إليها أشياء اُخر فهي داخلة في المسمّى كالسرداب والحوض والبئر، وإلّا فلا.

وبالجملة: فإنّ الواضع للفظ (الدار) قد تصوّر معنىً مركّباً من أجزاء معيّنة ووضع له لفظ (الدار).وأمّا بالنسبة إلى الأجزاء الاُخرى فهي مأخوذة لا بشرط، بل بالنسبة إلى الموادّ التي تتشكّل منها (الدار) أو الشكّل كذلك أيضاً، ومعنى (اللّا بشرط): أنّ هذه الأشياء إذا وجدت فتكون دخيلةً في المسمّى، وإلّا فلا. وكذا الحال في الكلمة والكلام أيضاً، فإنّهما قد وضعتا للحرفين والكلمتين فصاعداً، فمن جانب القلّة هما محدودتان، وأمّا من جانب الكثرة فغير محدودتين، فيصدقان على أكثر من حرفين وكلمتين أيضاً.

ص: 274

وهناك اُمور اُخرى لوحظ لها كثرة معيّنة في الطرفين: القلّة والكثرة، وذلك كالعدد، فإنّ الخمسة - مثلاً - محدودة بحدّ خاصّ من قلّةً وكثرةً، بحيث زاد عليها واحد أو نقص واحد لم يصدق عليها هذا العدد لا محالة.

ثمّ قال(قدس سره): «ولمّا كانت الصلاة من الاُمور الاعتباريّة، فإنّك عرفت أنّها مركّبة من مقولات متعدّدة، كمقولة الوضع، ومقولة الكيف، ونحوها، وقد برهن في محلّه: أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات، فلا تندرج تحت مقولة واحد، لاستحالة تحقّق الاتّحاد الحقيقيّ بين مقولتين، بل لا يمكن بين أفراد مقولة واحدة، فما ظنّك بالمقولات؟ فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً. والوجه في ذلك هو: أنّ معنى كلّ مركّب اعتباريّ لا بدّ أن يعرف من قبل مخترعه، سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدّس أم غيره، وعليه: فقد استفدنا من النصوص الكثيرة أنّ حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان (الصلاة) مدارها وجوداً وعدماً عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث... وأمّا بقيّة الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمّى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضرّ بصدقه».ولا يخفى: أنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) قد خرج بذلك عن فرض المحقّق القمّيّ): من أنّ المراد بالأركان هو النيّة والركوع والسجود. كما أنّه(قدس سره) زاد الطهارة وهي خارجة عن فرضيّة المحقّق القمّيّ).

ثمّ قال(قدس سره): «إنّ المركّبات الاعتباريّة أمرها سعةً وضيقاً بيد المعتبر،

ص: 275

فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو اُمور بشرط لا، كما في الأعداد، وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد، كما هو الحال في كثير من تلك المركّبات، فالصلاة من هذا القبيل، فإنّها موضوعة للأركان فصاعداً».

ثمّ رأى(قدس سره): أنّ الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة، فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها، حتّى على الأعمّ، كما استشكل على المحقّق القمّيّ؟(قدس سره) فلو كبّر المصلّي ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتّى فرغ من الصلاة، فإنّه يحكم بصحّة صلاته بلا إشكال.

وفيه: أنّ ما ذكره إنّما هو في صدق الماُمور به، وأنّه لو أتى بهما في هذه الحالة فقد امتثل، أمّا أنّه يصدق عليها عرفاً عنوان (الصلاة) بدون الأجزاء الاُخرى، فلا، حتّى عند الأعمّيّ.

فصدق الماُمور به شيء وصدق المسمّى شيء آخر، والنسبة بينهما عموم من وجه، فقد يصدق المسمّى بدون الماُمور به - كالصلاة التامّة من جميع الجهات إلّا الطهارة - وقد يكون بالعكس - كالمتطهّر الذي نسي من الصلاة كلّ أجزائها من الأركان -، ومادّة الاجتماع بينهما هي: الصلاة التامّة الأجزاء والشرائط حتّى في نظر العرف، فإذا فقدت بعض الأركان وكان الباقي من الأجزاء موجوداً، فإنّه يصدق عليها حينئذ عنوان

ص: 276

(الصلاة)، وأمّا الأركان خاصّةً، فلا.والرواية التي ذكرها مشيرة إلى أنّها دخيلة في الماُمور به، كصحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح، قال: يعيد»(1). وهي تشير إلى أنّها ليست بماُمور بها بدون التكبيرة.

وكذا موثّقة عبيد الله بن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل أقام الصلاة فنسي أن يكبّر حتّى افتتح الصلاة، قال: يعيد الصلاة»(2).

ومنها: صحيحة ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتّى يركع، قال: يعيد الصلاة»(3).

فلو لاحظنا هذه الروايات الثلاث لوجدناها ناظرةً إلى الماُمور به من صحّة الصلاة وبطلانه، دون صدق الاسم وعدمه.

نعم، ما ذكره من رواية أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود(4)، فيمكن أن يصرف أيضاً إلى الصلاة الماُمور بها.

وأمّا ما ذكره من مضمرة عليّ بن أسباط فهي تدلّ على أنّ التسليم أيضاً دخيل في المسمّى؛ حيث ورد فيها: «افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها

ص: 277


1- وسائل الشيعة 6: 12 - 13، الباب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، ح1.
2- وسائل الشيعة 6: 12 - 13، الباب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، ح3.
3- وسائل الشيعة 6: 12 - 13، الباب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، ح5.
4- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح1.

التكبير، وتحليلها التسليم»(1)، وكذا ما ورد في موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام): «... فإنّآخر الصلاة التسليم»(2). فيجب - بناءً عليه - أن تكون التسليمة من الأركان، مع أنّه لم يقل به أحد.

وقد أجاب عن هذا الإشكال الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(3): بأنّها ليست بركن؛ لأنّها لم تذكر في حديث (لا تعاد)(4)، ولذا، لو تركت التسليمة، وكان الترك عن نسيان، لم تجب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.

ومنها:

أن يفرض الموضوع معظم الأجزاء، بلا فرق بين أن تكون هي الأركان أم لا، أم كان مركّباً منها، فالمسمّى هو معظم الأجزاء انضمّت إليه اُمور اُخرى أم لا.

ولا يخفى: أنّ المراد من (المعظم) هو المصداق، لا المفهوم؛ ضرورة أنّ المصداق هو الذي يترتّب عليه الأثر، كأن يكون جنّةً من النار ومعراجاً للمؤمن، وما إلى ذلك...

وهذا القول لا يرد عليه الإشكال السابق من عدم صدق الصلاة عرفاً

ص: 278


1- وسائل الشيعة 6: 415، الباب 1 من أبواب التسليم، ح1.
2- وسائل الشيعة 6: 416، الباب 1 من أبواب التسليم، ح4.
3- محاضرات في اُصول الفقه 1: 165.
4- وسائل الشيعة 5: 471، الباب1 من أبواب أفعال الصّلاة، ح14؛ وأيضاً: 6: 91، الباب 29 من أبواب القراءة في الصّلاة ح5؛ و6: 313، الباب10 من أبواب الركوع ح 5؛ و7: 234، الباب1 من أبواب قواطع الصّلاة ح 4.

وصحّة السلب عنه؛ فإنّ المعظم لا ينفكّ عن الصدق العرفيّ.

ولكن يمكن أن يناقش فيه: بأنّه لو استعمل في الكلّ حينئذ لأصبح مجازاً، ولكان من باب استعمال لفظ الموضوع للجزء في الكلّ.

فإن قلت: إذا أخذ اللّفظ الموضوع في المعظم (لا بشرط)، فلا يكون استعماله في الزائد مجازاً.قلت: إنّ لفظ (الإنسان) موضوع للماهيّة (لا بشرط)، ومع ذلك فإنّه يكون مجازاً إذا استعمل في زيد بخصوصه.

وأيضاً: فإنّ المعظم يختلف بحسب حالات المكلّفين، ففي صلاة المختار هو النيّة وتكبيرة الإحرام والركوع والسجود والقيام والتشهّد، وفي صلاة العاجز عن القيام هي تلك الاُمور مجرّدةً عن القيام.

وبعبارة اُخرى: فقد يكون المعظم ستّة أجزاء مثلاً، وقد يكون أكثر من ذلك أو أقلّ، فالشيء الواحد يدخل في المعظم تارةً ويخرج عنه اُخرى، فمصداق معظم الأجزاء يختلف ويتبدّل بحسب حالات المكلّفين، مع أنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف.

وأيضاً: فلا يعلم أنّ التشهّد داخل في المعظم أو غير داخل، ممّا يجعل المسمّى يصبح مجهولاً.

ومنها:

أنّ مقامنا كالأعلام الشخصيّة في أنّه لا يضرّ تبادل الحالات في التسمية؛ فإنّ لفظة (زيد) - مثلاً - قد وضعت لشخص، فلا يضرّ في

ص: 279

تسميته بذلك اختلاف حالاته - كصغره وكبره وبياضه وسواده وفقره وغناه وصحّته ومرضه وعجميّته وعربيّته - وكذلك ألفاظ العبادات بالنسبة إلى مسمّياتها، فالمسمّى بلفظ (الصلاة) كالمسمّى بلفظ (زيد)، فلا يقدح في التسمية اختلاف حالاتها من الاختيار والاضطرار والسفر والحضر والصحّة والمرض.

ولكنّ هذا أيضاً غير تامّ؛ إذ لا يمكن قياسها على الأعلام الشخصيّة؛ لأنّ العلم الشخصيّ موضوع لحصّة خاصّة من الطبيعة المتعيّنه بوجود خاصّ، وهذا الوجود الواحد لا يتعدّد بتعدّد العوارض المختلفة الواردة عليه.وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ الماهيّات المخترعة مختلفة كمّاً وكيفاً، وليس لها وجود واحد محفوظ في ضمن جميع الأفراد الصحيحة وغيرها. فهذا القياس في غير محلّه.

وبعبارة اُخرى: فإنّ الموضوع له في العلم الشخصيّ - ﻛ (زيد) - هو الحصّة الخاصّة من الطبيعة المتشخّصة بوجودها الخاصّ، فما دام هذا الوجود باقياً فيصدق عليه (زيد) وإن تغيّرت العوارض الطارئة عليه من جهة الكمّ أو الكيف أو الأين، ككونه في مكان كذا، أو غير ذلك.. فكما أنّ هذه العوارض لا تضرّ عند طروّها عليها، ولا تكون سبباً لخروجها عن المسمّى والموضوع له، فهي لا تضرّ كذلك بالتسمية.

وأمّا العبادات: فإنّ ألفاظها موضوعة لنفس المركّبات المؤلّفة من

ص: 280

الأشياء المختلفة بحسب الكمّ والكيف، وبحسب حالات المكلّف، فليس هناك من جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.

وعلى فرض التنزّل، فلا يكون هناك أثر للأعمّ حتّى نستكشف منه الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.

ومنها:

أنّ الجامع هو ما قد وضعت له الألفاظ ابتداءً، أي: التامّ الواجد للأجزاء والشرائط، ولكنّ العرف، لبنائهم على المسامحة، يستعملون اللّفظ في الفاقد لبعض الأجزاء الناقصة أيضاً، بعد تنزيل الفاقد لبعض الأجزاء منزلة الواجد له، وادّعاء أنّ الموضوع له جامع بين الفاقد والواجد، وليس هذا من باب المجاز في الكلمة لكي يكون استعمالاً مجازيّا للّفظ في غير ما وضع له، أي: استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ، بل هو فرد من الأفراد، غاية الأمر: أنّه ادّعاء.فاستعماله للفاقد - إذاً - يكون استعمالاً فيما وضع له، وإنّما يكون التجوّز في الإسناد، فلو فرض أنّ للصّلاة عشرة أجزاء وقد وضع لفظ (الصلاة) لها - لأنّها تامّة الأجزاء والشرائط - إلّا أنّ استعماله في الناقص بجزء أو جزأين يكون من باب تنزيل الناقص منزلة الكامل. فمقامنا من قبيل المعاجين المركّبة من عشرة أجزاء - مثلاً - وقد وضعت الأسماء لتلك المعاجين أوّلاً، ثمّ استعملت في الفاقد لبعض الأجزاء المتشابهة شكلاً، ومن جهة اشتراكهما في الأثر المهمّ، تنزيلاً أو حقيقةً.

ص: 281

وفيه:

أوّلاً: أنّ المسامحة العرفيّة إنّما تصحّ في مقام التطبيق، وأمّا في مقام الوضع، بأن يراد إثباته بهذه المسامحة، فغير صحيح. والمراد من التطبيق هو: استنباط المفاهيم من الألفاظ، لا تطبيق المفاهيم على المصاديق.

وتوضيحه: أنّ في البين مراحل ثلاث: الاُولى: وضع اللّفظ للمعنى، والثانية: استنباط المعنى من الألفاظ، كما تقول: «إنّ الصاع 300 غراماً، والثالثة: تطبيق المعنى على المصداق، كما لو قال: «هذه الحنطة صاع» وهي أقلّ من الصاع (غرام).

والمسامحة العرفيّة إنّما تصحّ في المرحلة الثانية دون الاُولى والثالثة، ولذا، لا يجزي إعطاء تلك الحنطة لزكاة الفطرة، وإن كان العرف يحكم بأنّها صاع.

وثانياً: أنّه قياس مع الفارق.

وثالثاً: أنّ الصحيح في أفراد المعاجين موجود، وهو التامّ المشتمل على جميع ما له دخل فيه من الأجزاء والشرائط، ثمّ أطلق على الفاقد لبعض الأجزاء تنزيلاً لها منزلة الواجد، للاشتراك في الأثر أو المشابهة في الصورة، وهذا بخلاف لفظة (الصلاة) - مثلاً - فإنّه ليس لصحيحها أجزاء معيّنة مضبوطة، وإنّما هي مختلفة بحسب حالاتالمكلّف، من السفر والحضر والقدرة والعجز، فالركعات الأربع تكون صحيحةً في

ص: 282

حقّ الحاضر دون المسافر، وصلاة الجالس صحيحة في حقّ العاجز دون القادر، وهكذا.. فليس في العبادات ما يكون صحيحاً مطلقاً وفي جميع حالات المكلّف، إلّا في صلاة الصبح والمغرب، فإنّها صحيحة ركعتين لكلّ من المسافر والحاضر، لتكون هي الموضوع له، وتستعمل في الفاقد - ثانياً - بعد تنزيله منزلة الواجد، ويكون الاستعمال من باب الاستعمال الحقيقيّ، دون المجازيّ، وهذه كالمعاجين.

ومنها:

أنّ الجامع أمر عرضيّ، والمراد من المسمّى في الصلاة هي: الصورة العرضيّة، من جهة الإتيان بها بالترتيب، كالهيئة الطارئة للقطار بسبب اتّصال أجزائه وتبعيّة بعضها للبعض، وهذه الصورة الاتّصاليّة العرفيّة محفوظة بين جميع أفراد الصلاة التي هي أعمّ من الصحيح والفاسد، فمثلاً: إذا استدبر آناً ما في الصلاة، فإنّ الصورة العرفيّة باقية، وإن كانت صورتها الشرعيّة قد انقطعت.

وعليه: فيمكن تصوير جامع صوريّ بين الصلوات المختلفة باختلاف حالات المكلّفين. وهذه الصورة هي - كما ذكرنا - ناشئة عن توالي الأجزاء، وليست بالصورة الحقيقيّة المستفادة من أدلّة القواطع، كما استكشفها الشيخ؛ لأنّها مبنيّة على التركيب الحقيقيّ، وهذا لا يمكن في الماهيّات المختلفة.

إلّا أن يقال: بأنّ مراد الشيخ هو أنّ الوحدة الاعتباريّة كافية لتحقّق

ص: 283

وحدةً اعتباريّة. نعم، بما أنّ الصورة عرضيّة فهي تستفاد من الأمر بها.

وفيه:أنّ الأثر مترتّب على نفس الأجزاء، لا على الصورة؛ لأنّ الصلاة التي هي «قربان كلّ تقيّ»، هي - في الحقيقة - نفس أجزائها إذا جيء بها تامّةً، لا صورتها.

ثمّ إنّ الصورة - أيضاً - تختلف باختلاف الصلوات من حيث الزيادة والنقيصة، فإنّ الصلاة التامّة للحاضر، والتي هي (بشرط شيء)، صورتها مغايرة لصورة الصلاة التامّة للمسافر، والتي هي (بشرط لا)، وكذا الصلاة التي تتركّب من عشرة أجزاء غير صورة الصلاة المركّبة من خمسة أجزاء.

فإذاً: لا جامع صوريّ بين الفاقد والواجد، إلّا إذا فرضنا أنّ الصورة هي مجرّد حالة التتابع والقطاريّة، فإنّها موجودة في القطار الطويل والقصير على حدّ سواء؛ لأنّ التبعيّة موجودة، ولو بين جزأين فقط. نعم، لا وجود لها في الجزء الواحد كما سنشير.

مضافاً: إلى أنّ هذه الصورة ليست موجودةً في جميع أفراد الصلاة، فإنّ صلاة المستلقي والغريق - مثلاً - لا صورة فيهما؛ لعدم وجود الموادّ الصلاتيّة فيهما حتّى تترتّب عليها الصورة.

إلاّ أن يقال: إنّ الصورة أعمّ من صورة الأجزاء الصلاتيّة وأبدالها، وعلى هذا التقدير: فليس المطلوب أيّة صورة كانت، بل خصوص تتابع

ص: 284

الأجزاء، وهذا متوقّف على تعدّد الأجزاء، فالصلاة التي ليس لها أجزاء باستثناء جزء واحد - كالتسبيحة في الصلاة الغرقى - لا يتحقّق فيها هذا التتابع، فلا تتحقّق فيها هذه الصورة.

مضافاً: إلى أنّ هذا القول ليس إلّا مجرّد تصوّر، ولم يدلّ دليل على أنّ الواضع قد تصوّر صورةً أوّلاً، ثمّ وضع لها اللّفظ، بل ظاهر الأدلّة كون الصلاة موضوعةً لنفس الأجزاء.ومنها:

أنّ الجامع هو ما يحصل من اندكاك الأجزاء بعضها في بعض ويتحصّل من هذا الاندكاك صورة وخاصّيّة مغايرة لخاصّيّة كلّ واحد من الأجزاء، كما في تركيب المعاجين، فإنّ الأجزاء فيها تندكّ بعضها في بعض بشكل يسلب عن الأجزاء خصوصيّتها وأثرها الخاصّ الذي كان لها قبل التركيب - فمثلاً:

الجوز لوحده داء، والجبن لوحده داء أيضاً، ولكنّهما إذا اجتمعا صارا دواء - ويحصل للمجموع خاصّيّة مغايرة لخاصّيّة كلّ واحد من الأجزاء؛ والصلاة أيضاً كذلك، فباندكاك الركوع والسجود والقراءة وسائر الأذكار بعضها في بعض يتحقّق شيء مغاير لكلّ واحد من الأجزاء، فالماهيّة المتحصّلة من تلك الاُمور هي الصلاة. ومن المعلوم: أنّ تلك الماهيّة موجودة في كلتا الحالتين حال الوجدان والفقدان.

وفيه:

أوّلاً: أنّ أجزاء المركّبات الخارجيّة لها خاصّيّة مع قطع النظر عن

ص: 285

المركّب، ولكنّ أجزاء الصلاة ليست كذلك، فالقراءة مع قطع النظر عن وجودها في المركّب ليست واجبة. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المدّعي لم يدّع أنّ الخاصّيّة قبل التركيب لا بدّ أن تكون هي الوجوب، وإنّما ادّعى أنّ الخاصّيّة السابقة - أيّة خاصّيّة كانت - قد استبدلت بخاصّيّة اُخرى، فيمكن أن يدّعى: انّها ذات خاصّيّة موجبة لاستحبابها قبل التركيب، ثمّ تبدّلت بعد التركيب بخاصّيّة اُخرى يجب استيفاؤها، كالمعاجين، التي كانت لأجزائها خاصّيّة مع قطع النظر عن المركّب.

وثانياً: أنّ الأمر هنا متعلّق بالأجزاء، لا بالماهيّة ككلّ، ولو أنّ الأمر ورد بالجميع، ولكنّ كلّ واحد من الأجزاء ماُمور به بأمر استقلاليّ ضمنيّ.وثالثاً: أنّ حصول المزج والاندكاك في المركّبات الخارجيّة صحيح، دون الاعتباريّة؛ لأنّ الصورة النوعيّة للرّكوع والسجود باقية، ولذا تجري فيها قاعدة التجاوز، ولو أنّها كانت من المركّبات الحقيقيّة فما هو معنى القول: بجريان هذه القاعدة فيها؟(قدس سره) إذ بعد فرض الاندكاك بين الأجزاء فلا يوجد شيء يشكّ فيه حتّى تجري القاعدة المزبورة.

ومنها:

أنّ الجامع هو الذي يسمّيه العرف، فلفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوع للمعنى الذي تدور مداره التسمية عرفاً.

وفيه:

أنّه يرجع إلى معظم الأجزاء، فقد ذكرنا: أنّ معظم الأجزاء لا ينفكّ

ص: 286

عن الصدق العرفي. وحينئذ: فيرد على هذا القول نفس ما ورد من الإشكالات هناك.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ-ه لا يم-كن تص-وير جام-ع بين الصحيح ولا الأعمّ.

ثمرة هذا البحث

هل هناك ثمرة لهذه المسألة أم لا؟ قد يقال: بناءً على الأعمّ: يمكن التمسّك بالبراءة في مورد الشكّ في الأجزاء والشرائط، وأمّا بناءً على الصحيح: فلا، بل لا بدّ من جريان قاعدة الاشتغال؛ لأنّه بناءً على الأعمّ: فإذا شككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّتة نتمسّك بالإطلاق، وحيث إنّ الطبيعة متساوية الأقدام بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات والحالات الواردة، فإذا أجرينا الإطلاق فمعناه: انحفاظ نفس المتعلّق وإحراز وجوده، وإنّما يكون الشكّ في الخارج عن المتعلّق.وأمّا بناء على الصحيح: فإنّ الشكّ في الجزئيّة معناه الشكّ في شيء يحتمل أن يكون دخيلاً في قوام الذات، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ شرط الإطلاق هو انحفاظ الذات.

أو فقل: إذا بنينا على الصحيح: فبما أنّ المتعلّق هو العنوان البسيط فالشكّ في جزئيّة شيء يرجع إلى الشكّ في المحصّل؛ لأنّه المقصود، كما يقوله الشيخ): «تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا اُوتي بذلك

ص: 287

المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء بحيث كان هو الماُمور به في الحقيقة، أو علم أنّه الغرض من الماُمور به، فإنّ تحصيل العلم بإتيان الماُمور به لازم»(1). فيصبح الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المحصّل، فلابدّ من الاحتياط.

وأمّا بناءً على الأعمّ: فقد قلنا: إنّ الشكّ في شيء معناه الشكّ في شيء خارج عن الذات مع انحفاظ الذات، ولكن مع ذلك، إنّما يجري الإطلاق بناءً على الأعمّ - كما ذكرنا - فيما إذا كانت الذات محفوظةً وكان الشكّ فيما هو محتمل الدخول في الماُمور به، لا المسمّى، زائداً على الشروط المعتبرة للتمسّك بالإطلاق، المصطلح عليها ﺑ (مقدّمات الحكمة).

نعم، بدون اجتماع الشرائط نرجع إلى ما هو المرجع من أنّ العلم الإجماليّ هل ينحلّ في مقام الدوران بين الأقلّ والأكثر ويرجع في الأكثر إلى البراءة أم لا؟ فإن قلنا: بالانحلال هناك فنلتزم به هنا أيضاً.ومن هنا ظهر: أنّ ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(2) من أنّ الرجوع إلى البراءة مبنيّ على القول بالانحلال رأساً، لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما ذكرناه من أنّه مع عدم اجتماع الشرائط إنّما يرجع إلى البراءة على

ص: 288


1- فرائد الاُصول 2: 319.
2- محاضرات في اُصول الفقه 1: 170.

القول بالانحلال في الأقلّ والأكثر، لا مطلقاً. هذا.

وقد يقال هنا: كما أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق بناءً على الصحيح، فكذلك لا يمكن التمسّك به بناءً على الأعمّ أيضاً؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ لو كان المتكلّم في مقام البيان.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ من شرائط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان، لا في مقام الإجمال أو أصل التشريع مع عدم وجود قرينة وما يصلح للقرينيّة، بحيث يكون سبباً للانصراف ومانعاً عن الظهور، وإلّا، فإنّ الحكم لا يكون متعلّقاً بالحصّة الخاصّة، بل يكون وارداً على مطلق الطبيعة.

وثانياً: أنّه ليس جميع الإطلاقات كذلك. نعم، يمكن الإجمال فيها وعدم فهم شيء منها قبل صدور البيان، وأمّا بعد صدور بيان من قبله بالنسبة إلى عدّة من الأجزاء والشرائط والموانع، بحيث يقال عليه لفظة (الصلاة)، فإنّه يمكن التمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى الأعمّ.

فإذا عرفت هذا، فقد يقال:

بناءً على الأعمّ فيمكن الرجوع إلى البراءة؛ لأنّه حينما نرى أنّ الأمر ورد على الطبيعة، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على التقييد وكان المولى في مقام البيان، فيمكن التمسّك بالإطلاق - حينئذ -. وأمّا بناءً على الصحيح: فحيث إنّ الأمر قد ورد علىالحصّة الخاصّة، وهي خصوص الصحيح

ص: 289

منها، فعند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّتة لا بدّ من إتيانها لكي نحرز موضوع الخطاب، وهو الصحيح.

ولكن:

أوّلاً: أنّ الحقّ هنا إمكان التمسّك بالبراءة، وعدم إمكان التمسّك إنّما يفرض إذا كان الماُمور به من المسبّبات التوليديّة لفعل المكلّف به، ويكون فعل المكلّف سبباً له، بحيث يكون الماُمور به عنواناً بسيطاً، والأجزاء والشرائط التي يأتي بها المكلّف تكون خارجةً عنها، وأنّ العنوان يكون هو المسبّب، وتكون الأجزاء هي السبب، وكلاهما موجود بوجود مستقلّ، كالقتل المسبّب عن المقدّمات الخارجيّة. وأمّا إذا كان المسبّب في الخارج هو عين وجود أفراده وليس شيئاً مستقلّاً بحذاء تلك الأجزاء والشرائط - خصوصاً بعد ما قلناه من أنّ الماُمور به هو نفس الأجزاء - فحينئذ: تجري البراءة بناءً على الانحلال، وبناءً على الصحيح أيضاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1): من أنّه بناء على الصحيح لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، كما أنّه بناءً على الأعمّي لا مناص من الرجوع إلى البراءة.

بتقريب: أنّ تصوير الجامع للصحيح لا يمكن إلّا بتقييد المسمّى بالعنوان البسيط الخاصّ، إمّا من ناحية علل الأحكام أو من ناحية

ص: 290


1- أجود التقريرات 1: 44 - 45.

معلولاتها، وأنّ هذا العنوان خارج عن المأتيّ به ومأخوذ في الماُمور به، وعليه: فالشكّ في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً يوجب - لا محالة - الشكّ في حصول العنوان المزبور، فيرجع إلى الشكّ في المحصّل، والمرجع فيه - حينئذ - قاعدة الاشتغال.وثانياً: أنّه لو سلّمنا كون الشكّ في الصحيح شكّاً في المحصّل، فإنّ من المسلّم من عدم جريان البراءة إنّما هو المحصّل العقلي؛ لفقد شرطها فيه، وهو كون المجعول فيه من الاُمور الشرعيّة، وأمّا المحصّل الشرعي فتجري فيه البراءة لوجود شرطه.

قد يقال: تظهر الثمرة في النذر، كما إذا نذر شخص إعطاء درهم لمن يصلّي، فأعطاه درهماً، فعلى القول بالأعمّ، تبرأ ذمّته وإن علم بفساد صلاته، وأمّا على القول بالصحيح، فلا، إلّا مع إحراز صحّة صلاته.

ولكن قد يرد على هذا: أنّ هذا يخرج البحث عن مسألة الصحيح والأعمّ؛ لأنّها ليست مسألةً اُصوليّة، والمسألة الاُصوليّة هي التي تقع نتيجتها كبرىً لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ، وهذه المسألة، بعد ضمّها إلى صغراها، لا يستنتج منها إلّا برء النذر وعدمه، وهو حكم جزئيّ، وليس بحكم كلّي.

هذا. مضافاً إلى أنّ البراءة تابعة لكيفيّة نذر الناذر، فإذا كان مقصوده من نذره إعطاء من يصلّي مطلقاً، تبرأ ذمّته، ولو كانت الصلاة باطلة، لو فرض لفظ (الصلاة) للصّحيح، ولكن بشرط أن يكون متعلّق النذر راجحاً

ص: 291

وبقيّة شروطه موجودةً، وإن نذر الإعطاء لمن يصلّي الصلاة الصحيحة، ولو فرض وضع الصلاة للأعمّ، فلا تحصل البراءة.

قال الشيخ(قدس سره): «فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو لزوم الإجمال على القول بالصحيح، وحكم المجمل مبنيّ على الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراءة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئيّة - لأصالة عدم التقييد - على القول بالأعمّ»(1).

وقد ذكروا من جملة الثمرات التي تترتّب على القولين:أنّ الحكم الوارد على عنوان الصلاة يختلف باختلاف القولين؛ لأنّه قد ورد النهي عن صلاة الرجل الواقف بحذاء المرأة المصلّية قبل الرجل، فبناءً على القول بالصحيح: لو كانت صلاة المرأة فاسدةً فلا نهي عن صلاة الرجل ولا تكون صلاته باطلة؛ لعدم صدق الصلاة على عمل المرأة، وأمّا على القول بالأعمّ: فصلاته منهيّ عنها، وتكون باطلة.

وفيه: أنّ هذه ليست من المسائل الاُصوليّة؛ لأنّها من المسائل الجزئيّة، وأيضاً: فالصحّة تارةً تصدق على ما عليه العرف - أي: الصحّة المأخوذة في المسمّى - وتارةً يكون المراد منها الصحّة في الماُمور به، أي: التي تكون جامعةً للأجزاء والشرائط.

فالصحّة بالمعنى الثاني غير الصحّة التي يتنازع فيها من جهة دخلها

ص: 292


1- فرائد الاُصول 2: 347.

في المسمّى، فيمكن أن لا يصدق عليها الصحيح هناك من جهة عدم الصدق العرفيّ، وإن صدق عليه عنوان الصحّة بمعنى: تامّ الأجزاء والشرائط. وعليه: فهو وإن لم يصدق عليه الصلاة عرفاً، ولكن بما أنّها جامعة للأجزاء والشرائط، فإذا صلّى الرجل بعدها تقع صلاته باطلة، فهذه الثمرة إذاً ليست بثمرة.

الكلام في المعاملات

وأمّا المعاملات: فهل هي أسامٍ لخصوص الصحيح منها أو الأعمّ؟ لا بدّ قبل الدخول في البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

قد يقال: إنّ الصحّة التي هي محلّ البحث ليست بمعنىً واحد في نظر الشارع والعرف، إذ قد يكون البيع الصحيح عند العرف غير صحيح عند الشارع، كبيعالصبيّ، الذي هو صحيح عند العرف دون الشرع، فيتخيّل من هذا: أنّ الصحيح في نظر الشارع هو غير الصحيح في نظر العرف.

وقد اُورد عليه: بأنّ الصحيح في نظر كليهما بمعنىً واحد، والاختلاف بينهما ليس في المعنى، بل الاختلاف في تحقّق الصحيح ومصداقه، فالشارع يخطّىء العرف، حيث لا يرى البلوغ دخيلاً في الصحّة، ويلتزم الشارع بدخله فيها، والعقد المؤثّر لا بدّ أن يكون صادراً عن البالغ.

ولكنّ الحقّ: أنّ الاختلاف بينهما في نفس المعنى، لا في

ص: 293

المصداق، فإنّ العرف حينما يلتزم بصحّة بيع الصبي، فإنّه يرى عدم دخل البلوغ في مفهوم البيع، وعلى العكس، فالشارع يرى دخله فيه، وبعد مراجعة اللّغة المفسّرة للبيع بمبادلة مال بمال، وأمثاله، يظهر: أنّ مفهوم البيع هو المبادلة الخاصّة فقط، وأمّا البلوغ وغيره فليس داخلاً في المفهوم، وإنّما يحقّق المصداق الخارجيّ، أي: فهو معتبر في تحقّقه، فكلاهما يتّفقان على أنّ البيع هي المبادلة من المالكين، ولكنّ الشارع يقول: هذا العمل ليس مبادلة واقعيّة لقيام الصبي به، وأمّا العرف فيقول: هي مبادلة واقعيّة.

فيكون بين البيع العرفيّ وبين البيع الشرعيّ عموم مطلق؛ لأنّه بناء على الصحيح فكلّ ما يكون صحيحاً بنظر الشرع يكون صحيحاً في نظر العرف، لا العكس.

والأمر الثاني:

قد يقال: هذا البحث إنّما يجري بناءً على كون هذه الألفاظ موضوعةً للأسباب، وأمّا لو فرضنا أنّها قد وضعت للمسبّبات، فلا.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سره):«أمّا لو قلنا: بوضعها للمسبّبات - كما هو كذلك - فلم يبق مجال للنزاع أصلاً، وذلك من جهة ما بيّنا: أنّ الصحّة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة، والفساد عبارة عن عدم التماميّة في موضوع قابل للتماميّة، والمسبّبات عناوين واعتبارات بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم،

ص: 294

لا أنّه هناك شيء موجود تارةً يكون غير تامّ، فيقال: بأنّه بيع فاسد أو صلح فاسد - مثلاً - واُخرى تامّ، فيقال: إنّه صحيح.

وبعبارة اُخرى: المتّصف بالصحّة والفساد لا بدّ أن يكون مركّباً حتّى يقال - عند وجود جميع أجزائه وشرائطه وفقد جميع موانعه بحيث يكون مؤثّراً في وجود أثره -: إنّه صحيح وتامّ، وعند فقد جزء أو شرط أو وجود مانع: إنّه فاسد غير تامّ. وأمّا الشيء البسيط الذي لا جزء له ولا شرط ولا مانع له، بل إنّما تكون هذه الاشياء من أسبابه، وليس هو إلّا أثراً لما هو السبب التامّ ، فإذا تحقّق السبب التامّ يوجد بلا تصوير نقص وعدم التماميّة فيه، وإذا لم يتحقّق، لا يوجد شيء أصلاً، لا أنّه يوجد ناقصاً وغير تامّ»(1).

ولكنّ هذا الذي ذكره) إنّما يتمّ فيما لو أخذ الموضوع شرعاً، وأمّا الموضوع العرفيّ فإنّه يمكن أن يقال: بأنّ العرف قد يساعد على تحقّقه ولو مع عدم ترتيب الآثار عليها في نظر الشرع.

والحقّ: أنّه ما دام قد فرض بساطته فلا فرق بين الشرعيّ والعرفيّ، ولكنّ الصحّة، ولو كانت بمعنى التماميّة، فالتماميّة تكون نسبيّة، أي أنّها من بعض الجهات تامّة ومن بعضها ناقصة، كالخلّ - مثلاً - إذا فرضت صحّته من ناحية الطعم وفساده من ناحية الرائحة، فنقول: هذا المسبّب وهذا الانتقال صحيح بالنسبة إلى اللّيل دون النهار.وبعبارة اُخرى: فإنّ

ص: 295


1- منتهى الاُصول 1: 66 - 67.

الانتقال إذا تصوّرناه بالنسبة إلى الأزمنة والأمكنة يصبح كالمركّب في أنّه يوجد الانتقال نهاراً وإن لم يوجد ليلاً.

والأمر الثالث:

أنّ كلّ فعل - بالنسبة إلى النتيجة الحاصلة منه - ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يكون من قبيل المعدّ.

والثاني: أن يكون فعلاً مباشراً للفاعل.

أمّا الأوّل: كما إذا أمر شخصاً بأن يقتل آخر، فإنّ الأمر يكون معدّاً بالنسبة إلى فعل زيد، فالقاتل في الحقيقة هو المباشر لا الآمر.

وأمّا الثاني: وهو المباشر، فهو:

تارةً يكون بلا واسطة شيء بين الفعل والنتيجة ولا بتوسّط إرادة فاعل مختار بينهما، بل تترتّب النتيجة عليه مباشرةً، مثلاً: لو ألقي شخص في النار، فإنّ الإلقاء مقتض للإلحراق، إلّا لمانع كالرطوبة أو كالأمر الذي في قوله تعالى: ﴿قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾(1) - إلّا أن يقال: إنّ ظاهر الآية المباركة انّ الأمر أثّر في رفع المقتضي لا إيجاد المانع - ويسمّى هذا القسم ﺑ (المسبّب التوليديّ).

واُخرى: يكون فعلاً مباشراً للفاعل صادراً بآلة، والآلة تارةً من أعضاء البدن كالضرب باليد، واُخرى من الاُمور الخارجيّة كالضرب بالعصا .

ص: 296


1- الأنبياء: الآية 69.

مثلاً: لو كتب بالقلم، فإنّ الكتابة في الحقيقة صادرة منه لا من القلم.

والفرق بين المسبّبات التوليديّة والمباشريّة: أنّ الأوّل ناتج من أفعال الواسطة التي تفعل الشيء بلا اختيار وشعور وإرادة، فإنّ الإلقاء في النار مقتض للإحراق، وهذابخلاف الفعل المباشريّ، فإنّ وضع القلم على القرطاس غير مقتضٍ للكتابة، وإنّما تنسب الكتابة في الحقيقة إلى الشخص لا إلى القلم.

فإذا عرفت هذا، فنسأل: هل النقل والانتقال من الأسباب التوليديّة أم من الاُمور المباشريّة؟ فنقول: ليس باب العقود من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة، بل هو من قبيل الفعل المباشريّ والإيجاد بالآلة. فإنّ المسبّب في باب الأسباب والمسبّبات لم يكن بنفسه فعلاً اختياريّاً للفاعل، بل يصدر منه بدون اختيار، كالإحراق للنّار، فلا يمكن أن تتعلّق الإرادة به بنفسه.

نعم، الفعل الاختياريّ وما تتعلّق به الإرادة هو السبب، وأمّا الفعل المباشريّ - كالإيجاد بالآلة، مثل الكتابة - فهو بنفسه فعل اختياريّ للفاعل ومتعلّق للإرادة ويصدر عنه أوّلاً وبالذات؛ فإنّ الكتابة ليست مجرّد وضع القلم على القرطاس، بل وضع القلم مع إرادة خاصّة، فهو بنفسه فعل اختياريّ صادر عن المكلّف مع الإرادة والقصد، وأمّا الإحراق فإنّ الذي هو فعل اختياريّ للمكلّف هو محض الإلقاء في النار، لا الإحراق بنفسه.

ص: 297

وقد اتّضح: أنّ البيع من الأفعال المباشريّة، وهو إمضائيّ، وليس تأسيسيّاً، بمعنى: أنّ الشارع المقدس قد أمضى البيع العرفيّ العقلائيّ، وأنّه اسم للمسبّبات، وبما أنّ المسبّب أمر بسيط، والانتقال عبارة عن إضافة الملكيّة بلفظ أو فعل، فهذه الإضافة: إمّا أن توجد بهذا اللّفظ كما أمضى الشارع له، أو لا توجد، كبيع الصبيّ الذي لم يمضه الشارع.

وليست هذه العقود من الاُمور المخترعة الشرعيّة حتّى يبحث عن أنّها قد وضعت للصّحيح أو للأعمّ.وكذا بناءً على التأثير والتأثّر، حيث قلنا: بأنّ بالمسبّبات اُمور بسيطة - وهي الأثر البسيط الذي يترتّب على الأسباب - فلا تتّصف أيضاً بالصحّة والفساد، وإنّما تتصف بالوجود والعدم؛ لأنّ ملاك الصحّة هو ترتّب الأثر على الصحيح، والمسبّبات في المعاملات هي آثار صحيحة، فإذا وضع الاسم لنفس الأثر، فلا معنى لأن ينازع في أنّ المسمّى بذلك الاسم هل هو الصحيح أو الأعمّ من الصحيح والفاسد.

ولكن لا يخفى أنّه:

أوّلاً: أنّه لو فرض بأنّ البيع هو المسبّب فتارةً يتصوّر على أنّه أمر حقيقيّ واقعيّ يتحقّق في الواقع عند تحقّق بعض أسبابه، فحينئذ: يكون النهي عنه من الشارع تخطئةً للعرف الذي يرى وقوعه بالسبب الذي أوجده وتخيّل أنّه يتوصّل به إليه، فبهذا المعنى لا مجال للنّزاع؛ لأنّه إمّا أن يوجد بهذا السبب أو لا يوجد، والصحيح عند الشارع والعرف بمعنىً

ص: 298

واحد، وإنّما تخيّل العرف أنّه إذا أوجد البيع بهذه الأسباب فإنّه يتحقّق ويكون الانتقال صحيحاً، وقد خطّأه الشارع في ذلك، فنهي الشارع حينئذ يكون تخطئةً للعرف الذي يرى وقوعه بالسبب الذي تخيّله.

وثانياً: أنّ البيع، وإن كان أمراً واقعيّاً، إلّا أنّه يتحقّق بأمرين، وبنحوين من الأسباب، كإلقاء المال إلى المشتري أو إجراء الصيغة، إلّا أنّ الشارع قد اشترط في تحقّق أحكام البيع وصحّة تصرّف المشتري ووجوب تسليم البائع له، أن يكون البيع متحقّقاً بسبب مخصوص، وإن اشترك السببان أو الأسباب في إيجاده وتحقّقه، والشارع يرى أنّ ترتّب آثار الملكيّة وأحكامها إنّما يتحقّق عند إجراء بعض هذه الأسباب - كالبيع بالصيغة - دون البعض الآخر، كإلقاء المال إلى المشتري - مثلاً -.وثالثاً: أنّ البيع، بما أنّه أمر اعتباريّ، فمفهومه، وإن كان بنظر العرف والشارع واحداً، إلّا أنّ مصاديقه تختلف باختلاف الاعتبار؛ وذلك لأنّ الشارع يعتبر من مصاديقه المحقّقة عند العرف مصداقاً خاصّاً، وهو: البيع الصادر من البالغ - مثلاً - باعتبار أنّ البلوغ يكون دخيلاً في تحقّق ما لا يعتبره العرف كذلك، ولذلك يرى العرف أنّ بيع الصبيّ صحيح.

وقد ظهر على ضوء ما مرّ: أنّ البحث يجري في القسمين الأخيرين حتّى لو قلنا: بأنّ البيع قد وضع للمسبّب، فيمكن حينئذ أن يقال: بأنّ لفظ

ص: 299

البيع هل وضع للصّحيح أو للأعمّ منه ومن الفاسد؟ وأنّ ما ذكره المحقّق المذكور) من عدم تأتّي البحث بناءً على أن يكون البيع اسماً للمسبّب مطلقاً، في غير محلّه.

نعم، لو قلنا: بأنّ البيع بمعنى التأثير والتأثّر، وأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للمسبّبات - وهي الآثار المترتّبة على الأسباب كالنقل والانتقال - فلا يتصوّر جريان النزاع فيه؛ لما ذكرنا من أنّها اُمور بسيطة، فلا تتّصف بالصحّة والفساد، بل بالوجود والعدم. إلّا أن نقول بإمكانه بالنسبة إلى الأمكنة أو الأزمنة، كما مرّ.

ص: 300

الفصل الثاني عشر: الاشتراك

اشارة

لا يخفى: أنّ مورد البحث هو الاشتراك اللّفظيّ. ويبحث عنه: تارةً من جهة الإمكان، واُخرى من جهة الوقوع.

أمّا الجهة الاُولى:

فقد اختلف في إمكانه وعدمه. فمنهم من ذهب إلى القول بالاستحالة، لأنّ الاشتراك ينافي حكمة الوضع؛ فإنّ المراد من الوضع هو التفهيم والتفهّم، والاشتراك سبب لإجمال المعنى؛ لأنّ نسبة اللّفظ الموضوع إلى كلّ من المعنيين على حدّ سواء، فالاشتراك يوجب إجمال المعنى، وهو مناف لحكمة الوضع.

وقد أُجيب عن هذا:

أوّلاً: بأنّ الاشتراك ليس سبباً لإجمال المعنى، ولا للإخلال بالتفهيم، ولا هو منافٍ لحكمة الوضع؛ وذلك لإمكان الاتّكال في تفهيم المعنى وإرادته على القرائن، ولذا قيل: إنّ الاشتراك كالمجاز يحتاج إلى القرائن،

ص: 301

مع فارق، وهو أنّ القرينة في الثاني من أجل إرادة خلاف الحقيقة، وفي الأوّل لتعيين المراد وتسمّى ﺑ «معيّنة المراد».

وثانياً: قد تكون الحكمة في الإجمال وعدم إظهار المراد في بعض الموارد، كمجلس التخاطب، فيلقي المتكلّم الكلام على وجه الإجمال ثمّ بعد ذلك يبيّنه، كما في ترك ذكر الخاصّ إلّا في وقت العمل، وعليه: فقد يكون الإجمال في المراد من الأغراض العقلائيّة.

وفي مقابل هذا القول قول آخر، وهو القول: بوجوب الاشتراك؛ بدعوى تناهي الألفاظ وعدم تناهي المعاني.أمّا تناهي الألفاظ: فمن جهة تركّبها من الحروف الهجائيّة المتناهية، والمركّب من المتناهي متناه، والمعاني غير متناهية، ومن المعلوم عدم وفاء المتناهي بغير المتناهي. إذاً، فلابدّ من الاشتراك ووضع لفظ لمعان متعدّدة حتّى تكون الألفاظ وافيةً بالمعاني، ولكيلا يبقى معنىً بدون لفظ.

وقد استدلّ بعض العامّة على حجّيّة القياس في الأحكام الشرعيّة بنظير هذا الاستدلال، فقالوا: إنّ الفروع غير متناهية، وأحكام الكتاب والسنّة متناهية وغير وافية بالفروع، فلابدّ من القول: بحجّيّة القياس ليفي بالفروع.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّه على فرض التنزّل والقول بأنّ الألفاظ متناهية، فإنّ وضعها بإزاء المعنى غير المتناهية يدور أمره بين أن يكون محالاً أو لغواً؛ بيان

ص: 302

ذلك: أنّ الواضع إمّا هو البشر، وهم متناهون، فلا يمكنهم ذلك، إذ كيف يمكن صدور الأوضاع غير المتناهية عن المتناهي؟(قدس سره) وإمّا هو الله تعالى، وهو عزّ وجلّ، وإن كان قادراً على وضع الألفاظ غير المتناهية، لعدم تناهيه، ولكن بما أنّ المستعمل هم البشر، وبما أنّ الوضع ليس إلّا مقدّمةً للاستعمال، فوضع الزائد عن مقدار الحاجة لغو.

فيكون وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية، والحالة هذه، لغواً، والحكيم تعالى منزّه عنه.

وثانياً: لا نسلّم أنّ المعاني غير متناهية؛ لأنّها إمّا جوهر أو عرض، وكلاهما متناهيان.

وبعبارة اُخرى: فإنّ جميع ما سوى الباري جلّ وعلا يكون متناهياً. وعلى فرض التنزّل وتسليم أنّ المعاني والمفاهيم الجزئيّة ليست متناهيةً، إلّا أنّه لا محيص عنالالتزام بالتناهي في المعاني الكلّيّة، فلا مانع من أن يوضع اللّفظ بإزاء تلك المعاني الكلّيّة دون مصاديقها وجزئيّاتها.

وثالثاً: هذا الكلام إنّما يتمّ لو تنزّلنا وسلّمنا بعدم التناهي المحتاج إليه في التفهيم والتفهّم، ولكنّ هذا إنّما يقبل فيما لو فرض أنّ جميع الاستعمالات يجب أن تكون على نحو الحقيقة.

وأمّا لو قلنا: بأنّ الألفاظ موضوعة بإزاء بعض المعاني الحقيقيّة؛ فإنّ باب المجاز واسع، ولا ينحصر التفهيم التفهّم بالوضع واستعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ، بل يمكن تفهيم بعض المعاني باستعمال اللّفظ في

ص: 303

المعنى الحقيقيّ، والبعض الآخر باستعماله في المعنى المجازيّ.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الاشتراك ليس بواجب، كما قد عرفت أنّه ممكن، وليس بمحال.

وقد استدلّ صاحب الفصول(قدس سره) لإمكان الاشتراك بقوله:

«فصل:

الحقّ كما عليه المحقّقون: إمكان الاشتراك ووقوعه في اللّغة. - إلى أن قال -: لنا على إمكانه: عدم ما يقتضي وجوبه وامتناعه، وعلى وقوعه في اللّغة: نصّ اللّغويّين عليه في ألفاظ كثيرة ﻛ (القرء) في الطهر والحيض، و(العين) في الجارية والجارحة، و(عسعس) في أقبل وأدبر. وظاهر أنّ نقلهم إذا سلم عن المعارض كان حجّةً اتّفاقاً»(1). انتهى.

وأمّا الجهة الثانية:

فقد استدلّوا على وقوع الاشتراك بالآية الشريفة: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنّ اُمّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾(2)، والمتشابه هو المجمل. فلا مانع من وقوع الاشتراك بعدما ذكرناه من أنّه قد يتعلّق الغرض بالإجمال والإهمال، وعليه: فيمكن وقوعه مطلقاً.

وأمّا التفصيل بين القرآن وغيره، والقول بامتناع وقوعه فيه دون غيره؛

ص: 304


1- الفصول الغرويّة: 31.
2- آل عمران: 7.

فوجهه: أنّه لو وقع الاشتراك في القرآن، فإمّا أن يتّكل على القرائن في إفهام المعنى فيلزم التطويل بلا طائل، إذ كان بالإمكان أن يبيّن المراد بلفظ متّحد المعنى، فلا حاجة - حينئذٍ - إلى الاشتراك. وإمّا أن لا يتّكل في تعيين المراد على القرائن، فيلزم الإجمال، وكلا الأمرين غير لائق بكلامه تبارك وتعالى، كما هو ظاهر.

قد يقال: بأنّ هذا الكلام غير تامّ بعد الفراغ عن وقوع الاشتراك في القرآن. ولكنّه إنّما يصحّ إذا قلنا: بأنّ المراد من التشابه: تردّد اللّفظ بين المعاني.

أمّا دعوى: لزوم التطويل بلا طائل، فواضحة البطلان في الموارد التي يكون الاتّكال فيها على القرائن الحاليّة، فإنّ القرائن لا تنحصر بالمقاليّة، كما هو واضح. ثمّ كيف يلزم التطويل بلا طائل إذا كان هناك غرض آخر زائداً على بيان معنى المراد؟(قدس سره) وأمّا دعوى: كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى، ففيها: أنّه قد يتعلّق الغرض بالإجمال أحياناً، فيكون لائقاً.

هذا.وقد أضاف صاحب الفصول(قدس سره) جواباً ثالثاً، بقوله: «على أنّ اللّفظ المشترك قد يكون أفصح من غيره وأوفق بالقافية ونحو ذلك، فيترجّح من جهته»(1).

ص: 305


1- الفصول الغرويّة: 31.

ويمكن أن يُضاف جواب رابع في البين، حاصله:

أنّ ثبوت الاشتراك في مثل ألفاظ: (قرء) و(عين) و(عسعس) - ممّا نصّ اللّغويّون على اشتراكه كما تقدّم - ممّا يقضي بوقوع الاشتراك في القرآن المجيد بعد وضوح وجود هذه الألفاظ فيه.

والحاصل: أنّ ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) تبعاً للمحقّق الخراسانيّ)(1) - من أنّ «ما ذكروه من الأدلّة على الوجوب أو الامتناع معلوم الفساد، فلا يليق بأن يذكر أو يسطر»(2)- وجيه وفي محلّه.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ منشأ الاشتراك هل هو الوضع التعيينيّ أو التعيّني أو اختلاف اللّغات نتيجةً لكون العرب طوائف متعدّدة، واختلاط هذه اللّغات بعضها ببعض، كما استظهره المحقّق النائيني(قدس سره)(3) من بعض المؤرّخين، أنّه حدث «من خلط بعض اللّغات ببعض، مثلاً: كان يعبّر عن معنىً في لغة الحجاز بلفظ، ويعبّر عن ذلك المعنى في لغة العراق بلفظ آخر»، ومن جمعهما أخيراً وجعل الكلّ لغةً واحدةً حدث الاشتراك.

ولا يخفى: أنّه إذا قلنا بوجود الترادف، فحاله في ذلك، حال الاشتراك بعينها.

ص: 306


1- أجود التقريرات 1: 51.
2- منتهى الاُصول 1: 70.
3- كفاية الاُصول: 35.

ثمّ إنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) ذكر(1): أنّ ما قد أُفيد من إمكان الاشتراك وأنّه لا يمتنع ولا يجب، وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه إنّما يتمّ على مسلك القوم في تفسير الوضع، أي:على المسلك القائل بأنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار الواضع وجعله الملازمة بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى الموضوع له، أو بأنّ حقيقته جعله وجود اللّفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً، أو بأنّ حقيقته جعله اللّفظ على المعنى في عالم الاعتبار...

فهنا لا مانع من الاشتراك وتعدّد الجعل، لأنّ الاعتبار سهل المؤونة، ولا محذور في تعدّده في اللّفظ الواحد أصلاً.

وأمّا بناءً على المسلك الذي اختاره هو) من أنّ حقيقة الوضع هي التعهّد فغير ممكن؛ لأنّه لا يمكن للواضع أن يجمع بين تعهّدين بلفظ واحد، فإنّ الثاني يكون مناقضاً للأوّل، ففي فرض تعهّده للثاني فلابدّ له أن يرفع يده عن التعهّد الأوّل.

ولكنّ ذلك إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ منشأ الاشتراك هو الوضع من شخص واحد، وأمّا لو قلنا: بأنّ الاشتراك حصل من خلط اللّغات، فلا ريب في أنّه يصحّ على مذهبه هو أيضاً؛ إذ يمكن أن يتعهّد كلّ شخص منهم في مورد لفظ خاصّ أن يأتي به لمعنىً غير ما وضعه له الآخر، ولا منافاة بين التعهّد الأوّل التعهّد الثاني، كما لا يخفى.

ص: 307


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 202 - 203.

وخلاصة القول: أنّه بعد المفروغيّة عن وقوع الاشتراك في الكلام الفصيح وفي مسموع اللّغة - ﻛ (القرء) وغيره - فلا نتيجة لهذا البحث.

ص: 308

الفصل الثالث عشر: استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

اشارة

وقبل الدخول في أصل البحث لا بدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

المراد من استعمال اللّفظ في أكثر من معنى هو: استعماله في كلّ من هذه المعاني على نحو الاستقلال، وإرادة كلّ منها كذلك في استعمال واحد، كما يراد كلّ واحد من المعاني باللّفظ منفرداً، وليس المراد استعماله في مجموع المعاني، بحيث يعدّ كلّ منها جزءاً للمستعمل فيه، كالعامّ المجموعيّ؛ فإنّ هذا خارج عن محلّ البحث، وكذا استعماله في الجامع بين المعاني، بحيث يكون كلّ واحد فرداً لذلك الجامع، كاستعمال صيغة الأمر في مطلق الطلب الذي هو جامع بين الوجوب والندب.

ص: 309

وكذا استعمال اللّفظ في كلّ واحد لا بعينه، بحيث يكون المعنى هو الفرد المردّد بين المعاني.

والأمر الثاني:

أنّ المراد من الاستعمال هو: استعمال اللّفظ في المعاني الإفراديّة التصوّريّة، دون التركيبيّة؛ لأنّ الألفاظ موضوعة لذلك، وأمّا معاني الجمل فإنّها تستفاد من ضمّ المفردات بعضها إلى بعض.

الأمر الثالث:

هل هذا الاستعمال مجاز أم لا؟ قد يقال: بالمجازيّة؛ لأنّ اللّفظ وضع للمعنى مقيّداً بالوحدة، فاستعماله في المعنيين مستلزم لإلقاء قيد الوحدة، فيصبح استعمالاً في غير ما وضع وغير المعنى الحقيقيّ.

ويرد عليه: ما سيأتي: من أنّه لم يوضع للمعنى مع قيد الوحدة، بل لا دليل على اعتباره فيه؛ لأنّه لو اُريد من قيد الوحدة: لحاظ المستعملين للوحدة، فإنّه محال أخذه؛ لأنّه يوجب أخذ ما هو المتأخّر عن الوضع - أي اللّحاظ الناشئ عن الاستعمال الذي هو متأخّر - في الموضوع له.

وبعبارة اُخرى: فإنّنا نسأل: هل المراد من الوحدة التي تصوّرها قيداً هو أن تكون قيداً للموضوع له أو للاستعمال، بأن يكون الواضع قد شرط

ص: 310

على المستعملين أنّه لا يجوز لهم استعمال اللّفظ في الموضوع له إلّا حال الانفراد، أي: انفراد المعنى ووحدته؟(قدس سره) إن كان هذا هو المراد، فهو شرط تعبّديّ ولا يجب اتّباعه، بل - وعلى فرض المخالفة - لا يضرّ بحقيقة الكلام.

وأمّا لو فرض أنّه شرط لتحقّق الوضع، فإن كان المراد: أنّ الوحدة قيد للموضوع له، فلابدّ من اتّباع الواضع عند الاستعمال، ولكنّ هذا غير ثابت.

وأمّا إذا كان قيداً لنفس الوضع، بحيث يكون ثبوت الوضع متوقّفاً على الاستعمال، ففيه: أنّه محال؛ لأنّ معناه: أن يكون الشيء المتأخّر دخيلاً في المتقدّم، وقد ذكرنا سابقاً: أنّ الاستعمال عبارة عن إفناء اللّفظ في الموضوع له، فلو توقّف الوضع عليه لدار.

وأمّا ما ذكره صاحب القوانين(قدس سره): من أنّ الوضع حصل حال وحدة المعنى، وبما أنّ اللّغات توقيفيّة، فلا يجوز استعماله في أكثر من معنى، بل لا بدّ من مراعاة الانفرادحين الاستعمال في المعنى. وأمّا استعماله في أكثر من معنىً فهو مناف لتوقيفيّة اللّغات.

قال(قدس سره): «لا أقول: إنّ الواضع يصرّح بأنّي أضع ذلك اللّفظ لهذا المعنى بشرط أن لا يراد معه شي ء آخر وبشرط الوحدة، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضاً، بل أقول: إنّما صدر الوضع من الواضع مع الانفراد، وفي حال الانفراد، لا بشرط الانفراد، حتى تكون الوحدة جزءاً للموضوع

ص: 311

له - كما ذكره بعضهم - فيكون المعنى الحقيقيّ للمفرد هو المعنى في حال الوحدة لا المعنى والوحدة...

إلى أن يقول(قدس سره): والحاصل: أنّ المعنى الحقيقيّ توقيفيّ لا يجوز التعدّي فيه عمّا علم وضع الواضع له، وفيما نحن فيه: لا نعلم كون غير المعنى الواحد موضوعاً له اللّفظ، فلا رخصة لنا في استعمال اللّفظ بعنوان الحقيقة إلّا في المعنى حالة الوحدة، لا بشرط الوحدة»(1).

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللّفظ مطلقاً - مفرداً كان أو غيره - في أكثر من معنى، بنحو الحقيقة أو المجاز، ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه، فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون الوضع في حال وحدة المعنى، وتوقيفيّته، لا يقتضي عدم الجواز بعدما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى»(2).وتوضيحه: أنّ الوضع وإن كان قد تحقّق حال وحدة المعنى وانفراده، إلّا أنّ هذا لا يمنع عن استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، وهو لا يعني: أنّ هذه الحال تجب متابعتها، وإلّا، فلو كانت متابعته واجبةً، لكانت متابعة سائر الحالات المقارنة للوضع أيضاً واجبة، ولكان تركها مانعاً عن صحّة

ص: 312


1- قوانين الاُصول 1: 63 و 67.
2- كفاية الاُصول: 36- 37.

الاستعمال، كما إذا أوقع الوضع في اللّيل - مثلاً - فيجب الالتزام حينئذ بعدم استعماله إلّا في اللّيل، وهو كما ترى. فالحقّ: أنّ اللّفظ قد وضع لذات المعنى، من دون قيد من الوحدة وغيرها. نعم، قد يوضع اللّفظ للمعنى المقيّد بشيء؛ كالرجل الموضوع للإنسان بقيد الذكوريّة، فهنا لا يكون محذور أصلاً في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

نعم، يأتي المنع إذا فرض الانفراد قيداً للوضع، ويكون هذا القيد من قبيل الشرط على المستعملين من قبل الواضع، كأن يقال: لا تستعملوا اللّفظ إلّا في حال الانفراد، ولو كان الموضوع له هو طبيعيّ المعنى. وهذا نظير الشرط المأخوذ في ضمن العقد، ولكنّ الشرط على هذين النحوين لا يكون مانعاً؛ لأنّ الأوّل مستحيل والثاني لم يثبت. فلا مانع من جواز الاستعمال من هذه الجهة، بل المانع الامتناع العقليّ؛ إذ:

أوّلاً:

قد ذكرنا أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ فانياً في المعنى - وليس بمعنى العلامة - بحيث يعدّ اللّفظ وجوداً لفظيّاً للمعنى في مقابل سائر الوجودات.

وملخّص ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) في الاستدلال على عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى:

أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ وجهاً للمعنى، ولا يمكن جعل اللّفظ وجهاً إلّا لمعنىً واحد، وذلك لأنّ لحاظ اللّفظ وجهاً في

ص: 313

إرادة المعنى، ينافي جعله وجهاً لمعنىً آخر.ووجه المنافاة: أنّ لحاظ اللّفظ وجهاً للمعنى، لا يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه اللّفظ، وكيف يمكن في نفس الحال إرادة معنىً آخر يفنى فيه اللّفظ أيضاً في استعمال واحد، مع استلزامه الجمع بين اللّحاظين في حال واحد.

وبعبارة اُخرى: فإنّه لا يمكن أن يجعل اللّفظ بتمامه وجهاً لتمام المعنى، وفي عين جعله كذلك يجعل أيضاً وجهاً بتمامه لتمام معنىً آخر في استعمال واحد، بل هذا ممتنع عقلاً، فإنّ اللّفظ بعد أن جعل بتمامه وجهاً لتمام المعنى الأوّل، فلا يبقى هناك شيء لكي يجعل بعينه وبتمامه وجهاً لتمام المعنى الآخر. أو فقل: إنّ اللّفظ بعد جعله فانياً بتمامه في المعنى الأوّل فهو لم يبق فارغاً لكي يجعل فانياً بتمامه في معنىً آخر، وهذا واضح.

والحاصل: أنّ استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يكون معقولاً إذا كان على نحو الانضمام، وأمّا على نحو الانفراد والاستقلال فلا.

وبعد أن ذكرنا أنّ للشيء وجودات أربعة، هي: الوجود الخارجيّ والوجود الذهنيّ والوجود اللّفظيّ والوجود الكتبيّ، يتّضح: أنّ اللّفظ نحو من أنحاء الوجود للمعنى، فإذا كان استعمال اللّفظ إيجاداً المعنى بهذا الوجود اللّفظيّ، بعدما كان اللّفظ فانياً في المعنى وعنواناً له فكيف يمكن - في استعمال واحد - كون الشيء الواحد وجوداً لطبيعيّ هذا اللّفظ

ص: 314

أو هذه الماهيّة أو ذلك اللّفظ أو تلك الماهيّة الاُخرى باستعمال واحد؟(قدس سره) أو فقل: بما أنّ اللّفظ مرآة وحاك عن المعنى، وبما أنّ المرآتيّة ملحوظة حين استعمالها باللّحاظ الآليّ، فيلزم من استعمال اللّفظ الواحد في معنيين أو أكثر: أن يلاحظ اللّفظ الواحد في آنٍ واحد بلحاظين آليّين بعد صيرورته لذلك الاستعمالمرآتين حاكيتين عن معنيين، فيجتمع حينئذ اللّحاظان في استعمال واحد وفي واحد شخصيّ.

نعم، لو كان الوضع من باب وضع العلامة للمعنى لم يكن هناك مانع في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

وأمّا ما قد يقال: من أنّه لا مانع في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من جهة لزوم أن يكون الواحد الشخصيّ علّةً لأكثر من واحد، مع أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد.

ففيه: أنّ اللّفظ، وإن صار بالوضع مقتضياً لحضور المعنى عند سماعه، إلّا أنّه لا يكون بعلّة تامّة لذلك فيما إذا كان مشتركاً؛ إذ لا يفهم المعنى منه إلّا مع القرينة المعيّنة للمراد، ومعه يخرج عن كونه واحداً ولا يلزم صدور الكثير عن الواحد.

وثانياً:

أنّ استعمال اللّفظ في معناه: إيجاد للمعنى به إيجاداً تنزيليّاً، فيكون وجود اللّفظ في الخارج وجوداً طبيعيّاً لماهيّة اللّفظ ووجوداً تنزيليّاً للمعنى، وعند استعمال اللّفظ في كلا المعنيين يلزم أن يكون وجود اللّفظ

ص: 315

الحقيقيّ وجودين تنزيليّين، وصيرورة وجود واحد حقيقي وجودين تنزيليّين لمعنيين، بمعنى: وجود واحد بالذات لماهيّتين، وهذا محال.

وقد أُجيب عن هذا: بأنّ ثمّة فرقاً بين صيرورة وجود واحد بالذات وجوداً لماهيتين وبين تنزيل شيء منزلة شيء آخر؛ لأنّ هذا يكون محالاً، كما سنبيّنه.

أمّا محاليّة ذلك الوجود لماهيّتين لا يستلزم صيرورة الوجود الواحد بالذات وجودين تنزليّين لمعنيين؛ لأنّ امتناع الأوّل ذاتيّ، بلا فرق بين أصالة الماهيّة أو أصالةالوجود؛ لأنّ فرض الماهيّتين معناه: فرض الحدّين لهما، ونتيجته فرض وجودين، وهذا خلف.

وكذا بناءً على أصالة الوجود؛ لأنّ انتزاع الماهيّتين للوجود معناه: تعدّد الوجودين؛ لأنّ الماهيّة بناءً على أصالة الوجود حدّ للوجود، فيلزم تعدّد الحدود بتعدّد الوجود، وإلّا يكون الوجود حقيقةً واحدة.

ولكن في المقام يمكن تنزيل شيء منزلة شيء آخر بعدما كان المدار على نظر المعتبر من جهة السعة والضيق، غاية الأمر: أنّ كون الوجود الواحد وجوداً تنزيليّاً لوجودين، ولو كان ممكناً على نحو الاجتماع، إلّا أنّه ليس ممكناً على نحو الانفراد والاستقلال؛ لأنّ معنى الاتّحاد بين اللّفظ والمعنى هو الهوهويّة، وصيرورة الاثنين واحداً.

فلو أصبح اللّفظ وجوداً فانياً في المعنى الأوّل فلم يبقَ له وجود آخر حتّى يتّحد مع المعنى الثاني ويفنى فيه.

ص: 316

أمّا أنّ كون حقيقة الاستعمال فناء اللّفظ في المعنى كما قلنا، فيمكن أن نتصوّره من خلال بيان اُمور:

الأوّل: أنّ الوجود اللّفظيّ من أنحاء الوجود، وبعد أن فرضنا أنّ معنى الاستعمال فناء اللّفظ في المعنى على نحو يكون وجوداً لفظيّاً له، فتحقّق هذا الوجود للمعنى لا يمكن إلّا بعد فناء اللّفظ فيه.

والثاني: بعد أن قلنا: بأنّ هناك مغايرةً بين اللّفظ والمعنى وبأنّ هناك تنافياً بينهما، فلا يمكن أن يكون إلقاء اللّفظ إلقاءً للمعنى، إلّا بجعل الهوهويّة، وإلّا فكيف يمكن أن يكون إلقاء أحد الأجنبيّين إلقاءً للآخر، وهذه الهوهويّة متوقّفة على أن يكون اللّفظ فانياً في المعنى؟(قدس سره)والثالث: أنّ قبح اللّفظ - كما هو معلوم - يسري إلى المعنى، وبالعكس، فلو لم يكن هذا الاتّحاد بينهما فكيف يتحقّق ذلك؟ فإن قلت: يكفي في السراية مجرّد القرب والجوار.

قلنا: هذا لا يمكن أن يسلّم في جميع الموارد وعلى نحو العموم.

فإذا عرفت هذا: فالحقّ عدم الجواز، وذلك من جهة عدم إمكان لحاظين مستقلّين في آن واحد، وعدم إمكان فناء لفظ واحد في شيئين مستقلّين باستعمال واحد.

وإذ قد اتّضح: أنّ الصحيح هو القول بعدم الإمكان، فلا وجه لتفصيل

ص: 317

صاحب المعالم(قدس سره)(1) والقول بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع وعلى نحو المجاز في المفرد:

أمّا في التثنية والجمع: فبدعوى أنّهما بمنزلة تكرار اللّفظ، فكأنّ الذي لدينا لفظان أو ألفاظ لا لفظ واحد، ولا مانع من استعمال أحد اللّفظين أو الألفاظ في معنىً غير المعنى الذي استعمل فيه اللّفظ الآخر أو الألفاظ الاُخرى.

وأمّا في غير التثنية والجمع، وهو الإفراد، فبدعوى: أنّ الاستعمال في أكثر من معنىً واحد مستلزم لإلقاء قيد الوحدة وصيرورة المستعمل فيه جزءاً للمعنى الموضوع له.

فقد عرفت ممّا ذكرنا: أنّ عدم الجواز يأتي من جهة اجتماع اللّحاظين المتضادّين، فاستعمال اللّفظ في أكثر من معنى، بناءً على هذا، غير جائز مطلقاً، لا في التثنية والجمع ولا في المفرد، لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز.

وأمّا ما ذكر: من أنّ أقوى دليل على إمكان الشيء وقوعه، فإذا تحقّق الشيء في الخارج فلا معنى لاستحالته، ومثّلوا لذلك بتعدّد البطون في القرآن إلى سبع أو سبعين بطناً.ففيه: أنّ هناك فرقاً بين إرادة المعاني العديدة من لفظ واحد، وبين

ص: 318


1- معالم الاُصول: ص 44.

استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى، ومحلّ كلامنا هو الثاني دون الأوّل. فهذه البطون مرادة من اللّفظ، لا أنّ اللّفظ قد استعمل في المعاني المتعدّدة باستعمال واحد.

ويحتمل أن يكون المراد من البطون بعد فرض كونها مرادةً بالاستقلال: أنّ الدلالة على هذه المعاني مقارنة لاستعمال اللّفظ في معناه، لا أنّ اللّفظ يدلّ عليها منفرداً، كما إذا قال قائل: «حان وقت أداء الدين»، وأراد - مقارنةً لهذا الكلام - معنىً آخر، وهو مثلاً: «دخلنا في شهر كذا».

ويحتمل أن يكون المراد من البطون لوازم المعنى الموضوع له، لا يكون اللّفظ مستعملاً في تلك المعاني، كما إذا كان مجيء زيد غالباً ملازم لنزول البركات، فإذا قيل: (جاء زيد) فهم منه هذا اللّازم من غير أن يكون اللّفظ مستعملاً فيه هو أيضاً.

وقد انقدح بما بيّنّاه: أنّ ما ذكره بعض شرّاح الكفاية بقوله: «فالجواب الصحيح أن يقال: إنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطوناً سبعةً أو سبعين، وإن كانت هي ظاهرة في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى...». فغير تامّ.

وظهر أيضاً عدم تماميّة ما ذكره بقوله:

«وبالجملة: في إرادة البطون من القرآن المجيد احتمالان:

أحدهما: أن يكون من قبيل استعمال اللّفظ في المجموع، نظير

ص: 319

استعمال ألفاظ المركّبات في مجموع الأجزاء، فيكون كلّ بطن جزءاً للمعنى، لا معنىً مستقلّاً برأسه.وثانيهما: أن يكون من قبيل استعمال اللّفظ في القدر الجامع بين الجميع، نظير استعمال المشتركات المعنويّة في الجوامع بين المعاني العديدة، فيكون كلّ بطن فرداً للمعنى ومصداقاً له، لا معنىً مستقلّاً برأسه»(1).

فإنّ هذه الأخبار تكون - بهذا المحمل - خارجةً عن محلّ الكلام.

والإنصاف: أنّ حمل تلك الأخبار على أن تكون تلك البطون مرادةً من اللّفظ من دون أن يكون اللّفظ مستعملاً فيها، وكذا حملها على أن يكون المراد من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه اللّفظ، على خلاف الظاهر.

ثمّ على فرض التنزّل وتسليم أنّ المراد من البطون من ظاهر الروايات هو جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فلابدّ من تأويلها؛ لأنّها لا تتمكّن من معارضة الدليل العقليّ.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يتمّ بناءً على الهوهويّة، وأمّا بناءً على أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن كونه علامةً على المعنى - كأماريّة النصب والعقود - فلا محذور أصلاً في استعمال اللّفظ الواحد في معنيين، بل في المعاني المتعدّدة.

ص: 320


1- عناية الاُصول 1: 115.

كما ظهر أيضاً: فساد ما ذكره بعض المحقّقين: من أنّه بناءً على كونه علامة أيضاً لا يجوز؛ لأنّ شرط الاستقلال ومعناه: الانفراد وعدم انضمام معنى آخر معه، فحينئذ في فرض الاستعمال في اكثر من معنى لا يتصوّر الاستقلال.

وجه الفساد: أنّ المراد من الاستقلال عدم الارتباط والقيديّة بين المعنيين، أي لا يكون كلّ من المعنيين قيداً للآخر، كالعامّ المجموعيّ، بل المراد: عدم ارتباط كلّمنهما بالآخر، كمجيء زيد بالنسبة إلى مجيء عمرو، فإنّ كلّ واحد من المجيئين ليس مقيّداً بالآخر. نعم، كان مجيئهما في زمان واحد.

وكيف كان، فقد عرفت أنّ الحقّ في حقيقة الاستعمال أنّه عبارة عن الهوهويّة لا العلاميّة؛ لأنّ المراد من استعمال اللّفظ هو إيجاد المعنى باللّفظ، وهو ليس إيجاداً تكوينيّاً له، وإنّما هو الإيجاد التنزيلي، كإيجاد المعنى كتابةً.

كيف لا؟(قدس سره) ولو كان بمعنى العلامة فلا يكون إيجاده إيجاداً للمعنى، ولا وجوده وجوداً تنزيليّاً له.

الثمرة

هل هناك ثمرة لهذا البحث؟ والجواب: نعم؛ فإنّه لو قلنا بجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

ص: 321

لأمكن في مثل المرويّ من قوله(علیه السلام): «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة»(1)، الحمل على الوجوب في الثاني والاستحباب في الأوّل - هذا إذا لم نقل باستحباب كلّ من الأذان والإقامة، وإلّا، فلا كلام كما لا يخفى -. وفي مثل: «اغتسل للجمعة والجنابة»(2)، الحمل على الاستحباب في الأوّل والوجوب في الثاني.

ولكن - وكما ذكرنا في محلّه - فإنّ هذه الثمرة ليست بثمرة؛ وذلك لأنّ الأمر - كما سيأتي في محلّه - موضوع لمطلق الطلب، والوجوب أيضاً أمر بسيط، وكذا الاستحباب.فلا يكون معنى الوجوب عبارةً عن طلب الشيء مع المنع من الترك، ولا الاستحباب هو طلب الشيء مع جواز الترك، ولا أنّ الوجوب هو المرتبة الأكيدة، ولا الاستحباب هو المرتبة الضعيفة.

بل إنّما يعرف الوجوب والاستحباب من الدليل العقليّ ومن الخارج. فلا تنافي بين الوجوب والاستحباب بحسب الوضع، فاستعمال «اغتسل» وإرادة الوجوب والاستحباب ليس استعمالاً في أكثر من معنى حتّى تترتّب عليه هذه الثمرة. وكذا قوله(علیه السلام): «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة»؛ فإنّ الاستعمال هنا - أيضاً - ليس استعمالاً في أكثر من معنىً واحد.

ثمّ إنّه قد يُستشكل في القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من

ص: 322


1- وسائل الشيعة 5: 444، الباب 35 من أبواب الأذان والإقامة، ح2.
2- ورد نظير لهذا اللّفظ في وسائل الشيعة 2: 261، الباب 43 من أبواب الجنابة.

معنىً بإشكال نقضيّ، وهو: جواز استعمال العامّ الاستغراقي في جميع أفراده، بتقريب: أنّ حكم العامّ يتناول كلّ واحد من أفراده، وذلك يستلزم كون كلّ واحد من الأفراد ملحوظاً بلحاظ يخصّه، فإذا صحّ تعلّق الحكم الواحد باُمور متعدّدة، مع كون كلّ واحد منها ملحوظاً بلحاظ خاصّ به في إطلاق واحد وآن واحد، فلتكن صحّة استعمال اللّفظ في أكثر من معنى أيضاً كذلك.

ولكنّ هذا النقض غير تامّ؛ لأنّ العامّ الاستغراقيّ لا يكون ملحوظاً إلّا بعنوان عامّ وحداني، وهذا العنوان العامّ الوحدانيّ هو الذي يستعمل فيه اللّفظ ويشار به إلى تلك الأفراد.

وأمّا الأفراد، فليس كلّ واحد منها ملحوظاً بلحاظ خاصّ به، ولا أنّ الملحوظ جميع الأفراد، كالعامّ المجموعيّ. إذاً، فهذا النقض غير تامّ.

ثمّ، وعلى فرض التنزّل والقول: بأنّ الحكم في العامّ الاستغراقيّ يستلزم ملاحظة كلّ واحد من الأفراد بلحاظ خاصّ به، ولكن ليس هناك لحاظات متعدّدة فياستعمال اللّفظ الواحد الشخصيّ - أعني به: اللّفظ العامّ - الذي هو عنوان لتلك الأفراد والمشار به إليها، بل ملاحظة تلك الأفراد كذلك إنّما تكون في مقام الجعل ووضع الحكم لها، لا في مقام الاستعمال، وكم من فرق بين المقامين.

وقد ذكرنا: أنّ المانع هو إرادة أكثر من معنىً واحد من اللّفظ في استعمال واحد له، لأنّه يستلزم تعدّد اللّحاظات المتنافية.

ص: 323

وإذ قد اخترنا القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فلا فرق بين أن يستعمل اللّفظ المفرد أو المثنّى أو المجموع في النفي أو في الإثبات، على نحو الحقيقة أو المجاز، فإنّ الاستعمال في جميع هذه الموارد على حدّ سواء من عدم الجواز.

ص: 324

الفصل الرابع عشر: المشتقّ

اشارة

وتحقيق الحال فيه يستدعي بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في بيان المعنى اللّغويّ للمشتقّ وتحديد ما هو المعنى الاصطلاحيّ، وبيان ما هي النسبة بينهما من النسب الأربعة؟أمّا المشتقّ لغةً: فهو: مطلق أخذ الشيء من الشيء، واقتطاف فرع من الأصل، يقال: اشتقّ النهر من الوادي، إذا أخذ شيء من مائه(1).

لا يخفى: أنّ هناك فرقاً بين مبدأ الاشتقاق وبين نفس المشتقّ، فإنّ حمل الأوّل على الذات من قبيل: (حمل ذو هو)، إذ لا يمكن ولا يصحّ حمل البياض على الجسم بحمل المواطاة و(حمل هو هو)، وإنّما يحمل عليه بواسطة (ذي) فيقال - مثلاً -: (الجسم ذو بياض).

ص: 325


1- راجع: لسان العرب 10: 184، مادّة (شق).

وهذا بخلاف نفس المشتقّ، فإنّ حمله (حمل هو هو)، المعبّر عنه ﺑ (حمل المواطاة)؛ إذ يمكن أن يثبت المشتقّ للذات ويقال: إنّه هو الذات، ويصحّ هذا الحمل بلا واسطة، فلا يقال: (الجسم ذو أبيض). نعم، يمكن حمل المبدأ على الذات بدون ذي من باب المبالغة، كقولك: (زيد عدل)، وفي غير هذه الحالة لا يجوز.

خلافاً لما نسب إلى الشيخ هادي الطهراني(1) أنّه قد فرّق بين المشتقّ والجامد بأنّ الحمل في الأوّل (حمل ذو هو)، وفي الثاني (حمل هو هو)، مع أنّ المشتقّ يحمل بحمل (هو هو)، فيكون كحمل الجوامد، وأمّا المبدأ فهو الذي يكون الحمل فيه (حمل ذو هو).

وقد قسّموا الاشتقاق إلى ثلاثة أقسام: صغير وكبير وأكبر:

الأوّل: أن يكون الفرع موافقاً للأصل في فروعه الأصليّة وزيادة، ويعتبر فيه - أيضاً - الموافقة المعنى وفي ترتيب الحروف الأصليّة، ﻛ (المقتل) الذي هو فرع من (القتل). ويشمل أسماء الفاعلين والمفعولين والأزمنة والأمكنة والأفعالوالمصادر المزيد فيها والمجرّدة، بناءً على أنّ الأصل هو الفعل وأنّ المصدر مشتقّ منه، كما هو مذهب الكوفيّين، لا أنّ الأصل هو المصدر.

والثاني: أن يكون الفرع موافقاً لأصله في الحروف دون الترتيب فيها، ولا يشترط فيه الموافقة في المعنى، فيشمل مثل: (جذب) و(جبذ)،

ص: 326


1- انظر: منتقى الاُصول 1: 328.

المتّحدين في المعنى.

والثالث: ويعتبر فيه المناسبة بينهما في اللّفظ والمعنى، دون الموافقة فيهما، ﻛ (ثلم وثلب)، و(نهق ونعق).

وقد أحصى بعض المحقّقين(1) الفروق بينهما فأنهاها إلى خمسة عشر قسماً؛ لأنّه إمّا أن يكون المشتقّ موافقاً للمشتقّ منه في عدد الحروف الأصليّة والترتيب، وعدم التصرّف في شيء من الحروف - ﻛ (ضرب) و(الضرب) - فإنّه لم يتصرّف لا في عدد حروفها ولا في ترتيبها. وإمّا إلّا يكون موافقاً له.

وعدم الموافقة، تارةً يكون من جهة الاختلال في ترتيب الحروف من التقديم والتأخير، واُخرى يكون من جهة الزيادة والنقيصة، واُخرى من جهة القلب، كقلب الواو بالألف في كلمة (قول). وتضرب الخمسة، وهي: المجموع من صور الموافقة مع عدم الموافقة، في ثلاثة - وهي الثلاثيّة والرباعيّة والخماسيّة - لتكون النتيجة خمسة عشر.

الأمر الثاني:

أنّ النسبة بين المشتقّ بالمعنى اللّغويّ والاصطلاحيّ هي العموم من وجه؛ وذلك لاجتماعهما في أسماء الفاعلين والمفعولين، وافتراقهما في بعض الجوامد، كتلكالجوامد التي تجري على الذات باعتبار اتّصافها

ص: 327


1- الفصول الغرويّة: 59.

بالمبادئ الجعليّة، كالزوج والحرّ والرقّ، فإنّه يصدق المشتقّ عليها عند الاُصوليّ دون النحويّ.

وافتراقهما - أيضاً - في الأفعال والمصادر المزيد فيها؛ لصدق المشتقّ عليها عند النحويّ، دون الاُصوليّ.

وخلاصة القول: أنّ الفرق بين المشتقّ المأخوذ في عنوان النزاع هنا، وبين الخارج عنه في أنّ المشتقّ بالمعنى الأوّل: هو مطلق ما يكون مفهومه جارياً على الذات ومحمولاً عليها، وهو يلاحظ باعتبار اتّصافها كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض المتأصّلة والتي لها حظّ من الوجود، ولو في ضمن معروضها. أو العرضيّ الذي لا وجود له في الخارج، وإنّما الموجود هو منشأ انتزاعه كالفوقيّة والتحتيّة والزوجيّة والملكيّة، وهي من الاُمور الانتزاعيّة المحضة. ولا يفرّق بين أن يكون الجاري على الذات اسماً مشتقّاً أو اسماً جامداً.

فقد يصدق على اللّفظ اسم (المشتقّ)، ولكن، مع ذلك، لا يدخل في محلّ البحث، كأمثال المصادر المزيدة فيها. وقد يدخل في حريم البحث، ومع ذلك، لا يكون من المشتقّ اللّغويّ، كالأسامي الجامدة الجارية على الذات بملاحظة اتّصافها بعرض: ﻛ (الزوج) و(الزوجة) و(الرقّ) و(الحرّ)، ونحو ذلك... وقد يكون اللّفظ مشتقّاً، ويدخل في محلّ البحث، ويصدق عليه - مضافاً إلى ذلك -: أنّه مشتقّ باعتبار المعنى اللّغويّ.

ص: 328

وأمّا خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها: فلأنّها وإن صدق عليها المشتقّ بالمعنى اللّغويّ، ولكن لا يصدق عليها بالمعنى المصطلح، إذ هي غير جارية على الذوات. وكذا المصادر المجرّدة.لا لما قيل: من أنّها بنفسها تكون موضوعاً، وليس هي بمشتقّة، وإنّما هي مبدأ الاشتقاق، لما سيأتي من أنّ الحقّ أنّ المصدر أيضاً من المشتقّات، وأنّ ما هو الأصل في المشتقّات ليس هو الفعل ولا المصدر كما هو معروف بين النحويّين.

وبعبارة اُخرى: فإنّ مبدأ الاشتقاق ليس هو (الضرب) أو (ضرب)، وإنّما هو (ض ر ب)، فإنّ المبدأ هو ما يسري في جميع مشتقّاته، كالخشبة التي توجد في الباب وفي الشبّاك وفي الطاولة و... و(الضرب) مشتقّ من (ض ر ب)، تماماً كبقيّة المشتقّات، والذي يسري في جميع المشتقّات إنّما هو (ض ر ب).

فظهر من جميع ما ذكرنا:

أنّ المشتقّ الذي هو محلّ البحث هو كلّ لفظ دالّ على مفهوم ينتزع من الذات ويحمل عليها بملاحظة اتّصافها بأمر خارج عن ذاتها، سواء صدق عليه أيضاً أنّه مشتقّ نحويّ - كأسماء الفاعلين والمكان - أو كان جامداً - كألفاظ (الزوج) و(الزوجة) و(الحرّ) و(الرقّ) وما إلى ذلك -.

وبهذا يخرج الذاتيّ في باب إيساغوجي، كالجنس والفصل؛ لأنّ من شرط الدخول في محلّ البحث إلّا يكون ممّا تنعدم الذات بانعدامه.

ص: 329

والوصف الذاتيّ ممّا تنعدم الذات بانعدامه، ومعه: فلا يبقى موضوع في البين أصلاً حتّى يقع مورداً للبحث، وحتّى يقال: إنّ استعمال المشتقّ فيه هل هو حقيقة أو مجاز؟ فإنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف، وإلّا يلزم الخلف، فهو لا ينقضي عن الذات إلّا وتزول الذات معه، فلا يتأتّى في النزاع الآتي.

وبعبارة اُخرى: فإنّ الأسامي الجامدة الجارية على الذات والتي تعبّر عن اتّصاف هذه الذات بذاتيّ من ذاتياتها - ﻛ (الإنسان) و(الحجر) - فإنّ الإنسان منتزع عن الذات باعتبار الإنسانيّة، والحجر منتزع عن الذات بملاحظة اتّصافه بالحجريّة -خارجة عن محلّ البحث، لأنّ مفروض هذا البحث أن تكون الذات باقيةً بعد انعدام الوصف الذاتيّ، والإنسان لا يصدق على الذات التي لم تبق إنسانيّتها، كما أنّ الحجر لا يصدق على الذات التي لم تبقَ حجريّتها، وهذا واضح.

وأيضاً: فإنّ المحمولات التي تحمل على موضوعاتها:

تارةً: تكون منبعثةً عن نفس الذات أو الذاتيّ مع قطع النظر عن كلّ شيء خارج عنها، من الزمان والزمانيّ، أو الاجتماع والافتراق، أو...

واُخرى: تكون منتزعةً عن الذات بضميمة عارض يعرض عليها، بلا فرق بين أن يكون من الأعراض المتأصّلة الخارجيّة، كالسواد والبياض المنتزعين من الأسود والأبيض، أو من الاُمور الاعتباريّة، التي ليست باُمور خارجيّة ولا ذهنيّة، كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة.

ص: 330

والذي يكون محلاً للبحث هو القسم الثاني دون الأوّل.

والسرّ في عدم وقوع الأوّل في محلّ البحث: هو ما ذكرناه من عدم بقاء الذات وانحفاظها في كلتا الحالتين، أي: حالة وجود الصفة وعدمها، وحالة وجود العارض وعدمه؛ فإنّ هذا مفقود في نظر العرف في القسم الأوّل؛ لأنّ الشيء في نظر العرف ينعدم عند فقده صورته النوعيّة وتلبّسه بصورة نوعيّة اُخرى.

ومن هنا: حكموا بطهارة الكلب إذا أصبح ملحاً؛ لأنّه من باب انعدام وجوده وحصول وجود آخر، ولم يبق هناك من مادّة أو ذات مشتركة في الحالتين.

بل قد يقال: بأنّه لم يبق مادّة وذات مشتركة حتّى بالدقّة العقليّة؛ لأنّ شيئيّة الشيء بصورته لا بمادّته، فإذا انعدمت الصورة الاُولى لزم تحقّق الصورة بدون المادّة، ويتخلّل العدم بين انعدام الصورة الاُولى ووجود الثانية، مع أنّه يستحيل بقاء المادّة بدون الصورة.فإن قلت: إنّ الصورة الاُولى لم تنعدم عند ورود الصورة الثانية.

قلت: هذا - أيضاً - محال؛ لأنّ معناه اجتماع الصورتين في محلّ واحد؛ لأنّه عند ورود صورة العلقة مع بقاء صورة المنيّ - مثلاً - يكون الشيء الواحد علقةً ومنيّاً في الوقت عينه، وهو محال.

وبعبارة اُخرى: فليس المراد من المشتقّ: المشتقّ الاصطلاحيّ الذي هو مشتقّ من المصدر - بناءً على أنّ أصل الأشياء هو المصدر، والفعل

ص: 331

مشتقّ منه - ولا خصوص اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة، بل المراد: كلّ عنوان عرضيّ جار على الذات متّحد معها وجوداً بحيث يصحّ حمله عليها، بلا فرق بين أن يكون من المشتقّ الاصطلاحيّ ﻛ (الضارب) و(المضروب)، وأن لا يكون كذلك، كبعض الجوامد التي هي من العناوين العرضيّة كالزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة.

وإن كان يظهر ممّا ذكروه في عنوان المسألة المعنى الأوّل، ولكنّ ما يظهر من كلماتهم في أثناء البحث هو التعميم لكلّ عنوان عرضيّ.

ويدلّ على ما ذكرناه: ما عن القواعد(1)، مع ما في الإيضاح(2)، وقال الشهيد(قدس سره) في المسالك(3) - تعليقاً على قول المحقّق في الشرائع(4):«ولو كان له زوجتان وزوجة رضيعة، فأرضعتها إحدى الزوجتين أوّلاً، ثمّ أرضعتها الاُخرى، حرمت المرضعة الاُولى والصغيرة، دون الثانية، لأنّها أرضعتها وهي بنته، وقيل: بل تحرم أيضاً، لأنّها صارت اُمّاً لمن كانت زوجته، وهو أولى» - ما لفظه:

«لا إشكال في تحريم الاُولى مطلقاً، لأنّها صارت اُمّ زوجته، وتحريمها

ص: 332


1- قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام 3: 25، ونقله عنه ولده في إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد 3: 52.
2- إيضاح الفوائد 3: 52.
3- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 7: 268.
4- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2: 230.

غير مشروط بشيء، وأمّا تحريم الصغيرة فمشروط بأحد أمرين: إمّا كون اللّبن للّزوج لتصير ابنته، أو كون إحدى الكبيرتين مدخولاً بها، سواء كانت الاُولى اُمّ الثانية؛ لأنّ الصغيرة تصير بنتاً لهما، فبأيّهما دخل صارت بنت زوجته المدخول بها، وهذا واضح.

وبقي الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين، فقد قيل: إنّها لا تحرم، وإليه مال المصنّف، حيث جعل التحريم أولى، وهو مذهب الشيخ في النهاية، وابن الجنيد، لخروج الصغيرة عن الزوجيّة إلى البنتيّة، واُمّ البنت غير محرّمة على أبيها، خصوصاً على القول باشتراط بقاء المعنى المشتقّ منه في صدق الاشتقاق، كما هو رأي جمع من الاُصوليّين...»، انتهى ما أردنا نقله من كلامه«.

ولا بأس هنا بنقل عبارة القواعد أيضاً، قال(قدس سره):

«ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب، فالأقرب تحريم الجميع؛ لأنّ الأخيرة صارت اُمّ من كانت زوجته، إن كان قد دخل بإحدى الكبيرتين، وإلّا حرمت الكبيرتان مؤبّداً وانفسح عقد الصغيرة».

وأمّا المرضعة الثانية، فقد بنوا تحريمها على أنّ المشتقّ حقيقة فيما انقضى، فيصدق عليها حينئذ أنّها اُمّ الزوجة، وإن لم تكن المرتضعة زوجةً فعلاً، لصيرورتها بالرضاعة الاُولى بنتاً للزوجة - أي: ربيبة له - وخروجها بذلك الرضاع عن الزوجيّة.

ولكنّ هذا التحريم، كما هو واضح، مبنيّ على تحريم اُمّ الزوجة

ص: 333

بالرضاع، لأنّ ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع، وكما أنّ اُمّ الزوجة النسبيّة محرّمة على الزوج،فكذلك تحرم عليه الاُمّ الرضاعيّة أيضاً، ولمّا كانت بنت الزوجة نسباً تحرم على الزوج بشرط الدخول باُمّها، وجمعاً ولو لم يدخل بها، فكذلك البنت الرضاعيّة للزوجة، فإنّها تحرم على الزوج بشرط الدخول باُمّّها، وجمعاً مع الاُمّّ، ولو لم يدخل بها.

ولا يخفى: أنّ هذه المسألة إنّما تتمّ لو التزمنا بكون اللّبن من غير زوج الصغيرة - أي لبن كلّ واحدة من المرضعتين - وإلّا، فإنّ حرمة الصغيرة تكون من جهة البنتيّة، لا من جهة الرضاعة.

وتوضيح كلماتهم في هذه المسألة: أنّ المرضعة الاُولى: تحرم من جهة صيرورتها اُمّّ الزوجة. وأمّا الصغيرة: فحرمتها من أجل صيرورتها ربيبةً بالرضاع، فمع الدخول بإحدى الكبيرتين تحرم مؤبّداً، وإلّا، فمع عدم الدخول تحرم جمعاً.

وأمّا المرضعة الثانية: فإن قلنا: بأنّ المشتقّ حقيقة فيما انقضى، فتحرم، كالاُولى، لصيرورتها اُمّّ الزوجة هي أيضاً، وإلّا فلا تحرم أصلاً، إلّا أن يقال: بأنّه لا حاجة إلى إثبات تحريم الثانية بالدخول في مسألة المشتقّ، بل يمكن أن يقال - كما أفاده الاُستاذ المحقّق) -:

«إنّ حصول الزوجيّة ولو كان في زمان متقدّم كاف في حرمة اُمّها، ولو في زمان متأخّر عن زمان الزوجيّة، مثلاً: لو عقد على امرأة ثمّ طلّقها، تحرم اُمّها أبداً، ولو بعد طلاق بنتها، فليكن الأمر في الاُمومة الحاصلة من

ص: 334

الرضاع أيضاً كذلك. وبعبارة اُخرى: في باب النسب تحرم اُمّ من كانت زوجته، فكذلك في باب الرضاع، وبناءً على هذا لا تكون حرمة المرضعة الثانية أيضاً مبنيّةً على مسألة المشتقّ»(1).ولكن يرد الإشكال بالنسبة إلى المرضعة الاُولى، وهو أنّ حرمتها وإن أُرسلت عند المشهور إرسال المسلّمات، ولكن بما أنّه لا شكّ في أنّ الاُمومة والبنتيّة متضايفان، والمتضايفان متكافئان قوّةً وفعلاً، وهما في مرتبة واحدة.

فبناءً على هذا: فزمان حصول الاُمومة هو زمان انتفاء الزوجيّة، وصدق هذا العنوان - وهو الاُمومة - على المرضعة موقوف على بقاء عنوان الزوجيّة للمرتضعة، وهذا لا يتحقّق في عالم الوجود، لأنّها حينما تكون زوجةً فليست باُمّّ، وحينما تكون اُمّّاً فليست بزوجة.

وقد أُجيب عن هذا: بأنّ الرضاع الشرعي بأيّ نحو حصل علّة لحصول اُمومة المرضعة وبنتيّة المرتضعة، فالاُمومة والبنتيّة في مرتبة واحدة، لأنّهما معلولان لعلّة واحدة، وما هو سبب ارتفاع الزوجيّة هو بنتيّة المرتضعة لزوجته، أي: صيرورتها ربيبةً له - فيكون ارتفاع الزوجيّة متأخّراً رتبةً عن حصول البنتيّة للمرتضعة، التي هي في مرتبة حصول الاُمومة للمرضعة، فالزوجيّة ثابتة في مرتبة حصول الاُمومة للمرضعة

ص: 335


1- منتهى الاُصول 1: 77.

والبنتيّة للمرتضعة، وإلّا، يلزم ارتفاع النقيضين في تلك المرتبة، فيتحقّق موضوع الحرمة، أي: عنوان (اُمّّ الزوجة) في رتبة حصول الاُمومة للمرضعة وحصول البنتيّة للمرتضعة.

وبعبارة اُخرى: فإنّ منشأ خروج الصغيرة عن الزوجيّة هي حرمتها الناشئة عن أنّها بنت الزوجة بالرضاعة، وهذه الحرمة متأخرّة عن هذا الصدق؛ لأنّ المعلول متأخّر عن علّته، فصدق البنتيّة متقدّم على الحرمة التي هي متقدّمة على الخروج عن الزوجيّة. فبناءً على هذا: يصدق على الصغيرة أنّها بنت الزوجة، ويكون كلّ من (الزوجيّة) و(البنتيّة) في رتبة واحدة، ولا حاجة حينئذ إلى عدّ المسألة من مسائل المشتقّ.ولكن الحقّ: أنّ هذا التوجيه وإن كان تامّاً في حدّ نفسه، إلّا أنّه لا يجدي، لأنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّ - كما أُفاده اُستاذنا المحقّق)(1) - لا يفيد في مثل هذه الموارد مع وحدة زمان حصول اُمومة المرضعة وحصول بنتيّة المرتضعة، مع ارتفاع وعدم الزوجيّة بحكم وحدة زمان العلّة مع زمان المعلول، ففي زمان حصول الاُمومة للمرضعة لا زوجيّة في البين، وإلّا، يلزم اجتماع النقيضين، مع أنّ اللّازم في التحريم اجتماع الاُمومة مع الزوجيّة في عالم الوجود زماناً، لكي يتحقّق موضوع الحكم. وعليه: فالاُولى أن يقال: إنّ حرمة المرضعة

ص: 336


1- انظر: منتهى الاُصول 1: 78.

الاُولى متوقّفة على مسألة المشتقّ أيضاً.

فإن قلت: قد ذكرتم أنّه يكفي في الحرمة اُمومة من كانت زوجته، فلا يرد هنا إشكال أصلاً.

قلنا: بناءً على هذا، فلا تكون المسألة مربوطةً بمحلّ بحثنا حتّى بالنسبة إلى المرضعة الثانية، فتحرم المرضعة الثانية أيضاً، سواء قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ أم لا.

ولكن مع ذلك، فما قاله الاُستاذ المحقّق) محلّ تأمّل؛ لأنّ مضمون كلامه: أنّه لا يشترط في بقاء المشتقّ بقاء الموضوع، بل يكفي وجوده فقط في مرحلة تشريع الحكم وبقائه، ولا ملازمة بين الموضوع والحكم في مرحلة البقاء، ومقامنا مثل مقام: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِيَ الظّالِميِنَ﴾(1)، في أنّه بمجرّد الشرك لا يكون الشخص لائقاً لمنصب الخلافة.ولكنّ هذا الكلام أجنبيّ عن محلّ البحث؛ لأنّ محلّ البحث هو حدوث الاُمومة حين ارتفاع الزوجيّة، فلابدّ من إثبات هذا العنوان للزّوجة الكبيرة، مع أنّ هذا العنوان لا يكون مقارناً لزوجيّة البنت حتّى يصدق على الكبيرة عنوان: (اُمّّ الزوجة)، وعلى البنت عنوان الزوجيّة في زمان واحد.

وعليه: فلا يكون عنوان (اُمّّ الزوجة) من العناوين التي يكفي في

ص: 337


1- البقرة: 124.

موضوعيّتها للحكم وجود الزوجيّة في آن من الآنات، مع أنّ حدوث هذا العنوان يكون في زمان ارتفاع الزوجيّة.

فلا بدّ - إذاً - من دخول المسألة في محلّ البحث، وأن يكون حكم كلتا الزوجتين - أي المرضعة الاُولى والثانية - متوقّفاً على مسألة وضع المشتقّ.

ولذا استشكل صاحب المستند) بقوله: «فلأنّ صيرورة الكبيرة اُمّ الزوجة موقوفة على كون الصغيرة زوجةً في آن صيرورة الكبيرة اُمّاً لها، وكون الصغيرة زوجةً على عدم صيرورة الكبيرة اُمّاً، فيمتنع اجتماعهما في آن. والحاصل: أنّه ترتفع زوجيّة الصغيرة، وتتحقّق اُمومة الكبيرة في آن واحد، فلم تكن الكبيرة اُمّ الزوجة أصلاً»(1).

إذا عرفت هذا:

فليس المشتقّ الذي هو محلّ البحث هو المشتقّ النحويّ الذي يشمل الأفعال والمصادر، بل هو خصوص ما يكون مفهومه منتزعاً عن الذات ويكون متّحداً معها، ﻛ (الضارب)، فإنّه يجري على الذات ويكون عنواناً لها، بل يشمل أسماء الفاعلين والجواهر ﻛ (العالم) و(العادل) و(الشجاع) وغيرها، بل والاُمور الاعتباريّة ﻛ (الملكيّة) و(الزوجيّة)، والأعراض ﻛ (البياض) و(السواد).

ص: 338


1- مستند الشيعة في أحكام الشريعة 16: 295- 296.

والاتّحاد الذي اشترطناه بين المبدأ والذات لا يفرّق فيه بين أن يكون بنحو الحلول، كالمرض والحسن والقبح؛ أو بنحو الانتزاع، كالفوقيّة والتحتيّة؛ أو كان من الاُمور الاعتباريّة، كالملكيّة والزوجيّة.

وخالف في ذلك صاحب الفصول) حيث خصّ البحث بأسماء الفاعلين، قال(قدس سره):

«هل المراد به - أي: بمحلّ النزاع - ما يعمّ بقيّة المشتقّات من اسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة وما بمعناها، وأسماء الزمان والمكان والآلة وصيغ المبالغة، كما يدلّ عليه إطلاق عناوين كثير منهم، كالحاجبيّ وغيره، أو يختصّ باسم الفاعل وما بمعناه، كما يدلّ عليه تمثيلهم به، واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه دون إطلاق بقيّة الأسماء على البواقي مع إمكان التمسّك به أيضاً؟؟ وجهان. أظهرهما الثاني؛ لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام على الأوّل» (1).

ولعلّ منشأ توهّم صاحب الفصول) اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه - على ما أفاده صاحب الكفاية)(2) -: أنّ معاني بقيّة المشتقّات - مثل كون اسم المفعول حقيقةً في الذات الذي وقع عليه المبدأ في الحال، أو كون اسم الزمان حقيقةً في الزمن الذي وجد فيه المبدأ في الحال

ص: 339


1- الفصول الغرويّة: 60.
2- كفاية الاُصول: 39.

والماضي، إلى غير ذلك - ممّا اتّفق عليه الكلّ، ما عدا اسم الفاعل، فينحصر النزاع به.

ولا بأس هنا بذكر كلامه في الفصول، قال(قدس سره):«ثمّ اعلم أنّهم أرادوا بالمشتقّ الذي تشاجروا على دلالته في المقام: اسم الفاعل وما بمعناه، من الصفات المشبّهة وما يلحق بها، على ما سنحقّقه. ولا بأس بالتنبيه على مدلول بواقي المشتقّات».

ثمّ أخذ ببيان معنى الفعل الماضي ثمّ المستقبل ثمّ اسم المفعول، ذاكراً أنّه «حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال».

إلى أن قال: «ومنها اسم الزمان، وهو حقيقة في الزمن الذي وجد فيه المبدأ ومجاز في غيره».

ثمّ قال: «ومنها اسم المكان، وهو حقيقة في المكان الذي حصل فيه المبدأ، والمرجع فيه إلى العرف، والكلام فيه كالكلام في سابقه. ومنها اسم الآلة، وهو حقيقة فيما أعدّ للآليّة أو اختصّ بها، سواء حصل به المبدأ أو لم يحصل. ومنها صيغة المبالغة، وهي حقيقة في الذات التي كثر اتّصافها بالمبدأ عرفاً وذلك يختلف باختلاف المبادئ، ولا يعتبر الاتّصاف حال النطق، ويظهر من بعضهم دخول ذلك في محلّ النزاع الآتي، وهو بعيد»(1). انتهى.

ص: 340


1- الفصول الغرويّة: 59.

الأمر الثالث:

هل يجري هذا البحث في اسم الزمان أم لا؟ قد يقال: بعدم جريانه فيه، بتقريب: أنّ الزمان - كما لا يخفى - هو من الاُمور غير القارّة - كما هو المشهور سابقاً - وهي الاُمور التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، بل ما لم ينعدم الجزء السابق منها فلا يوجد الجزء اللّاحق، وحال الزمان حال بقيّةالتدريجيات كالتكلّم - الذي كان في نظرهم من الاُمور غير القارّة بالذات، ولكنّ العلم الحديث أثبت عدم انعدام الأصوات، بل هي باقية في جوّ السماء -.

وحينئذ: فلا يبقى موضوع في البين بعد انقضاء المبدأ حتّى يقال: إنّ اسم الزمان هل هو حقيقة فيه أم لا؟ وبعبارة اُخرى: فليس للزمان أفراد ثلاثة هي: التلبّس والانقضاء والاستقبال، وإنّما له فرد واحد، وهو التلبّس فقط، ومع فرض انحصاره في هذا الفرد، فيقتضي خروجه عن محلّ البحث، ولا يقع حينئذ محلّاً للنزاع؛ إذ لا مجال فيه لأن يقال: إنّ الوصف الجاري عليه في الحقيقة هو خصوص المتلبّس بالحال أو ما يعمّ المتلبّس به في الماضي.

وقد أجاب عن هذا المحقّق صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عامّ بفرد، كما في المقام، لا يوجب أن يكون وضع اللّفظ بإزاء الفرد، دون العامّ، وإلّا، لما وقع

ص: 341

الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العامّ مع انحصاره فيه تبارك وتعالى»(1).

وحاصله: أنّ العامّ - وهو المفهوم - وإن كان له فرد واحد ومنحصر فيه، ولكنّ النزاع فيه جار كسائر المشتقّات، فيقال: بأنّ الموضوع له - الذي هو مفهوم عامّ - هل يشمل المتلبّس والمنقضي أم لا؟ نعم، لو كان محلّ النزاع هو مصداق الزمان، فحينئذ يقتضي خروجه عن محلّ النزاع؛ إذ ليس للزمان أفراد ثلاثة: تلبّسيّ وانقضائيّ واستقباليّ، وانحصار المفهوم في الفرد لا يمنع من جريان النزاع فيه، وحال هذا هو حال بقيّة المفاهيمالكلّيّة - كالشمس - ومفهوم الواجب، فإنّ مفاهيمها تكون كلّيّةً مع انحصار أفرادها في واحد، فلا تنثلم كلّيّة المفهوم بواسطة انحصار المصداق في فرد للنزاع، وينصرم الجزء السابق ويوجد آخر، وهذه هي الحركة القطعيّة، والذي هو محلّ الكلام هي الحركة التوسّطيّة، أي: ملاحظة مجموع الآنات المتخلّلة بين المبدأ والمنتهى والأجزاء شيئاً واحداً بالنسبة إلى اللّيل والنهار.

فبناءً على هذا: يمكن استصحابه إذا ترتّب عليه حكم شرعيّ، فيكون حال يوم العاشر كحال (زيد) من حيث الحدوث والبقاء، فإذا كان في ساعة منه متلبّساً بالمبدأ، وفي ساعة اُخرى غير متلبّس به، كأن يصدق

ص: 342


1- كفاية الاُصول: 40.

عليه أنّ هذه الذات كانت متلبّسةً بالحدث الكذائيّ، والآن قد انقضى عنها التلبّس، ويأتي البحث في أنّ المشتقّ هل هو حقيقة في من تلبّس أو يشمل المنقضي أيضاً؟ ومن هنا ظهر ما يقال: من أنّه يلاحظ جميع حركات الفلك المحدثة للزمان إلى آخر الدهر شيئاً واحداً، فلو اتّصف جزء من ذلك الزمان بالقتل، كأن يقال - مثلاً -: «الدهر مقتل فلان»؛ فإنّ النزاع يصحّ فيه، بأن يقال: إنّ العرض قد ارتفع، أي أنّ الحركات المجعولة موضوعاً واحداً قد ارتفعت، فهل يصحّ إطلاق ذلك العنوان ﻛ (المقتل) على الزمان الذي قد ارتفع من بعضه العرض أم لا؟ وهذا الكلام - مضافاً إلى أنّه خارج عن محلّ البحث - يستلزم أن يكون الإطلاق على الأزمنة التي تأتي بعد الزمان الأوّل أيضاً حقيقةً، أي: بناءً على كون المشتقّ حقيقةً في ما انقضى، وهذا محلّ كلام.

نعم، إطلاقه على الأزمنة المستقبلة يكون مجازاً يقيناً، وهو من باب المشافهة والمماثلة.فيقع النزاع - إذاً - بالنسبة إلى الزمان الجامد - كاليوم والشهر والسنة - دون المشتقّ ﻛ (المقتل).

ولا بدّ هنا من بيان الفرق بين المشتقّ والمصدر ﻛ (الضارب) و(الضرب) - مثلاً -، والفرق بينهما هو:

أنّ المشتقّ لا يأبى بذاته عن الحمل، بل نقول (زيد ضارب)، ولكنّ

ص: 343

(الضرب) بمفهومه يأبى عن الحمل. نعم، يمكن الحمل بضرب من التأويل - كما ذكر في محلّه - ﻛ (زيد عدل).

وهنا يقول أهل المعقول: إنّ المشتقّ مأخوذ (لا بشرط) والمبدأ مأخوذ (بشرط لا).

والمراد به: اللّابشرطيّة الحقيقيّة، والبشرط لائيّة كذلك، بمعنى: عدم الإباء عن الحمل مفهوماً وإبائه عنه كذلك، كما في الفرق بين الجنس والمادّة والفصل والصورة.

فالأوّل: كالجنس والفصل، غير آبٍ عن الحمل حقيقةً.

والثاني: كالمادّة والصورة، وهما آبيتان عن الحمل حقيقةً، وليست اللّابشرطيّة بالنسبة إلى العوارض الخارجيّة كي يكون اعتباره بيد المعتبر كما فهم صاحب الفصول(قدس سره) من كلام أهل المعقول، ولذا قال بعدم استقامة هذا الفرق؛ لامتناع محلّ العمل والحركة عن الذات وإن اعتبرا لابشرط.

الأمر الرابع:

خروج المصادر مطلقاً عن محلّ البحث، بلا فرق بين المصادر المجرّدة والمزيد فيها، وذلك لما ذكرنا:أوّلاً: في تعريف المشتقّ: من أنّ المراد منه ما كان مفهومه منتزعاً عن الذات ويكون متّصفاً بالمبدأ، فإنّ المصادر لا تجري على الذوات حتّى

ص: 344

تكون مفاهيمها منتزعةً عنها ومتّصفةً بها، وليس كحمل (العالم) على (زيد) المتّصف بالعلم. وهذا الحمل إنّما يحصل بعد اتّحاد الذات مع الوصف ووجوده، إذ بدون الاتّحاد وجوداً لا يصحّ الحمل.

وتوضيح ذلك: أنّ الاتّحاد على أقسام:

الأوّل: الاتّحاد الخارجيّ، كما في قولك: (الإنسان قائم)، فإنّهما متغايران مفهوماً ومتّحدان مصداقاً وخارجاً.

والثاني: الاتّحاد الماهويّ، كما في قولك: (الإنسان حيوان ناطق)، فإنّهما من جهة المفهوم متغايران بالإجمال والتفصيل، لوضوح بساطة المفهوم في الأوّل، وتركّب المفهوم في الثاني.

والثالث: الاتّحاد المفهوميّ، كما في قولك: (الإنسان إنسان)، فإنّهما متّحدان مفهوماً وماهيّةً وخارجاً، والتغاير بينهما اعتباريّ، ولو بالإجمال والتفصيل، فإنّ (الإنسان) الأوّل إشارة إلى الذات، والثاني إشارة إلى الذات بذاتيّاتها التي بها يمتاز عمّا عداها، ولو لم يكن هذا التغاير، لم يصحّ حمل أحدهما على الآخر، لأنّ ملاك الحمل هو الهوهويّة والاتّحاد من جهة، والمغايرة من جهة اُخرى.

وثانياً: عدم وجود جامع في المصدر بين حالة الوجود - وهو التلبّس - وحالة العدم - أي: الانقضاء - حتّى يمكن إجراء نزاع المشتقّ فيه، ولا معنى - حينئذ - لخروج المصادر المزيدة عن محلّ البحث، بل تكون المصادر - مطلقاً - خارجة.

ص: 345

ولعلّ تخصيصهم البحث بالمزيد لتخيّلهم بأنّه هو المشتقّ، والحقّ: أنّ المصدر المجرّد أيضاً من المشتقّات؛ لأنّ الأصل في الكلام هو (ض ر ب) لا(الضرب)، بل (الضرب) أيضاً مشتقّ، وهو - أعني: الأصل - عبارة عن المادّة السارية، أي: المأخوذة (لا بشرط) من حيث اللّفظ عن جميع الهيئات، كما هو شأن مطلق الموارد، بالنسبة إلى الأشياء التي تصنع منها، كما سنشرحه فيما يأتي إن شاء الله.

فإن قلت: إنّ (ض ر ب) - مثلاً - لو كان هو أصل المشتقّات، فلابدّ لها من معنىً، ولا معنى لها.

قلت: إنّما يتحصّل معناها في ضمن الهيئة، ﻓ (ض ر ب) - مثلاً - لو دخلت في ضمن هيئة (ضرب) يصبح لها معنى.

ومن هنا ظهر: خروج الأفعال عن محلّ النزاع أيضاً؛ لأنّها لا تجري على الذوات حتّى تكون مفهوماً منتزعاً عن الذات:

لا بمادّتها؛ لأنّها عبارة عن نفس الطبيعة المعرّاة عن كلّ خصوصيّة، وتسمّى في مبحث المشتقّ ﺑ (المبدأ).

ولا بهيئاتها؛ لأنّها عبارة عن كيفيّة قيام المبدأ بالذات بأيّ نحو كان، من الحدوثيّ والصدوريّ والحلوليّ.

ويظهر ممّا نسب إلى صاحب البدائع(قدس سره): عدم دلالة الفعل إلّا على نفس النسبة، حيث يقول:

«الأفعال إنّما تدلّ على نسبة المعنى إلى الذات، لا المعنى والذات،

ص: 346

وإن كانا مدلولاً عليهما التزاماً، لأنّ الدالّ على النسبة يدلّ على المنتسبين بالضرورة دلالةً التزاميّةً»(1)، انتهى.

وخلاصة الفرق بين هيئات الأفعال وهيئات الأسماء المشتقّة من جهات:الاُولى: أنّ مفاد الهيئات عبارة عن الربط الخاصّ بين مفهومين: أحدهما: مفهوم الحدث، والثاني: مفهوم الذات الذي وقع منها الحدث. فحال الهيئات حال الحروف - كما قيل - لأنّ الحروف تدلّ على ربط خاصّ بين شيئين متمايزين باللّحاظ، وكذلك تكون هيئة الأفعال.

وأمّا هيئة المشتقّ: فهي عبارة عن ربط الحدث بالذات على نحو الاتّحاد حتّى يمكن انتزاع العنوان عنه.

والثانية: أنّ مفهوم المشتقّ، بما هو في الذهن، يكون حاكياً عمّا في الخارج بلا زيادة ولا نقيصة، فيكون هناك مطابقة تامّة بينهما. وأمّا الفعل: فلا يكون مفهومه، بما هو في الذهن، حاكياً عمّا في الخارج؛ لأنّه بحسب الذهن عبارة عن الذات والحدث، وفي الخارج عبارة عن الذات المتلبّسة بالمبدأ والحدث.

والثالثة: أنّ مفهوم الفعل يدلّ بنفسه على أنّ هناك شيئاً في الخارج يطابقه، سواء كان على نحو الإخبار أو الإنشاء، لكون النسبة فيه نسبةً

ص: 347


1- نسبه إليه في: منتهى الدراية 1: 235، وانظر بدائع الأفكار: 174.

تامّة، وهي المقصودة بالدلالة عليها والنظر إليها والتصديق بها.

والرابعة: أنّ الفعل دالّ على خروج الحدث من القوّة إلى الفعل، ومن العدم إلى حيّز الوجود، بخلاف الاسم المشتقّ، فإنّه يدلّ على اتّصاف الذات بذلك الحدث الذي تحقّق وصار فعليّاً.

وبناءً على ذلك: يكون مدلول الاسم المشتقّ متأخّراً رتبةً عن مدلول الفعل، فإنّ اتّصاف الذات بالحدث متوقّف على صدوره منها، وأمّا مفهوم المشتقّ: فإنّ حاله حال سائر المفاهيم التصوّريّة، والنسبة التي تشتمل عليها هي من مقوّمات مفهوم المادّة، فلا يكون مفهومه كمفهوم الفعل ناظراً بطبعه إلى مطابقه في الخارج، فحاله حال الجوامد من هذه الجهة، فكما أنّ مفهوم (رجل) غير دالّ على كونه ذا مطابقفي الخارج عند تصوّره، بخلاف الفعل؛ فإنّه إذا قال: (ضرب) - مثلاً - فبمجرّد أن يسمع السامع منه ذلك يتصوّر أنّ هذا الشيء قد وقع في الخارج فعلاً، وأنّ له في الخارج مطابقاً.

الأمر الخامس:

ماالمراد من الحال؟ لا يخفى: أنّ الحال على ثلاثة أقسام: حال التلبّس، وحال النطق، وحال الجري والانتساب، والمراد من الأوّل: حال التلبّس بالمبدأ، والمراد من الثاني: حال النطق، وهي: زمان الحال، لا الماضي ولا

ص: 348

المستقبل، ومن الثالث: حال الجري والانتساب.

ولا يخفى: أنّ المراد ﺑ (الحال) في مفروض المسألة هو: حال التلبّس خاصّةً، وهي تنطبق على الماضي والحال والاستقبال.

ولكنّ ما يظهر من المحقّق القمّيّ(قدس سره) - فيما نسب إليه -: أنّ المراد من (الحال) هو حال النسبة(1).

ومعنى (حال التلبّس) هو: الاتّصاف بالمبدأ، بمعنى: أنّ للذّاتيّ المتلبّسة بالمبدأ حالات متعدّدةً حال تلبّسها به، وحال انقضاء المبدأ عنها، وحال عدم تلبّسها به.

وبعد.. فإنّه لا إشكال في كونه مجازاً فيها، أي: في حال عدم تلبّسها بها بعد، ولكن محلّ النزاع هو فيما إذا انقضى عنه المبدأ. فإن قلنا: بأنّه قد وضع للأعمّ من حال تلبّسه به وحال انقضائه عنه، كان حقيقةً، وأمّا إن قلنا: هو مختصّ بحال التلبّس، كان مجازاً.ويمكن تصوير الحالات الثلاث في هذا المثال:

وهو ما إذا كان (زيد) راكباً قبل يوم أمس، فلو قلت: «زيد راكب أمس»، فحال التلبّس هو الحال الذي وقع قبل يوم أمس، وحال الجري والانتساب هو أمس، وحال النطق هو حال التلفّظ بالفعل. وأمّا لو قلت: «زيد راكب الآن»، وكان زيد في الحقيقة راكباً في هذا الحال، فهنا تتّحد

ص: 349


1- انظر: عناية الاُصول 1: 130.

الحالات الثلاث: النطق والتلبّس والجري.

ولا إشكال - حينئذٍ - في كون المشتقّ حقيقةً بلا خلاف. كما أنّه يكون بنحو الحقيقة إذا كان زمان التلبّس والجري متّحدين، كما إذا قلت: «زيد راكب أمس»، بحيث يكون (أمس) قيداً لكليهما، أو: «سيكون زيد راكباً غداً» أيضاً كذلك؛ لأنّ الجري والانتساب يكون بحال التلبّس، لا حال النطق.

وأمّا إذا اختلف حال التلبّس والجري، كما إذا كان الجري والانتساب في الحال، والتلبّس في المستقبل، فهو - لا محالة - يكون مجازاً، كقولك: «زيد راكب غداً»، إذا جعل (الغد) قيداً للتلبّس فقط دون الجري، وان اتّحد زمان النطق مع زمان الجري.

وأمّا إذا تحقّق التلبّس في الزمان الماضي، وكان زمان الجري والانتساب هو الحال، فقد وقع هذا محلّاً للخلاف، في أنّ استعمال المشتقّ حينئذ هل هو حقيقة أو مجاز؟ وممّا ذكرنا: ظهر أنّ المراد من (الحال) ليس هو زمان النطق، إذ لو كان المراد منه زمان النطق لكان مثل قولنا: «زيد كاتب أمس» أو «سيكون كاتباً» مجازاً أيضاً.

نعم، لو استندت تلك الأوصاف إلى الزمانيات، فإنّها تدلّ على أنّ هذه الذات التي تلبّست بالمبدأ قد وقع تلبّسها بالمبدأ في إحدى الأزمنة، وذلك لأنّ هذا الحدث ما دام قد أُسند إلى الزمانيّ، فلابدّ من وقوعه في

ص: 350

زمان ما، وأنّه خال عن الزمان، وإنّما الزمان ظرف له، والدليل على أنّ الزمان لم يؤخذ فيه، لا بنحو الجزئيّة، ولا بنحو القيديّة، أنّها تنسب إلى نفس الزمان وتنسب إلى المجرّدات على نسق واحد.قد يقال: إنّ للمشتقّات ظهور في زمان الحال، وهذا الظهور هو الظهور الإطلاقيّ، ومنشؤه: إمّا من جهة انصراف إطلاق المشتقّات إلى زمان الحال، وإمّا من جهة مقدّمات الحكمة، وليس هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب؛ لانصراف الإطلاق إليه، ولا دليل على خصوص حال التخاطب.

فالنتيجة هي: حمل المشتقّ على الزمان المقابل للماضي والمستقبل؛ لأنّ إرادة غير حال النطق يحتاج إلى الدليل.

وقد يجاب عنه: بأنّ هذه الدلالة ليست من جهة الدلالة الوضعيّة، ولو لم يكن سبيل إلى إنكارها بحدّ ذاتها، بل تستفاد من ظهور الجملة عند الإطلاق، ولكن هذا لا يعني أنّ المشتقّ قد وضع لها.

وبعبارة اُخرى: فإنّ التبادر المثبت للوضع هو ما يكون مستنداً إلى حاقّ اللّفظ دون ما يستفاد من الإطلاق، فالتبادر المستفاد من الإطلاق وقرينة الحكمة غير مفيد.

قد يقال: بأنّهم قد ذكروا - في محلّه -: أنّ إعمال اسم الفاعل عمل فعله مشروط عندهم بأن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال، فيتوهّم من ذلك أنّ الزمان جزء من مدلوله.

ص: 351

ولكن فيه: أنّ المراد من الحال هو فعليّة التلبّس إلى زمان الجري، ومن الاستقبال هو عدم فعليّة التلبّس إليه، ومعناه: أن يصبح فعليّاً فيما بعد. نعم، لو صدر منه التلبّس والانقضاء فلا يعمل عمله.

الأمر السادس:

بعدما ذكرنا أنّ الأفعال لا تدلّ إلّا على نسبة المادّة إلى الذات - سواء كان بمعنى تحقّق النسبة كالفعل الماضي، أو ترقّب وقوعها كالمضارع، أو طلب تلك النسبةكفعل الأمر - فقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره): أنّه «قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان»(1).

وقال شيخنا البهائيّ) في كتاب الصمديّة: «والفعل كلمة معناها مستقلّ مقترن بأحدها، أي: أحد الأزمنة الثلاثة»(2).

وقال نجم الأئمّة في حدّ الفعل: هو: «ما دلّ على معنىً في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة»(3). وكذا قال غيره من النحويّين: بأنّ الزمان دخيل في الفعل.

ولكنّ الحقّ: عدم دلالة الفعل على الزمان، لا من جهة المادّة، ولا من جهة الهيئة.

ص: 352


1- كفاية الاُصول: 40.
2- جامع المقدّمات: 220 - 221.
3- شرح الرّضيّ على الكافية 4: 5.

أمّا من جهة المادّة: فلأنّها لا تدلّ إلّا على الحدث، ثمّ هي مشتركة بين الأسماء والأفعال المشتقّة، فلو كانت دالّةً على الزمان، لكانت الأسماء المشتقّة أيضاً دالّةً على الزمان.

وبعبارة اُخرى: فإنّ المادّة في فعل الأمر لا تدلّ إلّا على طلب الفعل وتركه، دونما دلالة على الزمان أصلاً، وأمّا هيئته فهي لا تدلّ إلّا على إنشاء الطلب، فليس ثمّة ما يوجب الدلالة على الزمان.

وأمّا من جهة الهيئة: فلأنّها لا تدلّ إلّا على نسبة المادّة إلى الفاعل. أو فقل: إنّ مدلولها هو المعنى الحرفيّ، والزمان المدلول عليه الفعل هو المعنى الاسميّ، فيلزم من ذلك أن يكون لها معنيان: الاسميّ والحرفيّ، وهو كما ترى.ومن قال بأخذ الزمان في مدلول الفعل استدلّ بأمرين:

الأوّل: اتّفاق النحويّين.

والثاني: التبادر.

والجواب عن الأوّل: أنّ هذا الاتّفاق والإجماع ليس بحجّة؛ بل هو إنّما يكون حجّةً إذا كان كاشفاً عن قول المعصوم(علیه السلام)، فإنّ من المعلوم: أنّ الإجماع الذي يكون حجّةً هو الإجماع التعبّديّ الكاشف عن قول المعصوم(علیه السلام). نعم، إنّما يكون هذا الاتّفاق والإجماع حجّةً إذا كانا كاشفين عن تنصيص الواضع، وهو غير معلوم، لاحتمال أن يكون قولهم عن اجتهاد منهم.

ص: 353

وأمّا الثاني فقد أُجيب عنه: بأنّه غير مفيد؛ لأنّ التبادر إنّما يكون حجّةً إذا كان من حاقّ اللّفظ - بناءً على حجّيّته - وبأصالة عدم القرينة لا يثبت أنّه من حاقّ اللّفظ.

فالحقّ: في باب دلالة الفعل على الزمان هو: ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)، خلافاً للمشهور بين النحاة. ورأى المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره)(1): أنّ المشتقّ يكون مقيّداً بالسبق واللّحوق، وهما - بناءً على هذا المبنى - مدلول ضمنيّ للفعل، وبناءً على مبنى صاحب الكفاية) مدلول التزاميّ، لأنّ الزمان ليس جزءاً لمدلول الفعل، كما مرّ.

وما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) في وجه اشتباه النحويّين، هو التالي، قال(قدس سره):

«وهو اشتباه ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر: نفس الإنشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال علىالزمان إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيّات، وإلّا، لزم القول بالمجاز والتجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجرّدات»(2).

ص: 354


1- انظر: منتقى الاُصول 1: 338.
2- كفاية الاُصول: 41.

وملخّص ما ذكره: أنّه من الواضح عدم دلالة فعل الأمر ولا النهي إلّا على إنشاء طلب الفعل أو الترك، بل يمكن منع دلالة غير الأمر والنهي على الزمان، تماماً كالماضي والمضارع.

نعم، لو أنّه أسند إلى الزمانيّات، أي: الذي يوجد في الزمان، كما في قولك: (جاء زيد) و(يجيء عمرو)، فهو يدلّ عليه، ولكن بالدلالة الالتزاميّة، لا التضمّنيّة، أي: فلا يكون الزمان حينئذ جزءاً من مدلول الفعل، وإلّا، فلو قلنا بمقالة النحويّين لكان لا بدّ من التجريد والتجوّز عند إسناد الفعل إلى نفس الزمان أو إلى المجرّدات، كما في مثل قول القائل: (مضى الزمان) أو (علم الله)، فإنّه - حينئذ - يكون المعنى: أنّه تعالى متّصف بالعلم بالزمان الماضي، فيجب تجريده لا محالة لأنّه جلّ وعلا عالم على الإطلاق. ولا بدّ أن يستعمل فيما عدا الزمان، وأمّا فيه: فيلزم التجوّز.

نعم، لو أُسند إلى الزمانيّ - وهو ما يكون الزمان ظرفاً لوجوده، بخلاف المجرّدات عن الزمان كالباري تعالى والنفس - فيدلّ على الزمان، ولكنّ هذه الدلالة ليست من حاقّ اللّفظ، بل إنّما تفهم من الإطلاق والاستناد إلى الزمانيّات.

ويمكن الاستدلال على عدم جزئيّة الزمان لمدلول الفعل باُمور:

الأوّل: أنّه لو كان مدلولاً للفعل لكان مدلولاً لهيئته أو لمادّته؛ لأنّ الدلالة منحصرة فيهما، ونحن نرى: أنّ مادّته لا تدلّ إلّا على نفس

ص: 355

الطبيعة المجرّدة.وأمّا الهيئة: فهي لا تدلّ إلّا على نسبة المادّة إلى الفاعل، وهو معنىً حرفيّ - كما ذكرنا - والزمان له معنى اسميّ، أي: له معنى استقلاليّ، فكيف يمكن أن تدلّ الهيئة، وهي من المعاني الحرفيّة، على الزمان الذي هو معنىً اسميّ؟(قدس سره) والثاني: لو كان الزمان مدلولاً للفعل، للزم دلالته على أمرين متباينين بإطلاق واحد، وهما النسبة إلى فاعل مّا والزمان.

والثالث: أنّ النسبة إلى فاعل مّا من المعاني الحرفيّة، والزمان معنىً اسميّ، فدلالة الهيئة عليهما تستلزم صيرورتها اسماً وحرفاً في آن واحد.

والرابع: لو كان الفعل دالّاً على الزمان، فلا يجوز استعماله مع نفس الزمان، كقولك: «مضى الزمان» و«خلق الله الزمان»، لأنّ الزمان لا يمكن أن يكون في زمان آخر، بل لا بدّ عند الاستعمال من التجريد عن الزمان، وهو خلاف الوجدان؛ لعدم الفرق بين إسناد الفعل إلى الزمانيّ وبين إسناده إلى الزمان نفسه، بل إلى المجرّدات عن المادّة، سواء كان من صفات الذات - كقولك: «علم الله» جلّ جلاله - أو من صفات فعله - كقولك: «خلق الله الأرواح» - فلو فرض أنّ الزمان مأخوذ في مدلول الفعل، فلابدّ من تجريده حينما ينسب إلى المجرّدات، كما في هذه الأمثلة المذكورة.

والخامس: لو كان الفعل دالّاً على الزمان لما جاز إسناده إلى الزمان

ص: 356

ولو بنحو التجوّز أيضاً؛ لاستحالة وقوع الحدث المسند إلى الزمان في الزمان، مضافاً: إلى عدم وجود علقة مصحّحة للاستعمال حتّى يصحّ استعماله مجازاً، ومجرّد وجود علاقة الكلّ والجزء بينهما غير مفيدة؛ لأنّه هذه العلقة لا تكون مصحّحةً لجواز الاستعمال.

والسادس: عند إلقاء الجملة، فلابدّ من لحاظ الطرفين من السبق أو اللّحوق، والمفروض عند الاستعمال أنّه لم يلحظ السبق ولا اللّحوق.فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الفعل لا يدلّ على الزمان بأقسامه الثلاثة بالدلالة التضمنيّة، بحيث يكون الزمان جزءاً لمدلوله.

نعم، هناك خصوصيّة في الفعل، سواء كان ماضياً أو مستقبلاً أو حالاً، و هذه الخصوصيّة تكون هي المسبّبة لاستلزام الزمان، وبها يمتاز كلّ منها عن الآخر، وهذه تدلّ على تحقّق المادّة وخروج الحدث من القوّة إلى الفعل، ومن العدم إلى الوجود، وهذه الخصوصيّة في الماضي دالّة على قصد الحكاية عن تحقّق شيء قبل زمان التكلّم، وتكون موجودةً في الماضي في جميع موارد استعمالاته، أي: بلا فرق بين أن ينسب إلى الزمانيّ - كقولك: (مضى زيد) - أو إلى الزمان - كقولك: (مضى الزمان) - أو إلى ما فوق الزمان - كقولك: (علم الله) - وفي جميع هذه الموارد يدلّ على تحقّق هذه الاُمور قبل زمان التكلّم، وإن كان الزمان لا يقع في الزمان، وكذا الفعل الذي صدر ممّن هو ما فوق الزمان.

وأمّا في المضارع، فإنّ هذه الخصوصيّة توجب التهيّؤ والتصدّي

ص: 357

لتحقّق المبدأ في حال تحقّق التكلّم إن كان بمعنى الحال، أو ما بعده إن كان بمعنى الاستقبال، من دون أن يدلّ على وقوعه في الزمان.

إذاً: فلا يدلّ الفعل الماضي والمضارع على الزمان بنحو التضمّن، وإنّما تكون دلالتهما عليه على نحو الالتزام.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّهما - أي: المشتقّ والفعل - خاليان عن الزمان.

ويؤيّد ذلك: استعمال فعلي: الماضي والمضارع في الزمان الماضي والمستقبل الإضافيّين، ولا يكونان ماضيين ومستقبلين حقيقيّين، كما في قولك: «جاء زيد قبل سنة وهو يضرب غلامه» و«يجيء زيد في شهر كذا وقد ضرب عمراً قبله بأيّام».وليس مثل هذا الاستعمال عند أهل المحاورة مجازاً، مع أنّه لو كان الزمان جزءاً للماضي أو المضارع لكان مجازاً لا محالة، الأمر الذي يكشف عن عدم دلالته عندهم على الزمان.

وأمّا لو كانت دلالته على الزمان بالإطلاق عند إسناده إلى الزمانيات، فلا يلزم تجوّز أصلاً، كما لا يخفى.

وقد استُشكل على هذا: بأنّ المشتقّ إذا لم يدلّ على الحال أو الاستقبال لم يكن له أن يعمل عمل الفعل.

ولكنّا قد أجبنا عنه:

أوّلاً: بأنّ المراد من الحال هو فعليّة التلبّس، والمراد من الاستقبال هو عدم فعليّة التلبّس.

ص: 358

وثانياً: أنّ دلالته على الزمان إنّما هو بالقرينة، لا أن يكون بوضعه للزمان الحاضر أو المستقبل، وكما أنّهم اتّفقوا على عدم كون الزمان أحد مدلولي اسم الفاعل والمفعول، فهذا يكون مورد اتّفاق لدى أهل العربية وإن التزموا بدلالة الفعل على الزمان؟(قدس سره) وثالثاً: لو قلنا: بأنّ الزمان ليس جزءاً للمشتقّ، فلا يبقى مجال للنزاع بين الشيخ والفارابي في عقد الوضع، من أنّه يكون بالفعليّة كما يقوله الشيخ؛ أو بالإمكان كما يقوله الفارابي(1)، بل يكون هذا النزاع لغواً حينئذ.

وتوضيحه: أنّ كلّ قضيّة تنحلّ إلى قضيّتين: إحداهما: عقد وضعها، والثانية: عقد حملها، فقولنا: «الخمر حرام» ينحلّ إلى قضيّتين:

الاُولى: وجد شيء فكان خمراً.والثانية: الخمر حرام.

والنزاع بين الشيخ والفارابي من جهة القضيّة التي ينحلّ إليها عقد الوضع؛ فإنّه عند الشيخ يكون بالفعل، أي أنّه ينحلّ إلى (مطلقة عامّة) وعند الفارابي بالإمكان، أي: فينحلّ إلى (ممكنة عامّة)، بعدما ثبت بأنّ كلّ قضية لا بدّ أن تكون موجّهةً بجهة، كالفعليّة أو الإمكان أو الضرورة أو الدوام. وهذه الجهات منحصرة في جهات ثمان، وتسمّى بالقضايا البسيطة، وسبعة وتسمّى بالمركبة.

ص: 359


1- نقله عنهما في كفاية الاُصول: 53.

فنزاع الشيخ والفارابي في عقد الوضع في أنّه هل هو مأخوذ بالفعل أو بالإمكان كقولك: «زيد إنسان» أو «الخمر حرام»؟ فمعناه هو: أنّ زيداً بالفعل يكون إنساناً، أو أنّ الخمر بالفعل يكون حراماً، أو: مهما وجد شيء وأمكن أن يكون زيداً أو خمراً كان إنساناً أو حراماً.

أمّا لغوية النزاع لو قلنا بأنّ المشتقّ خال من الزمان، فلأنّ معناه: أنّ إطلاق المشتقّ على الذات منوط بفعليّة التلبّس، فيلغو كلام الفارابي من كفاية الاتّصاف بالإمكان؛ لعدم كفاية صلاحيّة التلبّس حينئذ حتّى يصحّ الاتّصاف الإمكانيّ.

ولكن هذا الكلام غير تامّ؛ لأنّ البحث هناك يكون في الجمل الحمليّة وفي القضيا التركيبيّة، أي: في أنّ المحمول في عقد الوضع للقضيّة الحمليّة هل يحمل على الموضوع بالفعل أو بالإمكان؟ وأمّا البحث في المشتقّ فهو في المفردات وفي المعاني الإفراديّة.

وعليه: فالنزاع في المشتقّ يكون أجنبيّاً عن النزاع الأوّل.

ولكن مع ذلك كلّه، فلو فرض أنّ الزمان جزء للمشتقّ فكلام الفارابيّ من أصله غير مستقيم؛ إذ إنّ تأليف القضيّة وتركيبها لا يصحّ إلّا بعد فرض اتّصاف الموضوع بعنوان أنّه موضوع في الزمان الحاضر؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.اللّهمّ إلّا أن يقال: يمكن أن يجعل ثبوته بنحو فرض الوجود - وهو الإمكان - الذي ادّعاه الفارابي.

ص: 360

الكلام في بساطة المشتقّ وعدمه:

لا يخفى: أنّ المركّب على أقسام:

الأوّل: المركّب الخارجيّ: وهو الذي يكون له أجزاء في الخارج، كالجسم الذي هو مركّب من الأجزاء الخارجيّة والأعراض التي تعرض على الجسم، فإنّها تنقسم أيضاً بالتبع إلى أجزاء.

والثاني: المركّب العقليّ: وهو الذي فرض له في العقل أجزاء، وإن كان في الخارج بسيطاً، كالنوع المركب من الجنس والفصل.

والثالث: المركّب الوهميّ: وهو الذي تركّب من الوجود والماهيّة، ولو لم يكن له جنس ولا فصل، وذلك كالعقل، فإنّه جوهر بسيط وليس له مادّة ولا صورة، ولا يحتاج إليهما، لا بالفعل ولا بالقوة، ولكنّه بالدقّة الوهميّة يتصوّر له جهتان: أُولاهما: الجهة الوجوديّة، والثانية: الجهة الماهويّة.

وأمّا البسيط: فهو الذي ليس له أجزاء، وهو على قسمين: بسيط إضافيّ، وبسيط حقيقيّ.

فالبسيط الإضافيّ: هو الذي يكون مجرّداً عن المادّة والصورة، كالعقل والنفس، فإنّهما جوهران بسيطان بالنسبة إلى المركّبات الاُخرى، وإن كانا بحسب الوهم مركّبين من الوجود والماهيّة.والبسيط الحقيقيّ: هو الذي يكون بسيطاً من جميع الجهات حتّى

ص: 361

من الوجود والماهيّة، وهذا يكون مختصّاً بذات الباري جلّ وعلا؛ لأنّه وجود محض، ومحض الوجود.

فإذا عرفت هذا: فأيّ معنىً من البسيط هو الذي اُريد في محلّ البحث؟؟ ولا بدّ هنا من بيان بساطة المشتقّ وعدمه حتّى ينكشف ما هو المراد في محلّ البحث، فنقول:

لا يخفى: أنّ هناك شكلاً آخر للبسيط، وهو بمعنى: البساطة في التصوّر، بمعنى أنّ اللّفظ إذا سمعه العاقل تصوّر منه معنىً وحدانيّاً، كلفظ (الرجل) و(الشجر)؛ فإنّه إذا سمعه تصوّر معناه، وهو الحيوان الخاصّ أو الجسم الخاصّ. ويقابل البساطة بهذا المعنى: التركيب، كلفظ (غلام زيد) و (زيد رجل).

ولا يخفى: أنّ البساطة بالمعنى الأوّل، وإن كان العقل يحلّله إلى جنس وفصل، ولكن هذه البساطة بهذا المعنى خارجة عن محلّ البحث، بل هو بحث فلسفيّ.

وأمّا المعنى الثاني: فهو أيضاً خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ المشتقّ الذي هو محلّ البحث غير المركّب بهذا النحو، بل محلّ البحث والنزاع في المشتقّ معنىً آخر من البساطة، فإنّ المشتقّ، وإن كان بسيطاً بالمعنى الأخير، بحيث لو سمع لا يتصوّر منه إلّا شيء واحد، إلّا أنّه ليس مرتبطاً بمحلّ البحث، بل المشتقّ في محلّ البحث هو الذي يكون مركّباً من المادّة والهيئة، وبما أنّهما مندمجان، أحدهما في الآخر، أمكن

ص: 362

النزاع، وذلك بأن نقول: إنّ مدلول لفظ المشتقّ هل هو عبارة عن ثلاثة اُمور - أعني: الحدث والذات والنسبة بينهما، أو الحدث والنسبة، أو الحدث الملحوظ لا بشرط - أم لا؟فمن أخذه بالاعتبار الأوّل فقد تصوّره مركّباً، ومن أخذه بالاعتبار الثاني فهو قد اعتبره بسيطاً من حيث الذات ومركّباً من ناحية النسبة، ومن أخذه بالاعتبار الثالث فمعناه: أنّه بسيط حتّى من ناحية النسبة والذات أيضاً.

ولا يخفى: أنّ الاحتمالات في مفهوم المشتقّ على أقسام:

أحدها: أن يكون مركّباً من الذات ومبدأ الاشتقاق والنسبة بينهما، ولكنّ هذه الاُمور تأتي بصورة وحدانيّة في الذهن، وأمّا صورتها التفصيليّة فهي مفاد الجملة. وبعبارة اُخرى: فإذا قلت: (ضارب)، فلا يأتي في الذهن إلّا صورة وحدانيّة.

وأمّا إذا قلت: (زيد ضارب)، فهذه صورة تفصيليّة للاُمور الثلاثة، ﻓ (ضارب) عين ذلك المعنى التفصيليّ، ولكنّه يدخل إلى الذهن بنحو الإجمال. فالذي يقول فيه: أنّه مركّب فإنّما أراد هذا المعنى، يعني: الصورة التفصيليّة.

والثاني: أنّ مفاد المشتقّ هو المبدأ المنتسب إلى الذات، وأمّا نفس الذات فخارجة، فيكون مدلول المشتقّ هو الحدث والنسبة، ولازمه: أنّه على الذات - أي بالدلالة الالتزاميّة - لأنّ المبدأ المنتسب إلى الذات ملازم للذّات.

ص: 363

والثالث: أنّ الذات والمبدأ ليسا داخلين في المشتقّ، بل مفاده هو الحدث الملحوظ (لابشرط) في قبال المصدر الذي لوحظ المبدأ بالنسبة إليه (بشرط لا).

وعلى هذا: فالذات والنسبة ليسا بمدلولين للّفظ، لا على وجه التضمّن ولا على وجه الالتزام، وليس معنى (اللّابشرطيّة) أن يكون نفس هذا اللّحاظ مقوّماً للمعنى الموضوع له ليستلزم دخله فيه، وإلّا للزم هناك محاذير:

منها: أنّه لو كان اللّحاظ دخيلاً لاجتمع عند الاستعمال لحاظان؛ أحد هذين اللّحاظين هو اللّحاظ المتقوّم بالمعنى، والثاني: هو اللّحاظ الاستعماليّ، وهو على خلاف الوجدان؛ لأنّ ما يرى حين الاستعمال ليس سوى لحاظ واحد. هذا، مضافاًإلى امتناع الجمع - عقلاً - بين اللّحاظين: (اللّابشرطيّة) مع (البشرط شيء)، وهو اللّحاظ الاستعماليّ، في ملحوظ واحد.

ومنها: أن يكون الشيء الواحد متقدّماً على نفسه ومتأخراً عن نفسه برتبة، ولو فرض أنّ الموجود هناك عند الاستعمال هو اللّحاظ الاستعمالي فقط، واكتفينا به عن اللّحاظ (اللّابشرطيّ) المقوّم للمعنى؛ لأنّ المستعمل فيه يكون متقدّماً على الاستعمال بالطبع، والاستعمال متأخّر بالطبع عن المستعمل فيه، فيلزم أن يكون اللّحاظ الواحد مقوّماً للمستعمل فيه والاستعمال، وهذا اللّحاظ الواحد: تارةً يكون متقدّماً،

ص: 364

واُخرى يكون متأخّراً، في حال واحد.

ومنها: أنّه لو كان اللّحاظ مقوّماً للمعنى، فلا يمكن أن يحمل على الشيء في الخارج، أو توصيفه به؛ لأنّ معناه متقوّم بما هو في الذهن - أعني: لحاظ (اللّابشرطيّة) - وملاك صحّة الحمل هو الاتّحاد وجوداً والاختلاف مفهوماً.

فحينئذ: لا بدّ عند الحمل من تجريده عن اللّحاظ، ليأتي الاتّحاد في الخارج؛ لأنّ هذا الاتّحاد يكون مصحّحاً للحمل، وتجريده عن اللّحاظ معناه: أنّ هذا القيد يكون لغواً أبداً؛ لأنّه مع وجود هذا القيد لا يكون المعنى قابلاً للحمل على الشيء ولا للتوصيف به.

والرابع: أن يكون المشتقّ هو الذات المتلبّس بالمبدأ، أي: كون المشتقّ عبارةً عن نفس الذات، وإن كان منشأ انتزاع هذا العنوان هو تلبّسها بالمبدأ. وبعبارة اُخرى: فإنّ التلبّس يكون واسطةً في الثبوت، فيكون المبدأ والنسبة خارجين.

والخامس: أنّ المشتقّ هو الحدث، لكن ليس مطلقاً، بل حين انتسابه إلى الذات، بمعنى: أنّه ليس هو الحدث المطلق، بل حصّة خاصّة منه، فحينئذ: يكون مفاد المشتقّ هو خروج الذات والنسبة معاً عنه.إذا عرفت هذا، فالحقّ في المقام هو القول الثالث: من أنّ المشتقّ ليس بمركّب.

ص: 365

أمّا أوّلاً:

فلمّا سنبيّنه من بطلان القول الأوّل: وهو كونه مركّباً من الذات والمبدأ والنسبة.

وقد استدلّ المحقّق الكبير الشيرازي وتلميذه المحقّق السيّد محمد الأصفهانيّ رحمهما الله(1) بالدليلين: الإنّيّ واللّمّيّ.

وحاصل الدليل الإنّيّ: هو أنّ الشبه المعنويّ - كما هو معلوم في محلّه - يوجب أن يكون اللّفظ مبنيّاً، كما قال ابن مالك في الخلاصة الألفيّة:

كالشبه الوضعيّ في اسمي جئتنا *** والمعنويّ في متى وفي هنا.

وهذا الدليل هو غير الدليل الذي ذكره السيّد الشريف، وحاصله: أنّ المشتقّ إن دلّ على النسبة فلابدّ من كونه مبنيّاً؛ لتضمنّه المعنى الحرفيّ حينئذ، - أعني به: النسبة - ومعلوم أنّ من المشابهات المقتضية للبناء (الشبه المعنويّ).

هذا، مضافاً إلى أنّ الهيئة إن اقتضت الدلالة على النسبة، فيلزم على ذلك بناء المصدر؛ لأنّ هيئة المصدر أيضاً تدلّ على نسبة الحدث إلى فاعل ما، ولم يقل به أحد، وبالملازمة يثبت عدم أخذ الذات فيه أيضاً؛ لما تقدّم من استلزام أحدهما للآخر.

وأمّا الدليل اللّمّي: فهو أنّ المادّة لم توضع إلّا للدّلالة على الحدث،

ص: 366


1- نقلاً عن تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره) (غير مطبوع): 132.

وهيئة المشتقّ لا تدلّ إلّا على اتّحاد المبدأ مع محلّه، وليس هناك أمر ثالث يدلّ على النسبة أو على الذات.ووجه استحالة أخذ الذات في مفهوم المشتقّ هو: لزوم أخذ معنى المعروض في العرضيّ؛ إذ الشارب - مثلاً - هو الذات المعروضة للشّرب؛ وأخذ الجنس في الفصل، كالناطق، فإنّه هو الذات، أي: هو الجنس الذي ثبت له النطق، فيندرج الجنس في الفصل؛ والنوع في العرضيّ، كما في الإنسان الذي هو كاتب أو متعصّب - (وبشاعة ذلك غنيّة عن البيان) - هذا إذا قلنا: بانّ الناطق فصل، وإلّا، يدخل الجنس في العرضيّ.

وأمّا ثانياً:

فلما ذكرنا من أنّ المشتقّ له مادّة وهيئة، وكلّ منهما دالّ على معنىً غير المعنى الذي يدلّ عليه الآخر، فالمادّة دالّة على الحدث، والهيئة دالّة على انتساب مدلول المادّة إلى ذات ما.

وأمّا ثالثاً:

فلأنّه لو كان مركّباً من الذات، لكان حمل الموجود على الوجود الحقيقيّ مجازاً أو غير صحيح في مثل قولنا: «الوجود موجود»؛ لأنّه ليس بمركّب، مع أنّ الموجود الحقيقيّ هو الوجود، ولذا، لو أنكرنا وجوديّة الوجود كالسوفسطائيّة، لم يبق لنا شيء، والوجوديّة من الاُمور الواقعيّة الوجدانيّة، ولا يحتاج في إثباته إلى دليل.

ص: 367

وأمّا رابعاً:

فلأنّه لو فرض أخذ الذات في المشتقّ، لزم لغويّته؛ لأنّه حينئذ يلزم تجريده عن الذات ليصحّ الحمل.

وأمّا خامساً:

فلأنّه يستلزم التكرار في القضيّة؛ لأنّ معنى «زيد ضارب» حينئذ: «زيد ضارب، زيد ضارب»، إذ الضارب المحمول حسب الفرض هو ذات الضارب، والمفروض أنّهمتّحد مع زيد؛ لإناطة الحمل بالاتّحاد، مع أنّ المراد من الذات هو (زيد) فيلزم تكرار القضيّة المفيدة لمعنىً واحد. فلابدّ من تجريد القضيّة حتّى يصحّ الحمل، وهو خلاف الوجدان.

وأمّا سادساً:

فلأنّه يلزم من أخذ الذات فيه أخذ النسبة فيه أيضاً، فيلزم اشتمال الكلام الواحد على نسب ثلاث في عرض واحد.

إحداها: التامّة الخبريّة؛ لانحلال المشتقّ إلى الذات والعرض والنسبة فكانت معناه ذات ثبت له الكتابة.

والثانية: النسبة الناقصة التقييديّة؛ لأنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف.

والثالثة: النسبة التامّة الحاصلة بعد حمل المشتقّ على الموضوع، فتنقلب النسبة التقييديّة إلى التامّة، وهذا خلاف الوجدان؛ لعدم التفاوت عند أبناء المحاورة في القضيّة الواحدة الدالّة على نسبة واحدة، مضافاً إلى أنّ النسبة التقييديّة إنّما تكون في الاضافة ﻛ «غلام زيد»، وفي الوصف

ص: 368

كقولنا: «زيد العالم».

وكلا الدليلين قابل للخدشة:

أمّا دليله الإنّيّ: فلأنّ مجرّد أخذ النسبة في المشتقّ لا يوجب بناءه حتّى يكون إعرابه دليلاً على عدم أخذ النسبة فيه، ضرورة أنّه كثيراً ما يكون الاسم معرباً مع مشابهته معنى الحرف، كبعض أقسام النداء، وكما في الفعل المضارع، فإنّه مع دلالته على النسبة التي هي معنىً حرفيّ، فإنّه مع ذلك يكون معرباً، فالشبه بالحرف إنّما يوجب البناء إذا لم تغلب عليه جهة الاسميّة، وإلّا فهو معرب.

ثمّ لو فرض أنّ المشتقّ لم يدلّ على النسبة، فلا مانع من دلالته على الذات فقط، بدون النسبة، ودعوى الملازمة بين دلالته على الذات وبين دلالته على النسبة؛لاستلزام الذات والعرض للنّسبة، غير تامّة، إذ الكلام إنّما هو في الأوضاع والمعاني الإفراديّة، لا التركيبيّة المدلول عليها بالقضيّة، فيمكن وضع المشتقّ للذّات والعرض دون النسبة.

وبالجملة فهذا البرهان الإنّيّ مخدوش.

وأمّا دليله اللّمّيّ: ففيه: أنّ تلك المحاذير المذكورة هي: إمّا غير لازمة أو أنّها ليست بمحاذير.

أمّا حديث استلزامه لدخول المعروض في مفهوم العرض ففيه: أنّه لا يلزم ذلك، إذ لا مانع من دلالة اللّفظ على معنيين، ومجرّد حكاية اللّفظ عنهما لا يوجب دخول أحدهما في الآخر، كما هو واضح، وإن كان في

ص: 369

التحليل العقليّ كذلك أيضاً؛ إذ المفهوم هو نفس العرض، وبعد تحليله ينحلّ إلى ذات معروضة للعرض، ومن المعلوم: أنّ معنى «زيد ضارب» هو (زيد ذات ثبت له الضرب)؛ إذ من المعلوم استحالة اتّحاد الماهيتين المتعدّدتين، مضافاً: إلى أنّ هذا الإشكال - لو سلّم المحذور فيه - فإنّه يرد على الجوامد، كما في قولك: «زيد زوج». فلا يلزم من دخول الذات في المشتقّ دخول المعروض في العرض.

وأمّا إشكال لغويّة الوضع: ففيه: أنّه يكفي في فائدة الوضع لذلك، صحّة حمل المشتقّ على الذات، فيصحّ أن يقال: إنّ زيداً ذات ثبت له الضرب، فيما إذا قلت: «زيد ضارب».

وأمّا إشكال تكرار القضيّة: فإنّه لا مانع منه، فإنّ كلّ قضيّة تنحلّ إلى قضيّتين: إحداهما: قضيّة وضعها، والاُخرى: قضيّة حملها، وتكرار النسبة لا مانع منه ولا محذور فيه.فتلخّص من مجموع ما ذكرناه: أنّ البرهان المذكور لا يصلح لأن يكون دليلاً على بساطة المشتقّ.

فإن قلت: فإنّنا نرى بالوجدان: أنّ المتبادر والمنساق من لفظ (العالم) هو الذات المتّصفة بالعلم، أي: من انكشف لديه الشيء، والمراد من (من) هنا هو الذات.

قلت: إنّ التبادر إنّما يحصل من جهة اتّحاد الذات مع الموضوع له، وكونه طوراً من أطوار الموضوع له وفانياً في موضوعه لا من جهة

ص: 370

وضع المشتقّ للذات، فلذلك ينتقل الذهن إلى الذات، فالذات - التي هي غير العرض وتكون موضوعه - مدلول التزاميّ غالبيّ للمشتقّ؛ لأنّه في الخارج غالباً ما يكون مندكّاً وفانياً في الذات التي هي غيره، ومن هذه الجهة، يستأنس ذهن أهل العرف والمحاورة بفهم الذات المتلبّسة من المشتقّ، ولذا نجد من المستهجن جدّاً أن يدّعي أحد أنّ الوجود ليس بموجود؛ لأنّه ليس بذات ثبت له الوجود، بل - كما بيّنّا سابقاً - فالموجود الحقيقيّ هو الوجود، والمصداق الذاتيّ له هو نفس الوجود، والماهيّات الإمكانيّة الموجودة بسبب الوجود الحقيقيّ مصاديق عرضيّة لمفهوم الوجود. ويصحّ أن يقال للوجود المطلق: بأنّه مركّب، ولو قلنا: بتركيبه فيصبح ممكنا وناقصاً، فيخرج من الوجوب إلى الإمكان، مع أنّ الذي يكون موجوداً في الحقيقة هو الوجود المطلق، وأمّا بقيّة الممكنات فيكون وجودها بسبب هذا الوجود، وهي - كما قلنا - مصاديق عرضيّة لمفهوم الوجود، ولا يسري العدم إليها، فلو لم يكن الوجود موجوداً فكيف يعطي الوجود؟(قدس سره) وبعبارة اُخرى: فإنّ فاقد الشيء كيف يكون معطياً لذلك الشيء؟(قدس سره)وأمّا ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) من أنّ مفهوم المشتقّ هو الحدث المنتسب إلى الذات، بمعنى: أنّ الحدث والنسبة يكونان مدلولين للفظ

ص: 371


1- بدائع الأفكار: 169.

المشتقّ، فيكون المشتقّ دالّاً على الذات بالملازمة العقليّة.

ففيه: أنّه بناءً على هذا، فحينما يحمل المشتقّ على الموضوع، فلابدّ أن يكون هناك وجود لنسبتين اثنتين في مقام تشكيل القضيّة؛ لأنّ المشتقّ في هذا المقام ينسب إلى الذات بما له من مفهوم، فيكون معناه حينئذٍ: أنّ المبدأ المنتسب إلى الذات ينسب إلى الذات، مع أنّ المبدأ بحدّ ذاته غير قابل للحمل؛ لأنّه مأخوذ (بشرط لا). نعم، يصير قابلاً لذلك عندما يؤخذ (لا بشرط).

ويمكن أن نجيب عنه: بأنّه لا مانع من ذلك، وما يقوله المحقّق العراقيّ فإنّما هو ناظر إلى ما هو واقع الانتساب.

وقد برهن المحقّق الشريف على استحالة أخذ الذات في المشتقّ بقوله: «إنّ الذات المدّعى أخذها في المشتقّ: إمّا أن يكون المراد منها مفهوم الذات، أو مصداقه، أمّا الأوّل: فيلزمه دخول العرض العامّ في الفصل؛ لأنّ مفهوم الشيء من الأعراض العامّة. وأمّا الثاني: فيلزم أن ينقلب مادّة الإمكان الخاصّ إلى الضرورة، بداهة أنّ ثبوت شيء لنفسه ضروريّ، لأنّ معنى (الإنسان كاتب): الإنسان إنسان ثبتت له الكتابة»(1).

وقد أجاب صاحب الفصول(قدس سره) عمّا ذكره المحقّق الشريف بما لفظه: «ويدفع الإشكال بأنّ كون الناطق - مثلاً - فصلاً مبنيّ على عرف

ص: 372


1- حاشية شرح المطالع: 81.

المنطقيّين حيث اعتبروه مجرّداً عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغةً كذلك»(1).وملخّصه: أنّ (الناطق) - مثلاً - ليس بفصل حقيقيّ، بل هو لازم الفصل، وقد جعل هو مكانه، لتعذّر معرفته غالباً، فلا يلزم حينئذ دخول العرض العامّ في الفصل، إلّا انّه أخذ العرض في الخاصّة لا في الفصل.

وأجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره): بأنّه «من المقطوع أنّ مثل (الناطق) قد اعتبر فصلاً بلا تصرّف في معناه أصلاً، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى»(2).

وقد اعترض على الجواب الأوّل بعض المحقّقين): بأنّ النطق بمعنى التكلّم وإدراك الكلّيّات، وإن كان من عوارض الإنسان، إلّا أنّه بمعنى صاحب النفس الناطقة يكون فصلاً حقيقيّاً، فيلزم من أخذ مفهوم الذات أو الشيء فيه أخذ العرض العامّ في الفصل(3).

ولكن لا يخفى: أنّ (الناطق) لو كان بمعنى النفس الناطقة، فهو الإنسان، فيكون نوعاً لا فصلاً، وعليه: فالفصل الحقيقيّ غير معروف، وما ذكروه، وهو (الناطق)، فصل مشهوريّ.

ولا يخفى: أنّه إنّما عبّر عن مفهوم (الشيء) بالعرض العامّ دون الجنس؛

ص: 373


1- الفصول الغرويّة: 61.
2- كفاية الاُصول: 52.
3- أجود التقريرات 1: 69.

لأنّ الماهيّة من حيث هي هي ليست إلّا هي، والشيئيّة إنّما تعرض عليها لا بما أنّها موجودة؛ لأنّه يكون تحصيلاً للحاصل، ولا بما أنّها معدومة، لأنّه يكون من باب اجتماع النقيضين، وبما أنّ الوجود يعرض عليها في هذا الوعاء - أي: وعاء التقرّر - فإنّه يسمّى العرض العامّ، ولم يسمّ عندهم بالجنس، ﻓ (الشيء) عرض عامّ للماهيّة بما لها من التقرّر، وليس من العرض العامّ الاصطلاحيّ حتّى يستشكل فيه:بأنّ العرض العامّ هو ما كان خاصّةً للجنس البعيد أو القريب - كالمتحيّز والماشي - وليس ما وراء الجوهر والأعراض جنس حتّى يكون الشيء خاصّةً له وعرضاً عامّاً للجوهر - مثلاً -، بل يكون الشيء عرضاً لجميع الماهيّات، من الجواهر والأعراض، ولهذا يصدق (الشيء) على جميعها، وعليه: فالشيء بما أنّه شامل للجواهر والأعراض، فهو بمنزلة جنس الأجناس.

ولو سلّمنا بقاء الإشكال، وفرضنا أنّ غالب الفصول لم تكن من الفصول الحقيقيّة، لكن، مع ذلك، فلا يمكن نفي ذلك بنحو السالبة الكلّيّة؛ إذ لو قلنا: بكونها بنحو السالبة الكلّيّة، فيكون مآل هذا الكلام إلى إنكار وجود الحدّ، والقول: بعدم إمكانه، وانحصار التعاريف في الرسوم فقط.

وهذا لا يمكن المساعدة عليه - كما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره)(1) - وإنّما

ص: 374


1- تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره): 141- 142.

يصدق على الشيء أيضاً؛ من حيث إنّه يشمل الجوهر والعرض.

فتحصّل: أنّ البرهان الذي أقامه الشريف(قدس سره)، وأنّه بناءً على الأوّل: يدخل العرض العامّ في الفصل، وبناءً على الثاني: يلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضروريّة، تامّ ولا غبار عليه.

ثمّ إنّه نسب إلى الميرزا النائينيّ(قدس سره)(1): أنّه، وبعد اعترافه بأنّ الشيء يكون جنساً، أورد عليه: بأنّه إنّما يصحّ أن يكون جنساً بناءً على أصالة الماهيّة وكون الماهيّة هي الأصل؛ لأنّه لو لم نقل بأصالة الماهيّة، وقلنا بأصالة الوجود، فتكونالماهيّات أعداماً، وليس لها حظّ من الوجود، كما نقل عن صاحب الأسفار(2)، فإذاً: لا يكون (الشيء) موجوداً حتّى يكون جنساً عالياً.

ولكن قد ذكرنا في مباحثنا الفلسفيّة، ردّاً على صاحب الأسفار(قدس سره)، حاصله: أنّه ولو لم نقل بأصالة الماهيّة، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الماهيّات تكون أعداماً، بل إنّما يعني: أنّه لو قلنا بأصالة الوجود وأنّ المفاض الأصليّ هو الوجود، فالماهيّة تكون موجودةً بالتبع؛ لأنّ وجودها تابع لوجوده؛ وإن قلنا بأصالة الماهيّة، فالوجود هو الذي يكون تابعاً لها، ويظهر من هذا: أنّ الماهيّة، على كلّ حال، تكون موجودةً، غاية الأمر:

ص: 375


1- المصدر نفسه: 142.
2- منتهى الاُصول 1: 101.

أنّها موجودة تارةً بالوجود الأصليّ، واُخرى بالوجود التبعيّ.

وأجاب صاحب الفصول) عن الإشكال بما لفظه:

«ويجاب بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقاً، بل مقيّداً بالوصف، وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّاً»(1).

وحاصله: أنّه لا ينقلب الإمكان إلى الضرورة، إذ لا نسلّم لزوم الانقلاب؛ لأنّ المحمول مقيّد بقيد ممكن، وجهة القضيّة دائماً تكون تابعة لأخسّ المقدّمتين، فإذا كان القيد ممكناً فلا محالة يكون المقيّد به ممكناً أيضاً.

ولكنّ صاحب الكفاية)(2) أجاب عنه بما حاصله: أنّ تقييد المحمول بقيد غير ضروريّ أيضاً، لا يمنع من الانقلاب - أي انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة - لأنّالمحمول: إمّا ذات المقيّد، بأن يكون القيد خارجاً عن حيّزه والتقيّد داخلاً فيه؛ وإمّا مجموع القيد والمقيّد.

فعلى الأوّل: يلزم الانقلاب قطعاً، وتكون القضيّة ضروريّة؛ إذ من البديهيّ: ضروريّة حمل الإنسان المقيّد بالنطق على الإنسان.

وعلى الثاني - بنحو يكون القيد كالتقييد داخلاً -: فأيضاً يلزم

ص: 376


1- الفصول الغرويّة: 61.
2- انظر: كفاية الاُصول: 53.

الانقلاب، غايته: أنّه انقلاب جزء القضيّة لا تمامها، وذلك أنّ القضيّة تنحلّ إلى قضيّتين: الاُولى: (الإنسان إنسان)، ولا شبهة في كونها ضروريّة، والثانية: (الإنسان له النطق)، وهي ممكنة. وبالجملة: فيكون الجزء الأوّل للقضيّة ضروريّاً، والجزء الثاني: إمّا تامّاً خبريّاً، وإمّا ناقصاً تقييديّاً؛ لعدم الفرق بين الأوصاف والأخبار، بل الأوصاف قبل العلم بها أخبار، وبعد العلم بها أوصاف، كما مرّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الكلام إنّما يصحّ لو كان المراد من قولك (زيد كاتب) - مثلاً - هو الكتابة بالفعل، وأمّا إذا اُريد به: الكتابة بالقوّة، فالقيد - وهو الكتابة - ضروريّ للإنسان، فالمحمول، وهو ثبوت الكتابة للإنسان المقيّد بالكتابة، ضروريّ له.

ولكن يمكن الجواب عن أصل هذا الإشكال ببرهان الانقلاب؛ وذلك ببيان:

أنّ الكلام في مفاهيم المشتقّات كلام فيما هو من المفاهيم الإفراديّة، لا التركيبيّة، غاية الأمر: أنّه يجرّد المشتقّ عن الذات ثمّ يحمل عليها، ﻓ (الناطق) المعتبر فصلاً ومقوّماً لماهيّة الإنسان - مثلاً - إنّما اعتبر كذلك في حال تجريده عنه بحسب الاصطلاح.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّا حينما نراجع الوجدان، نستطيع أن نرى أنّ (الناطق) الذي اعتبر فصلاً، إنّما هو لفظ (الناطق) بما له من المعنى بحسب وضعه، وقد جعل معرّفاً للإنسان كذلك، لا بعد التأويل والتجريد.

ص: 377

وخلاصة الكلام: أنّ المراد من الذات - على القول بتركيب المشتقّ من الذات والمبدأ - إن كان هو مصداق الذات، فإنّه يلزم منه - مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً من المحاذير -: محذور آخر، وهو: كون المشتقّ متكثّر المعنى؛ لأنّ الذوات تكون متباينةً بالضرورة. فإذا قلنا: (زيد قائم) و(الجدار قائم) و(الصلاة قائمة)، فإنّ الذات المأخوذة في كلّ من المشتقّات في هذه الجمل مباينة للذّوات المأخوذة في غيرها.

فإذا قلنا بذلك وأخذنا في مفهوم المشتقّ مصداق الذات، يلزم تكثّر مفهوم (القائم) - لا محالة - فيخرج حينئذ عن الوضع العامّ والموضوع له العامّ، ويدخل في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ويكون بذلك مخالفاً للفهم العرفيّ.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1) من أنّ المتبادر عرفاً من المشتقّ عند إطلاقه هو الذات المتلبّسة بالمبدأ، فقد أجبنا عنه: بأنّ هذا التبادر إنّما حصل من اتّحاد الموضوع مع المحمول.

وأمّا قوله في البرهان على هذا المدّعى: «أنّه لا يمكن تصحيح حمل المشتقّ على الذات إلّا بأخذ مفهوم الشيء فيه»(2):

ففيه: أنّه لو أخذ فيه المفهوم المذكور للزم دخول الجنس أو العرض

ص: 378


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 268.
2- المصدر نفسه.

العامّ في الفصل، حتّى ولو قلنا: بأنّه ليس بفصل حقيقي، بل خاصّة؛ فإنّ (الناطق) - مثلاً - يكون من لوازم الفصل الحقيقيّ، كما ثبت في محلّه من عدم إمكان معرفة حقيقة الأشياء.حتّى لو قلنا بذلك، فإنّه يرد الإشكال أيضاً؛ لأنّه بناءً على هذا: يكون من باب دخول العرض العامّ في الخاصّة، وهو أيضاً أمر غير ممكن؛ لمغايرة كلّ منهما للآخر، فيلزم استعمال اللّفظ الواحد في معنيين.

وتحصّل: أنّ إشكال المحقّق الشريف باق على حاله، بلا فرق بين دخول الجنس في الفصل أو دخول العرض العامّ في الخاصّة، بل إنّ الحمل إنّما يصحّ لأنّه قد أخذ (لا بشرط)، وليس المراد من (اللّابشرط) هنا: اللّابشرطيّة الاعتباريّة، حتّى يستشكل: بأنّ المغايرة الاعتباريّة لا تجدي، فقولك: «زيد شيء ثبت له النطق» تحصيل للحاصل؛ لأنّ زيداً شيء فعلاً، فثبوت الشيئيّة له مرة ثانية لا يكون إلّا تحصيلاً للحاصل.

وإذا عرفت هذا، فاعلم:

أنّ الوجه والملاك في إمكان حمل المشتقّ على الذات دون المبدأ هو (اللّابشرطيّة) و(البشرط لائيّة)، نظير الجنس والفصل، والمادّة والصورة، حيث يكون الحمل بالنسبة إلى الأوّلين (لا بشرط)، وبالنسبة إلى الأخيرين (بشرط لا)، فيقال: الإنسان حيوان، أو: الناطق حيوان، أو الإنسان حيوان ناطق. ولكن لا يقال: الإنسان مادّة، أو الإنسان صورة، كما أنّ المادّة لا تحمل على الصورة، وبالعكس.

ص: 379

واستشكل فيه صاحب الفصول(قدس سره)(1): بأنّ العلم والحركة يمتنع حملهما على الذات وإن اعتبرا (لا بشرط)، وكذا (المال) لا يحمل على الإنسان، وإن كان (المتموّل) يحمل عليه.

وفيه: أنّ المراد ﺑ (اللّابشرط) ليس هو اللّابشرط بالنسبة إلى العوارض والطوارئ الخارجيّة، كالبرودة للمادّة والإيمان للرقبة بالنسبة إلى رفع العطش والعتق.كما أنّه ليس المراد أيضاً: (اللّابشرطيّة الاعتباريّة)، كاعتبار الماهيّة، حتّى تلاحظ الماهيّة بشرط تعريتها عن كلّ مادّة سواها، وحتّى لا يكون موطنها إلّا عالم العقل، بل المراد من (اللّابشرط) هو: قبول الاتّحاد وعدمه، أي: (اللّابشرط الحقيقيّ). ومن هنا: فلا يرد إشكال صاحب الفصول.

وهل هناك ثمرة لهذا البحث أم لا؟

لا يخفى: أنّ الثمرة هنا موجودة؛ إذ:

بناءً على البساطة قيل: لا يأتي البحث في أنّ المشتقّ هل هو للأعمّ أو المتلبّس؛ إذ ليس هناك من ذات أو جامع يكون محفوظاً في الحالتين - أعني: حالة العدم وحالة الوجود - لأنّه ليس معنى المشتقّ إلّا نفس المبدأ والعرض.

ص: 380


1- الفصول الغرويّة: 62.

وأمّا بناءً على التركيب فيأتي البحث في كون المشتقّ موضوعاً لخصوص من تلبّس أو للأعمّ.

ولكن الحقّ: تأتّي هذا النزاع بناءً على البساطة أيضاً؛ لأنّه إذا قلنا: بأنّ المشتقّ يدلّ على الذات، ولكن بالدلالة الالتزاميّة، فيأتي البحث في أنّه هل اُريد منه المتلبّس أو الأعمّ؟ ثمّ إنّ صاحب الكفاية)(1) ذكر:

أوّلاً: أنّه ليس هناك أصل لفظيّ يمكن أن يعوّل عليه عند الشكّ في أنّه وضع لخصوص من تلبّس أو للأعمّ؛ لأن لكلّ من الخصوص والأعمّ خصوصيّة المسبوقيّة بالعدم، فتكون أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة معارضةً بأصالة عدم ملاحظة العموم، فيسقط الأصلان معاً بالمعارضة.وثانياً: أنّ هذين الأصلين لا يجريان؛ لأنّ أصالة عدم الخصوصيّة تثبت العموم، إلّا بناءً على الأصل المثبت؛ لكونهما من المتضادّين، فأصالة عدم أحدهما لا يثبت الآخر، مضافاً إلى أنّ هذا الأصل لو فرض جريانه، فلا دليل على اعتباره في تعيين الموضوع له؛ لأنّ الثابت من اعتبار هذا الأصل إنّما هو فيما لو شكّ في أصل المراد، أي: أنّ الأصل يجري في تعيين المراد، لا في تشخيص الموضوع له.

وبعبارة اُخرى: فهو إنّما يكون حجّةً إذا كان جريانه في تعيين

ص: 381


1- راجع: كفاية الاُصول: 45.

المراد، لا في كيفيّة الإرادة، وأنّه هل كان بنحو الحقيقة أو المجاز مع العلم بالمراد؟ ولكن ذكر صاحب الكفاية(قدس سره)(1) أيضاً:

أنّ الأصل وإن لم يجر من الجهة الاُصوليّة، إلّا أنّه يجري من الناحية الفقهيّة. فإنّه إذا اتّصفت الذات بالمبدأ، ثمّ انقضى عنها التلبّس - كالمجتهد الذي زال اجتهاده والعادل الذي زالت عدالته - فيستصحب الحكم الشرعيّ الذي كان ثابتاً لها حينما كانت متلبّسةً بالمبدأ، فتكون النتيجة جواز الاقتداء به وتقليده بعد زوال الاجتهاد والعدالة.

وفيه إشكال حاصله: أنّ بقاء الموضوع شرط في جريان الاستصحاب، فلا يجري الاستصحاب مع الشكّ في بقاء الموضوع.

فإذا اتّضح ذلك نقول: إنّ الاجتهاد والعدالة، إن كانا من الجهات التقييديّة فارتفاع الحكم بارتفاعهما قطعيّ. وإن لم يكن لهما دخل، فبقاء الحكم بعد ارتفاعهما قطعيّ. فالشكّ في بقاء الحكم وعدمه شكّ في بقاء الموضوع وعدمه، فعلى جميع التقادير: لا مجال للاستصحاب؛ إذ في الصورتين الأُوليين، لا يوجد شكّ أصلاً؛ لأنّه إمّا أنيعلم بالارتفاع أو يعلم بالبقاء، وفي الصورة الثالثة، فإنّ جريان الاستصحاب مشروط ببقاء الموضوع.

وقد يقال: لعلّ جريان الاستصحاب من جهة أنّ الاجتهاد والعدالة

ص: 382


1- المصدر نفسه.

ونظائرهما ليست من الجهات التقييديّة، وإنّما هي من الجهات التعليليّة، فإنّ تلك الأوصاف ملاكات لتشريع الأحكام، وليست أجزاءً من الموضوع، فحينئذ يقع الشكّ في كونها ملاكات للحكم حدوثاً فقط أو حدوثاً وبقاءً.

والشكّ في كيفيّة الملاكات مستلزم ومستتبع للشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه، وليس من قبيل الشكّ في أصل بقاء الموضوع حتّى لا يجري الاستصحاب.

وفيه تأمّل.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ اختلاف مبادىء المشتقّات - بحسب الفعليّة كالشرب، والملكة كالاجتهاد، والشأنيّة كالمفتاح، والحرفة كالصنعة - لا يكون سبباً للاختلاف فيما نحن فيه، ولا يوجب تفاوتاً من الجهة المبحوث عنها.

فمثلاً: ما أخذ فيه المبدأ على نحو الملكة ﻛ (المجتهد) و(المهندس)، أو القوّة والاستعداد ﻛ (المفتاح) و(المكنسة)، فإنّ الانقضاء فيها لا يتصوّر إلّا بزوال القوّة والملكة والاستعداد، بمعنى أنّ العرف لا يرى وجود الفترات بين تلك الأعمال موجباً لزوال التلبّس، بل تبقى الذات متلبّسةً في نظره حتّى في تلك الفترة المتخلّلة.

وبالجملة: فالانقضاء إنّما يتحقّق فيها بزوال الملكة والاستعداد، فإذا زالت الملكة الموجودة في المجتهد، وكذا القوّة الموجود في المفتاح،

ص: 383

فيدخل في محلّ البحث حينئذ، ويقال: بأنّ المشتقّ هل هو حقيقة فيما انقضى أم لا؟ وبكلمة: فإنّ تحقّق الانقضاء في المجتهد إنّما يتصوّر بزوال الملكة، ولو لم يكن مباشراً لعمليّة الاستنباط فعلاً أو كان نائماً، فيصدق عليه حقيقةً أنّه مجتهد، وهكذابالنسبة إلى الحرفة والصناعة - كالخيّاط والبنّاء والحدّاد والنسّاج والتمّار - فإنّ التلبّس بتلك المبادئ يتصوّر بأخذها حرفةً أو صنعةً، فيصدق النجّار - مثلاً - على من اتّخذ النجارة صنعةً له، فالتلبّس بها يتحقّق حسب المزاولة والممارسة، ولا يتحقّق الانقضاء بالنسبة إليه إلّا بالإعراض وترك هذه الحرفة أصلاً. فما دام لم يعرض عنها فإنّ التلبّس بالنسبة إليه يكون فعليّاً.

وهكذا - أيضاً - بالنسبة إلى أسماء الآلات، حيث أخذ التلبّس بها على نحو القوّة والاستعداد، فإنّ هيئة (المفتاح) - مثلاً - موضوعة لإفادة تلبّس الذات بالمفتاحيّة شأناً واستعداداً، لا فعلاً وتلبّساً.

فصدق الانقضاء عليه إنّما يكون فيما إذا زالت القابليّة عنه ولو من جهة فقدان بعض أسنانه.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ (المفتاح) - مثلاً - يصدق حقيقةً على كلّ ما له قابليّة الفتح، ولو لم يقع الفتح به خارجاً، وأنّ كلّ هذه الاُمور المذكورة تقع محلّا للبحث والنزاع، غاية الأمر: أنّ الانقضاء في كلّ شيء بحسبه. والاختلاف في كيفيّة التلبّس لا يكون سبباً لخروج بعض المشتقّات عن

ص: 384

محلّ النزاع.

وملخّص القول: أنّ المبدأ:

تارةً: يكون فعليّاً فيزول بسرعة؛ كشرب الماء، فإنّ التلبّس به إنّما يصدق حين الاشتغال بالشرب، وبانتهائه ينقضي المبدأ.

وتارةً: يكون ملكةً؛ كالاجتهاد، فالتلبّس به يكون ببقاء ملكته، وان لم يكن صاحب الملكة مستنبطاً بالفعل.

وثالثةً: يكون من قبيل الشأنيّة، فالتلبّس به هو بقاء شأنيّته؛ كالمفتاح، فإن التلبّس يصدق عليه مع بقائه على هيئة المفتاحيّة وعلى قابليّته للفتح.واختلاف هذه المبادئ من حيث الفعليّة والشأنيّة وغيرهما لا يوجب اختلافاً فيما هو المبحوث عنه في المقام، أعني: وضع هيئة المشتقّ.

ومن هنا ظهر: عدم صحّة ما أفاده المحقّق النائينيّ)(1) تبعاً لصاحب الفصول(2): من خروج أسماء الآلة وأسماء المفعولين عن محلّ النزاع.

أمّا الأوّل: فلمّا ذكره في الفصول بقوله: «الحقّ أنّ المشتقّ إن كان مأخوذاً من المبادئ المتعدّية إلى الغير، كان حقيقةً في الحال والماضي، أعني: في القدر المشترك بينهما، وإلّا، كان حقيقةً في الحال فقط»(3).

فالأوّل: ﻛ (الضارب) الذي أخذ من مبدأ متعدّ إلى الغير.

ص: 385


1- نقلاً عن محاضرات في اُصول الفقه 1: 239.
2- الفصول الغرويّة: ص 60.
3- المصدر نفسه.

والثاني: كالآلات والصنائع التي يكون المبدأ فيهما لازماً.

وأمّا أسماء المفعولين: فلأنّ الهيئة فيها موضوعة لأن تدلّ على وقوع المبدأ على الذات، وهذا المعنى ممّا لا يعقل فيه الانقضاء، فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه، والمفروض: أنّ الضرب قد وقع عليها، فدائماً يصدق أنّها ممّا وقع عليه الضرب.

ولكنّك قد عرفت: أن الاختلاف في أنحاء التلبّس لا يكون سبباً للاختلاف في وضع هيئة المشتقّ.

وأمّا بالنسبة إلى ما أفاده في أسماء المفعولين: فقد أجاب عنه الاُستاذ الأعظم) بالنقض، قال(قدس سره):«لو تمّ ما ذكره لجرى ذلك في أسماء الفاعلين أيضاً، فإنّ الهيئة فيها موضوعة لأن تدلّ على صدور الفعل عن الفاعل، ومن المعلوم: أنّه لا يتصوّر انقضاء الصدور عمّن صدر عنه الفعل خارجاً؛ لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه. والمبدأ الواحد، كالضرب - مثلاً -، لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول، غاية الأمر: أنّ قيامه بأحدهما قيام صدوريّ وبالآخر قيام وقوعيّ»(1). انتهى.

فظهر ممّا ذكره(قدس سره): أنّه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلاً، فإنّ المبدأ في كليهما واحد، ومتى ما زال المبدأ، فبزواله كان إطلاق

ص: 386


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 239 - 240.

(الضارب) - مثلاً - أو (المضروب) على زيد الضارب، وعمرو المضروب، مع أنّها من الإطلاقات المنقضية عنها المبدأ لا محالة.

أصل الاشتقاق

هل المصدر أصل للكلام أم اسم المصدر أم الفعل؟ لكي يتّضح الجواب عن هذا السؤال، فلابدّ من التعرّض لبيان معاني هذه الاُمور المذكورة، فنقول:

إنّ الحدث تارةً يلاحظ في نفسه، وأنّه شيء من الأشياء، ومن دون ملاحظة انتسابه إلى ذات ما، فيصدق عليه أنّه - بهذا اللّحاظ - مفهوم «اسم المصدر».

واُخرى يلاحظ بالنظر إلى انتسابه إلى ذات ما، انتساباً مهملاً من جميع الخصوصيّات، أي: من حيث كونه قد تحقّق سابقاً أو أنّه متحقّق بالفعل أو أنّه سوف يتحقّق أو سيتحقّق أو أنّه يطلب تحقّقه، ومن هذه الحيثيّة يسمّى ﺑ «المصدر».

وبينهما فروق كثيرة:منها: أنّ المصدر يدلّ على الحدث بنفسه، وأمّا اسم المصدر فهو يدلّ عليه بواسطة المصدر، فمدلول المصدر هو اللّفظ، ومدلول اسم المصدر هو المعنى.

ومنها: أنّ المصدر موضوع لفعل الشيء، واسم المصدر موضوع

ص: 387

لأصل ذلك الشيء، ﻓ (الاغتسال) - مثلاً - موضوع لإيجاد الفعل تدريجاً، وأمّا (الغسل) فهو عبارة عن نفس ذلك الفعل باعتبار صدوره من فاعل ما، ولذا قلنا في البيع: بأنّ النهي في قوله تعالى: ﴿يَا أيّ-ُهَا ٱلّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصّلَاةِ مِنْ يَوْمِ ٱلجُمُعَةِ... وذَرُواْ ٱلبَيْعَ﴾(1)، إذا تعلّق بمعنى اسم المصدر فإنّه يكون دالّاً على فساد المعاملة؛ لأنّه عبارة عن النقل والانتقال الصادر عن البائع، من دون ملاحظة لجهة إصداره، فإذا كان ذلك النقل والانتقال مبغوضاً من قبل الشارع، فلا يتعلّق به الإمضاء، لتنافي النهي مع الإمضاء، وأمّا لو كان متعلّقاً بعنوان المصدر، فلا يدلّ على فساد المعامّلة؛ لأنّ مبغوضيّة جهة الإصدار غير مبغوضيّة ذات الصادر، ولا ملازمة بينهما، كما لا تنافي بين النهي عن جهة الإصدار وإمضاء ذات الصادر.

وبعبارة اُخرى: فإنّ اسم المصدر لا نسبة فيه أبداً؛ لأنّه عبارة عن نفس الحدث بما هو شيء وماهيّة من الماهيّات، بخلاف المصدر، فإنّه يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعل ما، فالمصدر موضوع للدّلالة على النسبة الناقصة.

وأمّا ملاحظة الحدث مغايراً للذّات ومنسوباً إليها نسبةً تامّةً متشخّصةً من حيث زمان وقوعها، فهي: تارةً تكون ملاحظةً تحقيقيّة انقضائيّة، فبهذا الاعتبار يتكوّن مفهوم الفعل الماضي. واُخرى: تكون هذه النسبة

ص: 388


1- الجمعة: 9.

على نحو ترتّب التحقّق، أي: النسبة التحققيّة التلبّسيّة بتحقّق الارتباط بين الذات والحدث، وبهذا المعنى: يتكوّن مفهوم الفعل المضارع.فالفرق بين فعل الماضي والمضارع - بعد اشتراكهما في أنّهما يكونان متباينين عن الذات وغير مندكّين فيها - أنّ نسبة الفعل الماضي مأخوذة على وجه التحققيّة الانقضائيّة، ومن هنا توهّموا: أنّ الفعل الماضي يدلّ على الزمان، وأنّ الزمان يكون جزءاً من مدلوله. ولكن قد ذكرنا آنفاً: أنّ الفعل لا يدلّ على الزمان إلّا بالدلالة الالتزاميّة، وهذا الفعل قد تكون النسبة فيه على نحو التحقّق، وهذه النسبة تارةً تكون على نحو التلبّسيّة التحققيّة - أي: التلبّس الفعلي - واُخرى:

على نحو الترقبيّة التحققيّة.

وبعبارة اُخرى: فإنّ التلبّس الكائن في الفعل هو أعمّ من التلبّس الفعليّ والمستقبليّ، ولذا قالوا: بأنّ الفعل المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، وتخيّلوا بأنّه مشترك بين الزمانين، مع أنّ الزمانين - كما ذكرنا - من لوازم مدلول هيئة المضارع، لا أنّهما من أجزاء مدلوله أو موضوعه.

وقد يلاحظ الحدث بالنسبة إلى الذات، ولكن بنحو إرادة وقوع الحدث وصدوره عن الذات المنسوب إليها، وهي النسبة الطلبيّة، أي: طلب إصدار المادّة وإيجادها على الذات، وهي النسبة التي يدلّ عليها فعل الأمر.

ص: 389

كما أنّه قد يلاحظ الحدث بالنسبة إلى الذات، ونرى أنّ هذه النسبة بينهما مأخوذة على نحو التلبّسيّة الاتّحاديّة، وعلى نحو الاندكاكيّة والاتّحاديّة الناعتيّة. وهذه تكون على أنحاء، فإنّها تارةً صدوريّة، واُخرى وقوعيّة، وثالثةً حلوليّة، ورابعةً ظرفيّة، زمانيّة أو مكانيّة.

وإذا عرفت هذا: فالكلام يقع في أنّه أيّ معنىً من هذه المعاني هو الذي يكون أصلاً في الكلام؟ فهل هو المصدر أم اسم المصدر أم الفعل بأقسامه أم المشتقّات بأقسامها؟والصحيح: أنّه ليس شيء من هذه الاُمور مطلقاً بأصل للاشتقاق، بل الأصل إنّما هو مادّة هذه الأشياء؛ لأنّ المادّة هي السارية في جميعها، وبما أنّها كذلك، فتكون قابلةً لأن تجعل أصلاً، حتّى أنّ اسم المصدر - الذي هو أبسط هذه الاُمور - ليس قابلاً لأن يكون أصلاً؛ إذ ليس له السريان الذي للمادّة، وإن كان هو موضوعاً لأصل الحدث؛ بل إنّ هذه الاُمور كلّها في عرض واحد، لإفادة كلّ منها معنىً خاصّاً من المعاني، وليس أحدها في طول الآخر، ولا متفرّعاً عن الآخر، بل كلّ واحد منها مناف للآخر، ويأبى عن الاجتماع معه.

وأنت خبير: بأنّ ما ينبغي أن يكون أصلاً إنّما هو المادّة السارية التي تكون (لا بشرط) والتي لا تأبى عن الاجتماع مع كلّ واحد من هذه الاُمور.

وبعبارة اُخرى: فإنّ عروض كلّ هيئة من هيئات الاشتقاق على مادّة

ص: 390

من الموادّ اللّفظيّة الموضوعة يكون في عرض عروض الهيئات الاُخرى على تلك المادّة، وليس إحداها واقعاً في طول الاُخرى.

فلذلك، لا يمكن أن يفرض بعض هذه المشتقّات أصلاً والبقيّة متفرّعة عليه، كما وقع النزاع بين أهل العربيّة في أنّ أصل المشتقّات ومبدأها هل هو الاسم أو الفعل؟ وأتى كلّ واحد منهم بأدلّة على مبناه(قدس سره)(قدس سره) نعم، باعتبارٍ ما، وبالعناية، يمكن أن يقال: بتقدّم بعض المشتقّات على بعض، كما ذكر بأنّ الحدث في اسم المصدر قد لوحظ بنفسه ومجرّداً عن النسبة، ولكنّه في المصدر لوحظ منتسباً بالنسبة الناقصة.

فيمكن أن يقال: بأنّ اسم المصدر هو الأصل، وأنّ المصدر مشتقّ منه؛ لأنّه دالّ عليه مع زيادة، أي: زيادة الخصوصيّة، وهي: الانتساب، ولا يعتبر في اشتقاق اللّفظأكثر من كون اللّفظ المشتقّ مشتملاً على مادّة اللّفظ المشتقّ منه ودالاً على معناه مع زيادة خصوصيّة عليه.

فيكون مدلول اسم المصدر جزءاً من مدلول المصدر، والجزء مقدّم على الكلّ بالطبع.

وكذلك يمكن أن يقال: بأنّ المصدر متقدّم على الفعل، من جهة أنّ النسبة التي في المصدر هي النسبة الناقصة، وأمّا في الفعل فهي التامّة، والنسبة الناقصة كالجزء من التامّة، فتكون متقدّمةً عليها، فالمصدر هو الأصل.

ولكن، ومن جهة اُخرى، يمكن أن يقال بتقدّم الفعل؛ لأنّ النسبة

ص: 391

الناقصة مندكّة في النسبة التامّة؛ ولكن بما أنّ انتزاع المشتقّ من الذات - أي: (الضارب) - لا يمكن إلّا بعد وقوع الحدث، إذ ما لم يقع الضرب في الخارج، لا يقال: (الضارب)، فالفعل بما أنّه هو الدالّ على وقوع الحدث فإنّه يكون متقدّماً بالطبع على الاسم المشتقّ، فيكون كالأصل بالنسبة إليه.

ولكنّ الحقّ - كما ذكرنا -: أنّ كلّ هذه المشتقّات، بما أنّ لكلّ منها صيغاً خاصّةً به - أي: مادّةً وهيئةً - فيكون كلّ منها في قبال الآخر، وفي عرض الآخر؛ إذ لا يمكن أن يفرض شيء منها (لا بشرط)؛ مع أنّ المادّة السارية في جميع المشتقّات لا بدّ أن تكون (لا بشرط) عن جميع الخصوصيّات الواردة عليها، كما هو الشأن في الموادّ الخارجيّة بالنسبة إلى الصور المختلفة التي تتلبّس بها، كالحديد أو الخشب - مثلاً - فإنّها (لا بشرط) بالنسبة إلى الأشياء التي تصنع منهما، كالسيف والسكّين والمفتاح والقفل، وأمثال ذلك في الحديد، وكالباب والسرير وغيرهما في الخشب. وتلك المذكورات كلّها ليست مأخوذةً (لا بشرط)، لا من حيث اللّفظ، ولا من حيث المعنى.أمّا من حيث اللّفظ: فلأنّ لكلّ واحدة منها هيئةً خاصّةً غير هيئة الاُخرى.

وأمّا من حيث المعنى: فلأنّ اسم المصدر عبارة عن نفس ما يصدر

ص: 392

من الفاعل أو نتيجته، والمصدر عبارة عن الفعل باعتبار صدوره، والموجود في الماضي هو النسبة التحقّقيّة الانقضائيّة، وفي المضارع هو النسبة التحققيّة التلبّسيّة أو الترقبيّة، وفي الأمر هو النسبة الطلبيّة، وفي المشتقّات النسبة التلبسيّة الاتّحاديّة.

فكلّ واحد من هذه الاُمور في عرض الآخر، ولا يمكن أن نجعله أصلاً، لأنّه ليس كالمادّة السارية التي تسري في جميع المشتقّات.

الأقوال في وضع المشتقّ

وإذا بلغنا في الكلام إلى هذا الحدّ، فنقول:

الأقوال في وضع المشتقّات كثيرة:

منها: التفصيل بين اسم الفاعل واسم المفعول، وأنّ البحث في الثاني لا يجري؛ لأنّ الواقع لا ينقلب عمّا هو عليه.

ومنها: أنّ ما كان من قبيل الملكة والحرفة والصناعة وغيرهما يكون للأعمّ، بخلاف غيرها.

ومنها: التفصيل بين المتعدّي واللّازم، ففي الثاني، يكون للأعمّ، دون الأوّل.

ومنها: الفرق بين ما إذا طرأ ضدّ وجوديّ، فهو للمتلبّس، وإلّا، فللأعمّ.

والحقّ: أنّه موضوع لخصوص من تلبّس، والدليل على ذلك:

ص: 393

أدلّة القول بالوضع لخصوص المتلبّس

الدليل الأوّل:التبادر، فإذا قلت: (زيد قائم)، فإنّه يتبادر منه تلبّس زيد بالقيام في زمان الحمل والإطلاق.

والدليل الثاني:

صحّة السلب عن المنقضي عنه مبدأ الاشتقاق.

وهذا غير مختصّ بلغة دون لغة، فمن كان عالماً - مثلاً - ثمّ زال عنه العلم يصحّ سلب العلم عنه حقيقةً، فلو كان المشتقّ موضوعاً للأعمّ من الانقضاء والتلبّس لم يصحّ هذا السلب كما لا يخفى.

وقد يستشكل على الأوّل: بأنّه إنّما يتمّ إذا كان التبادر مستنداً إلى حاقّ اللّفظ لا الإطلاق، وإحراز ذلك يحتاج إلى دليل.

وبعبارة اُخرى: فإنّ التبادر لا بدّ وأن يكون تبادراً عند العالمين بالأوضاع، فإنّ هذا هو الذي يكون علامةً على الحقيقة عند الجاهل بالوضع، ولكن بشرط إحراز أنّ التبادر كان من حاقّ اللّفظ دون القرائن أو الإطلاق، ولا سبيل إليه هنا.

وقد يستشكل على صحّة السلب: بأنّه إن اُريد بها: صحّة السلب على الإطلاق، فهو باطل - أي: صحّة سلب المشتقّ عن المنقضي على الإطلاق - بأن نقول: (زيد ليس بضارب في شيء من الأزمنة، حتّى في

ص: 394

المنقضي عنه)، وعدم صحّة هذا القول واضح؛ لأنّ زيداً كان ضارباً أمس.

وأمّا إن اُريد صحّة السلب في الحال، كأن يقال: (زيد ليس بضارب الآن)، فهو وإن كان صحيحاً - إذ المفروض انقضاء المبدأ عنه وعدم اتّصافه فعلاً بالضرب - لكنّه غير مفيد؛ لأنّ علامة المجاز هي صحّة السلب المطلق لا المقيّد.

ولا يخفى: أنّ سلب الأخصّ لا يلزم منه سلب الأعمّ، فإنّ قولك: (كلّ إنسان حيوان) لا يعني: أنّ كلّ لاإنسان فهو ليس بحيوان، بل قد يكون حيواناً، كالفرس.ثمّ إنّ السلب على أقسام:

فإنّه تارةً يكون القيد راجعاً إلى الموضوع، أي: (زيد المنقضي عنه المبدأ ليس بضارب). وتارةً يكون راجعاً إلى السلب، بمعنى: (زيد ليس في حال الانقضاء بضارب). واُخرى يكون قيداً للمسلوب - أي: المشتقّ - كقولك: (زيد ليس بضارب في حال الانقضاء).

فإذا كان القيد قيداً للموضوع صحّ أن يقال: بأنّه علامة على المجاز، بأن يقال: (زيد الذي انقضى عنه الضرب ليس بضارب مطلقاً حتّى الضارب أمس)، أي: هو ليس من مصاديقه، إذ لو كان من مصاديق (الضارب المطلق) لم يصحّ سلبه عنه بنحو الإطلاق، كما هو ظاهر؛ لأنّ نقيض الأخصّ ليس عين نقيض الأعمّ، ولأنّه ليس بضارب الآن، ولكن

ص: 395

يمكن أن يقال: بأنّه من أفراد الضارب المطلق.

وكذا إذا كان قيداً للسلب، فإنّ صحّة السلب أيضاً تكون علامةً على المجاز، كأن يقال: يصحّ سلب الضارب مطلقاً عن زيد بلحاظ حال الانقضاء، كما لا يصحّ سلبه عنه بلحاظ حال التلبّس.

وأمّا إذا كان قيداً للمشتقّ والمسلوب، بأن يكون المسلوب - أي: الضارب - هو المقيّد بحال الانقضاء فصحّة السلب في هذا المورد لا تكون علامةً على المجاز، إذ يصدق أنّ زيداً ليس بضارب فعلاً، ولا يصدق: ليس بضارب مطلقاً حتّى بالضرب الذي مضى أمس، مع أنّه يصدق عليه الضارب بالأمس.

وبعبارة اُخرى: فلو كان قيداً للموضوع، وكان السلب على نحو الإطلاق، فيمكن أن يقال: بأنّ زيداً المنقضي عنه المبدأ في هذا الحال ليس بضارب مطلقاً، بلا فرق بين الضرب الفعليّ والمنقضي عنه، وليس الموضوع مقيّداً حتّى لا تكون صحّة السلب علامةً على المجاز.والدليل الثالث:

برهان التضادّ، وهو أنّه لو قلنا: بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، يلزم اجتماع الضدّين، وذلك لأنّ المبادئ في المشتقّات تكون متضادّةً، لتضادّ القيام والقعود والسواد والبياض، وبالتبع يكون بين هيئات المشتقّات تضادّ أيضاً ، وهذا التضادّ كاشف عن أنّ المشتقّ موضوع لخصوص من تلبّس؛ لأنّا لو قلنا: بأنّه موضوع للأعمّ، فلو كان (زيد) عادلاً وظهر الآن

ص: 396

فسقه - مثلاً - فيصحّ أن يقال: (زيد عادل وفاسق)، أو كان قاعداً فقام فيصحّ في حال قيامه أن يقال: (هو قائم وقاعد).

قد يقال: بأنّ هذا التضادّ إنّما يتصوّر بين المبادئ فيما إذا كان المشتقّ بسيطاً، وأمّا إذا كان مركّباً فلا؛ لأنّه لو فرض بأنّ المراد من (القائم) هو الذات المتلبّسة بالقيام، فهناك جامع وهو الذات، فيمكن أن يلاحظ الواضع كيفيّة تلبّس الذات آناً ما بالوصف والعرض، فيضع للذّات المتلبّسة بالمبدأ آناً ما، فالقائم والقاعد موضوعان في نظره لذات تلبّس بالعلم أو القيام آناً ما، سواء بقي هذا الوصف له أم زال. إذاً: فيكون للقائم تقديران: تلبّسيّ وانقضائيّ، فيصحّ أن يقال: زيد قائم بالقيام الانقضائيّ وقاعد بالقعود التلبّسيّ.

وفيه: أنّه على خلاف الوجدان، وأنّ المتبادر في معنى كلّ من القاعد والقائم هو التضادّ، وادّعاء الخصم التبادر على خلاف هذا مخالف للوجدان.

ولكن لا يخفى: أنّه لو فرض أنّ المشتقّات تكون عاريةً عن الزمان، فوظيفة هيئة المشتقّات هي: إلصاق المبدأ بالذات وربطه بها من دون تصرّف في المبادئ والذوات.

إذاً: فالمبادئ باقية على ما عليها من التضادّ، فلا معنى للقول: بعدم التضادّ في المشتقّات وإن كان التضادّ في المبادئ موجوداً.نعم، لو أخذ الزمان في مدلول الهيئة لكان للتوهّم المذكور مجال.

ص: 397

وممّا ذكرنا: ظهر أنّ التضادّ بين المشتقّات موجود، وذلك ينافي وضعها للأعمّ.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1): من أنّه بناءً على التركيب أيضاً فلابدّ أن يكون موضوعاً للمتلبّس لا الأعمّ؛ لأنّه لو كان المشتقّ مركّباً من المبدأ والنسبة - سواءً كانت ناقصةً تقييديّةً أم تامّةً خبريّة - فلا جامع في البين حتّى يبقى مجال للنّزاع في كونه موضوعاً للأعمّ أو الأخصّ ويقال بوضعه للمتلبّس لا المنقضي عنه؛ لعدم وجود موضوع في كلتا الحالتين، وذلك لأنّه لا جامع بين وجود نسبة المبدأ وعدمه، فلا محيص عن القول: بوضع المشتقّ للأخصّ.

ففيه: أنّ مراد من يقول بالتركيب هو: أن يكون المشتقّ مركّباً من الذات والمبدأ، لا النسبة والمبدأ، فظهر: أنّ هذا البرهان غير تامّ على القول بالتركيب، فالدليل - إذاً - منحصر في التبادر وصحّة السلب.

ثمّ إنّ الميرزا النائيني(قدس سره)(2) بعد أن أذعن بأنّ بين المشتقّات تضادّاً وأنّها بسيطة ولم تؤخذ الذات في مفهومها، قال:

«إنّ مبنى التضادّ بين المشتقّات ينافي ما نقل عن أهل الميزان من عدم التضادّ بين القضيّتين العامّتين ﻛ (زيد قائم) و(زيد قاعد)، إلّا مع تقييد أحدهما بالدوام، كقوله: (زيد قائم دائماً) فإنّه ينافي: (زيد ليس بقائم)».

ص: 398


1- فوائد الاُصول 1: 121.
2- تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره): 165.

ثمّ أجاب عن هذا: بأنّ بين النظرين فرقاً، فالنظر الاُصوليّ إنّما يكون في ظواهر اللّفظ، ونظر المنطقيّ إنّما هو في الواقع، ولذا يلتزمون - لأجل حصول التنافي - بتقييد إحدى القضيّتين بالدوام؛ لأنّ نظرهم إلى الواقع. وأمّا الاُصوليّ، فبما أنّ نظره إلى ظاهر اللّفظ، فإنّ رفع التنافي عنده يكون بحسب اختلاف الزمان، فمعنى: (زيد قائم) هو: ثبوت القيام له في غير زمان عدم القيام - وهو القعود - بخلاف التقييد بالدوام، فإنّه فيه التنافي في نظرهم إذا كان الزمان واحداً.

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامّ؛ لأنّ الإخبار بأنّ (زيداً قائم وليس بقائم) مع كون الزمان واحداً يأتي فيه التنافي بنظر كليهما.

أدلّة القائلين بالأعمّ

وقد استدلّ القائلون بالأعمّ باُمور:

الأوّل: التبادر، أي: تبادر الأعمّ، لأنّه إذا قيل: (زيد ضارب)، ينسبق إلى الذهن المعنى العامّ الشامل للمتلبّس بالمبدأ والمنقضي عنه.

لكنّ ما ذكروه - مضافاً إلى ما مرّ من الإشكال على أصل التبادر - يتعارض مع القول: بأنّ المنسبق إلى الذهن هو خصوص من تلبّس بالمبدأ.

والثاني: عدم صحّة السلب في مثل: (المضروب) أو (المقتول) عمّا انقضى عنه المبدأ.

ص: 399

وفيه: أنّه تارةً يراد من (المضروب) و(المقتول) معناهما الحدثيّ، أي: تأثير الضرب والقتل فيهما حين وقوعهما. واُخرى: يراد منهما غير المعنى الحدثيّ، أي: غير معنى الاسم المصدريّ، بأن يراد من (المقتول) من اُزهقت روحه، الذي هو بمنزلة الملكة في البقاء، ويراد من (المضروب) الشخص الواقع عليه الضرب. فإناُريد الأوّل: فلا ريب في صحّة السلب. وأمّا إذا كان بالمعنى الثاني - وهو الاسم المصدريّ - فإنّ المبدأ بهذا المعنى باق وهو لم ينقض أصلاً، فعدم صحّة السلب عنهما لأنّهما متلبّسان بالمبدأ فعلاً، فلا يلزم من إطلاقه عليهما حينئذ مجاز؛ لأنّهما ليسا من باب إطلاق المشتقّ عليهما بعد أن انقضى عنهما المبدأ.

ولذا قال في البدائع: «ولك أن توجه عدم صحّة السلب في موارده بأنّ المراد بالمبدأ أمر باق، ولو مجازاً، كما في الصناعات، فيخرج عن موارده حينئذ؛ لأنّ المنقضي إنّما هو المعنى الحدثيّ لا الملكة»(1).

ومن هنا ظهر ضعف ما قد يقال: من اختصاص المفعول بعدم صحّة السلب، دون الفاعل؛ وذلك لأنّ اسم المفعول مضايف لاسم الفاعل، فإن قيل باختصاص اسم المفعول بعدم صحّة السلب فلابدّ أن يكون هناك خصوصيّة فيه غير موجودة في اسم الفاعل، وتلك الخصوصيّة، إمّا أن تكون ملحوظة في المبدأ المشتقّ منه اسم المفعول، أو في هيئته، والوجدان قاضٍ بأنّ العرف لم يتصرّف في شيء من مادّة اسم المفعول

ص: 400


1- بدائع الأفكار: 181.

وهيئته، فلم يبقَ في البين ما يوجب اختصاصه بعدم صحّة السلب دون اسم الفاعل.

ويمكن أن يجاب عن هذا: بأنّ كثرة استعمال المفعول في الأعمّ هو الذي أوجب توهّم عدم صحّة سلبه عنه، وإلّا فكيف يمكن أن يفرّق بين اسم الفاعل والمفعول بجريان صحّة السلب في الأوّل دون الثاني؟(قدس سره) مع ما نراه من عدم الفرق بينهما، وأنّهما متضائفان ومتكافئان في القوّة والفعل، ولم يختصّ الثاني بموضع خاصّ يخالف في وضعه وضع الأوّل.والثالث: قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظّالِمِينَ﴾(1)، وقوله: ﴿وَٱلسّارِقُ وَٱلسّارِقَةُ﴾(2)، وقوله: ﴿ٱلزّانِيَةُ وَٱلزّانِي﴾(3).

وقد استدلّ الإمام(علیه السلام) بالآية الاُولى على عدم لياقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الولاية والخلافة، تعريضاً بمن قد عبد الصنم مدّةً مديدة، بقوله(علیه السلام): «من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً»(4).

ولو كان المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس، لما صحّ الاستدلال بالآية قطعاً؛ لعدم اتّصافهم بهذا الوصف حين التصدّي للخلافة، كما قال

ص: 401


1- البقرة: 124.
2- المائدة: 38.
3- النّور: 2.
4- الكافي 1: 175.

الفخر الرازي: «الروافض احتجّوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر»(1)، أي: لأنّهم قد عبدوا الأوثان مدّةً مديدة.

ثمّ أجاب عن ذلك: بأنّ استدلالهم هذا إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ المشتقّ حقيقة في المنقضي لا في من تلبّس.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ التلبّس آناً ما بالظلم يمكن أن يكون كافياً لعدم لياقتهم للخلافة أبداً.

ولا يخفى: أنّ بعض أفراد الظلم آنيّ الوجود، ولا دوام له، كضرب اليتيم، وبعضها له دوام واستمرار، كالغصب والكفر.ثمّ إنّ التمسّك بالآية إنّما يتمّ فيما لو قلنا: بأنّهم حينما تصدّوا للخلافة ما كانوا عابدين للأصنام، وإلّا، فلا يمكن للتمسّك بالآية في مورد البحث.

وأيضاً: إنّما يصحّ التمسّك - في مورد البحث - وإطلاق (الظّالم) عليهم بعد الانقضاء، لو كان صدق (الظّالم) عليهم على نحو الحقيقة، لا على نحو المجاز؛ لأنّه لا يصدق (الظّالم) عليهم حقيقةً بالفعل.

وأيضاً: إنّه إنّما يصحّ، لو فهم من ظاهر الآية صدق (الظّالم)، ولو حقيقةً، مع انقضاء المبدأ عنهم، لا من باطنها، وإلّا، فلا يمكن أيضاً إلزام الخصم، ولا يمكن أن نتمسّك بالآية على المراد.

ص: 402


1- التفسير الكبير 3: 45.

وإذا عرفت هذا، فنقول: إنّ العناوين الواردة على الأشياء على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون العنوان مشيراً إلى الأفراد من دون أن يكون دخيلاً في موضوع الحكم أصلاً، فلوحظ العنوان مشيراً إلى الموضوع ومعّرفاً له، فلحاظ المشار إليه حينئذ استقلاليّ، والمشير هو العنوان، كقولك: «أكرم من في الدار»، إذا كان المقصود ذواتهم، لا كونهم في الدار.

والثاني: أن يكون العنوان دخيلاً في الحكم، وإنّما أخذ في الموضوع بنحو يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، بحيث يناط الحكم بصدق الموضوع وعدمه.

والثالث: أن يؤخذ على نحو يكون دخيلاً في الحكم حدوثاً لا بقاءً، بمعنى: أن يكون اتّصاف الذات به آناً ما كافياً في الحكم حدوثاً وبقاءً.

والظاهر: من جهة مناسبات الحكم والموضوع، هو ما استفاده الفخر الرازيّ، فإنّ عنوان (الظّلم) مأخوذ في المقام بالنحو الثالث، أي: بنحو يكفي فيه اتّصاف الذات بالوصف آناً ما في ثبوت الحكم حدوثاً وبقاءً؛ لأنّ من شأن الخلافة الدينية التي هي من أعظم المناصب الإلهيّة، بحيث يكون الاتّكاء على الوسادة النبويّة والتي هي رفيعةللغاية، ولا يمكن لأيّ شخص أن يتصدّى للخلافة عنه، فالمتصدّي لهذا المنصب القدسيّ لا بدّ وأن تكون له ذات قدسيّة، بحيث لم تدنّس بالأدناس الجاهليّة في جميع أطوارها وشؤونها.

ص: 403

فمن تدنّست ذاته، ولو في بعض أطواره، وفي بعض أيام حياته، فالمنصب الإلهيّ يكون أعلى وأرفع من أن تناله يده. فالمتصدّي للخلافة بحاجة إلى اللّياقة الذاتيّة، ولا بدّ أن يكون مثالاً أسمى وأعلى للمجتمع الإنسانيّ. هذا في نظر العقل.

وأمّا في نظر العرف فيكون كذلك أيضاً، فلذا من حدّ أو سرق، ولو تاب بعد ذلك، فإنّ العرف يراه غير قابل للتقمّص بهذا القميص الإلهيّ، ولذا اختار الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم محمّداً-، لأنّ وجوده- كان أرقى من أن تصل إليه الأرجاس والأدناس، حتّى بالنسبة إلى أصغر أنواع الظّلم وأشكاله، حتّى عرف- بالصادق الأمين، وقال فيه تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أنْفُسِكُمْ﴾(1).

وبما أنّ محطّ نظر الإمام(علیه السلام) هو أنّ من أراد اختيار هذا المنصب فلابدّ له من لياقة ذاتيّة ومن ألّا يتلبّس بالظّلم، ولو آناً ما، فاستدلّ بالآية الشريفة على عدم لياقة الثلاثة للتصدّي للخلافة، ولو في حال عدم تلبّسهم فعلاً بالظّلم والكفر.

فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الآية لا تدلّ على أنّ المشتقّ للأعمّ ممّن انقضى عنه المبدأ، وإنّما تدلّ على ذلك لو أخذ المشتقّ بالمعنى الثاني، أي: إذا كان الحكم يدور مداره وجوداً وعدماً.

ص: 404


1- التوبة: 128.

بقي الكلام في مسألتين

الاُولى: في ثمرة هذا البحث.والثانية: في دخول هذه المسألة في المسائل الاُصوليّة.

أمّا الثمرة: فقد ذكروا لها عدّة مسائل في الفقه.

منها:

كراهة البول تحت الشجرة المثمرة، بقوله(علیه السلام) «وكره البول على شطّ نهر جار، وكره أن يحدث إنسان تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت»(1). وغيرها من الروايات الدالّة على الكراهة.

قالوا: إنّه لو قلنا: بأنّ المشتقّ أعمّ ممّن انقضى عن التلبّس بالمبدأ وممّن تلبّس به، فإنّه يكره البول تحت الشجرة، ولو بعد اقتطاف الثمرة، بحيث لم يكن على الشجرة ثمرة. وأمّا لو قلنا: بأنّ المشتقّ مختصّ بمن تلبّس به، فلا يكون البول أو الحدث مكروهاً تحتها حينئذ.

ولكن يمكن أن يقال - كما ذكرنا -: إنّ بعض المبادئ قد اُخذت على نحو الملكة والاستعداد والشأنيّة، فيمكن أن يراد هنا ﺑ (الشجرة المثمرة) ما من شأنها أن تكون كذلك، أي: ما يكون من شأنها الإثمار، ولو لم تكن بالفعل كذلك.

وورد في بعض الروايات، كالمرويّ عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام): «إنّما

ص: 405


1- وسائل الشيعة 1: 327، الباب 15 من أبواب الخلوة، ح 9.

نهى رسول الله- أن يضرب أحد من المسلمين خلاءه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت، لمكان الملائكة الموكّلين بها، قال: ولذلك يكون الشجرة والنخل اُنساً إذا كان فيه حمله، لأنّ الملائكة تحضره»(1).وعن العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم القمّيّ قال: «أوّل حدّ من حدود الصلاة هو الاستنجاء - إلى أن قال -: ولا تحت شجر مثمر، لقول الصادق(علیه السلام): ما من ثمرة ولا شجرة ولا غرسة إلّا ومعها ملك يسبّح الله ويقدّسه ويهلّله»(2).

وبالجملة: فتحمل الروايات الواردة في البول تحت الشجرة المثمرة على أشدّيّة الكراهة، فتكون الرواية خارجةً عن محلّ البحث.

ومنها:

مسألة الحيوان الجلّال، حيث قالوا: إنّ الحيوان المأكول اللّحم لو أصبح جلّالاً، فإذا زال عنه عنوان الجلل، فيتأتّى فيه البحث ويقع محلّاً للنزاع، فيقال - مثلاً -: هل بعد زوال الجلل عنه يقال له الآن: أنّه جلّال أم لا؟ فبناءً على القول بالأعمّ يصدق عليه عنوان (الجلّال)، وإلّا، فلا، فتكون هذه المسألة من ثمار مبحث المشتقّ، لولا النصّ بأنّه لا يصدق عليه (الجلّال) بعد زوال عنوان (الجلل).

ص: 406


1- وسائل الشيعة 1: 327، الباب 15 من أبواب الخلوة، ح 8.
2- انظر مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 1: 262- 263، الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.

وما قيل: من أنّه ورد الإجماع أيضاً على أنّه يصدق عليه (الجلّال).

ففيه: أوّلاً: أن هذا الإجماع ليس بحجّة؛ لأنّه محتمل المدركيّة، ولعلّ مدركهم كان النصّ الصحيح، والإجماع - كما هو معلوم - إنّما يكون حجّةً لو كان تعبّديّاً.

وثانياً: أنّ هذا ليس بثمرة للبحث، ومثالنا كمثال الماء المتغيّر في أنّ العلّة المحدثة للنّجاسة تكون هي بعينها علّةً مبقية، فنحكم بنجاسة الماء ولو بعد زوال التغيّر بنفسه.. وهكذا في مورد البحث، فنحكم بنجاسة الحيوان الجلاّل، ولو بعد زوال الجلل عنه، لولا النصّ - كما ذكرنا -.وأمّا دخول هذه المسألة في المسائل الاُصوليّة: فقد يقال - كما عليه المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) -: بخروجها عن المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ ضابط المسألة الاُصوليّة هو: كلّ ما يجعل كبرى لقياس يستنتج منه بعد ضمّ الصغرى إليه الحكم الكلّيّ الإلهيّ، فخرجت هذه المسألة عن المسائل الاُصوليّة؛ لعدم شمول هذه الضابطة لها؛ حيث كانت في مقام بيان إحراز موضوع الحكم، لا الحكم، لا بنفسه ولا بكيفيّة تعلّقه بالموضوع.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا فرق بين المشتقّ وبين مسألتي: المطلق والمقيّد، والعامّ والخاصّ، حيث قالوا بدخولهما في المسألة الاُصوليّة؛ إذ

ص: 407


1- مقالات الاُصول 1: 54 - 55.

بعدما قمنا بتعميم الحكم المستنبط من المسائل الاُصوليّة - كما قيل: بأنّه ما يكون لذاته أو لكيفيّة تعلّقه بموضوعه - فلا يبقى فرق بين هذه المسألة وبين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد، فإنّ العامّ كما يتصوّر فيه أن يكون في بيان كيفيّة تعلّق حكمه وتشريعه وأن يكون التعلّق على نحو العموم، والمطلق كما يتضمّن ثبوت الحكم فيه على نحو الاستمرار، غير مقيّد بحال دون حال، فكذلك مسألة المشتقّ، فإنّها تدلّ على ثبوت الحكم منوطاً ببقاء المبدأ إذا فرض أنّه قد وضع للأخصّ، أو مستمرّاً إذا فرض أنّه قد وضع للأعمّ، وهو دخيل في كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه، وتبيّن هذه الكيفيّة بأنّها هل تكون على نحو الأعمّ أو الأخصّ؟ وعليه: فكما أنّ مسألتي: المطلق والمقيّد، والعامّ والخاصّ، تكونان داخلتين في المسائل الاُصوليّة، فكذلك مسألة المشتقّ فإنّها تكون داخلة فيها أيضاً.

ما هو الأصل في المسألة؟

لا يخفى: أنّه لا أصل لفظيّ في هذه المسألة يمكن أن يرجع إليه لكي يحقّق كيفيّة وضع المشتقّ وأنّه للأعمّ والأخصّ، وكذا الاستصحاب، لا يمكن جريانه هنا، لما عرفت من أنّ كلّ واحد منهما، أعني: الأعمّيّة والخصوص، مسبوق بالعدم، فلا يمكن جريان الأصل فيهما عند الشكّ.

ص: 408

فلا بدّ من الرجوع فيه إلى الأصل العملي؛ لأنّ استصحاب عدم لحاظ الخصوصيّة معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم، وبما أنّ اللّحاظين مسبوقان بالعدم، فلا يمكن جريان الأصل فيهما، بل يتعارضان ويتساقطان.

بل يمكن أن يقال: بعدم جريان الخصوصيّة، وذلك من جهة أنّ جريانها فيه منوط بما لو أدخلنا المسألة في المطلق والمقيّد، بعدما فرضنا أنّ أصل الجامع موجود وإنّما نشكّ في الزائد، وهي الخصوصيّة، فيجري الأصل.

وأمّا لو فرض أنّهما متباينان، ولو بحسب عالم اللّحاظ، ولم يكونا من قبيل الأقلّ والأكثر حتّى ينفى الزائد بالأصل، فأيضاً: إنّما يجري هذا الأصل - حتّى لو أدخلناهما في باب المطلق والمقيّد - إذا فرض أنّ التقابل بينهما هو من تقابل السلب والإيجاب.

وأمّا لو فرض أنّه من تقابل العدم والملكة، فلا يجري؛ لأنّ إثبات الوضع للأعمّ ببركة الأصل - حينئذٍ - لنفي الخصوصيّة تمسّك بالأصل المثبت.

وأمّا إذا اُريد من الأصل: الأصل العقلائيّ، فهو، وإن كان في ذاته حجّة، إلّا أنّ حجّيّته على نحو الإطلاق حتّى يثبت به الوضع محلّ للكلام.

إذ لم يثبت بناء العقلاء على اعتباره حتّى بالنسبة إلى إثبات الوضع.

ص: 409

وأمّا ترجيح الاشتراك المعنويّ على الحقيقة والمجاز، وإثبات أنّ الوضع يكون للأعمّ لأجل الغلبة - لأنّه إذا دار الأمر بين الحقيقة والمجاز والاشتراك المعنويّ - فالثاني يكون هو الاُولى، من باب الغلبة، فغير تامّ.

إذ الحقّ ما أفاده صاحب الكفاية)(1):

أوّلاً: من منع الصغرى، وهي: ثبوت الغلبة في الثاني.

وثانياً: على فرض القبول بذلك، فنمنع الكبرى؛ لأنّ غاية ما توجبه الغلبة هو الظّنّ، وهو ليس بحجّة.

أمّا الأصل العملي الجاري في الحكم:

فتارةً: يتصوّر فيه ورود الحكم قبل زوال الصفة، واُخرى: بعد زوالها.

أمّا في الصورة الاُولى - كما إذا قال: «أكرم كلّ عالم»، ثمّ زال العلم عن الشخص المتّصف به : - فمقتضى الاستصحاب: بقاء وجوب الإكرام؛ لأنّه كان لنا قطع بهذا الوجوب قبل أن يزول العلم عنه، وبعد ارتفاع المبدأ عنه نشكّ في وجوب إكرامه، فنجري الاستصحاب؛ إذ على فرض أنّ المشتقّ موضوع للأعمّ، فالحكم باقٍ، وعلى فرض أنّه موضوع للأخصّ، فالحكم مرتفع، فنتيجته الشكّ في ارتفاع الحكم، والاستصحاب يحكم ببقائه.

ص: 410


1- كفاية الاُصول: 45.

وأمّا في الصورة الثانية - وهي: ما إذا ورد الحكم بعد زوال المبدأ -: فلا نحكم ببقائه؛ لأنّه لو فرض أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، فالحكم ثابت، وإكرامه واجب، وإن كان مختصّاً بالمتلبّس، فالحكم مرتفع، وهو غير واجب الإكرام.فنلاحظ: أنّ الشكّ في معنى المشتقّ قد أوجب الشكّ في حدوث الحكم، ومعه: فتجري البراءة.

ولكن يمكن أن يقال:

بعدم جريان الأصل حتّى بالنسبة إلى الصورة الاُولى؛ لأنّ الموضوع عند الجريان لا بدّ أن يكون ثابتاً في كلتا الحالتين، فإنّ الشكّ في بقاء الحكم إنّما يجري من جهة إجمال المفهوم وعدم تحديده، وهو ما يسبّب الشكّ في بقاء الموضوع، وإحراز الموضوع في كلتا الحالتين شرط في جريان الاستصحاب.

ومعه: فيكون موردنا هنا من قبيل استصحاب الحكم بالنجاسة للماء المتغيّر؛ فإنّ هذا الاستصحاب لا يمكن جريانه فيه، لأنّ الموضوع قد تبدّل بذهاب وصف من أوصافه؛ لاحتمال دخل هذا الوصف في ترتّب الحكم، وإن كان يمكن أن نبحث هناك عن أنّ التغيّر - الذي هو علّة للنجاسة - هل هو علّة محدثة أو مبقية؟ وبهذا الاعتبار: يكون نفس الحكم مشكوكاً، ولا يمكن جريان الاستصحاب لإثباته؛ لاحتمال دخل التغيير في الموضوع.

ص: 411

وأمّا فيما نحن فيه: فإنّ المرجع في كلتا الصورتين هو البراءة، أو فقل: إنّ وصف العلم ممّا يدرك العرف كونه دخيلاً في الموضوع، بل أنّه هو الركن الأساسيّ وتمام الموضوع؛ لأنّ معنى: «أكرم العالم»: (أكرمه لعلمه). فبارتفاع الوصف يرتفع الموضوع، ولم يكن الموضوع في كلتا الحالتين موجوداً حتّى يجري الاستصحاب.

ص: 412

الفهرس

ص: 413

ص: 414

المقدّمة (7-8)

المقدّمة.... 7

مقدّمة: وفيها اُمور (9-62)

مقدّمة: وفيها اُمور...... 9

الأمر الأوّل: في بيان معنى مصطلح «العلم»:....... 9

الأمر الثاني: في رتبة هذا العلم... 10

فوائد علم الفقه وآثاره..... 13

فائدة علم الكلام........ 14

الأمر الثالث: الفرق بين المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة 15

الفرق بين المسائل الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم:.... 20

الأمر الرابع: موضوع علم الاُصول.... 21

مناقشة أدلّة القائلين بلزوم وحدة الموضوع 24

تمايز العلوم فيما بينها بأيّ شيءٍ هو؟...... 33

العوارض الذاتيّة........ 37

تقسيم العرض...... 39

ص: 415

العرض الذاتيّ بين المتقدّمين والمتأخّرين 41

تعريف موضوع العلم....... 44

موضوع علم الاُصول....... 47

الأمر الخامس: تعريف علم الاُصول: ..... 53

وأمّا استطراديّة حجيّة الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة... 57

وقد يستشكل في هذا التعريف أيضاً........ 58

المقصد الأوّل: في الوضع وفيه فصول

الفصل الأوّل (65-93)

الفصل الأوّل: في حقيقة الوضع... 65

الفرق بين الأمر الحقيقيّ والجعليّ.... 68

تقسيم الأمر الحقيقيّ....... 69

الاعتراض بلزوم الترجيح بلا مرجّحٍ...... 70

الجهة الاُولى: في بيان معنى الوضع... 72

والجهة الثانية: أنّه قد وقع الخلاف في معنى الوضع.... 73

من هو الواضع؟(قدس سره)...... 82

في حقيقة الوضع .... 88

الفصل الثاني (95-103)

الفصل الثاني: في أقسام الوضع.... 95

ص: 416

الفصل الثالث (105-167)

الفصل الثالث: في المعنى الحرفيّ...... 105

القول الأوّل:....... 105

تنبيه....... 109

القول الثاني:....... 119

القول الثالث:...... 122

القول الرابع........ 132

القول الخامس.... 134

القول السادس.... 137

الخبر والإنشاء...... 144

الفصل الرابع (169-176)

الفصل الرابع: استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ 169

الأمر الأوّل: في تعريف المجاز........ 169

الأمر الثاني: في منشأ دلالة اللّفظ على المعنى المجازيّ 170

الأمر الثالث: ملاك صحّة الاستعمال المجازيّ... 171

الفصل الخامس (177-186)

الفصل الخامس: إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه..... 177

الفصل السادس (187-197)

الفصل السادس: في أقسام الدلالة...... 187

ص: 417

الفصل السابع (199-202)

الفصل السابع: في وضع المركّبات..... 199

الفصل الثامن (203-228)

الفصل الثامن: علائم الحقيقة والمجاز...... 203

العلامة الاُولى: التبادر.... 203

العلامة الثانية: صحّة السلب وعدمها...... 215

العلامة الثالثة: الاطّراد.... 220

وأمّا الثمرة من هذا البحث فقد يقال فيها...... 227

الفصل التاسع (229-230)

الفصل التاسع: في تعارض الأحوال... 229

الفصل العاشر (231-244)

الفصل العاشر: الحقيقة الشرعيّة.... 231

ثمرة هذا البحث....... 242

الفصل الحادي عشر (245-300)

الفصل الحادي عشر: الصحيح والأعمّ...... 245

الأمر الأوّل ........ 245

الأمر الثاني ........ 248

الأمر الثالث ....... 250

ص: 418

الأمر الرابع ........ 255

الجامع بين الأعمّ والصحيح والفاسد...... 270

ثمرة هذا البحث....... 287

الكلام في المعاملات..... 293

الفصل الثاني عشر (301-308)

الفصل الثاني عشر: الاشتراك........ 301

أمّا الجهة الاُولى....... 301

وأمّا الجهة الثانية...... 304

الفصل الثالث عشر (309-324)

الفصل الثالث عشر: استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.... 309

الأمر الأوّل ........ 309

الأمر الثاني ........ 310

الأمر الثالث ....... 310

الثمرة..... 321الفصل الرابع عشر (325-412)

الفصل الرابع عشر: المشتقّ.... 325

الأمر الأوّل ........ 325

الأمر الثاني ........ 327

الأمر الثالث ....... 341

الأمر الرابع ........ 344

ص: 419

الأمر الخامس .... 348

الأمر السادس ... 352

الكلام في بساطة المشتقّ وعدمه..... 361

وهل هناك ثمرة لهذا البحث أم لا؟........ 380

أصل الاشتقاق.... 387

الأقوال في وضع المشتقّ..... 393

أدلّة القول بالوضع لخصوص المتلبّس... 394

أدلّة القائلين بالأعمّ........ 399

بقي الكلام في مسألتين........ 405

ما هو الأصل في المسألة؟... 408

الفهرس (413-420)

الفهرس.... 413

ص: 420

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.