السیرة النبویه عند اهل البیت علیهم السلام المجلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الکوراني العاملي، علی، 1944 - م. Kurani,Ali

عنوان واسم المؤلف: السیرة النبویة عند اهل البیت علیهم السلام/ علی الکورانی العاملی.

تفاصيل المنشور: قم: دار النشر المعروف، 1438 ق.= 2017 م.= 1396.

مواصفات المظهر: 3 ج. /

لسان: العربية.

ISBN: 9786006612881

ملحوظة: الطبعة الثانية. / ملحوظة: ج. 2 (الطبعة الثانية: 1438 ق. = 2017 م.).

ملحوظة: نُشر هذا الكتاب لأول مرة عام 2008 تحت عنوان «جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع)» عن طريق المنشورات باقیات تم نشره.

عنوان آخر: جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع).

مشكلة: محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل الهجرة- 11 ق. / مشكلة: 632 .Muhammad, Prophet, d

مشكلة: التقليد النبوي/ مشكلة: * Wonts of the Prophet

مشكلة: دين الاسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11 ق/ مشكلة: 632 Islam -- History -- To

تصنيف ديوي: 93 / 297

ترتيب الكونجرس: 1396 9ج 9ک / 46 / BP24

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 4793168

حالة الاستماع: فیپا

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام (1)

المؤلف: علي الکَوراني

الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.

الطبعة: الأولی.

تاریخ النشر: ذيقعدة 1438 ه.ق - July 2017

المطبعة: باقری - قم المقدّسة.

عدد المطبوع: 3000 نسخة.

شابک: 1- 88 - 6612 - 600 - 978

دار المعروف

للطباعة و النشر

مرکز النشر والتوزیع:

إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب: 158 - 37156 تلفون: 32926175 25 (0)0098

جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف

www.maroof.org

Email: nashremaroof@gmail.com

ص: 1

اشارة

ص: 2

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام

علی الکورانی العاملی

المجلد الثانی

الطبعة الثانية- منقحة ومزيدة

2017-1438

دارالمعروف

ص: 3

ص: 4

الفصل الأربعون: سورة الأنفال سورة بدر

الأنفال فضحت كثيراً من الصحابة البدريين!

اتفق الرواة على أن سورة الأنفال نزلت بعد معركة بدر، وهي خمس وسبعون آية. وأكثر آياتها في شأن بدر، وموقف الإسلام من قريش، وتوجيه المسلمين في جوانب من الحرب والسلم، وتشريع الخمس لآل النبي (صلی الله علیه و آله).

قال سعيد بن جبير: «قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة، بل هي الفاضحة! ما زالت تنزل ومنهم ومنهم. حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها! قلت: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر. قلت: فالحشر؟قال: نزلت في بني النضير». مسلم: 8/245.

وقد تقدمت بعض آيات السورة، وهذا نصها مع شرح مختصر لمضمون الآيات:

إختلافهم على الغنائم

1. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.1.

بدأت السورة حديثها عن أكبر معركة في تاريخ الإسلام، باختلاف المسلمين على الغنائم! لتقول لهم أيها المسلمون إن مشكلتكم الطمع بالماديات فانتبهوا!

ص: 5

المؤمنون حقاً لا يختلفون على غنائم!

2. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. أَلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.2-4.

عرَّضت هذه الآيات بقسم من الصحابة البدريين، فمدحت المؤمنين حقاً الذين لايختلفون على غنائم، لأنهم أصحاب إيمان عميق، ووصفتهم بأنهم ينفقون مما رزقهم الله، لأنهم ينتظرون مغفرته ورزقه في الآخرة!

صحابة يجادلون نبيهم وكأنهم يساقون إلى الموت!

3. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. 5-8.

ثم وبَّخهم عزوجل بتذكيرهم كيف أخرج نبيه (صلی الله علیه و آله) من بيته بالحق، وقسم منهم خائفون يجادلون النبي (صلی الله علیه و آله) بالباطل، لأنه طرح عليهم احتمال الحرب وهم يريدون القافلة دون الحرب! فكانوا كمن يساقون إلى الموت سوقاً رغماً عنهم!

الإمداد الإلهي للمسلمين في بدر

4. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ. 9-14.

ذكرت الآيات خوف المسلمين واستغاثتهم بربهم عندما واجهوا جيش قريش،

ص: 6

وكيف استجاب الله تعالى لهم وأمدهم بأنواع من المدد الغيبي، المعنوي والمادي المنظور وغير المنظور. وجعلت استغاثة النبي (صلی الله علیه و آله) استغاثتهم، والإستجابة لنبيه (صلی الله علیه و آله) استجابة لاستغاثة المسلمين.

الفرار إلى الصفوف الخلفية كالفرار من المعركة

5.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.15-16.

وهذا أمرٌ مشددٌ بأن لايفروا في المعركة، وتهديدٌ لهم وتعريض بهم! ولم يُنقل فرار أحد منهم في بدر إلى خارج المعركة، فلا بد أنها تقصد فرارهم من الصفوف الأمامية إلى الخلفية، كما حدث عمر عن نفسه لما رأى العاص بن سعيد.

وتقدم قوله «ابن هشام: 2/464».«رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه! فقال: إلى أين يا ابن الخطاب! وصمد له علي فتناوله، فما رمت من مكاني حتى قتله»!

وهذا اعتراف بالفرار من الزحف!

قاتلَ النبي (صلی الله علیه و آله) ورمى المشركين بكف حصى

6. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْليَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ.

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. 17-19.

أخبر الله عزوجل بأنه هو طرف المعركة، وهو الذي قتل المشركين، وهو الذي رمى بيد النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو الذي أجرى المعركة على يد المؤمنين ليمتحنهم ويجزيهم جزاء حسناً. وخاطب الكفار ودعاهم إلى التوبة، وتوعدهم إن

عادوا بالهزيمة.

ص: 7

أمر الله المسلمين بطاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وذكرهم بنعمه عليهم

7. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. 20 -26.

ثم أكد عزوجل على حقيقة إيمانية عملية هي طاعة المؤمنين لنبيهم (صلی الله علیه و آله) طاعة كاملة، وفيه تعريض بالذين جادلوه بعد وضوح الأمر، خوفاً من المعركة، ثم لم يطيعوه واختلفوا في الغنيمة! وحذرهم من أن مخالفة النبي (صلی الله علیه و آله) ظلمٌ ينتج عنه فتنة لاتختص بفاعلها، فعليهم نهيه عن المنكر. ثم ذكَّرهم عزوجل بنعمته عليهم وأنه هيأ لهم المدينة موطناً ومأمناً وقاعدة، وأنعم عليهم بنصره ورزقه.

وحذرهم من خيانة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وخيانة أنفسهم

8. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاوَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.27-29.

ثم حذرهم الله عزوجل من نوعين من الخيانة، خيانة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بمخالفة أوامره. وخيانة أماناتهم بالتعدي على ما اؤتمن عليه أحدهم من حقوق الآخرين وأموالهم. وقد حدث ذلك في بدر ففي الطريق خان بعضهم الله ورسوله بجدلهم النبي (صلی الله علیه و آله) متعمدين! وفي بدر اتهموه (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ وأخفى قطيفة من الغنائم فبرأه الله! وبعضهم خان الأمانة وغلَّ! وتحدثت الآية الثانية عن نعمة الفرقان بين الخير والشر والخطأ والصواب، كما كانت بدر فرقاناً ميزت بين المسلمين والمشركين.

ص: 8

وذكَّر قريشاً بتآمرهم على الرسول (صلی الله علیه و آله) وعملهم لقتله

9. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ. وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. 30-35.

وهذه الفقرة في تكذيب قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وتآمرهم عليه لقتله أو نفيه من مكة! وهي تؤكد أنهم فقدوا المنطق السَّلِيم بسبب تكبرهم، فطلبوا من الله أن يقتلهم بحجارة من السماء إن كان محمد (صلی الله علیه و آله) صادقاً! وهي حالة من العناد وعبادة الذات تجعل صاحبها عدوانياً وتعميه عن الإيمان! وتعميهم حتى عن الإيمان بالكعبة التي يعيشون ببركتها، ولذلك استحقوا العذاب الإلهي!

وذكَّر قريشاً بتآمرهم ضد الإسلام وهددهم

10. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَلِينَ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. 36 -40.

خصص الله هذه الفقرة لنشاط القرشيين ومن وراءهم، وإنفاقهم الأموال لعداء النبي (صلی الله علیه و آله)، وأخبر أنهم سيغلبون في هذا الصراع لأنه إرادة ربانية لفرز الأخيار من الأشرار. وأنذرهم بالهزيمة إن واصلوا معاركهم مع النبي (صلی الله علیه و آله)،

ص: 9

وأطمعهم بالعفو عما أسلفوا إن انتهوا، وأمر المسلمين بمواصلة قتالهم حتى يخمدوا فتنتهم ويزيحوهم من طريق انتشار الإسلام.

وشرَّع الله فريضة الخمس لبني هاشم لأنهم أسسوا الأمة والدولة

11. وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِز. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمور. 41-44.

يقول الله بذلك للمسلمين: أيها المختلفون على الغنائم، المتهمون لنبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق منها! إنكم مدينون بانتصاركم لمحمد (صلی الله علیه و آله) وقرابته:، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بالله تعالى وما عاينتم من فعله! ألا ترون أن الله خطط ووقت وأدار المعركة، ونصركم عليهم وحسم المعركة بالملائكة وبني هاشم، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة؟ فأدوا اليهم المالية التي خصهم الله بها!

وأمر المسلمين بالثبات في الحرب وأن لا يبطروا كالمشركين

12. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِي مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. 45-48.

أكدت الفقرة على خمسة أحكام وقواعد في الحرب: وجوب الثبات وحرمة الفرار، وذكر الله كثيراً في الحرب، وطاعة الرسول، والمحافظة على وحدة الجبهة الداخلية

ص: 10

وحرمة التنازع والإختلاف، وعدم الإعتداد بالنفس والبطر كحالة قريش في بدر، التي غشها الشيطان فأساءت تقدير المعركة وانهزمت!

وحذرهم من المنافقين ومرضى القلوب في داخلهم

13. إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.«49». وهذه الآية ذكرت المسلمين بموقف المنافقين، ومرضى القلوب وهم أخطر المنافقين! فهؤلاء كانوا يتوقعون هزيمة المسلمين أمام قريش لأنها برأيهم أكثر وأقوى، ويصفون المؤمنين بأنهم مغرورون بدينهم ووعد نبيهم! ومعنى الآية: واذكروا إذ يقول هذان النوعان منكم إنكم مغرورون، فهم لضعف إيمانهم يرون التوكل على الله والإيمان بوعده غروراً، مع أنه

إيمان ويقين!

وحذرهم من عاقبة أعداء الرسل (علیهم السلام)

14. وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ. كَدَاْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ.50-54.

صوَّرت هذه الفقرة حالة الكفار عند الموت وفي الآخرة، وذكرتهم بأنهم تجري عليهم سنة الله في عقوبة المكذبين للرسل، كآل فرعون ومن قبلهم، الذين انطبقت عليهم قاعدة تغيير النعم وسلبها، بسبب كفرانها وتغير أنفس أصحابها!

ونبه المسلمين إلى شرالدواب الخائنين

15. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لايَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 11

يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لايُحِبُّ الْخَائِنِينَ. 55-58.

أنذرت هذه الفقرة الفئات اليهودية والقبائل التي عقد معها النبي (صلی الله علیه و آله) معاهدات تعايش وعدم اعتداء، ثم نقض بعضهم عهده واعتدى على المسلمين. وأمرت النبي (صلی الله علیه و آله) بمعالجة وضعهم والمبادرة إلى حربهم إن رأى بوادر الخيانة.

وعَلَّم المسلمين قواعد التعامل مع أعدائهم

16. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لايُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَاللهِ وَعَدُوَكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَئٍْ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.59-66.

وهنا أنذر الله تعالى الكافرين، وأمر المسلمين بأن يعدوا العدة لحربهم، وأن يسالموهم إن أرادوا السلم، ولا يخافوا من مناوراتهم السياسية.

وبيَّن للمسلمين أن وحدتهم والتفافهم حول نبيهم (صلی الله علیه و آله) نعمةٌ غير عادية، وهي من فعل الله تعالى ولطفه بهم فعليهم أن يعرفوا قيمتها ويؤدوا حقها.

وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بأن يقاتل الكفار بمن أطاعه من المؤمنين حتى لو كانوا قلة.

ثم كشف سبحانه تراجع في مستوى المسلمين في بدر! فقد أراد أن يكون المسلم الواحد منهم مقابل عشرة، لكنه بسبب ضعفهم في بدر، جعل الواحد منهم مقابل اثنين فقط! وقد ظهر هذا الضعف بجدلهم للنبي (صلی الله علیه و آله) واختلافهم في الغنائم، وخيانة بعضهم، وجبن آخرين.

ص: 12

وبَّخ الذين سارعوا إلى أسر القرشيين قبل أن يثخنوا فيهم

17. مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُريِدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. 67-71.

وفي هذه الآية تفاسير تنشأ من معنى الإثخان، ومعنى عرض الدنيا الذي أراده الصحابة، وتكليف النبي (صلی الله علیه و آله) وموقفه بشأن الأسرى.

والتفسير الصحيح: أن معنى الإثخان في الأرض الإثخان في قتال المشركين، حيث نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا منهم أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية، لكنهم أخذوا أسرى طمعاً في فدائهم! وقد اختاره أبو الفتح الكراجكي (رحمة الله) في: التعجب من أغلاط العامة/88، قال: «وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم: مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا..».

فالآية تنهى عن الأسر قبل الإثخان، وقد أثخن النبي (صلی الله علیه و آله) في الأرض وقطع مسافة طويلة، لكن المسلمين لم يثخنوا في قتالهم ومطاردتهم، واكتفى الواحد منهم بأسير ليأخذ فديته! وهذا المعنى يتسق مع السياق: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وقوله: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ. وقد اختاره السيد شرف الدين (رحمة الله)

في النص والإجتهاد /323

واختاره السيد الخوئي (رحمة الله) في البيان/365، قال: «المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم، ولايسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم».

واختار شبيهه صاحب الصحيح من السيرة: 5/111، قال: «كانت ثمة أوامر

ص: 13

خاصة بالنسبة لأسرى بدر بينها النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه، ولكنهم قد أصروا على مخالفتها فاستحقوا العذاب العظيم، ثم عفا الله عنهم رحمة بهم وتألفاً لهم».

وتوجد تفاسير أخرى تنفي اللوم عن النبي (صلی الله علیه و آله).كقول السيد الميلاني إن النهي فيها يدل على الترفع ولايدل على التحريم.

لكن عمر زعم أنه أصاب وأخطأ النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن الله وافقه ونهى نبيه عن الأسر وأخذ الفداء، فخالف النبي (صلی الله علیه و آله) فنزلت الآية توبخه وتوبخ الأنصار لأنهم أخذوا الأسرى طمعاً بفدائهم! راجع رواياتهم في تفسير الطبري: 10/55.

ويرده أن الآية الأخيرة تدل على صحة أسرهم، وقد تقدم من الكافي: 8/2020: «نزلت في العباس وعقيل ونوفل وقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم، وأبو البختري، فأسروا، فأرسل علياً فقال: أنظر من هاهنا من بني هاشم..فجيئ بالعباس فقيل له: إفد نفسك وافد ابن أخيك، فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي؟ فقال: أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ فقال: أتاني به جبرئيل (علیه السلام) من عند الله عزوجل فقال ومحلوفه: ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي! أشهد أنك رسول الله، قال: فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل. وفيهم نزلت هذه الآية».

وأعلن الله وحدة الأمة من المهاجرين والأنصار

18. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَئْ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. 72-75.

أخبر الله أن بدر يوم الفرقان بين الحق والباطل وتمييز الأمة المسلمة عن غيرها.

ص: 14

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، وإنما كانا قبل ذلك اليوم هذا كذا ووضع كفيه أحدهما على الآخر». الأصول الستة عشر/2568.

وجاءت هذه الفقرة ختاماً للسورة، فبينت أن الأمة المسلمة أمة واحدة، مهاجروها وأنصارها، وأوجبت الهجرة إلى دولة الإسلام على كل مسلم، إلا من أجاز لهم النبي (صلی الله علیه و آله)، أو أمرهم بالبقاء في بلادهم، وقد استمرت هذه الفريضة حتى فتح مكة.

ثم أمر الله المسلمين أن يعتبروا الكفار أمة واحدة مهما كانت اختلافاتهم، وحذرهم من وقوع فساد كبير في الأرض، إن خالفوا ولم يوحدوا سياستهم تجاههم!

كثرة مكذوبات السلطة عن بدر!

تبين لك أن البدريين فيهم المميزون بإيمانهم وشجاعتهم، وفيهم المتوسطون، وفيهم المنافقون، ومرضى القلوب. لكن رواة السلطة أكثروا المكذوبات فيهم، ومنها ما يقصد به تنقيص مقام النبي (صلی الله علیه و آله)، ومنها ما يقصد به إثبات مناقب كاذبة لصحابة يحبونهم، ومنها للتغطية على مثالب آخرين يحبونهم!

فمن ذلك: قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) نام يوم بدر: «فدنا القوم منهم، فجعل الصديق يوقظه ويقول: يارسول الله دنوا منا، فاستيقظ»!الدر المنثور: 3/167 وابن كثير: 2/405.

ومنها: قولهم إن أول قتيل كان مهجع غلام لعمر! ومستندهم في ذلك «يقال»! ولم يبينوا متى قتل ومن قتله! راجع الصحيح: 5/65.

ومنها: قول عمر إنه قتل خاله هشام بن العاص، وقد قتله علي (علیه السلام).«الواقدي: 1/149». على أن خالد بن الوليد كان لا يقبل أنه خاله وأن أم عمر من بني مخزوم.

ومن مكذوباتهم قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطى سهماً من غنائم بدر لعثمان، لأنه تخلف لتمريض زوجته بنت النبي (صلی الله علیه و آله) ! وأنه أعطى لطلحة بن عبيدالله ولسعيد ابن عم عمر صاحب حديث العشرة المبشرة، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) بعثهما في استطلاع قافلة قريش، والصحيح أنهما كانا في تجارة بالشام! راجع الصحيح: 5/98.

إلى كثير من المكذوبات في مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص، ومن على شاكلتهم، للتعويض عن دورهم في المعركة!

ص: 15

الصحابة الأبرار الذين اسشتهدوا في بدر

في الصحيح من السيرة: 5/57: «واستشهد من المسلمين، قيل تسعة، وقيل أحد عشر، وقيل أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار».

والمشهور أربعة عشر، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. البحار: 19/206، شرح النهج: 14/207، الطبري: 2/171، الطبقات: 2/17، النهاية: 3/366 والإمتاع: 1/119.

وعدهم ابن هشام: 2/524: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة، وعاقل بن البكير، ومهجع مولى عمر، وصفوان بن بيضاء، وسعد بن خيثمة، ومبشر بن عبدالمنذر بن زنبر، ويزيد بن الحارث «ابن فسحم» وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة بن الحارث، وعوف ومعوذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد، ابنا عفراء.

سورة الروم بشرت بالنصر في معركة بدر

كانت الدولتان الكبيرتان في عصرالنبي (صلی الله علیه و آله) فارس والروم. وقد مد الروم نفوذهم إلى مصر وبلاد الشام، وكان النصارى في الجزيرة على ارتباط بهم، خاصة نجران، وكانت الحبشة قاعدتهم في أفريقيا.

ومد الفرس نفوذهم إلى العراق والبحرين واليمن، وكانت بلاد الشام ومصر محل صراع بينهم وبين الروم، وقد حكمها الفرس لمدة قرنين قبل المسيحية، حتى غلبهم عليها الروم سنة 231 قبل الميلاد. وحاول الفرس في عهد كسرى أن يستعيدوا السيطرة عليها، فكانت معارك بينهم وبين الروم، ومنها معركة أذرعات وهي درعا الواقعة على الحدود السورية الأردنية، فانتصر فيها الفرس وفرح مشركوا قريش الذين كانوا يتعاطفون مع الفرس لأنهم وثنيون مثلهم، بينما تعاطف المسلمون مع الروم لأنهم أهل كتاب، فنزلت سورة الروم تبشرهم بأن الروم سيغلبون الفرس وأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله أي نصرهم في بدر.

قال الله تعالى: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اَلَمِ. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ

ص: 16

سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. الروم: 1-7.

قال في مجمع البيان: 8/43 والطبري: 21/22: «هذه من الآيات الدالة على أن القرآن من عند الله عزوجل، لأن فيها أنباء ما سيكون، وما يعلم ذلك إلا الله عزوجل. قال عطية: سألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: التقينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومشركوا العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصرالله إيانا على مشركي العرب ونصرأهل الكتاب على المجوس، فذلك قوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ».

وفسرأهل البیت (علیهم السلام) فرح المؤمنين بفرحهم بانتصارهم على الفرس وفتحهم لبلادهم. «الكافي 8/269» وفرحهم «بنصرالله عند قيام القائم (علیه السلام)» «تأويل الآيات: 1/434» وفرحهم في القيامة: «يعني نصر فاطمة لمحبيها». «معاني الأخبار/397». وعليه يكون معنى قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ، فرحهم بأول النصر في بدر، ثم بمراحل انتصار المؤمنين في الدنيا والآخرة.

بدأ تدهور الأمبراطورية الفارسية من أيام بدر!

قال اليعقوبي: 2/46: «أعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل، فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار «الناصرية» فقالوا: عليكم بشعار التهامي فنادوا: يا محمد يا محمد! فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة، أو خمسة».

وقال اليعقوبي: 1/225: «وأما يوم ذي قار، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني أن ابعث إليَّ ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله وسلاحه. وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع، فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم،

ص: 17

فالتقوا بذي قار فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلدوه أمرهم، فقالوا لهانئ: ذمتك ذمتنا ولا نخفر ذمتنا! فحاربوا الفرس فهزموهم ومن معهم من العرب، وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من إخوة معد وقحطان، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى وأخبره الخبر فخلع كتفه فمات! فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم». راجع: المعارف لابن قتيبة/603 والطبري: 1/600.

وقال ابن خلدون: 2 ق: 1/302: «وأما بنو عجل بن لجيم بن صعب، وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة، وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر، وكان منهم بنو أبي دلف العجلي، كانت لهم دولة بعراق العجم».

وفي الإصابة: 2/117، أن رئيس ربيعة حنظلة بن سيار، بلغه انتصار النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ونزول سورة الأنفال، فأرسل خمس غنائمه من الفرس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال:

ونحن بعثنا الوفد بالخيل ترتمي *** بهم قُلُصٌ نحو النبيِّ محمدِ

بما لقي الهرموز والقوم إذ غزوا *** وما لقيَ النعمان عند التورد»

ص: 18

الفصل الحادي والأربعون: «الخلافة الإسلامية» تثأر من بني هاشم لقتلى بدر!

1- تعصب قريش القبلي أشد من تعصب اليهود القومي

خسرت قريش في معركة بدر نحو سبعين من شخصياتها على يد النبي (صلی الله علیه و آله)، فرفعت شعار» قتلى بدر«وأقامت عليهم أكبر مناحة في التاريخ! فلا توجد معركة أعمق تأثيراً في التاريخ من بدر، وما زالت نتائجها ممتدةً في حياتنا إلى اليوم!

وإذا قارنا توظيف قريش لشعار قتلى بدر، بتوظيف اليهود للهولوكوست، نجد أن القرشيين فاقوا اليهود بالإبتزاز كثيراً! وأول ابتزازهم سيطرتهم على الدولة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وعزلهم عترته أهل بيته:.

قال عثمان لعلي (علیه السلام): «ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين، كأن وجوههم شنوف الذهب، تشرب أنوفهم قبل شفاههم»!

أي وجوههم جميلة كأقراط الذهب وأنوفهم طويلة جميلة. نثر الدرر/259، ابن حمدون/1567، شرح النهج: 9/22 والمناقب: 3/21.

فقريش لايمكنها أن تحب بني هاشم أبداً، لأنهم قتلوا ساداتها! فهي صاحبة ثأر عند النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وجميع بني هاشم، إلى يوم القيامة!

وقد أخبر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن قريشاً لن تنسى هزيمة بدر وقتل نخبة قادتها وفرسانها! وبالفعل جعلتها كمحرقة اليهود! واخترعت مبررات للإنتقام من

ص: 19

بني هاشم وشيعتهم، وعزلت بني هاشم عن الخلافة، لأن في أعناقهم دماء قريش والعرب وقد أخذوا النبوة وهي كافية عليهم، فالخلافة يجب أن تكون لبقية قبائل قريش!

لذلك قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنها ضغائن في صدور قوم، أحقاد بدر وتِراتُ أحد! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه إن ضلوا ثم وجد أعواناً أن يجاهدهم بهم، فإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم، فافعل أنت كذلك، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك». كتاب سُلَيْم/305.

2- تأسست الخلافة القرشية على الثأر من بني هاشم!

اعترف ابن أبي الحديد، وهو سني معتزلي متعصب لأبي بكر وعمر، أن ثارات بدر وأحُد أوجبت قيام خلافة قرشية على أساس الثأر من بني هاشم، وقال إن بغض القرشيين للنبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وبني هاشم طبيعي حتى بعد أن أسلموا!

قال في شرح النهج: 13/299: «ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له»علي«وانحرافها عنه، فإنه وترها وسفك دماءها، وكشف القناع في منابذتها! ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم! وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس، كما نشاهده اليوم عياناً، والناس كالناس الأُوَل، والطبائع واحدة! فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك، ثم أسلمت، أكان إسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه؟ كلا، إن ذلك لغير ذاهب، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة، لا كإسلام كثير من العرب! فبعضهم أسلم تقليداً، وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفاً من السيف، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه!

واعلم أن كل دم أراقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسيف علي (علیه السلام) وبسيف غيره، فإن العرب بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب وحده، لأنه لم يكن في رهطه من

ص: 20

يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده! وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته، طالبت بها أمثل الناس من أهله!

لمَّا قَتَلَ قومٌ من بني تميم أخاً لعمرو بن هند، قال بعض أعدائه يحرض عَمْرواً عليهم:

من مُبْلغٌ عَمْراً بأن المَرْ *** ء لم يُخلق صَبارهْ

فاقتل زرارة لا أرى *** في القوم أمثلَ من زرارهْ!

فأمره أن يقتل زرارة رئيس بني تميم، ولم يكن قاتلاً أخ الملك ولاحاضراً قتله»!

أقول: يخاطب الشاعر الملك هند بن عمرو ملك الحيرة، بأن الإنسان لم يخلق صَبَارة، أي حجراً، بل له إحساسات ومنها غريزة الثأر، فيجب عليك أن تأخذ ثأرك من بني تميم الذين قتل أحدهم أخاك حتى لو كان قتل خطأ، وكان رئيسهم زرارة بن عدس غائباً عن قتله، لكنه أنسب شخصية لتقتله بثأرك.

فأطاع الملك الشاعر وهاجم بني تميم وقتل رئيسهم زرارة، وقتل معه أكثر من مئتين، وبقر بطون نسائهم وأحرقهم! فالقاعدة عند القبائل أن الثأر لا ينسى بحال من الأحوال والأزمان! وقريش لها ثأر عند محمد (صلی الله علیه و آله) وأعظمه ثأرها في بدر وأحُد، ولا يجوز أن تنساه حتى لو أسلمت!

وهذا اعتراف جرئ من ابن أبي الحديد، وهو عالم متعصب للشيخين، بأن خلافة قريش قامت على الثأر من بني هاشم، وأن بطون قريش عصبت دماء قتلاها بعلي (علیه السلام). أما وصية النبي (صلی الله علیه و آله) بعترته وجعلهم كالقرآن، فلا يسقط ثأر قريش عندهم! وأول الثأر أن تأخذ منهم دولة النبي (صلی الله علیه و آله) وتعزلهم.

وعلى المسلم المنصف أن يفهم النتيجة الضخمة لذلك، على الإسلام كله.

ولذلک كانت أصوات علماء السلطة أنفسهم ترتفع أحياناً، كما فعل قتادة!

قال أبان بن عثمان: «حدثني فضيل البرجمي قال: كنت بمكة وخالد بن عبدالله القشيري أمير «من قبل عبدالملك بن مروان» وكان في المسجد عند زمزم فقال: أدعوا لي قتادة، قال: فجاء شيخ أحمر الرأس واللحية، فدنوت لأسمع، فقال

ص: 21

خالد: يا قتادة أخبرني بأكرم وقعة كانت في العرب، وأعز وقعة كانت في العرب، وأذل وقعة كانت في العرب! فقال: أصلح الله الأمير، أخبرك بأكرم وقعة كانت في العرب وأعز وقعة كانت في العرب، وأذل وقعة كانت في العرب، وهي واحدة! قال خالد: ويحك واحدة! قال: نعم أصلح الله الأمير. قال: أخبرني؟ قال: بدر.

قال: وكيف ذا؟ قال: إن بدراً أكرم وقعة كانت في العرب بها أكرم الله عزوجل الإسلام وأهله، وهي أعز وقعة كانت في العرب بها أعز الله الإسلام وأهله، وهي أذل وقعة كانت في العرب، فلما قتلت قريش يومئذ ذلت العرب. فقال له خالد: كذبت لعمر الله إن كان في العرب يومئذ من هو أعز منهم.

ويلك يا قتادة أخبرني ببعض أشعارهم؟ قال: خرج أبوجهل يومئذ وقد أعلم ليرى مكانه وعليه عمامة حمراء وبيده ترس مذهب وهو يقول:

ماتنقم الحرب الشموس مني *** بازلُ عامين حديثُ السن

لمثل هذا و لدتني أمي

فقال: كذب عدو الله إن كان ابن أخي لأ فرس منه، يعني خالد بن الوليد وكانت أمه قشيرية»من عشيرته«فقال: ويلك يا قتادة من الذي يقول: أُوفي بميعادي وأحمي عن حسب؟ فقال: أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز؟ فلم يخرج إليه أحد فقال: إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار، ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار، وأجهزه بسيفي إلى الجنة! فخرج إليه علي وهو يقول:

أنا ابن ذي الحوضين عبدِ المطلبْ *** وهاشمِ المطعمِ في العامِ السَّغِبْ

أوفي بميعادي وأحمي عن حَسَبْ

فقال خالد: كذب لعمري، والله أبو تراب ما كان كذلك! فقال الشيخ: أيها الأمير إئذن لي في الإنصراف، قال: فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول: زنديقٌ ورب الكعبة، زنديقٌ ورب الكعبة»! الكافي: 8/111. فالسلطة تريد إنكار بطولات علي (علیه السلام) وكل تاريخه!

ص: 22

3- ودون الرواة صفحات طويلة في حزن قريش على قتلى بدر

فقد حرَّمت قريش البكاء والزينة، حتى أخذت بثارها نسبياً في معركة أحد! قال ابن هشام: 2/474:»ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم.وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكى على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له، وقد ذهب بصره: أنظر هل أُحِلَّ النَّحْبُ، هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة، يعني زمعة، فإن جوفي قد احترق. قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، قال: فذاك حين يقول الأسود:

أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص *** ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكى إن بكيت على عقيل *** وبكى حارثا أسد الأسود

وبكيهم ولا تسمى جميعاً *** وما لأبي حكيمة من نديد

وفي ديوان الحماسة للمرزوقي: 1/617: «على بدر تقاصرت الجدود: يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريش وأرباب الجدود فيهم ببدر، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك، لا في ضلال بَكر، أي بعير».

ونظم شعراء قريش قصائد كثيرة في رثاء قتلى بدر، نشروها بين العرب، خاصة من شعر ابن الزِّبَعْرَى، وضرار بن الخطاب، والحاخام كعب بن الأشرف، وكلها هجاء للنبي (صلی الله علیه و آله) والأنصار، ومدح لمشركي قريش، فكانت تقرأ في مجالس الأمراء، وصارت ثقافة لمجالس الخمر، حتى تأثر بها بعض المسلمين!

وسيأتي أن بعض الصحابة شربوا الخمر في المدينة، وتغنوا بالنوح على قتلى بدر! ومن شعر ضرار، سيرة ابن هشام: 2/539:

ص: 23

عجبت لفخر الأوس والحين دائر *** عليهم غدا، والدهر فيه بصائر

وفخر بني النجار أن كان معشر *** أصيبوا ببدر كلهم ثَمَّ صابر

فإن تك قتلى غودرت من رجالنا *** فإنا رجال بعدهم سنغادر

وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم *** بني الأوس حتى يشتفي النفس ثائر

ومن شعرعبدالله بن الزبعرَى السهمي «ابن هشام: 2/541»:

ماذا على بدر وماذا حوله *** من فتية بيض الوجوه كرام

تركوا نبيهاً خلفهم ومنبهاً *** وابني ربيعة خير خصم فئام

والحارث الفياض يبرق وجهه *** كالبدر جلى ليلة الأظلام

والعاصي بن منبه ذا مرة *** رمحاً تميماً غير ذي أوصام

تنمى به أعراقه وجدوده *** ومآثر الأخوال والأعمام...

واشتهرت قصيدته في أحُد أكثر من غيرها:

يا غراب البين أسمعت فقل *** إنما تنطق شيئاً قد فعل

أبلغن حسان عني آية *** فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم قتلنا من كريم سيد *** ماجد الجدين مقدام بطل

فسل المهراس من ساكنه؟ *** بين أقحاف وهام كالحجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها *** واستحر القتل في عبدالأشل

فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

بسيوف الهند تعلو هامهم *** عَلَلاً تعلوهمُ يعد نهل

فأجابه حسان بن ثابت:

ذهبتْ يا بن الزبعرى وقعةٌ *** كان منا الفضل فيها لو عدل

ص: 24

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

نضع الأسياف في أكتافكم *** حيث نهوى عللاً بعد نهل

ومن شعركعب بن الأشرف اليهودي، «ابن هشام 2/564»:

«طحنت رحى بدر لمهلك أهله *** ولمثل بدر تستهل وتدمع

قتلت سراة الناس حول حياضهم *** لا تبعدوا، إن الملوك تصرع

كم قد أصيب به من أبيض ماجد *** ذي بهجة يأوى إليه الضيع..

وقال أياس بن زنيم يحرض مشركي قريش على قتل علي (علیه السلام):

في كل مجمع غاية أخزاكم *** جذعٌ أبرُّ على المذاكي القرَّح

لله دركم ألمَّا تنكروا *** قد ينكر الحرُّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم *** ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يذبح

أين الكهول وأين كل دعامة *** في المعضلات وأين زين الأبطح

أفناهم قعصاً وضرباً يفتري *** بالسيف يعمل حده لم يصفح

أعطوه خرجاً واتقوا بمصيبة *** فعل الذليل وبيعة لم تربحِ»

الإصابة: 1/231، أنساب الأشراف/188 وتاريخ دمشق: 42/8.

4- الشيخان يشربان الخمر وينوحان على قتلى بدر!

بلغ من تأثير الإعلام القرشي، أن مجالس الخمر والسمر في المدينة كان يقرأ فيها شعر الرثاء والنياحة على قتلى بدر! وقد رووا أن مجلساً ضم أحد عشر صحابياً فيهم الشيخان أبو بكر وعمر، شربوا الخمر وغنوا بالنوح على قتلى بدر!

فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم!

وتتفاجأ بأن هذا الحديث صحيح عندهم، فقد رواه تمام الرازي المتوفى: 414، في كتابه الفوائد: 2/228، برقم: 1593 وطبعة: 3/481، بسند صحيح عن عوف، عن أبي القموص قال: «شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه، فأنشأ يقول:

ص: 25

تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ *** وهل لك بعد رهطك من سلام

ذريني أصطبح يا بكر إني *** رأيت الموت نقَّبَ عن هشام

فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ *** بألف من رجال أو سوام

فكائن بالطويِّ طويِّ بدر *** من القينات والخيل الكرام

فكائن بالطويِّ طويِّ بدر *** من الشيزى تُكلل بالسنام

فبلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه، فلما نظر إليه قال: أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله، والله لا يلج لي رأساً أبداً! فذهب عن رسول الله ما كان فيه، وخرج ونزل عليه: فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون؟! فقال عمر: انتهينا والله».

ورواه الثعلبي في تفسيره: 2/142 دون أن يسميهما قال: «وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة، ويشربونها في غير حين الصلاة، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر، ويقول... فبلغ ذلك رسول الله فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه، ورفع شيئاً كان بيده «سعفة» ليضربه، فلما عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، والله لا أطعمها أبداً».

ورواها ابن هشام: 2/549 بأطول منه، وفيها أبيات أبي بكر في إنكارالآخرة قال:

«يخبرنا الرسول بأن سنحيا *** وكيف حياة أصداءٍ وهامِ»!

وفي الصحيح من السيرة: 5/301:

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا *** وكيف حياة أصداءٍ وهامِ

أيعجز أن يرد الموت عني *** وينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمان عني *** بأني تارك شهر الصيام

فقل الله يمنعني شرابي *** وقل لله يمنعني طعامي»

وروى ابن حجر في الإصابة: 7/39 عن الفاكهي في كتاب مكة أن الرجل كان

ص: 26

أبابكر! وفيه: «شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول: فذكر الأبيات.فبلغ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي بكر، فلما نظر إلى وجهه محمراً، قال: نعوذ بالله من غضب رسول الله!والله لايلج لنا رأسا أبداً! فكان أول من حرمها على نفسه! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال: شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم، ورثى قتلى بدر من المشركين»!

وذكر ابن حجر في فتح الباري: 10/31، أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبي طلحة، وكانوا أحد عشر صحابياً، وكان ساقيهم أنس بن مالك! ثم قال: «ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة. ووقع عند عبدالرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سُلَيْمان التيمي عن أنس.ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس، أن أبابكر وعمر كانا فيهم! وهو منكر، مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطاً»!

يقصد أن سند الحديث صحيح وكان فيهم أبو بكر وعمر، لكن مكانتهما كثيرة فهو حديث مستنكر! لكن مذهبه إذا صح الحديث فلا قيمة لاستغراب معناه!

والأدهى من ذلك أن القصةكانت عند تواصل نزول سورة المائدة، أي قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بشهر أو شهرين! لأن آية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. «المائدة: 91». من سورة المائدة، وهي آخر سورة نزلت من القرآن، قبيل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) !

كما نلاحظ أن القصة انتشرت بين المسلمين، وقالوا إن القصيدة لأبي بكر! فنفت عائشة أن يكون أبوها نظم هذا الشعر، ولم تنف مشاركته في الحفلة وإنشاده!

فقد روى بخاري في صحيحه: 4/263 دفاعها فقال: «عن عائشة أن أبابكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن

ص: 27

عمها هذا الشاعر، الذي قال هذه القصيدة، ورثى كفار قريش:

وماذا بالقليب قليب بدر *** من الشيزى تزين بالسنام

وماذا بالقليب قليب بدر *** من القينات والشرب الكرام

تحييْ بالسلامة أم بكر *** وهل لي بعد قومي من سلام

يحدثنا الرسول بأن سنحيا *** وكيف حياة أصداء وهام»

لكن عائشة لم تحل المشكلة، لأنها نفت أن أباها نظم القصيدة ولم تنف إنشاده لها! فالمهم عندها نفي نظمها لأنها تثبت كفر ناظمها وإنكاره النبوة والآخرة، أما إنشادها فهو أقل مصيبةً!

وروى ابن حجر في الإصابة: 7/39 أنها كانت غاضبة لأن الناس لم يصدقوها! «كانت تدعو على من يقول إن أبابكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام، ولكن تزوج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف فلما هاجر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر، فتحامى الناس أبابكر من أجل المرأة التي طلقها، وإنما هو أبو بكر بن شعوب».

تقصد أن أم بكر المخاطبة بالقصيدة هي زوجة أبيها لكنه طلقها عندما هاجر، وتزوجها ابن شعوب وهو الذي نظم القصيدة! راجع في الموضوع: أمالي الطوسي/737، رواها بسبعة أبيات، ابن هشام: 2/549 ورواها بتسعة أبيات، الغدير: 6/251،7/96 و7/95،فتح الباري: 10/30، قد أطال في الموضوع ودافع بما يستطيع، لكن كلامه فيه تعجب وتحير، وسيرة ابن كثير: 2/535، مستدرك الوسائل: 17/83، السقيفة أم الفتن/74، فيض القدير: 1/ 117، الإصابة: 7/38، الصحيح من السيرة: 5/301 و304، مجمع الزوائد: 5/51، الهداية الكبرى/106، أمالي المرتضى: 2/18، النص والإجتهاد/311، أحاديث الشعر للمقدسي/57، النهاية:3/412، تفسير الثعلبي: 2/142 والإصابة: 7/38.

ص: 28

5- دين قريش القبول بالتناقض!

من تناقض القرشيين أنهم أرادوا خلافة النبي (صلی الله علیه و آله)، وبنفس الوقت أرادوا أن يأخذوا منه ثأر بدر! وقد ظهرت «مناحتهم» على قتلى بدرعلى ألسنة «خلفاء النبي (صلی الله علیه و آله)»! الذين يعرفون جيداً أنه لولا معركة بدر لما كان إسلامٌ، ولا خلافةٌ يجلسون على كرسيها! ويعرفون أن الذي يجلس على كرسي خلافة محمد يفترض أنه مسلم، وأنه إلى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) في معركة بدر، وضد من قتلهم من المشركين! لكن تعقيد الشخصية القرشية جعلتهم يتبنون نتيجة معركة بدر التي منها الخلافة، ويتبنون «مناحة قومهم» على قتلى بدر، لأنها تنفعهم ضد بني هاشم وتساعدهم في إبعادهم عن الخلافة!

قال عمر لابن عباس في محاورته الشهيرة في الخلافة: «كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتجخفوا جخفاً «تكبراً» فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.. أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لايزول»! تاريخ الطبري: 3/288، شرح النهج: 6/50، جمهرة الأمثال: 1/339 والعقد الفريد/1378.

وقال عبدالله بن عمر لعلي (علیه السلام): «كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأحُد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم»! المناقب: 3/21.

وتقدم قول عثمان لعلي (علیه السلام) مثل ذلك.

فالخلیفة المحترم يعرف أنه لولا قتل بني هاشم لمشركي قريش في بدر، لما كانت دولة النبي (صلی الله علیه و آله) التي يتنعم بحكمها! ويعرف أن قتلى بدر طغاة، عملوا لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر وقبلها. ويعرف أن قريشاً أعلنت إسلامها والمفروض أنها تبرأت من الشرك والمشركين!

ومع ذلك يعطي قريشاً الحق في كره بني هاشم ومطالبتهم بدماء مشركيها! فاعجب لخليفةٍ يدين منطق الإسلام الذي يلبس ثوبه ويحكم بإسمه!

وعندما تقوم «الخلافة» على أساس الثأر من بني هاشم، فمن الطبيعي أن تقوم بقتل الأئمة من عترة النبي (صلی الله علیه و آله) وتقمع شيعتهم، وتشوه سمعتهم، وتبيد

ص: 29

المصادر الثقافية لمذهبهم! وما زالت هذه السياسة سارية في العالم الإسلامي إلى اليوم!

لاحظ جواب الزهراء لأم سلمة (علیها السلام) «المناقب: 2/49»: «كيف أصبحت يابنت رسول الله؟فقالت: أصبحت بين كمد وكرب! فُقِدَ النبي (صلی الله علیه و آله) وظُلِمَ الوصي، وهُتك والله حجابه، وأصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي (صلی الله علیه و آله) في التأويل!ولكنها أحقاد بدرية وتِرات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثارمن مخيلة الشقاق».

وقال علي (علیه السلام) لقريش: «وإني لصاحبكم بالأمس، لعمر أبي وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد! أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم، كتداخل أسنان دوارة الرحى! فإن نطقت يقولون حسداً! وإن أسكت فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت! هيهات هيهات، الساعة يقال لي هذا؟! وأنا المميت المائت، وخواض المنايا في جوف ليل حالك». الإحتجاج: 1/127.

وقال عبدالرحمن بن جندب: «لما بويع عثمان، سمعت المقداد بن الأسود الكندي يقول لعبدالرحمن بن عوف: والله يا عبدالرحمن ما رأيت مثل ما أُتِيَ إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم (صلی الله علیه و آله) ! فقال له عبدالرحمن: وما أنت وذاك يا مقداد؟ قال: إني والله أحبهم لحب رسول الله لهم ويعتريني والله وجد لا أبثه بثة، لتشرُّف قريش على الناس بشرفهم واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أيديهم!

فقال له عبدالرحمن: ويحك والله لقد اجتهدت نفسي لكم! فقال له المقداد: أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد!

فقال له عبدالرحمن: ثكلتك أمك يا مقداد لا يسمعن هذا الكلام منك الناس، أما والله إني لخائف أن تكون صاحب فرقة وفتنة. قال جندب: فأتيته بعد ما انصرف من مقامه وقلت له: يا مقداد أنا من أعوانك، فقال: رحمك الله إن الذي نريد لايغني فيه الرجلان والثلاثة. فخرجت من عنده فدخلت على علي (علیه السلام) فذكرت له ما قال وما قلت. قال: فدعا لنا بالخير». أمالي المفيد/169.

ص: 30

وقال في الصحيح من السيرة: 6/154: «ولم تستطع قريش أن تنسى ثارات بدر وأحُد وسائر المعارك، حتى أن حرب صفين كما قالت أم الخير بنت الحريش: كانت لإحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبد شمس! بل إن مجزرة كربلاء وفاجعة قتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه كانت لها دوافع بدرية وإحن أحدية أيضاً، فقد قال اللعين يزيد بن معاوية: ليت أشياخي ببدر شهدوا... ولما وصل رأس الحسين (علیه السلام) إلى المدينة رمى مروان بالرأس نحو قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: يا محمد يوم بيوم بدر»!

وفي تاريخ الطبري: 8/187: «طلب يزيد بثارات المشركين عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها، ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها! وشفى بذلك حقد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهراً بكفره، ومظهراً لشركه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتكم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل!

هذا هو المروق من الدين، وقول من لايرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه»!

وقد أجابت زينب (علیها السلام) يزيداً في مجلسه فقالت له: «أتقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا.. غير متأثم ولامستعظم، وأنت تنكث ثنايا أبي عبدالله بمخصرتك! ولمَ لاتكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرية رسول الله ونجوم الأرض من آل عبدالمطلب. ولتردنَّ على الله وشيكاً موردهم، ولتودن أنك عميت وبكمت، وأنك لم تقل: فاستهلوا وأهلوا فرحاً.. اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا».بلاغات النساء لابن طيفور/20.

ص: 31

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لقي المنهال بن عمرو علي بن الحسين بن علي (علیه السلام) فقال له: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ قال: ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت؟ أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا! وأصبح خير البرية بعد محمد (صلی الله علیه و آله) يلعن على المنابر! وأصبح عدونا يعطى المال والشرف، وأصبح من يحبنا محقوراً منقوصاً حقه، وكذلك لم يزل المؤمنون! وأصبحت العجم تعرف للعرب حقها بأن محمداً منها، وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقها بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها! وأصبحنا أهل البیت لايُعرف لنا حق! فهكذا أصبحنا يا منهال»! تفسير القمي:2/134.

ص: 32

الفصل الثاني والأربعون: النبي (صلی الله علیه و آله) والعرب من غزوة بدر إلى أحد

1- ثلاث غزوات وعدة سرايا في سنة واحدة!

ينبغي التذكير بأن النبي (صلی الله علیه و آله) مسدد من ربه، لاينطق عن الهوى ولا يفعل إلا ما يؤمر به. ومن ذلك خروجه بنفسه لحرب عدوه، أو إرساله سرايا.

«رجع النبي (صلی الله علیه و آله) من بدر في الثاني والعشرين من رمضان في السنة الثانية للهجرة وكانت حرب أحُد في الرابع عشر من شوال سنة ثلاث للهجرة». المحبر/111.

وفي هذه السنة بعث النبي (صلی الله علیه و آله) عدة سرايا في مهمات دفاعية أو هجومية، وشارك بنفسه في ثلاث غزوات، وعدها بعضهم ستاً. عيون الأثر: 1/382.

والصحيح أنها ثلاثة، لكن تسميات الرواة لها متعددة.

كما بعث سرايا في مهمات خاصة لاغتيال يهود ناشطين في عداء الإسلام، منها سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك اليهودي، وسرية أخرى لقتل كعب بن الأشرف. «الطبقات: 2/27» وسرية لقتل عصماء بنت مروان.

2- غزوة بني سُلَيْم

غزوة بني سُلَيْم وبني غطفان بناحية نجد، وسماها بعضهم غزوة قرقرة الكَدَر لأنهم مروا فيها عليها، والقرقرة الأرض الملساء، والكَدَر اللون غير النقي. وهي نفسها غزوة الفرع، وغزوة بحران، وهو معدن بالحجاز، «ابن هشام: 6/18» قرب الفرع، «الطبري: 2404» وهي

ص: 33

نفسها غزوة ذي أمر، لوحدة أحداثهما.

«ولما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة من بدر لم يُقم بالمدينة إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سُلَيْم، حتى بلغ ماء من مياههم يقال له الكَدَر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفادى في إقامته جل أسارى بدر من قريش». إعلام الورى: 1/172.

3- غزوة ذات السويق

ثم كانت غزوة السويق، وذلك أن أبا سفيان نذر أن لايمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمداً (صلی الله علیه و آله) وكان العرب مع عبادتهم الأصنام فيهم بقايا شريعة إبراهيم الحنيفية ومنها غسل الجنابة. فخرج أبوسفيان في مائة راكب من قريش ليبرَّ يمينه، حتى إذا كان على بريد من المدينة أتى بني النضير ليلاً، فضرب على حيي بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير، فاستأذن عليه فأذن له وسارَّه، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه. وبعث رجلاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية يقال لها العريض، فوجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له فقتلوهما ثم انصرفوا.

ونذر بهم الناس أحسُّوا فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكَدَر، فرجع وقد فاته أبوسفيان، ورأوا زاداً من أزواد القوم قد طرحوها يتخففون منها للنجاء. فقال المسلمون حين رجع رسول الله بهم: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ فقال: نعم». إعلام الورى: 1/173.

وفي إمتاع الأسماع: 1/123، عن ابن إسحاق أنه (صلی الله علیه و آله) غزا قريشاً حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً».

والمرجح أنها نفس غزوة السويق، وهي تدل على أن أبا سفيان لم يستطع تجنيد أكثر من مئتي راكب، فجاء بهم خفية إلى قرب المدينة، وتسلل ليلاً مع بضعة أشخاص

ص: 34

إلى حلفائه يهود بني النضير في ضاحية المدينة، فخاف رئيسهم حي بن أخطب أن يفتح له وينقض عهده مع النبي (صلی الله علیه و آله) فذهب أبوسفيان إلى رئيس آخر من بني النضير هو ابن مشكم، ففتح له وتداول معه في حرب النبي (صلی الله علیه و آله) وشرب معه الخمر، ونصحه أن يرجع قبل أن يكتشف محمد (صلی الله علیه و آله) وجوده، فرجع تلك الليلة، لكنه أراد أن يقوم بعمل ما، فأرسل بضعة نفر إلى مزرعة معبد بن عمرو الأنصاري المنفردة عن المدينة، فقتلوه مع أجيره وأحرقوا زرعه ونخله!

فتبعهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأصحابه فأسرعوا وتخففوا من زادهم ورموه عن جمالهم، وكان السويق وهو الحنطة المحمصة المطحونة، يضاف اليها زيت أو سكر. فسميت غزوة السويق أو ذات السويق.

4- غزوة ذي أمر

بعد غزوة السويق أقام (صلی الله علیه و آله) بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، وكانت غزوة ذي أمر، وذلك لما بلغه أن جمعاً من غطفان تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، عليهم رجل يقال له: دعثور بن الحارث بن محارب، فخرج في أربع مائة وخمسين رجلاً ومعهم أفراس، وهرب منه الأعراب فوق ذرى الجبال ونزل (صلی الله علیه و آله) ذا أمر وعسكر به، وأصابهم مطر، فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) لحاجته فأصابه المطر فبلَّ ثوبه، فنزع ثيابه ونشرها لتجف وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، وكان وادي أمر بينه وبين أصحابه، والأعراب ينظرون إلى ما يفعل، فقالت الأعراب لدعثور وكان سيدهم وأشجعهم: قد أمكنك محمد وقد انفرد من بين أصحابه، فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً، ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسيف مشهوراً فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله! ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام على رأسه وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله لا أكثِّر عليك جمعاً أبداً! فأعطاه

ص: 35

رسول الله سيفه وأدبر، ثم أقبل بوجهه وقال: والله لأنت خير مني! قال رسول الله: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه فقيل له: أين ماكنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك؟ قال: قد كان والله ذلك، ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمداً رسول الله. والله لا أكَثِّرُ عليه! وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية: یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ..».

أقول: وردت روايات أخرى في قصة دعثور «راجع الصحيح: 6/17»وكان اليهود وقريش يحركون بعض قبائل نجد مثل بني سُلَيْم للغارة على المدينة، وكانت لهم سابقة في غزو المدينة، ومعارك مع الأوس والخزرج، فبادر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى غزوهم لدفع شرهم، فتفرقوا ولم يواجهوه، وهدى الله رئيسهم.

5- سرية حارثة بن زيد لاعتراض قافلة قريش

وأشهر سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) بعد بدر، سرية زيد بن حارثة لاعتراض قافلة قريش الذاهبة إلى الشام عن طريق العراق، وقد سميت غزوة قرقرة الكَدَر، لأنهم مروا عليها، وغزوة بني سُلَيْم لأنهم مروا عليهم، وغزوة القِرَدَة، باسم ماء في نجد. كما سميت غزوة مع أنها سرية وإسم الغزوة خاص بالتي يشارك فيها النبي (صلی الله علیه و آله).

قال في إعلام الورى: 1/174:«بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستة أشهر، فأصابوا عيراً لقريش على القردة فيها أبوسفيان ومعه فضة كثيرة، وذلك لأن قريشاً قد خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق، فأصاب زيد بن حارثة تلك العير وأعجزته الرجال هرباً. وفي رواية الواقدي: أن ذلك العير مع صفوان بن أمية، وأنهم قدموا بالعير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسروا رجلاً أو رجلين، وكان فرات بن حيان أسيراً فأسلم،

فتُرِكَ من القتل».

ص: 36

فأعطى النبي (صلی الله علیه و آله) خمسها لبني هاشم، فبلغ عشرين ألف درهم، وقسم الباقي بين المقاتلين. الإمتاع: 1/129.

وفي الطبقات: 2/36: «كانت لهلال جمادی الآخرة.. والقردة من أرض نجد بين الربذة والغمرة. وأسر فرات بن حيان فأتي به النبي (صلی الله علیه و آله) فقيل له إن تسلم تترك، فأسلم فتركه رسول الله».

6- محاولة قريش قتل النبي (صلی الله علیه و آله) ثأراً ببدر

كان صفوان بن أمية زعيم كنانة المتحالفة مع مشركي قريش، وكان ثرياً فجَنَّدَ شخصاً لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأرسله متخفياً إلى المدينة.

ففي الخرائج: 1/119 من حديث علي (علیه السلام) مع اليهودي عن معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ومنها: أن المشركين لما رجعوا من بدر إلى مكة أقبل عمير بن وهب الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية بن خالد الجمحي، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر! قال عمير: أجل والله ما في العيش بعدهم خير، ولولا ديْنٌ عليَّ لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئاً، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه، فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق، وإن لي عندهم علة، أقول قدمت على ابني هذا الأسير. ففرح صفوان بقوله وقال: يا أبا أمية هل نراك فاعلاً؟ قال: إي ورب البنية. قال صفوان: فعليَّ دينك وعيالك أسوة عيالي، وأنت تعلم أن ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله مني.فقال عمير: قد عرفت بذلك يا أبا وهب. قال: صفوان: فإن عيالك مع عيالي لن يسعني شئ ويعجز عنهم، ودَيْنك عليَّ. فحمله صفوان على بعيره وجهزه وأجرى على عياله ما يجري على عيال نفسه، وأمر عمير بسيفه فشُحذ وسُمَّ، ثم خرج إلى المدينة، وقال لصفوان: أكتم عليَّ أياماً حتى أقدمها. فلم يذكرها صفوان، فقدم عمير فنزل على باب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده، ثم عمد نحو رسول الله، فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: ما أقدمك يا عمير؟ قال: قدمت في أسيري

ص: 37

عندكم تفادوننا وتحسنون إلينا فيه فإنكم العشيرة. قال النبي (صلی الله علیه و آله): فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شئ! إنما نسيته حين نزلتُ وهو في رقبتي!

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): فما شرطت لصفوان في الحجر؟ ففزع عمير وقال: ماذا شرطت له؟ قال: تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك، والله حائل بيني وبين ذلك! قال عمير: أشهد أنك رسول الله وأنك صادق، وأن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان شيئاً بيني وبين صفوان كما قلت، لم يطلع عليه غيري وغيره، وقد أمرته أن يكتم عليَّ أياماً فأطلعك الله عليه، فآمنت بالله وبرسوله وشهدت أن ما جئت به صدق وحق! قال (صلی الله علیه و آله): علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا له أسيره.

فقال عمير: «إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله وقد هداني الله فله الحمد، فأذن لي لألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، فأذن له فلحق بمكة، وكان صفوان يسأل عن عمير فقيل له: إنه أسلم، فطرح عياله! وقدم عمير فدعاهم إلى الله وأخبرهم بصدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلم معه نفر كثير». ورواه في مغازي الواقدي/71، في الإحتجاج: 1/333، مختصراً ورواه ابن هشام: 2/485، لكن زاد فيه منقبة لعمر بأنه هو الذي اكتشف عميراً وحذر منه النبي (صلی الله علیه و آله) !

ص: 38

الفصل الثالث والأربعون: النبي (صلی الله علیه و آله) واليهود من غزوة بدرالى أحد

1- حاخامات اليهود في زمن النبي (صلی الله علیه و آله)

يتشابه زعماء بطون قريش مع أقاربهم اليهود إلى حد كبير، في عدائهم للنبي وعنادهم! فقد كذَّبوه وآذوه، وحاولوا قتله طول ثلاث عشرة سنة، وبعدها!

ثم هاجر (صلی الله علیه و آله) عنهم وطلب منهم أن يتركوه والعرب ويقفوا على الحياد، فلم يفعلوا، وأصروا على حربه، فحاربوه في بدر وانهزموا، ولم يأخذوا العبرة. ثم أحُد والخندق، ولم يأخذوا العبرة. وابتلاهم الله بالقحط والسنوات العجاف فكانوا كما قال الله عنهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. وباغتهم النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة ففتحها وأجبرهم على خلع سلاحهم فلم يعتبروا!

وكذلك اليهود في إصرارهم على عداوته (صلی الله علیه و آله) وحماقتهم وفتح الحروب عليه! فقد جاؤوا بعد المسيح (علیه السلام) إلى جزيرة العرب، وسكنوا في تيماء وأم القرى وخيبر والمدينة ومكة، ينتظرون النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)، وكانوا يتوعدون به العرب وأنه سيأتي ويكونون معه، وبذلك هيؤوا أهل المدينة للإيمان به! ولما بعثه الله تعالى كفروا به، لأنه من أولاد إسماعيل (علیه السلام) وليس من أولاد إسحاق (علیه السلام) ! وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ. البقرة: 89-90.

ص: 39

وكان اليهود مجموعات قبلية يرأسهم حاخاماتهم. وقد جاؤوا لهدف ديني هو انتظار بعثة النبي الموعود ومعهم كتبهم، وتحالفوا في المدينة مع الأوس والخزرج واشتغلوا بالزراعة والتجارة والصياغة.

وكان لهم في كل منطقة مدرستان: المدراس لتدريس التوراة وتسمى الفهر، «لسان العرب: 5/66» والمشناة، التي لتدريس التلمود أو الشريعة.

وكان أسوأ حاخاماتهم: كعب بن الأشرف رئيس بني النضير، وخليفته حیي بن أخطب، فقد أفرطا في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) وتحريك قريش والعرب ضده!

وذكر ابن هشام: 2/358 أسماء اليهود الذين نصبوا العداء للنبي (صلی الله علیه و آله) وكان ابن إسحاق خبيراً بهم، قال: «ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله (صلی الله علیه و آله) العداوة بغياً وحسداً وضغناً..وكانت أحبار يهودهم الذي يسألون رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم وفيما يسألون عنه.. منهم: حيي بن أخطب، وأخواه أبو ياسر بن أخطب، وجدي بن أخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق، وأخوه سلام بن الربيع..والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، وهو من طيئ، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف، وكردم ابن قيس، حليف كعب بن الأشرف، فهؤلاء من بني النضير.

ومن بني ثعلبة بن الفطيون: عبدالله بن صوريا الأعور، ولم يكن بالحجاز في زمانه أعلم بالتوراة منه، وابن صلوبا، ومخيريق، وكان حبرهم، أسلم.

ومن بني قينقاع: زيد بن اللصيت.. وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعزيز بن أبي عزيز، وعبدالله بن صيف. قال ابن إسحاق: وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف.. وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار.. ورافع بن حارثة،

ص: 40

ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبدالله بن سلام بن الحارث، وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدالله، فهؤلاء من بني قينقاع.

ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقضه عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وقردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا، فهؤلاء من بني قريظة.

ومن يهود بني زريق: لبيد بن أعصم، وهو الذي أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن نسائه. ومن يهود بني حارثة: كنانة بن صورياء. ومن يهود بني عمرو بن عوف: قردم بن عمرو. ومن يهود بني النجار: سلسلة بن برهام.

فهؤلاء أحبار اليهود، وأهل الشرور والعداوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه».

ومعنى قوله عن لبيد بن الأعصم بأنه أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن نسائه، أنه سحر النبي (صلی الله علیه و آله) كما زعمت عائشة فصار يتصور أنه قاربها ولم يقاربها! وهذا عندنا من المكذوبات على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما بينا في محله.

قال في الصحيح: 6/21: «اليهود شعب عنصري مؤمن بتفوق عنصره على البشر كافة! والناس عندهم لا قيمة لهم ولا اعتبار، وإنما خلقوا لخدمة الإسرائيليين وحسب! فكل الناس إذن يجب أن يكونوا في خدمتهم وتحت سلطتهم كما يقول لهم تلمودهم. فقد جاء في التلمود ما ملخصه: إن الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وإن اليهودي جزء من الله، ومن ضرب يهودياً فكأنه ضرب العزة الإلهية، والشعب المختار هم اليهود فقط، وأما باقي الشعوب فهم حيوانات. ويعتبر اليهود غير اليهود أعداء لهم ولا يجيز التلمود أن يشفق اليهود على أعدائهم. ويلزم التلمود الإسرائيليين بأن يكونوا دنسين مع الدنسين، ويمنع

ص: 41

من تحية غير اليهودي إلا أن يخشوا ضررهم، ولا يجيزون الصدقة على غير اليهودي ويجوز لهم سرقة ماله وغشه. كما أن على الأمميين أن يعملوا ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل. ويجيز التلمود التعدي على عرض الأجنبي لأن المرأة إن لم تكن يهودية فهي كالبهيمة. ولليهودي الحق في اغتصاب غير اليهوديات. ويحرم على اليهودي أن يُنجي غيره. إلى آخر ما هنالك».

ولم يسلم منهم إلا النادر مثل الحاخام مخيريق، وكان صادقاً، واستشهد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في أحُد، ورووا أن عبدالله بن سلام أسلم، ولا أظنه صادقاً!

2-كعب بن الأشرف رئيس بني النضير

في المناقب: 1/48: «قال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وفنحاص بن عازورا: يا محمد إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا في التوراة أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن زعمت أن الله بعثك الينا فجئنا به نصدقك،فنزلت: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ. البقرة: 89-90.

وقوله: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. أراد زكريا ويحيى وجميع من قتلهم اليهود».

وفي مجمع البيان: 3/347 أن كعباً جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عند هجرته وطلب منه معجزة فأراه، فاستكبر ولم يؤمن! وسألوه عندما خرج من عند النبي (صلی الله علیه و آله): «أهو نبي؟ فقال: هو هو! فقيل: ماله عندك؟ فقال: العداوة إلى الموت»!

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /92، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه، وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد، وقصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، وحججه ليبطلوها! فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه: مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وحيي بن

ص: 42

أخطب، وجدي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وأبو لبابة بن عبدالمنذر، وشعبة. فقال مالك لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا محمد تزعم أنك رسول الله؟

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين.

قال: يا محمد لن نؤمن لك أنك رسول الله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا! ولن نشهد أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط. وقال أبولبابة بن عبدالمنذر: لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله، ولا نشهد لك به حتى يؤمن ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي. وقال كعب بن الأشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنه ليس للعباد الإقتراح على الله تعالى، بل عليهم التَّسْليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعله كافياً. أما كفاكم أنه أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتي ودل على صدقي؟ وبين لكم فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، وأنزل عليَّ هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وأن يتكلفوا شبهه. وأما هذا الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عزوجل، بل أقول إنما أعطاني ربي تعالى من دلالة هو حسبي وحسبكم، فإن فعل عزوجل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوله علينا وعليكم، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا. قال: فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً صمداً حياً قيوماً أبداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يشرك في حكمه أحداً، وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركون. وأشهد أن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف أخوك ووصيك، وخليفتك في أمتك.. فعجب القوم وقال بعضهم لبعض: ما هذا إلا سحر مبين! فاضطرب البساط وارتفع..وأنطق الله سوط أبي لبابة، ثم أنطق حمار كعب بن الأشرف، فقال: هذا سحر!

ص: 43

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ياكعب بن الأشرف حمارك خير منك! فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ..».

وكان كعب يقود الحاخامات ضد النبي (صلی الله علیه و آله) ويتصلون بالمؤمنين من الأنصار ويلقون عليهم الشبهات ليكفروا، ونزلت فيهم آيات كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. آل عمران: 183.

وقد وقع اليهود بطوائفهم الثلاث: قينقاع والنضير وقريظة، معاهدات تعايش مع النبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم كانوا يتعاونون خفيةً مع قريش، وعندما انهزمت في بدر أصابهم الذهول، وقصد كعب وابن أخطب مكة يحرضانهم على النبي (صلی الله علیه و آله) !

وفي شرح النهج: 14/196 عن الواقدي، قال: «وفرق الله عزوجل ببدر بين الكفر والإيمان، وأذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضعت عنقه! وقال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة! وقالت يهود فيما بينها: هو الذي نجد نعته في كتبنا والله لاترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت! وقال كعب بن الأشرف: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها! هؤلاء أشراف الناس وساداتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن قد أصيبوا! وخرج إلى مكة فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة، وجعل يرسل هجاء المسلمين، ورثى قتلی بدر من المشركين فقال:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله *** ولمثل بدر يستهل ويدمع

قتلت سراة الناس حول حياضهم *** لا تبعدوا، إن الملوك تُصرَّع

نبئت أن الحارث بن هشامهم *** في الناس يبني الصالحات ويجمع

ليزور يثرب بالجموع وإنما *** يسعى على الحسب القديم الأروع

قال الواقدي.. فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة عنه وأظهروا المراثي، وقد كانوا حرَّموها كيلا يشمت المسلمون بهم! وجعل الصبيان والجواري ينشدونها بمكة، فناحت بها قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح،

ص: 44

وجَزَّ النساء شعورهن، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها! وخرجن إلى السكك وضربن الستور في الأزقة، فخرجن إليها ينحن»! ورواه ابن هشام بنحوه: 2/564 والمقريزي في الإمتاع: 12/179باثني عشر بيتاً.

وفي أسباب النزول/62: «وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة أبي سفیان وأصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ..».

3- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع بضاحية المدينة

كان بنو قينقاع صاغة يعملون بالذهب، وليس عندهم بساتين، ولهم سوق الذهب المعروف قرب المدينة. وكان بنو النضير أصحاب زراعة وبساتين، ويشبههم بنو قريظة. وعددهم جميعاً بضعة آلاف نسمة.

قال في إعلام الورى: 1/157: «قال علي بن إبراهيم بن هاشم: جاءته اليهود قريظة والنضير والقينقاع «كل يهود المدينة» فقالوا: يا محمد إلى مَ تدعو؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة، والذي أخبركم به علماؤكم أن مخرجي بمكة ومهاجري في هذه الحرة، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام. فقال: تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور، لنبي يبعث في هذه الحرة، مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالكسرة، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، ويضع سيفه على عاتقه، لايبالي من لاقى، وهو الضحوك القتال، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر.

فقالوا له: قد سمعنا ما تقول، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة، على أن لا نكون لك ولاعليك ولا نعين عليك أحداً، ولا نتعرض لأحد من أصحابك، ولا تتعرض لنا ولا لأحد من أصحابنا، حتى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك!

ص: 45

فأجابهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً: أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه، بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار، والله بذلك عليهم شهيد. فإن فعلوا فرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حل من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم!

وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة، وكان الذي تولى أمر بني النضير حیي بن أخطب. فلما رجع إلى منزله قال له أخواه جدي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب: ما عندك؟ قال: هو الذي نجده في التوراة، والذي بشرنا به علماؤنا، ولا أزال له عدواً، لأن النبوة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً!

وكان الذي ولي أمر قريظة كعب بن أسد، والذي تولى أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق، فقال لقومه: تعلمون أنه النبي المبعوث فهلمَّ نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين! فلم تجبه قينقاع إلى ذلك».

قال الشافعي في الأم: 4/181: «ولم تخرج «اليهود» إلى شئ من عداوته (صلی الله علیه و آله) بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر، فكلم بعضها بعضاً بعداوته والتحريض عليه». لكن في الصحيح: 6/36: «بدأ اليهود قبل بدر بالتحريض على الرسول والمسلمين والتعرض لهم بمختلف أنواع الأذى، فكان أبو عفك اليهودي يحرض على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقول فيه الشعر، فنذر سالم بن عمير أن يقتله أو يموت دونه، فذهب إليه فقتله..ثم كانت حرب بدر ونتائجها المذهلة، فزاد ذلك من مخاوف اليهود والمشركين والمنافقين على حد سواء، فصعَّدوا من نشاطاتهم». وعدَّد أنشطتهم ضد المسلمين فقال: 6/30:

«1 - قد أشار الجاحظ إلى أنهم شبَّهوا على العوام واستمالوا الضعفة، ومالؤوا الأعداء والحسدة، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة.الخ...

2 - طرح الأسئلة الإمتحانية على النبي (صلی الله علیه و آله) بهدف تعجيزه! ويلاحظ أن هذه المحاولات كانت تبذل من قبل مختلف قبائل اليهود.

ص: 46

3 - ولما فشلوا في محاولاتهم محاربة الإسلام على صعيد الفكر، اتجهوا نحو أسلوب الضغط الإقتصادي على المسلمين فيذكرون أن رجالاً من أهل الجاهلية باعوا يهوداً بضاعة ثم أسلموا وطلبوا من اليهود دفع الثمن فقالوا: ليس علينا أمانة، ولا قضاء عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم! فجاء في الآية المباركة الرد عليهم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الآمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.

4 - ممالأة أعداء الإسلام ومساعدتهم بكل ما أمكنهم، ولو بالتجسس.

5 - محاربة الإسلام أيضاً عن طريق إثارة الفتن بين المسلمين، ولا سيما بين الأوس والخزرج، ونذكر على سبيل المثال قضية شاس بن قيس.

6 - تآمرهم على حياة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وتحريضهم الناس عليه.

7 - محاولات إثارة البلبلة وتشويش الأوضاع، بإشاعة الأكاذيب وتخويف ضعاف النفوس من المسلمين.

8- تآمرهم مع المنافقين على الإسلام، وممالأتهم قريشاً على حرب الرسول (صلی الله علیه و آله).

9- تآمرهم لمنع المسلمين من الخروج للحرب، وكانوا يجتمعون في بيت سويلم اليهودي لأجل تثبيط الناس عن الرسول (صلی الله علیه و آله).وقد صبر الرسول عليهم، تفادياً لحرب أهلية في مقره الجديد.. حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبى».

أقول: من طريف أخبار اليهود أن بني قريظة والنضير كانوا حلفاء الأوس، وبني قينقاع حلفاء الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب، فكانت كل فئة من اليهود تحارب مع حلفائها فتقاتل إخوانها وتقتل منهم! فوبخهم الله تعالى وقال لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاتُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ

ص: 47

وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

البقرة: 84-85.

4- سارع بنو قينقاع بعد بدر إلى نقض عهدهم

كانت هزيمة قريش في بدر صاعقة على اليهود، فأسرع الحاخام كعب بن الأشرف إلى مكة لتقوية قلوب القرشيين، ونشط في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) وهجائه حتى أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتله! كما أعلن بنو قينقاع نقض عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) وأخذوا يستعدون لحربه، وكانوا صاغة اليهود وأكثرهم ثروة، ولهم سوق الذهب في ضاحية المدينة، المعروف باسم: سوق بني قينقاع. الحموي: 4/424.

وكان رئيس بني قينقاع الحاخام مخيريق رضی الله عنه، ورأَّسوه عليهم لأنه من بني النضير وهم وقريظة من ذرية هارون (علیه السلام)، لكنهم لم يطيعوه لما دعاهم إلى الإيمان بالنبي (صلی الله علیه و آله)، ونصحهم بعدم نقض عهدهم معه.

وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج وطرف حلفهم عبادة بن الصامت، وكان من النقباء وخيار الصحابة، وعبدالله بن سلول، وكان رأس المنافقين من أهل المدينة ومن الذين في قلوبهم مرض، أي الطبقة السياسية في المنافقين.

وكانت قريش تراسل ابن سلول وبني قينقاع قبل بدر، تحثهم على حرب النبي (صلی الله علیه و آله)، ومما كتبته اليهم: «إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم»!

فلما بلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ماكانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم! فلما سمعوا ذلك من النبي (صلی الله علیه و آله) تفرقوا. فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا إلى اليهود بعد وقعة بدر: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا. أبو داود: 2/33.

ص: 48

هنا سارع بنو قينقاع فنقضوا عهدهم وأخذوا يستعدون للحرب، فنزل قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ.

وفي تفسير القمي: 1/97: «لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بدرأتى بني قينقاع وهو يناديهم، وكان بها سوق يسمى سوق النبط، فأتاهم رسول الله فقال: يا معشر اليهود قد علمتم ما نزل بقريش، وهم أكثر عدداً وسلاحاً وكراعاً منكم، فادخلوا في الإسلام فقالوا: يا محمد أإنك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟! والله لو لقيتنا للقيت رجالاً! فنزل عليه جبرئيل فقال: يامحمد: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ». ونحوه ابن إسحاق: 3/294.

وفي إعلام الورى: 1/175: «كانت غزوة بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة. وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حاصرهم ستة أيام حتى نزلوا على حكمه..خرجوا من المدينة، ونزلوا أذرعات».

فكانت غزوتهم بعد بضعة وعشرين يوماً من رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من معركة بدر.

وفي سيرة ابن إسحاق: 3/295: «كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه، فقام اليه عبدالله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عنه رسول الله فقال: يا محمد أحسن، فأعرض عنه رسول الله، فأدخل يده في جيب درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له رسول الله وغضب رسول الله ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: لاوالله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ، أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع، منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هم لك»!

وفي الطبري: 2/173: «فقال النبي (صلی الله علیه و آله): خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، فأرسلوهم، ثم أمر بإجلائهم وغَنَّمَ الله عزوجل رسوله والمسلمين ما كان لهم

ص: 49

من مال، ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهم سلاحاً كثيراً وآلة صياغتهم، وكان الذي ولي إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ بهم ذباب وهو يقول: الأقصى فالأقصى».

ونحوه الطبقات: 2/29، وفيه: «وجدوا في حصنهم سلاحاً كثيراً وآلة الصياغة، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) صفيه والخمس، وفض أربعة أخماس على أصحابه، فكان أول خمسٍ خُمِّسَ بعد بدر».

5- رئيس بني قينقاع خير بني يهود

كان الحاخام مخيريق (رحمة الله) أغنى اليهود، وقد وفقه الله للإسلام فقصد النبي (صلی الله علیه و آله) عند وصوله إلى قباء وأسلم على يده، ودعا قومه إلى الإسلام وأن ينصروه في أحد فأبوا، فذهب إلى أحد بعد أن أوصى للنبي (صلی الله علیه و آله) بكل أمواله وكانت بساتين كبيرة وقاتل واستشهد في أحد رضی الله عنه.

قال في المناقب: 1/146: «وكان مخرنق أحد بني النضير حبراً عالماً أسلم وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصى بماله لرسول الله وهو سبع حوائط وهي: المينب، والصايفة، والحسنى، ويرقد، والعواف، والكلاء، ومشربة أم إبراهيم».

وفي الإصابة: 6/46: «كان عالماً وكان أوصى بأمواله للنبي (صلی الله علیه و آله) وهي سبع حوائط... وشهد أحداً فقتل بها فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مخيريق سابق يهود، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة... فلما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أحُد قال لليهود: ألا تنصرون محمداً؟ والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم! فقالوا: اليوم يوم السبت! فقال: لا سبت لكم! وأخذ سيفه ومضى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء..».

وفي سيرة ابن هشام: 2/362: «قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله. وقبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمواله فعامة صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمدينة منها».

ص: 50

وقد أرى الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يوقف أموال مخيريق، ويجعل ولايتها لابنته فاطمة الزهراء وذريتها (علیها السلام)، وكذا نخل بني النضير الذي أفاءه الله على نبيه (صلی الله علیه و آله) ولم يوجف عليه بخيل ولاركاب.

قال في فتح الباري: 6/140: «فكان نخل بني النضير لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها...وبقي منها صدقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي في أيدي

بني فاطمة رضی الله عنها». لكن أبابكر وعمر صادرا ه من الزهراء (علیها السلام) وصادرا فدكاً، بحجة أنهما وليا النبي (صلی الله علیه و آله) وقالا إنهما يعطيان المأكل والمشرب لعترة النبي (صلی الله علیه و آله) !

6- غزوة بني النضير

لم يكتف بنو النضير وسيدهم كعب بخيانة النبي (صلی الله علیه و آله)، بل حاولوا اغتياله! فأمره الله تعالى أن يقتل كعباً وبعض شرارهم لينذرهم بذلك، ثم يغزوهم.

«أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالكتائب فحصرهم فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي، إلا بعهد تعاهدوني عليه». سنن أبي داود: 2/33.

وفي الصحيح: 6/58: «فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوقهم، فجلست عند صائغ منهم لأجل حلي لها، فأرادوها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ أو رجل آخر إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تشعر! فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها، فصاحت فوثب مسلم على من فعل ذلك فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستنصر أهل المسلم بالمسلمين فغضب المسلمون، وقال (صلی الله علیه و آله): ماعلى هذا أقررناهم! فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار».

ص: 51

7- حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) بني النضير وانتصرعليهم بعلي (علیه السلام)

قال المفيد في الإرشاد: 1/92 ونحوه المناقب: 2/332: «لما توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بني النضير عمل على حصارهم، فضرب قبته في أقصى بني خطمة من البطحاء فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فأصاب القبة، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن تحول قبته إلى السفح، وأحاط به المهاجرون والأنصار. فلما اختلط الظلام فقدوا أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال الناس: يا رسول الله لا نرى علياً؟

فقال (صلی الله علیه و آله): أراه في بعض ما يصلح شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي (صلی الله علیه و آله) وكان يقال له عزورا، فطرحه بين يدي النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): كيف صنعت؟ فقال: إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غِرة، فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريباً، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم!

فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، فأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة، وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير. وفي تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف..«غير كعب المعروف».

وفيما كان من أميرالمؤمنين (علیه السلام) في هذه الغزاة وقتله اليهودي، ومجيئه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) برؤوس التسعة النفر، يقول حسان:

لله أي كريهة أبليتَها *** ببني قريظة والنفوس تطلَّعُ

أردى رئيسهم وآبَ بتسعة *** طوراً يشلهم وطوراً يدفع»

وفي الصحيح: 8/92 تحت عنوان: الفتح على يد علي (علیه السلام): ما حاصله:

«كان لهذه الضربة تأثير كبير على معنويات بني النضير، وضج الرعب في قلوبهم فإن تصدي رجل واحد من المسلمين لعشرة منهم، ثم قتل العشرة جميعاً، يؤذن بأن

ص: 52

المسلمين قادرون على إبادتهم، واستئصال شأفتهم بسهولة ويسر!

ويلاحظ أن شعر حسان ذكر أن هذه القضية وقعت في بني قريظة، لكن الرواية تنص على حدوث ذلك في بني النضير، فيكون الخلل في الرواية لشعر حسان».

8- غرور بني النضير عند جلائهم!

حكم النبي (صلی الله علیه و آله) على بني النضير بالجلاء عن المدينة بسبب خيانتهم وحربهم، فهاجروا إلى درعا، وتعمدوا أن يخرجوا بمظاهر الزينة والإحتفال!

قال في الصحيح، ملخصاً: 8/174: «فخرجوا ومعهم الدفوف والمزاميرتجلداً.. ثم شقوا سوق المدينة والنساء في الهوادج، عليهن الحرير والديباج، وقطف الخز الخضر والحمر، قد صف لهم الناس فجعلوا يمرون قطاراً في إثر قطار، فحملوا على ست مائة بعير. ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير. ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ورفع مسك الجمل: إن هذا المسك مملوء من الحلي.. نعده لخفض الأرض ورفعها، فإن يكن النخل تركناه فإنا نقدم على نخل بخيبر.

فقد كان بنو النضير أهل جبروت وقسوة وبغي وعنجهية واعتداد بالنفس، حتى إنهم ليظلمون إخوانهم من بني قريظة، وهم أيضاً من بني هارون ظلماً فاحشاً، ومخالفاً لأحكام التوراة الصريحة، وحتى لأحكام أهل الجاهلية! واستقبلهم يهود خيبر بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر، مارؤي مثله من حي من الناس في زمانهم». وفي الصحيح: 8/142: «تنص الروايات على أن الرجل من بني النضير كان يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به»!

9- بداية حشر اليهود بإجلاء بني النضير

اشارة

في تفسير القمي: 2/358: «سورة الحشر مدنية آياتها أربع وعشرون: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا...

ص: 53

سبب نزول ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بنو النضير وقريظة وقينقاع، وكان بينهم وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله) عهد ومدة فنقضوا عهدهم، وكان سبب ذلك من بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، وكان قصد كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال: مرحباً يا أبا القاسم وأهلاً! وقام كأنه يضع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك، فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري: إذهب إلى بني النضير فأخبرهم أن الله عزوجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر، فإما أن تخرجوا من بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب!

فقالوا: نخرج من بلادك. فبعث إليهم عبدالله بن أبيّ ألا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب، فإني أنصركم أنا وقومي وحلفاي، فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم. فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيؤوا للقتال، وبعثوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع. فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكبر وكبر أصحابه، وقال لأميرالمؤمنين (علیه السلام): تقدم إلى بني النضير، فأخذ أميرالمؤمنين (علیه السلام) الراية وتقدم، وجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحاط بحصنهم. وغدر بهم عبدالله بن أبيّ! وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه، وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك، وقالوا يا محمد: إن الله يأمرك بالفساد؟ إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه.

فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد نخرج من بلادك وأعطنا ما لنا. فقال: لا، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياماً، ثم قالوا: نخرج ولنا ما حملت الإبل، فقال: لا، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئاً فمن وجدنا معه شيئاً من ذلك قتلناه، فخرجوا على ذلك، ووقع قوم منهم إلى فدك ووادي القرى، وخرج منهم قوم إلى الشام، فأنزل الله فيهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ

ص: 54

لَمْ يَحْتَسِبُوا.. إلى قوله: شديد العقاب.

وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ.. إلى قوله: رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ.

وأنزل الله عليه في عبدالله بن أبيّ وأصحابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لآخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ.. إلى قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.ثم قال: مَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يعني بني قينقاع، قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ثم ضرب في عبدالله بن أبيّ وبني النضير مثلاً، فقال: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ...

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأنصار:«إن شئتم دفعت إليكم فَيْء المهاجرين منها، وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم وتركتهم معكم؟ قالوا: قد شئنا أن تقسمها فيهم، فقسمها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين ودفعها عن الأنصار، ولم يعط من الأنصار إلا رجلين: سهيل بن حنيف وأبو دجانة، فإنهما ذكرا حاجة».

وتقدم أن بني النضير أخذوا ما حملت الإبل، فلا بد أن يكون هؤلاء بنو قريظة.

وفي هذا الموضوع أربع مسائل:

المسألة الأولى: معنى حشر اليهود وهو موضوع السورة:

فقد سماه الله تعالى الحشر الأول، ولا تجد في كلام المفسرين ما يقنعك بحشرهم الأول والثاني! وغاية ما ذكروه أن الحشر الأول إجلاؤهم من الحجاز إلى الشام والثاني حشرهم في الآخرة من بلاد الشام أيضاً أو من عدن! ورتبوا عليهما ما رووه من أن الشام أرض المحشر والمنشر، وأن الناس يحشرون من عدن بنار تسوقهم إلى الشام أرض المحشر.

لكن يردُّه أن سورة الحشر نزلت في حشر بني النضير، وقد بدأ حشر اليهود ببني قينقاع الذين أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) قبلهم؟ وأجابوا بأن بني النضير أول من

ص: 55

حشروا إلى الشام، ولا يصح ذلك لأن بني قينقاع ذهبوا إلى أذرعات الشام، وهي المعروفة اليوم بدرعا، بينما ذهب أكثر بني النضير إلى خيبر وقليل منهم إلى الشام!

والجواب المقنع: أن حشر اليهود الثاني يكون عند ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ويعبر عنه بيوم الرجعة، أي رجعة أهل البیت (علیهم السلام). التفسير الأصفى: 2/1281.

ويرتبط حشرهم بآيات إفسادهم في الأرض مرتين، وقد كان إفسادهم الأول قبل الإسلام وانتهى بهزيمتهم وحشرهم الأول على يد النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم كان إفسادهم الثاني بعد الإسلام وينتهي بحشرهم الثاني الذي قال عنه الله تعالى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرض فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا. الإسراء: 104.

أما لماذا جعل الله تعالى إجلاء بني النضير أول حشر اليهود وليس بني قينقاع؟ فقد يكون السبب أن بني النضير كانت لهم أراض وبساتين فأجلاهم منها، بينما كان بنو قينقاع صاغة وتجار ذهب، وأن بني النضير من ذرية هارون دون بني قينقاع. فقد يكون للأرض، أو لقادة بني إسرائيل، دخلاً في بدء الإجلاء.

والجواب الأقوى: أن إجلاء اليهود وحشرهم بدأ ببني قينقاع وتواصل ببقيتهم لكن الحكمة اقتضت تأخير نزول السورة التي ذكرت حشرهم إلى ما بعد إجلاء بني النضير، كما أجمع المفسرون، أو بعد إجلاء بني قريظة كما هو محتمل، ولعلها لو نزلت بعد إجلاء بني قينقاع، لأضر ذلك بخطة إجلاء الباقين.

المسألة الثانية: هل قطع النبي (صلی الله علیه و آله) نخل بني النضير أو أحرقه؟

ذكرت مصادر الجميع أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر بقطع بعض النخلات من بساتين بني النضير، وقد تكون نخلات ملتفة تقع بين معسكره وحصونهم، كانوا يتخذونها مخبأ لعمليات ليلية، فقطع منها أو من سعفها الملتف بقدر الضرورة، ويؤيده أنهم سموها البويرة أي الأرض الصغيرة التي كانت بوراً غير مغروسة ثم غرست.

لاحظ قول ابن شهراشوب في المناقب: 1/170: «ثم حاصرهم نيفاً وعشرين يوماً وأمر بقطع نخلات، قوله:مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ، وهي البويرة في قول حسان».

ص: 56

فالمقطوع هو نخلات قطعها المسلمون بإجازة النبي (صلی الله علیه و آله) لغرض مشروع! لكن رواة السلطة بالغوا في المسألة وصوروا الأمر كأنه إبادة منطقة نخيل واسعة، وغرضهم أن يبرروا ماارتكبه بعضهم في الفتوحات أو الحروب الداخلية من إحراق أشجار وبيوت! لاحظ تضخيم البخاري: 5/23: «حرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) نخل بني النضير وقطعه، وهي البويرة، فنزل: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ».وغرضه إثبات منقبة لبعض الصحابة كانوا بزعمه أعقل من النبي (صلی الله علیه و آله) وأرحم فنهوه عن ذلك!

قال السرخسي في المبسوط: 10/32: «وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى أتاه عمر فقال: أليس أن الله تعالى وعدك خيبر؟فقال: نعم. فقال: إذاً تقطع نخيلك ونخيل أصحابك! فأمر بالكف عن ذلك! ولما حاصر ثقيفاً أمر بقطع النخيل والكروم، حتى شق ذلك عليهم»!

وفي السير الكبير: 1/55: «قال الراوي: فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم: هذا مما قطع رسول الله!والنطاة اسم حصن من حصون خيبر»!

وفي دلائل النبوة للبيهقي: 5/157وسننه: 9/90: «وزاد عروة في روايته قال: وأمر رسول الله المسلمين حين حاصروا ثقيفاً أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم! فأتاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إنها عفاء لم تؤكل ثمارها! فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثماره الأول فالأول»!

كما رووا أن أبابكر كان أعقل من النبي (صلی الله علیه و آله) أيضاً فأوصى بأن لايقطع الشجر! فهي روايات موظفة لمدح عمر وأبي بكر ولو بالطعن بالنبي (صلی الله علیه و آله) ! تعويضاً لهما عن عدم مشاركتهما في قتال! وهذا كافٍ لإسقاط الرواية.

المسألةالثالثة: لماذا جعلاللهأرض بنيالنضير ملكاً خاصاً للنبي (صلی الله علیه و آله) ؟

اشارة

نص القرآن على أن البلاد التي تفتح بدون قتال تكون ملكاً خاصاً للنبي (صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ

ص: 57

رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. الحشر: 6.

وفي المقنعة للمفيد/278: «الأنفال لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصة في حياته، وهي للإمام القائم مقامه من بعده خالصة، كما كانت له عليه وآله السلام في حياته، قال الله عزوجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ.وماكان للرسول من ذلك فهو لخليفته القائم في الأمة مقامه من بعده. والأنفال كل أرض فتحت من غيرأن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرضون الموات، وتركات من لاوارث له من الأهل والقرابات، والآجام، والبحار، والمفاوز، والمعادن، وقطايع الملوك. روي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: نحن قوم فرض الله تعالى طاعتنا في القرآن، لنا الأنفال، ولنا صفو الأموال. يعني بصفوها ما أحب الإمام من الغنائم واصطفاه لنفسه قبل القسمة، من الجارية الحسناء والفرس الفارِهِ والثوب الحسن، وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع، على ما جاء به الأثر من هذا التفسير عن السادة:». وجواهر الكلام: 16/7، 117، 137 و 21/169.

وقد اتفق المسلمون على أن أراضي بني النضير خاصة للنبي (صلی الله علیه و آله) دون غيره. ففي سنن أبي داود: 2/33، تاريخ المدينة: 1/173 وفتح الباري: 6/140: «فكان نخل بني النضير لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها..وبقي منها صدقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي في أيدي بني فاطمة رضی الله عنها».

وقال المفيد في الإرشاد: 1/92 ونحوه المناقب: 2/332: «واصطفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أموال بني النضير، فكانت أول صافية قسمها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين الأولين، وأمر علياً (علیه السلام) فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة، فكان في يده أيام حياته، ثم في يد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعده، وهو في ولد فاطمة (علیها السلام) حتى اليوم».

أقول: يضاف إلى ما أجمع عليه فقهاؤنا ما روته مصادرنا: أن الله تعالى مَلَّكَ الأرض كلها لنبيه (صلی الله علیه و آله) وبعده للإمام من أهل بيته: كقول الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «قال رسول الله: خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم فلرسول الله (صلی الله علیه و آله) وماكان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد:». الكافي: 1/409.

وفي الكافي: 1/407، عن أبي خالد الكابلي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «وجدنا في كتاب

ص: 58

علي (علیه السلام) أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها. فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها، فهو أحق بها من الذي تركها، يؤدي خراجها إلى الامام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله». الكافي: 1/408.

وقد صادروها بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم ردها عمر، ثم صادروها وادعوا أنهم

أولى بها..الخ.

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه الخطط السياسية/311:

1 - ترك رسول الله الحوائط السبعة اللاتي وهبهن له مخيريق.

2 - ما وهبه الأنصار إياه، وهو كل ما ارتفع من أراضيهم الزراعية.

3 - أراضي بني النضير الزراعية ونخيلها.

4 - ثمانية أسهم من مجموع: 36 سهماً من أراضي خيبر.

5 - أراضي وادي القرى الزراعية.

وبعد وفاة الرسول استولى عليها أبو بكر. جاء في مجمع الزوائد: 9/39 عن عمر، أنه «لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله! قال فقلت: والذي بخيبر؟ قال: والذي بخيبر. قلت: والذي بفدك؟ قال: والذي بفدك. فقلت: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير!

قرارات إقتصادية لا بد منها: لإجبار الآل الكرام على الإحتكام للسلطة، بغض النظر عن طبيعة القرارات التي ستصدر عنها.

ص: 59

1- تجريد الآل الكرام من سلاح خطير وهو المال، فإذا استعمله الآل الكرام، فقد يؤلفون به قلوب المسلمين ويستميلونهم لصالح قضيتهم.

2- ربط الآل الكرام بالسلطة الحاكمة، وجعل رغيفهم بيد هذه السلطة، لتضمن السيطرة الكاملة عليهم وتحييدهم وإلغاء دورهم كقيادة سياسية شرعية.

3 - عزل الآل الكرام شعبياً حتى تميل عنهم أعين الناس.

4- الحيلولة العملية بين الآل الكرام والمطالبة بالجمع بين النبوة والخلافة.

تحقيق هذه الأهداف

فقد فاوض الآل الكرام واحتكموا إلى السلطة، فحكمت السلطة بتنفيذ قراراتها الإقتصادية، وحرمانهم من التركة ومن المنح ومن سهم ذوي القربى! وبموت فاطمة انصرف الناس عن علي فشق بنفسه طريق المصالحة وبايع هو وبنو هاشم وسلموا بالأمر الواقع! فعساه أن يتمكن يوماً من اطلاع الأمة على الحقيقة المرة وأن يبصر الناس بالتقاطيع الأساسية للمنظومة السياسية الإلهية فيقارنوا بينها وبين ما حدث في التاريخ»!

من أين يأكلون بحق السماء؟!

قال في الخطط السياسية/321، تحت هذا العنوان: مشكلة الآل الكرام الحقيقية أنه محظور عليهم أن يأخذوا الصدقة فهي محرمة عليهم، لذلك خصهم الله تعالى بسهم ذوي القربى لتغطية هذه الناحية. هل يعيش الآل الكرام وأهل البیت عيش السوقة؟ هل يتسولون الناس؟ من أين يأكلون؟

عن أنس بن مالك أن أبابكر قال لفاطمة عندما سألته عن سهم ذوي القربى: أفَلَكِ هو ولأقربائك؟ قالت نعم، قال: لا، أنفق عليكم منه. وقال مرة: السهم لكم في حال حياة النبي، وبعد موته ليس لكم. و«في سنن الترمذي: 7/111» أن أبابكر قال: إني أعول من كان يعول رسول الله، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه!

فالدولة إذاً هي تنفق على أهل بيت محمد بدليل قول أبي بكر: إن رسول الله قال لانورث ما تركناه فهو صدقة، أن يأكل آل محمد من هذا المال، ليس لهم أن

ص: 60

يزيدوا على المأكل. فالحاكم يقدم لهم المأكل ولا يزيدون على المأكل! فطوال التاريخ يجب على أهل البیت أن يرتبطوا بالحاكم الذي يقدم لهم المأكل، ومن الحشمة وحسن الخلق أن يطيع الإنسان من يطعمه»! راجع البخاري: 2/200، أبا داود: 2/49 والنسائي: 2/ 179.

المسألة الرابعة: مسجد الفضيخ وتحريم الخمر

قال في الصحيح: 8/186ما حاصله: «قال اليعقوبي وغيره: في هذه الغزوة شرب المسلمون الخمر فسكروا فنزل تحريم الخمر.. قال في الروضة: إن غزوة بني النضير سنة ثلاث: وإن تحريم الخمر بعد غزوة أحد. وروى القمي أنه لما نزل تحريم الخمر خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المسجد فقعد فيه، ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينتبذون فيها فأكفأها كلها وقال: هذه كلها خمر وقد حرمها الله. وكان أكثر شي أكفئ يومئذ من الأشربة الفضيخ فلذلك سمي المسجد بمسجد الفضيخ.

وأكثر من ذلك كله جرأة على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ما رووه عن ابن عمر: أن النبي أتي بجرة فضيخ فلذلك سمي مسجد الفضيخ! والفضيخ: عصير العنب وشراب يتخذ من التمر. ومسجد الفضيخ هو المعروف بمسجد رد الشمس.

ونقول: إن تحريم الخمر كان في مكة، فإن صح شئ من هذه الرواية فلابد أن يكون الصحابة خالفوا حكم الله فيها وارتكبوا الحرام فنهاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله).. وقد يكون أتيَ به فرفضه ونهى عنه».

ص: 61

الفصل الرابع والأربعون: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة

1- مكة قبل بيت المقدس قبلة آدم ونوح وإبراهيم (علیهم السلام)

منذ أن أسكن الله آدم (علیه السلام) وبنيه في الأرض، أمرهم أن يتجهوا في صلاتهم إلى مركز في الأرض يسمى القبلة، فكانوا يصلون إلى الكعبة، فهي كما قال الله تعالى: إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. ثم جعل الله بيت المقدس قبلة لإبراهيم (علیه السلام)، وأمره في نفس الوقت أن يجدد بناء الكعبة.

وعندما بعث الله رسوله (صلی الله علیه و آله) أمره أن يتجه إلى قبلة جده إبراهيم (علیه السلام) لحكمة، ثم أمره بعد هجرته أن يتجه إلى القبلة الأولى لأجداده آدم والأنبياء:، وأنزل عليه: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.

وقد جعل اليهود قبلة إبراهيم (علیه السلام) قبلة قومية وتعصبوا لها وفضلوها على الكعبة، مع أن الكعبة أقدم منها، وقد جدد إبراهيم (علیه السلام) بناءها.

في الكافي: 4/239 قال زرارة (رحمة الله): «كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (علیه السلام) وهو محتبٍ مستقبل الكعبة فقال: أما إن النظر إليها عبادة، فجاءه رجل من بجيلة يقال له: عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر: إن كعب الأحبار كان يقول: إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة! فقال أبوجعفر: فما تقول فيما قال كعب؟ فقال: صدق، القول ما قال كعب!

فقال أبوجعفر (علیه السلام): كذبت وكذب كعب الأحبار معك، وغضب! قال زرارة: ما رأيته

ص: 62

استقبل أحداً بقول كذبت غيره! ثم قال: ما خلق الله عزوجل بقعة في الأرض أحب إليه منها، ثم أومأ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله عزوجل منها، لها حرَّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض، ثلاثة متوالية للحج: شوال وذو العقدة وذو الحجة، وشهر مفرد للعمرة رجب».

2- الكعبة والأمة الوسط

قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ..

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَاكُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلايَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاتَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون.البقرة: 143-150.

قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: 6/368: «في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سألته هل كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي إلى بيت المقدس؟ قال نعم. فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال أما إذا كان بمكة فلا، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم، حتى حُوِّل إلى الكعبة.

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي بإسناده إلى الصادق أن

ص: 63

النبي (صلی الله علیه و آله) صلى بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة، وبعد هجرته (صلی الله علیه و آله) صلى بالمدينة سبعة أشهر، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقولون له أنت تابعٌ لنا تصلي إلى قبلتنا، فاغتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك غماً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمراً، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ.الآية. فصلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة. وقال الصدوق في الفقيه..ثم أخذ بيد النبي (صلی الله علیه و آله) فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة. وبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة، فكانت أول صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين.فقال المسلمون: صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله عزوجل: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ. يعني صلاتكم إلى بيت المقدس».

أقول: وروينا، أن تحويل القبلة كان في النصف من رجب في السنة الثانية للهجرة كما في مسارّ الشيعة للمفيد/57، إقبال الأعمال: 3/254 وغيرهما.

وفي تهذيب الأحكام: 2/43: «إن بني عبدالأشهل أتوْهم وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم: إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة، فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين. فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين».

وروى في تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /491، مناقشة اليهود للنبي (صلی الله علیه و آله) في تغيير القبلة إلى الكعبة، وفيه: «وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن، أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل، فإن ما يخالف الحق فهو باطل. أو باطلاً كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة، فما يؤمننا أن تكون إلى الآن على باطل؟

ص: 64

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«بل ذلك كان حقاً وهذا حق، يقول الله: قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم. ثم قال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد تركتم العمل يوم السبت، ثم عملتم بعده من سائر الأيام، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده، أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى حق، أو الباطل إلى باطل أو الحق إلى حق؟قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم! قالوا: بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق».

3- ترك بنو أمية الكعبة وحججوا الناس إلى بيت المقدس!

لما سيطر ابن الزبير على الحجاز، استغل موسم الحج لنشر أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في بني مروان ولعنهم، فخاف عبدالملك بن مروان من ذلك فمنع الحج، وأمر الناس أن يحجوا بدل مكة إلى بيت المقدس!

قال اليعقوبي: 2/261: «فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا؟! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس. وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام. وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة!فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية»!!

فانظر إلى جرأة حكومات الخلافة على تحريف الإسلام، والى ضعف دين المسلمين ومطاوعتهم لها! وفي مقابل ذلك قام الإمام زين العابدين (علیه السلام) بنشاط واسع لتركيز مكانة الكعبة الشريفة، وإحباط عمل السلطة، كما وثقناه في سيرته (علیه السلام).

ص: 65

الفصل الخامس والأربعون: زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعائشة وحفصة

زوجات الأنبياء (علیهم السلام) فيهم الصالحات والطالحات

اعتقادنا أن كل أعمال النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر ربه، فكما أنه لا ينطق عن الهوى، لايفعل عن الهوى، وزواجه (صلی الله علیه و آله) كله بأمر ربه، وحِكْمَته وأغراضه متعددة، لجلب منفعة للرسالة أو دفع مفسدة عنها. لكنه لايدل على اختيار إلهي لتلك الزوجة وأسرتها، إلا إذا نص النبي (صلی الله علیه و آله) على ذلك. فلا قيمة لما تخيله البعض أو زعموه.

وقد بين الله عزوجل ذلك في المثل الذي ضربه لنساء النبي (صلی الله علیه و آله) بزوجتي نوح ولوط، فقال:: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ.التحريم: 10-12.

فلا يصح الإستدلال على مدح نساء النبي (صلی الله علیه و آله) بقوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ للَّطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ للَّطَّيِّبَاتِ، لأن الآية تقصد أهل الجنة، لا أهل الدنيا.

وقد روت عائشة في مدح نفسها كثيراً، وادعت أن جبرئيل جاء النبي (صلی الله علیه و آله) بصورتها على منديل حرير، وقال له: «هذه زوجتك في الدنيا والآخرة».«تاريخ بغداد: 11/221». ورووا أن جبرئيل طبع صورتها على كف النبي (صلی الله علیه و آله)»! وشهد الذهبي بأنه مكذوب، ميزان الإعتدال: 3/44.

ص: 66

وقال الشيخ أبو رية في كتابه أبو هريرة شيخ المضيرة/135: «أسرع أبو هريرة فتبرع بحديث من كيسه يقول فيه: إن طول تلك الخرقة ذراعان وعرضها شبر»!

ونحن لانثق بأحاديث عائشة، وحفصة خاصة في مدح نفسيهما وأسرتيهما، ونعتقد أنه تزوجهما لمصلحة، وأنهما عملتا ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وتظاهرتا عليه بنص القرآن، فأنزل الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ. عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا.

وأنهما عصتا الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وشقتا عصا المسلمين، وخرجت عائشة على إمامها (علیه السلام)، وسببت قتل ألوف المسلمين، وانقسام الأمة!

عائلتا عائشة وحفصة

إسمها عائشة بنت أبي بكر وإسمه عتيق بن أبي قحافة، وقبيلته بنو تيم بن مرة. وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل، وقبيلته بنو عَدِيّ، وهما من القبائل الصغيرة، ولعل عدد تيم عند بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) نحو ثلاث مئة نفر، وعدد قبيلة عدي لا يبلغ مئة. ولم يكن لهما موقع بين قبائل مكة، ولذلك قال أبوسفيان لعلي (علیه السلام) عندما تفاجأ ببيعة أبي بكر كما في تاريخ الطبري: 2/449: «ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً»!

وذكر المؤرخ ابن حبيب في المنمق/80، أن بني عدي سرقوا ناقة لبني عبد شمس فطردوهم من مكة!«فارتحلوا، وتعرض بنو سهم لهم وأنزلوهم بين أظهرهم، وقالوا: والله لاتخرجون! وأم سهم بن عمرو الأَلُوف بنت عدي بن كعب، فأقاموا وهم حلف بني سهم».

وقال ابن حبيب/129، إنهم لقلتهم لم يكن لهم رئيس:«ولم يكن من قريش قبيلة إلا وفيها سيد يقوم بأمرها ويطلب بثأرها، إلا عدي بن كعب».

وكان مسكنهم خارج مكة في الحثمات، وقد رأيت الحثمات قريباً من غار ثور،

ص: 67

وهي صخرات سوداء كبار ليس بينها فسحة لنصب خيمة كبيرة.

قال البكري في معجمه: 2/425: «الحثمة بفتح أوله وإسكان ثانيه: صخرات بأسفل مكة بها رَبْعُ عمر بن الخطاب». ومعجم البلدان: 2/218 ولسان العرب: 12/115.

وعليه، فقد ولدت عائشة وحفصة ونشأتا في بيت عادي فقير، ولاصحة لزعم عائشة بأن أباها كان ثرياً، وأنه كان ينفق على النبي (صلی الله علیه و آله) !

مبالغة عائشة في فضائل أبيها وثروته

أكثروا من روايات عائشة عن هجرة أبيها وثروته الطائلة، وعن هجرتها وفضائلها هي. مع أن النبي (صلی الله علیه و آله) صادف أبابكر في طريق هجرته فأخذه معه، وأمر علياً (علیه السلام) في الغار أن يشتري منه بعيراً لدليله ابن أريقط، فاشتراه من أبي بكر ونقَّده الثمن أربع مئة درهم أو ثمان مئة كما روى ابن حجر، ثم مات البعير في الطريق فاستأجر النبي (صلی الله علیه و آله) بعيراً لدليله لبقية الطريق!

وعندما وصل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قباء أصرَّ عليه أبو بكر أن يدخل إلى المدينة فأبى، فتركه من عصر ذلك اليوم وذهب إلى السنح فلا تسمع له خبراً في الهجرة!

أما عن ثروة أبي بكر: فكان في الجاهلية معلم صبيان وصار خياطاً. ولما ولي أمر المسلمين، قال لهم:»إني أحتاج إلى القوت فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال. والنبي (صلی الله علیه و آله) كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش، وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شئ البتة.منهاج الكرامة/187.

وعندما استُخلف أبو بكر قال: «إن حرفتي لم تكن لتعجز عن مؤونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال».«الطبقات: 3/184». فجعلوا له كل يوم درهمين ونصف شاة.«مغني ابن قدامه: 11/377». ثم جعلوا له ألفي درهم في السنة: «فقال زيدوني فإن لي عيالاً، وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمس مائة». الطبقات:3/184.

وفي الطبقات: 3/186: «فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على

ص: 68

رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرس له، وعليه إزار ورداء ممشق، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح.فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب. وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة فيُجَمِّع بالناس. وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو نفسه فيها».

قال في منهاج الكرامة/187:»أما إنفاقه على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكذب، لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيراً في الغاية وكان ينادي على مائدة عبدالله بن جدعان بمد في كل يوم يقتات به! فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه».

أقول: تبارت أسماء بنت أبي بكر مع أختها عائشة في الحديث عن ثروة أبيهما التي حرمهم إياها وأنفقها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقالت أسماء «مسند أحمد: 6/350»: «لما خرج رسول الله وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه! قالت قلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت فأخذت أحجاراً فتركتها فوضعتها في كوة لبيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال! قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ. قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني قد أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك»! ورواه الحاكم:3/5والزوائد:6/59 وصححاه، واعتمده أئمتهم كالشاطبي، فقال في الإعتصام:2/201: «فإنه هاجر بجميع ماله وكان خمسة آلاف».

ثم إن أسماء بنت أبي بكر كانت عند الهجرة في المدينة، فقد هاجرت مع زوجها الزبير وكانت حاملاً بعبدالله، وولدته في قباء عندما وصل النبي (صلی الله علیه و آله).

ومن جهة أخرى: رووا في صحيح مسلم: 6/117: «بينا أبو بكر قاعد وعمر

ص: 69

معه إذ أتاهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: ما أقعدكما هاهنا؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا»

وفي الترغيب والترهيب: 3 /148: «فانطلقوا حتى أتوا باب أبيأيوب الأنصاري فأطعمهم»! وقال الرازي في تفسيره: 4/ 169: «وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم».

فأين صارت ثروة أبي بكر جد الفخر الرازي، وهل ضاعت في طريق الهجرة؟! فالصحيح أن الجائعين كانا الشيخين وكان النبي (صلی الله علیه و آله) مدة سنة في بيت أبيأيوب (رحمة الله).

أما عائشة فرفعت سقف ثروة أبيها وجعلتها خيالية فتحير فيها علماء السلطة! قالت كما في سنن النسائي: 5/358«: «فخرتُ بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية! فقال النبي (صلی الله علیه و آله):أسكتي يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لأم زرع! ثم أنشأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحدث أن إحدى عشرة امرأة اجتمعن في الجاهلية، فتعاهدن لتخبرن كل امرأة بما في زوجها ولا تكذب، فتحدثت كل منهن بمدح أو ذم، وكانت آخرهم أم زرع فمدحته، وذكرت أنه تزوج عليها ثم طلقها فتزوجت شاباً وأعطاها كثيراً، لكنها بقيت تمدح أبا زرع وتفضله عليه، فقالت عائشة في آخر الحديث: «قلت: يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع».وروته مصادرهم ووثقه علماؤهم أو صححوه، كتهذيب الكمال: 23 / 392، ميزان الإعتدال: 3/375، مجمع الزوائد: 4/317، فتح الباري:

9 / 222، تاريخ بخاري الكبير: 1/224، تهذيب الكمال: 21 / 416، تهذيب التهذيب: 8 / 325، سنة ابن أبي عاصم/225، إعانة الطالبين: 4/199 والطبراني الكبير: 23 / 174.

وتبلغ الأوقية في ذلك الوقت أربعين درهماً، وفي زمن الإمام الصادق (علیه السلام) ألف درهم، «الأوزان والمقادير/16» فتكون ثروة أبي بكر حسب قول عائشة ألف مليون درهم، وهو أمرٌ غير معقول! ولهذا اضطر الذهبي إلى معالجة هذه الكذبة فحذف منها صفراً! قال في سيره: 2/185: «وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة فإنه يكون أربعين ألف درهم، وفي ذلك مفخر لرجل تاجر، وقد أنفق ماله في ذات الله، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم، فأخذها صحبته. أما ألف ألف أوقية فلا تجتمع إلا لسلطان كبير».

والصحيح أن الألف الثانية أيضاً زائدة، ولايمكن فصلها عن أختها لأن علماءهم

ص: 70

تلقوا الخبر وصححوه برواية: ألف ألف أوقية!

كما تبرع الذهبي بأن أبابكر أنفق المليون درهم على النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة، لأن ذلك لم يروه أحد حتى في صاع حنطة في سنوات حصارهم في الشعب! ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمسلم، إلا ما زعموه من شرائه لبلال، ولم يثبت، أما ما زعموه من إنفاقه على ابن خالته مسطح، فقد كان يعمل معه.

قال الأميني (رحمة الله) في الغدير: 8 /50: ونضدت له «عائشة» ثلاث مائة وستين كرسياً في داره، وأسدلت على كل كرسي حلة بألف دينار، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمل من لوازم وآثار وأثاث ورياش، ومناضد وأواني وفرش، لا تقصر عنها في القيمة! وما يلزم من خدم وحشم، وقصور شاهقة وغرف مشيدة، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواش وضيع وعقار، إلى غيرها من توابع!

من أي حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذ يوم فاقة لقريش، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبابكر والقوم معه: كنتم تشربون الطَّرَق، وتقتالون الوَرق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله (صلی الله علیه و آله)»!

وقال المفيد (رحمة الله) في الإفصاح/229، ما خلاصته: «لو كان للرجلين فضل حسب ما ادعيتموه لوجب أن تأتي به الأخبار وترويه نقلة السير والآثار، بل وجب أن يظهر على حد يوجب علم اليقين، لأن جميع الدواعي إلى انتشار فضائل الرجلين متوفرة! ألا ترى أنهما كانا أميري الناس، وكان المُظهر لولايتهما من زمانهما إلى هذه الحال هو الظاهر على عدوه، والمظهر لعداوتهما مهدور الدم أو خائفاً مطروداً عن البلاد! حتى صار القتل مسنوناً لمن أظهر ولاية أميرالمؤمنين (علیه السلام) وإن كان مظهراً لمحبة أبي بكر وعمر! ومن تبرأ من أميرالمؤمنين (علیه السلام) حكموا له باعتقاد السنة وولاية أبي بكر وعمر وعثمان، ونال القضاء والشهادات والإمارات، وقربت منازلهم من خلفاء بني أمية وبني العباس بالعصبيه لهؤلاء والدعاء إلى

ص: 71

إمامتهم، والتخرص بما يضيفونه إليهم من الفضل الذي يخالف القرآن وتنفيه السنة، ويستحيل في العقول»!

وأما عمر فكان أفقر من أبي بكر: فقد حدث عن نفسه أنه كان يرعى بعيراً لأبيه ولا يعطيه قوته! قال عمر، تاريخ المدينة لابن شبة 2/655:«لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان والله ما علمت فظاً غليظاً.. وأنا في إبل للخطاب، أحتطب عليها مرة وأختبط عليها أخرى! آتي بالخَبْط وهو ورق الشجر.»

وفي كنز العمال: 4/589: «أخذ عمر يحدث عن نفسه فقال: لقد رأيتني وأختاً لي نرعى على أبوينا ناضحنا قد ألبستنا أمنا نقبتها، وزودتنا من الهينة فنخرج بناضحنا فإذ طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عرياناً فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لعبة من ذلك الهينة فياخصباه»!

أي صنعت لهم طعاماً عصيدة من حب الحنظل على شكل هِينَة، وهي الزَّنَمَة المدلاة تحت فم الماعز كالأصابع.الفائق: 3/405 وشرح النهج: 12/20.

وعندما كبر عمر صار مبرطشاً. ففي النهاية لابن الأثير: 1/119: «وهوالدلال أو الساعي بين البائع والمشتري، وورد في الحديث كان عمر رضی الله تعالى عنه في الجاهلية مبرطشاً، أي كان يكتري للناس الإبل والحمير ويأخذ عليه جعلاً، أو هو بالسين المهملة كما ذهب إليه ابن دريد».و تاج العروس: 9/58 ولسان العرب: 6/26.

كم كان عمر عائشة لما تزوجها النبي (صلی الله علیه و آله)

روت في زواجها لاتصح، فقد قالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) عقد زواجه عليها وعمرها ست سنين، وتزوجها وعمرها تسع سنين، لكنهم قالوا إنها أصغر من أختها أسماء بعشر سنين: «عن ابن أبي الزناد أن أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر من عائشة بعشر سنين».البيهقي: 6/204، سير أعلام النبلاء: 3/380، تاريخ دمشق: 69/10 وسبل السلام: 1/39.

وفي تهذيب الأسماء: 2/597: «ولدت أسماء قبل هجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبع وعشرين سنة، وكان لأبيها أبي بكر حين ولدت إحدى وعشرون سنة».

ص: 72

ومعناه أن عمر عائشة كان سبع عشرة سنة، فأين الست سنين والتسع؟!

ومن ناحية ثانية، كان عمر أبيها لما ولدت أسماء إحدى وعشرون سنة، فعمره لما ولدت عائشة إحدى وثلاثون، وعمره لما هاجر ست وخمسون لأنهم قالوا إنه أكبر من النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاث سنين، فيكون عمر عائشة عند الهجرة خمساً وعشرين.

فأين الست سنين والتسع؟!

ومما يؤيد أن سن عائشة أكبر مما قالت سن أمها أم رومان فقد كانت في الجاهلية زوجة ابن سخبرة وولدت له الطفيل، وجاؤوا من الأردن مع ابنهما وغلامهما ابن فهيرة وسكنوا في مكة، ومات زوجها ابن سخبرة، فتزوجها أبو بكر وولدت له ولدين: عبدالرحمن وعائشة ولم تلد له بعدهما ويبدو أنها بلغت سن اليأس، وكان عبدالرحمن في بدر مع المشركين فطلب أن يبارزه أبوه فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما رووا: متعنا بنفسك يا أبابكر. فلا بد أن يكون عبدالرحمن في العشرينات أوالثلاثينات، وعائشة بعده مباشرة، فأين الست سنوات والتسع؟!

النهاية: 8/95، الحاكم: 3/474، الحلبية: 2/414، البيهقي: 8/186 و 6/204، الإستيعاب 2/824 و616 و سبل السلام: 1/39. راجع في ابن سخبرة: الطبقات: 8 /276، التعديل والتجريح: 3/1155، تهذيب الكمال: 13/389، تهذيب التهذيب: 8/149 والإصابة: 3/421، 4/117 و 8/391.

ادعت عائشة أنها لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله)

لكن روى ابن سعد: 8/59 بسند صحيح عندهم: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عائشة بنت أبي بكر الصديق فقال: إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير، فدعني حتى أسلها منهم، فاستسلها منهم فطلقها، فتزوجها رسول الله».

وفي الطبراني الكبير: 23/26: «وكان أبو بكر قد زوجها جبير بن مطعم فخلعها منه».

وفي صفة الصفوة: 2/15والمنتظم: 5/302: «دعني حتى أسلها من جبير سلاً رفيقاً».

يضاف اليه أنها كانت تكنى أم عبدالله، فقد يكون لها ولد من مطعم بن جبير إسمه عبدالله ومات. روى البيهقي: 9/311: «أنها قالت: يا رسول الله ألا تكنيني

ص: 73

فكل نسائك لها كنية؟ فقال: بلى إكتني بابنك عبدالله، فكانت تكنى أم عبدالله. وفسروا ذلك بأن النبي (صلی الله علیه و آله) قصد ابن أختها عبدالله بن الزبير، لكن لم يعهد أن امرأة من العرب تكنت بابن أختها! وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لها تَكَنَّيْ، والصحيح أنها هي التي طلبت منه كنية، وغرضها أن يسمي لها النبي (صلی الله علیه و آله) ولداً حتى ترزقه! أحمد: 6/186،الحاكم: 4/278،الطبراني الكبير:23/18، الطبقات: 8/66، مفرد البخاري/183 وغيرها.

عائشة أكثر نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كلاماً

وأكثرهن إثارة للجدل! فقد أثارت بأقوالها وأفعالها إشكالات وأسئلة عجز عن جوابها محبوها، ومن أولها خروجها على الخليفة الشرعي وشقها عصا المسلمين، وإشعالها حرب الجمل التي قتل فيها ألوف بدون سبب، وقد هزمت فيها شر هزيمة ورجعت مملوءة غيظاً! وكانت تقول: «إن يوم الجمل لمعترض في حلقي، ليتني متُّ قبله أو كنت نسياً منسياً»! مسند ابن راهويه:2/34.

ثم يعجزون عن تبرير إرسالها بضعة رجال إلى أختها وزوجة أخيها، لترضع الواحد منهم، فيصيرمحرماً عليها كما تزعم، ويدخل عليها مع أنه أجنبي!

وكانت تحتجب عن الحسن والحسين (علیهما السلام) مع أنهما من محارمها! ولم تزر فاطمة (علیها السلام) في مرضها، وقد زارها أبو بكر وعمر!

ثم يعجزون عن تفسيرمدحها المفرط لنفسها، وحديثها عن ملبسها ومأكلها ونومها ويقظتها وجمالها وفضلها على نساء النبي (صلی الله علیه و آله)، وادعت أنها كانت أحبهن اليه (صلی الله علیه و آله)، كما تحدثت بابتذال عن أمورها الشخصية مع النبي (صلی الله علیه و آله) !

ثم مدحت أمها بأن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا المسلمين إلى أن يتفرجوا عليها، فقال:«من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين، فلينظر إلى أم رومان! الطبقات: 8/277.

وقال الحشوية إنها تقصد أن يتأملها بعين البصيرة لا البصر. فيض القدير: 6/197.

وقد رأت عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) تولى دفن فاطمة بنت أسد ونزل في قبرها وقال إنها أمي! فقالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل في قبر أمها أم رومان! الإصابة:8/392.

ص: 74

حَكَمَتْ عائشة في دولة أبيها!

وصادرت قبرالنبي (صلی الله علیه و آله) وقالت إنه أعطاها المكان الذي دفن فيه، فهو غرفتها. وأخذت امتيازات مالية ومعنوية كثيرة، واستمرت على هذه الحالة في حكم عمر فكان يعطيها سنوياً مبلغاً كبيراً، ويهديها هدايا كثيرة، فصارت من أثرياء الصحابة واشترت بيتاً كبيراً في المدينة، ثم باعته إلى معاوية بمئة وثمانين ألف درهم وقيل بمئتي ألف، الطبقات: 8/165. راجع جواهر التاريخ: 3.

قطع عثمان مخصصاتهما فثارتا عليه

ولما قطع عثمان مخصصاتهما جاءتاه معترضتين فقال: «لا أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما، وأنا لا أفعل! قالت له: فأعطني ميراثي من رسول الله».أمالي المفيد/125.

«وكان متكئاً فجلس وقال: ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم! ثم قال لهما: ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله، مالك بن أوس بن الحدثان، فشهدتما معه أن النبي قال: لانورث». المسترشد/508.

وفي كتاب سُليم بن قيس/242:«لا والله ولا كرامة لكما ولا نَعِمْتُ عنه! ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما، فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله يقول: النبي لايورث، ما ترك فهو صدقة! ثم لقنتما أعرابياً جلفاً يبول على عقبيه ويتطهر ببوله» مالك بن أوس بن الحدثان «فشهد معكما! ولم يكن في أصحاب رسول الله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي. «أما والله ما أشك أنه قد كذب على رسول الله وكذبتما عليه معه، ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما! فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه»!

وفي رواية الجوهري في السقيفة: 82، وشرح النهج: 9/5، أنهما تكلمتا في المسجد تحركان الناس على عثمان فقال: «إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما، وأنا بأصلهما

ص: 75

عالم! فقال له سعد بن أبي وقاص: أتقول هذا لحبائب رسول الله؟ فقال: وفيم أنت وما هاهنا، ثم أقبل نحو سعد عامداً ليضربه، فانسل سعد من المسجد».

وأصرت عائشة وحفصة على ادعاء إرثهما من النبي (صلی الله علیه و آله) لتبرير دفن أبويهما في ملكه (صلی الله علیه و آله) ! فكان الشيعة يحتجون عليهما. ومن أمثلة احتجاجهم ما رواه في الفصول المختارة/74، أن الفضال بن الحسن بن فضال مرَّ على أبي حنيفة: «وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئاً من فقهه وحديثه، فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة!فقال صاحبه: إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله ومنزلته وظهرت حجته، فقال: مه هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن؟ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم بأجمعهم السلام. فقال: يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخاً يقول: إن خير الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب وأنا أقول: إن أبابكر خير الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول الله كرماً وفخراً، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة أوضح لك من هذه؟ فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي فقال: والله لئن كان الموضع لرسول الله دونهما، فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لقد أساءا وما أحسنا إليه، إذ رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما! فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال قل له: لم يكن لهما ولا له خاصة، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما. فقال له فضال: قد قلت له ذلك فقال: أنت تعلم أن النبي مات عن تسع حشايا، فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟ فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه والله رافضي خبيث»!

ص: 76

زعمت أن النبي (صلی الله علیه و آله) جعل الخلافة لأبيها وأولاده!

فقد وضعت حديثاً مقابل حديث: إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً.. فقالت: «قال لي رسول الله في مرضه: أدعي لي أبابكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى».مسلم:7/110وأحمد: 6/144.

ورواه بخاري:7/8 و 8/126بلفظ: «أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون».

وقال ابن حجر: 1/186 و 13/177: «أفرط المهلب فقال فيه دليل قاطع في خلافة أبي بكر، والعجب أنه قرر بعد ذلك أنه ثبت أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يستخلف»!

أما عبدالرحمن بن أبي بكر فصرح أكثرمن أخته فقال: «قال رسول الله: إئتوني بكتاب وكتف أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعده أبداً».مجمع الزوائد: 5/181.

أي ليكتب الخلافة لأبي بكر وبنيه! ولم يذكروا سبباً مقنعاً لعدم كتابة النبي (صلی الله علیه و آله) الخلافة لهم! ولم يذكروا هل قال أحدٌ إن نبيكم يهجر، لاتقربوا له شيئاً، حسبنا كتاب الله! ولم يذكروا أن الصحابة لغطوا واختلفوا، فطردهم النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: قوموا عني!

إن حديث عائشة في مسلم والبخاري يفسرلنا المقصود النبوي بالحديث المتواتر: إيتوني بدواة وقرطاس. ولا يدع مجالاً للشك بأن هذه الأحاديث وضعوها مقابله!

وقد عملت عائشة ليكون أخوها عبدالرحمن خليفة، فقتله معاوية، ثم عملت ليكون ابن عمها طلحة خليفة، فقتله مروان في معركة الجمل.

ثم كانت تمدح موسى بن طلحة، الذي ادعى أنه المهدي الموعود، وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولكنه لم يصل إلى شئ، ولم يملأ شيئاً!

واشتهرت عائشة بجرأتها على النبي (صلی الله علیه و آله)

من ذلك قولها له (صلی الله علیه و آله): «ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك»! البخاري: 6/24.

وقالت له مرة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك نبي الله!وقالت

ص: 77

له مرة: ما تشبع من أم سلمة! وكانت تتفقده وتعقبته ليلة لما ذهب إلى زيارة البقيع. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) یصلي وهي نائمة معترضة بين يديه، أو مادة رجلها.

وزعمت أن النبي (صلی الله علیه و آله) سُحر فكان يتخيل أنه قاربها ولم يقاربها!

وقالت: مرض النبي (صلی الله علیه و آله) في بيتي فمرضته وقبض ولم يشهده غيري والملائكة!

وقالت: سلَّمَ جبرئيل عليَّ وبلغني سلام الله!

وقالت: إنها رأت جبرئيل (علیه السلام)، ولم تره امرأة غيرها.

وقالت: نزل الوحي على رسول الله وهي معه في لحاف واحد.

وقالت: صُوِّرت لرسول الله قبل أن أصور في رحم أمي!

وقالت: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقاربها وهي حائض!

وقالت إن آية رضاع الكبير كانت تحت سريرها فأكلتها السخلة.

وكانت تكره علياً والعباس فقالت: قال النبي (صلی الله علیه و آله): من أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار فلينظر اليهما!راجع المراجعات/325.

وكانت معجبة بطلحة التيمي وابنه موسى

كان طلحة يأتيها فيجلس معها فنهاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأجابه طلحة بخشونة وجاهلية! ثم قال: لئن مات محمد لأتزوجن عائشة!«فقال النبي (صلی الله علیه و آله):لاتقومن هذا المقام بعد يومك هذا! فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي! قال النبي: قد عرفت ذلك. إنه ليس أحد أغْيَرُ من الله وإنه ليس أحد أغْيَر مني! فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده! فأنزل الله هذه الآية: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا».سنن البيهقي: 7/69، الدر المنثور: 5/214.

ثم عملت ليكون طلحة الخليفة بعد عثمان، فتفاجأت ببيعة المسلمين لعلي (علیه السلام) ! فقالت: وددتُ أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا! وكانت في الطريق إلى المدينة فرجعت إلى مكة وضربت خيمتها في حجر إسماعيل، وأخذت تُخذِّلُ الناس

ص: 78

عن بيعة علي (علیه السلام)، وأعلنت أن عثمان قتل مظلوماً وأنها ستطلب بدمه! والتحق بها طلحة والزبير في مكة، وأرسلوها لأم سلمة لتخرج معهم على علي (علیه السلام) ! فنهتها أم سلمة وحذرتها وأقامت عليها الحجة فوعدتها أن لاتذهب، ثم ذهبت راكبةً على الجمل الأدبب كما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) حتى وصلت إلى الحوأب فنبحتها كلابها كما أخبر (صلی الله علیه و آله) فقالت ردوني فشهدوا لها بأن المكان ليس الحوأب!

وروى الجميع تحذيرات النبي (صلی الله علیه و آله) للمسلمين من فتنتها، فقد روى البخاري أنه (صلی الله علیه و آله) أشار إلى بيتها وقال: هاهنا الفتنة! وقال لها عند ما شكت من وجع رأسها: ماضرك لو متِّ قبلي! وحذرها أن تكون التي تخرج فتنبحها كلاب الحوأب. وكان سعيد بن العاص معها فلما نبحتها كلاب الحوأب رجع.

أدارت عائشة معركة الجمل سبعة أيام

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): إن جند المرأة، والقاسطين، وأهل النهروان، ملعونون على لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله). وأرسل ابن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة للمفاوضة، فقالت ليس بيني وبينه إلا السيف، مغترة بكثرة جيشها وقلة جيش علي (علیه السلام).وخرجت راكبة الجمل الأدبب تعبئ أصحابها! وانسحب الزبير وقتل طلحة قبل بدء المعركة، وبقيت وحدها، وأدارت المعركة سبعة أيام! وفي اليوم السابع نشر علي (علیه السلام) راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهزمهم وسقط الجمل، فأرسل أخاها محمداً فحملها من ساحة المعركة، وأعلن العفو العام ومنع أن يُعتدى على أحد، وزارها في منزلها،ثم أعادها إلى المدينة يحرسها نساء ملثمات وهي تحسبهن رجالاً!

وقالوا إنها ندمت وتابت، ومدحت علياً (علیه السلام) لكن لما جاءها خبر قتله سجدت شكراً لله! فاستنكرت عليها زينب بنت أم سلمة فقالت: إذا نسيت فذكروني!

قتل معاوية أخويها وسَكَّتَها

لما جاءها خبر قتل معاوية لأخيها محمد بن أبي بكر في مصر وإحراق جثته، بكت عليه ولعنت معاوية وعمرو بن العاص! وزاد من غيظها أن ضرتها أم

ص: 79

حبيبة أخت معاوية أرسلت لها كبشاً مشوياً وقالت: هكذا فعلنا بأخيك محمد! فلم تأكل عائشة شواء كل عمرها!

لكن معاوية استرضاها بالمال فسكتت عن قتله لأخيها، ثم ساءت علاقتها به لما أراد أن يأخذ البيعة ليزيد، ودعا مروان في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيعة يزيد فوقف عبدالرحمن بن أبي بكر في وجهه وتشاتما، فأمر مروان الشرطة بأخذه فهرب إلى غرفة عائشة، فخرجت إلى المسجد وشتمت مروان، وهرَّبت أخاها من المدينة، فقتلوه بالسم قرب مكة.

ثم أرضاها معاوية بالمال فسكتت عن قتله لأخيها الثاني، وفي مسند أحمد: 4/92: «عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة فقالت له: أما خفت أن أُقعد لك رجلاً فيقتلك؟ فقال: كيف أنا في الذي بيني وبينك، حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عزوجل».

وتوفيت في عهد معاوية سنة57، وقيل قتلها بالسم، وقيل وقعت في بئر حفره لها في طريقها، وكانت تصيح وهي تحتضر: إني أحدثت بعد رسول الله فلا تدفنوني عنده! يا ليتني لم أخلق، لوددت أني كنت مدرة، ولم أكن شيئاً مذكوراً! ودفنت في البقيع، وصلى عليها أبو هريرة.

نقاط عن حفصة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله)

كان أبو بكر وعمر يعملان للتقرب السياسي من النبي (صلی الله علیه و آله) أكثر من جميع أصحابه، ولكن الله عزوجل أمره أن لايصطدم بأصحابه، وأن يترك الأمور تجري بشكل طبيعي، لتجري مقادير الله وقوانينه في هداية الأمم وضلالها.

وقد رأى عمر أن زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من عائشة امتيازٌ مهم لأبي بكر، ولم تكن عنده بنت ليعرضها على النبي (صلی الله علیه و آله) إلا حفصة وهي أرملة كبيرة السن غير جميلة! لذلك لم يعرضها عليه وعرضها على عثمان وأبي بكر فرفضا!

ففي مسند أحمد: 2/27:«عن ابن عمر قال: لما تأيَّمَتْ حفصة وكانت تحت خنيس

ص: 80

بن حذافة، ولقي عمر عثمان فعرضها عليه فقال عثمان: مالي في النساء حاجة وسأنظر! فلقي أبابكر فعرضها عليه فسكت! فوجد عمر في نفسه على أبي بكر، فإذا رسول الله قد خطبها، فلقي عمر أبابكر فقال: إني كنت عرضتها على عثمان فردني وإني عرضتها عليك فسكتَّ عني، فلأنا عليك كنت أشد غضباً مني على عثمان وقد ردني! فقال أبو بكر إنه قد كان ذكر من أمرها وكان سراً، فكرهت أن أفشي السر». وفي الإصابة: 8/85، أن عمر عرضها على أبي بكر أولاً!

وفي الطبقات: 8 /83 و189، أن عمر شكى أبابكر وعثمان للنبي (صلی الله علیه و آله) فخطبها منه ففرح فرحاً شديداً! ولهذا لما طلقها النبي (صلی الله علیه و آله) قال عمر: «يا ويح حفصة».

وفي البخاري: 3/103 وأحمد: 1/33: «قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً»!

وعندماتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بحفصة اكتفى بوليمة عادية كبقية زوجاته: «تزوج حفصة أو بعض أزواجه فأولم عليها بتمر وسويق».مكارم الأخلاق/212 والمنتقى/181.

أما عرس عائشة فكان بدون وليمة، ففي مسند أحمد: 6/438: «عن أسماء بنت يزيد قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن»! أما عرس الزهراء (علیها السلام) فأقام لها أوسع مراسم أقامها نبي في تزويج ابنته، كما بينا في محله!

وكان زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بحفصة: «في شعبان على رأس ثلاثين شهراً قبل أحد»«الطبقات: 8/83». أي قبل ولادة الحسن بشهر وأيام، لأنه ولد منتصف شهر رمضان سنة ثلاث. وأما مهرها فكان أربع مئة درهم.«ابن هشام: 4/1059».

وفي الطبقات: 8/86: «توفيت حفصة في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفیان وهي يومئذ ابنة ستين سنة». وقد صغروا من عمرها لأنهم نصوا على أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وأكثر.الحاكم: 4/15.

كانت حفصة أكبر أولاد أبيها، وقد اشتق كنيته من إسمها فتكنى بأبي حفص، وكانت معتمدته في أموره، فكان يضع نسخة القرآن التي يريد أن ينشرها عندها،

ص: 81

قال البخاري: 5/211،6/98 و 8/119: «وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر».

وعندما وحَّد عثمان نسخة القرآن حاول أن يأخذها منها فلم تعطها، لأن فيها اجتهادات عمر الكثيرة المخالفة للقرآن المعروف! فلما ماتت أخذها مروان وأحرقها! قال ابن شبة في تاريخ المدينة: 3/1003: «عن ابن شهاب قال: حدثني أنس قال: لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزقها، وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضاً فمنعتها إياه! قال الزهري: فحدثني سالم قال: لما توفيت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر فشققها ومزقها، مخافة أن يكون في شئ من ذلك خلاف لما نسخ عثمان»!

وكانت حفصة قوية الشخصية جداً، وجعلها عمر وصيته: «وقال أحمد بن حنبل: إن عمر أوصى إلى حفصة».«الأم للشافعي: 7/236». وخصها بالولاية على ما أوقفه على ذريته، وأهمها بساتين خيبر«ثمغ»التي أهداها له اليهود في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) !

وكان لها مخصصات من الخليفة، فأوقفت ذهباً على نساء عشيرتها:«ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب».المجموع: 15/325.

اعترف محبوها أنها كانت تؤذي النبي (صلی الله علیه و آله)

كانت حفصة تؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) لكن ذلك لم يمنعها من مخالفته، وحتى مقاطعته وأذيته! قال عمر: «فدخلت على حفصة فقلت: أتغاضب إحداكن رسول الله اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم».صحيح بخاري: 3/103.

قال عمر: «وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلظت لي فقلت لما وإنك لهناك؟ قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي النبي (صلی الله علیه و آله) !» صحيح بخاري: 7/47.

وكانت تعرف حرص عمر على استمرار زواجها من النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه يغضب من سوء أخلاقها معه (صلی الله علیه و آله)، لكنها مع ذلك كانت تخالفه وتؤذيه!

ففي السيرة، الحلبي: 3/406: «شجر بين النبي (صلی الله علیه و آله) وبين حفصة أمر فقال لها: إجعلي

ص: 82

بني وبينك رجلاً. قالت: نعم. قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليها قال لها النبي (صلی الله علیه و آله) تكلمي. فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقاً! فرفع عمر يده فوجأها في وجهها فقال له النبي: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله النبي لايقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي!» وتفسير السمعاني: 4/276، مجمع البيان: 8/151، عن الواحدي، عن ابن عباس.

وفي الكافي: 6/138، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أن زينب قالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): لاتعدل وأنت رسول الله! وقالت حفصة: إن طلقنا وجدنا أكفاءنا في قومنا! فاحتبس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشرين يوماً، قال: فأنف الله عزوجل لرسوله فأنزل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً..الى قوله: أَجْرًا عَظِيمًا. قال: فاخترن الله ورسوله ولو اخترن أنفسهن لبنَّ».

وقد طلق النبي (صلی الله علیه و آله) حفصة مرتين ورجع اليها، وكانت الثانية في السنة التاسعة قبيل غزوة تبوك، كما نص أبوها ورواه البخاري وغيره. أما الأولى فيبدو أنها في نفس سنة زواجه بها، كما في الطبقات: 8/84 والحاكم: 4/15: «عن قيس بن زيد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) طلق حفصة بنت عمر، فأتاها خالاها عثمان وقدامة ابنا مظعون فبكت وقالت: والله ما طلقني رسول الله عن شبع، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله: إن جبريل أتاني فقال لي أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة».وتوفي خالها عثمان بن مظعون بعد رجوعه من بدر.الطبري: 2/177.

وفي الإصابة: 8/86:«طلق رسول الله حفصة بنت عمر فبلغ ذلك عمر، فحثا التراب على رأسه وقال: مايعبأ الله بعمر وابنته بعدها! فنزل جبريل من الغد على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر».

والصحيح أن الله تعالى أمر نبيه (صلی الله علیه و آله) بزواجها ثم بطلاقها ثم بإرجاعها، لمصالح لاتتعلق بأبيها ولا بإيمانها وعبادتها كما زعموا، فقد ضرب الله لها ولعائشة مثلاً بامرأتي نوح ولوط وهما كافرتان. بل لتحزبها مع عائشة وعملهما

ص: 83

ضد النبي (صلی الله علیه و آله) كما نصت سورة التحريم. قالت عائشة: «إن نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنَّ حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة. والحزب الآخر: أم سلمة وسائر نساء رسول الله».بخاري:3/132.

نزلت فيها وفي عائشة آية النهي عن السخرية

ولم تكن صفية من حزبهما، قال المجموع: 15/353: «بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي (صلی الله علیه و آله) وهي تبكي وقالت: قالت لي حفصة: أنت ابنة يهودي! فقال النبي (صلی الله علیه و آله):إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي فبمَ تفتخر عليك؟ ثم قال: إتقي الله يا حفصة».

وروى الجميع أن آية: لايسخر قوم من قوم، نزلت في حفصة وعائشة! لسخريتهما من صفية بنت حیي، ففي تفسير القمي: 2/321:«نزلت في صفية بنت حیي بن أخطب وكانت زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها يا بنت اليهودية! فشكت ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لها: ألا تجيبنهما؟ فقالت بماذا يا رسول الله؟ قال قولي: أبي هارون نبي الله، وعمي موسى كليم الله، وزوجي محمد رسول الله، فما تنكران مني؟ فقالت لهمافقالتا: هذا علمك رسول الله! فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. والحاكم:4/29، عمدة القاري /122، الأحوذي: 10/267، أوسط الطبراني: 8/236.

وفي أسباب النزول للواحدي/263، أن سبب نزول الآية أن حفصة وعائشة سخرتا من أم سلمة«وذلك أنها ربطت حقويها بسبنية وهي ثوب أبيض وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة: أنظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب..»!

واتفقت حفصة مع عائشة على الكذب والحيلة! ففي الكافي: 5/568، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخلت عليه وهو في

ص: 84

منزل حفصة والمرأة متلبسة متمشطة، فدخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج وأنا امرأة أيِّم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد، فهل لك من حاجة، فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): خيراً ودعا لها ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيراً فقد نصرني رجالكم ورغبت فيَّ نساؤكم، فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك وأجراك وأنهمك للرجال! فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك، رغبت في رسول الله فلمتها وعيبتها، ثم قال للمرأة: إنصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيَّ وتعرضك لمحبتي وسروري، وسيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عزوجل: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.«الأحزاب: 50» قال: فأحل الله عزوجل هبة المرأة نفسها لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، و لا يحل ذلك لغيره».

وفي الخصال/419، أن اسمها: خولة بنت حكيم السلمي. وروي أنها أسدية.

وفي الحدائق: 23/98: «الظاهر أنه بعد نزول الآية على أثر هذه الواقعة، نكح النبي (صلی الله علیه و آله) المرأة ولا إيجاب هنا ولا قبول».

كانت حفصة عنيفة فقتلت امرأتين!

قتلت عائشة امرأة واحدة، زعمت أنها كتبت لها سحراً، أماحفصة فقتلت امرأتين زعمت أنهما كتبتا لها سحراً!«المحلى: 11/395». وروى في الطبقات: 3/356، أنها دفعت عبيدالله بن عمر لقتل الهرمزان وجفينة طفلة أبي لؤلؤة، على أثر قتل عمر! قال أخوها عبدالله:«يرحم الله حفصة فإنها ممن شجع عبيدالله على قتلهم»!

كانت حفصة وعائشة حليفتين

وكان تحالفهما كتحالف أبويهما، وكانت حفصة تقلد عائشة في كثير من الأمور، وقد أخذت برأيها في رضاع الكبير، فكانت ترسل الأجنبي إلى أختها لترضعه خمس رضعات ويدخل عليها!الأم للشافعي: 7/236.

ص: 85

«وأرسلت عائشة إلى حفصة وغيرها من أمهات المؤمنين كما نص عليه غير واحد من أثبات أهل الأخبار، تسألهن الخروج معها إلى البصرة، فما أجابها إلى ذلك منهن إلا حفصة، لكن أخاها عبدالله أتاها فعزم عليها بترك الخروج، فحطت رحلها بعد أن همت».النص والإجتهاد/432.

تهديد الله تعالى لعائشة وحفصة!

اتفق الجميع على أن نزول سورة التحريم كان بسبب أن النبي (صلی الله علیه و آله) ائتمن حفصة على سره فأذاعته، وتآمرت على النبي (صلی الله علیه و آله) هي وعائشة! فهددهما الله تعالى بأشد تهديد وضرب الله لهما مثلاً بكافرتين من زوجات الأنبياء: خانتا زوجيهما في أمر الرسالة، وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يشدد على المنافقين والمنافقات، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.

قال المفيد في المسائل العكبرية/77: «جاء في حديث الشيعة عن جعفر بن محمد (علیه السلام) أن السر الذي كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بعض أزواجه إخباره عائشة أن الله أوحى إليه أن يستخلف أميرالمؤمنين (علیه السلام) وأنه قد ضاق ذرعاً بذلك، لعلمه بما في قلوب قريش له من البغضاء والحسد والشنآن، وأنه خائف منهم فتنة عاجلة تضر بالدين، وعاهدها أن تكتم ذلك ولا تبديه وتستره وتخفيه. فنقضت عهد الله سبحانه عليها في ذلك وأذاعت سره إلى حفصة، وأمرتها أن تعلم أباها ليعلمه صاحبه، فيأخذ القوم لأنفسهم ويحتالوا في بعض ما يثبته رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأميرالمؤمنين (علیه السلام) في حديث طويل له أسباب مذكورة. ففعلت ذلك حفصة واتفق القوم على عقد بينهم إن مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولايؤتوهم مقامه، واجتهدوا في تأخيرهم والتقدم عليهم، فأوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) بذلك وأعلمه ماصنع القوم وتعاهدوا عليه، وأن الأمر يتم لهم محنة من الله تعالى للخلق بهم. فأوقف النبي (صلی الله علیه و آله) عائشة على ذلك وعرفها ما كان منها من إذاعة السر، وطوى عنها الخبر بما علمه من تمام الأمر لهم، لئلا تتعجل إلى

ص: 86

المسرة به وتلقيه إلى أبيها فيتأكد طمع القوم فيما عزموا عليه، وهو قوله تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فالبعض الذي عرفه ما كان منها من إذاعة سره، والبعض الذي أعرض عنه ذكر تمام الأمر لهم».

وروى الطبراني في الكبير: 12/91، عن ابن عباس: «فقال لها رسول الله: لاتخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، فإن أباك يلي من بعد أبي بكر إذا أنا مت، ويلي عمر من بعده، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة!»

وقد بحثنا ذلك في اتهامهم لمارية القبطية رضی الله عنها، ونزول براءتها.

هذا، وقد انفردت حفصة بأحاديث لم يروها غيرها! مثل حديث أن أهل بدر كلهم في الجنة، وأهل بيعة الرضوان كلهم في الجنة، وحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». فهي متهمة بوضعها! راجع: الإفصاح للمفيد/219.

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضی الله عنها

في مناقب آل أبي طالب: 1/138: «وميمونة بنت الحارث الهلالية خالة ابن عباس، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي، ثم عند أبي زيد بن عبدالعامري، خطبها للنبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب، وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسَرَف، وهو على عشرة أميال من مكة.»تزوجها«في سنة سبع، وماتت في سنة ست وثلاثين. وأفضلهن خديجة، ثم أم سلمة، ثم ميمونة».

وفي الكافي: 5/368، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين تزوج ميمونة بنت الحارث أوْلَمَ عليها وأطعم الناس الحَيْس.» وهو التمر بالسمن.

وذكر في الإصابة: 8/328، أنها آخر من مات من أزواج النبي (صلی الله علیه و آله). لكن يظهر أن أم سلمة ماتت بعدها، فقد عاشت إلى خلافة يزيد ووقعة الحرة سنة 63.

وروى ابن عبدالبر في الإستيعاب: 4/1917، أن العباس اقترح على النبي (صلی الله علیه و آله) الزواج بها: «فقال له العباس: يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث بن حزن بن أبي رهم بن عبدالعزى، هل لك في أن تزوجها؟ فتزوجها

ص: 87

رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو مُحرم. فلما أن قدم مكة أقام ثلاثاً فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال: يا محمد أُخرج عنا، اليوم آخر شرطك! فقال (صلی الله علیه و آله):دعوني أبتني بامرأتي وأصنع لكم طعاماً. فقال: لا حاجة لنا بك ولا بطعامك، أخرج عنا»! فأجابه سعد بن عبادة بشتيمة فهدأه النبي (صلی الله علیه و آله). وهذا يدل على فظاظة سهيل بن عمرو وعدائه للنبي (صلی الله علیه و آله) والإسلام! ولهذه الصفات اختارته قريش لقيادتها بعد فتح مكة وعزلت أبا سفيان واتهمته بأنه خضع لمطلب النبي (صلی الله علیه و آله) بخلع سلاحها! ويدل على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يتأخر في مكة ويدعو القرشيين إلى وليمة عرسه، ليخفف العداء ويهدئ الأجواء المتوترة بينهم، ولو قبلوا بذلك لكان خيراً لهم، لأن نجمهم كان في أفول ونجم النبي (صلی الله علیه و آله) في صعود.

وغطى ابن هشام:3/829 فظاظة سهيل بن عمرو مع النبي (صلی الله علیه و آله) وزعم أن الذي جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) حويطب بن عبدالعزى في نفر من قريش.

وفي الحدائق: 22/3 وقاموس الرجال: 12/345:«بلغ سعيد ابن المسيب أن عكرمة قال: تزوجها وهو محرم فقال: كذب عكرمة! قدم وهو محرم فلما حل تزوجها. فخرج وخلف أبا رافع وقال: إلحقني بميمونة، فحملها على قلوص، فجعل أهل مكة ينفرون بها ويقولون: لا بارك الله لك! فوافى النبي بسرف وهو على أميال من مكة، فبنى بها بسرف. ودفنت بسرف سنة 61».

أم المؤمنين ميمونة من أهل الجنة

وردت أحاديث في مدح ميمونة رضی الله عنها وفي بعضها شهادة لها بالجنة. واتفقت أحاديثنا على أنها كانت موالية لأميرالمؤمنين (علیه السلام).

ففي الأصول الستة عشر/62، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: «قال أبوجعفر (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا ينجو من النار وشدة تغيظها وزفيرها وقرنها وحميمها من عادى علياً وترك ولايته وأحب من عاداه! فقالت ميمونة زوج النبي (صلی الله علیه و آله): والله ما أعرف من أصحابك يا رسول الله من يحب علياً إلا قليلاً منهم!فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): القليل

ص: 88

من المؤمنين كثير، ومن تعرفين منهم؟ قالت: أعرف أباذر والمقداد وسلمان، وقد تعلم أني أحب علياً بحبك إياه ونصيحته لك. قال فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): صدقت، إنك صديقة، امتحن الله قلبك للإيمان.»

وفي أمالي الطوسي/505، عن: «يزيد بن الأصم قال: قدم شقير بن شجرة العامري المدينة، فاستأذن على خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي (صلی الله علیه و آله) وكنت عندها فقالت: إئذن للرجل، فدخل فقالت: من أين أقبل الرجل؟ قال: من الكوفة. قالت: فمن أي القبائل أنت؟ قال: من بني عامر. قالت: حُيِّيت، إزدد قرباً، فما أقدمك؟ قال: يا أم المؤمنين، رهبت أن تكبسني الفتنة لما رأيت من اختلاف الناس فخرجت. قالت: فهل كنت بايعت علياً؟ قال: نعم. قالت: فارجع فلا تزولن عن صفِّه، فوالله ما ضل ولا ضُلَّ به. قال: يا أماه فهل أنت محدثتي في علي بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟قالت: اللهم نعم، سمعت رسول الله يقول: علي آية الحق، وراية الهدى، علي سيف الله يسله على الكفار والمنافقين، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه، ومن أبغضني أو أبغض علياً لقي الله عزوجل ولا حجة له»!

ورواه في شرح الأخبار/256، عن أبي قتادة بسنده عن أبي إسحاق، وفيه: «فأردت الخروج معه فوجدت في نفسي من ذلك وجئت أسألك. قالت: أخرج معه فإنه لن يضل ولن يُضل به. قال أبو إسحاق: وما شك في علي إلا فاسق».

وقد وبخت ميمونة عائشة لما أرادت الخروج وذكرتها بحديث النبي (صلی الله علیه و آله):

يا حميراء إنك لتقاتلين علياً وأنت ظالمة له! قالت نعم.الجمل لابن شدقم/106.

وفي الخصال/363، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «رحم الله الأخوات من

أهل الجنة فسماهن: أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وسلمى بنت عميس الخثعمية وكانت تحت حمزة. وخمس من بني هلال: ميمونة بنت الحارث كانت تحت النبي (صلی الله علیه و آله)، وأم الفضل عند العباس إسمها هند، والغميصاء أم خالد بن الوليد، وعزة كانت في ثقيف تحت الحجاج

ص: 89

بن علاط. وحميدة ولم يكن لها عقب».

وفي مقاتل الطالبيين/11، أن هنداً أم ميمونة قيل فيها: «الجرشية أكرم الناس أحماءً«أصهاراً»وجرش من اليمن، وابنتها أسماء بنت عميس تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر، ثم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب. وابنتها الأخرى ميمونة أم المؤمنين زوجة النبي (صلی الله علیه و آله). وابنتها الأخرى لبابة أم الفضل أخت ميمونة أم ولد العباس بن عبدالمطلب. وابنتها الأخرى سلمى بنت عميس أم ولد حمزة بن عبدالمطلب. وأحماء هذه الجرشية: رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، والحمزة، والعباس، وجعفر، وأبو بكر. ومن أحمائها أيضاً الوليد بن المغيرة المخزومي». فأم خالد بن الوليد أخت أسماء بنت عميس، ومن هنا كانت نجابة بعض أولاد خالد

كالمهاجر بن خالد (رحمة الله).

ص: 90

الفصل السادس والأربعون: غزوة أحد

1- استعداد قريش لحرب أحُد

تلقى زعماء قريش ضربة شديدة في بدر، فقد خسروا سبعين فارساً وسبعين أسيراً! وانهزمت بقيتهم إلى مكة في حالة من الذل والغيظ! وكانت قافلتهم التي نجت من النبي (صلی الله علیه و آله) محتبسة في دار الندوة فقالوا لأصحابها: يا معشر قريش إن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرنا! وكانوا يربحون بالدينار ديناراً فبلغ المال خمسين ألف دينار. وقيل نزل يومها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.«نزلت في أبي سفیان، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية، وكانت الأوقية اثنين وأربعين مثقالاً».عين العبرة /53.

«وكانت وقعة أحد في شوال، بعد بدر بسنة». تاريخ اليعقوبي: 2/47.

وبعثت قريش رسلها إلى قبائل كنانة وتهامة يستنصرونهم، وبرز أبوسفيان زعيماً لقريش بلا منازع، بعد أن قُتل منافساه عتبة بن ربيعة الأموي وأبوجهل المخزومي، فقام لإثبات زعامته بغارة على ضواحي المدينة في مئتي راكب، ليَبِرَّ يمينه! ووصل إلى ضواحي المدينة ليلاً، والتقى بأحد زعماء اليهود، وأغار على مزرعة للأنصار فقتل رجلين، وعندما قصده النبي (صلی الله علیه و آله) سارع بالهرب وتخفف أصحابه من مؤونتهم، فأخذها المسلمون وسميت غزوة ذات السويق!

ص: 91

وخلال سنة حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل، فيهم سبع مائة دارع ومئتا فارس وتوجهوا إلى المدينة ومعهم فتيانٌ بالمعازف وغلمان بالخمور، وخمس عشرة امرأة من نساء شخصياتهم، فيهن هند زوجة أبي سفیان، يغنين ويضربن بالدفوف ليحمسنهم للثأر لقتلى بدر، ومعهم أبو عامر الفاسق الذي ترك المدينة كراهيةً لمحمد، وسكن مكة مع خمسين رجلاً من الأوس، وكان يحرض قريشاً ويقول لهم إنهم على الحق ومحمد على الباطل، ويزعم لهم أن أهل المدينة معه!

وفي مقابل هؤلاء كان المسلمون سبع مئة مقاتل، فيهم مائتا دارع، وفارسان. الصحيح من السيرة: 6/77، النص والإجتهاد/341 وابن هشام: 3/581.

ولما وصل القرشيون إلى الأبواء وفيها قبر أم النبي (صلی الله علیه و آله) اقترحت عليهم هند أن ينبشوه ويأخذوا رمتها رهينة، ليأخذوا فداءها من النبي (صلی الله علیه و آله) !قالت: «فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير، إنه كان بها براً». الصحيح: 6/85.

فتشاوروا ثم أعرضوا عن ذلك، خوفاً من أن تنبش قبور موتاهم في مناطق المسلمين وحلفائهم! ووصلوا إلى ذي الحليفة قبل المدينة بقليل، فتركوا خيولهم وإبلهم ترعى زروع أهل المدينة، وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) من يخمِّن عددهم وعُدتهم، ثم واصلوا مسيرهم حتى نزلوا في آخر وادي قُبا عند جبل أحد، قبالة المدينة.

2- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) واستعداده للدفاع

عندما بلغ أهل المدينة تحرك قريش لحربهم قال قسم منهم نتحصن في المدينة ونرد هجوم قريش من مداخلها وسككها وأزقتها، وقال آخرون بل نخرج اليهم فنقاتلهم خارجها، لأنه ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا!

قال ابن إسحاق: 3/303: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للمسلمين: إني قد رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وتأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث قد نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبدالله بن أبي سلول مع رسول الله. فقال رجال من

ص: 92

المسلمين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا، لايرون أنا جبنا عنهم أو رضخنا». وابن هشام:3/583، تفسير الطبري: 4/94.

وقال علي بن إبراهيم في تفسيره: 1/110: «كان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، فلما رجعوا إلى مكة قال أبوسفيان: يا معشر قريش لاتدعوا النساء تبكي على قتلاكم، فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد!ويشمت بنا محمد وأصحابه! فلما غزوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أحد أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح.

فلما أرادوا أن يغزوا رسول الله إلى أحُد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها فجمعوا الجموع والسلاح. فلما بلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن الله قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبدالله بن أبي سلول وقومه: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا إلى أعدائنا قط إلا كان الظفر لهم. فقام سعد بن معاذ (رحمة الله) وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبدالأصنام، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا! لا، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم، فمن قتل منا كان شهيداً، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله، فقبل رسول الله قوله وخرج مع نفر من أصحابه يبتغون موضع القتال كما قال الله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

والظاهر أن رأي سعد بن معاذ كان سبب قبول النبي (صلی الله علیه و آله) بالخروج اليهم، لأن سعداً أكبر زعيم عند الأنصار.

ص: 93

3- النبي (صلی الله علیه و آله) يختار مكان معسكره

لم يكن للعدو طريق لمهاجمة المدينة إلا من وادي قباء وهي غربي المدينة وتمتد من الجنوب إلى الشمال. أما الجهات الأخرى فمرتفعات أو بساتين يصعب النفوذ منها، لذلك هاجمت قريش المدينة في أحُد من وادي قباء. وينتهي الوادي بجبل أحد الذي يعترضه ويمتد بعكسه من الشرق إلى الغرب، ويوجد قبله جبلٌ صغير إسمه: جبل عَيْنَيْن، وهو جبل الرماة، ويسمى يوم أحد يوم عَينين أيضاً.

ويظهر أن النبي (صلی الله علیه و آله) خرج صبح الجمعة أو قبله واختار مكاناً لمعسكره،كما قال الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، أي خرجت غدوةً صباحاً، ثم تابع النبي (صلی الله علیه و آله) مشاورة أصحابه في الخروج أو البقاء في المدينة، واتخذ قراره بالخروج، وصلى بهم الجمعة وخرج بهم بعد الصلاة وباتوا في أحد، وكانت المعركة صبيحة السبت.

وعسكر المشركون في الوادي مقابل جبل عينين، فاختار النبي (صلی الله علیه و آله) غربي قبر حمزة ليكون ظهرهم محمياً بجبل أحد ووجههم إلى المشركين، فكان جبل عينين عن يسارهم. وكان المسلك الوحيد للإلتفاف عليهم من خلف جبل عَينين من جهة المدينة، وهو معبر ضيق تجري فيه عين المِهْراس التي تنبع من آخر الوادي من جهة أحد. لذلك أمر النبي (صلی الله علیه و آله) خمسين من الرماة أن يتخذوا مواقعهم في أصل جبل الرماة من جهة المدينة، وشدد عليهم أن لايتركوا مواقعهم!

وقد رأيت عين المهراس سنة1961 ميلادية، بين قبرحمزة والمسجد الذي في شرقيه، وهي نبع على عمق بضعة أمتار، ينزل اليه في درج واسع، لكن الوهابيين ردموها وأزالوها. ويسمى يوم أحُد يوم المِهْراس أيضاً، وسيأتي أن علياً (علیه السلام) كان يأتي بالماء من المهراس وفاطمة (علیها السلام) تغسل جراح النبي (صلی الله علیه و آله).أمالي الطوسي/551.

ص: 94

4- انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولى

في صبيحة يوم السبت منتصف شوال سنة ثلاث للهجرة صفَّ النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين في أحُد، ووضع الرماة الخمسين شرقي جبل عينين.

ابن إسحاق: 3/301.

وفي تفسير القمي: 1/112: «وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري فبرز ونادى: يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليَّ! فبرز إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقول:

ياطلحُ إن كنت كما تقولُ *** لنا خيولٌ ولكم نَصول

فاثبت لننظر أينا المقتول *** وأينا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول *** بصارم ليس به فلول

ينصره القاهر والرسول

فقال طلحة: من أنت يا غلام؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: قد علمتُ يا قُضَيْم أنه لايَجسر عليَّ أحد غيرك! فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أميرالمؤمنين بالجحفة، ثم ضربه على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره وسقطت الراية! فذهب علي (علیه السلام) ليجهز عليه فحلَّفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا أجهزت عليه؟ قال: قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً!

وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحه فقتله علي (علیه السلام) وسقطت الراية على الأرض. فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض.

فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض.

فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض. وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي (علیه السلام)، وسقطت الراية إلى الأرض.

فأخذها عبدالله بن أبي جميلة بن زهير فقتله علي (علیه السلام) وسقطت الراية

إلى الأرض!

ص: 95

فقَتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) التاسع من بني عبدالدار! وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزةً وسقطت الراية إلى الأرض! فأخذها مولاهم صواب فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على يمينه فقطعها، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها بشماله فضربه أميرالمؤمنين على شماله فقطعها وسقطت الراية إلى الأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين، ثم قال: يا بني عبدالدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على رأسه فقتله، وسقطت الراية إلى الأرض!

فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها!

وحدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي: يا قُضَيْم؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرمونه بالحجارة والتراب فشكى ذلك إلى علي (علیه السلام) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إذا خرجت فأخرجني معك فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كعادتهم فحمل عليهم أميرالمؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون قضمنا عليٌّ قضمنا عليٌّ! فسمي لذلك: القَضِيم»!

وقال ابن هشام: 3/593: «وأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب: أن قدم الراية فتقدم عليٌّ فقال: أنا أبو القُضَم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: أن هل لك يا أبا القضم في البراز من حاجة؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه عليٌّ فصرعه ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عنه الرحم، وعرفت أن الله عزوجل قد قتله».

وفي الكافي: 8/111 أن خالد بن عبدالله القشيري أمير مكة سأل قتادة: «من الذي يقول: أوفي بميعادي وأحمي عن حسب؟! فقال: أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز؟ فلم يخرج إليه أحد

ص: 96

فقال: إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة، فخرج إليه علي بن أبي طالب وهو يقول:

أنا ابن ذي الحوضين عبدالمطلب *** وهاشم المطعم في العام السغب

أوفي بميعادي وأحمي عن حسب

فقال خالد: كذب لعمري، والله أبو تراب ما كان كذلك! فقال الشيخ: أيها الأمير إئذن لي في الإنصراف، قال: فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول: زنديق ورب الكعبة، زنديق ورب الكعبة»!

أقول: هذا يدل على حرص السلطة على إخفاء دور علي (علیه السلام). وقد ارتاعت قريش بقتل طلحة وأصحاب الألوية، وتزعزعت صفوفها، فلم يتقدم لحمل رايتهم بعدهم، إلا امرأة جمعتها عن الأرض ولم ترفعها! فأصدر النبي (صلی الله علیه و آله) أمره بالحملة فتقدم علي وحمزة وأبو دجانة وفرسان المسلمين وحملوا عليهم، فكانت هزيمة المشركين: «فانكشف الكفار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن. فلما نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلهم الذي أمروا أن لا يفارقوه، فنهاهم أميرهم عبدالله بن جبير فلم ينتهوا وقالوا: ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون! فقال عبدالله: والله لا أجاوز أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وثبت مكانه مع أقل من عشرة، فنظر خالد بن الوليد المخزومي إلى قلة من في الجبل من الرماة، فكرَّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم، ومثلوا بعبدالله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه! وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزى يا لهُبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فكان البلاء، وقتل حمزة سيد الشهداء وسبعون من صناديد المهاجرين والأنصار، وأصيب النبي بأبي هو وأمي بجروح يقرح

ص: 97

القلوب ذكرها ويهيج الأحزان بيانها، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. وإنما كان هذا البلاء كله لمخالفة أوامره ونواهيه». الفصول المهمة/114.

5- هزيمة المسلمين بعد انتصارهم!

قال علي بن إبراهيم في تفسيره: 1/111: «أمَّرَ رسول الله على الرماة وهم خمسون رجلاً عبدالله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ معلم بثياب بياض وقال: اِنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا أثبت مكانك لا نؤتين من قبلك. إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة، فلا تبرحوا والزموا مراكزكم. ووضع أبوسفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، وقال لهم إذا رأيتمونا قد اختلطنا بهم فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا من ورائهم. فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، ووقع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في سوادهم...

فانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه، فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال: إني أنا رسول الله، إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله»!

وفي تفسير فرات/94: «عن حذيفة قال: «رفع البيضة عن رأسه وجعل ينادي: أيها الناس أنا لم أمت ولم أقتل، وجعل الناس يركب بعضهم بعضاً لايلوون على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولايلتفتون إليه: فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة، فلم يكتفوا بالهزيمة حتى قال أفضلهم رجلاً في أنفسهم: قتل رسول الله، فلما آيس رسول الله (صلی الله علیه و آله) من القوم رجع إلى موضعه الذي كان فيه فلم يزل علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أبا دجانة ذهب الناس فالحق بقومك! فقال أبو دجانة: يا رسول الله ما على هذا بايعناك وبايعنا الله، ولا على هذا خرجنا يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أبا دجانة أنت في حل من بيعتك فارجع، فقال أبو دجانة: يا رسول الله لاتحدث نساء

ص: 98

الأنصار في الخدور أني أسلمتك ورغبت نفسي عن نفسك يا رسول الله، لا خير في العيش بعدك. قال: فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحةً فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به. قال: وعلي لا يبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه، فلما انقطع سيفه جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله انقطع سيفي ولا سيف لي، فخلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار فقلد ه علياً، ومشى إلى جمع المشركين، فكان لايبرز إليه أحد إلا قتله، فلم يزل على ذلك حتى وهت دراعته، فنظر رسول الله إلى السماء وقال: اللهم إن محمداً عبدك ورسولك جعلت لكل نبي وزيراً من أهله لتشد به عضده وتشركه في أمره، وجعلت لي وزيراً من أهلي، علي بن أبي طالب أخي، فنعم الأخ ونعم الوزير، اللهم وعدتني أن تمدني بأربعة آلاف من الملائكة مردفين، اللهم وعدك وعدك، إنك لا تخلف الميعاد، وعدتني أن تظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.

قال: فبينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعو ربه ويتضرع إليه، إذ سمع دوياً من السماء فرفع رأسه فإذا جبرئيل (علیه السلام) على كرسي من ذهب ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين وهو يقول: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، فهبط جبرئيل على الصخرة وحفت الملائكة برسول الله فسلموا عليه، فقال جبرئيل: يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى لقد عجبت الملائكة المقربون لمواساة هذا الرجل لك بنفسه. فقال: يا جبرئيل ما يمنعه يواسيني بنفسه وهو مني وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما، حتى قالها ثلاثاً. ثم حمل علي، وحمل جبرئيل والملائكة، ثم إن الله تعالى هزم جمع المشركين وتشتت أمرهم».

وفي إمتاع الأسماع: 1/144: «انكشف المشركون منهزمين لايلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح، ولكن المسلمين أُتُوا من قبل الرماة. وبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم، إذ دخلت الخيول تنادي فرسانها بشعارهم: يا للعزى يا لهبل!ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون وكل

ص: 99

منهم في يده أو حضنه شئ قد أخذه، فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً، وتفرق المسلمون في كل وجه! وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا.

ونادى إبليس عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل: ثلاث صرخات، فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين! واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من العجلة والدهش، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو برده بن نيار وما يدري! وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر!والتقت أسياف المسلمين على اليمان حسيل بن جابر وهم لايعرفونه حين اختلطواوحذيفة يقول: أبي أبي»!

وفي تفسير الطبري: 4/194، عن السدي قال: «لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه فدخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها. عن ابن إسحاق قال: فرَّ عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان حتى بلغوا الجلعب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة»!

قال ابن إسحاق: 3/306: «قال الزبير: لقد رأيتني أنظر إلى خدم «خلاخيل» هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير! إذ مالت الرماة عن العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل فأُتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل! فانكفأنا وانكفؤوا علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم!فانكشف المسلمون فأصاب منهم العدو فكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة».

6- ثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أول الأمر بضعة أشخاص

روى المفيد في الإرشاد: 1/80، عن زيد بن وهب قال: «وجدنا من عبدالله بن مسعود يوماً طِيبَ نفس فقلنا له: لو حدثتنا عن يوم أحُد وكيف كان؟ فقال: أجل ثم ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب فقال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أخرجوا إليهم على اسم الله فخرجنا، فصفَّنا لهم صفاً طويلاً، وأقام على الشعب خمسين رجلاً من الأنصار

ص: 100

وأمَّر عليهم رجلاً منهم وقال: لاتبرحوا عن مكانكم هذا وإن قتلنا عن آخرنا، فإنما نؤتى من موضعكم هذا! إلى أن قال: وثبت أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وأبو دجانة الأنصاري، وسهل بن حنيف يدفعون عن النبي (صلی الله علیه و آله) وكثر عليهم المشركون، ففتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عينيه فنظر إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقد كان أغمي عليه مما ناله فقال: يا علي ما فعل الناس؟ قال: نقضوا العهد وولوا الدبر، فقال له: فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي، فحمل عليهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكشفهم، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه (صلی الله علیه و آله) بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه. قال زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف؟! قال: انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده، وثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفر، وكان أولهم عاصم بن ثابت، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، ولحقهم طلحة بن عبيدالله.

فقلت له: فأين كان أبو بكر وعمر؟ قال: كانا ممن تنحى. قال قلت. فأين كان عثمان؟ قال: جاء بعد ثلاثة من الوقعة، قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد ذهبت فيها عريضة! قال فقلت له: فأين كنت أنت؟ قال: كنت فيمن تنحى! قال فقلت له: فمن حدثك بهذا؟ قال: عاصم وسهل بن حنيف. قال قلت له: إن ثبوت علي في ذلك المقام لعجب! فقال: إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي! فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل؟ فقال: سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي (صلی الله علیه و آله) عنه فقال: ذاك جبرئيل.

وفي حديث عمران بن حصين قال: لما تفرق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم أحد، جاء علي متقلداً سيفه حتى قام بين يديه، فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه إليه فقال له: ما لك لم تفر مع الناس؟ فقال: يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار له إلى قوم آخرين

ص: 101

فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم! فجاء جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا رسول الله، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما يمنعه من هذا، وهو مني وأنا منه! فقال جبرئيل (علیه السلام): وأنا منكما».

وزعموا أن أبابكر ثبت في أحد ولم يهرب فقال ابن سعد: 2/42: «وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكرالصديق وسبعة من الأنصار» لكنهم كذَّبوا أنفسهم فقالوا كان في أوائل من رجع من الهزيمة! قال ابن سعد: 3 / 155: «عن عائشة قالت: حدثني أبو بكر قال: كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد».

7- بقي النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وحدهما

اشارة

فبعد جرح أبي دجانة ونسيبة، لم يبق مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا علي (علیه السلام) ! قال الإمام الصادق (علیه السلام) كما في الكافي: 8/110: «انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فغضب غضباً شديداً قال: وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق، قال: فنظر فإذا علي (علیه السلام) إلى جنبه فقال له: إلحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله! فقال: يا رسول الله لي بك أسوة! قال: فاكفني هؤلاء، فحمل فضرب أول من لقي منهم. فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى جبرئيل على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول: لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي».

وفي الإرشاد: 1/89: «فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أبشر يا علي، فإن الله منجز وعده، ولن ينالوا منا مثلها أبداً». وفي تفسير القمي: 1/115: «ولم يبق مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا أبو دجانة الأنصاري سماك بن خرشة وأميرالمؤمنين (علیه السلام)، فكلما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم فيدفعهم عن رسول الله ويقتلهم، حتى انقطع سيفه. وبقيت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) نسيبة بنت كعب وكانت تخرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع، فحملت عليه فقالت: يا بني إلى أين تفر عن الله وعن رسوله؟! فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بارك الله عليك

ص: 102

يا نسيبة، وكانت تقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصدرها وثدييها ويديها، حتى أصابتها جراحات كثيرة!

وحمل ابن قميئة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أروني محمداً لانجوتُ إن نجا! فضربه على حبل عاتقه، ونادى قتلت محمداً واللات والعزى!

ونظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك، ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس، وكانت تقاتل المشركين فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لَمَقَامُ نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان!

ولم يكن يحمل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحد إلا يستقبله أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فإذا رأوه رجعوا! فانحاز رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ناحية أحُد فوقف. فلم يزل أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه! وسمعوا منادياً ينادي من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل، فقال أبوسفيان وهو على الجبل: أعلُ هبل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأميرالمؤمنين قل له: الله أعلى وأجل. فقال: يا علي إنه قد أنعم علينا! فقال علي (علیه السلام): بل الله أنعم علينا.

ثم قال أبوسفيان: يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد؟فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك! والله ما قتل محمد (صلی الله علیه و آله) وهو يسمع كلامك! فقال: أنت أصدق، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً».

أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى!

في كشف اليقين/59: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوماً فرحاً مسروراً وقال: أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى! أما أنه الفتى فلأنه سيد العرب. وأما ابن الفتى فلأنه ابن إبراهيم خليل الرحمن (علیه السلام) الذي نزل في حقه: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. وأما أنه أخو الفتى، فلأنه أخو علي (علیه السلام) الذي قال جبريل عنه أنه: إنه لا فتى إلا علي».

ص: 103

8- نزل جبرئيل (علیه السلام) وبقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى انسحب المشركون

يفهم من حديث دعائم الإسلام: 1/374، عن الإمام الباقر (علیه السلام) أن جبرئيل (علیه السلام) بقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى انسحب المشركون، قال: «لما كان يوم أحد وافترق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وثبت معه علي (علیه السلام) وكان من أمر الناس ما كان، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): إذهب يا علي، فقال: كيف أذهب يا رسول الله وأدعك! بل نفسي دون نفسك ودمي دون دمك، فأثنى عليه خيراً. ثم نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت فقال: إحمل عليها يا علي، فحمل عليها ففرقها وقتل هشام بن أمية المخزومي، ثم جاءت كتيبة أخرى فقال: إحمل عليها يا علي، فحمل عليها ففرقها وقتل عمر بن عبدالله الجمحي، ثم أقبلت كتيبة أخرى قال: إحمل عليها يا علي. فحمل عليها ففرقها وقتل شيبة بن مالك أخا بني عامر بن لؤي، وجبرئيل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال جبرئيل: يا محمد إن هذه للمواساة! فقال: يا جبرئيل، إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا محمد».

9- ركز المشركون على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في أحُد فأصابته جراحات

«لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين، أرهف المشركون لقتل رسول الله غِرار عزمهم، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم: عبدالله بن شهاب الزهر»والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بني زهرة«وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة الليثي أبيُّ بن خلف، وعبدالله بن حميد الأسدي القرشي، لعنهم الله وأخزاهم، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة، وأما عتبة فرماه - تبَّت يداه- بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من خلف المغفر فيها وعلاه بالسيف - شُلَّت يداه - فلم يطق أن يقطع فسقط (صلی الله علیه و آله) إلى الأرض. وأما أبيُّ بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها، وأما عبدالله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً. ثم حمل ابن قميئة على مصعب

ص: 104

بن عمير وهو يظنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقتله، ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد، فجعل الناس يقولون: قتل محمد قتل محمد! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين، لايرتابون في قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أسقط في أيديهم». الفصول المهمة للسيد شرف الدين/118.

وفي المناقب: 1/166: «فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه، ورماه عبدالله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه، فشج رأسه فنزل عن فرسه، ونهبه ابن قمئة، وقد ضربه على جنبه»!

وروى ابن هشام: 3/597، نحوه وذكر أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لايعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيده!

وفي تفسير فرات/93: «إنتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلىٰ صخرة فاستتر بها، ليتقي بها من السهام سهام المشركين».

«فلما انتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى فم الشعب خرج علي (علیه السلام) حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليشرب منه فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه». والمناقب: 1/96،102 والخرائج /62.

وقد كسر خوذته عبدالله بن شهاب جد الزهري فجُرح في رأسه، وأَدمى وجهه فوق حاجبه عبدالله أو عمرو بن قمئة وجرحه في وجنته، وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وجرح شفته السفلى من داخل فمه الشريف. «مقدمة فتح الباري/287». وفي فتح الباري: 7/286: (شُجَّ وجهه وكسرت رباعيته، وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها، ووهی منكبه من ضربة ابن قمئة وجحشت ركبته).

وفي صحيح البخاري: 7/19: (عن سهل بن سعد الساعدي قال: لما كسرت على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيضة وأدمي وجهه وكسرت رباعيته وكان علي يختلف بالماء

ص: 105

في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت فاطمة (علیها السلام) الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرقأ الدم).

وفي مصنف ابن أبي شيبة: 4/586: (شُجَّ النبي (صلی الله علیه و آله) وكسرت رباعيته، وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه وتركه أصحابه، فجاء أبي بن خلف يطلب بدم أخيه أمية بن خلف فقال: أين هذا الذي يزعم أنه نبي فليبرز لي فإن كان نبياً قتلني! فأخذ (صلی الله علیه و آله) الحربة ثم مشى إليه فطعنه فصرعه عن دابته، وحمله أصحابه فاستفردوه فقالوا: ما نرى بك بأساً! فقال: إنه قد استسقى الله دمى، إني لأجد لها ما لو كان على مضر وربيعة لوسعتهم).

وفي الدرر لابن عبدالبر/148: (فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل. وجُرح رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وجهه، وكُسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة على رأسه.. وكان الذي تولى ذلك من النبي عمرو بن قمئة الليثي وعتبة بن أبي وقاص، وقد قيل إن عبدالله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله في جبهته، وأكبت الحجارة على رسول الله حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين فخر على جنبه فأخذ علي بيده ).

وفي شرح الأخبار: 1/94: (عن عمر بن علاء، قال: لما كان يوم أحد وتفرق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ضُرب رسول الله ستين ضربة بالسيف، وعليه يومئذ درعان قد تظاهر بينهما، وكسرت رباعيته وشج في وجهه وتفرق الناس عنه، وبقي معه علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال له رسول الله: إرجع يا علي، فقال: إلى أين أرجع عنك يا رسول الله؟ أرجع كافراً بعد أن أسلمت! وأقبل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) كردوس من المشركين. فقال لعلي: فاحمل إذن على هؤلاء، فحمل عليهم ففرجهم وأصاب منهم. فقال جبرائيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا محمد إن هذه للمواساة. فقال: يا جبرائيل: إنه مني وأنا منه. فقال جبرائيل: وأنا منكما ).

وفي النص والإجتهاد/343: (وقاتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتى فني نبله، وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر

ص: 106

في جبهته، وكسرت رباعيته السفلى، وشقت بأبي هو وأمي شفته وعلاه ابن قمئة بالسيف. وقاتل دونه علي ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضی الله عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمداً، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد! فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله حي لم يقتل، فأشار إليه (صلی الله علیه و آله) أن أنصت). لئلا يعرفوا مكانه.

وروينا عن الإمام الصادق (علیه السلام) «إعلام الورى: 1/179»: (فلما دنت فاطمة (علیها السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورأته قد شُج في وجهه وأدميَ فوه إدماءً، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء، فلا يتراجع منه شئ! قال الصادق (علیه السلام): والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب.

قال أبان بن عثمان: حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت: كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء؟ قال: لاوالله ما قبضه الله إلا سليماً، ولكنه شُجَّ في وجهه. قلتُ: فالغار في أحُد الذي يزعمون أن رسول الله (علیهما السلام) صار إليه؟قال: والله ما برح مكانه، وقيل له: ألا تدعو عليهم؟ قال: اللهم اهد قومي)!

10- أشد الأيام على النبي (صلی الله علیه و آله)

«رويَ عن علي بن الحسين (علیه السلام): أنه نظر يوماً إلى عبيدالله بن العباس بن علي فاستعبر ثم قال: ما من يوم أشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من يوم أحُد، قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب. ولا يوم كيوم الحسين (علیه السلام): ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل

ص: 107

يزعمون أنهم من هذه الأمة،كل يتقرب إلى الله عزوجل بدمه!وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً»! مقتل الحسين (علیه السلام) مخنف/ 176.

11- أصعب اللحظات في حياة علي (علیه السلام)

وصف علي أصعب اللحظات في أحُد،كما في الإرشاد: 1/86 والمناقب: 2/315، قال: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر وما رأيته في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت

على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) قد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إليَّ وقال: ما صنع الناس يا علي؟ فقلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك! فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار.

فقال لي النبي (صلی الله علیه و آله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي: لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه على نعمته».

وتقدم من الإرشاد: 1/80، قوله: «وقد كان أغمي عليه (صلی الله علیه و آله) مما ناله»! لما جرح ووقع في الحفرة وتكاثر عليه المشركون، وجاء علي وجبرئيل فأخذاه إلى الصخرة.

وفي المناقب لابن سُلَيْمان: 1/466، عن ابن أبي ليلى قال: «لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه! جرح النبي (صلی الله علیه و آله) وقتل حمزة، وانكشف الناس عن النبي (صلی الله علیه و آله) فتركوه وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب..الخ.».

12- قميص النبي (صلی الله علیه و آله) الذي أصيب به في أحد

في الكافي: 1/236، «عن الإمام الصادق (علیه السلام) من حديث، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما حضرته الوفاة عرض على عمه العباس أن يأخذ تراثه ويقضي دينه ومواعيده، فاعتذر بأنه

ص: 108

لايطيق، فعرض ذلك على علي (علیه السلام) فقبله فأعطاه تراثه، وفيه: والقميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي جرح فيه يوم أحد».

وروى ابن عقدة في فضائل أميرالمؤمنين (علیه السلام) /88، أن المهدي (علیه السلام) عندما يظهر: «يكون عليه قميص رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي كان عليه يوم أحد».

13- لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة؟!

كان القرشيون يقولون: نقتل محمداً ونردف الكواعب من المدينة، أي نأتي بالسبايا من الأنصار! «ندموا على انصرافهم عن المسلمين، وتلاوموا فقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم»! مجمع البيان:2/446.

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/109: «لما ارتحل أبوسفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا: ما صنعنا! قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركناهم إذ هم! وقالوا: إرجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا».

لكن الذي حدث أن قائدهم أبا سفيان أصابه الذعر من علي (علیه السلام) وكان يرى جبرئيل (علیه السلام) معه راكباً فرساً أشقر، فقرر العودة إلى مكة!

فاعجب من أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل علياً (علیه السلام) وحده خلفهم وهم ثلاثة آلاف، فذهب غير هيَّاب، ولما فاجأهم من أمامهم قالوا هذا الذي فعل فينا الأفاعيل! وصاح أبوسفيان بأنا منسحبون فلماذا تتبعنا!

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/318»: «لما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) اختلاج ساقيه من كثرة القتال، رفع رأسه إلى السماء وهو يبكي وقال: يا رب وعدتني أن تظهر دينك وإن شئت لم يُعْيك. فأقبل علي (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله أسمع دوياً شديداً وأسمع أقدم حيزوم، وما أهمُّ أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه! فقال هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة.. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي إمض بسيفك حتى تعارضهم، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص «الإبل»وجنبوا

ص: 109

الخيل فإنهم يريدون مكة، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة، فأتاهم علي (علیه السلام) فكانوا على القلاص فقال أبوسفيان لعلي: يا علي ما تريد! هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة فانصرف إلى صاحبك! فأتبعهم جبرئيل فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير! وكان يتلوهم، فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمد قد أقبل! فدخل أبوسفيان مكة فأخبرهم الخبر، وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا: رأينا عسكر محمد كلما رحل أبوسفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم»!

14- علي (علیه السلام) بطل أحُد وصاحب انتصاراتها

قال ابن هشام: 3/655: «أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي، يمدح علي بن أبي طالب، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار، صاحب لواء المشركين يوم أحد:

لله أي مذبَّبٍ عن حرمة *** أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخْولا

سبقت يداك له بعاجل طعنة *** تركتْ طليحة للجبين مجدَّلا

وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم *** بالسفح إذ يَهْوُون أخولَ أخولا

وعللتسيفك بالدماءولم يكن *** لتردَّه ظمآنَ حتى ينهلا»

والإرشاد: 1/90، رسائل المرتضى: 4/125 والنهاية: 7/372.

وقال المفيد في الإرشاد: 1/90: «ذكر أهل السير قتلى أحُد من المشركين، فكان جمهورهم قتلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فروى عبدالملك بن هشام قال..كان صاحب لواء قريش يوم أحُد طلحة بن أبي طلحة بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار، قتله علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة، وقتل عبدالله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة، وقتل أخاه أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وقتل أرطاة بن شرحبيل، وقتل هشام بن أمية، وعمرو بن

ص: 110

عبدالله الجمحي، وبشر بن مالك، وقتل صواباً مولى بني عبدالدار، فكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بمقامه يذب عنه دونهم! وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار، وكانوا ثمانية نفر وقيل: أربعة أو خمسة».

وقال العلامة في كشف اليقين/131: «وكان جمهور قتلى أحُد مقتولين بسيف أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكان الفتح ورجوع الناس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بثبات أميرالمؤمنين (علیه السلام)».

وفي الثاقب في المناقب/63، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قَتَل علي بن أبي طالب (علیه السلام) يوم أحد أربعة عشر رجلاً، وقتل سائر الناس سبعة، وأصابه يومئذ ثمانون جراحة، فمسحها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلم ينفح منها شئ».

وفي المناقب: 1/385 و 2/78: «عن أبان بن عثمان، أنه أصاب علياً يوم أحد ستون جراحة، وأصاب علياً يوم أحد ستة عشر ضربة، وهو بين يدي رسول الله يذب عنه في كل ضربة يسقط إلى الأرض، فإذا سقط رفعه جبرئيل..

أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان، قال علي (علیه السلام): فأتيت النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبرته فقال: ياعلي أقر الله عينك، ذاك جبرئيل».

وفي المناقب: 3/85، عن زيد بن علي قال: «كسرت زند علي يوم أحد وفي يده لواء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسقط اللواء من يده، فتحاماه المسلمون أن يأخذوه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة. وفي رواية غيره: فرفعه المقداد وأعطاه علياً». ورواه السرخسي في المبسوط: 1/73.

وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي: 1/90، أنه كسر زنداه يومئذ! ولم يذكر متى، ولعله في الجولة الأولى بعد قتله أصحاب الألوية، وقد واصل جهاده وكأنه لم يصبه شئ فقد مسح النبي (صلی الله علیه و آله) جراحه!

ص: 111

وفي المناقب: 1/341: «المعروفون بالجهاد: علي، وحمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة. وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي (علیه السلام) في شوكته وكثرة جهاده. فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة. وقد أجمعت الأمة على أن علياً (علیه السلام) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي (صلی الله علیه و آله) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً، وما كان قط تحت لواء أحد، ولا فر من زحف! وإنهما فرَّا في غير موضع، وكانا تحت لواء جماعة».

فأعطى النبي (صلی الله علیه و آله) ذا الفقار يومها إلى علي (علیه السلام) وكان نزل في بدر فأعطاه علياً (علیه السلام) في بدر وقاتل به، أما يوم أحد فأعطاه إياه عندما تقطع سيفه فصار له، ونادى جبرئيل في أحُد بندائه يوم بدر.

أقول: مع كل هذا ترى رواة السلطة ينتقصون علياً (علیه السلام) ويذمونه، فقد قالوا إنه أعطى سيفه لفاطمة (علیها السلام) لتغسله وافتخر فقال: «خذيه فلقد أحسنت به القتال»! فوبخه النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: «إن كنت قد أحسنت القتال اليوم، فلقد أحسن سهل بن حنيف وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وأبو دجانة».«الحاكم 3/409 والحلبية2/547».وهذا من الحقد القرشي على علي (علیه السلام) !

15- حب علي (علیه السلام) فريضة لا رخصة فيها

في الجواهر السنية/301، عن سلمان الفارسي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «هبط جبرائيل (علیه السلام) يوم أحد وقد انهزم المسلمون ولم يبق غير علي (علیه السلام)، وقد قتل الله على يده يومئذ من المشركين من قتل فقال جبرئيل: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبر علياً أني عنه راض، وأني آليت على نفسي أن لا يحبه عبد إلا أحببته، ومن أحببته لم أعذبه بناري، ولا يبغضه عبد إلا أبغضته، ومن أبغضته ما له في الجنة من نصيب! قال: وهبط عليَّ جبرئيل (علیه السلام) يوم الأحزاب لما قتل علي بن أبي طالب عمرواً فارسهم فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني افترضت الصلاة

ص: 112

على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لايستطيعها، وافترضت الزكاة فوضعتها عن المقل، وافترضت الصيام فوضعته عن المسافر، وافترضت الحج فوضعته عن المعدم ومن لا يجد السبيل إليه، وافترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل الأرض، فلم أعذر فيه أحداً! فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه»!

16- جاءت فاطمة الزهراء (علیها السلام) منقضة كالصقر إلى قلب المعركة!

في إعلام الورى: 1/177: «ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة فصاحت فاطمة (علیها السلام)، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها، وخرجت فاطمة (علیها السلام) تصرخ! قال الإمام الصادق (علیه السلام): فلما دنت فاطمة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورأته قد شج في وجهه وأدمي فوهُ إدماءً، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله! وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ!

قال الصادق (علیه السلام): والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب!

قال أبان بن عثمان: حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت: كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء؟ قال (علیه السلام): لا والله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه. قلت: فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) صار إليه؟ قال: والله ما برح مكانه، وقيل له (صلی الله علیه و آله): ألا تدعو عليهم؟ قال: اللهم اهد قومي».

وفي المناقب: 1/166: «وصاح إبليس من جبل أحد: ألا إن محمداً قد قتل! فصاحت فاطمة (علیها السلام) ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ»!

وفي تفسير القمي: 1/124: «خرجت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقعدت بين يديه، فكان إذا بكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكت لبكائه، وإذا انتحب انتحبت»! وكان بكاؤه (صلی الله علیه و آله) حباً وشكراً لفاطمة (علیها السلام)، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه!

ص: 113

ومعنى ذلك أنها حضرت عندما جاء علي وجبرئيل (علیهما السلام) بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى ظل الصخرة، بعد أن جرح ووقع في حفرة، فجاء بها الله تعالى لتغسل جراحه وتكون إلى جنبه! فجاءت ركضاً تمشي في سفوح وادي قُبا الشرقية، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش، ولو رأوها لأخذوها أسيرة، وكان ذلك نصراً عظيماً لهم!

ويظهر أنها جاءت وحدها، فلم تذكر المصادر أحداً معها!

كما أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أرسل علياً (علیه السلام) خلف جيش قريش، بقيت فاطمة معه وحدهما، وهذا خطر آخر تعرض له النبي (صلی الله علیه و آله) والزهراء (علیها السلام) !

وقد طمس رواة السلطة دورها (علیها السلام) في أحُد، ولم يشيدوا بمجيئها إلى المعركة والناس فارُّون! وغاية مارووه أنها وعلياً (علیهما السلام) غسلا جرح النبي (صلی الله علیه و آله) !

قال بخاري في صحيحه: 3/227: «لما كسرت بيضة النبي (صلی الله علیه و آله) على رأسه وأدميَ وجهه وكسرت رباعيته، كان عليٌّ يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة (علیها السلام) تغسله، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه يعني رمادها، فرقأ الدم».

17- الصحابة الهاربون على جبل أحد

في سيرة ابن إسحاق: 3/309، وغيره، أن أنس بن النضر: «انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم «انهاروا» فقال: ما يجلسكم؟! قالوا: قتل رسول الله! قال: فما تظنون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل (رحمة الله)».

وفي الطبري: 2/201: «فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن أبيّ فيأخذ لنا أَمَنَةً من أبي سفیان! يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم! قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد! اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل».

ص: 114

وهذا يدل على أن همهم كان تدبير سلامتهم، وأخذ الأمان من أبي سفیان، ويدل قولهم فارجعوا إلى قومكم أو إلى دين قومكم، على أنهم قرشيون!

18- نادى النبي (صلی الله علیه و آله) الفارين بأسمائهم

في شرح النهج: 15/24، عن محمد بن مسلمة قال: «سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لايلوون عليه، سمعته يقول: إليَّ يا فلان، إليَّ يا فلان، أنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فما عرج عليه واحد منهما ومضيا، فأشار ابن معد إليَّ أي إسمع، فقلت: وما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما. فقلت: ويجوز أن لايكون عنهما لعله عن غيرهما.

قال: ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما. قلت له: هذا ممنوع. فقال:«دعنا من جدلك ومنعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحاً».

وروى الطبري في تفسيره: 4/193: «خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران قال: لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى، والناس يقولون: قتل محمد»! والأروى: العنزة الجبلية التي تجيد تسلق الصخور!

ونص الرواة على أن طلحة كان مع الفارين في الجبل عند الصخرة. وذكر ابن مسعود أنه كان من أول الراجعين، لكن بعد انتهاء المعركة!

وقد كثرت مكذوبات رواة السلطة في ادعاء حضور فلان وفلان بعد فرارهم، وكذا الحوار الذي اخترعوه بين أبي سفیان وعمر وأبي بكر!مع أنهم كانوا على الصخرة فوق جبل أحُد يريدون إرسال أحد إلى أبي سفیان ليأخذوا منه الأمان، فلو كان يسمع صوتهم لما احتاجوا إلى إرسال أحد اليه!راجع الصحيح من السيرة: 6/203.

19- ولحقهم علي (علیه السلام) في أول فرارهم ووبخهم!

في تفسير القمي: 1/114: «وروي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال: كنت أماشي فلاناً «عمر» إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه، ماذا يا فلان؟ قال ويحك

ص: 115

أما ترى الهزير القضم ابن القضم. فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب، فقلت له: يا هذا هو علي بن أبي طالب! فقال: أدن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا، فرأيت علياً كالليث يتقي الدر، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال: شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت، إلى أين تفرون، إلى النار؟! فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال: بايعتم ثم نكثتم؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوين دماً، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت: يا أبا الحسن الله الله، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة»!

20- بعض الصحابة الهاربين كفروا وشبعوا كفراً!

قال أحد الهاربين يوم أحد: «والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا! إنهم لعشائرنا وإخواننا! وقالوا: لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل! فترخصوا في الفرار حينئذ»! الدر المنثور: 2 / 80.

وقال مرضى القلوب منهم: «قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي: قد قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول»! تفسير الطبري: 4 / 151.

قال السيوطي في الدر المنثور: 2/80: «وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول.. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس أن رسول الله اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ورجل قائم على الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله؟وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون: والله ما ندري ما فعل! فقال: والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا: لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل! فترخصوا في الفرار».

ص: 116

21- قالوا كل التقصير من النبي (صلی الله علیه و آله) !

قال عمر: «فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه وأنزل الله: وَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بأخذكم الفداء»!«مجمع الزوائد: 6 /115». وصححه ابن حجر في العجاب:2/780.

وهو معنى قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا..

22- شهادة حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله)

في تفسير القمي: 1/117: «وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلما انهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا، وكان حمزة بن عبدالمطلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد. وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشياً عهداً لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطيتك رضاك. وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم، حبشياً، فقال وحشي: أما محمد فلا أقدر عليه وأما علي فرأيته رجلاً حذراً كثير الإلتفات فلم أطمع فيه.

قال: فكمنت لحمزة فرأيته يهدُّ الناس هدّاً فمر بي فوطأ على جرف نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها ورميته فوقعت في خاصرته وخرجت من مثانته مغمسة بالدم، فسقط، فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده وأتيت بها إلى هند فقلت لها: هذه كبد حمزة! فأخذتها في فيها فلاكتها فجعلها الله في فيها مثل الداغصة فلفظتها ورمت بها! فبعث الله ملكاً فحملها وردها إلى موضعها!

فقال أبو عبدالله (علیه السلام): يأبى الله أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار، فجاءت إليه هند فقطعت مذاكيره، وقطعت أذنيه، وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها، وقطعت يديه ورجليه»! ونحوه الإرشاد:1/83.

ص: 117

وفي المناقب: 1/166: «قال الصادق (علیه السلام): فزرقه وحشي فوق الثدي فسقط، وشدوا عليه فقتلوه، فأخذ وحشي الكبد فشد بها إلى هند، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة فلفظتها! ورأى الحليس بن علقمة أباسفيان وهو يشد الرمح في شدق حمزة فقال: أنظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش ما يصنع بعمه الذي صار لحماً؟! وأبوسفيان يقول: ذق يا عقق. وأتت هند وجدعت أنفه وأذنه، وجعلت في مخنقتها بالذريرة مدة».

وفي رسائل المرتضى: 4/125، أن هنداً نذرت يوم بدر أن تأكل كبد حمزة (علیه السلام).

وفي شرح الأخبار: 1/268: «قال وحشي: رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسفيه هداً ما يقوم له أحد، فاستترت بشجرة أو قال بحجر منه ليدنو إلي فأرميه بالحربة من حيث لا يراني، إذ لم أكن أقدر على مواجهته، فإني على ذلك إذ بسباع بن عبدالعزى قد سبقني إليه يريد نزاله.. ثم حمل عليه حمزة حملة أسد فضربه بالسيف، فكأنما أخطى رأسه ووقف عليه وقد خر ميتاً وهو لا يراني، وأرسلت الحربة إليه، فأصبته في مقتل فسقط ميتاً! يخبر وحشي بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد جاء مسلماً وسأله عن ذلك، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا وحشي غيب عني وجهك، فلا أراك»!

وفي تفسير القمي: 1/123: «فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى وقف عليه فلما رأى ما فعل به بكى ثم قال: والله ما وقفت موقفاً قط أغْيَظَ عليَّ من هذا المكان! لئن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم! فنزل عليه جبرئيل فقال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بل أصبر.. فألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على حمزة بُردة كانت عليه فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه وإذا مدها على رجليه بدا رأسه، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش وقال: لولا أني أحذر نساء بني عبدالمطلب لتركته للعادية والسباع حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع والطير! وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقتلى فجمعوا فصلى عليهم ودفنهم في مضاجعهم، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة».

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/49: «فجزع عليه رسول الله جزعاً شديداً وقال: لن أصاب بمثلك وكبَّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة».

ص: 118

وقال ابن هشام: 3/607: «أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحمزة فسجّي ببردة، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة. قال ابن إسحاق: وقد أقبلت فيما بلغني صفية بنت عبدالمطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لابنها الزبير بن العوام: إلقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها فقال لها: يا أمه، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.

فلما جاء الزبير إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدفن».

«عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة». «مسند أحمد: 5/135». وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «أشهد أنكم أحياء عند الله، فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفس محمد بيده لايسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة».مجمع الزوائد: 3/60.

وفي كشف الغمة: 1/189، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) سئل على منبر الكوفة عن قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ.. فقال: اللهم غفراً، هذه الآية نزلت فيَّ وفي عمى حمزة وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وأما عمي حمزة فإنه قضى نحبه شهيداً يوم أحد، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه، وأومى بيده إلى لحيته ورأسه، عهدٌ عهده إليّ حبيبي أبو القاسم (صلی الله علیه و آله)»!

وفي شرح الأخبار: 1/282: «ثم انصرف (صلی الله علیه و آله) راجعاً إلى المدينة وانصرف الناس معه، فلما دخل المدينة مر على دور الأنصار وهم يبكون قتلاهم، فذرفت عيناه (صلی الله علیه و آله) فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له! فأمر الأنصار نساءهم أن يبكين عليه ففعلن، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهن يبكين حمزة على باب المسجد فقال: إرجعن رحمكن الله، فقد آسيتن بأنفسكن، ونهاهن عن النوح وقال: كل نادبة

ص: 119

كاذبة إلا نادبة حمزة». وقد روته مصادرهم، كمسند أحمد: 1/463 وفتح الباري: 7/272.

وفي الطرائف/503: «قيل لعبدالله بن يحيى: هل تصلي مع معاوية؟ قال: لا والله لا أجد فرقاً بين الصلاة خلفه وبين الصلاة خلف امرأة يهودية حائض، ولذا لو صليت خلفه تقية أعدتها! وسئل شريك عن فضائل معاوية فقال: إن أباه قاتلَ النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو قاتلَ وصي النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمه أكلت كبد حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله)، وابنه قتل سبط النبي (صلی الله علیه و آله). وهو ابن زنا! فهل تريد له منقبة بعد ذلك»!

23- شهادة الحاخام مخيريق أفضل بني إسرائيل

في المناقب: 1/146: «أسلم وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصى بماله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو سبع حوائط وهي: المينب، والصايفه، والحسنى، ويرقد، والعواف، والكلاء، ومشربة أم إبراهيم». وقد ذكرناه في اليهود بعد بدر.

وفي سيرة ابن هشام: 2/362: «وكان من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحُد وكان يوم أحُد يوم السبت قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون إن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما بلغني يقول: مخيريق خير يهود. وقبض رسول الله أمواله فعامة صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمدينة منها».

24- جهاد أبي دجانة الأنصاري (رحمة الله)

في شرح الأخبار: 1/273: «أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفاً بيده فهزه وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال الزبير بن العوام: أنا يا رسول الله، فأعرض عنه رسول الله وقال: من يأخذ بحقه؟ فقام إليه أبو دجانة الأنصاري وكان من أبطال الأنصار فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: ألا يقف به في الكبول يعني أواخر الصفوف وأن يضرب به

ص: 120

في العدو حتى ينحني. فقال: أنا آخذه يا رسول الله فدفعه إليه، فأخذه أبو دجانة وهو مالك بن حرشة أخو بني سعدة من الأنصار، ثم أخرج عصابة معه حمراء فتعصب بها فقالت الأنصار: تعصب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت، وكان ذلك من فعله. ثم خرج يتبختر بين الصفين ويقول:

إني امرؤٌ عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لذي النخيل

ألا أقوم الدهر في الكبول *** أضرب بسيف الله والرسول

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنها مشية يبغضها الله عزوجل إلا في مثل هذا المقام. قال الزبير: فقلت: منعني رسول الله السيف وأعطاه أبا دجانة، والله لأتبعنه حتى لأنظر ما يصنع، فاتبعته حتى هجم في المشركين فجعل لا يلقى منهم أحداً إلا قتله، فقلت: الله ورسوله أعلم! قال: وكان في المشركين رجل قد أبلى ولم يدع منا جريحاً إلا دق عليه أي قتله فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا واختلفا بضربتين فضرب المشرك أبا دجانة ضربة بسيفه فاتقاها أبو دجانة بدرقته فعضب السيف، وضربه أبو دجانة فرمى برأسه!

ثم رأيته حمل السيف على مفرق رأس هند ابنة عتبة ثم عدله عنها! فقيل: لأبي دجانة في ذلك! فقال: رأيت إنساناً يخمِّش الناس خمشاً شديداً يعني يحركهم القتال فصدرت إليه يعني قصدته فلما حملت السيف على رأسه لأضربه وَلْوَلَ، فإذا به امرأة فأكرمت سيف رسول الله من أن أضرب به امرأة»! ومسلم: 7/151.

وفي علل الشرائع: 1/7، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب (علیه السلام) وأبو دجانة سماك بن خرشة، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): يا أبا دجانة أما ترى قومك؟ قال: بلى. قال: إلحق بقومك قال: ما على هذا بايعت الله ورسوله! قال: أنت في حل. قال: والله لا تتحدث قريش بأني خذلتك وفررت حتى أذوق ما تذوق! فجزَّاه النبي خيراً، وكان علي كلما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه، فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا

ص: 121

رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه (علیه السلام) سيفه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أثَّر وانكسر، فنزل عليه جبرئيل وقال: يا محمد، إن هذه لهي المواساة من عليٍّ لك، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما».

قال: مصنف هذا الكتاب (رحمة الله): قول جبرئيل (علیه السلام): وأنا منكما تمنٍّ منه لأن يكون منهما، فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه، وإنما قال: وأنا منكما، ليصير ممن هو أفضل منه فيزداد محلاً إلى محله وفضلاً إلى فضله».

ورواه فرات في تفسيره/93، عن حذيفة وفيه: «فلما سمع رسول الله كلامه ورغبته في الجهاد إنتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى صخرة فاستتر بها ليتقي بها من السهام سهام المشركين، فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحة فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجلس إلى جنبه مثخناً لاحراك به».

وفي الإرشاد: 2/386، عن المفضل عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «يُخرج القائم (علیه السلام) من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى (علیه السلام) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكاً الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً». ومعجم أحاديث الإمام المهدي (علیه السلام): 5/122.

25- جهاد نسيبة أم عمارة بنت کعب المازنية

في تفسير القمي: 1/115: «وبقيت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه فقالت: يا بني إلى أين تفر عن الله وعن رسوله؟! فردته فحمل عليه رجل فقتله،فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بارك الله عليك يا نسيبة. وكانت تقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصدرها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة!

ص: 122

وحمل ابن قميئة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أروني محمداً لا نجوت إن نجا، فضربه على حبل عاتقه، ونادى قتلت محمداً واللات والعزى.

ونظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان».

وقال ابن هشام: 3/599: «وقاتلت أم عمارة، نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد. فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري: أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة، فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إليَّ، قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله! لما ولى الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله فضربني هذه الضربة فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان».

وفي قاموس الرجال: 12/347: «شهدت نسيبة العقبة مع زوجها، وشهدت أحداً وشهدت اليمامة. قاتلت حين كر المشركون فضربها ابن قميئة ضربة بالسيف على عاتقها، وقاتلت نسيبة يوم اليمامة فقطعت يدها وهي تريد مسيلمة لتقتله».

ص: 123

26- دخل الجنة ولم يصلِّ ركعة

كان عمرو بن قيس قد تأخر إسلامه، فلما بلغه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الحرب أخذ سيفه وترسه وأقبل كالليث العادي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم خالط القوم فاستشهد، فمر به رجل من الأنصار فرآه صريعاً بين القتلى فقال: «يا عمرو أنت على دينك الأول؟ فقال معاذ الله، والله إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم مات! فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله إن عمرو بن قيس قد أسلم فهو شهيد؟ فقال: إي والله إنه شهيد، ما رجل لم يصل لله ركعة دخل الجنة غيره».

27- شهادة حنظلة غسيل الملائكة (رحمة الله)

في شرح الأخبار: 1/269: «وبارز يومئذ أبوسفيان حنظلة بن أبي عامر الغسيل من الأنصار، فصرع حنظلة أبا سفيان وعلاه ليقتله، فرآه شداد بن الأسود فجاءه من خلفه فضربه فقتله، وقام أبوسفيان من تحته، وقال: حنظلة بحنظلة! يعني ابنه حنظلة المقتول ببدر، الذي ذكر أن علياً (علیه السلام) قتله يومئذ.

ولما انهزم المشركون عن أحد وقف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على قتلى المسلمين، وأمر بدفنهم في مصارعهم، ورد من حمل منهم فدفن هناك، وأمر بدفنهم في ثيابهم وبدمائهم من غير أن يغسلوا كما يفعل بالشهداء، فرأى الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. فلما قدم المدينة قال: سلوا عنه امرأته. فقالت: فلما سمع بخروج رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج مبادراً وهو جنب من قبل أن يغتسل. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فلذلك ما رأيت من غسل الملائكة إياه». ونحوه ابن هشام: 3/592.

وفي تفسير القمي: 1/112: «وكان حنظلة بن أبي عامر رجل من الخزرج، قد تزوج في تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد، بنت عبدالله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة..فأصبح وخرج وهو جنب، فحضر القتال فبعثت امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار لما أراد حنظلة أن يخرج من عندها وأشهدت عليه أنه قد واقعها، فقيل

ص: 124

لها: لم فعلت ذلك؟ قالت رأيت في هذه الليلة في نومي كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انضمت، فعلمت أنها الشهادة، فكرهت أن لا أشهد عليه فحملت منه. فلما حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفیان على فرس يجول بين العسكرين فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرص وسقط أبوسفيان إلى الأرض وصاح: يا معشر قريش أنا أبوسفيان، وهذا حنظلة يريد قتلي، وعدا أبوسفيان ومر حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه، فمشى المشرك في طعنته فضربه فقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبدالله بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب، فكان يسمى غسيل الملائكة».

28- جهاد رُشَيْد الهَجَري في أحُد

واسمه عبدالرحمن بن عقبة، قال:«شهدت مع نبي الله يوم أحد فضربت رجلاً من المشركين فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي، فبلغت النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: هلا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري».أحمد: 5/295، راجع: جواهر التاريخ:2/406.

29- أبو عزة الذي أراد اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله)

في الخرائج: 1/149: «كان أبو عزة الشاعر، حضر مع قريش يوم بدر يحرض قريشاً بشعره على القتال، فأسر في السبعين الذين أسروا. فلما وقع الفداء على القوم قال أبو عزة: يا أبا القاسم تعلم أني رجل فقير فامنن على بناتي، فقال (صلی الله علیه و آله): إن أطلقتك بغير فداء أتكثر علينا بعدها؟ قال: لا والله. فعاهده أن لا يعود، فلما كانت حرب أحد دعته قريش إلى الخروج معها ليحرض الناس بشعره على القتال، فقال: إني عاهدت محمداً ألا أكثر عليه بعدما من علي. قالوا: ليس هذا من ذاك، إن محمداً لا يسلم منا في هذه الدفعة، فقلبوه عن رأيه فلم يؤسر يوم أحد من قريش غيره، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ألم تعاهدني؟ قال: إنما غلبوني

ص: 125

على رأيي فامنن على بناتي. قال: لا، تمشي بمكة وتحرك كتفيك فتقول: سخرت من محمد مرتين! المؤمن لايلسع من جحر مرتين! يا علي إضرب عنقه». والخلاف: 4/193 وابن إسحاق: 3/302.

30- النبي (صلی الله علیه و آله) يُشفي عين قتادة من أجل عروسه

في كشف الغمة: 1/187: «أصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، قال: فجئت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني! فأخذها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فردها فأبصرت وعادت كما كانت لم تؤلمه ساعة من ليل أو نهار، فكان يقول: بعد أن أسن هي أقوى عينيَّ، وكانت أحسنهما».ونحوه الإحتجاج: 1/332 والثاقب في المناقب/64.

31- عندما اضطرب المسلمون قتلوا والد حذيفة خطأ!

«اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد ولا يعرفونه، فقتلوه، فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يَدِيَه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين».أحمد: 5/429.

32- لعن النبي (صلی الله علیه و آله) أبا سفيان يوم أحُد

روى في الخصال/397، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: «إن رسول لله (صلی الله علیه و آله) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن في كلهن لا يستطيع إلا أن يلعنه، أولهن: يوم لعنه الله ورسوله وهو خارج من مكة إلى المدينة مهاجراً وأبوسفيان جائي من الشام، فوقع فيه أبوسفيان يسبه ويوعده وهمَّ أن يبطش به فصرفه الله عن رسوله.

والثانية: يوم العير إذا طردها ليحرزها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلعنه الله و رسوله.

والثالثة: يوم أحد قال أبوسفيان: أُعل هبل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الله أعلى وأجل فقال أبوسفيان: لنا عزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الله مولانا ولا مولى لكم.

والرابعة: يوم الخندق يوم جاء أبوسفيان في جميع قريش فرد هم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأنزل الله عزوجل في القرآن آيتين في سورة الأحزاب فسمى أبا سفيان وأصحابه كفاراً، ومعاوية مشرك عدو لله ولرسوله.

ص: 126

والخامسة: يوم الحديبية والهدي معكوفاً أن يبلغ محله، وصد مشركوا قريش رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن المسجد الحرام وصدوا بُدْنَهُ أن تبلغ المنحر، فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يطف بالكعبة ولم يقض نسكه، فلعنه الله ورسوله.

والسادسة: يوم الأحزاب يوم جاء أبوسفيان بجمع قريش وعامر بن الطفيل بجمع هوازن وعيينة بن حصن بغطفان، وواعد لهم قريظة والنضير أن يأتوهم فلعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) القادة والأتباع وقال: أما الأتباع فلا تصيب اللعنة مؤمناً، وأما القادة فليس فيهم مؤمن ولا نجيب ولا ناج.

والسابعة: «يوم حملوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في العقبة وهم اثنا عشر رجلاً من بني أمية وخمسة من سائر الناس فلعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من على العقبة غير النبي (صلی الله علیه و آله) وناقته وسائقه وقائده. قال مصنف هذا الكتاب رضی الله عنه: جاء هذا الخبر هكذا. والصحيح أن أصحاب العقبة كانوا أربعة عشر». والإحتجاج: 1/408 وشرح الأخبار: 2/165.

33- لماذا قرر المشركون أن يبقوا عمر بن الخطاب ولا يقتلوه؟

قال ابن هشام: 2/282: «وكان ضرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: أنج يا ابن الخطاب. لا أقتلك! فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه»! وقد عقد في الصحيح من السيرة: 6/235 فصلاً، لمعرفة سبب قول ضرار بن الخطاب لعمر بن الخطاب: «والله ما كنت لأقتلك»! وكان ضرار بن الخطاب مقرباً من أبي سفیان، وهو من فرسان قريش وشعرائها، وشعره في هجاء النبي (صلی الله علیه و آله) مشهور!

وكذا جرى لعمر في غزوة الخندق وتعمد المشركين تركه وعدم المساس به!

34- فداءً لك يا رسول الله!

«عن أنس قال: «لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة فقالوا: قتل محمد! حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزنة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت أولاً، فلما

ص: 127

مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك! قالت: ما فعل النبي؟ قالوا: أمامك، فمشت حتى جاءت إليه فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لاأبالي إذا سلمت من عطب»مسكن الفؤاد/72.

35- بركة النبي (صلی الله علیه و آله) على تمر جابر الأنصاري

في الخرائج: 1/154، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «استشهد والدي بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أحد وهو ابن مائتي سنة، وكان عليه دين، فلقيني رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوماً فقال: ما فعل دين أبيك؟ قلت: على حاله. فقال: لمن هو؟ قلت: لفلان اليهودي. قال: متى حينه؟ قلت: وقت جفاف التمر. قال: إذا جففت التمر فلا تحدث فيه حتى تعلمني واجعل كل صنف من التمر على حدة. ففعلت ذلك وأخبرته (صلی الله علیه و آله)، فصار معي إلى التمر وأخذ من كل صنف قبضة بيده وردها فيه، ثم قال: هات اليهودي. فدعوته فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إختر من هذا التمر أي صنف شئت فخذ دينك منه. فقال اليهودي: وأي مقدار لهذا التمر كله حتى آخذ صنفاً منه؟ ولعل كله لا يفي بديني! فقال: إختر أي صنف شئت فابتدئ به، فأومى إلى صنف الصيحاني فقال: أبتدئ به؟ فقال: إفعل باسم الله، فلم يزل يكيل منه حتى استوفى منه دينه كله، والصنف على حاله ما نقص منه شئ! ثم قال (صلی الله علیه و آله): يا جابر هل بقي لأحد عليك شئ من دينه؟ قلت: لا. قال: فاحمل تمرك بارك الله لك فيه، فحملته إلى منزلي وكفانا السنة كلها، فكنا نبيع لنفقتنا ومؤونتنا ونأكل منه، ونهب منه ونهدي، إلى وقت التمر الحديث، والتمر على حاله إلى أن جاءنا الجديد».

36- قزمان مثلٌ لسيئ التوفيق

في سيرة بن هشام: 2/368 و605: «قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتى لا يدرى ممن هو يقال له قزمان، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار! قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني

ص: 128

ظفر. قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته فقتل به نفسه»!

37- عثمان يؤوي عمه المشرك القاتل!

كان معاوية بن المغيرة بن العاص الأموي ابن عم عثمان بن عفان، شديد العداء للنبي (صلی الله علیه و آله) حتى هدر دمه، وهو جدُّ عبدالملك بن مروان لأمه.

وكان مع أبي سفیان في جيش أحد، ولما انهزم القرشيون أمام المسلمين في الجولة الأولى هرب ابن المغيرة فدخل المدينة وآوى إلى بيت ابن عمه عثمان، فتشفع فيه عثمان وألح على النبي (صلی الله علیه و آله) فأمهله ثلاثاً على أن لايراه في المدينة ولا حولها، ولعن من أعانه وجهزه فجهزه عثمان، وتأخر في المدينة ليأخذ أخبار النبي (صلی الله علیه و آله) لقريش! فنزل جبرئيل وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بمكانه أيام حمراء الأسد، فأرسل علياً وعماراً فقتلاه! وحكى الإمام الصادق (علیه السلام) قصته كما في الكافي: 3/251 قال: «إن الفاسق آوى عمه المغيرة بن أبي العاص وكان ممن هدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) دمه، فقال لابنة رسول الله: لا تخبري أباك بمكانه كأنه لا يوقن أن الوحي يأتي محمداً! فقالت: ما كنت لأكتم رسول الله عدوه! فجعله بين مشجب له ولحفه بقطيفة، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوحي فأخبره بمكانه فبعث إليه علياً (علیه السلام) وقال: إشتمل على سيفك وائت بيت ابنة ابن عمك، فإن ظفرت بمعاوية بن المغيرة فاقتله!

فأتى البيت فجال فيه فلم يظفر به فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: يا رسول الله لم أره، فقال: إن الوحي قد أتاني فأخبرني أنه في المشجب! ودخل عثمان بعد خروج علي فأخذ بيد عمه فأتى به النبي (صلی الله علیه و آله) فلما رآه أكب عليه ولم يلتفت إليه! وكان نبي الله (صلی الله علیه و آله) حيياً كريماً فقال: يا رسول الله هذا عمي، هذا المغيرة بن أبي العاص وقد والذي بعثك بالحق آمنته. قال أبو عبدالله (علیه السلام): وكذب، والذي بعثه بالحق ما آمنه! فأعادها ثلاثاً أني آمنته، وأعادها أبو عبدالله (علیه السلام) ثلاثاً، إلا أنه يأتيه

ص: 129

عن يمينه ثم يأتيه عن يساره، فلما كان في الرابعة رفع رأسه إليه فقال له: قد جعلته لك ثلاثاً فإن قدرتُ عليه بعد ثالثة قتلته، فلما أدبر قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم العن المغيرة بن أبي العاص، والعن من يؤويه، والعن من يحمله، والعن من يطعمه، والعن من يسقيه، والعن من يجهزه، والعن من يعطيه سقاء أو حذاء أو رشاء أو وعاء، وهو يعدهن بيمينه!

وانطلق به عثمان فآواه وأطعمه وسقاه وحمله وجهزه، حتى فعل جميع ما لعن عليه النبي (صلی الله علیه و آله) من يفعله به! ثم أخرجه في اليوم الرابع يسوقه فلم يخرج من أبيات المدينة حتى أعطب الله راحلته ونقب حذاه وورمت قدماه، فاستعان بيديه وركبتيه وأثقله جهازه حتى وجس به، فأتى شجرة فاستظل بها، لو أتاها بعضكم ما أبهره ذلك! فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوحي فأخبره بذلك فدعا علياً (علیه السلام) فقال: خذ سيفك وانطلق أنت وعمار وثالث لهم فأت المغيرة بن أبي العاص تحت شجرة كذا وكذا، فأتاه علي فقتله.

فضرب عثمان بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أنت أخبرت أباك بمكانه! فبعثت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) تشكو ما لقيت، فأرسل إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إقني حياءك، ما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كل يوم تشكو زوجها! فأرسلت إليه مرات كل ذلك يقول لها ذلك، فلما كان في الرابعة دعا علياً (علیه السلام) وقال: خذ سيفك واشتمل عليه ثم ائت بيت ابنة ابن عمك فخذ بيدها، فإن حال بينك وبينها أحد فاحطمه بالسيف، وأقبل بها إلى رسول الله! فلما نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء واستعبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكى، ثم أدخلها منزله وكشفت عن ظهرها، فلما أن رأى ما بظهرها قال: ثلاث مرات: ماله قتلك قتله الله! وكان ذلك يوم الأحد، وبات عثمان ملتحفاً بجاريتها فمكث الإثنين والثلاثاء وماتت في اليوم الرابع، فلما حضر أن يخرج بها أمر رسول الله (علیه السلام) فاطمة (علیها السلام) فخرجت ونساء المؤمنين معها، وخرج عثمان يشيع جنازتها، فلما نظر إليه النبي (صلی الله علیه و آله) قال: من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتبعن جنازتها! قال ذلك ثلاثاً، فلم ينصرف فلما كان في الرابعة قال: لينصرفن أولأسمين باسمه، فأقبل عثمان متوكئاً على مولى له ممسك ببطنه فقال: يا رسول الله إني أشتكى بطني،

فإن رأيت أن تأذن لي أنصرف، قال: إنصرف. وخرجت فاطمة (علیها السلام) ونساء المؤمنين

ص: 130

والمهاجرين فصلين على الجنازة». راجع الصحيح من السيرة: 6/206، الخرائج: 1/94، الدرر/158 وابن هشام: 3/617.

38- أسماء شهداء أحُد وقتلى المشركين فيها

في سيرة ابن هشام: 3/635:» قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من المهاجرين من قريش، ثم من بني هاشم بن عبدمناف: حمزة بن عبدالمطلب بن هشام رضی الله عنه، قتله وحشي، غلام جبير بن مطعم. ومن بني أمية بن عبد شمس: عبدالله بن جحش، حليف لهم، من بني أسد بن خزيمة. ومن بني عبدالدار بن قصي: مصعب بن عمير قتله ابن قمئة الليثي. ومن بني مخزوم بن يقظة: شماس بن عثمان. أربعة نفر. ومن الأنصار، ثم من بني عبدالأشهل: عمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن. قال ابن هشام: السكن: ابن رافع بن امرئ القيس، ويقال: السكن. قال ابن إسحاق: وسلمة بن ثابت بن وقش، وعمرو بن ثابت بن وقش. رجلان.

قال ابن إسحاق: وقد زعم لي عاصم بن عمر بن قتادة: أن أباهما ثابتاً قتل يومئذ. ورفاعة بن وقش، وحسيل بن جابر، أبو حذيفة وهو اليمان، أصابه المسلمون في المعركة ولا يدرون، فتصدق حذيفة بديته على من أصابه.

وصيفي بن قيظي، وحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ. اثنا عشر رجلاً. ومن أهل راتج: إياس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبدالأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبدالأشهل، وعبيد بن التيهان.

قال ابن هشام: ويقال: عتيك بن التيهان وحبيب بن يزيد بن تيم. ثلاثة نفر. ومن بني ظفر: يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع. رجل ومن بني عمرو بن عوف، ثم من بني ضبيعة بن زيد: أبوسفيان بن الحارث ابن قيس بن زيد، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن نعمان بن مالك بن أمة، وهو غسيل الملائكة، قتله

شداد بن الأسود بن شعوب الليثي. رجلان.

ص: 131

قال ابن هشام: قيس: ابن زيد بن ضبيعة، ومالك: ابن أمة بن ضبيعة.

قال ابن إسحاق: ومن بني عبيد بن زيد: أنيس بن قتادة. رجل. ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: أبو حية، وهو أخو سعد بن خثيمة لأمه. قال ابن هشام: أبو حية: ابن عمرو بن ثابت. قال ابن إسحاق: وعبدالله بن جبير النعمان وهو أمير الرماة. رجلان. ومن بني السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس: خيثمة أبو سعد بن خيثمة. رجل. ومن حلفائهم من بني العجلان: عبدالله بن سلمة رجل. ومن بني معاوية بن مالك: سبيع بن حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة. رجل.

قال ابن هشام: ويقال. سويبق بن الحارث بن حاطب بن هيشة.

قال ابن إسحاق: ومن بني النجار، ثم من بني سواد بن مالك بن غنم: عمرو بن قيس، وابنه قيس بن عمرو. قال ابن هشام: عمرو بن قيس: ابن زيد بن سواد.

قال ابن إسحاق: وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد. أربعة نفر. ومن

بني مبذول: أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو بن ثقف بن مالك بن مبذول، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو. رجلان. ومن بني عمرو بن مالك: أوس بن

ثابت بن المنذر. رجل.

قال ابن هشام: أوس بن ثابت، أخو حسان بن ثابت. قال ابن إسحاق: ومن بني عدي بن النجار: أنس بن النضر بن ضمضم ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. رجل، قال ابن هشام: أنس بن النضر، عم أنس بن مالك: خادم رسول الله (صلی الله علیه و آله). ومن بني مازن بن النجار: قيس بن مخلد، وكيسان، عبد لهم. رجلان. ومن بني دينار بن النجار: سليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو. رجلان. ومن بني الحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير، دفنا في قبر واحد، وأوس بن الأرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب. ثلاثة نفر. ومن بني الأبجر، وهم بنو خدرة: مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو أبو أبي سعيد الخدري. قال ابن هشام: اسم أبي سعيد الخدري: سنان، ويقال: سعد. قال ابن إسحاق: وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عباد بن

ص: 132

الأبجر، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر. ثلاثة نفر. ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد ابن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة، وثقف بن فروة بن البدي. رجلان. ومن بني طريف، رهط سعد بن عبادة: عبدالله بن عمرو بن وهب ابن ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف، وضمرة، حليف لهم من بني جهينة. رجلان. ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني سالم، ثم من بني مالك بن العجلان ابن زيد بن غنم بن سالم: نوفل بن عبدالله، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك ابن العجلان، ونعمان بن مالك بن ثعلبة بن فهر بن غنم بن سالم، والمجذر بن زياد، حليف لهم من بلى، وعبادة بن الحسحاس. دفن النعمان بن مالك، والمجذر، وعبادة، في قبر واحد. خمسة نفر. ومن بني الحبلى: رفاعة بن عمرو. رجل، ومن بني سلمة، ثم من بني حرام: عبدالله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، دفنا في قبر واحد، وخلاد بن عمرو بن الجموح، وأبو أيمن، مولى عمرو بن الجموح. أربعة نفر. ومن بني سواد بن غنم: سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل ابن قيس بن أبي كعب بن القين. ثلاثة نفر. ومن بني زريق بن عامر: ذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان. رجلان. قال ابن إسحاق: فجميع من استشهد من المسلمين مع رسول الله من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلاً.

قال ابن هشام: وممن لم يذكر ابن إسحاق من السبعين الشهداء الذين ذكرنا، من الأوس، ثم من بني معاوية بن مالك: بن تميلة، حليف لهم من مزينة. ومن بني خطمة - واسم خطمة: عبدالله بن جشم بن مالك بن الأوس - الحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة. ومن بني الخزرج، ثم من بني سواد بن مالك: مالك بن إياس. ومن بني عمرو بن مالك بن النجار: إياس بن عدي. ومن بني سالم بن عوف: عمرو بن إياس.

ص: 133

الفصل السابع والأربعون: آيات معركة أحد كشفت أكثرية الصحابة!

ستون آية في معركة أحد

نزلت في معركة أحد أكثر من ستين آية، فيها حقائق مهمة عملَ رواة الحكومة القرشية على إخفائها أو تحريفها، لمدح بعض الصحابة أو التغطية عليهم، وسلب مناقب آخرين! ونورد فيما يلي نص الآيات، وفهرساً لأهم موضوعاتها:

قال الله تعالى في سورة آل عمران: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا

ص: 134

عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.

ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِن يَّمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ.

وبعدها آية الإنقلاب والكفر الذي حصل في الصحابة لخبر قتل النبي (صلی الله علیه و آله) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ!

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ.

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ. بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيْرُ النَّاصِرِينَ.

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الأَخِرَةَ ثُمَّ

ص: 135

صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاتَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْ لا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِي اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لآخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرض أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لايُظْلَمُونَ.

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.

أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَالَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قَالُوا لآخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.

وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

ص: 136

وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لايُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلايَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

وَلايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقَ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور. وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاتَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.

لاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ

ص: 137

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ.آل عمران: 121-195.

أهم موضوعات آيات أحد

1. ذكرت الآية الأولى ذهاب النبي (صلی الله علیه و آله) صباحاً ليختار مكاناً لمعسكر المسلمين في أحُد، ثم ذكَّرهم الله تعالى بحركة النبي (صلی الله علیه و آله) بعد صلاة الجمعة إلى أحد، وكيف تخلف عنه المنافقون وهم ثلث الجيش بقيادة رئيسهم ابن سلول، فهمت طائفتان من غيرهم أن تتخلفا، وهم بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، لكن الله عصمهم.البحار: 20/17.

2. وجاءت الآيات السبع بعدها تذكيراً ببدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ. فذكرهم بنصره إياهم وقد كانوا قلة ضعفاء، وأخبرهم أنه عزوجل هو الذي يدير الصراع مع المشركين، وفق المصلحة التي تهدف إلى نصرة نبيه وتثبيت دينه، والمغفرة لمن يشاء من عباده وتعذيب بعض من يستحق.

3. وجاءت الآيات التسع بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.. إلى قوله: وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، توجيهات إقتصادية واجتماعية وتربوية للمسلمين.

4. والآيات الثلاث بعدها: ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ.. إلى قوله: يَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، توجيه للمسلمين أن لايضعفوا لما أصابهم في معركة أحد من قتل وجراح وهزيمة، وأخبرهم بأن الله تعالى أذن بذلك ليحقق أربعة أهداف: تمييز المؤمنين، واتخاذ الشهداء منهم، وتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين.

ص: 138

5. ثم نبهت الآية بعدها: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.. المسلمين أن لا يتصوروا أنهم يمكنهم أن يدخلوا الجنة بدون أن يثبتوا عملياً جهادهم وصبرهم!

6. ثم وبختهم الآية: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ.. بأنهم كانوا قبل أحُد يتمنون الموت في سبيل الله، لكنهم عندما رأوا الموت والشهادة هرب أكثرهم!

7. وبعدها آية الإنقلاب: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..تحدثت عن انقلاب الصحابة عندما شاع خبر قتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! وقال بعضهم: لوكان نبياً ما قتل! وقال بعضهم: إرجعوا إلى دينكم الأول! وقال بعضهم: من يذهب ويأخذ لنا أماناً من أبي سفیان!

8. وقررت الآية بعدها: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ.. أن تعريض الإنسان نفسه للشهادة لايُقصِّر عمره، لأن الموت حتى لو تمت شروطه الظاهرة لايتحقق إلا بإذن خاص من الله تعالى! وهو إذن يتبع قانون الثواب والعقاب، وهو قانونٌ يتبع إرادة الإنسان ونيته!

9. ثم مدح الله عزوجل في الآيات الثلاث التي بعدها من سماهم الرِّبِّيين: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وهم الذين ثبتوا في المعركة ولم يضعفوا ولم يستكينوا، فهو نص بمدح علي وأبي دجانة ونسيبة، ومن ثبت من الصحابة واستشهد في الجولة الثانية، وأولهم حمزة.

10. ثم كشف عزوجل في الآيتين بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا.. عن تأثير الكفار على بعض الصحابة لأنهم يتولونهم! وحذرهم من أن موالاتهم تجرهم إلى الإنقلاب على أعقابهم، وأن عليهم أن يتولوا بدلهم الله تعالى ومن أمرهم بموالاته: بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيْرُ النَّاصِرِينَ!

11. وفي الخمس آيات التي تلتها: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.. إلى قوله: إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، تحدث عزوجل عن معركة أحد وانتصارهم فيها أولاً، ثم انهيارهم وفرارهم المعيب، وتركهم النبي (صلی الله علیه و آله) لهجوم المشركين وسيوفهم،

ص: 139

وهروبهم إلى جبل أحُد وغيره، والنبي (صلی الله علیه و آله) يناديهم فلا يرجعون!

ومع ذلك فقد وعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار في المعركة القادمة وذكرهم بأنه صدقهم وعده في أحُد، ولكنهم لما رأوا النصر والغنائم نسوا ربهم وأرادوا الدنيا فابتلاهم بالهزيمة، وقلَّ منهم الربيون الذين ثبتوا وأرادوا الآخرة.

12. وفي الآيات الثلاث التي تلتها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا.. إلى قوله: لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ، صحح الله عزوجل نظرتهم إلى الموت، ونهاهم عن نظرة الكفار التي ابتلاهم الله بها لتكون حسرة في قلوبهم. بينما النظرة الإسلامية للموت بأنه مجرد انتقال إلى الأحسن، وحشرٌ إلى الله تعالى.

13. وفي الآيات الثلاث التي تلتها: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ.. إلى قوله: وَهُمْ لايُظْلَمُونَ، أخبر نبيه (صلی الله علیه و آله) بأن لينه مع المسلمين كان من أسباب نجاحه وإلا لنفروا منه وعنه، وأوصاه أن يواصل هذا اللين ويطيب خاطرهم ويعفو عن أخطائهم ويستغفر الله لهم، ويشاورهم فيما يناسب من الأمور، فإذا عزم حسب أمر ربه، فليتوكل عليه ولا يهتم بمن خالفه.

ثم وبَّخ الذين اتهموه (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ قطيفة من الغنائم، وأوضح لهم أن الغل لا وجود له عند الأنبياء (علیه السلام) لأنهم يريدون الآخرة، أما الذين يريدون الدنيا ويخونون المال العام، فهم غير الأنبياء والأوصياء: وخيار المؤمنين!

14. وفي الأربع التي تلتها: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ نبه المسلمين إلى عدم الخلط في المقاييس ونوعيات الناس، وأن لايجعلوا الذين اتبعوا رضوان الله كمن خانوا الله ورسوله والمسلمين، فغلوا أو نقضوا بيعتهم وفروا من المعركة! ونبههم إلى أن درجات هؤلاء متفاوتة عند الله تعالى.

15. وفي الآيات السبع التي تلتها: وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا إلى قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أخبر عزوجل عن حياة الشهداء عند ربهم ونعيمهم، وأنهم يستبشرون بمن بقي منهم حياً من الربيين: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ.. وخرجوا

ص: 140

في اليوم التالي لتعقب المشركين وإبلاغهم رسالة قوة. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ..

16. وفي الآيات الأربع: وَلايَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...الى قوله: فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ، عزَّى الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) عن خسارة الذين كانوا «مسلمين» فسارعوا بالكفر واشتروه بالإيمان وكفروا بالكامل، فهددهم بالعذاب الأليم، وأخبرهم بأنه يملي لهم ويمهلهم إلى مدة، فلا يغتروا بذلك!

ثم بيَّن عزوجل أن «المؤمنين» من الصحابة وغيرهم فيهم الخبيث والطيب، وأن القانون الإلهي يعمل فيهم لفرزهم: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وأن هذا القانون وانطباقاته من غيب الله تعالى الذي لايطلع عليه المؤمنين!

17. ثم تحدث عزوجل في الآيات الخمس التي تلتها: وَلايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ.. إلى قوله: وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، عن بخل بعض الأغنياء عن الإنفاق في سبيل الله، وأشار إلى منطق البخل عند جيرانهم اليهود الذين قالوا إن الله فقير يطلب منا الإنفاق، وقالوا إن محمداً (صلی الله علیه و آله) لم يأتنا بالآية المكتوبة عندنا.

18. ثم بين تعالى في خمس آيات أن الدنيا كلها موقتة وعمر الإنسان فيها محدود: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.. والجزاء على العمل يوم القيامة.

ونبه المسلمين على أن ابتلاءات وخسارات في الأنفس والأموال تنتظرهم، وأذى من أهل الكتاب والمشركين. فلا يكونوا كأهل الكتاب الذين نبذوا الكتاب وحرفوه لأغراض دنيوية. ثم حذر الذين يفرحون بقدراتهم ويحبون أن تنسب اليهم مناقب كاذبة، بأنهم سيصيبهم العذاب!

19. وختم عزوجل آياته عن معركة أحد بلوحة من خمس آيات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض.. رسمت المؤمنين الرِّبيين، المهاجرين منهم خاصة، في مستواهم الفكري الرفيع ومعرفتهم بالله تعالى ومفاهيمهم عنه، وعبادتهم له وتضرعهم اليه بأن يختم لهم مع الأبرار. فاستجاب لهم بأنه سيجزيهم رجالاً ونساءً ثواباً

ص: 141

حسناً، لإيمانهم، وهجرتهم، وإخراجهم من ديارهم، وتحملهم الأذى، وقتالهم وشهادتهم في سبيله! وهذا لاينطبق إلا على قلة قليلة من المهاجرين، وعمدتهم عترة النبي (صلی الله علیه و آله) وأبرار بني هاشم.

حقائق مهمة في آيات أحُد

في هذه الآيات أبحاث مهمة نشير إلى أكثرها مساساً بأحُد وسيرة النبي (صلی الله علیه و آله).

أ. قلنا إن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب صباح الجمعة أو الخميس سراً واستطلع معسكر قريش واختار مكان معسكره، بدليل قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ.. وكتم ذلك كما كتمه الله تعالى وأشار له بخفاء. وهذا من الحكمة النبوية واللين بالمسلمين.

ب. نزلت آيات بدر ضمن آيات أحُد لتذكير المسلمين بنصر الله لهم، وأن قانونه في ذلك لم يتغير وإنما تغير المسلمون بحبهم للغنيمة ثم تركوها وانهزموا! وقال لهم في سورة الأنفال وهي سورة بدر: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «الأنفال: 53». فالتغيير إلى الأسوأ بسلب النعمة الموجودة مشروط بتغيرالمسلمين إلى الأسوأ. أما التغيير إلى الأحسن وإعطاء النعمة، فلا يتوقف على تغيير الناس إلى الأحسن!

ج. الأهداف المذكورة في قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. إنما تتحقق بقانون مداولة الأيام بين خيار الناس وشرارهم، وقوانين صراع الهدى الإلهي والضلال البشري، والتدخلات الإلهية لمصلحة المؤمنين تحصل أحياناً بقوانين، وستتحقق غلبة الخير على يد المهدي الموعود (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وتقوم دولة العدل وتنتهي دولة الشر إلى يوم القيامة، وهي بقانون أيضاً.

د. يبدو من قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.. أن من شروط دخول المسلم الجنة الجهاد والصبر وعدم الفرار من المعركة، أو الوصول إلى هذا المستوى الإيماني، وهو أمر صعب، والمؤكد أنه شرط في أصحاب

ص: 142

النبي (صلی الله علیه و آله) الذين عاصروه.

ه. دلت آية الإنقلاب على أن الإرتداد حصل من عدد من الصحابة يوم أحُد! فقد قال بعضهم قتل محمد (صلی الله علیه و آله) ولو كان نبياً ما قتل، إرجعوا إلى دينكم الأول، وبحثوا عمن يذهب إلى ابن سلول ليأخذ لهم أماناً من أبي سفیان.الخ.

و. من المسائل المهمة في أحُد وغيرها حكم الفارين بعد بيعتهم النبي (صلی الله علیه و آله) على عدم الفرار، وبعد نداء النبي (صلی الله علیه و آله) فيهم بالرجوع وإمعانهم في الصعود على جبل أحُد، كما وصفهم الله تعالى!وقد نص القرآن على أن مأواهم جهنم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الأنفال: 16.

وفي علل الشرائع: 1/203، أن عبدالله بن يزيد الأباضي قال لهشام بن الحكم: «من أين زعمت يا هشام أنه لابد أن يكون «الإمام» أعلم الخلق؟ قال إن لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب شرايعه وأحكامه فيقطع من يجب عليه الحد ويحد من يجب عليه القطع! وتصديق ذلك قول الله عزوجل: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ...قال له: فمن أين زعمت أنه لا بد أن يكون أشجع الخلق؟ قال لأنه قيمهم الذي يرجعون إليه في الحرب، فإن هرب فقد باء بغضب من الله، ولا يجوز أن يبوء الإمام بغضب من الله، وذلك قوله عزوجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ..الآية». وعليه، فكل من فرَّ فقد استحق غضب الله وجهنم، إلا إذا ثبتت توبته. وقد يقال: إن الله تعالى عفا عنهم فقال: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ. وقال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ. فهذا العفو يعني غفران الله لذنبهم مهما كان عظيماً، ومن عفا الله عن ذنبه فلا ذنب له.

والجواب: أن عثمان أجاب بذلك عبدالرحمن بن عوف عندما عيره بفراره يوم أحد فقال له: «وأما قولك فررت يوم أحد.. وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ.. فلم تعيرني بذنب

ص: 143

قد عفا الله عنه!». مجمع الزوائد: 9/ 85 وحسنه.

لكن الصحابة قالوا إن العفو في آيات أحُد خاص بالرماة، أو بالذين رجعوا من هربهم! ففي الحاكم: 2/296و الطبراني الكبير: 10/301: «وإنما عنى بهذا الرماة».

بل فسره عدد من أئمتهم بأنه ليس عفواً عن ذنب بل عفوٌ تكويني بأنه لم يسمح باستئصالهم. ففي عمدة القاري: 17/141: «قال ابن جريج: ولقد عفا عنكم بأن لم يستأصلكم، وكذا قال محمد بن إسحاق، رواه ابن جرير».

وفي تفسير الطبري: 4/175، أن الحسن البصري كان يستنكر تفسيرهم هذا العفو بالعفو عن ذنبهم: «قال الحسن وصفق بيديه: وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون، وقتل عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكسرت رباعيته وشج في وجهه؟! قال الله عزوجل: قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم».

فالعفو في آيات أحد خاص بمن رجع من هروبه، وهم قلة، أو بالرماة وهم أقل، أو هو عفو تكويني وليس عفواً عن الفرار وترك الرسول (صلی الله علیه و آله).

ولو سلمنا أنه عفو عن ذنب مضى، فقد كان بعده ذنب مثله، وهو الفرار في غزوة الخندق وخيبر وحنين!

وقد يقال: إن الله تعالى رضي عن الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً. «الفتح: 18».وهو يعني غفران ذنوبهم قبل بيعة الشجرة.

والجواب: أنه تعالى قال: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ، ولم يقل: رضي عن الذين يبايعونك! فقيَّد الرضا بظرفٍ وبالإيمان، ولو سلمنا إطلاقه فقد كان ذلك في الحديبية في السنة السابعة، وقد بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) على أن لايفروا في معركة، ثم فروا بعدها بسنة في حنين فنقضوا بيعتهم! فلا يشملهم العفو السابق.

ز. لم يقتصر أمر هؤلاء الصحابة على الفرار، بل ارتدوا وصاحوا داعين إلى الردة والإستسلام! ووقف أحدهم على تل يدعو المنهزمين للتَّسْليم إلى أبي سفیان! وروى أتباع السلطة كل ذلك لكنهم أخفوا أبطال القصة فقالوا: نادى مناد: ألا إن محمداً قد

ص: 144

قتل فارجعوا إلى دينكم الأول! وقال أناس: لو كان نبياً ما قتل!

قال السيوطي في الدر المنثور: 2/80: «وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول». إلى آخر ما تقدم.

وقال الفخر الرازي: 9/22: «وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين: إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار: إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل». وهو أنس بن النضر. «ابن هشام: 3/600» وكان حواره مع عمر وطلحة وأصحاب الصخرة! ولم يرو أحدٌ أنهم جددوا إسلامهم!

ح. تدل آيات أحُد أن الصحابة كانوا أنواعاً: فمنهم المجاهدون الثابتون المحسنون، وهم الربيون الذين لايهنون ولا يحزنون. ومنهم المنافقون. ومنهم: المؤمنون أصحاب الذنوب، الذين استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فهربوا! وهؤلاء طائفتان: فمنهم: مؤمنون ضعفوا وفروا فأصابهم الغم والندم

وأنزل الله عليهم النعاس: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ. ومنهم من لم ينزل عليه النعاس، وبقيت عيونهم تبحلق!

ففي تفسير القمي: 1/120: «وتراجع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) المجروحون وغيرهم فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأحب الله أن يعرِّف رسوله الصادق منهم والكاذب، فأنزل الله عليهم النعاس في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون إلى الأرض وكان المنافقون الذين يكذبون لايستقرون، قد طارت عقولهم وهم يتكلمون بكلام لا يفهم».

والأسوأ من الجميع: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ولم يهمهم الرسول ولا المسلمون ولم ينزل الله عليهم النعاس! وهؤلاء هم مرضى القلوب وأصحاب آية الإنقلاب! وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات خطيرة:

1-أنهم طائفة مقابل المؤمنين، وإن اشتركوا مع الفارين منهم.

2- أن ظنهم بالله جاهلي فهم كاليهود يتعاملون مع الله تعالى بميزان مادي كما

ص: 145

يتعامل المشركون مع أصنامهم! ولايعتقدون بحكمته تعالى وإدارة رسوله (صلی الله علیه و آله) بل يرون أن قيادتهم أفضل، ويحملون النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا!

3- أنهم يظهرون للنبي (صلی الله علیه و آله) أنهم مؤمنون به وهم كاذبون، لأنهم يريدون الشراكة في القيادة مع النبي (صلی الله علیه و آله) أو بدونه! يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لايُبْدُونَ لَكَ، من رفضهم لقيادتك! وهم يتكلمون باسم المسلمين لأن غرضهم قيادتهم بدل النبي (صلی الله علیه و آله) ! ويحاولون بهذا الكلام الخبيث تحريك المسلمين ضد النبي (صلی الله علیه و آله)، فهم كابن سلول بل أشد خطراً منه.

4- مشكلتهم ومرضهم عبادة ذواتهم بدل الله تعالى، وإطاعة هواهم بدل النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا كانت هذه الصفة أول صفاتهم: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، أما أمر الإسلام كدين وأمر المسلمين كأمة، فلا يهمهم إلا كأداة لهدفهم!

ط- وبهذا تعرف مشكلة النبي (صلی الله علیه و آله) مع هذه الطائفة من منافقي صحابته فهم في كمين له ينتظرون فرصة ليطرحوا أنفسهم بديلاً عنه (صلی الله علیه و آله) لقيادة المسلمين! فطمأنه الله مما يفعلونه وقال له: وَلايَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

ي- سمى القرآن هذه الطائفة في مكة وفي بدر وفي الأحزاب«مرضى القلوب» وذكرهم في اثنتي عشرة آية، ووصفهم في أحُد بأشد أوصافهم ولم يسمهم باسمهم الرسمي، وكأن سبب ذلك أن مرض قلوبهم خرج إلى العلن، وصار كفراً وتحميلاً للنبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة وطرحوا أنفسهم بديلاً له لقيادة المسلمين!

وقد فسر الإمام الصادق (علیه السلام) مرض قلوبهم بأنه عداوة أهل البیت (علیهم السلام) فقال: (علیه السلام): «والمرض والله عداوتنا». لأن هدفهم دولة النبي (صلی الله علیه و آله) والعقبة أمامهم هم العترة!غيبة النعماني/267.

ص: 146

الفصل الثامن والأربعون: مختارات من شعر أحد

أكثرَ القرشيون والمسلمون من الشعر في أحد

وهو كثيرٌ، نكتفي بمختارات نقلها ابن هشام: 3/639. منها لعبدالله بن الزِّبَعْرَى في يوم أحد:

يا غرابَ البين أسمعتَ فقل *** إنما تنطق شيئاً قد فعل

أبلغن حسان عني آية *** فقريض الشعر يشفي ذا العلل

كم ترى بالجر من جمجمة *** وأكف قد أترَّت ورجل

كم قتلنا من كريم سيد *** ماجد الجدين مقداماً بطل

فسل المهراس من ساكنه *** بين أقحاف وهام كالحجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها *** واستحر القتل في عبدالأشل

تم خفوا عند ذاكم رُقَّصاً *** رقَصَ الحفَّان يعلو في الجبل

فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعدلنا مَيْلَ بدر فاعتدل

فأجابه حسان بن ثابت:

ذهبَتْ يا ابن الزِّبَعْرى وقعةٌ *** كان منا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

ص: 147

نضع الأسياف في أكتافكم *** حيث تهوي عللاً بعد نهل

إذ تولون على أعقابكم *** هرباً في الشعب أشباه الرَّسَل

إذ شددنا شدة صادقة *** فأجأناكم إلى سفح الجبل

برجال لستم أمثالهم *** أيدوا جبريل نصراً فنزل

وعلونا يوم بدر بالتقى *** طاعة الله وتصديق الرسل

وقتلنا كل رأس منهم *** وقتلنا كل جحجاجٍ رفل

وتركنا في قريش عورة *** يوم بدر وأحاديثَ المثل

ورسول الله حقاً شاهد *** يوم بدر والتنابيل الهبل

نحن لا أمثالكم ولد استها *** نحضر البأس إذا البأس نزل

وقال كعب بن مالك يبكي حمزة وقتلى المسلمين:

نشجتَ وهل لك من منشجِ *** وكنتَ متى تدكرْ تلجَجِ

تذكر قوماً أتاني لهم *** أحاديث في الزمن الأعوج

وقتلاهم في جنان النعيم *** كرام المداخل والمخرج

بما صبروا تحت ظل اللواء *** لواء الرسول بذي الأضوج

غداة أجابت بأسيافها *** جميعاً بنو الأوس والخزرج

وأشياع أحمد إذ شايعوا *** على الحق ذي النور والمنهج

فما برحوا يضربون الكماة *** ويمضون في القسطل المرهج

كذلك حتى دعاهم مليك *** إلى جنة دوحة المولج

فكلهم مات حر البلاء *** على ملة الله لم يُحرج

كحمزة لما وفى صادقاً *** بذي هبة صارم سلجج...

أولئك لا من ثوى منكم *** من النار في الدرك المرتج

ص: 148

فأجابه ضرار بن الخطاب الفهري فقال:

أيجزع كعب لأشياعه *** ويبكي من الزمن الأعوج

فقولا لكعب يثني البكا *** وللنئ من لحمه ينضج

فياليت عمراً وأشياعه *** وعتبة في جمعنا السورج

فيشفوا النفوس بأوتارها *** بقتلى أصيب من الخزرج

ومقتل حمزة تحت اللواء *** بمطرد مارن مخلج

وحيث انثنى مصعب ثاوياً *** بضربة ذي هبة سلجج

بأحد وأسيافنا فيهم *** تلهب كاللهب الموهج

وقالت صفية بنت عبدالمطلب تبكي أخاها حمزة:

أسائلة أصحاب أحد مخافة *** بنات أبي من أعجم وخبير

فقال الخبير إن حمزة قد ثوى *** وزير رسول الله خير وزير

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة *** إلى جنة يحيا بها وسرور

فذلك ما كنا نرجي ونرتجي *** لحمزة يوم الحشر خير مصير

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا *** بكاء وحزناً محضري ومسيري

على أسد الله الذي كان مدرهاج *** يذود عن الإسلام كل كفور

فياليت شلوي عند ذاك وأعظمي *** لدى أضبع تعتادني ونسور

أقول وقد أعلى النعي عشيرتي *** جزى الله خيراً من أخ ونصير

وقال عبدالله بن رواحة يبكي حمزة:

بكت عيني وحق لها بكاها *** وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا *** أحمزة ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعاً *** هناك وقد أصيب به الرسول

ص: 149

أبا يعلى لك الأركان هدت *** وأنت الماجد البر الوصول

عليك سلام ربك في جنان *** مخالطها نعيم لا يزول

ألا يا هاشم الأخيار صبراً *** فكل فعالكم حسن جميل

رسول الله مصطبر كريم *** بأمر الله ينطق إذ يقول

ألا من مبلغ عني لؤياً *** فبعد اليوم دائلة تدول

وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا *** وقائعنا بها يشفى الغليل

نسيتم ضربنا بقليب بدر *** غداة أتاكم الموت العجيل

غداة ثوى أبوجهل صريعاً *** عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرا جميعاً *** وشيبة عضه السيف الصقيل

ومتركنا أمية مجلعباً *** وفي حيزومه لدن نبيل

وهام بني ربيعة سائلوها *** ففي أسيافنا منها فلول

ألا يا هند فابكي لا تملي *** فأنت الواله العبرى الهبول

ألا يا هند لا تبدي شماتاً *** بحمزة إن عزكم ذليل

وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة:

أتعرف الدار عفا رسمها *** بعدك صوب المسبل الهاطل

ساءلتها عن ذاك فاستعجمت *** لم تدر ما مرجوعة السائل؟

دع عنك دارا قد عفا رسمها *** وابك على حمزة ذي النائل

المالئ الشيزى إذا أعصفت *** غبراء في ذي الشبَم الماحل

والتارك القرن لدی لبدة *** يعثر في ذي الخرص الذابل

واللابس الخيل إذ أجحمت *** كالليث في غابته الباسل

أبيض في الذروة من هاشم *** لم يمر دون الحق بالباطل

ص: 150

مال شهيداً بين أسيافكم *** شلت يدا وحشي من قاتل

أظلمت الأرض لفقدانه *** واسود نور القمر الناصل

صلى عليه الله في جنة *** عالية مكرمة الداخل

كنا نرى حمزة حرزاً لنا *** في كل أمر نابنا نازل

وكان في الإسلام ذا تدرأ *** يكفيك فقد القاعد الخاذل

لا تفرحي يا هند واستحلبي *** دمعاً واذري عبرة الثاكل

وابكي على عتبة إذ قطه *** بالسيف تحت الرهج الجائل

إذ خرَّ في مشيخة منكم *** مِن كل عات قبله جاهل

أرداهم حمزة في أسرة *** يمشون تحت الحلق الفاضل

غداة جبريل وزير له *** نعم وزير الفارس الحامل

وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة:

يا ميُّ قومي فاندبنْ *** بسحيرة شجو النوائح

كالحاملات الوقر بالثقل *** الملحات الدوالح

المعولات الخامشات *** وجوه حرات صحائح

وكأن سيل دموعها الأنصاب *** تخضب بالذبائح

ينقضن أشعاراً لهن *** هناك بادية المسائح

وكأنها أذناب خيل *** بالضحى شمس روامح

ولقد أصاب قلوبها *** مجل له جلب قوارح

إذ أقصد الحدثان من *** كنا نرجِّي إذ نشايح

أصحاب أحْد غالهم *** دهر ألمَّ له جوارح

من كان فارسنا *** وحامينا إذا بعث المسالح

ص: 151

يا حمزُ لا والله لا *** أنساك ما صر اللقائح

ذكرتني أسْد الرسول *** وذاك مدرهنا المنافح

يعلو القماقم جهرة *** سبط اليدين أغر واضح

لا طائش رعش ولا *** ذو علة بالحمل آنح

بحر فليس يغب جاراً *** منه سيب أو منادح

لهفي لشبان رزئناهم *** كأنهم المصابح

شم بطارقة غطارفة *** خضارمة مسامح

المشترون الحمد بالأموال *** إن الحمد رابح

والجامزون بلجمهم *** يوما إذا ما صاح صائح

يا حمز قد أوحدتني *** كالعود شذبه الكوافح

أشكو إليك وفوقك الترب *** المكور والصفائح

وقال حسان يذكر قتل علي (علیه السلام) أصحاب اللواء يوم أحد:

منع النوم بالعشاء الهموم *** وخيال إذا تغور النجوم..

من حبيب أضاف قلبك منه *** سقم فهو داخل مكتوم

يا لقومي هل يقتل المرء مثلي *** واهن البطش والعظام سؤوم

وأنا الصقرعند باب ابن سلمى *** يوم نعمان في الكبول سقیم

تلك أفعالنا وفعل الزبعرى *** خامل في صديقه مذموم

رب حلم أضاعه عدم المال *** وجهل غطى عليه النعيم

ما أبالي أنب بالحزن تيس *** أم لحاني بظهر غيب لئيم

ولي البأس منكم إذ رحلتم *** أسرة من بني قصي صميم

تسعة تحمل اللواء وطارت *** في رعاع من القنا مخزوم

وأقاموا حتى أبيحوا جميعاً *** في مقام وكلهم مذموم

ص: 152

وقريش تفر منا لواذا *** أن يقيموا وخف منها الحلوم

لم تطق حمله العواتق منهم *** إنما يحمل اللواء النجوم

واعتبرها ابن هشام أحسن ما قيل مع أنها ليست كذلك! وقال: «قال حسان هذه القصيدة منع النوم بالعشاء الهموم، ليلاً، فدعا قومه فقال لهم: خشيت أن يدركني أجلي قبل أن أصبح فلا ترووها عني». ولعلها كانت أطول من ذلك فحذفوا منها مدحه لعلي (علیه السلام) ! فقد روى ابن هشام: 3/655 مدح الحجاج السلمي لعليً (علیه السلام) لقتله أصحاب الألوية، قال:

لله أي مذبِّبٍ عن حرمة *** أعني ابن فاطمة المعمَّ المُخولا

سبقت يداك له بعاجل طعنة *** تركت طليحة للجبين مجدلا

وشددت شدة باسل فكشفتهم *** بالجر إذ يهوون أخول أخولا

وقال عائذ بن عمران بن مخزوم:

ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني *** بالود من هند إذ تعدو عواديها

باتت تعاتبني هند وتعذلني *** والحرب قد شغلت عني مواليها

سقناكنانة من أطراف ذي يمن *** عرضالبلاد على ما كان يزجيها

قالت كنانة أنى تذهبون بنا؟ *** قلنا: النخيل فأموها ومن فيها

نحنالفوارسيوم الجر من أحد *** هابت معد فقلنا نحن نأتيها

فأجابه حسان بن ثابت:

سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم *** إلى الرسول فجند الله مخزيها

أوردتموهاحياضالموتضاحية *** فالنار موعدها والقتل لاقيها

جمعتموها أحابيشاً بلا حسب *** أئمة الكفر غرتكم طواغيها

ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت *** أهل القليب ومن ألقينه فيها

كم من أسير فككناه بلا ثمن *** وجز ناصية كنا مواليها

ص: 153

وقال عبدالله بن الزبعرى يبكي قتلى المشركين:

ألا ذرفت من مقلتيك دموع *** وقد بان من حبل الشباب قطوع

وشطبمنتهوى المزار وفرقت *** نوى الحي دار بالحبيب فجوع

فذر ذا، ولكنهل أتى أم مالك *** أحاديث قومي والحديث يشيع

عشية سرنا في لهام يقودنا *** ضرور الأعادي للصديق نفوع

فلما رأونا خالطتهم مهابة *** وعاينهم أمر هناك فظيع

وودوا لو ان الأرض ينشق ظهرها *** بهم وصبور القوم ثم جزوع

بأيماننا نعلو بها كل هامة *** ومنها سمام للعدو ذريع

فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم *** ضباع وطير يعتفين وقوع

وجمع بني النجار في كل تلعة *** بأبدانهم من وقعهن نجيع

ولولا علو الشعب غادرن أحمداً *** ولكن علا والسمهري شروع

فأجابه حسان بن ثابت فقال:

أشاقك من أم الوليد ربوع *** بلاقع ما من أهلهن جميع

عفاهن صيفيُّ الرياح وواكف *** من الدلو رجَّافالسحاب هموع

فلم يبق إلا موقد النار حوله *** رواكد أمثال الحمام كنوع

فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم *** وكان لهم ذكر هناك رفيع

وحامى بنو النجار فيه وصابروا *** وما كان منهم في اللقاء جزوع

أمام رسول الله لا يخذلونه *** لهم ناصر من ربهم وشفيع

وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم *** ولا يستوي عبد وفى ومضيع

بأيديهم بيض إذا حمش الوغى *** فلا بد أن يردى لهن صريع

أولئك قوم سادة من فروعكم *** وفى كل قوم سادة وفروع

بهن نعز الله حتى يعزنا *** وإن كان أمر ياسخين فظيع

ص: 154

فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم *** قتيل ثوى لله وهو مطيع

فإن جنان الخلد منزلة له *** وأمر الذي يقضى الأمور سريع

وقتلاكم في النار أفضل رزقهم *** حميم معاً في جوفها وضريع

وقال عمرو بن العاص في يوم أحد:

خرجنا من الفيفا عليهم كأننا *** مع الصبح من رضوى الحبيك المنطق

تمنت بنو النجار جهلاً لقاءنا *** لدى جنب سلع والأماني تصدق

فما راعهم بالشر إلا فجاءة *** كراديس خيل في الأزقة تمرق

أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا *** ودون القباب اليوم ضرب محرق

كأن رؤوس الخزرجيين غدوة *** وأيمانهم بالمشرفية بروق

فأجابه كعب بن مالك:

ألا أبلغا فهراً على نأي دارها *** وعندهم من علمنا اليوم مصدق

بأنا غداة السفح من بطن يثرب *** صبرنا ورايات المنية تخفق

صبرنا لهم والصبر منا سجية *** إذا طارت الأبرام نسمو ونرتق

لنا حومةٌ لا تستطاع يقودها *** نبي أتى بالحق عفٌّ مصدق

ألا هل أتى أفناء فهر بن مالك *** مقطع أطراف وهام مفلق

وقال ضرار بن الخطاب:

لما أتت من بني كعب مزينة *** والخزرجية فيها البيض تأتلق

وجردوا مشرفيات مهندة *** وراية كجناح النسر تختفق

فقلت يوم بأيام ومعركة *** تنبي لماخلفها ماهزهز الورق...الخ.

ص: 155

وقال عمرو بن العاص:

لما رأيت الحرب ينزو *** شرها بالرضف نزوا

وتناولت شهباء تلحو *** الناس بالضراء لحوا...الخ.

فأجابهما كعب بن مالك:

أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه *** والصدق عنه ذوي الألباب مقبول

أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم *** أهل اللواء ففيما يكثر القيل

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر ميكال وجبريل

إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا *** والقتل في الحق عند الله تفضيل

وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً *** فرأى من خالف الإسلام تضليل..الخ

وقال كعب أيضاً يبكي حمزة:

صفية قومي ولا تعجزي *** وبكِّي النساء على حمزة

ولا تسأمي أن تطيلي البكا *** على أسد الله في الهزة

فقد كان عزاً لأيتامنا *** وليث الملاحم في البزة

يريد بذاك رضا أحمد *** ورضوان ذي العرش والعزة

وقد رووا لكعب بن مالك قصائد في رثاء حمزة وشهداء أحُد، فیها:

رقت همومك فالرقاد مسهد *** وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد

ولقد هددت لفقد حمزة هدة *** ظلت بنات الجوف منها ترعد

قرم تمكن في ذؤابة هاشم *** حيث النبوة والندى والسودد

والعاقر الكوم الجلاد إذ غدت *** ريح يكاد الماء منها يجمد

والتارك القرن الكمي مجدلاً *** يوم الكريهة والقنا يتقصد

وتراه يرفل في الحديد كأنه *** ذو لبدة شثن البراثن أربد

ص: 156

عم النبي محمد وصفيه *** ورد الحمام فطاب ذاك المورد

وأتى المنية معلماً في أسرة *** نصروا النبي ومنهم المستشهد

شتان من هو في جهنم ثاوياً *** أبداً ومن هو في الجنان مخلد

ومن مقطوعاته:

فإن تسألي ثم لاتُكذبي *** يخبرك من قد سألت اليقينا

بأنا ليالي ذات العظام *** كنا ثمالاً لمن يعترينا

تلوذ النجود بأذرائنا *** من الضر في أزمات السنينا

ويوم له رهج دائم *** شديد التهاول حامى الارينا

شهدنا فكنا أولي بأسه *** وتحت العماية والمعلمينا

وعلمنا الضرب آباؤنا *** وسوف نعلم أيضا بنينا

سألت بك ابن الزبعرى فلم *** أنبئك في القوم إلا هجينا

خبيثاً تطيف بك المنديات *** مقيماً على اللؤم حينا فحينا

تبجست تهجو رسول المليك *** قاتلك الله جلفا لعينا

تقول الخنا ثم ترمي به *** نقي الثياب تقيا أمينا

ومنها:

سائل قريشاً غداة السفح من أحد *** ماذا لقينا وما لاقَوْا من الهرب

فكم تركنا بها من سيد بطل *** حامي الذمار كريم الجد والحسب

فينا الرسول شهابٌ ثم يتبعه *** نور مضيݘٌ له فضل على الشهب

الحق منطقه والعدل سيرته *** فمن يجبه إليه ينجُ من تبب

يمضي ويذمرنا عن غير معصية *** كأنه البدر لم يطبع على الكذب

بدا لنا فاتبعناه نصدقه *** وكذبوه فكنا أسعد العرب

جالوا وجلنا فما فاءوا وما رجعوا *** ونحن نثفنهم لم نأل في الطلب

ليس سواء وشتى بين أمرهما *** حزب الإله وأهل الشرك والنصب

ص: 157

ومنها:

ألا هل أتى غسان عنا ودونهم *** من الأرض خرق سيره متنعنع

صحار وأعلام كأن قتامها *** من البعد نقع هامد متقطع

مجالدنا عن ديننا كل فخمة *** مذربة فيها القوانس تلمع

ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا *** علامَ إذا لم نمنع العرض نزرع

وفينا رسول الله نتبع أمره *** إذا قال فينا القول لا نتطلع

تدلى عليه الروح من عند ربه *** ينزل من جو السماء ويرفع

نشاوره فيما نريد وقصرنا *** إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع

وقال رسول الله لما بدوا لنا *** ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا

وكونوا كمن يشرى الحياة تقرباً *** إلى ملك يحيا لديه ويرجع

ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا *** على الله إن الأمر لله أجمع

فسرنا إليهم جهرة في رحالهم *** ضحياً علينا البيض لا نتخشع

فجئنا إلى موج من البحر وسطه *** أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثلاثة آلاف ونحن نصية *** ثلاث مئين إن كثرنا وأربع

فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى *** وليس لأمر حمسه الله مدفع

ضربناهم حتى تركنا سراتهم *** كأنهم بالقاع خشب مصرع

وراحوا سراعاً موجفين كأنهم *** جهام هراقت ماءه الريح مقلع

فنلنا ونال القوم منا، وربما *** فعلنا، ولكن ما لدى الله أوسع

ونحن أناس لا نرى القتل سبة *** على كل من يحمي الذمار ويمنع

بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش *** ولا نحن من إظفارها نتوجع

ص: 158

الفصل التاسع والأربعون: غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أُحد!

التدخل الإلهي في انسحاب قريش

لا نجد سبباً مادياً لسحب قريش جيشها من أحُد قبل أن تحقق هدفها في قتل النبي (صلی الله علیه و آله) واحتلال المدينة، إلا التدخل الإلهي! فقد بعث الله الملائكة فقاتلوا مع علي (علیه السلام) حتى انسحب المشركون، ثم بعث علياً (علیه السلام) لاعتراضهم ليتأكد من أن وجهتهم مكة وليست المدينة!

غزوة حمراء الأسد خاصة بالمجروحين في أحُد

قال القمي في تفسيره: 1/124: «فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولايخرج معك إلا من به جراحة! فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) منادياً ينادي يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها! فأنزل الله على نبيه: وَلاتَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لايَرْجُونَ.. فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح، فلما بلغ رسول الله بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء، قال عكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وعمرو بن عاص، وخالد بن الوليد: نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب فقال أبوسفيان: هذا النكد والبغي قد ظفرنا بالقوم وبغينا! والله ما أفلح قوم قط بغوا». أي إرجعوا يكفينا انتصارنا.

ص: 159

وفي شرح الأخبار: 1/282: «وخرجوا معه (صلی الله علیه و آله) من غد يوم الإثنين حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ومر به معبد بن أبي معبدالخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيْبَة نصحٍ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) بتهامة لايخفون عنه شيئاً بها، ومعبد يؤمئذ مشرك، فقال: يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عزوجل عافاك فيهم، ثم مضى يريد مكة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) بحمراء الأسد، فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد اجتمعوا للرجوع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه وذلك أنهم اجتمعوا هنالك وقالوا: والله ما صنعنا شيئاً، أصبنا جل القوم وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! فلما رأى أبوسفيان معبداً قال له: ما وراءك يا معبد؟قال: محمد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ذلك وندموا على ما صنعوا، وبهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط!

قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى نرى نواصي الخيل! قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم حتى نستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت أبياتاً أردت أن أبعث بها إليك، ثم جئت بنفسي. قال: وما قلت؟ قال:

كادت تهد من الأصوات راحلتي *** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي بأسد كرام لا تنابلةٍ *** عند اللقاء ولا ميلٍ معازيل

فظلت عدواً أظن الأرض مائلة *** لما سموا برئيس غير مخذول

وقلت ويلُ ابن حرب من لقائكم *** إذا تغطمت البطحاء بالجيل

إني نذير لأهل الحزم ضاحية *** لكل ذي إربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا أحصي قنابله *** وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

فساء ذلك أبا سفيان ومن معه! وقال لهم صفوان بن أمية بن خلف: إن القوم قد

ص: 160

حزبوا أي غضبوا، وقد خشيت إن عاودتموهم أن يكون لهم قتال غير الذي كان، وقد أصبتم ما أصبتم فارجعوا! فرجعوا.

ولقي أبوسفيان ركباً من عبدالقيس يريدون المدينة يمتارون منها، فقال: هل تبلغون عني محمداً رسالة، وأنا أحمل لكم جمالكم إذا انصرفتم زبيباً بعكاظ؟

قالوا: نعم. قال: تخبروه أنا أزمعنا الرجوع إليه وإلى أصحابه لنستأصل شأفتهم، فمروا برسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بحمراء الأسد فقالوا ذلك، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كالأمس الذاهب وانصرف إلى المدينة». ونحوه البحار: 20/110، عن تفسير النعماني.

أقول: أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) معه دليلاً وأرسل أمامه ثلاثة رجال لاستطلاع العدو، فأمسك المشركون اثنين وقتلوهم فدفنهم النبي (صلی الله علیه و آله) لما وصل اليهم ونجا الثالث.

كما استعمل النبي (صلی الله علیه و آله) إيقاد النيران المتعددة العالية لنشر خبر مسيره وتخويف المشركين، وروي أنهم أشعلوا خمس مئة نار، مع أنهم كانوا نحو سبعين! وهذا يكشف عدد الثابتين مع النبي (صلی الله علیه و آله) وبضمنهم الذين رجعوا من الفرار وشاركوا في دفن شهداء أحُد، وهم عشر السبع مئة الذين ذهبوا إلى أحُد.

هذا، وقد ذكر رواة السلطة أسماء صحابة في حمراء الأسد، وجعلوا فيهم فارين ولم يكونوا جرحى! راجع: الصحيح: 6/302، المناقب: 1/167والطبقات: 2/49وعيون الأثر: 2/7.

وفي هذه الغزوة نزل قوله تعالى: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». آل عمران: 172-175.

ص: 161

الفصل الخمسون: أهم الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب

1- سرية جبل قَطَن

جبل قطن في نجد في ديار بني أسد وعبس«معجم البلدان: 4/375». ويقع: «غرب القصيم على بعد170 كم من مدينة بريدة». موقع: http: //www.harb-tribe.net/showtopic.asp?id=79

قال في الصحيح من السيرة: 7/143، ملخصاً: «كان بين أحد والخندق عدد من السرايا والغزوات وكان لها نتائج إيجابیة على الصعيد السياسي والإجتماعي والعسكري. وكثير منها يحتاج إلى بحث وتمحيص، وهي حسب الترتيب الزمني: سرية أبي سلمة إلى قطن في أول محرم بعد أحُد وكانت أحُد في شوال، وكان مع أبي سلمة مئة وخمسون رجلاً من الأنصار والمهاجرين، منهم أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأسيد بن خضير، وسالم مولى أبي حذيفة، وغيرهم.

وسببها أن رجلاً من طئ قدم المدينة فأخبر صهره أن طليحة وسلمة ابني خويلد سارا في قومهما ومن أطاعهما وقالوا: نسير إلى محمد في عقر داره ونصيب من أطرافه، ونخرج على متون الخيل والنجائب المخبورة، فإن أصبنا نهباً لم ندرك وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها، معنا خيل ولاخيل معهم، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش.

فقال رجل منهم اسمه قيس بن الحارث: يا قوم، إن دارنا لبعيدة من يثرب، وقد مكثت قريش دهراً تسيِّر في العرب تستنصرها ولهم وتر يطلبونه، وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل سوى

ص: 162

أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاث مئة رجل، فلا آمن أن تكون الدائرة عليكم. فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي سلمة: سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعهم. فخرج وكان الطائي دليلاً خريتاً أي ماهراً، فأغذ السير فسار بهم أربعاً إلى قطن، وسلك بهم غير الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً، فأغار أبو سلمة على سرحهم ودوابهم وأصابوا ثلاثة أعبد كانوا رعاة، وهرب الباقون، وأخبروا بمجئ أبي سلمة فخافوا وهربوا عن منازلهم في كل وجه، فجمعوا ما قدروا عليه من الأموال ورجعوا إلى المدينة».

2- سرية يوم الرجيع

الرجيع وبئر معونة: إسمان لمكانين بين مكة والمدينة، وبئر معونة أقرب إلى المدينة. البكري:2/641 و4/1246وعمدة القاري: 17/163.

وروت مصادر السيرة أنه وقعت فيهما غزوتان، وفي روايتهم تعارض وتهافت، ولم يصلنا فيهما شئ يذكر عن أهل البیت (علیهم السلام)، والمرجح أنهما حادثتان صغيرتان ضخموهما لمدح شخص أو جماعة.

قال ابن هشام: 3/667: «يوم الرجيع في سنة ثلاث» وسماه ابن سعد في الطبقات: 2/55: «سرية مرثد بن أبي مرثد». وخلاصة ماذكراه: أنه قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد أحد رهط من قبيلتي عضل والقارة وقالوا له: يا رسول الله إن فينا إسلاماً، فابعث نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، فبعث نفراً ستة هم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبدالمطلب، وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف من الأوس، وخبيب بن عدي من الأوس أيضاً، وزيد بن الدثنة من بني بياضة من الخزرج، وعبدالله بن طارق حليف الأوس، وأميرهم مرثد، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز غدرت بهم هذيل وقالوا لهم ما نريد قتلكم ولكن نبيعكم إلى قريش! فقاتلهم خمسة فقتلوا وهم

ص: 163

عاصم ومرثد وخالد ومعتب وعبدالله بن طارق، واستأسر زيد وخبيب فأخذوهم وباعوهما إلى أهل مكة فقتلوهما، وأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد زوجة طلحة بن أبي طلحة وكانت معه في أحد، وقالوا إن عاصماً قتل زوجها وأبناءها، فنذرت أن تشرب برأسه خمراً! ولما أرادوا قطع رأسه جاءت الزنابير وحمته منهم، وجاء سيل في الليل فأخذ جثته.واستقرب صاحب الصحيح من السيرة: 7/167، أن يكون النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل هؤلاء أو بعضهم عيوناً على قريش، فأمسكوا منهم زيداً وخبيباً وقتلوهما.

قال: «وما عدا ذلك فهو مشكوك فيه، إن لم نقل إن فيه الكثير مما نقطع بأنه مكذوب وموضوع أو محرف عن عمد، أو عن غير عمد».

3- سرية بئر معونة

وهي تشبه غزوة الرجيع وغزوة بني لحيان، وسماها ابن هشام: 3/677: حديث بئر معونة في صفر سنة أربع. ونقل عن ابن إسحاق أن الزعيم النجدي أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وطلب منه أن يبعث رجالاً من أصحابه إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث أربعين رجلاً، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو من بني ساعدة، ومنهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عامر بن الطفيل، فقتله عامر واستعان بقبائل من بني سُلَيْم هم: عصية ورعل وذكوان، فقصدوهم وقتلوهم عن آخرهم!

وقالوا إن عمرو بن أمية الضمري أراد الثأر لهم، فقتل رجلين من قوم متحالفين مع النبي (صلی الله علیه و آله) فالتزم (صلی الله علیه و آله) بإعطاء ديتهما. وأكثروا من مناقب شهداء بئر معونة خاصة عامر بن فهيرة غلام أبي بكر وزعموا أنه رفع إلى السماء، وأنه نزل فيهم قرآن ونسخ! فقد

ص: 164

روى بخاري في صحيحه: 3/204/208، 4/35 و 5/42، روايات في أنه نزلت آية: ألا بلغوا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا! في شهداء بئر معونة الذين غدر بهم أهل نجد من قبائل رعل وذكوان وعصية من بني لحيان، وأن المسلمين قرؤوا هذه الآية!و مسلم: 2/135 وأحمد بروايات: 3/109، 210، 215، 255 و289 والبيهقي: 2/199.

وذكروا في أكثرها أنها نسخت بعد ذلك، أو رفعت! وكله غير صحيح!

وقال ابن سعد في الطبقات: 2/53: «وجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) خبر أهل بئر معونة وجاءه تلك الليلة أيضاً مصاب خبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد، وبعث محمد بن مسلمة فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً.

ودعا رسول الله على قتلتهم بعد الركعة من الصبح فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف.اللهم عليك ببني لحيان، وعضل، والقارة وزغب، ورعل، وذكوان، وعصية، فإنهم عصوا الله ورسوله.

وأقبل عمرو بن أمية سار أربعاً على رجليه، فلما كان بصدور قناة لقي رجلين من بني كلاب قد كان لهما من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمان فقتلهما وهو لا يعلم ذلك، ثم قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بمقتل أصحاب بئر معونة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبْتَ من بينهم. وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل العامريين فقال: بئس ما صنعت، قد كان لهما مني أمان وجوار، لأدينهما، فبعث بديتهما إلى قومهما». «وإعلام الورى 1/186 والمناقب1/168». راجع أيضاً غزوة بني لحيان: 1/188 و 1/170، فيبدو أنهما متحدتان.

4- غزوة بدر الموعد

وتسمى بدر الصغرى، وبدر الصفراء، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وكانت في شوال بعد أحد بسنة، لأن أبا سفيان قال في أحُد: موعدنا معكم العام القادم في بدر الصفراء، فقبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وبدر الصفراء قرية قرب ينبع بين مكة والمدينة، وفيها سوق سنوي للعرب. سبل الهدى: 4/282.

ص: 165

قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم: المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /241: «عممت قريش موعد اللقاء وأخذت تستعدي على النبي (صلی الله علیه و آله) وتجمع الأموال استعداداً للخروج، وفرضت ضريبة على سكان مكة ولأول مرة في تاريخها، ولم يترك أحد إلا وينبغي أن يدفع مالاً لايقل عن «أوقية» مساهمة بالمجهود الحربي، فجمعوا الأموال العظيمة ورصدوها لحرب محمد وآله ومن والاهم.

ومع اقتراب الموعد كره أبوسفيان قائد تحالف البطون هذا الخروج، وندم على قوله وتحديده الموعد، وتعرض لملامة الكثير من قومه، وتمنى عدم خروج الرسول للموعد لأن العام جدب: «والأرض مثل ظهر الترس ليس فيها لبعير شئ» ولكن البطون كرهت أن يخرج محمد ولايخرجون، فيجترئ عليها فأحبت أن يكون الخلف من قبله. وفي غمرة حيرتها قدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فاتفقوا معه على أن يعطوه عشرين ناقة، مقابل أن يُخَذِّل أصحاب محمد!

ورجع الرجل وأخذ يشيع بأن أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب العرب وجاء محمد وأصحابه بما لا قبل لهم به! وأشار على أهل المدينة أن يبقوا في المدينة ولايخرجوا، لأنهم إن خرجوا فلن يفلت منهم أحد هذه المرة!

ونجح الرجل بغرس كراهية الخروج في قلوب الكثير من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) ! وفرح المنافقون واليهود وتصوروا أن محمداً لن يفلت من هذه الجموع التي يصفها نعيم بن مسعود! ونجح نعيم بتثبيط بعض الصحابة وإلقاء الرعب في قلوبهم! قال عثمان بن عفان يصف حالته وأمثاله ممن أصغوا لنعيم: لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا فما أرى أحداً له نية في الخروج».مغازي الواقدي: 1/387.

كان الرسول (صلی الله علیه و آله) يرصد آثار دعاية نعيم فجمع الناس وحثهم على الخروج، ثم قال: والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد! عندئذ تشجع من وَهَنَ من المسلمين وخرج مع النبي1500 مقاتل ومعهم عشرة أفراس، فأعطى النبي (صلی الله علیه و آله) رايته لعلي بن أبي طالب (علیه السلام). وغاية المسلمين من الخروج كانت ملاقاة البطون على الموعد، ومع هذا تزودوا ببضائع، وأقاموا في بدر الصفراء ثمانية أيام ورجعوا بخير وفضل

ص: 166

من الله، وربح الدينار ديناراً.

أما أبوسفيان فقد أطلع قريش على الخطة التي رسمها لنعيم، وبيَّن لهم أن العام عام جدب، واقترح عليهم أن يسيروا يومين فيرجعوا، فخرجت البطون وهم ألفان، ومعهم خمسون فرساً، وانتهوا إلى مجنة فشربوا السويق وعادوا، بعد أن بلغهم خروج النبي (صلی الله علیه و آله). وقال صفوان بن أمية لأبي سفیان: قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم، وقد اجترؤوا علينا ورأوا أنا قد أخلفناهم وإنما خلفنا الضعف عنهم! وأخذوا يعدون العدة لغزو النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بعد».الواقدي: 1/384.

أقول: كان نعيم بن مسعود يسكن في المدينة، ولا بد أن يكون تثبيطه للصحابة استغرق أياماً فعمل النبي (صلی الله علیه و آله) لإحباطه، حيث ورد في نصوصه: «وصار يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين ولم يبق لهم نية في الخروج واستبشر المنافقون واليهود». الصحيح من السيرة: 8/372.

لكن رواة السلطة لا يذكرون ذلك، لأنه يكشف الصحابة الذين جَبَّنوا المسلمين! وذكروا طرفاً منه في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ.. راجع: الصحيح من السيرة: 8/362، ابن هشام: 3/697، الطبقات: 2/59، اليعقوبي:2/67، تفسير الطبري: 2/230، تفسير مقاتل: 1/204، الثعلبي: 3/209 والعجاب لابن حجر:2/793.

وروى ابن هشام: 3/698، قصيدة لحسان، وقصيدة لكعب بن مالك، وفيها:

وعدنا أبا سفيان بدراً، فلم نجد *** لميعاده صدقاً، وما كان وافيا

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا *** لأبت ذميماً وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه *** وعمراً أباجهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله، أفٍّ لدينكم *** وأمركم الشيݘ الذي كان غاويا

فإني وإن عنفتموني لقائل *** فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره *** شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا».

ص: 167

5- غزوة دومة الجندل

دُومة الجندل بضم الدال وبفتحه، هي مدينة الجوف، والآن محافظة في شمال المملكة السعودية. قال ابن هشام:3/699: «ثم غزا رسول الله (صلی الله علیه و آله) دومة الجندل في شهر ربيع الأول.. قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً فأقام بالمدينة بقية سنته».

وهذا اختصار مخل لأنه رويَ أن الأكيدر ملك دومة الجندل وحاكمها من قبل هرقل الروم كان يجمع الجيش لغزو المدينة وكان يظلم «الضافطة» أي التجار جالبي البضائع، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) باغتهم فكان يسير بجيشه ليلاً ويكمن نهاراً ووصل إلى دومة الجندل، فهرب الأكيدر ومن جمعهم ولم يقابلوه، وغنم من مواشيهم وأموالهم، ورجع سالماً.

وأهم أهداف غزوة دومة الجندل: ردع الذين يتصورون أن قريشاً هزمت المسلمين في أحُد فصار بإمكانهم غزوهم. وردع الروم عن التفكير بحشد جيش لحاكم دومة الجندل ليغزو المدينة. وتقوية قلوب المسلمين وإفهامهم أن هزيمتهم في أحُد كانت نشازاً،وأن وعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين مازال قائماً، وسيأخذون بلاد كسرى وقيصر لامحالة! وسيأتي ذكرها في غزوة تبوك.

6- غزوة ذات الرقاع

في الصحيح من السيرة: 8/265، ملخصاً: «بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أن أنماراً وثعلبة وغطفاناً قد جمعوا جموعاً بقصد غزو المسلمين، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربع مئة وقيل في سبع مئة، حتى أتى وادي الشقرة من أرض غطفان من نجد فأقام بها يوماً، وبث السرايا فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحداً، فسار حتى أتى محالهم فلما عاينوهم هربوا إلى الجبال والأودية ولم يكن قتال. ورجع (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة فوصل إلى صرار يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم. وهو بئر جاهلية على ثلاثة أميال من المدينة في طريق العراق. وكانت غيبته (صلی الله علیه و آله) خمس عشرة ليلة، وتسمى هذه

ص: 168

الغزوة أيضاً بغزوة الأعاجيب لما وقع فيها من أمور عجيبة، وتسمى أيضاً بغزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة وغزوة بني أنمار. وقيل إنها في السنة الرابعة في شهر ربيع الآخر بعد غزوة بني النضير بشهرين وعشرين يوماً، وقيل في محرم، وقيل كانت في سنة خمس».

وفي إعلام الورى: 1/188 والمناقب: 1/170: «لقي بها جمعاً من غطفان ولم يكن بينهما حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلاة الخوف ثم انصرف بالناس..وقيل إنما سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت فيها، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق».

وفي الكافي: 8/127، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً! فجاء وشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسيف ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي وربك! فنسفه جبرئيل (علیه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره! فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذ السيف وجلس على صدره، وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال جودك وكرمك يا محمد! فتركه فقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم».

وفي الكافي: 3/456، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف ففرق أصحابه فرقتين، أقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه فكبر وكبروا، فقرأ وأنصتوا وركع فركعوا وسجد فسجدوا، ثم استتم رسول الله قائماً وصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو. وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم ركعة ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض».

وفي بصائر الدرجات/370: «عن جابر بن عبدالله قال: لما أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) من

ص: 169

غزوة ذات الرقاع وهي غزوة بني ثعلبة غطفان، حتى إذا كان قريباً من المدينة إذا بعير حل يرقل حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوضع جرانه على الأرض ثم خرخر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هل تدرون ما يقول هذا البعير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنه أخبرني أن صاحب عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره وأهزله أراد أن ينحره ويبيع لحمه! ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جابر إذهب به إلى صاحبه فأتني به. فقلت: لا أعرف صاحبه. قال: هو يدلك. قال: فخرجت معه حتى انتهيت إلى بني واقف فدخل في زقاق فإذا بمجلس فقالوا: يا جابر كيف تركت رسول الله وكيف تركت المسلمين؟ قلت صالحون، ولكن أيكم صاحب هذا البعير؟ قال بعضهم: أنا، فقلت أجب رسول الله. قال: مالي؟ قلت: استعدى عليك بعيرك! قال: فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن بعيرك أخبرني أنك عملت عليه حتى إذا أكبرته وأدبرته وأهزلته أردت نحره وبيع لحمه. قال الرجل: قد كان ذلك يا رسول الله. قال: بعه مني. قال: بل هو لك يا رسول الله. قال: بل بعه مني، فاشتراه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى في ضواحي المدينة، فكان الرجل منا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال جابر: رأيته وقد ذهب عنه دبره وصلح»!

وروى ابن هشام: 3/692 هذه الغزوة بنحو ما تقدم، وروى ابن إسحاق قصة الجمل، قال جابر: «خرجت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله قال: جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: مالك يا جابر؟ قال قلت: يا رسول الله، أبطأ بي جملي هذا، قال: أنخه، قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع لي عصاً من شجرة، قال: ففعلت.قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: إركب، فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة. قال: وتحدثت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قال قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بعنيه. قال قلت: فسُمنيه قال: قد أخذته بدرهم، قال قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قال قلت: لا، قال: فلم يزل يرفع لي

ص: 170

رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بلغ الأوقية قال فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته، قال ثم قال: يا جابر تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيباً أم بكراً؟ قال: قلت: لا بل ثيباً قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك! قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعاً، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن، قال: أصبت إن شاء الله، أما إنا لو قد جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعتْ بنا فنفضت نمارقها. قال: قلت: والله يا رسول الله مالنا من نمارق، قال: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً، قال: فلما جئنا صراراً أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله دخل ودخلنا، قال: فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قالت: فدونك فسمع وطاعة.

قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله قال: ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرأى الجمل فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر؟ قال: فدعيت له، قال: فقال: يا بن أخي خذ برأس جملك، فهو لك، ودعا بلالاً فقال له: إذهب بجابر فأعطه أوقية.

قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئاً يسيراً.قال فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيتنا، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا، يعني يوم الحرة».

ص: 171

الفصل الحادي والخمسون: غزوة الأحزاب أو الخندق

1- تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله)

سماها الله تعالى حرب الأحزاب،لأن أحزاب العرب واليهود تحالفوا فيها على غزو المدينة، لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)، واستئصال بني عبدالمطلب!

كان ذلك في شهر شوال من السنة الرابعة، كما اختاره عدد من المؤرخين ومنهم صاحب الصحيح، وهو الأقرب، والمشهور أنها في السنة الخامسة. ويظهر أنها كانت في أواخر شوال، لأن محاصرة بني قريظة التي كان بعدها مباشرة لمدة أسبوعين، كانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة.

وكانوا يحفرون الخندق من شهر رمضان فقد كان خوات بن جبير صائماً وأغمي عليه وهو يعمل في الخندق، فنزلت فيه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. الكافي: 4/98.

وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف على أقل تقدير، وروي بضعاً وعشرين ألفاً، وكانوا عدة فرق: جيش قريش، وجيش هوازن، وبني سُلَيْم، وبني مرة، وبني أشجع، وبني أسد، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة.

وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة، إلى ألف مقاتل.

واستمر الحصار نحو شهر، حتى استطاع بعض فرسان المشركين بقيادة عمرو بن ود

ص: 172

العامري أن يعبروا الخندق، فبرز اليه علي (علیه السلام) وقتله وقتل بعض من عبر معه، وهرب الباقون.ثم أرسل الله عليهم ريحاً فاضطرب عسكرهم وانهزموا!

واتفقت المصادر على أن تجميع الأحزاب ضد النبي (صلی الله علیه و آله) فكرة يهودية، فبعد معركة بدر وأحُد، وإجلاء النبي (صلی الله علیه و آله) بني النضير لنقضهم ميثاق التعايش، ذهب حاخامات اليهود وزعماؤهم وفداً إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد، وكان هو الذي وقع عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله). «فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي... فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمداً..قال أبوسفيان: هذا الذي أقدمكم ونازعكم؟قالوا: نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله. قال أبوسفيان: مرحباً وأهلاً، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.

زاد في نص آخر قوله: ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا! قال النفر: فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها، ثم نحلف بالله جميعاً: لايخذل بعضنا بعضاً، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل، ما بقي منا رجل! ففعلوا، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا، فاتعدوا لوقت وقَّتوه.

فقال أبوسفيان: يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد، ديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم «الناقة السمينة» ونسقي الحجيج ونعبدالأصنام؟

قالوا: اللهم أنتم أولى بالحق، إنكم لتعظمون هذا البيت،وتقومون على السقاية وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله في ذلك: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. النساء: 51.

فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله. فخرجت اليهود حتى أتت غطفان، وقيس عيلان، وأخذت قريش في الجهاز، وسيرت في

ص: 173

العرب تدعوهم إلى نصرها، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم.

ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بني سُلَيْم، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش. ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا، فأنعمت بذلك غطفان.

ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن..وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام»! الصحيح من السيرة:9/25.

وفي سيرة ابن هشام: 2/402: «قال ابن إسحاق: وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس».

أقول: لاحظ أن جولتهم شملت قبائل تهامة ونجد، وأنهم أعطوا للنجديين موسم ثمار خيبر أجرة على حربهم،كما تعهدوا أن يشاركوهم في المعركة.

وعندما وصل أبوسفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها، تحرك اليهود في حصونهم، فقام كعب بنقض عهده مع النبي (صلی الله علیه و آله) ومزق صحيفته، وجمع رؤساء قومه وهم: الزبير بن باطا، وشاس بن قيس، وعزال بن ميمون، وعقبة بن زيد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد! «الصحيح من السيرة: 8/41» لكنهم جبنوا عن الخروج، فتصور أبوسفيان أنهم غدروا به، فساعد ذلك على هزيمته!

2- كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي (صلی الله علیه و آله) يحفر الخندق

رُوِيَ أن سلمان الفارسي (رحمة الله) اقترح على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحفروا خندقاً حول المدينة لمنع الأحزاب من دخولها، فنزل جبرئيل (علیه السلام) وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك فخطَّ مكان الخندق وأمر المسلمين بحفره. ففي رسائل المرتضى: 4/117: «أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بحفر الخندق وكان قد أشار بحفره سلمان الفارسي، فلما رأته العرب قالوا: هذه مكيدة فارسية. واسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد».

ورجح صاحب الصحيح من السيرة: 9/79 قول الواقدي بأن النبي (صلی الله علیه و آله) هو الذي

ص: 174

أشار بحفر الخندق، فاختلف فيه المسلمون، فتكلم سلمان عن الحكمة فيه، وأن الفرس يخندقون على مدنهم لصد هجوم العدو، فاقتنعوا بحفر الخندق.

ومن مصادرنا شرح الأخبار: 2/287 عن علي (علیه السلام) أن جبرئيل أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بحفره.

3- خطَّ النبي (صلی الله علیه و آله) مكان الخندق وقسَّم العمل فيه

قال في الصحيح من السيرة: 9/88، ملخصاً: إن النبي (صلی الله علیه و آله) ركب فرساً وخطَّ لهم موضع الخندق، ما بين جبل بني عبيد خَرْبَى إلى راتج، حسب قول الواقدي، وعند القمي: الخندق طولاً من أعلى وادي بطحان غربي الوادي مع الحرة إلى غربي مصلى العيد، ثم إلى مسجد الفتح، ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربي الوادي. وكان طوله نحواً من خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه سبعة أذرع. وجعل له رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثمانية أبواب، على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة، يحفظونه من تسلل العدو.

وكان الخندق من الجهة الغربية الشمالية للمدينة، أما بقية الجهات فكان فيها حواجز طبيعية، تضاريس أو بيوت، يسهل منع العدو من النفوذ منها.

وجعل النبي (صلی الله علیه و آله) معسكره مقابل الخندق في سفح جبل سلع، فكان الجبل إلى يساره وخلفه، وعن يساره حرة الوبرة الوعرة، وعن يمينه حرة واقم الوعرة.

وتفاوتت الرواية في مدة الحفر ويبدو أنها نحو شهر، وقد عمل فيه المسلمون بسرعة ليتم قبل قدوم الأحزاب، وفرغوا منه قبل وصولهم بثلاثة أيام.

وقسَّم النبي (صلی الله علیه و آله) العمل فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب، والأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بني عبيد، وجعل لكل قبيلة حداً، وجعل كل أربعين ذراعاً بين عشرة، وبدأ (صلی الله علیه و آله) بنفسه في حفر الخندق فأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين وعلي (علیه السلام) ينقل التراب، حتى عرق النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يقول: لا عيشَ إلا عيش الآخرة. اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين.

ص: 175

فلما نظر الناس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحفر، اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكَّروا إلى الحفر، وكان (صلی الله علیه و آله) يحمل التراب على ظهره أو على عاتقه، ثم يجلس حتى يستريح، وجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله نحن نكفيك فيقول: أريد مشاركتكم في الأجر. قال أبو واقد: ولقد رأيته يوماً بلغ منه فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر.

وكان المسلمون في فقر شديد أيام حفر الخندق، حتى كان النبي (صلی الله علیه و آله) يشد على بطنه حجراً من الجوع.

وفي عيون أخبار الرضا: 1/43، عن علي (علیه السلام) قال: «كنا مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة (علیها السلام) ومعها كسرة خبز، فدفعتها إلى النبي فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ما هذه الكسرة؟ قالت: قرصاً خبزتها للحسن والحسين، جئتك منه بهذه الكسرة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث»!

4- محاصرة الأحزاب للمدينة

أ. قال الله تعالى يصف جيش الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. سورة الأحزاب 9-11.

في المناقب: 1/170: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ: أي من قبل المشرق. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ: أي من المغرب.. فخرج إليه أبوسفيان بقريش، والحارث بن عوف في بني مرة، ووبرة بن طريف ومسعود بن جبلة في أشجع، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد، وعيينة بن حصن الفزاري في غطفان وبني فزارة، وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمي في بني سُلَيْم. ومن اليهود حیي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وسلام بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوالي في رجالهم، فكانوا ثمانية عشر ألف رجل، والمسلمون في ثلاثة آلاف. وكان الكفار على الخمر والغناء والمدد والشوكة، والمسلمون كأن على رؤسهم

ص: 176

الطير لمكان عمرو! والنبي جاثٍ على ركبتيه باسط يديه، باكية عيناه، ينادي بأشجى صوت: يا صريخ المكروبين يا مجيب دعوة المضطرين، إكشف همي وكربي، فقد ترى حالي».

وفي الصحيح من السيرة: 9/178ملخصاً: «ذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرساً. وقال ابن إسحاق كان المسلمون سبع مئة،وقال البخاري كانوا ألفاً أو نحوها، ونرجح قول ابن إسحاق للأمور التالية:

1 - قصة إطعام جابر لأهل الخندق جميعاً وكانوا سبع مئة رجل أو ثمان مئة، أو ألف رجل.

2 - روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنهم تسع مئة رجل، وقد تكون تسع تصحيفاً لسبع.

3- روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتب حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل، وكان هذا عام الحديبية. وما جرى في الخندق يوضح أن عدد سكان المدينة لايصل إلى الخمسة آلاف نسمة. ووافى المشركون المدينة وأحاطوا بها واختلفت الأقوال في عددهم، فقال المسعودي: سارت إليه قريش وغطفان وسُلَيْم وأسد وأشجع وقريظة ونضير، وغيرهم من اليهود، فكان عدة الجميع أربعة وعشرين ألفاً، منها قريش وأتباعها أربعة آلاف. وقال ابن شهرآشوب: كانوا ثمانية عشر ألف رجل.. وقال المسعودي إنه كان معهم ثلاث مئة فرس وألف وأربع مئة بعير، وقائدهم أبوسفيان صخر بن حرب».

ب. قال في شرح الأخبار: 1/292: «ونظر المشركون إلى الخندق فتهيبوا القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله، وقالوا إن هذه لمكيدة ماكانت العرب تعرفها! فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ويدعون المسلمين: ألا هلم للقتال والمبارزة، فلا يجيبهم أحد إلى ذلك ولا يرد عليهم فيه شيئاً. ولزموا مواضعهم كما أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد عسكروا في الخندق، وأظهروا العدة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم، وتهيب المشركون أن يلجوا الخندق عليهم».

ص: 177

وجعلوا معسكراتهم بعيدة عن الخندق نسبياً حتى لايكونوا في مرمى المسلمين.

«أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد». البحار:20/199.

«وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبوسفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد يوماً، ويغدو عمرو بن العاص يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوماً، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخرى، ويناوشون المسلمين ويقدمون رماتهم فيرمون، وإذْ أبوسفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق يطلب مضيقاً من الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا.. وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة، فإذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولوا، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في قَرٍّ شديد وجوع. وكان عمرو بن العاص وخالد كثيراً ما يطلبان غرة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه، فكانت للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي..

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة فيرجعون. وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق وفي نقاط مناسبة، وعمدة سلاحهم الحجارة، وقد جمعوها أيام حفر الخندق: «ويخرج المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رؤوسهم المكاتل، ويرجعون بها بعد إلقاء التراب منها، وقد ملأوها حجارة من جبل سلع، وهي أعظم سلاحهم، يرمون بها». إمتاع الأسماع: 1/225.

«ومضى على الفريقين قريب من شهر، لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر». سعد السعود لابن طاووس/138.

ج. وقع حدثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين: الأول: نقض بني قريظة عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) وانضمامهم عملياً إلى قريش. والثاني: إصابة سعد بن معاذ

ص: 178

بسهم من المشركين إصابة شديدة! فقد كانت قريش ومن معها من الأحزاب يحاصرون المدينة من غربيها، وكانت مساكن بني قريظة شرقي المدينة «حَرَّة بني قريظة» فكانوا مع الأحزاب طوقاً شبه كامل عليها، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب! قالت أم سلمة رضی الله عنها: «شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف: المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا أخوف عندنا من الخندق! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة «الطوق» وأن قريظة لا نأمنها على الذراري، فالمدينة تحرس حتى الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا».إمتاع الأسماع: 1/235.

لذلك أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بتجميع النساء والأطفال في«الآطام» أي المباني المحصنة المرتفعة، قال في الصحيح: 9/269: «وكانت حراستهم تتركز على الأمور الرئيسية وهي: 1- مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله). 2 – العسكر. 3- الخندق. 4 – المدينة.5- الرصد لتحركات العدو. 6- النساء والذراري وتعاهدهم في الآطام. 7 - أبواب الخندق.

قال النويري وغيره: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاث مئة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة. وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة. وكانت المدينة تحرس حتى الصباح يسمع فيها التكبير حتى يصبحوا».والطبقات: 2/67.

وكان مسؤول الحراسة والعسكر كله علي (علیه السلام)، ففي تفسير القمي: 2/186: «وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) على العسكر كله، بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم».

وعندما نقض بنو قريظة عهدهم ومزقوا نسخته وأعلنوا الحرب على المسلمين: «كان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان.. وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلاً، وبعث حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم فجاء الخبر

ص: 179

بذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعظم البلاء».«الإمتاع: 1/233». فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) اليهم «سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وخوات بن جبير، وعبدالله بن رواحة يستخبرون الأمر، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرهم إن وجدوا الغدر حقاً أن يخبروه تعريضاً لئلا يَفُتُّوا في أعضاد الناس».الصحيح: 9/197.

ورفض ثلاثة أشخاص من بني قريظة نقض العهد وخرجوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلموا وكانوا معه، وهم «بنو سَعْنة»: أسد وأسيد وثعلبة.

الصحيح: 8/138.

«وأرسلت قريظة إلى أبي سفیان ومن معه من الأحزاب يوم الخندق، أن أثبتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم». اللمع للسيوطي/93.

وفي الإمتاع: 1/241، أن أبا سفيان ذهب إلى بني قريظة يحثهم على مهاجمة المدينة، فأبوا أن يقاتلوا حتى يأخذوا سبعين رجلاً من قريش وغطفان رهاناً!

وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) زيد بن حارثة في ثلاث مئة، وأسلم بن حريش في مئتين تتقدمهم خيل المسلمين وأمرهم أن يظهروا التكبير، وشدد على حراسة المدينة من جهة قريظة، وكان يرسل مجموعات الإستطلاع والكمائن، فخافت قريظة!

ورووا قصة صفية عمة النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كانت النساء والذراري في الآطام، قالت: «فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لايستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ، قالت فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لك يا ابنة عبدالمطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا! قالت: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. قالت: فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان إنزل

ص: 180

إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال: مالي بسلبه من حاجة».ابن هشام: 3/711 وأمالي الطوسي/261.

د. كان الوقت يعمل لصالح المسلمين بسبب فقدان الأحزاب مصدر تموين جيشهم وعلف خيلهم وإبلهم، وبسبب تعدد قياداتهم واختلاف أمزجتهم، فالوقت آخر الصيف وقد أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يجمعوا غلالهم ولا يتركوا شيئاً خارج المدينة.

قال في إمتاع الأسماع: 1/223: «خرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاث مائة فرس وكان معهم ألف بعير وخمس مائة بعير.

ولاقتهم سُلَيْم بمر الظهران في سبع مائة يقودهم سفيان بن عبد شمس وهو أبو أبي الأعور السلمي، الذي كان مع معاوية بن أبي سفیان بصفين، وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي، وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع في أربع مائة يقودهم مسعود بن رحيلة.. وخرجت بنو مرة في أربع مائة يقودهم الحارث بن عوف...

وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من بني كنانة حتى نزلت وادي العقيق، ونزلت غطفان بجانب أحد ومعها ثلاث مائة فرس، فسرحت قريش ركابها في عضاة وادي العقيق، ولم تجد لخيلها هناك شيئاً إلا ما حملت من علفها وهو الذرة. وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها. وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم. وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من الهزل، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة».

ه. قويت معنويات الأحزاب بنقض بني قريظة عهدهم وإصابة سعد، فكانوا ينتظرون حملة بني قريظة من الشرق، ويطمعون بعبور الخندق من الغرب، فيطبقوا على المسلمين ويستأصلوا النبي (صلی الله علیه و آله) كما زعموا! وقد أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) نصف جيشه أو أكثر لحراسة المدينة من بني قريظة، وبقي في من

ص: 181

معه يحرسون الخندق الذي يبلغ طوله نحو ثلاث كيلو مترات، ويصدون محاولات الأحزاب لعبوره. وكان بعضهم ضعافاً وبعضهم ينامون ولذا كان النبي (صلی الله علیه و آله) يشارك بنفسه في حراسة الخندق.«الصحيح: 9/15». وفي ليلة رد محاولة للمشركين ثم رجع ونام: «وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة، فركب (صلی الله علیه و آله) بسلاحه ثانياً فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات». الإمتاع: 1/233.

5- فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق!

ووبَّخَهم الله في آيات الأحزاب لخوفهم ونقص إيمانهم ويقينهم، وهدد الذين فروا منهم ونقضوا عهدهم بأن لايفروا. وسخرت الآيات من مرضى القلوب «المنافقين السياسيين» لأنهم قالوا: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا! ومدح المؤمنين الصادقين الذين لم ترتجف قلوبهم، لأنهم على يقين بالنصر: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

لقد تجمعت عوامل على المسلمين: منها كثرة جيش الأحزاب، ومحاولاتهم المستمرة للنفوذ من الخندق. وانضمام بني قريظة لهم، وتهديدهم بالهجوم على المدينة. والأزمة الإقتصادية الشديدة عليهم. وإصابة سعد بن معاذ (رحمة الله). وفعالية قريش واليهود داخل مجتمع المسلمين.

لكن أكثر ما أضعفهم أن بعضهم أخذ يستأذن النبي (صلی الله علیه و آله) ليتفقد بيته بحجة أنه قريب من قريظة فيذهب ولايعود! وبعضهم هرب بدون استئذان!

هذه هي الصورة الصحيحة للصحابة في غزوة الأحزاب، لكن رواة قريش أخفوا مرضى القلوب، والكاذبين في الإستئذان، والمتخلفين عن العودة. وفرار هؤلاء مخفي لكنه فرار كامل الشروط، فضحه الله بقوله: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً، فسماه فراراً بأشد أسمائه!

وفي حديث ابن عمر، قال: «بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال: من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا، وكان ذلك في برد شديد، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله

ص: 182

يأمركم أن ترجعوا. قال: فلا والله ما عطف عليَّ منهم اثنان أو واحد». رواه الطبراني في الأوسط: 5/275 وصححه في مجمع الزوائد: 6/135.

وفي حديث حذيفة، ورواه الحاكم: 3/31 وصححه، ووثقه مجمع الزوائد: 6/136: «إن الناس تفرقوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة الأحزاب فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأتاني رسول الله وأنا جاثم من البرد، وقال: يا ابن اليمان قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم. قلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلاحياء منك من البرد».

وفي حديث عائشة، الذي رواه أحمد: 6/141 والزوائد: 6/138 وحسَّنه، وصفت اختباء جماعة من الصحابة في حديقة، منهم عمر وطلحة، وذكرت أن عمر كان يتخوف من الهزيمة والفرار العام! قالت: «خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، قالت فسمعت وئيد الأرض ورائي يعني حس الأرض، قالت فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحرث بن أوس يحمل مجنه، قالت فجلست إلى الأرض فمر سعدٌ وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، قالت: فمر وهو يرتجز ويقول: ليت قليلاً يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل!

قالت:«فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيهم عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له يعني مغفراً فقال عمر: ما جاء بك، لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء «هزيمة» أو يكون تَحَوُّز «فرار عام»!

قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها. قالت فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيدالله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عزوجل»!

فحديث ابن عمر يقول إنهم عصوا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) وظلوا في المدينة إلا من ندر! وحديث حذيفة يقول إنهم تفرقوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يبق معه إلا

ص: 183

اثنا عشر! وحديث عائشة يقول إنها خرجت من الحصن الذي كان فيه النساء وهو حصن بني حارثة في المدينة، «ابن هشام: 3/710»وهو في جهة العوالي وليس في جهة الخندق «الحاكم: 4/50»فمشت باتجاه الخندق فرأت سعداً ذاهباً مع جماعته، فحادت عن الطريق ودخلت في بستان هناك، فوجدت جماعة فيهم عمر وطلحة مختبئين! وكان عمر يتحدث عن احتمال الهزيمة العامة وفرار المسلمين! فيجيبه طلحة: أكثرت الكلام عن الفرار، ونحن لسنا هاربين، بل متحيزون إلى الله!

وينبغي التذكير بأن آية المتسللين: قدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.نزلت في الفارين من حفر الخندق أو المرابطة عنده، وهي شاملة لهم.

يضاف إلى ما تقدم، شهادة البيهقي في سننه: 9/31:«فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً وأن يدفع الله عزوجل مفاتح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصرولتنفقن كنوزهما في سبيل الله! فقال رجل ممن معه لأصحابه: ألاتعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن يغنيهم كنوز فارس والروم، ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله لما يعدنا إلا غرواً! وقال آخرون ممن معه: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا. وسمى ابن إسحاق القائل الأول: معتب بن قشير، والقائل الثاني: أوس بن قيظي»! وهي تسمية سياسية للتغطية على القائل الحقيقي!

ويضاف إلى ما تقدم شهادة القمي في تفسيره: 2/186، قال: «فلما طال على أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الأمر واشتد عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً، تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم. ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل! وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل، وأنه

ص: 184

ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا، فإنها في أطراف المدينة، وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها.

وقال قوم: هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله».

6- مرضى القلوب يتآمرون على النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأحزاب

كان مرضى القلوب الذين حمَّلوا النبي (صلی الله علیه و آله) هزيمة أحُد لأنه لم يشركهم في القيادة: لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! كانوا يأتمرون لحل القضية بزعمهم:

1- فأشاعوا فكرة المصالحة مع النجديين بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً لينصرفوا، وقد أحبطها النبي (صلی الله علیه و آله) باستشارة الزعيمين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وهو يعرف أنهما يرفضانها، فرفضاها وانتهت.

وذكر بعضهم أن زعيمي النجديين عيينة والحارث جاءا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وطلبا منه ذلك، «ابن شيبة: 8/501» وكذب بعضهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه هو الذي بعث لهما!«الطبري: 2/238». وأنه كتب عهداً بذلك لعيينة بن حصن رئيس هوازن، ثم تراجع عنه! الصحيح من السيرة 9/242.

2- طرح بعضهم تسليم النبي (صلی الله علیه و آله) لقريش فقال: «والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك»! «كتاب سُلَيْم/249» لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم!

3- كان مرضى القلوب على صلة بأبي سفیان، وطلب منهم أن يأخذوا نقطة ضعيفة من الخندق ويسهلوا عبورهم منها، فإذا عبروا استغلوا الإضطراب في جيش النبي (صلی الله علیه و آله) وردموا الثغرة ليعبر جيش الأحزاب، ويقضوا على النبي (صلی الله علیه و آله) !

ومن المؤشرات على ذلك أن عمرو بن ود وجماعته، أمروا جنودهم أن يتهيؤوا للقتال غداً قبل محاولتهم عبور الخندق، لأنهم كانوا واثقين من نجاح عبورهم!

ص: 185

«مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيؤوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم». الإرشاد: 19/7 وابن هشام: 3/705.

ويدل عليه أنه بمجرد أن عبر فرسانهم ركز النبي (صلی الله علیه و آله) اهتمامه على الثغرة! فأمر علياً (علیه السلام) أن يبادر بسرعة فيأخذها، فإن اعترض أحد من «المسلمين» فليقتله!

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار: 1/294: «وتسلل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر أهل المدينة فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم، فاقتحم عمرو بن عبد ود وأصحابه الخندق على المسلمين وهم على هذه الحال، فلما نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ذلك وأن خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وقربوا من مناخ رسول الله، تخوف أن يمدهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق فدعى علياً (علیه السلام) فقال: يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه! فمضى علي (علیه السلام) في نفر جمعوا معه يريدون الثغرة، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها، فلما رأوهم وهم أقل من الذين اقتحموها منهم توقفوا لينظروا ما يكون من أمر أصحابهم معهم، وعطف عليهم عمرو بن عبد ود بمن كان معه تعنق بهم خيلهم، حتى قربوا منهم».

كان مسؤول المنطقة التي فيها الثغرة أسيد بن حضير الذي صار فيما بعد من أبطال السقيفة، فقد روى الواقدي أن الأحزاب حاولوا العبور منها وأن سلمان نظر اليها وقال لأسيد: «إن هذا مكان من الخندق متقارب، ونحن نخاف أن تطفره خيلهم، وكان الناس عجلوا في حفره، وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق». الصحيح: 9/279.

كان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع، والذراع يساوي نصف متر أو أكثر،«الأوزان والمقادير/56» فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً. ومن الصعب أن يقفز الفرس هذه المسافة، فيحتمل أن يكون أحدٌ ردم جانب الخندق، ولا يكون ذلك إلا بغياب الحراسة، أو تواطؤ الحراس! وهذا يرجح وجود مؤامرة لعبور الأحزاب فبادر النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمر علياً بقتل من يعترض عمله فيها! ويؤيد ذلك أن العبور كان بعد إصابة سعد بن معاذ (رحمة الله).

ص: 186

7- يقين النبي (صلی الله علیه و آله) بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها

فعندما ضرب النبي (صلی الله علیه و آله) الصخرة في الخندق وخرج منها ثلاث برقات، قال: «لقد فتح الله عليَّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر! فقال أحدهما لصاحبه: يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى». الكافي: 8/216.

وعندما بلغه أن قريظة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب قال: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، أو قال: أبشروا بنصر الله وعونه». الصحيح من السيرة: 9/199.

وورد في تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ.أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أخبرهم أنه سيتظاهر عليهم الأحزاب ووعدهم الظفر بهم، فلما رأوهم تبين لهم مصداق قوله، وكان ذلك من معجزاته (صلی الله علیه و آله).البحار:20/195.

وفي الكافي: 2/561 2، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كان دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الأحزاب: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا كاشف غمي اكشف عني غمي وهمي وكربي، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي، واكفني هول عدوي، فإنه لايكشف ذلك غيرك». ورويت له (صلی الله علیه و آله) أدعية أخرى.

وفي مستدرك الوسائل: 5/281: «دعا النبي (صلی الله علیه و آله) على الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء، واستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف السرور في وجهه قال جابر: فما نزل بي أمر غائض وتوجهت تلك الساعة إلا عرفت الإجابة».

8- من معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة الأحزاب

أ- منها: أن سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وجماعة، كانوا يعملون في أربعين ذراعاً، فخرجت عليهم صخرة كسَّرت معاولهم: «فصعد سلمان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وكان في قبة تركية، فأخبره فهبط معه وبطنه معصوب بحجر من الجوع، ورأى شدة المكان فأخذ المعول وضربها ضربة فصدعها، وبرق منها برق أضاء بين لابتي المدينة، فكبَّر تكبيرة وكبر المسلمون، ثم ضربها ثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، فصدعها. فأخذ بيد سلمان ورقى، فسألوه فقال: إنه بالبرقة

ص: 187

الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها، وفي الثالثة أضاءت له قصور صنعاء وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها! فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق!

فقال المنافقون: ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق لاتستطيعون أن تبرزوا!

وفي الخصال/390: «ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا!».

ب- ومنها: قال جابر بن عبدالله: اتفقت مع زوجتي سهيلة بنت مسعود الأنصارية، أن تصلح ما عندهما وهو مد من شعير وشاة غير سمينة ثم ندعو النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطعام، فسأله النبي (صلی الله علیه و آله) عما عنده فأخبره. فقال (صلی الله علیه و آله) كثير طيب، ثم دعا أهل الخندق جميعاً وقال لهم: إن جابراً قد صنع لهم سوراً فأقبلوا معه! قال جابر: فقلت والله إنها الفضيحة! فأتيت المرأة فقلت لها قد جاءك رسول الله وأصحابه أجمعون! فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟ فقلت: بل هو دعاهم قالت: دعهم هو أعلم!فأكل الجميع حتى شبعوا وقال (صلی الله علیه و آله): كلوا واهدوا فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة، فأكلنا وأهدينا فلما خرج رسول الله ذهب ذلك». الصحيح: 9/148.

ج- ومنها: قال جابر: «اشتد علينا في حفر الخندق كدانة «صخرة» فشكونا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح الماء على تلك الكدانة فعادت كالكندر«لينة»». المناقب: 1/103.

د- ومنها: أن ابنة بشير بن سعد جاءت بحفنة تمر إلى أبيها وخالها عبدالله بن رواحة، فرآها النبي (صلی الله علیه و آله) وهي تلتمس أباها وخالها، فأخذها منها في كفه فما ملأتها، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم أمر فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منها حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب!

البحار: 20/247.

ص: 188

ه- ومنها: أن أم متعب الأنصارية أرسلت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بقعبة فيها حيْس، وهو في قبته مع أم سلمة فأكلت حاجتها، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه: هلمَّ إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا، وهي كما هي! الصحيح: 9/151.

و- ومنها: «لما نزلت الأحزاب على المدينة عبأ أبوسفيان سبعة آلاف رامٍ كوكبة واحدة، ثم قال: إرموهم رشقاً واحداً، فوقع في أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) سهام كثيرة فشكوا ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فلوح إلى السهام بكمه، ودعا بدعوات فهبت ريح عاصفة فردت السهام إلى القوم، فكل من رمى سهماً عاد السهم إليه، فوقع فيه وجرحه». البحار: 18/64.

ز. ومنها: قال جابر: «خرج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المسلمين وقال: جدوا في الحفر، فجدوا واجتهدوا ولم يزالوا يحفرون حتى فرغ الحفر، والتراب حول الخندق تل عال فأخبرته بذلك فقال: لا تفزع يا جابر فسوف ترى عجباً، قال وأقبل الليل ووجدت عند التراب جلبة وضجة عظيمة..فلما أصبحت لم أجد من التراب كفاً واحداً». المناقب: 1/115.

9- جهاد علي (علیه السلام) في غزوة الأحزاب

جاء في خطبة الزهراء (علیها السلام) بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) تخاطب الصحابة: «حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي، وبعد أن مُنِيَ ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها،فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين»! الطرائف/264.

فقد كان علي (علیه السلام) عضد النبي (صلی الله علیه و آله) في الشدائد، حتى إذا جاء الرخاء وجدته مشغولاً في مهام النبي (صلی الله علیه و آله)، ومعه نفر قليل من الصحابة، أما غيرهم فكان هانئاً في ثمار جهودهم وجهادهم! وفي غزوة الأحزاب كان حامل راية النبي (صلی الله علیه و آله) أي

ص: 189

المسؤول عن كل جيشه، فكان ينفذ خطته في حفر الخندق، ويجمع أدوات الحفر من المدينة، ويستعير عدداً منها من يهود قريظة!«الصحيح: 9/103». وكان يُسَرِّعَهم في الحفر ليكتمل الخندق قبل وصول جيوش الأحزاب، ولا بد أنه (علیه السلام) كان يعمل في الحفر بقدر عشرة عمال أقوياء وأكثر، لأنهم رووا أن سلمان (رحمة الله) كان يعمل بقدر عشرة أشخاص، فأصابوه بالعين!

وعند وصول جيوش الأحزاب، باشر علي (علیه السلام) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق، وتفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها، وأعد رماة السهام والأحجار لمواجهة أي مجموعة من العدو تقترب من الخندق، وكان يشارك في رد محاولاتهم عندما يكون في جبهة الخندق.

وفي نفس الوقت كان يدير الجبهة الشرقية على المدينة، جبهة بني قريظة، بعد أن نقضوا عهدهم وهددوا المدينة!ولا بد أنه عاش مس الجوع في تلك الأيام وكتمه كما عاشه النبي (صلی الله علیه و آله) وكتمه ثلاثة أيام حتى شد على بطنه حجر المجاعة! ولا بد أن علياً (علیه السلام) فرح ودمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة (علیها السلام) جاءت للنبي (صلی الله علیه و آله) بنصف قرص شعير، «عيون أخبار الرضا: 1/43».ولا نعلم هل أكل علي (علیه السلام) منها عندما عرض عليه النبي (صلی الله علیه و آله) أم بقي طاوياً؟! لكن المؤكد أن الله يعينه على جوعه وجهده!

10- شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين

كان سعد بن معاذ رئيس الأوس بل رئيس الأنصار، وهو مسلم قوي فدائي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أجابه عندما استشارهم في المضي إلى معركة بدر، فقال: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك»! تفسير القمي: 1/259.

وكان سعد (رحمة الله) طويلاً جميلاً، وعاش سبعاً وثلاثين سنة فقط.الطبقات: 3/433. وصلى عليه النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: «لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً وفيهم جبرئيل يصلون عليه، فقلت له: يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءته قل هو الله أحد قائماً

ص: 190

وقاعداً، وراكباً وماشياً، وذاهباً وجائياً»! الكافي: 2/622.

وكان سعد محباً للنبي (صلی الله علیه و آله) وعترته:، بصيراً بخطط قريش ضدهم، ولذا قال فيه النبي (صلی الله علیه و آله): «يرحمك الله يا سعد فلقد كنت شجى في حلوق الكافرين! لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين كعجل قوم موسى! قالوا: يا رسول الله أو عجلٌ يراد أن يتخذ في مدينتك هذه! قال: بلى والله يراد! ولو كان سعد فيهم حياً لما استمر تدبيرهم، ويستمرون ببعض تدبيرهم،

ثم الله تعالى يبطله. قالوا: أخبرنا كيف يكون ذلك؟ قال: دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره».«تفسير الإمام العسكري/48». وبسبب هذه المكانة الخاصة لسعد (رحمة الله)،

لا نستبعد أن يكونوا رموه بسهم عبر الخندق بمساعدة منافقين عملاء لهم!

وفي تفسير القمي: 2/187: «كان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ (رحمة الله) بسهم في الخندق فقطع أكحله، فنزفه الدم فقبض سعد على أكحله بيده ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فلا أجد أحب إلي محاربتهم من قوم حادوا الله ورسوله، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين قريش فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فأمسك الدم وتورمت يده، وضرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) له في المسجد خيمة، وكان يتعاهده بنفسه».

هذا وقد رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ». «صحيح بخاري:4/227». وروينا أن الإمام الصادق (علیه السلام) سئل عما يقوله الناس، فقال: «إنما هو السرير الذي كان عليه سعد». «معاني الأخبار/288 ومعجم السيد الخوئي: 9/94». أي اهتز سريره كر امة له وليس عرش الله تعالى.

11- عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق

نرجح أن المشركين اتفقوا مع منافقين على تسهيل عبورهم، فتفاجأ المسلمون ببضعة فرسان عبروا الخندق، وهم: عمرو بن عبد ود العامري، وابنه حسيل،

ص: 191

وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبدالله بن المغيرة وثلاثتهم من بني مخزوم، وضرار بن الخطاب، ومرداس، وهما فهريان.

وكان ابن عبد ود فارس العرب يعد بألف فارس، ويسمى فارس يَلْيَل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في عدد في واد قريب من بدر،فقال لأصحابه: إمضوا، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه!

عَبَرَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه وأخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم، في السبخة التي تحت جبل سلع، مقابل مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله) وهي الآن مسجد الفتح، وأخلى المسلمون الذين أمامهم المكان! فلم يهتم النبي (صلی الله علیه و آله) للعابرين بقدر ما اهتم لسد الثغرة التي عبروا منها، فنادى علياً (علیه السلام) فأسرع بمن معه لسد الثغرة، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة وخلفه جماعته، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك، أو يختار لك من يبارزك، وعاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير! فقال علي (علیه السلام): أنا له يارسول الله، فأمره بالجلوس، وواصل النبي (صلی الله علیه و آله) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه منهم أحد! فقام علي (علیه السلام) ثانيةً وقال: أنا له يارسول الله، فقال له: أجلس.وحسب رواية ابن إسحاق: يا علي إنه عمرو، فأجابه: وأنا علي يارسول الله! فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أدن مني، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه، ودعا له، وأطلق كلماته الرسولية بحقه.

وتقدم علي (علیه السلام) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز، وذهب معه جابر الأنصاري وحذيفة وعمر والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، ليروا النتيجة. وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ومرة برمحه، أو يركزه في الأرض ويدور بفرسه حوله، ويقول: أبرز اليًّ يا محمد، ثم يقول: إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟ألا يحب أحدكم أن يُقْدِم على الجنة، أو يبعث عدواً له إلى النار؟!

ولقد بححت من الندا *** ء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجا *** ع موقف الخصم المناجز

ص: 192

إني كذلك لم أزل *** متسرعاً نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى *** والجود من كرم الغرائز

وكان عمرو بن عبد ود راكباً، ومشى علي (علیه السلام) نحوه راجلاً، وهو يقول:

لاتعجلنَّ فقد أتاك *** مجيب صوتك غيرُ عاجز

ذو نيةٍ وبصيرةٍ *** والصدق مُنجي كلِّ فائز

إني لأرجو أن تقو *** م عليك نائحةُ الجنائز

من طعنة نجلاء يبقى *** ذكرها بين الهزاهز

وجرى بينهما كلام طويل، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى بسيفه إلى علي (علیه السلام) بضربة قوية، فتلقاها علي (علیه السلام) بترسه، فشقت الترس والخوذة والعمامة، ووصلت إلى رأسه (علیه السلام) فجرحته في قرنه، فانفجر الدم يجري على رأسه وكتفه، ولم يتأخر علي (علیه السلام) فضربه ضربة حيدرية على ترقوته، كما قال البيهقي وابن إسحاق، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر علي (علیه السلام) بصوته الجهوري فكبر النبي والمسلمون،وتقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه، فصبر ورجع خطوات، قال: خشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي!

وجاء علي (علیه السلام) برأس عمرو إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فمسح النبي (صلی الله علیه و آله) الدم والغبار عن عينيه، ومسح مكان الضربة في رأسه، ورجع علي (علیه السلام) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله! وهرب عكرمة بن أبي جهل، وضرار الخطاب، ونوفل بن عبدالله المخزومي فلحقهم علي (علیه السلام)، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه، وأفلت ضرار، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة فصاح بهم: قتلةٌ أجمل من هذه! ينزل إليَّ بعضكم أقاتله! فنزل إليه علي (علیه السلام)، فضربه وقتله.

وفي الطرائف/60، عن أبي هلال العسكري، قال: «أول من قال: جُعلت فداك،

ص: 193

عليٌّ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد، قال علي: جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي؟ قال: إنه عمرو بن عبد ود. قال: وأنا علي بن أبي طالب، فخرج إليه فقتله».

وفي كنز الفوائد/ 137: «فتقدم إليه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: برز الإيمان كله إلى الشرك كله. فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده، قال له عمرو: يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي! فقال له أميرالمؤمنين: هي أهون عليَّ من ذلك! وذبحه وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته فقال عمر: ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام. ثم نهض رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه». وانتشر خبر قتل عمرو في المسلمين كالبرق، ففرحوا واستبشروا، ووقع على الأحزاب كالصاعقة وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء.

وواصل النبي (صلی الله علیه و آله) دعاءه بعد صلاة الظهر، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب، وباتوا في ليلة ليلاء، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) اليهم حذيفة متنكراً في الظلام، فوصل إلى خيمة أبي سفیان واستطلع خبرهم، وفي اليوم التالي بادروا إلى الرحيل: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، بعلي (علیه السلام)، والملائكة، والرياح.

وكان ابن مسعود يقرأ الآية: وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، بعلي، وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. الإرشاد: 1/106، القمي: 2/182، الحاكم: 3/32 وابن هشام:3/708.

ورجع النبي (صلی الله علیه و آله) صبيحتها إلى المدينة، وما إن صلى الظهر ووضع لباس حربه حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة، فأرسل علياً (علیه السلام) أمامه ثم التحق بهم!

12- علي (علیه السلام) يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو

قال علي (علیه السلام) في جوابه لسؤال أحد أحبار اليهود كما في الخصال للصدوق/369: «وأما الخامسة يا أخا اليهود، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً

ص: 194

وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له، فهبط جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله)، فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار. فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف، ترعد وتبرق! ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعوها إلى الله عزوجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً! وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود، يهدر كالبعير المغتلم، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة، لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع فيه طامع، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه، فأنهضني إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا، وضرب بيده إلى ذي الفقار، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود! فقتله الله عزوجل بيدي، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره، وضربني هذه الضربة، وأومأ بيده إلى هامته، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك، وبما كان مني فيهم من النكاية».

13- حذيفة (رحمة الله) يصف مبارزة علي (علیه السلام) لعمرو بن ود

في مناقب علي (علیه السلام): 1/222، قال ربيعة: «أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبدالله إنا نتحدث في علي وفي مناقبه فيقول لنا أهل البصرة: إنكم لتفرطون في علي وفي مناقبه، فهل أنت تحدثني في علي بحديث؟فقال حذيفة: يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) في كفة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم! فقال ربيعة: هذا الذي لا يقام له ولا يقعد! فقال حذيفة: وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان «أحمق»! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه؟! والذي

ص: 195

نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة».

وفي تفسير مجمع البيان: 8/131: «عن حذيفة قال: فألبسه رسول الله (صلی الله علیه و آله) درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه عمامته السحاب، على رأسه تسعة أكوار، ثم قال له: تقدم، فقال لما ولى: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه.

قال ابن إسحاق: فمشى إليه وهو يقول: لاتعجلن فقد أتاك..مجيب صوتك غير عاجز.. إلى آخر الأبيات.. قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي.فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهرق دمك! فقال علي (علیه السلام): لكني والله ما أكره أن أهرق دمك! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً، فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو بالدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه! وضربه علي على حبل العاتق، فسقط».

وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 2/10، بسنده عن حذيفة، قال: «فجاء حتى وقف على عمرو فقال: من أنت؟ فقال عمرو: ما ظننت أني أقف موقفا أُجهل فيه، أنا عمرو بن عبد ود؟ فمن أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: الغلام الذي كنت أراك في حجر أبي طالب؟ قال: نعم. قال: إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك! فقال له علي: لكني لا أكره أن أقتلك، بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عزوجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة؟ قال: صدقوا. قال: إما أن ترجع من حيث جئت. قال: لا تحدث بها قريش. قال: أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا. قال: ولا هذه. فقال له علي: فأنت فارس وأنا راجل! فنزل عن فرسه وقال: ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوي دبر البعيرة، وهو قائم، وكان علي (علیه السلام) في تراب دق لا يثبت قدماه عليه، فجعل علي ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه، ويعلوه عمرو بالسيف وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها علي بالترس فلحق ذباب السيف في رأس علي (علیه السلام) حتى قطعت تسعة

ص: 196

أكوار حتى خط السيف في رأس علي. وتسيَّف عليٌّ رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، فثارت بينهما عجاجة فسمع علي (علیه السلام) يكبر،فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قتله والذي نفسي بيده!

فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب، فإذا علي يمسح سيفه بدرع عمرو فكبر عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله قتله! فحز عليٌّ رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته، فقال له رسول الله: يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عزوجل إلا في هذا الموضع. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي: ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب؟ فقال: يا رسول الله: إنه تلقاني بعورته. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو». والصحيح من السيرة: 9/333 وبعضه المناقب: 2/324.

14- رواية تفسير القمي لمبارزة علي لعمرو

قال علي بن إبراهيم القمي (رحمة الله) في تفسيره: 2/182: «فمر أميرالمؤمنين (علیه السلام) يهرول في مشيه وهو يقول: لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز...الأبيات..فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وختنه. فقال: والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً وإني أكره أن أقتلك! ما أمن ابن عمك حين بعثك إليَّ أن أختطفك برمحي هذا، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حيٌّ ولا ميت؟!

فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة، وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة! فقال عمرو: وكلتاهما لك يا علي؟ تلك إذا قسمة ضيزى!

قال علي (علیه السلام): دع هذا يا عمرو، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول لايعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها،

ص: 197

وأنا أعرض عليك ثلاث خصال، فأجبني إلى واحدة! قال: هات يا علي! قال: أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: نحِّ عني هذه، فاسأل الثانية، فقال: أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره. فقال: إذاً تتحدث نساء قريش بذلك، وتنشد الشعراء في أشعارها أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأَّسُوني عليهم!

فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): فالثالثة أن تنزل إليَّ فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك. فوثب عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومني عليها، ثم بدأ فضرب أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالسيف على رأسه، فاتقاه أميرالمؤمنين بدرقته فقطعها، وثبت السيف على رأسه.

فقال له علي (علیه السلام): يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب، حتى استعنت عليَّ بظهير؟! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون قُتل علي بن أبي طالب، ثم انكشف العجاجة فنظروا فإذا أميرالمؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم، وهو يقول والرأس بيده:

أنا عليُّ وابن عبدالمطلبْ *** الموت خيرٌ للفتى من الهربْ

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عليُّ ماكرتَهُ؟ قال: نعم يا رسول الله، الحرب خُدعة.

وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته. وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار: ويحك يا ابن صهاك أترميني في مبارزة! والله لئن رميتني لا تركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال: إحفظها يا عمر.. فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما وليَ فولاه»!

وروي أنهم وجدوا جمجمة عمرو بن ود، فكيلت بها كيلجة فاستوعبتها!«مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا/69» والكيلجة صاع إلا يسيراً المحلى:5245.

ص: 198

وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: هو لكم، لانأكل ثمن الموتى! المناقب: 1/171.

15- أخ عمرو بن ود يواجه علياً (علیه السلام) في مكة!

أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر ليبلغ سورة براءة إلى المشركين، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى: لايؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك! أحمد: 1/151والخصال/369.

فأمر بإرجاعه من الطريق وأرسل بها علياً (علیه السلام)، فدخل عليٌّ مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة. قال الإمام الباقر (علیه السلام): «لما قرأ قوله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.. قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال: وما يسرُّنا على أربعة أشهر، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح، وإن شئت بدأنا بك!

فقال علي (علیه السلام): أجل أجل، إن شئت، هلموا! ثم واصل (علیه السلام) تلاوته: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ». المناقب 1/392.

16- شبَّه الإمام الصادق (علیه السلام) يوم الأحزاب بيوم القيامة!

في الكافي: 8 /278،عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قَرَّة «باردة» فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة فلم يقم أحد، ثم أعادها فلم يقم أحد! فقال أبو عبدالله بيده: وما أراد القوم، أرادوا أفضل من الجنة؟! ثم قال: من هذا؟ فقال: حذيفة. فقال: أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تَكَلَّم، أقُبِرت؟ فقام حذيفة و هو يقول: القَرُّ والضُّرُّ جعلني الله فداك منعني أن أجيبك.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم! فلما ذهب قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده،وقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، فأخذ سيفه وقوسه وحجفته.

قال حذيفة: فخرجت وما بي من ضر ولا قر، فمررت على باب الخندق،

ص: 199

وقد اعتراه المؤمنون والكفار. فلما توجه حذيفة قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونادى: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، إكشف همي وغمي وكربي، قد ترى حالي وحال أصحابي. فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا رسول الله، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك، وقد أجابك وكفاك هول عدوك، فجثى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه، ثم قال: شكراً شكراً، كما رحمتني ورحمت أصحابي. ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد بعث الله عزوجل عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصى، وريحاً من السماء الرابعة فيها جندل.

قال حذيفة: فخرجت فإذا أنا بنيران القوم، وأقبل جند الله الأول ريح فيها حصى، فما تركت لهم ناراً إلا أذرتها، ولا خباءً إلا طرحته، ولا رمحاً إلا ألقته! حتى جعلوا يتترسون من الحصى! فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين فقال: أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شئ، فإنه ليس سنة مقام، قد هلك الخف والحافر، فارجعوا ولينظر كل رجل منكم من جليسه! قال حذيفة: فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت: من أنت؟ فقال: معاوية، فقلت للذي عن يساري: من أنت؟ فقال سهيل بن عمرو! قال حذيفة: وأقبل جند الله الأعظم، فقام أبوسفيان إلى راحلته، ثم صاح في قريش: النجاء النجاء! وقال طلحة الأزدي: لقد زادكم محمد بشر، ثم قام إلى راحلته وصاح في بني أشجع: النجاء النجاء! وفعل عيينة بن حصن مثلها، ثم فعل الحرث بن عوف المزني مثلها! ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها! وذهب الأحزاب، ورجع حذيفة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره الخبر! وقال أبو عبدالله (علیه السلام): إنه كان ليشبه يوم القيامة»!

17- ضربة علي (علیه السلام) غيَّرت ميزان القوى!

فرح النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل علي عمرو بن ود وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير! قال جابر بن عبدالله الأنصاري: «فما شبهت قتل علي عمراً إلا بما قال الله تعالى من

ص: 200

قصة داود وجالوت، حيث يقول: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد قتله: الآن نغزوهم ولايغزوننا». إعلام الورى: 1/382 والإرشاد: 1/102، كنز الفوائد/138والحاكم:3/34، سبل الهدى: 4/379 والخوارزمي/171.

وأدرك رؤساء القبائل أن موجة الإسلام قادمة لامحالة، فأخذوا يفكرون بالتقرب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وإعلان إسلامهم، ليتجنبوا الخسارة أو يكسبوا موقعاً في دولته الجديدة المتوثبة، فقال عمرو بن العاص لخالد بن الوليد: «والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً»! «تاريخ الطبري: 2/313». ووافقه خالد على ذلك، وبعد مدة قليلة جاءا مسلمين بعد الحديبية.

18- رسالة أبي سفیان قبل هروبه بجيش الأحزاب!

عندما قرر الأحزاب الإنسحاب كتب أبوسفيان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بكبرياء: «لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك! فرأيتك قد كرهت لقاءنا وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد تبقر فيه النساء»!

وبعث بها مع أبي أسامة الجشمي، فقرأها له أبيُّ بن كعب، فكتب إليه (صلی الله علیه و آله): «أما بعد فقديماً غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لاتذكر اللات والعزى! وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق فإن الله تعالى ألهمني ذلك، لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك. وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح! وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة، وهبل حتى أذكرك ذلك». الصحيح ة: 9/440 والإمتاع: 1/242.

19- إشادات النبي (صلی الله علیه و آله) بعلي (علیه السلام) يوم الأحزاب

روى المسلمون أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في الإشادة بعلي (علیه السلام) وشهاداته بحقه: فمنها: أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته. ولما برز ومشى دعا له:

ص: 201

اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه.

ومنها: أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر، وحمزة بن عبدالمطلب يوم أحد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.

ومنها: أنه علمه دعاء هو: اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أدرأ في نحره.

ومنها: عندما برز اليه قال (صلی الله علیه و آله): برز الإيمان كله إلى الشرك كله.

ومنها: قال (صلی الله علیه و آله): ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة. ضربة علي تعدل عند الله عمل الثقلين. ضربة علي أفضل عند الله من عمل الثقلين!

وأشهرها الحديثان الأخيران، ولا يتسع الكتاب لبحثهما. راجع: الصحيح: 9/333 و340.

20- معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): وإنك لذو قرنيها

روي أن ذا القرنين: «بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن، فأماته الله خمس مائة عام، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر، فأماته الله خمس مائة عام، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب». وقال رسول الله عن علي (علیه السلام): وإن فيكم مثله». الإيقاظ/145، الدر المنثور: 4/241

وفتح القدير: 3/309.

وفسره في القاموس: 4/258، بأنه (علیه السلام): «ذو شجتين في قرني رأسه، إحداهما من عمرو بن ود، والثانية من ابن ملجم».

وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه (علیه السلام). وفي رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو. المناقب: 2/327.

وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «يا علي، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها، وشيعتك تعرف بحزب الله عزوجل». أمالي الصدوق/656.

قال الراغب في المفردات/401: «وذو القرنين معروف، وقوله عليه الصلاة والسلام

ص: 202

لعلي رضی الله عنه: إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها: يعني ذو قرني الأمة، أي أنت فيهم كذي القرنين».

لكن ذكر الصدوق (رحمة الله) في معاني الأخبار/206، أن معناه أنه والد الحسنين (علیهما السلام) لأنهما قرنا الجنة بمعنی قرطيها وزينتها. وفسره بوجه آخر: إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها، وآخذ بقرنيها. وهو مشكل. كما تردد الشريف الرضي في المجازات النبوية/87، في تفسيره بين معان، فذكر قرني الجنة بطرفيها، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدي في آخرها، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن، أو بمعنى أنك رأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان، أو المضروب مثله على قرنيه. وكلها لا تخلو من إشكال، وإن كان الأخير أقلها إشكالاً.

وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود/65، والحر العاملي في الإيقاظ/145، بأنه يقصد رجعة أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته. وهو مشكل، لأنه (علیه السلام) بعد الرجعة لايضرب على قرنه الآخر.

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب

لم أجد ذكراً لأبي بكر في غزوة الخندق، لكن ورد ذكر عمر في أربع قضايا:

أولها: حديث عائشة المتقدم وأنه هرب من الخندق مع طلحة واختبآ في بستان وكان عمر يتخوف هزيمة الباقين وطلحة يقول لسنا هاربين بل متحيزون إلى الله!

وثانيها: عندما عبر الخندق عمرو بن عبد ود وجماعته، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر أن يبرز لضرار بن الخطاب الفهري، وكان أحد الذين عبروا مع ابن ود. ومن الغريب أن كُتَّاب السيرة حاولوا تغطية مبارزته لضرار بن الخطاب وعفو ضرار عنه، مع أن ذلك حدث مرتين في أحُد ثم في الخندق! وقد روته مصادرنا ورواه الواقدي وابن هشام وابن عساكر وغيرهم! بل رووا أن خالد بن الوليد عفا عن عمر في أحد ولم يقتله! قال ابن هشام: 2/282: «وكان ضرار لحق عمر بن

ص: 203

الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: أنج يا بن الخطاب، لا أقتلك، فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه».

وفي تاريخ دمشق: 24/392 و396: «فكان «ضرار» يقاتل أشد القتال ويحرض المشركين بشعره، وهو قاتل عمرو بن معاذ أخا سعد بن معاذ يوم أحد، وقال حين قتله: لاتُعْدَمَنَّ رجلاً زوَّجك من الحور العين! وكان يقول زوجت عشرة من أصحاب محمد! وأدرك عمر بن الخطاب فضربه بالقناة ثم رفعها عنه فقال: يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك».

فما هو السبب في إخفاء أتباعه لذلك؟ وما هو السبب في حب قادة قريش لابن الخطاب، وهم الذين استماتوا لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته، وشخصيات أصحابه!

ثم لماذا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر بن الخطاب العدوي أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب الفهري، وهو يعلم أن ضراراً يحب عمر، فقد ظفر به في أحُد وعمر هارب فضربه على ظهره بعرض رمحه وقال له: والله لا أقتلك!

بحث هذا الموضوع في الصحيح من السيرة: 6/235 وذكر فيه قول ضرار حسب رواية الواقدي: «يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك». ثم تساءل: لماذا ما كان ليقتله؟ أليس هو الذي أذل قريشاً كما يدعون وعز به الإسلام كما يزعمون؟ كما كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول: لقد رأيتُني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد، وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه متوجهاً إلى الشعب! فلماذا هذه المراعاة من خالد لعمر؟ ولماذا يهنئ أبوسفيان عمر بالنصر الذي أحرزوه على المسلمين،ويقول له: أنعمت عيناً قتلى بقتلى بدر! فأجابه عمر بقوله: إنها!

والقضية الثالثة: التي ذكر فيها عمر في الخندق، أنه أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بنقض بني قريظة عهدهم، فمن أين عرف ذلك؟ راجع: الصحيح من السيرة:9/270.

والقضية الرابعة: عندما غاب بعد قتل عمرو بن ود، وكان الوقت ظهراً، فغاب حتى

ص: 204

المغرب، وجاء من جهة الخندق وقال إنه كان يسب قريشاً إلى المغرب وكادت تفوته الصلاة! وروى البخاري ذلك بروايات، وزعمو أن النبي (صلی الله علیه و آله) فاتته الصلاة كعمر!

والجواب على التساؤلات: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يعلم بعلاقة عمر مع زعماء الأحزاب والمحبة بينهم، ولكنه أراد أن يفهم المسلمون ذلك!

ومن الغريب أن عمر كان قبل يومٍ فاراً مع طلحة في الحديقة التي آوت اليها عائشة وفيها نساء وأطفال، وأن سعداً مر في ذلك اليوم، ولما وصل إلى الخندق أصيب. وفي اليوم التالي لإصابة سعد كان عمر عند الخندق عندما عبره ابن ود وجماعته، ولعله رجع من الحديقة التي رأته فيها عائشة وبقي طلحة هناك.

وقد ورد أن عمر كان يحب ضراراً فولاه في العراق والشام، وشكاه أبو عبيدة بأنه يشرب الخمر فلم يعزله! وكان عمر يحب شعره ويأمر المغني في طريق الحج أن يغنيه به، فقال ابن عوف لرباح المغني: «غننا، فقال له عمر: إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب»! الإصابة: 3/392.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس/247: «وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله، وأقضاهم بحكم الله، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا عناء معه في جميع مشاهده، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف، جبناً ولؤماً، ورغبة في البقاء.

وقد علموا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف، وقتل مسجع بن عوف وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك.

وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي، ولا يبارز الأبطال، ولا يفتح الحصون غيري، ولا نزلت برسول الله (صلی الله علیه و آله) شديدة قط ولا كربهُ أمرٌ ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال: أين أخي علي، أين سيفي، أين رمحي، أين المفرج غمي عن وجهي، فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه. ولله عزوجل ولرسوله بذلك المن والطول، حيث خصني

ص: 205

بذلك ووفقني له. وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن، ولا فتح ولا نصر، غير مرة واحدة، ثم فر ومنح عدوه دبره، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه، وقد فر مراراً، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير، وأمر ونهى.

ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مما رآى به من الرعب وقال (صلی الله علیه و آله): أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي..والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا، وحمل الناس على رقابنا».

أقول: ذكر (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قتل شخصين بيده هما أبي بن خلف، وهوابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله فطعنه النبي (صلی الله علیه و آله) بحربة في عنقه فمات منها في مكة. أما مسجع بن عوف فلم أجده فيما لديَّ من مصادر.

22- طعنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه فاتته أربع صلوات!

زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) انشغل عن الصلاة في معركة الأحزاب حتى ذهب وقتها! فقد روى البخاري: 1/147: «أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش! قال: يا رسول الله ماكدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): والله ما صليتها، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب»! ومعناه أن الحادثة كانت في يوم قتل علي لعمرو بن ود وهبوب الريح عليهم وكانت يوم أربعاء! وأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يصل ذلك اليوم العصر، أو فاتته أربع صلوات كما زعمت بعض رواياتهم! وأن عمر ذهب إلى الخندق قبل صلاة العصر، وكان مقابله قرشيون فكان يسبهم ويسبهم ويسبهم إلى قريب المغرب، ولم يضرب أحد منهم الآخر بسهم كما ضربوا سعد بن معاذ، ولا بحجر كما هو دأبهم ودأب المسلمين الذين يواجهونهم! ثم رجع عمر سالماً غانماً وأدرك صلاة العصر على حافة الوقت، فحكى ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال له أنت خير مني لأني لم أصلها أبداً! فرجعوا إلى المدينة مساء ذلك اليوم والمسافة من الخندق إلى المدينة نحو ساعة فوصلوا إلى بطحان وهو واد

ص: 206

متصل بالمدينة، «فتح الباري: 2/347» فانتظروا النبي (صلی الله علیه و آله) حتى صلى العصر التي فاتته وصلوا المغرب معه!

وهذه المنقبة التي رواها عمر لنفسه لاتصح، لأن رجوعهم إلى المدينة كان في الصباح ووصلوا قبل الظهر أو معه، فنزل جبرئيل وأمرهم بحرب بني قريظة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لاتصلوا الظهر إلا في بني قريظة.

ولا تصح أيضاً، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في خيمته بعد قتل عمرو، وواصل دعاءه حتى هبت الريح على الأحزاب، وفي تلك الليلة بعث حذيفة واستطلع خبرهم.

ولا تصح أيضاً، لأنها تنافي العصمة، وعبودية النبي (صلی الله علیه و آله) الكاملة لربه.

ولأن النبي (صلی الله علیه و آله) لو انشغل عن صلاته لانشغل الذين كانوا معه، فكيف فاتته من دونهم،كما فاتت عمر دونهم، لأنه ذهب إلى نقطة من الخندق!

والذي يصح أن عمر ذهب بعد قتل عمرو والتقى ببعض المشركين وتحدث معهم، وما سبهم ولا سبوه، ففاتته الصلاة، وأراد أن يخفف عن نفسه أو يبرر ذلك لمن لامه، فقال إن النبي (صلی الله علیه و آله) فاتته الصلاة مثله! وأنه هو صلاها قرب مغيب الشمس، بينما لم يصلها النبي (صلی الله علیه و آله) حتى غابت!

قال المحقق البحراني (رحمة الله) في الحدائق الناضرة: 7/373: «الرواية عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، إنما هي من طرق المخالفين وليس في أخبارنا لها أثر ولا توافق أصولنا». راجع: ألف سؤال وإشكال: 1/171.

23- من شعر الأحزاب ومبارزة علي (علیه السلام) لابن ود

اشارة

روى ابن إسحاق وابن هشام: 3/733 شعر حرب الخندق، ومبارزة علي (علیه السلام) لابن ود، وأورد بعضها في الصحيح: 9/382. قال ضرار بن الخطاب الفهري:

ومشفقة تظن بنا الظنونا *** وقد قدنا عرندسة طحونا

كأن زهاءها أحد إذا ما *** بدت أركانه للناظرينا

ترى الأبدان فيها مسبغات *** على الأبطال واليلب الحصينا

ص: 207

وجرداً كالقداح مسوماتٍ *** نؤم بها الغواة الخاطئينا

كأنهم إذا صالوا وصلنا *** بباب الخندقين مصافحونا

أناس لا نرى فيهم رشيداً *** وقد قالوا: ألسنا راشدينا

فأحجرناهم شهراً كريتاً *** وكنا فوقهم كالقاهرينا

نراوحهم ونغدو كل يوم *** عليهم في السلاح مدججينا

بأيدينا صوارم مرهفات *** نقد بها المفارق والشئونا

كأن وميضهن معريات *** إذا لاحت بأيدي مصلتينا

وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ *** ترى فيها العقائق مستبينا

فلولا خندق كانوا لديه *** لدمرنا عليهم أجمعينا

ولكن حال دونهم وكانوا *** به من خوفنا متعوذينا

فإن نرحل فإنا قد تركنا *** لدى أبياتكم سعداً رهينا

إذا جن الظلام سمعت نوحى *** على سعد يرجعن الحنينا

وسوف نزوركم عما قريب *** كما زرناكمُ متوازرينا

بجمع من كنانة غير عزل *** كأسد الغاب قد حمت العرينا

فأجابه كعب بن مالك الأنصاري:

وسائلة تسائل ما لقينا *** ولو شهدت رأتنا صابرينا

صبرنا لا نرى لله عدلاً *** على ما نابنا متوكلينا

وكان لنا النبي وزير صدق *** به نعلو البرية أجمعينا

نقاتل معشراً ظلموا وعقوا *** وكانوا بالعداوة مرصدينا

ترانا في فضافض سابغات *** كغدران الملا متسربلينا

وفى أيماننا بيض خفاف *** بها نشفي مراح الشاغبينا

ص: 208

بباب الخندقين كأن أسداً *** شوابكهن يحمين العرينا

فوارسنا إذا بكروا وراحوا *** على الأعداء شوساً معلمينا

لننصر أحمداً والله حتى *** نكون عباد صدق مخلصينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا *** وأحزاب أتوا متحزبينا

بأن الله ليس له شريك *** وأن الله مولى المؤمنينا

فإما تقتلوا سعداً سفاهاً *** فإن الله خير القادرينا

سيدخله جناناً طيبات *** تكون مقامة للصالحينا

كما قد ردكم فلا شريداً *** بغيظكم خزايا خائبينا

وقال مسافع الجمحي يبكي عمرو بن عبد ود:

عمرو بن عبد كان أول فارسٍ *** جزع المذاد وكان فارس يليلِ

سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة *** يبغي القتال بشكة لم ينكل

ولقد علمتم حين ولوا عنكم *** أن ابن عبد فيهم لم يعجل

حتى تكنفه الكماة وكلهم *** يبغي مقاتله وليس بمؤتلي

ولقد تكنفت الأسنة فارساً *** بجنوب سلع غير نكس أميل

تسل النزال عليُّ فارس غالب *** بجنوب سلع ليته لم ينزل

فاذهب عليُّ فما ظفرت بمثله *** فخراً ولا لاقيت مثل المعضل

نفسي الفداء لفارس من غالب *** لاقى حمام الموت لم يتحلحل

وقال الشيخ كاظم الأزري (رحمة الله) من قصيدته الأزرية/124:

ظهرت منه في الوغى سطواتٌ *** ما أتى القوم كلهم ما أتاها

يوم غصت بجيش عمرو بن ود *** لهوات الفلا وضاق فضاها

وتخطى إلى المدينة فرداً *** بسرايا عزائمٍ ساراها

ص: 209

فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن *** ينظرون الذي يشبُّ لظاها

أين أنتم عن قسورٍ عامريٍّ *** تتقي الأسد بأسه في شراها

فابتدى المصطفى يحدث عما *** تؤجر الصابرون في أخراها

قائلاً إن للجليل جناناً *** ليس غير المجاهدين يراها

أين من نفسه تتوق إلى *** الجنات أو يورد الجحيم عداها

من لعمرو وقد ضمنت على *** الله له من جنانه أعلاها

فالتووا عن جوابه كسوام *** لا تراها مجيبة من دعاها

وإذا هم بفارس قرشي *** ترجف الأرض خيفةً إذ يطاها

قائلاً مالها سواي كفيل *** هذه ذمة علي وفاها

ومشى يطلب الصفوف كما تم- *** -شي خماص الحشا إلى مرعاها

فانتضى مشرفيه فتلقى *** ساق عمرو بضربة فبراها

والى الحشر رنة السيف منه *** يملأ الخافقين رجع صداها

يا لها ضربة حوت مكرمات *** لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

هذه من علاه إحدى المعالي *** وعلى هذه فقس ما سواها».

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود

المسألة الأولى: نص العلامة في تذكرة الفقهاء: 9/83:على أن خدعة علي (علیه السلام) لعمرو في الحرب رواية عامية، قال: (روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً (علیه السلام) ثم قال: فقال علي (علیه السلام):ما برزت لأقاتل اثنين! فالتفت عمرو فوثب علي (علیه السلام) فضربه، فقال عمرو: خدعتني! فقال علي (علیه السلام): الحرب خدعة ).

لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها، حيث قال في تفسيره: 2/182: (فقال له علي:ياعمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً..

ص: 210

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عليُّ ماكرتَهُ ؟ قال: نعم يا رسول الله، الحرب خُدعة ).

كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة: 4/408، فقال: «نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل علي (علیه السلام) بعمرو بن عبد ود، وقال (علیه السلام): الحرب خدعة».

لكن صاحب الجواهر: 21 /79 وهو أفقه من آقا ضياء، اكتفى بإيرادها، واستدل هو والسيد الخوئي، منهاج الصالحين: 1/373 على جواز الخدعة، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال يوم الخندق: الحرب خدعة.

والنتيجة: أن الخدعة في الحرب جائزة، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً (علیه السلام) استعملها مع عمرو، وبعضهم ثبت عنده ذلك لوجود قرائن على صحة رواية العامة. ولا شك أن التوقف أحوط وأكثر انسجاماً مع صفات علي (علیه السلام) وأخلاقه.

المسألة الثانية: ذكرت الروايات أنه لما برز علي (علیه السلام) لعمرو، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق، قال: وتقدم علي (علیه السلام) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز، وذهب معه جابرالأنصاري، وحذيفة، وعمر، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، ليتفرجوا.

وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار: 1/294: (ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما. ورفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده إلى السماء يدعو الله عزوجل لعلي بالظفر).ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين، فالمشركون من وراء الخندق، والمسلمون أمام خيمة النبي (صلی الله علیه و آله) في منحدر جبل سلع، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة.

المسألة الثالثة: لم يأذن النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي من أول الأمر، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم، لكن ذكرت الرواية أنه كان يريد أن يبرز له غير علي (علیه السلام) لأن فاطمة 3كانت تخاف عليه!

(في كل ذلك يقوم علي ليبارزه فيأمره النبي (صلی الله علیه و آله) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة (علیها السلام) عليه من جراحاته في يوم أحد، وقولها ما أسرع أن يوتم الحسن

ص: 211

والحسين باقتحامه الهلكات. فنزل جبرئيل عن الله تعالى أن يأمر علياً (علیه السلام) بمبارزته، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا علي أدن مني وعممه بعمامته وأعطاه سيفه، وقال إمض لشأنك.

ثم قال: اللهم أعنه. فلما توجه إليه قال النبي (صلی الله علیه و آله): خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ). مناقب آل أبي طالب: 2/325.

المسألة الرابعة: نهى النبي (صلی الله علیه و آله) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقرى! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه رضوان الله عليهم.

ورووا عن غير طريق أهل البیت (علیهم السلام) أنهم جاؤوا للنبي (صلی الله علیه و آله) برؤوس أعدائه، ولا يصح عندنا، ولا تصح روايتهم أن علياً (علیه السلام) جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) برأس عمرو بن ود، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب.الكامل لابن عدي:6/50.

والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أميرالمؤمنين (علیه السلام) ذبحه أو قطع رأسه، أنه أجهز عليه، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله.

ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مجمع الزوائد:6/152.

كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبي جهل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فحمد الله، الإستيعاب:3/1410 وأن أبا بردة بن نيارقال: (جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ) نهاية ابن كثير:3/343 وأن جابرالأنصاري قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي (صلی الله علیه و آله). الثقات لابن حبان: 1/215.

لكن هذا لو صح فهو تصرف منهم، ولا بد أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهم بدفنها.

فموقف النبي (صلی الله علیه و آله) الترفع عن التمثيل بالجثامين، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو. ويؤيد ذلك أن المشركين أرسلوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليشتروا جثة عمرو بن عبد ود بعشرة آلاف درهم، فقال (صلی الله علیه و آله): هو لكم، لانأكل ثمن الموتى! المناقب: 1/171. ويؤيده ما رووه عن الزهري: (لم يحمل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأس إلا يوم بدر ). سير السرخسي: 1/111.

ص: 212

المسألة الخامسة: يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم، ومعناه أن ثقافة الجاهلية استمرت في الأمة، وأن ما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث، إرث متصل بالجاهلية، ولا صلة له بالإسلام.

قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر/490: (ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي، وكان شيعياً، ودير به في السوق. ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضی الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبدالله ومحمد وأبابكر بني علي بن أبى طالب رضی الله عنهم، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبدالله ابنا الحسن وعلي وعبدالله بن الحسين وعبدالله وجعفروعبدالرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبدالله بن جعفر رضی الله عنهم، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضی الله عنه فنصب بالمدينة!

ونصب المختار بن عبيد رأس عبيدالله بن مرجانة ورأس الحصين بن نمير السكسكي ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة فحمد الله وأثنى عليه.

فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبدالله بن الزبير فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد، مسجد الكوفة فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها. ونصب مصعب بن الزبير رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة.

ونصب عبدالملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي.

ونصب عبدالملك رأس مصعب بمصر ثم رده فنصبه بدمشق فأخذته عاتكة

ص: 213

بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته.

ونصب عبدالملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمي بدمشق.

ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضی الله عنه وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان.

ونصب يزيد بن عبدالملك رأس عبدالله بن موسى بن نصير وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم.

ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ما يلي باب الفراديس، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق.

ونصب أبو العباس أميرالمؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة. ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبدالعزيز بن مروان، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد.

وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر، ثم بعث به إلى خراسان وأمه زينب بنت عبدالله بن الحسن. ونصب طاهر بن الحسين بن مصعب رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد على باب بستان مؤنسة ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك.

وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان برأس علي بن أبي سعيد ورأس عبدالعزيز بن عمران الطائي ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك. ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ببغداد.

ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد على باب العامة، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ).

المسألة السادسة: روى في مناقب آل أبي طالب: 1/381: (لما أدرك علي (علیه السلام) عمرو بن عبد ود لم يضربه، فوقعوا في علي (علیه السلام) فرد عنه حذيفة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته، ثم إنه ضربه، فلما جاء سأله النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 214

عن ذلك فقال: قد كان شتم أمي وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثم قتلته في الله).

وقد يشكل على ذلك بأن علياً (علیه السلام) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه (علیها السلام).

لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم (علیه السلام) في التقرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوى، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير، فتركه الإمام (علیه السلام) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله.

المسألة السابعة: من نبل أميرالمؤمنين (علیه السلام) أنه ترفع عن سلب عمرو، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم! قال في مناقب آل أبي طالب: 1/384:

(لما أردى (علیه السلام) عمرواً قال عمرو: يا ابن عم إن لي إليك حاجة، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه، فقال:ذاك أهون علي، وفيه يقول (علیه السلام):

وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني

كنتُ المقطر بَزَّني أثوابي

محمد بن إسحاق: قال له عمر: هلا سلبت درعه فإنها تساوي ثلاثة آلاف، وليس للعرب مثلها ؟ قال: إني استحييت أن أكشف ابن عمي.

وروي أن أخت عمرو جاءت ورأته في سلبه، فلم تحزن، وقالت: إنما

قتله كريم.

وقال (علیه السلام): يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي، أراد لا تسلب قتلاي من البغاة.

إن الأسود أسود الغاب همتها

يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وفي تاريخ الخميس للديار بكري: 1/488: (ورويَ أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت: ما قتله إلا كفؤ كريم، ثم سألت عن قاتله قالوا: علي بن أبي طالب، فأنشأت هذين البيتين..)

فنلاحظ أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه، بينما ظل عمر يلومه على ذلك، ولعل علياً (علیه السلام) منع عمر من سلبها، ويظهر أن أخت عمرو

ص: 215

جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه، فشهدت بنبل علي (علیه السلام).

فسبب عدم سلبه لعمرو أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت، فهي أعذار مكملة.

المسألة الثامنة: عمرو بن عبد ود قرشي من بني عامر بن لؤي، وهم أقل درجة من بني كعب بن لؤي، ابن هشام:2/489.

وعدوه ثالث شجعان قريش، أي بعد بني عبدالدار وعتبة بن ربيعة، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين: سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء الحاكم:3/189 وعمير بن أبي وقاص: الإستيعاب:3/1221.

قال الحاكم: 3/32: (قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، ولم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده ).

ص: 216

الفصل الثاني والخمسون: غزوة بني قريظة

1- بنو قريظة آخر من أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) من يهود المدينة

كان بنو قينقاع أول اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله)، فأجلاهم عن المدينة، وكانوا صاغة ولهم سوق ذهب قرب المدينة. وكان بنو قريظة ملاصقين للمدينة شرقي قباء «حرة قريظة» وبساتينهم في وادي مهزور، وبساتين النضير في وادي بطحان، وهما أخصب أودية المدينة. معجم البلدان: 1/446.

وكانت قريظة والنضير أبناء عم لأنهم من ذرية هارون (علیه السلام) لذا أخذ الحاخام حیي بن أخطب رئيس بني النضير يلح عليهم أن ينقضوا عهدهم مع النبي حتى نقضوه وأعلنوا تحالفهم مع الأحزاب الذين كانوا يحاصرون المدينة.

وكانت الخطة أن تهاجم قريظة المدينة من شرقها، والأحزاب من غربها فيحتلوها! لكن قريظة طلبت من الأحزاب رهائن، حتى لاينسحبوا ويتركوهم وحدهم في مواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يعطوهم، حتى كانت هزيمة الأحزاب!

وما إن رجع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة، حتى نزل جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة.

2- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أمامه فحاصر بني قريظة

روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) خرج لغزوة قريظة يوم السبت لأيام مضت من ذي القعدة وحاصرهم خمساً وعشرين يوماً. المحبر/113 و البلاذري: 1/374.

ص: 217

وروى في قرب الإسناد/157، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث علياً يوم بني قريظة بالراية وكانت سوداء تدعى العقاب، وكان لواؤه أبيض».

وفي بصائر الدرجات/342، عن ابن أبي يعفور قال قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): «إنا نقول إن علياً (علیه السلام) كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه. فقال: إن علياً (علیه السلام) كان محدَّثاً. قلت: فيكم مثله؟ قال: إن علياً (علیه السلام) كان محدثاً، فلما أن كررت عليه قال: إن علياً يوم بني قريظة والنضيركان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره يحدثانه»!

وقال في إعلام الورى: 1/194: «وأصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) «بعد الخندق» بالمسلمين حتى دخل المدينة، فضربت ابنته فاطمة (علیها السلام) غسولاً حتى تغسل رأسه، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء عليه قطيفة من استبرق، معلق عليها الدر والياقوت عليه الغبار، فقام رسول (صلی الله علیه و آله) فمسح الغبار عن وجهه، فقال له جبرئيل: رحمك ربك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء!ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء! ثم قال جبرئيل: إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة!

فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) فقال: قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة وقال: عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة. فأقبل علي (علیه السلام) ومعه المهاجرون وبنو عبدالأشهل وبنو النجار كلها لم يتخلف عنه منهم أحد، وجعل النبي (صلی الله علیه و آله) يُسَرِّب إليه الرجال، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء، فأشرفوا عليه وسبُّوه وقالوا: فعل الله بك وبابن عمك، وهو واقف لايجيبهم، فلما أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمون حوله تلقاه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقال: لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك فإن الله سيجزيهم، فعرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنهم قد شتموه، فقال: أما إنهم لو رأوني ما قالوا شيئاً مما سمعت! وأقبل ثم قال: يا إخوة القردة، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين! ياعباد الطاغوت إخسؤوا أخساكم الله! فصاحوا يميناً وشمالاً: يا أبا القاسم ما كنت «سباباً» فما بدا لك؟

قال الصادق (علیه السلام): فسقطت العنزة من يده، وسقط رداءه من خلفه، ورجع يمشي

ص: 218

إلى ورائه حياءً مما قال لهم! فحاصرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ».

وفي الإرشاد: 1/109: «قال علي (علیه السلام): فاجتمع الناس إلي وسرت حتى دنوت من سورهم، فأشرفوا علي فحين رأوني صاح صائح منهم: قد جاءكم قاتل عمرو.. وسمعت راجزاً يرجز:

قتل عليٌّ عمراً صاد علي صقرًا.. قصم علي ظهراً.. أبرم علي أمراً.. هتك علي ستراً!

فقلت: الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) قال لي حين توجهت إلى بني قريظة: سر على بركة الله، فإن الله قد وعدك أرضهم وديارهم. فسرت مستيقناً لنصر الله عزوجل، حتى ركزت الراية في أصل الحصن. وأقام النبي (صلی الله علیه و آله) محاصراً لبني قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم سعد بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء، وقسمة الأموال. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». أي حكم بقتل المقاتلين والمحرضين على النبي (صلی الله علیه و آله) فقط.

وفي الصحيح من السيرة: 11/71، ما حاصله: «أن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل على بئر من آبارهم في أول أرض بني قريظة عند بئر يقال لها: «أنا» وربط دابته بالسدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان وضرب قبته هناك، وشرب من البئر، وصلى في المسجد الذي هناك،وتلاحق به الناس وحصلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كرامة حيث لم يكن للمسلمين معسكر ينزلون فيه فقال: ما لكم لا تنزلون! فقالوا: ما لنا مكان ننزل به من اشتباك النخل، فوقف في طريق بين النخل فأشار بيده يمنة ثم يسرة، فانضم النخل بعضه إلى بعض، واتسع لهم الموضع فنزلوا».

3- بطولة علي (علیه السلام) في قريظة، ونزول جبرئیل بإمرة المؤمنین له

في الصحيح من السيرة: 11/90، ملخصاً: «نجد الزبير بن بكار يذكر لنا في كتاب المفاخرات نصاً يفيد أن النبي (صلی الله علیه و آله) قد بعث إلى بني قريظة أكابر أصحابه

ص: 219

فهزموا، فبعث علياً (علیه السلام) فكان الفتح على يديه، تماماً كالذي جرى في خيبر! فقد روى الزبير بن بكار مناظرة بين الإمام الحسن (علیه السلام) وبين عمرو بن العاص والوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفیان، والمغيرة بن شعبة، عند معاوية، فكان مما قاله لهم الإمام الحسن (علیه السلام): وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا، فبعث علياً (علیه السلام) بالراية فاستنزلهم على

حكم الله وحكم رسوله (صلی الله علیه و آله). وفعل في خيبر مثلها؟!

في الإحتجاج: 1/97: احتجاج خالد بن سعيد بن العاص على أبي بكر أيام السقيفة: «قال: إتق الله يا أبابكر، فقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال ونحن محتوشوه يوم

بني قريظة حين فتح الله له باب النصر،وقد قتل علي بن أبي طالب (علیه السلام) يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ومودعكم أمراً فاحفظوه: ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربي.

ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم شراركم! ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي. اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي، يدركون به نور الآخرة. اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي، فاحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض».

أقول: لاحظ أن نخبة فرسان قريظة خرجوا من حصنهم بعد اليوم الثالث وبارزوا، فبرز اليهم علي (علیه السلام) وقتلهم! ولكن رواة السلطة لم يذكروا ذلك، وما رواه أتباع أهل البیت (علیهم السلام) من ذلك أبادته السلطة فيما أبادت ولم يصل الينا!

4- قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ

قال ابن هشام: 3/720: «إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان! وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن

ص: 220

حصنهم، فقالوا: يامحمد ننزل على حكم سعد».

«فقال كعب بن أسد: يا معشر بني قريظة: والله إنكم لتعلمون أن محمداً

نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل، فهو حيث جعله الله! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعني حیي بن أخطب علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا! لايستبقي محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟! قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة،ونكون تبعاً لغيرنا». الواقدي: 2/501.

وفي المناقب: 1/172: «فحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة فقال كعب بن أسد: يا معشر اليهود نبايع هذا الرجل وقد تبين أنه نبي مرسل، قالوا: لا، قال: فنقتل أبناءنا ونساءنا ونخرج إليه مُصْلِتين، قالوا: لا، قال: فنثب عليه وهو يأمن علينا لأنها ليلة السبت، قالوا: لا. فاتفقوا على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.. فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً، وقسم الأموال واسترق الذراري».

وفي الصحيح من السيرة: 11/10: «وجاؤوا بالأسرى إلى المدينة وجعلوهم في دار أسامة بن زيد ودار بنت الحارث..وكان عدد السبي من الذراري والنساء سبع مئة وخمسين، وقيل كانوا تسع مئة.ويظهر من النصوص أن بني قريظة لم يقتلوا كلهم، بل قتل منهم خصوص من حزَّبَ على النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين. ثم جمعت أمتعتهم وأخرج الخمس منها، ثم قسمت للفارس سهمان وللرجل سهم واحد، وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرساً، أو ثمانية وثلاثين. أما السبي فبيع

ص: 221

في من يزيد، ثم قسم ثمنه في المسلمين المشاركين في هذه الغزوة، وبعث (صلی الله علیه و آله) ببعض السبي إلى نجد أو الشام فبيع هناك واشتري سلاح وخيل».

أقول: روى ابن هشام: 3/725 والبيهقي: 9/139 «أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث بسبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بهن خيلاً وسلاحاً»! فكأن الله أراد أن يجعل النجديين أبناء يهوديات، فيبتلي بهم المسلمين!

وقال اليعقوبي: 2/52: «فانصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم، فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس،وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً».

5- المسلمون الأربعة من بني قريظة

نزل أربعة أشخاص من حصون بني قريظة والتحقوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأسلموا، وهم ثلاثة إخوة: أسيد وأسد وثعلبة، أبناء سعية، وعمهم أسد بن عبيد. وقالوا لقريظة في أيام حصار النبي (صلی الله علیه و آله) لهم: «يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وإن صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا وعلماء بني النضير، هذا أولهم يعني حیي بن أخطب مع جبير بن الهيبان، أصدق الناس عندنا، هو خبَّرنا بصفته عند موته. قالوا: لا نفارق التوراة. فلما رأی هؤلاء النفر إباءهم، نزلوا في الليلة التي نزلت قريظة فأسلموا، فأمنوا على أنفسهم، وأهلهم، وأموالهم.. و لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير بل كانوا فوق ذلك. وهم نفر من هدل من بني عم قريظة، وليس من هذيل كما في بعض المصادر.. وكان سبب إسلامهم أن ابن الهيبان من يهود الشام قدم على بني قريظة فأقام عندهم، وكان يستسقي لهم أيام القحط فيسقون فحضرته الوفاة، فأخبرهم أن سبب خروجه إلى يثرب هو أنه يتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، مهاجره المدينة ليتبعه، ثم أوصاهم باتباعه». وقد شكك في الصحيح: 11/101 في خبرهم ولم ينفه، والظاهر أنه صحيح، فقد ذكره ابن إسحاق: 2/64، ابن هشام: 1/138 و 3/719، الطبري: 2/248، الدرر/179،وغيرهم.

ص: 222

6- أبو لبابة يخون النبي (صلی الله علیه و آله) ثم يتوب

أبو لبابة بن عبدالمنذر، أنصاري أوسي، كان طرف التحالف مع بني قريظة، وكان بيته قربهم وكانوا يحبونه، فلما حاصرهم النبي (صلی الله علیه و آله) وأخذ يفاوضهم طلبوا أن يرسله اليهم ليستشيروه، فأرسله فحذرهم من القبول بحكم سعد!

وروى المفسرون أن قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ... وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.. خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «الأنفال: 27و102-103». «نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما حاصر بني قريظة قالوا له إبعث الينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أبا لبابة إئت حلفاءك ومواليك فأتاهم فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى تنزل على حكم محمد؟ فقال إنزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه، ثم ندم على ذلك فقال خنت الله ورسوله! ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومر إلى المسجد وشد في عنقه حبلاً ثم شده إلى الأسطوانة التي تسمى أسطوانة التوبة، وقال لا أحله حتى أموت أو يتوب الله عليَّ، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به.وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به رمقه، فكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحله عند قضاء الحاجة، فلما كان بعد ذلك ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبته فقال يا أم سلمة، قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت يا رسول الله أفأوذنه بذلك؟ فقال لتفعلن، فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت: يا أبا لبابة أبشر لقد تاب الله عليك، فقال الحمد لله فوثب المسلمون ليحلوه فقال: لا والله حتى يحلني رسول الله! فجاء رسول الله فقال يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك، فقال يا رسول الله أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبثلثيه؟ قال: لا، قال فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال نعم. فأنزل الله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ». تفسير القمي: 1/303 وابن هشام: 3/718.

ص: 223

وفي من لايحضره الفقيه: 2/570: «إن كان لك بالمدينة مقام ثلاثة أيام، صمت يوم الأربعاء وصليت ليلة الأربعاء عند أسطوانة التوبة، وهي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه إليها، وتقعد عندها يوم الأربعاء ثم تأتي ليلة الخميس الأسطوانة التي تليها مما يلي مقام النبي فتقعد عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الخميس، ثم تأتي الأسطوانة التي تلي مقام النبي (صلی الله علیه و آله) ومصلاه ليلة الجمعة فتصلي عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الجمعة. وإن استطعت أن لا تتكلم بشئ هذه الأيام إلا بما لابد منه، ولا تخرج من المسجد إلا لحاجة، ولاتنام في ليل ولانهار إلا القليل، فافعل».ونحوه كامل الزيارات/66.

وفي تفسير أبي حمزة الثمالي/192: «بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو لبابة بن عبدالمنذر، وثعلبة بن وديعة، وأوس بن حزام، تخلفوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه، أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أؤمر فيهم بأمر، فلما نزل: عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، عمد رسول الله إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا قال (صلی الله علیه و آله): ماأمرت فيها فنزل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا..الآيات».

وفي تفسير العياشي: 2/116، عن الإمام الصادق (علیه السلام)، أن أبا لبابة كان أحد الثلاثة الذين خلفوا. وفي تفسير الثعالبي: 3/210: «وقالت فرقة عظيمة: بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك».

وقد توقف في الصحيح من السيرة: 11/10، في قصة أبي لبابة.ويبدو أن القصة حدثت مرة لأبي لبابة وحده، ثم كررها مع من تخلفوا معه عن غزوة تبوك، وكانوا حسب الآية ثلاثة، وفي راوية أنهم كانوا بضعة عشر شخصاً غير أبي لبابة.

ص: 224

7- قصة أبي لبابة دليل على أفضلية التوسل

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما بلغه أن أبا لبابة ربط نفسه بأسطوانة المسجد تائباً: «أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به». وهو يدل على وجود طريقين لدعاء الله تعالى: مباشر، وبالتوسل بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأن طريق التوسل أسرع.

قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا. النساء:64.

وهوكقوله تعالى لإبراهيم (علیه السلام): وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ. يشمل المجئ إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) في حياته، والمجئ إلى قبره الشريف بعد وفاته. كما يشمل المجيئ إلى إبراهيم (علیه السلام) بالحج والعمرة.

ففي الكافي: 4/550: «ثم تأتي قبر النبي (صلی الله علیه و آله) ثم تقوم فتسلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم تقوم عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر عند زاوية القبر وأنت مستقبل القبلة ومنكبك الأيسر إلى جانب القبر ومنكبك الأيمن مما يلي المنبر، فإنه موضع رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقول..اللهم إنك قلت: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ..وإني أتيت نبيك مستغفراً تائباً من ذنوبي وإني أتوجه بك إلى الله ربي وربك ليغفرلي ذنوبي».

وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. «المائدة: 35»، وهي أمر بالتوسل تشمل التوسل بالأعمال الصالحة، وبالأنبياء والأوصياء والأولياء: ففي تفسير القمي: 1/168: «اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة َ. فقال: تقربوا إليه بالإمام».

وروى الطرفان عن عائشة في علي (علیه السلام) والخوارج«شرح الأخبار: 1/141»: قالت سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «هم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم إلى الله وسيلة».

الى آخر ما ورد في التوسل من الآيات والأحاديث، وهي تدل على أن التوسل أفضل من الطلب بدونه، فالقول بأنه ينافي التوحيد جهالة، ورفض الوهابية التوسل مخالف لعقائد الإسلام، كفرض المشركين التوسل بأصنامهم.

ص: 225

8- حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية

حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي (صلی الله علیه و آله) فنقضوا عهدهم ومزقوه، وانضموا إلى الأحزاب، بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي (صلی الله علیه و آله) ويعطونهم المال، وكان أبرز الناشطين الحاخام حیي بن أخطب.

ففي تفسير القمي: 2/191والواقدي: 1/514: «ثم قدم حیي بن أخطب فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك؟فقال: والله يا محمد! ما ألوم نفسي في عداوتك، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد، ولكن من يخذل الله يخذل! ثم قال حين قدم للقتل:

لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يُخذلِ

فقدم فضرب عنقه».

وفي الإمتاع: 4/206: «فإنهم نقضوا العهد، وحزبوا الأحزاب، وجمعوا وحشدوا، وأظهروا له العداوة، بعد ما هموا بإلقاء الرحی عليه، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه».

وإنما قتل النبي (صلی الله علیه و آله) منهم من عمل في نقض العهد وساعد الأحزاب لما حاصروا المدينة.

9- دراسة عمر عند بني قريظة وعلاقته الوطيدة معهم

كان بيت عمر بعيداً عن مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) فقد سكن في العوالي قرب بني قريظة ولبعد المسافة كان يذهب بين يوم وآخر! قال عمركما في البخاري: 1/31: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم..».

وكان يحضر دروس بني قريظة في كنيسهم، قال«إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم، فقالوا: ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك، لأنك تأتينا»! الدر المنثور: 1/90، عن مسند ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم.

ص: 226

وطمع اليهود بعمر فعرَّبوا بعض التوراة وأخذها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليعترف بها! قال عمر: «يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟قال فتغير وجه رسول الله..الحديث، وفيه: والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم».«فتح الباري: 13/438». لكن عمر أصر وجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ثانيةً فقال: «يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق!فتغير وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عبدالله بن زيد الذي أري الأذان: أمَسَخَ الله عقلك؟ ألاترى الذي بوجه رسول الله! فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً»! مجمع الزوائد: 1/174.

ثم جاءه ثالثة فقال: «انطلقت في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أتيت خيبر فوجدت يهودياً يقول قولاً فأعجبني فقلت: هل أنت مكتبي بما تقول؟ قال: نعم، فأتيته بأديم فأخذ يملي علي فلما رجعت قلت: يا رسول الله إني لقيت يهودياً يقول قولاً لم أسمع مثله بعدك! فقال: لعلك كتبت منه؟ قلت: نعم قال: إئتني به، فانطلقت فلما أتيته قال: أجلس إقراه فقرأت ساعة ونظرت إلى وجهه فإذا هو يتلون فصرت من الفرق لا أجيز حرفاً منه، ثم رفعته اليه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً يمحوه بريقه وهو يقول: لاتتبعوا هؤلاء فإنهم قد تهوكوا حتى محا آخر حرف» كنز العمال: 1/370.

وجاءه مرة رابعة: «أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال أمتهوكون فيها يابن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية! لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به!والذي نفسي بيده لو أن موسى كان فيكم حياً ما وسعه إلا أن يتبعني».مجمع الزوائد: 1/174.

وجاءه مرة خامسة: «مر برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب قال نعم فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه

ص: 227

فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي».الدارمي: 1/115 والدر المنثور: 2/48 و 5/148.

وجاء مرة سادسة ليجيزه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدرس التوراة عند اليهود فقال له: «لاتتعلمها وآمن بها وتعلموا ما أنزل اليكم وآمنوابه». الدر المنثور 5/148.

وجاءه مرة سابعة قال عمر: «يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها! فقال: يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً»! الدر المنثور: 5/ 148.

وفي مرة ثامنة ساعدت حفصة أباها: «جاءت إلى النبي بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه فقال: والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم»عبدالرزاق: 11/110.

 

ومع ذلك استمر عمر مع مجموعته بالحضور عند اليهود، حتى رآه النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً يحمل كتاباً فقال له: «ما هذا في يدك يا عمر؟! فقلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم، السلاح السلاح! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون! قال عمر: فقمت فقلت رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً». الزوائد: 1/ 173. راجع تدوين القرآن للمؤلف/416.

واتفق النبي (صلی الله علیه و آله) مع عروة بن مسعود أن يحرك قريظة لطلب رهائن من قريش كشرط لهجومهم فقال عمر: «يا رسول الله، أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم!فقال: الحرب خدعة يا عمر»! السير الكبير: 1/121.

وعندما اتفق معهم النبي (صلی الله علیه و آله) على أن ينزلوا على حكم سعد، كان عمر حاضراً وكان يسمع تحرق سعد للإنتقام منهم، فأرسل لهم إشارة أن لايقبلوا بحكم سعد لكنهم لم

ص: 228

يفهموا إشارته لأنه كانوا مرعوبين! قال أحمد بن حنبل في مسنده:6/142: «وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى سعد بن معاذ فأتيَ به على حمار عليه أكاف من ليف، قد حُمل عليه وحَف به قومه.. فلما طلع على رسول الله قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عزوجل». وصحيح ابن حبان: 15/500 والطبقات: 3/423.

وفي أخبار الدولة العباسية/214: «قوموا إلى سيدكم، فقال عمر بن الخطاب: الله سيدنا ورسوله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وسعد سيدك يا عمر»!

أقول: في قوله (صلی الله علیه و آله) إن سعد سيدك أنت أيضاً يا عمر، إشارة إلى أن عمر معهم!

ص: 229

الفصل الثالث والخمسون: غزوة بني المصطلق أو الُمريسيع

1- خلاصة الغزوة

بنو المُصْطَلِق بن سعد: بطن من خزاعة أقرب إلى الحضريين، وكانت خزاعة تغلبت على مكة، حتى أخرجهم قصي جد النبي (صلی الله علیه و آله). «الكافي: 4/219». والمُرَيْسِيع: ماء لهم قرب الفرع بناحية بدر وقديد من ساحل البحر. معجم البلدان: 5/118ومعجم قبائل العرب:1/5 و338.

وكانت خزاعة حليفة لعبدالمطلب وبني هاشم، وكان بنو المصطلق وبنو الهون من خزاعة حلفاء بني أمية. «معجم البلدان: 6/278». وقد شاركوا في حرب الأحزاب بقيادة يزيد بن الحليس. «تفسير مقاتل: 3/41». ولا يبعد أن يكون أبوسفيان حرَّكهم لغزو المدينة فبلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فغزاهم قبل أن يكملوا استعدادهم لحربه!

ففي إعلام الورى: 1/196: «ثم كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي الضرار، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهي غزوة المريسيع وهو ماء، وقعت في شعبان سنة خمس».

«وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار، دعا قومه ومن قدر عليه من العرب، إلى حرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأجابوه وتجمعوا، وابتاعوا خيلاً وسلاحاً، وتهيؤوا للحرب والمسير معه، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليتحقق ذلك، فأتاهم ولقي الحارث وكلمه مظهراً أنه منهم، وقد سمع بجمعهم ويريد الإنضمام بقومه ومن أطاعه

ص: 230

إليهم، وعرف منهم صدق ما بلغهم عنهم، فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بأنهم يريدون الحرب. فلما أخبر بريدة النبي (صلی الله علیه و آله) بصحة ما بلغه دعا الناس فأسرعوا الخروج، فخرج معه سبع مئة، ومعهم ثلاثون فرساً، منها عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار».

«وكان شعار المسلمين يومئذ: يا منصور أمت أمت، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه فحملوا على الكفار حملة واحدة فقتل منهم عشرة، وأسر الباقون، ولم يفلت منهم أحد، وسبوا الرجال والنساء والذراري، وأخذوا الشاء والنعم، وكانت الإبل ألفي بعير والشاء خمسة آلاف، والسبي مائتي أهل بيت.

قال الحلبي: واستعمل على الغنائم شقران، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. وبعث (صلی الله علیه و آله) أبا نضلة أو أبا ثعلبة أو أبا نملة الطائي، بشيراً إلى المدينة بفتح المريسيع. ولما رجع المسلمون بالسبي قدم أهاليهم فافتدوهم».

«وكانت غيبته (صلی الله علیه و آله) في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوماً. وقدم المدينة لهلال شهر رمضان المبارك. وكانت هذه الغزوة ضربة موفقة لقريش، أسفرت عن نتائج حاسمة. في منطقة كانت إلى الأمس القريب تقع في نطاق النفوذ المكي». الصحيح من السيرة:11/284، 287، 290 و291.

وروى في المناقب: 1/92: «كان يتفجر الماء من بين أصابعه (صلی الله علیه و آله) لما وضع يده فيها حتى شرب الماء الجيش العظيم، وسقوا وتزودوا في غزوة بني المصطلق. وفي رواية علقمة بن عبدالله أنه وضع يده في الإناء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فقال: حي على الوضوء والبركة من الله، فتوضأ القوم كلهم.

وفي حديث أبي ليلى: شكونا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) من العطش، فأمر بحفرة فحفرت فوضع عليها نطعاً ووضع يده على النطع، وقال: هل من ماء؟ فقال لصاحب الإداوة: صب الماء على كفي واذكر اسم الله ففعل، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى رويَ القوم وسقوا ركابهم».

ص: 231

2- علي (علیه السلام) صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح

قال المفيد في الإرشاد: 1/118: «ثم كان من بلائه (علیه السلام) ببني المصطلق ما اشتهر عند العلماء، وكان الفتح له (علیه السلام) في هذه الغزاة، بعد أن أصيب يومئذ ناس من بني عبدالمصطلق، فقتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) رجلين من القوم وهما مالك وابنه وأصاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين. وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وكان الذي سبا جويرية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فجاء بها إلى النبي فاصطفاها، فجاء أبوها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بعد إسلام بقية القوم فقال: يا رسول الله إن ابنتي لاتسبى، إنها امرأة كريمة. قال: إذهب فخيرها، قال: أحسنت وأجملت، وجاء إليها أبوها فقال: يا بنية لاتفضحي قومك! فقالت له: قد اخترت الله ورسوله. فقال لها أبوها: فعل الله بك وفعل، فأعتقها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعلها في جملة أزواجه».

«فلما سمع القوم ذلك، أرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها». المناقب: 1/173.

«قال ابن إسحاق: وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه، وقتل عبدالرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم يقال له أحمر أو أحيمر. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أصاب منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين». ابن هشام: 3/761 والطبري: 2/263.

وفي دعائم الإسلام: 1/370، عن علي (علیه السلام) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «لايغزى قوم حتى يُدْعَوْا، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن، وإن قوتلوا قبل أن يُدْعَوْا إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فلا حرج. وقد أغار رسول الله (صلی الله علیه و آله) على بني المصطلق وهم غارُّون، يعني غافلون، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ولم يدعهم في الوقت. قال علي صلوات الله عليه: قد علم الناس اليوم ما يُدْعَوْنَ إليه».

ص: 232

3- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) لقتال الجن

في منهاج الكرامة/171: «مارواه الجمهور من أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما خرج إلى بني المصطلق جَنَبَ عن الطريق وأدركه الليل، فنزل بقرب واد وعر، فهبط جبرئيل آخر الليل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعلي (علیه السلام) وعوذه، وأمره بنزول الوادي فقتلهم (علیه السلام)».

وفي الإرشاد: 1/339: «فدعا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وقال له: إذهب إلى هذا الوادي، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عزوجل، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها. وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم: كونوا معه وامتثلوا أمره. فتوجه أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى الوادي فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم.

ثم تقدم فوقف على شفير الوادي، وتعوذ بالله من أعدائه، وسمى الله عزوجل وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه فقربوا، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم! فصاح أميرالمؤمنين: أنا علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب وصيُّ رسول الله وابن عمه، أثبتوا إن شئتم! فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط تخيل في أيديهم شعل النار قد اطمأنوا بجنبات الوادي، فتوغل أميرالمؤمنين (علیه السلام) بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً، فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود، وكبَّر أميرالمؤمنين (علیه السلام) ثم صعد من حيث انهبط، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه.فقال له أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لقيت يا أبا الحسن؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك أكثر مما لحقنا. فقال لهم: إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عزوجل فتضاءلوا، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم وقد

ص: 233

كفى الله كيدهم، وكفى المسلمين شرهم، وسبقني بقيتهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يؤمنون به.

وانصرف أميرالمؤمنين بمن تبعه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره الخبر، فسري عنه ودعا له بخير، وقال له: قد سبقك يا علي إلي من أخافه الله، فأسلم وقبلت إسلامه. ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين!

ثم قال المفيد: «وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئاً منه.. ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب من الخبر بملاقاة أميرالمؤمنين (علیه السلام) الجن وكفه شرهم عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه، ويتضاحك لذلك وينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة، ويصنع مثل ذلك في الأخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته (علیه السلام) ويقول: إنها من موضوعات الشيعة، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب. وهذا بعينه مقال الزنادقة وكافة أعداء الإسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن وإسلامهم...

فلينظر القوم ما جنوه على الإسلام بعداوتهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته على ما ضاهوا به أصناف الزنادقة والكفار، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات».

ورواه في الخرائج: 1/102و203 وفيه: أنه بعث علياً (علیه السلام) فحارب الجن الذين كانوا يمنعونهم من الإستقاء من البئر واستقى المسلمون. وإعلام الورى: 1/352 والمناقب: 1/358.

4- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من جويرية بنت الحارث

قال العلامة الحلي في كشف اليقين/136: «وفي غزاة بني المصطلق: كان الفتح له. وقتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) مالكاً وابنه، وسبى جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فاصطفاها النبي (صلی الله علیه و آله) لنفسه. فجاء أبوها بعد ذلك وقال: يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى، إنها امرأة كريمة. قال: إذهب وخيِّرها. قال: لقد أحسنت وأجملت. فاختارت الله

ورسوله فأعتقها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجعلها في جملة أزواجه».

وفي إعلام الورى: 1/196: «قالت جويرية بنت الحارث زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتانا

ص: 234

رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن على المريسيع، فأسمع أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به! قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله عزوجل يلقيه في قلوب المشركين. قالت: ورأيت قبل قدوم النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فأعتقني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتزوجني».

وفي سيرة ابن إسحاق: 5/245: «فلما دخلت عليه قالت: يا رسول الله أنا جويرية ابنة الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك؟ فقالت: نعم، ففعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فبلغ الناس أن رسول الله تزوجها، فقالوا أصهار رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فلقد أعتق بها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على أهل بيت منها...كانت جويرية من ملك يمين رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعتقها واستنكحها وجعل مهرها عتق كل مملوك من بني المصطلق».

5- تنظيم الخمس لبني هاشم، والصدقات والفئ للمسلمين

في الصحيح من السيرة: 11/289، عن الواقدي والبلاذري: «أخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخمس من جميع المغنم، وجعل عليه محمية بن جزء الزبيدي وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفئ بمعزل عن الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن الفئ. وكان يعطي الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفئ، وأخرج من الصدقة ووجب عليه الجهاد، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئاً، وخلوا بينه وبين أن يكتسب لنفسه...

وقسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الغنائم وأخذ صفيه قبل القسم، ثم جزأ الغنائم خمسة أجزاء،

ص: 235

ثم أقرع عليها، ولم يتخير، فأخرج الخمس وأخذ سهمه مع المسلمين لنفسه وفرسه، وكان له (صلی الله علیه و آله) صفيٌّ من المغنم حضر أو غاب قبل الخمس: عبدٌ، أو أمةٌ، أو سيفٌ، أو درع».

6- ابن سلول وسورة المنافقين!

في تفسير القمي: 2/368: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.. نزلت في غزوة المريسع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلاً فيها، وكان أنس بن سيار حليف الأنصار، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب، فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو ابن سيار بدلو جهجاه، فقال سيار دلوي وقال جهجاه دلوي، فضرب جهجاه يده على وجه ابن سيار فسال منه الدم، فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش، وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة، فسمع عبدالله بن أبيّ النداء فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضباً شديداً ثم قال: قد كنت كارهاً لهذا المسير، إني لأذلُّ العرب، ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكون عندي تغيير! ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالاً على غيركم!

ثم قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاماً قد راهق وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فجاء زيد فأخبره بما قال عبدالله ابن أبيّ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لعلك وهمت يا غلام؟ فقال: لا، والله ما وهمت! فقال: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا ما غضبت عليه! قال: فلعله سفه عليك؟ فقال: لا والله! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لشقران مولاه: أخرج، فأخرج أحدج راحلته وركب، وتسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليرحل في مثل هذا الوقت! فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! فقال: وعليك

ص: 236

السلام! فقال: ما كنت لترحل في هذا الوقت؟ فقال: أوما سمعت قولاً قاله صاحبكم؟ قالوا: وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال عبدالله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ! فقال: يا رسول الله، فأنت وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل، فسار رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومه كله لا يكلمه أحد، فأقبلت الخزرج على عبدالله بن أبيّ يعذلونه فحلف عبدالله أنه لم يقل شيئاً من ذلك، فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه، فلوى عنقه! فلما جن الليل سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليله كله والنهار، فلم ينزلوا إلا للصلاة، فلما كان من الغد نزل رسول الله ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم.

فجاء عبدالله بن أبي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلف عبدالله أنه لم يقل ذلك، وأنه ليشهد أنه لا إله إلا الله وأنك لرسول الله، وأن زيداً قد كذب عليَّ! فقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) منه، وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له كذبت على عبدالله سيدنا! فلما رحل رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبدالله بن أبي، فما سار إلا قليلاً حتى أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي عليه، فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسريَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يسكب العرق عن جبهته، ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال: يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآناً! فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ..الى قوله: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايَعْلَمُون َ. ففضح الله عبدالله بن أبيّ... قال: وإن ولد عبدالله بن أبي أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال يا رسول الله إن كنت عزمت على قتله فمرني أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الأوس والخزرج أني أبرهم ولداً بوالديَّ، فإني أخاف أن تأمر غيري فيقتله فلاتطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل عبدالله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بل نحسن صحبته ما دام معنا!

ص: 237

وفي مجمع البيان: 10/23: «وكان عبدالله بن أبيّ بقرب المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبدالله بن عبدالله بن أبيّ حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فقال: مالك ويلك! قال: والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل! فشكا عبدالله ابنه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأرسل إليه أن خلِّ عنه يدخل. فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنعم. فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات! فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبدالله قيل له: نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد! فنزل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا.. إلى قوله: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايَعْلَمُونَ». وأسباب النزول/288. وشبيه به تفسير القمي: 2/371.

ومن كرم أخلاق النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم طلبوا منه قميصه ليكفنوا فيه عبدالله بن أبي المنافق فأعطاهم، وقيل لأنه كان أعطى قميصه للعباس لما كان أسيراً.

وطلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يصلي عليه فصلى عليه، فاعترض عليه عمر بخشونة فزجره النبي (صلی الله علیه و آله). وقد عقد البخاري في صحيحه أبواباً روى فيها فضيلة اعتراض عمر على النبي (صلی الله علیه و آله) وزعم أن الوحي نزل موافقاً لعمرمخطئاً للنبي (صلی الله علیه و آله) ! وقد اعترف أن عمر وثب اليه ووقف أمامه وجذبه من ثوبه، ليمنعه من الصلاة على الجنازة وقال له: أليس نهاك الله عن هذا! فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: أخِّر عني يا عمر! فقال البخاري إن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يغضب منه بل ارتاح وتبسم له!

قال البخاري: 2/76: «جاء ابنه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه النبي (صلی الله علیه و آله) قميصه فقال: آذنِّي أصلي عليه فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين! فقال أنا بين خيرتين، قال الله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ».

وقال عمر كما في البخاري: 2/100: «وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبيّ، وقد قال يوم كذا وكذا، كذا وكذا، أعدِّد عليه قوله، فتبسم رسول الله وقال: أخِّر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خُيِّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين

ص: 238

فغفر له لزدت عليها! قال: فصلى عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت: وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً».

وفي مصادرنا: «ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟ فقال له: ويلك مايريد ربك ما قلت! وما يدريك ما قلت إني قلت: اللهم املأ قبره ناراً! قال الإمام الصادق (علیه السلام): فأبدى [عمر] من رسول الله ما كان يكره».الكافي: 2/188 والدعوات للراوندي/357.

7- هبت ريح عند موت يهودي

وصل النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون في رجوعهم من غزوة المصطلق إلى وادي النقيع وهو أرض معشبة على أربعة فراسخ من المدينة، «البكري: 4/1322»، وقد حماه النبي لخيل المسلمين، «الكافي: 5/277». هناك هاجت ريحٌ قوية آذت المسلمين فخافوا منها،وسألوا النبي (صلی الله علیه و آله) عنها فقال: لاتخافوها، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار! فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، وهو من يهود بني قينقاع، قد مات ذلك يوم هبت الريح. وكان كهفاً أي مرجعاً للمنافقين!

وقال ابن هشام: 2/370 مات معه رجلان من اليهود هما: «سلسلة بن برهام، وكنانة بن صورياء».

وفي الخرائج: 1/102: «فقدمنا المدينة فوجدنا رفاعة بن زيد مات في ذلك اليوم، وكان عظيم النفاق وكان أصله من اليهود».

أقول: تفسيره (صلی الله علیه و آله) تلك الريح بموت أحد كبار الكفار، لاينافي رده لتفسير الناس لخسوف الشمس بموت ولده إبراهيم (علیه السلام)، حيث قال: «يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يجريان بأمره، مطيعان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإن انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا». الكافي: 3/208.

8- ضاعت ناقة النبي (صلی الله علیه و آله) فأرجف المنافقون

في تاريخ الطبري: 2/262، أنه في عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من غزوة المصطلق هبت الريح في أول النهار وسكنت في آخره، فجمع الناس ظهرهم وفقدت راحلة

ص: 239

رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فسعى الرجال لها يلتمسونها فقال رجل من المنافقين هو زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع:«كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته، ألايخبره الذي يأتيه بالوحي؟! فأراد الذين سمعوا منه ذلك أن يقتلوه فهرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) متعوذاً به، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) جبرئيل فأخبره بقول المنافق ومكان ناقته، وأخبر بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه وذلك الرجل يسمع، وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه، ولكن الله أخبرني بقول المنافق ومكان ناقتي، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة. فخرجوا يسعون قِبَلَ الشعب، فإذا هي كما قال فجاؤوا بها! وآمن ذلك المنافق». و الخرائج: 1/102ونحوه قصص الأنبياء للراوندي/307.

9- شبَّه النبي (صلی الله علیه و آله) علياً بعيسى بن مريم (علیهما السلام)

في شرح الأخبار: 2/466: «عن سلمان الفارسي أنه قال: لما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غزوة بني المصطلق تقدم في مقدمة الناس، وأمر علياً (علیه السلام) أن يكون في ساقتهم يحفظهم، فلما وصل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة أتى إلى باب المسجد جلس ينتظر علياً (علیه السلام) لم يدخل منزله، فرأيته يمسح العرق من وجهه،ثم قال: يأتيكم الساعة من هذه الشعبة، وأشار بيده إلى بعض الشعاب رجل أشبه الناس بالمسيح، وهو أفضل الناس بعدي يوم القيامة، وأول من يدخل الجنة!

فجعلنا ننظر إلى الشعب فكان أول من طلع منه علي بن أبي طالب (علیه السلام) ! فلما انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام إليه فاعتنقه وقبل بين عينيه ودخلا فقال قوم من المنافقين: يشبِّه ابن عمه بالمسيح ويمثله به، أفآلهتنا التي كنا نعبدها خير أم علي؟ فأنزل الله عزوجل فيهم: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ». الزخرف: 57-58.

أقول: روت هذا الحديث مصادرنا مستفيضاً، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قاله في أكثر من مناسبة «الكافي: 8/57» وروته بعض مصادرهم. ولا بد أن يكون نزول هذه الآيات ثانية بعد نزولها في مكة، وبعض الآيات نزلت مرات. وفي بعضها أن جبرئيل قال للنبي (صلی الله علیه و آله): يا محمد إقرأ قول الله تعالى كذا..لآيةٍ نزلت سابقاً.

ص: 240

10- الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن!

بعد معركة النبي (صلی الله علیه و آله) مع بني المصطلق دخلوا في الإسلام. وعند موسم زكاتهم أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبضها، فخرجوا لاستقباله فخاف ورجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: رفضوا أداء زكاتهم!

وفي سيرة ابن هشام: 3/763: «فأخبره أن القوم قد هموا بقتله... فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً! فبلغنا أنه زعم لرسول الله أنا خرجنا إليه لنقتله ووالله ما جئنا لذلك. فأنزل الله تعالى فيه وفيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». وتفسير الطبري: 26/160، نحوه شرح الأخبار: 2/120، البيهقي: 9/55، الإستيعاب: 4/1553، والسقيفة للجوهري/128، أسباب النزول/261، اليعقوبي: 2/53.

11- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خالداً فأفسد، فأرسل علياً (علیه السلام) فأصلح

في أمالي الصدوق/237، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة، وكان بينهم وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذوا منه كتاباً، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادی بالصلاة فصلى وصلوا، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه، فأتوا به النبي (صلی الله علیه و آله) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد، فاستقبل القبلة ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! قال: ثم قدم على رسول الله تِبْرٌ ومتاع فقال لعلي (علیه السلام): يا علي، أئت بني جذيمة من بني المصطلق، فأرضهم مما صنع خالد. ثم رفع (صلی الله علیه و آله) قدمه فقال: يا علي، إجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك. فأتاهم علي (علیه السلام) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي، أخبرني بما صنعت. فقال: يا رسول الله،

ص: 241

عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لايعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي، أعطيتهم ليرضوا عني رضی الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». وعلل الشرائع: 2/473، رواه في أمال الطوسي: 498 وفيه: «أرضيتني رضی الله عنك، يا علي أنت هادي أمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة».

أقول: كان ذلك بعد مدة من غزوة بني المصطلق، ولا بد أن هؤلاء ماطلوا في أداء زكاتهم، لأن إسلام خالد بن الوليد كان بعد غزوة بني المصطلق والحديبية.

12-كان بنو المصطلق يماطلون في دفع زكاتهم!

في نوادر الراوندي/152: «أهل الصفة وكانوا ضيفان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة، فأسكنهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) صُفَّة المسجد وهم أربع مائة رجل، كان يسلم عليهم بالغدوة والعشي، فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله، ومنهم من يرقع ثوبه ومنهم من يتفلى، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرزقهم مداً مداً من تمر في كل يوم، فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله! التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما إني لو استطعت أن أطعمكم الدنيا لأطعمتكم، ولكن من عاش منكم من بعدي فسيغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان، ويغدو أحدكم في قميصة ويروح في أخرى، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة. فقام رجل فقال: يا رسول الله! إنا على ذلك الزمان بالأشواق فمتى هو؟ قال (صلی الله علیه و آله): زمانكم هذا خير من ذلك الزمان، إنكم إن ملأتم بطونكم من الحلال توشكون أن تملأوها من الحرام! فقام سعد بن الأشج فقال: يا رسول الله! ما يفعل بنا بعد الموت؟ قال (صلی الله علیه و آله): الحساب والقبر، ثم ضيقه بعد ذلك أو سعته. فقال: يا رسول الله، هل تخاف أنت ذلك؟ فقال: لا ولكن أستحي من النعم المتظاهرة التي لا أجازيها ولا جزءً من سبعة.

ص: 242

فقال سعد بن الأشج: إني أشهد الله وأشهد رسوله ومن حضرني أن نوم الليل عليَّ حرام، والأكل بالنهار علي حرام، ولباس الليل علي حرام، ومخالطة الناس علي حرام، وإتيان النساء علي حرام. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا سعد لم تصنع شيئاً كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة! نم بالليل وكل بالنهار، والبس ما لم يكن ذهباً أو حريراً أو معصفراً، وائت النساء.

يا سعد! إذهب إلى بني المصطلق فإنهم قد ردوا رسولي، فذهب إليهم فجاء بصدقة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كيف رأيتهم؟ فقال: خير قوم، ما رأيت قوماً قط أحسن أخلاقاً فيما بينهم من قوم بعثتني إليهم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنه لاينبغي لأولياء الله تعالى من أهل دار الخلود، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، أن يكونوا أولياء الشيطان من أهل دار الغرور، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم.

ثم قال: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. بئس القوم قوم لا يقومون لله تعالى بالقسط، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس. بئس القوم قوم يكون الطلاق عندهم أوثق من عهد الله تعالى. بئس القوم قوم جعلوا طاعة أيمانهم دون طاعة الله. بئس القوم قوم يختارون الدنيا على الدين. بئس القوم قوم يستحلون المحارم والشهوات والشبهات.

قيل: يا رسول الله وأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً، أولئك هم الأكياس».

13- قصة تأخر عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة بني المصطلق

خلاصة قصة الإفك كما رواها ابن هشام عن عائشة: 3/764: أنها كانت مع النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة بني المصطلق، وفي رجوعهم نزل النبي (صلی الله علیه و آله) منزلاً: «فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري

ص: 243

فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلي. قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف عليَّ وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ وأنا متلففة في ثيابي: قال: ما خلفك يرحمك الله؟ قالت فما كلمته ثم قرب البعير فقال: اركبي واستأخر عني. قالت فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتجع العسكر! ووالله ما أعلم بشئ من ذلك، ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك شئ».

ثم ذكرت عائشة أنها تعالجت عند أمها، ولم تعرف باتهامها حتى أخبرتها أم مسطح، وقالت إنه حدثت في مرضها أحداث بسبب اتهامها، وكاد الأوس والخزرج يقتتلون لأن المتهم كان ابن سلول الأوسي، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) خطب وقال: «أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل، والله ما علمت منه إلا خيراً وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي».

وذكرت عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) استشار أشخاصاً في أمرها منهم علي (علیه السلام) فقال: «يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله بريرة ليسألها، قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضرباً شديداً وهو يقول: أصدقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتقول: والله ما أعلم إلا خيراً،

ص: 244

ودخل عليها النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: «يا عائشة إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس، فاتقي الله، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده! قالت عائشة: فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني! قالت: ثم التمست إسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. قالت: فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه. فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك، قالت: قلت: بحمد الله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم».

أقول: هذه رواية عائشة وفيها مناقشات، لأنه لا يصح قولها إن آية البراءة

نزلت يومها، بل نزلت بعد سنين!

14- نزلت آية البراءة في مارية فجعلتها عائشة لها!

وقعت قصة عائشة في غزوة بني المصطلق في شعبان سنة خمس «إعلام الورى: 1/196»وفي سنة ثمان نزلت آيات الإفك في سورة النور! وقد اتفقوا على أن سورة النور نزلت دفعة واحدة، بعد حادثة عائشة بثلاث سنين!

فالصحيح أن آية البراءة نزلت في مارية، فقد اتهموها في السنة الثامنة وقت نزول الآيات! ومما يدل على أنها في مارية أنها وصفت المتَّهمة بالغافلة، وهو ينطبق على مارية لسذاجتها ولاينطبق على عائشة! لاحظ آياتها: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالآفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَخَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الآثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ.

ص: 245

وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَعِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَليَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَالْحَقُّ الْمُبِينُ. الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. النور: 11- 26.

وصفة الغافلة تنطبق على مارية التي كان فيها بساطة وسذاجة، أما عائشة فلم يقل أحد إنها كانت ساذجة غافلة، بل كانت ذكية متحركة، وقد قادت معركة الجمل وحدها لسبعة أيام!

وقد تنبهت عائشة إلى أن صفة «الغافلة» لاتنطبق عليها فقالت: «رميتُ بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك».«لباب النقول/157». ففسرت الغافلة بالغافلة عن التهمة وهو تفسير ضعيف يكاد ينطبق على كل متهمة، وهوتخصيص بدون قرينة، لأن الغفلة في الآية مطلقة تقابل الفطنة والذكاء: والمغفل: الذي لا فطنة له. والغفول من الإبل: البلهاء». «لسان العرب: 11/498». «ورجل غفل: لم يجرب الأمور». الصحاح: 5/1783.

وقد حاول بعضهم أن يجعل الغفلة بمعنى التي لاتخطر الفاحشة ببالها، «الشوكاني: 4/17 وعمدة القاري: 17/212»، ولايصح لأن المتبادر منها بدون قرينة: الساذجة.

وسيأتي ما يثبت أن المبرأة مارية لا عائشة.

ص: 246

الفصل الرابع والخمسون: من غزوة بني المصطلق إلى عمرة الحديبية

1- ثلاث غزوات، وأكثر من عشر سرايا، وعدد من الأحداث!

يتعجب الإنسان من تتابع فعاليات النبي (صلی الله علیه و آله) وتنوعها، ويتساءل: كيف اتسعت أيامه وأسبوعه وشهره وسنته (صلی الله علیه و آله) لكل هذه النشاطات؟!

ومن أمثلتها السنة الخامسة، فقد كان فيها غزوة بني المصطلق أو المريسيع، وحادثة ابن سلول رئيس المنافقين المدنيين، وتخلف عائشة عن القافلة التي جعلتها حديث الإفك، وضياع ناقة النبي (صلی الله علیه و آله)، وطلاق زيد لزينب بنت جحش وزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بها، ورسائله إلى بعض الحكام والملوك، وغزوتان ذهب فيهما بنفسه: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة. وقصة العرنيين الذين سرقوا إبل الصدقة، وأكثر من عشر سرايا، لرد لصوص أو غزاة للمدينة.

وكان منها السرية التي قبضت على ثمامة بن أثال سيد اليمامة، ثم التهيؤ لأداء العمرة التي سميت غزوة الحديبية.

وخلال ذلك نزول سور من القرآن وآيات، وأحداث صغيرة وكبيرة!

لكن لاعجب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي وهب وجوده لربه فباركه، وكان يأتيه جبرئيل (علیه السلام) ويوجهه ويخبره بما يكون، ويأمره بما يجب، ويساعده عندما يلزم!

ص: 247

2- تشجيع النبي (صلی الله علیه و آله) سباق الخيل والإبل

«أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسبق بين ما ضُمِّرَ من الخيل وما لم يُضَمَّر..فأرسلها من الحَفْيَا إلى ثنية الوداع، وهو خمسة أميال أو ستة أو سبعة. وأجرى ما لم يضمَّر فأرسلها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق وهو ميلٌ أو نحوه.. وسابق أبو سعيد الساعدي على فرس النبي (صلی الله علیه و آله) الذي يقال له: «الظَّرْب» فسبقت غيرها من الخيل، وكساه النبي (صلی الله علیه و آله) برداً يمانياً، بقيت بقية عند أحفاده إلى زمان الواقدي. وسبق أيضاً أبو أسيد الساعدي على فرس النبي (صلی الله علیه و آله) اسمه لزَّاز فأعطاه النبي حُلة يمانية. وسابق (صلی الله علیه و آله) بين الخيل مرة وجلس على سلع، فسبقت له ثلاثة أفراس: لزَّاز، ثم الظَّرب، ثم السَّكْب» الصحيح من السيرة: 14/12.

«وقد سابق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أسامة وأجرى الخيل، فروي أن ناقة النبي (صلی الله علیه و آله) سُبقت فقال: إنها بغت وقالت فَوْقِي رسول الله! وحقٌّ على الله عزوجل أن لايبغي شئ على شئ الا أذله الله، ولو أن جبلاً بغى على جبل لهدَّ الله الباغي منهما». الفقيه: 3/48 و 4/59.

أقول: تقدم أن المسلمين لم يكن عندهم في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة إلا فرس واحدة، ثم كان عندهم في السنة الثالثة في أحُد بضعة أفراس، فشجعهم النبي (صلی الله علیه و آله) على اقتناء الخيل واشترى هو فكان عندهم في السنة الرابعة عدد منها، وفي السنة الخامسة كانت خيلهم بالعشرات، وشجع النبي (صلی الله علیه و آله) اقتناءها وأجرى السباق بينها، وكذا بين الإبل. فاتسع اهتمام المسلمين بالخيل. ولا علاقة لهذا السباق الذي أجراه النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة الرابعة والخامسة للهجرة وبين سقوطه عن فرسه ذات مرة، فقد كان ذلك في السنة التاسعة.

فقد روى في الفقيه: 1/250و381 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان النبي (صلی الله علیه و آله) وقع عن فرس فشج شقه الأيمن، فصلى بهم جالساً في غرفة أم إبراهيم».

وفي رواية: فسحج شقه الأيمن أي خدش جلده. ونحوه عمدة القاري: 4/105.

3- لم تقع في المدينة زلزلة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله)

قال في الصحيح: 14/24: «وزعموا: أنه في سنة خمس من الهجرة زلزلت المدينة فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله عزوجل يستعتبكم فأعتبوه. ونقول: إن الله تعالى يقول: وَمَا

ص: 248

كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ..».

أقول: لا أثر في أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) لوقوع زلزلة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله).

قال المقريزي في إمتاع الأسماع: 12/390: «لم يأت عن النبي (صلی الله علیه و آله) من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة.وأول زلزلة كانت في الإسلام في عهد عمر فأنكرهاثم قال: ما أسرع ما أحدثتم! والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم».

وزعموا أنه ضرب الأرض بسوطه فسكنت!«الغدير: 8/82». وهو من المكذوبات.

وزعموا أنه أخذ تميماً الداري فطارد نار بركان في المدينة بيديه حتى هربت! «الدارمي: 1/132». وهو من المكذوبات أيضاً!

4- قصة زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من زينب بنت حجش

قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً. مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ وَكَفَى بِالله حَسِيباً. مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيماً». سورة الأحزاب: 36-40.

في تفسير القمي: 2/172 بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «كان سبب نزول ذلك: وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ. أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها، ورأي زيداً يباع ورآه غلاماً كيِّساً حصيفاً فاشتراه، فلما نبئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعاه إلى الإسلام فأسلم وكان يدعى زيد مولى محمد (صلی الله علیه و آله) فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً، فأتى أباطالب فقال: يا أباطالب إن ابني وقع عليه السبي،

ص: 249

وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك، فسله إما أن يبيعه وإما أن يفاديه وإما أن يعتقه.

فكلم أبوطالب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يابني إلحق بشرفك وحسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبداً! فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما دمت حياً، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش إشهدوا أني قد برئت منه، وليس هو ابني! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني، فكان يدعى زيد بن محمد، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبه وسماه زيد الحِبّ، فلما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش، وأبطأ عنه يوماً فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر، فنظر إليها وكانت جميلة حسنة، فقال: سبحان الله خالق النور، وتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى منزله ووقعت زينب في قلبه موقعاً عجيباً، وجاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لها زيد: هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله، فلعلك قد وقعت في قلبه؟ فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله! فجاء زيد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا وكذا، فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال رسول الله: لا، إذهب فاتق الله وأمسك عليك زوجك، ثم حكى الله فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا لِكَيْْ لايَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً. فزوجه الله من فوق عرشه فقال المنافقون: يحرِّم علينا نسائنا ويتزوج امرأة ابنه زيد! فأنزل الله في هذا: مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَيَهْدِي السَّبِيلَ. ثم قال: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ..».

وفي عيون أخبار الرضا (صلی الله علیه و آله): 2/172، أنه (علیه السلام) قال لابن الجهم: «وقول الله عزوجل: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، فإن الله عزوجل عرف

ص: 250

نبيه (صلی الله علیه و آله) أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين، وإحدى من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثه، فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده، لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه، وخشي قول المنافقين فقال الله عزوجل: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، يعني في نفسك! وإن الله عزوجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حوا من آدم (صلی الله علیه و آله) وزينب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا.وفاطمة من علي (علیه السلام).

قال: فبكى علي بن محمد بن الجهم وقال: يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عزوجل من أن أنطق في أنبياء الله: بعد يومي إلا بما ذكرته».

وفي تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى/155: «فإن قيل...فما تأويل قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ..أوليس هذا عتاباً له (صلی الله علیه و آله) من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره، وراقب من لا يجب أن يراقبه، فما الوجه في ذلك؟

قلنا: وجه هذه الآية معروف وهو أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي، والدعي هو الذي كان أحدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة، وكان من عادتهم أن يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن زيد بن حارثة وهو دعي رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيأتيه مطلقاً زوجته، وأمره أن يتزوجها بعد فراق زيد لها، ليكون ذلك ناسخاً لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها، فلما حضر زيد مخاصماً زوجته عازماً على طلاقها، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره، لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه».

وفي الصحيح من السيرة: 14/51: «وذكر البلاذري: أن زينب لما بشرت بتزويج الله نبيه (صلی الله علیه و آله) إياها ونزول الآية في ذلك جعلت على نفسها صوم شهرين شكراً

ص: 251

لله، وأعطت من بشَّرها حلياً كان عليها... قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغني من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله لها زوَّجها الله من السماء! وقلت: هي تفتخر علينا بهذا.وكانت زينب تفتخر على أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله عزوجل من فوق سبع سموات. قالوا: وما أوْلَمَ على امرأة من نسائه أكثر وأفضل مما أولم على زينب، أولمَ عليها بتمر وسويق وشاةٍ ذبحها، وأطعم الناس الخبز واللحم، فترادف الناس أفواجاً يأكل فوج فيخرج ثم يدخل فوج، حتى امتد النهار، أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه».

لكن عائشة استطاعت أن تجر زینب اليها وتجعلها من حزبها حسب تعبيرها. قال في الصحيح: 14/175: «سرعان ما انقلبت الأمور، وأصبحت زينب في موقع الحظوة لدى عائشة وصارت تمدحها بقولها: ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم، وأعظم أمانة وصدقة»!

ثم ذكر أنها كانت من نوع عائشة في الجرأة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكانت النصير والمساعد لها على تمرير بعض مشاريعها في إثارة أجواء تخدم مصالحها المستقبلية والآنية على حد سواء.

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): أن زينب قالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تعدل وأنت رسول الله؟! وقالت حفصة: إن طلقنا وجدنا أكفاءنا من قومنا! فاحتبس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشرين يوماً، فأنف الله عزوجل لرسوله (صلی الله علیه و آله) فأنزل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ..إلى قوله: أجْرَاً عَظيماً..

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال:«إن زينب بنت جحش قالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تعدل وأنت نبي؟! فقال لها: تربت يداك إذا لم أعدل فمن يعدل؟! قالت: دعوت الله يا رسول الله ليقطع يدي؟ فقال: لا، ولكن لتتربان. فقالت: إنك إن طلقتنا وجدنا في قومنا أكفاءنا»!

ومن طريف ما في سيرة أخبارها أن النبي (صلی الله علیه و آله) سمى أباها جحشاً! «قال القرطبي في تفسيره: 14/165»: «وكان اسم جحش بن رئاب بُرَّة بضم الباء، فقالت زينب لرسول الله: يا رسول الله غَيِّرْ إسم أبي فإن البُرة صغيرة! «البُرَّة: حلقة توضع في أنف البعير ويربط بها الحبل

ص: 252

أو الخيط-لسان العرب: 11/174»فقيل إن رسول الله قال لها: لو كان أبوك مسلماً لسميته باسم من أسمائنا أهل البیت، ولكني قد سميته جحشاً والجحش أكبر من البرة». ورواه القرطبي في أحكام القرآن/3534، المعافري في الروض الأنف: 2/292 والحلبي في السيرة:2/483، تاريخ الخميس: 1/501، تاج العروس: 9/68 وحياة الحيوان/305.

5- تشديد الحجاب على نساء النبي (صلی الله علیه و آله)

قال في الصحيح من السيرة: 14/129: «روى الرواة عن زينب بنت جحش أنها قالت: فيَّ نزلت آية الحجاب، وذكروا أن ذلك كان في مناسبة تزويجها برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذكروا أن السبب في ذلك هو عمر بن الخطاب، وجعلوا ذلك من فضائله حتى لقد رووا عن ابن مسعود أنه قال عن عمر: إنه فُضِّل على الناس بأربع، وذكر منها أنه بذكره الحجاب أُمِرَ نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحتجبن!

وروي أن عمر مرَّ على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وهن مع النساء في المسجد فقال: إحتجبن فإن لكن على النساء فضلاً، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل. فقالت له زينب: وإنك لتغار علينا يا ابن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا! فأنزل الله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ.

وقد صرحوا أيضاً: بأن آية الحجاب التي نزلت في زينب بنت جحش هي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ..الآية. وكان وقت نزولها صبيحة عرس النبي (صلی الله علیه و آله) بزينب بنت جحش في ذي القعدة سنة خمس. وعن أنس: ما بقي أحد أعلم بالحجاب مني، ولقد سألني أبي بن كعب فقلت نزل في زينب. وفي رواية أنه في قضية زينب بنت جحش أراد أن يدخل مع النبي (صلی الله علیه و آله) فألقى الستر بينه وبينه ونزل الحجاب».

ثم ناقش صاحب الصحيح في فرض الحجاب كما صوروه لأنه موجود من الأصل، وأورد رواياته في أحد عشر وجهاً فيها تناقض!

وقد كتبنا بحثاً في كتاب «ألف سؤال وإشكال: 2/300»في اتهام البخاري وغيره للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه لم يكن يحجب نساءه، حتى أمره عمر بذلك، ونزل القرآن موافقاً

ص: 253

لقول عمر! وزعموا،«البخاري: 1/46» أن عمر كان يقول للنبي (صلی الله علیه و آله): أحجب نساءك فلم يفعل النبي (صلی الله علیه و آله) فنزل الوحي موافقاً لرأي عمر، وأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يحجب نساءه! ويتخيل القارئ من كثرة رواياتهم أن نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كنَّ غير محجبات وأنه قصَّرَ أو تسامح في حجابهن! مع أنهن كنَّ محجبات كغيرهن وكانت سورة النور قد نزلت وفيها آيات الحجاب وآداب الأسرة والإختلاط. أما آية الحجاب في سورة الأحزاب ففرضت عليهنَّ أن لايكلمن الرجال الأجانب إلا من وراء ستر. وهذه آيات الحجاب في سورة النور:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلايَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِين مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. النور: 30 -31.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَئْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيات وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وإذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَئْذِنُوا كَمَا اسْتَئْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. النور: 58 - 60.

وهذه آيات تشديد الحجاب على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) في سورة الأحزاب:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فإن اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا.

يَا نِسَاءَ النبي مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا.

ص: 254

يَا نِسَاءَ النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قولاً مَعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لطيفاً خَبِيرًا. سورة الأحزاب: 28 - 34.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً.

إِنْ تُبْدُوا شيئاً أَوْ تُخْفُوهُ فإن اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا. لاجُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاأَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلاأَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلانِسَائِهِنَّ وَلامَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ شَهِيدًا.

إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسُلَيْما. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا.

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قليلاً. مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً. سورة الأحزاب: 53 - 62.

وتدل الآيات على أن الله تعالى أراد منهن أن يتحلَّيْنَ بمتانة الشخصية ورصانة الكلام: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، ولايكثرن الرواح والمجئ ولايتصدَّيْنَ للأمور السياسية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وأن يكنَّ في مستوى مسؤولية كونهن زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) ومستوى مقام أمهات المؤمنين الذي أعطاه الله لهن، وإلا..فليتنحَّيْنَ من حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! ومن الواضح أن الظروف التي كانت

ص: 255

تحيط بالنبي (صلی الله علیه و آله) كانت مؤذية له في نبوته وشخصه وأهل بيته ونسائه.

أما آية الحجاب التي طعنوا بسببها بالنبي (صلی الله علیه و آله) فهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ... وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً.

فهي آية واحدة فيها ثلاثة أحكام: أدب الدخول إلى بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وحرمة تكليمهن إلا من وراء حجابٍ وسترٍ، ولذا سميت آية الحجاب.وحرمة الزواج بهنَّ بعده لأنهن أمهات المؤمنين. لكنهم صوروا أن نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكنَّ قبلها محجبات! وأكثروا الكذب عن سبب نزولها، وتناقضت رواياتهم في مدح هذا وذاك! وكلها أحاديث صحيحة السند عندهم! مثل أن عمر أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يفعل، فنزلت الآية موافقة لعمر! وقول عائشة إنها كانت تأكل مع النبي (صلی الله علیه و آله) حيساً «تمر بالسمن والطحين» فمر عمر فأكل معهم بأصابعه، فمست إصبعه إصبع عائشة، فنزلت الآية! ثم قالت إن إصبع شخص آخر أصابت إصبعها، فنزلت الآية!

ورووا أن عمر تشاجر مع زينب بنت جحش، فنزلت الآية! وأن سودة بنت زمعة خرجت ليلاً لتقضي حاجتها في جهة البقيع، فناداها عمر عرفناك ياسودة! فنزلت الآية!ورووا أن شباباً كانوا يجلسون بطريق نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فيؤذونهن، فنزلت الآية! ورووا: أنه (صلی الله علیه و آله) رأى رجالاً يتحدثون مع نسائه، فصعد المنبر غاضباً وتلا الآية!

ورووا أن طلحة كان يؤذي النبي (صلی الله علیه و آله) في أمر نسائه، وكان يتحدث مع عائشة، فنهاه النبي (صلی الله علیه و آله) فرفض وأساء الأدب بحجة أنها ابنة عمه من بني تَيْم!

ففي الدر المنثور: 5/214، أنها: «نزلت في طلحة بن عبيدالله، لأنه قال: إذا توفي رسول الله تزوجْتُ عائشة! وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدِّي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا! لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده! فنزلت هذه الآية!

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي: لا تقومَنَّ هذا المقام بعد يومك هذا! فقال: يا رسول الله إنها ابنة

ص: 256

عمي، والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي! قال النبي: قد عرفت ذلك، إنه ليس أحد أغْيَرُ من الله، وإنه ليس أحد أغيرُ مني! فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي! لأتزوجنها من بعده! فأنزل الله هذه الآية»!

ورووا: وهو ما نرجحه أن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما تزوج بزينب بنت جحش، أطعم الناس في حجرته التي هي«صالة بيته» وخرجوا وبقي رجال ثقلاء فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) يتمشى حتى وصل إلى غرفة عائشة البعيدة نسبياً عن حجرته، وعاد فوجد الثقيلين جالسين ولم يراعيا الأدب، «البخاري: 6/24» فنزلت الآية، وفيها: وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لايَسْتَحْيي مِنَ الْحَقِّ.

قال البخاري: 6/25، عن أنس: «فقلت: يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه. قال: إرفعوا طعامكم، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت..وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر.. رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته..وأنزلت آية الحجاب».

وفي فتح الباري: 8/407: «فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه..فخرجوا بخروجه إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث، وفي غضون ذلك كان النبي (صلی الله علیه و آله) يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه، فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام».

وقال القرطبي: 14/224: «قال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم»! وأقول: حسبك من الثقلاء أنهم محترمون جداً عند السلطة القرشية، لأنهم رؤساؤها، فقد أمرت رواتها بالتغطية عليهم وكتم أسمائهم!

وحسبك من كذب الرواة في سبب نزول آية الحجاب، أنها كثيرة متناقضة!

6- غزوة بني لِحْيان

بعد بني قريظة، غزا النبي (صلی الله علیه و آله) بني لِحْيَان وهم بطن من قبيلة هذيل، فربما كانوا يتهيؤون لمهاجمته، وكانوا غدروا ببعض المسلمين وقتلوهم، أو باعوهم

ص: 257

إلى قريش! فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يدعو على قريش وعليهم ويلعنهم.

ففي الكافي: 8/70: «الإيمان يماني والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن. الجفا والقسوة في الفدَّادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشمس..لعن الله رعلاً وذكوان وعضلاً ولحيان والمجذمين من أسد وغطفان، وأبا سفيان بن حرب، وشهبلاً ذا الأسنان، وابني مليكة بن جذيم، ومروان، وهوذة، وهونة».

وروى مسلم: 2/134، وغيره،أنهم قتلوا قراء بعثهم النبي (صلی الله علیه و آله) إلى نجد فدعا عليهم «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله».

وكانت غزوة مختصرة، قال في المناقب: 1/170: «في جمادى الأولى وكان بينهما الرمي بالحجارة وصلى فيها صلاة الخوف بعسفان، ويقال في ذات الرقاع».

وقال ابن هشام في روايته عن ابن إسحاق: 3/750 إنها: «على رأس ستة أشهر من فتح قريظة، إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.. فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام، ثم على مخيض، ثم على البتراء، ثم صفق ذات اليسار، فخرج على بين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذ السير سريعاً حتى نزل على غران، وهي منازل بني لحيان وغران واد بين أمج وعسفان، إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال..فخرج في مئتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان.. ثم كر وراح رسول الله (صلی الله علیه و آله) قافلاً، فكان جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول حين وجه راجعاً: آيبون تائبون إن شاء الله، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال».

ونقد في الصحيح من السيرة: 14/235 رواياتهم في مدة سفر النبي (صلی الله علیه و آله) وعمله في هذه الغزوة، وبحث أهم ما فيها وهو زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) لقبر والدته آمنه (علیها السلام) كما تقدم.

ص: 258

7- غزوة الغابة أو ذي قِرَد

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أتى أبوذر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إني قد اجتويت المدينة «تأذيت من هوائها» أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي إلى مزينة فنكون بها؟ فقال: إني أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتيني شعثاً فتقوم بين يدي متكئاً على عصاك فتقول: قتل ابن أخي وأخذ السرح! فقال: يا رسول الله، بل لا يكون إلا خير إن شاء الله.

فأذن له فخرج هو وابن أخيه وامرأته فلم يلبث هناك إلا يسيراً حتى غارت خيل لبني فزارة فيها عيينة بن حصن، فأخذت السرح وقتل ابن أخيه وأخذت امرأته من بني غفار، وأقبل أبوذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبه طعنة جائفة، فاعتمد على عصاه وقال: صدق الله ورسوله، أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي!فصاح رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسلمين فخرجوا في الطلب فردوا السرح وقتلوا نفراً من المشركين». الكافي: 8/126.

وقال في الصحيح من السيرة: 14/223، ملخصاً: «كانت غزوة الغابة، وتعرف بذي قِرَد، وهو ماء على بريد من المدينة من جهة الشام، في يوم الأربعاء في شهر ربيع الأول من سنة ست، قبل الحديبية. فلما قدم النبي (صلی الله علیه و آله) من غزوة بني لحيان لم يُقم (صلی الله علیه و آله) سوى أيام قلائل حتى أغار بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن في أربعين فارساً على لقاح النبي (صلی الله علیه و آله) التي كانت في الغابة فاستاقوها، ونجا أبوذر وبه طعنة جائفة، وقتلوا ابنه وسبوا امرأته! فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن ينادى في المدينة: الفزع الفزع،أو يا خيل الله اركبي،وكان أول ما نودي بها، وركب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خمس مائة. وكان أول من انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الفرسان المقداد وجماعة فقال له: أخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا، وكان أول فارس لحق بهم محرز بن نضلة فحمل عليه رجل منهم فقتله، ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن.

وأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسلمين، وقَتل عكاشة بن محصن أبانَ بن عمرو،

ص: 259

وأدرك أوباراً وابنه عمرواً وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعاً واستنقذوا بعض اللقاح، قيل: عشرة منها وأفلت القوم بما بقي وهو عشر، وهربوا إلى نجد. وسار رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وأقام عليه يوماً وليلة، ورجع إلى المدينة، وقد غاب عنها خمس ليال.

وأفلتت امرأة أبيذر على ناقة من إبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى قدمت المدينة فقالت للنبي (صلی الله علیه و آله) إنها نذرت أن تنحر الناقة التي نجت عليهاوتأكل من سنامها وكبدها! فتبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي. إرجعي إلى أهلك على بركة الله».

8- سرية علي (علیه السلام) لملاحقة اللصوص العرنيين

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 7/245»: «قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم من بني ضبة مرضى فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فبعث إليهم علياً (علیه السلام) فهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريباً من أرض اليمن، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنزلت هذه الآية عليه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض.فاختار رسول الله (صلی الله علیه و آله) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف».

أقول: غيبت رواية الحكومة إسم علي (علیه السلام) من هذه السرية وصار إسمها: سرية كرز بن جابر إلى العرنيين! وحرفت روايتها للطعن بالنبي (صلی الله علیه و آله) وإثبات قسوته، فزعمت أنه (صلی الله علیه و آله) قتل العرنيين وسمل عيونهم وتركهم عطاشى حتى ماتوا ثم أحرقهم!ليبرروا للحكام ما يرتكبونه، بل ليجعلوهم أرحم من النبي (صلی الله علیه و آله) !

وكذب روايتهم الإمام الباقر (علیه السلام) فقال:«علل الشرائع: 2/541»: «إن أول ما استحل

ص: 260

الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط، ومن ثَمَّ استحل الأمراء العذاب»!

وروى عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «لا والله، ما سمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عيناً، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم».مسند الشافعي/351.

وقد كتبنا بحثاً في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 2/435، المسألة: 164، استوفينا فيه رواياتهم وأقوال علمائهم وناقشناها. قال البخاري في صحيحه: 1/64: «فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي (صلی الله علیه و آله) واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جئ بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون». وقال في: 8/19: «فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة».

وقال في عون المعبود: 5/70: «قال قتادة: بلغنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة». أي تاب عن المثلة بعد ذلك، وكان ينهى المسلمين عنها!

9- اتهام عائشة للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه قسي القلب

زعموا أنه (صلی الله علیه و آله) لم يكن يبكي رحمة بأحد، فقد بكى أبو بكر وعمر على سعد بن معاذ، أما النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يكن يبكي، بل يشد بشعر لحيته كأنه ينتفه!

فقد روى أحمد: 6/141: «قالت عائشة: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عزوجل رحماء بينهم قال علقمة: قلت أي أمه، فكيف كان رسول الله يصنع؟ قالت: كانت عينه لاتدمع على أحد! ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته»! ووثقه في الزوائد:6/13.

10- ثمامة سيد اليمامة هدية من الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله)

كان ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة الذين يسيطرون على اليمامة، واليمامة هي سافلة نجد مما يلي البحرين، وتبلغ ثلث ما يعرف اليوم بنجد:

https://ar.wikipedia.org/wiki/اليمامة (إقليم)

ص: 261

في اللباب لابن الأثير: 1/396: «الحنفي.. هذه النسبة إلى حنيفة وهم قبيلة كثيرة من ربيعة بن نزار نزلوا اليمامة، وهم حنيفة بن لجيم بن صعب... بن ربيعة بن نزار، ينسب إليه خلق كثير، منهم ثمامة بن أثال الحنفي له صحبة، وخولة أم محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب».

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يحب أن يحاصر قريشاً ويمنع عنها التموين من جهة نجد والعراق، كما منعه من جهة المدينة والشام، لعلها تفكر وتخضع لربها وتسمع لرسوله (صلی الله علیه و آله)، وقد يكون جبرئيل (علیه السلام) علمه أن يدعو الله تعالى أن يوقع ثمامة سيد اليمامة في قبضته ويهدي قلبه، فكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة.

ففي الكافي: 8/299، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: اللهم أمكني من ثمامة، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني مخيرك واحدة من ثلاث: أقتلك، قال: إذاً تقتل عظيماً! أو أفاديك، قال: إذاً تجدني غالياً! أو أمنُّ عليك، قال: إذاً تجدني شاكراً! قال: فإني قد مننت عليك. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق»!

وفي الإستيعاب: 1/214: «ثم أمر به فأطلق، فذهب ثمامة إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل، ثم جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلم وشهد شهادة الحق، وقال: يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فمر من يسيرني إلى الطريق، فأمر من يسيره فخرج حتى إذا قدم مكة، فلما سمع به المشركون جاؤوه فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك؟ قال: لا أدري ما تقولون إلا أني أقسمت برب هذه البُنَيَّة لا يصل إليكم من اليمامة شئ مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم! قال: وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة!

ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم كتبوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل!

ص: 262

فكتب إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم!

وكان ثمامة حين أسلم قال: يا رسول الله، والله لقد قدمت عليك وما على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، ولا دين أبغض إلى من دينك، ولا بلد أبغض إلى من بلدك، وما أصبح على الأرض وجه أحب إليّ من وجهك، ولا دين أحب إليّ من دينك، ولا بلد أحب إليّ من بلدك!

11- السنوات العجاف على قريش

قال الواحدي في أسباب النزول/211: «قال ابن عباس: لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلم وهو أسير فخلى سبيله، فلحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من يمامة وأخذ الله تعالى قريشاً بسني الجدب حتى أكلوا العلهز»الوبر بالدم«فجاء أبوسفيان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أنشدكم الله والرحم، إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، قال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ».

وسبق إسلام ثمامة دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) على قريش بعد غزوة الأحزاب: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز».مختلف ابن قتيبة/233.

ثم جاءهم قرار ثمامة بمنع وصول أي مادة غذائية لهم فاشتد الأمر عليهم، لكنهم لم يخضعوا لربهم ولا دعوه، ولا طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدعو لهم، بل كتبوا له إنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة منع عنا الميرة فكتب إلى ثمامة»! الوافي: 11/14،أسباب النزول للواحدي/211، الحاكم: 2 /394، ابن حبان: 3 /247.

والسبب في عدم خضوعهم ودعائهم تكبرهم الذي فاقوا به اليهود! فقد قرروا أن لا يؤمنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) مهما رأوا من آياته!

وفي الكافي: 2/480، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «الإستكانة هو الخضوع

ص: 263

والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما». راجع في ثمامة: تفسير الثعلبي: 5/ 12، الرازي:23/113، الإصابة:1/525 و 3/471،ابن هشام: 4/1026 و1053و تاريخ المدينة: 2/435.

12- أبعد أبو بكر ثمامة فاضطهده مسيلمة!

قال محمد بن إسحاق كما في الإستيعاب: 1/214: «ارتد أهل اليمامة عن الإسلام غير ثمامة بن أثال ومن اتبعه من قومه، فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، ويقول إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عزوجل على من أخذ به منكم، وبلاءٌ على من لم يأخذ به منكم، يا بني حنيفة! فلما عصوه ورأى أنهم قد أصفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم.

ومر العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة «في البحرين» فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين: إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء مع ما قد أحدثوا، وإن الله تعالى لضاربهم ببلية لايقومون بها ولا يقعدون، وما نرى أنت نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون، وقد عرفنا الذي يريدون، وقد مروا قريباً ولا أرى إلا الخروج إليهم، فمن أراد الخروج منكم فليخرج، فخرج ممداً للعلاء بن الحضرمي ومعه أصحابه من المسلمين، فكان ذلك قد فتَّ في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بني حنيفة! وقال ثمامة بن أثال في ذلك:

دعانا إلى ترك الديانة والهدى *** مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجعُ

فيا عجباً من معشر قد تتابعوا *** له في سبيل الغي والغيُّ أشنعُ...».

وقد فصلنا الموضوع في كتاب: قراءة جديدة في حروب الردة.

ص: 264

الفصل الخامس والخمسون: غزوة الحديبية والهدنة بين النبي و قريش

1- هدف الحديبية فرض الأمر الواقع على قريش

بعد هزيمة الأحزاب وفشل حملتهم على المدينة، غزا النبي (صلی الله علیه و آله) حلفاءهم بني قريظة وأجلاهم عن المدينة، وغزا بني المصطلق الذين كانوا يجمعون للغارة عليه وكانوا قريبين من مكة، وفرض سيطرته على شعاع واسع من المدينة حتى وصل نفوذه إلى نجد. ثم أسلم ثمامة بن أثال وفرض الحصار على المواد التموينية لقريش، ورافق ذلك الجدب وعدم المطر والضائقة الإقتصادية الشديدة عليهم، لكنهم ظلوا على عنادهم وكبريائهم!

في ذلك الظرف أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يفرض على قريش أن تعترف بالإسلام كأمر واقع، فقصد مكة معلناً أنه يريد العمرة، ولا يريد حرب قريش!

2- توجه النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين إلى العمرة

في الكافي: 8/322، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة الحديبية خرج في ذي القعدة، فلما انتهى إلى المكان الذي أحرم فيه، أحرموا ولبسوا السلاح، فلما بلغه أن المشركين قد أرسلوا إليه خالد بن الوليد ليرده قال: إِبغوني رجلاً يأخذني على غير هذا الطريق، فأتيَ برجل من مزينة أو من جهينة، فسأله فلم يوافقه فقال: أبغوني رجلاً غيره، فأتيَ برجل آخر، قال: فذكر له فأخذه معه حتى انتهى إلى العقبة فقال: من يصعدها حط الله عنه كما حط الله عن بني إسرائيل، فقال لهم: أدخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم.

ص: 265

قال فابتدرها خيل الأنصار الأوس والخزرج، قال: وكانوا ألفاً وثمان مائة [وأربع مائة] فلما هبطوا إلى الحديبية إذ امرأة معها ابنها على القليب فسعى ابنها هارباً، فلما أثبتت أنه رسول الله صرخت به: هؤلاء الصابئون، ليس عليك منهم بأس، فأتاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمرها فاستقت دلواً من ماء فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فشرب وغسل وجهه فأخذت فضلته فأعادته في البئر فلم تبرح حتى الساعة.«أي مملوءة»!

وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرسل إليه المشركون أبان بن سعيد في الخيل فكان بإزائه ثم أرسلوا الحليس فرأى البدن وهي تأكل بعضها أوبار بعض» أي هدي للكعبة«فرجع ولم يأت رسولَ الله (صلی الله علیه و آله)، وقال لأبي سفیان: يا أبا سفيان أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردوا الهدي عن محله! فقال: أسكت فإنما أنت أعرابي! فقال: أما والله لتخلين عن محمد وما أراد، أو لأنفردن في الأحابيش! فقال: أسكت حتى نأخذ من محمد وَلْثاً «عهداً» فأرسلوا إليه عروة بن مسعود وقد كان جاء إلى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة، وكان خرج معهم من الطائف وكانوا تجاراً، فقتلهم وجاء بأموالهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأبى رسول الله أن يقبلها وقال: هذا غَدر ولا حاجة لنا فيه!

فأرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله هذا عروة بن مسعود، قد أتاكم وهو يعظم البدن، قال: فأقيموها فأقاموها. فقال: يا محمد مجئ من جئت؟ قال: جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر هذه الإبل، وأخلي عنكم عن لحمانها. قال: لا واللات والعزى فما رأيت مثلك رُدَّ عما جئت له، إن قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم، وأن تقطع أرحامهم، وأن تُجَرِّئ عليهم عدوهم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أنا بفاعل حتى أدخلها. قال وكان عروة بن مسعود حين كلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تناول لحيته، والمغيرة قائم على رأسه فضرب بيده فقال: من هذا يا محمد؟فقال: هذا ابن أخيك المغيرة.فقال: يا غُدَر والله ما جئت إلا في غسل سلحتك، «إعطاء الديات لمن غدر بهم».

قال:«فرجع إليهم فقال لأبي سفیان وأصحابه: لا والله ما رأيت مثل محمد رد عما جاء له، فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأثيرت

ص: 266

في وجوههم البدن، فقالا: مجئ من جئت؟ قال: جئت لأطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر البدن وأخلي بينكم وبين لحمانها. فقالا: إن قومك يناشدونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم وتقطع أرحامهم وتُجَرِّي عليهم عدوهم. قال: فأبى عليهما رسول الله إلا أن يدخلها».

3- استنفرت قريش وبعثت طليعةً لصد النبي (صلی الله علیه و آله)

في تفسير القمي: 1/150: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحديبية يريد مكة، فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، ليستقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الجبال، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالناس، فقال خالد بن الوليد لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنهم لايقطعون صلاتهم! ولكن يجئ لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم! فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً. ففرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه فرقتين، فوقف بعضهم تجاه العدو وقد أخذوا سلاحهم، وفرقة صلوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قياماً، ومروا فوقفوا مواقف أصحابهم، وجاء أولئك الذين لم يصلوا فصلى بهم رسول الله الركعة الثانية ولهم الأولى، وقعد وتشهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام أصحابه وصلوا هم الركعة الثانية، وسلم عليهم».

وفي سيرة ابن هشام: 3/775، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة! فما تظن قريش! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال: مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها».

ص: 267

4- عسكرت قريش في بَلْدَح وعسكر النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية

عسكرت قريش في بلدح وهو واد قرب مكة عند التنعيم وفخ، «معجم البكري:1/273» وفيه ماء كثير وأصنام. طبقات ابن سعد: 2/95 والمناقب: 1/91. وكانوا يرسلون دورياتهم إلى مداخل مكة والمناطق القريبة من الحديبية، وكان قادة الخيل أبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب.

وفي المناقب: 1/174: «قال الزهري: فلما صار بذي الحليفة قَلَّدَ النبي (صلی الله علیه و آله) الهدي وأشعره «جعل له علامة» وأحرم بالعمرة، فلما بلغ غدير الأشطاط عند عسفان أتاه عتبة الخزاعي فقال: إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي جمعوا لك الجموع، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت، فقال (صلی الله علیه و آله): روحوا فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال (صلی الله علیه و آله): إن خالد بن الوليد بالغميم طليعة فخذوا ذات اليمين وسار حتى إذا كان بالثنية بركت ناقته فقال: ما خلأت القصواء ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال: والله لايسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها! قال فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد القَصَّة «25كم عن مكة من جهة جدة» فأتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكان عَيْبَة نصح رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال كما قال الغير فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، في كلام له بين الصلح والحرب.

فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فأتى قريشاً وقال: إن هذا الرجل يقول كذا وكذا فقال عروة بن مسعود الثقفي: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقالوا: إئته، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) وسمع منه مثل مقالته لبديل ورأى تعظيم الصحابة له (صلی الله علیه و آله)، فلما رجع قال: أيْ قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً! يقتتلون على وضوئه، ويتبادرون لأمره، ويخفضون أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها! فقال رجل من بني كنانة: إئته، فلما أشرف عليهم قال النبي (صلی الله علیه و آله): هذا فلان وهو من قوم يعظمون البُدْن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت الحرام.

ص: 268

ثم جاء مكرز بن حفص فجعل يكلم النبي إذ جاء سهيل بن عمرو فقال (صلی الله علیه و آله): قد سهل عليكم أمركم، فجلس وضرع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في الصلح، ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك».

وفي روضة الواعظين/62: «ولقد كنا معه بالحديبية وإذا بقليب «بئر» جافة فأخرج سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له: إذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عيناً من تحت السهم»!

وفي المناقب: 1/91: «فجاءت قريش ومعهم سهيل بن عمرو فأشرفوا على القليب والعيون تنبع تحت السهم فقالت: ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل! فلما أمر الناس بالرحيل قال: خذوا حاجتكم من الماء، ثم قال للبراء: إذهب فرد السهم، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ السهم فجف الماء، كأنه لم يكن هناك ماء»!

«قال البراء: كنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر فقدمناها وعليها خمسون شاة ما ترويها..فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء.. حتى جرت نهراً.. فارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها. فقال سالم بن أبي الجعد: فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا! كنا خمس عشرة مائة». «وعلى الماء يومئذٍ نفر من المنافقين منهم عبدالله بن أُبيّ، فقال أوس بن خولى: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه، أبعد هذا شئ؟! فقال: إني قد رأيت مثل هذا! فقال أوس: قبحك الله وقبح رأيك! فأقبل ابن أُبيّ يريد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أبا الحُبَاب: إني رأيت مثلما رأيت اليوم!فقال: ما رأيت مثله قط! قال: فلم قلته؟ فقال ابن أُبي: يا رسول الله استغفر لي، فقال ابنه عبدالله بن عبدالله: يا رسول الله استغفر له، فاستغفر له. فقال عمر: ألم ينهك الله يارسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم! فأعرض عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأعاد عليه فقال له: ويلك إني خيِّرت فاخترت، إن الله يقول: إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ». الصحيح: 15/225.

ص: 269

5- هدايا خزاعة إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

في الصحيح من السيرة: 15/356: «وأهدى عمرو بن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية لرسول الله (صلی الله علیه و آله) غنماً وجزوراً، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جُزُراً وكان صديقاً له، فجاء سعد بالجزر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأخبره أن عَمْراً أهداها له، فقال: وعمرو قد أهدى لنا ما ترى فبارك الله في عمرو. ثم أمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم فيهم عن آخرها وشرك فيها فدخل على أم سلمة من لحم الجزور كنحو ما دخل على رجل من القوم..وأمر (صلی الله علیه و آله) للذي جاء بالهدية بكسوة».

6- ابتلى الله المسلمين بالصيد وهم محرمون

عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال في قول الله عزوجل: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَئٍْ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ: «حشرت لرسول الله في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم. ليبلوهم الله به.. نزلت في غزاة الحديبية قد جمع الله عليهم الصيد فدخل بين رحائلهم، ليبلوهم الله أي يختبرهم».الكافي: 4/396، تفسير القمي: 1/182، تفسير العياشي: 1/243 والنوادر للأشعري/137.

7- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش

خراش بن أمية هو الذي حلق للنبي (صلی الله علیه و آله) في عمرة الحديبية، «الفقيه: 2/239»فهو قريب من النبي (صلی الله علیه و آله) وكان أول من أرسله برسالته إلى قريش أني جئت معتمراً لا مقاتلاً، فاعترضه معسكرهم وعقر بعيره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله على خلاف ما اتفقت عليه أصول العرب وكافة الناس من عدم قتل الرسول فأنقذته منهم قبيلة الأحابيش، وعاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) !الطبري: 2/278 وابن هشام: 3/779.

8- حاول مسلمون الذهاب إلى مكة فأسرهم المشركون

«وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهم: كرز بن جابر الفهري، وعبدالله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، وعبدالله بن حذافة

ص: 270

السهمي،وأبو الروم بن عمير العبدري، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس،وعمير بن وهب الجمحي، وحاطب بن أبي بلتعة،وعبدالله بن أبي أمية.فعُلم بهم فأُخذوا».سبل الهدى 5/48.

أقول: هؤلاء مكيون كانوا مقطوعين عن أسرهم وأقاربهم، ويبدو أن عملهم فردي، وقد يكون بعضهم استأذن النبي (صلی الله علیه و آله) فقال لهم إن استطعتم فادخلوا وقيل إنهم دخلوا بأمان عثمان بن عفان، ولا يصح، لأنه هو دخل بأمان من ابن عمه أبان بن سعيد، مع أنه كان مبعوث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قريش.

9- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر بالذهاب فخاف فأرسل عثمان

«أراد أن يبعث عمر فقال: يا رسول الله إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ولكني أدلك على عثمان بن عفان، فأرسل إليه رسول الله فقال: إنطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة، فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم، وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان. وقال المسلمون: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ماكان ليفعل فلما جاء عثمان قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله لم يطف به. ثم ذكر القضية وماكان فيها».الكافي: 8/326.

أقول: كان أبان بن سعيد بن العاص قائد خيل المشركين مع خالد وعكرمة وضرار، وكان مكلفاً أن يكونوا بإزاء جيش النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو أخو خالد بن سعيد المؤمن المهاجر إلى الحبشة والموجود مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأبوهما أبو أحيحة الأموي الثري المشهور وله مكانة في قريش، فأعطى الأمان لعثمان، فلم يكن أي خطر عليه، بل أركبه فرسه ودخل معه إلى مكة، فبلغ رسالة النبي (صلی الله علیه و آله).

ص: 271

وفي الصحيح من السيرة: 15/297، ملخصاً: «ليت شعري لو أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان قد أمر عمر بن الخطاب بالمبيت في مكانه ليلة الهجرة فهل كان سيمتثل أمره؟!أم كان سيعتذر بأن قريشاً سوف تقتله وليس هناك من يدفع عنه من بني عدي، أو من غيرهم؟! وفي الحديبية لم يطلب منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يصل إلى حد ما طلبه من أميرالمؤمنين (علیه السلام) ليلة الهجرة من حيث درجة الخطورة على حياته.. بل طلب منه أن يكون رسولاًيتمتع بحصانة الرسل الذين يعتبر الإعتداء عليهم عاراً وعيباً عند العرب وعند سائر الأمم، وكان أرسل غيره في هذه المهمة وعاد سالماً، ومنع المشركون سفهاءهم من الإعتداء عليه، لأن الرسل لا تقتل!

ولكن عمر بن الخطاب يرفض طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا، ويعتذر بأمر شخصي بحت ليس له منشأ يقبله العقلاء الذين يعيشون أجواء التضحية في سبيل مبادئهم، بل لا يقبله حتى عقلاء أهل الشرك والكفر! فكيف يدَّعون أن الإسلام عزّ بإسلام عمر، وأنه قد كانت له بطولات عظيمة ومواجهات مع المشركين قبل الهجرة كسرت شوكتهم»!

10- مبعوثو قريش إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

جاء بديل بن وقاء الخزاعي رئيس خزاعة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأرسله إلى قريش وكلمهم بحضور عروة بن مسعود الثقفي رئيس ثقيف، فأيد كلامه وطلب منهم عروة أن يرسلوه فأرسلوه، فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ورجع إلى قريش فحثهم على السماح له بأداء العمرة فلم يقبلوا! القمي: 2/310، الطبري: 2/275 وابن شيبة: 8/514.

ثم أرسلوا الحليس رئيس قبيلة الأحابيش كما تقدم من الكافي، ويبدو أنه هو رغب بذلك، فرجع وكلمهم أن يتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) ليؤدي عمرته، فلم يقبلوا.

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، ومكرز بن حفص، فلما جاء سهيل ورآه النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه: سهل أمركم. وكانت مفاوضات النبي (صلی الله علیه و آله) معه صعبة ومثمرة، وقد احتاج فيها سهيل أن يرجع إلى قريش لأخذ موافقتهم على بند حرية المسلمين في مكة، فوافقوا.

ص: 272

11- بيعة الرضوان بحضور مفاوض قريش

استمرت مفاوضات النبي (صلی الله علیه و آله) مع سهيل بن عمرو يومين، وكانت في بعض مراحلها متوترة وفيها تهديد! قال الطبري: 2/280: «فلما انتهى سهيل إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام، وتراجعا».

وفي فتح الباري: 5/253: «فلما لانَ بعضهم لبعض في الصلح، وهم على ذلك إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر فتصايح الفريقان، وارتهن كل من الفريقين من عندهم، فارتهن المشركون عثمان ومن أتاهم من المسلمين وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن معه، ودعا رسول الله إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفروا، وبلغ ذلك المشركين فأرعبهم الله، فأرسلوا من كان مرتهناً، ودعوا إلى الموادعة».

وفي اليوم الثاني بقي النبي (صلی الله علیه و آله) مصراً على شرط حرية المسلمين في مكة، فرجع سهيل إلى مكة للتشاور مع زعماء قريش بشأنه، ثم عاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله). وقد أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بحضور سهيل بيعة الرضوان من أصحابه على القتال وعدم الفرار، وعلى أن لاينازعوا الأمر أهله. فبيعة الرضوان لإرهاب قريش وإثبات جدية النبي (صلی الله علیه و آله) في فرض الأمر الواقع عليها.

وقال الواقدي: 2/602 قال لهم: «إن الله تعالى أمرني بالبيعة، فتداك الناس يبايعونه، بايعهم على أن لايفروا».

وفي شرح مسلم: 13/2: «في حديث ابن عمر وعبادة: بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله». وفي مسند أحمد: 5/321، عن عبادة: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، ولا تنازع الأمر أهله». ومعناه: أن لا ننازع الوصي على

خلافة النبي (صلی الله علیه و آله).

ص: 273

12- الإشتباكات مع قريش ودور علي (علیه السلام) فيها

1- نقرأ في سورة الفتح وصف مواجهة المسلمين لقريش في الحديبية، في قوله تعالى: وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الفتح: 24-25.

فنرى في الحديبية ظفراً عسكرياً للمسلمين حتى عدَّ الفقهاء مكة مفتوحة عنوة: قال في الخلاف: 5/528، عن الآية: «وهذا صريح في الفتح».

لكن رواة السلطة القرشية أخفوا الظفر العسكري لأن بطله علي (علیه السلام)، أو نسبوه إلى محمد بن مسلمة، أو ابن الأكوع، وحتى إلى خالد بن الوليد، الذي كان يومها قائداً في جيش المشركين! وغرضهم أن يخفوا مقاومة قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وصده عن العمرة، ويخفوا بطولة علي (علیه السلام) في مواجهة قريش! ويمدحوا أشخاصاً آخرين يحبونهم!

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/119: «ثم تلا بني المصطلق الحديبية، وكان اللواء يومئذ إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) كما كان إليه في المشاهد قبلها، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبره واستفاض ذكره».

أقول: رحم الله المفيد ليته بينه، فقد ظهر ذلك واستفاض ذكره إلى عصره في القرن الرابع،ثم طُمس وأخفي ولم يصلنا إلا محرفاً مبتوراً!

قال رواة السلطة كالطبري: 2/278: «إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذاً، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالحجارة والنبل». وفي رواية ابن عبدالبر أنهم كانوا ثمانين.

فمن الذي قاد هذه العملية النظيفة، وهاجم هؤلاء الفرسان، وأسرهم جميعاً بدون سفك دم؟لقد نسبوه إلى محمد بن مسلمة، وكأن علياً (علیه السلام) كان نائماً وهو قائد الجيش، الذي يُعَيِّن الحراسات ويسير الدوريات ويسهر على سير الأمور! لكنهم يحبون ابن مسلمة،

ص: 274

لأنه شارك في تأسيس النظام القرشي، وكان من المهاجمين لبيت فاطمة وعلي (علیهما السلام)!

2- ثم رووا أن سهيل بن عمرو قال في مفاوضته للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا محمد! إن هذا الذي كان من حبس أصحابك، وما كان من قتال من قاتلك، لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا، ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة، والذين أسرت آخر مرة!

قال: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي. قال: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتيم بن عبدمناف التيمي فبعثوا بمن كان عندهم، وهم: عثمان وعشرة من المهاجرين وأرسل رسول الله أصحابهم الذين أسروا».الإمتاع: 1/289.

فقد أسَرَ النبي (صلی الله علیه و آله) إذن مجموعة من المشركين وأطلقهم، ثم أسر مجموعتين واحتفظ بهم! فمن قام بذلك غير علي (علیه السلام) قائد الجيش؟!

ثم رووا أن خيل النبي (صلی الله علیه و آله) وكانوا مئتي فارس، قاتلوا فرسان قريش وهم خيل عكرمة بن أبي جهل، وهزموهم حتى أدخلوهم حيطان مكة!

قال الزمخشري في الكشاف: 3/547، في تفسير قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ: «لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مائة، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هزمه وأدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله: وهُوَ الَّذي كفَّ أيديهم»

فمن الذي بعثه النبي (صلی الله علیه و آله) وقاد هذه العملية النظيفة داخل الحرم، وهزم قوة المشركين الضاربة بدون سفك دم، ولماذا بخلوا بتسمية علي (علیه السلام) ؟!

3- ويأخذك العجب من وقاحة رواة قريش ونسبتهم ذلك إلى خالد بن الوليد مع أنه كان قائد خيل المشركين، واعترض النبي (صلی الله علیه و آله) في الطريق وأراد أن يهاجم المسلمين وهم في صلاتهم، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) تحاشى القتال!

لاحظ ما رواه الطبري في تفسيره: 26/123 والسيوطي في الدر المنثور: 6/78، عن عدة مصادر في تفسير قوله تعالى: وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، قال: «لما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) بالهدي وانتهى إلى ذي

ص: 275

الحليفة قال له عمر: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع! قال فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مائة فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله، يا رسول الله إرم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة! فأنزل الله: وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ.. إلى قوله: عذاباً أليماً». فهي رواية مكذوبة لمدح عمر بأنه أفقه من النبي (صلی الله علیه و آله) فنبهه إلى لزوم السلاح في سفره! ولمدح خالد وجعله سيف الله!لكن اضطر ابن كثير للإعتراف بكذب الرواية!قال في تفسيره: 4/20: «لأن خالداً لم يكن أسلم، بل كان حينئذ طليعة للمشركين كما ورد في الصحيح»!

4- واجه القرشيون النبي (صلی الله علیه و آله) بشراسة وبغضاء، مع أنه جاء معتمراً غير مقاتل! وأرسلوا خيلهم بقيادة خالد لإرجاعه أو قتاله، فتجنبها ونزل في الحديبية، فأرسلوا خيلهم بقيادة أبان بن سعيد إلى قربه، واستفردوا رجلاً مسلماً فقتلوه! وأرسل اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) رسولاً فعقروا بعيره وأهانوه! ثم قاموا بأسر مسلمين عُزَّل ذهبوا إلى مكة. ثم أرسل اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) عثمان بأمان أبان، فحبسوه!

مقابل ذلك قام النبي (صلی الله علیه و آله) بأسرمجموعة من اثني عشر فارساً، رداً على قتلهم المسلم: «يقال له رهم: اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار فقال لهم نبي الله: هل لكم علي عهد هل لكم علي ذمة، قالوا: لا. فأرسلهم».تفسير الطبري: 26/122.

ثم أسر النبي (صلی الله علیه و آله) مجموعة جاؤوا ليلاً للغارة على معسكره، ولم يطلقهم.

ثم أسر أربعين أو خمسين فارساً، وروي سبعين أو ثمانين، «الدرر لابن عبدالبر/194».

ثم رد هجوم خيلهم بقيادة عكرمة، وهزمهم حتى أوصلهم إلى حيطان مكة.

وكان الذي يقوم بالعمليات علي (علیه السلام)، ولذا جاءت نظيفة بدون سفك دم رجل

ص: 276

واحد في الحرم! لكنهم نسبوها إلى أحبائهم وفيهم من قادة المشركين!

وقد أنتجت هذه العمليات والبيعة التي أخذها النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم رأوا أن، ميزان القوة مع النبي (صلی الله علیه و آله) فقبلوا بالمعاهدة، خاصة بند حرية المسلمين في مكة!

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/166: «صده المشركون عن مكة صداً شكساً شرساً لئيماً، فما استخفه بذلك غضب ولا روع حلمه رائع، كان يأخذ الأمور مع أولئك الجفاة بالملاينة والإغماض، وله في شأنهم كلمات متواضعة، على أن فيها من الرفعة والعلاء ما يريهم إياه فوق الثرىا ويريهم أنفسهم تحت الثرى! وفيها من النصح لهم والإشفاق عليهم ما لم يكن فيه ريب لأحد منهم، ومن الحكمة الإلهية ما يأخذ بمجامع قلوبهم على قسوتها وغلظتها، ومن الوعيد والتهديد باستئصال جذرتهم وبذرتهم ما يقطع نياط قلوبهم».

5- أخفى رواة السلطة مناقب علي (علیه السلام) في الحديبة، لكن أفلتت منهم أحاديث:

الأول: رواه الحافظ في ثلاثة مواضع من تاريخه: 2/377، 3/181 و 4/441«عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو آخذ بضبع علي يوم الحديبية وهو يقول: هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. مد بها صوته».

فما هي المناسبة لهذه الإشادة من النبي (صلی الله علیه و آله) ليأخذ بعضد علي (علیه السلام)، ويمد صوته في مدحه؟ وهل كان إلا بعد تحقيقه انتصاراً بأسر مجموعة من المشركين، أو رد هجوم فرسانهم وفرارهم أمامه مسافة طويلة، حتى أدخلهم حيطان مكة؟ أو بعد تفاقم حسد الحاسدين وكلامهم على علي (علیه السلام) ؟

وقد تضمنت بعض روايات الحافظ قول النبي (صلی الله علیه و آله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب»!«وتاريخ دمشق: 42/226و282، وفتح الملك العلي لابن الصديق المغربي/57 والحاكم: 3/129»، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية.

وقال الخطيب التبريزي في الإكمال/111: «هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر والعلائي وجماعة، وصححه ابن معين وابن جرير والحاكم

ص: 277

والسيوطي والعلامة الهندي وجماعة من السلف. وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري والطبراني والحاكم والخطيب، ومن حديث أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عنه الترمذي وابن جرير، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح، فلا يلتفت إليهم»! ومن مصادرنا: الطوسي في الأمالي/483، الطبري الشيعي في المسترشد/622، عن محمد بن المنكدر وفيه أنه يوم الحديبية.

والحديث الثاني: في المناقب: 2/244، عن الترمذي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال يوم الحديبية لسهيل بن عمرو وقد سأله رد جماعة: «يا معشر قريش لتنتهوا أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم على الدين امتحن الله قلبه بالإيمان! قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها».

وقد أوردنا مصادره في آيات الغدير/144، وأثبتنا أنه صدر أيضاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة بعد فتح مكة، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرهم بأنهم لن ينتهوا عن معاداة الإسلام حتى يقاتلهم علي (علیه السلام) ! ويظهر أن سهيل بن عمرو طمع عندما قبل النبي (صلی الله علیه و آله) شرطهم بإرجاع من يأتيه منهم، فطالب بمن أتاه قبل الحديبية!

والحديث الثالث رواه الجميع: لما رفض سهيل أن يكتبوا كلمة «رسول الله».

ففي إعلام الورى: 1/371: «فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو: هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد، فافتتحه بما نعرفه واكتب باسمك اللهم. فقال: أكتب باسمك اللهم وامح ما كتبت. فقال (علیه السلام): لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوة، فامح هذا الإسم واكتب: محمد بن عبدالله. فقال له علي (علیه السلام): إنه والله لرسول الله على رغم أنفك. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أمحها يا علي. فقال له: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة! قال: فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده، وقال لعلي: ستدعى إلى مثلها فتجيب، وأنت على مضض».

وفي تفسير القمي: 2/313: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي إنك أبيت أن تمحو إسمي من النبوة، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد!

ص: 278

فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفیان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنك أميرالمؤمنين ما حاربناك، ولكن أكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفیان، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): صدق الله وصدق رسوله (صلی الله علیه و آله)، أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك»!

وفي الكافي: 8/326، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فقال لعلي (علیه السلام): أكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: ما أدري ما الرحمن الرحيم، إلا أني أظن هذا الذي باليمامة! ولكن أكتب كما نكتب: بسمك اللهم. قال: واكتبْ: هذا ما قاضى رسول الله سهيل بن عمرو. فقال: سهيل: فعلى مَ نقاتلك يا محمد؟!فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبدالله. فقال الناس: أنت رسول الله.قال: أكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله. فقال الناس: أنت رسول الله.

وكان في القضية أن من كان منا أتى إليكم رددتموه إلينا ورسول الله غير مستكره عن دينه، ومن جاء إلينا منكم لم نرده إليكم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لاحاجة لنا فيهم. وعلى أن يعبدالله فيكم علانية غير سر. وإن كانوا ليتهادون السيور من المدينة إلى مكة. وما كانت قضية أعظم بركة منها، لقد كاد أن يستولي على أهل مكة الإسلام».أي يتهادون الهدايا. والسيور: ما تربط به الهدية.

وفي النص والإجتهاد/174: «فضج المسلمون وقالوا: والله لا يكتب إلا ما أمر به رسول الله... وأبوا إلا أن يكتب رسول الله كل الإباء، وكادت الفتنة أن تقع لولا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: أنا محمد رسول الله وإن كذبتموني، وأنا محمد بن عبدالله فاكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو».

وهذا الحديث دليل من عشرات الأدلة على شرعية خلافة أميرالمؤمنين (علیه السلام).

والحديث الرابع: روته مصادرنا، قال العلامة في كشف اليقين/136: «وله في هذه الغزاة فضيلتان، إحداهما: إنه لما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد، وقال: لم أقدر

ص: 279

على المضي خوفاً من القوم! فبعث آخر ففعل كذلك، فبعث علياً (علیه السلام) بالروايا فورد واستسقى وجاء بها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا له بخير.

والثانية، وذكر حديث تهديد النبي (صلی الله علیه و آله) لقريش بعلي (علیه السلام) وفيه: «وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت وحرف كتاب الله، وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم على إحياء دين الله». ونحوه الإرشاد: 1/121.

13- بنود معاهدة الحديبية

1- الهدنة لمدة عشر سنين، إلا إذا اعتدى أحد الطرفين أو أعان معتدياً.

2 - حرية العرب في أن يختاروا من يتحالفون معه: النبي (صلی الله علیه و آله) أو قريش.

3- حرية المسلمين في مكة، فلا يؤذون ولا يمنعون من أداء شعائر الإسلام.

4- يلتزم النبي (صلی الله علیه و آله) بإعادة من يأتيه مسلماً من قريش، ولا تلتزم قريش بذلك.

5- تُخْلي قريش مكة للنبي (صلی الله علیه و آله) في العام القادم ثلاثة أيام، فيؤدي العمرة.

قال القمي في تفسيره: 2/310: «ورجع حفص بن الأحنف، وسهيل بن عمرو إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالا: يا محمد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام وأن لا يكره أحدٌ على دينه. فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالكتب ودعا أميرالمؤمنين وقال له: أكتب...ثم كتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبدالله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين، على أن يكف بعض عن بعض، وعلى أنه لا إسلال، ولا إغلال، وأن بيننا وبينهم عيبة مكفوفة، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليه يرده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يرده إليه، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة لا يكره أحد على دينه ولايؤذى ولا يعيَّر، وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه، ثم يدخل علينا في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام، ولايدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القراب. وكتب علي بن أبي طالب، وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار..

ص: 280

قال: فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله وعقده، وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها. وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونسخة عند سهيل بن عمرو، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم.

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: أنحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم، فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة؟! فاغتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك، وشكى ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول الله إنحر أنت واحلق، فنحر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحلق ونحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعظيماً للبدن: رحم الله المحلقين، وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله والمقصرين؟ لأن من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثانياً: رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي، فقالوا يا رسول الله والمقصرين؟ فقال رحم الله المقصرين».

وفي المناقب: 1/174: «فقال النبي (صلی الله علیه و آله): من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.

إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أفاوضك عليه أن ترده! فقال (صلی الله علیه و آله): إنا لم نقض بالكتاب بعد، قال: والله لا أصالحك على شئ أبداً.فقال النبي (صلی الله علیه و آله): فأجره لي، قال: ما أنا بمجيره لك.

قال مكرز: بلى أجرناه فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه ليس عليه بأس إنما يرجع إلى أبيه وأمه فإني أريد أن أتم لقريش شرطها»!.

14- غضبَ عمر وانشق على النبي (صلی الله علیه و آله) !

في المسترشد للطبري الشيعي/536: «فغضب الثاني وقال لصاحبه: يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين! ثم أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ألست برسول الله حقاً؟ قال: بلى قال: ونحن المسلمون حقاً؟ قال: بلى، قال: وهم الكافرون؟ قال: بلى،

ص: 281

قال: فعلى مَ نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): إنما أعمل بما يأمرني به الله ربي، إنه من خرج منها إليهم راغباً فلا خير لنا في مقامه بين أظهرنا ومن رغب فينا منهم، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. فقال: والله ما شككت في الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك! وقام من عند النبي (صلی الله علیه و آله) متسخطاً لأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) غير راض بذلك، ثم أقبل يمشي في الناس ويؤلب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويعرض به ويقول: وعدنا برؤياه التي زعم أنه رآها يدخل مكة، وقد صددنا عنها ومنعنا منها ثم ننصرف الآن، وقد أعطينا الدنية في ديننا! والله لو أن معي أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً!

ثم روى عن الواقدي: إني لأنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ جالساً متربعاً وإن عباد بن بشر، وسلمة بن أسلم بن حريش، مقنعان في الحديد قائمان على رأس رسول الله، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته فقالا له: إخفض من صوتك عند رسول الله، وسهيل بارك على ركبتيه كأني أنظر إلى علم في شفته، إذ وثب الثاني إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا بالمسلمين؟ فقال رسول الله: أنا عبدالله ورسوله لا أخالف أمره ولن يضيعني! فقال له: أعذرك الله؟ وجعل يردد الكلام على النبي فقال له أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول! تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم واتهم رأيك!

وقال ابن عباس: قال لي في خلافته وذكر القضية: إرتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلى يومئذ، ولو وجدت شيعة أخرج معهم رغبة عن القضية لخرجت»!

وفي كتاب سُليم/239: «قال: أنعطي الدنية في ديننا؟ ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يشككهم ويحضضهم ويقول: أنعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أفرجوا عني أتريدون أن أغدر بذمتي، ولاأفي لهم بما كتبت لهم، خذ يا سهيل بيد أبي جندل! فأخذه فشده وثاقاً في الحديد، ثم جعل الله عاقبة أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل».

وفي رواية: «أخرجوه عني! أتريد أن أخفر ذمتي ولا أفي لهم».البحار: 30/314.

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه: أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها/273:

ص: 282

«صلح الحديبية من أعظم الإنجازات الإسلامية على الإطلاق بل هو الثمرة المباركة لكافة المعارك التي خاضها رسول الله، وقد وصف تعالى في كتاب العزيز هذا الصلح بالفتح المبين والنصر العزيز، لأن هذا الصلح قد حسم الموقف نهائياً لصالح الإسلام دون إراقة قطرة دم واحدة! ولو تغاضينا عن هذه النتائج الباهرة فإن كل ما فعله الرسول كان بأمر ربه. لقد أعلن الرسول (صلی الله علیه و آله) أن روح القدس قد نزل عليه وأمره بالبيعة، وقد فهم الجميع أن الصلح قد تم بتوجيه إلهي فقد قال الرسول للجميع: إني رسول الله ولست أعصيه. وقال أبو بكر مخاطباً عمر: أيها الرجل إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره!

وبالرغم من كل ذلك، فإن عمر بن الخطاب اعتبر الصلح الذي رضي به الله ورسوله«دنية في الدين»وأن ما فعله الرسول كان خاطئاً وغير صحيح!

وحاول عمر أن يقنع الحاضرين بأن الصلح الذي ارتضاه الله ورسوله دنيةٌ

في الدين، ليفرضوا على الرسول إلغاء الصلح والرجوع عنه! ولما يئس من إقناعهم قال: لو وجدت أعواناً ما أعطيت الدنية في ديني!

والمثير أنهم رغم ذلك سجلوه شاهداً على صك صلح الحديبية! وكما تعلم فإن سنة الرسول تعني: قول الرسول وفعله وتقريره».

وقال المحامي يعقوب في كتاب المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /369: «لقد اعتبر عمر هذه المعاهدة«دنية»وقال للرسول أمام المسلمين: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا! وظهر الرجل بمظهر من يزاود على الرسول (صلی الله علیه و آله) بالدين، الذي علمه الرسول إياه! وقبل يوم واحد فقط طلب رسول الله من عمر أن يذهب إلى بطون قريش ليقول لها: بأن رسول الله لم يأت لقتال أحد إنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف، فرفض وقال: يا رسول الله إني أخاف قريش على نفسي وليس بها من بني عدي من يمنعني!«راجع المغازي للواقدي: 2/600.»

وهو نفس عمر الذي اشترك في معركة بدر! والذي لم يثبت أنه قتل مشركاً أو جرحه! وهو نفسه الذي هرب من المعركة يوم أحد! وقد ذكَّره الرسول بذلك

ص: 283

يوم أقبل عليه فقال له: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم!«راجع المغازي للواقدي: 2/609»وهو نفس الرجل الذي لم يكن له أي دورمميز في أي معركة من معارك الإسلام التي سبقت صلح الحديبية! ومع ذلك يزاود على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويصف المعاهدة التي وقعها النبي ورضي عنها بأنها دنية في ديننا! وأعلن عمر أنه لو وجد أعواناً ما أعطى الدنية»!

15- بقي عمر غاضباً ولم يبايع بيعة الرضوان

روى الجميع أن عمر لم يقتنع بجواب النبي (صلی الله علیه و آله) بل واصل شكه في نبوته! وبقي يتكلم ويعمل لعله يجد أنصاراً لينقض المعاهدة بالقوة!

قال ابن عباس كما في مغازي الواقدي: 2/607: «قال لي عمر في خلافته: ارتبت ارتياباً ما ارتبته منذ أسلمت إلا يومئذ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة من القضية، لخرجت. وعن أبي سعيد الخدري: قال عمر: والله لقد دخلني يومئذ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً»! واعتزل عمرتحت شجرة وواصل عملياته، فأرسل ابنه ليأتيه بفرس كانت له عند أحد الأنصار ليقاتل عليها! ومع ذلك زعموا أنه سمع بخبر بيعة الرضوان، فذهب ابنه عبدالله وبايع وجعلوه إلى جنب النبي (صلی الله علیه و آله) !

قال البخاري: 5/69:«عن نافع قال إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبدالله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله يبايع عند الشجرة وعمر لايدري بذلك، فبايعه عبدالله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله يبايع تحت الشجرة، قال فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله».

أقول: لا نقبل قولهم إنه بايع لأنه اعترف بأن النبي (صلی الله علیه و آله) بقي غاضباً عليه لايكلمه ولا يجيبه على كلامه، حتى رجعوا ووصلوا بعد يومين إلى كراع الغميم فنزلت سورة الفتح فأرسل عليه وقرأ له السورة! ومعناه أنه كان مغاضباً له لا يكلمه، وأراد أن يتم

ص: 284

عليه الحجة فأرسل اليه ليسمع السورة مع المسلمين فتساءل عمر: هل هذا فتح، وفي رواية أنه قال: والله ما هذا بفتح؟!

قال البخاري: 5/66، عن ابن عمر: «فسأله عمر بن الخطاب عن شئ فلم يجبه رسول الله ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه! وقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك! قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي. قال فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، وجئت رسول الله فسلمت فقال لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس،ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً».راجع: النص والإجتهاد/171.

16- عقدة عمر من شجرة بيعة الرضوان!

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/368 «المورد: 65: شجرة الحديبية هذه بويع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيعة الرضوان تحتها، فكان من عواقب تلك البيعة أن فتح الله لعبده ورسوله فتحا مبيناً ونصره نصراً عزيزاً، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبركاً بها وشكراً لله تعالى على ما بلَّغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة. فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها، فأمر بقطعها وقال: ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد!

«سبحان الله وبحمده والله أكبر! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصرة وهو رأس المارقة فيمتنع عن قتله احتراماً لصلاته، ثم يستل اليوم سيفه لقتل من يصلي من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان؟!

وي، وي ما الذي أرخص له دماء المصلين من المخلصين لله تعالى في صلاتهم؟ إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد حيث يطلع قرن الشيطان! وكم لفاروق الأمة من أمثال هذه البذرة كقوله للحجر الأسود: إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. ولقد كانت هذه الكلمة

ص: 285

منه كأصل من الأصول العملية بنیٰ عليها بعض الجاهلين تحريم التقبيل للقرآن الحكيم، والتعظيم لضريح النبي الكريم ولسائر الضرائح المقدسة، ففاتهم العمل بكثير من مصاديق قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَخَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ».

وفي الدر المنثور: 6/73: «أخرج البخاري وابن مردويه عن طارق بن عبدالرحمن قال: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان. وأخرج ابن أبي شيبة عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت».

أقول: هذه واحدة من محاولات عمر انتقاص مقام النبي (صلی الله علیه و آله) وإزالة آثاره، وهي تدل على عقدة في نفسه وذكرى سيئة لشجرة الرضوان وبيعة الرضوان!

كما تكونت عند عمر عقدة من التيمم، لأنه تيمم مرة فتمرغ بالتراب! فتبسم النبي (صلی الله علیه و آله) فحرم التيمم وأسقط آيته، وأفتى للمسلمين بدله بترك الصلاة!

17- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في الحديبية وليس في المدينة

قال المفسرون إن رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) بدخول المسجد الحرام كانت في المدينة قبل الحديبية، ونقلوا عليه الإجماع، وغرضهم من ذلك التخفيف من اعتراض عمر وأنه كان على حق نوعاً ما لأن النبي (صلی الله علیه و آله) وعدهم بدخول المسجد!

قال ابن الجوزي في زاد المسير: 7/172: «قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان أريَ في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاتَخَافُونَ.ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك، فلما رجعوا ولم يدخلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية».

لكن المرجح أنه (صلی الله علیه و آله) رآها في الحديبية بعد اعتراض عمر عليه، وعدم اقتناعه بكلامه.

ففي الكافي: 6/486: «عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): الفَرْقُ من السنة

ص: 286

تطويل الشعر وفرقه؟ قال: لا، قلت: فهل فرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: نعم. قلت: كيف فرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وليس من السنة؟ قال: من أصابه ما أصاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يفرق كما فرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد أصاب سنة رسول الله وإلا فلا. قلت له: كيف ذلك؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين صُدَّ عن البيت وقد كان ساق الهدي وأحرم أراه الله الرؤيا التي أخبره الله بها في كتابه إذ يقول: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاتَخَافُونَ.. فعلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن الله سيفي له بما أراه فمن ثَمَّ وفَّرَ ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين أحرم انتظاراً لحلقه في الحرم حيث وعده الله عزوجل، فلما حلقه لم يعد في توفير الشعر ولا كان ذلك من قبله».

وفي تفسير الطبري: 26/138عن مجاهد، قال: «أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد»؟!

18- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإحلال من الإحرام ونحر الضحايا

قال الصدوق في من لايحضره الفقيه: 2/450: «اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاث عُمَر متفرقات كلها في ذي القعدة. عمرة أهلَّ فيها من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرة القضاء أحرم فيها من الجحفة، وعمرة أهل فيها من الجعرانة وهي بعد أن رجع من الطائف من غزوة حنين».

وفي الفقيه: 2/239، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «الذي كان على بدن النبي (صلی الله علیه و آله) ناجية بن الخزاعي الأسلمي، والذي حلق رأسه (صلی الله علیه و آله) يوم الحديبية خراش بن أمية الخزاعي والذي حلق رأسه في حجته معمر بن عبدالله بن حارث بن نصر بن عوف بن عويج بن عدي بن كعب، فقيل له وهو يحلقه: يا معمر أذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يدك! قال: والله إني لأعده فضلاً علي من الله عظيماً. وكان معمر بن عبدالله يرجل شعره (صلی الله علیه و آله) وكان ثوبا رسول الله (صلی الله علیه و آله) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبري وظفاري. وقطع التلبية حين زاغت الشمس يوم عرفة».

ص: 287

لكن في الكافي: 4/368، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين صد بالحديبية قصروأحل ونحر، ثم انصرف منها، ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك، فأما المحصور فإنما يكون عليه التقصير».

19- نزلت سورة الفتح في عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من الحديبية

في النص والإجتهاد/181: «كانت إقامته في الحديبية تسعة عشر يوماً، قفل بعدها إلى المدينة، فلما كان بكراع الغميم موضع بين الحرمين نزلت عليه سورة الفتح، وعمر لايزال حينئذ آسفاً من صد المشركين إياهم عن مكة، ورجوعهم وهم على خلاف ما كانوا يأملون من الفتح»! وكان نزولها في مكان يدعى كراع الغميم، بعد يومين من مسير النبي (صلی الله علیه و آله) من الحديبية في عودته إلى المدينة، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين إلى الإجتماع ليتلوها عليهم، ودعا عمر خاصة لعله يخرج من شكه وارتيابه وعمله لنقض المعاهدة! ولكن عمر بقي مصراً وقال: «والله ما هذا بفتح أو والله ما هذا بفتح! لقد صددنا عن البيت وصد هدينا. ورُدَّ رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح! أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا». النص والإجتهاد/182.

وفي سيرة ابن هشام: 3/786: «فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة، في قول جابر بن عبدالله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف».

ص: 288

20- أهم موضوعات سورة الفتح

الآيات الثلاث الأولى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا1 لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا 2 وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا 3.

بشارة للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن معاهدة الحديبية كانت إنجازاً مهماً وفتحاً مبيناً، وأن ليونته مع قريش وتنازله لهم، قد طامن من بغضهم له وحقدهم عليه، وغفر ذنبه بنظرهم، بل أعطاه الحجة إذا عاملهم بحزم وشدة فيما بعد.

والآيات من: 4-7، بينت أن الله تعالى ثبَّت المؤمنين على طاعة النبي (صلی الله علیه و آله)، لإنجاز الفتح الذي تم، فقد أنزل الله عليهم السكينة فازدادوا إيماناً، ورضوا بعمل النبي (صلی الله علیه و آله). وأن المنافقين الظانين بالله ظن السوء، سوف يعاقبهم ويعذبهم.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا4لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا 5 وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَّدَ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا6وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 7.

والآيتان 8 و9، بينت مهمات الرسول (صلی الله علیه و آله) التي وضعها الله له: شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وبينت واجب المؤمنين في الإيمان به وطاعته وتجليله.

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا8 لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ

بُكْرَةً وَأَصِيلاً 9.

ثم أكد عزوجل في الآية 10، مسؤولية المبايعين للنبي (صلی الله علیه و آله) وحذرهم بالعقوبة إن نكثوا بيعتهم،ووعدهم بالأجر العظيم إن وفوا بها. إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا10.

وفي الآيات 11- 17، عالج قضية المتخلفين عن النبي (صلی الله علیه و آله) من أهل المدينة وقبائل العرب، الذين دعاهم إلى السفر معه إلى الحديبية، فرفضوا.

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا

ص: 289

لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 11 بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا 12وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا 13 وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا 14 سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً 15 قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 16 لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاعَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا17.

والآيات من 18-21، بدأت برضا الله تعالى عن الصحابة المؤمنين الذين بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) تحت شجرة الحديبية، وأكد أن ما تم لهم كان فتحاً قريباً، ووعدهم الله بمغانم كثيرة مادية وسياسية، لم تكن لتتحقق لولا صلح الحديبية.

لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18 وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 19 وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا20 وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرًا21.

والآيات 22- 26، وصفت مشركي قريش بأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام، وأنهم لو قاتلوا المسلمين في غزوة الحديبية لانهزموا، لكن الله تعالى كف أيدي الطرفين عن بعضهم لمصالح يعلمها، منها وجود مؤمنين في مكة في أصلاب هؤلاء المشركين، ولو قتلهم يومئذ لظلم لهؤلاء الأولاد في أصلابهم: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ».

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا 22 سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً 23 وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا 24 هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ

ص: 290

مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 25 إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا 26.

والآية27، في رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه سيدخل المسجد الحرام مع المسلمين، وأنها حق وسوف تتحقق في وقتها، وأن الله تعالى بعلمه جعل قبلها فتحاً قريباً.

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا27.

والآية28و29، تأكيد للوعد الرباني الحتمي بأن سيظهر دينه على الدين كله في العالم، وأن هذا هو الهدف من إرسال رسوله محمد (صلی الله علیه و آله) والذين معه من عترته، وأنهم غصون شجرته الموعودين في التوراة والإنجيل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ. فالنبي (صلی الله علیه و آله) هو الشجرة والكلمة الطيبة، والشطأ هو أولاد الشجرة. وأعداؤهم الكلمة الخبيثة والشجرة الملعونة في القرآن. ولايصح تفسير الشطأ بالصحابة لأنه بإجماع اللغويين أولاد الشجرة والزرع.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. 28 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الآنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا29.

21- الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان

رفعت السلطة القرشية آية: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. شعاراً في مدح الصحابة مقابل أهل البیت (علیهم السلام)، ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأهل الحديبية: أنتم خير أهل الأرض. قال في فتح الباري: 7/341: «هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة.وعند مسلم من حديث جابر مرفوعاً:

ص: 291

لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية. وروى مسلم أيضاً من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) يقول: لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة».

وهو قولٌ لايصح، لأنهم بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية على عدم الفرار في الحرب ثم نكثوا بيعتهم بعد شهر في خيبر وفروا، ثم نكثوها بعد سنة في حنين وفروا. ولا يصح، لأن من أهل بيعة الرضوان أبا الغادية قاتل عمار بن ياسر (رحمة الله)، الذي شهد النبي (صلی الله علیه و آله) أنه من أهل النار. ومنهم عبدالرحمن بن عديس البلوي الذي قاد حصار عثمان وقتله، وقالوا إنه من أهل النار! ولأن رئيس المنافقين المدنيين ابن سلول كان معهم وبايع!

قال في النص والإجتهاد/168: «إن قريشاً بعثت إلى ابن سلول وهو مع رسول الله في الحديبية: إن أحببت أن تدخل مكة تطوف بالبيت فافعل. فقال له ابنه عبدالله: يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن فتطوف ولم يطف رسول الله؟! فأبى الرجل حينئذ وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله».

ولايصح ثالثاً، لأن الرضا عن المبايعين في الآية محدود بظرف، ومشروط بالإيمان، فقد قال عزوجل: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.. أي رضي عن المؤمنين منهم في ظرف البيعة، ولوكان الرضا أوسع من ظرف البيعة لما استعمل «إذ»، ولو شملهم جميعاً لجعله عنهم وليس عن المؤمنين منهم!

ولايصح رابعاً، لأنه بايعهم على أن لا ينزعوا الأمر أهله، وقد نازعوهم وعزلوهم واضطهدوهم وقتلوهم!

لكن مع قوة هذه الإشكالات، ما زال أتباع السلطة يتمسكون بها لمدح أبي بكر وعمر ويقولون إن عمر بايع وإنه مشمول بالسكينة التي أنزلها الله على أهل بيعة الرضوان!

22- ما جرى لأبي جندل وأبي بصير والمستضعفين بمكة

قال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/176: «فبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، إذ جاء أبو جندل واسمه العاص بن

ص: 292

سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في قيوده، وكان أسلم بمكة قبل ذلك فمنعه أبوه من الهجرة وحبسه موثوقاً! وحين سمع أن النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه في الحديبية احتال حتى خرج من السجن، وتنكب الطريق في الجبال حتى هبط على المسلمين ففرحوا به وتلقوه، لكن أخذه أبوه بتلابيبه يضرب وجهه ضرباً شديداً وهو يقول: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليَّ!

قال (صلی الله علیه و آله) لأبي جندل: إصبر واحتسب، فقد تم الصلح قبل أن تأتي، ونحن لا نغدر وقد تلطفنا بأبيك فأبى، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. وهنا وثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يغريه بقتل أبيه، ويدني إليه السيف! قال عمر كما في السيرة الدحلانية وغيرها: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، وجعل يقول له: إن الرجل يقتل أباه والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم! لكن أبا جندل لم يجبه إلى قتل أبيه خشية الفتنة وعمل بما أمره به رسول الله من الصبر والإحتساب، وقال لعمر: مالك لا تقتل أنت أباك؟ قال عمر: نهانا رسول الله. فقال أبو جندل: ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني!

ورجع مع أبيه إلى مكة في جوار مكرز وحويطب، فأدخلاه مكاناً وكفا عنه أباه وغيره وفاء بالجوار. وجعل الله بعد ذلك له ولسائر المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً... وكان في المستضعفين المعذبين في مكة رجل من أبطال المسلمين يدعى أبا بصير، احتال حتى خرج من السجن ففر هارباً إلى رسول الله وهو في المدينة بعد رجوعه من الحديبية، فكتبت قريش في رده كتاباً بعثت به رجلاً من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق، فقدما على رسول الله بالكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أبنائنا فابعث إلينا أبا بصير. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح الغدر منا، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق راشداً. قال: يا رسول الله إنهم يفتنوني عن ديني.

قال (صلی الله علیه و آله): يا أبا بصير إنطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين

ص: 293

فرجاً ومخرجاً! فودع الرجل رسول الله وانطلق معهما، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس إلى جدار ومعه صاحباه، فقال لأحدهما: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم. قال أبو بصير: أرنيه، فناوله إياه فاستله أبو بصير ثم علاه فإذا هو يتشحط بدمه، ثم هم بالثاني فهرب منه، حتى أتى رسول الله، فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، وأبو بصير في أثره. قال (صلی الله علیه و آله): قد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي قال له (صلی الله علیه و آله): ويحك مالك؟ قال: إن صاحبك قتل صاحبي وأفلت منه ولم أكد، وإني لمقتول فأغثني يا محمد فأمَّنه رسول الله،وإذا بأبي بصير يدخل متوشحاً سيفه يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وفيت ذمتك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت منهم بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي. فقال له: إذهب حيث شئت، فقال: يا رسول الله هذا سلب العامري الذي قتلته، رحله وسيفه فخمسه. فقال له (صلی الله علیه و آله): إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك.

وعند ذلك هب أبو بصير إلى محل من طريق تمر به عيرات قريش، واجتمع إليه جمع من المسلمين المستضعفين الذين كانوا قد احتبسوا بمكة إذ بلغهم خبره وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال في حقه: إنه مسعر حرب لو كان معه رجال، فتسللوا حينئذ إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وخرج من مكة في سبعين فارساً أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله في تلك المدة مدة المهادنة، وانضم إليهم ناس من غفار وجهينة وأسلم وطوائف أخر من العرب حتى بلغوا ثلاث مائة مقاتل، فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منها إلا قتلوه، ولا مر بهم عير إلا أخذوها، ومنعوا الدخول إلى مكة والخروج منها! فاضطرت قريش أن تكتب لرسول الله تسأله بالأرحام التي بينه وبينها إلا آواهم وأرسلت أبا سفيان بن حرب في ذلك، فأبلغه أبوسفيان: إنا أسقطنا هذا الشرط من شروط الهدنة، فمن جاءك منهم فأمسكه من غير حرج!

وحينئذ كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، وأن يلحق من معهما من المسلمين بأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش ولا لعيراتهم، فقدم

ص: 294

كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليهما وأبو بصير يموت، فمات والكتاب في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً.وقدم أبو جندل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع ناس من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهليهم، وأمنت قريش على عيراتهم! وحينئذ عرف الصحابة الذين عظم عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه أن طاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) خير مما أحبوه، وعلموا أن الحكمة كانت في الحديبية توجب الصلح فرضاً على التعيين، وأنه (صلی الله علیه و آله) لاينطق عن الهوى، وندموا كل الندم على ما بدر منهم من هناة معترفين بالخطأ، وقدرت قريش موقفه يومئذ معها في حقن دمائها».

راجع: الكافي:8/326 ومناقب آل أبي طالب: 1/175.

23- النتائج الكبرى لمعاهدة الحديبية

يكفي في وصف نتائجها قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. وأول الفتح اعتراف قريش بدولة الإسلام، وقد فتح ذلك أبواب الجزيرة العربية وصار بإمكان أي قبيلة أن تعلن إسلامها أو تحالفها مع النبي (صلی الله علیه و آله) دون حرج أو خوف، بل فتحت أبواب مكة للإسلام وصار القرشي يعلن إسلامه ويؤدي شعائره دون خوف من ظلم قريش وطغيانها.

في الإحتجاج: 2/222، من حديث الإمام الرضا (علیه السلام) مع المأمون في تفسير قوله تعالى: «قال الرضا (علیه السلام): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مائة وستين صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَئٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَئٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ. فلما فتح الله عزوجل على نبيه مكة قال له: يا محمد: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. عند مشركي أهل مكة بدعائك إياهم إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار

ص: 295

التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم مغفوراً بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن»!فذنبه (صلی الله علیه و آله) سياسي لا حقيقي كما تخيلوا! راجع تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) للشريف المرتضى/164 والإنتصار للمؤلف: 4/39.

24- لم تشارك قبائل العرب في غزوة الحديبية

استعظمت قبائل العرب حركة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة، واعتبرها بعضهم مغامرة لأنهم لم يدركوا وضع قريش والتحولات التي حصلت في ميزان القوة.

في تفسير القمي: 2/310: «وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستنفر بالأعراب في طريقه، فلم يتبعه أحد ويقولون: أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم، وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم! إنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبداً»!

وقد وصف الله مواقف بعض القبائل فقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاتُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَاسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَاسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً.

و في تفسير القمي: 1/145:«فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. فإنها نزلت في أشجع وبني ضمرة وهما قبيلتان، وكان من خبرهما أنه لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزاة الحديبية مر قريباً من بلادهم وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) هادن بني ضمرة ووادعهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريباً منا ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشاً، فلو بدأنا بهم؟فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلا إنهم أبرُّ العرب بالوالدين وأوصلهم للرحم وأوفاهم بالعهد..الخ.».

وفي الكافي: 8/227، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ.قال: نزلت في بني مدلج لأنهم جاؤوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك رسول الله، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: واعدهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا وإلا قاتلهم».

ص: 296

الفصل السادس والخمسون: بعد الحديبية راسل النبي (صلی الله علیه و آله) ملوك العالم

«وفي سنة ست أو في سنة سبع كان إرسال النبي (صلی الله علیه و آله) الرسل إلى ستة من الملوك الذين يتحكمون في شعوب الأرض، فقد أرسل في ذي الحجة الحرام أو في أواخره أو في المحرم ستة نفر في يوم واحد، فخرجوا مصطحبين.

وقد كتب إليهم وإلى غيرهم من الملوك والرؤساء في داخل بلاد الإسلام وخارجها. وكانت اللغة التي كتب إليهم بها هي العربية والتي هي لغة القرآن والإسلام. والملوك الستة الذين كتب النبي (صلی الله علیه و آله) إليهم هم:

1 - النجاشي، ملك الحبشة.

2 - قيصر، ويقال: هرقل، عظيم الروم.

3 - كسرى، حاكم فارس والمدائن.

4 - المقوقس، صاحب الإسكندرية «مصر».

5 - الحارث، والي تخوم الشام ودمشق.

6 - ثمامة بن أثال، وهوذة بن علي الحنفيان، ملكا اليمامة، وقائداها.

أما الذين حملوا الكتب إلى هؤلاء فهم:

1 - عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي.

2 - دحية بن خليفة الكلبي، إلى قيصر.

3 - عبدالله بن حذافة السهمي، إلى كسرى.

ص: 297

4 - حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، إلى المقوقس.

5 - الشجاع بن وهب الأسدي، إلى الحارث بن أبي شمر الغسَّاني.

6 - وسليط بن عمرو العامري، إلى ثمامة وهوذة.

والظاهر أنه قد كان ثمة رهبة شديدة وخوف عظيم لدى بعض المسلمين من هذا الأمر، حتى إن الرسل أنفسهم أظهروا تثاقلاً عن تنفيذ أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

وقد يكون من أسباب ذلك خوفهم من بطش أولئك الملوك بهم، وذلك في سورة غضب شديد توقَّعوها منهم حين تسليم الرسائل إليهم، فقد قالوا: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية، فقال: يا أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة، فأدوا عني يرحمكم الله ولا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريون على عيسى!وقال: إنطلقوا ولا تصنعوا كما صنع رسل عيسى بن مريم. فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟! فقال: دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلَّم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً، فكره وجهه وتثاقل فشكى ذلك عيسى إلى الله تعالى، فأصبح المتثاقلون كل واحد منهم يتكلم بلسان الأمة التي بعث إليها.

وقد اعتبر الواقدي: أن من معجزات رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه حين بعث النفر الستة إلى الملوك: أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثهم إليهم. وقالوا: كان ذلك معجزة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)».الصحيح من السيرة: 16/200.

وقال الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 1/181: «لما تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة، رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.فعندئذ كتب إلى الملوك من العرب والعجم ورؤساء القبائل والأساقفة والمرازبة والعمال وغيرهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، فبدأ بإمبراطوري الروم وفارس وملكي الحبشة والقبط ثم بغيرهم، فكتب في يوم واحد ستة كتب وأرسلها مع ستة رسل. قيل: يا رسول الله إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) خاتماً من فضة، نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله. وقيل:

ص: 298

إن الأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل فيبدأ به محمد، ثم رسول، ثم الله، فختم به الكتب. وفي مسند عبد بن حميد عن أنس قال: كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ملك الروم فلم يجبه، فقيل له: إنه لا يقرأ إلا أن يختم، قال: فاتخذ رسول الله خاتماً من فضة وكتب فيه: محمد رسول الله... وهذه الكتب بأجمعها تتضمن معنى واحداً وتروم قصداً فارداً، وإن كان اللفظ مختلفاً إذ كلها كتب لمرمى واحد، وهو الدعوة إلى التوحيد والإسلام..

قال قيصر لأخيه حين أمره برمي الكتاب: أترى أرمي كتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر. وقال لأبي سفیان بعد أن ساءله وتكلم معه في النبي (صلی الله علیه و آله) كما يأتي: إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي ليبلغن ملكه ما تحت قدمي.

وخرج ضغاطر الأسقف أسقف الروم بعد قراءة الكتاب إلى الكنيسة والناس حشد فيها، وقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب. وكتب فروة عامل قيصر على عمَّان إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بإسلامه، فلما بلغ ذلك ملك الروم أخذه واعتقله واستتابه فأبى، ثم قتله فقال حين يقتل:

بلغ سراة المسلمين بأنني *** سلَّمت ربي أعظمي وبناني

وكتب اليه هوذة بن علي ملك اليمامة: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

وأجابه جيفر وعبد ابنا جلندي ملكا عُمَان بالإسلام وخلوا بينه وبين الصدقة.

وأجابه المنذر بن ساوى ملك البحرين وحسن إسلامه. وأجابه ملوك حمير ووفدوا. وأجابه أساقفة نجران وأعطوا الجزية، ولباه عمال ملك فارس بالبحرين واليمن، ولباه أقيال حضرموت، ولباه ملك أيلة ويهود مقنا وغيرهم، إما بالإسلام أو الجزية. وكتب إليه النجاشي بإسلامه وإيمانه..

وقد زادت«كتبه»على الخمسين كتاباً، ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير»

ص: 299

الفصل السابع والخمسون: بعد الحديبية افتروا على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه سحر

قصة افترائهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) مسحور

كتبنا في ألف سؤال وإشكال: 2/211: «قال الله تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رجلاً مَسْحُوراً. وقالت عائشة لقد سُحِر النبي (صلی الله علیه و آله) وأثَّر عليه السحر، فكان يتخيل أنه فعل الشئ ولم يفعله! وزعمت أن يهودياً سَحَره فأخذ مشطه وبعض شَعره وجعل فيه سحراً ودفنه في بئر! وأنه (صلی الله علیه و آله) فقد حواسه وذاكرته وبقي على تلك الحالة ستة أشهر مسحوراً! حتى دلَّهُ رجلٌ أو ملَك على الشخص الذي سحره والبئر التي أودع فيها المشط والمشاطة من شعره! فذهب إلى البئر، ولكنه لم يستخرج المشط منها أو استخرجه، وفكَّ عقد خيط الجلد الذي لُفَّ به، وأمر بدفن البئر، ولم يقتل الذي سحره، لأنه لم يُرِدْ أن يثير فتنة!

روى البخاري هذه الخرافة في صحيحه عن عائشة في خمسة مواضع! منها في: 4/91: «عن عائشة قالت: سُحِرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ! وقال الليث كتب إلى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه، عن عائشة قالت: سُحر النبي (صلی الله علیه و آله) حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: اُشْعِرتُ أن الله أفتاني فيما فيه شفائي. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما وجعُ الرجل؟ قال: مَطْبُوب! قال: ومن طَبَّهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر! قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذِروان! فخرج إليها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنها رؤوس الشياطين! فقلت: استخرجتهُ؟ فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيتُ أن

ص: 300

يثير ذلك على الناس شراً، ثم دُفِنَتْ البئر»!

وفي: 4/68: «سُحر حتى كان يُخَيَّلُ إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه»!

وفي: 7/88: «مكث النبي كذا وكذا، يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي»!

وفي: 7/29: «كان رسول الله سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن! قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا»!

وكرر بخاري ذلك بروايات متعددة: 7/28 و164. وروته عامة مصادرهم!

وقال ابن حجر في مدة بقاء النبي (صلی الله علیه و آله) مسحوراً مجنوناً معاذ الله!

«ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة، وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد: ستة أشهر ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوماً من استحكامه! وقال السهيلي: لم أقف في شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي فيها في السحر حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري أنه لبث ستة أشهر! كذا قال. وقد وجدناه موصولاً بإسناد الصحيح فهو المعتمد».فتح الباري: 10/192.

أقول: يقصد السهيلي ما في مسند أحمد: 6/63: «عن عائشة قالت: لبث رسول الله ستة أشهر يرى أنه يأتي نساءه، ولا يأتي»!

ثم تقرأ تفاصيلهم العامية عن فريتهم في سحر النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن صبياً يهودياً سرق مشط النبي (صلی الله علیه و آله) وشيئاً من شعره وأعطاها إلى اليهودي لبيد الأعصم، فجعل معها خيطاً من جلد وعقده اثنتي عشرة عقدة، أو أحد عشرة عقدة، ثم قرأ عليها السحر ولفَّ الجميع في قماشة، ثم دفنها تحت صخرة بئر ذروان الذي يقع خارج المدينة، وكان ماؤها بسبب السحر أحمر كالحنَّاء، وكان النخل الذي يسقى منها طلعه كأنه رؤوس الشياطين!

ثم بعد ستة أشهر قضاها سيد الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) مريضاً مسحوراً نصف مجنون! دلَّه الملك على البئر فذهب اليها، أو أرسل علياً والزبير، فاستخرجوا المشط وفكوا عقد الخيط، فشفي النبي (صلی الله علیه و آله) من السحر! راجع المجموع: 12/243.

ص: 301

ثم اقرأ تأكيد ابن حجر على تأثير السحر على حواس النبي (صلی الله علیه و آله) وبعض عقله! قال: «قوله: حتى كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخيَّل إليه أنه كان يفعل الشئ وما فعله. قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثمَّ، وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ!

قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي (صلی الله علیه و آله) فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها... فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لاحقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين!

قلت: وهذا قد ورد صريحاً في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وفي رواية الحميدي أنه يأتي أهله ولا يأتيهم... وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الإقتدار على الوطأ، فإذا دنا من المرأة فَتَرَ عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى: حتى كاد ينكر بصره، أي صار كالذي أنكر بصره، بحيث أنه إذا رأى الشئ يخيل أنه على غير صفته فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به». انتهى.

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: 1/306:«وفي محرم سنة سبع سحر لبيد بن الأعصم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على مال جعله له من بقي بالمدينة من اليهود والمنافقين».

وقال في الإمتاع: 8/43: «وفي جامع معمر بن راشد عن الزهري قال: سحر رسول الله (صلی الله علیه و آله) سنة يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو (صلی الله علیه و آله) لا يفعله..

ص: 302

وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أبو مروان، عن إسحاق ابن عبدالله، عن عمر بن الحكم قال: لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحديبية في ذي الحجة ودخل الحرم، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة، ممن يظهر الإسلام، وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودي، وكان حليفاً في بني زريق، وكان ساحراً، قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم بالسحر وبالسموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحر منا، وقد سحرنا محمداً فسحره منا الرجال والنساء، فلم نصنع شيئاً وأنت ترى أثره فينا وخلافه ديننا ومن قتل منا وأجلى، ونحن نجعل لك على ذلك جعلاً على أن تسحره لنا سحراً ينكره، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله (صلی الله علیه و آله). فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر، فعقد فيه عقداً، أو تفل فيه تفلاً، وجعله في جب طلعة ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة البئر، فوجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمراً أنكره، حتى يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دله الله عليه، فدعا جبير بن إياس الزرقي، وقد شهد بدراً، فدله على موضع في بئر ذروان، تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقد دلني الله على سحرك وأخبرني ما صنعت، قال: حب الدنانير يا أبا القاسم.

قال إسحاق بن عبدالله: فأخبرت عبدالرحمن بن كعب بن مالك بهذا الحديث فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد وكن أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الذي ذهب به، فأدخله تحت أرعوفة البئر، فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلك الساعة بصره، ودس بنات أعصم إحداهن، فدخلت على عائشة رضی الله عنها فخبرتها عائشة، أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بصره، ثم خرجت إلى أخواتها وإلى لبيد فأخبرتهم، فقالت إحداهن: إن يكن نبياً فسيخبر، وإن يكن غير ذلك فسوف يدله هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا، فدله الله عليه.

قال الحارث بن قيس: يا رسول الله ألا نهور البئر؟ فأعرض عنه

ص: 303

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهورها الحارث بن قيس وأصحابه وكان يستعذب منها. قال: وحفروا بئرا أخرى فأعانهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حفرها حين هوروا الأخرى التي سحر فيها، حتى أنبطوا ماءها ثم تهورت بعد. ويقال: إن الذي استخرج السحر بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قيس بن محصن».

رد علمائنا لهذه الفرية

أقول: هذا بعض كلامهم الطويل العليل الذي يريدون به أن يقنعوك به بأن نبيك (صلی الله علیه و آله) كان لمدة ستة أشهر مسحوراً، وأنه مرض من ذلك وانتثر شعر رأسه، وصار أقرع أو كالأقرع، وصار يذوب ولا يدري ما عراه! وكان يتصور أنه يرى شيئاً وهو لايراه، ويتصور أنه أكل ولم يأكل، وأنه نام مع زوجته ولم يفعل!

ثم يريدون أن يطمئنوك بأن النبي (صلی الله علیه و آله) بخير وعافية، فالسحر قد تسلط على جسده وظواهر جوارحه، أي على قسم من عقله وليس على جميعه!

ويقولون لك نعم إن نبيك (صلی الله علیه و آله) معصوم لاينطق عن الهوى، لكن عصمته إنما هي في تبليغه الرسالة فقط! أما في غير التبليغ فقد يصاب بالسحر وبالجنون، فيفقد التمييز في الأمور الدنيوية التي لم يبعث من أجلها! ومنها استخلاف من يقود المسلمين بعده! وكل دليلهم على ذلك أن عائشة قالته، ولو خالف القرآن!

لقد فاقت القرشيات بافترائها على النبي (صلی الله علیه و آله) كل ما افترته الإسرائيليات على أنبيائهم:! ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»!

وقد رد هذه الفرية علماء الشيعة، وتجرأ على ردها معهم بعض علماء السنة!

قال الطوسي في تفسير التبيان: 1/384: «ما روي من أن النبي (صلی الله علیه و آله) سُحِر وكان يرى أنه يفعل ما لم يفعله، فأخبار آحادٍ لايلتفت إليها، وحاشا النبي (صلی الله علیه و آله) من كل صفة نقصٍ، إذ تنفر من قبول قوله لأنه حجة الله على خلقه وصفيه من عباده، اختاره الله على علم منه، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبَّه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة؟!

ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء: إلا من لم يعرف مقدارهم ولايعرفهم حقيقة

ص: 304

معرفتهم، وقد قال الله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وقد أكذب الله من قال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رجلاً مَسْحُوراً. فنعوذ بالله من الخذلان».

وقال ابن إدريس في السرائر: 3/534: «والرسول (صلی الله علیه و آله) ما سُحِر عندنا بلا خلاف لقوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وعند بعض المخالفين أنه سُحر»!

قال في الصحيح من السيرة: 16/225: «وزعموا: أنه في شهر محرم من السنة السابعة وقيل سنة ست: سحر رسول الله. فعن عائشة قالت: سُحر رسول الله حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان! وعن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكان لبيد هو الذي ذهب به فأدخله تحت راعوفة البئر. ودس بنات أعصم إحداهن فدخلت على عائشة،فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله من بصره! ثم خرجت إلى أخواتها بذلك فقالت إحداهن: إن يكن نبياً فسيخبَّر، وإن كان غير ذلك فسوف يُدْلِهُهُ هذا السحر، فيذهب عقله، فدله الله عليه! وقد مرض من سحرهن له حتى إنه لم يقدر على قربان أهله ستةأشهر،وذكر الستة والأربعين يوماً في الوفاء! وعن الزهري: أنه لبث سنة! وفي بعض الروايات: أن سِحْرَ يهود بني زريق حبس النبي عن خصوص عائشة: سنة!

بل في بعضها: فأقام رسول الله لايسمع ولا يبصر، ولا يفهم، ولا يتكلم، ولا يأكل ولا يشرب..! فهل يمكن أن يكون هذا حال من وصفه الله تعالى بأنه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى؟!

وقد ذكرت الروايات المتقدمة: أن شعر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد انتثر بواسطة السحر.. وهذا أمر عجيب وغريب لم نعهده في سحر الساحرين، ولا قرأناه في تاريخ هذا النبي الأمين (صلی الله علیه و آله)،فلو كان ذلك قد حصل فعلاً لاعتبره المؤرخون مفصلاً تاريخياً في حياته (صلی الله علیه و آله) ! إننا لا نشك في كذب هذه الروايات، ونعتقد أنها من مجعولات أعداء هذا الدين».

أقول: أصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عمر وعائشة والبخاري حتى

ص: 305

لو خالف القرآن والقطعي من السنة، ولايسمحون لأنفسهم ولا لأحد أن ينتقده ويرده! وقد أوقعهم ذلك في مشكلات عديدة في العقائد والفقه! تورطوا فيها وما زالوا دون أن يجرأ أحد منهم على القول: معاذ الله، إنها تهمة الكفار لنبينا (صلی الله علیه و آله) وقد برَّأه الله منها، فإن صحت عن عائشة فهي من خيالاتها!

وقد استنكر الله تعالى تهمة الكفار، فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا. اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً. الإسراء: 46-48.

فما الفرق بين قول هؤلاء وقول عائشة: «حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله»؟ أليس هذا الجنون بعينه! وإن قبلوه في النبي (صلی الله علیه و آله) فمن يضمن أن يكون الله تعالى أنزل عليه وحياً وأوامر فتصور أنه بلغ ذلك ولم يبلغه!

ثم متى كانت هذه الحادثة؟في السنة السادسة أو السابعة؟وكل حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وسنواتها وأيامها مشهودة منظورة، وكيف لم يعرف ذلك إلا عائشة؟!

فبعد رجوعه (صلی الله علیه و آله) من الحديبية في ذي الحجة راسل ملوك العالم، ودخلت السنة السابعة فغزا خيبر، ثم اعتمر عمرة القضاء، ثم كانت غزوة مؤتة. فمتى كانت حادثة السحر المزعومة!

ثم كيف يعتقدون بالقدرات الخارقة للسحر وتأثيره على الناس والمؤمنين والأنبياء:! وإذا صح ذلك، فلماذا لم يَصِر السَّحَرَة حكام الأرض؟!

هذا، ولا نطيل في تحليل كلام عائشة ففيه دلالات ليست في مصلحتها!

رد بعض علماء السنيين لهذه الفرية

وممن تجرأ ومال إلى موافقتنا في ردها: النووي في المجموع: 19/242، قال: «وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول (صلی الله علیه و آله)..تنبيه: قال الشهاب بعد نقل التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره (صلی الله علیه و آله) المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل

ص: 306

الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلةٌ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وقال: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء: والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم! وكل ذلك باطل.

وكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى، ولحصل فيه (علیه السلام) ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز»!

ص: 307

الفصل الثامن والخمسون: غزوة خيبر

1- محافظة خيبر

خيبر الآن محافظة مركزها مدينة خيبر، وتقع شمال شرق المدينة المنورة، وتبعد عنها 179كيلومتراً، وتشمل 189 قرية، ومساحتها 260 كيلومتراً.

http: //www.oman0.net/forum/showthread.php?t=17962

وفي معجم البلدان: 2/409: «خيبر: الموضع المذكور في غزاة النبي (صلی الله علیه و آله) وهي ناحية على ثمانية بُرُد من المدينة لمن يريد الشام. يطلق هذا الإسم على الولاية وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، وأسماء حصونها: حصن ناعم وعنده قتل مسعود بن مسلمة ألقيت عليه رحى، والقموص حصن أبي الحقيق، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة. وأما لفظ خيبر فهو بلسان اليهود: الحصن، ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر».

أقول: هاجر اليهود بعد المسيح (علیه السلام) إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)، ونزلوا في مواضع منها تيماء ووادي القرى وخيبر وحول المدينة، وكان في خيبر أودية فيها بعض العيون، وبقربها قبيلة عبس وبعض قبائل غطفان النجدية، لكنهم كانوا أهل إبل وشاء ولم يكونوا أهل زراعة، فسكن فيها اليهود وزرعوها ونجحت فيها زراعة النخيل واشتهر تمرها بعد هجر. ولعل كلمة خيبر التي سموها بها نفس كلمة كيبوتس، بمعنى مستوطنة أو قرية.

ص: 308

وكان يهود خيبر عندما بعث النبي (صلی الله علیه و آله) نحو عشرة آلاف نسمة، ومقاتلوهم نحو ثلاثة آلاف، وقد انضم اليهم عدد أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) من جور المدينة من يهود قينقاع والنضير وقريظة، وفيهم حاخامات وزعماء كبار رأَّسَهم أهل خيبر عليهم، مثل حي بن أخطب الذي كان يتجول ويحث قريشاً وقبائل العرب على حرب النبي (صلی الله علیه و آله) ويعد قبائل نجد بموسم تمر خيبر!

2- بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً توجه (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر

بعد عودته من الحديبية بنحو عشرين يوماً، توجه النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر بجيشه البالغ نحو ألف وخمس مئة، وكان ذلك في شهر صفر أواخر السنة السابعة للهجرة. وجاءه المتخلفون عن الحديبية فقال (صلی الله علیه و آله): لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا. ثم أمر منادياً ينادي بذلك. الصحيح من السيرة: 17/72.

وفي سيرة ابن هشام: 3/791: «ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب وكانت بيضاء». ثم روى ابن هشام أن الأكوع كان يرتجز بهم:

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا

إنا إذا قوم بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

وهو شعر عبدالله بن رواحة، وكان (صلی الله علیه و آله) يردده في حفر الخندق».الغدير: 2/6.

ثم نقل عن ابن إسحاق: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إلى خيبر فسلك على عَصْر بفتح العين وإسكان الصاد المهملة، وفي بعض النسخ عَصَر بفتح الصاد. قال: فبني له فيها مسجد قال: ثم سلك على الصهباء، ثم أقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع، فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله (صلی الله علیه و آله). فكان أول حصن افتتحه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حصن ناعم». «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحُسَيْل: يا حُسَيْل: إمض أمامنا حتى تأخذ بنا صدور الأودية، حتى تأتي خيبر من بينها وبين الشام،

ص: 309

فأحول بينهم وبين الشام، وبين حلفائهم من غطفان. فقال حُسَيْل: أنا أسلك بك، فانتهى به إلى موضع له طُرق فقال: يا رسول الله، إن لها طرقاً تؤتى منها كلها، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سمها لي. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحب الفأل الحسن والإسم الحسن ويكره الطيرة والإسم القبيح، فقال: لها طريق يقال لها: حزن وطريق يقال لها: شاش وطريق يقال لها: حاطب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تسلكها. قال: لم يبق إلا طريق واحد يقال له: مرحب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أسلكها».الصحيح من السيرة: 17/89.

3- سبب حرب النبي (صلی الله علیه و آله) يهودَ خيبر

قال في المواجهة مع رسول الله/283: «كانت خيبر من أعظم وأكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة، حتى أنها أصبحت قلعة حقيقية ففيها المال وفيها الرجال، وقد تابع يهود خيبر بقلق بالغ أنباء مواجهات الرسول مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وتأثروا بما أصابهم، وتعاطفوا معهم حتى صارت خيبر ملجأ للكثير من اليهود، واستقطبت بخيراتها وأموالها عواطف الكثير من أبناء القبائل العربية المحتاجة الطامعة بأي شئ، مما حوَّلها مع الأيام إلى قاعدة لمن يتربصون الدوائر بالنبي وآله ومن والاه، وصارت أعظم خطر يهدد الإسلام.

وقد أدرك يهود خيبر ومن لجأ إليهم وتحالف معهم، أن المواجهة مع محمد ومن والاه قدر محتوم لا مفر منه، وقد أرعبتهم مواجهات محمد السابقة مع خصومه، لذلك فهم يخشون فكرة شن هجوم عليه، مما فرض عليهم فرضاً أن يبقوا بحالة ترقب وقلق حتى يأتي محمد ومن والاه لحربهم، فيحاربونه حرباً دفاعية وهم في حصونهم.

واستعداداً لتلك المواجهة الحاسمة رمموا حصونهم وأصلحوها، واستوردوا السلاح وصنعوه، ووسعوا دائرة تحالفاتهم مع القبائل، خاصة مع قبيلة غطفان وزعيمها عيينة بن حصن، ويقال إنهم جندوا عشرة آلاف مقاتل يتم استعراضهم يومياً، وقدروا أنهم بهذه العدة والعدد سيكونون أول من يلحق هزيمة ساحقة بمحمد وآله ومن والاه، ومن هنا فقد أيقنوا بأن محمداً قادم إليهم لا محالة، وترقبوا كل يوم قدومه ليواجهوه بما لا قبل له به!

ص: 310

وبعد أن فتح الله على نبيه في صلح الحديبية ذلك الفتح المبين، وحقق انتصاره السياسي، وخلَّت بطون قريش بينه وبين العرب، واعترفت به وهي عدوته اللدودة، واعترفت بحقه باستقطاب العرب حوله. عندئذ قدر النبي (صلی الله علیه و آله) أن الفرصة ملائمة لمواجهة أخطر وأقوى ما تبقى من خصومه وهم يهود خيبر... وبعد إتمام الاستعدادات وفي شهر صفر من السنة السابعة للهجرة، زحف النبي نحو خيبر ودخلها عن طريق مرحب، وفي الطريق علم أن قبائل غطفان الكبيرة قد تحالفت مع اليهود على حرب محمد مقابل تمر خيبر لسنة. ولما استقر الرسول في معسكره قرب خيبر، أمر أتباعه أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم بالقتال».

4- وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر

في خيبر سمع النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، فأمرهم أن يلتزموا الهدوء والسكينة والتواضع، وقال لهم: إربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم.. وقال لهم: قفوا فوقفوا، فقال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنَّا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. أقدموا باسم الله».المناقب: 1/176 والصحيح من السيرة: 17/101.

وكان أهل خيبر يتوقعون وصول النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنه فاجأهم من جهة لا يتوقعون مجيئه منها، فرآه بعض المزارعين فقالوا: محمد والخميس وأدبروا هرباً! فقال (صلی الله علیه و آله) ورفع يديه: الله أكبر، خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. كما قالها عند محاصرة بني قريظة.الإرشاد: 1/110 وتفسير القمي: 2/189.

وعسكر (صلی الله علیه و آله) بأصحابه قرب حصن ناعم، وكان فيه قوات غطفان النجدية، بزعامة شيخ فزارة عيينة بن حصن، جاؤوا لنصرة اليهود قبل قدوم النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثة أيام، وروي أنهم كانوا أربعة آلاف، ونزلوا في حصن ناعم في

ص: 311

النطاة، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) سعد بن عبادة لينصح عيينة بالإنسحاب بقبيلته: «فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد أكلِّم عيينة بن حصن، فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب: لاتُدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة: لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً، فأبى مرحب أن يدخله فخرج عيينة إلى باب الحصن، فقال سعد: إن رسول الله أرسلني إليك يقول: إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة. فقال عيينة: إنَّا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشئ وإنَّا لنعلم ما لك وما معك مما هاهنا طاقة، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة، ورجال عددهم كثير وسلاح! إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله ما هؤلاء كقريش وقومٍ ساروا إليك إن أصابوا غِرَّة منك فذاك الذي أرادوا، وإلا انصرفوا، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم. فقال سعد بن عبادة: أشهد ليحصرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك إلا السيف! وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب،

كيف مُزقوا كل ممزق!

فرجع سعد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بما قال. وقال سعد: يا رسول الله، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق. فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه أن يتوجهوا إلى حصنهم الذي في غطفان وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم، فنادى منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم، الذي فيه غطفان. قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح لايدرون من السماء أو الأرض: يا معشر غطفان أهلكم أهلكم! الغوث الغوث بحيفاء، صِيح ثلاثة، لا تربة ولا مال! قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمراً صنعه الله لنبيه (صلی الله علیه و آله). فلما أصبحوا أُخبر كِنانة بن أبي الحُقيق وهو في الكتيبة منطقة من خيبر بانصرافهم فسقط في يديه».

الصحيح من السيرة: 17/110.

ص: 312

5- نداء النبي (صلی الله علیه و آله) بالأمان لأهل خيبر

روت مصادرهم: «عن الضحاك الأنصاري قال: لما سار النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر جعل علياً على مقدمته فقال (صلی الله علیه و آله): من دخل النخل فهو آمن، فلما تكلم النبي (صلی الله علیه و آله) نادى بها علي فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى جبرائيل يضحك فقال: مايضحكك؟! قال:

إني أحبه! فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): إن جبرائيل يقول إنه يحبك! قال (علیه السلام): بَلَغْتُ أن يحبني جبرائيل؟قال (صلی الله علیه و آله): نعم ومن هو خير من جبرائيل: الله عزَّ وجل».

الطبراني الكبير: 8/301،مجمع الزوائد: 9/126 وأسد الغابة: 3/34.

6- فتح علي (علیه السلام) كل حصون خيبر؟

كانت خيبر ثلاث مناطق: النَّطَاهْ بفتح النون المشددة وسكون الهاء، وفيها ثلاثة حصون: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة. وتتصل بها منطقة الشق وفيها حصن أبيّ، وحصن البرئ.

وعلى بعد كيلو مترات منها منطقة الكتيبة، وفيها واد فيه أربعون ألف نخلة وعلى جبلها ثلاثة حصون: حصن القموص، والسلالم، والوطيح.

وقد استغرق فتح خيبر كلها وترتيب أمرها نحو شهرين. وبدأ النبي (صلی الله علیه و آله) بحصن ناعم في النطاة، ففتحه بعد بضعة أيام. ثم حاصر حصن الصعب أياماً، ثم فتح بقية الحصون في مدة قليلة.

ثم ترك علياً (علیه السلام) في منطقة النطاة والشق يرتب أمرها، واتجه إلى الكتيبة فحاصر حصنها الأكبر «القموص»، وطالت محاصرته له بضعة وعشرين يوماً!

وكان يرسل جيشه كل يوم بقيادة صحابي، فيصلون إلى خندق الحصن فيرميهم اليهود من أبراجه بالسهام والأحجار، فيرمونهم هم، ويرجعون!

ثم تجرأ مرحب وفرسانه فأخذوا يخرجون من الحصن ويطلبوا من المسلمين أن يعبروا اليهم فلا يجرؤون،بل يرجعون منهزمين حتى أحضر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) !

وروت مصادرنا أن فتح حصون خيبركلها كان بيد علي (علیه السلام)، وروى نحو ذلك

ص: 313

في السيرة الحلبية: 2/737، عون المعبود: 8/172، قال: «وقصة فتح هذه الحصون: أن النبي (صلی الله علیه و آله) ألبس علياً رضی الله عنه درعه الحديد وأعطاه الراية، ووجهه إلى الحصن، فلما انتهى علي رضی الله عنه إلى باب الحصن، اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، ففتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم، وهو أول حصن فتح من حصون النطاة على يده رضی الله عنه.

وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة ففتح الله حصن الصعب قبلما غابت الشمس من ذلك اليوم. ولما فتح ذلك الحصن تحول من سلم من أهله إلى حصن قلة، وهو حصن بقلة جبل، ويعبر عن هذا بقلعة الزبير، وهو الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك، وهو آخر حصون النطاة. فحصون النطاة ثلاثة، حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة. ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشق، فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبيّ، فقاتل أهله قتالاً شديداً وهرب من كان فيه، ولحق بحصن يقال له حصن البرئ، وهو الحصن الثاني من حصني الشق.

ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق، انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي ثلاثة حصون القموص والوطيح وسلالم، وكان أعظمها القموص، وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح وحصن سلالم ويقال له السلاليم، وهو حصن بني الحقيق آخر حصون خيبر، ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوماً، فلم يخرج أحد منهما، وسألوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، فصالحهم على ذلك».

أقول: ستعرف أن محاصرة القموص طالت بضعاً وعشرين يوماً، وذلك قبل محاصرة حصن السلالم والوطيح، التي ذكر العيني أنها كانت أربعة عشر يوماً.

كما تدل روايته على أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع باب حصن ناعم، ولم يذكر حجم ذلك الباب، وسيأتي قلعه (علیه السلام) لباب حصن القموص، وهو أكبر حصون خيبر.

ص: 314

7- طريقة القتال في فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصون خيبر

«صفَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه ووعظهم، ونهاهم عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجل من قبيلة أشجع فحمل على يهودي فقتله اليهودي، فقال الناس: استشهد فلان. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبعدَ ما نهيتُ عن القتال؟ قالوا: نعم. فأمر رسول الله منادياً فنادى في الناس: لاتحل الجنة لعاص..وقالوا إن مرحباً هو الذي قتل ذلك الرجل الأشجعي..وأذن رسول الله في القتال وحثهم على الصبر، وأول حصن حاصره حصن ناعم.. وقاتل (صلی الله علیه و آله) يومه ذاك أشد القتال، وقاتله أهل النطاة أشد القتال، وترَّس جماعة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليه يومئذٍ، وعليه كما قال محمد بن عمر درعان وبيضة ومغفر، وهو على فرس يقال له الظرب، وفي يده قناة وترس».الصحيح من السيرة: 17/152.

أقول: كان اليهود مستميتين في الدفاع عن خيبر، ومن الطبيعي أنهم كانوا يخططون لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقد روى الواقدي: 2/670 والصحيح من السيرة:17 /219 «أن كنانة ابن أبي الحقيق كان رامياً يرمي بثلاثة أسهم في ثلاث مائة ذراع، فيُدخلها في هدف شبراً في شبر! فما هو إلا أن قيل له: هذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أقبل من الشق في أصحابه، وقد تهيأ أهل القموص، وقاموا على باب الحصن بالنبل.. فنهض كنانة إلى قوسه فلم يستطع أن يوترها لشدة الرعدة التي انتابته»!

والوضع الطبيعي أن يتحصن اليهود في قلاعهم، ويردوا هجمات المسلمين بواسطة الرماة من أبراج القلعة وسطوحها. لكن أحاديث خيبر ذكرت أن فرسان اليهود خرجوا من بعض حصونهم واشتبكوا مع المسلمين أمام مداخلها، وفتحوا أبواب الحصن للتواصل مع مقاتليهم، فلم يمكنهم رمي المسلمين القريبين بالسهام. فكان على المسلمين أن يكتسحوا المقاتلين أمام باب الحصن، ثم يدخلوه قبل أن يسدوا بابه، ويقاوموا المقاتلين داخله. وكان اليهود عند سقوط الحصن ينسحبون إلى غيره، وينقلون معهم ما أمكنهم من سلاح ومؤن أو يتلفونها، فقد ورد ذكر بطلهم مرحب في معركة حصن ناعم وهو أول

ص: 315

حصن فتحه النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم كان بطل حصن القموص، وهو آخر حصونهم وأهمها.

وهذه بعض نصوص القتال في فتح الحصون قبل حصن القموص من كتاب: الصحيح من السيرة: 17/171: «لم يكن بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً وماشية ومتاعاً من حصن الصعب بن معاذ، ووجدوا فيه ما لم يكونوا يظنون، من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك، وكان فيه خمس مائة مقاتل، وكان المسلمون قد أقاموا أياماً يقاتلون ليس عندهم طعام إلا العلف!

وروى ابن إسحاق عن بعض قبيلة أسلم ومحمد بن عمر، عن معتب الأسلمي واللفظ له قال: أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: إئت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقل له: إن أسلم يقرؤونك السلام ويقولون: إنَّا قد جُهدنا من الجوع والضعف.. وحسب نص الحلبي: إن اليهود حملت حملة منكرة فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو واقف قد نزل عن فرسه..ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير... ونادى منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلوا واعلفوا ولا تحملوا أي لا تخرجوا به إلى بلادكم.

وحسب نص الواقدي: وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكَّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في حربة له وخرج وعاديته معه، فرموا بالنبل ساعة سراعاً وترِّسنا عن رسول الله وأمطروا علينا بالنبل فكان نبلهم مثل الجراد، حتى ظننت ألا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجل واحد فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو واقف قد نزل عن فرسه، ومِدْعَم يمسك فرسه...

وندب رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها. قال فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر، فانكشفوا سراعاً ودخلوا الحصن وغلَّقوا عليهم، ووافوا على جدره وله جدر

ص: 316

دون جدر، فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً، ونحَّوْنا عن حصنهم بوقع الحجارة، حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول.

ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم! فخرجوا مستميتين ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجل منهم بالسيف فأطن قحف رأسه، وعدي بن مرة بن سراقة طعنه أحدهم بالحربة بين ثدييه فمات، والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه.

وقد قتلنا منهم على الحصن عدة كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن، ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم! فقتلنا من أشرف لنا وأسرنا منهم وهربوا في كل وجه يركبون الحرة، يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون. وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً..ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي السّكَر فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها.. وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب ومنجنيقاً ودبابات وعُدَّة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم...

أخرج من أطم من حصن الصعب ابن معاذ من البز عشرون عكماً «ربطة» محزومة من غليظ متاع اليمن، وألف وخمس مائة قطيفة، ويقال: قدم كل رجل بقطيفة على أهله».

وفي سبل الهدى: 5/125: «ذكر قتل علي رضی الله عنه الحارث وأخاه مرحباً وعامراً وياسراً، فرسان يهود وسبعانها. روى محمد بن عمر عن جابر قال: أول من خرج من حصون خيبر مبارزاً الحارث أخو مرحب في عاديته فقتله علي، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن وبرز عامر، وكان رجلاً جسيماً طويلاً،

ص: 317

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين برز وطلع عامر أترونه خمسة أذرع وهو يدعو إلى البراز؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب رضی الله عنه فضربه ضربات، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه وأخذ سلاحه».

أقول: كان قتل هؤلاء في حصن ناعم وليس في حصن القموص مع مرحب كما رووا. وقد كان مرحب معهم، لكنه لم يبرز إلا في حصن القموص. ويؤيده أن منزل ياسر أخ مرحب في النطاة لا في القموص.«معجم البكري: 2/523»، وأن الحارث كان يحوس الناس بحربته، أما في مبارزة علي (علیه السلام) لمرحب فلم يكن مع علي أحد ليحو

سهم الحارث.

8- طالت محاصرة حصن خيبر وظهرت هزيمة المسلمين!

«يقع حصن القموص في الجهة المقابلة للمسجد الفعلي الذي كان مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله)، ويقع على مسافة قليلة إلى يمينه حصن السلالم وحصن الوطيح، ويفصل هذه الحصون عن مركز قيادة النبي (صلی الله علیه و آله) تلالٌ ووادٍ، وقد رأيته قبل خمس وثلاثين سنة، وادياً صغيراً فيه بعض نخيل وعين ماء جارية، بقربها محراب ومكان للصلاة، وقد سألت البدو عنها فقالوا هذه عين سيدنا علي.

وبعد الوادي جبل على قمته الحصون،وخلفه وادي الكتيبة المشهورة بالنخيل.

وعندما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصون النطاة والشق: «انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي ثلاثة حصون: القموص والوطيح وسلالم، وكان أعظم حصون خيبر القموص».عون المعبود: 8/172.

«فتحصنوا معهم في القموص أشد التحصين، مغلقين عليهم لايبرزون، حتى همَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يرميهم بالمنجنيق».الواقدي: 2/670.

وحاصرهم بضعاً وعشرين يوماً«تاريخ خليفة/49» وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يصلي بالمسلمين كل يوم صلاة الفجر، ثم يصطفُّون ثم يذهبون لمهاجمة الحصن، فيقطعون التلال حتى يصلوا إلى قرب الخندق في مواجهة الحصن.

ص: 318

وكان اليهود يتخذون مواقعهم في أبراج الحصن وعلى سطوحه، ويرمون المسلمين بالسهام والأحجار، فيحمي المسلمون أنفسهم منها، أو يرمونهم بالسهام، ويحاولون أن يتقدموا فلا يستطيعون، فيرجعون بدون نتيجة!

ومع الأيام ضعفت معنويات المسلمين وقويت معنويات اليهود، فصار بطلهم مرحب وفرسانه يخرجون من الحصن، ويتحدون المسلمين أن يعبروا اليهم! فينهزم المسلمون عنهم، ويرجع اليهود منتصرين!

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) أبقى علياً (علیه السلام) في المنطقة التي فتحها«النطاة والشق»أو بعثه في مهمة، وكان يعطي الراية لوجهاء أصحابه، فيوماً لسعد بن عبادة، ويوماً للزبير، ويوماً لطلحة، ويوماً لسعد بن أبي وقاص، ويوماً لأبي بكر، ويوماً لعمر بن الخطاب.. وقد جرب بعضهم قيادة المسلمين لأكثر من يوم كما روي في عمر، وكان الجميع يرجعون منهزمين! ولم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته! ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «ياعلي إكفني مرحباً».أمالي الطوسي/4 والخرائج: 1/217.

وقد ورد أن سعد بن عبادة رجع مجروحاً، «الواقدي 2/653» وفي رواية رجع محمولاً«الإحتجاج: 1/406». وروى أن عمر بن الخطاب رجع مجروحاً في رجله، وهو يجبن المسلمين وهم يجبنونه! رسائل المرتضى: 4/103.

وفي رواية مجمع الزوائد: 6/151، أن هزيمة عمر كانت سريعة عندما أصابه حجر في رجله قال: «بعث عمر ومعه الناس، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه»!

ويرد هنا سؤالان مهمان:

الأول: لماذا لم يذهب النبي (صلی الله علیه و آله) في الحملات على القموص؟ فقد شارك في القتال في حصن ناعم وحصن الصعب ورمى بسهام، وترَّسه المسلمون من سهام اليهود، لكنه لم يشارك في الحملات اليومية على حصن القموص!

والجواب: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كما قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، فهو لا يفعل عن الهوى بل بالوحي. والحكمة من فعله (صلی الله علیه و آله) أن يعرف الصحابة أنهم بدونه (صلی الله علیه و آله) وبدون علي (علیه السلام) لايستطيعون تحقيق النصر، فعليهم أن يعرفوا حدودهم!

ص: 319

أما مرضه (صلی الله علیه و آله) فلم يكن مانعاً من مشاركته، لأنه كان ليومين في أواخر حصاره للحصن، فكان بإمكانه قيادة الحملة قبله أو بعده.

والسؤال الثاني: لماذا أبقى (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في المنطقة المفتوحة، أو بعثه بمهمة؟

وجوابه: أن الحكمة من ذلك أن يثبت للمسلمين أن علياً (علیه السلام) صاحب الفتح، وأنهم بدونه لايستطيعون تحقيق النصر ولا مواجهة مرحب وفرسانه!

والحكمة لمستقبل الأمة: أن اليهود لايكسر غطرستهم إلا علي، وشيعة علي (علیه السلام).

9- مَرِضَ علي (علیه السلام) بالرَّمَد والنبي (صلی الله علیه و آله) بالصداع!

يظهر أن علياً (علیه السلام) أصابه الرمد عندما ذهب النبي (صلی الله علیه و آله) من منطقة النطاة والشق إلى الكتيبة، وأبقاه هناك، لأن أحاديث خيبر نصت على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل في إحضاره فجاء راكباً على بعير له، وكان معصوب العينين بشق برد قطري، ولما سأله عن حاله قال له: «رمدت بعدك» أي بعد فراقي لك!

كما ذكرت الرواية أن سبب وجع عينيه دخان أصابه من الحصون التي فتحها ففي مجمع الزوائد: 9/123: «عن جميع بن عمير قال: قلت لعبدالله بن عمر حدثني عن علي؟ قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فكأني أنظر إليها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يحتضنها وكان علي بن أبي طالب أرمد من دخان الحصن فدفعها إليه، فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه»!

وعن علي (علیه السلام) قال: «كنت أرمد من دخان الحصن».كنز العمال: 10/92.

وقد يكون اليهود استعملوا ذلك الدخان سلاحاً ليمنعوا تقدم علي (علیه السلام)، فاضطر إلى الدخول فيه لتعقب فرسانهم!

كما يظهر أن مرض النبي (صلی الله علیه و آله) بالصداع كان في آخر محاصرة حصن القموص لأنهم رووا عن بريدة وغيره، «الطبري: 2/300» قال: «كان رسول الله ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لايخرج، فلما نزل رسول الله خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى

ص: 320

الناس، وإن أبابكر أخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة. قال وليس ثَمَّ علي، فتطاولت لها قريش ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو أرمد، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):مالك؟ قال: رمدت بعدك! فقال رسول الله: أدن مني...».

فيفهم منه أنهم دخلوا على النبي (صلی الله علیه و آله) في مرضه وأخبروه بهزيمة عمر، فوعد الناس بالفتح في اليوم التالي واستدعى علياً (علیه السلام). ويدل ذلك على أن عمر قاد الحملة على الحصن يومين، ومعنى قتاله في المرة الثانية بأشد من الأولى أنه لم ينهزم بسرعة من سهام اليهود، بل تأخر قليلاً حتى انهزم!

10- غَضِبَ النبي (صلی الله علیه و آله) من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غداً!

غضب النبي (صلی الله علیه و آله) لما رأى هزيمة المسلمين شبه يومية، ورأى أن غطرسة مرحب وفرسانه زادت، ولم يجرؤ أحد من المسلمين على اقتحام الخندق فضلاً عن الحصن، فطلب بعض المسلمين أن يرسل لإحضار علي (علیه السلام) !

وفي رسائل المرتضى: 4/103: «روى أبو سعيد الخدري (رحمة الله) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أرسل عمر إلى خيبر فانهزم هو ومن معه، حتى جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجبن أصحابه ويجبنونه، فبلغ ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل مبلغ، فبات ليلته مهموماً فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال: لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار! فتعرض لها المهاجرون والأنصار، ثم قال: أين علي؟ فقالوا: يا رسول الله هو أرمد، فبعث إليه سلمان وأباذر، فجاءا به وهو يقاد لايقدر على فتح عينيه، فقال (صلی الله علیه و آله): اللهم أذهب عنه الرمد والحر والبرد وانصره على عدوه، فإنه عبدك يحبك ويحب رسولك، ثم دفع إليه الراية، فقال

ص: 321

حسان بن ثابت: يا رسول الله أتأذن لي أن أقول فيه شعراً؟ فأذن له فقال:

وكان علي أرمد العين يبتغي *** دواء فلما لم يحس مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة *** فبورك مرقيا وبورك راقيا

وقال سأعطي الراية اليوم ماضيا *** كميا محبا للرسول مواليا

يحب إلهي والرسول يحبه *** به يفتح الله الحصون الأوابيا

فأصفى بها دون البرية كلها *** علياً وسماه الوزير المؤاخيا

فقال: إن علياً لم يجد بعد ذلك أذى في عينيه، ولا أذى حر ولا برد».

وفي سيرة ابن هشام: 3/797: «بعث أبابكر الصديق برايته وكانت بيضاء فيما قال ابن هشام إلى بعض حصون خيبر، فقاتل فرجع ولم يك فتح، وقد جَهِد! ثم بعث الغد عمر بن الخطاب، فقاتل ثم رجع ولم يك فتح، وقد جَهِد! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرار! قال: يقول سلمة: فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً رضوان الله عليه وهو أرمد فتفل في عينه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك.

قال: يقول سلمة: فخرج والله بها يأنج، يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: يقول اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى! أو كما قال. قال: فما رجع حتى فتح الله على يديه».

11- قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه الفارين: أميطوا عني!

في اليوم التالي لوعد النبي (صلی الله علیه و آله) بالفتح، تطاولت أعناق الصحابة لأخذ الراية، لاعتقادهم بأن الذي يعطيه الراية سيفتح حصن القموص المستعصي،حتى لو كان منهزماً! فردهم النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقد روى أحمد، الزوائد: 6/151 و 9/124 ووثقه«عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال: من يأخذها بحقها؟ فجاء فلان فقال: أمِطْ «إذهب عني!» ثم جاء رجل آخر فقال: أمط! ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): والذي كرم وجه محمد

ص: 322

لأعطينها رجلاً لا يفر، هاك يا علي! فانطلق حتى فتح الله عليه». وشرح الأخبار: 1/321 والعمدة/139، وأبو يعلى: 2/499، أحمد: 3/16، تاريخ دمشق: 1/194 ونهاية ابن الأثير:4/381.

وفي تاريخ دمشق: 42/104 وغيره: «قال من يأخذها بحقها؟ فجاء الزبير فقال: أنا. فقال: أمط! ثم قام آخر...». وهو يدل على فرار الزبير أيضاً.

وفي الروضة لشاذان بن جبرئيل/139: «انهزم جيش أبي بكر وعمر، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون؟! لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ويحب رسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتح الله على يديه بالنصر، فلما كان من الغد قال (صلی الله علیه و آله): أين ابن عمي علي؟فجاءه وهو أرمد».

12- أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) الراية لعلي (علیه السلام) ودعا له

في إعلام الورى: 1/207: «حاصرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بضعاً وعشرين ليلة، وبخيبر أربعة عشر ألف يهودي في حصونهم... فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يده. فغدت قريش يقول بعضهم لبعض: أما علي فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه... قال سعد: جلست نصب عينيه، ثم جثوت على ركبتي، ثم قمت على رجلي قائماً، رجاء أن يدعوني، فقال: أدعو لي علياً، فصاح الناس من كل جانب: إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه! فقال: أرسلوا إليه وادعوه. فأتي به يقاد فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه فقام وكأن عينيه جزعتان «عقيقتان» ثم أعطاه الراية ودعا له، فخرج يهرول هرولة، فوالله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن. قال جابر: فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا، وصاح سعد: يا أبا الحسن إربع يلحق بك الناس، فأقبل حتى ركزها قريباً من الحصن، فخرج إليه مرحب في عادية اليهود..».

وفي الكافي: 5/47، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «شعارنا: يا محمد يامحمد وشعارنا يوم بدر: يانصر الله اقترب اقترب.. ويوم خيبر يوم القموص: يا عليُّ آتهم من عل».

ص: 323

وفي الخصال/554، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) احتجَّ على أهل الشورى بوصية النبي (صلی الله علیه و آله) وبجهاده بين يديه، ومما قال لهم: «استخلف الناس أبابكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لهم عليَّ فضل!... نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحَّدَ الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا... قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين رجع عمر يجبن أصحابه ويجبنونه قد رد راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهزماً، فقال له رسول الله: لأعطين الراية غداً رجلاً ليس بفرار، يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لايرجع حتى يفتح الله عليه، فلما أصبح قال: أدعوا لي علياً فقالوا: يا رسول الله هو رمدٌ ما يطرف! فقال: جيئوني به، فلما قمت بين يديه تفل في عيني وقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فأذهب الله عني الحر والبرد إلى ساعتي هذه، وأخذت الراية فهزم الله المشركين وأظفرني بهم، غيري؟ قالوا: اللهم لا».

وفي الصحيح من السيرة: 17/243: «فقال (صلی الله علیه و آله): أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله. فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم. وقال أبو هريرة: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعلي: إذهب فقاتلهم حتى يفتح الله عليك ولاتلتفت.. فخرج بها والله يأنج، يهرول هرولة، وإنَّا لخلفه نتبع أثره حتى ركزها تحت الحصن. فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي: علوتم والذي أنزل التوراة على موسى. فما رجع حتى فتح الله تعالى على يديه! وشرح الأخبار: 1/302.

وعن حذيفة: لما تهيأ علي (علیه السلام) للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبريل (علیه السلام) عن يمينك، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي: إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم»! وفي رواية: أنه (صلی الله علیه و آله) ألبسه درعه الحديد وشد ذا الفقار في وسطه وأعطاه الراية ووجّهه إلى الحصن، فقال علي (علیه السلام): يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ الخ.. فخرج علي بها وهو يهرول.

ص: 324

وفي نص آخر: أركبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم خيبر وعممه بيده وألبسه ثيابه، وأركبه بغلته ثم قال له: إمض يا علي وجبرئيل عن يمينك، وميكائيل عن يسارك، وعزرائيل أمامك، وإسرافيل وراءك، ونصر الله فوقك، ودعائي خلفك»!

وفي صحيح مسلم: 7/121: «قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ! قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها! قال: فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، فقال: إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك! قال: فسار عليٌّ شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ، قال: يا رسول الله على ماذا أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

13- وصل علي (علیه السلام) إلى الحصن قبل الجيش!

في مناقب آل أبي طالب: 2/320: «الواقدي: فوالله ما بلغ عسكر النبي أُخَيْرَاه حتى دخل عليٌّ حصون اليهود كلها، وهي قموص، وناعم، وسلالم، ووطيح، وحصن المصعب بن معاد، وغنم. وكانت الغنيمة نصفها لعلي ونصفها

لسائر الصحابة.

شعبة وقتادة والحسن وابن عباس: أنه نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له: إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك: إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجراً إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر، سهماً له وسهم جبرئيل معه».

14- اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة

روى في الإحتجاج: 1/307، أن راهباً جاء إلى المدينة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) فجرى بينه وبين أبي بكر كلام فدخل علي (علیه السلام) فقال له أبو بكر: «أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي (علیه السلام) ثم قال: يا فتى ما اسمك؟ قال: إسمي عند اليهود إليا،وعند النصارى إيليا، وعند والديَّ علي، وعند

ص: 325

أمي حيدرة، قال: ما محلك من نبيكم؟ قال: أخي وصهري وابن عمي لِحّاً. قال: الراهب: أنت صاحبي ورب عيسى».

وفي مدينة المعاجز: 1/173: «إن اليهود من خيبر يجدون في كتابهم أن الذي يدمرهم إليا» وروى في الإرشاد: 1/126، أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطى الراية لعلي (علیه السلام) وقال له: «خذ الراية وامض بها، فجبرئيل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم أن الذي يدمر عليهم إسمه إيليا. فإذا لقيتهم فقل أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء الله».

15- عَبَر الخندق وقصد مرحباً وفرسانه!

في الخرائج: 1/217: «روى مكحول أن مرحباً اليهودي قدمته اليهود لشجاعته ويساره، وكان طويل القامة عظيم الهامة، وما وافقه قرن لعظم خلقه! وكانت له ظئر «مرضعة» قرأت الكتب وكانت تقول له: قاتل كل من قاتلك إلا من يسمى بحيدرة، فإنك إن وقفت له هلكت! فلما كثرت مناوشته «غطرسته» وبَعُلَ الناس بمكانه «تحيرهم فيه» شكوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وسألوه أن يخرج إليه علياً (علیه السلام) وكان أرمد، فتفل النبي (صلی الله علیه و آله) في عينه فصحت، ثم قال له: يا علي إكفني مرحباً! فخرج إليه فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به فتحير، ثم قال: أنا الذي سمتني أمي مرحبا. فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. فلما سمعها هرب ولم يقف مما حذرته ظئره، فتمثل له إبليس وقال: إلى أين؟ قال: حذرت ممن اسمه حيدرة. قال: أولم يكن حيدرة إلا هذا؟ حيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك وأنا في ظهرك. فما كان إلا كفواق ناقة حتى قتله أميرالمؤمنين (علیه السلام)»!

وفي مسند أحمد: 4/52:«فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال:

قد علمت خيبر أني مرحبُ *** شاكي السلاح بطلٌ مجربُ

إذا الحروب أقبلت تلهَّب

فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:

ص: 326

أنا الذي سمتني أمي حيدره *** كليث غابات كريه المنظره

أوفيهمُ بالصاع كَيْلَ السنَّدرة

ففلق رأس مرحب بالسيف وكان الفتح على يديه».

«فضربه علي على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه!وسمع أهل العسكر صوت ضربته! فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم».الطبري: 2/300.

وعن أم سلمة: «سمعت وقْع السيف في أسنان مرحب»!مجمع الزوائد: 6/152ووثقه.

وفي بعض المصادر: شق رأسه وجسده نصفين حتى بلغ السرج!

معارج النبوة/323.

16- بعد قتله مرحباً هاجم الحصن وقلع بابه!

تدل أحاديث خيبر على أن حملات المسلمين على حصن القموص كانت تتوقف عند الخندق الذي قبل الحصن، ولا تتجاوزه!

ولذلك كان مرحب يخرج من الحصن هو وعاديته أي نخبة فرسانه، ويتبختر أمام المسلمين ويتحداهم أن يعبروا، فلا يجرأ منهم أحد على العبور!

إلى أن كان يومٌ رأى مرحب وفرسانه شخصاً وصل بمفرده قبل جيش المسلمين وعبر الخندق، ووقف في مواجهتهم، فكان ذلك علياً (علیه السلام) !

وأجاب علي (علیه السلام) على شعر مرحب ثم كلمه ودعاه إلى الإسلام، فاستشاط غضباً وحمل عليه وضربه، فتلقى علي (علیه السلام) الضربة ووجه اليه ضربته التاريخية فقدَّت خوذته الصخرية، ومغفره، ورأسه، وقد تكون وصلت إلى فرسه!

وقال في تاريخ الخميس: 2/51: «وقتل علي يومئذٍ ثمانية من رؤسائهم، وفر الباقون إلى الحصن». ومن المؤكد أنه (علیه السلام) قتل أخ مرحب ويدعى ياسر، لكن ذلك كان في فتحه حصن ناعم، ولم أستطع التحقق من أنه (علیه السلام) قتل أحداً غير مرحب قبل دخول حصن القموص، فقد اندهشوا بمصرع مرحب، ففروا

ص: 327

إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه فلحقهم علي (علیه السلام) ! وفي صعوده انهالت عليه سهام اليهود وأحجارهم من أبراج الحصن وسطوحه، وكان يتجنبها أو يردها بترسه حتى تكسر، فوجد باب حديد صغير ملقى فاتخذه ترساً، حتى وصل إلى باب الحصن فأمسك بحلقته وهزه ثم دحاه بقدرة الله تعالى واقتلعه من أساسه فانذعر اليهود! ودخل (علیه السلام) الحصن وحده، فواجهه بعض فرسانهم فقتله،ودوى صوته بالتكبير»!

في ذلك الوقت تمكن بعض المسلمين من عبور الخندق، وقد يكون وصل بعضهم إلى علي (علیه السلام) لكن أكثرهم ما زالوا وراء الخندق يحاولون العبور، فأخذ علي (علیه السلام) باب الحصن وجعله لهم جسراً حتى عبروا!

ثم دخل أمامهم إلى الحصن، وقد يكون وقع فيه قتال، لكن خوف اليهود كان شديداً من مصرع مرحب، فأعلنوا الإستسلام!

وقد عدَّ أميرالمؤمنين (علیه السلام) جهاده في خيبر أحد الإمتحانات السبع التي امتحنها الله بها في حياة النبي (صلی الله علیه و آله)، فقال في جواب أحد أحبار اليهود، كما في الخصال/369.

«وأما السادسة يا أخا اليهود، فإنا وردنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأكثر عدد، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول: يا أبا الحسن إنهض، فأنهضني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته، ولا ثبت لي فارس إلا طحنته، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي، أقتل من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجد من نسائها، حتى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده! ثم التفت (علیه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا:

بلى يا أميرالمؤمنين»!

أقول: يدل على أن رجالاً من فرسان قريش كانوا في خيبر لنصرة اليهود، فلا بد أن

ص: 328

تكون قريش بعثت بهم سراً، أو يكونون أفراداً لهم علاقات مع اليهود.

قال المفيد في الإرشاد: 1/127: «ولما قتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) مرحباً رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه، فصار أميرالمؤمنين (علیه السلام) إليه فعالجه حتى فتحه وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه، فأخذ أميرالمؤمنين (علیه السلام) باب الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم فلما انصرفوا من الحصن أخذه أميرالمؤمنين (علیه السلام) بيمناه، فدحا به أذرعاً من الأرض، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً منهم»!

وأضاف العلامة في كشف اليقين/141: «وقال (علیه السلام): ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن بقوة ربانية».

وفي إعلام الورى: 1/207: «قال أبان: حدثني زرارة قال: قال الباقر (علیه السلام): انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترس به، ثم حمله على ظهره واقتحم الحصن اقتحاماً. واقتحم المسلمون والباب على ظهره، قال: فوالله ما لقي علي (علیه السلام) من الناس تحت الباب أشد مما لقي من الباب ثم رمى بالباب رمياً».

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/125: «روى أحمد بن حنبل عن مشيخته عن جابر الأنصاري أن النبي (صلی الله علیه و آله) دفع الراية إلى علي (علیه السلام) في يوم خيبر بعد أن دعا له فجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له إرفق، حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض، ثم اجتمع منا سبعون رجلاً وكان جهدهم أن أعادوا الباب».

قال الحميري: وألقى باب حصنهم بعيداً ولم يك يستقل بأربعينا

وفي مجمع الزوائد: 6/151، عن علي (علیه السلام) قال: «فانطلقت حتى أتيتهم، فإذا فيهم مرحب يرتجز، حتى التقينا فهزمه الله وانهزم أصحابه وتحصنوا، وأغلقوا الباب فأتيت الباب فلم أزل أعالجه حتى فتحه الله».

وقد روت عامة المصادر حديث عبدالله بن عمر، كما في أمالي الصدوق/604، وروضة الواعظين/126، قال: «إن رسول الله دفع الراية يوم خيبر إلى رجل من

ص: 329

أصحابه فرجع منهزماً، فدفعها إلى آخر فرجع يجبن أصحابه ويجبنوه..فلما أصبح قال: أدعوا لي علياً... قال: لما دنا من القموص، أقبل أعداء الله من اليهود يرمونه بالنبل والحجارة، فحمل عليهم علي (علیه السلام) حتى دنا من الباب فثنى رجله، ثم نزل مغضباً إلى أصل عتبة الباب فاقتلعه ثم رمى به خلف ظهره أربعين ذراعاً.

قال ابن عمر: وما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي، ولكنا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً، ولقد تكلف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه، فأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك فقال: والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً!

وروي أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية، ولا بحركة غذائية، لكني أيدت بقوة ملكوتية، ونفس بنور ربها مضية، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء! والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت، ولو أمكنتني الفرصة من رقابها لما بغيت».

وقال ابن حجر المتعصب، في الإصابة: 4/466: «ومن خصائص علي قوله (صلی الله علیه و آله) يوم خيبر: لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) غدوا كلهم يرجو أن يعطاها..

وروى في آخره قصة مرحب قال: «فضربه على هامته ضربة حتى عض السيف منه بيضة رأسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته، فما قام آخر الناس حتى فتح الله

لهم. وفي المسند لعبدالله بن أحمد بن حنبل من حديث جابر: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما دفع الراية لعلي يوم خيبر أسرع، فجعلوا يقولون له: إرفق! حتى انتهى إلى الحصن، فاجتذب بابه فألقاه على الأرض، ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً حتى أعادوه..».

17- الباب الذي تترس به (علیه السلام) غير الباب الذي قلعه

قال المقريزي في الإمتاع: 1/310: «وزعم بعضهم أن حمل علي باب خيبر لا أصل له وإنما يروى عن رعاع الناس، وليس كذلك فقد أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن أبي رافع، وأن سبعة لم يقلبوه، وأخرجه الحاكم من طرق منها عن أبي علي الحافظ، حدثنا

ص: 330

الهيثم بن خلف الدوري...عن جابر: أن علياً حمل الباب يوم خيبر وأنه جُرِّب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً»

وفي سيرة ابن هشام: 3/798: «عن أبي رافع، مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه»!وتاريخ الطبري: 2/301.

وفي أعيان الشيعة: 1/405: «وهذا الباب غير باب الحصن، بل هو باب أصغر منه كان ملقى عند الحصن، أخذه علي فتترس به».

وقال اليعقوبي: 2/56: «فقتل مرحباً اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون».

وقد تفرد اليعقوبي في أن باب خيبر كان من حجر، والمعروف أنه من حديد، ولعل باب حصن ناعم من حجر، فقد قلعه علي (علیه السلام) أيضاً!

18- وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع باب حصن ناعم أيضاً!

روت بعض مصادر السنة كالسيرة الحلبية والعيني في عون المعبود: 8/172، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع أيضاً باب حصن ناعم، وهو أول حصن فتحه (علیه السلام)، ولم تذكر الرواية حجم الباب، ولا بد أنه كان أصغر من باب حصن القموص، وتقدم أنه (علیه السلام) قتل هناك ياسر أخ مرحب، ويفهم منها أن فتح الحصون كلها كان على يده (علیه السلام)، ولكن رواة السلطة تفننوا في إخفاء مناقبه ونسبتها إلى آخرين!

ص: 331

19- وتلقاه النبي (صلی الله علیه و آله) وبشره بنزول الوحي فيه!

في إعلام الورى: 1/207: «وخرج البشير إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن علياً دخل الحصن، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج علي (علیه السلام) يتلقاه، فقال (صلی الله علیه و آله): قد بلغني نبؤك المشكور وصنيعك المذكور، قد رضی الله عنك ورضيت أنا عنك. فبكى علي (علیه السلام) فقال له: ما يبكيك يا علي؟ فقال: فرحاً بأن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)

عني راضيان».

أقول: معناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) جاء إلى حصن خيبر لأول مرة فخرج علي (علیه السلام) يتلقاه! وما إن أخبره برضا الله ورضاه عليه حتى بكى!

فاعجب لهذه الرقة الإنسانية والعبودية المرهفة لله تعالى، من شخص دوَّى صوت ضربته قبل ساعتين، وقدَّ خوذة بطل اليهود وهامته نصفين، ثم انقضَّ على الحصن كأنه كاسحة ألغام، فقلع بابه ورفعه وأردى أبطال اليهود وأخضع اليهود! وإذا به أمام رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبكي بكاء الطفل، فرحاً برضا الله ورسوله عليه!هذا، ويبدو أن هذا المشهد تكرر من علي (علیه السلام) عندما نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) في مرات عديدة برضا الله تبارك وتعالى عليه ومديحه.

ففي أحُد قال للنبي (صلی الله علیه و آله) «المناقب: 1/385»:«أصابني ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان، فقال: يا علي أقر الله عينك، ذاك جبرئيل».

وعندما أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) في مهمة إلى وادي الرمل «الإرشاد: 1/116» وكانت مجموعة من فاتكي العرب جاؤوا ليقتلوا النبي (صلی الله علیه و آله) فأجاد وأحسن، فنزلت سورة العاديات، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: «هذا جبرئيل يخبرني أن علياً قادم، ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا علياً (علیه السلام)، وقام المسلمون له صفين مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما بصر بالنبي ترجل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبلهما، فقال له: إركب فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان. فبكى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فرحاً».

ص: 332

20- ثم فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصني السلالم والوطيح

في معجم البلدان: 5/379: «سمي بالوطيح بن مازن رجل من ثمود، وكان الوطيح أعظمها، وآخر حصون خيبر فتحاً هو والسلالم، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد الوطيحة بالهاء».

وفي الصحيح من السيرة: 18/170: «قال ابن إسحاق: وتدنَّى رسول الله الأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً، حتى انتهوا إلى ذينك الحصنين، أعني الوطيح وسلالم الذي هو حصن بني الحقيق وهو آخر حصون خيبر، وجعلوا لا يطلعون من حصنهم حتى همَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن ينصب عليهم المنجنيق لما رأى من تغليقهم وأنه لا يبرز منهم أحد. فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله الصلح، فأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله رجلاً من اليهود يقال له شماخ، يقول: إِنزل فأكلمك؟فقال رسول الله: نعم، فنزل كنانة بن أبي الحقيق، فصالح رسول الله على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويُخلون بين رسول الله وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى البز إلا ثوباً على ظهر إنسان.. ووجد في ذينك الحصنين مائة درع وأربع مائة سيف وألف رمح، وخمس مائة قوس عربية بجعابها. ووجدوا صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر (صلی الله علیه و آله) بدفعها إليهم. وبذلك يكون الوطيح وسلالم فيئاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ لم يحصل قتال في هذين الحصنين». ونحوه تاريخ الطبري: 2/302 وتاريخ خليفة/49.

21- أوسمة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) في خيبر

أ. روى الجميع قول النبي (صلی الله علیه و آله): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لايرجع حتى يفتح الله على يديه. وهو حديث متواتر، وفي رواية: «ليس بفرار». وفي رواية الحاكم: «لأبعثن رجلاً

ص: 333

لايخزيه الله أبداً». وفي رواية الخصال: «ويحبه الله ورسوله، في ثناء كثير». وفي رواية سُليم: «ليس بجبان ولا فرار». وفي رواية شرح الأخبار: «يفتح خيبر عنوة». وفي رواية الإرشاد: «أرونيه تروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها بحقها ليس بفرار». وفي رواية مجمع الزوائد: «يقاتلهم حتى يفتح الله له». وفي سنن النسائي: 5/112: «يقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله». وكررها النبي (صلی الله علیه و آله) في الغد وقال اليوم.

ب. تقدم عن حذيفة (رحمة الله) قال: «لما تهيأ علي (علیه السلام) للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبريل عن يمينك، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي، إنك سيد العرب، وأنا سيد ولد آدم»!السيرة الحلبية: 2/736.

وقال في الصحيح من السيرة: 18/ 36، ملخصاً: «ثم إنه (صلی الله علیه و آله) شرَّف علياً (علیه السلام) بوسام كان هو الأصعب على حاسديه ومناوئيه، الذين لم يكن يهمهم أن يقول فيه النبي (صلی الله علیه و آله) ما شاء مما يرتبط بالآخرة أو في عالم السماء والملائكة، بشرط أن لايؤثر على مشاريعهم الدنيوية التي يرون علياً (علیه السلام) هو المانع الأكبر من وصولهم إليها كهذا التصريح النبوي الذي يوجه المؤمنين أن لايرضوا بغيره قائداً وسيداً».

أقول: تعمد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعلن هذا الوسام لعلي (علیه السلام) في خيبر، وقد أعلنه قبلها وبعدها،كما روته مصادر الطرفين، ففي أمالي الطوسي/608، قال النبي (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): «ثم إن الله تعالى اختارني من أهل بيتي، واختار علياً والحسن والحسين، واختارك. فأنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، وأنت سيدة النساء، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ومن ذريتكما المهدي يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جوراً».

ورواه الحاكم: 3/124، عن عائشة قالت: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أُدعوا لي سيد العرب، فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب».«وابن أبي شيبة: 7/474، بغية الباحث/283، أوسط الطبراني: 2/127، الرازي في تفسيره: 6/212، تاريخ بغداد: 11/90»وفيه: إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي.

ص: 334

ج. في المناقب للخوارزمي/129، بسنده عن علي (علیه السلام) قال: «قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم فتحت خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا تمرُّ على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به! ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ترثني وأرثك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، أنت تؤدي ديني وتقاتل على سنتي، وأنت في الآخرة أقرب الناس مني، وأنت غداً على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين، وأنت أول من يرد عليَّ الحوض، وأنت أول داخل الجنة من أمتي، وإن شيعتك على منابر من نور رواء مرويين، مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني. وإن عدوك غداً ظماء مظمئين، مسودة وجوههم مقمحين. حربك حربي وسلمك سلمي، وسرك سري وعلانيتك علانيتي، وسريرة صدرك كسريرة صدري، وأنت باب علمي، وإن ولدك ولدي، ولحمك لحمي ودمك دمي، وإن الحق معك والحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأن الله عزوجل أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة، وأن عدوك في النار. يا علي، لا يرد علي الحوض مبغض لك، ولا يغيب عنه محب لك، قال قال علي: فخررت له سبحانه وتعالى ساجداً وحمدته على ما أنعم به علي من الإسلام والقرآن، وحببني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلی الله علیه و آله)». ومناقب محمد بن سليمان: 1/249، شرح الأخبار: 2/381، كنز الفوائد/281 وفي آخره في ثلاثتها: «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي». والصحيح من السيرة:18/38. وروته مصادر السنة ولعله صحيح على مبانيهم، كالطبراني في الكبير: 1/320 والزوائد: 9/131.

22- أفٍّ وتُفّ لمن ينكر فضائل علي (علیه السلام) !

روينا وروى السنة هذا الموقف لابن عباس، كالنسائي في خصائص علي (علیه السلام) /62، عن عمرو بن ميمونة قال: «إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا

ص: 335

ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا بين هؤلاء. فقال ابن عباس: بل أنا أقوم معكم. قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى، قال: فابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا، قال: فجاء وهو ينفض ثوبه وهو يقول: أفٍّ وتُفّ، وقعوا في رجل له بضع عشر!وقعوا في رجل قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله):لأبعثن رجلاً يحب الله ورسوله لا يخزيه الله أبداً، قال: فاستشرف لها من استشرف فقال: أين ابن أبي طالب؟ قيل: هو في الرحى يطحن، قال: وما كان أحدكم ليطحن، قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر فتفل في عينيه ثم هز الراية ثلاثاً فدفعها إليه..الخ. ثم ذكر ابن عباس عدة مناقب لعلي (علیه السلام) منها أن الله أمر نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر ويدفعها اليه، لأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه، وأن علياً أول من أسلم، ونزول آية التطهير فيه وفي زوجته وولديه (علیهم السلام)، ومبيته على فراش النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة،وقوله (صلی الله علیه و آله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي..الخ». ورواه النسائي في سننه: 5/113، أحمد: 1/330، الحاكم:3/132، السنة لابن أبي عاصم/588، تاريخ دمشق: 42/101، نهاية ابن كثير: 7/374، الخوارزمي/125، فرات/341، كشف اليقين/27، ينابيع المودة: 1/110، شرح الأخبار: 2/299، المراجعات/195

وقال صححه الذهبي.

23- قريش تفرح لساعات بخبر انتصار اليهود على النبي (صلی الله علیه و آله)

روى ذلك ابن إسحاق وتلقاه الحميع بالقبول، قال كما في سيرة ابن هشام: 3/806، عن الحجاج السلمي، وكان تاجراً ثرياً وهو والد نصر بن الحجاج المعروف بجماله، قال: «ولما فتحت خيبر كلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي فقال: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة وكانت عنده، له منها معرض بن الحجاج ومال متفرق في تجار أهل مكة فأذنْ لي يا رسول الله فأذن له، قال: إنه لابد لي يا رسول الله من أن أقول! قال: قل. قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعةً

ص: 336

ورجالاً، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - قال: ولم يكونوا علموا بإسلامي- عنده والله الخبر، أخبرنا فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر وهي بلد يهود وريف الحجاز، قال: قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم، قال: فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسراً، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم! قال: فقاموا وصاحوا بمكة، وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم،

فيقتل بين أظهركم!

قال قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك...ثم ذكر أنه جمع ديونه، وهرب من مكة».

24- كنوز آل أبي الحقيق

قال في الصحيح من السيرة: 18/46، ملخصاً: «أخذ المسلمون في جملة غنائم خيبر حلي آل أبي الحقيق، وكانت أول الأمر في مسك حمل، فلما كثرت جعلوها في مسك ثور، ثم في مسك جمل عند الأكابر من آل أبي الحقيق، وكانوا يعيرونها العرب.السيرة الحلبية: 3/42. والمسك الجلد.

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) صالحهم على أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم وللنبي (صلی الله علیه و آله) الصفراء والبيضاء والحلقة والسلاح، وشرطوا للنبي (صلی الله علیه و آله) أن لا يكتموه شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم.سنن البيهقي: 4/229.

وفي السيرة الحلبية: 3/42: أن جبرئيل (علیه السلام) أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بمكانه فأخذه.ووجدوا فيه أساور ودمالج وخلاخل وأقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزّمرّد، وعقود أظفار مجزع بالذهب.

ص: 337

25- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بصفية بنت حُیَيّ بن أخطب

في إعلام الورى: 1/208: «وأخذ علي فيمن أخذ صفية بنت حيي، فدعا بلالاً فدفعها إليه وقال له: لاتضعها إلا في يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى يرى فيها رأيه، فأخرجها بلال ومر بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على القتلى وقد كادت تذهب روحها! فقال لبلال: أنزعت منك الرحمة يا بلال! ثم اصطفاها ثم أعتقها وتزوجها».

وفي كتاب سُليم/409: «فأعتقها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها».

وفي سيرة ابن إسحاق: 5/246: «كانت صفية رأت قبل ذلك أن قمراً وقع في حجرها فذكرت ذلك لأبيها فضرب وجهها ضربة أثرت فيه، وقال: إنك لتمدين عنقك أن تكوني عند ملك العرب! فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتي بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسألها عنه فأخبرته خبره..لما تزوج رسول الله صفية ابنة حيي، دعا الناس على مأدبتة وهي يومئذ بالحيس والتمر».

«قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب».صحيح بخاري: 5/77.

26- ما أدري بأيها أنا أسَرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟

أبقى النبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب رضی الله في الحبشة خمس عشرة سنة، من الخامسة للبعثة إلى السابعة للهجرة، حتى أمره بالعودة بمن بقي من المهاجرين وكان عددهم ستة عشر، «ابن هشام: 3/818» فوصلوا والنبي (صلی الله علیه و آله) في خيبرفقام النبي لجعفر ومشى اليه والتزمه وقبله بين عينيه، وقال كلمته المشهورة: «ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر»!الطبقات: 2/108، ابن هشام: 3/818،الخصال/77، مقاتل الطالبيين/6 والحدائق: 10/498.

وهي كلمة بليغة تعني أن ما أنجزه جعفر رضی الله عنه من إزالة عقبة المسيحية الرومية من طريق الإسلام نعمة عظيمة، يوازي إزالة عقبة اليهود من طريق الإسلام بفتح خيبر على يد أخيه علي (علیه السلام) !

ص: 338

ففي الخصال/484: «قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة وعانقه وقبَّل ما بين عينيه وبكى، وقال: لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً: بقدومك يا جعفر، أم بفتح الله على أخيك خيبر؟! وبكى فرحاً برؤيته».

وفي تهذيب الأحكام: 3/186، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال له: يا جعفر ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ قال فتشوف الناس ورأوا أنه يعطيه ذهباً أو فضة! قال: بلى يا رسول الله. قال: صل أربع ركعات متى ما صليتهن غفر لك ما بينهن، إن استطعت كل يوم وإلا فكل يومين أو كل جمعة أو كل شهر أو كل سنة، فإنه يغفر لك ما بينهما! قال: كيف أصليها؟ قال: تفتتح الصلاة، ثم تقرأ ثم تقول خمس عشرة مرة وأنت قائم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله

والله أكبر. فإذا ركعت قلت ذلك عشراً، وإذا رفعت رأسك فعشراً، وإذا سجدت فعشراً، فإذا رفعت رأسك فعشراً، وإذا سجدت الثانية عشراً، وإذا رفعت رأسك عشراً. فذلك خمس وسبعون، تكون ثلاثمائة في أربع ركعات فهن ألف ومئتان. وتقرأ في كل ركعة بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون».

27- أسلم أبو موسى الأشعري أيام فتح خيبر

صادف وصول سفينة فيها أبو موسى الأشعري من اليمن، مع وصول سفينة جعفر والمهاجرين، فحشر نفسه معهم وجعل نفسه من المهاجرين! قال إنه كان: «في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً فوافقنا النبي (صلی الله علیه و آله) حين افتتح خيبر».صحيح بخاري: 5/79.

وأبو موسى الأشعري غير مرضي عند أهل البیت (علیهم السلام) فقد وصفوه بأنه: «سامري هذه الأمة»! «الخصال/457». وشهد عمار بن ياسر بأنه كان من الملثمين الذين أرادوا اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة!

«عن أبي نجاء حكيم قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: ما لي ولك ألست أخاك؟ قال: ما أدري إلا أني سمعت رسول الله يلعنك ليلة

ص: 339

الجبل!قال: إنه قد استغفر لي! قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الإستغفار»!

تاريخ دمشق: 32/93.

28- أسلم أبوهريرة أيام فتح خيبر

جاء أبو هريرة مع وفد من قبيلته دوس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وكان في خيبر فقصدوه اليها وأسلموا، ويقال جعل لهم سهماً من الغنيمة. وكان أبو هريرة في الثلاثينات من عمره، وكان فقيراً معدماً، فسكن في الصفة وهي ملحق بمسجد النبي (صلی الله علیه و آله) يسكن فيه المساكين، ويتصدق عليهم المسلمون.

وهذه صورة لشخصية أبي هريرة من كتاب «شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي» للعالم الأزهري: محمود أبو ريَّة (رحمة الله):

أ. قال ابن سعد في طبقاته وهو يتكلم عن غزوة خيبر: وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة وقدم الطفيل بن عمرو، وقدم الأشعريون ورسول الله بخيبر، فلحقوه بها فكلم رسول الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة من غير سهم المقاتلين ففعلوا. وكان عددهم أكثر من خمسين شخصاً.

ب. وبعد رجوعه من خيبر تنكب أبو هريرة طريق العمل للعيش الكريم، وسكن في صفة المسجد يتلقى ما تجود به نفوس المحسنين من صدقاتهم، شأن سكنة التكايا والخوانق، قال أبو هريرة كما رواه أحمد والشيخان: إني كنت امرأ مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني!

لكنه زعم من ناحية أخرى أنه كان له مزود فيه بقية من تمر فمسها النبي (صلی الله علیه و آله) بيده الكريمة وقال له: كل من هذا المزود ما شئت في أي وقت، وكان المزود معلقاً في حقوه فظل يأكل منه حياة النبي وحياة أبي بكر وحياة عمر وحياة عثمان إلى أن أغارت جيوش الشام على المدينة بعد قتل عثمان فانتهبته. وقد حسب أبو هريرة ما أكله من مزوده في هذه الفترة فوجده مئتي وسق!

وقال أبو هريرة مرة لعائشة كما روى البخاري وابن سعد وابن كثير وغيرهم: شغلك

ص: 340

عن رسول الله المرآة والمكحلة! فقالت له: إنما أنت الذي شغلك بطنك، وألهاك نهمك عن رسول الله، حتى كنت تعدو وراء الناس في الطرقات تلتمس منهم أن يطعموك من جوعك، فينفرون منك ويهربون، ثم ينتهي بك الأمر إلى أن تصرع مغشياً عليك من الجوع أمام حجرتي، فيحسب الناس أنك مجنون فيطأون عنقك بأرجلهم.

ج. وكان أبو هريرة نهماً للطعام وجباناً، وقد جاءت الرواية الصحيحة أنه لما نشب القتال في صفين بين علي وبين معاوية، كان يأكل على مائدة معاوية الفاخرة، ويصلي وراء علي، وإذا احتدم القتال لزم الجبل! وكان يلقب «بشيخ المضيرة» وهو صنف من الطعام كان مشهوراً بين أطعمة معاوية الفاخرة. قال الزمخشري في ربيع الأبرار: وكان أبو هريرة يعجبه المضيرة فيأكلها مع معاوية، وإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي، فإذا قيل له في ذلك قال: مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف على أفضل، وكان يقال له: شيخ المضيرة.

وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة بين مقاماته سماها «المقامة المضيرية» غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال: «وحضرنا معه دعوة بعض التجار، فقدمت إلينا مضيرة، تثنى على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة»! والمضيرة تعرف في بلاد الشام باللبنية.

د. وقد عاش أبو هريرة في صُفَّة مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) سنة وتسعة أشهر، ثم بعث النبي العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبعث معه نفراً منهم أبو هريرة، فبقي في البحرين، ثم ولى عمر على البحرين قدامة بن مظعون ثم عزله في سنة 20، وولى أبا هريرة مكانه، ثم بلغه عنه خيانة لأمانته فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي وحاسبه فقال له: أسرقت مال الله؟ فقال لا. قال: فما جئت لنفسك؟ قال: عشرين ألفاً. قال: من أين أصبتها؟ قال كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، ثم أمر عمر بأن يقبض منه عشرة آلاف، ثم قام اليه بالدرة فضربه حتى أدماه، وقال له: يا عدو الله وعدو المسلمين!

ص: 341

ه. وما كاد أبو هريرة يرجع إلى المدينة معزولاً عن ولايته بالبحرين حتى تلقفه الحبر الأكبر كعب الأحبار اليهودي، وأخذ يلقنه من إسرائيلياته، ويدس له من خرافاته، وكان المسلمون يرجعون إليه، فسال سيل روايتهما!

وقد أثبت علماء الحديث أمر أخذ أبي هريرة وغيره عن كعب الأحبار وذلك في باب «رواية الأكابر عن الأصاغر أو الصحابة عن التابعين».

ومما يدلك على أن هذا الكاهن الداهية، قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلامه بالنص ويجعله حديثاً مرفوعاً إلى النبي (صلی الله علیه و آله) !

و. أبو هريرة يدلس: كانت طريقة أبي هريرة في روايته للحديث أن يرفع كل ما يرويه إلى النبي، سواء أكان قد سمعه منه مشافهة، أم أخذه من غيره من الصحابة، أو من التابعين عنعنة، وكان لا يميز بين هذا وذاك عند الرواية، ولا يذكر اسم من أخذ عنه من غير النبي، وهذا يعد عند المحدثين تدليساً، ويكون ما يرويه من هذا الباب في حكم «المرسل» وقد أثبت العلماء أن أبا هريرة كان مدلساً لأن أكثر ما رواه بل غالبه لم يأخذه «سماعاً» من النبي، بسبب تأخر إسلامه وإنما رواه عنعنة عن غيره من الصحابة أو التابعين.

قال يزيد بن إبراهيم: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلس. وعلق الذهبي على هذا الخبر بقوله: تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه! وقال الحاكم: قوم يدلسون الحديث.. وأبو هريرة ولا ريب من هذا الجنس، لأنه كان يروي عن غيره من الصحابة، دون أن يذكر اسم من روى عنه، ثم يرفعه إلى النبي!

ز. وقد ثبت أن عمر وعلياً وعثمان وعائشة وغيرهم من كبار الصحابة، قد كذبوه في وجهه، وبلغ من أمر عمر معه أن نهاه عن الرواية ثم ضربه عليها، وبعد ذلك أنذره إذا هو روى أن ينفيه إلى بلاده! وكان علي رضی الله عنه سئ الرأي فيه، فقد قال: ألا إن أكذب الناس أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبو هريرة الدوسي! وقال مرة: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

ح. ويضرب المثل للكذب بكيس أبي هريرة أو جرابه! وقد جعل معاوية أبا هريرة والياً

ص: 342

على المدينة، وأمره أن يضع أحاديث على علي!

قال أبوجعفر الإسكافي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه! منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.. إلخ.

ط. توفي أبو هريرة سنة59، عن ثمانين سنة بقصره بالعقيق، وحمل إلى المدينة وصلى عليه أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفیان.

وقال الشيخ محمود أبو رية (رحمة الله): «قد سقنا تاريخ أبي هريرة مكشوفاً بعد أن نزعنا عنه ثوب «الراوية» الملفق الذي يظهره في غير صورته وأظهرنا شخصيته على حقيقتها، من يوم أن كان يرعى الغنم في بلاده، ثم يخدم ابن عفان وابنة غزوان بطعامه، وكان يومئذ حافي القدمين لا يستر جسمه إلا إزار بال لا يبلغ نصف الساقين،كان يجمعه كراهية أن ترى عورته، إلى أن أصبح من ذوي الثراء العريض، يتأثل الأراضي الواسعة بالعقيق وبذي الحليفة، ويبتني قصراً منيفا بالعقيق، ويلبس الخز والكتان الممشق، والساج المزرور بالديباج، وغير ذلك مما لم يكن يحلم به أو يخطر بباله. ففي مرآته الصافية حقيقة مروياته الكثيرة المنبثة في كتب السنة كلها، والتي تحمل غرائب وأساطير وخرافات وأوهاما، وتعزى كلها وا أسفاً إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وتنشر بين المسلمين على أنها من حقائق الدين الإسلامي! تفتح أبواب الطعن على ديننا من أعدائه بأنه دين خرافات وأوهام يعادي العقل، ويصادم المنطق!

فالأحرى بنا أن ندرأ عن أنفسنا وديننا هذه التهم ولا يأخذنا في ذلك أي اعتبار!

على أن أبا هريرة قد دفن بالعقيق بالمدينة فإنك تجد له ضريحاً عالياً فيه قبة مكسوة بالجوخ، تعلوها عمامة كبيرة خضراء وهذه القبة داخل مسجد يسمى باسمه، ويقع هذا المسجد في شارع يشق مدينة الجيزة «بالديار المصرية» من شرقها إلى غربها يسمى «شارع سيدي أبي هريرة»!

وقد رأينا هذا الضريح في يوم السبت الموافق23يونيه سنة1962 وليس بعجيب

ص: 343

أن يكون لأبي هريرة قبر في الجيزة غير قبره الذي بالمدينة، فإن له من شيخه الكبير كعب الأحبار أسوة! فهذا اليهودي كما هو معلوم مدفون بمدينة حمص بالشام، ولكن له قبرا آخر فوقه قبة كبيرة تقع بأحد المساجد الكبيرة بحي الناصرية المشهور بالقاهرة. ويعمل لأبي هريرة مولد كل عام!

ومن العجيب أن وزارة الأوقاف بالجمهورية العربية المتحدة تنفق على قبري أبي هريرة وشيخه من مال المسلمين، على عين جميع رجال الدين»!

ص: 344

الفصل التاسع والخمسون: من غزوة خيبر إلى غزوة مؤتة

1- فدك خالصةً للنبي (صلی الله علیه و آله)

في إعلام الورى: 1/208: «فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من خيبر، عقد لواءً ثم قال: من يقوم إليه فيأخذه بحقه؟ وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك، فقام الزبير إليه فقال: أنا، فقال له: أمِطْ عنه«إبعد»! ثم قام إليه سعد فقال: أمِطْ عنه!

ثم قال: يا علي قم إليه فخذه، فأخذه فبعث به إلى فدك فصالحهم على أن تحقن دماءهم، فكانت حوائط فدك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خاصاً خالصاً، فنزل جبرئيل فقال: إن الله عزوجل يأمرك تؤتي ذا القربى حقه. فقال: يا جبرئيل ومن قرباي وما حقها؟ قال: فاطمة، فأعطها حوائط فدك، وما لله ولرسوله فيها. فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر وقالت: هذا كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لي ولابنيَّ».

2- فدك رمزٌ لظلامة الإمامة

في الكافي: 1/543: «عن علي بن أسباط قال: لما ورد أبو الحسن موسى (علیه السلام) على المهدي رآه يرد المظالم فقال: يا أميرالمؤمنين ما بال مظلمتنا لاترد؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه (صلی الله علیه و آله) فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه (صلی الله علیه و آله): وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، فلم يدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل ربه فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها

ص: 345

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لها: يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها: إئتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأميرالمؤمنين (علیه السلام) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟ قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب؟ فضعي الحبال في رقابنا! فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي، فقال: حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل، فقال له كل هذا؟ قال: نعم يا أميرالمؤمنين هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله بخيل ولا ركاب! فقال كثير وأنظر فيه».

أقول: يقصد الإمام (علیه السلام) الخلافة، وأن كل الدولة الإسلامية فدك!

وفي دعائم الإسلام: 1/385: «وروينا عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال: إن فدكاً كانت مما أفاء الله على رسوله بغير قتال، فلما أنزل الله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، أعطى رسول الله فاطمة فدكاً.فلما قبض أخذها منها أبو بكر، فلما ولي عثمان أقطعها مروان، فلما ولي مروان جعل الثلثين منها لابنه عبدالملك، والثلث لابنه سليمان، فلما وليَ عبدالملك جعل ثلثيه لعبدالعزيز وبقي الثلث لسليمان، فلما ولى سليمان جعل ثلثه لعمر بن عبدالعزيز، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز ردها كلها على ولد فاطمة (علیها السلام)، فاجتمع إليه بنو أمية وقالوا: يرى الناس أنك أنكرت فعل أبي بكر وعمر وعثمان والخلفاء من آبائك، فردها، وكان يجمع غلتها في كل سنة ويزيد عليها مثلها ويقسمها في ولد فاطمة (علیها السلام) وكان الأمر فيها كما قال أبوعبدالله أيام عمر بن عبدالعزيز. ثم استأثر بها آل العباس من بعده، إلى أن ولي المتسمي بالمأمون فجمع فقهاء البلدان من العامة وغيرهم وتناظروا فيها، فثبت أمرهم بإجماع أنها لفاطمة صلوات الله عليها، وشهدوا بأجمعهم على ظلم من انتزعها منها، فردها في ولد فاطمة، وذلك من الأمر المشهور المعروف».

ص: 346

أقول: قام أبو بكر وعمر بمصادرة فدك، وأخرجوا منها وكيل فاطمة (علیها السلام) بعد أن كانت بيدها من فتح خيبر، فاحتجت عليهم وأرتهم كتاب النبي (صلی الله علیه و آله)، وأتت بالشهود وخطبت في المسجد، وأعلنت موقفها من السلطة. ومن ذلك اليوم صارت قضية فدك شعاراً للمطالبة بالخلافة، وقد استوفى علماؤنا بحثها وصنفوا فيها كتباً. راجع الإنتصار: 7 والصحيح من السيرة: 18/219.

3- غيروا إسم فدك وسموها «الحائط»!

كأنهم أرادوا بذلك إخفاء ظلامة الزهراء (علیها السلام) ! وجاء في موقعها الرسمي:

http: //www.alhaitcity.com/vb/showthread.php?t=4964

«تقع مدينة الحائط المعروفة بفدك قديماً، في الطرف الشرقي لحرة فدك الواقعه شرقي حرة خيبر، وهي قديماً تعتبر قرية حجازية، وتقع شمالي المدينة المنورة، وهي تتبع إدارياً لمنطقة حائل في الوقت الحاضر، وهي في الطرف الجنوبي الغربي منها وتبلغ المسافة بين حائل ومدينة الحائط «250 كم» وعن المدينة المنورة بحوالي «300 كم» تقريباً، وبذلك تتوسط المسافة بين حائل والمدينة المنورة. والحائط قاعدة القرى المجاورة لها منذ القدم، وتقع مدينة الحائط على خط طول 29/40 وعلى خط العرض00/26 وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 1300 متراً.

ومدينة الحائط التي يشملها إسم فدك تبلغ مساحتها 65000 كيلو متر مربع وحدود الحائط التابعة لها للخدمات تبلغ نفس المساحة السابقة، وذلك من جبل الخطام وجبل الأبيض غرباً، إلى جبل العلم شرقاً، وشمالاً من جبل الفرس وجبل وَسْمه إلى حدود منطقة المدينة المنورة جنوباً. ويتبعها أكثر من120 قرية وهجرة ويبلغ عدد سكان مدينة الحائط «18000» نسمة تقريباً.

وفي معجم البلدان: 4/238: «فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) في سنة سبع صلحاً، وذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث واشتد بهم الحصار، راسلوا

ص: 347

رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله (صلی الله علیه و آله).

وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة، وهي التي قالت فاطمة رضی الله عنها: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نحلنيها، فقال أبو بكر رضی الله عنه: أريد لذلك شهوداً.. ولها قصة. ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب بعده لما ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين، أن يردها إلى ورثة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان علي بن أبي طالب رضی الله عنه، والعباس بن عبدالمطلب يتنازعان فيها، فكان علي يقول: إن النبي (صلی الله علیه و آله) جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، أما أنا فقد سلمتها إليكما فاقتصدا، فما يؤتى واحد منكما من قلة معرفة، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة رضی الله عنها فكانت في أيديهم في أيام عمر بن عبدالعزيز، فلما ولي يزيد بن عبدالملك قبضها فلم تزل في أيدي بني أمية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان هو القيم عليها يفرقها في بني علي بن أبي طالب، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم، فلما ولي المهدي بن المنصور الخلافة أعادها عليهم، ثم قبضها موسى الهادي من بعده إلى أيام المأمون، فجاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها فأمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل وقرئ على المأمون، فقام دعبل الشاعر وأنشد:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** برد مأمونِ هاشمٍ فدكا

وفي فدك اختلاف كثير في أمرها بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وأبي بكر وآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن رواة خبرها من رواه بحسب الأهواء وشدة المراء..».

ص: 348

4- فتح النبي (صلی الله علیه و آله) وادي القرى

قال في الصحيح من السيرة: 19/9، ملخصاً: بعد فتح خيبر انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى وادي القرى فأتى الصهباء وسلك على برمة، حتى انتهى إلى وادي القرى يريد اليهود وقد التحق بهم ناس من العرب. ونزلها مع مغرب الشمس ودعا أهلها إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك واستقبلوا المسلمين بالرمي، وهم يصيحون في آطامهم فأصاب سهم منهم رجلاً إسمه مدعم فقتله، وعبأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه للقتال وصفَّهم، وقاتلوا ففتحها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنوة، وغنَّمه الله أموال أهلها فخمَّس ذلك، وترك الأرض والنخل في أيدي يهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر، وقسَّم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخيل بأيدي يهود وعاملهم عليها. وأقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بوادي القرى أربعة أيام، قال البلاذري: وكان في وادي القرى بساتين لعلي (علیه السلام) أوقفها ففي وصيته (علیه السلام): «ما كان لي بوادي القرى كله من مال لبني فاطمة (علیها السلام) ورقيقها، صدقة».الكافي: 7/49.

قال الحموي في معجصم البلدان: 4/338: «وادي القرى: واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة، وبها سمي وادي القرى، قال أبو المنذر: سمي وادي القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وكانت من أعمال البلاد، وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة، إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد. قال أبو عبيدالله السكوني: وادي القرى والحِجْر والجَنَاب، منازل قضاعة ثم جهينة وعذرة وبَلِي، وهي بين الشام والمدينة يمر بها حاج الشام، وهي كانت قديماً منازل ثمود وعاد، وبها أهلكهم الله وآثارها إلى الآن باقية. ونزلها بعدهم اليهود واستخرجوا كظائمها وأساحوا عيونها وغرسوا نخلها.. وروي أن معاوية بن أبي سفیان مر بوادي القرى فتلا قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ.. الآيات، ثم قال: هذه الآية نزلت في أهل هذه البلدة وهي بلاد ثمود

ص: 349

فأين العيون؟فقال له رجل: صدق الله في قوله أتحب أن أستخرج العيون؟ قال: نعم، فاستخرج ثمانين عيناً، فقال معاوية: الله أصدق من معاوية»!

وقد غيروا إسمها اليوم وسموها«العلا»! ففي موقع شبكة عربيات:

http: //www.arabiyat.com/forums/showthread.php?t=61799

العلا: هي الإسم الحديث لوادي القرى الذي أوردته كتب التاريخ وتغنى به الشعراء، وهي من أقدم المدن. وهي بلد موسى بن نصير الذي أنشأ فيها قلعته المشهورة، وهي بلد جميل بثينة، وكانت تسمى قديماً بوادي القرى وديدان. ويسميها الباحثون عاصمة الآثار وبلد الحضارات. مر بها سيدنا محمد (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك وعاش بها سيدنا صالح (علیه السلام)، ومن آثارها محلب ناقة سيدنا صالح، وفيها مدائن صالح أو قرى صالح أو الحجر، وهي تسميات تطلق على مكان قوم ثمود والأنباط، حيث مقابرهم المنحوتة في الجبال بطريقة غاية في الجمال والغرابة، والتي تعرف عند أهل المنطقة بالقصور لروعة النحت وجماله.

5- رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) نام عن صلاة الصبح

قال في الصحيح من السيرة: 19/15، ملخصاً: «روى مسلم وأبو داود أن النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من وادي القرى وخيبر، كان قريباً من المدينة فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس!وكان بلال يحرسهم فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما صنعت بنا يا بلال؟! قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك! قال: صدقت، ثم اقتاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعيره غير كثير ثم أناخ وأناخ الناس فتوضؤوا وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عزوجل يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».

ورد ذلك بوجوه: منها، أن من غير المقبول أن ينام ألف وخمس مئة شخص ويحرسهم شخص واحد هو بلال، ثم لايستيقظ منهم أحد!

ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) تنام عيناه ولا ينام قلبه، فكيف ينام عن صلاة الصبح؟!

ص: 350

هذا، وقد بحث العلماء قديماً وحديثاً إمكان إنامة الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) أو إسهائه أو عدم قدرة الله على ذلك والعياذ بالله، ووقوع ذلك أو عدم وقوعه.

والذي نفاه الصدوق (رحمة الله) هو نفي بعضهم لقدرة الله على ذلك، وهو أجنبي عن وقوعه وعدمه، ولايتسع المجال للتفصيل.

6- نظر إلى أحُد وقال: هذا جبل يحبنا

في المجازات النبوية للشريف الرضي/15: «من ذلك قوله (صلی الله علیه و آله) وقد نظر إلى أحُد منصرفه من غزاة خيبر: هذا جبل يحبنا ونحبه. وهذا القول محمول على المجاز، لأن الجبل على الحقيقة لايصح أن يحب». وصحيح بخاري: 3/223.

وقال في لسان العرب: 1/290: «قال ابن الأثير: هذا محمول على المجاز، أراد أنه جبل يحبنا أهله ونحب أهله وهم الأنصار، ويجوز أن يكون من باب المجاز الصريح، أي إننا نحب الجبل بعينه، لأنه في أرض من نحب».

أقول: من يتأمل في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا. «الإسراء: 44» يطمئن بأن لكل شئ حتى المادة حياة ونفساً وروحاً وشخصية بحسبه، وعليه يمكن حمل كلامه (صلی الله علیه و آله) على ظاهره، وأن من المادة محب ومبغض ومؤمن وكافر. ولا مجال للتفصيل.

7- قضى الله بزوال دولة فارس فَقَتَلَ ابنُ كسرى أباه!

عندما بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) كان كسرى في أوج قوته، وقد انتصر على قيصر في سوريا لكن الله تعالى أخبر بأنه سينهزم أمام الروم بعد بضع سنين، فقال عزوجل: «الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَالْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. الروم: 1-7.

وفي السنة السادسة للهجرة بعث النبي (صلی الله علیه و آله) رسالة إلى كسرى، نصها: «بسم الله

ص: 351

الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس».

مكاتيب الرسول للأحمدي: 2/316.

«فلما وصل إليه الكتاب مزقه واستخف به وقال: من هذا الذي يدعوني إلى دينه ويبدأ باسمه قبل اسمي! وبعث إليه بتراب! فقال (صلی الله علیه و آله): مزق الله ملكه كما مزق كتابي، أما إنه ستمزقون ملكه! وبعث إلي بتراب أما إنكم ستملكون أرضه! فكان كما قال (صلی الله علیه و آله)..إن كسرى كتب في الوقت إلى عامله باليمن باذان ويكنى أبا مهران، أن احمل إليَّ هذا الذي يذكر أنه نبي، وبدأ بإسمه قبل إسمي ودعاني إلى غير ديني! فبعث إليه فيروز الديلمي في جماعة مع كتاب يذكر فيه ما كتب به كسرى، فأتاه فيروز بمن معه فقال له: إن كسرى أمرني أن أحملك إليه! فاستنظره ليلة فلما كان من الغد حضر فيروز مستحثاً فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة! سلط الله عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل، فأمسكْ حتى يأتيك الخبر!فراع ذلك فيروز وهاله وعاد إلى باذان فأخبره فقال له باذان: كيف وجدت نفسك حين دخلت عليه؟ فقال: والله ما هبت أحداً كهيبة هذا الرجل!فوصل الخبر بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة فأسلما جميعاً». المناقب: 1/70.

وفي مكاتيب الرسول للأحمدي: 2/329: «فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مع قهرمانه، وبعث معه رجلاً آخر من الفرس، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فلما قدما عليه المدينة قالا له: شاهنشاه «ملك الملوك» كسرى بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك لتنطلق معنا، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به! وإن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك! وكانا دخلا على رسول الله على زي الفرس، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما وقال:

ص: 352

ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا يعنيان كسرى! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لكن أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي، ثم قال لهما: إرجعا حتى تأتياني غداً. وأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه فقتله في شهر كذا وكذا، لكذا وكذا في ليلة كذا، فلما أتاه الرسولان قال: إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بعد ما مضى من الليل سبع ساعات، سلط عليه شيرويه فقتله! وهي ليلة الثلاثاء لعشر ليان مضين من جمادى الأولى سنة سبع، كذا في الطبقات. وقال أبو نعيم: فلما قرأ النبي كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة لايكلمهم ولاينظر إليهم إلا إعراضاً، فلما مضت خمس عشرة ليلة تقدموا إليه، فقالا: هل تدري ما تقول، إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا فنكتب بها عنك فنخبر الملك أي باذان؟قال: نعم أخبرا ذلك عني وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ إلى منتهى الخف والحافر وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك. وأعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرخسرو منطقة فيها ذهب وفضة وكان أهداها له بعض الملوك، وكانت حمير تسمي خرخسرة صاحب المعجزة، والمعجزة المنطقة بلغة حمير.

فخرج الرسولان وقدما على باذان وأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبياً، ولننظرن فإن كان ما قال حقاً فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبر بقتل كسرى: أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضباً لفارس فإنه قتل أشرافهم فتفرق الناس، فإذا جاءك كتابي فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى يكتب إليك فيه فلا تزعجه حتى يأتيك أمري فيه!

فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء فارس الذين كانوا باليمن، فبعث باذان بإسلامه وإسلامهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)...

ولما سمعت قريش بأمر كسرى واستخفافه بكتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكتابه إلى باذان ليبعثه إلى كسرى أو يقتله، فرحوا واستبشروا وقالوا فقد نصب له كسرى

ص: 353

ملك الملوك، كفيتم الرجل... ولكن لما سمعوا برجوع الرسولين وقتل كسرى، وإسلام باذان وأبناء فارس معه، صار رجاؤهم خيبة وقنوطاً»!

وروى في الخرائج: 1/78، رؤيا ملك بابل بختنصر التي سأل عنها نبي الله دانيال (علیه السلام) فأخبره وبتفسيرها وأن ملكه سيزول وبعده ملك الفرس، قال: «فتأويل الرؤيا مبعث محمد (صلی الله علیه و آله) تمزقت الجنود لنبوته، ولم تنتقض مملكة فارس لأحد قبله، وكان ملكها أعز ملوك الأرض وأشدها شوكة، وكان أول ما بدأ فيه انتقاص قتل شيرويه بن أبرويز أباه، ثم ظهر الطاعون في مملكته وهلك فيه، ثم هلك ابنه أردشير، ثم ملك رجل لم يكن من أهل بيت الملك فقتلته بوران بنت كسرى، ثم ملك بعده رجل يقال له كسرى بن قباد ولد بأرض الترك ثم ملكت بوران بنت كسرى، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) تمليكها فقال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، ثم ملكت ابنة أخرى لكسرى فسُمَّت وماتت، ثم ملك رجل ثم قتل!

فلما رأى أهل فارس ما هم فيه من الإنتشار أمر «كَبُرَ» ابن لكسرى يقال له: يزدجرد فملكوه عليهم فأقام بالمدائن على الإنتشار «تفرق المملكة» ثماني سنين، وبعث إلى الصين بأمواله، وخلف أخا بالمدائن لرستم فأتى لقتال المسلمين ونزل بالقادسية وقتل بها، فبلغ ذلك يزدجرد فهرب إلى سجستان، فقتل هناك»!

8- هدايا المقوقس ملك مصر إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

قال الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 2/416: «كتابه (صلی الله علیه و آله) إلى المقوقس: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط و: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

قال المقوقس: إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة

ص: 354

النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر. ثم أخذ الكتاب وجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته.

وأرسل المقوقس يوماً إلى حاطب فقال:«أسألك عن ثلاث. فقال: لاتسألني عن شئ إلا صدقتك، قال: إلى ما يدعو محمد؟ قلت: إلى أن نعبدالله وحده، ويأمر بالصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم.. إلى أن قال: فوصفته فأوجزت، قال: قد بقيت أشياء لم تذكرها: في عينيه حمرة قلما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزي بالتمرات والكسر، ولا يبالي من لاقى من عم أو ابن عم. ثم قال المقوقس: هذه صفته، وكنت أعلم أن نبياً قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه بالشام وهناك تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد وبؤس، والقبط لاتطاوعني في اتِّباعه، وأنا أَضِنُّ بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا! وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً واحداً، ولا أحب أن تعلم بمحادثتي إياك! ثم دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله): بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك». ثم عدد الأحمدي هدية المقوقس للنبي (صلی الله علیه و آله) وهي: أربع جوارٍ: مارية أم إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وسيرين أخت مارية، وقيسر أخت مارية أيضاً، وجارية أخرى سوداء اسمها بريرة. وغلاماً خصياً أسود إسمه مابور. وبغلة شهباء وهي دلدل، وحماراً أشهب يقال له يعفور. وقيل وألف دينار وعشرين ثوباً، وألف مثقال ذهباً. وفرساً وهو اللزاز، وأهدى إليه عسلاً من عسل نبها من قرى مصر، ومكحلة ومربعة توضع فيها، وقارورة

ص: 355

دهن، ومقصاً ومسواكاً ومشطاً ومرآة. وقيل عمائم وقباطي وطيباً وعوداً ومسكاً، مع ألف مثقال من ذهب، مع قدح من قوارير، وخفين ساذجين أسودين، وطبيباً يداوي مرضی المسلمين. «فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): إرجع إلى أهلك فإنا قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لانشبع. وقال حاطب: كان المقوقس لي مكرماً في الضيافة وقلة اللبث ببابه، وما أقمت عنده إلا خمسة أيام، ودفع له مائة دينار وخمسة أثواب... فلما قدم حاطب المدينة وعرض الهدايا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبلها، ونقل له كلام المقوقس وناوله الكتاب قال: ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه. ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله». راجع المناقب: 1/139، 146، 148، 2/65، ابن هشام: 1/ 3 و123، الشفا: 1/115 ومستدرك سفينة البحار: 1/380، 3/336 و 5/208.

أقول: قد يكون النبي (صلی الله علیه و آله) رد الطبيب لأنه شك فيه نفسه، وليس في المقوقس. وقد يكون الطبيب يهودياً.

9- وفاة النجاشي وصلاة النبي (صلی الله علیه و آله) عليه

في الكافي: 2/121، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب وعليه خِلْقَان الثياب! قال: فقال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا وتغير وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمداً وأقر عينه، ألا أبشركم؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك فأخبرني أن الله عزوجل قد نصر نبيه محمداً (صلی الله علیه و آله) وأهلك عدوه، وأسر فلاناً وفلاناً وفلاناً، التقوا بواد يقال له: بدر كثير الأراك لكأني أنظر إليه، حيث كنت أرعى لسيدي هناك، وهو رجل من بني ضمرة!

فقال له جعفر: أيها الملك فمالي أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان؟ فقال له: يا جعفر إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى (علیه السلام) أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة! فلما أحدث الله عزوجل لي نعمة بمحمد (صلی الله علیه و آله) أحدثت لله هذا التواضع! فلما بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه: إن الصدقة

ص: 356

تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعه، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عزاً، فاعفوا يعزكم الله».

وفي مجمع البيان: 2/480، في تفسير قوله تعالى:«وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لايَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً: اختلفوا في نزولها فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وذلك أنه لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. قالوا: ومن؟قال: النجاشي. فخرج رسول الله إلى البقيع، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه! فقال المنافقون: أنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني حبشي لم يره قط، وليس على دينه».

وفي سيرة ابن هشام: 1/228: «فلما مات النجاشي، صلى عليه واستغفر له».

وفي الخصال/359، عن علي (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزينٍ عليه وقال: إن أخاكم أصحمة، وهواسم النجاشي مات. ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه وكبر سبعاً، فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته وهو بالحبشة». وعيون أخبار الرضا (علیه السلام):2/252 وفي الخرائج 1/64، مختصراً.

وفي المعتبر: 2/352: «يمكن أن يكون دعاءً له لا كصلاة الجنازة.قال زرارة قلت: فالنجاشي لم يصل عليه النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ فقال: لا، إنما دعا له. لو جازت الصلاة بعد دفنه لصلي على الأنبياء في قبورهم والصلحاء وإن تقادم العهد».

10- سرايا قبل سفر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عمرة القضاء

أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) مجموعات صغيرة في عدة سرايا بعد عودته من خيبر وأم القرى قبل عمرة القضاء، وأكثرها سرايا عادية، وقد يكون بعضهما مكذوباً!

فمنها، سرية عمر إلى تربة، قالوا بعثه في ثلاثة نفر إلى موضع يسمى تربة، لقتال أناس من هوازن، فهربوا.

ومنها: سرية أبي بكر إلى نجد، لأناس من هوازن، ولم يذكروا موضعها ولا

ص: 357

أسماء من قتل فيها، وقالوا أسر أبو بكر امرأة ولم يذكروا إسمها!

وذكروا سريتين إلى فدك لبشير بن سعد وغالب الليثي، وقالوا إنهم قتلوا وغنموا أموالاً وأنعاماً وأباعركثيرة.

كما ذكروا بطولات لسلمة بن الأكوع وأنه قتل أهل سبعة أبيات ولم يسموهم!

وفي إعلام الورى: 1/211: «وبعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض بني مرة فقتل وأسر. وبعث عيينة بن حصن البدري إلى أرض بني العنبر فقَتل وأسر».

هذا، وذكر بعضهم أن غزوة الكدر كانت بعد خيبر وقبل عمرة القضاء، «راجع الصحيح: 19/89» «وذلك مستبعد، فقد ذكروا غزوة الكدر أو قرقرة الكدر في آخر السنة الثانية للهجرة، وتقدم أنها كانت سرية لزيد بن حارثة ولم يقع فيها حرب». الطبقات: 2/31،الطبري: 2/483 وأعيان الشيعة: 1/251.

11- هل شققت عن قلبه يا أسامة؟

وبعد فتح خيبر كانت السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد رجلاً قال إني مؤمن، وقد وبخه النبي (صلی الله علیه و آله).راجع: الصحيح من السيرة: 19/43.

قال علي بن إبراهيم القمي: 1/148 في تفسير قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فإنها نزلت لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمر بأسامة بن زيد فطعنه فقتله! فلما رجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بذلك، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟! فقال: يا رسول الله إنما قال تعوذاً من القتل. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فلا شققت الغطاء عن قبله، ولا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت! فحلف بعد ذلك أنه لا يقتل أحداً شهد

ص: 358

أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! فتخلف عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) في حروبه وأنزل الله في ذلك: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا.. الخ».

قال في جواهر الكلام: 41/636: «بل يؤيده «درء الحدود بالشبهات» أن جمعاً من الصحابة منهم أسامة بن زيد، وجدوا أعرابياً في غنيمات، فلما أرادوا قتله تشهد فقالوا: ما تشهد إلا خوفاً من أسيافنا، فقتلوه واستاقوا غنيماته فنزل: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وقال لأسامة: هلا شققت قلبه؟! ولكن لم يقتص منهم».

12- عيينة بن حصن يواصل الغارة على المسلمين

تقدم أن عيينة بن حصن جاء بجمع من قبيلته فزارة وغطفان لينصر اليهود في خيبر، فبعث اليه النبي (صلی الله علیه و آله) إن الله وعده خيبر وطلب منه أن ينسحب وله تمر خيبر سنة، فأبى عيينة! وفي اليوم التالي وقعت عليهم الصيحة أن المسلمين أغاروا على ديارهم! فانسحبوا من خيبر وتركوا اليهود! الصحيح: 17/110.

وبعد فتح خيبر جاء عيينة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يطالب بتمر خيبر، ويدعي أنه انسحب من خيبر لمصلحة النبي (صلی الله علیه و آله) ! فلم يعطه النبي (صلی الله علیه و آله) شيئاً.

وقال الحارث بن عوف المري لعيينة وكان حليفه: «أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمداً قد وطأ البلاد وأنت توضع في غير شئ...أيها الرجل قد رأيت ورأينا معك أمراً بيِّناً في بني النضير ويوم الخندق وقريظة، وقبل ذلك قينقاع وفي خيبر، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله يقرون لهم بالشجاعة والسخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل. والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم، لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس. ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم. والله إن الذي سمعت لمن السماء! والله ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد! فقال عيينة: هو

ص: 359

والله ذاك ولكن نفسي لاتقرُّني! فقال الحارث: فادخل مع محمد! قال: أصير تابعاً؟! قد سبق قوم إليهم فهم يُزْرُونَ بمن جاء بعدهم يقولون: شهدنا بدراً وغيرها»!

أقول: لم يسلم عيينة مع يقينه بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) ! وواصل محاولاته الغارة على المسلمين، فأغار عليهم في جمع من غطفان فبعث اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) بشير بن سعد في ثلاث مائة، فساروا حتى أتوا يمن وجُبار قرب خيبر، فهرب جماعة عيينة فغنموا من إبلهم ونعمهم، ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم فهرب عيينة وتبعهم المسلمون فأسروا منهم رجلين، وجاؤوا بهما إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلما وأطلق سراحهما. راجع الصحيح: 19/76.

النبي (صلی الله علیه و آله) يتوجه إلى عمرة القضاء

1- أحرم النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون واتخذوا الحيطة لاحتمال أن تمنعهم قريش من زيارة البيت فيحتاجون إلى قتالها، فقد أنزل الله عليهم: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاتَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.البقرة: 190-191.

وفي زبدة البيان/306: «تجهز النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا يفي لهم المشركون وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله الآية، أي قاتلوا الذين يقاتلونكم دون الذين لم يقاتلوكم..».

2- في الكافي: 4/251، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاث عمر مفترقات: عمرةً في ذي القعدة أهَلَّ من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرةً أهَلَّ من الجحفة وهي عمرة القضاء، وعمرةً أهَلَّ من الجعرانة، بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين».

وفي إعلام الورى: 1/211: «اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) والذين شهدوا معه الحديبية، ولما بلغ قريشاً ذلك خرجوا متبددين، فدخل مكة وطاف بالبيت على بعيره بيده محجن يستلم به الحجر، وعبدالله بن رواحة آخذ بخطامه وهو يقول:

ص: 360

خلوا بني الكفار عن سبيله *** خلوا فكل الخير في رسوله

قد أنزل الرحمن في تنزيله *** نضربكم ضرباً على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضرباً يزيل الهام عن مقيله

يا رب إني مؤمن بقيله

وأقام بمكة ثلاثة أيام، وتزوج بها ميمونة بنت الحارث الهلالية، ثم خرج فابتنى بها بسرف، ورجع إلى المدينة فأقام بها حتى دخلت سنة ثمان».

3- وروى الجميع أن شخصيات مكة خرجوا منها، بينما اصطف الناس سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، وقد حرص النبي (صلی الله علیه و آله) على أن يري قريشاً قوة المسلمين، فدخل راكباً على ناقته وعبدالله بن رواحة ينشد بين يديه النشيد المتقدم الذي فيه تحدٍّ لقريش، فأثار ذلك خوف عمر أو غيرته أن يتحدى أنصاريٌّ قريشاً في عقر دارها! قال أبو يعلى: 6/121: «فقال عمر: يا ابن رواحة تقول الشعر بين يدي رسول الله وفي حرم الله؟! قال فقال النبي (صلی الله علیه و آله): مَهْ يا عمر، هذا أشد عليهم من وقع النبل»! والنسائي: 5/211، البيهقي في سننه: 10/228، الترمذي: 4/217، مبسوط السرخسي:10/39 وسير الذهبي: 1/235،

ورواه مجمع الزوائد: 6/146، وقال: «وتغيب رجال من أشراف المشركين كراهية أن ينظروا إلى رسول الله غيظاً وحنقاً ونفاسةً وحسداً، وخرجوا إلى نواحي مكة».

والعجيب أن عمر الذي كان مصراً قبل سنة في الحديبية على قتال قريش، استنكر بسبب خوفه أو تعصبه لقريش أن يتحداهم المسلمون في دارهم!ولا ننس أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وقد نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم! ولكن النبي (صلی الله علیه و آله) يرى أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيف، وأن عمل عبدالله بن رواحة صحيح وقيمته عالية لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!

وفي الحدائق الناضرة: 16/129: «عن عبدالله بن يحيى الكاهلي قال: سمعت

أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: طاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ناقته العضباء وجعل يستلم الأركان

ص: 361

بمحجنه ويقبل المحجن». والمحجن: عصا معقوفة، فكان (صلی الله علیه و آله) يمس الركن بها ويقبلها.

4- وفي الكافي: 4/435، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاؤوا إليه فقالوا: يا رسول الله إن فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام. فأنزل الله عزوجل: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَفَ بِهِمَا، أي وعليهما الأصنام».

5- قال في الصحيح: 9/172 بعنوان: رعب قريش وحيرتها، ملخصاً: «قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخيل أمامه حتى بلغت مر الظهران، فرأى ناس من قريش خيلاً كثيرة وسلاحاً وفيراً، فطاروا بالخبر إلى قريش، ففزعت من ذلك وتحيرت هل جاء النبي (صلی الله علیه و آله) ليعتمر أم ليغزوها، وهو لم يعرف بالغدر صغيراً ولا كبيراً!

وخرج كبراؤها من مكة حتى لا يروا النبي (صلی الله علیه و آله) يطوف بالبيت هو وأصحابه، حسداً وعداوة!وكانت شائعاتهم تلاحق المسلمين.وكان وجود قرشيين مع النبي يزيد في حسرة قريش وإحراجها أمام الناس الذين لهم فيهم أقرباء، فقالوا: إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب! لذلك أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإظهار القوة ليبطل كيدهم وأطلق دعاءه فقال: رحم الله من أراهم من نفسه قوة» فأمرهم بالرمل في ثلاثة أشواط، وهو المشي السريع شبيه بالعرض العسكري فقالت قريش: «هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، أما إنهم لينفرون نفر الظبي!

كما أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكشفوا أعضادهم اليمنى التي تقبض السيوف والرماح وهو يطوف على ناقته وعبدالله بن رواحة آخذ بزمامها وهو ينشد التحدي لهم! وقد ورد عن أهل البیت (علیهم السلام) أن كشف الأعضاد مخصوص بذلك الوقت، وليس له صفة شرعية دائمة في الحج».

زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بميمونة بنت الحارث

في مجمع البيان: 9/211: «أقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة..بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحرث العامرية فخطبها

ص: 362

عليه، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبدالمطلب، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحرث، فزوجها العباس رسول الله».

وقال صاحب الصحيح: 19/207 إنها آخر امرأة تزوجها النبي (صلی الله علیه و آله).

وفي سيرة ابن هشام: 3/828: «وأصدقها «أبو رافع» عن رسول الله أربع مئة درهم».

وقد تقدمت ترجمة ميمونة أم المؤمنين رضی الله عنها في الفصل الخامس والأربعين.

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص!

كان خالد بن الوليد إلى السنة السابعة قائد خيل المشركين في الحديبية، ثم كان في أواسط الثامنة مع المسلمين في غزوة تبوك، وسيأتي دوره فيها، ومعناه أنه أسلم بين الحديبية ومؤتة. لكنه ادعى أنه أسلم قبل خيبر وأنه شارك فيها!

فقد كذب خالد فقال: «غزوت مع رسول الله غزوة خيبر، فأسرع الناس في حظائر يهود فقال: يا خالد ناد في الناس أن الصلاة جامعة». وتبنى كذبته أصحاب المسانيد، فرواها أحمد:4/89، وأبو داود والنسائي وابن ماجة، نصب الراية: 6/58 وشكك فيه ابن عبدالبر، الإستيعاب:2/427 وقال ابن حزم وقال إنه موضوع، عمدة القاري: 17/248.

وقال في مجمع الزوائد: 9/351: «وعن محمد بن إسحاق قال: كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة عند النجاشي فقدموا المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة. قلت: إسلامهم في يوم واحد معروف».وبه قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية/259، ابن تيمية في فتاويه: 4/397، ابن عربي في أحكام القرآن: 2/572، ابن حجر في تهذيب التهذيب: 3/107 وابن كثير في النهاية: 5/366 و 3/208.

وروت مصادرهم اعترافهما بأنهما رأيا ميزان القوة لمصلحة النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلما! «مجمع الزوائد: 9/350»وستعرف أن أدوارهما في الإسلام مضخمة أو مكذوبة.

ص: 363

الفصل الستون: غزوة مؤتة وما بعدها إلى فتح مكة

1- موقع مؤتة والكرك والمزار

تقع مؤتة قرب مدينة الكرَك جنوبي عَمَّان عاصمة الأردن وتبعد عنها120 كم وتبعد عن القدس نحو70 كم، وعن المدينة المنورة أكثرمن1100كم. وتسمى المزار، لأن فيها قبر جعفر الطيار (رحمة الله) ورفاقه الشهداء.

في معجم البلدان: 5/220: «قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، بها قبر جعفر بن أبي طالب، بعث النبي (صلی الله علیه و آله) إليها جيشاً في سنة ثمان، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة مولاه وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب الأمير، وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة، فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقاتل زيد حتى قتل، فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية عبدالله بن رواحة فكانت تلك حاله، فاجتمع المسلمون إلى خالد بن الوليد فانحاز بهم حتى قدم المدينة، فجعل الصبيان يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله!

فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ليسوا بالفرار لكنهم الكُرَّار إن شاء الله». وقال حسان:

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبدالله هم خير عصبة *** تواصوا وأسباب المنية تنظر».

ص: 364

2- انحسر خطر الفُرس عن النبي (صلی الله علیه و آله) وتعاظم خطر الروم

في أواخر السنة السادسة للهجرة أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) كتبه إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، فأهان كسرى مبعوث النبي (صلی الله علیه و آله) ومزق كتابه، وطلب من حاكم اليمن أن يرسله اليه! فأرسل حاكم اليمن وزيره إلى المدينة وأبلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أمر كسرى، فقال له غداً الجواب، وفي الغد أخبره أن الله تعالى قتل كسرى في ليلة13جمادى الأولى لسبع للهجرة، فدهش الوزير ورجع!

ومعناه أن الله تعالى تولى إزالة نظام كسرى، حيث دخل الفرس بقتله في صراع داخلي، أدى إلى تمزق الدولة، وانتهى بفتح المسلمين لكل فارس.

أما هرقل فكتب له النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة السادسة: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، و : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

مكاتيب الرسول للأحمدي: 2/290و397.

والأريسيون أهل الزراعة، مقابل البدو. «البكري: 1/21» فأجاب هرقل بدهائه على كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) بجواب ليِّن، جاء فيه: «إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى، من قيصر ملك الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم».اليعقوبي: 2/77.

أقول: هذه العبارة من إضافة الرواة، فلا علاقة لبقاء ملكهم بنسخة كتاب النبي (صلی الله علیه و آله)، فقد فقدت نسخته وبقي ملكهم، بل بقي ملكهم لأن الله تعالى سمح بذلك، لحكمٍ وأسباب يعلمها، ومنها لينهم ولوكان عن دهاء!

ص: 365

أما الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام فأجاب جواباً سيئاً فيه شبهٌ من جواب كسرى، فقد حجب رسول النبي (صلی الله علیه و آله) شجاع بن وهب مدة ثم أمر بإدخاله عليه وقد لبس تاجه، فدفع اليه الكتاب فقرأه ثم رمى به وقال: من ينزع مني ملكي! أنا سائر إليه ولوكان في باليمن جئته، عليَّ بالناس! فلم يزل جالساً يُعرض عليه حتى الليل، وأمر بالخيل أن تُنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى! وكتب الحارث إلى قيصر يخبره الخبر، فكتب إليه أن لا تسر إليه، واشتغل بايلياء أي هيئ الطريق لاستقبالي، لأن هرقل نذر أن يمشي من حمص إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى لنصره على فارس، ففرشوا له بسطاً ونثروا الرياحين، وهو يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس!

قال شجاع: فدعاني الحارث وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غداً، فأمر لي بمائة مثقال ذهباً و وصلني حاجبه بنفقة وكسوة، فقدمتُ على النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبرته بما كان من الحارث فقال: بادَ ملكه.السيرة الحلبية: 3/304.

أما فروة بن عمرو الجذامي حاكم الأردن من قبل هرقل، فأسلم بدون أن يرسل اليه النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً وكتب اليه: «لمحمد رسول الله، إني مقرٌّ بالإسلام مصدق به، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أنت الذي بشر بك عيسى بن مريم. والسلام».مكاتيب الرسول: 2/465.

فأجابه النبي (صلی الله علیه و آله): «من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو، أما بعد، فقد قدم علينا رسولك وبلغ ما أرسلت به وخبَّر عما قِبلكم وأتانا بإسلامك، وإن الله هداك بهداه. إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة». فلما سمع قيصر بذلك أمر الحارث بن أبي شمر فسجنه، فقال:

طرقتُ سليمي موهناً أصحابي *** والروم بين الباب والقروان

فلئن هلكت لتفقُدنَّ أخاكم *** ولئن بقيتُ لتعرفنَّ مكاني

ولقد جمعت أجلَّ ما جمع الفتى *** من جودة وشجاعة وبيان

ثم أحضره وقال له: إرجع من دين محمد ونحن نعيدك إلى ملكك. قال: لا أفارق

ص: 366

دين محمد، فإنك تعلم أن عيسى بشر به، ولكنك تظن بملكك!

فلما يئسوا منه وعلموا أنه لايرجع إلى النصرانية أجمعوا على قتله، فقتله وصلبه على ماء لهم يقال له عِفرَا بفلسطين، فقال:

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها *** على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها *** مشذبة أطرافها بالمناجل

فلما قدموه ليقتلوه قال:

بلغ سراة المسلمين بأنني *** سلمٌ لربي أعظمي وبناني

فضربوا عنقه ثم صلبوه (رحمة الله) ! مكاتيب الرسول: 2/467.

أقول: أمر هرقل حاكم الشام باللين بسبب دهائه، لأنه ساذج لايقدر قوة النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يعرف أن حربه تحتاج إلى خطة شبيهة بخطة القضاء على كسرى في السنة الماضية! وكانت خطة هرقل ضد النبي (صلی الله علیه و آله) تقوم على إنتخاب كتائب خاصة من جيش الروم، وإعداد جيش من بلاد الشام بزعامة الحارث، وجيش من القبائل بزعامة الأكيدر ملك دومة الجندل ورئيس قبائل كندة، ومساندة مجموعة أبي عامر الراهب أصحاب مسجد الضرار، ثم بمساندة مجموعات اليهود ومنافقي قريش..الخ.!

3- غزوة مؤتة رسالة من النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل

كانت غزوة مؤتة لإفهام هرقل أن ميزان القوة ليس كما يتخيل، وأنهم قادرون على تحدي الجيش الرومي المحترف عند أبواب القدس، على بعد أكثر من ألف كيلو متر عن المدينة! فقد كانت غزوة مؤتة عملية استشهادية لإثبات القوة النوعية للمسلمين، ليتراجع هرقل عن خطته، ولذا كانت تحتاج إلى قائد نوعي خبير بالروم هو جعفر بن أبي طالب (رحمة الله). وكان هرقل يعرف جعفر جيداً، فقد عمل في مقاومة الروم في الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا، وثبَّت عرش النجاشي ودولته! ونشط سنين مع علماء الروم وقساوستهم،

ص: 367

وجاء بوفود منهم من الحبشة ونجران والشام إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة فأسلموا، ثم أبقاه النبي (صلی الله علیه و آله) في الحبشة يتابع مهمته حتى أحضره، فوصل في أيام فتح خيبر.

وبعد عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من عمرة القضاء، حان الوقت لأن يرسل إلى هرقل الرسالة القوية، وهرقل جادٌّ في التحضير لغزو المدينة، فأرسل جعفراً (رحمة الله) إلى مؤتة.وكانت حمص أو الشام أو عمان أقرب وأولى بالمهاجمة بالنظرة الأولى فهي مهمة وفيها قوات رومية وعربية، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يقصد معسكر هرقل في مؤتة ولو كان أبعد، لأنه معسكر رومي صرف، وأقرب إلى بيت المقدس!

وذكر المسعودي في التنبيه والإشراف/230، أن سبب غزوة مؤتة كان قتل شرحبيل بن عمرو الغساني الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى صاحب بصرى، ولم يقتل للنبي رسول غيره. لكن لو كان الهدف الإقتصاص لقتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) من حاكم بصرى، لأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) بضعة أشخاص إلى بصرى الشام ليقتلوا حاكمها قصاصاً، ولم يحتج إلى إرسال ثلاثة آلاف إلى منطقة فيها معسكر لهرقل، أبعد من بصرى بكثير!

4- جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) قائد جيش مؤتة

ذكرت مصادر السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطى قيادة جيش مؤتة إلى زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبدالله بن رواحة. فجعلوا زيداً القائد الأول، مع أنهم يعترفون بأن بني عبدالمطلب لانظير لهم في الشجاعة وصفات القيادة، فكيف يؤمر النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم غيرهم، وقد أرسل حمزة وعلياً وجعفراً مراراً فكانوا هم الأمراء. لكن رواة السلطة يتنقصون من جعفر لبغضهم أخاه علياً (علیه السلام) !

كتب في الصحيح من السيرة: 19/309 ملخصاً: «إن الأمير الأول كان جعفر بن أبي طالب كما ذهب إليه الشيعة، قال ابن أبي الحديد: اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول، وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا: كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول، فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبدالله بن رواحة، ورووا في

ص: 368

ذلك روايات، وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم. ويدل على ذلك عدة أمور:

1 - من روايات أهل البیت (علیهم السلام) عن الصادق (علیه السلام) قال: إنه استعمل عليهم جعفراً، فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة، المناقب: 1/205 وإعلام الورى/110.

2- احتج الإمام الحسن (علیه السلام) على معاوية فقال: وقد بعث رسول الله جيشاً يوم مؤتة فقال: عليكم جعفر، فإن هلك فزيد، فإن هلك فعبدالله بن رواحة.

3 - روى ابن سعد: 2/129 عن أبي عامر، قال: بعثني النبي إلى الشام فلما رجعت مررت على أصحابي وهم يقاتلون المشركين بمؤتة. قلت: والله لا أبرح اليوم حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرهم.فأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب ولبس السلاح وكان رأس القوم ثم حمل جعفر، حتى إذا همَّ أن يخالط العدو رجع فوحَّش «خفف» بالسلاح، ثم حمل على العدو، فطاعن حتى قتل. ثم أخذ اللواء زيد بن حارثة، فطاعن حتى قتل. ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة، فطاعن حتى قتل. ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة».

5- وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لجيش مؤتة

في البحار: 21/60، عن الواقدي: «خرج النبي (صلی الله علیه و آله) مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع فوقف ووقفوا حوله فقال: أغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً، ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً، ولا تهدمن بناء.

وقال عبدالله بن رواحة لرسول الله (صلی الله علیه و آله): مرني بشئ أحفظه عنك، قال: إنك قادم غداً بلداً السجود فيه قليل فأكثروا السجود. فقال عبدالله: زدني يا رسول الله، قال: أذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب».

أقول: يدل ذلك على أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكن يقطع الأشجار، ويردُّ زعمهم أنه

ص: 369

قطع نخيل بني النضير، وأن أبابكر أول من أوصى الغزاة بهذه الوصايا!

كما يدل على أن للسجود لله تعالى تأثيراً على الأرض وما عليها، وأنه ينبغي لمن سافر إلى أرض لايسجد فيها لله تعالى أن يكثر من السجود والذكر.

6- واجهتهم سرية رومية في وادي القرى

روى ابن عساكر في تاريخه: 2/13عن الواقدي قال: «سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع، وقام فيهم رجل من الأزد يقال له شرحبيل بالناس وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون وادي القرى وأقاموا أياماً، وبعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين من المشركين، فالتقوا وانكشف أصحابه وقتل سدوس، وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو. فسار المسلمون حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل«مآب» من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألف، عليهم رجل من بلي يقال له مالك فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً! فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ولا بكثرة سلاح ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. إنطلقوا، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان ويوم أحد فرس واحدة، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعد نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان. فتشجع الناس على قول ابن رواحة».

أقول: تدل الرواية على أن سرية سدوس بن عمرو كانت من سرايا حراسة الروم للحدود الشامية. وكان أخوه شرحبيل القائد العام لجيش هرقل في بلاد الشام، وهو الذي قتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ملك بصرى الشام. لكن المسلمين لم يشتبكوا مع السرية ولم يثأروا لقتل ابن عمير رسول النبي (صلی الله علیه و آله)، لأن هدف الغزوة ومقصدها جيش الروم، وليس الجيش العربي، أو حراس الحدود!

راجع أيضاً: مكاتيب الرسول: 1/204، الطبقات: 2/128 والتنبيه والإشراف/230.

ص: 370

7- ثم فاجأهم الروم فانحازوا إلى مؤتة

تفاجأ المسلمون بأول كتائب الروم في قرية مشارف، فلم يشتبكوا معهم وانسحبوا إلى قرية مؤتة، فلحقت بهم قوات الروم وكانت المعركة.

قال ابن هشام: 3/832: «حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك..والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارداً شرابها

والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إذ لاقيتها ضرابها

وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء».

وقد وصف أبو هريرة خوف المسلمين من جيش الروم بقوله: «شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري فقال لي ثابت بن أرقم: ما لك يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعاً كثيرة! قلت: نعم»! تاريخ دمشق: 2/13.

أي خافوا من الروم فانهزموا، وثبت القادة الثلاثة وقليل معهم.

8- سبب تحريف السلطة معركة مؤتة

تعمد رواة السلطة تحريف معركة مؤتة ليخفوا دور جعفر بن أبي طالب في قيادتها، وليغطوا هزيمة المسلمين فيها، خاصة هزيمة خالد بن الوليد!

ص: 371

لذلك عندما تقرأ نصوصها يغيب عنك دور جعفر عندما تحير المسلمون في وادي القرى أو في معان هل يواصلون السير أم يكتبون إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليمدهم برجال أو يأمرهم بالرجوع؟ وأين كان عبدالله بن رواحة حتى وصل اليهم في معان متأخراً، وشجعهم على السير؟ولماذا انسحبوا عندما واجهوا الروم في قرية مشارف قبل مؤتة؟ وكيف برز القادة الثلاثة وحدهم ولم يبرز أحد من المسلمين؟ ولم يستشهد من المسلمين إلا خمسة أو ثمانية؟ وهم كما رواه ابن هشام: 3/840: مسعود بن الأسود، ووهب بن سعد، وعباد بن قيس، والحارث بن النعمان، وسراقة بن عمرو بن عطية، ويقال استشهد آخرون!

وهل برز هؤلاء أم قتلوا في حملة؟وأين كان خالد فلم يبرز ولم يأخذ الراية بعد شهادة القادة الثلاثة، بل أخذها شخص ثم أخذها ثابت بن أقرم، ثم أخذها منه خالد؟ومتى كانت معركة السبعة أيام المزعومة، وما هي أخبارها؟

وأين الروايات عن قتال خالد والثلاثة آلاف مقاتل، حتى كسر خالد تسعة سيوف كما زعم! وكيف حول الهزيمة إلى نصر فسماه النبي (صلی الله علیه و آله) سيف الله!

ولماذا لا نجد وصفاً لقتال خالد ولاغيره، مع أي رومي قائد أو جندي، اللهم إلا قتل رجل يمني مددي لجندي رومي غيلةً والمسلمون منسحبون، فغنم منه شيئاً، فناصفه فيه خالد!

وزعموا أن المسلمين انتصروا بقيادة خالد فأين الغنائم، ولماذا لم يأخذوا حصن الكرك قرب مؤتة، وهو مركز قيادة مهم للروم؟

وإذا كانوا انتصروا، فلماذا استقبلهم أهل المدينة يحثون في وجوههم التراب ويصيحون عليهم يا فرارين! حتى استتر المعروفون منهم في بيوتهم فلم يخرجوا مدة خوفاً من توبيخ المسلمين! حتى رفع عنهم النبي (صلی الله علیه و آله) غضب المسلمين وقال إنهم كرارون إن شاء الله، فتجرؤوا على الخروج!

فالصورة الصحيحة لمعركة مؤتة: أنها كان فيها هزيمة، لكنها مع ذلك كانت رسالة قوية إلى هرقل وهو يحضر لغزو النبي (صلی الله علیه و آله) ويستعد للسفر ماشياً إلى بيت المقدس،

ص: 372

فكانت منطقة الشام والأردن وفلسطين في حالة استنفار.

كان جيش المسلمين إلى مؤتة خليطاً من مسلمين قدامى وجدد، ومنهم خالد الذي أسلم قبل شهرين، لكن قادته الثلاثة الذين عينهم النبي (صلی الله علیه و آله) كانوا شجعاناً وقد أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يري هرقل هذه النماذج المميزة، فأراه إياها!

أما الباقون فلم يكونوا بمستواهم ولذلك ترددوا عندما وصلوا إلى أم القرى على بعد380 كلم من المدينة، أي أقل من نصف الطريق إلى مركز جيش هرقل في الكرك! وطلبوا من قائدهم أن يراسل النبي (صلی الله علیه و آله) ليأمرهم بالرجوع إلى المدينة أو يمدهم بجيش آخر، لأنه لاطاقة لهم بجيش هرقل! فشجعهم جعفر وزيد وابن رواحة، فواصلوا السير إلى معان واستراحوا فيها يومين ليعرفوا الجو، فسمعوا بأخبار جيش الروم، وأعادوا الكلام مع قائدهم ليراسل النبي فشجعهم على السير فساروا، حتى تفاجؤوا بمهاجمة الروم لهم قرب مؤتة، فانحازوا إلى مؤتة القريبة فتبعهم الروم، فثبت القادة الثلاثة وقاتلوا قتال الأبطال حتى الشهادة، وفتكوا بجيش الروم فتكاً لم يعرفوه من قبل، وإن لم يذكر التاريخ عدد قتلاهم من الروم.

وقتل من المسلمين خمسة كانوا حول القادة، أو لحق بهم الروم وقتلوهم، وفر الباقون بقيادة خالد حتى قال أحدهم إنه لم يَرَ في عمره أسوأ من تلك الهزيمة!

كما بالغ الرواة في عدد جيش الروم الذي واجه المسلمين فجعلوه مئة ألف من الروم ومئة ألف من عرب الشام، مع أن جيشه الذي غزا به عاصمة الفرس قبل سنة،

كان سبعين ألفاً!

9- القتال سبعة أيام في مؤتة كذبة من أجل خالد!

تؤكد مصادر الحديث الصحيح عند الدولة على كذبة مفضوحة بأن المعركة استمرت سبعة أيام، مع أنها كانت يوماً واحداً، وكان أبطالها بضعة عشر نفراً هم جعفر (علیه السلام) وزملاؤه القادة ونخبة معهم! وبعد استشهادهم انهزم المسلمون فأخذ الراية قطبة بن عامر وحاول أن يواصل المعركة فلم يطيعوه، وأطاعوا

ص: 373

خالد بن الوليد الذي انهزم بهم! «وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة، وأتبعهم المشركون فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً فما يثوب إليه أحد». الإمتاع: 1/340.

«قال أبو عامر: أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى لم أر اثنين جميعاً»!سبل الهدى: 6/150.

ومع ذلك رووا بعين يابسة، سبل الهدى: 6/150: «عن برذع بن زيد قال: اقتتل المسلمون مع المشركين سبعة أيام. وروى الحاكم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وأبو عامر والزهري، وعروة، وابن عقبة، وعطاف بن خالد، وابن عائذ وغيرهم، وهو ظاهر قوله (صلی الله علیه و آله) في حديث أنس: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه»!«وفي حديث أبي قتادة مرفوعاً: ثم أخذ خالد بن الوليد اللواء ولم يكن من الأمراء، هو أمَّرَ نفسه، ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إصبعه ثم قال: اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره. فمن يومئذ سمي خالد بن الوليد سيف الله! رواه الإمام أحمد برجال ثقات. ويشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والبرقاني»!

كذبٌ ما بعده كذب! جعلوا بطولات خالد فيها على لسان النبي (صلی الله علیه و آله)، وكانت كل غنائمها غنيمة اليمني المددي من جندي رومي قتله غيلةً، وقد أخذ خالد نصف سلبه، لأنه استكثره على المددي!

إن أصل كذبة القتال من خالد! فقد قال كما رواه بخاري: 5/87: «لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية»!

10- وصفَ النبي (صلی الله علیه و آله) المعركة للمسلمين وصفاً حياً

كشف الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) مؤتة وهو في المدينة فوصفها لأصحابه وصفاً حياً:

روى في الخرائج: 1/166: «قال جابر: فلما كان اليوم الذي وقعت فيه حربهم صلى النبي (صلی الله علیه و آله) بنا الغداة، ثم صعد المنبر فقال: قد التقى إخوانكم مع المشركين للمحاربة، فأقبل يحدثنا بكرات بعضهم على بعض، إلى أن قال: أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها. ثم قال: قد قطعت يده، وقد أخذ الراية بيده الأخرى، ثم قال: وقطعت

ص: 374

يده الأخرى وقد احتضن الراية في صدره.ثم قال: قتل جعفر وسقطت الراية، ثم أخذها عبدالله بن رواحة، وقد قتل من المشركين كذا، وقتل من المسلمين فلانٌ وفلانٌ، إلى أن ذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم. ثم قال: قتل عبدالله بن رواحة، وأخذ الراية خالد بن الوليد وانصرف المسلمون.

ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر، فدعا عبدالله بن جعفر فأقعده في حجره وجعل يمسح على رأسه. فقالت والدته أسماء بنت عميس: يا رسول الله إنك لتمسح على رأسه كأنه يتيم. قال: قد استشهد جعفر في هذا اليوم! ودمعت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: قطعت يداه قبل أن يستشهد، وقد أبدله الله من يديه جناحين من زمرد أخضر، فهو الآن يطير بهما في الجنة مع الملائكة كيف يشاء». ونحوه في الثاقب في المناقب/101، وفيه: «ثم ورد عليه ابن مُنْيَة فقال (صلی الله علیه و آله): إن شئت أخبرتك وإن شئت أخبرني. فقال: بل أخبرني يا رسول الله فأخبره خبره كله قال: وإنك والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً لم تذكره. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم».

وفي الكافي: 8/376، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسجد إذ خفض له كل رفيع ورفع له كل خفيض، حتى نظر إلى جعفر يقاتل الكفار قال: فقتل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قتل جعفر! وأخذه المغص في بطنه».

فلم يمدح النبي (صلی الله علیه و آله) إلا جعفراً وزيداً وابن رواحة، لكنهم زادوا ذكر خالد! وسرقوا له من علي (علیه السلام) لقب سيف الله! والحقيقة أنه انهزم بالمسلمين!

وروى الواقدي: 2/763 وابن عساكر: 49/337: «لما أخذ خالد اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة، وقتل المسلمون واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً، يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، ويتبعون صاحب الراية منهزماً».

ص: 375

11- توبيخ المسلمين لخالد وجيش مؤتة

وصف الواقدي: 2/760 وغيره، رجوع جيش مؤتة إلى المدينة، وفيه قول أبي هريرة:«شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري!

عن عاصم بن عمر قال: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً ووجد به طعنةٌ قد أنفذته. لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط في كل وجهٍ. ثم إن المسلمين تراجعوا. فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس! فاجتمعوا إليه، قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه أنت أحق به. أنت رجلٌ لك سنٌّ وقد شهدت بدراً. ولما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد هي الهزيمة! ويتبعون صاحب الراية منهزماً»!

سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار وتشاءم الناس به. لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك! وكان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام آشتكى شيئاً قالت امرأته: لا والله ولكنه لا يستطيع الخروج إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار أفررتم في سبيل الله، حتى قعد في البيت، فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بل هم الكرار في سبيل الله فليخرج! فخرج.

عن أبي هريرة قال: كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس لقد كان بيني وبين ابن عمٍّ لي كلام فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقول له.

«لقيهم الصبيان يشتدون.وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فُرَّار،

ص: 376

فررتم في سبيل الله! وقال عبدالله بن عمر: فحاص الناس وكنت فيمن حاص.فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة قُتلنا، فقدمنا المدينة في نفر ليلاً فاختفينا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فاعتذرنا إليه، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من القوم؟قلنا: نحن الفَرارون. قال: بل أنتم الكرارون وأنا فئتكم. فقبلنا يده».

وقد أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرفع معنوياتهم لأن المهم وصول رسالته إلى هرقل بالمقاتلين النوعيين جعفر ورفقائه.

«عن الزهري: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أخبر الناس بقتل القادة الثلاثة بكى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهم حوله فقال لهم: وما يبكيكم؟فقالوا: وما لنا لا نبكي، وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا؟! فقال لهم (صلی الله علیه و آله): لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكبها وبنى مساكنها وحلق سعفها، فأطعمت عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً. فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً، وأقومها شمراخاً! والذي بعثني بالحق نبياً، ليجدن عيسى بن مريم في أمتي خلفاً من حواريیه».أمالي الطوسي/88.

12- رغم الهزيمة وصلت رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل!

فهمَ هرقل غزوة مؤتة على أنها غارة نوعية من النبي (صلی الله علیه و آله)، ومع أن المسلمين انهزموا ولم يثبت إلا قادتهم، لكنه أخذ بحسابه نوعيات المقاتلين المسلمين وهو يواصل الإعداد لحملته على المدينة. وبينما كان هرقل يواصل إعداده للحملة، فتح الله تعالى على نبيه (صلی الله علیه و آله) مكة، ومات الحارث بن أبي شمر الذي هو ركن في حملة هرقل، ولم يجدوا شخصاً بكفاءته يحكم الشام، فنصب هرقل الأيهم شيخ غسان ملكاً وكان كبير السن، ثم ملك ابنه جبلة، «اليعقوبي: 1/207»ولم يكن لهما شجاعة الحارث ولا رغبته في غزو المدينة، لذلك ركز هرقل على الأكيدر ملك دومة الجندل وشيخ قبائل كندة، وواصل العمل.

وكانت دعاية هرقل قوية في المدينة، فعندما تحدث عمر بن الخطاب عن

ص: 377

غضب النبي (صلی الله علیه و آله) على نسائه واعتزاله لهن، قال إن ذلك كان أيام توقع وصول حملة الروم على المدينة! قال عمر كما في البخاري: 3/104: «وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه وقال: حدث أمر عظيم! قلت: ما هو أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) نساءه! قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون»!

وغزو غسان للمدينة أي غزو هرقل، وأشاعوا أنه أعد مئة ألف من مقاتلي عرب الشام ومن أطاع الأكيدر من كندة، مقدمة للجيش الرومي المحترف بقيادة هرقل، كما فعل في غزو فارس.

وقال الإمام الكاظم (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكانت تلك النواحي مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن يقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم! وكان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفين وجلين من قِبَله حتى كانوا يتناوبون على رسول الله كل يوم عشرون منهم، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله!

وأكثرَ المنافقون الأراجيف والأكاذيب وجعلوا يتخللون أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) ويقولون: إن أكيدر قد أعد لكم من الرجال كذا ومن الكراع كذا ومن المال كذا، وقد نادى فيما يليه من ولايته: ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة! ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم: وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ويسبي ذراريها! حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين فشكوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما هم عليه من الجزع.

ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبي عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) الفاسق وجعلوه أميراً عليهم وبخعوا له بالطاعة». تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /481.

وستأتي غزوة تبوك التي قادها النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه في السنة التالية، ومراسلته لهرقل!

ص: 378

13- من مناقب جعفربن أبي طالب (علیه السلام)

1. يدلنا على مقام جعفر بن أبي طالب سلام الله عليه: جناحاه اللذان خصه الله بهما دون أهل الجنة. واحترام النبي (صلی الله علیه و آله) له وشهاداته بحقه. ونشأته الملائكية التي أوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) أنه يشكرها له!

ففي علل الشرائع: 2/558 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أوحى الله تعالى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك: ما شربت خمراً قط لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي.وماكذبت قط لأن الكذب ينقص المروءة. وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي. وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لايضر ولاينفع! قال: فضرب النبي (صلی الله علیه و آله) على عاتقه وقال: حقَّ لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة»!

2. وفي الكافي: 1/49 عن الإمام الباقر (علیه السلام): «لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف، وكان أول من عرقب في الإسلام».

3. في المناقب: 1/176: «سنة ثمان في جمادى الأولى وقعة مؤتة وهم ثلاثة آلاف.

في كتاب أبان قال الصادق (صلی الله علیه و آله): إنه استعمل عليهم جعفراً فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة، ثم خرجوا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة الف من الروم ومائة ألف من المستعربة، فانحازوا إلى أرض يقال لها المشارف، ونسبت السيوف المشرفية إليها لأنها طبعت لسليمان بن داود (علیهما السلام)، فاختلفوا في القتال أو في إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) بكثرتهم فقال ابن رواحة: ما نقاتل الناس بكثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين! فلقوا جموعهم بقرى البلقاء، ثم انحازوا إلى مؤتة.

وفي البخاري: نعى النبي جعفراً وزيداً وابن رواحة قبل أن يجئ خبرهم وعيناه تذرفان. زيد بن أرقم: حارب جعفر على أشقره حتى عقر، وهو أول من عقر

ص: 379

فرسه في الإسلام، فحارب راجلاً حتى قتل.

فضيل بن يسار عن الباقر (علیه السلام) قال: أصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة، خمس وعشرون منها في وجهه».

في المنمق لابن حبيب/417: «لما قدم جعفر بن أبي طالب على النجاشي أعطاه سيفاً يقال له الغمام فقاتل به يوم مؤتة وهو يقول:

قد علمت فهر وفهر حاكمه *** أنيَ منها في الذرى والغلصمه

كم قط من شاكلة وجمجمه».

وفي التنبيه والإشراف/230، أن هرقل: «يومئذ مقيم بأنطاكية وعلى الروم تيادوقس البطريق، وعلى متنصرة العرب من غسان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب بعد أن عرقب فرسه، وهو أول فرس عرقبت في الإسلام، وجرح نيفاً وتسعين جراحة كلها في مقادمه وقتل عبدالله بن رواحة، ورجع خالد بن الوليد بالناس».

4. وفي الكافي: 1/450، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة، لم يُنْحَل أحد من هذه الأمة جناحان غيره شئ كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله) وشرفه.والسبطان الحسن والحسين والمهدي يجعله الله من شاء منا أهل البیت، ثم تلا هذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيما».

وفي أمالي الطوسي/723، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رقدت بالأبطح على ساعدي، وعلي عن يميني، وجعفر عن يساري، وحمزة عند رجليَّ، قال: فنزل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ففزعت لخفق أجنحتهم. قال: فرفعت رأسي فإذا إسرافيل يقول لجبرئيل: إلى أي الأربعة بعثت وبعثنا معك؟ قال: فركض برجله فقال: إلى هذا وهو محمد سيد النبيين، ثم قال: من هذا الآخر؟ قال: هذا أخوه ووصيه وابن عمه وهو سيد الوصيين. ثم قال: فمن الآخر؟ قال: جعفر بن أبي طالب، له جناحان

ص: 380

خضيبان يطير بهما في الجنة. قال: ثم قال: فمن الآخر؟ قال: عمه حمزة، وهو سيد الشهداء يوم القيامة».

5. وفي المحاسن: 2/420، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «سألت أبي (علیه السلام) عن المأتم فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر فقال: أين بنيَّ؟فدعت بهم وهم ثلاثة: عبدالله وعون ومحمد، فمسح رسول الله رؤوسهم فقالت: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام؟ فتعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عقلها فقال: يا أسماء ألم تعلمي أن جعفراً استشهد فبكت، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا تبكي فإن جبرئيل (علیه السلام) أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر، فقالت: يا رسول الله لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر، لا ينسى فضله. فعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عقلها، ثم قال (صلی الله علیه و آله): إبعثوا إلى أهل جعفر طعاماً، فجرت السنة».

وفي الفقيه: 1/177، أنه (صلی الله علیه و آله) قال في جعفر وزيد: «كثر بكاؤه عليهما جداً وقال: كانا يحدثاني ويؤانساني فذهبا جميعاً».

6. قال السيد شرف الدين (رحمة الله) في النص والإجتهاد/279، ملخصاً: «حزن الإنسان عند موت أحبته وبكاؤه عليهم من لوازم العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة، ما لم يصحبهما شئ من منكرات الأقوال أو الأفعال. وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث عنه صحيح: مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان! والسيرة القطعية بين المسلمين وغيرهم مستمرة على ذلك من غير نكير وأصالة الإباحة تقتضيه.

على أن النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه بكى في مقامات عديدة وأقر غيره على البكاء في موارد واستحسنه في موارد أخر، وربما دعا إليه: بكى على عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله.. لما رأى حمزة قتيلاً بكى.كان يومئذ إذا بكت صفية يبكي وإذا نشجت ينشج! وجعلت فاطمة تبكي فلما بكت بكى رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولما رجع من أحُد

ص: 381

جعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ولكن حمزة لا بواكي له! قال: ثم نام فانتبه وهن يبكين، قال فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة. وبكى على جعفر وزيد وقال: أخواي ومؤنساي ومحدثاي. ولما جاءه نعي جعفر، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: واعماه! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): على مثل جعفر فلتبكِ البواكي».

7.قال البلاذري في أنساب الأشراف: 2/42: «أتى النبي (صلی الله علیه و آله) مع أخيه علي (علیه السلام) وقد كان يسمع علياً يذم عبادة الأوثان فوقع في نفسه ذمها، فلما دعاه رسول الله قبل دعاءه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن المبعث حق. وهاجر إلى الحبشة ومعه امرأته أسماء ابنة عميس الخثعمية، وهي أخت أم الفضل لبابة بنت الحرث بن حزن الهلالية، لأمها هند بنت عوف الحميرية، فلم يزل مقيماً بالحبشة في جماعة تخلفوا معه من المسلمين.ثم قدم على رسول الله في سنة سبع من الهجرة بعد فتح خيبر فاعتنقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: لست أدري أي الأمرين أسرّ إلي أفتح خيبر أم قدوم جعفر. وقدم معه المدينة ثم وجهه في جيش إلى مؤتة من بلاد الشام فاستشهد وقطعت يداه في الحرب فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة، فسمي ذا الجناحين وسمي الطيار في الجنة. ودخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أتاه نعي جعفر على أسماء بنت عميس فعزاها به، ودخلت فاطمة (علیها السلام) تبكي وهي تقول: وا عماه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): على مثل جعفر فلتبك البواكي ثم انصرف إلى أهله وقال: إتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم، وضم عبدالله بن جعفر إليه ومسح رأسه وعيناه تدمعان وقال: اللهم أخلف جعفراً في ذريته بأحسن ما خلفت به أحداً من عبادك الصالحين. واستشهد جعفر، وهو ابن نحو من أربعين سنة، وذلك في سنة ثمان من الهجرة. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أشبهني جعفر في خلقي وخلقي». وفي رواية ابن هشام:3/832: ثلاثاً وثلاثين سنة.

8. وتدلنا قصائد شاعري النبي (صلی الله علیه و آله) حسان بن ثابت وكعب بن مالك، على أن جعفراً، كان قائد مؤتة وبطلها، وأن الحكومات انتقصته بغضاً بأخيه (علیهما السلام) !وهذا مختار

ص: 382

من شعرحسان من رواية ابن هشام:3/837.

ولقد بكيت وعز مهلك جعفرٍ *** حِبُّ النبي على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي *** من للجلاد لدى العقاب وظلها

بالبيض حين تسل من أغمادها *** ضرباً وإنهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر *** خير البرية كلها وأجلها

رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً *** وأعزها متظلماً وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل *** كذباً وأنداها يداً وأقلها

فحشا وأكثرها إذا ما يجتدي *** فضلاً وأبذلها ندى وأبلها

بالعرف، غير محمد لا مثله *** حي من احياء البرية كلها

وقال حسان:

تأوبني ليل بيثرب أعسرُ *** وَهَمٌّ إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة *** سفوحاً وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بلية *** وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا *** شعوباً وخلفاً بعدهم يتأخر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبدالله حين تتابعوا *** جميعاً وأسباب المنية تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم *** إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغر كضوء البدر من آل هاشم *** أبيٌّ إذا سيم الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غير موسد *** لمعترك فيه قنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه *** جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى في جعفر من محمد *** وفاء وأمراً حازماً حين يأمر

فما زال في الاسلام من آل هاشم *** دعائم عز لا يزلن ومفخر

ص: 383

هم جبل الإسلام والناس حولهم *** رضامٌ إلى طود يروق ويقهر

بها ليل منهم جعفر وابن أمه *** عليٌّ ومنهم أحمد المتخير

همو أولياء الله أنزل حكمه *** عليهم وفيهم ذو الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك:

وكأنما بين الجوانح والحشى *** مما تأوبني شهاب مدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا *** يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الاله عليهم من فتية *** وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم *** حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم *** فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدام أولهم فنعم الأول

حتى تفرجت الصفوف وجعفر *** حيث التقى وعث الصفوف مجدل

فتغير القمر المنير لفقده *** والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرم علا بنيانه من هاشم *** فرعاً أشم وسؤدداً ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده *** وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرماً *** وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهم *** ويرى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم *** تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

وبهديهم رَضِيَ الإله لخلقه *** وبجدهم نصر النبي المرسل

14- حول جناحي جعفر الطيار (علیه السلام)

1. أجمع المسلمون على قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن الله تعالى أعطى جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) جناحين يطير بهما في الجنة.وروي أن ذلك ثواب قطع يديه في سبيل الله، «الخصال/68 وفيض القدير: 4/12». وروي أنه تكريمٌ من الله لرسوله (صلی الله علیه و آله) «الوافي: 3/713»، ولا منافاة بينهما.

ص: 384

2. يصعب علينا فهم فائدة الجناحين في الجنة، وقد ورد أنه يطير بهما في الجنة حيث يشاء، ويطير بهما مع الملائكة. لكن يظهر من بعض أحاديثه أنه بذلك صار بإمكانه تحويل طبيعته البشرية إلى طبيعة ملائكية، وأنه يسمح له بالنزول مع الملائكة إلى الأرض. وهو أمر عجيب.

في سمط النجوم: 2/245: قال (صلی الله علیه و آله): «رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة.. وفي رواية وصححها، قال: مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة».

وفي عمدة القاري: 17/270: قال (صلی الله علیه و آله): «رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة»

وفي مجمع الزوائد: 9/271 من رواية الطبراني وحسنه: «بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه، قال: يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل صلى الله عليهما مروا فسلموا علينا فرددت عليهم السلام وأخبرني أنه لَقِيَ المشركين يوم كذا وكذا فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثاً وسبعين طعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذته باليسار فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة، أنزل بهما حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت! فقالت أسماء: هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكني أخاف أن لا يصدقني الناس فاصعد المنبر فأخبر الناس يا رسول الله.

فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه يطير بهما في الجنة حيث شاء، فسلم عليَّ فأخبر كيف كان أمرهم حين لَقِيَ المشركين».

3. وروى الترمذي والحاكم وغيرهما أن جناحي جعفر مخضبان بدمه، وفي رواية الخرائج: جناحين من زمرد أخضر، وفي رواية عقد الدرر: جناحان أخضران، وفي رواية البيهقي في الدلائل وابن مندة أنهما من ياقوت. وفي رواية ربيع الأبرار: جناحين أبيضين قادمتاهما مضرجان بالدم مكللتان باللؤلؤ والجوهر، وفي رواية كنز العمال موشيان بالجوهر.

ص: 385

فإن أمكن الجمع بين هذ ه الروايات، فبه، وإلا فالمرجح رواية المحاسن الصحيحة السند: 2/419: «وجعل له جناحين من ياقوت».

4. ورد أن جناحين جعفر (علیه السلام) في الجنة كرامة خاصة بجعفر (علیه السلام):«لم يُنحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره، شئ كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله) وشرفه» «الكافي: 1/450». لكن روينا أن الله تعالى أعطى العباس بن علي (علیه السلام) جناحين يطير بهما في الجنة لنصرته الحسين (علیه السلام) ولأن يداه قطعتا مثل عمه جعفر (علیهما السلام).

ففي الصحيح في الأمالي، الصدوق/547:«نظر سيد العابدين علي بن الحسين إلى عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب: فاستعبر، ثم قال: ما من يوم أشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب.

ثم قال (علیه السلام): ولا يوم كيوم الحسين (علیه السلام) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنهم من هذه الأمة، كل يتقرب إلى الله عزوجل بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً. ثم قال (علیه السلام): رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عزوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة».

ولا منافاة بين الروايتين، لأن الله لم ينحل أحداً من الأمة من قبل جعفر (علیه السلام)، ثم نحل بعده العباس (علیهما السلام)، وذلك كقوله تعالى عن يحيى (علیه السلام): إسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًاً، أي لم نجعل قبله، وجعلنا من بعده الحسين (علیه السلام) وكان مثله في الحيوية وفي الشهادة الفجيعة، وفي إهداء رأسه على طبق من ذهب إلى عدوه! والمعنى هنا: لم ينحل أحد قبل جعفر جناحين، ونُحل بعده العباس (علیهما السلام).

5. روى الصدوق، الأمالي/629:«ومن صام من رجب عشرة أيام جعل الله عزوجل له جناحين أخضرين منظومين بالدر والياقوت، يطير بهما على الصراط كالبرق

ص: 386

الخاطف إلى الجنان». وهذان جناحان لطيرانٍ خاص عن الصراط فقط.

لكن غير المعقول منامات غلاة الحنابلة كخزيمة الإسكندراني، قال:«نمت فرأيت أحمد بن حنبل عليه أثواب خضر، وعلى رأسه تاج من ذهب، وفي رجليه نعلان وهو يمشي مشية يختال فيها. فإذا سفيان الثوري له جناحان أخضران، وهو يطير بهما من نخلة إلى نخلة».تاريخ دمشق: 5/335

15- حنين الجذع الذي كان يتكئ عليه النبي (صلی الله علیه و آله) ويخطب

في الكافي لأبي الصلاح الحلبي/76: «وأما دلالة المعجزات الخارجة عن القرآن على نبوته (صلی الله علیه و آله) فهي انشقاق القمر، ورجوع الشمس، ونبوع الماء من أصابعه، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى...فطريق العلم بها المشاهدة لمن حضره، والنقل المتواتر لمن نأى عن داره، وتأخر وجوده عن وجوده».

ونحوه الإقتصاد للشيخ الطوسي/181، وفيه: «وليس يمكن أن يقال: هذه الأخبار آحاد لايُعَوَّل على مثلها، لأن المسلمين تواتروها وأجمعوا على صحتها... وحنين الجذع لا يمكن أن يدعى أنه كان لتجويف فيه دخله الريح، لأن مثل ذلك لا يخفى، وكان لا يستكن بمجئ النبي إليه ويحن إذا فارقه».

وفي النكت الإعتقادية للمفيد/36: «أما ظهور المعجز على يده (صلی الله علیه و آله) فأكثر من أن يحصى حتى ضبط المسلمون له ألف معجزة من جملتها: القرآن، وانشقاق القمر وحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه..».

وفي المسلك في أصول الدين للمحقق الحلي/304: «ومن معجزاته (صلی الله علیه و آله) ما اشتهر نقله واستفاض مثل حنين الجذع، وانشقاق القمر، وكلام الذراع، وإنباع الماء من أنامله، وإطعام الخلق الكثير من الزاد القليل، وغير ذلك من المعجزات، التي يقوم من مجموعها الجزم بظهور المعجز».

وفي إعلام الورى: 1/76: «كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس فلما كثر الناس اتخذوا له منبراً، فلما صعده حن الجذع حنين الناقة فقدت

ص: 387

ولدها، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضمه إليه فكان يئن أنين الصبي الذي يُسَكَّت».

وفي مستدرك سفينة البحار: 2/42: «حنين الجذع لفراق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفيه قوله (صلی الله علیه و آله): أسكن، أسكن، إن تشأ غرستك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت رطباً، فاختار الآخرة على الدنيا. وذكر أن بني أمية قلعوه حين جددوا بناء المسجد، فأخذه أبي بن كعب وكان عنده حتى بَلِيَ فأكلته الأرضة وعاد رفاتاً».

وفي بحار الأنوار: 17/326: «فلما استوى عليه حنَّ ذلك الجذع حنين الثكلى، فارتفع بكاء الناس وحنينهم وأنينهم، وارتفع حنين الجذع وأنينه في حنين الناس وأنينهم ارتفاعاً بيناً، فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع فاحتضنه ومسح عليه يده وقال: أُسكن فما تجاوزك رسول الله تهاوناً بك ولا استخفافاً بحرمتك».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /188، حديث مفصل عن حنين الجذع والمؤمنين للنبي وأهل بيته الطاهرين (صلی الله علیه و آله)، وقسوة قلوب الظالمين.وقد روت أصله مصادر غيرنا وذكرت أن ذلك كان في السنة الثامنة مثل: أسد الغابة:1/23، الإمتاع:5/51، الشفا: 1/303، صحيح ابن حبان: 14/436 وكنز العمال: 11/371.

ص: 388

الفصل الحادي والستون: غزوة ذات السلاسل التي حذفوها من السيرة!

1- غزوة ذات السلاسل برواية أهل البیت (علیهم السلام)

ذات السلاسل: إسم لمنطقة في الحجاز على بعد خمس مراحل من المدينة من جهة مكة ويعرف المكان باسم وادي الرمل، وباسم السلسلة، وقيل سميت الغزوة بذات السلاسل، لأنهم جاؤوا بالأسرى مربوطين ببعضهم كسلسلة.

وسببها أن الله أخبر نبيه (صلی الله علیه و آله) أن جمعاً من قبائل سليم يستعدون لغزو المدينة، فأرسل سرية من بضع مئات بقيادة أبي بكر، فرجع منهزماً، ثم أرسل عمر فرجع منهزماً، ثم أرسل عمرو بن العاص فرجع منهزماً. فأرسل علياً (علیه السلام) ومعه أبو بكر وعمر وخالد وابن العاص فسلك طريقاً ضلل جواسيس سليم، وأغار صباحاً مبكراً على مركز تجمعهم فنزلت سورة: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. وهزمهم وأسر منهم وجاء بهم مقرنين في الحبال كأنهم سلسلة.

ففي أمالي الطوسي/407: «عن الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ؟ قال: وجَّه رسول الله عمر بن الخطاب في سرية فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فلما انتهى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قال لعلي: أنت صاحب القوم فتهيأ أنت ومن تريده من فرسان المهاجرين والأنصار. فوجهه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: أكمن النهار، وسِر الليل ولا تفارقك العين. قال فانتهى علي إلى ما أمره به رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسار إليهم فلما كان عند وجه الصبح أغار عليهم فأنزل الله على نبيه: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.. إلى آخرها».

ص: 389

وفي الإرشاد: 1/162: «ثم كانت غزاة السلسلة وذلك أن أعرابياً جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فجثا بين يديه وقال له جئتك لأنصح لك، قال: وما نصيحتك؟ قال: قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة..».

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/328: «أبو القاسم بن شبل الوكيل، وأبو الفتح الحفار بإسنادهما عن الصادق (علیه السلام)، ومقاتل والزجاج ووكيع والثوري والسدي وأبو صالح وابن عباس: أنه أنفذ النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر في سبع مائة رجل، فلما صار إلى الوادي وأراد الإنحدار فخرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً، فلما قدموا على النبي (صلی الله علیه و آله) بعث عمر فرجع منهزماً، فقال عمرو بن العاص: إبعثني يا رسول الله فإن الحرب خدعة ولعلي أخدعهم. فبعثه فرجع منهزماً، وفي رواية أنه أنفذ خالداً فعاد كذلك، فساء النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك، فدعا علياً (علیه السلام) وقال: أرسلته كراراً غير فرار، فشيعه إلى مسجد الأحزاب، فسار بالقوم متنكباً عن الطريق يسير بالليل ويكمن بالنهار، ثم أخذ على محجة غامضة فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه، ثم أمرهم أن يعكموا الخيل وأوقفهم في مكان وقال لاتبرحوا، وانتبذ أمامهم وأقام ناحية منهم، فقال خالد وفي رواية قال عمر: أنزلنا هذا الغلام في واد كثير الحيَّات والهوام والسباع، إما سبع يأكلنا أو يأكل دوابنا، وإما حية تعقرنا وتعقر دوابنا، وإما يعلم بنا عدونا فيأتينا ويقتلنا! فكلموه نعلو الوادي، فكلمه أبو بكر فلم يجبه، فكلمه عمر فلم يجبه، فقال عمرو بن العاص: إنه لاينبغي أن نضيع أنفسنا! إنطلقوا بنا نعلو الوادي فأبى ذلك المسلمون! وفي رواية أبت الأرض أن تحملهم، أي لم يستطيعوا المشي!قالوا فلما أحس (علیه السلام) الفجر قال: إركبوا بارك الله فيكم، وطلع الجبل حتى إذا انحدر على القوم وأشرف عليهم قال لهم: أتركوا عكمة دوابكم! قال فشمت الخيل ريح الإناث فصهلت، فسمع القوم صهيل خيلهم فولوا هاربين.

وفي رواية مقاتل والزجاج أنه كبس القوم وهم غادون فقال: يا هؤلاء أنا رسول رسول الله إليكم أن تقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإلا ضربتكم بالسيف. فقالوا: إنصرف عنا كما انصرف الثلاثة فإنك لا تقاومنا! فقال (علیه السلام): إنني لا أنصرف

ص: 390

أنا علي بن أبي طالب، فاضطربوا وخرج إليه الأشداء السبعة وناصحوه وطلبوا الصلح فقال (علیه السلام): إما الإسلام وإما المقاومة فبرز إليه واحد بعد واحد، وكان أشدهم آخرهم وهو سعد بن مالك العجلي وهو صاحب الحصن فقتلهم، فانهزموا ودخل بعضهم في الحصن، وبعضهم استأمنوا وبعضهم أسلموا، وأتوه بمفاتيح الخزائن.

قالت أم سلمة: انتبه النبي (صلی الله علیه و آله) من القيلولة فقلت: الله جارك ما لك؟ فقال: أخبرني جبرئيل بالفتح ونزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.!

قال أبو منصور الكاتب:

أقسم بالعاديات ضبحا *** حقاً وبالموريات قدحا

وقال المدني:

وقوله والعاديات ضبحا *** يعني علياً إذْ أغار صُبحا

على سليم فشنها كفحا *** فأكثر القتل بها والجرحا

وأنتم في الفُرش نائمونا!

فبشر النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه بذلك وأمرهم باستقباله والنبي يتقدمهم، فلما رأى علي النبي (صلی الله علیه و آله) ترجل عن فرسه فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إركب فإن الله ورسوله عنك راضيان، فبكى علي (علیه السلام) فرحاً، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يا علي لولا أني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح..الخبر. وقال العوني:

من ذا سواه إذا تشاجرت القنا *** وأبى الكماة الكر والإقداما

وتصلصلت حلق الحديد وأظهرت *** فرسانها التصحاج والإحجاما

ورأيت من تحت العجاج لنقعها *** فوق المغافر والوجوه قتاما

كشف الإله بسيفه وبرأيه *** يظمى الجواد ويروي الصمصاما

ووزيره جبريل يقحمه الوغى *** طوعا وميكال الوغى إقحاما

ص: 391

وقال الحميري:

وفي ذات السلاسل من سليم *** غداة أتاهم الموت المبير

وقد هزموا أبا حفص وعمراً *** وصاحبه مراراً فاستطيروا

وقد قتلوا من الأنصار رهطاً *** فحل النذر أو وجبت نذور

أذادَ الموت مشيحة ضخاماً *** جحاجحة يسد بها الثغور».

ورواه في الخرائج: 1/167، وفيه: «وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كل عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة، فيأخذون حذرهم واستعدادهم، فلما خرج علي ترك الجادة وأخذ بالسرية في الأودية بين الجبال. فلما رأى عمرو بن العاص قد فعل علي ذلك علم أنه سيظفر بهم فحسده، فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السرية: إن علياً رجل غِرٌّ لاخبرة له بهذه المسالك، ونحن أعرف بها منه، وهذا الطريق الذي توجه فيه كثير السباع، وسيلقى الناس من معرتها أشد ما يحاذرونه من العدو فاسألوه أن يرجع عنه إلى الجادة!

فعرفوا أميرالمؤمنين (علیه السلام) ذلك، قال: من كان طائعاً لله ولرسوله منكم فليتبعني ومن أراد الخلاف على الله ورسوله فلينصرف عني. فسكتوا وساروا معه، فكان يسير بهم بين الجبال بالليل ويكمن في الأودية بالنهار، وصارت السباع التي فيها كالسنانير، إلى أن كبس المشركين وهم غارُّونَ آمنون وقت الصبح، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كله، وشد الرجال في الحبال كالسلاسل فلذلك سميت غزاة ذات السلاسل.

فلما كانت الصبيحة التي أغار فيها أميرالمؤمنين (علیه السلام) على العدو ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل، خرج النبي (صلی الله علیه و آله) وصلى بالناس الفجر وقرأ: وَالْعَادِيَاتِ.. في الركعة الأولى، وقال: هذه سورة أنزلها الله عليَّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة علي على العدو».

وقال في الإرشاد: 1/113: غزوة وادي الرمل، ويقال: إنها كانت تسمى بغزوة السلسلة

ص: 392

وفيه/116: «فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لبعض من كان معه في الجيش: كيف رأيتم أميركم؟ قالوا: لم ننكر منه شيئاً إلا إنه لم يؤم بنا في صلاة إلا قرأ بنا فيها بقل هو الله أحد! فقال النبي (صلی الله علیه و آله) سأسأله عن ذلك، فلما جاءه قال له: لمَ لم تقرأ بهم في فرائضك إلا بسورة الإخلاص؟فقال: يا رسول الله أحببتها.قال له النبي (صلی الله علیه و آله): فإن الله قد أحبك كما أحببتها. ثم قال له: يا علي لولا أنني أشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملأ منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك»!

ورواها فرات في تفسيره/591، وفيه: «وما زال علي ليلته قائماً يصلي حتى إذا كان في السحر قال لهم: إركبوا بارك الله فيكم، قال: فهبط جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا... فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تخالط القوم ورب الكعبة».

وفي تفسير فرات/591،«وسار علي فيمن معه متوجهاً نحو العراق وظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه حتى أتاهم من الوادي، ثم جعل يسير الليل ويكمن النهار... فقتل منهم مائة وعشرين رجلاً وكان رئيس القوم الحارث بن بشر، وسبى منهم مائة وعشرين ناهداً». وتفسير القمي: 2/434، إعلام الورى: 1/382 وسماها غزوة وادي الرمل. وكشف الغمة: 1/230 وسماها غزاة السلسلة. وكذا العلامة في كشف اليقين/151. وتأويل الآيات: 2/839 و843، عن أبي جعفر (علیه السلام)...

وروى في تفسير فرات/599، رواية مفصلة في سبب نزول سورة العاديات، خلاصتها أن أهل وادي اليابس جمعوا اثني عشر ألفاً لغزو المدينة..

وفي تأويل الآيات: 2/840: «وأمر عليهم أبابكر فسار إليهم، فلقيهم قريباً من الحرة وكانت أرضهم أسنة كثيرة الحجارة والشجر ببطن الوادي والمنحدر إليهم صعب، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة. فلما قدموا على النبي عقد لعمر بن الخطاب وبعثه، فكمن له بنو سليم بين الحجارة وتحت الشجر، فلما ذهب ليهبط خرجوا عليه ليلاً فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر

ص: 393

فرجع عمر منهم منهزماً. فقام عمرو بن العاص إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أنا لهم يا رسول الله إبعثني إليهم. فقال له: خذ في شأنك فخرج إليهم فهزموه وقتل من أصحابه ما شاء الله. قال: ومكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أياماً يدعو عليهم..قال أبوجعفر: وكأني أنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيع علياً عند مسجد الأحزاب وعلي على فرس أشقر مهلوب وهو يوصيه.. فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.. قال: فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقول: صبَّح عليٌّ والله جمع القوم! ثم صلى وقرأ بها، فلما كان اليوم الثالث قدم علي (علیه السلام) المدينة وقد قتل من القوم عشرين ومائة فارس، وسبى عشرين ومائة ناهد».

أقول: سياق هذه الغزوة كسياق محاصرة حصن خيبر الذي عجز الصحابة عن فتحه، فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام). وكذلك استقباله لعلي (علیه السلام) ومدحه له يشبه ما قاله في حقه بعد فتح خيبر. وهو يكشف عن خطورة تجمع بني سليم وهم قبيلة كبيرة ومعهم لفيف من غيرهم.

وكان وقتها بعد الحديبية وبعد مؤتة، ومع تحشيد هرقل لغزو المدينة. وقد تكون قريش أو هرقل حرَّكوا بني سليم وأمدوهم ليغزوا المدينة.

2- ملاحظات على تحريفهم ذات السلاسل

1- لم نجد في مصادر السلطة شيئاً عن سبب نزول سورة العاديات إلا قولهم: «بعث (صلی الله علیه و آله) خيلاً فأسهبت شهراً لم يأته منها خبر فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا» وهذا كل ما ذكروه! أسباب النزول للواحدي/ 305 والفائق للزمخشري: 2/172.

ولا تعجب فغرضهم إخفاء فرار الفارين وبطولة علي (علیه السلام) ! بل لم يهدأ بالهم حتى جعلوا العاديات الأباعر وليس الخيل! ثم رووه عن علي (علیه السلام) !

قال ابن حجر في فتح الباري: 8/559:«وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خيلاً فلبثت شهراً لا يأتيه خبرها فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، ضبحت بأرجلها، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا: قدحت الحجارة فأورت بحوافرها. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا: صبحت القوم بغارة، فأثَرْنَ به نَقْعاً: التراب. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا: صبحت القوم

ص: 394

جميعاً. وفي إسناده ضعف، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه! عن ابن عباس قال: سألني رجل عن العاديات فقلت: الخيل، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت، فدعاني فقال لي: إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة.. الخ»!

وفي تفسير القرطبي: 20/155، أن ابن عباس تاب رجع عن قوله بأنها الخيل إلى قول علي (علیه السلام) بأنها الإبل! وفرح ابن حجر بذلك كبقية علماء السلطة، لأنه يغطي غزوة ذات السلاسل ويجعل للإبل حوافر توري بها الصوان قدحاً!

2-«تقع ذات السلاسل من جهة مكة والبحر، ومسافتها عن المدينة خمس مراحل أي خمسة أيام في المتوسط، وكان لبني سليم جواسيس في المدينة فاتجه علي (علیه السلام) أولاً نحو العراق ليخدع جواسيس بني سُليم بأنه متجه إلى العراق لا إليهم، فهم إذن من الجهة المخالفة للعراق أي جهة مكة. وفي رواية: «فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر فرجع عمر منهم منهزماً».«تأويل الآيات: 2/840». ومعناه أنها في جهة البحر الأحمر، ويظهر أنها جبال رضوى وهي منازل بني سليم، «معجم البلدان: 3/181». وقد سمتها بعض رواياتها غزوة بني سليم، قال في كشف الغمة: 1/232: «نزلت في حق علي (علیه السلام) وانتصاره على بني سليم».

بينما جعلتها الحكومات بلاد بلي وعذرة التي تقع في أرض الشام قريب تبوك، وجعلها بعضها في الكاظمة قرب البصرة. أي من الجهة المخالفة جغرافياً.

ويوجد ذات السلاسل قرب كاظمة كما في مكتبة الخرائط:

22http: //sirah.al-islam.com/map-pic.asp?f=mapa

وهو إسم لمنطقة بعد وادي القرى من جهة الشام، بينها وبين المدينة عشرة أيام كما «في الطبقات: 2/131». وسميت بذلك لأن جبالها متموجة كالسلاسل.

3- لاتجد في غزوة ذات السلاسل الحكومية أسماء قتلى ولا وصف قتال! بل تهافتاً في الهدف والنتيجة والأحداث! فهي تقول مرة إن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث ابن

ص: 395

العاص في مئتي فارس إلى أخواله عشيرة أمه النابغة ليدعوهم إلى الإسلام أو يقاتلهم! وأن جمع العدو كان كثيراً فبعث ابن العاص إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يطلب مدداً فأمده بأبي عبيدة في ثلاث مئة فيهم أبو بكر وعمر! واختلفوا مع ابن العاص لكنهم أطاعوه، ثم لا تذكر أحداثاً مع عدو ولا معركة! ومع ذلك تقول إن ابن العاص دوخ القبائل، ورجع!

قال ابن هشام: 4/1040: «وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلي وعذرة، وكان من حديثه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعثه يستنفر العرب إلى الشام.

وذلك أن أم العاص بن وائل كانت امرأة من بلي، فبعثه رسول الله اليهم يستألفهم لذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل، فلما كان عليه خاف فبعث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستمده، فبعث إليه رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مدداً لي، قال أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا، فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي: لاتختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك، قال: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي، قال فدونك، فصلى عمرو بالناس..».

ونحوه الطبري: 2/315، وذكر أن عدد سرية عمرو كان ثلاث مئة، وقال: «فكان جميعهم خمس مائة». ولم يذكر ابن هشام ولا ابن إسحاق ولا الطبري نتيجة هذه الغزوة أو السرية لأنها من أصلها مكذوبة ولا نتيجة ملموسة لها!

وتضحك من كلام ابن سعد في الطبقات: 2/131، قال: «كان عمرو يصلي بالناس، وسار حتى وطأ بلاد بلي ودوخها، حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. ثم قفل»!

4. وذكر رواة السلطة أنها كانت في الشتاء فقد أراد عمر أن يشعل ناراً فنهاه ابن العاص، فكلمه أبو بكر وتصايحا فلم يقبل، وقال من أشعل ناراً ألقيته فيها!

ص: 396

بينما نزلت سورة العاديات في الخيل التي أثارت بحوافرها النقع أي الغبار.

5. في رواية الحكومة أن ابن العاص ذبح بعيراً لآخرين وسلخه وأخذ أجرته من لحمه فأطعمهم، ولما عرف أبو بكر أنه أجرة ذبحه تقيأ ما أكله لأنه حرام! ورووا فيها أن رجلاً إسمه رافع بن عمرو رافق أبابكر فيها فقال له: عظني، فوعظه بما وعظه به النبي (صلی الله علیه و آله) أن يبتعد عن الإمارة كل عمره! ولما سمع ذلك الرجل بأن أبابكر صار خليفة جاء اليه وذكَّره بما قاله فقال له: أجبروني على الخلافة، لأنهم خافوا على المسلمين الفرقة!تاريخ دمشق: 18/10 وابن هشام: 4/104.

وهذا يدل على أنهم كانوا في سرية صغيرة غير ذات السلاسل فجعلوها هي.

ص: 397

الفصل الثاني والستون: غزوة فتح مكة

1- قريش تنقض معاهدة الحديبية

كان بنود المعاهدة: حرية المسلمين في مكة، وحرية قبائل العرب أن تتحالف مع النبي (صلی الله علیه و آله) أو قريش، ووضع الحرب بينهما عشر سنين. وعدم مساعدة المعتدي على أحد الطرفين. وإرجاع النبي (صلی الله علیه و آله) من يأتيه مسلماً منهم. «فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله وعقده وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها».القمي: 2/310.

وبذلك جددت خزاعة وكنانة حلف المطيبين بين عبدالمطلب وحلفائه من قريش وخزاعة، وحلف لعقة الدم بين أمية وحلفائهم من قريش وكنانة!

قال اليعقوبي: 1/248: «ولما رأت قريش أن عبدالمطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبدالدار لما رأت حال عبدالمطلب، فمشت بنو عبدالدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني عبدمناف.. فتطيب بنو عبدمناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبدالدار وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم، فسموا اللعقة. وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً. وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة».

وبعد توقيع معاهدة الحديبية جاءت خزاعة للنبي (صلی الله علیه و آله) بكتاب حلفها مع جده عبدالمطلب (رحمة الله) فأكده. ونصه كما في أنساب الأشراف للبلاذري/46: «باسمك اللهم، هذا ما

ص: 398

تحالف عليه عبدالمطلب بن هاشم، ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ما بلَّ بحر صوفة، حلفاً جامعاً غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأصاغر، والشاهد على الغائب. وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد، لا ينقض ولا ينكث، ما أشرقت شمس على ثبير وحن بفلاة بعير، وما قام الأخشبان، وعمر بمكة إنسان، حلف أبد لطول أمد، يزيده طلوع الشمس شداً، وظلام الليل سداً. وإن عبدالمطلب وولده ومن معهم دون سائر بني النضر بن كنانة، ورجال خزاعة، متكافئون متضافرون متعاونون. فعلى عبدالمطلب النصرة لهم ممن تابعه على كل طالب وتر، في بر أو بحر أو سهل أو وعر. وعلى خزاعة النصرة لعبدالمطلب وولده ومن معهم على جميع العرب، في شرق أو غرب، أو حزن أو سهب. وجعلوا الله على ذلك كفيلا، وكفى به حميلاً. هذا حلف عبدالمطلب بن هاشم لخزاعة، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي، غائبهم مقر بما قضى عليهم شاهدهم، أن بيننا وبينك عهود الله وعقوده ما لا ينسى أبداً ولا يأتي بلداً، اليد واحدة، والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفه، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبد الدهر سرمد».

جاءت به خزاعة للنبي (صلی الله علیه و آله) «فقرأه عليه أبي بن كعب فقال: ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، فكل حلف كان في الجاهلية، فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولاحلف في الإسلام». مكاتيب الرسول: 3/234.

وكانوا أخوال بني هاشم، فأم وهب والد آمنة خزاعية، وأم عبدمناف خزاعية وأم لؤي خزاعية. وكانوا يتعاطفون مع النبي (صلی الله علیه و آله) وينصحون له ويخبرونه أخبار قريش، وعرفوا بأنهم: «عَيْبَة نصح رسول الله (صلی الله علیه و آله)».مكاتيب الرسول: 3/133. وعيبة النصح تشبيه للمملوء نصحاً بصرة الثياب المملوءة.

أما كنانة فكانت مع مشركي قريش كخزاعة مع بني هاشم، وكان بينها وبين خزاعة عداوة وثارات فقامت كنانة بعملية مباغتة تشبه المجزرة، فهاجمت بيوت

ص: 399

خزاعة خارج الحرم وداخله وقتلت منهم أكثر من عشرين رجالاً ونساء وأطفالاً وساعدتها قريش بالسلاح وبمقاتلين ملثمين، فنقضت بذلك معاهدة الحديبية! وكانت الشرارة أن كنانياً هجا النبي (صلی الله علیه و آله) فضربه خزاعي.إعلام الورى: 1/215.

وقَبِلَ الجميع رواية الواقدي/469، وخلاصتها: «أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته، فثار الشر، مع ما كان بينهم.. فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية، تكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش..أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة، وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم.. فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً، إلا أبا سفيان لم يشاور في ذلك ولم يعلم، ويقال إنهم ذاكروه فأبى عليهم..فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال، ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة.. ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها فوافوا للميعاد، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون: صفوان بن أمية، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وحويطب بن عدب العزى، وأجلبوا معهم أرقاءهم ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الدؤلي، فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارُّون آمنون من عدوهم، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم فقالوا: يا نوفل إلهك إلهك، قد دخلت الحرم! قال: لا إله لي اليوم! يا بني بكر، قد كنتم تسرقون الحاج، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم! فلما انتهت خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا وألا يبلغ هذا محمداً!

وجاء الحارث بن هشام، وابن أبي ربيعة، إلى صفوان بن أمية، وإلى سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بني بكر وأن بينكم وبين محمد مدة وهذا نقضٌ لها! ومشيا إلى أبي سفیان فقالا: والله لئن لم يصلح هذا الأمر لايروعكم إلا محمد في أصحابه! فقال: لا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغني! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي. وما لي بدٌّ أن آتي محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر. فقالت قريش: قد والله أصبت

ص: 400

الرأي! وندمت قريش على ما صنعت، فخرج أبوسفيان وخرج معه مولىً له على راحلتين فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله. وقدم ركب خزاعة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بمن قتل منهم، قال رسول الله: فمن تُهمتكم وظِنَّتُكم؟ قالوا: بنو بكر. قال: كلها؟ قالوا: لا ولكن تهمتنا بنو نفاثة قَصْرةً «كلهم»ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي.

قال (صلی الله علیه و آله): هذا بطنٌ من بني بكر، وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال: بين أن يَدُوا خزاعة، أو يبرؤوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء.

فقال قرطة بن عبد عمرو: لا والله لا يودون، ولا نبرأ من حلف نفاثة بن الغوث وهم بناء وأعمدة لشدتنا، ولكن ننبذ إليه على سواء! فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالأنقاب وعمَّى عليهم الأخبار، حتى دخلها فجاءةً!

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد حرت في أمر خزاعة! فقالت عائشة: يا رسول الله أترى قريشاً تجترئ على نقض العهد بينكم وبينهم، وقد أفناهم السيف؟

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم. قالت عائشة: خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله؟ قال: خيرٌ»!

وإذا صح قوله (صلی الله علیه و آله) «حِرْتُ في أمر خزاعة» فمعناه: همَّني ذلك، وليس التحير في تفسيره أو فيما يعمل. ولعله (صلی الله علیه و آله) قاله ليحير قريشاً، فلا تدري ماذا ينوي.

2- خزاعة تطالب النبي (صلی الله علیه و آله) بنصرتها وفاءً بحلفهم

قال في الصحيح من السيرة: 21/64 ملخصاً: «ذكر المؤرخون قدوم بديل بن ورقاء على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليخبره بالمجزرة التي ارتكبتها كنانة وقريش في بيته وعلى باب داره، في حق رجال وصبيان ونساء، وذكروا أيضاً لقاءه أبا سفيان في عسفان حين كان أبوسفيان متوجهاً إلى المدينة، وبديل عائد منها.

وكانت مبادرة بديل بن ورقاء محاطة منه وممن معه بسرية تامة.. ولذلك لم يستطع أبوسفيان معرفة حقيقة الأمر، فسكت عليه. كما قدم عمرو بن سالم

ص: 401

الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبروه بالخبر، فلما فرغوا من قصتهم، قام عمرو بن سالم، فقال:

يا رب إني ناشدٌ محمدا *** حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتمُ ولداً وكنا والدا *** ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزعْ يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقَك المؤكدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا *** هم أذلُّ وأقلُّ عددا

هم بيَّتونا بالوتير هُجَّدا *** وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا *** فانصر رسول الله نصراً أيدا

وادعُ عباد الله يأتوا مددا *** فيهم رسول الله قد تجردا

إن سِيمَ خسفاً وجهُهُ تربَّدا *** في فيلق كالبحر يجري مُزبدا

قرمٌ لقرم من قروم أصيدا

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): حسبك يا عمرو، ودمعت عيناه. أو قال: نُصرت ياعمرو بن سالم. فلما فرغ الركب قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فهدر رسول الله دمه! فبلغ أنس بن زنيم ذلك، فقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) معتذراً عما بلغه فقال قصيدة منها:

فما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبرُّ وأوفى ذمة من محمد

وبلغت رسول الله قصيدته واعتذاره، وكلم نوفل بن معاوية الديلي النبي (صلی الله علیه و آله) فيه فقال له: أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك؟ ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع، حتى هدانا الله بك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب وكثَّروا عندك! فقال (صلی الله علیه و آله): دع الركب فإنَّا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحم ولا بعيداً كان أبرَّ بنا من خزاعة، فأسكت نوفل بن معاوية!

فلما سكت قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد عفوت عنه. فقال نوفل: فداك أبي وأمي.

وقالوا إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعمرو بن سالم وأصحابه: إرجعوا وتفرقوا في الأودية،

ص: 402

مخافة اكتشاف قريش لهم وانتقامها منهم فرجعوا وتفرقوا، وذهبت فرقة إلى الساحل بعارض الطريق، ولزم بديل بن ورقاء في نفر من قومه الطريق».

3- أحست قريش بجريمتها فحاولت أن تسترضي النبي (صلی الله علیه و آله)

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/132: «ولما دخل أبوسفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين قريش، عندما كان من بني بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها، فقصد أبوسفيان ليتلافى الفارط من القوم، وقد خاف من نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهم، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) وكلمه في ذلك فلم يردد عليه جواباً، فقام من عنده فلقيه أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي (صلی الله علیه و آله) فسأله كلامه له فقال: ما أنا بفاعل، لعلم أبي بكر بأن سؤاله في ذلك لا يغني شيئاً، فظن أبوسفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبي بكر فكلمه في ذلك فدفعه بغلظة وفظاظة، كادت أن تفسد الرأي على النبي (صلی الله علیه و آله).

فعدل إلى بيت أميرالمؤمنين (علیه السلام) فاستأذن عليه فأذن له وعنده فاطمة والحسن والحسين: فقال له: يا علي، إنك أمسُّ القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائباً! إشفع لي إلى رسول الله فيما قصدته.فقال له: ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه! فالتفت أبوسفيان إلى فاطمة (علیها السلام) فقال لها: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر؟ فقالت: ما بلغ بنياي أن يجيرا بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فتحير أبوسفيان وسقط في يده، ثم أقبل على أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال: يا أبا الحسن، أرى الأمور قد التبست عليَّ فانصح لي. فقال له أميرالمؤمنين: ما أرى شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: فترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله لا أظن، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبوسفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق!

ص: 403

فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظاً غليظاً لا خير فيه، ثم أتيت علياً فوجدته ألين القوم لي، وقد أشار في بشئ فصنعته، والله ما أدري يغني عني شيئاً أم لا، فقالوا: بمَ أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت. فقالوا له: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك؟

قال أبوسفيان: لا والله ما وجدت غير ذلك».

ونحوه في مغازي الواقدي/475، وفيه: «فقام بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس ولا أظن محمداً يخفرني! ثم دخل على النبي فقال: يا محمد ما أظن أن ترد جواري! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أنت تقول ذاك يا أبا سفيان. لم يزد على ذلك»!

يبقى سؤال: كيف دخل أبوسفيان إلى المدينة، وهو رأس الأحزاب وإمام أئمة الكفر؟ والجواب: أن الهدنة كانت نوعاً من الأمان تسمح بالذهاب والمجئ بين المسلمين والقرشيين، ولا بد أنه أرسل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يستأذن في المجئ.

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يتجهز لغزو مكة ويخفي مقصده

قرر النبي (صلی الله علیه و آله) غزو مكة وفتحها، وأراد أن يكون ذلك مفاجأةً لقريش، ولذلك دعا الله تعالى: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نَبْغَتَهَا في بلادها».مناقب آل أبي طالب: 1/177 وابن هشام: 4/857.

لكن كيف يمكن تجهيز جيش من ألوف والمسير به إلى مكة بدون أن تشعر قريش؟ هنا كان الإعجاز، مضافاً إلى ما قام النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ما يلي:

1- حرص أن لايقول كلاماً يفهم منه العفو عن قريش، وفي نفس الوقت أن لا يصرح بأنه سيغزوهم بسبب نقضهم للعهد!

2- سكت (صلی الله علیه و آله) عن الأمر فترة: «مكث بعد خروج أبي سفیان ما شاء الله أن يمكث، ثم قال لعائشة: جهزينا وأخفي أمرك».الصحيح من السيرة: 21/139.

ص: 404

3- ثم أصدر أمره بالتجهز للغزو ولم يفصح إلى أين: «وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أي بنية أأمركم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري».ابن هشام: 4/857.

4- أرسل إلى القبائل أن يوافوه في شهر رمضان للذهاب في غزوة ولم يخبرهم أين: «ودعا رئيس كل قوم، فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم».إعلام الورى: 1/219.

5- وأمر بضبط الداخل إلى المدينة والخارج منها: «وضع حرساً على المدينة، وكان على الحرس حارثة بن النعمان».إعلام الورى: 1/216.

ولكن ذلك لم يكن كافياً بسبب فعالية قريش، وكثرة المنافقين المرتبطين بها، ولذلك احتاج الأمر إلى تدخل جبرئيل (علیه السلام).

5- الوَحْيُ يكشف خيانة بعض الصحابة

في تفسير القمي: 2/361: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.. نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، ولفظ الآية عام ومعناها خاص. وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة، وكان عياله بمكة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهل يريد أن يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب إن رسول الله يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية، فوضعته في قرنها ومرَّت، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بذلك، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أميرالمؤمنين (علیه السلام) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أميرالمؤمنين: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي! ففتشوها فلم يجدوا معها شيئاً، فقال الزبير: ما نرى معها شيئاً، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): والله ما كذَبَنَا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا كذَبَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) على جبرئيل، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه! والله لتظهرن لي الكتاب أو

ص: 405

لأوردن رأسك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقالت: تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها، فأخذه أميرالمؤمنين وجاء به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم، فأحببت أن أجازي قريشاً بحسن معاشرتهم! فأنزل الله جل ثناؤه على رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ... إلى آخر سورة الممتحنة.

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام): فإن الله أمر نبيه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفاراً فقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ.. إلى قوله: وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قطع الله عزوجل ولاية المؤمنين منهم وأظهروا لهم العداوة فقال: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، فلما أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناكحوهم».

وفي الإرشاد: 1/56:«فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بعزيمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على فتحها، وأعطى الكتاب امرأة سوداء كانت وردت المدينة تستميح بها الناس وتستبرهم، وجعل لها جعلاً على أن توصله إلى قوم سماهم لها من أهل مكة، وأمرها أن تأخذ على غير الطريق. إلى أن قال: فأخذه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وصار به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمر أن ينادي بالصلاة جامعة، فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم، ثم صعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر وأخذ الكتب بيده وقال: أيها الناس، إني كنت سألت الله عزوجل أن يخفي أخبارنا عن قريش، وإن رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي! فلم يقم أحد فأعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقالته ثانية، وقال: ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي! فقام حاطب بن

أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف، فقال: يا رسول الله أنا صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكاً بعد يقيني. فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب؟ فقال: يا رسول الله إن لي أهلاً بمكة وليس

ص: 406

لي بها عشيرة، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم، ولم أفعل ذلك لشك في الدين. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله مرني بقتله فإنه قد نافق! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه من أهل بدر ولعل الله تعالى اطلع عليهم فغفر لهم، أخرجوه من المسجد. قال: فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه، وهو يلتفت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليرق عليه، فأمر النبي برده وقال له: قد عفوت عنك وعن جرمك، فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت»!

وفي المسترشد للطبري الشيعي/540،أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لعمر: «أتريد يا عمر أن تقول العرب إن محمداً يقتل أصحابه»؟!

أقول: تقدم أن ابن بلتعة كان مبعوث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المقوقس، وكان تاجراً له معرفة بمصر، وكان يمانياً من لخم، متحالفاً مع بني أسد عبدالعزى القرشيين.

وفي المبسوط للطوسي: 2/15: «وإذا تجسس مسلم لأهل الحرب..وللإمام أن يعفو عنه، وله أن يعزره لأن النبي (صلی الله علیه و آله) عفا عن حاطب».

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لعمر: «وما يدریك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال إعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»!ابن هشام: 4/858.

كما روت مصادرنا عن علي (علیه السلام) ذماً لابن بلتعة. تأويل الآيات: 2/465 والجمل/208.

وذكر الثعلبي في تفسيره: 9/291،«أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان سأل سارة السوداء التي حملت الكتاب: أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: أمهاجرة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت مواليَّ واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها: فأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة! قالت: ما طلب مني شئ بعد وقعة بدر! فحث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بني عبدالمطلب وبني المطلب، فكسوها وأعطوها نفقة».

كما روت مصادر السلطة أن أبابكر حاول أن يعرف قصد النبي (صلی الله علیه و آله) وهل يقصد غزو قريش أو غيرها، وسأل النبي (صلی الله علیه و آله) وألحَّ بالسؤال.

وروى الواقدي: 2/796 والمقريزي في الإمتاع: 1/352 أن أبابكر سأل النبي (صلی الله علیه و آله):

ص: 407

«يا رسول الله أردت سفراً؟ قال رسول الله: نعم. قال: أفأتجهز؟ قال: نعم. قال أبو بكر: وأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً وأخفِ ذلك يا أبابكر! وأمر رسول الله بالجهاز قال: أوليس بيننا وبينهم مدةٌ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم. وقال لأبي بكر: إطو ما ذكرت لك! فظانٌّ يظن أن رسول الله يريد الشام وظانٌّ يظن ثقيفاً وظانٌّ يظن هوازن».

وقال صاحب الصحيح: 21/129 إن أبابكر وعائشة عرفا قصد النبي (صلی الله علیه و آله) وأفشيا سره، لكن خيانة حاطب بن أبي بلتعة متفق عليها!

أما خيانة غيره، فإن صحت، فقد عولجت وبقيت مخفية.

6- جاءت القبائل إلى المدينة وتحرك النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة

سبب توافد القبائل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم أحسوا بعد انتصاراته (صلی الله علیه و آله) وصلح الحديبية أن ميزان القوة تحول إلى جانبه، فأخذوا يدخلون في الإسلام أو يتقربون اليه، ويطمعون أن يشاركوه في حروبه لينالوا من الغنائم!

وخرج النبي (صلی الله علیه و آله) بالناس ولم يعلن عن مقصده: «ولما انتهى إلى قٌدَيد قيل له: يا رسول الله هل لك في بيض النساء وأدم الإبل، بني مدلج؟ فقال (صلی الله علیه و آله) إن الله عزوجل حرَّمهن عليَّ بصلة الرحم».الصحيح: 21/233.

أقول: بنو مدلج عند ينبع، عشيرة من بني كنانة، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) غزاهم في ذات العشيرة، وكتب معهم صلحاً أن يكونوا حياديين. وقد مدح نساءهم بصلة الرحم. وعرف بنو مدلج بأن فيهم خبراء في القيافة.

قال في الصحيح من السيرة: 21/215ملخصاً: «خرج النبي (صلی الله علیه و آله) في المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب وقادوا الخيل وامتطوا الإبل، وقدَّم أمامه جريدة من الخيل الزبير بن العوام في مائة فارس.. ولما بلغ قديداً لقيته سُليم هناك فعقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.وقبل أن يصل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة وجد عيناً لهوازن، فاعترف أنهم يجمعون جيشاً لحربه فأمر بحبسه، فظن الظانون أنه يقصد هوازن.وجاءه عيينة بن حصن رئيس بني فزارة لأنه سمع وهو بنجد أن النبي (صلی الله علیه و آله) قاصد وجهاً وأن العرب تجتمع اليه، فوصل

ص: 408

اليه وهو في الطريق في القديد، فسأله عن مقصده فأجابه: إلى حيث يشاء الله!

وقد بالغوا في عدد جيش النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا كان عشرة آلاف، وقد يكون جيشه بلغ ستة آلاف. وقال بعضهم كان الأنصار أربعة آلاف معهم خمس مائة فرس، ومزينة ألفاً وفيها مائة فرس، وأسلم أربع مائة معها ثلاثون فرساً، وجهينة ثمان مائة معها خمسون فرساً، وبني سليم سبع مائة، وغفار أربع مائة، وأسلم أربع مائة، وطوائف من العرب من تميم وقيس وأسد.»راجع: الصحيح: 21/230.

7- فاجأ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً وعسكر قرب مكة

عسكر النبي (صلی الله علیه و آله) بجيشه في «مَرّ الظهران» وهو قرب عرفات، وكان ذلك مفاجأة لقريش، فأسقط في يد زعمائها لأنهم لايريدون الخضوع له، ولا طاقة لهم بحربه! فسارع أبوسفيان بالذهاب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ليتفاوض معه.

قال في إعلام الورى: 1/218: «سار حتى نزل مرَّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس، وقد عميت الأخبار من قريش، فخرج في تلك الليالي أبوسفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً، وقد كان العباس بن عبدالمطلب خرج يتلقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه أبوسفيان بن الحارث «ابن عم النبي (صلی الله علیه و آله)» وعبدالله بن أبي أمية «أخ أم سلمة» وقد تلقاه بنيق العقاب، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في قبته وعلى حرسه يومئذ زياد بن أسيد، فاستقبلهم زياد فقال: أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة، وأما أنتما فارجعا. فمضى العباس حتى دخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسلم عليه وقال: بأبي أنت وأمي هذا ابن عمك قد جاء تائباً وابن عمتك. قال: لا حاجة لي فيهما إن ابن عمي انتهك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا. فلما خرج العباس كلمته أم سلمة وقالت: بأبي أنت وأمي ابن عمك قد جاء تائباً لايكون أشقى الناس بك، وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكونن شقياً بك! ونادى أبوسفيان بن الحارث النبي (صلی الله علیه و آله): كن لنا كما قال العبدالصالح: لاتَثْرِيبَ عَلَيْكم! فدعاه وقبل منه، ودعا عبدالله بن أبي أمية، فقبل منه.

ص: 409

وقال العباس: هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عُنْوَةً قال: فركبت بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيضاء وخرجت أطلب الحطَّابة أو صاحب لبَن لعلي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستأمنون إليه، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام، وأبوسفيان يقول لبديل: ما هذه النيران؟ قال: هذه خزاعة. قال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم! ولكن لعل هذه تميم أو ربيعة! قال العباس: فعرف صوت أبي سفیان، فقلت: أبا حنظلة؟ قال: لبيك فمن أنت؟ قلت: أنا العباس، قال: فما هذه النيران فداك أبي وأمي قلت: هذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عشرة آلاف من المسلمين قال: فما الحيلة؟ قال: تركب في عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله (صلی الله علیه و آله). قال: فأردفته خلفي ثم جئت به، فكلما انتهيت إلى نار قاموا إليَّ فإذا رأوني قالوا: هذا عم رسول الله خلوا سبيله، حتى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال: عدو الله الحمد الله الذي أمكن منك، فركضت البغلة حتى اجتمعنا على باب القبة، ودخل عمر على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: هذا أبوسفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه! قال العباس: فجلست عند رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: بأبي أنت وأمي أبوسفيان قد أجرته. قال: أدخله فدخل فقام بين يديه فقال: ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك وأحلمك، أما الله لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد، وأما أنك رسول الله فوالله إن في نفسي منها لشيئاً! قال العباس: يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله!قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، تلجلج بها فوه!

فقال أبوسفيان للعباس: فما نصنع باللات والعزى؟ فقال له عمر: إسلح عليهما. فقال أبوسفيان: أفٍّ لك ما أفحشك! ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي؟! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): عند من تكون الليلة؟ قال: عند أبي الفضل. قال: فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة، واغد به عليَّ. فلما أصبح سمع بلالاً يؤذن قال: ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟ قال: هذا مؤذن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قم فتوضأ وصل، قال: كيف

ص: 410

أتوضأ؟ فعلمه. قال: ونظر أبوسفيان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه فقال: بالله إن رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر!

فلما صلى غدا به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي بالذهاب إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله فأذن له، فقال العباس: كيف أقول لهم بين لي من ذلك أمراً يطمئنون إليه؟ فقال (صلی الله علیه و آله): تقول لهم: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله وكف يده، فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه، فهو آمن. فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فلو خصصته بمعروف؟

فقال (صلی الله علیه و آله): من دخل دار أبي سفیان فهو آمن. قال أبوسفيان: داري؟! قال: دارك! ثم قال: من أغلق بابه فهو آمن. ولما مضى أبوسفيان قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل من شأنه الغدر، وقد رأى من المسلمين تفرقاً. قال: فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتى يمر به جنود الله. قال: فلحقه العباس فقال: أبا حنظلة! قال: أغدراً يا بني هاشم؟ قال: ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ولكن اصبر حتى تنظر إلى جنود الله..».

وفي الصحيح من السيرة: 22/17، ملخصاً: «وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) منادياً ينادي: لتصبح كل قبيلة قد أرحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر ما معها من الأداة والعدة! فأصبح الناس على ظهر، وقدَّم بين يديه الكتائب. ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها، وكان أول من قدم خالد بن الوليد في بني سليم وهم ألف ومعهم لواءان وراية، فلما مروا بأبي سفیان كبروا ثلاث تكبيرات، ثم مضوا! فقال أبوسفيان: يا عباس هذا رسول الله؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدمة. قال: الغلام؟قال: نعم. قال: ومن معه؟ قال: بنو سليم. قال: ما لي وبني سليم!

ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمس مائة من المهاجرين وأفناء العرب

ص: 411

ومعه راية سوداء. فلما مروا بأبي سفیان كبروا ثلاثاً! فقال أبوسفيان: من هؤلاء؟ قال: هذا الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم.

ثم مرت بنو غفار في ثلاث مائة يحمل رايتهم أبوذر، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً! فقال أبوسفيان: من هؤلاء؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي ولبني غفار؟

ثم مرت أسلم في أربع مائة فيها لواءان، فقال: من هؤلاء؟ قال العباس: أسلم. قال: ما لي ولأسلم؟ ما كان بيننا وبينهم تِرَةٌ قط! قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو كعب بن عمرو«من خزاعة» في خمس مائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فقال: من هؤلاء؟ قال العباس: بنو عمرو بن كعب بن عمرو إخوة أسلم. قال: نعم هؤلاء حلفاء محمد! ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية ومائة فرس، قال: من هؤلاء؟ قال العباس: مزينة. قال: ما لي ولمزينة؟ قد جاءتني تقعقع من شواهقها!

ثم مرت جهينة في ثمان مائة فيها أربعة ألوية فقال: من هؤلاء؟ قال: جهينة. قال: ما لي ولجهينة؟ ثم مرت كنانة بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين، فقال: من هؤلاء؟ قال العباس: بنو بكر. قال: نعم أهل شؤم والله! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم! أما والله ما شُووِرت فيهم ولا علمته، ولكنه أمر حُتِم!

ثم مرت أشجع وهم آخر من مر، وهم ثلاث مائة معهم لواءان، قال العباس: هؤلاء أشجع. قال أبوسفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد! ثم قال أبوسفيان: أبعدُ ما مضى محمد؟ فقال العباس: لا، لم يمض بعد لو أتت الكتيبة التي فيها محمد رأيت فيها الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة. قال: ومن له بهؤلاء طاقة؟ حتى طلعت كتيبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخضراء التي فيها المهاجرون والأنصار، مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية، وهم في الحديد لايرى منهم إلا الحدق، وعمر بن الخطاب يقول: رويداً حتى يلحق أولكم آخركم. فقال أبوسفيان: يا أبا الفضل من هذا المتكلم؟! قال: عمر بن الخطاب. فقال أبوسفيان: لقد أَمِرَ أَمْرُ بني عدي، بعد والله، قلة وذلة!«يقصد مشى أمرهم وصار منهم شخص مذكوراً». وأعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رايته سعد بن عبادة، فلما مر براية رسول الله (صلی الله علیه و آله) نادى «سعد» أبا

ص: 412

سفيان فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً».

8- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الأمان إلى أهل مكة مع أبي سفیان

«قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي سفیان: تقدم إلى مكة فأعلمهم الأمان. قال العباس: فقلت لأبي سفیان: أُنج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله). فخرج أبوسفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، أسلموا تسلموا، من دخل دار أبي سفیان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني دارك؟! قال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة زوجته فأخذت بشاربه وقالت: أقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قُبِّح من طليعة قوم! فقال أبوسفيان: ويلكم لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به!.. البيوت البيوت، من أغلق بابه فهو آمن، من دخل داري فهو آمن. فعرفت هند فأخذت تطردهم، فقال لها: ويلك إني رأيت ذات القرون ورأيت فارس أبناء الكرام، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمون آخر النهار، ويلك أسكتي، فقد والله جاء الحق ودنت البلية. فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم».الصحيح: 22/58و85.

9- نصب النبي (صلی الله علیه و آله) خيمته عند قبر خديجة (علیها السلام) !

أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) الزبير بن العوام أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأن يغرز رايته بالحجون، أي عند قبر خديجة (علیها السلام)، ولا يبرح حتى يأتيه.

وأمر خالداً وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب، أن يدخل من الليط موضع بأسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبها بنو بكر، وبنو الحارث بن عبد مناة، والأحابيش الذين استنفرتهم قريش.

وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء والراية مع ابنه قيس، وأمرهم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

ص: 413

وأقبل (صلی الله علیه و آله) في كتيبته الخضراء، وعليه عمامة سوداء وقد أرخى طرفها بين كتفيه وهو على ناقته القصواء، فاستشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعاً، وقد طأطأ رأسه تواضعاً لله تعالى، وهو يقرأ سورة الفتح يرجع بها صوته، ثم قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة. ومضى (صلی الله علیه و آله) فدخل من أذاخر بأعلى مكة يوم الإثنين، وكان أبو رافع قد ضرب له قبة من أدم بالحجون، فأقبل رسول الله حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة وميمونة زوجتاه.

وأقبل الزبير بمن معه من المسلمين حتى انتهى إلى الحجون، فغرز الراية عند منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورووا أن لواء رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم دخل مكة كان أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة مرط مرجل.

وسأله أسامة: يا رسول الله أنَّى تنزل غداً، تنزل في دارك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار! وقيل للنبي (صلی الله علیه و آله): ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومنزل إخوته

من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك، فأبى وقال: لا أدخل البيوت! وبقي في قبته بالحجون، وكان يأتي المسجد لكل صلاة.وقال جابر بن عبدالله: كنت ممن لزم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخلت معه يوم الفتح، فلما أشرف من أذاخر ورأى بيوت مكة وقف عليها، فحمد الله وأثنى عليه. ونظر من موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها «يشير إلى الشعب» وكنا بالأبطح وِجَاهَ «مقابل» شعب أبي طالب، حيث حصر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم ثلاث سنين».الصحيح: 22/77.

وقال الطبري: 2/342: «أقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة».

10- قريش تسترحم النبي (صلی الله علیه و آله) بشعر ضرار بن الخطاب

خافت قريش من انتقام الأنصار منها، وكانت رايتهم كانت بيد سعد بن عبادة، فاستغاثت بالنبي (صلی الله علیه و آله) من سعد خشية أن يأخذ منهم ثار أحُد، فطمأنهم النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه قرر أن لايسفك دماً في الحرم، إلا أربعة نفر هدر دمهم!

ص: 414

وفي الإرشاد: 1/134: «ولما أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم، ودخل وهو يقول: اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمة، فسمعها العباس فقال للنبي (صلی الله علیه و آله): أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة؟ إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة!

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لأميرالمؤمنين (علیه السلام) أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها مكة، فأدركه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فأخذها منه».

«فأخذ الراية فذهب بها إلى مكة، حتى غرزها عند الركن».الصحيح: 22/26.

وفي الإمتاع: 8/386، أن أبا سفيان شكى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قول سعد فقال له: «يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشاً، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه».

وقال ضرار بن الخطاب شاعر قريش أبياتاً يستعطف النبي (صلی الله علیه و آله) وأرسلوا امرأة فاعترضت طريقه وأنشدته إياها:

يا نبي الهدى إليك لجا *** حي قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر *** ض وعاداهم إلهُ السماء

والتقت حلقتا البطان على القوم *** ونودوا بالصيلم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الظهر *** بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغيظ *** رمانا بالنسر والعواء

وَغِرُ الصدر لا يهمُّ بشئ *** غير سفك الدما وسبي النساء

قد تلظى على البطاح وجاءت *** عنه هندٌ بالسوءة السواء

إذ ينادي بذل حي قريش *** وابن حرب بذا من الشهداء

فلئن أقحم اللواء ونادى *** يا حماة الأدبار أهل اللواء

ثم ثابت إليه من بهم الخز *** رج والأوس أنجم الهيجاء

لتكونن بالبطاح قريشٌ *** فقعة القاع في أكف الإماء

فانهينهُ فإنه أسد الأسد *** لدى الغاب والغ في الدماء

إنه مطرق يريد لنا الأمر *** سكوتاً كالحية الصماء

ص: 415

11- طاف النبي (صلی الله علیه و آله) بالبيت وحَطَّم الأصنام

دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة وعليه السلاح، ومكث في منزله ساعة من النهار حتى اطمأن الناس، فاغتسل ثم دعا براحلته القصواء فأُدنيت إلى باب قبته، وعاد فلبس السلاح والمغفر على رأسه، وركب راحلته وقد حفَّ الناس به والخيل تجول من الخندمة إلى الحجون. فلما انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون، تقدَّم على راحلته واستلم الركن بمحجنه «عصاه» وكبَّر فكبَّر المسلمون بتكبيره فارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يشير إليهم أن اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون! وطاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبيت، وأقبل على الحجر فاستلمه ونزل عن راحلته، فأخرجوها وأناخوها بالوادي، ثم انتهى إلى المقام فصلى ركعتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها فنزع له الحرث بن عبدالمطلب دلواً فشرب منه وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم، والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكاً قط أبلغ من هذا ولا سمعنا به!

وكان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً مرصعة بالرصاص، لكل حي من أحياء العرب صنم، وكان هبل أعظمها وهو وجاهَ الكعبة، وإساف ونايلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفاً من حصى فرماها وفي يده عود، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه ويطعن في عينه أو في بطنه ويقول: جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، فما يشير إلى صنم إلا سقط لوجهه من غير أن يمسه! فأمر بها فأخرجت من المسجد فطرحت فكسرت.

وعن علي (علیه السلام) قال: انطلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أتى بي الكعبة، فقال: أجلس فجلست بجنب الكعبة فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) على منكبي فقال: إنهض فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال: أجلس فجلست ثم قال: يا علي، إصعد على منكبي ففعلت، فلما نهض بي خُيل إلي لو شئت نلت أفق السماء! فصعدت فوق الكعبة وتنحى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: ألق صنمهم الأكبر، فألقى الأصنام ولم يبق إلا صنم خزاعة وكان من نحاس موتد بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عالجه: جَاء

ص: 416

الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً. فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه. فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): إقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت. ثم إن علياً (علیه السلام) أراد أن ينزل فألقى نفسه من صوب الميزاب تأدباً وشفقة على النبي (صلی الله علیه و آله)، ولما وقع على الأرض تبسم فسأله النبي (صلی الله علیه و آله) عن تبسمه؟ فقال لأني ألقيت نفسي من هذا المكان الرفيع وما أصابني ألم. قال: كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبريل؟! وقال بعض الشعراء، وقد نسبه القندوزي إلى الإمام الشافعي، ونسبه عطاء الله في الأربعين إلى حسان بن ثابت:

قيل لي قل في عليٍّ مدحاً *** ذكره يخمد ناراً مؤصده

قلت لا أقدم في مدح امرئ *** ضل ذو اللب إلى أن عبده

والنبي المصطفى قال لنا *** ليلة المعراج لما صعده

وضع الله بظهري يده *** فأحسَّ القلب أن قد برده

وعلي واضع أقدامه *** في محل وضع الله يده

وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوام لأبي سفیان بن حرب: يا أبا سفيان قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه أنعم. فقال أبوسفيان: دع عنك هذا ياابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان»! الصحيح: 22/190.

ودخل الكعبة ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس، وكبر في زواياها وأرجائها وحمد الله تعالى.وروي أنه صلى ركعتين.الصحيح: 22/235.

12- جبرئيل يفضح زعماء قريش

عن سعيد بن المسيب قال: لما دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبوسفيان لهند: أترين هذا من الله؟ قالت: نعم، هذا من الله. قال: ثم أصبح فغدا أبوسفيان إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قلت لهند: أترين هذا من الله؟! قالت: نعم

ص: 417

هذا من الله. فقال أبوسفيان: أشهد أنك عبدالله ورسوله، والذي يُحلَف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله عزوجل وهند! فقال أبوسفيان في نفسه: أفشت عليَّ هند سري لأفعلن بها ولأفعلن! فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من طوافه لحق بأبي سفیان فقال: يا أبا سفيان، لا تكلم هنداً فإنها لم تفش من سرك شيئاً. فقال أبوسفيان: أشهد أنك رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

ورأى أبوسفيان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمشي والناس يطؤون عقبه، فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال وجمعت له جمعاً؟ فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى ضرب بيده في صدره فقال: إذن يخزيك الله! فقال: أتوب إلى الله تعالى وأستغفر الله مما تفوهت به، ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك!

وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبوسفيان جالس في المسجد، فقال أبوسفيان في نفسه: ما أدري بما يغلبنا محمد؟ فأتاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضرب صدره وقال: بالله تعالى نغلبك! فقال أبوسفيان: أشهد أنك رسول الله!الصحيح: 22/321.

وزعم فضالة بن عمير أنه أراد اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يطوف فعرف ذلك النبي ووضع يده على صدر فضالة فتاب وأسلم. قال: «والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق شئ أحب إليَّ منه»!الصحيح: 22/190.

وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بلالاً وقت الظهر أن يصعد على سطح الكعبة ويطلق الأذان، فتنغص عيش أبي سفیان ورفقائه الذين«أسلموا»!«فقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم! وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم!

وقال الحارث بن هشام: واثكلاه ليتني متُّ قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة!وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بُنَيَّة «الكعبة» أبي طلحة!

وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطاً لله فسيغيره الله! وقال أبوسفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاة!

فأتى جبريل (علیه السلام) رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره، فأقبل حتى وقف عليهم فقال:

ص: 418

أما أنت يا فلان فقلت كذا، وأما أنت يا فلان فقلت كذا، وأما أنت يا فلان فقلت كذا! فقال أبوسفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً! فضحك رسول الله»! «أخبار مكة: 1/142» وفي أسباب النزول للواحدي/264: «وقال أبوسفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء»! وفي تاريخ أبي الفداء: 1/181: «فقالت بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة»!

13- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة وإعلانه العفو عن الطلقاء

في الكافي: 4/225، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة يوم افتتحها، فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست، فأخذ بعضادتي الباب فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نظن خيراً و نقول خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا الإذخر».

ويظهر أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر بإحضار فراعنة قريش وشخصياتها إلى المسجد.

قال في إعلام الورى: 1/225 ومجمع البيان: 10/472، ملخصاً: «ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لايرفع عنهم، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده.. ألا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن مكة محرمة بتحريم الله، لم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة.. ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم،

ص: 419

وأخرجتم وفللتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء. فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وكأن الله أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئاً، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء!

وكان فتح مكة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا».

وفي مجمع البيان: «وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسلم، وقال:

يا رسول الإله إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بورُ

إذ أباري الشيطان في سنن الغي *** ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي *** ثم نفسي الشهيد أنت النذير».

14- الذين هدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمهم

عدهم صاحب الصحيح من السيرة: 23/9 اثنين وعشرين شخصاً، ثم بحث أسباب هدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمهم فقال ما خلاصته: «يتساءل البعض عن التوفيق بين احترام الكعبة وتعظيمها واعتبار مكة بلداً آمناً، وبين أمره (صلی الله علیه و آله) بقتل أفراد هذه الجماعة حتى لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة! والجواب: أن الأمر بقتل هؤلاء الناس هو من مفردات تعظيم الكعبة وحفظ حرمة الحرم، لأنهم بشركهم وبصدهم عن سبيل الله وسعيهم في الأرض فساداً، وجدهم واجتهادهم لإبطال دين الله، وقتل الأنبياء والمؤمنين من أجل نصرة الباطل، يمثلون الرجس والقاذورات التي لا بد من تطهير بيت الله وحرمه منها، فقتْلهم حتى لو كانوامتعلقين بأستار الكعبة تكريمٌ للكعبة وتكريسٌ لمعنى الطهر والقداسة فيها.

1 - عكرمة بن أبي جهل: كان هو وأبوه أشد الناس أذية للنبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين. ولما بلغه أن النبي (صلی الله علیه و آله) أهدر دمه فرّ إلى اليمن، فقالت امرأته أم حكيم لرسول الله: يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله، فأمِّنه يا رسول الله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو آمن. فخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي فراودها

ص: 420

عن نفسها، فجعلت تمنِّيه حتى قدمت به على حي من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى البحر فركب سفينة وجعلت تليح إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك. فرجع وأسلم. وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لا تسبوا أباجهل، ولا يصح ذلك. وقد عظموا عكرمة حتى ادَّعوا أنه (صلی الله علیه و آله) رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً فأعجبه وقال: لمن هذا؟ فقيل: لأبي جهل! وأنه حين أسلم قام إليه النبي (صلی الله علیه و آله) واعتنقه، وقال: مرحباً بالراكب المهاجر.

وكان عكرمة من المحرضين على حرب أحُد، وكان على ميسرة المشركين وخالد بن الوليد على ميمنتهم، وقد عبر الخندق يوم الأحزاب مع عمرو بن عبد ود، وضرار بن الخطاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبدالله. وفي بدر قتل من المسلمين رافع بن المعلى الزرقي، وضرب معاذ بن عمرو بن الجموح على عاتقه فطرح يده حين رآه قتل أباه أباجهل.

وكان من المناوئين لأميرالمؤمنين (علیه السلام)، ولعل هذا هو السبب في إغداقهم الأوسمة عليه ونسجهم له الكرامات.

2- صفوان بن أمية: هرب مع عبد له إسمه يسار إلى جدة، ليذهب إلى اليمن فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومي وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه صلى الله عليك. قال: هو آمن. فقال: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فخرج عمير حتى أدركه فقال: يا أبا وهب جعلت فداك، جئت من عند أبر الناس، وأوصل الناس، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد جئتك به. قال: ويحك أُغرب عني فلا تكلمني إني أخافه على نفسي! قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. قال: ولا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فرجع معه صفوان حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فلما سلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) صاح صفوان: يا محمد إن عمير بن وهب جاءني ببردك

ص: 421

وزعم: أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً وإلا سيَّرتني شهرين. فقال: إنزل أبا وهب. قال: لا والله حتى تبين لي. قال: بل لك تسيير أربعة أشهر. فنزل صفوان. ولما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى هوازن أرسل إليه يستعير سلاحه، فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها، فقال: طوعاً أو كرهاً؟. قال (صلی الله علیه و آله): عارية مؤداة فأعاره فأمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحملها إلى حنين، فشهد حنيناً والطائف، ثم رجع إلى الجعرانة، فبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسير في الغنائم ينظر إليها، وفرق غنائمها فرأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعماً وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يرمقه، فقال: يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقبض صفوان ما في الشعب، وقال عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. وأسلم مكانه!

ومع هذاتجدهم يعظمون أمثال صفوان ويعتقدون عدالته! فما أعجب أمرهم!

3 - عبدالعزى بن خطل: أهدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمه وكان أسلم فسماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدالله وهاجر إلى المدينة، وبعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ساعياً وبعث معه رجلاً وكان يصنع له طعامه ويخدمه، فعدى عليه فضربه فقتله وارتد عن الإسلام، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة، وقال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم!

وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله (صلی الله علیه و آله). وكانت له قينتان فاسقتان يأمرهما أن تغنيا بهجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولما دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ذي طوى أقبل ابن خطل من أعلى مكة مدججاً بالحديد على فرس وبيده قناة، فمر ببنات سعيد بن العاص فقال لهن: أما والله لا يدخلها محمد حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد.

ثم رأى خيل الله فدخله رعب فنزل عن فرسه وطرح سلاحه وأتى البيت فدخل تحت أستاره. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أقتلوه، إن الكعبة لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة.

4 - عبدالله بن سعد بن أبي سرح: وإنما أمر بقتله لأنه كان أسلم قبل الفتح، وكان

ص: 422

يكتب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الوحي وكان إذا أملى عليه: سميعاً بصيراً، كتب عليماً حكيماً! وإذا أملى عليه: عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً! وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال: إن محمداً لا يعلم ما يقول! فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة وقال: إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ! وعندما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) مكة لجأ ابن سرح إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له: يا أخي استأمن لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يضرب عنقي! فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا فاستأمن له وأتى به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأعرض عنه النبي (صلی الله علیه و آله) فصار عثمان يقول: يا رسول الله أمنته والنبي (صلی الله علیه و آله) يعرض عنه! ثم قال: نعم، فبسط يده فبايعه، فلما خرج عثمان وعبدالله قال (صلی الله علیه و آله) لمن حوله: أعرضت عنه مراراً، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه!

فقال عباد بن بشر: يا رسول الله خفتك، أفلا أومضتَ إليّ أي أومأت؟ فقال (صلی الله علیه و آله): إنه ليس لنبي أن يومض.إن النبي لاينبغي أن يكون له خائنة الأعين.

وعندما صار عثمان خليفة ولاه على مصر! وشكاه المصريون إلى عثمان فقَتَل بعض من اشتكوا عليه فكان ذلك من أسباب خروج المصريين على عثمان حتى قتل! وذكر عكرمة والحسن البصري أن الذين توسطوا لابن أبي سرح هم: أبو بكر وعمر وعثمان.

5 - عبدالله بن الزبعرى: كان شاعراً يهجو النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين ويحرض عليهم كفار قريش، وهو الذي تمثَّل يزيد بأبياته لما جئ له برأس الحسين (علیه السلام) فأخذ ينكت ثنايا الإمام (علیه السلام) بقضيب في يده. وهو الذي ألقى الفرث والدم على النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي ثم جاء أبوطالب وسل سيفه، فأمرَّ ذلك الفرث على لحاهم وشواربهم! ويوم الفتح سمع أن النبي (صلی الله علیه و آله) أهدر دمه فهرب إلى نجران وسكنها فأرسل اليه حسان بن ثابت بأبيات فجاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، الحمدالله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبت عليك، وقال:

ص: 423

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي *** ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي *** ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجر ثم حيا *** من لؤي وكلهم مغرور

وقال أيضاً حين أسلم:

منع الرقاد بلابل وهموم *** والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني *** فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها *** عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي *** أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة *** سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني *** أمر الوشاة وأمرهم مشؤم

فاليوم آمن بالنبي محمد *** قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة فانقضت أسبابها *** ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والداي كلاهما *** زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة *** نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه *** شرفاً وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق *** حق وأنك في العباد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى *** مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم *** فرع تمكن في الذرى وأروم

6 - الحويرث بن نقيد كان يؤذي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونخس بزينب بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما هاجرت إلى المدينة فرمى بها عن بعيرها، فأهدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمه فخرج في مكة يوم الفتح يريد أن يهرب فتلقاه علي (علیه السلام) فضرب عنقه.

ص: 424

7 - هبار بن الأسود: كان شديد الأذى للمسلمين، وتعرض لزينب بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما هاجرت فنخس بها أو ضربها بالرمح، فسقطت عن راحلتها فأسقطت ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت! فلما كان يوم الفتح وبلغه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهدر دمه أعلن بالإسلام فقبله منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعفا عنه. وزعموا: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: إن لقيتم هباراً هذا فأحرقوه، ولا يصح قولهم.

ونقول: إذا كان (صلی الله علیه و آله) قد أهدر دم هبار بن الأسود والحويرث بن نقيد لأنهما روَّعا زينب وأوقعاها عن الراحلة إلى الأرض، فماذا سيكون موقفه (صلی الله علیه و آله) ممن ضرب فاطمة (علیها السلام) وأسقط جنينها وكسر ضلعها وتسبب لها بعلَّتها التي ماتت منها فكانت صدِّيقة شهيدة؟!

8 - الحارث بن هشام: أخو أبي جهل لأبويه. وقد أسلم بعد ذلك.

9 - زهير بن أمية: وكان قد استجار بأم هاني وأراد علي (علیه السلام) قتله فأمضى النبي (صلی الله علیه و آله) جوارها وأسلم بعد ذلك.

10 - عبدالله بن ربيعة: ذكره الأزرقي بدل زهير بن أمية.

11 - زهير بن أبي سلمى الشاعر.

12 - مقيس بن صبابة: كان أسلم ثم أتى على رجل من الأنصار فقتله وارتد، فقتله نميلة بن عبدالله بحكم النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الفتح.

13- الحويرث بن الطلاطل الخزاعي: كان يؤذي النبي (صلی الله علیه و آله)، قتله علي (علیه السلام).

14 - كعب بن زهير: وهو الشاعر الذي كان يهجو رسول الله وجاء بعد ذلك فأسلم، ومدحه بقصيدة: بانت سعاد.

15 - وحشي بن حرب: قاتل حمزة في حرب أحُد، وقد هرب في فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهلها جاء مع وفدهم فقال له (صلی الله علیه و آله): غيب عني وجهك!

16- هبيرة بن أبي وهب: زوج أم هاني يقال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) أهدر أيضاً دمه.

17 - سارة: مولاة عمرو بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبدمناف، وكانت مغنية نواحّة بمكة تغني بهجاء النبي (صلی الله علیه و آله) وقالوا: استؤمن لها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمنها،

ص: 425

فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب.

18 - أرنب مولاة ابن خطل.

19 - فرتنى: أو قرينا.

20- قريبة ويقال: هي أرنب السابقة. وهما قينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء النبي (صلی الله علیه و آله) فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى، قتلها علي (علیه السلام).

21 - أم سعد: قتلت فيما ذكره ابن إسحاق، ويحتمل أن تكون هي أرنب.

22 - هند بنت عتبة: وهي التي لاكت كبد حمزة بن عبدالمطلب (علیه السلام). أتت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بالأبطح فأسلمت وقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به. ثم كشفت عن نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مرحباً بك. وقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليَّ حرج أن أطعم من ماله عيالنا؟ فقال: لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف.

15- علي (علیه السلام) ينفذ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فتعترضه أخته أم هاني!

قال في إعلام الورى: 1/223: «عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، سوى نفر كانوا يؤذون النبي (صلی الله علیه و آله) منهم: مقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعبدالله بن خطل، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله. وقتل مقيس بن صبابة في السوق. وقتل علي (علیه السلام) إحدى القينتين وأفلتت الأخرى، وقتل (علیه السلام) أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب. وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادى: أخرجوا من آويتم! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه «اطائر كبير السلحة!» فخرجت إليه أم هاني وهي لاتعرفه فقالت: يا عبدالله، أنا أم

ص: 426

هاني بنت عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخت علي بن أبي طالب، إنصرف عن داري. فقال علي (علیه السلام): أخرجوهم! فقالت: والله لأشكونك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت: فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال لها: فاذهبي فبري قسمك، فإنه بأعلى الوادي. قالت أم هاني: فجئت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في قبة يغتسل وفاطمة (علیها السلام) تستره، فلما سمع رسول الله كلامي قال: مرحباً بك يا أم هاني. قلت: بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم! فقال (صلی الله علیه و آله): قد أجرتُ من أجرتِ! فقالت فاطمة (علیها السلام): إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله! فقلت: إحتمليني فديتك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد شكر الله لعلي سعيه، وأجرت من أجارت أم هانئ لمكانها من علي بن أبي طالب»!

«وروت مصادرهم مجئ أم هاني إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وعفوه عن المخزوميين الذين أجارتهم، واتفقوا على أن علياً (علیه السلام) لم يدخل البيت، مع أنه يحمل أمراً قضائياً من النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن أم هاني لم تخرجهم بل أغلقت الغرفة عليهم، وذهبت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) تشتكي علياً (علیه السلام) ! وروي أن أم هاني أمسكت بساعد علي (علیه السلام) لتمنعه من دخول دارها، فكشف قناعه فعرفته، وأن ذلك أعجب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: لله در أبي طالب! لو ولد الناس كلهم كانوا شجعاناً».كشف الغمة: 2/235.

كما رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يدخل بيت أحد في مكة إلا بيت أم هاني!

ففي مجمع الزوائد: 6/175: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أم هانئ بنت أبي طالب يوم الفتح وكان جائعاً.وقال هل عندك من طعام نأكله؟ فقالت: ليس عندي إلا كسر يابسة، وإني لأستحي أن أقدمها إليك! فقال: هلمي بهن فكسرهن في ماء وجاءت بملح فقال: هل من إدام؟ فقالت ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل. فقال: هلميه فصبيه على الطعام فأكل منه ثم حمد الله، ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل». وذخائر العقبى/223 والطبراني الصغير: 2/67.

ص: 427

16- النبي (صلی الله علیه و آله) ينصب حاكماً لمكة

كان على زعماء قريش أن يتفهموا الوضع الجديد، فقد داهم النبي (صلی الله علیه و آله) مكة بألوف من جنود الله تعالى وأجبرهم على الإستسلام وخلع سلاحهم، وبذلك صاروا أسرى حرب في يده، وكان من حقه أن يضرب أعناقهم ويغنم أموالهم، لكنه منَّ عليهم وأطلقهم! فكان عليهم أن يشكروه ويقبلوا بالحاكم الذي ينصبه لمكة. لكنهم لم يفعلوا!وفي الأيام الأولى لدخوله مكة عين النبي (صلی الله علیه و آله) حاكماً هو الشاب الأموي عَتَّاب بن أسَيْد، وجعل معه أنصارياً يساعده هو معاذ بن جبل، وجعل عتاباً نائبه في الصلاة.

ففي المسترشد/129: «استخلف عتاب ابن أسيد على مكة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مقيم بالأبطح، وأمره أن يصلي بالناس بمكة الظهر والعصر والعشاء الآخرة، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي بهم الفجر والمغرب».

وفي إعلام الورى: 1/243: «استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، وحج بالناس في تلك السنة وهي سنة ثمان عتاب بن أسيد.ثم كانت غزوة تبوك.وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة يستنفرهم لغزو الروم».

وفي المغني: 4/372: «واستخلف النبي عتاب بن أسيد على مكة، والياً وقاضياً».

وفي الدرر/236و237: «واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص، وهو ابن نيف وعشرين سنة.. وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وحج المشركون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيراً فاضلاً ورعاً».

وقال ابن هشام: 4/891: «استعمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة، أميراً على من تخلف عنه من الناس، ثم مضى رسول الله على وجهه يريد لقاء هوازن».

17- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) سرايا إلى المناطق القريبة من مكة

في إعلام الورى: 1/227: «وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) السرايا فيما حول مكة يدعون إلى الله عزوجل، ولم يأمرهم بقتال، فبعث غالب بن عبدالله إلى بني مدلج فقالوا: لسنا عليك

ص: 428

ولسنا معك، فقال الناس: أغزهم يا رسول الله، فقال: إن لهم سيدا أديباً أريباً، ورب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله.

وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل فدعاهم إلى الله ورسوله، فأبوا أشد الإباء فقال الناس: أغزهم يا رسول الله، فقال: أتاكم الآن سيدهم قد أسلم فيقول لهم: أسلموا، فيقولون: نعم. وبعث عبدالله بن سهيل بن عمرو إلى بني محارب بن فهر، فأسلموا وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

18- بعث خالد بن الوليد في سرية فغدر بهم

اشارة

في إعلام الورى: 1/228: «بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة وقتلوا عم خالد، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا: يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ونحن مسلمون فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها، فقال: ضعوا السلاح، قالوا: إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله. فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً ثم شن عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً ثم قال: ليقتل كل رجل منكم أسيره فقتلوا الأسرى!

وجاء رسولهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع (علیه السلام) يده إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، وبكى! ثم دعا علياً (علیه السلام) فقال: أخرج إليهم وانظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب، ففعل ما أمره وأرضاهم».

وفي أمالي الصدوق/237: «عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة، وكان بينهم وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذوا منه كتاباً، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادی بالصلاة فصلى وصلوا فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي (صلی الله علیه و آله) وحدثوه بما صنع

ص: 429

خالد بن الوليد، فاستقبل القبلة ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! قال: ثم قدم على رسول الله تبر ومتاع، فقال لعلي (علیه السلام): يا علي إئت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد. ثم رفع (صلی الله علیه و آله) قدميه فقال: يا علي، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك! فأتاهم علي (علیه السلام) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي أخبرني بما صنعت، فقال: يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي أعطيتهم ليرضوا عني، رضی الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

وفي أمالي الطوسي/498: «فأدى إليهم ديات رجالهم، وما ذهب لهم من أموالهم، وبقي معه من المال زعبة فقال لهم: هل تفقدون شيئاً من أموالكم وأمتعتكم؟ فقالوا: ما نفقد شيئاً إلا ميلغة كلابنا فدفع إليهم ما بقي من المال فقال هذا لميلغة كلابكم وما أنسيتم من متاعكم. وأقبل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ما صنعت؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أرضيتني رضی الله عنك يا علي أنت هادي أمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة».

أقول: روته مصادرهم وحذفوا منه مدح النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) ! وتجاهلوا براءة النبي (صلی الله علیه و آله) من فعل خالد، وحاولوا تبرير فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بني جذيمة فأسرهم وقتلهم! وتجرأ بعض المتأخرين وهو العقاد في كتابه عبقرية عمر، فأدان خالداً قال: «بعث رسول الله خالداً إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال وأمره ألا يقاتل أحداً إن رأى مسجداً أو سمع أذاناً. ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم واستسلموا فأمر بهم خالد فكتفوا! ثم عرضهم السيف فقتل منهم وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله وأخبره وشكاه إليه».النص والإجتهاد/460.

ص: 430

قتل خالد عاشقاً غريباً ولم يرحمه

وروى ابن حجر في فتح الباري: 8/46 حالة مؤثرة من مجزرة خالد في بني جذيمة! قال: «وذكر ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال: كنت في خيل خالد، فقال لي فتى من بني جذيمة قد جمعت يداه في عنقه برمَّة «حبل»: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة؟ فقلت: نعم، فقدته، ثم ضربتُ عنق الفتى فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت!

وقد روى النسائي والبيهقي في الدلائل بسند صحيح من حديث ابن عباس نحو هذه القصة، وقال فيها: فقال إني لست منهم إني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة! فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت!فذكروا ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أما كان فيكم رجل رحيم»!

ونقل ابن هشام: 4/883 قول عبدالرحمن بن عوف لخالد: كذبت ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة!

وروى الطبري: 2/342 حوار العاشِقَيْن شعراً، وقال: «قامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده»!

19- قريش تعزل أبا سفيان وتنصب بدله سهيل بن عمرو

اعتبر زعماء قريش أن أبا سفيان خانهم فوافق على استسلام قريش وخلع سلاحها بدون شروط لمصلحتها، ومال إلى محمد (صلی الله علیه و آله) تعصباً للمنافية أي لجدهم المشترك عبدمناف! وإنه يطمع بمناصب لبني أمية في دولة محمد (صلی الله علیه و آله)، وهاهو محمد ينصب حاكماً أموياً على مكة، مجازاة لأبي سفیان!

وكانوا معجبين بسهيل بن عمرو الذي انتزع من محمد في الحديبية شروطاً لمصلحتهم، لذلك قاموابعزل أبي سفیان عن قيادة قريش، ونصبوا سهيل بن عمرو، ونشطوا في دعمه والإلتفاف حوله!

وقد كتبنا في آيات الغدير/138، أن سهيلاً تصرف بعد فتح مكة وكأن شيئاً لم

ص: 431

يحدث وتجاهل حاكم مكة الذي نصبه النبي (صلی الله علیه و آله) ! وكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مطالباً بأناس جاؤوا من مكة اليه ليتفقهوا في الدين، وجاء إلى المدينة مطالباً بهم، ونزل عند أبي بكر وعمر، فذهبا معه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأيدا مطلبه! يقول بذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) هؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، فإن كانت حجتهم التفقه فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم إلينا!

ومعنى ذلك أن قريشاً بقيت على كبريائها ولم تعترف بالحاكم الشرعي لمكة، وتريد منه الإعتراف بأنها وجود سياسي في مقابله!

روى الحاكم في المستدرك: 2/138: «عن ربعي بن حراش عن علي قال: لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لَحِقَ بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا! فشاور أبابكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله! فقال لعمر: ماترى؟ فقال مثل قول أبي بكر. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين! فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».

ورواه الحاكم: 4/298، وصححه بشرط مسلم وفيه: «لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة أتاه أناس من قريش.. يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين، ثم قال: أنا أو خاصف النعل، قال علي: وأنا أخصف نعل رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

لقد جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف باستقلالهم، وهي وقاحة ما فوقها وقاحة! وقالوا له «يا محمد» كما رواه الحاكم وأبو داود: 1/611! لكن الترمذي جعلها:«يا رسول الله»! وحاول بعض علماء قريش أن يجعل الحديث قبل فتح مكة، لكن نصوصه ذكرت أن النبي (صلی الله علیه و آله) غضب من طلبهم وهو لايغضب إلا بحق! فلو كان طلبهم قبل نقضهم العهد وفتح مكة لكان حقاً لهم لايوجب الغضب! ومما يؤكد

ص: 432

أنه بعد فتح مكة أنه (صلی الله علیه و آله) قال: «يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة» ولايمكن أن يطالبهم بالصلاة قبل فتح مكة! وقول سهيل«سنفقههم»وهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الإسلام! مضافاً إلى أن رواية الحاكم وغيرها صرحت بأنه بعد فتح مكة.

ونلاحظ أن سهيل بن عمر ومن أيده اعتبروا أن فتح مكة«ودخولهم»في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي (صلی الله علیه و آله) وذوبانهم في الأمة الإسلامية، بل هو تحالف الند للند مع النبي (صلی الله علیه و آله) ! فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل! ويعيد لهم الفارين إليه من أبنائهم وعبيدهم! والعنصر الجديد في الأمر أن أبابكر وعمر أيدا مطلبهم! فقال أبو بكر: «صدقوا يا رسول الله! وقال عمر مثل قوله: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم»! الحاكم: 3 /122، الزوائد: 9 /134 و 5 /186 وصححه.

وجاء الرد النبوي غاضباً حاسماً، فأعلن يأسه من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها إلا بقوة السيف! ففي عدد من روايات الحادثة كالحاكم: 2/125: «فقال: ما أراكم تنتهون يامعشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا» أي على الإسلام! وأبو داود: 1/611، البيهقي: 9/229 وكنز العمال: 10/473!

وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ولن يسلموا إلا تحت سيف علي الذي ترتعد منه فرائصهم، فهذا هو الدواء الوحيد لفراعنة قريش!

وفي تلك الفترة أكمل النبي (صلی الله علیه و آله) تهديده«لمسلمة»الفتح بأن أمر علياً (علیه السلام) أن يعلن الحرب عليهم إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) !

فقد روى في مجمع الزوائد: 9/134: «عن ابن عباس: إن علياً كان يقول في حياة رسول الله: إن الله عزوجل يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم! والله لاننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل (صلی الله علیه و آله) لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت! لا والله، إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني؟!».

وأشد ما في موقف النبي (صلی الله علیه و آله) حكمه بكفرهم! ولعمري إن مجرد طلبهم كاف

ص: 433

لإثبات كفرهم! ثم إنه (صلی الله علیه و آله) أبى أن يرد عليهم أولادهم وعبيدهم المملوكين، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى، ومعناه أنه اعتبرهم من أموال الكفار التي أحلها له الله تعالى! ولو كان الطلقاء مسلمين وكانت ملكيتهم محترمة لم يجز للنبي (صلی الله علیه و آله) أن يعتق عبيدهم، فهو أتقى الأتقياء (صلی الله علیه و آله) وهو القائل: لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه!

وهكذا دخلت قريش بعد فتح مكة معركة «استقلال مكة» مع النبي (صلی الله علیه و آله) والحاكم الذي نصبه عليهم، وحاول عتاب أن يلزمهم بالصلاة والزكاة وهم يتملصون، ولايعرفون حاكماً لهم إلا سهيل بن عمرو!

ففي السيرة الحلبية: 3/59: «فكان شديداً على المريب ليناً على المؤمن وقال: والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق! فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد، أعرابياً جافياً! فقال (صلی الله علیه و آله): إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم.

ولما ولاه على مكة جعل له في كل يوم درهماً. ويروی أنه قام فخطب الناس فقال: أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم أي له درهم، فقد رزقني رسول الله درهماً في كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد». وبعضه ابن هشام: 4/936.

وبقي عتَّاب والياً على مكة والطائف من قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمره أن يحج بالناس في تلك السنة لكن القرشيين لم يحجوا معه!

قال اليعقوبي: 2/76: «فوقف عتاب بالمسلمين، ووقف المشركون على حدتهم».

وتواصلت مؤامرتهم على عتاب، وكانت أول أعمالهم لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) وإبعاد عترته (علیهم السلام)! فقد كانت قريش تعتبر عتاباً من«عُبَّاد محمد»الذين يريدون فرض عترته بعده! وقد جاءتهم الفرصة لقتله عندما جاءهم خبر وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) فشاع في مكة أن قريشاً ارتدت عن الإسلام، وخاف منهم عتَّاب فاختبأ، مع أنه مكيٌّ قرشي أموي!وعندما وصلهم خبر يطمئنهم بعزل بني هاشم وبيعة أبي بكر اطمأن سهيل بن

ص: 434

عمرو وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، وقال كلمتهم المشهورة: من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسول بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا. وأصدر سهيل أمره إلى عتاب الحاكم: أخرج من مخبئك واحكم مكة، لكن ليس باسم رسول الله، بل باسم الزعيم القرشي أبي بكر بن أبي قحافة»!

قال ابن هشام: 4/1079: «حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى! فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله، وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد»!

ومن الواضح أن عتاباً بقي حاكماً إسمياً لأن أبابكر لم يرد عزل ولاة النبي (صلی الله علیه و آله) حتى لايقال نصبهم النبي (صلی الله علیه و آله) وعزلهم أبو بكر! أما الحاكم الحقيقي لمكة فكان سهيل بن عمرو! ولم يطل الأمر بعتاب حتى قتلوه! فهو أحد من يجب تصفيتهم لتصل الخلافة إلى عمر! قال الطبري: 2/611: «ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وكانا سُمَّا جميعاً «في المدينة»

ثم مات عتاب بمكة»!

قتلوه بالسم في ريعان شبابه (رحمة الله)، لأنه كان متمسكاً بالنص النبوي، موالياً لعترة النبي (صلی الله علیه و آله)، ولم يكن كأبي سفیان عارضهم حتى وصل اليه سهم فدعا لأبي بكر!

قال الطبري: 2/449:«لما استخلف أبو بكر قال أبوسفيان: ما لنا ولأبي فصيل؟! إنما هي بنو عبدمناف! قال فقيل له: إنه قد ولَّى ابنك! قال:

وصلته رحم»!

ص: 435

الفصل الثالث والستون: غزوة حنين والطائف

1- أسباب غزوة فتح مكة وغزوة حنين والطائف

قد يصنع أحداث التاريخ أشخاص بدون أن يقصدوا، ولله في خلقه شؤون! ومن أولئك «بنو نفاثة» وهم عائلة صغيرة شريرة من كنانة، عُرفت بأنها تسرق أمتعة الحجاج في حرم الله تعالى، وكان لها ثأر عند خزاعة، فأرادت الهجوم عليهم وأقنعت بذلك رؤساء كنانة، فطلبوا من قريش أن تمدهم بالسلاح وبمقاتلين ليباغتوا خزاعة، ويقتلوا منهم أكبر عدد ممكن! ففعلت قريش ذلك وهي تعلم أن ذلك نقض لعهدها مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية! فقدمت بذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) مبرراً لفتح مكة، فأخضعها وأجبرها على خلع سلاحها!

وشبيهاً بذلك فعلت هوازن في غزوة حنين، وثقيف في الطائف!

فقد فكر رئيس هوازن مالك بن عوف أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد سيطرته على قبائل الجزيرة وانتصاره على اليهود وإجلائهم، سيهاجم قبائل نجد لإخضاعها، فبادر إلى تحشيد القبائل لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يحاربه!وقبض النبي (صلی الله علیه و آله) في طريقه إلى فتح مكة على عين لهوازن أقر بأنهم يجمعون لحربه، فأمر بحبسه حتى لايخبروهم بحركة النبي (صلی الله علیه و آله) !» الصحيح من السيرة: 21/215.

وبعث اليهم النبي (صلی الله علیه و آله) «عبدالله بن أبي حدرد عيناً، فسمع ابن عوف يقول: يا معشر هوازن إنكم أحدُّ العرب وأعدُّها، وإن هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم «أغلفتها» واحملوا عليه حملة رجل واحد. فأتى ابن

أبي حدرد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره».إعلام الورى:1/228.

ص: 436

وأكملت هوازن تحشيد قواتها واتخذت مركز معسكرها وادي أوطاس، وهو شمال شرق مكة، على بعد بضعة وعشرين كیلومتراً من حنين، قرب الضربية «ذات عرق» ميقات أهل العراق. ثم اتفقوا مع ثقيف على حرب النبي (صلی الله علیه و آله) فقدموا مركز معسكرهم إلى وادي حنين بين الطائف ومكة، ويعرف اليوم بالشرائع.

تقدمت نخبة قوات هوازن وثقيف وعسكرت في حنين، وهددت المسلمين وأهل مكة، فعطلت الحج في تلك السنة، فقصدهم النبي (صلی الله علیه و آله) وكانت المعركة فانهزم الثقفيون إلى الطائف، وهي تبعد نحو تسعين كیلومتراً عن مكة، وترتفع عن سطح البحر نحو1300متراً. ثم انهزمت قبائل هوازن إلى أوطاس القريبة.

2- أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً معه إلى حرب هوازن

في مناقب آل أبي طالب: 1/180: «فات الحج من فساد هوازن في وادي حنين! فخرج (صلی الله علیه و آله) في ألفين من مكة، وعشرة آلاف كانوا معه».

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعلن موعد تجمع جيشه في منى، في مكان مؤتمر قريش وكنانة لمقاطعة بني هاشم! قال (صلی الله علیه و آله): «منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»!«صحيح بخاري: 5/92». وفي ذلك تخليدٌ للمكان، وتذكير لقريش بجرائمها بحق الإسلام وبني هاشم! وقد بقي (صلی الله علیه و آله) في مكة أسبوعين، وكان خروجه إلى حنين يوم السبت السادس من شوال، ووصلها يوم الثلاثاء التاسع من شوال.الصحيح من السيرة:24/53.

وفي إعلام الورى: 1/228: «فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ألفين من مكة وعشرة آلاف كانوا معه فقال أحد أصحابه «هو أبو بكر» الصحيح/24/106: لن نغلب اليوم من قلة! فشق ذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ...

ص: 437

3- دريد بن الصمة ينصح هوازن فلا يقبلون!

في إعلام الورى: 1/229: «قال الصادق (علیه السلام): وكان مع هوازن دُرَيْد بن الصُّمَّة خرجوا به شيخاً كبيراً يتيمنون برأيه، فلما نزلوا بأوطاس قال: نِعْمَ مجالُ الخيل لاحَزَنٌ ضِرْسٌ ولاسهلٌ دَهْس، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم. قال: فأين مالك؟ فدعي مالك له فأتاه فقال: يا مالك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: ويحك لم تصنع شيئاً، قدمت بيضة هوازن في نحور الخيل، وهل يرد وجه المنهزم شئ؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! قال: إنك قد كبرت وكبر عقلك! فقال دريد: إن كنت قد كبرت فتورث غداً قومك ذلاً بتقصير رأيك وعقلك، هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه! ثم قال: حربٌ عَوَان! يا ليتني فيها جذع أخبُّ فيها وأضع»!

وفي سيرة ابن هشام: 4/290، أن ابن عوف قال لقبائل نجد: «والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكرٌ أو رأي، فقالوا: أطعناك»!

وقد روي أن دُريد بن الصُّمَّة كان عمره مئتي سنة، وكان أعمى يحملونه في محفة، وكان أسطورة في حروب العرب، وقد تركوا رأيه لأنه خالف مالك بن عوف! وعندما انهزمت هوازن ورجعت فلولهم إلى أوطاس كان دريد هناك، فلحقهم المسلمون وقتلوه فيمن قتلوا من هوازن، بينما سلم مالك بن عوف وعفا عنه النبي (صلی الله علیه و آله) وأعطاه أهله وماله ومئة بعير.

ص: 438

4- أدلة تآمر طلقاء قريش مع هوازن على النبي (صلی الله علیه و آله)

1. ورد في وصف الهزيمة: «تفسير القمي: 2/286»: «فلما صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الغداة انحدر في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد وكانت بنو سليم على مقدمة فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية فانهزمت بنو سليم، وانهزم من ورائهم ولم يبق أحد إلا انهزم!وبقي أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقاتلهم في نفر قليل، ومر المنهزمون برسول الله (صلی الله علیه و آله) لايلوون على شئ، وكان العباس آخذٌ بلجام بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن يمينه وأبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب عن يساره، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينادي يا معشر الأنصار إلى أين المفر؟ ألا أنا رسول الله، فلم يلو أحد عليه! وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن الله وعن رسوله؟ ومر بها عمر فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر الله! فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه، فقال يا عباس إصعد هذا الظرب وناد يا أصحاب البقرة! ويا أصحاب الشجرة! إلى أين تفرون هذا رسول الله! ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده فقال: اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان، فنزل جبرئيل (علیه السلام) عليه فقال له: يارسول الله دعوت بما دعا به موسى حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون»!

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي سفیان بن الحارث: ناولني كفاً من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين، ثم قال: شاهت الوجوه! ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد!

وفي إعلام الورى: 1/229: «قال جابر بن عبدالله: فسرنا حتى إذا استقبلنا وادي حنين كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه، فما راعنا إلا كتائب الرجال بأيديها السيوف والعمد والقنا، فشدوا علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس راجعين لايلوي أحد على أحد! وأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات اليمين، وأحدق ببغلته تسعة من بني عبدالمطلب.

ص: 439

وأقبل مالك بن عوف يقول: أروني محمداً، فأروه، فحمل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان رجلاً أهوج، فلقيه رجل من المسلمين فالتقيا فقتله مالك، وقيل إنه أيمن بن أم أيمن، ثم أقدم فرسه فأبى أن يقدم نحو رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

وصاح كلدة بن حنبل وهو أخو صفوان بن أمية لأمه وصفوان يومئذ مشرك: ألا بطل السحر اليوم! فقال صفوان: أسكت فض الله فاك، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن»!

2. وقد ذكر القرآن أن سبب هزيمة المسلمين في حنين: إعجابهم بكثرة عددهم فقد كانوا في بدر ثلاث مئة ونيفاً، وفي خيبر ألفاً وخمس مئة، فانتصروا، لكنهم رأوا أنفسهم في حنين عشرة آلاف أو نحوها فأعجبتهم كثرتهم! فنبههم الله تعالى إلى خطأ تفكيرهم وأن النصر لم يكن يوماً بالكثرة، قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «25-27»والخطاب في الآية للمسلمين الذين نصرهم الله من قبل، وليس منهم الطلقاء.

3. لكن ذلك لا ينفي تواطؤ الطلقاء مع النجديين مقابل عدم هجوم هوازن على مكة، وبذلك يثأر الطلقاء من النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه غلبهم وأخضعهم.

وقد يقال هنا إن صفوان بن أمية كان يفضل أن ينتصر النبي (صلی الله علیه و آله) على هوازن فقد «صاح كلدة بن حنبل وهو أخو صفوان لأمه وصفوان يومئذ مشرك: ألا بطل السحر اليوم! فقال صفوان: أسكت فضَّ الله فاك فوالله لأن يَرُبَّنِي«يحكمني»رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن».إعلام الورى: 1/229.

لكن تفضيل صفوان حكم النبي (صلی الله علیه و آله) لاينفي عمل قريش ورئيسها سهيل لقتله (صلی الله علیه و آله) ! لأن صفوان فهو كناني حليف لقريش وليس من صلبهم فلايجب أن يعرف اتفاقهم.

4- كشف النضير خطة الطلقاء بصراحة، فقال كما رواه الواقدي: «خرجت مع قوم من قريش هم على دينهم بعدُ: أبوسفيان بن حرب وصفوان بن أمية وسهيل بن

ص: 440

عمرو ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير. فلما تراءت الفِئَتَان ونحن في حيز المشركين حملت هوازن حملة واحدة ظننا أن المسلمين لا يجبرونها أبداً، ونحن معهم وأنا أريد بمحمد ما أريد، وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه، فأقبلت عامداً إليه فصاحوا بي: إليك! فأرعب فؤادي وأرعدت جوارحي! قلت: هذا مثل يوم بدر، إن الرجل لعلى حق وإنه لمعصوم! وأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام، وغيَّره عما كنت أهم به».سبل الهدى: 5/321.

4- قال الطلقاء بعضهم لبعض عند الهزيمة: «أخذلوه فهذا وقته، فانهزموا أول من انهزم وتبعهم الناس».الصحيح: 24/120.

5- أرسل الطلقاء بخبر الهزيمة إلى مكة وبشروا أهل مكة بهزيمة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فاغتم عتاب بن أسيد حاكم مكة من قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وسُرَّ بذلك الطلقاء في مكة وأظهروا الشماتة، وقالوا ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه! فما أمسوا ذلك اليوم حتى جاء الخبر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوقع بهوازن، فسُرَّ عتَّاب وكبت الله تعالى أعداء رسوله (صلی الله علیه و آله).سبل الهدى: 5/230.

ومما يؤيد وجود المؤامرة قول الإمام الصادق (علیه السلام): «ما مرَّ بالنبي (صلی الله علیه و آله) يوم كان أشد عليه من يوم حنين! وذلك أن العرب تباغت عليه».علل الشرائع: 2/462.

6- استقسم أبوسفيان بالأزلام وهو نوع من التبصير بالمستقبل! «أخرج أزلاماً من كنانته فضرب بها وقال: إني أرى أنها هزيمة لايردها إلا البحر».

7- وقعت محاولتان على الأقل لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقد قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: «اليوم أدرك ثأر أبي»! وكان أبوه قتل ببدر، وجاء ليقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره رسول الله بما نواه وأحبط الله سعيه! ثم النضير بن كلدة العبدري وقد اعترف بأنه قصد قتل النبي (صلی الله علیه و آله) فأحبط الله تعالى سعيه! آيات الغدير للمؤلف/136.

8- تناقضت روايتهم عن سبب الهزيمة، فقد قالوا إن هوازن كمنت في الشعاب في مدخل وادي حنين، فتفاجأت المقدمة بقيادة خالد بن الوليد بسهامهم ووقع

ص: 441

منهم قتلى فانهزم خالد وتبعه الطلقاء وتبعهم الباقون، وتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم وحدهم مقابل هوازن!

وكذبوا بقولهم إن الوقت كان فجراً فلم يرَ خالد الكمائن!فقد كان قريب الظهر! وقد ناقش مقولاتهم ومبرراتهم للهزيمة صاحب الصحيح:24/100.

5- فرَّ الجميع وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم فقط!

1- وصف القرآن فرار المسلمين في حنين فضلاً عن الطلقاء، فقال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ.فالفرار عام والسكينة بعده خاصة.

2- اعترف الجميع بالفرار، ففي صحيح بخاري: 4/57، قال أبو قتادة: «فلحقت عمر بن الخطاب فقلت ما بال الناس؟ قال: أمر الله»! فقد نسب عمر الفرار إلى الله تعالى! وفي صحيح بخاري: 5/98: «يا أبا عمارة أتوليت يوم حنين!فقال: أما أنا فأشهد على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه لم يولِّ».

وفي البخاري: 4/28: «فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النبي لاكذب. أنا ابن عبدالمطلب. فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه»!

وقال ابن هشام: 4/893:«وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: أين الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله أنا محمد بن عبدالله! قال: فلا شئ».

وقال ابن خلدون: 2ق2/46: «فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد وناداهم (صلی الله علیه و آله)

فلم يرجعوا».

وقال السرخسي في سيره: 1/117: «فانكشفت أول الخيول خيل بنى سليم مولية ثم تبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس مدبرين لايلوي أحد على أحد».

3- في الصحيح من السيرة: 24/ 293، ملخصاً: «دلت النصوص على أن علياً (علیه السلام) وحده الذي ثبت، وقد وردت نصوص كثيرة تضمنت نفي ثبات غيره، واستثنى بعضها

ص: 442

بضعة رجال من بني هاشم، أحاطوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) لحمايته.

أما قول بعضهم إنه ثبت ثمانون أو مائة رجل فلعلهم كانوا من أوائل العائدين.

4- وفي الإرشاد: 1/141:«لم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلاعشرة أنفس: تسعة من بني هاشم خاصة، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن (رحمة الله) وثبتت التسعة الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم، فرجعوا أولاً فأولاً حتى تلاحقوا وكانت لهم الكرة على المشركين، وفي ذلك أنزل الله تعالى وفي إعجاب أبي بكر بالكثرة: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ.، يعني أميرالمؤمنين علياً (علیه السلام) ومن ثبت معه من بني هاشم، وهم يومئذ ثمانية.. العباس عن يمينه والفضل عن يساره وأبوسفيان ممسك بسرجه عند ثفر بغلته، وسائرهم حوله، وعلي (علیه السلام) يضرب بالسيف بين يديه».

قال مالك بن عبادة الغافقي:

لم يواس النبي غير بني ها *** شم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط *** فهم يهتفون بالناس: أين

ثم قاموا مع النبي على المو *** ت فآبوا زيناً لنا غير شين

وسوى أيمن الأمين من القوم *** شهيداً فاعتاض قرة عين

وقال العباس بن عبدالمطلب:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يابني ليرجعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع

5- قال المأمون في مجلسه مع فقهاء عصره: «إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا سبعة من بني هاشم: علي (علیه السلام) يضرب بسيفه، والعباس آخذ بلجام بغلة النبي (صلی الله علیه و آله)، والخمسة محدقون بالنبي (صلی الله علیه و آله) خوفاً من أن يناله سلاح

ص: 443

الكفار، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله (علیه السلام) الظفر.عنى في هذا الموضع علياً ومن حضر من بني هاشم. فمن كان أفضل أمَن كان مع النبي (صلی الله علیه و آله) ونزلت السكينة على النبي (صلی الله علیه و آله) وعليه؟ أم من كان في الغار مع النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه؟!».

6- كانت نسيبة تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن الله وعن رسوله؟ ومر بها عمر بن الخطاب فقالت له: ويلك ما هذا الذي تصنع! فقال: هذا أمر الله!

6- نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة!

قال تعالى: وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فالمخاطب بالآية المسلمون الذين نصرهم الله في مواطن كثيرة، وقد وبخهم، وأخبرهم أنه بعد فرارهم أنزل سكينته على رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه، وهم بنو هاشم ومولاهم أيمن، ومعهم نسيبة، وقيل معهم ابن أم مسعود. وعذب الذين كفروا حتى انهزموا، وكان عذابهم بيد الملائكة وعلي (علیه السلام) !

7- قاتلَ علي (علیه السلام) وحده ونزلت الملائكة!

اشارة

إطمأن علي (علیه السلام) بأن بني هاشم يحيطون بالنبي (صلی الله علیه و آله)، فغاص في أوساط هوازن يقصد القائد حامل راية الكتيبة فيقتله، ثم يقصد الآخر! وبذلك أبعد المعركة عن النبي (صلی الله علیه و آله) وضعضع صفوف العدو. وكان يرجع بين فترة وأخرى ليطمئن على سلامة النبي (صلی الله علیه و آله) وقد يأتي معه بأسير أو أكثر!

وقد ورد أن النبي (صلی الله علیه و آله) أركض بغلته نحوه، «الصحيح: 24/223» فلعله ذهب ليخبره بنزول الملائكة وأن جبرئيل والملائكة يقاتلون معه، أو يعطيه برنامج القتال!

وفي المناقب: 1/355: «وقف (علیه السلام) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف إلى أن ظهر المدد من السماء. وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أبا جرول، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس».

ص: 444

ولا ننس أن إسم علي (علیه السلام) طبق الجزيرة وهابته الفرسان، بعد أن قتل عمرو بن ود في الخندق ومرحباً في خيبر! فكانت حملاته في هوازن كافيةً للرعب فيهم!

ففي أمالي الطوسي/575:«قال نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب: فرَّ الناس جميعاً وأعْرَوْا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يبق معه إلا سبعة نفر من بني عبدالمطلب: العباس، وابنه الفضل، وعلي، وأخوه عقيل، وأبوسفيان، وربيعة، ونوفل بنو الحارث بن عبدالمطلب، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مصلت سيفه في المجتلد، وهو على بغلته الدلدل، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب

قال الحارث بن نوفل: فحدثني الفضل بن العباس قال: التفت العباس يومئذ

وقد أقشع الناس عن بكرة أبيهم، فلم ير علياً (علیه السلام) في من ثبت، فقال: شوهة بوهة، أفي مثل هذا الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو صاحب ما هو صاحبه! يعني المواطن المشهورة له فقلت: نقص قولك لابن أخيك يا أبه. قال: ما ذاك يا فضل؟ قلت: أما تراه في الرعيل الأول، أما تراه في

الرهج! قال: أشعره لي يا بني. قلت: ذو كذا ذو كذا ذو البردة. قال: فما تلك البرقة؟ قلت: سيفه يزيل به بين الأقران. فقال: بَرٌّ بن بَر، فداه عم وخال.

قال: فضرب علي (علیه السلام) يومئذ أربعين مبارزاً، كلهم يقدُّه حتى أنفه، قال: وكانت ضرباته مبتكرة». أي واحدة لاتحتاج إلى ثانية!

وقد بخلت مصادر السلطة في ذكر بطولات علي (علیه السلام) وكيف حقق النصر للمسلمين بعد فرارهم! فذكروا أنه قتل قائد هوازن«ذا الخمار»وفارسهم أبا جرول! وقتل (علیه السلام) أربعين من فرسانهم، فوقع فيهم الرعب والهزيمة!

قال في الإرشاد: 1/142:«وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم، إذا أدرك نفراً من المسلمين أكب عليهم وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه، وهو يرتجز ويقول:

أنا أبو جرولٍ لا براح *** حتى نبيحَ القومَ أو نباح

فصمد له أميرالمؤمنين (علیه السلام) فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره، ثم قال:

ص: 445

قد علم القوم لدى الصباح *** أني في الهيجاء ذو نصاح

فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله».

«وكان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود، فلما رأى الهزيمة أسند رايته إلى شجرة وهرب»! ابن حبان: 2/73 وابن خلدون: 2ق2/47.

واعترف رواة السيرة من حيث لا يريدون بفرار الجمع وبطولات علي (علیه السلام) !

ففي سيرة ابن هشام: 4/896:«فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)»! والدرر لابن عبدالبر/227.

فمن أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين والكل فارُّون ما عدا بني هاشم الذين يحرسون النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وحده في المعركة؟!

وقد ادعوا أن ثمانين من الفارين أو مئة رجعوا قبل غيرهم، ونسبوا بطولات علي (علیه السلام) أو قسماً منها اليهم! لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبدالله بن مسعود، وهو ضعيف البنية صغير الجثة غير مقاتل! ثم نسبوا النصر إلى دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح، لكنه لا يلغي دور علي (علیه السلام) ! وقد نسب أميرالمؤمنين (علیه السلام) النصر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال فيه:

ألم تر أن الله أبلى رسوله *** بلاء عزيزاً ذا اقتدار وذا فضل

بما أنزل الكفار دار مذلة *** فذاقوا هواناً من إسار ومن قتل

مناقب آل أبي طالب: 2/331.

ومما يدلك على أنه لم يقاتل أحدٌ في حنين إلا علي (علیه السلام) عدم وجود شهداء للمسلمين! وعدم وجود قتلى من المشركين، إلا من قتلهم علي (علیه السلام) !

فلا شهداء إلا أيمن بن أم أيمن (رحمة الله) الذي استشهد دفاعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما قصده مالك بن عوف! وقالوا استشهد غيره ثلاثة أو أربعة، لكن ذكروا أن أحدهم أبا عامر الأشعري«جد الأشعريين القميين»لكنه قتل بعد المعركة في أوطاس في تعقب الفارين، ويزيد بن زمعة بن الأسود جمح به فرسه فمات»! الصحيح من السيرة: 24/338 ولعل البقية مثله!

ص: 446

ولا شك أن الملائكة كان لهم دورٌ مع علي (علیه السلام)، فقد روى القمي في تفسيره: 2/288: «قال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين وهو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق والرجال عليهم الثياب البيض؟ فإنما كان قتلنا بأيديهم، وما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة! قالوا: تلك الملائكة». وروت شبيهاً به بقية المصادر، ومشاهدة جنود هوازن لكتائب على خيل بلق، وسماعهم قعقعة سلاح في الجو!

وفي مجمع البيان: 5/32: «قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، يعني رسول الله، فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه إرجعوا! فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانوا إياها يعني الملائكة»!

وإنما نزلت الملائكة بعد نزول السكينة على المؤمنين الثابتين، وقتال علي (علیه السلام).

رجع المنهزمون فرأوا الأسرى حول النبي (صلی الله علیه و آله)

وجعل ابن عبدالبر في الدرر/226، النصر ببطولة مئة صحابي بلا أسماء! قال: «حتى إذا اجتمع حواليه (صلی الله علیه و آله) مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب واشتدت الحرب وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: الآن حمي الوطيس. وضرب علي بن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ علي الراية وقذف الله عزوجل في قلوب هوازن الرعب، حين وصلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك أن رسول الله إذا واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة، ورمى في وجوههم بالحصا فلم يملكوا أنفسهم! وفي ذلك يقول الله عزوجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى.

وروينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنيناً، قال وقد

ص: 447

سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم، وأتبعناهم حتى وصلنا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصاً أو تراباً فرمانا به، وقال: شاهت الوجوه، شاهت الوجوه! فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا! وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا وأسرى هوازن بين يديه».

أقول: لم يسموا حتى شخصاً واحداً من الأبطال الذين رجعوا، وجعل ابن عبدالبر لعلي (علیه السلام) شريكاً مجهولاً في قتل أبي جرول حامل رايتهم فقال: «فاشتركا في قتله وأخذ علي الراية»!

8- هزيمة هوازن وغنائم المسلمين منها

اشارة

كانت هزيمة المسلمين سريعة، وكان بعدها مباشرة محاولات القرشيين لاغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) ومعهم حملات هوازن وفرسانها، فكانت حماية بني هاشم، وحملات علي (علیه السلام) المضادة! ولعل حملاته استمرت أربع ساعات أو نحوها، ومعناه أنه لم يحن الظهر حتى تم النصر للنبي (صلی الله علیه و آله) وانهزم أعداؤه شذر مذر!

أما قائدهم مالك بن عوف الذي كان يهدر ويصيح: أروني محمداً حتى أقتله! وجاء بالفعل إلى قرب مكان النبي (صلی الله علیه و آله) فتصدى له أيمن (رحمة الله) فقتله مالك، ولعل علياً (علیه السلام) قصده فهرب، أو أحس بالملائكة فارتعب، ثم سمع مالك دوي تكبيرات علي (علیه السلام) وهويجندل حملة راياتهم ذا الخمار بن عبدالله، وأخاه عثمان، وأبا جرول، فهرب مالك إلى الطائف!

في إعلام الورى: 1/232:«فر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومهم، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله وإعزاز دينه». والإرشاد: 1/151 والدرر/227.

غنائم هوازن الوافرة

في سيرة ابن هشام: 4/902: «وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم. فوقف هناك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس»!

ص: 448

«وتركوا أموالهم وأولادهم غنيمة هنيئة للمسلمين كما وعد الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله)، وكانت أكبر غنيمة، فقد بلغت ستة آلاف سبي بين امرأة وغلام، وأربعةً وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة من الغنم، وأربعة آلاف أوقية فضة».الصحيح من السيرة: 25/173 وأقل منه في مناقب آل أبي طالب: 1/181.

وأصدر النبي (صلی الله علیه و آله) أمره إلى الراجعين من فرارهم أن يجمعوا الغنائم ويرسلوها إلى «الجعرانة» وجعل بديل بن ورقاء رئيس خزاعة، مسؤولاً عليها. وأصدر أمره أن يتهيؤوا للسير إلى الطائف لمحاصرة ثقيف، التي تحالفت مع هوازن، وخرجت معها لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) !

ويفهم من رواية الإمام الصادق (علیه السلام) «مكارم الأخلاق/119»أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب بنفسه لتعقب الفارين في أوطاس قبل الطائف، قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحرم يوم دخل مكة وعليه عمامة سوداء وعليه السلاح، ثم خرج إلى حنين، فلما فرغ منهم انتهى إلى أوطاس، بقيت منهم بقية ففرغ منهم».

وكان له فيها عين هو أنيس بن مرثد الغنوي، وكان أبو مرثد حليف حمزة بن عبدالمطلب.مذيل الطبري/51.

9- النبي (صلی الله علیه و آله) يحاصر قبيلة ثقيف في الطائف

كانت قبيلة ثقيف في الطائف حلفاء قريش وكان أثرياء قريش يملكون كثيراً من بساتين الطائف وأرضها. وقد جاءها النبي (صلی الله علیه و آله) قبل هجرته يدعوها إلى الإسلام وحمايته من قريش، فرفضت دعوته وآذته! وشاركت مع هوازن في حرب حنين، وسرعان ما انهزمت! فقد رأى قائدهم قارب بن الأسود علياً (علیه السلام) يحصد فرسان هوازن، فخاف وأسند رايته إلى شجرة، وهرب راجعاً إلى الطائف! ثم انهزمت هوازن، فذهب بعضم إلى أوطاس وبعضهم إلى الطائف مع رئيسهم مالك بن عوف، وأكثرهم رجعوا إلى بواديهم.

قال المفيد في الإرشاد: 1/148:«فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) أبا عامر الأشعري إلى أوطاس

ص: 449

في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري، وبعث أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف. فأما أبو عامر فإنه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل فقال المسلمون لأبي موسى: أنت ابن عم الأمير وقد قتل، فخذ الراية حتى نقاتل دونها، فأخذها أبو موسى فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم. وأما أبوسفيان فإنه لقيته ثقيف فضربوه على وجهه، فانهزم ورجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: بعثتني مع قوم لا يرقع بهم الدلاء من هذيل والأعراب، فما أغنوا عني شيئاً، فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) عنه»!

قال الطبري: 2/352:«لما قدم فلُّ ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها وصنعوا الصنائع للقتال. ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق».

وجرش قرية باليمن تصنع فيها المجانيق، والضبور صندوق مدرع للمقاتلين لينقبوا سور الحصن أو ليردوا المتسلقين، وتسمى الدباب أيضاً، كما تطلق الدباب على الأحجار التي تلقى من المنجنيق، أو تُدحرج من الجبل.

وفي إعلام الورى: 1/233: «سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعة عشر يوماً، وخرج نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه علي (علیه السلام) في خيله فالتقوا ببطن وَجّ فقتله علي (علیه السلام) وانهزم المشركون.

ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) جماعة من أرقائهم، منهم أبو بكرة وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث وكان اسمه المضطجع، فسماه رسول الله المنبعث. ووردان، وكان عبداً لعبدالله بن ربيعة، فأسلموا.

فلما قدم وفد الطائف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلموا قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك فقال: لا، أولئك عتقاء الله».

وفي فتوح البلدان للبلاذري: 1/65:«سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين حتى نزل الطائف فرمتهم ثقيف بالحجارة والنبل، ونصب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منجنيقاً على حصنهم، وكانت مع المسلمين دبابة من جلود البقر، فألقت عليها ثقيف سكك الحديد المحماة فأحرقتها، فأصيب من تحتها من المسلمين. وكان حصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) الطائف خمس عشرة ليلة».

ص: 450

وفي الخرائج: 1/118: «لما حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) أهل الطائف قال عيينة بن حصن: إئذن لي حتى آتي حصن الطائف فأكلمهم، فأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاءهم فقال: أدنو منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم. وعرفه أبو محجن فقال: أدنُ فدخل عليهم، فقال: فداكم أبي وأمي والله لقد سرني ما رأيت منكم، وما في العرب أحد غيركم ووالله ما في محمد مثلكم، ولقد قل المقام وطعامكم كثير، وماؤكم وافر لا تخافون قطعه! فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإنا قد كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمداً بخلل إن رآه فينا أو في حصننا! فقال أبو محجن: أنا كنت أعرف به ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه! فلما رجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: قلت لهم أدخلوا في الإسلام، فوالله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا فخذوا لأنفسكم أماناً، فخذلتهم ما استطعت! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كذبت لقد قلت لهم كذا وكذا! وعاتبه جماعة من الصحابة قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا أعود أبداً».

وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عبيد أهل الطائف أن من يخرج اليه منهم ويسلم يعتقه، فخرج اليه بعضهم ومنهم أبو بكَرَة بن سمية وأبي عبيد، وهو أخ زياد بن أبي عبيد الذي ادعاه أبوسفيان وألحقه معاوية به، وسمي أبابكرة لأنه استعمل حبلاً وبكرة ونزل من حصن الطائف، فقبل النبي (صلی الله علیه و آله) إسلامه وأعتقه.

10- النبي (صلی الله علیه و آله) يفك الحصار عن الطائف

يلفتنا في عمل النبي (صلی الله علیه و آله) في حصار الطائف أمران:

الأول: أنه لم يأخذ معه علياً (علیه السلام) بل بعثه لإخضاع ضواحيها خاصة قبيلة خثعم، وتحطيم الأصنام الكثيرة التي كانت لأهل الطائف وقريش!

قال المفيد في الإرشاد: 1/148:«وأنفذ أميرالمؤمنين (علیه السلام) في خيل وأمره أن يطأ ما وجد ويكسر كل صنم وجده. فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير، فبرز له رجل من القوم يقال له شهاب في غبش الصبح فقال: هل من مبارز؟ فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): من له؟ فلم يقم أحد فقام إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فوثب أبو

ص: 451

العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: تكفاه أيها الأمير. فقال: لا، ولكن إن قتلت فأنت على الناس. فبرز إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو يقول:

إن على كل رئيس حقا *** أن يرويَ الصعدة أو تُدَقا

ثم ضربه فقتله ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام، وعاد إلى رسول الله وهو محاصر لأهل الطائف». ومعنى يروي الصعدة: يروي الرمح المستقيم من دم العدو.

وقد استغرقت مهمة علي (علیه السلام) بضع عشرة يوماً.

ففي أمالي الطوسي/579 و504، عن أبيذر: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: لما أوقع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هوازن سار حتى نزل بالطائف، فحصر أهل وجّ أياماً فسأله القوم أن ينتزح عنهم ليقدم عليه وفدهم، فيشترط له ويشترطون لأنفسهم. فسار (صلی الله علیه و آله) حتى نزل مكة، فقدم عليه نفر منهم بإسلام قومهم، ولم يبخع «يخضع» القوم له بالصلاة ولا الزكاة، فقال (صلی الله علیه و آله): إنه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة وليؤتن الزكاة أو لأبعثن إليهم رجلاً هو مني كنفسي، فليضربن أعناق مقاتليهم وليسبين ذراريهم هو هذا، وأخذ بيد علي (علیه السلام) فأشالها! فلما صار القوم إلى قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأقروا له بالصلاة وأقروا له بما شرط عليهم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ما استعصى عليَّ أهل مملكة ولا أمة إلا رميتهم بسهم الله عزوجل! قالوا: يا رسول الله وما سهم الله؟ قال: علي بن أبي طالب، ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وملكاً أمامه وسحابة تظله، حتى يعطي الله حبيبي النصر والظفر».

وقال المفيد في الإرشاد: 1/148: «وعاد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو محاصر لأهل الطائف، فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) كبر للفتح وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلاً. فروى عبدالرحمن بن سيابة والأجلح جميعاً، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما خلا بعلي بن أبي طالب (علیه السلام) يوم الطائف، أتاه عمر بن الخطاب فقال: أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا؟ فقال: يا عمر، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه! قال: فأعرض عمر وهو يقول: هذا كما قلت لنا قبل الحديبية: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ

ص: 452

اللهُ آمِنِينَ، فلم ندخله وصددنا عنه! فناداه النبي (صلی الله علیه و آله): لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام»!

والأمر الثاني الملفت في حصار الطائف: أن النبي (صلی الله علیه و آله) فك الحصار عنها ولم يصرّ على فتحها، وروي أنه لم يُؤذن له في فتحها.

وفي إعلام الورى: 1/234: «ذكر الواقدي عن شيوخه قال: شاور رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه في حصن الطائف، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعمل منجنيق، ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين. ويقال خالد بن سعيد، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فأحرقت الدبابة.

وأنفذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في خيل عند محاصرته أهل الطائف، وأمره أن يكسر كل صنم وجده، فخرج فلقيه جمع كثير من خثعم...الى آخر ما تقدم.

فلما قدم علي (علیه السلام) فكأنما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) على وجل فارتحل، فنادى سعيد بن عبيدة: ألا إن الحي مقيم فقال (علیه السلام): لا أقمت ولاظعنت! فسقط فانكسر فخذه»!

أي لما جاء علي (علیه السلام) فك النبي (صلی الله علیه و آله) الحصار بدون تأخير، فقال الراوي كأنما كان على وجل. ومعنى كلام سعيد أن الذي يظعن هو الغريب الضعيف، وقصده الطعن بالنبي (صلی الله علیه و آله) بفك الحصار وأنه عن عجز، فدعا عليه النبي (صلی الله علیه و آله) فقتله الله! والظاهر أن سبب فك الحصار عن الطائف ليس عجز الصحابة عن اقتحامه، فقد جاء علي (علیه السلام) ! بل سببه طلب قسم من ثقيف«أهل وجّ»أن يفكه عنهم ليأتيه وفدهم ويتفاوضوا معه؟ وقد يكون السبب قرب دخول شهر ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال.تفسير الثعلبي: 5/22.

والأمر المؤكد أن النبي (صلی الله علیه و آله) مسدد بوحي ربه عزوجل في قوله وفعله. فقد قبل وعد أهل الطائف بأنهم يأتون إلى المدينة لمفاوضته، وفك حصارهم مع عدم ثقته بهم، وذهب إلى مكة معتمراً، ثم عاد المدينة.

وذكرت رواية للواقدي أنه (صلی الله علیه و آله) أمر بقطع شجر كرومهم، وهذا لا يصح عندنا.

ص: 453

11- سياسة الإسلام العجيبة مع قريش وثقيف

لم يعرف التاريخ قبائل أفرطت في عدائها كبطون قريش مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعشيرته بني هاشم! وقد وثقنا ذلك بسلسة مواقفهم وأعمالهم الكيدية ضد النبي (صلی الله علیه و آله) في بحث: «صراع قريش مع النبي (صلی الله علیه و آله)». لكن العجيب أن النبي (صلی الله علیه و آله) قاوم قريشاً حتى فتح مكة، فأخضعهم وعفا عنهم وقبل إسلامهم وسماهم«الطلقاء».

ثم فتح لهم أبواب دولته! وفي نفس الوقت أعلن أنهم وأولادهم طلقاء وأخرجهم من أمته إلى يوم الدين! ثم حكم (صلی الله علیه و آله) على ثقيف شبيهاً بحكمه على قريش، وثقيف من قبائل هوازن النجدية، سكنت الطائف فصارت حضرية، وكانت حليفة لقريش وشريكتها في عدائها للنبي (صلی الله علیه و آله).وقد تحالفت مع هوازن في حربها للنبي وانهزمت معها في حنين، ثم انهزمت بيد علي (علیه السلام) في وجّ، وبعد هزيمتهم طلبوا أن يعفيهم من الصلاة لأنها «دناءة» معيبة! فلم يقبل منهم وهددهم بعلي (علیه السلام) ! وقد تأخر وفد ثقيف وظلوا على شركهم «ابن هشام: 4/936» فحرك عليهم النبي (صلی الله علیه و آله) القبائل المحيطة بهم التي أسلمت، ومنها بعض قبائل هوازن ليضغطوا عليهم! وأخيراً جاءه وفد ثقيف إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بعد رجوعه من غزوة تبوك، فقبل إسلامهم وسماهم«العتقاء»في مقابل تسمية قريش«الطلقاء».

وأصدر حكمه عليهم وعلى من ولد منهم إلى يوم الدين، بأنهم كالطلقاء ليسوا من أمته الإسلامية! فقال (صلی الله علیه و آله): «المهاجرون والأنصار أولياءٌ بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة».وروته مصادر السنيين بأسانيد عديدة فيها الصحيح على شرط الشيخين كمسند أحمد: 4/363 بروايتين، مجمع الزوائد: 10/15، بروايات وقال في بعضها: رواه أحمد والطبراني بأسانيد وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده فإنه رواه عن الأعمش. وأبو يعلى/446، ابن حبان: 16/250،

الطبراني الكبير: 2/309، 313، 214، 316، 343، 347 و10/187، موارد الظمآن: 7/271،الدر المنثور:3/206، فتح القدير: 2/330، علل الدارقطني 5/102، السمعاني: 4/152، تاريخ بغداد: 13/46، تعجيل المنفعة/414 ومن مصادرنا أمالي الطوسي/268.

ص: 454

وهو حكمٌ شديد وضربة قاصمة لطلقاء قريش وعتقاء ثقيف! حيث أخرجهم من أمته وألحقهم بها إلحاقاً، والعجيب أنه شامل لمن وجد منهم في ذلك العصر، ومن يولد من ذرياتهم إلى يوم القيامة!

فكيف يدعي لهم محبوهم الصحبة والفضائل والخلافة، وهم لايستطيعون إدخالهم في متن أمة الإسلام!

وقد كتب أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية: «وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته! وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم. هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك؟ وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر! وإنك لذهَّاب في التيه روَّاغ عن القصد».

نهج البلاغة: 3/30، الإحتجاج: 1/259 وابن الأعثم: 2/560.

وقال صعصعة لمعاوية: «أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً، ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟! وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فأنى تصلح الخلافة لطليق»!مروج الذهب/694.

وقال ابن عباس لأبي موسى الأشعري: «ليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة! واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة». شرح النهج: 2/246.

وكتب ابن عباس إلى معاوية: «وإن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام، وابن رأس الأحزاب، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر». الإمامة والسياسة: 1/100 وراجع جواهر التاريخ: 2/94.

وقد اتفق المسلون على هذا الحكم، فقد أفتى عمر بأن حكم الأمة محرم على الطلقاء! وقال كما في الطبقات: 3/342: «هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم

ص: 455

أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ». ورواه في تاريخ دمشق: 59/145، أسد الغابة:4/387، تاريخ الخلفاء للسيوطي/113، الغدير: 7/144 و10/30 ونفحات الأزهار: 5/350.

فاعجب لهذا الأمر! واعجب من أن أكثر حكام أمة النبي (صلی الله علیه و آله) ليسوا من أمته!

12- النبي (صلی الله علیه و آله) في الجعرانة يقسم الغنائم ويُحرم للعمرة

الجعرانة: «ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي (صلی الله علیه و آله) لما قسم غنائم هوازن، مرجعه من غزاة حنين، وأحرم منها، وله فيها مسجد، وبها بِئَار متقاربة».«معجم البلدان: 2/142». وهي من مواقيت الحج، فعن عبدالرحمن بن الحجاج، أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال له: «إن سفيان فقيهكم أتاني فقال: ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون الجعرانة فيحرمون منها؟فقلت له: هو وقت من مواقيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: وأي وقت من مواقيت رسول الله هو؟ فقلت له: أحرم منها حين قسم غنائم حنين ومرجعه من الطائف». الكافي: 4/300.

وفي مجمع البيان: 5/32، «فحاصر أهل الطائف بقية الشهر، فلما دخل ذو القعدة انصرف أتى الجعرانة، وقسم بها غنائم حنين وأوطاس».

وفي إعلام الورى: 1/236: «قال محمد بن إسحاق: فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، ومعاوية ابنه مائة بعير، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبدالعزى بني قصي مائة بعير، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام من بني مخزوم مائة، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبدمناف مائة، ومالك بن عوف النصري مائة، فهؤلاء أصحاب المائة. وقيل: إنه أعطى علقمة بن علاثة مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعيينة بن حصن مائة، وأعطى العباس بن مرداس أربعاً فتسخطها وأنشأ يقول:

أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع

ص: 456

وما كنت دون امرء منهما *** ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ *** فلم أعط شيئا ولم أمنع

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي لست بشاعر، قال (صلی الله علیه و آله): كيف قال؟ فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي قم فاقطع لسانه! قال عباس: فوالله لهذه الكلمة كانت أشد عليَّ من يوم خثعم، فأخذ علي (علیه السلام) بيدي فانطلق بي فقلت: يا علي إنك لقاطع لساني؟ قال: إني ممض فيك ما أمرت، حتى أدخلني الحظائر فقال: أعقل ما بين أربعة إلى مائة. قال: قلت بأبي أنتم وأمي، ما أكرمكم وأحلمكم وأجملكم وأعلمكم. فقال لي: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين، فإن شئت فخذها وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة. قال: فقلت لم لعلي (علیه السلام): أشر أنت علي. قال: فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى. قال: فإني أفعل».

وفي سيرة ابن هشام: 4/906: «ثم جُمعت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبايا حنين وأموالها وكان على المغانم مسعود بن عمرو الغفاري، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسبايا والأموال إلى الجعرانة، فحبست بها».

قال في الصحيح من السيرة: 25/178: «تقدم أن المسلمين انهزموا جميعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأن راجِعَتَهم حين رجعت وجدت الأسارى مكتفين عند رسول الله، وأن المسلمين المهزومين لم يضربوا بسيف ولم يطعنوا برمح...والمهاجم الوحيد لجيوش المشركين كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) فهزم الله المشركين على يديه شر هزيمة. فالنصر إنما تحقق بجهاد علي (علیه السلام) وبالتأييد الإلهي للنبي (صلی الله علیه و آله) بإنزال الملائكة.وهذا يبين السبب في أن الله سبحانه رد أمر الغنائم والسبي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليعطيها لمن يشاء، فأعطاها لمن أراد أن يتألفهم، ولم يعط منها حتى أقرب الناس إليه وهم الأنصار..لأنهم لم يكن لهم ولا للمهاجرين ولا

ص: 457

لغيرهم حق فيها ولكنه (صلی الله علیه و آله) قد طيب نفوس الأنصار، بعدما نفَّذ ما أمره الله تعالى».

13- وفد هوازن والشيماء حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله)

في إعلام الورى: 1/239: «كان فيما سبي أخته بنت حليمة فلما قامت على رأسه قالت: يا محمد أختك شيماء بنت حليمة! قال فنزع رسول الله (صلی الله علیه و آله) برده فبسطه لها فأجلسها عليه ثم أكب عليها يسائلها وهي التي كانت تحضنه إذ كانت أمها ترضعه... أدرك وفد هوازن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله لنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إنا لو ملَّحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر، ثم ولي منا مثل الذي وليت، لعاد علينا بفضله وعطفه وأنت خير المكفولين، وإنما في الحظائر خالاتك وبنات خالاتك وحواضنك وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك، ولسنا نسألك مالاً، إنما نسألكهن. أي الحارث ملك غسان والنعمان ملك المناذرة. وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قسم منهن ما شاء الله، فلما كلمته أخته قال: أما نصيبي ونصيب بني عبدالمطلب فهو لك، وأما ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم».

فلما صلوا الظهر قامت فتكلمت وتكلموا، فوهب لها الناس أجمعون إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فإنهما أبيا أن يهبا وقالوا: يا رسول الله إن هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا، فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا.

فأقرع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بينهم ثم قال: اللهم أتْوِهْ سهميهما، فأصاب أحدهما خادماً لبني عقل، وأصاب الآخر خادماً لبني نمير، فلما رأيا ذلك وهبا ما منعا.

قال: ولولا أن النساء وقعن في القسمة لوهبهن لها كما وهب ما لم يقع في القسمة ولكنهن وقعن في أنصباء الناس، فلم يأخذ منهم إلا بطيبة النفس.

وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.

وفي الطبقات: 2/153: «وقدم وفد هوازن على النبي (صلی الله علیه و آله) وهو أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، فسألوه

ص: 458

أن يمن عليهم بالسبي فقال: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال: أما ما لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله..الخ. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد كسا السبي قبطيةً قبطية».

قال: وكلمته أخته«الشيماء»في مالك بن عوف فقال: «إن جاءني فهو آمن، فأتاه فرد عليه ماله، وأعطاه مائة من الإبل».

14- مالك بن عوف مسلماً!

في شرح الأخبار: 1/317: «وسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن مالك بن عوف سيد هوازن يومئذ ما فعل؟ فقالوا: لحق بالطائف وتحصن بها مع ثقيف يا رسول الله. قال: فأخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل. فأخبر بذلك فخرج من الطائف متسللاً عن ثقيف لئلا يعلموا به فيحبسوه. وأتى رسول الله فرد عليه أهله وماله وزاده مائة من الإبل، وأسلم وحسن إسلامه».

وفي تفسير القمي: 1/299: «وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: المؤلفة قلوبهم: أبوسفيان بن حرب بن أمية، وسهيل بن عمرو وهو من بني عامر بن لوي وهمام بن عمرو وأخوه، وصفوان بن أمية بن خلف القرشي ثم الجشمي الجمحي، والأقرع بن حابس التميمي، ثم عمر أحد بني حازم، وعيينة بن حصين الفزاري، ومالك بن عوف، وعلقمة بن علاقة. بلغني أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يعطي الرجل منهم مائة من الإبل ورعاتها، وأكثر من ذلك وأقل».

وفي سيرة ابن هشام: 4/927، أن مالك بن عوف قال بعد مجيئه إلى النبي (صلی الله علیه و آله):

«ما إن رأيت ولا سمعتُ بمثله *** في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى *** ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها *** بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله *** وسط الهباءة خادر في مرصد

ص: 459

«فاستعمله رسول الله (صلی الله علیه و آله) على من أسلم من قومه وتلك القبائل: ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لايخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم».

15- الأنصار يسقطون في امتحان المال

في مجمع البيان: 5/32: «قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله للمتألفين من قريش من سائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شئ! فقال (صلی الله علیه و آله): فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي! فقال رسول الله: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فجمعهم فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار، أو لم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وما نقول؟ وبماذا نجيبك؟ المنُّ لله ولرسوله.

فقال رسول الله: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فآمناك، ومخذولاً فنصرناك. فقالوا: المنُّ لله ولرسوله.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسماً. ثم تفرقوا»!

وفي إعلام الورى: 1/238: «وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر منهم كلام قبيح حتى قال قائلهم: لقي الرجل أهله وبني عمه ونحن أصحاب كل كريهة! فلما رأى

ص: 460

رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما دخل على الأنصار من ذلك، أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم، ثم أتاهم شبه المغضب يتبعه علي (علیه السلام) حتى جلس وسطهم، فقال: ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله منها بي؟ قالوا: بلى، ولله ولرسوله المن والطول والفضل علينا. قال: ألم آتكم وأنتم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: أجل... إلى آخر ما تقدم».

وفي الكافي: 2/411، بسند صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال زرارة: «سألته عن قول الله عزوجل: والمُؤَلَّفَة قُلُوبُهُم...فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجعرانة فقال: يا رسول الله أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم، فقال: إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئاً أنزله الله رضينا، وإن كان غير ذلك لم نرض! قال زرارة: وسمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر الأنصار أكُلُّكُمْ على قول سيدكم سعد؟ فقالوا: سيدنا الله ورسوله، ثم قالوا في الثالثة: نحن على مثل قوله ورأيه! قال: زرارة فسمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: فحط الله نورهم».

أقول: من عجائب التاريخ موقف الأنصار عند غنائم حنين، ورئيسهم سعد بن عبادة! فقد آمنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) ورأوا معجزاته، وبذلوا في سبيله أموالهم وأرواحهم، ولما أعطى غيرهم ولم يعطهم اتهموه بأنه يميل مع هواه إلى قومه! وتفسير ذلك أنهم عند الإمتحان غلبهم هواهم وفقدوا عقولهم، فانخفض مستوى إيمانهم، فحط الله نورهم!

وقد سأل النبي (صلی الله علیه و آله) سعداً عن موقفه في اتهامهم لنبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه مال لقومه في تقسيم الغنائم، فأجابه بأنه واحد من قومه رأيه رأيهم! لذلك ينبغي أن يقسم تاريخ الأنصار إلى مرحلة ما قبل غنائم حنين وبعدها!

وهذا يفسر سوء توفيق سعد ونقضه بيعته للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن يحموه ويحموا أهل بيته بعده مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فعندما رأى قريشاً مجمعة على إبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله) عن خلافته، اتجه إلى ذاته وأخذ يعمل لأن تكون الخلافة له، لأنه

ص: 461

أحق بالإسلام وخلافته، من بطون قريش!

وقد عالج النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الهبوط الذي حدث في حنين، بتطييب خواطرهم والدعاء لهم، وهي معالجة لتهدئتهم، لكن مستواهم انخفض كثيراً.

16- ولادة الخوارج في الجعرانة

في إعلام الورى: 1/241: «عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقسم إذ أتاه ذو الخويصرة، رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله إعدل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل وقد خبت وخسرت إن أنا لم أعدل! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، يُنظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى رصافه«شد السهم»فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في قذذه «ريش السهم» فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم! آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تَدَرْدَر«تترجرج»يخرجون على خير فرقة من الناس.

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتُمس فوُجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي نعت». ومناقب الخوارزمي/259، بخاري: 4/179وغيره بتفاصيل أكثر، ومديح عظيم لمن يقتلهم.

وقال الشريف الرضي في المجازات النبوية/33: «ومن ذلك قوله (صلی الله علیه و آله) في ذكر الخوارج: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..الحديث.. إلى قوله: قد سبق الفرث والدم. وفي هذا القول مجاز، لأنه (صلی الله علیه و آله) شبه دخولهم في الدين وخروجهم منه بسرعة من غير أن يتعلقوا بعقدته أو يعيقوا بطينته، بالسهم الذي أصاب الرمية، وهي الطريدة ثم خرج مسرعاً من جسمها ولم يعلق بشئ من فرثها ودمها،

ص: 462

وذلك من صفات السهم الصائب، لأنه لا يكون شديد السرعة إلا بعد أن يكون قوي النزعة». والمعنى أنهم منافقون يدخلون في الدين ويخرجون منه بسرعة، كالسهم السريع الذي ينفذ في الصيد ويخرج منه، وليس فيه أثر منه!

17- اعتمر النبي (صلی الله علیه و آله) من الجعرانة، ثم رجع إلى المدينة

في الخصال/200: «عن ابن عباس أن النبي (صلی الله علیه و آله): اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من جعرانة، والرابعة التي مع حجته».

وفي سيرة ابن هشام: 4/936: «ثم خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقايا الفئ فحبس بمجنة بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة. وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم ما بين ذي القعدة إذ انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى شهر رمضان من سنة تسع».

ص: 463

الفصل الرابع والستون: استكمال فتح اليمن بعد حنين

1- ضعف الحكام الفرس في اليمن

عندما بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) كانت اليمن تُحكم من قبل كسرى، ولما كتب (صلی الله علیه و آله) إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، غضب ومزق الرسالة وأرسل إلى حاكم اليمن واسمه باذان أن يبعث له النبي (صلی الله علیه و آله) ! فأرسل باذان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأبلغه رسالة كسرى، فأجابه في اليوم التالي إن الله قد أخبرني أنه قتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا! فعاد الوفد مبهوتاً إلى باذان، وجاءه الخبر بتصديق ما قاله النبي (صلی الله علیه و آله) حرفياً فأسلم باذان فقبل النبي (صلی الله علیه و آله) إسلامه، ونصبه حاكماً على اليمن.

قال الأحمدي في مكاتيب الرسول: 2/499 و329، ملخصاً: «كانت اليمن كلها تحت حكم كسرى وكان عامله عليها وهرز «وهو الذي حرر اليمن من الحبشة مع سيف بن ذي يزن»ثم بعده المرزبان بن وهرز، ثم بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز، ثم بعده خرخسرة بن البينجان، ثم بعده باذان، حتى هلك كسرى وأسلم باذان فنصبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على اليمن كلها..فلم يعزله عنها حتى مات أو قتله الأسود العنسي، واستصفى زوجته المرزبانة لنفسه! ففرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمله ما بين شهر بن باذان، وعامر بن شهر الهمداني، وأبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد، ويعلى بن أمية، وعمرو بن حزم، وزياد بن لبيد، والطاهر بن أبي هالة، وعكاشة بن ثور المهاجر أو عبدالله...

والمراد بالأبناء أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن لما استنجد سيف بن ذي يزن،

ص: 464

فاسترجعوا ملك سيف، واستقروا في اليمن وتزوجوا في العرب، وسميت أبناؤهم بالأبناء، وغلب عليهم هذا الإسم».وابن هشام: 1/45.

2- ضعف سلطة باذان وتفكك اليمن

كانت قبائل اليمن تخضع للحاكم الفارسي وأسرته«الأبناء»لأن وراءهم أمبراطورية إذا طلبوا منها مدداً عسكرياً أرسلت لهم، لكن عندما قتل كسرى وضعفت فارس ونقل حكام اليمن ولاءهم من كسرى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) طمع زعماء القبائل وأخذوا يستقلون بمناطقهم فاحتاج النبي (صلی الله علیه و آله) لأن يرسل لكل منطقة حاكماً، فتوزع حكم اليمن. والحكام الذين عينهم النبي (صلی الله علیه و آله) كانوا مميزين عسكرياً لحاجة المنطقة إلى ذلك، أو أصحاب قبول ونفوذ في المناطق التي عينهم فيها. ويظهر أن نفوذ باذان والأبناء ضعف كثيراً حتى احتاجوا إلى التحالف مع القبائل: «فقالت الرسل من الفرس لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إلى من نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم منا وإلينا أهل البیت. قال ابن هشام: فبلغني عن الزهري أنه قال: فمن ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سلمان منا أهل البیت».سيرة ابن هشام: 1/45.

يقصد الراوي أن ولاء الفرس لبني هاشم، ولذا صار سلمان من أهل البیت، وهذا التعليل لايصح. ويظهر أن نفوذ باذان اقتصر على صنعاء وبعض مناطق اليمن فقط! فقد اتفق المؤرخون على أن قبائل همدان أسلمت على يد علي (علیه السلام)، وسجد النبي (صلی الله علیه و آله) شكراً لله على إسلامها وقال: السلام على همدان، وكان ذلك في السنة الثامنة بعد حنين، وقيل في العاشرة، كما أن قبائل مذحج أسلمت بعدها.

وهمدان ومذحج هما الشطر الأعظم من اليمن. ويؤيد ذلك أن الأسود العنسي ادعى النبوة وسيطر على صنعاء، وقتل باذان أو قتل ابنه الذي حكم بعده.

وقد بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن ثلاث مرات، في السنة الثامنة إلى قبائل همدان، وفي العاشرة إلى قبائل مذحج، وأرسله بينهما قاضياً على اليمن.

قال في أعيان الشيعة: 1/410: «قال دحلان في سيرته... بَعْثُ عليٍّ إلى همدان لم

ص: 465

يكن سنة عشر إنما كان سنة عشر بعثه إلى بني مذحج، وأما بعثه إلى همدان فكان سنة ثمان بعد فتح مكة، فيكون بعث علي إلى اليمن حصل مرتين».

وفي المستجاد من الإرشاد/111: «لما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام، ويبين لهم الحلال من الحرام، ويحكم فيهم بأحكام القرآن قال له: تندبني يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء. فقال له: أدنُ مني فدنا منه، فضرب على صدره وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه. قال أميرالمؤمنين: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام».

3- فتح علي (علیه السلام) لليمن

صعدنا درج صنعاء ودخلنا سوقها، فقالوا هذه الساحة «إسمها الحلقة»وسألنا عن معناها فقالوا: هنا وقف علي (علیه السلام) وقرأ كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأهل اليمن فتحَلَّقُوا حوله! وزرنا بعد الساحة مسجد علي (علیه السلام) وهو البيت الذي كان لامرأة فاستأجره علي (علیه السلام) وسكن فيه مدة عمله في اليمن، فحولته صاحبته إلى مسجد.

في الكافي: 5/28، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن وقال لي: يا علي لاتقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه».

وفي العدد القوية للحلي/251: «عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فكنت فيمن سار معه، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شئ! فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل«يُرجع»خالداً ومن اتبعه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه، فكنت ممن عقب مع علي، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن وبلغ القوم الخبر فجمعوا له، فصلى بنا علي صلاة الفجر، فلما فرغ صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك علي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما قرأ كتابه خر ساجداً ثم جلس فقال: السلام على همدان، وتتابع أهل اليمن الإسلام».

ص: 466

وروته مصادر السلطة وسماها ابن هشام: 4/1028و 1056: غزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى اليمن، غزاها مرتين، وتوغل في مناطقها.

وقال الصالحي في سبل الهدى: 6/235: «روى البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا. ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث علي بن أبي طالب مكان خالد وأمره أن يُقفل خالداً، وقال: مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل...الى آخره، وفيه: «وقال: إذا كان قتال فعليٌّ الأمير، قال: فافتتح عليُّ حصناً فغنمت أواقي ذوات عدد وأخذ علي منه جارية، قال: فكتب معي خالد إلى رسول الله يخبره! قال الترمذي: يعني النميمة! قال: فلما قدمت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقرأ الكتاب رأيته يتغير لونه فقال: ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله تعالى ورسوله؟ فقلت: أعوذ بالله من غضب الله تعالى وغضب رسوله، إنما أنا رسول». فسكت.

وفي رواية: فكتب خالد إلى رسول الله فقلت إبعثني فبعثني، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق، فإذا النبي (صلی الله علیه و آله) قد احمر وجهه فقال: من كنت وليه فعلي وليه! ثم قال: يا بريدة أتبغض علياً؟ فقلت: نعم. قال: لاتبغضه فإن له الخمس أكثر من ذلك. وفي رواية: والذي نفسي بيده لنصيب علي في الخمس أفضل من وصيفة، وإن كنت تحبه فازدد له حباً. وفي رواية: لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي. قال بريدة: فما كان في الناس أحد أحب إلي من علي!

قال الحافظ: كان بعث علي بعد رجوعهم من الطائف، وقسمة الغنائم بالجعرانة.. وهو وليكم بعدي: أي يلي أمركم.

الباب الثاني والسبعون في سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن المرة الثانية: قال محمد بن عمر«الواقدي» وابن سعد واللفظ للأول: قالوا بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً إلى اليمن في رمضان وأمره أن يعسكر بقناة، فعسكر بها حتى تتامَّ أصحابه. فعقد له

ص: 467

رسول الله (صلی الله علیه و آله) لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة، فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه، وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار، وجعل له ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه وقال له: إمض ولا تلتفت. فقال علي: يا رسول الله ما أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا فمرهم بالزكاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك. والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت.

فخرج علي في ثلاث مائة فارس فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغير ذلك، فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً.

ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة، فلما رأى أنهم لايريدون إلا القتال، صف أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم علي وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً، وكف علي عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالى. وجمع علي ما أصاب من تلك الغنائم، فجزأها خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله ثم أقرع عليها، فخرج أول السُّهمان سهم الخمس.

وقسم عليٌّ على أصحابه بقية المغنم، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس، ثم يخبرون رسول الله بذلك فلا يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرى فيه رأيه. وأقام فيهم يقرؤهم القرآن ويعلمهم الشرائع.

وكتب إلى رسول الله كتاباً مع عبدالله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر، فأتى

ص: 468

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يوافيه الموسم، فانصرف عبدالله بن عمرو بن عوف إلى علي بذلك فانصرف علي راجعاً، فلما كان بالفتقن«مكان»تعجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره الخبر، وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فوافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة قد قدمها للحج، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة ونعم وشاء مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم، فسأل أصحاب علي أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها، فكساهم منها ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليقدم بهم، فرأى على أصحابه الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ فقال: كلموني ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم. فقال: قد رأيت امتناعي من ذلك ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم! فنزع علي الحلل منهم! فلما قدموا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) شكوه، فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ قال: ما أشكيتهم، قسمت عليهم ماغنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك. فسكت رسول الله (صلی الله علیه و آله)». انتهى.

أقول: يظهر أن خالداً لم يطع أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فقد أمره أن يرجع، وخيَّر جنوده بين البقاء مع علي (علیه السلام) أو الرجوع! لكنه بقي يتتبع عمل علي (علیه السلام) ويرسل إلى النبي يشكوه! كما يتضح من روايتهم أن علياً (علیه السلام) أعطى جنوده أربعة أخماس الغنيمة فطمعوا في خمس النبي (صلی الله علیه و آله) واستغلوا مسارعة علي (علیه السلام) قبلهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأصروا على أبي رافع وأخذوا من الخمس الذي للنبي (صلی الله علیه و آله) بغير حق، فلما رجع علي (علیه السلام) نزعه منهم!وظلم رواة الحكومة علياً (علیه السلام) فصوروا أنه أخطأ مع جنوده!

ثم تابع الصالحي في سبل الهدى: «الباب الرابع والتسعون في وفود همدان إليه (صلی الله علیه و آله): قالوا قدم وفد همدان على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليهم مقطعات الحبرات مكففة بالديباج، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

نِعْمَ الحيُّ همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام. فأسلموا وكتب لهم النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً بمخلاف خارف، ويام، وشاكر،

ص: 469

وأهل الهضب، وحقاف الرمل من همدان، لمن أسلم منهم...

وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء: أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يعقب خالداً إلا رجلاً ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه.. إلى آخر ما تقدم».

وقال ابن إسحاق: فقام مالك بن نمط بين يديه فقال: يا رسول الله نصيَّةٌ من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواح، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام وشاكر، أهل السواد والقود أجابوا دعوة الرسول وفارقوا الإلاهات والأنصاب، عهدهم لا ينقض عن سِنَة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما أقام لعلع، وما جرى اليعفور بصيلع.

فكتب لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون ظلافها، ويرعون عفاءها، ولنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والتاب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري وعليهم فيها الصالغ والقارح. لكم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدكم المهاجرون والأنصار.

فقال في ذلك مالك بن نمط:

ذكرت رسول الله في فحمة الدجى *** ونحن بأعلى رحرحان وصلدد

وهن بنا خوص طلائح تغتلي *** بركبانها في لأحب متمدد

على كل فتلاء الذراعين جسرة *** تمر بنا مر الهجف الخفيدد

حلفت برب الراقصات إلى منى *** صوادر بالركبان من هضب قردد

بأن رسول الله فينا مصدق *** رسول أتى من عند ذي العرش مهتد

ص: 470

فما حملت من ناقة فوق رحلها *** أشد على أعدائه من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه *** وأمضى بحد المشرفي المهند»

ومن رواياتها عن أبي رافع: «بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد بن الوليد على الجبل فقال: إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله وأخذ علي جارية من الخمس، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال: إغتنمها فأخبر النبي ما صنع! فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟ فقلت: خيراً فتح الله على المسلمين، فقالوا: ما أقدمك؟ قلت: جارية أخذها علي من الخمس فجئت لأخبر النبي! فقالوا: فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي! ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ينتقصون علياً! من تَنَقَّصَ علياً فقد تنقصني ومن فارق علياً فقد فارقني! إن علياً مني وأنا منه خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بريدة: أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ وأنه وليكم بعدي؟فقلت: يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً! قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام»! أوسط الطبراني: 6/163.

أقول: بحثنا شكاية خالد وجواب النبي (صلی الله علیه و آله) في كتاب العقائد الإسلامية: 4/91، وتحريف البخاري وغيره لها.

وأخيراً، ادعى كعب الأحبار أنه لقي عليا (علیه السلام) باليمن وأسلم! ففي مغازي الواقدي/668: «لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود حتى استمعا له... قال كعب الأحبار: لما قدم علي اليمن لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد، فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم، فقال: مم تتبسم؟ فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته... قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله وتوفي أبو

ص: 471

بكر فقدمت في خلافه عمر، وياليت أني كنت تقدمت في الهجرة»!

وكذب كعب في ادعائه، لأنه إنما أعلن أنه مسلم في أواسط خلافة عمر!

4- أهدى علي (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أفراساً من اليمن

في الكافي: 6/535، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «أهدى أميرالمؤمنين (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة أفراس من اليمن فقال: سمها لي، فقال: هي ألوان مختلفة قال: ففيها وضح؟ فقال: نعم فيها أشقر به وضح، قال: فأمسكه عليَّ، قال: وفيها كميتان أوضحان، فقال: أعطهما ابنيك، قال: والرابع أدهم بهيم قال: بعه واستخلف به نفقة لعيالك، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح».

5- وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) قاضياً إلى اليمن

في بصائر الدرجات/472، عن عبدالعزيز القراطيسي: «قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك إن الناس يزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجه علياً (علیه السلام) إلى اليمن ليقضي بينهم فقال علي (علیه السلام): فما وردت على قضية إلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله (صلی الله علیه و آله). فقال صدقوا. قلت: وكيف ذاك ولم يكن أنزل القرآن كله، وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) غائباً عنه؟ فقال: يتلقاه به روح القدس».

وفي أمالي الصدوق/428: «عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً إلى اليمن فانفلت فرس لرجل من أهل اليمن فنفح رجلاً برجله فقتله، وأخذه أولياء المقتول فرفعوه إلى علي، فأقام صاحب الفرس البينة أن الفرس انفلت من داره فنفح الرجل برجله، فأبطل علي (علیه السلام) دم الرجل، فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يشكون علياً (علیه السلام) فيما حكم عليهم فقالوا: إن عليا ظلمنا وأبطل دم صاحبنا! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن علياً ليس بظلام، ولم يخلق علي للظلم، وإن الولاية من بعدي لعلي، والحكم حكمه، والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن. فلما سمع اليمانيون قول رسول الله (صلی الله علیه و آله)

في علي (علیه السلام) قالوا: يا رسول الله، رضينا بقول علي وحكمه. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 472

هو توبتكم مما قلتم». والتهذيب: 10/228.

أقول: من القواعد المتفق عليها أنه لا يبطل دم امرئ مسلم، فلا بد أن يكون إبطال دم الذي نفحه الفرس، بمعنى عدم ضمان صاحب الفرس لعدم تقصيره، فتكون ديته على الوالي من بيت المال.

6- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن ليصلح بينهم

في بصائر الدرجات/521، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم، فقلت له يا رسول الله (علیه السلام) إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث. فقال لي: يا علي (علیه السلام) إذا صرت بأعلى عقبة فيق فناد بأعلى صوتك: يا شجر يا مدر يا ثرى، محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقرؤكم السلام!قال: فذهبت فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي مشرعون أسنتهم، متنكبون قسيهم شاهرون سلاحهم، فناديت بأعلى صوتي: يا شجر يا مدر يا ثرى محمد (صلی الله علیه و آله) يقرؤكم السلام، قال: فلم يبق شجرة ولا مدرة ولا ثرى الا ارتجت بصوت واحد: وعلى محمد رسول الله وعليك السلام! فاضطربت قوايم القوم وارتعدت ركبهم، ووقع السلاح من أيديهم، وأقبلوا مسرعين فأصلحت بينهم وانصرفت».

7- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب

في البحار: 21/356 والإرشاد: 1/145: «لما عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر، قال: يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع، فقال يا عمرو: إنه ليس كما تظن وتحسب! إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى فينشر من مات، ويُصَفُّونَ جميعاً وتنشق السماء وتهد الأرض وتخر الجبال هداً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقیٰ ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه

ص: 473

إلا من شاء الله! فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال: ألا إني أسمع أمراً عظيماً، فآمن بالله ورسوله وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم.

ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبيّ بن عثعث الخثعمي، فأخذ برقبته ثم جاء به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أُعْدُني على هذا الفاجر الذي قتل والدي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية، فانصرف عمرو مرتداً، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب، ومضى إلى قومه! فاستدعى رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب وأمره على المهاجرين وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد لجعفى، فإذا التقيا فأمير الناس أميرالمؤمنين. فسار أميرالمؤمنين (علیه السلام) واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري، فأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فذهبت فرقة إلى اليمن وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد، فبلغ ذلك أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكتب إلى خالد بن الوليد: أن قف حيث أدركك رسولي فلم يقف! فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص: تعرض له حتى تحبسه، فاعترض له خالد حتى حبسه، وأدركه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فعنفه على خلافه! ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له كثير، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا با ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة؟ قال: سيعلم إن لقيني! قال: وخرج عمرو فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقام إليه خالد بن سعيد وقال له: دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه، فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك فوقف، ثم برز إليه أميرالمؤمنين (علیه السلام) فصاح به صيحة فانهزم عمرو! وقتل أخاه وابن أخيه. وأُخِذَت امرأته ركانة بنت سلامة، وسبي منهم نسوان، وانصرف أميرالمؤمنين (علیه السلام) وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمِّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له، فعاد إلى الإسلام، فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له! وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً، وكان يسمى سيفه الصمصامة،

ص: 474

فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده، وهب له عمرو الصمصامة.

وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) قد اصطفى من السبي جارية، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقَعْ فيه! فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه فقال له عمر: إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي!

فدخل بريدة على النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة، فجعل يقرأه ووجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتغير فقال بريدة: يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً؟ إن علي بن أبي طالب يحل له من الفئ ما يحل لي، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي! يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله! قال بريدة: فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله.يارسول الله إستغفر لي، فلن أبغضن علياً أبداً ولا أقول فيه إلا خيراً، فاستغفر له النبي (صلی الله علیه و آله)».

أقول: نلاحظ أن خالد بن الوليد كان مأموراً من النبي (صلی الله علیه و آله) بطاعة علي (علیه السلام)، ولكنه كان يتصرف كأنه مستقل، وقد تركه علي (علیه السلام) حتى إذا خشي الضرر من تصرفه أمر خالداً بن سعيد أن يمنعه بالقوة من مواصلة مسيره، فمنعه!

وهذا يثبت شجاعة خالد بن سعيد وخوف خالد بن الوليد منه ومن علي (علیه السلام)، لأنهما أشجع منه، ومكانته في قريش ومكة أعلى من مكانته!

وقد يكون علي (علیه السلام) منعه من التقدم إلى زبيد لخوفه عليه من الهزيمة أمام ابن معديكرب وهو هزيمة للمسلمين، ثم ظهر أن علياً (علیه السلام) كان أعد خطة لهزيمة ابن معديكرب بدون أن يقتله! ولا بد أن ابن الوليد بهت لفزع عمرو من صرخة علي (علیه السلام) ! ويبدو أن تلك الصرخة الحيدرية بأمر النبي (صلی الله علیه و آله) وفيها سرٌّ من أسراره! لأنه (صلی الله علیه و آله)

ص: 475

لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو: «يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع»! وعندما ارتد عمرو أراه الله الفزع في الدنيا، وأبقاه حياً.

8- الأسود العنسي يدعي النبوة في اليمن

في البحار: 21/411: «لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حجه طارت الأخبار بأنه قد اشتكى فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة، فأما الأسود العنسي فاسمه عهيلة بن كعب، وكان كاهنا يشعبذ ويريهم الأعاجيب ويصمي منطقه قلب من يسمعه.

وكان أول خروجه بعد حجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسار إلى صنعاء فأخذها، فكتب فروة بن مسيك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخبره وكان عامل رسول الله على مراد، وخرج معاذ بن جبل هارباً حتى مر بأبي موسى الأشعري وهو بمارت فاقتحما حضر موت، ورجع عمرو بن خالد إلى المدينة، وقتل شهر بن باذام وتزوج امرأته، وكانت ابنة عم فيروز، فأرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى نفر من الأبناء رسولاً وكتب إليهم أن يحاولوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأمرهم أن يستنجدوا رجالاً سماهم لهم ممن حولهم من حمير وهمدان، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم، فدخلوا على زوجته فقالوا: هذا قد قتل أباك وزوجك فما عندك؟ قالت: هو أبغض خلق الله إليَّ وهو مجرد والحرس محيطون بقصره إلا هذه البيت فانقبوا عليه فنقبوا، ودخل فيروز الديلمي فخالطه فأخذ برأسه فقتله، فخار خوار ثور فابتدر الحرس الباب فقالوا: ما هذا؟ فقالت: النبي يوحى إليه ثم خمد! وقد كان يجئ إليه شيطان فيوسوس له فيغط ويعمل بما قاله، فلما طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ثم بالأذان وقالوا فيه: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عهيلة كذاب، وشنوها غارة وتراجع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)

إلى أعمالهم، وكتبوا إلى رسول الله بالخبر فسبق خبر السماء إليه، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل موته بيوم أو بليلة فأخبر الناس بذلك، فقال: قتل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز، فاز فيروز، ووصل الكتاب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد مات إلى أبي بكر. وكان من أول خروجه إلى أن قتل نحو أربعة أشهر. وفيروز قيل: إنه ابن أخت النجاشي وقيل هو من أبناء فارس.

ص: 476

وأما مسيلمة بن حبيب الكذاب فكان يقال له: رحمن اليمامة، لأنه كان يقول: الذي يأتيني اسمه رحمن، وقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيمن أسلم ثم ارتد لما رجع إلى بلده، وكتب إلى رسول الله: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض لنا نصف ولقريش نصف، ولكن قريش قوم يعتدون»!

وفي الينابيع الفقهية: 9/143: «وقيل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله): بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار، وهو الأسود العنسي وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فبيته فيروز الديلمي فقتله. وأخبر رسولُ الله بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغد. وبنو حنيفة قوم مسيلمة الذي تنبأ. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ أيضاً ثم أسلم وحسن إسلامه. وبعد وفاة رسول (صلی الله علیه و آله) كفى الله أمرهم».

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/94: «وأخبَرَ (صلی الله علیه و آله) بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء وأخبر بمن قتله». راجع: مكاتيب الرسول: 1/278 و270: كتبه في الردة في قتل الأسود العنسي. والإستيعاب: 2/698 والإصابة: 2/330، الطبقات: 5/534

وتاريخ دمشق: 6/127.

ص: 477

الفصل الخامس والستون: أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) یشاركن فی الصراع على الخلافة

1- نشاط زعماء قريش بعد هزيمتهم

كانت أكبر ضربة تلقاها زعماء قريش في كل حياتهم، يوم فاجأهم النبي (صلی الله علیه و آله) بجنود الإسلام مكة وأجبرهم على خلع سلاحهم وإعلان الإستسلام!

في تلك الأيام عاشوا أشد أيام حياتهم ذهولاً وحيرة! فقد أسقط في أيديهم تماماً بعد معركة امتدت عشرين سنة مع محمد وبني هاشم، وكانوا فيها قبل فتح مكة منتصرين أحياناً، أو سجالاً متعادلين أحياناً!

ولما دعاهم النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المسجد حضروا مجبرين خائفين، وأعلنوا إسلامهم تحت سيف النبي (صلی الله علیه و آله) وخطب فيهم ووبخهم! ثم أعلنهم«طلقاء»! فلا هم عبيد ولا عتقاء، ثم أطمعهم في الدنيا، ودعاهم إلى حرب هوازن معه في حنين! إنها سياسة الحزم والتطميع، وهي لا ترفع حيرتهم بل تزيدها!

فهل يستسلمون لدولة محمد وبني هاشم، أم يوجد طريقٌ للخروج من هذه الأزمة؟! وهل تدور الأيام فيستطيعون جمع العرب من جديد لقتال محمد؟

هكذا كان يفكر أبوسفيان وهو يطوف، فالتفت اليه النبي (صلی الله علیه و آله) وضرب بيده في صدره وقال: إذن يخزيك الله ياأبا سفيان! الصحيح:22/321.

أم هل يرون هوازن وقد انتصرت عليه فينتهي دينه: «وترجع العرب إلى دين آبائها،

ص: 478

وقد قتل محمد وتفرق أصحابه»! كما قالوا عندما وقعت على المسلمين الهزيمة في أول جولة من معركة حنين؟!سبل الهدى: 5/230.

أم هل يستطيعون تدبير قتله فيحلون مشكلتهم معه، وقد حاولوا ذلك قبل فتح مكة، فلم ينجحوا! أم هل ينتظرون، كما ينصحهم صحابته القرشيون، حتى يموت فيرثوا دولته؟!

وكيف يمكن لهم ذلك وهو يرتب الأمر من بعده لابن عمه وصهره علي الذي هو في الثلاثينات من عمره، ثم من بعده لأولاد ابنته فاطمة، الحسن والحسين، ومعهم لايبقى لقبائل قريش شئ!

واتخذ زعماء قريش قرارهم الذي كانوا اتخذوه سابقاً، وهو العمل على هذه الجبهات جميعاً! وظهرت نواياهم عند هزيمة المسلمين في الجولة الأولى في حنين، واعترف اثنان من شخصياتهم بأنهما حاولا قتل النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يستطيعا!

وكانت الخطوة التالية أن عزلوا أبا سفيان عن قيادتهم، ولم يشفع له أنه ما زال يشاركهم في عداوة محمد (صلی الله علیه و آله)، فقد اعتبروه ضَعُفَ أو داهن في فتح مكة، فلم يأخذ لهم شروطاً تحفظ وجودهم، كالتي أخذها سهيل بن عمرو في الحديبية!

واختاروا سهيلاً قائداً بدل أبي سفیان، وضيقوا دائرة مشورتهم في العمل ضد محمد، وأبعدوا منها أبا سفيان وبني أمية لأنهم من بني عبدمناف، فاضطر أبوسفيان للذهاب إلى المدينة، لعله يجد مجالاً للعمل في دولة محمد!

وقد عمل سهيل بن عمرو لإعادة كيان قريش الذي انهار بفتح مكة، وأخذ يتصرف في مكة متجاهلاً عتَّاب بن أسيد الذي عينه النبي (صلی الله علیه و آله) حاكماً، وأخذ يراسل النبي (صلی الله علیه و آله) بطلبات قريش منه، باعتبارهم ما زالوا كياناً مقابله كما كانوا!

ووجد سهيل عضدين قويين يساعدانه من الصحابة القرشيين هما أبو بكر وعمر فكان ينزل عندهما في المدينة، ويذهبان معه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ويؤيدان طلباته! وكان من أهم الأعمال التي قاموا بها في السنة الثامنة، أنهم شجعوا هجرة القرشيين المبغضين لبني هاشم إلى المدينة. وقاموا في المدينة بحملات دعاية ضد

ص: 479

بني هاشم، حتى أنهم كانوا يقولون إن «محمداً» نشاز في هؤلاء السيئين!

فضجَّ منهم الأنصار واشتكوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: «إنا نسمع من قومك، حتى يقول القائل: إنما مثل محمد كمثل نخلة نبتت في كبا «مزبلة»! فخطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أيها الناس من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله، فقال: أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. قال فما سمعناه انتمى قبلها قط، ثم قال: إن الله تعالى خلق خلقه فجعلني في خير خلقه، ففرقهم فريقين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم فرقهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً».

مسند أحمد: 1/210.

وتواصلت دعاية قريش ضد بني هاشم، حتى كانوا يعبسون في وجوههم! فشكى بنو هاشم ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ووصف هو ذلك بأن أحدهم إذا رأى هاشمياً فكأنما يفقأ في عينيه حب الرمان الحامض!

وجاء العباس يوماً مغضباً وقال: «يارسول الله ما لنا ولقريش! إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك! قال فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى احمر وجهه، ثم قال: والذي نفسي بيده لايدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله».الترمذي: 5/317.

وقد جمعناها أحاديثهم وكفرياتهم من مصادرهم في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 1/179. وركزت قريش دعايتها ضد علي (علیه السلام) خاصة لإسقاط شخصيته، والإنتقام منه لقتله زعماءها وأبطالها، وتهيئة الجو لعزله بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ! وعملت لذلك أعمالاً عديدة في حرب النبي (صلی الله علیه و آله) وسلمه وسفره وحضره (صلی الله علیه و آله) !

وقد غضب النبي (صلی الله علیه و آله) من ذلك مراراً وشدد دفاعه عن علي (علیه السلام)، وخطب أكثر من مرة مبيناً مكانته وفضله، ونفاق من يؤذيه ويبغضه، أو كفره! ولو لم يكن منها إلا قصة بريدة الأسلمي، التي روتها مصادر السنيين بطرق عديدة وأسانيد صحيحة لكفى، فقد كشفت عن وجود شبكة عمل منظم ترسل الرسائل من اليمن إلى المدينة، وتضع الخطط ضد علي (علیه السلام) !

ص: 480

وروت إدانة النبي (صلی الله علیه و آله) وغضبه عليهم وتصريحه بأن علياً «وليكم من بعدي» كما رواه أحمد والنسائي، وأن كل من ينتقد علياً (علیه السلام) ولا يحبه ولا يطيعه، فهو منافق خارج عن الإسلام! لكن القرشيين لم يسمعوا أوامر النبي (صلی الله علیه و آله) في حق علي (علیه السلام) في حياته فكيف بهم بعد وفاته؟!

ثم تزايدت فعالية القرشيين حتى وصلت في السنة التاسعة إلى وضع خطة قوية لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في طريق رجوعه من تبوك، ويأتي ذلك في مؤامرة ليلة العقبة.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلی الله علیه و آله) وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه! حتى قذفت زوجته! ونَفَّرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها! وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته»!شرح النهج:20/298.

ثم صارت عدواتهم للنبي (صلی الله علیه و آله) في أهل بيته: ميثاقاً سرياً مع اليهود، قال الله عنها في سورة محمد (صلی الله علیه و آله) التي نزلت تلك السنة: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. محمّد: 25-26.

2- كانت ولادة ابراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله) كارثة على قريش!

في السنة الثامنة للهجرة حدث أمرٌ أربك القرشيين وزاد من صعوبة عملهم في تسقيط سمعة علي (علیه السلام) وبني هاشم، فقد رزق النبي (صلی الله علیه و آله) بولد، وصار برأي قريش وريثه حسب العرف القبلي، وفي الإسلام بقانون الأسرة الربانية المختارة: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ.ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. لذا نشطت عناصر قريش من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) في العمل لإبطال وراثة إبراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله) لأبيه باتهام والدته مارية القبطية لنفيه عن النبي (صلی الله علیه و آله) !

فاضطر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُسكنها بعيداً عند بيت أبي رافع، وأنزل الله براءتها قرآناً فجعلتها عائشة براءة لها، فأنزل الله سورة التحريم وفيها كشف انحراف اثنتين

ص: 481

من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وتهديد لهما! لكنهما واصلتا العمل فتفاقم الأمر حتى غضب النبي (صلی الله علیه و آله) واعتزل نساءه شهراً في أوائل السنة التاسعة، وشاع خبر أنه طلقهن!

قال ابن كثير: 3/710: «رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة لليال بقين من ذي الحجة في سفرته هذه «فتح مكة».«وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مارية القبطية، فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولداً ذكراً».

وقال ابن سعد في الطبقات: 1/135: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجب مارية، وكانت قد ثقلت على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وغرن عليها، ولا مثل عائشة».

3- سورة التحريم كشفت الحزب القرشي في بيت النبي (صلی الله علیه و آله)

عاد النبي (صلی الله علیه و آله) من فتح مكة وحرب حنين في ذي القعدة من السنة الثامنة، وحدثت أحداثٌ تتعلق ببيته وأزواجه، استوجبت أن يهجر عائشة ثلاثة أشهر! «ذا الحجة والمحرم وبعض صفر».طبقات الشافعية: 6/319 والصحيح: 26/68.

وقالوا إن ذلك بسبب حديث الإفك واتهام بعضهم لعائشة، لكن تهمة عائشة كانت في غزوة المريسيع في شعبان من السنة الخامسة، «إعلام الورى: 1/196». وهجره لها كان في آخر السنة الثامنة وأول التاسعة، وقد رووا أنه (صلی الله علیه و آله) هجرها شهراً وليس ثلاثة أشهر! «فتح الباري: 8/363». وقالوا إنه هجرها بسبب أنها لم تعط بعيرها إلى صفية! وهذه عادتهم في تبسيط أسباب غضب النبي (صلی الله علیه و آله) على زوجاته وجعلها أموراً عادية، لإبعادها عن عملهن ضده لمصلحة قريش! لكن سورة التحريم، كشفت أن حفصة وعائشة أفشتا سره (صلی الله علیه و آله) وتآمرتا عليه!وهددهن الله بجيش جرار لايستنفر إلا في حالات الخطر على الرسالة والرسول!

وهذا واضح من نص السورة قال تعالى:

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ 3 إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ4 عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا 5.

ص: 482

ثم قال تعالى لهما: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ 10.

فقد نصت على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أسرَّ لهما بحديث وأكد عليهما أن لا تقولاه، ولا بد أن الله أمره بذلك لحكمة يعلمها. لكنهما خانتا وأفشتا سر النبي (صلی الله علیه و آله) فأطلعه الله، فهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط، اللتين خانتا زوجيهما النبيين وكفرتا فدخلتا النار!

قال العلامة في نهج الحق/370: «وأفشت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين أن عمر خليفة أبيها شهد عليها بذلك. ونقل الغزالي سوء صحبتها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن أباها أبابكر دخل يوماً على النبي (صلی الله علیه و آله) وقد وقع منها في حق النبي أمر مكروه، فكلفه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يسمع ما جرى ويدخل بينهما فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): تتكلمين أو أتكلم؟ فقالت: بل تكلم ولا تقل إلا حقاً! فلينظر العاقل إلى هذا الجواب وهل كان عنده إلا الحق؟ وينظر في الفرق بين خديجة وعائشة. وقد أنكر الجاحظ من أهل السنة في كتاب الإنصاف غاية الإنكار على من يساوي عائشة بخديجة، أو يفضلها عليها».

وفي تأويل الآيات: 2/697: «سبب نزول هذه الآيات أن النبي (صلی الله علیه و آله) أسرَّ إلى عائشة وحفصة حديثاً وهو أن أبابكر وعمر يليان الأمر من بعده بالقهر والغلبة، فلما أسر إليهما ذلك عرفت كل واحدة أباها، وأفشت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فأنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) يخبره بما فعلتا.. وَصَالِحُ المؤمنين: أميرالمؤمنين (علیه السلام) على ما رواه محمد بن العباس (رحمة الله) من طريق العام والخاص، أورد في تفسيره هذا المنقول اثنين وخمسين حديثاً، اخترنا منها بعضها، فقد قال لغلامه ابن أبي رافع لما بكى وقال: من لي ولولدي بعدك يا رسول الله؟قال: لك الله بعدي، ووصيي صالح المؤمنين علي بن أبي طالب. لكن رواة الخلافة القرشية أغمضوا عن الخطر على الإسلام، الذي تحدثت عنه السورة واستنفر له الله تعالى جيشاً لحالة الخطر القصوى؟!

يبقى السؤال: لماذا أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) عائشة بأن أبوها سيتسلط على الأمة

ص: 483

بعده؟! وجوابه: أن قريشاً كانت تخطط لإعلان الردة بحجة أن محمداً (صلی الله علیه و آله) يريد أن يؤسس ملكاً لبني هاشم، فهو ليس بنبي! فأخبر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) بذلك وأمره أن يطمئنهم ليحفظوا نبوته، وإن أخذوا الحكم بعده، وأبعدوا عترته:!

4- اتهامهم مارية وتبرئة الله لها

قال ابن سعد: 8/212: «بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في سنة سبع من الهجرة بمارية وبأختها سيرين، وألف مثقال ذهباً، وعشرين ثوباً ليناً، وبغلته الدلدل وحماره عفير ويقال يعفور، ومعهم خِصْيٌ يقال له مابور شيخ كبير، كان أخا مارية... فجاء أبو رافع زوج سلمى فبشر رسول الله بإبراهيم فوهب له عبداً، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان».

وقالت عائشة كما في الطبقات: 8/212: «ما غرتُ على امرأة إلا دون ما غرتُ على مارية! وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا، فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها، حتى فرغنا لها فجزعت! فحولها إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا، ثم رزق الله منها الولد وحرمنا منه».

وعبَّرت عائشة بقولها: فرغنا لها فجزعت! عن سنتين من صراعها مع مارية، وتفرغها هي وحفصة لأذية مارية المؤمنة الغافلة الغريبة! وروي من أذيتهن الكلام والأفعال والضرب والشد بالشعر! فخشي النبي (صلی الله علیه و آله) عليها وعلى حملها! وكان له بستان في العوالي يسكن فيه غلامه أبو رافع (رحمة الله) وزوجته سلمى وكانت مؤمنة عاقلة، فبنى لأم إبراهيم غرفة وأسكنها هناك وكان يذهب اليها. فزاد عداء عائشة وحزبها لمارية، وتضاعف حسدهن عندما رزقت بإبراهيم (علیه السلام) !

بل دخل العنصر القرشي بوقاحة لأنه صار للنبي (صلی الله علیه و آله) وارث من صلبه! وقد بلغت جلافتهم أن قالوا: إن إبراهيم لا يشبه النبي (صلی الله علیه و آله) !واتهموا مارية فغضب على نسائه واعتزلهن وسكن في بيت مارية (علیها السلام)، فنزلت آيات الإفك وبراءة مارية وآيات

ص: 484

تخيير النبي (صلی الله علیه و آله) لأزواجه بين الزوجية والطلاق.

وتدل أحاديث إبراهيم (علیه السلام) على خوف قريش أن يجعله النبي (صلی الله علیه و آله) خليفته بدل علي والحسنين:! فأشاعوا أن إبراهيم (علیه السلام) لايشبهه!

قال علي (علیه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلی الله علیه و آله) وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته، ونَفَّرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته»!شرح النهج: 20/298.

وروى في المنتظم: 3/346، عن عائشة: «لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إليَّ فقال: أنظري إلى شبهه بي، فقلت: ما أرى شبهاً»!

وأكدت عائشة أن الذي اتهم مارية غيرها فقالت، «الحاكم: 4/39»: «أهديت مارية إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعها ابن عم لها، قالت: فوقع رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليها وقعة فاستمرت حاملاً، قالت فعزلها عند ابن عمها، قالت فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره! وكانت أمةً قليلة اللبن، فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذى بلبنها فحسن عليه لحمه.

قالت عائشة: فدُخل به على النبي (صلی الله علیه و آله) ذات يوم فقال: كيف ترين؟ فقلت: من غُذِّيَ بلحم الضأن يحسن لحمه. قال: ولا الشبه؟ قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت ما أرى شبهاً! قالت: وبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يقول الناس! فقال لعلي: خذ هذا السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته! قالت: فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً، قال فلما نظر إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة، قال فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله له ما للرجال، شئ ممسوح».

وقال في شرح النهج: 9/190، عن عائشة: «وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمى ويستشري، حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان».

وصرحت مصادرنا بأن عائشة هي التي اتهمت مارية فقالت للنبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 485

بعد موت إبراهيم: «ما الذي يحزنك عليه إنه ابن جريح القبطي! فبعث النبي علياً ليقتله فخاف منه جريح فتسلق نخلة في بستان فانكشف ثوبه فإذا ليس له ما للرجال، فرجع علي (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره بما رأى فقال (صلی الله علیه و آله): الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البیت، ثم نزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاتَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ».«تفسير القمي: 2/318».

قال في الصحيح من السيرة: 26/23: «إن أقوالها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) حول ولده إبراهيم بعيدة كل البعد عن أبسط قواعد الأدب والإلتزام والإحترام.. فلماذا هذا الطعن المتوالي الممعن في القسوة لقلب الإنسانية الطافح بالرحمة والمودة والحنان والغيرة، والشعور بالكرامة والعزة؟! وهل يجرؤ إنسان يدَّعي أنه قريب وحبيب على التصريح لمن يحبه ويتقرب منه بأن ولده الذي يبكي عليه، وقد مات قبل ساعة أو ساعات: ليس ولده الشرعي»؟!

بل افتروا على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه هو اتهم مارية، وأنه شكاها إلى عمر بن الخطاب! فقد روى في مجمع الزوائد: 9/161، أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب إلى مارية: «فوجد قريبها عندها فوقع في نفسه من ذلك شئ، كما يقع في أنفس الناس، فرجع متغير اللون فلقي عمر فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم، فأخذ السيف فوجده ممسوحاً. فرجع إلى النبي وطمأنه!

وقال أنس: «لما ولد إبراهيم من مارية جاريته كان يقع في نفس النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أتاه جبريل (علیه السلام) فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم».الإصابة: 1/218.

إن مجرد وجود روايات من هذا النوع يدلك على أن عرض النبي (صلی الله علیه و آله) وكرامته كانت تلوكها ألسنتهم، وأن الغرض منها الطعن بعرضه لترثه قريش دون عترته!

ويسهل عليك أن تجد أصابع قريش في قول عائشة: «فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره»!

ومعناها أنهم كانوا يرون أن النبي (صلی الله علیه و آله) بحاجة إلى ابن ليرثه ويرأس دولته، فيجعله في وصاية أحد حتى يكبر! والحل أن ينفوه عنه، ويرثوا ملكه!

ص: 486

وعندما لم ينفع ذلك وأنزل الله براءة مارية، فالحل قتل هذا الطفل المرشح لخلافة أبيه، ومن يدري فقد يكون إبراهيم (علیه السلام) قتل بالسم!

هذا، وقد بحث صاحب الصحيح قصة الإفك في مجلد كامل، وخلاصة ما قاله في ختامه: 13/386: «إن الإفتراء على مارية واتهامها بمابور مما أجمعت الأمة على حصوله. ذكر ذلك كل من ترجم لمارية وإبراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله)، فقصة الإفك عليها أمر لا ريب فيه، وفيها نزلت آيات سورة النور ولا يصح ذلك في عائشة! ومن الأدلة والشواهد عليها أن مارية لم يكن لها أحد يدافع عنها فحرفت عائشة اتهامها وبراءتها لتنطبق عليها»!

راجع: رسالة حول خبر مارية للمفيد، وأمالي المرتض: 1/54، وسيرة ابن إسحاق: 5/252، أنساب الأشراف/362، الطبقات: 1/137، اليعقوبي: 2/87، حلية الأولياء: 3/177، صفة الصفوة: 2/78، الأحاديث المختارة: 2/353، مسند البزار: 2/237، غوامض الأسماء: 1/498، مجمع الزوائد: 4/329، الآحاد والمثاني: 5/450، الفائق: 1/287، تاريخ دمشق: 3/236، النهاية: 5/325، سيرة ابن كثير: 4/600،سبل الهدى:11/219 وكنز العمال: 5/454.

وأخيراً، في منهج الرشاد:3 /265: «سأل جميل بن دراج الإمام الصادق (علیه السلام) عن أطفال الأنبياء: فقال: ليسوا كأطفال الناس. وسأله عن ابراهيم بن رسول الله فقال: لو بقي كان صديقاً نبياً؟ لو بقي كان على منهاج أبيه (صلی الله علیه و آله)».

وسأل رجلٌ علياً (علیه السلام): «أرأيت لو كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ! ولولا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلَّماً إلى العز والأمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً. ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء».شرح النهج: 20/298.

ص: 487

5- إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

1. كان إبراهيم (علیه السلام) أبيض حنطياً مشرباً بحمرة، شبيهاً بأبيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعاش سنة ونصفاً، وروي: سنة وعشرة أشهر. وفي الإستيعاب ملخصا: ً1/54: «ولدته أمه مارية في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، بالعالية في مشربة أم إبراهيم وكانت قابلتها سلمى امرأة أبي رافع، فبشر أبو رافع به النبي (صلی الله علیه و آله)، فوهب له عبداً، فلما كان يوم سابعه عقَّ عنه بكبش وحلق رأسه، وسماه يومئذ، وتصدق بوزن شعره ورقاً على المساكين، ودفن شعره في الأرض.ودفعه إلى أم بردة، بنت المنذر من بني النجار لترضعه، وكانت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قطعة من الضأن، فكانت تؤتى بلبنها كل ليلة فتشرب منه وتسقي ابنها».

وقد توفيت مارية سنة16هجرية، ودفنت قرب ابنها (علیهما السلام) بالبقيع.الطبقات:8/216.

2. في الكافي: 3/463 والمحاسن: 2/313 عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «لما قبض إبراهيم ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) جرت فيه ثلاث سُنن. أما واحدة فإنه لما مات انكسفت الشمس فقال الناس انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تجريان بأمره مطيعان له، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف. فلما سلم قال: يا علي قم فجهز ابني قال: فقام علي بن أبي طالب (علیه السلام) فغسل إبراهيم وكفنه وحنطه ومضى، فمضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى انتهى به إلى قبره فقال الناس: إن رسول الله نسي أن يصلي على ابنه لما دخله من الجزع عليه، فانتصب قائماً ثم قال: إن جبرئيل (علیه السلام) أتاني فأخبرني بما قلتم، زعمتم أني نسيت أن أصلي على ابني لما دخلني من الجزع، ألا وإنه ليس كما ظننتم، ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات، وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة، وأمرني أن لا أصلي إلا على من صلى.

ثم قال: يا علي إنزل والحد ابني، فنزل علي فألحد إبراهيم في لحده، فقال الناس إنه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر ولده، إذ لم يفعل رسول الله بابنه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 488

يا أيها الناس إنه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم، ولكن لست آمن إذا حل أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان، فيدخله عن ذلك من الجزع ما يحبط أجره».

أقول: ورد عندنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) صلى على ابنه إبراهيم (علیه السلام) وكبر عليه خمساً. «المعتبر: 2/348» ومشهور فقه مذهبنا أنه لاتجب صلاة الميت على الأطفال حتى يبلغوا ست سنين، وقيل تستحب الصلاة على من هم أصغر سناً.

3. في كشف اليقين/321، عن ابن عباس: «كنت عند النبي (صلی الله علیه و آله) وعلى فخذه الأيسرابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي (علیهما السلام)، وهو يقبل هذا تارة وذلك أخرى، إذ هبط جبريل (علیه السلام) فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرأ عليك السلام ويقول لك: لست أجمعهما لك فافد أحدهما بصاحبه! فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى إبراهيم وبكى، ونظر إلى الحسين وبكى، وقال: إن إبراهيم متى مات لم يحزن عليه غيري، وأما الحسين متى مات حزنت عليه ابنتي وحزن ابن عمي وحزنت أنا، وأنا أؤثر حزني على حزنهما. يا جبرئيل يقبض إبراهيم فقد فديت الحسين به. قال: فقبض بعد ثلاثة، فكان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا رأى الحسين مقبلاً، قبَّله وضمه إلى صدره ورشف ثناياه وقال: فديتُ من فديته بابني إبراهيم:». وتاريخ بغداد: 2/200، تاريخ دمشق: 52/324 والطرائف/202.

4. لما مات إبراهيم (علیه السلام) قال (صلی الله علیه و آله): أدفنوه في البقيع فإن له مرضعاً في الجنة.. بعث علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى أمه مارية القبطية وهي في مشربة، فحمله علي في سفط وجعله بين يديه على الفرس ثم جاء به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فغسله وكفنه وخرج به وخرج الناس معه، وقال لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه، فأتاه فانكب عليه وبكى، وقال: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا مايرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

ودفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد، فدخل علي (علیه السلام) في قبره وسواه عليه ودفنه، ثم خرج و رش على قبره الماء، وأدخل رسول الله يده في قبره وبكى

ص: 489

وبكى المسلمون حتى ارتفع الصوت. ثم رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في قبره خللاً فسواه بيده، ثم قال: اذا عمل أحدكم عملاً فليتقن، ثم قال: إلحق بسلفك الصالح عثمان بن مظعون. وقال الواقدي: مات ابراهيم يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهراً».الكافي: 3/262، الصحيح: 26/28 وحياة النبي لقوام: 3/243.

أقول: يتعجب الإنسان من تعبير النبي (صلی الله علیه و آله) عن عثمان بن مظعون الجمحي بأنه سلفه (صلی الله علیه و آله)، مع أن سلفه آباؤه الطاهرون:. لكنه يدل على أن ابن مظعون له مكانة خاصة، وانه جزء من سلفه الصالح العظماء سلام الله عليهم، وهو أخو النبي (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، وكان مستقيماً في الجاهلية.

5. في مسكن الفؤاد للشهيد الثاني/93: «عن أسماء ابنة زيد قالت: لما توفي ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إبراهيم (علیه السلام) بكى رسول الله فقال له المعزي: أنت أحق من عظم الله عزوجل حقه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد حق وموعود جامع وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدناه، وإنا بك لمحزونون.

فقال له عبدالرحمن بن عوف: يا رسول الله تبكي، أوَلم تُنه عن البكاء؟ فقال: إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان.

إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزناً أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب عزوجل. وعن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) حين توفي ابنه وعيناه تدمعان فقال: يا نبي الله تبكي على هذا السخل؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهلية كلهم أشب منه أدسه في التراب، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): فماذا، إن كانت الرحمة ذهبت منك، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا على إبراهيم لمحزونون. قال: ريحانة وهبها الله لي وكنت أشمها».

ص: 490

6- ساءت علاقة النبي (صلی الله علیه و آله) بزوجاته فهجرهن!

تضمنت سورة التحريم تهديداً لزوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بالطلاق! ثم ازداد سوءاً في أوائل السنة التاسعة فهجرهن واعتزل منزله، وسكن على بعد كيلو مترات عنهن وعن المسجد، في بيت مارية القبطية في ضاحية المدينة، وبقي هناك شهراً، وشاع خبر غضبه و طلاقه لهن! مغني المحتاج: 3/343.

وزعم شخصيات قريش أنها حادثة شخصية سببها طلبات نساء النبي المعيشية! ولا ربط لها بالقضية التي كانت تشغل الساحة بعد حجة الوداع وهي خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) ! لكن أي حادثة شخصية هذه التي نزلت فيها سورة التحريم والتهديد؟ولماذا أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يهجر نساءه وبيته ومسجده، ويعلن غضبه عليهن حتى شاع أنه طلقهن!

7- ملاحظات حول سورة التحريم وهجر النبي (صلی الله علیه و آله) لأزواجه

1-تعمد القرشيون أن يخلطوا خَمْس مسائل لتضييع الحقيقة!مع أنها مختلفة موضوعاً وزماناً! فآيات الإيلاء نزلت في سورة البقرة، في أول الهجرة.

وتهمة عائشة كانت في السنة الخامسة، في غزوة المريسيع أو بني المصطلق!

وتهمة مارية كانت في أوائل السنة الثامنة، بعد حملها بإبراهيم (علیه السلام) !

ونزول سورة التحريم كان بعد فتح مكة، واتجاه قريش لإعلان الردة!

وهجْر النبي (صلی الله علیه و آله) لزوجاته كان في السنة التاسعة، قبيل غزوة تبوك.

قال الصدوق (رحمة الله) في الفقيه: 3/517: «قال أبي رضی الله عنه في رسالته إليَّ: إعلم يا بنيَّ أن أصل التخيير«تخيير أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بين الطلاق والبقاء»هو أن الله تبارك وتعالى أنفَ لنبيه (صلی الله علیه و آله) من مقالة قالتها بعض نسائه: أيَرى محمد أنه لو طلقنا لا نجد أكفاءنا من قريش يتزوجونا؟! فأمر الله نبيه أن يعتزل نساءه تسعاً وعشرين ليلة، فاعتزلهن النبي (صلی الله علیه و آله) في مشربة أم إبراهيم، ثم نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً

ص: 491

جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً، فاخترن الله ورسوله فلم يقع الطلاق، ولو اخترن أنفسهن لَبِنَّ».

لكن رواة قريش قالوا إنه (صلی الله علیه و آله) آلاهن، أي حلف أن يهجرهن في المضجع شهراً فعاتبه ربه وأمره بالرجوع! قال الترمذي: 5/95: «وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً، فعاتبه الله في ذلك، فجعل له كفارة اليمين»!

وقال بخاري: 1/100: «وآلى من نسائه شهراً فجلس في مشربة له درجتها من جذوع... ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهراً، فقال: إن الشهر تسع وعشرون». انتهى.

فزعموا أن سبب إيلائه وأن غضبه كثرة طلباتهن! وليس اتهامهن لمارية، ولا خيانتهن المنصوص عليها في سورة التحريم!«قال المفسرون: حين غار بعض نساء النبي وآذينه بالغيرة وطلبن زيادة النفقة، فهجرهن رسول الله شهراً حتى نزلت آية التخيير».أسباب النزول/240.

لكن هجرهن ونزول آية التخيير كان في التاسعة، ونزول آيات الإيلاء كان قبل سنوات في سورة البقرة.البقرة: 225-227!

2- نصت سورة التحريم على معصية حفصة وعائشة وهددتهما بالنار، فهي تدل على أنهما ليستا من أهل البیت المطهرين من الرجس، ولذا لم تدع أي منهما أن آية التطهير تشملها، وإنما ادعيت لهما بعد وفاتهما!

قال في بشارة المصطفى/390: «ليس يجوز لمن له أدنى علم أن يخلط ذكر فاطمة (علیها السلام) بذكر غيرها! وكيف يجوز أن يقاس من شهد الله بطهارتها بقوله تعالى: إنما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً.على من قال الله في حقها: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا! لكن العمى في القلب والعصبية وبغض أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحمل بعض الناس على ما لا يليق بالعقل».

3- كان النبي (صلی الله علیه و آله) طلق حفصة فوضع عمر التراب على رأسه وقال: «ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها» فأرجعها النبي (صلی الله علیه و آله)، وقالوا أمره جبرئيل بإرجاعها من

ص: 492

أجل عمر! وقال لها عمر مرة: «طلقك مرة ثم راجعك من أجلي، والله إن كان طلقك مرة أخرى لا كلمتك أبداً»!مجمع الزوائد:4/333.

ويحتمل أن يكون ذلك عند إفشائها لسره، أو عند تفاقم الأمر بعد ذلك.

4- استدل أتباع الخلافة على أن عائشة وحفصة مبرأتان من كل عيب، لقوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ. وأفتوا بقتل من اتهم عائشة لأن الله تعالى برأها فيكون اتهامه تكذيباً للقرآن.

أما فقهاؤنا فحرموا تهمة نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أخلاقياً، لكنهم جوزوا عليهن خيانة رسالته والعمل مع أعدائه ضده، واستحقاق النار، بدليل سورة التحريم.

أما آية الطيبين للطيبات فهي في الآخرة، أما في الدنيا فامرأة نوح ولوط خبيثتان كافرتان بنص القرآن، وقد ضربهما الله مثلاً لعائشة وحفصة.

على أنه قد يكون المقصود به حكم شرعي، وأنه يحرم أن يتزوج الطيبون من خبيثات. كما استدل به بعض فقهائنا.

5- لا صحة لقولهم إن سبب هجر النبي (صلی الله علیه و آله) لهن النفقة، فقد كان الوضع المالي للنبي (صلی الله علیه و آله) جيداً في السنة التاسعة، بعد فتح خيبر وحنين وكثرة الغنائم التي أحلها الله لنبيه (صلی الله علیه و آله).بل السبب أن الله أنفَ لنبيه قول بعضهن أنه لو طلقنا سنجدن خيراً منه، وقد نص الرواة على أن حفصة قالت ذلك!

ص: 493

الفصل السادس والستون: أحداث قبل غزوة تبوك

1- توبة كعب بن زهير ومدحه للنبي (صلی الله علیه و آله)

كان الشاعر كعب بن زهير يهجو النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، فأهدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمه. وبعد حنين جاء كعب تائباً، فأناخ بباب المسجد، قال: فعرفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، ثم قلت: الأمان يا رسول الله، أنا كعب بن زهير. وأنشده قصيدته المعروفة بقصيدة البردة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ *** مَُتيَّمٌ إثرها لم يُفْدَ مكبولُ

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول

ومنها: وقال كل صديق كنت آمله *** لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أباً لكم *** فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوماً على آلة حدباء محمول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة *** القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنِّي بأقوال الوشاة ولم *** أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل

ما زلت أقتطع البيداء مدرعاً *** جنح الظلام وثوب الليل مسدول

ص: 494

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم *** ببطن مكة لما أسلموا: زولوا

شم العرانين أبطال لبوسهم *** من نسج داود في الهيجا سرابيل

فكساه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بردة له.الصحيح من السيرة: 26/87 وابن هشام: 4/ 939.

2- انضمام البحرين وعُمَان إلى دولة النبي (صلی الله علیه و آله)

في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 2/361: «كتابه (صلی الله علیه و آله) إلى جيفر وعبد ابني الجلندي:

بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، إني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما».

وفي فتوح البلدان: 88 وفي ط: 103 و104: كان الغالب على عمان الأزد، وكان بها من غيرهم بشركثير في البوادي، فلما كانت سنة ثمان بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبا زيد الأنصاري أحد الخزرج..بكتابه إلى عبد وجيفر ابني الجلندي الأزديين في سنة ست، وقال (صلی الله علیه و آله) لأبي زيد: خذ الصدقة من المسلمين والجزية من المجوس.. ووجه عمرو بن العاص في سنة 8 بعد إسلامه بقليل سنة ثمان».

وفي فتوح البلدان للبلاذري: 1/92: «فلما قدم أبو زيد وعمرو عمان وجدا عبداً وجيفراً بصحار على ساحل البحر. فأوصلا كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) إليهما فأسلما، ودعوا العرب هناك إلى الإسلام، فأجابوا إليه ورغبوا فيه. فلم يزل عمرو وأبو زيد بعمان حتى قبض النبي (صلی الله علیه و آله)».

وذكر الطبري: 2/362 أن سكان عمان كانوا مجوساً، وكان العرب حول البلد.

ص: 495

3- سرية علي (علیه السلام) لمنع تحويل طیئ إلى قاعدة للروم

بعد انتصار الروم على الفرس ومقتل كسرى دخل النظام الفارسي في صراع داخلي على منصب«الشاهنشاه»فارتفع خطرهم الفعلي عن النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين. لكن زاد خطر الروم، وأخذ قيصر يحضِّر لغزو المدينة والجزيرة كما تقدم في غزوة مؤتة، وكان اعتماده على ملك الشام، وعلى الأكيدر ملك دومة الجندل، كما عمل على تحويل قبيلة طئ إلى قاعدة مساندة، وقد استجاب له عدي بن حاتم واعتنق المسيحية وكان يقضي وقتاً من سنته في الشام. «قدم على النبي (صلی الله علیه و آله) من الشام ودعاه إلى الإسلام فقال: إني نصراني ركوسي. فقال إنك لا دين لك، إنك تصنع ما لايصلح لك في ركوسيتك، فأبصر وأسلم».تاريخ دمشق: 40/78.

وفي فايق الزمخشري: 2/6: «إنك تأكل المرباع وهو لا يحل لك.. المرباع الربع ومثله المعشار، وكان يأخذه الرئيس مع المغنم في الجاهلية. الركوسية قوم بين النصارى والصابئين».«والرِّكس بالكسر: الجسر».لسان العرب: 6/101.

فقد اختار عدي بن حاتم المسيحية الشرقية التي فيها أفكار من الصابئة، ولا بد أن مذهبه أخذ ينتشر في قبيلته، الذين كانوا وثنيين يعبدون صنمهم الفُلس، وله معبد مشهور، وقد أهدى الحارث بن شمر ملك الغساسنة هدية لصنم طئ فيها سيوف مع أنه مسيحي على دين قيصر! لذلك رأى النبي (صلی الله علیه و آله) أن يقلم أظافر هرقل من الجزيرة قبل غزوة تبوك! فأرسل علياً (علیه السلام) في سرية إلى قبيلة طئ.

قال في الصحيح من السيرة: 26/335، ملخصاً: «في شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب (علیه السلام) في خمسين ومائة رجل أو مائتين من الأنصار كما ذكره ابن سعد، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفُلْس وهو صنم لطئ ليهدمه، فوجدوا عيناً لطئ على بعد ليلة فأخذوه معهم وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخربوه ووجد في خزانته ثلاثة أسياف: رسوب والمخذم وكان الحارث بن

أبي شمر ملك الشام قلده إياهما، وسيف يقال له: اليماني، وثلاثة أدرع.

ص: 496

وأخذوا من نعمهم وسبوا منهم، وكان في السبي سفانة أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، فلما نزلوا رَكَك اقتسموا الغنائم، وعزلوا للنبي (صلی الله علیه و آله) السيوف والخُمس، ولم يقسم آل حاتم حتى قدم بهم المدينة.

وكانت أخت عدي إذا مرَّ النبي (صلی الله علیه و آله) تقول: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علينا من الله عليك، فسألها: من وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم. فيقول: الفار من الله ورسوله؟ فلما كان يوم الرابع مرَّ النبي، فلم تتكلم فأشار إليها رجل قومي فكلميه فكلمته أن يمن عليها فمن عليها فأسلمت. وسألت عن الرجل الذي أشار إليها، فقيل: علي وهو الذي سباكم أما تعرفينه؟ فقالت: لا والله ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي، وطرف ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.

وفي نص آخر قالت: يا محمد أرأيت أن تخلي عنا ولاتشمت بنا أحياء العرب؟ فإني ابنة سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط! أنا ابنة حاتم طئ. فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقاً، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. قالت: وكساني رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت على أخي.

وخرجت سفانة بنت حاتم إلى الشام، قال عدي: «فوالله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إليَّ تَؤُمُّنا. قال: فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي! فلما وقفت عليَّ قالت: أنت القاطع الظالم، ارتحلت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك: أختك وعورتك؟! قال قلت: يا خية، لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، ولقد صنعتُ ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي. قال: فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن نلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن نذل في

ص: 497

عز اليمن، وأنت أنت. قال قلت: والله إن هذا الرأي.

قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده وعنده امرأة وصبيان، فعرفت أنه ليس بمُلك كسرى ولا قيصر، فسلمت عليه فقال: مَن الرجل؟قال قلتُ: عدي بن حاتم. فرحب به النبي (صلی الله علیه و آله) وقربه وأخذه إلى بيته فلقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها. قال عدي: قلت في نفسي والله ما هذا بمَلِك. قال: ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إلي، فقال: أجلس على هذه. قلت: بل أنت فاجلس. فقال: بل أنت فاجلس عليها. فجلست عليها وجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الأرض. فقلت في نفسي: ما هذا بأمر ملك! فدخل الإسلام في قلبي وأحببت رسول الله (صلی الله علیه و آله) حباً لم أحبه شيئاً قط!

قال: ثم أقبل عليَّ فقال: هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن توحد الله وهل من أحدٍ غير الله؟ هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن تكبر الله ومن أكبر من الله؟ هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن تعظم الله ومن أعظم من الله؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن لا إله إلا الله وهل من إلهٍ غير الله؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن محمداً رسول الله؟! قال: فجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول نحو هذا وأنا أبكي. قال:

ثم أسلمت.

قال: فلعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم والله لتفتحن عليهم كنوز كسرى بن هرمز. قلت: كنوز كسرى بن هرمز؟! قال: كنوز كسرى بن هرمز. قال عدي: فأسلمت، فرأيت وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد استبشر! قال عدي: وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم (صلی الله علیه و آله).

ص: 498

الفصل السابع والستون: غزوة تبوك لمواجهة الروم

1- ملك دومة الجندل أكيدر بن عبدالملك

دُومة الجندل بضم الدال وفتحها: مدينة الجَوْف وضواحيها، هي الآن محافظة في شمال المملكة السعودية. «والدَّوْم شجر يشبه النخل إلا أنه يثمر المُقْل «ليف أو مسد تصنع منه الحبال» وله ليف وخوص مثل ليف النخل. ودومة الجندل خمسة فراسخ ومن قبل مغربه عين تَثِجَّ فتسقي ما به من النخل والزرع. واسم حصنها مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل».لسان العرب: 12/218.

«تتصل به عين التمر وبَرِّية خساف من بادية السماوة».نزهة المشتاق: 1/352.

وفي قاموس الكتاب المقدس/381: «آدوم: إسم مكان ذكر في إشعياء: 21: 11، مع سعير أو أدوم. ويعتقد بعضهم أن هذا المكان هو الواحة التي تسمى دومة الجندل وتدعى الآن الجوف، وهي في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية على نحو مسافة مائة ميل من حدود الأردن. وربما سكن نسل دومة بن إسماعيل هذه البلاد». وفي الصحيح من السيرة: 10/126: «مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وتبعد عن المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة، وهي بقرب تبوك».

«أكيدر: صاحب دومة الجندل.وكودر: ملك من ملوك حمير».لسان العرب:5/135.

وفي مكاتيب الرسول: 3/331: «ذكر بعض الأخباريين أن كلباً كانت تحكم دومة الجندل،

ص: 499

وأن أول من حكمها منهم دجاجة بن قنانة بن عدي.وذكروا أيضاً أن الملك على دومة الجندل وتبوك كان لهم إلى أن ظهر الإسلام، وأنهم كانوا يتداولون الحكومة مع السكون من كندة، فلما ظهر الإسلام كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبدالملك، وكان سوق دومة الجندل يعشرها كلب تارة وأكيدر أخرى. ويؤيد سلطة كلب وقوتها أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث سرية إلى دومة مع عبدالرحمن بن عوف في السنة السادسة في شعبان فتزوج ابنة الأصبغ، وهو رأسهم وملكهم. راجع الطبري: 2/642.

أقول: كانت دومة الجندل «دولة» تابعة لهرقل، وهي حدود بلاد الشام مع جزيرة العرب، وهي حدود دولة المناذرة في العراق التي يحكمها الفرس. وقد انتشرت فيها المسيحية إلى جانب الوثنية العربية، ومثلها تيماء ووادي القرى وتبوك. وعندما ضعف نفود الفرس بعد هزيمتهم على يد الروم، زاد نشاط الغساسنة والروم في هذه المناطق، وتعاظم خطر الروم على النبي (صلی الله علیه و آله). وكان الأكيدر ملك الدومة على صلة وثيقة بمَلك الشام الحارث بن أبي شمر، وكان ذراعه داخل الجزيرة، وكانا يُحَضِّرَان لغزو المدينة بأمر هرقل من قديم.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يتجنب الإصطدام مع أي حاكم عربي مهما أمكن ليجمع العرب على الإسلام ضد الروم، وتقدم في غزوة مؤتة أن ملك الشام قتل رسوله (صلی الله علیه و آله) إلى حاكم عمَّان، واستخف برسوله اليه هو، وعزم على غزو النبي فنهاه قيصر، ولما بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) ما كان منه قال: بادَ ملكه».السيرة الحلبية: 3/304.

2- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) لدومة الجندل في السنة الخامسة

في السنة الخامسة بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أن الأكيدر يجمع لغزو المدينة فغزاه بنفسه في وقت سوق دومة الجندل السنوي، فهرب الأكيدر إلى صاحبه ملك الشام فقرر النبي (صلی الله علیه و آله) أن لا يهاجم السوق، ورجع إلى المدينة.

قال الطبري: 2/232: «وفيها«السنة الخامسة»غزا دومة الجندل في شهر ربيع الأول وكان سببها أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلغه أن جمعاً تجمعوا بها ودنوا من أطرافه، فغزاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بلغ دومة الجندل، ولم يلق كيداً».

ص: 500

وفي المحبر/58: «وكان تجار العرب شكوا إليه ظلم أكيدر بن عبدالملك السكوني فخرج (صلی الله علیه و آله) مستهل المحرم يوم الإثنين، فبلغ أكيدر إقباله فهرب وخلَّى السوق! ورجع (صلی الله علیه و آله) من الطريق في صدر صفر، ولم يلق كيداً».

وفي البدء والتاريخ/332: «وأحسَّ بذلك أكيدر فهرب، واحتمل الرحل وخلى السوق، وتفرق أهلها، فلم يجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحداً، فرجع».

3- الوضع السياسي للروم عند غزوة تبوك

ذكر المسعودي في التنبيه والإشراف/134، وهو مؤرخ خبير بالروم: أن هرقل بدأ حكمه في سنة هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) وحَكَم إلى السنة الثانية من خلافة عثمان، فكان قائد الروم في حروبهم مع الفرس وانتصارهم عليهم، وفي حروبهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، وانتصار المسلمين عليهم.

أما كسرى أبرويزشاهنشاه الفرس فكان عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة الثالثة والثلاثين من حكمه.ولما ملك هرقل جَدَّ في حرب الفرس فكانت بينهم حروب في حوران انتصر فيها الفرس وقال الله تعالى عنها: ألَمِ. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرض.

أما انتصار الروم على الفرس فكان في السنة السادسة لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) عندما أرسل كسرى جيشاً إلى القسطنطينية وحاصرها، وأثناء حصارها ساءت العلاقة بينه وبين قائد جيشه شهر براز، فاتفق مع هرقل ضد كسرى وانسحب من حصار قسطنطينية، فنشط هرقل في حرب جيوش كسرى في مصر وسوريا فهزمها، وجمع جيشه في الجزيرة وسار بنفسه إلى الموصل، وخرج كسرى اليه في جيشه الخاص فاقتتلوا فانهزم الفرس! ولما رأى ذلك كسرى غضب على كبار قادته وعماله وحبسهم ليقتلهم، وكان عددهم ثلاثين ألفاً! فاتفق عليه شخصيات مملكته وخلعوه وملَّكوا ابنه شيرويه.راجع الأخبار الطوال/106.

وعاد هرقل منتصراً من الموصل، وقد اطمأن إلى أن النظام الفارسي في حالة تفكك، وصار له نفوذ على ابن كسرى وقادة الجيش الفارسي المتصارعين.

وقد صح تقدير هرقل، فبعد حكم كسرى لمدة ثمانية وثلاثين عاماً حكم ابنه

ص: 501

شيرويه ستة أشهر، وأصابته الكآبة والأمراض بعد قتله أباه وإخوته الخمسة عشر! ثم حكم ابنه أردشير سنة ونصفاً. ثم حكم شهر براز أربعين يوماً. ثم حكم كسرى بن قباذ ثلاثة أشهر. ثم حكمت بوران بنت كسرى سنة ونصفاً، وفي عهدها قال النبي (صلی الله علیه و آله) عن الفرس: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. ثم حكم فيروز جشنس بنده ستة أشهر. ثم حكمت آزر ميدخت بنت كسرى ستة أشهر.

ثم حكم فرخزاد خسرو بن أبرويز سنة. ثم حكم يزجرد بن شهريار بن كسرى عشرين سنة، لكنه كان متخفياً هارباً من المسلمين حتى قتل في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين. التنبيه والإشراف/89، المحبر/362، اليعقوبي: 1/156و172 والطبري: 1/587.

وبعد انتصاره على الفرس، بقي هرقل في بلاد الشام يرتب أمورها، وصار واضحاً أن معركته المقبلة ستكون مع النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه يُعِدُّ العُدة لذلك.

كان هرقل يهاب النبي (صلی الله علیه و آله) ويحسب لقوته حساباً أكثر مما يهاب كسرى، ولذلك أجاب النبي (صلی الله علیه و آله) على رسالته بجواب ليِّن وأنه يؤمن بأنه الرسول الأخير الذي بشر به عيسى (علیه السلام)، وأنه دعا بطارقة الروم ليؤمنوا به، لكنهم لم يطيعوه!

أراد بذلك أن كسب الوقت للإعداد لحرب النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان نهيه لملك الشام أن يغزو المدينة، وقايةً من الهزيمة على يد النبي (صلی الله علیه و آله).

وقد اتضحت سياسة هرقل وعداؤه للنبي (صلی الله علیه و آله) عندما أمر الحارث ملك الشام أن يقتل حاكم عَمَّان، لأنه بعث إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بإسلامه، ثم جاء إلى تبوك بعد عودة النبي (صلی الله علیه و آله) منها، وأمر بقتل يوحنا حاكم أيلة وصلبه، لأنه كتب مع النبي (صلی الله علیه و آله) عهد صلح! كما كان أمر بقتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى حاكم بصرى من قبله، بينما أكرم هو رسول النبي (صلی الله علیه و آله) وأجاب جواباً ليناً!

كان هرقل يحشد جيش الشام، وجيش كندة عند الأكيدر ملك دومة الجندل، ويهئ «طابوره الخامس» من متنصرة المدينة ومنافقيها ومنافقي قريش وبقايا اليهود، بقيادة أبي عامر الفاسق.لكن كل ذلك مقدمة لجيشه الرومي من فرسان الروم المحترفين الذين سيزحف بهم إلى المدينة خلف هذا الجيش العربي!

ص: 502

وينبغي أن نشير إلى دولتي العرب في الشام والعراق، اللتين كانتا تحت نفوذ الروم والفرس، فقد ذكروا أن أول ملوك الشام التابعين للروم جفنة بن عمرو بن ماء السماء.وآخرهم جبلة بن الأيهم، الذي لحق بالروم بعد فتح الشام.

أما في العراق فقد ملَّك الفرس على الحيرة: النعامنة والمناذرة وآخرين من تميم وكندة وغسان وطيئ، وآخرهم النعمان بن المنذر الذي قتله كسرى وملَّك بعده أياس بن قبيصة الطائي وغيره، ثم جاء الله بالإسلام.التنبيه والإشراف/1589.

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يعمل لنقل المعركة إلى الشام وحصرها بالروم

مقابل ذلك كان النبي (صلی الله علیه و آله) يرى أن هزيمة كسرى والصراع الداخلي على السلطة بعده، تسهل على المسلمين فتح فارس. أما هرقل فيجب توجيه رسالة قوية اليه والمبادرة إلى الإشتباك معه في بلاد الشام، لصرفه عن التفكير في غزو الجزيرة. وكان (صلی الله علیه و آله) حريصاً على أن يتجنب المعركة مع الحكام المحليين التابعين لهرقل ويحصر المعركة مع جيشه الرومي الخالص ليضغط عليه أن ينسحب من الشام ومصر، ويضغط على الحكام المحليين ليكونوا على الحياد، ويعقدوا معه معاهدات صلح.

وبهذه الرؤية أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) وأمره أن يتوغل بجيشه إلى قريب القدس حيث الجيش الرومي المحترف، ولم يأمره أن يثأر لرسوله من حاكم بصرى، أو يشتبك مع الحارث حاكم الشام! وبذلك وجه رسالة إلى هرقل أن موضع الإشتباك معه في عقره بالشام ومع جيشه الرومي، وليس في الجزيرة!

وبهذه الرؤية قصد النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه مركزاً آخر لتجمع الجيش الرومي هو تبوك وكان يحث المسلمين على المعركة فيقول: «أغزوا الروم تنالوا بنات الأصفر»!«تفسير القمي: 1/293 والإستيعاب: 1/266» فهو يوجههم إلى المعركة المقبلة الطويلة مع الروم، ويطمعهم ببناتهم البيض، وليس ببنات المنطقة السمر!

وكان قيصر أيامها في حمص وقيل في دمشق، وكانت قواته الرومية فضلاً

ص: 503

عن العربية في حالة استنفار ضد النبي (صلی الله علیه و آله) منذ أن راسله في السنة السادسة ودعاه إلى الدخول في الإسلام، أي قبل ثلاث سنوات من تبوك، وكانت تبوك وحمص وأجنادين ومؤتة، أهم نقاط تجمع الجيش الرومي.

وتبعد تبوك عن المدينة سبع مئة كيلو متر، وهي الآن مدينة قرب الحدود السعودية الأردنية، وتبعد عن عَمَّان أربع مئة وخمسين كيلو متراً، وعن الشام نحو ذلك. وهي الأيكة التي ورد ذكرها في القرآن، وقربها مَدْيَن التي بعث فيها شعيب (علیه السلام).معجم البلدان: 1/291.

وقد علم هرقل بحركة النبي (صلی الله علیه و آله) بجيش من ثلاثين ألفاً، فقد أخبره جواسيسه في المدينة والجزيرة بحركته، وأنه أعلن مقصده ودعا الناس إلى حرب الروم! فأمر هرقل بسحب جميع قواته والقوات العربية من تبوك وأخلاها من أي قوة، لأنه لم يستعد لخوض المعركة مع النبي (صلی الله علیه و آله) !وبلغه ما فعل النبي (صلی الله علیه و آله) بالأكيدر ملك دومة الجندل، وكتب معه معاهدة صلح، فلم يحرك هرقل ساكناً.

وقد أقام النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك نحو عشرين يوماً وأرسل إلى هرقل رسالة أو أكثر وتلقى جوابها، وقد خلطها الرواة برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) الأولى.

وقال المسعودي في التنبيه والإشراف/236: «وقد أتينا على ما كان بينه وبين هرقل ملك الروم من المراسلات في هذه الغزاة في حال مقامه بتبوك، وهرقل يومئذ بحمص وقيل بدمشق، فيما سلف من كتبنا».

5- تبوك والثأر لجعفر بن أبي طالب (رحمة الله)

قال اليعقوبي في تاريخه: 2/67: «سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جمع كثير إلى تبوك من أرض الشأم يطلب بدم جعفر بن أبي طالب (رحمة الله)، ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد، وحض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهل الغنى على النفقة، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء».

وفي تاريخ ابن خلدون: 2 ق: 1/224: «وَجَد النبي«حَزِنَ» على من قتل من المسلمين، ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده، ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم، فكانت غزوة تبوك».

ص: 504

أي: كان حزنه (صلی الله علیه و آله) على جعفر (رحمة الله) عميقاً، لأنه من ذخائره القديمة العزيزة.

6- هرقل يحرك المنافقين والأكيدر لحرب النبي (صلی الله علیه و آله)

كان مسجد الضرار عملاً من جماعة أبي عامر الراهب، الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله) أبا عامر الفاسق، وكانوا على صلة بقيصر الروم، وقد بنوا «مسجدهم» في السنة التاسعة للهجرة ليكون مقراً لهم، فكشفهم الله تعالى، وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) فهدمه وجعله المسلمون موضع كناسة! وقد رأيت موضعه قبل نحو أربعين سنة إلى يسار الداخل إلى مسجد قباء، وكان محل قمامة، لكن الوهابيين أزالوه.

قال القمي في تفسيره: 1/305: «قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا، فإنه كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني؟ فأذن لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو على الخروج إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه؟ قال (صلی الله علیه و آله): أنا على جناح سفر فإذا وافيت إن شاء الله أتيته فصليت فيه فلما أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تبوك نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الراهب... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، يعني أبا عامر الراهب كان يأتيهم في ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ: يعني مسجد قبا، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. قال كانوا يتطهرون بالماء.

وقوله: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وفي رواية أبي الجارود عن

أبي جعفر (علیه السلام) قال: مسجد ضرار الذي أسس عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) مالك بن الدخشم الخزاعي وعامر بن عدي على أن يهدموه ويحرقوه، فجاء مالك فقال لعامر: إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي،

ص: 505

فدخل فجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية، ثم أمر بهدم حائطه».

أما أبو عامر الفاسق فهرب إلى القسطنطينية، على أمل أن يعود بعد احتلال الأكيدر وأنصاره المدينة، لكنه خاب وبقي هناك حتى مات! «الإستيعاب: 1/381». راجع في قصة أبي عامر الراهب: شرح النهج: 14/219 و244، ابن هشام:4/956، قصص الأنبياء/349، قصص الأنبياء للراوندي/350، تفسير الطبري: 11/38، الفخر الرازي: 16/194، الدر المنثور:3 /277، تاريخ المدينة: 1/54، الصحيح من السيرة: 4/130 ونظرية عدالة الصحابة/45.

7- أكبر جيش في تاريخ الجزيرة

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرف خصمه هرقل جيداً ويتعامل معه بلغة يفهمها، ولذا أعد جيشاً كبيراً، فأرسل إلى القبائل والنواحي يدعوهم للسير معه إلى غزو الروم، أراد بهذا الإعلان أن يجرئ العرب عليهم ولم تكن لهم جرأة قبل ذلك، وأن يثبت لهرقل قوة المسلمين الذين رأى نموذجاً من بسالتهم في مؤتة!

قال المفيد في الإرشاد: 1/154: «ثم كانت غزاة تبوك، فأوحى الله تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يسير إليها بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها إلى حرب ولا يُمْنَى بقتال عدو، وأن الأمور تنقاد له بغير سيف، وتعبده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم، ليتميزوا بذلك وتظهر سرائرهم فاستنفرهم النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بلاد الروم وقد أينعت ثمارهم واشتد القيظ عليهم، فأبطأ أكثرهم عن طاعته رغبة في العاجل، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدة القيظ وبعد المسافة ولقاء العدو، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض، وتخلف آخرون».

وفي إعلام الورى: 1/243: «ثم كانت غزوة تبوك تهيأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجب

لغزو الروم، وكتب إلى قبائل العرب ممن قد دخل في الإسلام وبعث إليهم الرسل يرغبهم في الجهاد والغزو، فكتب إلى تميم، وغطفان، وطيئ، وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة، يستنفرهم لغزو الروم». «وكتب كتباً إلى جميع القبائل التي أسلمت وقتئذ، يدعوهم إلى غزو الروم».مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 1/216.

ص: 506

وفي الصحيح من السيرة: 29/144: «عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل قال: خرجنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفاً.. عن أبي زرعة قال: كانوا بتبوك سبعين ألفاً.وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية.وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) جيشه بالإستكثار من النعال وقال: إن الرجل لا يزال راكباً ما دام منتعلاً».

وفي تفسير القمي: 1/295: «وكان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتبوك رجل يقال له المضرَّب من كثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحُد، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): عُدَّ لي أهل العسكر، فعدهم فقال: هم خمسة وعشرون ألف رجل، سوى العبيد والتُّبَّاع. فقال: عُدَّ المؤمنين، فعدهم فقال: هم خمسة وعشرون رجلاً».

أقول: يبدو أن النبي (صلی الله علیه و آله) قصد بالمؤمنين أصحاب الدرجات العالية في الإيمان ولا بد أن يكون هذا الصحابي (رحمة الله) من هؤلاء الأصحاب الخاصين للنبي (صلی الله علیه و آله)، وقد بحثت عن المُضَرَّب فلم أجد له ترجمة في المصادر، وله أمثال في الصحابة الخاصين، كأبيذر، وعمرو بن الحمق الخزاعي.

8- أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين بمدة الغزوة ونتيجتها

من أساليب الإعجاز النبوي أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبر المسلمين عن نتيجة معاركه مسبقاً، كما حصل في بدر وخيبر وحنين وتبوك.

وقد كشف الإمام الكاظم (علیه السلام) قصة مسجد الضرار وعلاقته بهرقل وغزوة تبوك، فقال كما في تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /481: «ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد (صلی الله علیه و آله) بعد موت سعد بن معاذ، وبعد انطلاق محمد (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك،

أبا عامر الراهب، اتخذوه أميراً ورئيساً وبايعوا له وتواطؤوا على إنهاب المدينة، وسبي ذراري رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسائر أهله وصحابته ودبروا التبييت على محمد (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه في طريقه إلى تبوك، فأحسن الله الدفاع عنه وفضح المنافقين وأخزاهم.

وذلك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: لتسلكن سبيل من كان قبلكم، حَذْوَ النعل بالنعل والقُذَّة بالقذة حتى أن أحدهم لو دخل جُحْرَ ضب لدخلتموه!

ص: 507

قال: إعلموا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكانت تلك النواحي مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن يقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم! وكان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفين وجلين من قبله حتى كانوا يتناوبون على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل يوم عشرون منهم، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله وأصحابه!

وأكثرَ المنافقون الأراجيف والأكاذيب وجعلوا يتخللون أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) ويقولون: إن أكيدر قد أعد لكم من الرجال كذا، ومن الكراع كذا، ومن المال كذا، وقد نادى فيما يليه من ولايته: ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة!

ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم: وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟ يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ويسبي ذراريها ونساءها! حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين فشكوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما هم عليه من الجزع!

ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبي عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) «الفاسق»وجعلوه أميراً عليهم وبخعوا له بالطاعة فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة لئلا أتهم إلى أن يتم تدبيركم.

وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل ليقصد المدينة ليكونوا هم عليه وهو يقصدهم فيصطلموه. فأوحى الله تعالى إلى محمد (صلی الله علیه و آله) وعرفه ما أجمعوا عليه من أمره، وأمره بالمسير إلى تبوك، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كلما أراد غزواً وَرَّى بغيره إلا غزاة تبوك فإنه أظهر ما كان يريده، وأمرهم أن يتزودوا لها، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون وذمهم الله في تثبيطهم عنها، وأظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما أوحى الله تعالى إليه أن الله سيظهره بأكيدر حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية ذهب في صفر، وألف أوقية ذهب في رجب، ومائتي حلة في رجب ومائتي حلة في صفر وينصرف سالماً إلى ثمانين يوماً!

فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن موسى (علیه السلام) وعد قومه أربعين ليلة وإني أعدكم ثمانين ليلة، أرجع سالماً غانماً ظافراً بلا حرب تكون، ولا أحد يستأسر من المؤمنين! فقال المنافقون: لا والله ولكنها آخر كرَّاته التي لاينجبر بعدها، وإن أصحابه ليموت

ص: 508

بعضهم في هذا الحر ورياح البوادي ومياه المواضع المؤذية الفاسدة، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر وقتيل وجريح!

واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها: بعضهم يعتل بالحر، وبعضهم بمرض جسده وبعضهم بمرض عياله، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأذن لهم. فلما صح عزم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الرحلة إلى تبوك، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجداً وهو مسجد ضرار، يريدون الإجتماع فيه ويوهمون أنه للصلاة، وإنما كان ليجتمعوا فيه فيتم تدبيرهم، ويقع هناك ما يسهل لهم به ما يريدون.

ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك وإنا نكره الصلاة في غير جماعة ويصعب علينا الحضوروقد بنينا مسجداً فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه لنتيمن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك، فلم يُعَرِّفهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما عرفه الله تعالى من أمرهم ونفاقهم فقال (صلی الله علیه و آله): إئتوني بحماري فأتي باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم، فكلما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش، وإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سير وأطيبه! قالوا: لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئاً كرهه ولذلك لا ينبعث نحوه!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إئتوني بفرس، فأتي بفرس فركبه فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك، حتى إذا ولوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير! فقالوا: ولعل هذا الفرس قد كره شيئاً في هذا الطريق!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تعالوا نمشي إليه، فلما تعاطى هو ومن معه المشي

نحو المسجد جثوا في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة، وإذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم، وخفت أبدانهم، ونشطت قلوبهم! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن هذا أمر قد كرهه الله فليس يريده الآن، وأنا على جناح سفر فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله، ثم أنظر في هذا نظراً يرضاه الله تعالى.

وجدَّ في العزم على الخروج إلى تبوك وعزم المنافقون على اصطلام مخلفيهم إذا خرجوا! فلما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشيَّعه علي (علیه السلام) خاض المنافقون فقالوا: إنما

ص: 509

خلفه محمد بالمدينة لبغضه له ولملالته منه، وما أراد بذلك إلا أن يُبَيِّته المنافقون فيقتلوه أويحاربوه فيهلكوه، فاتصل ذلك برسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال علي (علیه السلام): تسمع ما يقولون يا رسول الله؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني ونور بصري وكالروح في بدني.

ثم سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأصحابه وأقام علي (علیه السلام) بالمدينة فكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي (علیه السلام) وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك! وجعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرَّة محمد التي لا يؤوب منها!

فلما صار بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أكيدر مرحلة، قال تلك العشية: يا زبير بن العوام ويا سماك بن خرشة، إمضيا في عشرين من المسلمين إلى باب قصر أكيدر فخذاه وأتياني به! فقال الزبير: يا رسول الله وكيف نأتيك به، ومعه من الجيوش الذي قد علمت، ومعه في قصره سوى حشمه ألف ومائتان عبد وأمة وخادم؟!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تحتالان عليه فتأخذانه. قال: يا رسول الله وكيف نأخذه وهذه ليلة قمراء وطريقنا أرض ملساء، ونحن في الصحراء لا نخفى؟!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتحبان أن يستركما الله عن عيونهم، ولا يجعل لكما ظلاً إذا سرتما، ويجعل لكما نوراً كنور القمر لاتتبينان منه؟ قالا: بلى. قال: عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب، وتعتقد أنت يا زبير خاصة أنه لا يكون علي في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم، ليس لأحد أن يتقدمه. فإذا أنتما فعلتما ذلك وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره، فإن الله تعالى سيبعث الغزلان والأوعال إلى بابه فتحتك قرونها به فيقول: من لمحمد في مثل هذا؟ ويركب فرسه لينزل فيصطاد، فتقول امرأته: إياك والخروج فإن محمداً قد أناخ بفنائك، ولست تأمن أن يكون قد احتال ودس عليك من يقع بك! فيقول لها: إليك عني فلو كان أحد انفصل عنه في هذه الليلة لتلقته في هذا القمر عيون أصحابنا في الطريق، وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها، ولو كان في ظل قصرنا هذا إنسيٌّ لنفرت منه الوحوش!

ص: 510

فينزل ليصطاد الغزلان والأوعال فتهرب من بين يديه ويتبعها، فتحيطان به وأصحابكما فتأخذانه! فكان كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخذوه! فقال: لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي فإنا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك.

فقال: تنزعون عني ثوبي هذا وسيفي ومنطقتي وتحملونها إليه، وتحملونني إليه في قميصي لئلا يراني في هذا الزي، بل يراني في زي التواضع فلعله يرحمني، ففعلوا ذلك.فلما أتي به رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: يا محمد أقلني وخلني على أن أدفع عنك من ورائي من أعدائك. فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): فإن لم تف بذلك؟ قال: يا محمد إن لم أفِ بذلك فإن كنت رسول الله فسيظفرك بي من منع ظلال أصحابك أن تقع على الأرض حتى أخذوني، ومن ساق الغزلان إلى بابي حتى استخرجني من قصري وأوقعني في أيدي أصحابك! وإن كنت غير نبي فإن دولتك التي أوقعتني في يدك بهذه الخصلة العجيبة والسبب اللطيف ستوقعني في يدك بمثلها.

قال: فصالحه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ألف أوقية ذهب في رجب ومائتي حلة، وألف أوقية في صفر ومائتي حلة، وعلى أنهم يضيفون من مرَّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام، ويزودونه إلى المرحلة التي تليها، على أنهم إن نقضوا شيئاً من ذلك فقد برئت منهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) غانماً ظافراً، وأبطل الله تعالى كيد المنافقين، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بإحراق مسجد الضرار، وأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... الآيات».والبحار: 21/258.

أقول: بعد معركة مؤتة، رأى الروم أن جيش النبي (صلی الله علیه و آله) يتحفز ضدهم بجرأة وشجاعة وأنه سيعاود الكرة لأخذ ثأر جعفر (علیه السلام)، فدبروا خطة أكيدر والمنافقين من قريش وأهل المدينة لاستئصال النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين بزعمهم، ولهذا أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يبقي علياً (علیه السلام) في المدينة، بينما أراد المنافقون أن يغادرها لتخلو لهم!

وبهذا تعرف أن محاولة قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعه من تبوك، ومحاولة قتل علي (علیه السلام) في المدينة في تلك الفترة، كانت خطة بديلة بعد فشل خطة هرقل في

ص: 511

الأكيدر ملك دومة الجندل. وقد أنجى الله علياً (علیه السلام) في المدينة، وأنجى نبيه (صلی الله علیه و آله) منها وأمره أن يخفي أسماء المشاركين فيها، لئلا تعلن قريش الردة، كما سيأتي!

9- عَسْكرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في ثنية الوداع

قال المسعودي في التنبيه والإشراف/235: «ثم غزوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجب تبوك مما يلي دمشق من أرض الشام، وبين تبوك والمدينة تسعون فرسخاً، وذلك مسيرة اثنتي عشرة ليلة، وكان معه في هذه الغزاة ثلاثون ألفاً، الخيل عشرة آلاف والإبل اثنا عشر ألف بعير، ويسمَّی جيش العسرة لأنهم أمروا بالخروج لما طابت الثمار واشتد الحر وطاب لهم الظلال، وشق عليهم الخروج لبعد المسافة وعسرة من الماء وعسرة من النفقة والظهر. وحث رسول الله (صلی الله علیه و آله) الأغنياء على النفقة والحملان، فصار إلى تبوك فأقام بها بضع عشرة ليلة وقيل عشرين، يصلي ركعتين ركعتين، وعاد إلى المدينة وكان استخلف عليها علي بن أبي طالب».

وفي الإختصاص/342 وتفسير القمي: 1/290، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «خطب النبي (صلی الله علیه و آله) لما أراد الخروج إلى تبوك بثنية الوداع فقال: بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص القرآن، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزراً، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً، ومن أعظم الخطايا للسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقى في القلب اليقين، والإرتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسكر جمر النار، والشعر

ص: 512

من إبليس، والخمر جماع الآثام، والنساء حبالات إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يبالي على الله يكذبه، ومن يعفو يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصم بصره ومن يعصى الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي اللهم اغفر لي ولأمتي. أستغفر الله لي ولكم.

قال: فرغب الناس في الجهاد، لما سمعوا هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله). وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم. وقعد عنه قوم من المنافقين، ولقي رسول الله الجد بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك أن تستحفد من بنات الأصفر! فقال: يا رسول الله والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء مني، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر، فلا تفتنِّي وائذن لي أن أقيم!

وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه: تردُّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقول له ما تقول، ثم تقول لقومك لا تنفروا في الحر! والله لينزلن في هذا قرآناً تقرأه الناس إلى يوم القيامة! فأنزل الله على رسوله في ذلك: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاتَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ. ثم قال الجد بن القيس: أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم، لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً»!

10- استخلف علياً (علیه السلام) وودعه وناجاه

في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/443: «وكان سبب تخلف علي (علیه السلام) عنه أن تبوك بعيدة عن المدينة فلم يأمن الرسول (صلی الله علیه و آله) العرب أن يصيروا إليها، إذ كان قد وترهم وسفك دماءهم.وأخرى أنه علم (صلی الله علیه و آله) أنه لا يكون

ص: 513

هناك قتال. وخرج في جيش يُروى أنهم كانوا أكثر من أربعين ألف رجل، وخلَّف بالمدينة جيشاً وهو علي (علیه السلام) وحده. فحصن الله عزوجل به المدينة وعفف به حرمهم، فتكلم فيه المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً له! فلحق علي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالاً لي؟ فتضاحك رسول الله، ثم أمر فنودي في الناس كلهم فاعصوصبوا وتجمعوا، فقال (صلی الله علیه و آله): يا أيها الناس ما فيكم من أحد إلا وله خاصة من أهله، ألا إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! فصار علي من النبي (علیه السلام) بذلك المكان الذي أردوا أن يضعوا منه، بمنزلة هارون من موسى في أسبابه كلها، إلا ما استثناه من النبوة. ولا أحسبهم يأتون بمثلها في أحد من العالمين».

وفي المناقب لمحمد بن سليمان: 1/523: «عن الحارث بن ثعلبة قال: قلت لسعد بن أبي وقاص: هل شهدت لعلي منقبة؟ قال: شهدت لعلي أربع مناقب لأن يكون لي إحداهن أحب إلي من الدنيا وما فيها! والخامسة خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك فخلف علياً في أهله فقالت قريش استثقله! فجاء علي فأخذ بغرز الناقة وقال: يا رسول الله إني لخارج معك وتابعك، زعمت قريش أنك استثقلتني! فقال: هل منكم إلا وله خاصة من أهله؟أنت مني بمنزلة هارون من موسى».

وقال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/154: «فاستخلفه ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظافرت به الرواية أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) على المدينة حسدوه لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنها تُحرس به ولا يكون للعدو فيها مطمع، فساءهم ذلك!

وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والإختلاط عند نأي النبي (صلی الله علیه و آله) عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها! وغبطوه (علیه السلام) على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر. فأرجفوا به وقالوا: لم يستخلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إكراماً له وإجلالاً ومودة، وإنما خلفه استثقالاً له. فلما بلغ أميرالمؤمنين (علیه السلام) إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فلحق

ص: 514

بالنبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً!

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إرجع يا أخي إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى (علیهما السلام) إلا ما خصه العرف من الأخوة واستثناه هو من النبوة.

ألا ترى أنه (صلی الله علیه و آله) جعل له كافة منازل هارون من موسى، إلا المستثنى منها لفظاً أو عقلاً... وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته، وأنه كان أحب قومه إليه وأفضلهم لديه. قال الله عزوجل حاكياً عن موسى (علیه السلام): قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. فأجاب الله تعالى مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وأمنيته حيث يقول:

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى...

ولو علم الله تعالى أن نبيه (صلی الله علیه و آله) في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أميرالمؤمنين (علیه السلام)».

وفي خصائص الأئمة/66: «وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فأطال، فقال أبو بكر لعمر: لقد أطال مناجاته لابن عمه فقال النبي (صلی الله علیه و آله) ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه، وفي ذلك يقول حسان:

ويوم الثنية عند الوداع *** وأجمع نحو تبوك المضيا

تنحى يودعه خالياً *** وقد وقف المسلمون المطيا

فقالوا يناجيه دون الأنام *** بل الله أدناه منه نجيا

علی فم أحمد يوحي إليه *** كلاماً بليغاً ووحياً خفيا».

وفي مناقب ابن سليمان: 1/333، عن أبي رافع قال: «لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى غزوة تبوك خلف علياً وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا: لم يخلقه إلا

ص: 515

بغضاً له وكراهية أن يتبعه! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسار محادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما، فالتفت إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: أما والله ما يومه منك بواحد! ثم قال: أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة وأنك أخي ووزيري ووارثي.انصرف فلايصلح ماهناك إلا أنا أوأنت».

11- أبوذر تأخر به بعيره

في تفسير القمي: 1/294: «وتخلف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم من أهل ثبات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب، ولكنهم قالوا نلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله). منهم أبو خثيمة، وكان قوياً وكانت له زوجتان وعريشتان، فكانت زوجتاه قد رشتا عريشتيه وبردتا له الماء وهيئتا له طعاماً، فأشرف على عريشته، فلما نظر اليهما قال: والله، ما هذا بإنصاف! رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قد خرج في الصخ والريح وقد حمل السلاح مجاهداً في سبيل الله، وأبو خثيمة قوي قاعد في عريشته وامرأتين حسناوتين! لا والله ما هذا بإنصاف! ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله فلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) كن أبا خثيمة، فأقبل وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بما كان منه فجزَّاه خيراً ودعا له.

وكان أبوذر (رحمة الله) تخلف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أيام، وذلك أن جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيام به، ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كن أباذر، فقالوا: هو أبوذر، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أدركوه بالماء فإنه عطشان! فأدركوه بالماء، ووافى أبوذر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أباذر معك ماء وعطشت؟ فقال: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء فذقته

ص: 516

فإذا هو عذب بارد، فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال رسول الله: يا أباذر رحمك الله تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك»!ونحوه ابن هشام: 4/950، الطبري:2/371 والكشاف: 2/219.

أقول: فسر بعضهم قول النبي (صلی الله علیه و آله) «كن أباذر» بأنه على نحو المعجزة، فهو إعمال للولاية التكوينية التي أعطاها الله لرسوله (صلی الله علیه و آله).

قال الشعراني الصوفي في الجواهر والدرر: 3/ 123: «هل يعطى أحد من الأولياء التصرف بكن في هذه الدار؟ فقال: نعم بحكم الإرث لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنه تصرف بها في عدة مواطن منها قوله في غزوة تبوك: كن أباذر، فكان أباذر».

وقال ابن عربي الصوفي في الفتوحات المكية: 2/126: «جاء عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك أنهم رأوا شخصاً فلم يعرفوه فقال رسول الله: كن أباذر، فإذا هو أبوذر، ولم يقل بسم الله فكانت كن منه كن الإلهية، فإنه قال الله تعالى فيمن أحبه حب النوافل كنت سمعه وبصره ولسانه الذي يتكلم به. وقد شهد الله لمحمد (صلی الله علیه و آله) بأن له نافلة بقوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك. فلا بد أن يكون سمعه الحق وبصره الحق وكلامه الحق، ولم يشهد بها لأحد من الخلق على التعيين. فعلامة من لم تستغرق فرائضه نوافله، وفضلت له نوافل أن يحبه الله تعالى هذه المحبة الخاصة، وجعل علامتها أن يكون الحق سمعهم وبصرهم ويدهم وجميع قواهم. ولهذا دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكون كله نوراً فإن الله نور السماوات والأرض. ولهذا تشير الحكماء بأن الغاية المطلوبة للعبدالتشبه بالإله وتقول فيه الصوفية التخلق بالأسماء، فاختلفت العبارات وتوحد المعنى، ونحن نرغب إلى الله ونضرع أن لا يحجبنا في تخلقنا بالأسماء الإلهية عن عبوديتنا».

وقال صدر المتألهين الشيرازي في الأسفار: 8/9: «وإنا قد قدمنا إليكم يا إخواني في الطريق من أنوار الحكم ولطائف الكلم مبادئ عقليات وضوابط كليات وقوانين ميزانية وأحكاما ذهنية، هي مقدمات ذوات فضائل جمة ودرجات

ص: 517

للمسير إلى الله بقدم الفكر والهمة، وهي معارج للإرتقاء إلى معرفة الإلهية والإعتلاء إلى شهود جمال الأحدية وصفاته الواجبية، ومجاورة المقدسين ومنادمة أهل الملكوت والعليين، من مقاصد أصحاب الوحي والتنزيل ومحكمات أسرار أهل التأويل، الآخذين علومهم عن الملائكة المقربين والحفظة الكرام الكاتبين... فهذا العلم يجعل الإنسان ذا ملك كبير، لأنه الإكسير الأعظم الموجب للغنى الكلي والسعادة الكبرى، والبقاء على أفضل الأحوال، والتشبه بالخير الأقصى والتخلق بأخلاق الله تعالى، ولذلك ورد في بعض الصحف المنزلة من الكتب السماوية أنه قال سبحانه: يا ابن آدم خلقتك للبقاء وأنا حي لا أموت، أطعني فيما أمرتك وانته عما نهيتك أجعلك مثلي حياً لا تموت..فهذا مقام من المقامات التي يصل إليها الإنسان بالحكمة والعرفان! وهو يسمى عند أهل التصوف بمقام كن، كما ينقل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة تبوك أنه قال: كن أباذر، فكان أباذر. وله مقام فوق هذا يسمى بمقام الفناء في التوحيد، المشار إليه بقوله تعالى في الحديث القدسي: فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر.. الحديث. وسينكشف لك في هذا السفر بيان هذا المطلب بالبرهان ويلقى إليك معرفة العلم الذي من أجله يستوجب من علمه وعمل بموجبه تلك البهجة الكبرى والمنزلة العظمى، فافهم واغتنم به وكن به سعيداً، ولا تلقه الا إلى أهله العامل بمقتضاه وموجبه».

أقول: لا كلام في إمكان أن يكون النبي (صلی الله علیه و آله) قال للسوادة: كن أباذر، فكان على نحو الإعجاز. لكن الإشكال في زعمهم أن ذلك مقامٌ يمكنهم أن يبلغوه هم وأمثالهم، ودعوتهم الناس أن يتبعوهم لكي يبلغوه! ولم يكتفوا بذلك حتى اخترعوا مقاماً أعلى منه هو الفناء في التوحيد!

قال صدر المتألهين في الأسفار: 2/18: «فإن المنازل اللائقة بالأولياء هذه، وكذا يترقون من الواحدية إلى الفناء في الأحدية، ويسافرون من الحق إلى الخلق».

وقال في: 3/183: «فالعشق الأكبر عشق الإله جل ذكره وهو لا يكون إلا للمتألهين الكاملين الذين حصل لهم الفناء الكلي. وهؤلاء هم المشار اليه في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونه،

ص: 518

فإنه في الحقيقة ما يُحب إلا نفسه لا غيره، فالمحب والمحبوب في الطرفين شئ واحد.

والأوسط عشق العلماء الناظرين في حقائق الموجودات المتفكرين دائماً في خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وهو عذاب الفرقة والإحتجاب عن رؤية الآثار وجنة الأفعال.

والأصغر عشق الإنسان الصغير، لكونه أيضاً أنموذجاً مما في عالم الكبير كله والعالم كله كتاب الحق الجامع، وتصنيف الله الذي أبرز فيه كمالاته الذاتية ومعانيه الإلهية، وكتاب الإنسان مجموعة مختصرة، فيه آيات الكتاب المبين، فمن تأمل فيه وتدبر في آياته ومعانيه بنظر الإعتبار يسهل عليه مطالعة الكتاب الكبير وآياته ومعانيه وأسراره! وإذا اتفق وأحكم معاني الكتاب الكبير يسهل معها العروج إلى مطالعة جمال الله وجلال أحديته، فيرى الكل منطوياً في كبريائه مضمحلاً تحت أشعة نوره وضيائه».

فهذا المذهب يدعي أولاً: أن مقامات الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) ثمرة لسلوكية معينة.

ويدعي ثانياً: أن باستطاعة الإنسان أن يصل إلى تلك المقامات!

ونلاحظ أنهم جعلوا عشق الإنسان من عشق الله تعالى أو مقدمة له لأن الله: «أبرز فيه كمالاته الذاتية ومعانيه الإلهية»! ولم يبينوا من هو ذلك الإنسان، فإن قصدوا غير المعصوم فهو كلام باطل.

ويدعي ثالثاً: لأئمته وأساتيذه مقامات شبيهة بمقامات المعصومين (علیهم السلام) بل أعلى منهم، وهذا واضح من هرم شخصياتهم الذي يزعمه ابن عربي، وأعلاه أهل الظاهر وهم ستة منهم أبو يزيد البسطامي وهم الذين يتصرفون في الطبيعة. وفوقهم ستة هم الباطن الذين يتصرفون في الملكوت، ورئيسهم ابن عربي!

قال في الفتوحات المكية: 1/187: «قال الله تعالى: وعلى الأعراف رجال.

أهل الشم والتمييز والسراح عن الأوصاف فلا صفة لهم، كان منهم أبو يزيد البسطامي، ورجال إذا دعاهم الحق إليه يأتونه رجالاً لسرعة الإجابة لايركبون:

ص: 519

وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً، وهم رجال المطلع. فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرف في عالم الملك والشهادة، وهم الذين كان يشير إليهم الشيخ محمد بن قائد الأواني، وهو المقام الذي تركه الشيخ العاقل أبو السعود بن الشبل البغدادي أدباً مع الله أخبرني أبو البدر التماشكي البغدادي رحمه الله قال: لما اجتمع محمد بن قائد الأواني وكان من الأفراد بأبي السعود هذا، قال له: يا أبا السعود إن الله قسم المملكة بيني وبينك، فلم لا تتصرف فيها كما أتصرف أنا فقال له أبو السعود: يا ابن قائد وهبتك سهمي، نحن تركنا الحق يتصرف لنا»!

وكل ذلك أماني ومزاعم ولقلقة لسان، لا أكثر.

12- في ذهابه (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك أسَرَ الأكيدر وأطلقه

تقدمت الرواية عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما وصل إلى دومة الجندل أرسل الزبير وأبا دجانة الأنصاري ليلاً في سرية من عشرين شخصاً، فأسروا الأكيدر بآية ربانية، وأتوه به فكتب معه معاهدة وأطلقه.

لكن رواة السلطة أعطوا هذه السرية إلى خالد بن الوليد، فقالوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسله من تبوك إلى الدومة فأسرالأكيدر! لكن لا يصح إرساله من تبوك لأن الدومة في طريق النبي (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك! ولأن يوحنَّه حاكم إيلات ومن جاورها جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك، لمَّا سمعوا بما حدث للأكيدر.فالصحيح أنه أسره وصالحه وأطلقه، في ذهابه إلى تبوك.

ونحن نرجح رواية تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /486، المتقدمة، عن الإمام الكاظم (علیه السلام)، أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل أبا دجانة والزبير.

وقد نص اليعقوبي: 2/67 على أن النبي (صلی الله علیه و آله) تحرك في غرة رجب، ووصل إلى تبوك في شعبان أي بعد شهر أو أكثر، والمسافة إلى تبوك على أكثر تقدير عشرون يوماً، فالباقي كان في فرق الطريق إلى دومة الجندل، حيث أسره النبي (صلی الله علیه و آله).

وفي مغازي الواقدي/615: «وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي (صلی الله علیه و آله) لما رأوا العرب قد أسلمت. وقدم يُحنة بن رؤبة على النبي (صلی الله علیه و آله) وكان ملك أيلة وأشفقوا

ص: 520

أن يبعث إليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما بعث إلى أكيدر، وأقبل معه أهل جرباء وأذرح فأتوه فصالحهم، فقطع عليهم الجزية جزية معلومة وكتب لهم كتاباً».

13- راسل النبي (صلی الله علیه و آله) هرقل من تبوك

أقام النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك نحو عشرين يوماً، لأنه راسل هرقل وانتظر جوابه، ففي الخرائج: 1/169: «واختلفت الرسل بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وملك الروم، فطالت في ذلك الأيام حتى نفد الزاد فشكوا إليه نفاده فقال (صلی الله علیه و آله): من كان معه شئ من دقيق أو تمر أو سويق فليأتني به، فجاءه رجل بكف تمر والآخر بكف سويق فبسط رداءه وجعل ذلك عليه ووضع يده على كل واحد منها، ثم قال: نادوا في الناس: من أراد الزاد فليأت، فأقبل الناس يأخذون الدقيق والتمر والسويق حتى ملؤوا جميع ما كان معهم من الأوعية، وذلك الدقيق والتمر والسويق على حاله، ما نقص من واحد منها شئ ولا زاد على ما كان».

ويشعر قوله «واختلفت الرسل» أنهما تبادلا أكثر من رسالة، لكن لم تذكر المصادر إلا رسالة واحدة، شبيهة برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل في السنة السادسة.

ففي مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 2/410: «من محمد رسول الله إلى صاحب الروم: إني أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، فإن لم تدخل في الإسلام، فأعط الجزية، فإن الله تبارك وتعالى يقول: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وإلا فلا تَحُل بين الفلاحين وبين الإسلام، أن يدخلوا فيه، أو يعطوا الجزية».

لكن هذا النص للرسالة ناقص، فجواب هرقل يدل على أنه كان فيها آية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. فقد رووا عن رجل تنوخي إسمه سعيد بن أبي راشد أنه قال: لما جاء كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم غلق عليه وعليهم الدار،

ص: 521

فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال: يدعوني إلى أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه ما لنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب، والله لقد عرفتم فيما تقرؤن من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم نتبعه على دينه أو نعطيه مالنا وأرضنا! فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا إلى أن ندع النصرانية، أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز! فقال: إنما قلت ذلك لكم لأعلم صلابتكم على أمركم!

ثم دعا رجلاً من عرب تجيب كان على نصارى العرب فقال:«أدع لي رجلاً حافظاً للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إليَّ هرقل كتاباً وقال: إذهب بكتابي إلى هذا الرجل فما ضيعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال: أنظر هل يذكر صحيفته التي كتب إليَّ بشئ، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل وانظر في ظهره هل به شئ يريبك، فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبياً على الماء فقلت: أين صاحبكم؟ قيل ها هوذا فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ. قال: هل لك في الإسلام الحنيفية ملة أبيك إبراهيم؟ قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. يا أخا تنوخ إني كتبت بكتابي إلى كسرى فمزقه والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مُخرقه ومخرق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزل الناس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير. قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها صاحبي، وأخذت سهماً من جعبتي فكتبتها في جلد سيفي، ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره.. فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فأين النار؟ فقال رسول الله: سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار؟ قال فأخذت سهماً من جعبتي فكتبته في جلد سيفي». سبل الهدى: 11/356.

وقد أجاب النبي (صلی الله علیه و آله) على ادعاء هرقل أنه مسلم مؤمن بنبوته فقال: «كذب بل هو

ص: 522

على نصرانيته».مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله):2/410،فتح الباري: 1/35 والروض الأنف: 4/302.

وفي مغازي الواقدي/608: «وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فينظر إلى صفته وإلى علاماته إلى حمرة في عينيه، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي (صلی الله علیه و آله) ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديق به فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف». أي لم يحرك جيشه إلى تبوك!

14- انتقم هرقل من يوحنا فقتله ولم ينتقم من الأكيدر!

كان انسحاب هرقل من تبوك حتى لايشتبك مع النبي (صلی الله علیه و آله) تخاذلاً واضحاً، وحتى لو لم تكن له قوات هناك، فالواجب على أمبراطور أن يبادر إلى قتال جيش معادٍ من ثلاثين ألفاً دخل في عمق بلاده وعسكر في مكان قريب منه، وأسر أحد الملوك التابعين له وهو الأكيدر، وكتب معه معاهدة صلح يدفع بموجبها جزية كبيرة مرتين في السنة، وخاف منه حكام محليون فجاؤوه طائعين أو مكرهين وكتبوا معه معاهدات، يدفعون بموجبها الجزية.

لكن هرقل لم يفعل، وواصل استعمال الدهاء الغربي لكسب الوقت، وأجاب النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه مؤمن به، لكن وزراءه وبطارقته لا يقبلون!

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) عن هرقل: «كذب عدو الله إنه على نصرانيته» وصدق رسول الله فقد قتل هرقل حاكم عَمَّان لأنه أسلم، وقتل رسول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى حاكم بصرى، وقتل يوحنا حاكم إيلات، لأنه وقع مع النبي (صلی الله علیه و آله) معاهدة صلح!

قال الواقدي في المغازي/615: «وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي (صلی الله علیه و آله) لما رأوا العرب قد أسلمت، وقدم يُحَنَّه بن رؤبة على النبي (صلی الله علیه و آله) وكان ملك أيلة، وأشفقوا أن يبعث إليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما بعث إلى أكيدر. وأقبل معه أهل جرباء وأذرح فأتوه فصالحهم، فقطع عليهم الجزية جزية معلومة وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمَنَةً من الله ومحمد النبي رسول الله،

ص: 523

ليُحَنَّهْ بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. ومن أحدث حدثاً فإنه لايحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر». ومكاتيب الرسول:3/116، معجم البلدان: 1/292 والطبري: 2/372، ابن هشام: 4/952والتبيان: 5/172.

وجاء يوحنا بعد ذلك إلى المدينة فروي عن جابر (رحمة الله) أنه قال: «رأيت يحنة بن رؤبة يوم أُتي به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية، فلما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) كفَّرَ وأومأ برأسه «وضع يديه على بعضهما لأن ذلك من فعل الفرس والروم في الخضوع لملكهم» فأومأ إليه النبي (صلی الله علیه و آله): إرفع رأسك! وصالحه يومئذ وكساه رسول الله (صلی الله علیه و آله) برداً يمنية، وأمر له بمنزل عند بلال.

وكتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأهل جر باء وأذرح هذا الكتاب: من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة والله كفيل عليهم.. وكتب لأهل مقنا». مغازي الواقدي/615.

وبلغ خبر يوحنا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته!»ابن خلدون: 2/ق:1/224.

انتظر هرقل حتى انسحب النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك وجاء وقتل يوحنا!

قال الشيخ الغزالي في التسامح/140: «ما إن عاد المسلمون من تبوك حتى جاء هرقل! فأمر بقتل يوحنا بن رؤبة أمير أيلة، ثم صلبه أمام قريته لأنه رضي بعقد صلح مع المسلمين».

لكن هرقل سكت عن معاهدة الأكيدر مع النبي (صلی الله علیه و آله)، لأن لقتله تداعيات!

15- مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من تبوك!

1. اعترفت كل المصادر بحصول هذه المؤامرة، وتُعرف بليلة العقبة، ويُعرف منفذوها بأصحاب العقبة! لكنهم اتفق الجميع على إخفاء أسماء«أبطالها»!

روى مسلم في صحيحه: 8/123، عن أبي الطفيل قال: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟

ص: 524

قال فقال له القوم: أخبره إذْ سألك! قال: كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد! وعَذَرَ ثلاثة قالوا: ما سمعناه منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا علمنا بما أراد القوم!».

وتدل هذه الرواية الرسمية على أن المتآمرين كانوا بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين وكان حذيفة يعرفهم، وكذا عمار، وكذا أهل البیت (علیهم السلام). وقد أبهمت الرواية الموضوع وذكرت أن النبي (صلی الله علیه و آله) عَذَر ثلاثة منهم غير الأربعة عشر، لأنهم قالوا إنهم كانوا في محل الجريمة صدفةً، ولم يكونوا مع المتآمرين، حيث لم يسمعوا منادي النبي (صلی الله علیه و آله) يطلب من المسلمين أن يمروا من الوادي، ولا يصعدوا العقبة!

أما قصة الماء ونهي النبي (صلی الله علیه و آله) أن يشربوا منه إذا وصلوا اليه قبله، فهي منفصلة عن مؤامرة العقبة، فقد كان ذلك الماء قليلاً وأراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يباركه ويجريه بما يكفي الجيش والمنطقة، فوصل اليه جماعة قبله وعصوا وشربوا منه، وهم من أصحاب العقبة وغيرهم! فلعنهم النبي (صلی الله علیه و آله) ثانية بعد لعنة العقبة!

2. روى المفسرون مؤامرة العقبة في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.73-74.

قال البيضاوي في تفسيره: 3/158: «وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، من الفتك بالرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا».

وفي الخصال/499، عن حذيفة أنهم أربعة عشر، ثم عدَّد أسماءهم كما يأتي، وقال: «وهم الذين أنزل الله عزوجل فيهم: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا».

ص: 525

3. اتفقت روايتهم على أن المؤامرة كانت لقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في نقطة معينة من العقبة! قال الصحابي عامر بن واثلة كما في روايتهم الصحيحة: «أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه».«مسند أحمد: 5/453».كما اتفقوا على أن غزوة تبوك كانت في الصيف وكانوا يسيرون ليلاً اتقاء الحر، وكان أمامهم طريق مختصر من العقبة لا يناسب جيشاً من ثلاثين ألفاً، فسلك الجيش طريق الوادي، وقرر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يسلك طريق العقبة، وأحس بأن بعضهم يأتمر عليه فنادى مناديه أن لايسلك أحد العقبة، فبادر المتآمرون وصعدوا الجبل ليدحرجوا صخوراً كبيرة عليه فتقتله، أو تنفر ناقته (صلی الله علیه و آله) فتسقط في الوادي، وكان مسلكاً ضيقاً يتسع في نقطة منه لجمل واحد، وكان واديه عميقاً، روي أنه مقدار ألف رمح! البحار: 82/267.

كما ورد ذكر الدِّبَاب، وهي كراتٌ كبيرة من جلود أو خشب، يلقونها فتصدر منها أصوات تنفر الناقة: «فسبق بعضهم إلى تلك العقبة وكانوا قد أخذوا دباباً كانوا هيأوها من جلد حمار، وضعوا فيها حصى وطرحوها بين يدي الناقة».الصحيح من السيرة: 30/143.

وفي الإحتجاج: 1/64: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير، وأمر مناديه فنادى: ألا لا يسبقن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحد إلى العقبة ولا يطؤها حتى يجاوزها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر بها ويخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر فقال حذيفة: يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ويكشف عني فيعرفني ويعرف موضعي من نصيحتك، فيتهمني ويخافني فيقتلني. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها: إن رسول الله يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل جوفك، ثم يأمرك أن تثقبي فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل علي منها الروح لئلا أكون من الهالكين، فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين. فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم

ص: 526

لبعض: من رأيتموه هنا كائناً من كان فاقتلوه، لئلا يخبروا محمداً أنهم قد رأونا هاهنا، فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهاراً، فيبطل تدبيرنا عليه! وسمعها حذيفة، واستقصوا فلم يجدوا أحداً، وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم، فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال... فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما رأى وسمع فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أوَعرفتهم بوجوههم؟ فقال: يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم، فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحداً أحدروا اللثام، فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم: فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا حذيفة إذا كان الله يثبِّت محمداً، لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون. ثم قال: يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله، فإذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها، وعمار إلى جانبها، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده، فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أذن الله لها فارتفعت ارتفاعاً عظيماً فجاوزت ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم سقطت في جانب المهوى، ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك، وناقة رسول الله كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات التي كانت للدباب. ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمار: إصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها، ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر عضده».

4. وأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن لا يعاقبهم، كما أمره أن يكتم أسماءهم، حتى لا ترتد قريش! ففي الصحيح من السيرة: 30/141 ملخصاً: «فأخبر الله تعالى

ص: 527

رسوله بمكرهم، فلما بلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلك العقبة نادى مناديه للناس: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخذ العقبة فلا يأخذها أحد، واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله (صلی الله علیه و آله) لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا. فبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسير من العقبة إذ سمع حسَّ القوم قد غَشَوْهُ، فنفَّروا ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى سقط بعض متاعه. فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم، وقد رأى غضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه محجن يضرب وجوه رواحلهم وقال: إليكم إليكم يا أعداء الله تعالى. فعلم القوم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس!

قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاء الناس أن تضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه».

أقول: هذا يدل على أن أولئك المجرمين كانوا صحابة، وكانت خطتهم أن يقتلوا النبي (صلی الله علیه و آله) سراً ثم يبكون عليه، ويقدموا أحدهم ويصفقوا على يده لخلافته! فأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يكتم عليهم! لأن إعلان أسمائهم يؤدي إلى إعلان قريش الردة ومعها بعض القبائل، وهذا أضر على الإسلام من الصبر عليهم!

5- تراوح عدد المتآمرين في الروايات بين اثني عشر وأربع وعشرين، فكان فيهم أساسيون ومساعدون. وروي أنهم ثمانية من قريش وأربعة من غيرهم، وروي أنهم اثنا عشر من بني أمية وخمسة من غيرهم. وذكرت رواياتنا أن حذيفة (رحمة الله) كشف أسماءهم في خطبته في مرض وفاته في المدائن، لما تحدث عن مؤامرة قريش على النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته، وقال في حديثه عن ليلة العقبة: «فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا وثبتت البرقة حتى خلتها شمساً طالعة، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلاً رجلاً، وإذا هم كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعدد القوم أربعة عشر رجلاً، تسعة من قريش، وخمسة من سائر الناس، فقال له: سمهم لنا يرحمك الله، فقال حذيفة: هم والله... قال حذيفة: ثم انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتوضأ وانتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع الناس وصلوا خلف رسول الله!

ص: 528

فلما انصرف من صلاته (صلی الله علیه و آله) التفت فنظر إلی أبي بكر وعمر وأبي عبيدة يتناجون فأمر منادياً فنادى في الناس: لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس يتناجون فيما بينهم بسر».البحار: 28/100.

وفي تاريخ دمشق: 32/93: «عن أبي تحيى حكيم قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: ما لي ولك ألست أخاك؟ قال: ما أدري، إلا أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يلعنك ليلة الجبل! قال: إنه قد استغفر لي! قال عمار: قد شهدت اللعن، ولم أشهد الإستغفار!».

وقال عنه ابن حجر في لسان الميزان: 5/290: «قال ابن عدي: عند محمد بن علي هذا، من هذا الضرب عجائب وهو منكر الحديث، والبلاء فيه عندي منه لا من حسين.. وقال الخطيب قال محمد بن منصور: كان ثقة مأموناً حسن النقل»!

أقول: تعجبَ ابن حجر من كون أبي موسى الأشعري من أهل العقبة، ولا قيمة لاستنكاره، فالراوي ثقة! وأبو موسى عند أهل البیت (علیهم السلام) كسامري اليهود!

6. استبدل رواة السلطة أسماء أصحاب العقبة بآخرين، لاهم في العير ولا النفير، ولا مصلحة لهم أو لمن وراءهم بقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ! فذكروا لائحتين بأسمائهم:

1- معتب بن قشير بن مليل، من بني عمرو بن عوف.2- وديعة بن ثابت بن عمرو بن عوف.3- جدّ بن عبدالله بن نبتل من بني عمرو بن عوف.4- الحارث بن يزيد الطائي.5- أوس بن قيظى، من بني حارثة. 6- الحارث بن سويد.7- سعد بن زرارة، من بني مالك. 8- قيس بن قهد، من بني مالك. 9- سويد من بني بلحبلى. 10- داعس من بني بلحبلى. 11- قيس بن عمرو بن سهل.12- زيد بن اللصيت.13- سلامة بن الحمام. وهما من بني قينقاع.

والثانية ذكرها ابن القيّم والسيوطي والصالحي:

1- عبدالله بن أبي «سعد». 2- سعد بن أبي سرح. 3- أبوخاطر«حاضر»

الأعرابي. 4- عامر.5- أبو عامر «أبو عمر». 6- الجلاس بن سويد بن الصامت. 7- مجمع بن حارثة«جارية». 8- فليح «مليح» التيمي. 9- طعمة

ص: 529

بن أبيرق. 10-عبدالله بن عيينة. 11- مرة بن الربيع. 12-حصين بن النمير.

وذكرت لائحة أخرى بأسمائهم في مصادر لاتهتم برضا رموز السلطة، وهم:

1- أبو بكر. 2- عمر. 3- عثمان. 4- طلحة. 5- الزبير. 6- أبوسفيان. 7- معاوية. 8- عتبة بن أبي سفیان. 9- أبو الأعور السلمي. 10- المغيرة بن شعبة. 11- أبو موسى الأشعري.12- أبو قتادة. 13- عمرو بن العاص. 14- سعد بن أبي وقاص. وفي نص آخر: الثمانية من قريش هم: سعد بن أبي وقاص، معاوية، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة. بالإضافة إلى: 15- عبدالرحمن بن عوف. 16- أبو عبيد بن الجراح. والذين هم من غير قريش: 17- أوس بن الحدثان. 18- أبو هريرة. 19- أبو طلحة الأنصاري. 20- أبو موسى الأشعري.

وزاد في نص آخر: 21- سالم مولى أبي حذيفة.22- خالد بن الوليد. وأبا المعازف. 23- وأباه. 24- وأبا مسعود. وينتهي العدد انتهى إلى أربعة وعشرين، وقد جمعناه من الروايات المختلفة وهو ما صرحت به بعض الروايات. الصحيح:30/123.

أقول: هذه الحادثة لا يكفي فيها التعليق، فهي توجب ثورة في فهم الصحابة والسيرة!

16- في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي (علیه السلام) في المدينة!

في الإحتجاج: 1/59: «قال أبو محمد الحسن العسكري (علیه السلام): لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فما قدروا على مغالبة ربهم! حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) لما فخَّمَ من أمره وعظَّمَ من شأنه.

من ذلك أنه لما خرج النبي (صلی الله علیه و آله) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له: إن جبرئيل أتاني وقال لي: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو تقيم أنت ويخرج علي، لا بد من ذلك، فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين لايعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري. فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا: ملَّه وسئمه وكره صحبته فتبعه علي (علیه السلام) حتى لحقه

ص: 530

وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أشخصك يا علي عن مركزك؟ فقال: بلغني عن الناس كذا وكذا. فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فانصرف علي (علیه السلام) إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً ثم غطوها بخص رقاق، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص، وكان ذلك على طريق علي (علیه السلام) الذي لا بد له من سلوكه، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة، ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه! فلما بلغ علي (علیه السلام) قُرب المكان لوى فرسه عنقه.. فقال علي (علیه السلام): سر بإذن الله سالماً سوياً، عجيباً شأنك، بديعاً أمرك، فتبادرت الدابة فإذا الله عزوجل قد متن الأرض وصلَّبها ولأَّم حفرها، كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض، فلما جاوزها علي (علیه السلام) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال: ما أكرمك على رب العالمين، أجازك على هذا المكان الخاوي... فلما قرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من العقبة التي بإزائها فضائح المنافقين والكافرين، نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم: هذا جبرئيل الروح الأمين يخبرني أن علياً دُبِّرَ عليه كذا وكذا،

فدفع الله عزوجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /560: «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! تقيم يا علي فإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) موقناً طائعاً، وإن لك عليَّ يا علي أن أسأل الله بمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله، إن الله يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي نسير عليها والأرض التي تكون أنت عليها ويقوي بصرك حتى تشاهد محمداً وأصحابه في سائر أحوالك وأحوالهم، فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.

ص: 531

فقام رجل من مجلس زين العابدين (علیه السلام) لما ذكر هذا وقال له: يا ابن رسول الله كيف يكون هذا لعلي، إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم! فقال زين العابدين: هذا هو معجزة لمحمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا لغيره، لأن الله تعالى لما رفعه بدعاء محمد (صلی الله علیه و آله) زاد في نوره أيضاً بدعاء محمد حتى شاهد ما شاهد، وأدرك ما أدرك.

ثم قال الباقر (علیه السلام): ما أكثر ظلم هذه الأمة لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) وأقل إنصافهم له!؟ يمنعون علياً ما يعطونه سائر الصحابة وعلي (علیه السلام) أفضلهم! فكيف يمنعون منزلة يعطونها غيره؟! قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال: لأنكم تتولون محبي أبي بكر بن أبي قحافة وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان، وتتولون عثمان بن عفان وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان. حتى إذا صار إلى علي ابن أبي طالب (علیه السلام) قالوا: نتولى محبيه ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم!

وكيف يجوز هذا لهم ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول في علي: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله! فتراهم لا يعادون من عاداه وخذله،

ليس هذا بإنصاف!

ثم أخرى: أنهم إذا ذكر لهم ما اختص الله به علياً (علیه السلام) بدعاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكرامته على ربه تعالى جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة! فما الذي منع علياً (علیه السلام) ما جعله لسائر أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟

هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم: إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية الجبل، وعجبت الصحابة وقالوا: ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة! فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا: ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟ فقال: إعلموا أني وأنا أخطب رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند وعليهم سعد بن أبي وقاص، ففتح الله لي الأستار والحجب، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك، وقد جاء بعض الكفار ليدوروا خلف سارية وسائر من معه من المسلمين فيحيطوا بهم فيقتلوهم، فقلت يا سارية الجبل ليلتجئ إليه فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به ثم يقاتلوا...

ص: 532

قال الباقر (علیه السلام): فإذا كان هذا لعمر! فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) ؟ ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون!

ثم عاد الباقر (علیه السلام) إلى حديثه عن علي (علیه السلام) قال: فكان الله تعالى يرفع البقاع التي عليهامحمد (صلی الله علیه و آله) ويسير فيها لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) حتى يشاهدهم على أحوالهم».

هذا، وسيأتي أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر في تلك الأيام في طريق عودته من تبوك أن يعمل له منبر، وبيَّن للمسلمين مقام علي والعترة الطاهرة:.

17- نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) عن الشرب قبله، فعصوْهُ فلعنهم

في معجم البلدان: 5/135: «المشقَّق: قال ابن إسحاق في غزوة تبوك: وكان في الطريق ماء يخرج من وَشَل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له المشقق، فقال رسول الله: من سبقنا إلى هذا الماء فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه، قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله وقف عليه فلم ير فيه شيئاً فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان، فقال: أوَلم أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيهم؟! ثم لعنهم رسول الله ودعا عليهم!

ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا رسول الله بما شاء أن يدعو به فانخرق من الماء كما يقول من سمعه أما إن له حساً كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم، فقال رسول الله: لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه». وسيرة ابن هشام: 4/954 والطبري: 2/ 373.

وفي إمتاع الأسماع: 2/71: «وأقبل قافلاً حتى كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة وهو وادي المشقق...فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير والحارث بن يزيد الطائي حليف بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت فقال: ألم أنهكم؟! ولعنهم ودعا عليهم ثم نزل».ونحوه قرب الإسناد للحميري/327، الخرائج: 1/109 وجعله في طريق عودته (صلی الله علیه و آله) من الحديبية.

ص: 533

وفي الإمتاع: 5/112، عن عامر بن واثلة: «فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشئ من ماء، قال: فسألها رسول الله (صلی الله علیه و آله) هل لمستما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم، فسبهما النبي (صلی الله علیه و آله) وقال لهما ما شاء الله أن يقول»!

وفي صحيح مسلم: 8/123:»وقد كان في حَرَّة فمشى فقال: إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ»!

أقول: أراد النبي (صلی الله علیه و آله) بالنهي عن الشرب قبل وصوله أن يمتحن المؤمنين بالطاعة كما امتحنهم طالوت (علیه السلام) بعدم شرب الماء في قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ».

وقد أخفت الحكومات أسماء الذين لعنهم (صلی الله علیه و آله)، وكانوا اثنين في رواية، وقوماً في رواية، وأقواماً في رواية، ولا بد أنهم كانوا من كبارهم فأخفوهم!

وقد وقعت هذه الحادثة بعد محاولتهم قتل النبي (صلی الله علیه و آله)، فأخفوا أسماء الصحابة المجرمين ومنهم من أهل العقبة! وسموا غيرهم ممن لاوزن لهم.

قال السيد شرف الدين في كتابه أبو هريرة/97: «وما كان للأمة أن تحتفظ بكرامة من لعنهم نبيها (صلی الله علیه و آله) لنفاقهم ونفاهم لإفسادهم، فتضيع على أنفسها المصلحة التي توخاها (صلی الله علیه و آله) لها في لعنهم وإقصائهم، وهم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة لينفروا برسول الله فيطرحوه، وكان إذ ذاك قافلاً من غزوة تبوك في حديث ثابت مستفيض وهو طويل، وقد جاء في آخر فلعنهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ.

والعجب من المسلم ينتصر لهم وقد جرعوا النبي (صلی الله علیه و آله) كل غصة، وقعدوا له في كل مرصد، ووثبوا عليه وعلى أهل بيته: من بعده كل وثبة! وما لعنهم إلا ليطردهم الله من رحمته ويجتنبهم المؤمنون من أمته، جزاء وفاقاً، لا ليقربهم

إلى الله زلفى، كما يخرِّفون».

يقصد السيد شرف الدين بتخريفهم، أنهم جعلوا لعنة الملعون على لسان النبي (صلی الله علیه و آله) منقبة له! فروى مسلم في صحيحه: 8/25: «أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: اللهم إني

ص: 534

أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأيُّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة». فصار الملعون أحسن حظاً من غيره»!

18- نزول سورة التوبة في طريق العودة من تبوك

من المؤكد أن قسماً منها نزل في طريق العودة من تبوك، وروي أنها نزلت كلها: «روى البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة، براءة».التبيان: 3/407.

وسميت «براءة» لأن أولها: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وهي السورة الوحيدة التي لاتبدأ بالبسملة، لأنها غضب على المشركين والمنافقين.

قال الشافعي في الأم: 4/201: «لما قوي أهل الإسلام أنزل الله عزوجل على رسوله (صلی الله علیه و آله) مرجعه من تبوك: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فأرسل بهذه الآيات مع علي بن أبي طالب رضی الله تعالى عنه فقرأها على الناس في الموسم، وكان فرضاً أن لا يعطى لأحد مدة بعد هذه الآيات، إلا أربعة أشهر».

كما سميت الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وخاصة محاولتهم قتل النبي (صلی الله علیه و آله) «قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة! ما زال ينزل: ومنهم.. ومنهم.. حتى خفنا ألا تدع أحداً»!معاني القرآن: 3/179.

وفي تفسير القرطبي: 8/61: «وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبَحُوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين! وتسمى المبعثرة، والبعثرة: البحث».

وهي مئة وتسع وعشرون آية، وفيها بحوث عديدة، نكتفي ببعضها:

فقد بينت الآيات الأربع وعشرون الأولى، تحريم دخول المشركين إلى مكة بعد

تلك السنة.

ثم تعرضت الآيات: 25-27 إلى معركة حنين وفرار المسلمين وثبات النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم ونصر الله تعالى لهم. ثم أكدت الآية: 28 تحريم مكة على المشركين.

ثم بينت الآيات: 29-35، الموقف من اليهود والنصارى وبعض صفاتهم.

ثم بينت الآيتان: 36-37، تحريم القتال في الأشهر الحرم، وبطلان النسئ فيها.

ص: 535

أما بقية الآيات من آية: 38، إلى 129، فعالجت مواضيع عن الجهاد، والمنافقين، وغزوة تبوك. ونشير منها إلى ست مسائل تتعلق بالسيرة:

الأولى: قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. «التوبة: 43» فقد استأذن بعض المؤمنين وبعض المنافقين من النبي (صلی الله علیه و آله)، مدعين أعذاراً، فقبل منهم وأذن لهم. «والمستأذنون ثمانون رجلاً من قبائل شتى».«تفسير القمي: 1/293». وزعم مفسروا الحكومات أن إذن النبي (صلی الله علیه و آله) للمنافقين معصية لربه! وخففها بعضهم فجعلها ذنباً صغيراً! وأطلقوا العنان لخيالهم في ذنوب النبي (صلی الله علیه و آله) وأخطائه التي عاتبه الله عليها فعفا عن بعضها وعاقبه على بعضها مثل ذنبه في أسر قرشيين في بدر! الذي عاقبه الله عليه بجرحه وهزيمته في أحُد! وقد بحثنا ذلك في كتاب «ألف سؤال وإشكال: 2/422».

والمسألة الثانية: قوله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. التوبة: 117.

فقد سموا جيش تبوك جيش العسرة وفسروها بالضائقة المالية، وجعلوا التوبة في الآية بسبب الإنفاق، وجعلوا المنفقين أبابكر وعمر وعثمان، وزادوا من حصة عثمان في الإنفاق وسهمه في التوبة عليه، وناقش ذلك صاحب الصحيح.

والمسألة الثالثة: قصة الذين تخلفوا عن تبوك في قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ التوبة: 118. وستأتي.

والمسألة الرابعة: مسجد الضرار، وتقدم شئ من تفسير آياته عن الإمامين الحسن العسكري والكاظم (علیهما السلام).

والمسألة الخامسة: الآيتان في مؤامرتهم لقتل النبي (صلی الله علیه و آله): يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. «التوبة: 73-74». وتقدم شئ في تفسيرهما، ونشير هنا إلى أن مرتكبي الجريمة هم الذين كانوا

ص: 536

فقراء وأغناهم الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) من فضله، فهم قريبون من النبي (صلی الله علیه و آله) وقد شاركوه في حروبه لكن في الصف الخلفي، ووصلت اليهم الغنائم وعطايا النبي (صلی الله علیه و آله)، فأغناهم الله ورسوله من فضله!

والمسألة السادسة: قتال أهل الكتاب حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية، وهذا بحث فقهي وحقوقي مهم، لكنه خارج عن غرضنا هنا.

19- عودة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة

اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) خرج من المدينة إلى تبوك في رجب في يوم الخميس سنة تسع، وعند اليعقوبي في أول رجب، ورجع في شهر رمضان. ونصت رواية الإمام الكاظم (علیه السلام) على أنه واعد أمته ثمانين ليلة، فيكون رجوعه في نحو العشرين من شهر رمضان.

وقال اليعقوبي: 2/67: «واستخلف علياً على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين..وقدم رسول الله تبوك في شعبان فأتاه يُحَنَّة بن رؤبة أسقف أيلة فصالحه». وفي مناقب آل أبي طالب: 1/27: «أنشد العباس في النبي (صلی الله علیه و آله):

من قبلها طبت في الظلال وفي *** مستودعٍ حيث يخصف الورقُ

ثم هبطت البلاد لا بشرٌ أنت *** ولا مضغةٌ ولا علقُ

بل نطفةٌ تركب السفير وقد *** ألجم نسراً وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم *** إذا مضى عام بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من *** خندف علياء نحلتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض *** وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي *** النور وسبل الرشاد نحترق

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لايفضض الله فاك».

وروي أنه لغيره، وروى الحاكم: 3/326 أن ذلك كان منصرف النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك.

ص: 537

ومن مكذوباتهم في رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك أنه لم يدخل بيت فاطمة (علیها السلام) على عادته، لأنها اشترت ستراً ملوناً وسوارين من فضة للحسن والحسين (صلی الله علیه و آله) !

ففي مسند أحمد: 5/275، عن ثوبان قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة (علیها السلام)، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة (علیها السلام) فقدم من غزاة له فأتاها فإذا هو بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قُلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها! فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكى الصبيَّان فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهما يبكيان فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهما فقال: يا ثوبان إذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا».

ورواه بلفظ آخر في فضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين/15: «عن ابن عمر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان إذا خرج كان آخر عهده فاطمة (علیها السلام) وإذا رجع كان أول عهده فاطمة (علیها السلام)، فلما رجع من غزوة تبوك وقد اشترت مقينعة وصبغتها بزعفران وعلقت على بابها ستراً، وألقت في بيتها بساطاً، فلما رأى ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) رجع فأتى المنزل فقعد فيه، فأرسلت إلى بلال فقالت: إذهب فانظره ما رده عن بابي؟ فأتاه فأخبره فقال: إني رأيتها صنعت كذا وكذا! فأتاها فأخبرها فهتكت الستر وكل شئ أحدثته وألقت ما عليها ولبست أطمارها فأخبره، فجاء حتى دخل عليها فقال: كذا كوني فداك أبي وأمي». ورواه أبو داود: 2/291، البيهقي: 1/26، ابن حبان:2/470، حماد بن زيد في تركة النبي (صلی الله علیه و آله) /56 وأخذته بعض مصادرنا كذخائر العقبى/51، البحار: 43/89 وكشف الغمة:2/79، ظناً أنه فضيلة.

وسبب تكذيبنا لهذا الحديث: أن أهل البیت (علیهم السلام) لم يرووه، وأن ما نسبه إلى الزهراء (علیها السلام) ليس حراماً ولا خلاف الأولى. وما نسبه اليها من أنها انتزعت السوارين بعنف حتى قطعتهما، مما أبكى الحسن والحسين (صلی الله علیه و آله) ! ثم استكثاره على فاطمة (علیها السلام) أن يكون لها ستر لباب دارها، وسواران من فضة لولديها، وقوله عن ذلك: «ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا»!

ص: 538

هو من نوع التبرير لما فعلته السلطة من مصادرة فدك وكل أموالهم، لتجويعهم وإخضاعهم، فبرروا ذلك بأن أهل البیت (علیهم السلام) نصيبهم في الآخرة فقط!

وكأن القصة كانت مع إحدى زوجاته فجعلوها للزهراء (علیها السلام)، قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو يصف النبي (صلی الله علیه و آله) «نهج البلاغة/ 88 ح: 580»: «ويكون السِّتر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها».

وينبغي الإلتفات إلى أن حسد قريش تصاعد ضد علي والعترة: في تلك الفترة، فهم يريدون أن يقولوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) غيَّرَ عادته عند عودته من تبوك وذهب إلى المسجد ولم يذهب إلى بيت فاطمة (علیها السلام)، لأنها أرادت زينة الدنيا!

20- المتخلفون الثلاثة الذين تاب الله عليهم

قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لامَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَالتَّوَابُ الرَّحِيمُ. سورة التوبة: 117-118.

في تفسير القمي: 1/296: «وقد كان تخلف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق، منهم كعب بن مالك الشاعر، ومرادة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي، فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، وكنت أقول أخرج غداً أخرج بعد غد! فإني قوي وتوانيت، وبقيت بعد خروج النبي (صلی الله علیه و آله) أياماً أدخل السوق فلا أقضي حاجة! فلقيت هلال بن أمية ومرادة بن الربيع، وقد كانا تخلفا أيضاً، فتوافقنا أن نبكر إلى السوق ولم نقض حاجة، فما زلنا نقول نخرج غداً وبعد غد، حتى بلغنا إقبال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فندمنا!

ص: 539

فلما وافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلناه نهنؤه بالسلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام! فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا! وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد، ولا يكلمنا! فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا إخواننا ولا أهلونا! فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت! فخرجوا إلى ذناب جبل بالمدينة فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم، فبقوا على هذا أياماً كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم. فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، قد سخط علينا وأهلونا وإخواننا قد سخطوا علينا، فلا يكلمنا أحد، فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟! فتفرقوا في الليل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه، فبقوا على هذه ثلاثة أيام، كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه! فلما كان في الليلة الثالثة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقوله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ». وابن هشام: 4/957.

أقول: استثنى النبي (صلی الله علیه و آله) الذين تخلفوا عن تبوك لعذر فقال، كما في الغارات للثقفي: 1/230، وغيره: «لقد كان بالمدينة أقوام ما سرتم من مسير، ولا هبطتم من واد إلا كانوا معكم! ما حبسهم إلا المرض. يقول: كانت لهم نية».

وكان كبير المتخلفين كعب بن مالك الشاعر الأنصاري، وقد ورد عن أهل البیت (علیهم السلام) قراءة تفسيرية: لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين. الإحتجاج:1/98.

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يرد على حُسَّاد علي (علیه السلام) في طريق تبوك

بعد معركة بدر خاصة، ظهر حسدهم لعلي (علیه السلام) لأن إسمه سطع في المعارك بطلاً وعضداً للنبي (صلی الله علیه و آله)، ووزيراً مقرباً منه.وصار حسدهم له بغضاً، ثم صار اتجاهاً، ثم صار حزباً، ثم صار ديناً!

ص: 540

قال بريدة: «لم أجد من الناس أبغض عليَّ من علي بن أبي طالب، حتى أحببت رجلاً من قريش ولا أحبه إلا على بغض علي»!خصائص علي (علیه السلام) للنسائي/102.

ثم زاد بغضهم له (علیه السلام) حتى تركوا من أجله السنة! قال ابن عباس: «اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي».سنن البيهقي: 5/113.

ثم زاد بغضهم لعلي (علیه السلام) حتى بنوا مساجد خاصة بسبه! «بنى عبيدالله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب والوقيعة فيه: مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة، ومسجد في الأزد»!شرح النهج: 4/94.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يعلم نشاط المبغضين لعلي (علیه السلام)، وقد اتخذ موقفاً حاسماً لوقف هذا الإنحراف فقال: «لايبغض علياً مؤمن ولايحبه منافق».ابن شيبة: 7/503.

وتقدم أن النبي (صلی الله علیه و آله) واجه المنافقين الذين تكلموا على علي (علیه السلام) عندما استخلفه على المدينة، وأرادوا أن تخلو المدينة منهما، فأعلن أن الله جعله منه بمنزلة هارون من موسى علیهم السلام! وفي طريق عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك وبعد فشل مؤامرتهم لقتله وفشل مؤامرتهم لقتل علي في المدينة، بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) أن جماعة يتكلمون على علي والعترة:، فأمر أن يعملوا له منبراً كمنبر غدير خم، وخطب في المسلمين وأبلغ رسالة ربه، وأتم عليهم الحجة!

قال أنس بن مالك: «رجعنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قافلين من تبوك، فقال لي في بعض الطريق: ألقوا لي الأحلاس والأقتاب، ففعلوا فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: معاشر الناس، مالي إذا ذكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم، وإذا ذكر آل محمد (صلی الله علیه و آله) كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان! فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب، لأكبه الله في النار»!أمالي الطوسي/308.

وفي نوادر المعجزات لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/98: «روى عبدالله بن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: كنا في غزاة تبوك ونحن نسير معه فقال: يا بن مسعود

ص: 541

إن الله عزوجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي ففعلت. وقال لي جبرئيل: إن الله عزوجل قد بنى جنة من قصب اللؤلؤ، بين كل قصة إلى قصبة لؤلؤة من ياقوتة مشذرة بالذهب، وجعل سقوفها زبرجداً أخضر، فيها طاقات من اللؤلؤ مكللة بالياقوت، وجعل عليها غرفاً، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من در، ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد، وقباباً من در قد شعبت بسلاسل الذهب، وحفت بأنواع الشجر، وبنى في كل قصر قبة، وجعل في كل قبة أريكة من درة بيضاء، فرشها السندس والإستبرق، وفرش أرضها بالزعفران والمسك والعنبر، وجعل في كل قبة مائة باب، وفي كل باب جاريتان وشجرتان، وفي كل قبة فرش وكتاب مكتوب حول القبة آية الكرسي. فقلت: يا جبرئيل لمن بنى الله عزوجل هذه الجنة؟ فقال: هذه جنة بناها الله تعالى لعلي بن أبي طالب وفاطمة ابنتك (علیهما السلام)، تحفة أتحفها الله بها وأقربها عينيك يا محمد». ودلائل الإمامة/142.

وعندما رجع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة رأى أن المنافقين ما زالوا ناشطين في معاداة علي (علیه السلام) فغضب وأوضح لهم مقامه عند الله تعالى، وأتم الحجة عليهم:

ففي الروضة في فضائل أميرالمؤمنين/169 والمسترشد/615، قال: «مر عليٌّ بنفر من قريش في المسجد فتغامزوا، فدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشكا له، فخرج وهو مغضب فقال: أيها الناس مالكم إذا ذكرت إبراهيم وآل إبراهيم أشرقت وجوهكم، وإذا ذكر محمد وآل محمد قست قلوبكم وعبست وجوهكم؟! والذي نفسي بيده لو عمل أحدكم عمل سبعين نبياً، لم يدخل عليَّ حتى يحب هذا أخي علياً وولده! والذي نفسي بيده لو أن أحدهم وافى بعمل سبعين نبياً، ما قبل الله منه حتى يوافي بولايتي وولاية أهل بيتي».

22- متفرقات من تبوك

1. تقدم ذكر عدد من معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) في تبوك، وهي كثيرة، وأولها أنه أخبر بأن الغزوة ستكون ثمانين يوماً، وأخبر بما يقع له فيها، وبتفصيل معاهدته مع الأكيدر، فوقعت الأحداث كما أخبر.

ومن معجزاته (صلی الله علیه و آله): إرواء جيش المسلمين بالماء وهو نحو ثلاثين ألفاً، بدعائه بالمطر

ص: 542

حيناً، وبإنباع الماء حيناً، وتكثير الماء القليل حتى يكفيهم.

وقد حدث ذلك بضع مرات، ومنها نبع تبوك ونبع وادي المشقق الذي ما زال جارياً، كما تقدم. الخرائج: 1/28، مجمع البيان:5/138 والحاكم: 1/159.

ومنها: معجزته في الإخبار عن أبيذر وإحضاره، كما تقدم.

ومنها: معجزته في كشف المؤامرة لقتله (صلی الله علیه و آله).

و منها إخبارهم بما حدث لعلي (علیه السلام) من محاولة الاغتیال

ومنها: مباركته الظهرالذي أجهده الطريق والحر، فنشط.مجمع الزوائد: 6/193.

ومنها: «أنه ضلت ناقته القصوى فقال عمارة بن حزم: يخبرنا محمد بخبر السماء ولا يدري أين ناقته! فقال (صلی الله علیه و آله): إني لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد أخبرني الآن أنها بشعب كذا وزمامها ملتف بشجرة. فكان كما قال (صلی الله علیه و آله)»!الخرائج: 1/121.

2. كان (صلی الله علیه و آله) يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويصلي النافلة على راحلته، ففي قرب الإسناد للحميري/16، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك، وكان يصلي على راحلته صلاة الليل حيثما توجهت به ويومئ إيماء».

3. أجرى مسابقة لخيل، ومسابقة للإبل، ففي قرب الإسناد/134، عن علي (علیه السلام):«أن النبي (صلی الله علیه و آله) أجرى الخيل وجعل فيها سبع أواق من فضة، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت العضباء وعليها أسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورسول الله يقول: سبق أسامة».

«أهدى عُبيد للنبي (صلی الله علیه و آله) فرساً عتيقاً يقال له مراوح، وقال: يا رسول الله سابق! فأجرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخيل بتبوك فسبق الفرس، فأخذه رسول الله منه، فسأله المقداد بن عمرو الفرس، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أين سبحة؟ فرس للمقداد قد شهد عليها بدراً. قال: يا رسول الله عندي وقد كبرت، وأنا أضن بها للمواطن التي شهدت عليها، وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها، فأردت

ص: 543

أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتيني بمهر. قال النبي (صلی الله علیه و آله): فذاك إذاً! فقبضه المقداد فخبر منه صدقاً، ثم حمله على سبحة فنتجت له مهراً كان سابقاً يقال له الذيال سبق في عهد عمر وعثمان فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفاً».الواقدي/617.

4- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصل إلى المدينة رجلين ليهدما مسجد الضرار فهدماه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.لايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. سورة التوبة: 107-110.

ففي التبيان: 5/297 و 598: «قيل إنهم كانوا خمسة عشر رجلاً منهم عبدالله بن نفيل... وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل قدومه من تبوك عاصم بن عون العجلاني ومالك بن الدخشم وكان مالك من بني عوف، فقال لهما: إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه، فخرجا يشتدان سريعين على أقدامها ففعلا ما أمرهما به، فثبت قوم من جملتهم زيد بن حارثة بن عامر حتى احترقت البتة».

وفي تفسير القمي: 1/305: «فجاء مالك فقال لعامر: إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي فدخل فجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البلية، ثم أمر بهدم حايطه».

وفي فقه القرآن للقطب الراوندي: 1/159: «وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ: هو أبو عامر الراهب لحق بقيصر متنصراً، وكان يبعث إليهم: سآتيكم بجند فأخرج محمداً، فبنوه يترقبونه! وهو الذي حزب الأحزاب مع المشركين. فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الروم. وابنه عبدالله أسلم وقتل يوم أحد وهو غسيل الملائكة. ووجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم، وكان مالك من بني عوف الذين بنوا مسجد الضرار،

ص: 544

فقال لهما: إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه، ففعلا ما أمر به».وفي سيرة ابن هشام: 4/956، أنه بعثهما من أوان، وهي قبل المدينة بساعة من نهار.

23- تذكير ببعض مكذوبات الحكومات عن تبوك

كتب صاحب الصحيح من السيرة في غزوة تبوك أكثر من خمس مئة صفحة، وفنَّد أكثر مكذوبات رواة السلطة فيها!وتبدأ مكذوباتهم في أسباب الغزوة، إلى ادعاء إنفاق عثمان وأبي بكر على جيش العسرة، إلى تنقيصهم من أهمية حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلى زعمهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل بدل الزبير خالداً إلى الأكيدر، إلى ادعائهم فضائل لعمر وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يخطئ وكان عمر يصيب مثل أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهم أن يذبحوا جمالهم فنهاه عمر!

ومنها مكذوباتهم في التغطية على أسماء المتآمرين لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة..الخ.

24- بعد تبوك مات ابن سلول كبير المنافقين المدنيين

بعد رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك، وقيل بعد رجوعه من فتح مكة، مات عبدالله بن أُبيّ بن سلول رئيس المنافقين المدنيين. ففي تفسير القمي: 1/302: «وكان ابنه عبدالله بن عبدالله مؤمناً، فجاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إنك إن لم تأت أبي كان ذلك عاراً علينا! فدخل إليه رسول الله والمنافقون عنده، فقال ابنه عبدالله بن عبدالله: يا رسول الله إستغفر له فاستغفر له فقال عمر: ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم! فأعرض عنه رسول الله، فأعاد عليه فقال له: ويلك إني خُيِّرْتُ فاخترت! إن الله يقول: إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ».

فلما مات عبدالله جاء ابنه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته، فحضره رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام على قبره، فقال له الثاني: يا رسول الله ألم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبداً، وأن تقوم على قبره؟ فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ويلك وهل تدري ما قلت؟إنما قلت: اللهم احش قبره

ص: 545

ناراً وجوفه ناراً وأصله النار، فبدا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما لم يكن يحب»! وسبب خطأ عمر وتصوره أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخطأ، أنه تخيل أن قبوله حضور جنازة ابن سلول وصلاته عليه، يعني الإستغفار له، مع أن لا ملازمة بينهما، فقد زاره وصلى على جنازته ولم يستغفر له! فقد قال أهل البیت (علیهم السلام) إن الصلاة المنهي عنها في قوله تعالى: وَلاتُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاتَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ.. هي الدعاء والإستغفار، أما الصلاة عليهم بدون استغفار فليس

منهياً عنها.الكافي: 3/188.

ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستعمل التقية مع أتباع ابن سلول ليجذبهم إلى الإسلام، ولكن فضول عمر أجبره على إظهار أنه دعا عليه لا له!

وفي الإستبصار: 1/476: «عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) جالساً فدخل رجل فسأله عن التكبير على الجنائز، فقال: خمس تكبيرات، ثم دخل آخر فسأله عن الصلاة على الجنائز؟ فقال: له أربع صلوات، فقال الأول: جعلت فداك سألتك فقلت خمساً، وسألك هذا فقلت أربعاً، فقال: إنك سألتني عن التكبير وسألني هذا عن الصلاة، ثم قال: إنها خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات ثم بسط كفه فقال: إنهن خمس تكبيرات، بينهن أربع صلوات».

فقد عبَّر الإمام الأدعية التي بين التكبيرات بالصلوات ليبين أن تحريم الصلاة على المنافق يخص الدعاء له، الذي يقع بعد التكبيرة الرابعة، فالصلاة هنا بمعناها اللغوي وليس الإصطلاحي. والحدائق: 10/417 والجواهر 17/359.

وقد بيَّنا مكذوباتهم وطعنهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخطأ وأصاب عمر! في كتاب ألف سؤال وإشكال: 2/329.

25- وفد ثقيف بعد تبوك

في إعلام الورى: 1/233: «سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعة عشر يوماً، وخرج نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه علي (علیه السلام) في خيله، فالتقوا ببطن وج فقتله علي (علیه السلام) وانهزم المشركون.

ص: 546

ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) جماعة من أرقائهم، منهم أبو بكَرَة وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث، وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله المنبعث ووردان وكان عبداً لعبدالله بن ربيعة، فأسلموا.

فلما قدم وفد الطائف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسلموا قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك، فقال: لا، أولئك عتقاء الله.

وفي إعلام الورى: 1/249: «ثم قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) عروة بن مسعود الثقفي مسلماً، واستأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الرجوع إلى قومه فقال: إني أخاف أن يقتلوك فقال: إن وجدوني نائماً ما أيقظوني! فأذن له رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذى، حتى إذا طلع الفجر نام في غرفة من داره فأذن وتشهد، فرماه رجل بسهم فقتله!

وأقبل بعد قتله وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحباهم، وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر، وقد كان تعلم سوراً من القرآن. قال: قلت: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي. قال: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا خشيت فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً. قال: ففعلت فأذهب الله عني».

وقال الشيخ الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 3/70 ملخصاً: «خلال تلك المدة رأت ثقيف ممن حولها من الأعراب ما يسوؤها في الأموال والأنفس، إذ أسلم من حولهم وكانوا يستحلون أموال ثقيف لأنهم كفار، فكانوا يسلبون أموالهم ويرعون زروعهم ولا يؤدون دَيْنهم، فاضطرت ثقيف للدخول في الإسلام، وقال بعضهم لبعض: أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع! فأتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجلاً كما أرسلوا عروة، فكلموا في ذلك عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود فأبى لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة، فكلموا شرحبيل بن غيلان وغيره من أشراف ثقيف فوفدوا في تسعة عشر رجلاً أو أقل، فلما وصلوا إلى المدينة

ص: 547

لقوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحيوه بتحية الجاهلية: أنعم صباحاً، فضربت لهم قبة في المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتب الكتاب بيده.» «راجع الطبقات: 4/96» «فشرطوا أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لايهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً فأبى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا أن يرسل أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.

وفيما شرطوا لأنفسهم أن يعفيهم عن الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال (صلی الله علیه و آله): أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم عنه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لاصلاة فيه! فقالوا: يا محمد فسنؤتيكها وإن كانت دناءة! وسألوا أن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر، فأبى عليهم ذلك كله».

أقول: وصفوا الصلاة بأنها دناءة لأن فيها سجوداً! وكان عوام عرب الجزيرة يرون السجود كأنه انحناء لمن يفعل به الفاحشة، فكان الذي يُدعى إلى الإسلام يقول: لا أريد أن تعلوني إستي! وقد أشاعت قريش هذه السخرية لتنفير الناس من الإسلام، وافتروا على أبي طالب (علیه السلام) أنه قالها!

26- خضوع العرب للنبي (صلی الله علیه و آله) بعد فتح مكة وتبوك

وذكر ابن إسحاق أن العرب كانت تتربص بالإسلام قريشاً ثم ثقيفاً فلما رأت أنهما أسلما وخضعا للنبي (صلی الله علیه و آله) توافدت قبائل العرب من أقصى الجزيرة إلى أقصاها إلى المدينة، لإعلان إسلامها ومبايعة النبي (صلی الله علیه و آله).

قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/250: «فلما أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفود العرب، فدخلوا في دين الله أفواجاً».

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /310: «سقطت عاصمة الشرك رسمياً، وتلقت عقيدة الشرك ضربة قصمت ظهرها تماماً وهدمت أركانها..لقد احترقت راية الشرك والمعارضة التي كانت تلجأ إليها العرب، فإذا سلَّم

ص: 548

قادة البطون وأسلموا، وأعطوا القيادة لمحمد وهم ألد أعدائه، فما هي مصلحة الآخرين بمعارضة محمد (صلی الله علیه و آله) ! ومن الذي يقف بوجه محمد الذي قضى على الحركة اليهودية بكل قوتها ومكرها، ودوَّخَ القبائل العربية وأذهب ريحها مع كثرتها، ثم ركَّع قادة بطون قريش بكل فخرها وشرفها.

لقد كان فتح مكة إعلاناً وبخط عريض بأن محمداً سيد الجزيرة بغير منازع، والمالك الحقيقي لخيراتها، والمخول بتوزيع الأدوار كلها على سكانها، وأن الدين الذي جاء به محمد هو الدين الرسمي للسكان، فمن لم يوالِ محمداً أو يتظاهر بموالاته، ومن لم يعتنق دين محمد أو يتظاهر باعتناقه، فقد أسقط ضمنياً حقه بالرزق والملك والجاه والنفوذ وبالمستقبل له، ورضي أن يعيش خائفاً في مجتمع موعود بالأمن والإستقرار.

وبفتح مكة وباستسلام هوازن والطائف سقطت آخر حصون المقاومة للنبوة والدين، وأخذت قبائل العرب تتوافد على النبي (صلی الله علیه و آله) لتعلن قبولها بولايته واعتناقها لدينه، حتى سمي عام الفتح بعام الوفود.

كان محمدٌ يبحث عن الناس والناس الآن يبحثون عن محمد! كان محمد يركض خلفهم وصار العرب يركضون لمحمد! وأخذ جباته يتحركون بين القبائل ويجبون الأموال، ليوزعها محمد على الوجه الشرعي.

وباختصار فإنك لاتجد إلا مسلماً أو متظاهراً بالإسلام، وموالياً للنبي (صلی الله علیه و آله) أو متظاهراً بالولاء! لقد أصبحت الجزيرة دولة إسلامية واحدة قامت لأول مرة في التاريخ، وحَّدها النبي (صلی الله علیه و آله) خلال مدة لاتتجاوز العشر سنين، ونالت شرف رئاسة النبي لهذه الدولة، فأعظم مظاهر وحدتها كانت رئاسة النبي المباركة فقد والته كل العرب أو تظاهرت بموالاته بدون إكراه، ودخلت في دينه أو تظاهرت بالدخول في دينه، وبدون إكراه أيضاً.

لقد أصبح محمد نظام وحدة العرب ونظام وحدة الدولة ونظام وحدة القانون. لقد اختلط محمد بالدين واختلط الدين بمحمد، فهما وجهان لعملة واحدة، فلو

ص: 549

قمت بكل واجباتك الدينية من صلاة وصيام وحج وقراءة قرآن وصدقة وقيام ليل ولكنك لا توالي محمداً (صلی الله علیه و آله)، فأنت كافر بلا خلاف.. لقد صار الرئيس بمثابة خيط سبحة إذا قطع الخيط تبعثرت حبات السبحة».

ثم أكدت غزوة تبوك للعرب أن محمداً (صلی الله علیه و آله) صار قوة تهابه الروم فها هو يقصدهم في تبوك بثلاثين ألفاً، فينسحب هرقل خوفاً من مواجهته ويرسل اليه بأنه مؤمن به، لكن بطارقته لايقبلون!

27- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر بسورة براءة ثم سحبها منه

في تفسير القمي: 1/281: «بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. عن الصادق (علیه السلام) قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة، قال: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكان سنة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً! فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده، فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها! فقالت وكيف أتصدق بها وليس لي غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة! وأشرف عليها الناس..فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت إن لي زوجاً!

وكانت سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده، وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عزوجل: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لايقاتل أحداً قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة، وأمره الله بقتل المشتركين من اعتزله ومن لم يعتزله، إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم فتح مكة إلى مدة، منهم صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، فقال الله عزوجل: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ

ص: 550

إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثم يقتلون حيثما وجدوا.

فهذه أشهر السياحة: عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرة من شهر ربيع الآخر، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أميرالمؤمنين (علیه السلام) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات، فرجع أبو بكر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله أأنزل الله فيَّ شئ؟ قال لا، إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني...

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرني أن أبلغ عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان، ولايقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام، وأقرأ عليهم:

بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ،

فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر، حتى يرجعوا إلى مأمنهم، ثم يقتلون حيث وجدوا»!

وفي الإرشاد: 1/65: «فركب أميرالمؤمنين ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) العضباء وسار حتى لحق أبابكر، فلما رآه فزع من لحوقه به واستقبله وقال: فيم جئت يا أبا الحسن أسائر معي أنت أم لغير ذلك؟ فقال له أميرالمؤمنين: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرني أن ألحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه. فقال: بل أرجع إليه.

وعاد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فلما دخل عليه قال يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ، فلما توجهت له رددتني عنه، ما لي أنزل في قرآن؟ فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا، ولكن الأمين هبط إليَّ عن الله جل جلاله بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي مني».

وفي الخصال/369: قال علي (علیه السلام) «فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل، ولو أن يبذل في ذلك

ص: 551

نفسه وأهله وولده وماله، فبلغتهم رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) وقرأت عليهم كتابه، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر الشحناء، من رجالهم ونسائهم فكان مني في ذلك ما قد رأيتم».

وفي تفسير العياشي: 2/74، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فوافى الموسم فبلغ عن الله وعن رسوله بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار وفي أيام التشريق كلها، ينادي: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ... لايطوفن بالبيت عريان..الخ. خطب علي بالناس واخترط سيفه وقال: لايطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بالبيت مشرك ولا مشركة..».

وفي الإقبال: 2/39: «وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب، فأذن ثلاث مرات: ألا تسمعون يا أيها الناس أني رسول رسول الله إليكم ثم قال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. تسع آيات من أولها، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها، فقال الناس: من هذا الذي ينادى في الناس؟ فقالوا: علي بن أبي طالب، وقال من عرفه من الناس: هذا ابن عم محمد، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد. فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية، فناداه الناس من المشركين: أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف وطعناً بالرماح»!

وفي المناقب: 1/392 والإقبال: 2/41: عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه عندما تلا عليهم: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.«قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال: وما يسرُّنا على أربعة أشهر، بل برئنا منك ومن ابن عمك، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح وإن شئت بدأنا بك! فقال علي (علیه السلام): أجل أجل إن شئت هلموا! ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ».

أقول: غضب جماعة أبي بكر من أن النبي (صلی الله علیه و آله) سحب منه سورة براءة، فقالوا إنه بعثه أميراً على الحج وذهب علي بالسورة معه! فقد روى ابن كثير في سيرته: 4/72، عن أحمد بن حنبل: «لما أردف أبابكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال: لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة والله أعلم».

ص: 552

وعدَّ صاحب الغدير (رحمة الله): 6/338 أكثر من ستين من علمائهم، أوردوا الحديث ولم يطعنوا فيه كما فعل ابن كثير! وينبغي التذكير بأن المشركين حجوا في السنة الثامنة وحدهم وحج بالمسلمين أمير مكة من قبل النبي (صلی الله علیه و آله) عتاب بن أسيد، وفي السنة التاسعة لم يُرو أي توثيق لحج أبي بكر بالمسلمين، ولكنهم جعلوه أميراً على الحج وعلى علي (علیه السلام) ! ومن الطبيعي عندما ذهب علي (علیه السلام) أن يكون أميراً للحج، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يؤمِّر عليه أحداً أبداً، بينما أمَّر على أبي بكر وعمر، عمرو بن العاص.

ويظهر أن كذبتهم ظهرت في زمن الإمام الباقر (علیه السلام) فقال: «إنكم لتجعلون لآل أبي بكر شيئاً ما كان! تقولون: إن أبابكر أمَّ الناس عام براءة وما أمَّهم إلا علي».

مناقب أميرالمؤمنين (علیه السلام) لمحمد بن سليمان: 1/474.

هذا، وقد روينا بسند صحيح «أمالي الطوسي/343»: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء، ثم من سماء إلى سماء ثم إلى سدرة المنتهى، أوقفت بين يدي ربي عزوجل فقال لي: يا محمد. فقلت: لبيك ربي وسعديك. قال: قد بلوتَ خلقي فأيهم وجدت أطوع لك؟ قال قلت: رب علياً. قال: صدقت يا محمد فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدي عنك ويعلم عبادي من كتابي ما لايعلمون؟ قال قلت: إختر لي فإن خيرتك خير لي. قال: قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفةً ووصياً فإني قد نحلته علمي وحلمي وهو أميرالمؤمنين حقاً، لم يقلها أحد قبله ولا أحد بعده. يا محمد علي راية الهدى وإمام من أطاعني ونور أوليائي، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين. من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، فبشره بذلك يا محمد».

وكشف اليقين/278، عن مناقب الخوارزمي.

ص: 553

الفصل الثامن والستون: السنة التاسعة للهجرة: عام الوفود

1- وفادة قبائل العرب الی رسول الله (صلی الله علیه و آله)

قال الیعقوبی:2/79: «وقدمت علیه وفود العرب ولكل قبیلة رئیس یتقدمهم. فقدمت مزینة ورئیسهم خزاعی بن عبد نهم، وأشجع ورئیسهم عبدالله بن مالك، وأسلم ورئیسهم بریدة، وسلیم ورئیسهم وقاص بن قمامة، وبنو لیث ورئیسهم الصعب بن جثامة، وفزارة ورئیسهم عیینة بن حصن، وبنو بكر ورئیسهم عدي بن شراحیل، وطئ ورئیسهم عدي بن حاتم، وبجیلة ورئیسهم قیس بن غربة، والأزد ورئیسهم صرد بن عبدالله، وخثعم ورئیسهم عمیس بن عمرو، ووفد نفر من طیئ ورئیسهم زید بن مهلهل وهو زید الخیل، وبنو شیبان. وعبدالقیس ورئیسهم الأشج العصري، ثم وفد الجارود بن المعلی فولاه رسول الله علی قومه، وأوفدت ملوك حمیر بإسلامهم وفوداً وهم: الحارث بن عبد كلال ونعیم بن عبد كلال والنعمان قیل ذي رعین وكتبوا إلیه بإسلامهم فبعث إلیهم معاذ بن جبل، وعكل ورئیسها خزیمة بن عاصم، وجذام ورئیسها فروة بن عمرو، وحضرموت ورئیسها وائل بن حجر الحضرمي، والضباب ورئیسها ذو الجوشن، وبنو أسد ورئیسها ضرار بن الأزور وقیل نقادة بن العایف، وعامر بن الطفیل فی بني عامر فرجع ولم یسلم، وأربد ابن قیس رجع ولم یسلم، وبنو الحارث بن كعب ورئیسهم یزید بن عبدالمدان، وبنو تمیم وعلیهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقیس بن عاصم ومالك بن

ص: 554

نویرة، وبنو نهد وعلیهم أبو لیلی خالد بن الصقعب، وكنانة ورئیسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بني علیم، وهمدان ورئیسهم ضمام بن مالك، وثمالة والحدان فخذ من الأزد ورئیسهم مسلمة بن هزان الحداني، وباهلة ورئیسهم مطرف بن كاهن الباهلي، وبنو حنیفة ومعهم مسیلمة بن حبیب الحنفي، ومراد ورئیسهم فروة بن مسیك، ومهرة ورئیسهم مهري بن الأبیض».

وقال ابن هشام: 4/985: «قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقیف وبایعت، ضربت إلیه وفود العرب من كل وجه. قال ابن هشام: حدثني أبو عبیدة أن ذلك فی سنة تسع وأنها كانت تسمی سنة الوفود.

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربَّص بالإسلام أمر هذا الحي من قریش وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك أن قریشاً كانوا إمام الناس وهادیهم وأهل البیت والحرم، وصریح ولد إسماعیل بن إبراهیم (علیهما السلام) وقادة العرب لا ینكرون ذلك. وكانت قریش هي التی نصبت لحرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قریش ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا عداوته، فدخلوا فی دین الله كما قال عزوجل أفواجاً، یضربون إلیه من كل وجه، یقول الله تعالی لنبیه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَیتَ النَّاسَ یدْخُلُونَ فِی دِینِ اللهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَابًا. أي فاحمد الله علی ما أظهر من دینك، واستغفره إنه كان توابا».

وقال ابن سعد في الطبقات: 1/291-359: «ذكر وفادات العرب علی رسول الله (صلی الله علیه و آله): وفد مزینة. وفد أسد. وفد تمیم. وفد عبس. وفد فزارة. وفد مرة. وفد ثعلبة. وفد محارب. وفد سعد بن بكر. وفد كلاب.وفد رؤاس بن كلاب. وفد عقیل بن كعب. وفد جعدة. وفد قشیر بن كعب. وفد بني البكاء. وفد كنانة. وفد بني عبد بن عدي. وفد أشجع. وفد باهلة. وفد سلیم. وفد هلال بن عامر. وفد عامر بن صعصعة. وفد ثقیف. وفود ربیعة عبدالقیس. وفد بكر بن وائل. وفد تغلب. وفد حنیفة.

ص: 555

وفد شیبان. وفادات أهل الیمن وفد طئ.وفد تجیب. وفد خولان. وفد جعفي.

وفد صداء.وفد مراد. وفد زبید. وفد كندة. وفد الصدف. وفد خشین. وفد سعد هذیم.

وفد بلي. وفد بهراء.وفد عذرة. وفد سلامان. وفد كلب. وفد جرم.

وفد الأزد. وفد غسان. وفد الحارث بن كعب. وفد همدان. وفد سعد العشیرة. وفد عنس. وفد الداریین.وفد الرهاویین حي من مذحج. وفد غامد.

وفد النخع. وفد بجیلة. وفد خثعم. وفد الأشعرین. وفد حضرموت. وفد أزد عمان.

وفد غافق. وفد بارق. وفد دوس. وفد ثمالة والحدان. وفد أسلم. وفد جذام.

وفد مهرة. وفد حمیر. وفد نجران. وفد جیشان. وفد أسباع».

2- ملاحظات حول الوفود الی النبی (صلی الله علیه و آله)

1. لا شك فی أن حركة الوفود الی النبي (صلی الله علیه و آله) كانت واسعة من أنحاء الجزیرة والیمن والشام، وكانت رسالة قویة الی كل المعارضین والمنافقین داخل الدولة الإسلامیة، والی هرقل وقادة الفرس، بأن الإسلام أمر واقع فرض نفسه فی دولة قویة، وخضعت له كل القوی التی حاربته، بل كان ذلك رسالة لهم بأن المد الإسلامي قادم الی بلاد الفرس والروم، لامحالة.

2. كانت جمهرة الوفود فی السنة التاسعة بعد تبوك، وتأخر عدد منها الی السنة العاشرة والحادیة عشرة، كما كانت أوائلها قبل السنة التاسعة.

قال في الصحیح من السیرة: 7/135: «وهذه الوفود وإن كانت قد ظهرت علی نطاق واسع سنة تسع من الهجرة، أي بعد فتح مكة وكسر شوكة قریش والقضاء علی جبروتها، ولكن بدء هذه الوفود ولو بصورة محدودة فی السنة الخامسة، یدلل علی وجود تحول حقیقي فی میزان القوی فی المنطقة، ثم فی نظرة الناس للإسلام والمسلمین، وحساباتهم الدقیقة وتصوراتهم فیما یختص بالتعامل معه كقوةٍ جدیدة في المنطقة، وكدینٍ جدید أیضاً».

3. كانت الوفود تأتي بحریة تامة، فلم یفِدْ أحدٌ الی النبي (صلی الله علیه و آله) مجبراً، ولا یعتبر الجو

ص: 556

العام إجباراً. ولذا كان فی الوفود من جاء لإبرام الصلح، أو لحل مشكلة كانت له مع النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن یعفو عنها، وبعضهم جاء لیناظر النبي (صلی الله علیه و آله) ویثبت له خطأه فكان یناقش النبي (صلی الله علیه و آله) بشدة وسوء أدب! وبعضهم جاء یطلب منه أن یجعله خلیفته ویجعل له الأمر بعده لكي یسلم. وبعضهم كان مسلماً وجاء لیؤكد إسلامه، أو لیتبرك بزیارة النبي (صلی الله علیه و آله).

3. صارت الوفادة علی النبي (صلی الله علیه و آله) ومجرد مشاهدته والسلام علیه، تاریخاً وفخراً للقبائل وأفرادها، لذلك انفتح باب الإدعاء والكذب والتضخیم، فی أصل الوفد وفیما قالوه وقاله لهم النبي (صلی الله علیه و آله)، وفیما أعطاهم وكتب لهم!وأطلق بعضهم خیاله في الكذب، مثل فی تمیم الذي زعم أنه وفد مع بعض الداریین فكتب لهم النبي (صلی الله علیه و آله)

قری من الشام قبل فتحها، ومثل أبي رزین العقیلي الذي زعم أنه وفد الی النبي (صلی الله علیه و آله)

عن قبیلة المنتفق، وروی أحادیث التجسیم.

4. اهتم رواة السیرة بالوفود فأطالوا فیها، وقال ابن حجر عن ابن سعد: «وقد عقد محمد بن سعد في الترجمة النبویة من الطبقات للوفود باباً، وذكر فیه القبائل من مضر ثم من ربیعة ثم من الیمن، وكاد یستوعب ذلك بتلخیص حسن، وكلامه أجمع ما یوجد فی ذلك».فتح الباري: 8/76.

وكتب فیها صاحب الصحیح من السیرة نحو مجلدین: 27/75 و 28واخترنا منها نماذج لأهمیتها أو أهمیة ما تضمنته من دلالات.

3- عدي بن حاتم الطائي

في الصحیح من السیرة: 28/69 ملخصاً: «في سنة تسع جاء وفد طئ، وقالوا: كانوا خمسة عشر رجلاً، رأسهم وسیدهم زید الخیل بن مهلهل من بني نبهان، وفیهم وزر بن جابر بن سدوس، وقبیصة بن الأسود بن عامر، من جرم طئ، ومالك بن عبدالله بن خیبري من بني معن، وقعین بن خلیف من جدیلة، ورجل من بني بولان. فدخلوا المدینة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) فی المسجد فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعرض علیهم الإسلام فأسلموا

ص: 557

وحسن إسلامهم، وأجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم، وأعطی زید الخیل اثنتی عشرة أوقیة ونشاً. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما ذكر رجل من العرب إلا رأیته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زید الخیل فإنه لم یبلغ كل ما فیه. وسماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) زید الخیر، وقطع له فید وأرضین وكتب له بذلك كتاباً، ورجع مع قومه. وفي لفظ: فخرج به من عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) راجعاً إلی قومه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن ینجُ زید من حمی المدینة فإنه، أي فإنه قد نال مراده أو نحو ذلك. فلما انتهی من بلد نجد إلی ماء من میاهه یقال له فردة، أصابته الحمی بها فمات هناك، وعمدت امرأته بجهلها وقلة عقلها إلی ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتب له به فحرقته بالنار»!

وعن أبي سعید الخدري: أن علیاً (علیه السلام) بعث إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الیمن بذهیبة في أدیم مقروظ لم تحصل من ترابها، فقسمها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بین أربعة نفر: عیینة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزید الخیل، وعلقمة بن غیلان.

وقد انتقد صاحب الصحیح مدحهم لزید الخیل بن المهلهل وقال: «لا ندري ما الذي لفت نظر النبي (صلی الله علیه و آله) فی شخصیة زید حتی قال: ما ذكر رجل من العرب إلا رأیته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زید الخیل فإنه لم یبلغ كل ما فیه! هل رآه متمیزاً بعلمه أم بأخلاقه أم بشجاعته أم بعقله، أم بضخامة جثته؟!

إنا لم نجد في التاریخ ما یشیر إلی امتیازه فی شئ من ذلك، فكیف إذا رأیناه لایرضی بالإسلام دیناً حتی اعتبره النبي (صلی الله علیه و آله) فی المؤلفة قلوبهم كما روته صحاحهم، مما یعني أن هذا الثناء مكذوب علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وهو أصح عندهم من حدیث مدحه فلماذا تركوا الحدیث الصحیح وأخذوا بالضعیف»!

وفی إعلام الوری: 1/251: «ذكر محمد بن إسحاق: أن عدي بن حاتم فرَّ، وأن خیل رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أخذوا أخته فقدموا بها علی رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه من علیها وكساها وأعطاها نفقة فخرجت مع ركب حتی قدمت الشام وأشارت علی أخیها بالقدوم، فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأجلسه علی وسادة رمی بها إلیه بیده». وقد تقدم ذلك فی غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) لبلاد طئ.

ص: 558

4- وفد عبدالقیس من هَجَر

فی الخصال/416، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): بینما نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ ورد علیه وفد عبدالقیس فسلموا، ثم وضعوا بین یدیه جلَّة تمر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أصدقةٌ أم هدیة؟ قالوا: بل هدیةٌ یا رسول الله، قال: أي تمراتكم هذه؟ قالوا: البَرْني. فقال: إن هذا جبرئیل یخبرني أن فیه تسع خصال: یطیب النكهة، ویطیب المعدة، ویهضم الطعام، ویزید فی السمع والبصر ویقوي الظهر، ویخبل الشیطان، ویقرب من الله عزوجل ویباعد من الشیطان».

وفی الخرائج: 1/107: «قال: إئتوني بتمر أرضكم مما معكم. فأتاه كل واحد منهم بنوع منه، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): هذا یسمی كذا، وهذا یسمی كذا. قالوا: أنت أعلم بتمر أرضنا منا! فوصف لهم أرضهم فقالوا: دخلتها؟ قال: لا ولكن فسح لي فنظرت إلیها! فقام رجل منهم فقال: یا رسول الله هذا خالي وبه خبل. فأخذ بردائه وقال: أُخرج یا عدو الله ثلاثاً ثم أرسله، فبرئ. فأتوه بشاة هرمة فأخذ إحدی أذنیها بین إصبعیه فصار لها میسماً، ثم قال: خذوها فإن هذا میسم في آذان ما تلد إلی یوم القیامة، فهي تتوالد كذلك»!

وفی الصحیح من السیرة: 27/309، ملخصاً: «رووا أنه بینما رسول الله (صلی الله علیه و آله) یحدث أصحابه إذ قال لهم: سیطلع علیكم من هاهنا ركب هم خیر أهل المشرق.

وفي حدیث البیهقي: فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبِّل ید رسول الله ورجله، وانتظر المنذر الأشج حتی أتی عیبته فلبس ثوبیه فأخرج ثوبین أبیضین من ثیابه فلبسهما ثم جاء یمشي حتی أخذ بید رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقبَّلها وكان رجلاً دمیماً، فلما نظر (صلی الله علیه و آله) إلی دمامته، قال: إنه لا یسْتَقَی فی مُسُوك الرجال، إنما یحتاج من الرجل إلی أصغریه لسانه وقلبه. قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن فیك خصلتین یحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. قال: یا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني علیهما؟ قال: بل الله تعالی جبلك علیهما. قال: الحمد لله الذی جبلني علی

ص: 559

خَلَّتین یحبهما الله تعالی ورسوله. وقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله): یا معشر عبدالقیس ما لي أری وجوهكم قد تغیرت؟ قالوا: یا نبي الله نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما یقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهیتنا عن الظروف، فذلك الذي تری في وجوهنا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الظروف لا تُحلّ ولا تُحرم ولكن كل مسكر حرام، ولیس أن تجلسوا فتشربوا حتی إذا ثملت العروق تفاخرتم، فوثب الرجل علی ابن عمه بالسیف فتركه أعرج. قال: وهو یومئذ فی القوم الأعرج الذی أصابه ذلك!

وعن ابن عباس قال: إن أول جُمعة جُمعت بعد جُمعة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد عبدالقیس بجواثي من البحرین. وعن نوح بن مخلد: أنه أتی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمكة فسأله ممن أنت؟ فقال: أنا من بني ضبیعة بن ربیعة. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): خیر ربیعة عبدالقیس، ثم الحي الذي أنت منهم. وكانت لهم وفادتان الی النبي (صلی الله علیه و آله) إحداهما سنة ست أو خمس، والثانیة سنة تسع أو بعدها، وكان عدد الوفد أربعین رجلاً. كتب النبي (صلی الله علیه و آله) إلی العلاء بن الحضرمي فی البحرین أن یقدم علیه عشرون رجلاً منهم، فقدموا علیه ورأسهم عبدالله بن عوف الأشج، فشكی الوفد العلاء بن الحضرمي فعزله النبي (صلی الله علیه و آله) وولی أبان بن سعید، وأوصاه بعبدالقیس خیراً. وقد نصرت عبدالقیس أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی حروبه، لا سیما أبناء صوحان: صعصعة، وزید، وسیحان، وعمرو... وقد اشتهروا بالفصاحة والخطابة والشعر وقیل كان لصحار بن العباس العبدي كتاب: الأمثال».

5- الجارود بن المنذر من عبدالقیس

قال الجوهري فی مقتضب الأثر/31: «ومن أتقن الأخبار المأثورة وغریبها وعجیبها، ومن المصون المكنون فی أعداد الأئمة (علیهم السلام) وأسمائهم من طریق العامة مرفوعاً، وهو خبر الجارود بن المنذر وإخباره عن قس بن ساعدة. حدثني الجارود بن المنذر العبدي وكان نصرانیاً فأسلم عام الحدیبیة وحسن إسلامه، وكان قاریاً للكتب، عالماً بتأویلها علی وجه الدهر وسالف العصر، بصیراً بالفلسفة والطب، ذا رأي أصیل ووجه

ص: 560

جمیل، أنشأ یحدثنا فی إمارة عمربن الخطاب قال: وفدت علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجال من عبدالقیس، ذوي أحلام وأسنان وفصاحة وبیان، وحجة وبرهان، فلما بصروا به (صلی الله علیه و آله) راعهم منظره ومحضره، وأفحموا عن بیانهم واعتراهم العرواء فی أبدانهم! فقال زعیم القوم لي: دونك من أقمت بنا أممه، فما نستطیع أن نكلمه!فاستقدمت دونهم إلیه فوقفت بین یدیه (صلی الله علیه و آله) وقلت: السلام علیك یا نبي الله بأبي أنت وأمي ثم أنشأت أقول:

یا نبی الهدی أتتك رجالٌ *** قطعت قرددا وآلاً فآلا

جابت البید والمهامهَ حتی *** غالها من طوی السری ما غالا

قطعت دونك الصحاصح تهوي *** لا تعد الكلال فیك كلالا

كل دهناء تقصر الطرف عنها *** أرقلتها قلاصنا إرقالا

خصك الله یا ابن آمنة الخیر *** إذا ما تلت سجال سجالا

أنبأ الأولون باسمك فینا *** وبأسماء بعده تتلالا

قال: فأقبل علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفحة وجهه المبارك وشِمْتُ منه ضیاء لامعاً ساطعاً كومیض البرق فقال: یا جارود لقد تأخر بك وبقومك الموعد، وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد إلیه بقومي فلم آته وأتیته فی عام الحدیبیة، فقلت: یا رسول الله! بنفسي أنت ما كان إبطائي عنك إلا أن جلة قومي أبطأوا عن إجابتي حتی ساقها الله إلیك لما أراد لها من الخیر لدیك.وقد كنت علی دین النصرانیة قبل أن آتي إلیك الأولی فها أنا تاركه بین یدیك إذ ذلك مما یعظم الأجر، ویمحو المآثم والحوب، ویرضی الرب عن المربوب.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا ضامن لك یا جارود! قلت: أعلم یا رسول الله أنك بذلك ضمین قمین. قال: فَدِنْ الآن بالوحدانیة ودع عنك النصرانیة، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریك له، وأنك عبده ورسوله، ولقد أسلمت علی علم بك وبناء فیك علمته من قبل. فتبسم (صلی الله علیه و آله) كأنه علم ما أردته من

ص: 561

الأنباء فیه فأقبل عليَّ وعلی قومي فقال: أفیكم من یعرف قس بن ساعدة الإیادي؟

قلت: یا رسول الله كلنا نعرفه غیر أني من بینهم عارف بخبره، واقف علی أثره: كان قس بن ساعدة یا رسول الله سبطاً من أسباط العرب، عمِّر خمس مائة عام، تقفَّر منها فی البراري خمسة أعمار، یضج بالتسبیح علی منهاج المسیح، لا یقره قرار ولا یكنه جدار، ولا یستمتع منه جار، لا یفتر من الرهبانیة، ویدین الله بالوحدانیة، یلبس المسموح، ویتحسی فی سیاحته بیض النعام، بالنور والظلام، یبصر فیعتبر، ویتفكر فیختبر، تضرب بحكمته الأمثال، أدرك رأس الحواریین شمعون، وأدرك لوقا ویوحنا وأمثالهم، ففقه كلامهم ونقل منهم، تحوَّبَ الدهر وجانَبَ الكفر، وهو القائل بسوق عكاظ وذي المجاز: شرقٌ وغرب، ویابسٌ ورطب، وأجاجٌ وعذب، وحبٌّ ونبات، وجمعٌ وأشتات، وذهابٌ وممات، وآباءٌ وأمهات، وسرورُ مولود، ورزء مفقود. تباً لأرباب الغفلة، لِیصلحنَّ العامل عمله قبل أن یفقد أجله، كلا بل هو الله الواحد لیس بمولود ولا والد، أمات وأحیا، وخلق الذكر والأنثی، وهو رب الآخرة والأولی.. ثم صاح: یا معاشر أیاد: أین ثمود، وأین عاد، وأین الآباء والأجداد، وأین العلیل والعواد، وأین الطالبون والرواد، وكل له معاد.

قلت: یا رسول الله لقد شهدت قساً خرج من ناد من أندیة أید، إلی صحصح ذي قتاد، وصمرة وعتاد، وهو مشتمل بنجاد، فوقف في أضحیان لیل كالشمس، رافعاً إلی السماء وجهه وإصبعه، فدنوت منه وسمعته یقول:

اللهم رب هذه السبعة الأرقعة، والأرضین الممرعة، وبمحمد والثلاثة المحامدة معه، والعلیین الأربعة، وسبطیه النبعة، والأرفعة الفرعة، والسری اللامعة، وسمي الكلیم الضرعة، والحسن ذي الرفعة، أولئك النقباء الشفعة، والطریق المهیعة، درسة الإنجیل، وحفظة التنزیل، علی عدد النقباء من بني إسرائیل، محاة الأضالیل ونفاة الأباطیل، الصادقو القیل، علیهم تقوم الساعة، وبهم تنال الشفاعة ولهم من الله تعالی فرض الطاعة.

اللهم لیتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحیاي. ثم آب یكفكف دمعه ویرن

ص: 562

رنین البكرة، وقد بریت ببراة وهو یقول:

أقسمَ قِسٌّ قسما *** لیس به مكتتما

لو عاش ألفي عمر *** لم یلق منها سأما

حتی یلاقي أحمداً *** والنقباء الحكما

هم أوصیاء أحمدٍ *** أكرم من تحت السما

یعمی العباد عنهم *** وهم جلاء للعمی

لست بناس ذكرهم *** حتی أحُلَّ الرجما

ثم قلت: یا رسول الله أنبئني أنبأك الله بخیر عن هذه الأسماء التی لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا جارود لیلة أسري بي إلی السماء أوحی الله عزوجل إلی أن سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علی ما بعثوا؟ فقلت: علی ما بعثتم؟فقالوا: علی نبوتك وولایة علي بن أبي طالب والأئمة منكما. ثم أوحی إلی أن التفت عن یمین العرش، فالتفت فإذا علي والحسن والحسین، وعلي بن الحسین، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسی بن جعفر، وعلي بن موسی، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والمهدي فی ضحضاح من نور یصلون، فقال لي الرب تعالی: هؤلاء الحجج لأولیائي، وهذا المنتقم من أعدائي. قال الجارود: فانصرفت بقومي وقلت في وجهتي إلی قومي:

أتيتك يا ابن آمنة الرسولا *** لكي بك أهتدى النهج السبيلا

فقلت وكان قولك قول حق *** وصدق ما بدالك أن تقولا

وبصرت العمى من عبد قيس *** وكل كان من عمه ضليلا

وأنبأناك عن قس الأيادي *** مقالاً فيك ظلت به جديلا

وأسماء عمت عنا فآلت *** إلى علم وكنت به جهولا».

ورواه أبو الفتح فی الإستنصار/34، كنز الفوائد/256، المناقب: 1/245، والصراط المستقیم: 2/239.

ص: 563

6- أشهر وفود الیمن

فی الغیبة للنعماني/46، عن جابر الأنصاري قال: «وفد علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهل الیمن فقال النبي (صلی الله علیه و آله): جاءكم أهل الیمن یبسون بسیساً «یسوقون إبلهم سوقاً سریعاً» فلما دخلوا علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: قوم رقیقة قلوبهم، راسخ إیمانهم، منهم المنصور یخرج فی سبعین ألفاً ینصرخلفي وخلف وصیي، حمائل سیوفهم المسك! [المسد] فقالوا: یا رسول الله ومن وصیك؟ فقال: هو الذي أمركم الله بالإعتصام به فقال عزوجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعًا وَلا تَفَرَّقُوا. فقالوا: یا رسول الله، بین لنا ما هذا الحبل؟ فقال: هو قول الله: إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فالحبل من الله كتابه والحبل من الناس وصیي. فقالوا: یا رسول الله، من وصیك؟ فقال: هو الذی أنزل الله فیه: أن تقول نفس یا حسرتی علی ما فرطت فی جنب الله! فقالوا: یا رسول الله وما جنب الله هذا؟ فقال: هو الذي یقول الله فیه: وَیوْمَ یعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یدَیهِ یقُولُ یا لَیتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلاً. هو وصیي، والسبیل إليَّ مِن بعدي!

فقالوا: یا رسول الله بالذی بعثك بالحق نبیاً أرناه فقد اشتقنا إلیه.فقال: هو الذي جعله الله آیة للمؤمنین المتوسمین، فإن نظرتم إلیه نظر من كان له قلب أو ألقی السمع وهو شهید، عرفتم أنه وصیي كما عرفتم أني نبیكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، فمن أهوت إلیه قلوبكم فإنه هو، لأن الله عزوجل یقول فی كتابه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَیهِمْ، أي: إلیه وإلی ذریته.

ثم قال: فقام أبو عامر الأشعري فی الأشعریین، وأبو غرة الخولاني فی الخولانیین، وظبیان وعثمان بن قیس فی بني قیس، وعرنة الدوسي فی الدوسیین ولاحق بن علاقة، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، وأخذوا بید الأصلع البطین وقالوا: إلی هذا أهوت أفئدتنا یا رسول الله. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أنتم نجبة الله حین عرفتم وصي رسول الله، قبل أن تعرفوه فبم عرفتم أنه هو؟ فرفعوا أصواتهم یبكون ویقولون: یا رسول الله نظرنا إلی القوم فلم تحن لهم قلوبنا، ولما رأیناه رجفت قلوبنا، ثم اطمأنت نفوسنا وانجاشت أكبادنا وهملت أعیننا، وانثلجت صدورنا، حتی كأنه لنا أب ونحن

ص: 564

له بنون! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): وَمَا یعْلَمُ تَاوِیلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ! أنتم منهم بالمنزلة التی سبقت لكم بها الحسنی، وأنتم عن النار مبعدون. قال: فبقي هؤلاء القوم المسمون حتی شهدوا مع أمیر المؤمنین (علیه السلام) الجمل وصفین فقتلوا في صفین رحمهم الله. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) بشرهم بالجنة، وأخبرهم أنهم یستشهدون مع

علي بن أبي طالب (علیه السلام)».

وفی الكافي: 6/417، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قدم علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الیمن قوم فسألوه عن معالم دینهم فأجابهم، فخرج القوم بأجمعهم فلما ساروا مرحلة قال: بعضهم لبعض: نسینا أن نسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عما هو أهم إلینا.

ثم نزل القوم ثم بعثوا وفداً لهم فأتی الوفد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: یا رسول الله إن القوم بعثوا بنا إلیك یسألونك عن النبیذ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما النبیذ، صِفُوُه لي؟ فقالوا: یؤخذ من التمر فینبذ فی إناء ثم یصب علیه الماء حتی یمتلئ ویوقد تحته حتی ینطبخ، فإذا انطبخ أخذوه فألقوه فی إناء آخر، ثم صبوا علیه ماء، ثم یمرس، ثم صَفَّوْه بثوب، ثم یلقی فی إناء، ثم یصب علیه من عكر ما كان قبله، ثم یهدر ویغلی، ثم یسكن علی عكرة. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا هذا قد أكثرت أفیسكر؟ قال: نعم، قال: فكل مسكر حرام!

قال: فخرج الوفد حتی انتهوا إلی أصحابهم فأخبروهم بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال القوم: إرجعوا بنا إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتی نسأله عنها شفاهاً ولا یكون بیننا وبینه سفیر، فرجع القوم جمیعاً فقالوا: یا رسول الله إن أرضنا أرض دویة ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوی علی العمل إلا بالنبیذ، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): صفوه لی فوصفوه له كما وصف أصحابهم فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): أفیسكر؟ فقالوا: نعم. فقال: كل مسكر حرام، وحق علی الله أن یسقي شارب كل مسكر من طینة خبال، أفتدرون ما طینة خبال؟ قالوا: لا، قال: صدید أهل النار».

ص: 565

7- السائب الأشعري جد الأشعریین القمیین

فی رجال النجاشی/81: «أحمد بن محمد بن عیسی. وأول من سكن قم من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص، وكان السائب بن مالك وفد إلی النبي (صلی الله علیه و آله) وهاجر إلی الكوفة وأقام بها. وذكر بعض أصحاب النسب: أن فی أنساب الأشاعرة أحمد بن محمد بن عیسی بن عبدالله بن سعد بن مالك بن هانئ بن عامر بن أبي عامر الأشعري، واسمه عبید، وأبو عامر له صحبة. وقد رُوي أنه لما هزم هوازن یوم حنین عقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي عامر الأشعري علی خیل فقتل، فدعا له فقال: اللهم أعط عبیدك عبیداً أبا عامر، واجعله فی الأكبرین یوم القیامة».

8- الرجل الیماني المجادل السخي

في الكافي: 4/39، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أتی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفد من الیمن وفیهم رجل كان أعظمهم كلاماً، وأشدهم استقصاء فی محاجة النبي (صلی الله علیه و آله) فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) حتی التوی عرق الغضب بین عینیه، وتربد وجهه وأطرق إلی الأرض، فأتاه جبرئیل فقال: ربك یقرؤك السلام ویقول لك: هذا رجل سخي یطعم الطعام. فسكن عن النبي (صلی الله علیه و آله) الغضب ورفع رأسه، وقال له: لولا أن جبرئیل أخبرني عن الله عزوجل أنك سخي تطعم الطعام، لشردت بك وجعلتك حدیثاً لمن خلفك! فقال له الرجل: وإن ربك لیحب السخاء؟ فقال: نعم. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والذی بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً»!

9- عمرو بن معدي كرب الفارس المشهور

فی إعلام الوری: 1/251: «قدم علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمرو بن معدي كرب وأسلم ثم نظر إلی أبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أعْدُني علی هذا الفاجر الذي قتل والدي! فقال (صلی الله علیه و آله): أهدر الإسلام ما كان فی الجاهلیة! فانصرف عمرو مرتداً وأغار علی قوم من بني الحارث بن كعب، فأنفذ رسول الله علیاً (علیه السلام) إلی بني زبید».

ص: 566

أقول: تقدم فی فتح الیمن أن علیاً (علیه السلام) جعل علی مقدمته خالد بن سعید بن العاص، وبارز علي (علیه السلام) عمرو بن معدیكرب وصرخ به صرخة فهرب! وأخضع قبیلة زبید وولی علی المنطقة خالد بن سعید وتوغل في فتح الیمن.

«قالوا لخالد: والله لقد دخلنا فیما دخل فیه الناس وصدقنا بمحمد (صلی الله علیه و آله) وخلینا بینك وبین صدقات أموالنا، وكنا لك عوناً علی من خالفك من قومنا.

قال خالد: قد فعلتم؟ قالوا: فأوفد منا نفراً یقدمون علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) ویخبرونه بإسلامنا ویقبسونا منه خیراً.

فقال خالد: ما أحسن ما عدتم إلیه وأنا أجیبكم، ولم یمنعني أن أقول لكم هذا إلا أني رأیت وفود العرب تمر بكم فلا یهیجنكم ذلك علی الخروج، فساءني ذلك منكم حتی ساء ظني فیكم، وكنتم علی ما كنتم علیه من حداثة عهدكم بالشرك، فحسبت أن لایكون الإسلام راسخاً فی قلوبكم».الصحیح من السیرة: 28/158.

10- وفد قبیلة النخع الی النبي (صلی الله علیه و آله)

بعثت قبیلة النخع إلی النبي (صلی الله علیه و آله) وافدین عنها بإسلامها هما: أرطأة بن شراحیل بن كعب، والجهیش، واسمه الأرقم من بني بكر بن عوف بن النخع، فخرجا حتی قدما علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعرض علیهما الإسلام فقبلاه وبایعاه علی قومهما فأعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) شأنهما وحسن هیئتهما فقال: هل خلفتما وراءكما قومكما مثلكما؟ فقالا: یا ر سول الله قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعین رجلاً كلهم أفضل منا، وكلهم یقطع الأمر وینفذ الأشیاء، ما یشاركوننا في الأمر إذا كان.

فدعا لهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولقومهما بخیر وقال: اللهم بارك فی النخع. وعقد لأرطأة لواء علی قومه وكتب له كتاباً، فكان في یده یوم الفتح.

وقدموا من الیمن للنصف من المحرم سنة إحدی عشرة وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحدث، ثم جاؤوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقرین بالإسلام،

ص: 567

وقد كانوا بایعوا معاذ بن جبل بالیمن، فكان فیهم زرارة بن عمرو، فقال: یا رسول الله إني رأیت فی سفري هذا رؤیا هالتني! قال: وما رأیت؟قال: رأیت أتاناً تركتها فی الحي كأنها ولدت جدیاً أسفع أحوی! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): هل لك من أمة تركتها مصرة حملاً؟قال: نعم تركت أمة لي أظنها قد حملت. قال: فإنها قد ولدت غلاماً وهو ابنك! فقال: یا رسول الله ما باله أسفع أحوی؟ قال: أُدن مني فدنا منه فقال: هل بك برص تكتمه؟ قال: والذی بعثك بالحق نبیاً ما علم به أحد ولا اطلع علیه غیرك! قال: فهو ذلك.

أقول: ترجمنا لمالك الأشتر (رحمة الله) فی كتابنا قبیلة النخع، وأثبتنا صحبته للنبي (صلی الله علیه و آله).

11- كان النبي (صلی الله علیه و آله) یهدد من یخاف عصیانهم بعلي (علیه السلام)

في أمالي الطوسي/579:«عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد قدم علیه وفد أهل الطائف: یا أهل الطائف، والله لتقیمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن إلیكم رجلاً كنفسي، یحب الله ورسوله، ویحبه الله ورسوله، یقصعكم بالسیف! فتطاول لها أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأخذ بید علي فأشالها ثم قال: هو هذا. فقال أبو بكر وعمر: ما رأینا كالیوم فی الفضل قط».

«عن عبدالله بن شداد قال: قدم علی النبي (صلی الله علیه و آله) وفد آل تنوخ من الیمن قال فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): لتقیمن الصلاة ولتؤتن الزكاة ولتسمعن ولتطیعن أو لأبعثن إلیكم رجلاً كنفسي یقاتل مقاتلیكم ویسبي ذراریكم، اللهم أنا أو كنفسي، ثم أخذ بید علي (علیه السلام)».مناقب أمیر المؤمنین (علیه السلام) لمحمد بن سلیمان: 1/468.

«وفي حدیث جابر أنه قال لوفد هوازن: أما والذي نفسي بیده لیقیمن الصلاة ولیؤتن الزكاة أو لأبعثن إلیهم رجلاً وهو مني كنفسي، فلیضربن أعناق مقاتلیهم ولیسبین ذراریهم، هو هذا وأخذ بید علي (علیه السلام). فلما أقروا بما شرط علیهم قال: ما استعصی عَلَيَّ أهل مملكة ولا أمةٌ إلا رمیتهم بسهم الله علي بن أبي طالب!ما بعثته فی سریة إلا رأیت جبرئیل عن یمینه ومیكائیل عن یساره وملكاً أمامه وسحابة تظله حتی یعطي الله حبیبي النصر والظفر!

ص: 568

وروی الخطیب فی الأربعین نحواً من ذلك عن مصعب بن عبدالرحمن أنه قال النبي (صلی الله علیه و آله) لوفد ثقیف.. الخبر، وفی روایة أنه قال مثل ذلك لبني ولیعة».«المناقب: 2/67». أما حدیث تهدید النبي (صلی الله علیه و آله) قریشاً بعلي (علیه السلام)، فمتواتر مشهور.

12- مالك بن نویرة (رحمة الله) من وفود بنی تمیم

في الفضائل لشاذان بن جبرئیل القمي/75: «قال البراء بن عازب بینا رسول الله جالس فی أصحابه إذا أتاه وافد من بني تمیم مالك بن نویرة، فقال: یا رسول الله علمني الإیمان. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تشهد أن لا إله الا الله وحده لا شریك له وأني رسول الله، وتصلي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة وتحج البیت، وتوالي وصیي هذا من بعدي وأشار إلی علي (علیه السلام) بیده، ولا تسفك دماً ولا تسرق ولا تخون ولا تأكل مال الیتیم ولا تشرب الخمر، وتوفي بشرائعي، وتحلل حلالي، وتحرم حرامي، وتعطي الحق من نفسك للضعیف والقوي، والكبیر والصغیر، حتی عد علیه شرائع الإسلام.

فقال یا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أعد عَلَيَّ فإنی رجل نَسَّاء، فأعاد علیه، فعقدها بیده وقام وهو یجر إزاره وهو یقول: تعلمت الإیمان ورب الكعبة، فلما بعد من رسول الله قال (صلی الله علیه و آله): من أحب أن ینظر إلی رجل من أهل الجنة فلینظر إلی هذا الرجل! فقال أبو بكر وعمر: إلی من تشیر یا رسول الله؟ فأطرق إلی الأرض، فجدَّا فی السیر فلحقاه فقالا: لك البشارة من الله ورسوله بالجنة. فقال: أحسن الله تعالی بشارتكما إن كنتما ممن یشهد بما شهدت به فقد علمتما ما علمني النبي محمد (صلی الله علیه و آله)، وإن لم تكونا كذلك فلا أحسن الله بشارتكما.

فقال أبو بكر: لا تقل فأنا أبو عائشة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) !قال: قلت ذلك، فما حاجتكما؟ قالا: إنك من أصحاب الجنة فاستغفر لنا، فقال: لا غفر الله لكما تتركان رسول الله صاحب الشفاعة، وتسألاني أستغفر لكما، فرجعا والكآبة لائحة فی وجهیهما، فلما رآهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) تبسم وقال: أفي الحق مغضبة؟!

ص: 569

فلما توفي رسول الله ورجع بنو تمیم إلی المدینة ومعهم مالك بنو نویرة فخرج لینظر من قام مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخل یوم الجمعة وأبو بكر علی المنبر یخطب بالناس فنظر إلیه وقال: أخو تیم؟! قالوا: نعم.قال: فما فعل وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أمرني بموالاته؟ قالوا: یا أعرابي الأمر یحدث بعده الأمر! قال: بالله ما حدث شئ، وإنكم قد خنتم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) !

ثم تقدم إلی أبي بكر وقال: من أرقاك هذ المنبر ووصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس؟ فقال أبو بكر: أخرجوا الأعرابي البوال علی عقبیه من مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

فقام إلیه قنفذ بن عمیر وخالد بن الولید فلم یزالا یلكزان عنقه حتی أخرجاه، فركب راحلته وأنشأ یقول:

أطعنا رسول الله ما كان بیننا *** فیا قوم ما شأني وشأن أبي بكر

إذا مات بكر قام عمرٌو ومقامه *** فتلك وبیت الله قاصمة الظهر

یدب ویغشاه العشار كأنما *** یجاهد جماً أو یقوم علی قبر

فلو قام فینا من قریش عصابة *** أقمنا ولكن القیام علی جمر

قال: فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الولید وقال له: قد علمت ما قاله مالك علی رؤس الأشهاد، ولست آمن أن یفتق علینا فتقاً لا یلتئم، فاقتله.

فحین أتاه خالد، ركب جواده وكان فارساً یعد بألف، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثیق، ثم غدر به بعد أن ألقی سلاحه، فقتله وأعرس بامرأته فی لیلته وجعل رأسه فی قدر فیها لحم جزور لولیمة عرسه وبات ینزو علیها نزو الحمار»!

13- صعصعة بن ناجیة جد الفرزدق

في أمالي المرتضی: 4/192: «وفَدَ صعصعة بن ناجیة جد الفرزدق علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وفد بني تمیم، وكان صعصعة منع الوأد فی الجاهلیة، فلم یدع تمیماً تئد وهو یقدر علی ذلك. وقد فدی فی بعض الروایات أربعمائة موؤدة، وفی أخری ثلاثمائة، فقال للنبي (صلی الله علیه و آله): بأبي أنت وأمي أوصني. فقال: أوصیك بأمك وأبیك وأختك وأخیك

ص: 570

وأدانیك أدانیك. فقال: زدني، فقال (صلی الله علیه و آله): إحفظ ما بین لحییك ورجلیك.

ثم قال (صلی الله علیه و آله): ما شئ بلغنی عنك فعلته؟ فقال: یا رسول الله رأیت الناس یموجون علی غیر وجه ولم أدر أین الصواب، غیر أني علمت أنهم لیسوا علیه، فرأیتهم یئدون بناتهم فعرفت أن ربهم عزوجل لم یأمرهم بذلك، فلم أتركهم ففدیت ما قدرت علیه.

وفي روایة أخری إن صعصعة لما وفد علی النبي (صلی الله علیه و آله) فسمع قوله تعالی: فَمَنْ یعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیرًا یرَهُ. وَمَنْ یعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یرَهُ. قال: حسبي، ما أبالي أن لا أسمع من القرآن غیر هذا. ویقال إنه اجتمع جریر والفرزدق یوماً عند سلیمان بن عبدالملك فافتخرا، فقال الفرزدق: أنا ابن محیي الموتی! فقال له سلیمان: أنت ابن محیي الموتی؟! فقال إن جدي أحیا الموؤودة، وقد قال الله تعالی: وَمَنْ أَحْیاهَا فَكأَنَّمَا أَحْیا النَّاسَ جَمِیعاً، وقد أحیا جدي اثنتین وتسعین موؤودة، فتبسم سلیمان وقال: إنك مع شعرك لفقیه».

14- النابغة الجعدي الشاعر المتأله

في أمالي المفید/224: «كان نابغة الجعدي ممن یتأله فی الجاهلیة، وأنكر الخمر والسكر، وهجَر الأوثان والأزلام، وقال في الجاهلیة كلمته التي قال فیها:

الحمد لله لا شریك له *** من لم یقلها لنفسه ظلما

وكان یذكر دین إبراهیم (علیه السلام) والحنیفیة ویصوم ویستغفر، ویتوقی أشیاء لغواً فیها، ووفد علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال:

أتیت رسول الله إذ جاء بالهدی *** ویتلو كتاباً كالمجرة نُشِّرَا

وجاهدت حتی ما أحس ومن معي *** سهیلاً إذا ما لاح ثم تغورا

وصرت إلی التقوی ولم أخش كافراً *** وكنت من النار المخوفة أزجرا

وقال: وكان النابغة علوي الرأي، وخرج بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أمیر المؤمنین علي بن أبی طالب (علیه السلام) إلی صفین، فنزل لیلة فطاف به وهو یقول:

ص: 571

قد علم المصران والعراقُ *** إن علیاً فحلها العتاقُ

أبیض جحجاحٌ له رواقُ *** وأمه غالی بها الصداق

أكرم من شد به نطاق *** إن الأولی جاروك لا أفاقوا

لكم سباق ولهم سباق *** قد علمت ذلكم الرفاق

سقتم إلی نهج الهدی وساقوا *** إلی التي لیس لها عراق

في ملة عادتها النفاق

15- من الوفود المكذوبة وفد تمیم الداري

تمیم الداري من نصاری بلاد الشام یظهر أنه من داریا قرب دمشق، كان یعمل مع أقاربه في تجارة الخمر من الشام إلی الجزیرة، وكان یحدث بقصص أهل الكتاب الیهود والنصاری، وقد أعلن إسلامه قبیل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وسكن المدینة.

وكانت ثقافته یهودیة وكان یهتم بالأمور الخارقة للعادة والأساطیر، وكان مقرباً من الیهود ومن عمر وكعب الأحبار، ونشط هو وتلامذته فی إشاعة التجسیم والإسرائیلیات في عقائد المسلمین!

وكتب له عمر مرسوماً خلافیاً أن یقص عن أهل الكتاب یوم السبت فی مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) ! وحضر مجلسه احتراماً له وتأییداً! ثم زاده یوماً آخر في الأسبوع!

فقام تمیم بنشر الإسرائیلیات والأكاذیب، كما تری في حدیث الجساسة والدجال في مسلم وغیره من أنه أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) أن الدجال المحبوس فی جزیرة وأنه رآه! ففرح النبي (صلی الله علیه و آله) وصعد المنبر وحدث ببشارة أخیهم تمیم عن الدجال! راجع تدوین القرآن/444، جواهر التاریخ: 1/135 وألف سؤال وإشكال: 2/112.

وجعل رواة الخلافة تمیماً شخصیة صاحب كرامات! فقال إمامهم الذهبي في سیره: 2/445:«نام لیلة لم یقم یتهجد فقام سنة لم ینم فیها عقوبة للذي صنع»!

وفي دلائل البیهقی: 6/80: «خرجت نار بالحرة فجاء عمر إلی تمیم فقال: قم إلی هذه النار، فقال یا أمیر المؤمنین! ومن أنا وما أنا! قال: فلم یزل به حتی قام معه قال

ص: 572

وتبعتهما فانطلقا إلی النار فجعل تمیم یحوشها بیده حتی دخلت الشعب ودخل تمیم خلفها! قال: فجعل عمر یقول: لیس من رأی كمن لم یر»!

ومن أكاذیب تمیم ادعاؤه أنه كان یهدي الی النبي (صلی الله علیه و آله) كل عام زق خمر، فلما حُرمت الخمر لم یأخذها فقال له: خذه وبعه وانتفع بثمنه!«فتح الباری: 8/209». مع أن تمیماً جاء في السنة التاسعة، وحُرِّمت الخمر في السنة الثانیة!

الدر المنثور: 2/317.

وزعم تمیم أنه وفد هو وأقاربه علی النبي (صلی الله علیه و آله) فكتب لهم إقطاعاً بقری سیفتحها المسلمون من أرض الشام! قالوا: قدموا بعد تبوك وهم عشرة نفر منهم: تمیم ونُعیم ابنا أوس، ویزید بن قیس بن خارجة، والفاكه بن النعمان بن جَبَلَة، وأبو هند والطیب ابنا ذر، وهو عبدالله بن رزین، وهانئ بن حبیب، وعزیز ومرة ابنا مالك بن سواد بن جَذِیمَة، فأسلموا وأهدی هانئ بن حبیب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أفراساً وقباء مخوصاً بالذهب، فقبل الأفراس والقباء. وقال تمیم: لنا جیرة من الروم لهم قریتان یقال لإحداهما: حِبْرَی والأخری بیت عینون، فإن فتح الله علیك الشام فهبهما لي. قال: فهما لك وكتب له به كتاباً.

فلما قام أبو بكر أعطاه ذلك، وأقام وفد الداریین حتی توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصی لهم بمائة وسق من تمر خیبر!

ونقد صاحب الصحیح: 28/59 هذه الروایات، لأن الإقطاع إنما كان للأرض الموات ونحوها مما هجره أهله، ولأن بعض نصوص الكتاب الذي زعموه فیه أخطاء نحویة لا تصدر عنه (صلی الله علیه و آله) كقوله: إني أنطیكم بیت عینون وجیرون والمرطوم وبیت إبراهیم برمتهم، وجمیع ما فیهم! وبعض نصوص الكتاب ذكرت أن من آذی الداریین فقد آذی الله، وهذا معناه أنهم معصومون لأن غیر المعصوم قد یؤذی لمنعه من ارتكاب المعصیة أو لأخذ الحق منه فإن كان یحرم إیذاؤه مطلقاً لزم أن یرضی الله

بالمعصیة والباطل!

ص: 573

16- من الوفود المكذوبة وفد أبي رزین

أبو رزین العقیلي: إسمه لقیط بن عامر أو ابن صبرة. زعم أنه وفد إلی النبي (صلی الله علیه و آله) عن قبیلة المنتفق قال: «كنت وافد بني المنتفق إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم نجده فأطعمتنا عائشة تمراً وعصدت لنا عصیدة، إذ جاء رسول الله فقال: هل طعمتم من شئ؟ قلنا نعم، فبینا نحن علی ذلك، دفع الراعي الغنم إلی المراح وعلی یده سخلة فقال هل ولدت؟ قال نعم، ثم أقبل علینا بوجهه فقال: لاتحسبن أنا ذبحنا الشاة لأجلكم، لنا غنم مائة لانرید أن تزید علیها إذا ولدت بهمة ذبحنا شاة»!أسد الغابة: 4/266.

وفي أسد الغابة: 5/44: «ومعه صاحب له یقال له نهیك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال: فقدمنا المدینة لانسلاخ رجب، فأتینا رسول الله (صلی الله علیه و آله) حین انصرف من صلاة الغداة». «وفي كنز العمال: 7/146»، «أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان یكره المسائل ویعیبها فإذا سأله أبو رزین أجابه وأعجبه»!

وأكثر ما اشتهر به أبو رزین أحادیث التجسیم، وأنه سمع النبي (صلی الله علیه و آله) یقول:«لَعَمْرُ إلهك! ویقول: إن الله تعالی یضحك ویظل یضحك! قلت: یا رسول الله! أویضحك الرب؟ قال: نعم، قلت: لن نعدم من رب یضحك خیراً! وفي روایة: قلت: یا رسول الله أین كان ربنا عزوجل قبل أن یخلق خلقه؟ قال: كان فی عماء. ما تحته هواء وما فوقه هواء. ثم خلق عرشه علی الماء».مسند أحمد: 4/11. وقد نقدنا أحادیثه فی الإنتصار::2/234 وغیره ونقدها صاحب الصحیح: 27/223.

ص: 574

الفصل التاسع والستون: مباهلة النبي (صلی الله علیه و آله) مع نصاری نجران

1- نجران العاصمة الدینیة للمسیحیة فی الجزیرة

كانت نجران ولایة تابعة للدولة الرومانیة، یحكمها أسقف من قِبل هرقل مع رؤساء قبائلها، والمشهور فیهم بنو عبدالمدان. وكان ارتباطهم بهرقل وثیقاً فهو یدافع عنهم وینفق علیهم، وقد بعث لهم بصلیب كبیر من ذهب.

وفي نجران كانت قصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله تعالی فی سورة البروج فقال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. وَالْیوْمِ الْمَوْعُودِ. وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَیهَا قُعُودٌ. وَهُمْ عَلَی مَا یفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِینَ شُهُودٌ.

قال القمي فی تفسیره: 2/413: «كان سببهم أن الذي هیج الحبشة علی غزو الیمن ذو نواس، وهو آخر من ملك من حمیر، تهوَّد واجتمعت معه حمیر علی الیهودیة وسمی نفسه یوسف، وأقام علی ذلك حیناً من الدهر، ثم أُخبر أن بنجران بقایا قوم علی دین النصرانیة، وكانوا علی دین عیسی وعلی حكم الإنجیل، ورأس ذلك الدین عبدالله بن بریا، فحمله أهل دینه علی أن یسیر إلیهم ویحملهم علی الیهودیة ویدخلهم فیها، فسار حتی قدم نجران فجمع من كان بها علی دین النصرانیة ثم عرض علیهم دین الیهودیة والدخول فیها فأبوا علیه، فجادلهم وعرض علیهم وحرص الحرص كله، فأبوا علیه وامتنعوا من الیهودیة والدخول فیها واختاروا القتل، فخد لهم أخدوداً جمع فیه الحطب وأشعل فیه النار، فمنهم

ص: 575

من أحرق بالنار، ومنهم من قتل بالسیف، ومثَّل بهم كل مثلة! فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرین ألفاً، وأفلت رجل منهم یدعی دوس ذو ثعلبان علی فرس له وركضه واتبعوه حتی أعجزهم فی الرمل، ورجع ذو نواس إلی ضیعته فی جنوده فقال الله: قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ».

فأمر هرقل عامله ملك الحبشة أن یغزو الیمن ثأراً لشهداء نجران، فغزا الیمن وهزم ذا نواس الذی ألقی نفسه فی البحر وغرق، وحكموا الیمن الی زمن سیف بن ذی یزن. قال المسعودی فی مروج الذهب: 1/89 إن المسیحیین أصحاب الأخدود«كانوا مؤمنین موحِّدین، لا علی رأي النصرانیة في هذا الوقت».لكن أهل نجران تبنوا بعد ذلك عقیدة هرقل فی أن المسیح ابن الله.

2- رسالة النبی (صلی الله علیه و آله) الی أسقف نجران وأهلها

لما كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی ملوك العالم بعد الحدیبیة، أرسل عتبة بن غزوان، وعبدالله بن أبي أمیة، والهدیر بن عبدالله، وصهیب بن سنان، إلی نجران وحواشیها، وكتب معهم إلی أساقفة نجران یدعوهم إلی رفض الأقانیم والأنداد والإلتزام بالتوحید وعبادة الله تعالی. ونص كتابه (صلی الله علیه و آله) كما یلي: «باسم إله إبراهیم وإسحاق ویعقوب. من محمد النبي رسول الله إلی أسقف نجران وأهل نجران: أسلمٌ أنتم، فإنی أحمد إلیكم إله إبراهیم وإسحاق ویعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلی عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلی ولایة الله من ولایة العباد، وإن أبیتم فالجزیة، فإن أبیتم آذنتكم بحرب، والسلام. وقیل: كتب لهم آیة: قُلْ یا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَی كلِمَةٍ سَوَاءٍ بَینَنَا وَبَینَكمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِك بِهِ شَیئًا وَلا یتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». آل عمران: 64.

والأسقف أصلها أبیسكوبوس یونانیة بمعنی الناظر، وكان الأسقف أبو حارثة بن علقمة، الشخص الأول، والباقون دون رتبته. فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وقام وقعد، وشاور أهل الحجی والرأي منهم، فقال شرحبیل وكان ذا لب ورأي بنجران: قد علمت ما وعد الله إبراهیم فی ذریة إسماعیل من النبوة، فما یؤمنك أن

ص: 576

یكون هذا الرجل ولیس لي في النبوة رأی، ولو كان أمر من أمور الدنیا أشرت علیك فیه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلی كل واحد واحد من أهل نجران، فتشاوروا وكثر اللغط وطال الحوار والجدال، فاجتمع رأیهم علی أن یبعثوا وفداً یأتي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فیرجع بخبره. فوفدوا إلیه فی ستین راكباً وفیهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوي الرأي والحجی منهم، وثلاثة یتولون أمرهم: العاقب واسمه عبدالمسیح أمیر الوفد وصاحب مشورتهم الذي لایصدرون إلا عن رأیه، والسید واسمه الأیهم، وهو ثمالهم وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأول وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وهو الأسقف الأعظم، قد شرفه ملك الروم ومولوه وبنوا له الكنائس وبسطوا له الكرامات، لما بلغهم من علمه واجتهاده فی دینه. فلما توجهوا إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) جلس أبو حارثة علی بغلة وإلی جنبه أخ له یقال له كرز إذ عثرت بغلته، قال: تعس الأبعد یرید محمداً (صلی الله علیه و آله) ! فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست!فقال له: ولم یا أخ؟ فقال: والله إنه النبي الذي كنا ننتظره! فقال كرز: فما یمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه؟فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا كل ما تری!فأضمر علیه منه أخوه كرز حتی أسلم بعد ذلك وكان كرز یرتجز ویقول:

إلیك یغدو قلقاً وضینها *** معترضاً في بطنها جنینها

مخالفاً دین النصاری دینها

مكاتیب الرسول (صلی الله علیه و آله) 2/489ملخصاً.

3- أمهل النبي (صلی الله علیه و آله) وفدهم ثلاثاً ثم ناظرهم

في الإختصاص للمفید (رحمة الله) /112، عن محمد بن المنكدر عن أبیه قال: «لما قدم السید والعاقب أسقفا نجران في سبعین راكباً وافداً علی النبي (صلی الله علیه و آله) كنت معهم فبینا

ص: 577

كرز یسیر وكرز صاحب نفقاتهم، إذ عثرت بغلته فقال: تعس من نأتیه الأبعد یعني النبي (صلی الله علیه و آله) ! فقال له صاحبه وهو العاقب: بل تعست وانتكست! فقال: ولم ذلك؟ قال: لأنك أتعست النبي الأمي أحمد، قال: وما علمك بذلك؟ قال: أما تقرأ من المفتاح الرابع من الوحي إلی المسیح: أن قل لبني إسرائیل: ما أجهلكم تتطیبون بالطیب لتطیبوا به في الدنیا عند أهلها وأهلكم وأجوافكم عندي كالجیفة المنتنة! یا بني إسرائیل، آمنوا برسولي النبي الأمي الذی یكون فی آخر الزمان، صاحب الوجه الأقمر والجمل الأحمر، المشرب بالنور، ذي الجناب الحسن والثیاب الخشن، سید الماضین عندی وأكرم الباقین عَلَيَّ، المستن بسنتي، والصائر في دارجتي، والمجاهد بیده المشركین من أجلي، فبشر به بني إسرائیل ومر بني إسرائیل أن یعزروه وأن ینصروه.

قال عیسی صلی الله علیه: قدوس قدوس، من هذا العبدالصالح الذي قد أحبه قلبي ولم تره عیني؟ قال: هو منك وأنت منه وهو صهرك علی أمك، قلیل الأولاد كثیر الأزواج، یسكن مكة من موضع أساس وطي إبراهیم، نسله من مباركة، وهي ضرة أمك فی الجنة، له شأن من الشأن، تنام عیناه ولا ینام قلبه، یأكل الهدیة ولا یقبل الصدقة، له حوض من شفیر زمزم إلی مغیب الشمس حیث یغرب، فیه شرابان من الرحیق والتسنیم، فیه أكاویب عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم یظمأ بعدها أبداوذلك بتفضیلي إیاه علی سائر المرسلین، یوافق قوله فعله وسریرته علانیته، فطوبی له وطوبی لأمته، الذین علی ملته یحیون وعلی سنته یموتون ومع أهل بیته یمیلون، آمنین مؤمنین مطمئنین مباركین ویظهر فی زمن قحط وجدب فیدعوني، فترخی السماء عزالیها حتی یری أثر بركاتها فی أكنافها، وأبارك فیما یضع فیه یده.

قال: إلهي سمه، قال: نعم هو أحمد وهو محمد رسولي إلی الخلق كافة، وأقربهم مني منزلة وأحضرهم عندي شفاعة، لا یأمر إلا بما أحب وینهی لما أكره. قال له صاحبه: فأنی تقدم بنا علی من هذه صفته؟

قال: نشهد أحواله وننظر آیاته فإن یكن هو هو ساعدناه بالمسالمة، ونكفه بأموالنا عن أهل دیننا من حیث لا یشعر بنا، وإن یكن كاذباً كفیناه بكذبه علی الله عزوجل!

ص: 578

قال: ولم إذا رأیت العلامة لا تتبعه؟ قال: أما رأیت ما فعل بنا هؤلاء القوم أكرمونا، ومولونا ونصبوا لنا الكنائس وأعلوا فیه ذكرنا، فكیف تطیب النفس بالدخول في دین یستوي فیه الشریف والوضیع.

فلما قدموا المدینة قال من رآهم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما رأینا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم، لهم شعور وعلیهم ثیاب الحبر، وكان رسول الله متنائیاً عن المسجد، فحضرت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلقاء المشرق فهمَّ بهم رجال من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمنعهم، فأقبل رسول الله فقال: دعوهم فلما قضوا صلاتهم جلسوا إلیه وناظروه، فقالوا: یا أبا القاسم حاجنا في عیسی، قال: هو عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلی مریم وروح منه، فقال أحدهما: بل هو ولده وثاني اثنین. وقال آخر: بل هو ثالث ثلاثة: أب وابن وروح القدس، وقد سمعناه في قرآن نزل علیك یقول: فعلنا وجعلنا وخلقنا ولو كان واحداً لقال: خلقت وجعلت وفعلت!

فتغشی النبي (صلی الله علیه و آله) الوحي فنزل علیه صدر سورة آل عمران إلی قوله رأس الستین، منها: فَمَنْ حَاجَّك فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَی الْكاذِبِینَ.آل عمران: 61.

فقص علیهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) القصة وتلا علیهم القرآن، فقال بعضهم: لبعض: قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم. فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله عزوجل قد أمرني بمباهلتكم، فقالوا: إذا كان غداً باهلناك. فقال القوم بعضهم لبعض: حتی ننظر بما یباهلنا غداً بكثرة أتباعه من أوباش الناس أم بأهله من أهل الصفوة والطهارة، فإنهم وشیج الأنبیاء وموضع نهلهم.

فلما كان من غد غدا النبي (صلی الله علیه و آله) بیمینه علي وبیساره الحسن والحسین: ومن ورائهم فاطمة صلی الله علیها، علیهم النمار النجرانیة، وعلی كتف رسول الله كساء قطواني رقیق خشن لیس بكثیف ولا لین، فأمر بشجرتین فكسح ما بینهما ونشر الكساء علیهما وأدخلهم تحت الكساء وأدخل منكبه الأیسر معهم تحت

ص: 579

الكساء، معتمداً علی قوسه النبع، ورفع یده الیمنی إلی السماء للمباهلة، واشرأب الناس ینظرون، واصفرَّ لون السید والعاقب وكرَّا حتی كادت أن تطیش عقولهما فقال أحدهما لصاحبه: أنباهله؟ قال: أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبیاً فنشأ صغیرهم وبقي كبیرهم؟! ولكن أره أنك غیر مكترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد، فإن الرجل محارب، وقل له: أبهؤلاء تباهلنا لئلا یری أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بیته.

فلما رفع النبي (صلی الله علیه و آله) یده إلی السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه: وأي رهبانیة! دارك الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلی أهل ولا مال! فقالا: یا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا؟ قال: نعم، هؤلاء أوجه من علی وجه الأرض بعدي إلی الله عزوجل وجهة وأقربهم إلیه وسیلة، قال: فبصبصا یعني ارتعدا وكرَّا وقالا له: یا أبا القاسم نعطیك ألف سیف وألف درع وألف حجفة وألف دینار كل عام، علی أن الدرع والسیف والحجفة عندك إعارة حتی یأتي من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذي رأینا وشاهدنا فیكون الأمر علی ملأ منهم، فإما الإسلام وإما الجزیة وإما المقاطعة في كل عام.فقال النبي (صلی الله علیه و آله): قد قبلت ذلك منكما. أما والذي بعثني بالكرامة لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عزوجل علیكم الوادي ناراً تأجج، حتی یساقها إلی من وراءكم في أسرع من طرفة العین فأحرقتم تأججاً! فهبط علیه جبرئیل الروح الأمین (علیه السلام) فقال: یا محمد الله یقرؤك السلام ویقول لك: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض لتساقطت السماء كسفاً متهافتة، ولتقطعت الأرضون زبراً سائحة، فلم تستقر علیها بعد ذلك! فرفع النبي (صلی الله علیه و آله) یدیه حتی رئي بیاض إبطیه، ثم قال: وعلی من ظلمكم حقكم، وبخسني الأجر الذی افترضه الله فیكم علیهم بهلة الله تتابع إلی یوم القیامة».

أقول: هذه الروایة من أقوی الرویات فی المباهلة، ولعلها أقواها علی الإطلاق.

وفی الإرشاد: 1/168: «فقال الأسقف: یا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك، فصالحنا علی ما ننهض به. فصالحهم النبي (صلی الله علیه و آله) علی ألفي حلة من حلل الأواقي، قیمة كل حلة أربعون درهماً جیاداً، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم

ص: 580

النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً بما صالحهم علیه وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحیم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشیتها فی كل صفراء وبیضاء وثمرة ورقیق، لا یؤخذ منهم شئ غیر ألفي حلة من حلل الأواقي ثمن كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك، یؤدون ألفاً منها في صفر وألفاً منها في رجب، وعلیهم أربعون دیناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك وعلیهم في كل حدث یكون بالیمن من كل ذي عدن عاریة مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة محمد بن عبدالله، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بریئة».مكاتیب الرسول (صلی الله علیه و آله) 2/489 و494.

وفي روایة الإقبال/343:«أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً، فلم یدعهم ولم یسألوه، لینظروا إلی هدیه ویعتبروا ما یشاهدون منه مما یجدون من صفته. فلما كان بعد ثالثة دعاهم إلی الإسلام فقالوا: یا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عزوجل بشئ من صفة النبي المبعوث بعد الروح عیسی (علیه السلام) إلا وقد تعرفناه فیك إلا خلة هي أعظم الخلال آیة ومنزلة وأجلاها أمارة ودلالة. قال (صلی الله علیه و آله): وما هي؟قالوا: إنا نجد فی الإنجیل من صفة النبي الغابر من بعد المسیح أنه یصدق به ویؤمن به وأنت تسبه وتكذب به وتزعم أنه عبد! قال: فلم تكن خصومتهم ولامنازعتهم للنبي إلا في عیسی (علیه السلام).فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا، بل أصدقه وأصدق به وأؤمن به، وأشهد أنه النبي المرسل من ربه عزوجل وأقول: إنه عبد لا یملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حیاةً ولا نشوراً. قالوا: وهل یستطیع العبد أن یفعل ما كان یفعل؟ وهل جاءت الأنبیاء بما جاء به من القدرة القاهرة؟ ألم یكن یحیي الموتی ویبرئ الأكمه والأبرص، وینبئهم بما یكنون فی صدورهم وما یدخرون فی بیوتهم؟ فهل یستطیع هذا إلا الله عزو جل أو ابن الله؟وقالوا في الغلو فیه وأكثروا تعالی الله عن ذلك علواً كبیراً!فقال (صلی الله علیه و آله): قد كان عیسی أخي كما قلتم یحیي الموتی ویبرئ الأكمه والأبرص ویخبر قومه بما فی نفوسهم، وبما یدخرون فی بیوتهم، وكل ذلك بإذن الله عزوجل، وهو لله

ص: 581

عزوجل عبد، وذلك علیه غیر عار، وهو منه غیر مستنكف، فقد كان لحماً ودماً وشعرًا وعظماً وعصباً وأمشاجاً، یأكل الطعام ویظمأ وینصب. بارؤه وربه الأحد الحق الذی لیس كمثله شئ ولیس له ند. قالوا: فأرنا مثله من جاء من غیر فحل ولا أب؟ قال: هذا آدم (علیه السلام) أعجب منه خلقاً جاء من غیر أب ولا أم! وتلا علیهم: إِنَّ مَثَلَ عِیسَی عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَیكونُ. آل عمران: 59.

4- كتاب الصلح مع أهل نجران

وفي مكاتیب الرسول: 3/152: «كتابه (صلی الله علیه و آله) لأهل نجران: بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما كتب النبي رسول الله محمد لنجران، إذ كان له علیهم حكمه في كل ثمرة وصفراء وبیضاء وسوداء ورقیق، فأفضل علیهم وترك ذلك: ألفی حلة حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، وفی كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقیة وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قصوا من درع أو خیل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلی نجران مثواة رسلي شهراً فدونه، ولا یحبس رسلي فوق شهر، وعلیهم عاریة ثلاثین درعاً، وثلاثین فرساً، وثلاثین بعیراً إذا كان كید بالیمن ذو مغدرة، وما هلك مما أعاروا رسلي من خیل أو ركاب فهم ضمن یردوه إلیهم، ولنجران وحاشیتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله علی أنفسهم وملتهم وأرضهم، وأموالهم، وبیعهم، ورهبانیتهم وأساقفتهم، وغائبهم وشاهدهم، وكلما تحت أیدیهم من قلیل أو كثیر، وعیرهم وبعثهم، وأمثلتهم، لا یغیر ما كانوا علیه، ولا یغیر حق من حقوقهم وأمثلتهم». ثم أورد نصوصه بفروقاتها، ومنها نص المفید المتقدم. راجع: تفسیر العیاشي: 1/175، ابن هشام:2/412 وتفسیر القمي: 1/104.

5- سمع الیهود بمجیئ وفد النصاری فحضروا معهم

فی الإرشاد: 1/166: «فقدموا المدینة وقت صلاة العصر، وعلیهم لباس الدیباج والصلب، فصار إلیهم الیهود وتساءلوا بینهم فقالت النصاری لهم: لستم علی شئ وقالت لهم الیهود: لستم علی شئ! وفي ذلك أنزل الله سبحانه: وَقَالَتِ الْیهُودُ لَیسَتِ

ص: 582

النَّصَارَی عَلَی شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَی لَیسَتِ الْیهُودُ عَلَی شَئٍْ وَهُمْ یتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِینَ لایعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ یحْكمُ بَینَهُمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فِیمَا كانُوا فِیهِ یخْتَلِفُون».

وفي تفسیر فرات/89، عن علي (علیه السلام) قال:«لما قدم وفد نجران علی النبي (صلی الله علیه و آله) قدم فیهم ثلاثة من النصاری من كبارهم: العاقب وقیس والأسقف، فجاؤوا إلی الیهود وهم في بیت المدارس، فصاحوا بهم: یاإخوة القردة والخنازیر هذا الرجل بین ظهرانیكم قد غلبكم، إنزلوا إلینا. فنزل إلیهم ابن صوریا الیهودي وكعب بن الأشرف الیهودي، فقالوا لهم: إحضروا غداً نمتحنه. قال: وكان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا صلی الصبح قال: هاهنا من الممتحنة أحد؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم یجد أحداً قرأ علی أصحابه ما نزل علیه فی تلك اللیلة. فلما صلی الصبح جلسوا بین یدیه فقال له الأسقف: یا أبا القاسم فداك أبي: موسی من أبوه؟ قال: عمران. قال: فیوسف من أبوه؟ قال: یعقوب. قال: فأنت فداك أبي وأمي من أبوك؟ قال: عبدالله بن عبدالمطلب. قال: فعیسی من أبوه؟ قال: فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) وكان رسول الله ربما احتاج إلی شئ من المنطق فینقض علیه جبرئیل (علیه السلام) من السماء السابعة فیصل له منطقه فی أسرع من طرفة عین، فذاك قول الله تعالی: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر. قال: فجاء جبرئیل (علیه السلام) فقال: هو روح الله وكلمته فقال له الأسقف: یكون روح بلا جسد؟ قال: فسكت النبي (صلی الله علیه و آله). قال: فأوحی إلیه: إِنَّ مَثَلَ عِیسَی عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَیكونُ.. قال: فنزا الأسقف نزوةً إعظاماً لعیسی (علیه السلام) أن یقال له: من تراب. ثم قال: ما نجد هذا یا محمد في التوراة ولا في الإنجیل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلاعندك! قال: فأوحی الله إلیه: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَی الْكاذِبِینَ.. فقالوا: أنصفتنا یا أبا القاسم فمتی موعدك؟ قال: بالغداة

إن شاء الله. قال: فانصرف الیهود وهم یقولون: لا إله إلا الله، ما نبالي أیهما أهلك الله: النصرانیة أو الحنیفیة».

وفي سیرة ابن هشام: 2/390: «قال ابن إسحاق: ولما قدم أهل نجران من

ص: 583

النصاری علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتتهم أحبار الیهود فتنازعوا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رافع بن حریملة: ما أنتم علی شئ، وكفروا بعیسی وبالإنجیل، فقال رجل من أهل نجران من النصاری للیهود: ما أنتم علی شئ، وجحد نبوة موسی وكفر بالتوراة. فأنزل الله تعالی فی ذلك من قولهم: وَقَالَتِ الْیهُودُ لَیسَتِ النَّصَارَی عَلَی شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَی لَیسَتِ الْیهُودُ عَلَی شَئٍْ وَهُمْ یتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِینَ لا یعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ یحْكمُ بَینَهُمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فِی مَا كانُوا فِیهِ یخْتَلِفُونَ. أی كل یتلو في كتابه تصدیق ما كفر به أي یكفر الیهود بعیسی وعندهم التوراة فیها ما أخذ الله علیهم علی لسان موسی (علیه السلام) بالتصدیق بعیسی (علیه السلام) وفی الإنجیل ما جاء به عیسی (علیه السلام)، من تصدیق موسی (علیه السلام)، وما جاء به من التوراة من عند الله، وكل یكفر بما في ید صاحبه».

وفي سیرة ابن هشام: 2/35: «وقال أبو رافع القرظي: حین اجتمعت الأحبار من یهود والنصاری من أهل نجران، عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودعاهم إلی الإسلام: أترید منا یا محمد أن نعبدك كما تعبدالنصاری عیسی بن مریم؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني، یقال له: الرئیس: أو ذاك ترید منا یا محمد وإلیه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): معاذ الله أن أعبد غیر الله أو آمر بعبادة غیره، فما بذلك بعثني الله ولا أمرني، أو كما قال. فأنزل الله تعالی في ذلك من قولهما: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ یؤْتِیهُ اللهُ الْكتَابَ وَالْحُكمَ وَالنُّبُوَةَ ثُمَّ یقُولَ لِلنَّاسِ كونُوا عِبَادًا لِی مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكنْ كونُوا رَبَّانِیینَ بِمَا كنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكتَابَ وَبِمَا كنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا یأمُرَكمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكةَ وَالنَّبِیینَ أَرْبَابًا أَیامُرُكمْ بِالْكفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».

6- مستحبات یوم المباهلة

قال في الجواهر: 17/109: «وهو الیوم الرابع والعشرین من ذي الحجة، قیل وهو الذي تصدق فیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) بخاتمه في ركوعه فنزل قوله تعالی: إِنَّمَا وَلِیكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یقِیمُونَ الصَّلَوةَ وَیؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ. وأظهر الله فیه نبیه (صلی الله علیه و آله) علی خصمه. فهو حینئذ أشرف الأیام الذي ینبغي فیه الصیام شكراً لهذه النعم الجسام والمنن العظام».

وفي مصباح المتهجد/764: «عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: یوم المباهلة الیوم الرابع

ص: 584

والعشرون من ذي الحجة، تصلي في ذلك الیوم ما أردت من الصلاة، فكلما صلیت ركعتین استغفرت الله تعالی بعقبها سبعین مرة، ثم تقوم قائماً وترمي بطرفك في موضع سجودك وتقول وأنت علی غسل: الحمد لله رب العالمین، الحمد لله فاطر السماوات والأرض...».

7- مسائل في المباهلة

المسألة الأولى: المباهلة ابتكار إسلامي، معناها أن الله تعالى تكفل بنصرة صاحب الحق وخذلان صاحب الباطل، فهي ميزان مهم إذا أحسن الناس استعماله.

وآيتها نزلت في محاجة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلماء النصارى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.«آل عمران: 59-61» لكنها لا تختص بالنبي (صلی الله علیه و آله) ولابألوهية المسيح (علیه السلام) بل تصح من كل الناس في مسائل العقيدة.

وقد أفتى الفقهاء بجواز مباهلة المعاند، وعقد في الكافي: 2/513 باباً بعنوان:باب المباهلة، روى فيه خمسة أحاديث، منها بسند صحيح عن أبي مسروق عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قلت: إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عزوجل: أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم، فيقولون: نزلت في أمراء السرايا، فنحتج عليهم بقوله عزوجل: إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر، الآية فيقولون: نزلت في المؤمنين، ونحتج عليهم بقول الله عزوجل: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، فيقولون نزلت في قربى المسلمين! قال: فلم أدع شيئاً مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته. فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت:وكيف أصنع؟قال: أصلح نفسك ثلاثاً، وأظنه قال وصم واغتسل، وابرز أنت وهو إلى الجبان، فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل: اللهم رب السماوات السبع ورب

ص: 585

الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبو مسروق جحد حقاً وادعى باطلاً، فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً. ثم رد الدعوة عليه فقل: وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً.ثم قال لي: فإنك لاتلبث أن ترى ذلك فيه! فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه»!

وقال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية/71: «وقال (علیه السلام) لطائفة من أصحابه: بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه، وبينوا لهم ضلالهم الذي هم عليه، وباهلوهم في علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه».

وقال الحر العاملي في هداية الأمة 3/121: «تستحب مباهلة العدو والخصم... يستحب غسل المباهلة.. يستحب الصوم قبلها والخروج إلى الجبان..دعاء كل منهما على نفسه سبعين مرة ثم على خصمه سبعين مرة.. أن يشبك كل منهما أصابعه في أصابع الآخر ويدعو بالمأثور.. يستحب كونها بين طلوع الفجر وطلوع الشمس».

وقال السيد السبزواري في تفسيره: مواهب الرحمن 6/31: «المباهلة نوع من الدعاء والإبتهال والتضرع والتبتل إلى الله تعالى لإثبات حق عَلم به. وهي عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي، فتكون نظير صلاة الإستسقاء أو الإستخارة و نحوهما.

والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة أنها تتقوم بأمرين: الأول: ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجة والبيان، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمرالغيبي الذي يعترف به الخصمان، و هذا يدل عليه قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فيه، أي في الحق المعلوم. الثاني: وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة، إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علماً وعملاً، أو حالة الإنكسار والخضوع والتضرع التي تكون رابطة حالية، فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب، فلا تختص المباهلة بمورد خاص...

و للمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء، ولا ريب في تقومها بمن يقوم به

ص: 586

الإحتجاج وإظهار الحق وهو في المقام نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وحيث إنها تدل على الملاعنة والهلاك يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى في الإحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم، ولأن الإجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب اليه كثيراً في السنة المقدسة».

المسألة الثانية: قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ. أي جاءك العلم من الله بأمرعيسى (علیه السلام)، فصار عندك حجة من الله وبينتها للناس فتمت عليهم الحجة، فمن جادلك ليبطل حجتك بزعمه فهو مكابر، فلا تجادله بل ادعه إلى المباهلة. فطالب الحق يُبين له وتُقام عليه الحجة، لكن المُحَاجّ مجادل، يُعرض عنه، أو يدعى إلى المباهلة.

المسألة الثالثة: المباهلة دعاء، وهي بنفس الوقت منازلة وتوسل. والمنازلة تقتضي أن تضرب الخصم بأقوى أسلحتك. والتوسل إلى الله تعالى في المنازلة يقتضي أن تتقرب إلى الله بأقوى الناس وسيلة عنده ليستجيب دعاءك على خصمك.

ولما قال الله لرسوله (صلی الله علیه و آله): فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. واختار (صلی الله علیه و آله) للمباهلة بأمر ربه خاصة عترته، فمعناه أنهم أقوى سلاح رباني، لا يخطئ ولا ينهزم، وأنهم أقرب الناس وسيلة إلى الله تعالى، فلا يخيب من توسل بهم، ولا يرد دعاءه.

المسألة الرابعة: تدل المباهلة على أن الذين باهل الله بهم أفضل أهل الأرض، وكل كلام في تفضيل غيرهم عليهم، أو مساواته بهم، ردٌّ عملي على الله تعالى وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله)، وصاحبه ذو غرض وذو مرض، وانقطع الخطاب.

المسألة الخامسة: يمثل المباهَل بهم الأمة كلها: المباهل ونفسه والأبناء والنساء. فهم القيادة النبوية وورثتها، وهم البنت والأم والزوجة والأبناء، وهم مكونات المجتمع الإنساني، يباهل بهم قيادة المسيحيين وأبناءهم ونساءهم، ويباهل من ادعى للأم مريم وابنها عيسى ألوهيةً ومقاماً غير صحيح.

ص: 587

المسألة السادسة: قوله:تعَالوا نَدْعُ. معناه: اُحضروا أنتم إلى مكان المنازلة والمباهلة، وأحضروا مكونات دينكم ومجتمعكم.وروي أن كبيرالقساوسة ومعاونه أحضرا ولديهما: (وغدا العاقب والسيد بابنين لهما، عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة) اليعقوبي2/82. ولم يقل تعالوا نحضرهم، بل قال ادعوهم للحضور، لأنهم حسب المفروض شخصيات مستقلة يُدعون دعوةً.

المسألة السابعة: تعالوا ندعوهم الحضور في المكان المحدد للمباهلة، وقبلها كانت المناظرة في المسجد، لكن المباهلة ينبغي أن تكون تحت السماء، في مكان اختاره النبي (صلی الله علیه و آله) يقع اليوم في شارع الستين، ومشى (صلی الله علیه و آله) أمام المسلمين مسافة، حتى وصلوا إلى قرب المكان فقال لهم قفوا أنتم هنا، وتقدم المباهلون معه فقط!

المسألة الثامنة: قال بعضهم إن المباهلة الملاعنة، فجعل الدعاء على الخصم بمعنى ملاعنته، تشبيهاً بملاعنة الزوج إذا تبرأ من ولده ولاعنَ زوجته. ويصح ذلك مجازاً لأنها دعاء يترتب عليه جعل اللعنة على المبطل. لكن الآية قالت: فنبتهل ولم تقل فنتباهل، أي فندعو، وينتج عنه أن تكون اللعنة على الكاذب.

قال ابن فارس في المقاييس 1/311:(أصول ثلاثة: أحدها التخلية، والثاني جنس من الدعاء، والثالث قلة في الماء..وأما الآخر فالإبتهال والتضرع في الدعاء. والمباهلة ترجع إلى هذا فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه ).

فمعنى تعالوا نبتهل: تعالوا ندعوأن يظهرالله الحق وينتقم من المبطل. وجزم فنبتهل لأنه جواب تعالوا مثل ندعو، وجزم نجعل لأنه جواب نبتهل، وهو يدل على أن الله تعالى جعل اللعنة مترتبة على المباهلة ومحققة بها.

المسألة التاسعة:ذكرت الآية أبناءنا بصيغة الجمع،والمقصود بهم الحسن والحسين (علیهما السلام) فقط، وهما مثنى، وذكرت نساءنا بالجمع والمقصود فاطمة (علیها السلام) فقط، وهي مفرد. ومثله كثير في القرآن وفي لغة العرب حيث يذكر الجمع ويقصد به المفرد أوالمثنى.

وذكرت الآية أنفسنا بالجمع، والمقصود بها شخص واحد هو أميرالمؤمنين (علیه السلام)، ولا

ص: 588

يصح أن تشمل النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه الداعي ولا يدعو نفسه.

قال الشيخ المفيد (رحمة الله) في الفصول المختارة/38: (قال المأمون يوماً للرضا (علیه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأميرالمؤمنين (علیه السلام) يدل عليها القرآن.

قال فقال له الرضا (علیه السلام): فضيلته في المباهلة، قال الله جل جلاله:فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحسن والحسين (علیهما السلام) فكانا ابنيه ودعا فاطمة (علیها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءه، ودعا أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكان نفسه بحكم الله عزوجل،وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأفضل فوجب أن لايكون أحد أفضل من نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله)

بحكم الله عزوجل.

قال فقال له المأمون:أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنته وحدها، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأميرالمؤمنين ما ذكرت من الفضل؟

قال فقال له الرضا (علیه السلام): ليس بصحيح ما ذكرت يا أميرالمؤمنين وذلك أن الداعي إنا يكون داعياً لغيره كما يكون الأمر آمراً لغيره، ولايصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله رجلاً في المباهلة إلا أميرالمؤمنين فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله.قال فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال).

وتعبير أنفسنا في الآية، يعني أنه نفس النبي (صلی الله علیه و آله) إلا ما اختص به من نبوة، وهو يشرح المقصود من أقوال النبي (صلی الله علیه و آله): علي مني وأنا منه، ومَن أطاعه أطاعني ومن عصاه عصاني، ومَن سبه سبني، ومَن كنت مولاه فعلي مولاه، وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من شجر شتى، وأنا وعلي كالضوء من الضوء، وكنت وعلياً نوراً قبل أن يخلق الله الخلق، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى..

ص: 589

إلى آخر كلماته المضيئة التي تبين مكانة علي (علیه السلام) وأنه بحكم نفسه إلا ما استثني.

فلا يبقى مجال لتفضيل غيره عليه، ولا لتقديم غيره عليه في الفضائل، ولا في قيادة الأمة وإمامتها، ولا في الموالاة والمودة ولا في تلقي علم النبي (صلی الله علیه و آله) ؟!

المسألة العاشرة: «الحسنان (علیهما السلام) أبناء النبي (صلی الله علیه و آله) بحكم الآية، ولقوله (صلی الله علیه و آله): يا علي، ما بعث الله عزوجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه، وجعل ذريتي من صلبك، ولولاك ما كانت لي ذرية». الفقيه 4/365.

وقال الإمام الباقر (علیه السلام) الكافي8/318 في قوله تعالى:حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ.. وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ: فسلهم يا أبا الجارود: هل كان يحل لرسول الله (صلی الله علیه و آله) نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم كذبوا وفجروا، وإن قالوا:لا، فهما ابناه لصلبه».

وروى مخالفونا قول النبي (صلی الله علیه و آله): «كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم».كبير الطبراني3 /44، الزوائد4/224 و 6/301.

وقال علماؤهم:«وأولاد بناته ينسبون إليه لحديث: إن ابني هذا سيد مشيراً إلى الحسن. وفي حديث: إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي.دون أولاد بنات غيره فينسبون إلى آبائهم. قال تعالى: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ». كشاف القناع 5/31.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار 6/139: «قال السخاوي: وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه، وبينت أنه صالح للحجة».

المسألة الحادية عشرة: الآية نص في التوسل، حتى بالأقل درجة من المتوسِّل: «ثم جثى (صلی الله علیه و آله) بركبتيه وجعل علياً أمامه بين يديه وفاطمة بين كتفيه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره، وهو يقول لهم: إذا دعوت فأمِّنوا، فقال الأسقف:جثى والله محمد كما يجثو الأنبياء للمباهلة». مناقب آل أبي طالب3/144.

ومعنى: إذا دعوت فأمنوا: أن تأمينهم جزء من الإبتهال، وهو توسل بهم.

هذا، وفي الآية مسائل أخرى مهمة، اكتفينا بما تقدم.

ص: 590

الفصل السبعون: حجة الوداع

1- أجواء حجة الوداع

أ. أمر الله تعالی نبیه (صلی الله علیه و آله) بالحج ونزل علیه قوله تعالی: وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالحَجِّ یأْتُوك رِجَالاً وَعَلَی كلِّ ضَامِرٍ یأْتِینَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فأمر المؤذنین أن یؤذنوا بأعلی أصواتهم: بأن رسول الله یحج فی عامه هذا، فعلم به من حضر المدینة وأهل العوالي والأعراب، واجتمعوا لحج رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فكتب إلی من بلغه كتابه ممن دخل في الإسلام: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) یرید الحج، یؤذنهم بذلك لیحج من أطاق الحج». الكافی: 4/244.

وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) رسُلَهُ یدعون الناس الی الحج، وبلغت دعوته أقاصي بلاد الإسلام، فتجهز الناس للخروج معه، وحضر الی المدینة خلق كثیر، ووافاه في الطریق خلائق، وكانوا مد البصر، كلهم یرید أن یأتم برسول الله (صلی الله علیه و آله) ویعمل مثل عمله.البحار: 21/384 والصحیح من السیرة: 30/288.

ب. في الحج أخبرهم أنه یوشك أن یدعی فیجیب، وأنهم قد لا یرونه بعد عامهم هذا، فسماها الناس حجة الوداع، وأقرَّ هذا الإسم أهل البیت (علیهم السلام).

ففي الكافي: 7/373 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقف بمنی حین قضی مناسكها في حجة الوداع فقال: أیها الناس إسمعوا ما أقول لكم واعقلوه عني، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا، ثم قال: أي یوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الیوم

ص: 591

قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر، قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماء كم وأموالكم علیكم حرام كحرمة یومكم هذا في شهركم هذا فی بلدكم هذا إلی یوم تلقونه، فیسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد..».

ج- هدف النبي (صلی الله علیه و آله) من حجة الوداع: إتمام تبلیغ الإسلام، ومنه تبلیغ مناسك الحج، حیث قال لهم: خذوا عني مناسك حجكم. حجوا كما رأیتموني أحج.

لكن الهدف الأهم عنده (صلی الله علیه و آله) التأكید علی خلافة علي والأئمة من عترته:، وتحذیر الأمة من مخالفته فیهم بأن من یخالفه فیهم لا یوافیه علی الحوض.

ولا ننس أن حجة الوداع كانت بعد شهرین من محاولة اغتیاله (صلی الله علیه و آله) فی رجوعه من تبوك. لقد استبطأت قریش موته لتأخذ دولته كما قال علي (علیه السلام)، فأعلن قرب وفاته لیطمئنهم بأنه مغادر عن قریب فلیكفُّوا عن محاولة اغتیاله، أو إعلان الردة وإعادة العرب الی وثنیتهم، بحجة أن محمداً یرید بناء ملك لعترته:!

لكن قریشاً لم تقنع بتطمینه (صلی الله علیه و آله)، فحاولت اغتیاله فی عودته من حجة الوداع!

د. خرج النبي (صلی الله علیه و آله) من المدینة یوم الخمیس السادس والعشرین من ذي القعدة«لأربع بقین منه»وبات في ذي الحلیفة «مسجد الشجرة». وفي الیوم التالي أحرم وتحرك بالمسلمین نحو مكة، فوصلها لأربع مضین من ذي الحجة.

أما رجوعه الی المدینة فكان في العشر الأخیر من ذي الحجة، ولم أجد من حدده.

وأما عدد الذین حضروا حجة الوداع فتفاوتت الروایة في عددهم بین سبعین ألفاً، ومئة وأربع وعشرین ألفاً.

ه. روی المسلمون عن النبي (صلی الله علیه و آله) أحادیث عدیدة من حجة الوداع، وأجزاءً من الخطب الست التی خطبها: عندما وصل الی مكة، ثم في عرفات، ثم في منی عند جمرة العقبة یوم العید وثاني العید، ثم في الیوم الثالث في مسجد الخیف، ثم في عودته في غدیر خم عند الجحفة.

وتضمنت توجیهاته ووصایاه لأمته، وقد أخفی رواة الحكومة منها أكثر ما یتعلق

ص: 592

بأهل البیت (علیهم السلام) وهو بضع عشرة مادة، وسیأتي ذكر مضامینها.

و. عن جابر قال: «طاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع علی راحلته بالبیت وبالصفا والمروة، لیراه الناس ولیشرف علیهم لیسألوه، فإن الناس غَشَوْهُ».

أي أحاطوا به وزاحموه.تذكرة الفقهاء: 8/111.

2- صفة حج النبی (صلی الله علیه و آله) عند أهل البیت (علیهم السلام)

في الكافي: 4/244، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لم یحج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد قدومه المدینة إلا واحدة، وقد حج بمكة مع قومه حجات مستسراً في كلها...فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أربع بقین من ذي القعدة، فلما انتهی إلی ذي الحلیفة زالت الشمس فاغتسل، ثم خرج حتی أتی المسجد الذي عند الشجرة فصلی فیه الظهر وعزم بالحج مفرداً»سألته: ألیلاً أحرم رسول الله أم نهاراً؟ فقال: نهاراً. قلت: أیة ساعة؟ قال: صلاة الظهر«وخرج حتی انتهی إلی البیداء عند المیل الأول، فصُفَّ له سماطان فلبی بالحج مفرداً، وساق الهدي ستاً وستین، حتی انتهی إلی مكة في سلخ أربع من ذي الحجة، فطاف بالبیت سبعة أشواط، ثم صلی ركعتین خلف مقام إبراهیم (علیه السلام)، ثم عاد إلی الحجر فاستلمه، وقد كان استلمه في أول طوافه.

ثم قال: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله. فأبدأ بما بدأ الله تعالی به. وإن المسلمین كانوا یظنون أن السعي بین الصفا والمروة شئ صنعه المشركون، فأنزل الله عزوجل: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَیهِ أَنْ یطَّوَّفَ بِهِمَا. ثم أتی الصفا فصعد علیه، واستقبل الركن الیماني فحمد الله وأثنی علیه ودعا مقدار ما یقرأ سورة البقرة مترسلاً، ثم انحدر إلی المروة فوقف علیها كما وقف علی الصفا، ثم انحدر وعاد إلی الصفا فوقف علیها، ثم انحدر إلی المروة حتی فرغ من سعیه. فلما فرغ من سعیه وهو علی المروة أقبل علی الناس بوجهه فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: إن هذا جبرئیل وأومأ بیده إلی خلفه یأمرني أن آمر من لم یسق هدیاً أن یحل، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما

ص: 593

أمرتكم، ولكني سقت الهدي، ولا ینبغي لسائق الهدي أن یحل حتی یبلغ الهدي محله.

قال: فقال له رجل من القوم«عمر»: لنخرجن حجاجاً ورؤوسنا وشعورنا تقطر! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما إنك لن تؤمن بهذا أبداً! فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني: یا رسول الله علمنا دیننا كأنا خلقنا الیوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما یستقبل؟فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): بل هو للأبد إلی یوم القیامة ثم شبك أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلی یوم القیامة.

قال: وقدم علي (علیه السلام) من الیمن علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمكة، فدخل علی فاطمة سلام الله علیها وهي قد أحلت، فوجد ریحاً طیبة ووجد علیها ثیاباً مصبوغة فقال: ما هذا یا فاطمة؟ فقالت أمرنا بهذا رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فخرج علي (علیه السلام) إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) مستفتیاً فقال: یا رسول الله إني رأیت فاطمة قد أحلت وعلیها ثیاب مصبوغة؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا أمرت الناس بذلك فأنت یا علي بمَ أهللت؟ قال: یا رسول الله إهلالاً كإهلال النبي، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): قُرَّ علی إحرامك مثلي، وأنت شریكي في هدیي.

قال: ونزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بالبطحاء هو وأصحابه، ولم ینزل الدور، فلما كان یوم الترویة عند زوال الشمس أمر الناس أن یغتسلوا ویهلوا بالحج، وهو قول الله عزوجل الذي أنزل علی نبیه (صلی الله علیه و آله): فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهیم.

فخرج النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه مُهِلِّین بالحج حتی أتی منی فصلی الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثم غدا والناس معه، وكانت قریش تفیض من المزدلفة وهي جُمع ویمنعون الناس أن یفیضوا منها، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقریش ترجو أن تكون إفاضته من حیث كانوا یفیضون، فأنزل الله تعالی علیه: ثُمَّ أَفِیضُوا مِنْ حَیثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ، یعني إبراهیم وإسماعیل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم، فما رأت قریش أن قبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شئ للذي كانوا یرجون من الإفاضة من مكانهم، حتی انتهی إلی نمرة، وهي بطن عرنة بحیال الأراك، فضربت قبته، وضرب الناس أخبیتهم عندها.

ص: 594

فلما زالت الشمس خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه قریش، وقد اغتسل وقطع التلبیة، حتی وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثم صلی الظهر والعصر بأذان وإقامتین، ثم مضی إلی الموقف فوقف به، فجعل الناس یبتدرون أخفاف ناقته یقفون إلی جانبها فنحاها، ففعلوا مثل ذلك فقال: أیها الناس لیس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كله وأومأ بیده إلی الموقف، فتفرق الناس. وفعل مثل ذلك بالمزدلفة، فوقف الناس حتی وقع القرص قرص الشمس، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتی انتهی إلی المزدلفة، وهو المشعر الحرام فصلی المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتین، ثم أقام حتی صلی فیها الفجر، وعجل ضعفاء بني هاشم بلیل وأمرهم أن لا یرموا الجمرة جمرة العقبة حتی تطلع الشمس، فلما أضاء له النهار أفاض، حتی انتهی إلی منی فرمی جمرة العقبة.

وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستاً وستین وجاء علي بأربع وثلاثین فنحر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستة وستین ونحر علي (علیه السلام) أربعة وثلاثین بدنة، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یؤخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم، ثم تطرح فی برمة ثم تطبخ، فأكل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وحَسَیا من مرقها، ولم یعطیا الجزارین جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به، وحلق، وزار البیت ورجع إلی منی، وأقام بها حتی كان الیوم الثالث من آخر أیام التشریق.

ثم رمی الجمار ونفر، حتی انتهی إلی الأبطح، فقالت له عایشة: یا رسول الله ترجع نساؤك بحجة وعمرة معاً وأرجع بحجة؟ فأقام بالأبطح وبعث معها عبدالرحمن بن أبی بكر إلی التنعیم، فأهلت بعمرة ثم جاءت وطافت بالبیت وصلت ركعتین عند مقام إبراهیم (علیه السلام) وسعت بین الصفا والمروة، ثم أتت النبي (صلی الله علیه و آله) فارتحل من یومه، ولم یدخل المسجد الحرام ولم یطف بالبیت. ودخل من أعلی مكة من عقبة المدنیین، وخرج من أسفل مكة من ذی طوی.

وذكر أنه حیث لبی قال: لبیك اللهم لبیك لبیك، لا شریك لك لبیك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شریك لك. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) یكثر من ذي

ص: 595

المعارج، وكان یلبي كلما لقي راكباً، أو علا أكمةً، أو هبط وادیاً، ومن آخر اللیل، وفی إدبار الصلوات. فلما دخل مكة دخل من أعلاها من العقبة وخرج حین خرج من ذي طوی، فلما انتهی إلی باب المسجد استقبل الكعبة، فحمد الله وأثنی علیه وصلی علی أبیه إبراهیم، ثم أتی الحجر فاستلمه، فلما طاف بالبیت صلی ركعتین خلف مقام إبراهیم ودخل زمزم فشرب منها، ثم قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كل داء وسقم. فجعل یقول ذلك وهو مستقبل الكعبة ثم قال لأصحابه: لیكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر، فاستلمه، ثم خرج إلی الصفا.

الذي كان علی بُدْن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ناجیة بن جندب الخزاعي الأسلمی. والذي حلق رأس النبي (صلی الله علیه و آله) فی حجته معمر بن عبدالله بن حارثة. قال: ولما كان فی حجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو یحلقه قالت قریش: أي معمر، أذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی یدك وفي یدك الموسی! فقال معمر: والله إني لأعده من الله فضلاً عظیماً عَلَیّ، قال: وكان معمر هو الذي یرحل لرسول الله فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا معمر إن الرحل اللیلة لمسترخٍ فقال معمر: بأبي أنت وأمي لقد شددته كما كنت أشده، ولكن بعض من حسدني مكاني منك یا رسول الله أراد أن تستبدل بي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما كنت لأفعل».

وفي الكافي: 4/257، عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) قال: «لما وقف (صلی الله علیه و آله) بعرفة وهمَّت الشمس أن تغیب، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا بلال قل للناس فلینصتوا، فلما نصتوا قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن ربكم تطوَّل علیكم في هذا الیوم فغفر لمحسنكم وشفع محسنكم في مسیئكم، فأفیضوا مغفوراً لكم، قال: وزاد غیر الثمالي أنه قال: إلا أهل التبعات، فإن الله عدل یأخذ للضعیف من القوي.

فلما كانت لیلة جمع لم یزل یناجي ربه ویسأله لأهل التبعات، فلما وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلینصتوا، فلما نصتوا قال: إن ربكم تطول علیكم فی هذا الیوم فغفر لمحسنكم وشفع محسنكم فی مسیئكم، فأفیضوا مغفوراً لكم، وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا».

أقول: معناه أن الله تعالی ضمن لمن شملته المغفرة في عرفات أن یرْضِي عنه من له

ص: 596

علیه حق، فیعطیه حتی یسقط حقه عنه. ولا یمكن أن یكون هذا الحكم لكل من حج، لأنه یحج أناسٌ مشهود لهم من النبي (صلی الله علیه و آله) بأنهم مجرمون من أهل النار.

3- خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع

اشارة

مع أن المسلمین اهتموا بحجة الوداع ورووا منها أحادیث كثیرةً، لكن رواة السلطة القرشیة نَتَّفُوا الأحادیث وجَزَّؤوها، وخلطوا بین مضامینها!

وسبب ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) ركز فیها علی مكانة عترته:، وخصهم بكلام بلیغ كثیر، فتعمدوا إهمال ذلك لأنه إدانة لنظام الخلافة القرشي الذي قام أساساً علی إقصاء العترة:. فذنب أحادیث حجة الوداع أن النبي (صلی الله علیه و آله) أنها تأمر بطاعة أهل بیته:، وتحذر قریشاً والصحابة من معصیتهم!

وقد راجعتُ نصوص هذه الخطب في أكثر من مائة مصدر من مصادرهم فوجدت أنها تشكل منظومة كاملة في حقوق الإنسان واحترام حریته ودمه وملكیته وكرامته، وفي مكانة القرآن والعترة!

والیك فهرساً بها، وقد أفردنا بشارته (صلی الله علیه و آله) بالأئمة الإثني عشر::

1- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في عرفات

حسب روایة ابن شعبة الحراني (رحمة الله) في تحف العقول/30: «الحمد لله، نحمده ونستعینه، ونستغفره ونتوب إلیه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسیئات أعمالنا. من یهد الله فلا مضل له، ومن یضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشریك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أوصیكم عباد الله بتقوی الله وأحثكم علی العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خیر.

أما بعد: أیها الناس! إسمعوا مني ما أبین لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أیها الناس: إن دماءكم وأعراضكم علیكم حرام، إلی أن تلقوا ربكم، كحرمة یومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

ص: 597

فمن كانت عنده أمانة فلیؤدها إلی من ائتمنه علیها. وإن ربا الجاهلیة موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبدالمطلب. وإن دماء الجاهلیة موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربیعة بن الحارث بن عبدالمطلب.

وإن مآثر الجاهلیة موضوعة غیر السدانة والسقایة، والعمد قَوَدٌ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفیه مائة بعیر، فمن ازداد فهو من الجاهلیة.

أیها الناس: إن الشیطان قد یئس أن یعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي بأن یطاع فیما سوی ذلك، فیما تحتقرون من أعمالكم.

أیها الناس: إنما النسئ زیادة فی الكفر، یضل به الذین كفروا، یحلونه عاماً ویحرمونه عاما، لیواطؤوا عدة ماحرم الله. وإن الزمان قد استدار كهیئته یوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً فی كتاب الله یوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متوالیة، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بین جمادی وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أیها الناس: إن لنسائكم علیكم حقاً، ولكم علیهن حقاً، حقكم علیهن أن لایوطئن أحداً فرشكم، ولا یدخلن أحداً تكرهونه بیوتكم إلا بإذنكم، وألا یأتین بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غیر مبرح، فإذا انتهین وأطعنكم فعلیكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خیراً.

أیها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا یحل لمؤمن مال أخیه إلا عن طیب نفس منه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعن كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فیكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بیتي. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أیها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب،

إِنَّ أَكرَمَكمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكمْ. ولیس لعربي علی عجمي فضل إلا بالتقوی. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فلیبلغ الشاهد الغائب.

أیها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصیبه من المیراث، ولا تجوز لوارث وصیة فی

ص: 598

أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر.

من ادُّعي إلی غیر أبیه، ومن تولی غیر موالیه، فعلیه لعنة الله والملائكة والناس أجمعین، ولا یقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. والسلام علیكم ورحمة الله».

2- من خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في منی:

في تفسیر علي بن إبراهیم: 1/171: «وحج رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدینة، فكان من قوله بمنی أن حمد الله وأثنی علیه ثم قال:

أیها الناس: إسمعوا قولي واعقلوه عني، فإني لا أدري ألقاكم بعد عامي هذا.

ثم قال: هل تعلمون أي یوم أعظم حرمة؟ قال الناس: هذا الیوم. قال: فأي شهر؟ قال الناس: هذا. قال: وأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم علیكم حرام، كحرمة یومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلی یوم تلقون ربكم، فیسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلغت أیها الناس؟قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. ثم قال: ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلیة، أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتین، لیس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوی. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وكل رباً كان فی الجاهلیة فهو موضوع، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبدالمطلب. ألا وكل دم كان في الجاهلیة فهو موضوع، وأول موضوع دم ربیعة. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وإن الشیطان قد یئس أن یعبد بأرضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطیع فقد عبد!

ألا أیها الناس: إن المسلم أخو المسلم حقاً، لایحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله، إلا ما أعطاه بطیبة نفس منه. وإني أمرت أن أقاتل الناس حتی یقولوا لاإله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم علی الله. ألا هل بلغت أیها الناس؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ص: 599

ثم قال: أیها الناس: إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي وافهموه تنعشوا، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض بالسیف علی الدنیا، فإن فعلتم ذلك ولتفعلن! لتجدوني فی كتیبة بین جبرئیل ومیكائیل أضرب وجوهكم بالسیف! ثم التفت عن یمینه فسكت ساعة ثم قال: إن شاء الله، أو علي بن أبي طالب.

ثم قال: ألا وإني قد تركت فیكم أمرین إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فإنه قد نبأني اللطیف الخبیر أنهما لن یفترقا حتی یردا علي الحوض، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وإنه سیرد عَلَيَّ الحوض منكم رجال فیدفعون عني، فأقول: رب أصحابي؟ فیقول: یامحمد إنهم أحدثوا بعدك وغیروا سنتك! أقول: سحقاً سحقاً.

فلما كان آخر یوم من أیام التشریق أنزل الله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): نُعِیتْ إليَّ نفسي. ثم نادی الصلاة جامعة في مسجد الخَیف، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنی علیه ثم قال:

نَضَّرَ اللهُ امرأً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم یسمعها، فرب حامل فقه غیر فقیه، ورب حامل فقه إلی من هو أفقه منه. ثلاث لایغل علیهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصیحة لأئمة المسلمین ولزم جماعتهم، فإن دعوتهم محیطة من ورائهم. المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم یسعی بذمتهم أدناهم، وهم ید علی من سواهم.

أیها الناس: إني تارك فیكم الثقلین. قالوا: یا رسول الله وما الثقلان؟ قال: كتاب الله وعترتی أهل بیتی، فإنه قد نبأني اللطیف الخبیر أنهما لن یفترقا حتی یردا عَلَيَّ الحوض كإصبعي هاتین وجمع بین سبابتیه، ولا أقول كهاتین وجمع سبابته والوسطی فتَفْضُلُ هذه علی هذه! فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا یرید محمد أن یجعل الإمامة في أهل بیته! فخرج أربعة نفر منهم إلی مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فیما بینهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لایردُّوا هذا الأمر في أهل بیته أبداً! فأنزل الله علی نبیه في ذلك: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ.أَمْ یحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَی وَرُسُلُنَا لَدَیهِمْ یكتُبُونَ. الزخرف: 79-80.

ص: 600

وفي بصائر الدرجات/433: «عن جابر قال قال أبوجعفر (علیه السلام) دعا رسول الله أصحابه بمنی وقال: یا أیها الناس إني تارك فیكم الثقلین، أمَا إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بیتي فإنهما لن یفترقا حتی یردا عَلَيَّ الحوض.

ثم قال: أیها الناس، إني تارك فیكم حرمات الله: كتاب الله، وعترتي، والكعبة البیت الحرام. ثم قال أبوجعفر (علیه السلام): أما كتاب الله فحرفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودایع الله فقد تَبَّروا»!

وفي الخصال/486، بسنده عن عبدالله بن عمر قال: «نزلت هذه السورة: إذا جاء نصر الله والفتح، علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أوسط أیام التشریق، فعرف أنه الوداع، فركب راحلته العضباء فحمد الله وأثنی علیه..الی آخر روایة القمي».

وفي الكافي: 1/403: «قال سفیان الثوري «لصاحبه»: إذهب بنا إلی جعفر بن محمد، قال فذهبت معه إلیه فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفیان: یا أبا عبدالله حدثنا بحدیث خطبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد الخیف. قال: دعني حتی أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك. فقال: أسألك بقرابتك من رسول الله لما حدثتني. قال: فنزل فقال له سفیان: مر لي بدواة وقرطاس حتی أثبته، فدعا به ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحیم. خطبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد الخیف: نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه. یا أیها الناس: لیبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه لیس بفقیه، ورب حامل فقه إلی من هو أفقه منه: ثلاثٌ لایغل علیهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصیحة لأئمة المسلمین، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محیطة من ورائهم. المؤمنون إخوةٌ تتكافأ دماؤهم وهم ید علی من سواهم، یسعی بذمتهم أدناهم...

فكتبه سفیان ثم عرضه علیه، وركب أبو عبدالله وجئت أنا وسفیان، فلما كنا في بعض الطریق قال لي: كما أنت، حتی أنظر في هذا الحدیث. قلت له: قد والله ألزم أبو عبدالله رقبتك شیئاً، لایذهب من رقبتك أبداً! فقال: وأي شئ ذلك؟ فقلت له: ثلاث لایغل علیهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، قد

ص: 601

عرفناه. والنصیحة لأئمة المسلمین، من هؤلاء الأئمة الذین یجب علینا نصیحتهم؟ معاویة بن أبي سفیان، ویزید بن معاویة، ومروان بن الحكم، وكل من لاتجوز الصلاة خلفهم؟ وقوله: واللزوم لجماعتهم، فأي الجماعة؟ مُرْجِئٌ یقول: من لم یصلِّ ولم یصُم ولم یغتسل من جنابة، وهادم الكعبة وناكح أمه، فهو علی إیمان جبرئیل ومیكائیل؟! أو قدري یقول لایكون ما شاء الله عزوجل ویكون ما شاء إبلیس؟ أو حروري یتبرأ من علي بن أبي طالب ویشهد علیه بالكفر؟ أو جهمي یقول إنما هي معرفة الله وحده لیس الإیمان شئ غیرها؟!

قال: ویحك وأي شئ یقولون؟! فقلت: یقولون: إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي وجب علینا نصیحته. ولزوم جماعتهم: أهل بیته!

قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لاتخبر بها أحداً»!.انتهی.

وفي الكافي: 2/74، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع فقال: یا أیها الناس والله ما من شئ یقربكم من الجنة ویباعدكم من النار، إلا وقد أمرتكم به، وما من شئ یقربكم من النار ویباعدكم من الجنة إلا وقد نهیتكم عنه. ألا وإن الروح الأمین نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتی تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا یحمل أحدكم استبطاء شئ من الرزق أن یطلبه بغیر حله، فإنه لا یدرك ما عند الله إلا بطاعته».راجع فی تفسیر القمي: 2/303، خطبته (صلی الله علیه و آله) في مكة، وقد أخذ بحلقة الكعبة. وفي: 2/447، خطبته (صلی الله علیه و آله) في مسجد الخیف.

3- ومن مصادر السنیین

في سنن الدارمي: 2/47: «حتی إذا زاغت یعني الشمس «یوم عرفة» أمر بالقصواء فرُحِّلَتْ له، فأتی بطن الوادي فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة یومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلیة تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلیة موضوعة...فاتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله..

ص: 602

أنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون؟قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدیت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة فرفعها إلی السماء وینكتها إلی الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد».

وفي صحیح بخاري: 5/126: عن أبي بكرة عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «الزمان قد استدار كهیئة یوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالیات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بین جمادی وشعبان. أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتی ظننا أنه سیسمیه بغیر اسمه قال: ألیس ذا الحجة؟ قلنا: بلی. قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتی ظننا أنه سیسمیه بغیر اسمه، قال: ألیس البلدة؟قلنا: بلی. قال: فأي یوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتی ظننا أنه سیسمیه بغیر اسمه! قال: ألیس یوم النحر؟ قلنا: بلی. قال: فإن دماءكم وأموالكم- قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم- علیكم حرام كحرمة یومكم هذا فی بلدكم هذا فی شهركم هذا، وستلقون ربكم فسیسألكم عن أعمالكم. ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً یضرب بعضكم رقاب بعض. ألا لیبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من یبلغه أن یكون أوعی له من بعض من سمعه». وروته المصادر: «كفاراً» ورواها بخاري وقلیل غیره«ضلالاً»! أیضاً في صحیحه: 1/24.

وفي صحیح مسلم: 4/41: «حتی أتی عرفة..فنزل بها حتی إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِّلت له، فأتی بطن الوادي فخطب الناس... وقد تركت فیكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله». فحذف وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) بعترته!

وفي ابن ماجة: 2/1024 والحاكم: 1/77: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: یا أیها الناس: إني فرط لكم علی الحوض، وإن سعته ما بین الكوفة إلی الحجر الأسود، وآنیته كعدد النجوم، وإني رأیت أناساً من أمتي «أصلها أصحابی» لما دنوا مني خرج علیهم رجل فمال بهم عني، ثم أقبلت زمرة أخری ففعل بهم كذلك فلم یفلت إلا كمثل همل النعم! فقال أبو بكر: لعلي منهم یا نبي الله؟! قال: لا»!

ص: 603

وواضحٌ أن الراوي تعمد ذكرأبي بكر لیخرجه من الصحابة المطرودین!

وفي ابن ماجة: 2/1016، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو علی ناقته المخضرمة بعرفات.. «ألا وإني مستنقذ أناساً، ومستنقَذٌ مني أناس، فأقول: یا رب أصیحابي! فیقول: إنك لاتدری ما أحدثوا بعدك»!

وفي سنن ابن ماجة: 2/1300:«عن ابن عمر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ویحكم أو ویلكم! لاترجعوا بعدي كفاراً..».

وفي سنن الترمذي: 2/62، عن أبي أمامة: «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا الله ربكم، وصلُّوا خَمْسَكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطیعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم. قال: قلت لأبي أمامة: منذ كم سمعت هذا الحدیث؟ قال: سمعت وأنا ابن ثلاثین سنة».

وفي مسند أحمد: 5/412: «فقال...ألا وإني فرطكم علی الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تسوِّدُوا وجهي! ألا وقد رأیتموني وسمعتم مني وستسألون عني فمن كذب علي فلیتبوأ مقعده من النار. ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً، ومستنقَذٌ مني آخرون فأقول: یا رب أصحابي..الخ.»!

وفي مجمع الزوائد: 3/265، عن الرقاشي قال: «كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله في وسط أیام التشریق أذود عنه الناس فقال..».وفیه: «ألا لاترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض... أیها الناس: إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله... لایحل لامرئ من مال أخیه إلا ما طابت به نفسه. أیها الناس: إني تركت فیكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به». ولم یذكر الراوي أهل بیته:!

4- بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع بالأئمة الإثني عشر بعده

كان من الواضح للمسلمین أن ولایة الأمر بعد النبي (صلی الله علیه و آله) لعترته: فقد أمره الله تعالی أن یبلغ الأمة ولایتهم، علی سنته تعالی في أنبیائه السابقین الذین ورَّث عترتهم الكتاب والحكم، ذُرِّیةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ. «آل عمران: 34».

ص: 604

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَینَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَیرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِك هُوَ الْفَضْلُ الْكبِیرُ. فاطر: 32.

والذین اصطفاهم الله علي وأبناؤه من فاطمة:، والسابقون بالخیرات الأئمة المعصومون: منهم. والمقتصد: هو المؤمن بهم. والظالم لنفسه: من حسدهم وأنكرهم! ولا یستقیم معنی الآیة بتفسیر آخر.

وقد بَلَّغَ النبي (صلی الله علیه و آله) طوال نبوته ولایة عترته بالتدریج والحكمة، بالتلویح والتصریح، لعلمه بحسد قریش لهم، وقد روت مصادرهم أنه (صلی الله علیه و آله) بشر بالأئمة الإثني عشر في خطب حجة الوداع، لكنهم أبهموا وحذفوا منها! ففي صحیح بخاري: 8/127، عن: «جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) یقول: یكون اثنا عشر أمیراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قریش»!

وفي مسلم: 6/3: «لایزال الإسلام عزیزاً إلی اثني عشر خلیفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قریش»!

ثم روی ثانیة فیها: «ثم تكلم بشئ لم أفهمه».

وثالثة فیها: «لا یزال هذا الدین عزیزاً منیعاً إلی إثني عشر خلیفة، فقال كلمة صَمَّنِیها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قریش».

ولم یقل بخاري إن هذا الحدیث من خطب حجة الوداع! لكن عدداً من المصادر قالته، كمسند أحمد: 5/93 و96 و99: «عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعرفات». وفي/87: «یقول في حجة الوداع». وفي/99: «سمعت رسول الله یخطب بمنی». وهذا یعنی أنه (صلی الله علیه و آله) كرره في عرفات ومنی، ثم أعلنه صریحاً في غدیر خم!

وأصل الحدیث: اثنا عشر إماماً كلهم من أهل بیتي، «ففي مسند أحمد: 5/100 و107»، لكن السلطة لا ترید العترة فقال الراوي: «ثم قال كلمة لم أفهمها، قلت لأبي: ما قال؟ قال: قال كلهم من قریش». وفي الحاكم: 3/617: «وقال كلمة خفیت علي، وكان أبي أدنی إلیه مجلساً مني فقلت: ما قال؟ فقال كلهم من قریش».

ص: 605

وفي أحمد: 5/90 و 98، أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخفاها وخفض بها صوته وهمس بها همساً!

وفي الحاكم: 3/618: «ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال یا عم؟ قال: قال یا بني: كلهم من قریش».

وفي الطبراني الكبیر: 2/213و214: «قال (صلی الله علیه و آله): یكون لهذه الأمة اثنا عشر قیماً لایضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما الكلمة التي همس بها النبي؟ قال أبي: كلهم من قریش».

وقالت روایات أخری إن الذي ضیع الكلمة هم الناس، ولیس الراوي ولا النبي (صلی الله علیه و آله) ! فالناس المحرمون لربهم، المنتظرون لكل كلمة تصدر من نبیهم، صاروا عند الكلمة الحساسة مشاغبین! یلغطون، ویضجون، ویكبرون، ویتكلمون ویقومون ویقعدون!

ففي سنن أبي داود: 2/309: «قال: فكبر الناس وضجوا، ثم قال كلمة خفیة، قلت لأبي: یا أبة ما قال؟ قال: كلهم من قریش».

و مثله أحمد: 5/98. وفیه: «ثم قال كلمة أصَمَّنِیها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قریش». وفي روایة مسلم المتقدمة: «صَمَّنیها الناس».

وفي روایة أحمد: 5/93: «وضج الناس..ثم لغط القوم وتكلموا فلم أفهم قوله بعد كلهم». وفي نفس الصفحة: «لایزال هذا الدین عزیزاً منیعاً، ینصرون علی من ناواهم علیه إلی اثني عشر خلیفة. قال فجعل الناس یقومون ویقعدون...»!

فهل سمعت بأمة یودعها نبیها، ویبشرها بأن الله عزوجل حلَّ مشكلة القیادة فیها وعین اثني عشر إماماً ربانیاً، ثم لم یحدد لها هؤلاء الأئمة، لا بأسمائهم ولا بأسرتهم! بل جعلهم ضائعین في عشرین قبیلة! ولم یسأله أحد من أمته من هم؟!

إنها فضیحة وراءها قریش بكیدها وخططها ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته!

إن زعمهم أن الأئمة الربانیین ضاعوا فی قریش، هو نفس كلامهم في السقیفة حیث قالوا إن قریشاً تأبی أن تجمع لبني هاشم بین النبوة والخلافة، فیجب أن تدور الخلافة بین بطون قریش العشرین!وهم بتهمتهم للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه ضیع هویة الأئمة من بعده، یتهمون ربهم سبحانه وتعالی وینسبون الیه أنه جعل في هذه الأمة اثني عشر

ص: 606

إماماً مجهولین في عشرین قبیلة! وأشعل الصراع بین هذه القبائل علی الخلافة ورئاسة الدولة، خاصة وهم یتحاربون سنین علی فرس وبعیر!

فالصحیح أن النبي (صلی الله علیه و آله) حددهم بعترته: وسماهم: علیاً والحسن والحسین وتسعة من ذریة الحسین:، لكنهم تعمدوا تضییعهم!

وقد قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «أین الذین زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغیاً علینا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم!

بنا یستعطی الهدی، ویستجلی العمی. إن الأئمة من قریش، غرسوا فی هذا البطن من هاشم، لاتصلح علی سواهم ولا تصلح الولاة من غیرهم «نهج البلاغة: 1/82 و 2/27». وقال (علیه السلام) أیضاً: «والله ما تنقم منا قریش إلا أن الله اختارنا علیهم، فأدخلناهم في حیزنا، فكانوا كما قال الأول:

أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً *** وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا

ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ *** علیاً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْر.

هذا، وقد تحیر الشراح السنیون في الأئمة الإثني عشر، وحاولوا تطبیقهم علی خلفائهم فلم یستطیعوا! واعترف ابن العربي المالكی المتوفی سنة543 في عارضة الأحوذي، بأن تطبیق الحدیث علی خلفائهم لایصح!

كما أخفوا أحادیث أن الأئمة من أهل البیت (صلی الله علیه و آله)، وأحرقوها، أو أنكروها.

قال ابن مسعود: «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسین، والتاسع مهدیهم».كفایة الأثر/33.

وقد كتبنا رسالة خاصة في: «بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) بالأئمة الإثني عشر:».

5- تحذیر النبي (صلی الله علیه و آله) لقریش والصحابة أن یطغوا بعده

سبب التحذیر النبوي أن قریشاً لها موقع القیادة في العرب، فقبائل العرب تَبَعٌ لها، والخطر الذي یخشاه علی أهل بیته إنما هو من قریش وحدها، والتحریف الذي یخشاه علی الإسلام، والظلم علی المسلمین، إنما هو من قریش وحدها!

ص: 607

لذا قال لهم (صلی الله علیه و آله): «یا معشر قریش لاتجیؤوا بالدنیا تحملونها علی رقابكم، وتجئ الناس بالآخرة، فإني لا أغنی عنكم من الله شیئاً».

وهذا نفس تحذیره (صلی الله علیه و آله) للصحابة من الصراع علی السلطة كقوله: «ویحكم أو ویلكم لاترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض».«ابن ماجة: 2/1300». وقوله (صلی الله علیه و آله): «لاترجعوا بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض بالسیف علی الدنیا فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ».تفسیر القمي: 1/1717.

فأخبرهم أنهم سیفعلون! واستعمل بلاغته (صلی الله علیه و آله) وكل موجبات الخوف والحذر لیقیم علیهم الحجة فلایقولون یوم القیامة: لماذا لم تحذرنا؟! فالذین حذرهم صحابته فقط! لا الیهود، ولا الروم، ولا القبائل العربیة، ولا حتی زعماء قریش بدون شركائهم

من الصحابة!

ذلك أن الخوف من الإقتتال بعده لیس من القبائل التی خضعت للإسلام طوعاً أو كرهاً، فهي مهما كانت كبیرة وموحدة مثل هوازن وغطفان..لاتطمح إلی قیادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة!

والیهود انكسروا وأجلی النبي (صلی الله علیه و آله) قسماً منهم من الجزیرة، ولم تبق لهم قوة عسكریة تذكر، ومكائدهم لاحظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة، الذین تعاهدوا معهم سراً! سَنُطِیعُكمْ فِی بَعْضِ الأمر وَاللهُ یعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. محمّد: 26.

وزعماء قریش في مكة، مع أنهم یملكون نحو ثلاثة آلاف مقاتل، لكنهم لا طریق لهم الی قیادة الدولة إلا بالصحابة القرشیین! فلایستطیعون أن یدَّعوا حقاً في قیادة دولة النبي (صلی الله علیه و آله) التي كانوا أعداؤها! لهذا كان تحذیره (صلی الله علیه و آله) من الصراع علی السلطة بعده، محصوراً بهؤلاء الصحابة المهاجرین، ثم بالأنصار فقط!

لكنك تقرأ في مصادر السلطة عشرات الأحادیث في مدح قریش، وأن القیادة لهم دون غیرهم! ولا تری من أحادیث تحذیره لهم إلا ما أفلت من الرقابة، فقد حرفوها أو جعلوها تحذیراً لبني هاشم بأن لا یطمعوا في الدنیا، لأنه لایغني عنهم من الله شیئاً! صحیح بخاري: 6/17.

ص: 608

أو جعلوها تحذیراً لفاطمة (علیها السلام) بأنها لو سرقت لقطع یدها! «صحیح بخاري: 4/151و 5/97 و 8/16». وتحذیراً لبني عبدالمطلب، بنحو هذا!

ومما أفلت وكان حجة دامغة وما زال، تحذیر النبي (صلی الله علیه و آله) لصحابته في حجة الوداع رسمه ببلاغته النبویة لوحةً خالدة لاتنقصها إلا الأسماء، أظهرت المصیر الجهنمي الذي یمشي إلیه هؤلاء الصحابة! ورسم مجیئهم الی حوض الكوثر یوم المحشر، فیأتي النداء الإلهي بمنعه من الشفاعة لهم ومنعهم من ورود الحوض، ثم یؤمر بهم إلی جهنم!

إنها صورة رهیبة نزل بها جبرئیل (علیه السلام) لیبلغها النبي (صلی الله علیه و آله) إلی الأمة في حجة الوداع! تجسد الكارثة علی صحابته، جزاءً لهم علی الكارثة التي سینزلونها في أمته بعده! ولا ینجو من هؤلاء المجرمین إلا مثل«هَمَل النَّعم» كما في روایة بخاري، أي الغنم المنفردة عن القطیع! ومعناه أن قطیع الصحابة في النار، ولا یفلت منهم إلا قلة مخالفون لرأي جمهورهم!

وهي حقیقةٌ مذهلةٌ، صعبة التصدیق علی المسلم السني المسكین، الذي رباه أبواه علی حب كل الصحابة، وخیر القرون، والجیل الفرید، والصحابة العدول، وأصحابي كالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم.. وزرعوا في ذهنه من صغره الصور المثالیة لزید وعمرو، فإذا به یفاجأ بصورة مرعبة عنهم!

ولو كان المتكلم غیر رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما تردد السني في الحكم علیه بأنه عدو الإسلام، یرید أن یكید له بالطعن في صحابة رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله) !

ولو كان الراوي غیر البخاري، لما ترددوا في تضعیف حدیثه واتهامه!

لكن المتكلم هو الرسول (صلی الله علیه و آله) یخبر عن وحي ربه عزوجل، وعن حدث سوف یحدث لامحالة!

والراوي للكارثة البخاري الذي أعطوا كتابه درجة العصمة من الجلد الی الجلد!

إنها جرعةٌ مُرَّةٌ مذهلة للسني المسكین، الذي تعلَّم أن الحقیقة دائماً حلوة، وأن الحق دائماً مفصلٌ علی قامة الصحابة!

ص: 609

ولم یكتف النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك، حتی أوقف المسلمین في الجحفة وأخذ بید علي وأعلنه إماماً بعده، وجعل له الولایة علی أمته، ونصب له خیمة وأمرهم أن یسلموا علیه بإمرة المؤمنین، ویباركوا له ولایته علیهم، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له، وأمر نساءه أن یهنئنه فجئن إلی باب خیمته وهنأنه وباركن له!

ثم أراد النبي (صلی الله علیه و آله) قبیل وفاته، أن یبعد هؤلاء الصحابة بعیداً عن المدینة، فأرسلهم جمیعاً فی جیش أسامة الی مؤتة قرب القدس، وكان الجیش ثلاثة آلاف فیهم سبع مئة من قریش الطلقاء والمهاجرین. لكنهم اعترضوا علی قیادة أسامة بن السبع عشرة سنة، وسوفوا وتعللوا لمدة أسبوعین حتی توفي النبي (صلی الله علیه و آله) !

ثم أراد النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته، أن یؤكد علیهم الحجة بوثیقة مكتوبة، فطلب منهم أن یأتوه بدواة وقرطاس، لیكتب لهم كتاباً لن یضلوا بعده أبداً.

ولكنهم رفضوا ذلك بشدة، ورفعوا في وجهه القرآن فقالوا له: حسبنا كتاب الله! ومعناه: أیها الرسول لانرید أن تكتب لنا أطیعوا بعدي علیاً، ثم أولاد ابنتي فاطمة حسناً ثم حسیناً، ثم تسعة من ذریة الحسین!

وغضبوا ولغطوا وصاحوا بالحاضرین: لاتقربوا له دواة ولا قرطاساً!

فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وطردهم، وقال لهم: قوموا عني فما أنا فیه من اعترافكم بنبوتي خیر مما تدعونني الیه لأن أصرَّ علیكم، فتعلنوا الردة!

فاعجب لأمة تنقلب علی نبیها في حیاته!

6- عقوبة المخالفین لوصیة النبي (صلی الله علیه و آله) في عترته (علیهم السلام)

من الأسالیب النبویة المبتكرة في خطب حجة الوداع، أنه (صلی الله علیه و آله) بعد حدیثه عن

أهل بیته:، أعلن مبدأ: «لعن من ادعی إلی غیر أبیه، أو تولی غیر موالیه»!

ففي مسند أحمد: 4/186: «خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو علی ناقته فقال: ألا إن الصدقة لاتحل لي ولا لأهل بیتي، وأخذ وبرة من كاهل ناقته فقال: ولا ما یساوي هذه، أو ما یزن هذه. لعن الله من ادُعيَ إلی غیر أبیه، أو تولی غیر موالیه»! وسیأتي في فصل جیش أسامة تفسیر النبي (صلی الله علیه و آله) لهذه اللعنة بأنها علی من ترك ولایة أهل بیته.

ص: 610

7- قریش تكتب معاهدة لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) من بني هاشم

كانت قریش في حجة الوداع مستنفرة خوفاً من فرض النبي (صلی الله علیه و آله) خلافة عترته! وكان المتآمرون لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في طریق تبوك موجودین معه في حجة الوداع! وقد فرحوا لأنه (صلی الله علیه و آله) لم یستطع أن یكشف أسماءهم، ولا أن یعاقبهم علی مؤامرة تبوك! واعتبروا ذلك انتصاراً بالحد الأدنی علیه (صلی الله علیه و آله) ! وكانوا یرون أنه ماضٍ في تركیز خلافة علي، فقد أشاد به في طریق تبوك، وفي المدینة بعد عودته، وسحب سورة براءة من أبي بكر وبعثه بها، لأن جبرئیل (علیه السلام) أمره بأنه لایبلغ عنه إلا هو أو رجل منه! ثم أشركه في أضاحیه لأنهما من ولد عبدالمطلب، وجعلها مئة ناقة علی عدد نذر عبدالمطلب عن أبیه عبدالله:.

ثم خص ابنته فاطمة (علیها السلام) بأضحیة وقال لها قومي فاشهدي أضحیتك، «المغني: 1/156» بینما ذبح عن كل نسائه بقرة المغني: 3/501.

وتواصلت أحادیثه في مدح علي وفاطمة والحسن والحسین:، فقال إن فاطمة سیدة نساء العالمین، والحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة، وإنهما إمامان قاما أو قعدا، وإن علیاً أسد الله وأسد رسوله، وولي المؤمنین بعده.

ثم أكد علی میزانیة«الخمس» التي شرعت من أول الهجرة لبني هاشم خاصة لینزههم عن الزكوات التی هي أوساخ الناس، وهذا أقصی الرفعة لهم!

ثم لم یرض بذلك حتی قرن عترته بالقرآن وأوصیٰ بهما الأمة، ثم بشر باثنی عشر إماماً ربانیین من عترته، أي أن إمامتهم من الله! فماذا بقي لقبائل قریش؟!

ثم تراه یتعمد الحدیث عن ظلم قریش ومحاصرتهم له ولبني هاشم سنین في شعب أبي طالب، فقد أعلن یوم الترویة: «منزلنا غداً إن شاء الله تعالی بخیف بني كنانة حیث تقاسموا علی الكفر».«صحیح بخاري: 2/158» ثم كرره بعد عرفات، «بخاري: 4/247». وكان أكد علیه یوم فتح مكة!

فلا حل عند قریش فی مواجهة هذا الإصرار النبوي إلا مواصلة العمل لقتل محمد! فإن لم یمكن فبالحیلولة بینه وبین إعلان علي خلیفة، بالتشویش علی

ص: 611

كلامه وبالقول للناس إنه لم یقل، وبالتهدید بإعلان الردة عندما یلزم ذلك!

وهو الأمر الذي یخاف منه النبي (صلی الله علیه و آله) كثیراً!

إن قراءة نصوص خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في عرفات حتی بروایة السلطة، یكفي لمعرفة الجو الذي أوجدته قریش حول النبي (صلی الله علیه و آله)، وكیف كانت تترقب كلماته لتشوش علی ما لایناسبها وترفضه، وتأخذ ما یناسبها وتضخمه!

فقد كان یوم عرفات أهدأ مكان وأنسبه لأن یوصل النبي (صلی الله علیه و آله) ما یریده الی المحرمین الواقفین لربهم، فركب ناقته لیشاهدوه ویسمعوه، وكان صوته یصل الی أكثرهم، ودعا برجل جهوري الصوت فكان یُلقي الجملة ویقول له: أُصرخ بها، فیصرخ ویسمعها من لم یسمعها مباشرة.

لكن ما إن بشر أمته بالأئمة الإثني عشر من عترته، حتی ارتفعت الضجة واللغط«فضجوا وقاموا وقعدو وكبروا ولغطوا» وقال راوي قریش إن النبي قال: اثنا عشر إماماً، ثم قال كلمة لم أفهمها فسألت عمر فقال: كلهم من قریش!

قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «إن العرب كرهت أمر محمد (صلی الله علیه و آله) وحسدته علی ما آتاه الله من فضله واستطالت أیامه! حتی قذفت زوجته ونفرت به ناقته، مع عظیم إحسانه إلیها وجسیم مننه عندها! وأجمعت مذ كان حیاً علی صرف الأمر عن أهل بیته بعد موته»! شرح النهج: 20/298.

ولم تكتف قریش بأعمالها لعزل العترة، فكتبت معاهدة بذلك فی الكعبة!

ففي الكافي: 4/545: عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كنت دخلت مع أبي الكعبة فصلی علی الرخامة الحمراء بین العمودین فقال: في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو قتل ألایردوا هذا الأمر في أحد من أهل بیته أبداً! قال قلت: ومن كان؟قال: كان الأول والثاني وأبو عبیدة بن الجراح وسالم بن الحبیبة»!

ففي تفسیر القمي: 1/173«فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا یرید محمد أن یجعل الإمامة في أهل بیته! فخرج أربعة نفر منهم إلی مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فیما بینهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لایردُّوا هذا الأمر في أهل بیته أبداً.».

ص: 612

وفي الإستغاثة: 2/66: «وكتبوا بینهم صحیفة بذلك، ثم جعلوا أبا عبیدة بینهم أمیناً علی تلك الصحیفة، وهي الصحیفة التي روت العامة أن أمیر المؤمنین دخل علی عمر وهو مسجی فقال: ما أبالي أن ألقی الله بصحیفة هذا المسجی، وكان عمر كاتب الصحیفة فلما أودعوه الصحیفة خرجوا من الكعبة الشریفة ودخلوا المسجد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) فیه جالساً فنظر إلی أبي عبیدة فقال: هذا أمین هذه الأمة علی باطلها! یعني أمین النفر الذین كتبوا الصحیفة! فروت العامة أن رسول الله قال: أبوعبیدة أمین هذه الأمة»!

والمعنی أن النبي (صلی الله علیه و آله) قالها باستنكار، ولیس مدحاً لأبي عبیدة!

وعُرفت الصحیفة التی كتبوها فی حجة الوداع بالصحیفة الملعونة الثانیة، والأولی صحیفة مقاطعة المشركین لبني هاشم حتی یسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) !

وفي مختصر بصائر الدرجات/19: «عن أبان بن تغلب عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال إنه بلغ رسول الله عن بطنین من قریش كلام تكلموا به فقالوا: یری محمد أن لو قد قضی أن هذا الأمر یعود فی أهل بیته من بعده! فأعلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك فباح في مجمع من قریش بما كان یكتمه فقال: كیف أنتم معاشر قریش وقد كفرتم بعدي ثم رأیتموني في كتیبة من أصحابي أضرب وجوهكم ورقابكم بالسیف؟!

قال: فنزل جبرئیل فقال: یا محمد قل إن شاء الله أو یكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أو یكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله.فقال جبرئیل: واحدة لك واثنتان لعلي بن أبي طالب، وموعدكم السلم! قال أبان: جعلت فداك وأین السلم؟ فقال: یا أبان السلم من ظهر الكوفة».

وفي تفسیر العیاشي: 1/334: «عن أبي عبدالله (علیه السلام) في قول الله: وَحَسِبُوا أَلا تَكونَ فِتْنَةٌ

قال: حیث كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) بین أظهرهم.فَعَمُوا وَصَمُّوا: حیث قبض رسول الله! ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَیهِمْ: حیث قام أمیر المؤمنین (علیه السلام).قال: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا.. إلی الساعة»!

وسیأتي أن أبي بن كعب (رحمة الله) كان یسمیهم أصحاب العقدة!

ص: 613

8 - نتیجة حجة الوداع عند قریش وعند النبي (صلی الله علیه و آله)

كان زعماء قریش یتكلمون عن خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) ومیله الی ابن عمه وعترته وكأنهم لم یشموا رائحة الإسلام! وكأن محمداً (صلی الله علیه و آله) هو الذي یعطي الإمامة والخلافة من عنده، فأعطاها لبني هاشم تعصباً لهم وظلماً لقبائل قریش!

واعتبر القرشیون أن حجة الوداع مرَّت بسلام، فقد تحدث النبي (صلی الله علیه و آله) كثیراً عن عترته، والأئمة منهم الی آخر الدهر.. الخ. لكن كانوا مرتاحین لأنه لم یطلب منهم أن یبایعوا علیاً كبیر أهل البیت بصفته الإمام الأول من أئمة العترة:.

أما النبي (صلی الله علیه و آله) فاعتبر أنه بلَّغَ رسالة ربه في عترته بأقصی ما یمكنه، وأن قریشاً لا تتحمل أكثر من ذلك! ولو طلب منها بیعة علي بعده، لطعنت في نبوته وقالت إنه ینطق عن الهوی، ویرید إقامة ملك لبني هاشم كملك كسری وقیصر، وقادت حركة ردة في العرب بتخویفهم من ملك بني هاشم بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، لأنه ملك یبدأ بعلي وهو في الثلاثینات من عمره، ثم یكون للحسن والحسین وهما دون العاشرة، ثم لایخرج من أبناء فاطمة إلی یوم القیامة، وتكون بطون قریش محكومة لبني هاشم ولایكون لها شئ!

لذلك أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن یؤخر بقیة تفسیره للولایة وإعلانه علیاً (علیه السلام) خلیفته الی المدینة، لكن جاءه الأمر الإلهی بأن یبلغ ذلك في طریق عودته من حجة الوداع عند غدیر خم، ووعده بعصمته من الناس وحفظ نبوته، فصدع بأمر ربه.

ففي الكافي: 1/289، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أمر الله عزوجل رسوله بولایة علي وأنزل علیه: إِنَّمَا وَلِیكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یقِیمُونَ الصَّلَوةَ وَیؤْتُونَ الزَّكاةَ وفرض ولایة أولي الأمر فلم یدروا ما هي؟ فأمر الله محمداً (صلی الله علیه و آله) أن یفسر لهم الولایة كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج.

فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وتخوف أن یرتدوا عن دینهم وأن یكذبوه! فضاق صدره وراجع ربه عزوجل فأوحی الله عزوجل إلیه: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ.. فصدع بأمر الله تعالی ذكره، فقام بولایة علي (علیه السلام) یوم غدیر خم، فنادی الصلاة جامعة، وأمر

ص: 614

الناس أن یبلغ الشاهد الغائب.

وقال أبوجعفر (علیه السلام): وكانت الفریضة تنزل بعد الفریضة الأخری وكانت الولایة آخر الفرائض، فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي. قال أبوجعفر (علیه السلام): یقول الله عزوجل: لا أنزل علیكم بعد هذه فریضة، قد أكملت لكم الفرائض».

وفي تفسیر العیاشي: 1/331، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله قالا: «أمر الله تعالی نبیه محمداً (صلی الله علیه و آله) أن ینصب علیاً (علیه السلام) علماً للناس ویخبرهم بولایته، فتخوف رسول الله أن یقولوا حابی ابن عمه، وأن یطعنوا في ذلك علیه! فأوحی الله إلیه: یاأَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ.. فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بولایته یوم غدیر خم».

وفي إقبال الأعمال: 2/241: «فخرجنا إلی مكة مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع، فنزل جبرئیل فقال: یا محمد إن ربك یقرئك السلام ویقول: أنصب علیاً علماً للناس! فبكی النبي (صلی الله علیه و آله) حتی اخضلت لحیته وقال: یا جبرئیل إن قومي حدیثو عهد بالجاهلیة، ضربتهم علی الدین طوعاً وكرهاً حتی انقادوا لي، فكیف إذا حملت علی رقابهم غیري، قال: فصعد جبرئیل».

أقول: نصَّ حدیث الإمام الباقر (علیه السلام) علی أن فریضة الولایة لأولي الأمر من أهل البیت (علیهم السلام) نزلت فی المدینة قبل حجة الوداع، فأمر الله نبیه (صلی الله علیه و آله) بتفسیرها للمسلمین، لأن آیة: یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأمر مِنْكمْ..

في سورة النساء، وقد نزلت قبل حجة الوداع. وكانت أحادیث النبي (صلی الله علیه و آله) في حق علي والعترة: تفسیراً لها، ومنها بشارته بالأئمة الإثني عشر: في حجة الوداع.

ومعنی قوله (علیه السلام): «وراجع ربه عزوجل فأوحی الله عزوجل إلیه: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ..أنه قال لجبرئیل إن قومي حدیثو عهد بالإسلام وأخشی أن یرتدوا! فسكت جبرئیل ففهم منه الرخصة بأن یواصل خطته التدریجیة في التفسیر، حتی نزل جبرئیل (علیه السلام) فی غدیر خم بآیة التبلیغ، وفیها تشدید علی التبلیغ ووعد بعصمته من ارتداد الناس عن نبوته! فأمر حینئذ بإیقاف المسلمین وبلغهم أمر ربه.

ص: 615

الفصل الحادي والسبعون: بیعة علي (علیه السلام) یوم الغدیر

1- حدیث الغدیر في بیعة علي (علیه السلام) صحیح متواتر عندهم

حدیث الغدیر یهز المنكرین ویحیرهم، لأنه عندهم صحیحٌ متواترٌ، خاصة أنه حدث مستقل. وقد سمعت أحد علماء السلطة یقول متعجباً: لم یكن للنبي (صلی الله علیه و آله) أي شغل ولا هدف آخر في نزوله وخطبته في غدیر خم، إلا البیعة لعلي!

ومن أصح روایاته عندهم حدیث أبي هریرة في فضل صوم یوم الغدیر شكراً لله تعالی، ونصه: «من صام یوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صیام ستین شهراً وهو یوم غدیر خم لما أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بید علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنین؟ قالوا: بلی یا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك یا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولی كل مسلم!فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا».تاریخ دمشق: 42/233، تاریخ بغداد: 8/248 والمنتظم:5/233.

وقد استقصی السید المیلاني مصادره، وكلماتهم فیه، في نفحات الأزهار: 8/262.

وأورد الأمیني في الغدیر: 1/236 عدداً من علماء السنة رووه، وقال: «روایة أبي هریرة صحیحة الإسناد عند أساتذة الفن، منصوص علی رجالها بالتوثیق..

ومع صحة حدیث تاریخ بغداد ودمشق، علی شرط البخاري ومسلم، فقد حاول الذهبي الطعن فیه بدون دلیل، إلا التعصب»!

ص: 616

وأما ابن كثیر فزوَّر الحدیث وكذب جهاراً نهاراً، فزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) بین في خطبته یوم الغدیر أشیاء، ثم عالج مشكلة كانت بین علي وكثیر من الناس! وكلاهما كذب، فلم یبین فیها إلا ما یتصل بولایة علي (علیه السلام)، ولم یكن فیها أي معالجة للمشكلة المزعومة بین علي (علیه السلام) وأحد من الصحابة!

قال في النهایة: 5/408: «لما تفرغ النبي من بیان المناسك ورجع إلی المدینة خطب خطبة عظیمة الشأن في الیوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدیر خم، تحت شجرة هناك، فبین فیها أشیاء، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إلیه، وأزاح به ما كان في نفوس كثیر من الناس منه، وقد اعتنی بأمر حدیث غدیر خم أبوجعفر الطبري، فجمع فیه مجلدین، وأورد فیها طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبیر أبوالقاسم بن عساكر أورد أحادیث كثیرة فی هذه الخطبة». یحاول بذلك ابن كثیر أن یصوِّر القضیة بأن كثیراً من المسلمین كانوا غاضبین علی علي متحاملین علیه، فأوقفهم النبي (صلی الله علیه و آله) في غدیر خم لیرضِّیهم عنه ویزیح «ما في نفوس كثیر من الناس منه»! و«أشیاء» من هذا القبیل!

وارتكب العجلوني شبیهاً بتزویر ابن كثیر «كشف الخفاء: 2/258» ونقل تكذیب الذهبي للحدیث بدلیل واهٍ ولم یؤیده، لكنه لم یذكر أسانیده الصحیحة!

وارتكب التحریف قبلهم الحسن البصري، وهو من رواة السلطة القدماء، لكن المحرفین جمیعاً لم یبلغوا جنایة ابن كثیر!ولهذا یحبه الوهابیة، وینشرون كتبه؟!

ومن روایاته الصحیحة عندهم، ما رواه مسلم في صحیحه: 7/122: «عن یزید بن حیان قال: انطلقت أنا وحصین بن سبرة وعمر بن مسلم إلی زید بن أرقم فلما جلسنا إلیه قال له حصین: لقد لقیت یا زید خیراً كثیراً، رأیت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسمعت حدیثه، وغزوت معه، وصلیت خلفه، لقد لقیت یا زید خیراً كثیراً. حدثنا یا زید ما سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله). قال: یا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، ونسیت بعض الذي كنت أعي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا، فلا تكلفونیه. ثم قال: قام رسول الله

ص: 617

یوماً فینا خطیباً بماء یدعی خمّاً بین مكة والمدینة، فحمد الله وأثنی علیه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أیها الناس، فإنما أنا بشر یوشك أن یأتي رسول ربي فأجیب، وأنا تارك فیكم ثقلین: أولهما كتاب الله فیه الهدی والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث علی كتاب الله ورغب فیه، ثم قال: وأهل بیتي، أذكركم الله فی أهل بیتي ثلاثاً، فقال له حصین: ومن أهل بیته یا زید؟ ألیس نساؤه من أهل بیته؟ قال: نساؤه من أهل بیته؟! ولكن أهل بیته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقیل وآل جعفر وآل عباس.قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم». «ورواه أحمد: 2/366، الحاكم: 2/148»، وفیهما وإنهما لن یتفرقا حتی یردا علی الحوض. وهو إخبارٌ بوجود إمام من أهل بیته (صلی الله علیه و آله) إلی یوم القیامة.

2- جبرئیل ینزل بآیة التبلیغ ویوقف قافلة النبي (صلی الله علیه و آله)

كان جبرئیل (علیه السلام) ینزل علی النبي (صلی الله علیه و آله) بأوامر ربه طوال حجة الوداع، وقد یملی علیه عبارات من خطبه. وكان قال له في المدینة: إن الله عزوجل یقول لك إنه قد دنا أجلك، ویأمرك أن تدل أمتك علی ولیهم، فاعهد عهدك واعمد الی ماعندك من العلم ومیراث الأنبیاء فورثه علیاً وأقمه للناس علماً، فإني لم أقبض نبیاً من أنبیائي إلا بعد إكمال دیني، ولم أترك أرضي بغیر حجة علی خلقي.. الخ.

ففی دعائم الإسلام: 1/14، أن رجلاً قال للإمام الباقر (علیه السلام): «یا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري، وخشیت أن یكذبني الناس، فتواعدني إن لم أبلغها أن یعذبني؟ قال له أبوجعفر: فهل حدثكم بالرسالة؟ قال: لا، قال: أما والله إنه لیعلم ما هي ولكنه كتمها متعمداً! قال الرجل: یا ابن رسول الله جعلني الله فداك وما هي؟ فقال: إن الله تبارك وتعالی أمر المؤمنین بالصلاة في كتابه، فلم یدروا ما الصلاة ولا كیف یصلون، فأمر الله عزوجل محمداً نبیه (صلی الله علیه و آله) أن یبین لهم كیف یصلون، فأخبرهم بكل ما افترض الله علیهم من الصلاة مفسَّراً، وفرض الصلاة في القرآن جملة، ففسرها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی سنته وأعلمهم بالذي أمرهم به من الصلاة التي فرض الله علیهم. وأمر بالزكاة فلم

ص: 618

یدروا ما هي ففسرها رسول الله وأعلمهم بما یؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع، ولم یدع شیئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته وبینه لهم. وفرض علیهم الصوم فلم یدروا ما الصوم ولا كیف یصومون، ففسره لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبین لهم ما یتقون في الصوم وكیف یصومون. وأمر بالحج فأمر الله نبیه (صلی الله علیه و آله) أن یفسر لهم كیف یحجون حتی أوضح لهم ذلك فی سنته.

وأمر الله عزوجل بالولایة فقال: إِنَّمَا وَلِیكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یقِیمُونَ الصَّلَوةَ وَیؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ. ففرض الله ولایة ولاة الأمر فلم یدروا ما هي، فأمر الله نبیه (علیه السلام) أن یفسر لهم ما الولایة مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله عزوجل ضاق به رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذرعاً وتخوف أن یرتدوا عن دینه وأن یكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه فأوحی إلیه: یاأَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ، فصدع بأمر الله وقام بولایة أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب صلوات الله علیه یوم غدیر خم ونادی لذلك: الصلاة جامعة وأمر أن یبلغ الشاهد الغائب.وكانت الفرائض ینزل منها شئ بعد شئ، تنزل الفریضة ثم تنزل الفریضة الأخری. وكانت الولایة آخر الفرائض فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا، قال أبوجعفر: یقول الله عزوجل: لاأنزل علیكم بعد هذه الفریضة فریضة، قد أكملت لكم هذه الفرائض».

ونحوه في: 2/276، وفیه: «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا جبرائیل أمتي حدیثة عهدٍ بجاهلیة، وأخاف علیهم أن یرتدوا، فأنزل الله عزوجل: یاأَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك - في علي- وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ. فلم یجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بداً من أن جمع الناس بغدیر خم فقال: أیها الناس إن الله عزوجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن یعذبني، أفلستم تعلمون أن الله عزوجل مولاي وأني مولی المسلمین وولیهم وأولی بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلی، فأخذ بید علي (علیه السلام) فأقامه ورفع یده بیده وقال: فمن كنت مولاه

ص: 619

فعلي مولاه، ومن كنت ولیه فهذا علي ولیه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حیث دار. ثم قال أبوجعفر (علیه السلام): فوجبت ولایة علي (علیه السلام) علی كل مسلم ومسلمة».

ونحوه العیاشي: 1/333، وفیه: «فقام إلیه رجل من أهل البصرة یقال له عثمان الأعشی، كان یروي عن الحسن البصری..إلی آخر ما تقدم».

وفي شرح الأخبار: 1/104: «قال جعفر بن محمد (علیه السلام) عن أبیه عن آبائه صلوات الله علیهم أجمعین: إن آخر ما أنزل الله عزوجل من الفرائض ولایة علي (علیه السلام) فخاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن بلغها الناس أن یكذبوه ویرتد أكثرهم حسداً له، لما علمه في صدور كثیر منهم له! فلما حج حجة الوداع وخطب بالناس بعرفة، وقد اجتمعوا من كل أفق لشهود الحج معه، علمهم في خطبته معالم دینهم وأوصاهم وقال فی خطبته: إني خشیت ألا أراكم ولا تروني بعد یومي هذا في مقامي هذا، وقد خلفت فیكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بیتي فإنهما لن یفترقا حتی یردا عَلَيَّ الحوض، حبل ممدود من السماء إلیكم طرفه بید الله وطرفه بأیدیكم، وأجمل (صلی الله علیه و آله) ذكر الولایة في أهل بیته إذ علم أن لیس فیهم أحد ینازع فیها علیاً (علیه السلام) وأن الناس إن سلموها لهم سلموها لعلي (علیه السلام)، واتقی علیه وعلیهم أن یقیمه هو بنفسه. فلما قضی حجه وانصرف وصار إلی غدیر خم أنزل الله عزوجل علیه: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ، فقام بولایة علي (علیه السلام) ونص علیه كما أمر الله تعالی فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِیناً».

3- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) یوم الغدیر

جاءه جبرئیل (علیه السلام) بآیة التبلیغ وهو في كراع الغمیم، لخمس ساعات مضت من النهار، فخشع لربه وتَسَمَّرَ في مكانه، وأصدر أمره إلی المسلمین بالتوقف، وكان أولهم قد وصل إلی مشارف الجحفة، وهي بلدةٌ عامرة علی بعد میلین أو أقل، لكنه (صلی الله علیه و آله) أراد تنفیذ الأمر الإلهي فوراً في المكان الذی نزل فیه الوحي، ونادی منادیه:

ص: 620

أیها الناس أجیبوا داعي الله، وأمرهم أن یوقفوا من تأخر من المسلمین ویردوا من تقدم منهم. وتقدم نحو دوحة غدیر خم وأمرهم أن یكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبته وللصلاة في ذلك الهجیر، فنصبوا له أحجاراً كهیئة المنبر، ووضعوا علیها حدائج الإبل فصارت أكثر ارتفاعاً، ووردوا ماء الغدیر فشربوا منه وتوضؤوا. ولم یتسع لهم المكان تحت دوحة الغدیر، وكانت ستَّ أشجارٍ كبیرة، فجلس بعضهم في الشمس، أو استظل بناقته.

عرفوا أن أمراً حدث، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) سیخطب، فقد نزل علیه وحي أوجب أن یوقفهم في هذا الهجیر، قبل محطة الجحفة القریبة! وصعد (صلی الله علیه و آله) منبر الأحجار والأحداج، وبدأ باسم الله تعالی وأخذ یرتل قصیدته في حمده والثناء علیه، ویشهد الله تعالی والناس علی عبودیته المطلقة لربه العظیم عزوجل. ثم قدم لهم عذره لأنه اضطر أن ینزلهم في مكان قلیل الماء والشجر، ولم یمهلهم إلی الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبیرة، وكلفهم الإستماع إلیه في حر الظهیرة!

أخبرهم (صلی الله علیه و آله) أن جبرئیل (علیه السلام) أمره أن یفسر للمسلمین فریضة الولایة ویقیم علیاً إماماً بعده للناس، قال لهم: إن الله عزوجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وخفت الناس أن یكذبوني، فقلت في نفسي من غیر أن ینطق به لسانط: أمتي حدیثو عهد بالجاهلیة ومتی أخبرتهم بهذا في ابن عمي، یقول قائل ویقول قائل! فأتتني عزیمة من الله بَتْلة«قاطعة» في هذا المكان وتوعدني إن لم أبلِّغها لیعذبني! وقد ضمن لي العصمة من الناس وهو الكافي الكریم، فأوحی إليّ: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ، ثم قال (صلی الله علیه و آله): «لاإله إلا هو، لایؤمن مكره، ولا یخاف جوره أقرُّ له علی نفسي بالعبودیة وأشهد له بالربوبیة، وأؤدي ما أوحی إليّ حذراً من أن لاأفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لایدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حیلته.

أیها الناس: إني أوشك أن أدعی فأجیب، فما أنتم قائلون؟

فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت.

ص: 621

فقال: ألیس تشهدون أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق؟

قالوا: بلی یا رسول الله. فأومأ رسول الله إلی صدره وقال: وأنا معكم.

قال (صلی الله علیه و آله): أنا لكم فرط وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته ما بین صنعاء إلی بصری، فیه عدد الكواكب قِدْحان، ماؤه أشد بیاضاً من الفضة، فانظروا كیف تخلفوني في الثقلین. فقام رجل فقال: یا رسول الله وما الثقلان؟

قال: الأكبر كتاب الله طرفه بید الله وسبب طرفه بأیدیكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا. والأصغر: عترتي أهل بیتي أذكركم الله في أهل بیتی«ثلاثاً»وإنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض، سألت ربي ذلك لهما، فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

أیها الناس: ألستم تعلمون أن الله عزوجل مولاي وأنا مولی المؤمنین وأني أولی بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلی یا رسول الله.

قال: قم یا علي، فقام علي عن یمین النبي (صلی الله علیه و آله) فأخذ بیده ورفعها حتی بان بیاض إبطیهما، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حیث دار.

فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولیاً وإماماً مفترضةً طاعته علی المهاجرین والأنصار، وعلی التابعین لهم بإحسان، وعلی البادي والحاضر، وعلی الأعجمي والعربي، والحر والمملوك والصغیر والكبیر.

فقام أحدهم فسأله وقال: یا رسول الله ولاؤه كماذا؟ فقال (صلی الله علیه و آله): ولاؤه كولائي، من كنت أولی به من نفسه فعلي أولی به من نفسه»!

وأفاض النبي (صلی الله علیه و آله) في بیان مكانة علی والعترة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسین وتسعة من ذریة الحسین واحدٌ بعد واحد مع القرآن والقرآن معهم، لایفارقونه ولا یفارقهم حتی یردوا علی حوضي.

ثم أشهد المسلمین مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه، فشهدوا له، وأمرهم أن یبلغ الشاهد

ص: 622

الغائب، فوعدوه. وقام إلیه آخرون فسألوه، فأجابهم.

وما إن أتم خطبته حتی نزل جبرئیل بقوله تعالی: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا، فكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: الله أكبر علی إكمال الدین وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي وولایة علي بعدي. ونزل عن المنبر وأمر أن تنصب لعلي خیمة ویهنئه المسلمون بولایته علیهم ویبایعوه علی الولایة، وأمر نساءه فجئن إلی باب الخیمة وهنأنه!

وكان من أوائل المهنئین عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لك یا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولی كل مؤمن ومؤمنة!

وجاء حسان بن ثابت وقال: إئذن لي یا رسول الله أن أقول في علي أبیاتاً:

ینادیهمُ یوم الغدیر نبیهُمْ *** بخمٍّ فأسمع بالرسول منادیا

یقول فمن مولاكمُ وولیكمْ *** فقالوا ولم یبدوا هناك التعامیا

إلهك مولانا وأنت ولینا *** ولم تر منا فی الولایة عاصیا

فقال له قم یا علي فإنني *** رضیتك من بعدي إماماً وهادیا

فمن كنت مولاه فهذا ولیه *** فكونوا له أنصار صدق موالیا

هناك دعا اللهم وال ولیه *** وكن للذي عادی علیاً معادیا

راجع: كمال الدین/276، أمالی الصدوق/50، الإحتجاج: 1/70، روضة الواعظین/ 89، المسترشد/117 والكافي: 4/ 148، الفقیه: 2/90، تهذیب الأحكام: 4/ 305 وثواب الأعمال/74 وغیرها.

وفي كتاب الغیبة للنعماني/74: «أن معاویة لما دعا أبا الدرداء وأبا هریرة ونحن مع أمیر المؤمنین علي صلوات الله علیه بصفین، فحملهما الرسالة إلی أمیر المؤمنین علي (علیه السلام) وأدیاها إلیه قال: قد بلغتماني ما أرسلكما به معاویة، فاستمعا مني وأبلغاه عني كما بلغتماني». قالا: نعم. وجاء في جوابه قوله (علیه السلام): «فنصبني رسول الله بغدیر خم وقال: إن الله عزوجل أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس یكذبونی، فأوعدني لأبلغنها أو لیعذبني! قم یا علي، ثم نادی

ص: 623

بأعلی صوته بعد أن أمر أن ینادي بالصلاة جامعة فصلی بهم الظهر ثم قال:

أیها الناس، إن الله مولای، وأنا مولی المؤمنین، وأنا أولی بهم منهم بأنفسهم، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.

فقام إلیه سلمان الفارسي فقال: یا رسول الله، ولاء ماذا؟ فقال: من كنت أولی به من نفسه فعلي أولی به من نفسه، فأنزل الله عزوجل: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا، فقال له سلمان: یا رسول الله، أنزلت هذه الآیات في علي؟ قال: بل فیه وفي أوصیائي إلی یوم القیامة. فقال: یا رسول الله، بینهم لي. قال: علي أخي ووصیي وصهري ووارثي وخلیفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، وأحد عشر إماماً من ولدي، أولهم ابني حسن، ثم ابني حسین، ثم تسعة من ولد الحسین واحداً بعد واحد، هم مع القرآن والقرآن معهم لا یفارقونه ولا یفارقهم حتی یردوا علی الحوض...

یا أیها الناس، إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي، وإمامكم وولیكم وهادیكم بعدي، وهو علي بن أبي طالب أخي، وهو فیكم بمنزلتي فقلدوه دینكم وأطیعوه في جمیع أموركم، فإن عنده جمیع ما علمني الله عزوجل، أمرني الله عزوجل أن أعلمه إیاه وأن أعلمكم أنه عنده، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصیائه، ولا تعلموهم ولا تتقدموا علیهم ولا تتخلفوا عنهم، فإنهم مع الحق والحق معهم، لا یزایلهم ولا یزایلونه». انتهی.

هذه خلاصة خطبة الغدیر، وهي أطول من ذلك، فقد روتها مصادرنا بصفحات وروتها مصادر السلطة بصفحة، والمطلب الأساسي فیها حدیث الثقلین، وولایة أولهم علي (علیه السلام)، وبخبخة عمر بن الخطاب! راجع: كمال الدین/276، الإحتجاج: 1/70، روضة الواعظین/89، المسترشد/117 وغیرها.

4- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بنصب خیمة لعلي (علیه السلام) وتهنئته ومبایعته

ظهرت عصمة لله لرسوله (صلی الله علیه و آله) من الناس یوم الغدیر! فقد كمَّمَ أفواه قریش عن المعارضة وفتحها للموافقة فقالوا جمیعاً: نشهد أنك بلغت عن ربك وأنك نعم الرسول، سمعنا لك وأطعنا! وكبروا مع المكبرین عندما نزلت آیة: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي!

ص: 624

ثم أصغوا جمیعاً إلی قصیدة حسان في وصف نداء النبي (صلی الله علیه و آله) وإبلاغه عن ربه ولایة علي (علیه السلام). ثم تهافتوا مع المهنئین إلی خیمة علي (علیه السلام)، واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر إلی ما شاء الله، وبعد صلاة المغرب والعشاء لیلة التاسع عشر من ذي الحجة، فقد بات النبي (صلی الله علیه و آله) في غدیر خم، وقیل بقي فیه یومان!

في مسارِّ الشیعة للمفید/38: «وفي الیوم الثامن عشر منه سنة عشر من الهجرة عقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمولانا أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب العهد بالإمامة في رقاب الأمة كافة، وذلك بغدیرخم عند مرجعه من حجة الوداع، حین جمع الناس فخطبهم ووعظهم ونعی إلیهم نفسه، ثم قررهم علی فرض طاعته حسب ما نزل به القرآن وقال لهم... ثم نزل فأمر الكافة بالتسلیم علیه بإمرة المؤمنین تهنئة له بالمقام، وكان أول من هنأه بذلك عمر بن الخطاب».

وفي الإرشاد: 1/176: «ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض، فصلی بهم الظهر، وجلس (صلی الله علیه و آله) في خیمته وأمر علیاً (علیه السلام) أن یجلس في خیمة له بإزائه، ثم أمر المسلمین أن یدخلوا علیه فوجاً فوجاً فیهنؤوه بالمقام، ویسلموا علیه بإمرة المؤمنین، ففعل الناس ذلك كلهم، ثم أمر أزواجه وجمیع نساء المؤمنین معه أن یدخلن علیه ویسلمن علیه بإمرة المؤمنین ففعلن.

وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب فأظهر له المسرة به وقال فیما قال: بخ بخ یا علي، أصبحت مولاي ومولی كل مؤمن ومؤمنة»!

وفی كتاب سلیم بن قیس/356: «وأمر بنصب خیمة وأمر علیاً (علیه السلام) أن یدخل فیها وأول من أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هما أبو بكر وعمر، فلم یقوما إلا بعد ما سألا رسول الله (صلی الله علیه و آله): هل من أمر الله هذه البیعة؟ فأجابهما: نعم من أمر الله جل وعلا واعلما أن من نقض هذه البیعة كافر ومن لم یطع علیاً كافر، فإن قول علي قولي وأمره أمري، فمن خالف قول علي وأمره فقد خالفني»!

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/237 عن أبي سعید الخدري: «ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): یا قوم هنئوني هنئونی، إن الله خصني بالنبوة، وخص أهل بیتي بالإمامة».

ص: 625

5- حجر من سجیل للمعترضین من قریش!

معنی قوله تعالی: «وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ» أنه تعالی تكفل بحفظ نبوة النبي وأن لا تقوم ضده حركة ردة إذا بلغ رسالة ربه في علي والعترة:. فهو ضمان لأن تتحمل قریش تبلیغ النبي (صلی الله علیه و آله) ولایة علي (علیه السلام) نظریاً، ولا یعني ضمان طاعتها وعدم اعتراضها، ولا عدم محاولتها قتل النبي (صلی الله علیه و آله) مجدداً!

لذلك بدأ الإعتراض یوم الغدیر، ووقعت محاولة قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في طریق عودته من حجة الوداع، لكن لم تحدث حركة ردة عن نبوته (صلی الله علیه و آله) !

وروت مصادرنا وبعض مصادرهم ما قاله المعترضون القرشیون! واعتراض بعضهم نزول العذاب علیهم! وقد بحثنا ذلك في كتابنا آیات الغدیر.

ونكتفي هنا بما رواه في الكافي: 1/422 و 8/57 وتفسیر فرات/504 وفیه: «طُرحت الأقتاب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) یوم غدیر خم، قال: فعلا علیها فحمد الله وأثنی علیه، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب (علیه السلام) فاستلها فرفعها، ثم قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فقام إلیه أعرابي من أوسط الناس فقال: یا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لاإله إلا الله فشهدنا، وأنك رسول الله فصدقنا، وأمرتنا بالصلاة فصلینا، وبالصیام فصمنا، وبالجهاد فجاهدنا، وبالزكاة فأدینا، قال: ولم یقنعك إلا أن أخذت بید هذا الغلام علی رؤوس الأشهاد فقلت: اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله! فهذا عن الله أم عنك؟! قال: هذا عن الله، لاعني! قال: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن الله لاعنك!قال: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن الله لاعني.

ثم قال ثالثة: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن ربك لاعنك؟

قال: آلله الذي لاإله إلا هو لهذا عن ربي لاعني.

قال: فقام الأعرابي مسرعاً إلی بعیره وهو یقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِك فَأَمْطِرْ عَلَینَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمٍ. قال: فما استتم الأعرابي الكلمات حتی

ص: 626

نزلت علیه نار من السماء فأحرقته، وأنزل الله في عقب ذلك: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ. لِلْكافِرِینَ لَیسَ لَهُ دَافِعٌ. مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ».

وأقدم من روی ذلك من أئمة السنیین أبو عبید الهروي في: غریب القرآن، قال: «لما بَلَّغَ رسول بغدیر خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد أتی جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: یا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك ثم لم ترض بذلك حتی رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علینا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شئ منك أم من الله؟! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذی لاإله إلا هو إن هذا إلا من الله. فولی جابر یرید راحلته وهو یقول: اللهم إن كان ما یقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَینَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمٍ! فما وصل إلیها حتی رماه الله بحجر فسقط علی هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالی: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ.. الآیة».

6- نزلت ثلاث آیات في بیعة الغدیر

فأولها قوله تعالی: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ یعْصِمُك مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا یهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِینَ. المائدة: 67.

والثانیة: قوله تعالی: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكمُ الإسلام دِینًا.«المائدة: 3». نزلت بعد أن خطب النبي (صلی الله علیه و آله) ونصب علیاً (علیه السلام) خلیفته.

والثالثة: قوله تعالی: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكافِرِینَ لَیسَ لَهُ دَافِعٌ.«المعارج: 1-2»

نزلت عندما اعترض علی النبي (صلی الله علیه و آله) معترضون من قریش.

وفي كل واحدة منها حدیث صحیح في مصادرنا ومصادر أتباع السلطة، وقد فصلناها في رسالة: تفسیر آیات الغدیر.

ص: 627

7- محاولة قریش اغتیال النبي (صلی الله علیه و آله) بعد یوم الغدیر!

في بحار الأنوار: 2/97: «فأقبل بعضهم علی بعض وقالوا: إن محمداً یرید أن یجعل هذا الأمر في أهل بیته، كسنة كسری وقیصر إلی آخر الدهر! لا والله مالكم في الحیاة من حظ، إن أفضی هذا الأمر إلی علي بن أبي طالب! وإن محمداً عاملكم علی ظاهركم وإن علیاً یعاملكم علی ما یجد في نفسه منكم! فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا رأیكم فیه. ودار الكلام فیما بینهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي، فاتفقوا علی أن ینفروا بالنبي (صلی الله علیه و آله) ناقته علی عقبة هرشی، وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك، فصرف الله الشر عن نبیه (صلی الله علیه و آله)».

وفي تفسیر القمي: 1/174: «فقال أصحابه الذین ارتدوا بعده: قد قال محمد فی مسجد الخیف ما قال، وقال هاهنا ما قال، وإن رجع إلی المدینة یأخذنا بالبیعة له! فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا علی قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقعدوا في العقبة وهي عقبة هرشی بین الجحفة والأبواء، فقعدوا سبعة عن یمین العقبة وسبعة عن یسارها، لینفروا ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما جن اللیل تقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تلك اللیلة العسكر فأقبل ینعس علی ناقته، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئیل: یا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: من هذا خلفي؟ فقال حذیفة الیماني: أنا یا رسول الله حذیفة بن الیمان، قال: سمعت ما سمعت؟ قال: بلی. قال: فاكتم، ثم دنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم فناداهم بأسمائهم، فلما سمعوا نداء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فروا ودخلوا في غمار الناس، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها! ولحق الناس برسول الله وطلبوهم وانتهی رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی رواحلهم فعرفهم، فلما نزل قال: ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا یردوا هذا الأمر في أهل بیته أبداً؟!

فجاؤوا إلی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلفوا أنهم لم یقولوا من ذلك شیئاً ولم یریدوه ولم یكتموا شیئاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنزل الله: یا أَیهَا النَّبِي جَاهِدِ الْكفَّارَ وَالْمُنَافِقِینَ وَاغْلُظْ عَلَیهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ. یحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا: أن لا یردوا هذا الأمر في أهل بیت رسول الله (صلی الله علیه و آله). وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكفْرِ وَكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ینَالُوا: من

ص: 628

قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله). وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ...

فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی المدینة وبقي بها محرم والنصف من صفر لا یشتكي شیئاً ثم ابتدأ به الوجع الذي توفي فیه (صلی الله علیه و آله)».

وفي كتاب سُلَیم/271، عن أبي ذر (رحمة الله) أن بعض الصحابة تعاقدوا في الكعبة في حجة الوداع وقالوا: «ما بال هذا الرجل ما زال یرفع خسیسة ابن عمه! وقال أحدهما:

إنه لیحسن أمر ابن عمه! وقال الجمیع: ما لنا عنده خیر ما بقي علي».

وفی الإقبال: 2/249: «فلما كان في تلك اللیلة قعد له (علیه السلام) أربعة عشر رجلاً في العقبة لیقتلوه، وهي عقبة بین الجحفة والأبواء، فقعد سبعة عن یمین العقبة وسبعة عن یسارها لینفروا ناقته، فلما أمسی رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلی وارتحل، وتقدم أصحابه وكان (صلی الله علیه و آله) علی ناقة ناجیة، فلما صعد العقبة ناداه جبرئیل: یامحمد إن فلاناً وفلاناً وسماهم كلهم..»!

ص: 629

الفصل الثاني والسبعون: جیش أسامة وهدف النبي (صلی الله علیه و آله) منه

1- عاش النبي (صلی الله علیه و آله) سبعین یوماً بعد حجة الوداع

عاد النبي (صلی الله علیه و آله) الی المدینة من حجة الوداع في أواخر ذي الحجة، وأمضی بقیة أیامه في المدینة. وهي نحو سبعین یوماً حسب روایتنا، لأن وفاته (صلی الله علیه و آله) عندنا في الثامن والعشرین من صفر. ونحو ثمانین یوماً في روایة السلطة، لأن وفاته عندهم في الثاني عشر من ربیع. وفي هذه المدة وقعت أحداث وأمور، ونزلت آیات، وصدرت منه (صلی الله علیه و آله) خطب وأحادیث!

2- عَرَضَ الأنصار علی النبي (صلی الله علیه و آله) ثلث أموالهم

في الكافي: 1/293، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فلما قدم المدینة «من حجة الوداع» أتته الأنصار فقالوا: یا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلینا وشرفنا بك وبنزولك بین ظهرانینا، فقد فرح الله صدیقنا وكبت عدونا. وقد یأتیك وفود فلا تجد ما تعطیهم فیشمت بك العدو، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا حتی إذا قدم علیك وفد وجدت ما تعطیهم. فلم یردَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) علیهم شیئاً، وكان ینتظر مایأتیه من ربه، فنزل جبرئیل (علیه السلام) وقال: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی، ولم یقبل أموالهم فقال المنافقون: ما أنزل الله هذا علی محمد وما یرید إلا أن یرفع بضبع ابن عمه ویحمل علینا أهل بیته! یقول أمس: من كنت مولاه فعلي مولاه والیوم: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی. ثم [كان] نزل علیه آیة الخمس فقالوا یرید أن یعطیهم أموالنا وفیأنا! ثم أتاه جبرئیل فقال: یا محمد إنك قد قضیت نبوتك

ص: 630

واستكملت أیامك، فاجعل الإسم الأكبر ومیراث العلم وآثار علم النبوة عند علي (علیه السلام)، فإني لم أترك الأرض إلا ولی فیها عَلَمٌ تُعرف به طاعتي وتعرف به ولایتي، ویكون حجة لمن یولد بین قبض النبي إلی خروج النبي الآخر.

قال: فأوصی إلیه بالإسم الأكبر ومیراث العلم وآثار علم النبوة، وأوصی إلیه بألف كلمة وألف باب، یفتح كل كلمة وكل باب ألف كلمة وألف باب».

وفي الإرشاد: 1/179، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «أیها الناس، إني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلین فانظروا كیف تخلفوني فیهما، فإن اللطیف الخبیر نبأني أنهما لن یفترقا حتی یلقیاني، وسألت ربي ذلك فأعطانیه. ألا وإني قد تركتهما فیكم: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

أیها الناس، لا ألفینكم بعدي ترجعون كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتیبة كمجری السیل الجرار! ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصیي یقاتل بعدي علی تأویل القرآن كما قاتلت علی تنزیله. فكان یقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه. ثم إنه عقد لأسامة بن زید بن حارثة الإمرة».

أقول: أكد القرآن علی أن الأنبیاء: كانوا یقولون لأممهم إنهم لایطلبون منهم أجراً علی تبلیغ الرسالة، وكذلك نبینا (صلی الله علیه و آله)، قال تعالی: قُلْ لا أَسْأَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكرَی لِلْعَالَمِینَ. وقال تعالی: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَیهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَإِلا ذِكرٌ لِلْعَالَمِینَ.

لكنه خص هذه الأمة بأن جعل أجر نبیها (صلی الله علیه و آله) محبتها وطاعتها لعترته: فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی وَمَنْ یقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ

غَفُورٌ شَكورٌ. الشوری: 23.

ثم بین لهم أن هذا الأجر هو السبیل الی رضا الله تعالی وثوابه فقال: قُلْ مَا أَسْأَلُكمْ عَلَیهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ یتَّخِذَ إِلَی رَبِّهِ سَبِیلاً.

ثم قال لهم إن هذا الأجر الذي فرضه الله علی هذه الأمة لیس غرماً علیها بل غنمٌ لها، فقال: قُلْ مَا سَأَلْتُكمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكمْ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَی اللهِ. أي أنتم المنتفعون به لأنكم بمودتهم وطاعتهم لاتضلون.

ص: 631

وفي تفسیر فرات/392، عن عطاء بن أبي رباح قال: «قلت لفاطمة بنت الحسین: أخبریني جعلت فداك بحدیث أحدث، وأحتج به علی الناس. قالت: نعم، أخبرني أبي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان نازلاً بالمدینة وأن من أتاه من المهاجرین عرضوا أن یفرضوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فریضة یستعین بها علی من أتاه، فأتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالوا: قد رأینا ما ینوبك من النوائب، وإنا أتیناك لتفرض فریضة تستعین بها علی من أتاك. قال: فأطرق النبي (صلی الله علیه و آله) طویلاً ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم علی ما جئتم به شیئاً، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ وإن أمرت به أعلمتكم. قال: فنزل جبرئیل فقال: یا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا علیك وقد أنزل الله علیهم فریضة: قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَی.. قال فخرجوا وهم یقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشیاء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبدالمطلب.

قال: فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إلیك ثم قل: أیها الناس من انتقص أجیراً أجره فلیتبوأ مقعده من النار! ومن ادعی إلی غیر موالیه فلیتبوأ مقعده من النار! ومن انتفی من والدیه فلیتبوأ مقعده من النار! قال: فقام رجل وقال: یا أبا الحسن ما لهن من تأویل؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فأتی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره، فقال رسول الله: ویل لقریش من تأویلهن، ثلاث مرات! ثم قال: یا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجیر الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولی المؤمنین، وأنا وأنت أبوا المؤمنین»!

أقول: یظهر أن هؤلاء قرشیون جاؤوا الی النبي (صلی الله علیه و آله) بعد مجئ الأنصار، وطلبوا أن یفرضوا له فریضة في أموالهم، فأجابهم بآیة المودة في القربی، فنكصوا!

وفي الكافي: 1/293، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أوصی موسی (علیه السلام) إلی یوشع بن نون وأوصی یوشع بن نون إلی ولد هارون، ولم یوص إلی ولده ولا إلی ولد موسی، إن الله تعالی له الخیرة یختار من یشاء ممن یشاء. وبشرموسی ویوشع بالمسیح، فلما أن بعث الله عزوجل المسیح قال المسیح لهم إنه سوف یأتي من بعدي نبي إسمه أحمد، من ولد إسماعیل، یجئ بتصدیقي وتصدیقكم، وعذري وعذركم. وجرت من بعده في الحواریین

ص: 632

في المستحفظین، وإنما سماهم الله تعالی المستحفظین لأنهم استحفظوا الإسم الأكبر وهو الكتاب الذي یعلم به علم كل شئ، الذي كان مع الأنبیاء صلوات الله علیهم. یقول الله تعالی: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَینَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكتَابَ وَالْمِیزَانَ. الكتاب الإسم الأكبر. فلم تزل الوصیة في عالم بعد عالم حتی دفعوها إلی محمد (صلی الله علیه و آله).

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) یتألفهم ویستعین ببعضهم علی بعض، ولا یزال یخرج لهم شیئاً في فضل وصیه... وقال: إني تارك فیكم أمرین إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عزوجل و أهل بیتي عترتي...فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم... فوقعت الحجة بقول النبي (صلی الله علیه و آله) وبالكتاب الذی یقرأه الناس فلم یزل یلقي فضل أهل بیته بالكلام ویبین لهم القرآن.فلما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حجة الوداع نزل علیه جبرئیل فقال: یا أَیهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَیك مِنْ رَبِّك...

فنادی الناس، فوقعت حسیكة النفاق في قلوب القوم وقالوا: ما أنزل الله جل ذكره هذا علی محمد قط، وما یرید إلا أن یرفع بضبع ابن عمه»!

3- النبي (صلی الله علیه و آله) یجهر بالحقیقة ویتحدی قریشاً!

وقد بدأ النبي (صلی الله علیه و آله) هذا التحدی في حجة الوداع بصیغة اللعنة النبویة علی من ادعی لغیر أبیه، كما تقدم! فقد روی ابن ماجة: 2/905، أنه (صلی الله علیه و آله) خطبهم في حجة الوداع علی راحلته فقال: «ومن ادعی إلی غیر أبیه أو تولی غیر موالیه، فعلیه لعنة الله والملائكة والناس أجمعین، لا یقبل منه صرف ولا عدل» والترمذي: 2/293، أحمد: 4/239، الدارمي:2/244 و 344 والبخاري: 2/221، و 4/67..

واستعمل النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الأسلوب عمداً لتنقله الأجیال ولا تطمسه قریش! وقد روت مصادرهم أنه كتبه في صحیفة صغیرة معلقة في ذؤابة سیفه الذي ورَّثه لعلي (علیه السلام)، فرواه بخاري في صحیحه: 4/67، مسلم: 4/115، بروایات والترمذي: 3/297، وفي تلك الصحیفة لعن من تولی غیر موالیه! ویقصد بذلك من تولی غیره وغیر علي (علیه السلام)، لأنهما الأبوان المعنویان لهذه الأمة!

ص: 633

ویدل علیه أن الولد الذي یهرب من أبیه وینتسب الی آخر ویتوب، تقبل توبته! بینما هذا الذي لعنه النبي (صلی الله علیه و آله) لا یقبل منه صرف أي توبة، ولا عدل أي فدیة! فهي عقوبة الردة والخروج من الملة، ولیست عقوبة ولد یدعو نفسه لغیر أبیه!سنن البیهقي: 8/26، الزوائد: 1/9، وكنز العمال: 5/872 و10/324.

وقد رووا هذه اللعنة بعد ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) لأهل بیته وحقهم في الخمس.

ففي مسند أحمد: 4/186: «خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو علی ناقته فقال: ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بیتي، وأخذ وبرة من كاهل ناقته، فقال: ولا ما یساوي هذه أو ما یزن هذه.لعن الله من ادعي إلی غیرأبیه، أو تولی غیر موالیه»!

وفسرته بذلك مصادرنا. وروت أن النبي (صلی الله علیه و آله) استعمله عندما كثر طلقاء قریش في المدینة، وتصاعد عملهم ضد أهل بیته: وقالوا: إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا، أي مزبلة! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علیاً (علیه السلام) أن یصعد المنبر ویجیبهم وقال له: «یا علي إنطلق حتی تأتي مسجدي ثم تصعد منبري، ثم تدعو الناس إلیك، فتحمد الله تعالی وتثني علیه وتصلي عَلَيَّ صلاة كثیرة، ثم تقول: أیها الناس إني رسول رسول الله إلیكم وهو یقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربین وأنبیائه المرسلین ولعنتي علی من انتمی إلی غیر أبیه، أو ادعی إلی غیر موالیه، أو ظلم أجیراً أجره! فأتیت مسجده وصعدت منبره، فلما رأتني قریش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنیت علیه، وصلیت علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلاة كثیرة ثم قلت: أیها الناس إني رسول رسول الله إلیكم وهو یقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربین وأنبیائه المرسلین ولعنتي، علی من انتمی إلی غیر أبیه، أو ادعی إلی غیر موالیه، أو ظلم أجیراً أجره. قال: فلم یتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال: قد أبلغت یا أبا الحسن ولكنك جئت بكلام غیر مفسر، فقلت: أُبْلِغُ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجعت إلی النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبرته الخبر فقال: إرجع إلی مسجدي حتی تصعد منبري فاحمد الله وأثن علیه وصل علی ثم قل: أیها الناس، ما كنا لنجیئكم بشئ إلا وعندنا تأویله وتفسیره، ألا وإني أنا أبوكم، ألا وإني أنا مولاكم ألاوإني أنا أجیركم»!أمالی المفید/353 و الطوسي/123.

ص: 634

4- جیش أسامة لإفراغ المدینة من خصوم علي (علیه السلام)

في الإرشاد: 1/179: «ثم إنه عقد لأسامة بن زید بن حارثة الإمرة، وندبه أن یخرج بجمهور الأمة إلی حیث أصیب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأیه (علیه السلام) علی إخراج جماعة من متقدمي المهاجرین والأنصار في معسكره، حتی لا یبقی في المدینة عند وفاته (صلی الله علیه و آله) من یختلف في الرئاسة ویطمع في التقدم علی الناس بالإمارة ویستتب الأمر لمن استخلفه من بعده، ولا ینازعه في حقه منازع. فعقد له الأمرة علی من ذكرناه وجدَّ (صلی الله علیه و آله) في إخراجهم، فأمر أسامة بالبروز عن المدینة بمعسكره إلی الجرف، وحث الناس علی الخروج إلیه والمسیر معه وحذرهم من التلوُّم والإبطاء عنه. فبینا هو فی ذلك إذ عرضت له الشكاة التی توفي فیها، فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بید علي بن أبي طالب (علیه السلام) واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلی البقیع، فقال لمن تبعه: إننی قد أمرت بالإستغفار لأهل البقیع، فانطلقوا معه حتی وقف بین أظهرهم فقال (صلی الله علیه و آله): السلام علیكم یا أهل القبور، لیهنئكم ما أصبحتم فیه مما فیه الناس، أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع أولها آخرها!

ثم استغفر لأهل البقیع طویلاً وأقبل علی أمیر المؤمنین فقال: إن جبرئیل (علیه السلام) كان یعرض علي القرآن كل سنة مرة، وقد عرضه عَلَيَّ العام مرتین، ولا أراه إلا لحضور أجلي».

وفي إعلام الوری: 1/263: «ولما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدینة من حج الوداع بعث بعده أسامة بن زید وأمره أن یقصد حیث قتل أبوه، وقال له: أوطئ الخیل أواخر الشام من أوائل الروم. وجعل في جیشه وتحت رایته أعیان المهاجرین ووجوه الأنصار وفیهم أبو بكر وعمر وأبو عبیدة. وعسكر أسامة بالجرف فاشتكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) شكواه التی توفی فیها، وكان یقول في مرضه: نفذوا جیش أسامة ویكرر ذلك، وإنما فعل ذلك لئلا یبقی فی المدینة عند وفاته من یختلف في الإمامة ویطمع في الإمارة، ویستوسق الأمر لأهله».

ص: 635

وفي كتاب سلیم بن قیس (رحمة الله) /424: «وفي ذلك الجیش أبو بكر وعمر، فقال كل واحد منهما: لاینتهي یستعمل علینا هذا الصبي العبد»!

وقال ابن حجر في فتح الباري: 8/115، وهو من كبار أئمة السلطة: «وقد أنكر ابن تیمیة في كتاب الرد علی ابن المطهر أن یكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدی بأسانیده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبویة بغیر إسناد، وذكره ابن إسحاق في السیرة المشهورة ولفظه: بدأ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه یوم الأربعاء فأصبح یوم الخمیس فعقد لأسامة فقال: أُغز في سبیل الله وسر إلی موضع مقتل أبیك، فقد ولیتك هذا الجیش. فذكر القصة وفیها: لم یبق أحد من المهاجرین الأولین إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر.. وعند الواقدي أن عدة ذلك الجیش كانت ثلاثة آلاف، فیهم سبعمائة من قریش».

أقول: أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي (صلی الله علیه و آله) تعمد أن یفرغ المدینة من القرشیین، ومن كل من یمكن أن یعارض استخلاف علي (علیه السلام).

وتعمد أن یؤمِّر علیهم أسامة الشاب الأسود ابن الثمان أو السبع عشرة سنة، حتی لایعترض أحد علی سن علي (علیه السلام) الذي كان في الثالثة والثلاثین من عمره.

كما نلاحظ أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبر عن النتائج السیئة لما یجري حوله، وأطلق تحذیره لأجیال الأمة من الفتن التي سیسببها طمع قریش في خلافته!

وروی ابن هشام: 4/1057 قوله (صلی الله علیه و آله) لعائشة لما رجع من البقیع وتحدث عن الفتن: «ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت علیك وكفنتك وصلیت علیك ودفنتك؟ قالت قلت: والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك، لقد رجعت إلی بیتي فأعرست فیه ببعض نسائك»!

5- أمیر المؤمنین (علیه السلام) یصف عملهم لإفشال جیش أسامة

فی الخصال/371، عن أمیر المؤمنین (علیه السلام)، في جوابه للحبر الیهودي عن امتحانات الله للوصي النبي، قال (علیه السلام): «وأما الثانیة یا أخا الیهود، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمَّرني في حیاته علی جمیع أمته، وأخذ علی من حضره منهم البیعة بالسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن یبلغ الشاهد الغائب في ذلك، فكنت المؤدي إلیهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره

ص: 636

إذا حضرته، والأمیر علی من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمور، في حیاة النبي (صلی الله علیه و آله) ولا بعد وفاته.

ثم أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتوجیه الجیش الذي وجهه مع أسامة بن زید، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فیه، فلم یدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغیرهم من سائر الناس، ممن یخاف علی نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممن یراني بعین البغضاء ممن قد وترته بقتل أبیه أو أخیه أو حمیمه، إلا وجهه في ذلك الجیش، ولا من المهاجرین والأنصار والمسلمین وغیرهم، والمؤلفة قلوبهم والمنافقین، لتصفو قلوب من یبقی معي بحضرته، ولئلا یقول قائل شیئاً مما أكرهه، ولا یدفعني دافع من الولایة والقیام بأمر رعیته من بعده. ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن یمضي جیش أسامة ولا یتخلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعز فیه أبلغ الإیعاز، وأكد فیه أكثر التأكید!

فلم أشعر بعد أن قبض النبي (صلی الله علیه و آله) إلا برجال من بعث أسامة بن زید وأهل عسكره، قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فیما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم إلیهم من ملازمة أمیرهم والسیر معه تحت لوائه، حتی ینفذ لوجهه الذی أنفذه إلیه، فخلفوا أمیرهم مقیماً في عسكره، وأقبلوا یتبادرون علی الخیل ركضاً إلی حل عقدة عقدها الله عزوجل لي ولرسوله (صلی الله علیه و آله) فی أعناقهم، فحلوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم، واختصت به آراؤهم، من غیر مناظرة لأحد منا بني عبدالمطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بیعتي! فعلوا ذلك وأنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) مشغول، وبتجهیزه عن سائر الأشیاء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها!

فكان هذا یا أخا الیهود أقرح ما ورد علی قلبي مع الذي أنا فیه من عظیم الرزیة وفاجع المصیبة، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالی، فصبرت

ص: 637

علیها إذ أتت بعد أختها علی تقاربها وسرعة اتصالها». والإختصاص/170.

وفي المراجعات/365: «سریة أسامة بن زید بن حارثة إلی غزو الروم، وهي آخر السرایا علی عهد النبي (صلی الله علیه و آله) وقد اهتم فیها بأبي وأمي اهتماماً عظیماً فأمر أصحابه بالتهیؤ لها وحضهم علی ذلك، ثم عبأهم بنفسه الزكیة إرهافاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم، فلم یبق أحداً من وجوه المهاجرین والأنصار، كأبي بكر وعمر وأبي عبیدة وسعد وأمثالهم، إلا وقد عبأه بالجیش...فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلی بریدة وعسكر بالجرف، ثم تثاقلوا هناك فلم یبرحوا، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصریحة في وجوب إسراعهم... وطعن قوم منهم في تأمیر أسامة كما طعنوا من قبل في تأمیر أبیه، وقالوا في ذلك فأكثروا مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة... حتی غضب (صلی الله علیه و آله) من طعنهم غضباً شدیداً، فخرج بأبي وأمي معصب الرأس مدثراً بقطیفته محموماً ألماً...فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه، ثم قال فیما أجمع أهل الأخبار علی نقله واتفق أولوا العلم علی صدوره: أیها الناس ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأمیري أسامة، ولئن طعنتم في تأمیري أسامة لقد طعنتم في تأمیري أباه من قبله! وأیم الله إنه كان لخلیقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخلیق بها! وحضهم علی المبادرة إلی السیر فجعلوا یودعونه ویخرجون إلی العسكر بالجرف وهو یحضهم علی التعجیل.

ثم ثقل في مرضه فجعل یقول: جهزوا جیش أسامة، أنفذوا جیش أسامة، أرسلوا بعث أسامة.. لعن الله من تخلف عنه... وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السیر أولاً، وتخلفوا عن الجیش أخیراً، لیحكموا قواعد سیاستهم ویقیموا عمدها، ترجیحاً منهم لذلك علی التعبد بالنص.

وإنما أمَّر علیهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة، لیاً لأعِنَّة البعض، ورداً لجِمَاح أهل الجماح منهم، واحتیاطاً علی الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس.. لكنهم فطنوا إلی ما دبر (صلی الله علیه و آله) فطعنوا في تأمیر أسامة وتثاقلوا عن السیر معه، فلم یبرحوا من الجرف حتی لحق النبي (صلی الله علیه و آله) بربه...

فهذه خمسة أمور في هذه السریة لم یتعبدوا فیها بالنصوص الجلیة، إیثاراً لرأیهم في

ص: 638

الأمور السیاسیة، وترجیحاً لاجتهادهم فیها علی التعبد بنصوصه (صلی الله علیه و آله)».

وفي منهاج الكرامة/100: «وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرض موته مرة بعد أخری مكرراً لذلك: أنفذوا جیش أسامة! لعن الله المتخلف عن جیش أسامة! وكان الثلاثة معه».

وفي تقریب المعارف/314: «ولا فرق بین خلافه (صلی الله علیه و آله) فیما أمر به من المسیر مع أسامة، وبین خلافه فیما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة، وذلك فسق لاشبهة فیه، ودعوی خروج أبي بكر من البعث لایفي شیئاً، لثبوت الروایة به».

وفي الإرشاد: 1/182: «واستمر به المرض أیاماً وثقل (صلی الله علیه و آله)، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادی: الصلاة یرحمكم الله، فأوذن رسول الله بندائه فقال: یصلي بالناس بعضهم فإنني مشغول بنفسي. فقالت عائشة: مروا أبا بكر! وقالت حفصة: مروا عمر! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حین سمع كلامهما، ورأی حرص كل واحدة منهما علی التنویه بأبیها وافتتانهما بذلك ورسول الله (صلی الله علیه و آله) حي: أُكففن فإنكن صویحبات یوسف!

ثم قام (صلی الله علیه و آله) مبادراً خوفاً من تقدم أحد الرجلین وقد كان أمرهما بالخروج إلی أسامة، ولم یكن عنده أنهما قد تخلفا، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة، فقام وإنه لایستقل علی الأرض من الضعف، فأخذ بیده علي بن أبي طالب والفضل بن عباس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف! فلما خرج إلی المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلی المحراب، فأومأ إلیه بیده أن تأخر عنه، فتأخر أبو بكر وقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقامه فكبر فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر، ولم یبن علی ما مضی من فعاله. فلما سلَّم النبي (صلی الله علیه و آله) من الصلاة انصرف إلی منزله، واستدعی أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد من المسلمین، ثم قال: ألم آمر أن تنفذوا جیش أسامة! قالوا: بلی یا رسول الله. قال: فلم تأخرتم عن أمري؟ فقال أبو بكر: إننی كنت خرجت ثم عدت لأجدد بك عهداً. وقال عمر: یا رسول الله، لم أخرج لأنني لم أحب أن أسأل عنك الركب! فقال النبي (صلی الله علیه و آله):

ص: 639

فأنفذوا جیش أسامة، فأنفذوا جیش أسامة یكررها ثلاث مرات، ثم أغمي علیه من التعب الذي لحقه والأسف، فمكث هنیهة مغمي علیه، وبكی المسلمون، وارتفع النحیب من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمین».

6- حذیفة یصف تسلل أبي بكر وعمر لیلاً الی المدینة

«أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن تفرغ المدینة من دعاة الفتنة وأرسلهم جمیعاً في جیش أسامة إلی فلسطین، وفیهم سبع مئة رجل من قریش! وأمره بالتحرك ولعن من تخلف عن جیش أسامة! فافتعلوا المشاكل والأعذار حتی سوفوا الوقت وأفشلوا برنامج النبي (صلی الله علیه و آله)، وتسللوا من معسكره من الجرف لواذاً عائدین إلی المدینة!

وقد روی في إرشاد القلوب: 2/237 والدرجات الرفیعة/290، أن حذیفة صاحب سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان حاكم المدائن فلما جاءه خبر بیعة أمیر المؤمنین (علیه السلام) فرح بذلك، وصعد المنبر ودعا الناس الی بیعته وخطب خطبة طویلة، بین فیها فضائل علي (علیه السلام) وكشف مؤامرة قریش علی عترة النبي (صلی الله علیه و آله). ومما قاله (رحمة الله): «وأمر (صلی الله علیه و آله) أسامة بن زید فعسكر بهم علی أمیال من المدینة، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله (صلی الله علیه و آله) منتظراً القوم أن یرافقوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم، وإنما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما صنع من ذلك أن تخلو المدینة منهم ولایبقی بها أحد من المنافقین.قال: فهم علی ذلك من شأنهم ورسول الله (صلی الله علیه و آله) دائب یحثهم ویأمرهم بالخروج والتعجیل إلی الوجه الذي ندبهم إلیه، إذ مرض رسول الله مرضه الذي توفي فیه، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله من الخروج، فأمر قیس بن سعد بن عبادة وكان سیاف رسول الله والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن یرحلوا بهم إلی عسكرهم، فأخرجهم قیس بن سعد والحباب بن المنذر حتی ألحقاهم بمعسكرهم، وقالا لأسامة: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم یرخص لك فی التخلف فسر من وقتك هذا، لیعلم رسول الله ذلك. فارتحل بهم أسامة وانصرف قیس بن سعد والحباب بن المنذر إلی رسول الله فأعلماه برحلة القوم، فقال لهم: إن القوم غیر سائرین من مكانهم!

ص: 640

قال: فخلا أبو بكر وعمر وأبو عبیدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا: إلی أین ننطلق ونخلي المدینة، ونحن أحوج ما كنا إلیها وإلی المقام بها؟!

قالوا: إن رسول الله قد نزل به الموت، ووالله لئن خلینا المدینة لیحدثن بها أمور لایمكن إصلاحها! ننظر ما یكون من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم المسیر بین أیدینا!

قال: فرجع القوم إلی المعسكر الأول فأقاموا به، فبعثوا رسولاً یتعرف لهم بالخبر من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتی الرسول عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت: إمض إلی أبي بكر وعمر ومن معهما فقل لهما: إن رسول الله قد ثقل ولا یبرحن أحد منكم! وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت! واشتدت علة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدعت عائشة صهیباً فقالت: إمض إلی أبي بكر وأعلمه أن محمداً في حال لاترجی، فهلموا إلینا أنت وعمر وأبو عبیدة ومن رأیتم أن یدخل معكم، ولیكن دخولكم المدینة باللیل سراً! قال: فأتاهم بالخبر فأخذوا بید صهیب فأدخلوه إلی أسامة بن زید فأخبروه الخبر وقالوا له كیف ینبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله، واستأذنوه للدخول فأذن لهم بالدخول، وأمرهم أن لا یعلم أحد بدخولهم، وقال: إن عوفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجعتم إلی عسكركم، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون فی جماعة الناس، فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبیدة لیلاً المدینة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد ثقل.

قال: فأفاق بعض الإفاقة فقال: لقد طرق لیلتنا هذه المدینة شر عظیم! فقیل له وما هو یا رسول الله؟ قال فقال: إن الذین كانوا في جیش أسامة قد رجع منهم نفر یخالفون أمري، ألا إني إلی الله منهم بريء!

ویحكم نفذوا جیش أسامة! فلم یزل یقول ذلك حتی قالها مرات كثیرة.

قال: وكان بلال مؤذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) یؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة، فإن قدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علی الخروج تحامل وخرج وصلی بالناس، وإن هو لم یقدر علی الخروج أمر علي بن أبي طالب فصلی بالناس، وكان علي (علیه السلام) والفضل بن العباس لا یزایلانه في مرضه ذلك. فلما أصبح

ص: 641

رسول الله (صلی الله علیه و آله) من لیلته تلك التي قدم فیها القوم الذین كانوا تحت یدي أسامة، أذن بلال ثم أتاه یخبره كعادته فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إلیه، فأمرت عائشة صهیباً أن یمضي إلی أبیها فیعلمه أن رسول الله قد ثقل، ولیس یطیق النهوض إلی المسجد وعلي بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس، فاخرج أنت إلی المسجد وصل بالناس فإنها حالة تهیئك وحجة لك بعد الیوم.

قال: ولم یشعر الناس وهم في المسجد ینتظرون رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو علیاً (علیه السلام) یصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال: إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلي بالناس! فقال له رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): وأنَّی لك ذلك وأنت في جیش أسامة! لا والله ما أعلم أحداً بعث إلیك ولا أمرك بالصلاة! ثم نادی الناس بلالاً فقال: علی رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك، ثم أسرع حتی أتی الباب فدقه دقاً شدیداً، فسمعه رسول الله فقال: ما هذا الدق العنیف فانظروا ما هو؟ قال فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال فقال: ما وراءك یا بلال؟ فقال: إن أبا بكر دخل المسجد وتقدم حتی وقف في مقام رسول الله، وزعم أن رسول الله أمره بذلك! فقال أولیس أبو بكر مع أسامة في الجیش! هذا والله هو الشر العظیم الذي طرق البارحة المدینة! لقد أخبرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك!

ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال (صلی الله علیه و آله): ما وراءك یا بلال؟ فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخبر فقال: أقیموني أخرجونی إلی المسجد والذي نفسی بیده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظیمة من الفتن!

ثم خرج (صلی الله علیه و آله) معصوب الرأس یتهادی بین علي (علیه السلام) والفضل بن عباس ورجلاه تجران في الأرض، حتی دخل المسجد وأبو بكر قائم في مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله)

وقد طاف به عمر وأبو عبیدة وسالم وصهیب والنفر الذین دخلوا، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ینتظرون ما یأتي به بلال، فلما رأی الناس رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظیمة من المرض أعظموا ذلك، وتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجذب أبا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب، وأقبل أبو بكر والنفر

ص: 642

الذین كانوا معه، فتواروا خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله وهو جالس وبلال یسمع الناس التكبیر حتی قضی صلاته، ثم التفت فلم یر أبا بكر! فقال: أیها الناس لا تعجبون من ابن أبی قحافة وأصحابه الذین أنفذتهم وجعلتهم تحت یدي أسامة، وأمرتهم بالمسیر إلی الوجه الذي وجهوا إلیه فخالفوا ذلك ورجعوا إلی المدینة ابتغاء الفتنة، ألا وإن الله قد أركسهم فیها!

أعرجوابي إلی المنبر فقام وهو مربوط حتی قعد علی أدنی مرقاة، فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أیها الناس إنني قد جاءني من أمر ربي ما الناس صائرون إلیه وإني قد تركتكم علی المحجة الواضحة لیلها كنهارها، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائیل!

أیها الناس: لا أحِلُّ لكم إلا ما أحله القرآن ولا أحَرِّم علیكم إلا ما حرَّمه القرآن وإني مخلِّف فیكم الثقلین ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بیتي هما الخلیفتان، وإنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض، فأسألكم ماذا خلفتموني فیهما. ولیذادن یومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغریبة من الإبل، فیقول أنا فلان وأنا فلان، فأقول أما الأسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدي

فسحقاً لكم سحقاً!

ثم نزل عن المنبر وعاد إلی حجرته. ولم یظهر أبو بكر وأصحابه حتی قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) !وكان من الأنصار سعد وغیرهم من السقیفة ما كان، فمنعوا أهل بیت نبیهم (صلی الله علیه و آله) حقوقهم التی جعلها الله عزوجل لهم».

7- أبو بكر وعمر یظهران الندم علی تركهما جیش أسامة!

في الخصال/171: «عن جابر بن عبدالله قال: شهدت عمر عند موته یقول: أتوب إلی الله من ثلاث: من ردي رقیق الیمن، ومن رجوعي عن جیش أسامة بعد أن أمَّره رسول الله علینا، ومن تعاقدنا علی أهل هذا البیت إن قبض الله رسوله لا نولي منهم أحداً». وروي نحوه عن الإمام الباقر  (علیه السلام).

ص: 643

وفي الإیضاح/159، عن إیاس بن قبیصة الأسدي، من حدیث قال: «سمعت أبا بكر یقول.. وأما الثلاث اللاتي لم أفعلهن ولیتني كنت فعلتهن، فوددت أني كنت أقدت من خالد بن الولید بمالك بن نویرة، ووددت أني لم أتخلف عن بعث أسامة، ووددت أني كنت قتلت عیینة بن حصین وطلحة بن خویلد».

8- الروایة الرسمیة لجیش أسامة

في سیرة ابن هشام: 4/1025 و 1064: «ثم قفل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأقام بالمدینة بقیة ذي الحجة والمحرم وصفراً، وضرب علی الناس بعثاً إلی الشام وأمَّر علیهم أسامة بن زید بن حارثة مولاه، وأمره أن یوطئ الخیل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطین، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة بن زید المهاجرون الأولون...

استبطأ الناس في بعث أسامة بن زید وهو في وجعه، فخرج عاصباً رأسه حتی جلس علی المنبر، وقد كان الناس قالوا فی إمرة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً علی جلة المهاجرین والأنصار! فحمد الله وأثنی علیه بما هو له أهل ثم قال: أیها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم فی إمارة أبیه من قبله وإنه لخلیق للإمارة وإن كان أبوه لخلیقاً لها! قال: ثم نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانكمش الناس في جهازهم، واستعز برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه، فخرج أسامة وخرج جیشه معه حتی نزلوا الجرف من المدینة علی فرسخ «نحو6كیلومتر» فضرب به عسكره، وتتامَّ إلیه الناس، وثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأقام أسامة والناس لینظروا ما الله قاض في رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وفي صحیح بخاري: 1/175، عن عائشة: «لما ثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) جاء بلال یؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر أن یصلي بالناس، فقلت: یا رسول الله إن أبا بكر رجل أسیف، وإنه متی ما یقم مقامك لایسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقال: مروا أبا بكر یصلي، فقلت لحفصة، قولي له إن أبا بكر رجل أسیف وإنه متی یقم مقامك لا یسمع الناس فلو أمرت عمر. قال: إنكن لأنتن صواحب یوسف، مروا أبا بكر أن یصلي بالناس! فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في نفسه خفة فقام یهادي بین رجلین ورجلاه یخطان في الأرض، حتی دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب

ص: 644

أبو بكر یتأخر فأومأ إلیه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاء رسول الله حتی جلس عن یسار أبي بكرفكان أبو بكر یصلي قائماً، وكان رسول الله یصلي قاعداً یقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والناس مقتدون بصلاة أبي بكر»!

9- رد قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) نصب أبا بكر للصلاة

رد علماؤنا روایتهم بأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر أن یصلی أبو بكر بالناس، وقال السید المیلانی فی إبطال ما استدل به لإمامة أبی بكر/33: «أما أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان یؤكد علی بعث أسامة، وإلی آخر لحظة من حیاته، فلم یخالف فیه أحد ولا خلاف فیه أبداً، وهو مذكور فی كتبنا وفی كتبهم.. وأما أن كبار الصحابة وعلی رأسهم أبو بكر وعمر كانا فی هذا البعث، فهذا أیضاً ثابت بالكتب المعتبرة التی نقلت هذا الخبر، فكیف یأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخروج أبی بكر فی بعث أسامة ویؤكد علی خروجه إلی آخر لحظة من حیاته، ومع ذلك یأمر أبا بكر أن یصلی فی مكانه؟

وهنا یضطر مثل ابن تیمیة لأن ینكر وجود أبی بكر فی بعث أسامة، ویقول هذا كذب، لأنه یعلم بأن وجود أبی بكر فی بعث أسامة یعنی كذب خبر إرسال أبی بكر إلی الصلاة..ولذا لما توفی رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان أسامة بجیشه فی خارج المدینة، ولذا لما ولی أبو بكر اعترض أسامة ولم یبایع أبا بكر قال: أنا أمیر علی أبی بكر وكیف أبایعه؟ولذا لما سیر أبو بكر أسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر فی المدینة المنورة لیكون معه في تطبیق الخطط المدبرة.فالقرائن الداخلیة والخارجیة تقتضي كذب هذا خبر أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل أبا بكر إلی الصلاة».

وقال السید المیلاني في رسالة في صلاة أبي بكر: 76: «خرج معتمداً علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ورجل آخر وهو في آخر رمق من حیاته لیصرفه«أبا بكر»عن المحراب.. ویعلن بأن صلاته لم تكن بأمر منه بل من غیره»!

وقال كبیر أئمة الزیدیة الهادي یحیی بن الحسین في تثبیت الإمامة/18: «وكیف تنعقد بیعة لمن هو في بیعة غیره؟ ألم یكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجه أبا بكر وعمر

ص: 645

وغیرهما في جیش أسامة بن زید قبل وفاته صلوات الله علیه، وأمرهم أن یسمعوا له ویطیعوا ویصلوا بصلاته ویأتمروا بأمره؟ وقال (صلی الله علیه و آله): أنفذوا جیش أسامة ولا یتخلف إلا من كان عاصیاً لله ولرسوله. فلما صار أسامة بعسكره علی أمیال من المدینة بلغهم مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبیدة بن الجراح، فلما دخلوا علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) تغیر لونه وقال: اللهم إني لا آذن لأحد أن یتخلف عن جیش أسامة! وهمَّ أبو بكر بالرجوع إلی أسامة واللحوق به فمنعه عمر!

ثم قال: وقال عمر لأبي بكر: أُكتب إلی أسامة بن زید یقدم علیك، فإن في قدومه علیك قطع الشنعة عنا! فكتب إلیه أبو بكر: بسم الله الرحمن الرحیم، من عبدالله أبي بكر خلیفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلی أسامة بن زید: أما بعد، فانظر إذا أتاك كتابي هذا فأقبل إليّ أنت ومن معك، فإن المسلمین قد اجتمعوا عَلَيَّ، وولوني أمرهم، فلا تتخلفن فتعصیني ویأتیك ما تكره، والسلام. فأجابه أسامة بن زید، وكتب إلیه: بسم الله الرحمن الرحیم. من عبدالله أسامة بن زید عامل رسول الله (صلی الله علیه و آله) علی غزوة الشام إلی أبي بكر بن أبی قحافة، أما بعد فقد أتاني كتابك ینقض أوله آخره! ذكرت فی أوله: أنك خلیفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذكرت في آخره أن الناس قد اجتمعوا علیك، وولوك أمرهم ورضوا بك! واعلم أني ومن معي من المهاجرین والأنصار وجمیع المسلمین ما رضیناك ولا ولیناك أمرنا، فاتق الله ربك، وإذا قرأت كتابي هذا فأقدم إلی دیوانك الذي بعثك فیه النبي (صلی الله علیه و آله) ولا تعصه، وأن تدفع الحق إلی أهله فإنهم أحق به منك، وقد علمت ما قال رسول الله في علي یوم الغدیروما طال العهد فتنسی؟! فانظر أن تلحق بمركزك ولا تتخلف فتعصي الله سبحانه وتعالی ورسوله (صلی الله علیه و آله) وتعصي من استخلفه رسول الله علیك وعلی صاحبك، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) استخلفني علیكم ولم یعزلني، وقد علمت كراهة رسول الله لرجوعكم مني إلی المدینة وقال: لا یتخلفن أحد عن جیش أسامة إلا كان عاصیاً لله ولرسوله! فیالك الویل یا ابن أبي قحافة! تعدل نفسك بعلي بن أبي طالب وهو وارث رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصیه وابن عمه وأبو ولدیه؟! فاتق الله أنت وصاحبك فإنه لكما بالمرصاد وأنتما منه في غرور!

ص: 646

والذي بعث محمداً بالحق نبیاً ما تركت أمة وصي رسولها ولا نقضوا عهده إلا استوجبوا من الله اللعنة والسخط!

فلما وصل الكتاب إلی أبي بكر هم أن یخلعها من عنقه فقال عمر: لا تفعل، قمیص قمصك الله تعالی لا تخلعه فتندم! فقال له: یا عمر أكفرٌ بعد إسلام؟ فألح علیه عمر وقال: أُكتب إلیه وإلی فلان وأمر فلاناً وفلاناً وفلاناً جماعة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) یكتبوا إلیه أن أقدم، ولا تفرق جماعة المسلمین!

فلما وصلت كتبهم قدم المدینة ودخل إلی علي (علیه السلام) فعزاه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكی بكاءً شدیداً وضم الحسن والحسین إلی صدره وقال: یا علي ما هذا؟! قال: هو ما أنت تری! قال: فما تأمرني؟ فأخبره بما عهد إلیه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تركهم حتی یجد أعواناً! ثم أتی أبو بكر إلی أسامة وسأله البیعة؟ فقال له أسامة: إن رسول الله أمَّرنی علیك فمن أمَّرك عَلَيَّ؟ والله لا أبایعك أبداً ولا حللت لك عهدي فلا صلاة لك إلا بصلاتي! أفلا یری من عقل أن أسامة أمیر علی أبي بكر وهو أحق بهذا الأمر وأولی منه، لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مات وهو علیه أمیر، ولم یعزله عن إمرته. فأین الإجماع والرضا مع هذه الأخبار؟!».

وقال في تثبیت الإمامة/22: «فسألناهم البینة من غیر أهل مقالتهم علی أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر أبا بكر بالصلاة بالناس؟ فلم یأتوا بالبینة علی ذلك! وأجمعت الثلاث الفرق التي خالفتهم أن عائشة هي التي أمرت بلالاً عندما آذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: مر أبا بكر أن یصلي بالناس! فبطلت حجة من زعم أن رسول الله أمر أبا بكر بالصلاة، ولم نجد أحداً یشهد لها علی هذا الإدعاء!

ثم أجمع جمیع أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) علی أنه لما أفاق من غشیته سأل: من المتولي للصلاة؟ فقالوا: أبو بكر. فنهض (صلی الله علیه و آله) متوكئاً علی أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب كرم الله وجهه...تخط الأرض قدماه حتی جر أبا بكر من المحراب فأخره وتقدم (صلی الله علیه و آله) فصلی بالناس».

ص: 647

الفصل الثالث والسبعون: مرض النبي (صلی الله علیه و آله) وشهادته

1- النبي (صلی الله علیه و آله) یزور البقیع ویحذر صحابته!

لمَّا أحس بالمرض أخذ بید علي (علیه السلام) واتبعه جماعة من الناس، وذهب الی البقیع فاستغفر لأهله وقال: «السلام علیكم یا أهل القبور، لیهنئكم ما أصبحتم فیه مما فیه الناس، أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولی»! الإرشاد: 1/179 والإفصاح/50.

وفي كنز الفوائد/60، أنه قال لأصحابه في مرضه الذي توفي فیه: «أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولی»!

وقال لهم: «إنه سیجاء برجال من أمتی فیؤخذ بهم ذات الشمال فأقول یا رب أصحابي! فیقال: إنك لا تدری ما أحدثوا بعدك، إنهم لا یزالون مرتدین علی أعقابهم منذ فارقتهم»! وقال لهم: «ألا لأخبرنكم ترتدون بعدي كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض! ألا إني قد شهدت وغبتم»!

وقال لهم: «ستتبعون سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتی لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم. فقالوا: یا رسول الله، الیهود والنصاری؟ قال: فمن إذن؟!». «وسمعهم یذكرون فتنة الدجال فقال لهم: إني لفتنة بعضكم أخوف مني من فتنة الدجال»!

وروت نحوه مصادر السلطة، ففي مسند أحمد: 3/489 عن أبي مویهبة مولی رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) من جوف اللیل«یقصد أیقظني»فقال: یا أبا مویهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقیع فانطلق معي، فانطلقت معه فلما وقف بین أظهرهم قال: السلام علیكم

ص: 648

یا أهل المقابر، لیهْنِ لكم ما أصبحتم فیه مما أصبح فیه الناس! لو تعلمون ما نجاكم الله منه! أقبلت الفتن كقطع اللیل المظلم یتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولی! قال: ثم أقبل علَيَّ فقال: یا أبا مویهبة إني قد أوتیت مفاتیح خزائن الدنیا والخلد فیها ثم الجنة، وخیرت بین ذلك وبین لقاء ربي عزوجل والجنة، قال قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتیح الدنیا والخلد فیها ثم الجنة. قال: لا والله یا أبا مویهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقیع ثم انصرف، فبدأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وجعه الذي قبضه الله عزوجل فیه». وابن هشام: 4/1056، الدارمي:1/36، الحاكم: 3/55، الطبراني الكبیر: 22/347، الطبقات: 2/ 204.

وهذا تأكید ما علیه مزید من النبي (صلی الله علیه و آله) بأن الفتنة تنتظر وفاته، وأن الموتی أحسن حالاً ممن سیقع فیها! ولا تفسیر لها إلا أن الحكم سینحرف من بعده!

لكن السلطة القرشیة تغمض عیونها عما ترویه، وتقول: إن الأمور سارت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بأفضل ما یكون، وإن خیر القرون قرن صحابته!

2- مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله)

تفاوتت الروایة في مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله) بین ثلاثة عشر وثمانیة عشر یوماً، والأخیر أرجح، لأن وفاته كانت یوم الإثنین، وبدأ مرضه یوم السبت.

والمشهور عندنا أن وفاته (صلی الله علیه و آله) كانت في الثامن والعشرین من صفر، وعند أتباع المذاهب أنها في الثاني عشر من ربیع الأول.

وكان مرضه (صلی الله علیه و آله) الحمی والصداع، وقد نفی أئمتنا: أن یكون مرضه ذات الجنب أي التهاب الرئة، ففي الكافي: 8/193، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:

«اشتكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت له عائشة: بك ذات الجنب؟ فقال: أنا أكرم علی الله عزوجل من أن یبتلینی بذات الجنب».

لكن عائشة قالت: «ما مات رسول الله إلا من ذات الجنب»! الزوائد: 9/34.

ص: 649

3- مات النبي (صلی الله علیه و آله) شهیداً بالسُّمّ!

قال الله تعالی: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكمْ وَمَنْ ینْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیهِ فَلَنْ یضُرَّ اللهَ شَیئًاوَسَیجْزِي اللهُ الشَّاكرِینَ.

فأخبر عزوجل بأن وفاته (صلی الله علیه و آله) ستكون بالموت الطبیعي أو بالقتل، وهذا التردید من الله العلیم بكل شئ، یعني فتح الباب لاحتمال قتله بالسیف أو السُّم.

وقد أهدت له یهودیة بعد فتح خیبر شاة مسمومة، وأكلوا منها لقمة أو شموا رائحتها فأخبره الله تعالی بأنها مسمومة، وزعموا أنه أكل منها وأن ذلك السم كان یعاوده سنویاً. أبو داود: 2/370 وابن ماجة: 2/1174.

وقال في شفاء السقام/332: «قال العلماء: فجمع الله له بذلك بین النبوة والشهادة».

لكن أحادیثنا نفت أن یكون النبي (صلی الله علیه و آله) أكل من تلك الشاة، ففي الثاقب لابن حمزة/81: «فلما وضعت الشاة بین یدیه (صلی الله علیه و آله)، تكلمت كتفها فقال: مه یا محمد لا تأكلنی، فإنی مسمومة». فالصحیح أنه (صلی الله علیه و آله) لم یأكل منها.

وروینا أنه مات مسموماً من غیر لحم الشاة، بالدواء الذي لُدَّ به في مرضه! والُّلدود دواء كالمرهم یوضع في الفم!وقد روته عامة مصادرهم.

وخلاصة القصة: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان یغشی علیه من شدة الحمی لدقائق ویفیق، فأحس بأن بعض من حوله یریدون أن یسقوه دواء عندما یغمی علیه، فنهاهم وشدد نهیه علیهم، ومع ذلك عصوه ووضعوا في فمه دواء كالمرهم عندما أغمي علیه فرفضه فوضعوه في فمه بالقوة! فأفاق (صلی الله علیه و آله) ووبخهم علی عملهم، وأمر كل من كان حاضراً أن یشرب من ذلك الدواء، ما عدا بني هاشم!

قال البخاري: 7/17: «قالت عائشة: لددناه في مرضه فجعل یشیر إلینا أن لا تلدوني فقلنا كراهیة المریض للدواء. فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدوني؟! قلنا: كراهیة المریض للدواء. فقال: لایبقی في البیت أحد إلا لد وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم یشهدكم»! «ورواه في: 8/40 و42» وفیه أنه أحس باللد فنهاهم فلم یمتنعوا فعاقبهم!

وفي روایة الحاكم: 4/202:«والذي نفسي بیده لایبقی في البیت أحد إلا لد إلا عمِّي

ص: 650

قال فرأیتهم یلدونهم رجلاً رجلاً قالت عائشة: ومن في البیت یومئذ فیذكر فضلهم، فلُدَّ الرجال أجمعون وبلغ اللدود أزواج النبي فلددن امرأة امرأة»!

ویظهرأنهم لدوه مرتین! أولاهما في أول مرضه (صلی الله علیه و آله)، كما في مسند أحمد: 6/438: عن أسماء بنت عمیس قالت: أول ما اشتكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بیت میمونة فاشتد مرضه حتی أغمي علیه، فتشاور نساؤه في لده فلدوه، فلما أفاق قال: ما هذا؟! فقلنا: هذا فعل نساء جئن من ههنا، وأشرن إلی أرض الحبشة وكانت أسماء بنت عمیس فیهن. قالوا: كنا نتهم فیك ذات الجنب یا رسول الله! قال: إن ذلك لداء ما كان الله عزوجل لیقرفني به!لایبقین في هذا البیت أحد إلا التدَّ إلا عمُّ رسول الله یعني العباس!قال فلقد التدت میمونة یومئذ وإنها لصائمة لعزمة رسول الله.

والمرة الثانیة التي رواها بخاري ومسلم في آخر مرضه یوم الأحد: «ونزل أسامة یوم الأحد، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ثقیل مغمور وهو الیوم الذي لدُّوه فیه، فدخل علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعیناه تهملان». الطبقات: 2/190، تاریخ دمشق: 2/56، عیون الأثر: 2/352، الإمتاع: 14/520 وسبل الهدی: 6/249.

وقد اضطربت روایتهم فیمن وضع الدواء في فم النبي (صلی الله علیه و آله) بالقوة، وسألهم هو فأشاروا في المرة الأولی الی أسماء بنت عمیس، وقالوا له في الثانیة إنه العباس، والصحیح أنهما عائشة وحفصة. كما تحیر الفقهاء في یمینه (صلی الله علیه و آله) بمعاقبة جمیع من حضر وغرضه من ذلك! ولا تفسیر له إلا أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن یفهم أجیال الأمة أنه مات مسموماً، وأن الحاضرین غیر بني هاشم، متهمون بدمه!

ومما یدل علی أن النبي (صلی الله علیه و آله) مات مسموماً قول الإمام الحسن (علیه السلام) بسند صحیح «إنی أموت بالسم كما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقالوا: ومن یفعل ذلك؟! قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قیس، فإن معاویة یدس إلیها ویأمرها بذلك. قالوا: أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك! قال: كیف أخرجها ولم تفعل بعد شیئاً، ولو أخرجتها ما قتلني غیرها وكان لها عذر عند الناس»!

ص: 651

وفي كتاب سلیم/363: «فقام إلیه علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو یبكي فقال: بأبي أنت وأمي یا نبي الله أتُقتل؟ قال: نعم أهلك شهیداً بالسم! وتُقتل أنت بالسیف وتُخضب لحیتك من دم رأسك، ویقتل ابني الحسن بالسم، ویقتل ابني الحسین بالسیف، یقتله طاغٍ ابن طاغ، دعي ابن دعي»! وما رواه العیاشي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «تدرون مات النبي (صلی الله علیه و آله) أو قتل؟ إن الله یقول: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكمْ، فسُمَّ قبل الموت، إنهما سقتاه».!

وما رواه وصححه مجمع الزوائد: 8/34، عن ابن مسعود قال: «لإن أحلف تسعاً أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم یقتل، وذلك بأن الله عزوجل جعله نبیاً واتخذه شهیداً! قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهیم فقال: كانوا یرون أن الیهود سموه»!

ومما یؤید موته بالسم، أنه سقي ذلك الدواء یوم الأحد، وتقیأ دماً یوم الإثنین! قال ابن أبي الحدید في شرح النهج: 10/266: «یروی أنه (صلی الله علیه و آله) قذف دماً یسیراً وقت موته ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال وكانت فیها نفسه».

وبما أنه (صلی الله علیه و آله) نفی أن یكون مرضه ذات الرئة، فالمرجح أنه قذف دماً یوم الإثنین مما سقي یوم الأحد!

4- جاء الأنصار یبكون، فخطب فیهم النبي (صلی الله علیه و آله)

في أمالي المفید/46: «عن عبدالله بن عباس قال: إن علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس، دخلوا علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فیه فقالوا: یا رسول الله هذه الأنصار في المسجد تبكي رجالها ونساؤها علیك. فقال: وما یبكیهم؟ قالوا: یخافون أن تموت. قال (صلی الله علیه و آله): أعطوني أیدیكم فخرج في ملحفة وعصابة حتی جلس علی المنبر، فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أما بعد، أیها الناس، فما تنكرون من موت نبیكم؟ ألم أُنْعَ إلیكم وتُنْع إلیكم أنفسكم؟ لو خُلِّدَ أحد قبلي ثم بعث إلیه لخلدت فیكم. ألا إني لاحق بربي وقد تركت فیكم ما إن تمسكتم به

ص: 652

لن تضلوا: كتاب الله تعالی بین أظهركم، تقرؤونه صباحاً ومساءً، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله، وقد خلفت فیكم عترتي أهل بیتي وأنا أوصیكم بهم، ثم أوصیكم بهذا الحي من الأنصار، فقد عرفتم بلاهم عند الله عزوجل وعند رسوله وعند المؤمنین، ألم یوسعوا في الدیار ویشاطروا الثمار ویؤثروا وبهم الخصاصة؟

فمن ولي منكم أمراً یضر فیه أحداً أو ینفعه فلیقبل من محسن الأنصار، ولیتجاوز عن مسیئهم. وكان آخر مجلس جلسه حتی لقي الله عزوجل».

5- الأمة تواجه رسولها بالإنقلاب علیه!

روت كل المصادر حدیث الإنقلاب علی النبي (صلی الله علیه و آله) الذی قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قریش، فقد وقف في وجه النبي (صلی الله علیه و آله) في مرضه وردَّ علیه ومنعه أن یكتب لأمته عهداً یؤمِّنُها من الضلال، ویجعلها سیدة العالم!

وبمجرد أن أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك أعلن عمر رفضه، وصاح: حسبنا كتاب الله..

وصاح خلفه القرشیون الطلقاء: القول ما قاله عمر، لا تقربوا له شیئاً!

قال البخاري: 1/36: «عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي (صلی الله علیه و آله) وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا: وكثر اللغط! قال (صلی الله علیه و آله): قوموا عني ولا ینبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس یقول: إن الرزیئة كل الرزیئة ما حال بین رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبین كتابه».

«فلما أكثروا اللغو والإختلاف قال رسول الله: قوموا».بخاري: 5/137.

وفي مسلم: 5/75: «عن ابن عباس أنه قال: یوم الخمیس وما یوم الخمیس! ثم جعل تسیل دموعه حتی رأیت علی خدیه كأنها نظام اللؤلؤ! قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله یهجر! وفي روایة أخری: فقال عمر: إن رسول الله قد غلب علیه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله».

ص: 653

وفي مسند أحمد: 3/346: «دعا عند موته بصحیفة لیكتب فیها كتاباً لایضلون بعده قال فخالف علیها عمر بن الخطاب حتی رفضها»!

وفي مجمع الزوائد: 9/33: «عن عمر بن الخطاب قال: لما مرض النبي قال: أُدعوا لي بصحیفة ودواة أكتب كتاباً لاتضلون بعدي أبداً، فكرهنا ذلك أشد الكراهة! ثم قال: أُدعوا لي بصحیفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً! فقال النسوة من وراء الستر: ألاتسمعون ما یقول رسول الله؟ فقلت: إنكن صواحبات یوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعینكن وإذا صح ركبتن رقبته. فقال رسول الله: دعوهن فإنهن خیر منكم»!

وقد وصف المحامي الأردني أحمد حسین یعقوب/182، أجواء المواجهة في كتابه القیم: عدالة الصحابة، فكتب تحت عنوان: المواجهة الصاخبة:

«النبي علی فراش الموت، وجبریل الأمین لا ینقطع عن زیارته، وأكثر ما كان یأتیه جبریل في مرضه. النبي علی علم بمستقبل هذه الأمة وقد أدی دوره كاملاً وبلغ رسالات ربه، وبین لهم كل شئ علی الإطلاق، وهو علی علم تام بما یجري حوله، ومدرك أنه السكون الذي یسبق الإنفجار، فینسف الشرعیة السیاسیة والمرجعیة! وبنسف الشرعیة السیاسیة والمرجعیة یتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ویتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة.

ولكن مثل النبي لاینحني أمام العاصفة، ولا یقعده شئ عن متابعة إحساسه العمیق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة! وبالرغم من كمال الدین وتمام النعمة الإلهیة والبیان الإلهي الشامل لكل شئ تحتاجه الأمة، بما فیه كیف یتبول وكیف یتغوط أفرادها، إلا أنه أراد أن یلخص الموقف لأمته حتی تهتدي وحتی لاتضل، وحتی تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها فتعكر صفو الإسلام وتعیق حركته وتغیر مساره!

النبي علی فراش المرض، وبیته المبارك یغص بأكابر الصحابة، وقد أصر النبي علی تلخیص الموقف والتذكیر بالخط المستقبلي لمسیرة الإسلام، فقال: قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي؟ من یرفض التأمین ضد

ص: 654

الضلالة؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟

ثم، إن من حق أي مسلم أن یوصي، ومن حق أي مسلم أن یقول ما یشاء قبل موته، والذین یسمعون قوله أحرار فیما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله!

هذا إذا افترضنا أن محمداً مجرد مسلم عادي، ولیس نبیاً وقائداً للأمة.

فتصدی الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال: إن النبي قد غلب علیه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!

فاختلف أهل البیت فاختصموا، منهم من یقول قربوا یكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، ومنهم من یقول: القول ما قاله عمر!

فلما أكثروا اللغو والإختلاف عند النبي قال لهم رسول الله: قوموا عني!

وفي روایة ثانیة أن الرسول عندما قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، تنازعوا ولا ینبغي عند نبي تنازع، فقالوا هجر رسول الله! قال النبی: دعوني فالذي أنا فیه خیر مما تدعوني إلیه!.

وفي روایة ثالثة، قال النبي: إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا: إن رسول الله یهجر.

وفي روایة رابعة للبخاري: إن النبي قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر بن الخطاب: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وأكثروا اللغط! قال النبي: قوموا عني ولا ینبغي عندي التنازع.

روایة بلفظ خامس للبخاري: قال النبي: إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ینبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه أهجر؟ إستفهموه. فذهبوا یرددون علیه فقال: دعوني فالذي أنا فیه خیر مما تدعوني إلیه.

روایة بلفظ سادس للبخاري: قال النبي: إئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ینبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر، استفهموه، فقال النبي: ذروني فالذي أنا فیه خیر مما تدعوني إلیه.

روایة بلفظ سابع للبخاري: قال النبي: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده.

ص: 655

قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله! واختلف أهل البیت واختصموا فمنهم من یقول: قربوا یكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من یقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والإختلاف عند النبي قال: قوموا عني. وفي روایة أن عمر بن الخطاب قال: إن النبي یهجر.

وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتی لا یجعل الأمر لعلي!

تحلیل المواجهة:

أطراف المواجهة: الطرف الأول، محمد رسول الله وخاتم النبیین وإمام الدولة الإسلامیة«رئیسها». الطرف الثاني، عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة، ووزیر من أبرز وزراء دولة النبي، والخلیفة الثاني من خلفاء النبي فیما بعد.

مكان المواجهة: بیت النبي.

شهود المواجهة: كبار الصحابة رضوان الله علیهم.

النتائج الأولیة للمواجهة:

1- الإنقسام: إن الحاضرین قد انقسموا إلی قسمین: القسم الأول: یؤید الفاروق فیما ذهب إلیه من الحیلولة بین الرسول وبین كتابة ما یرید. وحجة هذا الفریق أن الفاروق من كبار الصحابة، وأحد وزراء النبي، ومشفق علی الإسلام، وأن النبي مریض، وبالتالي فلا داعي لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب. ثم إن القرآن وحده یكفي، فهو التأمین ضد الضلالة، ولا داعي لأي كتاب آخر یكتبه النبي!

القسم الثاني: یرفض المواجهة أصلاً بین التابع والمتبوع وبین نبي ومصدق به وبین رسول یتلقی تعلیماته من الله، وبین مجتهد یعمل بما یوحیه له اجتهاده، وبین رئیس دولة ونبي بنفس الوقت وبین واحد من وزرائه.

ویری هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي لیقول ما یرید، ولكتابة ما یرید لأنه نبي وما زال نبیاً حتی یتوفاه الله، ولأنه رئیس الدولة وما زال رئیساً للدولة حتی یتوفاه الله ویحل رئیس آخر محله.

ثم علی الأقل، لأنه مسلم یتمتع بالحریة كما یتمتع بها غیره، ومن حقه أن یقول ما

ص: 656

یشاء وأن یكتب ما یشاء. ثم إن الأحداث والمواجهة تجري في بیته فهو صاحب البیت ومن حق أي إنسان أن یقول ما یشاء في بیته.

2- بروز قوة هائلة جدیدة: برز الفاروق كقوة جدیدة هائلة استطاعت أن تحول بین النبي وبین كتابة ما یرید، واستطاعت أن تستقطب لرأیها عدداً كبیراً من المؤیدین بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه»! انتهی كلام المحامي الأردني.

أقول: جاء انقلاب یوم الخمیس نتیجة صراع قریش مع النبي (صلی الله علیه و آله) الذی أخذ منحی جدیداً بعد فتح مكة، فقد قرر زعماء قریش أن یخوضوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) المواجهة حول خلافته وأن تكون بزعامة عمر! وكثفوا وجود الطلقاء في المدینة لشد ظهر عمر فبلغوا ألوفاً! لأن الذین كتب النبي (صلی الله علیه و آله) أسماءهم منهم في جیش أسامة كانوا سبع مئة!فتح الباري: 8/116.

وقد أخبر الله تعالی نبیه (صلی الله علیه و آله) أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة: «وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَینَاتُ وَلَكنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكنَّ اللهَ یفْعَلُ مَا یرِیدُ». البقرة: 253.

فكان النبي (صلی الله علیه و آله) یؤكد علی مكانة أهل بیته: ویحذر أمته أن یرتدوا بعده كفاراً یضرب بعضهم رقاب بعض، لأجل الحكم والخلافة! وخطب فیهم في حجة الوداع خمس خطب بیَّنَ فیها كل ما ینبغي بیانه وبشرهم بالأئمة الإثني عشر: من عترته بعده، وأكد علی وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والإنهیار!

«وفي خطبته السادسة بغدیرخم أخذ بید علي (علیه السلام) وأصعده المنبر وأعلنه خلیفته، وأمرهم أن یهنئوه ویبایعوه ففعلوا، وكان عمر أول المهنئین! فقال كما في حدیثهم الصحیح: بخٍ بخٍ لك یا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولی كل مسلم».

وفی مرض وفاته (صلی الله علیه و آله) أمره ربه عزوجل أن یدعو أصحابه وأهل الحل والعقد من أمته ویتم علیهم الحجة، فعرض علیهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته! أن یضمن لهم أن یكونوا سادة العالم إلی یوم القیامة، بشرط أن یقبلوا حكم الله

ص: 657

ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ویلتزموا بتنفیذ عهد یكتبه لهم! فانبری له عمر بالنیابة عن قریش فرد علیه، وأعلن رفضهم لعرضه!

فشد ظهر عمر أكثر الحاضرین وصاحوا في وجهه (صلی الله علیه و آله): القول ما قاله عمر، أي لا نرید أن تكتب لنا كتاباً، ولا نرید أمانك من الضلال! فقد غلب علیك الوجع وفقدت الصلاحیة العقلیة فأنت تهذي! فردوا علیه وأهانوه (صلی الله علیه و آله)، وحكموا علیه بأنه فقد عقله فهو یهذي! واختاروا الضلال عن عمد وإصرار، وأن یصادروا من نبیهم (صلی الله علیه و آله) قیادة الأمة ویعطوها إلی عمر، زعیم قریش الجدید!

واضطر النبي المظلوم (صلی الله علیه و آله) إلی السكوت، لأنهم خیروه بین الكف عن كتابة عهده وبین أن یعلنوا الردة، وأنه لیس نبیاً بل أراد تأسیس ملك لأسرته كملك كسری وقیصر! فالیوم ابن عمه علي ابن الثلاث والثلاثین سنة ثم من بعده أولاد ابنته الذین هم دون العاشرة، وإن دخلت الخلافة فیهم فلن تخرج منهم، ولن یصل إلی قبائل قریش شئ، وهذا ظلم لقریش ما بعده ظلم!

لهذا، تقدم عمربتخویل زعماء قریش، وواجهه بالقول إن بني هاشم تكفیهم النبوة، والخلافة یجب أن تكون لبقیة البطون، وبنو هاشم فیها كغیرهم لا أكثر!

قال عمر، شرح النهج: 12/21 لعبدالله بن عباس: «یا عبدالله علیك دماء البدن إن كتمتنیها! هل بقي فی نفسه (علي) شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أیزعم أن رسول الله نص علیه؟ قلت: نعم، وأزیدك سألت أبي عما یدعیه فقال: صدق. فقال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ (طرف) من قول لایثبت حجة ولا یقطع عذراً، ولقد كان یربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن یصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحیطة علی الإسلام! لا ورب هذه البنیة لا تجتمع علیه قریش أبداً، ولو ولیها لانتقضت علیه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما فی نفسه، فأمسك». ثم قال ابن أبي الحدید: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاریخ بغداد في كتابه مسنداً.

لكنهم حذفوه من تاریخ بغداد! ولعل السبب أن عمر صرح فیه بأنه منع النبي (صلی الله علیه و آله) أن

ص: 658

یكتب الكتاب لعلي (علیه السلام) بالخلافة، وادعی أن دافعه لمواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) الإشفاق علی الإسلام، لأن قریشاً والعرب لا یطیعون علیاً (علیه السلام) !

وهكذا اعتبرت قریش أنها انتصرت علی النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته، فمنعته من كتابة عهده لعترته! وما إن أغمض عینیه (صلی الله علیه و آله) حتی سارعت بالصفق علی ید خلیفتها، وأسست نظام الخلافة القرشي علی قانون الغلبة والتسلط! وفتحت بذلك صراعاً علی السلطة لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً للدماء! وكان نتیجة هذا النظام بعض فتوحات علی غیر منهج، ثم غلبة غلمان بني أمیة علی الخلافة، ثم غلمان بني العباس، ثم غلمان الشراكسة والعثمانیین، حتی انهارت الخلافة ودفنها الغربیون في استانبول!

كانت المدة بین یوم الغدیر یوم الخمیس 18 ذي الحجة، وبین یوم الخمیس یوم الرزیة 24 صفر من نفس السنة ستاً وستین یوماً فقط! نشط فیها القرشیون ضد خلافة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ووقعت أحداث ونزلت آیات، وصدرت من النبي (صلی الله علیه و آله) خطب وأحادیث! ومن أبرزها دعوتهم الی كتابة عهده، فأفشلوها كما رأیت!

وقبلها إرسالهم في جیش أسامة لیخلو الجو منهم في المدینة، فیرتب الخلافة قبل وفاته! فأفشلوا جیش أسامة كما رأیت، وكان لحفصة وعائشة دور خطیر كما قال الله تعالی: إِنْ تَتُوبَا إِلَی اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَیهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِیلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمَلائِكةُ بَعْدَ ذَلِك ظَهِیرٌ.

وتدل روایة سُلیم بن قیس/324، علی أن النبي (صلی الله علیه و آله) حاول في آخر یوم من حیاته الشریفة أیضاً أن یكتب عهده فوقف عمر نفس الموقف! قال سلیم: «كنت عند عبدالله بن عباس في بیته وعنده رهط من الشیعة، قال فذكروا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وموته فبكی ابن عباس وقال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) یوم الإثنین وهو الیوم الذي قبض فیه وحوله أهل بیته وثلاثون رجلاً من أصحابه: إیتوني بكتف أكتب لكم فیه كتاباً لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي! فمنعهم رجل فقال: إن رسول الله یهجر! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: إني أراكم تخالفوني وأنا

ص: 659

حي فكیف بعد موتي! قال سلیم: ثم أقبل علی ابن عباس فقال: یا سلیم، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا یضل أحد ولایختلف! فقال رجل من القوم: ومن ذلك الرجل؟فقال: لیس إلی ذلك سبیل. فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال: هو عمر. فقلت: صدقت قد سمعت علیاً وسلمان وأباذر والمقداد یقولون إنه عمر. فقال: یا سلیم أكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك، فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذین الرجلین كما أشربت قلوب بني إسرائیل حب العجل»!

كما یدل قول الطبري الشیعي في المسترشد/680، علی غضب النبي (صلی الله علیه و آله) وحزنه عندما أمرهم بالقبول بعهده فعصوه! قال: «ألیس قال الرسول (صلی الله علیه و آله) وقد تغرغر «شرق بكلماته حزناً» إیتوني بدواة وصحیفة أكتب لكم ما لا تضلون معه بعدي. فقال الثاني: هجر رسول الله، ثم قال: حسبنا كتاب الله»!

أقول: عملت السلطة بكل حیلة لإخفاء هذه القضیة وتغییبها، وتفسیر ما أفلت منها لمصلحتها، ثم دافعوا عن قادة الإنقلاب وجعلوا فعلهم صواباً، وجعلوا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالكتابة خطأ! وهنا بحوث مهمة. راجع: ألف سؤال وإشكال: 2/369.

6- وصایا النبي (صلی الله علیه و آله) العامة والخاصة

مع أن زعماء قریش منعوا النبي (صلی الله علیه و آله) من كتابة عهده لأمته، فقد صدرت عنه مجموعة وصایا: منها للمسلمین، ومنها لعلي وفاطمة والحسنین:.

ومنها وصیته (صلی الله علیه و آله) التي نزل بها جبرئیل، وشهد علیها هو والملائكة:.

ومنها عهد الله تعالی للأئمة (علیهم السلام) الذي جاء به جبرئیل (علیه السلام) في صحف مختومة لكل إمام باسمه.

ومنها عهد الله تعالی الی الأئمة من ذریة فاطمة: في اللوح الذي جاء به جبرئیل (علیه السلام) هدیة من الله تعالی لفاطمة (علیها السلام).

هذا مضافاً الی تأكیداته المتواصلة علی الثقلین والخلیفتین بعده: كتاب الله وعترته أهل بیته:، وعلی علي (علیه السلام) بصفته أول العترة.

ص: 660

ولا یتسع المجال لتفصیل هذه الوصایا النبویة، التي أخفاها رواة السلطة، لكن بقي منها ما فیه بلاغ لمن كان له قلب.

7- تأكیداته الأخیرة علی علي والعترة (علیهم السلام)

في أمالي المفید/134، عن أبي سعید الخدري: «إن آخر خطبة خطبنا بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لخطبة خطبنا في مرضه الذي توفي فیه، خرج متوكیاً علی علي بن أبي طالب ومیمونة مولاته، فجلس علی المنبر ثم قال: یا أیها الناس إني تارك فیكم الثقلین وسكت. فقام رجل فقال: یا رسول الله ما هذان الثقلان؟ فغضب حتی احمر وجهه ثم سكن، وقال: ما ذكرتهما إلا وأنا أرید أن أخبركم بهما ولكن رَبَوْتُ فلم أستطع: سبب طرفه بید الله وطرف بأیدیكم تعملون فیه كذا، ألا وهو القرآن، والثقل الأصغر أهل بیتي. ثم قال: وأیم الله إني لأقول لكم هذا ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجی عندي من كثیر منكم! ثم قال: والله لایحبهم عبد إلا أعطاه الله نوراً یوم القیامة حتی یرد عليَّ الحوض، ولا یبغضهم عبد إلا احتجب الله عنه یوم القیامة»!

وفي مناقب آل أبي طالب: 2/217: «حلیة الأولیاء، وفضایل السمعاني، وكتاب الطبرانی، والنطنزي، بالإسناد عن عبدالرحمن بن أبي لیلی، عن الحسن بن علي قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أُدعوا لي سید العرب یعني علیاً، فقالت عایشة: ألست سید العرب؟ قال: أنا سید ولد آدم وعلي سید العرب. فلما جاء أرسل إلی الأنصار فأتوه فقال: معاشر الأنصار علی ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده. قالوا: بلی یا رسول الله.

قال: هذا علي فأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي، فإن جبرئیل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل.. وفي روایة: فقالت عایشة: وما السید؟ قال: من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي».

وفي كفایة الأثر/41: عن سلمان الفارسي قال: «خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: معاشر الناس إني راحل عن قریب ومنطلق إلی المغیب، أوصیكم فی عترتي

ص: 661

خیراً، وإیاكم والبدع، فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار.

معاشر الناس: من افتقد الشمس فلیتمسك بالقمر، ومن افتقد القمر فلیتمسك بالفرقدین، فإذا فقدتم الفرقدین فتمسكوا بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: فلما نزل عن المنبر (صلی الله علیه و آله) تبعته حتی دخل بیت عائشة فدخلت إلیه وقلت: بأبي أنت وأمي یا رسول الله سمعتك تقول: إذا افتقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر، وإذا افتقدتم القمر فتمسكوا بالفرقدین، وإذا افتقدتم الفرقدین فتمسكوا بالنجوم الزاهرة. قیل: فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة؟ فقال: أنا الشمس وعلي القمر والحسن والحسین الفرقدان، فإذا افتقدتموني فتمسكوا بعلي بعدي، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسین. وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسین تاسعهم مهدیهم. ثم قال (صلی الله علیه و آله): إنهم هم الأوصیاء والخلفاء بعدي، أئمة أبرار، عدد أسباط یعقوب وحواري عیسی.

قلت: فسمهم لي یا رسول الله. قال: أولهم علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي، وبعدهما علي زین العابدین، وبعده محمد بن علي الباقر علم النبیین، والصادق جعفر بن محمد، وابنه كاظم سمي موسی بن عمران والذي یقتل بأرض الغربة، ثم ابنه علي، ثم ابنه محمد، والصادقان علي والحسن، والحجة القائم المنتظر فی غیبته، فإنهم عترتي من دمي ولحمي، علمهم علمي وحكمهم حكمي، من آذاني فیهم فلا أناله الله شفاعتي». ومناقب آل أبي طالب: 1/242.

وفي كتاب سلیم/300 و414، أن أمیر المؤمنین ناشد كبار الصحابة، فكان مما قاله: «أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام خطیباً ولم یخطب بعدها.. ثم دخل بیته فلم یخرج حتی قبضه الله إلیه، وقال: یا أیها الناس، إني قد تركت فیكم أمرین لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فإنه قد عهد إلی اللطیف الخیبر أنهما لن یفترقا حتی یردا عليَّ الحوض؟ فقالوا: اللهم نعم قد شهدنا ذلك.. فقال (علیه السلام): حسبي الله».

وفي تفسیر العیاشي: 1/5: «عن مسعدة بن صدقة قال: قال أبو عبدالله (علیه السلام): إن الله جعل ولایتنا أهل البیت قطب القرآن وقطب جمیع الكتب، علیها یستدیر محكم

ص: 662

القرآن، وبها نوهت الكتب، ویستبین الإیمان. وقد أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یقتدی بالقرآن وآل محمد، وذلك حیث قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فیكم الثقلین: الثقل الأكبر و الثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي، وأما الأصغر فعترتي أهل بیتی، فاحفظوني فیهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما».

وفي الكافي: 2/414: «عن سلیم بن قیس قال: سمعت علیاً صلوات الله علیه یقول وأتاه رجل فقال له: ما أدنی ما یكون به العبد مؤمناً وأدنی ما یكون به العبد كافراً وأدنی ما یكون به العبد ضالاً؟ فقال له: قد سألت فافهم الجواب: أما أدنی ما یكون به العبد مؤمناً أن یعرفه الله تبارك وتعالی نفسه فیقر له بالطاعة، ویعرفه نبیه (صلی الله علیه و آله) فیقر له بالطاعة، ویعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده علی خلقه فیقر له بالطاعة. قلت له: یا أمیر المؤمنین وإن جهل جمیع الأشیاء إلا ما وصفت؟ قال: نعم إذا أُمِرَ أطاع، وإذا نُهِی انتهی.

وأدنی ما یكون به العبد كافراً: من زعم أن شیئاً نهی الله عنه أن الله أمر به، ونصبه دیناً یتولی علیه ویزعم أنه یعبدالذي أمره به، وإنما یعبدالشیطان.

وأدنی ما یكون به العبد ضالاً أن لا یعرف حجة الله تبارك وتعالی وشاهده علی عباده، الذی أمر الله عزوجل بطاعته وفرض ولایته.

قلت: یا أمیر المؤمنین صفهم لي فقال: الذین قرنهم الله عزوجل بنفسه ونبیه، فقال: یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكمْ. قلت: یا أمیر المؤمنین جعلني الله فداك أوضح لی، فقال: الذین قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في آخر خطبته یوم قبضه الله عزوجل إلیه: إني قد تركت فیكم أمرین لن تضلوا بعدی ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بیتي، فإن اللطیف الخبیر قد عهد إليّ أنهما لن یفترقا حتی یردا عليّ الحوض كهاتین، وجمع بین مسبحتیه، ولا أقول كهاتین، وجمع بین المسبحة والوسطی، فتسبق إحداهما الأخری، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا».

وفي المراجعات/279: «وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة،

ص: 663

اقترانهم بكتاب الله عزوجل الذي لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، فكما لا یجوز الرجوع إلی كتاب یخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالی، لا یجوز الرجوع إلی إمام یخالف في حكمه أئمة العترة».

أقول: ورد في أحادیث النبي (صلی الله علیه و آله) وصف القرآن بالثقل الأكبر، ووصف أئمة العترة بالثقل الأصغر. ثم ورد النص علی أنهما لیسا متفاوتین كالأصبع الوسطی والسبابة، بل هما متساویان كالسبابتین. وهذا یعني أن الصغر والكبر لا یرجع الی ذاتهما فهما متساویان، بل الی شیئ یتعلق بهما وبنوع علاقة الأمة بهما، أو التكلیف والمسؤولیة عنهما وما شابه. وعندنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) وكذا عترته: أعظم شأناً وأفضل من القرآن، علی عظمته وعلو شأنه.

8- الوصیة التي نزلت من الله تعالی الی الأئمة (علیهم السلام)

نصت أحادیث وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أملاها علی علي (علیه السلام) فكتبها وأخذ تعهده بها ثم طلب من جبرئیل (علیه السلام) أن یشهد علیها، فعرج بها ثم جاء بصحیفة مختومة ومعه الملائكة لیشهدوا علی تبلیغ النبي (صلی الله علیه و آله) إیاها لعلي (علیه السلام)، وتعهده بتنفیذها!

ففي الكافي: 1/281، عن الإمام الكاظم أنه سأل أباه الصادق (علیهما السلام) قال: «قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) ألیس كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) كاتب الوصیة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) المملي علیه وجبرئیل والملائكة المقربون (علیه السلام) شهود؟ قال: فأطرق طویلاً ثم قال: یا أبا الحسن قد كان ما قلت، ولكن حین نزل برسول الله (صلی الله علیه و آله) الأمر نزلت الوصیة من عند الله كتاباً مسجلاً، نزل به جبرئیل مع أمناء الله تبارك وتعالی من الملائكة، فقال جبرئیل: یا محمد، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصیك لیقبضها منا، وتشهدنا بدفعك إیاها إلیه، ضامناً لها، یعنی علیاً (علیه السلام). فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإخراج من كان في البیت ما خلا علیاً، وفاطمة فیما بین الستر والباب، فقال جبرئیل: یا محمد ربك یقرئك السلام ویقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إلیك وشرطت علیك وشهدت به علیك، وأشهدت به علیك ملائكتي وكفی بي یا محمد شهیداً. قال: فارتعدت مفاصل النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: یا جبرئیل، ربي هو السلام، ومنه السلام، وإلیه یعود السلام، صدق عزوجل وبر،

ص: 664

هات الكتاب، فدفعه إلیه وأمره بدفعه إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فقال له: إقرأه، فقرأه حرفاً حرفاً، فقال: یا علي هذا عهد ربي تبارك وتعالی إليّ وشرطه علَيَّ وأمانته، وقد بلغت ونصحت وأدیت. فقال علي: وأنا أشهد لك بأبي وأمي أنت بالبلاغ والنصیحة، والتصدیق علی ما قلت، ویشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي. فقال جبرئیل: وأنا لكما علی ذلك من الشاهدین. فقال رسول الله: یا علي أخذت وصیتي وعرفتها، وضمنت لله ولي الوفاء بما فیها؟ فقال علي: نعم بأبي أنت وأمي علی ضمانها، وعلی الله عوني وتوفیقي علی أدائها.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا علي إنی أرید أن أشهد علیك بموافاتي بها یوم القیامة! فقال علي (علیه السلام) نعم أشهد. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إن جبرئیل ومیكائیل فیما بیني وبینك الآن، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم علیك.

فقال: نعم لیشهدوا وأنا بأبي أنت وأمي أشهدهم. فأشهدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وكان فیما اشترط علیه النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر جبرئیل (علیه السلام) فیما أمر الله عزوجل أن قال له: یا علي تفي بما فیها من موالاة من والی الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادی الله ورسوله والبراءة منهم. علی الصبر منك، وعلی كظم الغیظ، وعلی ذهاب حقك، وغصب خمسك، وانتهاك حرمتك؟

فقال: نعم یا رسول الله. فقال أمیر المؤمنین: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئیل (علیه السلام) یقول للنبي (صلی الله علیه و آله): یا محمد عَرِّفْه أنه تُنتهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله، وعلی أن تخضب لحیته من رأسه بدم عبیط!

قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): فصعقت حین فهمت الكلمة من الأمین جبرئیل، حتی سقطت علی وجهي وقلت: نعم قبلت ورضیت، وإن انتهكت الحرمة، وعطلت السنن، ومزق الكتاب، وهدمت الكعبة، وخضبت لحیتي من رأسي بدم عبیط، صابراً محتسباً أبداً، حتی أقدم علیك! ثم دعا رسول الله فاطمة والحسن والحسین: وأعلمهم مثل ما أعلم أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فقالوا مثل قوله! فختمت الوصیة بخواتیم من ذهب، لم تمسه النار، ودفعت إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام).

ص: 665

قال الراوي: فقلت لأبي الحسن«الإمام الكاظم (علیه السلام)»: بأبي أنت وأمي، ألا تذكر ما كان في الوصیة؟ فقال: سنن الله وسنن رسوله. فقلت: أكان في الوصیة توثبهم وخلافهم علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ؟ فقال: نعم والله شیئاً شیئاً، وحرفاً حرفاً، أما سمعت قول الله عزوجل: إِنَّا نَحْنُ نُحْیي الْمَوْتَی وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكلَّ شَئٍْ أَحْصَینَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِینٍ.

والله لقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأمیر المؤمنین وفاطمة (صلی الله علیه و آله): ألیس قد فهمتما ما تقدمت به إلیكما وقبلتماه؟ فقالا: بلی وصبرنا علی ما ساءنا وغاظنا»!!

أقول: نقل صاحب البحار (رحمة الله) أحادیث هذه الوصیة: 22/476 من كتاب الطُّرف لابن طاووس (رحمة الله) عن كتاب عیسی بن المستفاد، وهو الراوي الأخیر في سند حدیث الكلیني، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده موته وأخرج من كان عنده في البیت غیري، والبیت فیه جبرئیل والملائكة أسمع الحس ولا أری شیئاً، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاب الوصیة من ید جبرئیل مختومة فدفعها إليّ وأمرني أن أفضها ففعلت، وأمرني أن أقرأها فقرأتها فقال: إن جبرئیل عندي، أتاني بها الساعة من عند ربي فقرأتها، فإذا فیها كل ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) یوصي به شیئاً شیئاً ما تغادر حرفاً!

وبالإسناد المتقدم عنه عن أبیه عن جده الباقر: قال: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): كنت مسند النبي (صلی الله علیه و آله) إلی صدری لیلة من اللیالي في مرضه، وقد فرغ من وصیته وعنده فاطمة ابنته، وقد أمر أزواجه والنساء أن یخرجن من عنده ففعلن، فقال: یا أبا الحسن تحول من موضعك وكن أمامي، قال ففعلت، وأسنده جبرئیل (علیه السلام) إلی صدره، وجلس میكائیل (علیه السلام) علی یمینه فقال: یا علي ضم كفیك بعضها إلی بعض ففعلت، فقال لي: قد عهدت إلیك أحدث العهد لك بمحضر أمیني رب العالمین: جبرئیل ومیكائیل، یا علي بحقهما علیك إلا أنفذت وصیتي علی ما فیها وعلی قبولك إیاها بالصبر والورع علی منهاجي وطریقي، لا طریق فلان وفلان، وخذ ما آتاك الله بقوة. وأدخل یده فیما بین كفي وكفاي مضمومتان، فكأنه أفرغ بینهما شیئاً فقال: یا علي قد أفرغت بین یدیك الحكمة وقضاء ما یرد علیك، وما هو وارد لا یعزب عنك من أمرك شئ، وإذا حضرتك الوفاة، فأوص وصیتك

ص: 666

إلی من بعدك علی ما أوصیك، واصنع هكذا بلا كتاب ولا صحیفة».

وفیه عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): كان في وصیة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أولها: بسم الله الرحمن الرحیم، هذا ما عهد محمد بن عبدالله (صلی الله علیه و آله) وأوصی به، وأسنده بأمر الله إلی وصیه علي بن أبي طالب أمیر المؤمنین.

وكان في آخر الوصیة: شهد جبرئیل ومیكائیل وإسرافیل علی ما أوصی به محمد إلی علي بن أبي طالب، وقبضه وصیه، وضمانه علی ما فیها علی ما ضمن یوشع بن نون لموسی بن عمران، وعلی ما ضمن وأدی وصي عیسی بن مریم، وعلی ما ضمن الأوصیاء قبلهم، علی أن محمد أفضل النبیین وعلیاً أفضل الوصیین. وأوصی محمد وسلم إلی علي وأقر علي، وقبض الوصیة علی ما أوصی به الأنبیاء، وسلم محمد الأمر إلی علي بن أبي طالب، وولاه الأمر علی أن لانبوة لعلي ولا لغیره بعد محمد، وكفی بالله شهیداً».

وفیه أیضاً: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) حین دفع إلیه الوصیة: إتخذْ لها جواباً غداً بین یدي الله تبارك وتعالی رب العرش، فإنی محاجك یوم القیامة بكتاب الله حلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه علی ما أنزل الله، وعلی ما أمرتك، وعلی فرائض الله كما أنزلت، وعلی الأحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتنابه، مع إقامة حدود الله وشروطه، والأمور كلها، وإقام الصلاة لوقتها، وإیتاء الزكاة لأهلها، وحج البیت، والجهاد في سبیل الله، فما أنت قائل یا علي؟

فقال علي: بأبي أنت وأمي، أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته علیك، أن یعینني ربي ویثبتني، فلا ألقاك بین یدي الله مقصراً ولا متوانیاً

ولا مفرطاً، ولا أمغز وجهك، وِقَاهُ وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي، بل تجدني

بأبي أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصیتك ومنهاجك وطریقك ما دمت حیاً، حتی أقدم بها علیك، ثم الأول فالأول من ولدي، لا مقصرین ولا مفرطین.

قال علي (علیه السلام) ثم انكببت علی وجهه وعلی صدره وأنا أقول: واوحشتاه بعدك بأبي أنت وأمي، ووحشة ابنتك وبنیك، بل وأطول غمی بعدك یا أخي، انقطعت

ص: 667

من منزلي أخبار السماء، وفقدت بعدك جبرئیل ومیكائیل، فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً، فأغمي علیه طویلاً، ثم أفاق (صلی الله علیه و آله).

قال أبو الحسن: فقلت لأبي: فما كان بعد إفاقته؟ قال: دخل علیه النساء یبكین وارتفعت الأصوات، وضج الناس بالباب من المهاجرین والأنصار، فبیناهم كذلك إذ نودي: أین علي؟ فأقبل حتی دخل علیه، قال علي (علیه السلام) فانكببت علیه فقال: یا أخي إفهم فَهَّمَك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك، وغفر ذنبك ورفع ذكرك، إعلم یا أخي أن القوم سیشغلهم عني ما یشغلهم، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً، وإنما تؤتی من كل فج عمیق ونأي سحیق، ولا تأتي. وإنما أنت علم الهدی ونور الدین وهو نور الله.

یا أخي، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إلیهم بالوعید بعد أن أخبرتهم، رجلاً رجلاً، ما افترض الله علیهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، وكل أجاب وسلم إلیك الأمر، وإني لأعلم خلاف قولهم! فإذا قبضت وفرغت من جمیع ما أوصیك به، وغیبتني في قبري فالزم بیتك، واجمع القرآن علی تألیفه، والفرائض والأحكام علی تنزیله، ثم امض علی غیر لائمة علی ما أمرتك به، وعلیك بالصبر علی ما ینزل به وبها حتی تقدموا علَيَّ».

وفیه عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قلت لأبي: فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: فقال: ثم دعا علیاً وفاطمة والحسن والحسین وقال لمن في بیته: أُخرجوا عني، وقال لأم سلمة: كوني علی الباب فلا یقربه أحد ففعلت، ثم قال: یا علی أُدن مني فدنا منه فأخذ بید فاطمة فوضعها علی صدره طویلاً،

وأخذ بید علي بیده الأخری، فلما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الكلام غلبته عبرته، فلم یقدر علی الكلام، فبكت فاطمة (علیها السلام) بكاء شدیداً وعلي والحسن والحسین: لبكاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقالت فاطمة: یا رسول الله قد قطعت قلبي، وأحرقت كبدي لبكائك، یا سید النبیین من الأولین والآخرین، ویا أمین ربه ورسوله ویا حبیبه ونبیه، من لولدي بعدك؟ ولذل ینزل بي بعدك؟! من لعلي أخیك وناصر الدین؟ من

ص: 668

لوحي الله وأمره؟ ثم بكت وأكبت علی وجهه فقبلته، وأكب علیه علي والحسن والحسین، فرفع رأسه (صلی الله علیه و آله) إلیهم ویدها في یده فوضعها في ید علي وقال له: یا أبا الحسن هذه ودیعة الله وودیعة رسوله محمد عندك، فاحفظ الله واحفظني فیها وإنك لفاعله. یا علي هذه والله سیدة نساء أهل الجنة من الأولین والآخرین، هذه والله مریم الكبری. أما والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتی سألت الله لها ولكم فأعطاني ما سألته.

یا علي، أنفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشیاء أمر بها جبرئیل (علیه السلام)، واعلم یا علي أني راض عمن رضیت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته.

یا علي، ویل لمن ظلمها وویل لمن ابتزها حقها، وویل لمن هتك حرمتها، وویل لمن أحرق بابها، وویل لمن آذی خلیلها، وویل لمن شاقها وبارزها.

اللهم إني منهم بريء، وهم مني برآء، ثم سماهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضم فاطمة إلیه وعلیاً والحسن والحسین: وقال: اللهم إني لهم ولمن شایعهم سلم، وزعیم بأنهم یدخلون الجنة، وعدو وحرب لمن عاداهم وظلمهم وتقدمهم أو تأخر عنهم وعن شیعتهم، زعیم بأنهم یدخلون النار. ثم والله یا فاطمة لا أرضی حتی ترضَيْ، ثم لا والله لا أرضیٰ حتی ترضَيْ، ثم لا والله لا أرضی حتی ترضَيْ.

قال عیسی: فسألت موسی (علیه السلام) وقلت: إن الناس قد أكثروا في أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر أبا بكر أن یصلي بالناس ثم عمر، فأطرق عني طویلاً ثم قال: لیس كما ذكروا، ولكنك یا عیسی كثیر البحث عن الأمور، ولا ترضی عنها إلا بكشفها.فقلت: بأبي أنت وأمي إنما أسال عما أنتفع به فی دیني وأتفقه مخافة أن أضل وأنا لا أدري، ولكن متی أجد مثلك یكشفها لي.

فقال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) لما ثقل في مرضه دعا علیاً فوضع رأسه في حجره، وأغمي علیه وحضرت الصلاة فأذِّن بها فخرجت عائشة فقالت: یا عمر أُخرج فصل بالناس فقال: أبوك أولی بها، فقالت: صدقت ولكنه رجل لین وأكره أن یواثبه القوم فصلِّ أنت، فقال لها عمر: بل یصلي هو وأنا أكفیه إن

ص: 669

وثب واثب أو تحرك متحرك، مع أن محمداً مغمی علیه لا أراه یفیق منها، والرجل مشغول به لا یقدر أن یفارقه، یرید علیاً (علیه السلام)، فبادره بالصلاة قبل أن یفیق، فإنه إن أفاق خفت أن یأمر علیاً بالصلاة، فقد سمعت مناجاته منذ اللیلة، وفي آخر كلامه: الصلاة الصلاة! قال: فخرج أبو بكر لیصلي بالناس فأنكر القوم ذلك، ثم ظنوا أنه بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلم یكبِّر حتی أفاق (صلی الله علیه و آله) وقال: أُدعوا لي العباس فدعی فحمله هو وعلي فأخرجاه حتی صلی بالناس وإنه لقاعد، ثم حمل فوضع علی منبره فلم یجلس بعد ذلك علی المنبر، واجتمع له جمیع أهل المدینة من المهاجرین والأنصار حتی برزت العواتق من خدورهن، فبین باك وصائح وصارخ ومسترجع والنبي یخطب ساعة ویسكت ساعة، وكان مما ذكر في خطبته أن قال: یا معشر المهاجرین والأنصار ومن حضرني في یومي هذا وفي ساعتي هذه من الجن والإنس: فلیبلغ شاهدكم الغائب، ألا قد خلفت فیكم كتاب الله، فیه النور والهدی والبیان، ما فرط الله فیه من شئ، حجة الله لي علیكم، وخلفت فیكم العلم الأكبر علم الدین ونور الهدی وصیي علي بن أبي طالب، ألا هو حبل الله فاعتصموا به جمیعاً ولا تفرقوا عنه.

أیها الناس: ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا، ومن كانت له عدة فلیأت فیها علي بن أبي طالب، فإنه ضامن لذلك كله حتی لا یبقی لأحد علي تباعة».

أقول: تدل أحادیث وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) علی أن الإمامة مهمة هدایة البشریة بعد النبوة ولها مسؤولیتها الثقیلة وعهدها میثاقها، وعلومها وأسرارها الربانیة.

لكن زعماء قریش قرروا أن لایفهموا الإمامة وخلافة النبوة إلا رئاسة دولة محمد والتمتع بسلطانه، وقالوا لیس من العدل أن یجمع بنو هاشم النبوة والخلافة! فالنبوة سهمهم والخلافة لبقیة البطون!

والله أصدق منهم حیث یقول: أهُمْ یقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك، نَحْنُ قَسَمْنَا بَینَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ.

ص: 670

9- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لنسائه وعائشة خاصة

في إرشاد القلوب/337 والبحار: 28/107، عن حذیفة بن الیمان قال: «أمر (صلی الله علیه و آله) خادمةً لأم سلمة فقال: إجمعي لي هؤلاء یعني نساءه، فجمعتهن له في منزل

أم سلمة، فقال لهن: إسمعن ما أقول لكن، وأشار بیده إلی علي بن أبي طالب فقال لهن: هذا أخي ووصیي ووارثي والقائم فیكن وفي الأمة من بعدي، فأطعنه فیما یأمركن به، ولا تعصینه فتهلكن لمعصیته.

ثم قال: یا علي أوصیك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك، وأنفق علیهن من مالك وأمرهن بأمرك وانههن عما یریبك، وخل سبیلهن إن عصینك.

فقال علي (علیه السلام) یا رسول الله إنهن نساء وفیهن الوهن وضعف الرأي. فقال (صلی الله علیه و آله): إرفق بهن ما كان الرفق أمثل، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً یبرأ الله ورسوله منها. قال: كل نساء النبي (صلی الله علیه و آله) قد صمتن فما یقلن شیئاً، فتكلمت عائشة فقالت: یا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلی ما سواه! فقال لها: بلی قد خالفت أمری أشد خلاف! وأیم الله لتخالفین قولي هذا ولتعصینه بعدي، ولتخرجین من البیت الذي خلفتك فیه متبرجة فیه، قد حف بك فئات من الناس فتخالفینه ظالمة له عاصیة لربك ولتنبحنك في طریقك كلاب الحوأب. ألا إن ذلك كائن! ثم قال: قمن فانصرفن إلی منازلكن فقمن فانصرفن».

10- النبي (صلی الله علیه و آله) یخرج عمه العباس من وصیته

في الكافي: 1/236، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة دعا العباس بن عبدالمطلب وأمیر المؤمنین (علیه السلام) فقال للعباس: یا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دینه وتنجز عداته؟ فرد علیه فقال: یا رسول الله

بأبي أنت وأمي إنی شیخ كثیر العیال قلیل المال، من یطیقك وأنت تباري الریح!

قال: فأطرق هنیئة ثم قال: یا عباس أتأخذ تراث محمد، وتنجز عداته وتقضي دینه؟ فقال بأبي أنت وأمي شیخ كثیر العیال قلیل المال وأنت تباري الریح!

ص: 671

قال (صلی الله علیه و آله): أما إني سأعطیها من یأخذها بحقها، ثم قال:

یا علي یا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دینه وتقبض تراثه؟

فقال: نعم، بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي. قال: فنظرت إلیه حتی نزع خاتمه من إصبعه فقال: تختم بهذا في حیاتي! قال: فنظرت إلی الخاتم حین وضعته في إصبعي فتمنیت من جمیع ما ترك الخاتم.

ثم صاح: یا بلال علَيَّ بالمغفر والدرع والرایة والقمیص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضیب. قال: فوالله ما رأیتها غیر ساعتي تلك، یعنی الأبرقة، فجئ بشقة كادت تخطف الأبصار فإذا هي من أبرق الجنة، فقال: یا علي إن جبرئیل أتاني بها وقال: یامحمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة، ثم دعا بزوجَي نعال عربیین جمیعاً، أحدهما مخصوف والآخر غیر مخصوف، والقمیص الذي أسري به فیه، والقمیص الذي خرج فیه یوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر وقلنسوة العیدین والجمع، وقلنسوة كان یلبسها ویقعد مع أصحابه. ثم قال: یا بلال علي بالبغلتین الشهباء والدلدل، والناقتین العضباء والقصوی، والفرسین: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (صلی الله علیه و آله) یبعث الرجل في حاجته فیركبه فیركضه في حاجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحیزوم وهو الذي كان یقول: أقدم حیزوم، والحمار عفیر فقال: إقبضها في حیاتي. فذكر أمیر المؤمنین (علیه السلام) أن أول شئ من الدواب توفي عفیر ساعة قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قطع خطامه ثم مر یركض حتی أتی بئر بني خطمة بقباء، فرمی بنفسه فیها فكانت قبره». وعلل الشرائع: 1/166 والمناقب: 2/248.

وفي مناقب محمد بن سلیمان: 1/432: «یا عباس ترثني وتقضي دینی وتنجز عني عداتي؟ قال: بل یعافیك الله یا رسول الله وهل یسع هذا مال بني عبدالمطلب... فقال علي: نعم یا رسول الله. قال فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي: أنت لذاك أنت لذاك یا علي. قال: فمكث علي تسع سنین ینشد الناس في كل موسم: هل یطلب أحد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بدین أو بموعد حتی أنجز عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عداته وقضاء دینه؟ قال: ثم قام بذلك الحسن من بعد علي (علیه السلام)».

ص: 672

وفي الإرشاد: 1/184، قال العباس للنبی (صلی الله علیه و آله): «یا رسول الله إن یكن هذا الأمر فینا مستقراً بعدك فبشرنا، وإن كنت تعلم أنا نغلب علیه فأوص بنا، فقال: أنتم المستضعفون من بعدي، وأصمت! فنهض القوم وهم یبكون قد أیسوا من النبي! فلما خرجوا من عنده قال: أُرددوا علی أخي علي بن أبي طالب وعمي، فأنفذوا من دعاهما فحضرا، فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا عباس یا عم رسول الله، تقبل وصیتي وتنجز عدتي وتقضي عني دیني؟ فقال العباس: یا رسول الله، عمك شیخ كبیر ذو عیال كثیر، وأنت تباري الریح سخاء وكرماً، وعلیك وعد لا ینهض به عمك..الی آخر ما تقدم».

11- قوله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): أنت أول أهل بیتي لحوقاً بي

روت مصادرنا ومصادرهم حدیث عائشة وأنها قالت عن فاطمة الزهراء (علیها السلام): «كنَّ أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) عنده لم یغادر منهن امرأة، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تخطئ مشیتها من مشیة رسول الله (صلی الله علیه و آله) شیئاً، فلما رآها رحب بها ثم قال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن یمینه أو عن شماله، ثم سارَّها فبكت بكاءً شدیداً فلما رأی جزعها سارَّها الثانیة فضحكت! فقلنا: خصَّك رسول الله (صلی الله علیه و آله) من نسائه بالسِّرار ثم أنت تبكي؟! فضحكت. قلت: ما رأیت ضحكاً أقرب من بكاء، فلما قامت سألتها ما قال لك رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قالت: ما كنت لأفشي علی رسول الله سره. فلما توفي قلت: عزمت علیك بمالي علیك من الحق لما حدثتني بما قال لك. فقالت: أما الآن فنعم، أما حین سارَّني في المرة الأولی فأخبرني أن جبریل كان یعارضه بالقرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضه العام مرتین، وأني أری الأجل قد اقترب فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك! فبكیت بكائي الذي رأیت، فلما رأی جزعي سارَّنی الثانیة فقال: یا فاطمة أما ترضین أن تكوني سیدة نساء المؤمنین. فقال: یا بنیة لا تجزعي فإني سألت ربي أن یجعلك أول أهل بیتي لحاقاً بي فأخبرني أنه قد استجاب لي، فضحكت ضحكي الذي رأیت».شرح الأخبار: 3/23، العمدة/386، مسلم: 7/143، الآحاد: 5/367 وابن راهویه: 8/5/8.

ص: 673

وفي البحار: 22/490، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) عن أبیه (علیه السلام) قال: «لما كانت اللیلة التي قبض النبي (صلی الله علیه و آله) في صبیحتها دعا علیاً وفاطمة والحسن والحسین: وأغلق علیه الباب وعلیهم وقال لفاطمة (علیها السلام) وأدناها منه، فناجی من اللیل طویلاً، فلما طال ذلك خرج علي ومعه الحسن والحسین (علیهما السلام) وأقاموا بالباب والناس خلف ذلك، ونساء النبي (صلی الله علیه و آله) ینظرن إلی علي (علیه السلام) ومعه ابناه فقالت عائشة: لأمر ما أخرجك عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلا بابنته دونك في هذه الساعة؟ فقال لها علي (علیه السلام) قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له، وهو بعض ما كنت فیه، وأبوك وصاحباه قد أسماه! فوجمت أن ترد علیه كلمة!

قال علي (علیه السلام) فما لبثت أن نادتني فاطمة فدخلت علی النبي (صلی الله علیه و آله) وهو یجود بنفسه، فبكیت ولم أملك نفسي حین رأیته بتلك الحال یجود بنفسه، فقال لي: ما یبكیك یا علي؟ لیس هذا أوان البكاء فقد حان الفراق بیني وبینك، فأستودعك الله یا أخي فقد اختار لي ربي ما عنده، وإنما بكائي وغمي وحزني علیك وعلی هذه أن تضیع بعدي، فقد أجمع القوم علی ظلمكم، وقد استودعتكم الله وقبلكم مني ودیعة. یا علي إني قد أوصیت فاطمة ابنتي بأشیاء وأمرتها أن تلقیها إلیك فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة، ثم ضمها إلیه وقبل رأسها وقال: فداك أبوك یا فاطمة! فعلا صوتها بالبكاء، ثم ضمها إلیه وقبل رأسها وقال: أما والله لینتقمن الله ربي ولیغضبن لغضبك! فالویل ثم الویل ثم الویل للظالمین، ثم بكی (صلی الله علیه و آله) !

قال علي (علیه السلام) فوالله لقد حسست بضعة مني ذهبت لبكائه حتی هملت عیناه كمثل المطر، حتی بلت دموعه لحیته وملاءة كانت علیه، وهو ملتزم فاطمة (علیها السلام) ورأسه علی صدري وأنا مسنده، والحسن والحسین یقبلان قدمیه، وهما یبكیان بأعلی أصواتهما. قال علي (علیه السلام) فلو قلت إن جبرئیل لم یكن في مثل تلك اللیلة یفارق النبي (صلی الله علیه و آله) لقد رأیت من بكائها ما أحسست أن السماوات والأرضین قد بكت لها، ثم قال لها: یا بنیة خلیفتي علیكم الله وهو خیر خلیفة، والذی بعثني بالحق لقد بكی لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة، والسماوات والأرضون وما فیها، یا فاطمة والذي بعثنی

ص: 674

بالحق نبیاً، لقد حرمت الجنة علی الخلائق حتی أدخلها، وإنك لأول خلق الله كاسیة حالیة ناعمة، یا فاطمة فهنیئاً لك.

والذي بعثني بالحق إن الحور العین لیفخرن بك وبقربك منهن، ویتزین لزینتك، والذي بعثني بالحق إنك لسیدة من یدخلها من النساء.

والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا یبقی ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا صعق، فینادی بها إلیك أن یاجهنم یقول لك الجبار: أُسكتي واستقري بعزتي حتی تجوز فاطمة بنت محمد إلی الجنان، ولا یشغلهم قتر ولا ذلة.

والذی بعثني بالحق لیدخل حسن عن یمینك، وحسین عن یسارك، والحور العین یتشرفن من أعلی الجنان فینظرن إلیك بین یدي الله في المقام الشریف. ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب (علیه السلام) أمامي، یكسی إذا كسیت ویحَلَّی إذا حُلِّیت. والذي بعثني بالحق لأقومن بالخصومة لأعدائك، ولیندمن قوم ابتزوا حقك وقطعوا مودتك وكذبوا علي! ولیختلجن دوني فأقول: أمتي! فیقال: إنهم بدلوا بعدك، وصاروا إلی السعیر».

وفي كمال الدین/262: «عن سلیم بن قیس الهلالي قال: سمعت سلمان الفارسي رضی الله عنه یقول: كنت جالساً بین یدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضته التي قبض فیها، فدخلت فاطمة (علیها السلام) فلما رأت ما بأبیها من الضعف بكت حتی جرت دموعها علی خدیها فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما یبكیك یا فاطمة؟ قالت: یا رسول الله أخشی علی نفسي وولدي الضیعة بعدك! فاغرورقت عینا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبكاء، ثم قال: یا فاطمة أما علمت أنا أهل بیت اختار الله عزوجل لنا الآخرة علی الدنیا، وإنه حتم الفناء علی جمیع خلقه، وإن الله تبارك وتعالی اطلع إلی الأرض اطلاعة فاختارني من خلقه فجعلنی نبیاً، ثم اطلع إليَّ الأرض اطلاعة ثانیة فاختار منها زوجك وأوحی الی أن أزوجك إیاه، وأتخذه ولیاً ووزیراً، وأن أجعله خلیفتي في أمتي. فأبوك خیر أنبیاء الله ورسله، وبعلك خیر الأوصیاء، وأنت أول من یلحق بي من أهلي. ثم اطلع إلی الأرض اطلاعة

ص: 675

ثالثة فاختارك وولدیك، فأنت سیدة نساء أهل الجنة وابناك حسن وحسین سیدا شباب أهل الجنة، وأبناء بعلك أوصیائي إلی یوم القیامة، كلهم هادون مهدیون، وأول الأوصیاء بعدي أخي علي، ثم حسن ثم حسین، ثم تسعة من ولد الحسین في درجتي، ولیس في الجنة درجة أقرب إلی الله من درجتي ودرجة أبي إبراهیم. أما تعلمین یا بنیة إن من كرامة الله إیاك أن زوجك خیر أمتي، وخیر أهل بیتي أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟!

فاستبشرت فاطمة وفرحت بما قال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قال: یا بنیة إن لبعلك مناقب: إیمانه بالله ورسوله قبل كل أحد، فلم یسبقه إلی ذلك أحد من أمتي، وعلمه بكتاب الله عزوجل وسنتي ولیس أحد من أمتي یعلم جمیع علمي غیر علي (علیه السلام)، وإن الله جل وعز علمني علماً لا یعلمه غیري، وعلم ملائكته ورسله علماً، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه، وأمرني الله أن أعلمه إیاه ففعلت، فلیس أحد من أمتي یعلم جمیع علمي وفهمي وحكمتي غیره. وإنك یا بنیة زوجته، وابناه سبطاي حسن وحسین وهما سبطا أمتي، وأمره بالمعروف ونهیه عن المنكر، فإن الله عزوجل آتاه الحكمة وفصل الخطاب...الخ.

ثم أقبل علی علي (علیه السلام) فقال: یا أخي أنت ستبقی بعدي، وستلقی من قریش شدة من تظاهرهم علیك وظلمهم لك، فإن وجدت علیهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ یدك، ولا تلق بها إلی التهلكة، فإنك منی بمنزلة هارون من موسی، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا یقتلونه! فاصبر لظلم قریش إیاك، وتظاهرهم علیك فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه.

یا علي إن الله تبارك وتعالی قد قضی الفرقة والإختلاف علی هذه الأمة، ولو شاء الله

لجمعهم علی الهدی، لایختلف فیه اثنان من هذه الأمة، ولا ینازع فی شئ من أمره، ولایجحد المفضول لذي الفضل فضله. ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغییرحتی یكذَّبَ الظالم ویعلم الحق أین مصیره، ولكنه جعل الدنیا دار الأعمال وجعل

ص: 676

الآخرة دار القرار: لِیجْزِيَ الَّذِینَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَیجْزِيَ الَّذِینَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَی. فقال علي (علیه السلام) الحمد لله شكراً علی نعمائه، وصبراً علی بلائه».

أقول: روت مصادر السلطة هذا الحدیث وحذفت منه، لكن ما بقي منه حجة كافیة لمن یرید الحق! ففي الطبراني الكبیر: 3/57: «عن علي بن علي المكي الهلالي عن أبیه قال: دخلت علی رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی شكاته التي قبض فیها، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه، قال: فبكت حتی ارتفع صوتها فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) طرفه إلیها فقال: حبیبتي فاطمة ما الذي یبكیك؟ فقالت: أخشی الضیعة من بعدك! فقال: یا حبیبتي أما علمت أن الله عزوجل اطلع إلی الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعث برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك وأوحی إليَّ أن أنكحك إیاه. یا فاطمة ونحن أهل بیت قد أعطانا الله سبع خصال لم یعط أحد قبلنا ولا یعطی أحد بعدنا: أنا خاتم النبیین وأكرم النبیین علی الله وأحب المخلوقین إلی الله عزو جل وأنا أبوك. ووصیي خیر الأوصیاء وأحبهم إلی الله وهو بعلك، وشهیدنا خیر الشهداء وأحبهم إلی الله، وهو عمك حمزة بن عبدالمطلب وهو عم أبیك وعم بعلك. ومنا من له جناحان أخضران یطیر في الجنة مع الملائكة حیث یشاء، وهو ابن عم أبیك وأخو بعلك. ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسین وهما سیدا شباب أهل الجنة، وأبوهما والذي بعثني بالحق خیر منهما.

یا فاطمة والذي بعثنی بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة، إذا صارت الدنیا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل، وأغار بعضهم علی بعض، فلا كبیر یرحم صغیراً، ولا صغیر یوقر كبیراً، فیبعث الله عزوجل عند ذلك منهما من یفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً! یقوم بالدین آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، ویملأ الدنیا عدلاً كما ملئت جوراً.

یا فاطمة لا تحزني ولا تبكي، فإن الله عزوجل أرحم بك وأرأف علیك مني وذلك لمكانك من قلبي، وزوَّجك الله زوجاً هو أشرف أهل بیتك حسباً

ص: 677

وأكرمهم منصباً، وأرحمهم بالرعیة وأعدلهم بالسویة وأبصرهم بالقضیة، وقد سألت ربي عزوجل أن تكوني أول من یلحقني من أهل بیتي!

قال علي رضی الله عنه: فلما قبض النبي (صلی الله علیه و آله) لم تبق فاطمة رضي الله عنها بعده إلا خمسة وسبعین یوماً، حتی ألحقها الله عزوجل به».

12- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) بتجهیزه

في روضة الواعظین/71: «قال ابن عباس: لما مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعنده أصحابه قام إلیه عمار بن یاسر وقال له: فداك أبي وأمي یا رسول الله من یغسلك منا إذا كان ذلك منك؟ قال: ذاك علي بن أبي طالب، إنه لا یهم بعضو من أعضائي، إلا أعانته الملائكة علی ذلك».

وفي كفایة الأثر/124، عن عمار، قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة دعا بعلي فسارَّه طویلاً ثم قال: یا علي أنت وصیي ووارثي، قد أعطاك الله علمي وفهمي، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم، وغصب علی حقد.

فبكت فاطمة وبكی الحسن والحسین: فقال لفاطمة: یا سیدة النسوان مم بكاؤك؟ قالت: یا أبة أخشی الضیعة بعدك! قال: أبشري یا فاطمة فإنك أول من یلحقني من أهل بیتي، ولا تبكي ولا تحزني، فإنك سیدة نساء أهل الجنة، وأباك سید الأنبیاء، وابن عمك خیر الأوصیاء، وابناك سیدا شباب أهل الجنة، ومن صلب الحسین یخرج الله الأئمة التسعة مطهرون معصومون، ومنا مهدي هذه الأمة. ثم التفت إلی علي (علیه السلام) فقال: یا علي لایلي غسلي وتكفیني غیرك.

فقال علي (علیه السلام) یا رسول الله من یناولني الماء فإنك رجل ثقیل لاأستطیع أن أقلبك. فقال: إن جبرئیل معك والفضل یناولك الماء ولیغطي عینیه، فإنه لا یری أحد عورتي إلا انفقأت عینیه».

أي لایری أحد غیر علي (علیه السلام) بدن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) إلا عمي،

وهي خصوصیة لبدنه بعد وفاته (صلی الله علیه و آله)، وخصوصیة لعلي (علیه السلام).

ویدل علی ذلك أن علیاً (علیه السلام) لا یمكن أن ینظر الی عورته (صلی الله علیه و آله)، وأن الفضل كان

ص: 678

معصوب العینین، فیتعین أن یكون المقصود بدنه (صلی الله علیه و آله) غیر عورته، ویؤیده أن ابن المغازلي روی في المناقب/99، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:«لا یحلُّ لرجل یرَی مُجَرّدي إلاّ علي». والمجرد ما تحت القمیص، وهو غیر العورة، وقد عبر عنه بالعورة.

وفي أمالي الطوسی/600، عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن أبیه عن جده علي (علیه السلام) قال: «لما ثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فیه كان رأسه في حجري... فقال: یا علي أجلسني، فأجلسته وأسندته إلی صدري. قال علي (علیه السلام) فلقد رأیت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه لیثقل ضعفاً، وهو یقول یسمع أقصی أهل البیت وأدناهم: أن أخي ووصیی ووزیري وخلیفتي في أهلي علي بن أبي طالب، یقضي دیني وینجز موعدي. یا بني هاشم یا بني عبدالمطلب: لا تبغضوا علیاً ولا تخالفوا أمره فتضلوا، ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا، أضجعني یا علي فأضجعته.

فقال: یا بلال إئتني بولدَيْ الحسن والحسین، فانطلق فجاء بهما فأسندهما إلی صدره فجعل (صلی الله علیه و آله) یشمهما، قال علي: فظننت أنهما قد غمَّاه فذهبت لآخذهما عنه فقال: دعهما یا علي یشماني وأشمهما ویتزودا مني وأتزود منهما، فسیلقیان من بعدي أمراً عضالاً، فلعن الله من یخیفهما.اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنین»

وفي الإرشاد: 1/184: «وكان أمیر المؤمنین لا یفارقه إلا لضرورة، فقام في بعض شؤونه، فأفاق (علیه السلام) إفاقة فافتقد علیاً (علیه السلام) فقال وأزواجه حوله: أُدعوا لي أخي وصاحبي، وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: أُدعوا له أبا بكر، فَدُعِي فدخل علیه فقعد عند رأسه، فلما فتح عینه نظر إلیه وأعرض عنه بوجهه، فقام أبو بكر وقال: لو كان له إليَّ حاجة لأفضی بها إليّ.

فلما خرج أعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) القول ثانیة وقال: أُدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت حفصة: أُدعوا له عمر، فدعی فلما حضر رآه النبي (صلی الله علیه و آله) فأعرض عنه فانصرف، ثم قال (علیه السلام): أُدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت أم سلمة:

أُدعوا له علیاً فإنه لا یرید غیره، فدعی أمیر المؤمنین فلما دنا منه أومأ إلیه، فأكب علیه فناجاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) طویلاً، ثم قام فجلس ناحیة حتی أغفی

ص: 679

رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال له الناس: ما الذی أوعز إلیك یا أبا الحسن؟ فقال: علمني ألف باب فتح لي كل باب ألف باب، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله.

ثم ثقل (صلی الله علیه و آله) وحضره الموت وأمیر المؤمنین (علیه السلام) حاضر عنده. فلما قرب خروج نفسه قال له: ضع رأسي یا علي فی حجرك، فقد جاء أمر الله عزوجل، فإذا فاضت نفسي فتناولها بیدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلی القبلة، وتول أمري، وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتی تواریني في رمسي، واستعن بالله تعالی. فأخذ علي (علیه السلام) رأسه فوضعه في حجره فأغمي علیه (صلی الله علیه و آله)، فأكبت فاطمة (علیها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأبیضُ یستسقی الغَمامُ بوجهه *** ثمالُ الیتامی عصمة للأرامل

ففتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عینیه وقال بصوت ضئیل: یا بنیة هذا قول عمك أبي طالب (رحمة الله) لا تقولیه ولكن قولي: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكمْ.. فبكت طویلاً، فأومأ إلیها بالدنو منه، فدنت فأسرَّ إلیها شیئاً تهلل له وجهها. ثم قضی (صلی الله علیه و آله) وید أمیر المؤمنین (علیه السلام) الیمنی تحت حنكه ففاضت نفسه (صلی الله علیه و آله) فیها، فرفعها إلی وجهه فمسحه بها، ثم وجهه وغمضه ومد علیه إزاره».

وفي الكافي: 1/297: «عن یونس بن رباط قال: دخلت أنا وكامل التمار علی أبي عبدالله (علیه السلام) قال له كامل: جعلت فداك حدیث رواه فلان؟ فقال: أُذكره، فقال: حدثني أن النبي (صلی الله علیه و آله) حدث علیاً (علیه السلام) بألف باب یوم توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله)، كل باب یفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب؟ فقال: لقد كان ذلك. قلت: جعلت فداك فظهر ذلك لشیعتكم وموالیكم؟ فقال: یا كامل باب أو بابان. فقلت: جعلت فداك، فما یروی من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان؟ قال: وما عسیتم أن ترووا من فضلنا، ما تروون من فضلنا إلا ألفاً غیر معطوفة»!

13- صفة احتضاره ووفاته (صلی الله علیه و آله)

في الفقیه: 4/163، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: «لما حضرت النبي (صلی الله علیه و آله) الوفاة نزل جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا رسول الله هل لك في الرجوع إلی الدنیا؟ فقال: لا، قد

ص: 680

بلغت رسالات ربي. فأعادها علیه، فقال: لا، بل الرفیق الأعلی. ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون حوله مجتمعون: أیها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعی بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه، ومن اتبعه فإنه في النار. أیها الناس: أحیوا القصاص، وأحیوا الحق لصاحب الحق، ولا تفرقوا، أسلموا وسلموا تسلموا: كتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِي عَزِیزٌ».

وفي أمالي الصدوق/384، أنه دخل علی الإمام زین العابدین (علیه السلام) رجلان من قریش فقال: «ألا أحدثكما عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فقالا: بلی حدثنا عن أبي القاسم. قال: سمعت أبي (علیه السلام) یقول: لما كان قبل وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أیام هبط علیه جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا أحمد، إن الله أرسلنی إلیك إكراماً وتفضیلاً لك وخاصة، یسألك عما هو أعلم به منك یقول: كیف تجدك یا محمد؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): أجدني یا جبرئیل مغموماً، وأجدني یا جبرئیل مكروباً!

فلما كان الیوم الثالث هبط جبرئیل وملك الموت، ومعهما ملك یقال له إسماعیل في الهواء علی سبعین ألف ملك، فسبقهم جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا أحمد، إن الله عزوجل أرسلني إلیك إكراماً لك وتفضیلاً لك خاصة، یسألك عما هو أعلم به منك، فقال: كیف تجدك یا محمد؟ قال: أجدني یا جبرئیل مغموماً، وأجدني یاجبرئیل مكروباً! فاستأذن ملك الموت فقال جبرئیل: یا أحمد هذا ملك الموت یستأذن علیك لم یستأذن علی أحد قبلك، ولایستأذن علی أحد بعدك. قال: إئذن له، فأذن له جبرئیل فأقبل حتی وقف بین یدیه فقال: یا أحمد، إن الله أرسلنی إلیك، وأمرنی أن أطیعك فیما تأمرني، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أتفعل ذلك یا ملك الموت؟ قال: نعم، بذلك أمرت أن أطیعك فیما تأمرني. فقال له جبرئیل (علیه السلام): یا أحمد، إن الله تبارك وتعالی قد اشتاق إلی لقائك. فقال رسول الله لملك الموت: إمض لما أمرت به، فقال جبرئیل (علیه السلام): هذا آخر وطئي الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنیا».

وفي الإرشاد/187: «ثم قضی (صلی الله علیه و آله) وید أمیر المؤمنین (علیه السلام) الیمنی تحت حنكه

ص: 681

ففاضت نفسه فیها، فرفعها إلی وجهه فمسحه بها، ثم وجَّهَه وغمضه، ومد علیه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره».

14- صفة تغسیله وتحنیطه وتكفینه (صلی الله علیه و آله)

في الإرشاد/187: «لما أراد أمیر المؤمنین غسله صلوات الله علیه، استدعی الفضل بن عباس فأمره أن یناوله الماء لغسله بعد أن عصب عینیه، ثم شق قمیصه من قبل جیبه حتی بلغ به إلی سرته، وتولی (علیه السلام) غسله وتحنیطه وتكفینه، والفضل یعاطیه الماء ویعینه علیه، فلما فرغ من غسله وتجهیزه تقدم فصلی علیه وحده، لم یشركه معه أحد فی الصلاة علیه». ثم صلی علیه المسلمون كما یأتي.

وفي البحار: 22/492، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): كان في الوصیة أن یدفع إليَّ الحنوط، فدعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل وفاته بقلیل فقال: یا علي ویا فاطمة هذا حنوطي من الجنة، دفعه إلی جبرئیل وهو یقرئكما السلام ویقول لكما: إقسماه واعزلا منه لي ولكما. قالت: لك ثلثه، ولیكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فبكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضمها إلیه. وقال: موفقة رشیدة مهدیة ملهمة. یا علي قل في الباقي، قال: نصف ما بقي لها، ونصف لمن تری یا رسول الله، قال: هو لك فاقبضه.قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یاعلي أضمنت دیني تقضیه عنی؟قال: نعم، قال: اللهم فاشهد.ثم قال: یا علي تغسلني ولا یغسلني غیرك فیعمی بصره، قال علي: ولم یا رسول الله؟ قال: كذلك قال جبرئیل (علیه السلام) عن ربي، إنه لا یری عورتي«أي بدني»غیرك إلا عمي بصره!

قال علي: فكیف أقوی علیك وحدي؟ قال: یعینك جبرئیل ومیكائیل وإسرافیل وملك الموت وإسماعیل صاحب السماء الدنیا.

قلت: فمن یناولني الماء؟ قال: الفضل بن العباس من غیر أن ینظر إلی شئ مني فإنه لا یحل له ولا لغیره من الرجال والنساء النظر إلی عورتي وهي حرام علیهم، فإذا فرغت من غسلي فضعني علی لوح، وافرغ علَيَّ من بئري بئر غَرْس «قرب مسجد قباء» أربعین دلواً مفتحة الأفواه. قال عیسی: أو قال أربعین قربة شككت أنا في ذلك،

ص: 682

قال: ثم ضع یدك یا علي علی صدري، وأحضر معك فاطمة والحسن والحسین من غیر أن ینظروا إلی شئ من عورتي، ثم تفهم عند ذلك مني تفهم ما كان وما هو كائن إن شاء الله تعالی! أقبلتَ یا علي؟قال: نعم. قال: اللهم فاشهد.

قال: وكان فیما أوصی به رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یدفن في بیته الذي قبض فیه ویكفن بثلاثة أثواب: أحدها یمان، ولا یدخل قبره غیر علي (علیه السلام).

ثم قال: یا علي كن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسین وكبروا خمساً وسبعین تكبیرة، وكبر خمساً وانصرف، وذلك بعد أن یؤذن لك في الصلاة.

قال علي (علیه السلام) بأبي أنت وأمي من یؤذنني؟قال: جبرئیل (علیه السلام) یؤذنك. قال: ثم من جاء من أهل بیتي یصلون عليَّ فوجاً فوجاً ثم نساؤهم، ثم الناس بعد ذلك».

وفي الطبقات: 2/280، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «غسل النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل في قمیص، وغسل من بئر یقال لها الغرس لسعد بن خیثمة بقباء وكان یشرب منها، وولي علی غسله والعباس یصب الماء والفضل محتضنه یقول: أرحني أرحني قُطعت وتیني! إني أجد شیئاً یتنزل علَيَّ مرتین».

أقول: عرفت من روایة أهل البیت (علیهم السلام) أن العباس لم یكن یشارك، بل ابنه الفضل.

وفي دعائم الإسلام: 1/227، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصاه بأن یتولی غسله فكان هو الذي ولیه، قال: فلما أخذت في غسله سمعت قائلاً من جانب البیت وهو یقول: لاتنزع القمیص عنه فغسلته (صلی الله علیه و آله) في قمیصه، وإني لأغسله وأحس یداً مع یدي تتردد علیه، وإذا قلبته أعنت علی تقلیبه، وقد أردت أن أكبه لوجهه فأغسل ظهره فنودیت لاتكبه، فقلبته لجنبه وغسلت ظهره».

وفي تهذیب الأحكام: 1/296، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ثلاثة أثواب: برد أحمر حبرة، وثوبین أبیضین صحاریین. قلت له وكیف صُلي علیه؟ قال سجي بثوب وجعل وسط البیت، فإذا دخل علیه قوم داروا به وصلوا علیه ودعوا له، ثم یخرجون ویدخل آخرون، ثم دخل علي (علیه السلام) القبر فوضعه علی یدیه وأدخل معه الفضل بن عباس، فقال رجل من الأنصار من بني

ص: 683

الخیلاء یقال له أوس بن خولي: أنشدكم الله أن تقطعوا حقنا! فقال له علي (علیه السلام) أدخل فدخل معهما. فسألته: أین وضع السریر؟ فقال: عند رجل القبر وسُلَّ سلاً».

15- صفة الصلاة علیه ودفنه (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 1/450، عن أبي مریم الأنصاري أنه سأل الإمام الباقر (علیه السلام): «كیف كانت الصلاة علی النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: لما غسله أمیر المؤمنین (علیه السلام) وكفنه سجَّاه، ثم أدخل علیه عشرة فداروا حوله، ثم وقف أمیر المؤمنین (علیه السلام) في وسطهم، فقال: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي، یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا، فیقول القوم كما یقول، حتی صلی علیه أهل المدینة وأهل العوالي.

عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: أتی العباسُ أمیرَ المؤمنین (علیه السلام) فقال: یا علي إن الناس قد اجتمعوا أن یدفنوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بقیع المصلی وأن یؤمهم رجل منهم، فخرج أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلی الناس فقال: یا أیها الناس إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إمام حیاً ومیتاً، وقال: إني أدفن في البقعة التي أقبض فیها، ثم قام علی الباب فصلی علیه، ثم أمر الناس عشرة عشرة یصلون علیه، ثم یخرجون.

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: لما قبض النبي (صلی الله علیه و آله) صلت علیه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجاً فوجاً. وقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول في صحته وسلامته: إنما أنزلت هذه الآیة في الصلاة علي بعد قبض الله لي: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا».

أقول: صلی علیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) وحده صلاة الجنازة، ثم كانت صلاة المسلمین علیه دعاء، فكانوا یتحلقون حوله وعلي (علیه السلام) معهم یقرأ الآیة: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي... ویرددونها معه.راجع الحدائق: 10/451.

وفي دعائم الإسلام: 1/234: «فخرج علي صلوات الله علیه علیهم فقال: أیها الناس، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان إماماً حیاً ومیتاً، وإنه لم یقبض نبي إلا دفن في البقعة التي مات فیها. قالوا: إصنع ما رأیت. فقام علي علی باب البیت فصلی علی رسول الله (صلی الله علیه و آله)،

ص: 684

وقدم الناس عشرة عشرة، یصلون علیه وینصرفون».

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/206، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «فصلوا علیه یوم الإثنین ولیلة الثلاثاء حتی الصباح، ویوم الثلاثاء، حتی صلی علیه الأقرباء والخواص. ولم یحضر أهل السقیفة وكان علي (علیه السلام) أنفذ إلیهم بریدة، وإنما تمت بیعتهم بعد دفنه». وسیأتی سبب عدم حضور أهل السقیفة لمراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله).

وفي نهج البلاغة: 2/172: قال (علیه السلام): «ولقد قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه لعلی صدري لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها علی وجهي، ولقد وُلیت غسله والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنیة ملأٌ یهبط وملأ یعرج، وما فارقت سمعي هینمةٌ منهم یصلون علیه، حتی واریناه في ضریحه، فمن ذا أحق به مني حیاً ومیتاً»!

وفي روضة الواعظین/17، أن عماربن یاسر قال للنبي (صلی الله علیه و آله): «فداك أبي وأمي یا رسول الله فمن یصلی علیك منا، إذا كان ذلك منك؟ قال: مه رحمك الله، ثم قال لعلي (علیه السلام) یا بن أبي طالب: إذا رأیت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وأنِقْ غسلي، وكفِّني في طمري هذین، أو في بیاض مصر وبرد یماني، فلا تغال في كفني، واحملوني حتی تضعوني علی شفیر قبري فأول من یصلي علي الجبار جل جلاله من فوق عرشه، ثم جبرئیل ومیكائیل وإسرافیل في جنود من الملائكة لا یحصی عددهم إلا الله جل وعز، ثم الحافُّون بالعرش، ثم سكان أهل سماء سماء».

وفي الإرشاد: 1/187: «ولما صلی المسلمون علیه أنفذ العباس بن عبدالمطلب برجل إلی أبي عبیدة بن الجراح وكان یحفر لأهل مكة ویضرح، وكان ذلك عادة أهل مكة، وأنفذ إلی زید بن سهل وكان یحفر لأهل المدینة ویلحد، واستدعاهما وقال. اللهم خر لنبیك. فوجد أبو طلحة زید بن سهل فقیل له: إحتفر لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فحفر له لحداً، ودخل أمیر المؤمنین (علیه السلام) والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زید، لیتولوا دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنادت الأنصار من وراء البیت (علیهم السلام) یا علي، إنا نذكرك الله وحقنا الیوم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یذهب

ص: 685

أدخل منا رجلاً یكون لنا به حظ من مواراة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فقال: لیدخل أوس بن خولي، وكان بدریاً فاضلاً من بني عوف من الخزرج، فلما دخل قال له علي (علیه السلام) إنزل القبر فنزل، ووضع أمیر المؤمنین (علیه السلام) رسول الله (صلی الله علیه و آله) علی یدیه ودلاه في حفرته، فلما حصل في الأرض قال له: أُخرج فخرج، ونزل علی بن أبي طالب القبر، فكشف عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووضع خده علی الأرض موجهاً إلی القبلة علی یمینه، ثم وضع علیه اللبن، وهال علیه التراب».

وفي أمالي المفید/102، عن ابن العباس قال: «لما توفی رسول الله (صلی الله علیه و آله) تولی غسله علي بن أبي طالب، والعباس معه والفضل بن العباس، فلما فرغ علي (علیه السلام) من غسله كشف الإزار عن وجهه ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حیاً وطبت میتاً، انقطع بموتك ما لم ینقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء. خصصت حتی صرت مسلیاً عمن سواك، وعممت حتی صار الناس فیك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر ونهیت عن الجزع، لأنفدنا علیك ماء الشؤون. ولكن ما لا یرفع كمد وغصص محالفان وهما داء الأجل، وقلاّ لك. بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك. ثم أكب علیه فقبل وجهه ومد الإزار علیه».

أقول: معنی قوله (علیه السلام): «انقطع بموتك ما لم ینقطع بموت أحد ممن سواك: انقطاع وحي النبوة إذ لا نبي بعده (صلی الله علیه و آله).أما وحي الإمامة والإلهام، ونزول جبرئیل (علیه السلام) فمستمر». وقد ذكر القرآن الوحي لأم موسی (علیه السلام) وللنحل وغیرهما.

16- من خصائص النبي (صلی الله علیه و آله) عند موته!

تضمنت أحادیث وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) مجموعة خصائص له، نذكر منها:

1. ثقل بدنه الشریف ثقلاً غیر عادي، «ففي المناقب: 1/205»، قال علي (علیه السلام) «فما تناولت عضواً إلا كأنما كان یقلبه معي ثلاثون رجلاً، حتی فرغت من غسله».

وفي طبقات ابن سعد: 1/280، عن الباقر (علیه السلام) قال: «وولي علي غسله والعباس یصب الماء والفضل محتضنه یقول: أرحني أرحني قُطعت وتیني! إني أجد شیئاً یتنزل علَيَّ مرتین»! وشاهدنا منه ثقل بدنه (صلی الله علیه و آله) والعباس لم یشترك في تغسیله.

ص: 686

2. أن كل ما تحت قمیصه عورة، لا یجوز لأحد أن ینظر الیه لئلا یعمی! فكأن فیه نوعاً من الأشعة تسبب فقدان البصر، ولا یتحملها إلا وصیه علي (علیه السلام)».

«قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): یا علي غسلني ولا یغسلني غیرك فیعمی بصره. قال علي (علیه السلام) ولمَ یا رسول الله؟ قال: كذلك قال لي جبرئیل عن ربي إنه لا یری عورتي [مجردي] أحد غیرك إلا عمي بصره»!جامع أحادیث الشیعة: 3/154.

«فإنه لا یری أحد عورتي غیرك إلا طمست عیناه.. قلت: فمن یناولني الماء؟ قال: الفضل بن العباس من غیر أن ینظر إلی شئ مني، فإنه لا یحل له ولا لغیره من الرجال والنساء النظر إلی عورتي... وأحضر معك فاطمة والحسن والحسین من غیر أن ینظروا إلی شئ من عورتي». المناقب: 1/205 والبحار: 22/493.

3. أن النبي (صلی الله علیه و آله) تكلم بعد موته! وقد عقد في بصائر الدرجات/203، باباً روی فیه عشرة أحادیث، ونحوها الكافي: 1/296 و 3/150.

منها: عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) إذا أنا مِتُّ فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني، وخذ بمجامع كفني وأجلسني، ثم سلني ما شئت، فوالله لا تسألني عن شئ إلا أجبتك»!

وفي روایة: «وكفِّني ثم أقعدنی واسألني، واكتب».

وفي روایة: «فخذني وأجلسني وضع یدك علی صدري، وسلني عما بدا لك».

وفي روایة: «وكفني وأقعدني وما أملي علیك فاكتب. قال قلت: ففعل؟ قال: نعم»

وفي روایة: «فأدرجني في أكفاني، ثم ضع فاك علی فمي. قال: ففعلت وأنبأئي بما هو كائن إلی یوم القیمة».

وفي الخرائج: 2/800 و 2/827، بروایات، منها: «قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا توفي أن أستقي سبع قرب من بئر غرس فأغسله بها، فإذا غسلته وفرغت من غسله أخرجت من في البیت، فإذا أخرجتهم قال: فضع فاك علی فيّ ثم سلني أخبرك عما هو كائن إلی یوم الساعة من أمر الفتن. قال علي (علیه السلام) ففعلت ذلك، فأنبأني بما یكون إلی أن تقوم الساعة، وما من فتنة تكون

ص: 687

إلا وأنا أعرف أهل ضلالتها من أهل حقها».

ومنها: «فغسلني بسبع قرب من بئر غرس، غسلني بثلاث قرب غسلاً، وسُنَّ علي أربعاً سَنّاً، فإذا غسلتني وحنطتنی فأقعدني، وضعْ یدك علی فؤادي ثم سلني أخبرك بما هو كائن إلی یوم القیامة! قال: ففعلت. وكان علي (علیه السلام) إذا أخبرنا بشئ یكون قال: هذا مما أخبرني به النبي (صلی الله علیه و آله) بعد موته»! والمناقب: 1/316.

17- لم یحضر أهل السقیفة مراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله)

في الإرشاد: 1/187: «ولم یحضر دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر الناس، لما جری بین المهاجرین والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة، وفات أكثرهم الصلاة علیه لذلك! وأصبحت فاطمة (علیها السلام) تنادي: واسوء صباحاه! فسمعها أبو بكر فقال لها: إن صباحك لصباح سوء! واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب برسول الله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فتبادروا إلی ولایة الأمر واتفق لأبي بكر ما اتفق، لاختلاف الأنصار فیما بینهم، وكراهة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتی یفرغ بنو هاشم فیستقر الأمر مقره، فبایعوا أبا بكر لحضوره المكان، وكانت أسباب معروفة تیسر منها للقوم ما راموه».

وفي المناقب: 1/206: «ولم یحضر أهل السقیفة، وكان علي (علیه السلام) أنفذ إلیهم بریدة وإنما تمت بیعتهم بعد دفنه».

أقول: لما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) لبس عمر لباس حربه وخرج شاهراً سیفه یجول أمام بیت النبي (صلی الله علیه و آله) یهدد من یقول إنه مات، ویعید تهدیده«حتی أزبد شدقاه»!

ففي سنن الدارمي: 1/39: «فقام عمر فقال: إن رسول الله لم یمت، ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسی، والله لا یموت رسول الله حتی یقطع أیدي أقوام وألسنتهم! فلم یزل عمر یتكلم حتی أزبد شدقاه مما یتوعد ویقول! فقام العباس فقال: إن رسول الله قد مات، وإنه لبشر». ومسند أحمد: 3/196..

وفي شرح النهج: 1/178: «لما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشاع بین الناس موته طاف

ص: 688

عمر علی الناس قائلاً إنه لم یمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسی عن قومه! ولیرجعن فلیقطعن أیدي رجال وأرجلهم یزعمون أنه مات! فجعل لا یمر بأحد یقول إنه مات إلا ویخبطه ویتوعده، حتی جاء أبو بكر فقال: أیها الناس من كان یعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان یعبد رب محمد فإنه حي لم یمت»!

وسبب هذا الفعل أن عمر خاف أن یبادر بنو هاشم لبیعة علي (علیه السلام) حیث دعا العباس الی ذلك وقال لعلي (علیه السلام) «أبسط یدك أبایعك فیقال: عم رسول الله بایع ابن عم رسول الله» «الإمامة لابن قتیبة: 1/12». فأراد عمر أن یكسب الوقت حتی یحضر أبو بكر، من بیته في السنح خارج المدینة! فلما اطمأن الی أن علیاً (علیه السلام) لم یقبل البیعة، وجاء أبو بكر وقال إن النبي (صلی الله علیه و آله) مات، قبل عمر ذلك، وسكت!

وبقي عندهما الخوف من الأنصار أن یبادروا الی بیعة سعد بن عبادة، وكان مریضاً في سقیفته التی تسمی سقیفة بني ساعدة، فسارعا لیصفقا علی ید أبي بكر في بیت سعد، بمساعدة اثنین من خصومه الأوس وجمهور الطلقاء!

قال ابن كثیر في سیرته: 4/491: «توفي رسول الله وأبو بكر في صائفة من المدینة، قال فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطیبك حیاً ومیتاً، مات محمد ورب الكعبة. فذكر الحدیث قال: فانطلق أبو بكر وعمر یتعادیان حتی أتوهم،

فتكلم أبو بكر...».

وفي روایة النسائي في كتاب الوفاة/75: «ثم قال أبو بكر عندكم صاحبكم، وخرج»!

وفي سنن البیهق: 8/145: «دونكم صاحبكم، لبني عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) یعني في غسله وما یكون من أمره، ثم خرج»!

وفي مصنف ابن أبي شیبة: 8/572، عن عروة: «إن أبا بكر وعمر لم یشهدا دفن النبي وكانا في الأنصار، فدفن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن یرجعا».

وقد اعترف عمر بغیابهم عن مراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي الطبقات: 2/262: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن

ص: 689

جلوس عند عمر أمیر المؤمنین: ما كان آخر ما تكلم به رسول الله؟ فقال عمر: سل علیاً. قال: أین هو؟ قال هو هنا، فسأله فقال علي: أسندته إلی صدري، فوضع رأسه علی منكبي فقال: الصلاة الصلاة. فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبیاء وبه أمروا وعلیه یبعثون. قال: فمن غسله یا أمیر المؤمنین؟ قال: سل علیاً. قال فسأله فقال: كنت أغسله وكان العباس جالساً وكان أسامة وشقران یختلفان إلی بالماء».

وفي غیبة النعماني/100، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن سكك المدینة یومها كانت خالیة قال: «لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل المدینة رجل من ولد داود علی دین الیهودیة فرأی السكك خالیة، فقال لبعض أهل المدینة: ما حالكم؟ فقیل له: توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فقال الداودي: أما إنه توفي الیوم الذي هو في كتابنا»!

كما تركت عائشة وحفصة جنازة النبي (صلی الله علیه و آله) من حین وفاته، وخالفتا الحداد الواجب علیهما، وانشغلتا بالذهاب الی بیوت الأنصار لإقناعهم ببیعة أبي بكر!

قالت عائشة: «ما علمنا بدفن رسول الله حتی سمعنا صوت المساحي من جوف اللیل». الاستیعاب: 1/47،ابن هشام 4/321، الطبري: 3/213 ودلائل النبوة: 7/256.

ومع ذلك كانت عائشة تتحسر لتجهیز علي (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله) وغیابها فقالت: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه».أحكام الجنائز للألباني/49 وصححه.

18- دفن النبي (صلی الله علیه و آله) في بیته ولیس في حجرة عائشة

كتبنا في جواهر التاریخ: 3/303، بحثاً مستوفیاً تحت عنوان: أین دفن النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ وأثبتنا فیه أنه دفن في بیته وفي حجرته الكبیرة، التي كان یستقبل فیها الناس، وكان لها بابان باب الی المسجد وباب الی داخل داره (صلی الله علیه و آله). فقد صلی المسلمون علی جثمانه الشریف (صلی الله علیه و آله)، وكانوا یدخلون من باب ویخرجون من آخر.

أما غرفة عائشة فقد نصوا علی أنه كان لها باب واحد!

الی آخر الأدلة علی أنه لم یدفن فی بیت عائشة، ولا تمرض فیه كما زعموا.

لكن السلطة سیطرت علی بیت النبي (صلی الله علیه و آله) ثم ادعت عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطاها هذه الحجرة، وأشاعت أن النبي (صلی الله علیه و آله) دفن في حجرة عائشة!

ص: 690

19- حُزن أهل البیت علی النبي (صلی الله علیه و آله) وتعزیة جبرئیل والخضر لهم

روی الكلیني: 1/445، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:«لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) بات آل محمد: بأطول لیلة، حتی ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم! لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتر الأقربین والأبعدین في الله! فبیناهم كذلك إذ أتاهم آت لا یرونه ویسمعون كلامه، فقال: السلام علیكم أهل البیت ورحمة الله وبركاته،

إن في الله عزاء من كل مصیبة، ونجاة من كل هلكة، ودرَكاً لما فات: كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ. إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بیت نبیه، واستودعكم علمه وأورثكم كتابه، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزه، وضرب لكم مثلاً من نوره، وعصمكم من الزلل، وآمنكم من الفتن، فتعزوا بعزاء الله، فإن الله لم ینزع منكم رحمته، ولن یزیل عنكم نعمته، فأنتم أهل الله عزوجل الذین بهم تمت النعمة، واجتمعت الفرقة وائتلفت الكلمة، وأنتم أولیاؤه، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق.

مودتكم من الله واجبة في كتابه علی عباده المؤمنین، ثم الله علی نصركم إذا یشاء قدیر، فاصبروا لعواقب الأمور، فإنها إلی الله تصیر. قد قبلكم الله من نبیه ودیعة، واستودعكم أولیاء المؤمنین في الأرض، فمن أدی أمانته أتاه الله صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودة الواجبة، والطاعة المفروضة، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدین، وبین لكم سبیل المخرج، فلم یترك لجاهل حجة، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسی، فعلی الله حسابه، والله من وراء حوائجكم. وأستودعكم الله، والسلام علیكم. فسألت أبا جعفر (علیه السلام): ممن أتاهم التعزیة؟ فقال: من الله تبارك وتعالی علی لسان جبریل (علیه السلام)». ونحوه: 3/221 والمناقب: 2/83..

وفي شرح الأخبار: 2/419، أن سفیان بن عیینة قال:«أتینا جعفر بن محمد (علیه السلام) نعزیه بابنه إسماعیل، فتحدث معنا فذكر وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال في الحدیث: فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاهم آت یعني أهل بیت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یسمعون كلامه

ص: 691

ولا یرون شخصه، فقال: السلام علیكم أهل البیت ورحمة الله وبركاته: كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ یوْمَ الْقِیامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ. إن في الله عزاء من كل مصیبة، وخلفاً من كل هالك، فالله فارجوه، وإیاه فاعبدوه، واعلموا أن المصاب من حرم الثواب، والسلام علكیم ورحمة الله وبركاته.قال سفیان بن عیینة: فقلت لجعفر بن محمد: من كنتم ترون المتكلم؟ قال: كنا نراه جبرائیل (علیه السلام)».

وفي الأصول الستة عشر/122: «فسأله یحیی بن أبي القاسم فقال: جعلت فداك ممن آتاهم التعزیة؟ قال: من الله عزوجل».

وفي أمالی الصدوق/349: «فلما توفي رسول الله صلی الله علی روحه الطیب، جاءت التعزیة، جاءهم آتٍ یسمعون حسه ولا یرون شخصه فقال: السلام علیكم ورحمة الله وبركاته كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ یوْمَ الْقِیامَة. إن في الله عزوجل عزاء من كل مصیبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل ما فات، فبالله فثقوا وإیاه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته. قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر (علیه السلام)»

ورواه في كمال الدین/392، وقال: «قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: إن أكثر المخالفین یسلمون لنا حدیث الخضر (علیه السلام) ویعتقدون فیه أنه حي غائب عن الأبصار، وأنه حیث ذكر حضر، ولا ینكرون طول حیاته، ولا یحملون حدیثه علی عقولهم. ویدفعون كون القائم (علیه السلام) وطول حیاته في غیبته وعندهم أن قدرة الله عزوجل تتناول إبقاءه إلی یوم النفخ فیيالصور، وإبقاء إبلیس مع لعنته إلی یوم الوقت المعلوم في غیبته، وأنها لا تتناول إبقاء حجة الله علی عباده مدة طویلة في غیبته، مع ورود الأخبار الصحیحة بالنص علیه بعینه واسمه ونسبه عن الله تبارك وتعالی، وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعن الأئمة (علیهم السلام)».

ورواه الحاكم وصححه: 3/57 قال: «لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عزتهم الملائكة یسمعون الحس ولایرون الشخص فقالت: السلام علیكم أهل البیت ورحمة الله وبركاته. إن في الله عزاء من كل مصیبة وخلفاً من كل فائت، فبالله فثقوا وإیاه فارجوا، فإنما المحروم

ص: 692

من حرم الثواب، والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته».

وفي البحار: 43/213 عن علي (علیه السلام) قال: «إن فاطمة (علیها السلام) لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانت تقول: وا أبتاه من ربه ما أدناه، وا أبتاه جنان الخلد مثواه، وا أبتاه یكرمه ربه إذ أتاه، یا أبتاه الرسل تسلم علیه حین تلقاه».

وفي البخاري: 5/144 عن أنس قال: «لما ثقل النبي جعل یتغشاه فقالت فاطمة (علیها السلام) واكرب أباه! فقال لها: لیس علی أبیك كرب بعد الیوم! فلما مات قالت: یا أبتاه، أجاب رباً دعاه. یا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، یا أبتاه إلی جبریل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة (علیها السلام): یاأنس أطابت أنفسكم أن تحثوا علی رسول الله التراب؟!».

وفي كفایة الأثر /198، عن محمود بن لبید قال: «لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء وتأتي قبر حمزة وتبكي هناك، فلما كان في بعض الأیام أتیت قبر حمزة فوجدتها تبكي هناك، فأمهلتها حتی سكتت فأتیتها وسلمت علیها وقلت: یا سیدة النسوان قد والله قطعت أنیاط قلبي من بكائك. فقالت: یا با عمرو یحق لي البكاء، ولقد أصبت بخیر الآباء رسول الله (صلی الله علیه و آله)، واشوقاه لي رسول الله، ثم أنشأت علیها السلام تقول:

إذا مات یوماً میتٌ قلَّ ذكره *** وذكر أبي إذ مات والله أكثر

قلت: یا سیدتي إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري؟ قالت: سل، قلت: هل نص رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل وفاته علی علی بالإمامة؟ قالت: واعجباه أنسیتم یوم غدیر خم؟! قلت: قد كان ذلك، ولكن أخبریني بما أسرَّ إلیك. قالت: أشهد الله تعالی لقد سمعته یقول: علي خیر من أخلفه فیكم، وهو الإمام والخلیفة بعدي، وسبطاي وتسعة من صلب الحسین أئمة أبرار، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادین مهدیین، ولئن خالفتموهم لیكون الإختلاف فیكم إلی یوم القیامة..الخ.».

قال الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن أصبت بمصیبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك، فاذكر مصابك برسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الخلائق لم یصابوا بمثله قط».الكافي: 3/220.

ص: 693

20- جاؤوا بخبر السقیفة بعد دفن النبي (صلی الله علیه و آله)

في الإرشاد: 1/189: «لما تم لأبي بكر ما تم وبایعه من بایع، جاء رجل إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) وهو یسوي قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمسحاة في یده، فقال له: إن القوم قد بایعوا أبا بكر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر! فوضع طرف المسحاة في الأرض ویده علیها، ثم قال: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ.اَلَم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یتْرَكوا أَنْ یقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا یفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَیعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِینَ صَدَقُوا وَلَیعْلَمَنَّ الْكاذِبِینَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ یعْمَلُونَ السَّیئَاتِ أَنْ یسْبِقُونَا سَاءَ مَا یحْكمُونَ. وقد كان أبو سفیان جاء إلی باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي والعباس متوفران علی النظر في أمره فنادی:

بنی هاشم لاتُطمعوا الناس فیكمُ *** ولاسیما تَیمُ بن مرةَ أو عَدِي

فما الأمر إلا فیكم وإلیكم *** ولیس لها إلا أبو حسنٍ علي

أبا حسن فاشدد بها كف حازمٍ *** فإنك بالأمر الذي یرتجي ملي

ثم نادی بأعلی صوته: یا بني هاشم یا بني عبدمناف، أرضیتم أن یلي علیكم أبو فصیل«بكر»الرذل بن الرذل! أما والله لئن شئتم لأملأنها خیلاً ورجلاً؟! فناداه أمیر المؤمنین (علیه السلام): إرجع یا أبا سفیان، فوالله ما ترید الله بما تقول، وما زلت تكید الإسلام وأهله، ونحن مشاغیل برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعلی كل امرئ ما اكتسب، وهو ولي ما احتقب! فانصرف أبو سفیان إلی المسجد فوجد بني أمیة مجتمعین فیه، فحرضهم علی الأمر فلم ینهضوا له».

في نهج البلاغة: 1/116: «لما انتهت إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنباء السقیفة بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (علیه السلام): ما قالت الأنصار؟ قالوا قالت: منا أمیر ومنكم أمیر! قال (علیه السلام): فهلا احتججتم علیهم بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصی بأن یحسن إلی محسنهم ویتجاوز عن مسیئهم! قالوا وما في هذا من الحجة علیهم؟ فقال (علیه السلام): لو كانت الإمارة فیهم لم تكن الوصیة بهم.ثم قال (علیه السلام): فما ذا قالت قریش؟ قالوا: احتجت بأنها

ص: 694

شجرة الرسول (صلی الله علیه و آله)، فقال (علیه السلام): احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»!

وفي نهج البلاغة: 1/40: «ومن خطبة له (علیه السلام) لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخاطبه العباس وأبو سفیان بن حرب في أن یبایعا له بالخلافة:

أیها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طریق المنافرة، وضعوا عن تیجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة یغص بها آكلها! ومجتنی الثمرة لغیر وقت إیناعها كالزارع بغیر أرضه! فإن أقل یقولوا حرص علی الملك، وإن أسكت یقولوا جزع من الموت! هیهات بعد اللتیا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه.

بل اندمجت علی مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشیة في الطوی البعیدة». أي اضطراب حبل الدلو في البئر العمیقة.

وفي البحار: 22/492، عن الطُّرف، عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «قال (صلی الله علیه و آله): یا علي ما أنت صانع لو قد تأمر القوم علیك بعدي وتقدموا علیك، وبعث إلیك طاغیتهم یدعوك إلی البیعة، ثم لببت بثوبك تقاد كما یقاد الشارد من الإبل مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً، وبعد ذلك ینزل بهذه الذل؟! قال: فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) صرخت وبكت، فبكی رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبكائها وقال: یا بنیة لا تبكي ولا تؤذي جلساءك من الملائكة، هذا جبرئیل بكی لبكائك ومیكائیل وصاحب سر الله إسرافیل! یا بنیة لا تبكي فقد بكت السماوات والأرض لبكائك! فقال علي (علیه السلام)

یا رسول الله أنْقَادُ للقوم وأصبر علی ما أصابني، من غیر بیعة لهم، وما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم اشهد.

فقال: یا علي ما أنت صانع بالقرآن والعزائم والفرائض؟

فقال: یا رسول الله أجمعه، ثم آتیهم به، فإن قبلوه، وإلا أشهدت الله عزوجل وأشهدتك علیهم. قال: اللهم اشهد».

ص: 695

21- ذهول الصحابي البراء بن عازب (رحمة الله) من بیعة الخلسة!

قال الجوهري في كتابه السقیفة/48، وهو من أقدم الكتب في هذا الموضوع: «سمعت البراء بن عازب، یقول: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قریش علی إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما یأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فكنت أتردد إلی بني هاشم وهم عند النبي في الحجرة وأتفقد وجوه قریش. فإنی كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وعثمان، وإذ قائل یقول: القوم في سقیفة بني ساعدة، وإذ قائل آخر یقول: قد بویع أبو بكر! فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبیدة وجماعة من أصحاب السقیفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانیة لایمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا یده فمسحوها علی ید أبي بكر یبایعه، شاء ذلك أو أبی!

فأنكرت عقلي! وخرجت أشتد حتی انتهیت إلی بني هاشم والباب مغلق، فضربت علیهم الباب ضرباً عنیفاً وقلت: قد بایع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة، فقال العباس: تربت أیدیكم إلی آخر الدهر، أما إني قد أمرتكم فعصیتموني!

فمكثت أكابد ما في نفسي، ورأیت في اللیل المقداد، وسلمان، وأباذر، وعبادة بن الصامت، وأبا الهیثم بن التیهان، وحذیفة، وعماراً، وهم یریدون أن یعیدوا الأمر شوری بین المهاجرین! فلما كان بلیل خرجت إلی المسجد فلما صرت فیه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقرآن، فامتنعت من مكاني فخرجت إلی الفضاء فضاء بني قضاعة، وأجد نفراً یتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم، فعرفوني وما أعرفهم، فأتیتهم فأجد المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأباذر، وحذیفة، وأبا الهیثم بن التیهان وإذا حذیفة یقول لهم: والله لیكونن ما أخبرتكم به، والله ما كذبت ولا كذبت!

وإذ القوم یریدون أن یعیدوا الأمر شوری بین المهاجرین!

ثم قال: إئتوا أبيّ بن كعب فقد علم كما علمت، قال فانطلقنا إلی أبیّ فضربنا علیه بابه حتی صار خلف الباب فقال: من أنتم؟ فكلمه المقداد فقال: ماحاجتكم؟ فقال له:

ص: 696

ماأنا بفاتح بابي وقد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد؟ فقلنا: نعم، فقال: أفیكم حذیفة؟ فقلنا: نعم، قال: فالقول ما قال! وبالله ما أفتح عني بابي حتی تجري علی ما هي جاریة، ولمَا یكون بعدها شر منها، والی الله المشتكی!

وبلغ الخبر أبا بكر وعمر، فأرسلا إلی أبي عبیدة والمغیرة بن شعبة، فسألاهما عن الرأي؟ فقال المغیرة: الرأی أن تلقوا العباس فتجعلوا له هذا الأمر نصیباً فیكون له ولعقبه، فتقطعوا به من ناحیة علي، ویكون لكم حجة عند الناس علی علي، إذا مال معكم العباس. فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبیدة والمغیرة، حتی دخلوا علی العباس، وذلك في اللیلة الثانیة من وفاة رسول الله، فحمد أبو بكر الله وأثنی علیه وقال: إن الله ابتعث لكم محمداً نبیاً وللمؤمنین ولیاً، فمن الله علیهم بكونه بین ظهرانیهم، حتی اختار له ما عنده، فخلی علی الناس أمورهم لیختاروا لأنفسهم، متفقین غیر مختلفین فاختاروني علیهم والیاً ولأمورهم راعیاً فتولیت ذلك وما أخاف بعون الله وتسدیده وهناً ولا حیرةً ولا جبناً، وماتوفیقي إلا بالله علیه توكلت والیه أنیب، وما انفك یبلغني عن طاعن یقول بخلاف قول عامة المسلمین، یتخذ لكم لجأ فتكونوا حصنه المنیع وخطبه البدیع، فإما دخلتم فیما دخل فیه الناس، أو صرفتموهم عما مالوا إلیه، فقد جئناك ونحن نرید أن نجعل لك في هذا الأمر نصیباً ولمن بعدك من عقبك، إذ كنت عم رسول الله، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم! وعلی رسلكم بني هاشم فإن رسول الله منا ومنكم!

فاعترض كلامه عمر، وخرج إلی مذهبه في الخشونة والوعید وإتیان الأمر من أصعب جهاته، فقال: إي والله وأخری أنا لم نأتكم عن حاجة إلیكم، ولكن كرهنا أن یكون الطعن فیما اجتمع علیه المسلمون منكم، فیتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم وعامتهم، ثم سكت». انتهی.

أقول: البراء بن عازب صحابي كبیر، وبطولاته في معارك الإسلام مشهورة.

قال الذهبي في سیره: 3/194: «البراء بن عازب بن الحارث، الفقیه الكبیر، أبو

ص: 697

عمارة الأنصاري الحارثي المدني، نزیل الكوفة، من أعیان الصحابة. روی حدیثاً كثیراً وشهد غزوات كثیرة مع النبي (صلی الله علیه و آله)».

وتدل شهادته علی أن خلافة أبي بكر كانت خلسة وفلتةً بعیدة عن النص النبوي ومشورة الأمة! وكانت إجباراً وإرهاباً بالطلقاء الذین خرجوا مسلحین یخبطون من رأوه ویجبرونه علی البیعة! وتدل علی أنها كانت متزلزلة أیاماً، حتی غلبت فیها قریش والطلقاء، وانقسم الأنصار وتحاسدوا وتخاذلوا!

22- خطبة سلمان في الیوم الثالث لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

في الإحتجاج: 1/151، عن الإمام الصادق عن آبائه: قال: «خطب الناس سلمان الفارسي (رحمة الله) بعد أن دفن النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثة أیام فقال فیها:

ألا یا أیها الناس: إسمعوا عني حدیثي ثم اعقلوه عني، ألا وإني أوتیت علماً كثیراً، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضایل أمیر المؤمنین (علیه السلام) لقالت طائفة منكم هو مجنون، وقالت طائفة أخری اللهم اغفر لقاتل سلمان! ألا إن لكم منایا تتبعها بلایا، ألا وإن عند علي (علیه السلام) علم المنایا والبلایا ومیراث الوصایا، وفصل الخطاب، وأصل الأنساب، علی منهاج هارون بن عمران من موسی إذ یقول له رسول الله (صلی الله علیه و آله):

أنت وصیي فی أهل بیتي، وخلیفتي في أمتي وأنت مني بمنزلة هارون من موسی! ولكنكم أخذتم سنة بنی إسرائیل فأخطأتم الحق، فأنتم تعلمون ولا تعلمون! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة! أما والذي نفس سلمان بیده لو ولیتموها علیاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم، ولو دعوتم الطیر لأجابتكم في جو السماء، ولو دعوتم الحیتان من البحار لأتتكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله. ولكن أبیتم فولیتموها غیره فأبشروا بالبلایا، واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم علی سواء، فانقطعت العصمة فیما بیني وبینكم من الولاء! علیكم بآل محمد فإنهم القادة إلی الجنة، والدعاة إلیها یوم القیامة.

علیكم بأمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فوالله لقد سلمنا علیه بالولایة وإمرة المؤمنین مراراً جمة مع نبینا، كل ذلك یأمرنا به ویؤكده علینا! فما بال القوم عرفوا

ص: 698

فضله فحسدوه، وقد حسد هابیل قابیل فقتله، وكفاراً قد ارتدت أمة موسی بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائیل، فأین یذهب بكم!

أیها الناس: ویحكم ما لنا وأبو فلان وفلان! أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفاراً یضرب بعضكم رقاب بعض بالسیف، یشهد الشاهد علی الناجي بالهلكة، ویشهد الشاهد علی الكافر بالنجاة!

ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبیي (صلی الله علیه و آله)، واتبعت مولاي ومولی كل مؤمن ومؤمنة علیاً أمیر المؤمنین، وسید الوصیین، وقائد الغر المحجلین، وإمام الصدیقین، والشهداء والصالحین».

23- خطبة أمیر المؤمنین (علیه السلام) في الیوم السابع لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 8/18 عن جابر بن یزید الجعفي (رحمة الله) قال: «دخلت علی أبي جعفر (علیه السلام) فقلت: یا ابن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشیعة في مذاهبها فقال:

یا جابر ألم أقفك علی معنی اختلافهم من أین اختلفوا، ومن أي جهة تفرقوا؟ قلت: بلی یا ابن رسول الله قال: فلا تختلف إذا اختلفوا! یا جابر

إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في أیامه! یا جابر إسمع وعِ، قلت: إذا شئت، قال: إسمع وعِ، وبلغ حیث انتهت بك راحلتك:

إن أمیر المؤمنین (علیه السلام) خطب الناس بالمدینة، بعد سبعة أیام من وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك حین فرغ من جمع القرآن وتألیفه فقال (علیه السلام): «مختصراً»:

الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده، وحجب العقول أن تتخیل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لا یتفاوت في ذاته، ولا یتبعض بتجزئة العدد في كماله. فارق الأشیاء لا علی اختلاف الأماكن، ویكون فیها لا علی وجه الممازجة، ویعلمها لا بأداة، لا یكون العلم إلا بها، ولیس بینه وبین معلومه علم غیره به. كان عالماً بمعلومه. إن قیل كان، فعلی تأویل أزلیة الوجود وإن قیل لم یزل، فعلی تأویل نفي العدم. فسبحانه وتعالی عن قول من عبد سواه واتخذ إلهاً غیره، علواً كبیراً.

ص: 699

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه، وأوجب قبوله علی نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خف میزانٌ ترفعان منه، وثقل میزانٌ توضعان فیه، وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار، والجواز علی الصراط. وبالشهادة تدخلون الجنة، وبالصلاة تنالون الرحمة. أكثروا من الصلاة علی نبیكم (صلی الله علیه و آله): إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ یصَلُّونَ عَلَی النبي یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا.

أیها الناس: إنه لا شرف أعلی من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوی، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفیع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافیة، ولا وقایة أمنع من السلامة، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقناعة، ولا كنز أغنی من القنوع، ومن اقتصر علی بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة، والرغبة مفتاح التعب، والإحتكار مطیة النصب، والحسد آفة الدین، والحرص داع إلی التقحم في الذنوب، وهو داعي الحرمان...

إعلموا أیها الناس أنه من مشی علی وجه الأرض، فإنه یصیر إلی بطنها، واللیل والنهار یتنازعان في هدم الأعمار...

وما تناكرتم إلا لما فیكم من المعاصي والذنوب، فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعیم، وما شر بشر بعده الجنة، وما خیر بخیر بعده النار، وكل نعیم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافیة، وعند تصحیح الضمائر تبدو الكبائر، تصفیة العمل أشد من العمل، وتخلیص النیة من الفساد أشد علی العاملین من طول الجهاد. هیهات لولا التقی لكنت أدهی العرب.

أیها الناس: إن الله تعالی وعد نبیه محمداً (صلی الله علیه و آله) الوسیلة ووعده الحق، ولن یخلف الله وعده، ألا وإن الوسیلة أعلی درج الجنة، وذروة ذوائب الزلفة، ونهایة غایة الأمنیة، لها ألف مرقاة، ما بین المرقاة إلی المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام، وهو ما بین مرقاة درة إلی مرقاة جوهرة، إلی مرقاة زبرجدة، إلی مرقاة لؤلؤة، إلی مرقاة یاقوتة، إلی مرقاة زمردة، إلی مرقاة مرجانة.. قد أنافت علی كل الجنان ورسول الله (صلی الله علیه و آله) یومئذ

ص: 700

قاعد علیها، مرتدٍ بریطتین: ریطة من رحمة الله وریطة من نور الله، علیه تاج النبوة، وإكلیل الرسالة، قد أشرق بنوره الموقف، وأنا یومئذ علی الدرجة الرفیعة وهي دون درجته، وعلي ریطتان: ریطة من أرجوان النور وریطة من كافور، والرسل والأنبیاء: قد وقفوا علی المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أیماننا، وقد تجللهم حلل النور والكرامة، لا یرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا، وعجب من ضیائنا وجلالتنا...

ولا مصیبة عظمت ولا رزیة جلت كالمصیبة برسول الله (صلی الله علیه و آله)، لأن الله ختم به الإنذار والإعذار، وقطع به الإحتجاج والعذر بینه وبین خلقه، وجعله بابه الذي بینه وبین عباده، ومهیمنه الذي لا یقبل إلا به، ولا قربة إلیه إلا بطاعته، وقال في محكم كتابه: مَنْ یطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّی فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَیهِمْ حَفِیظًا. فقرن طاعته بطاعته ومعصیته بمعصیته، فكان ذلك دلیلاً علی ما فوض إلیه، وشاهداً له علی من اتبعه وعصاه، وبین ذلك في غیر موضع من الكتاب العظیم فقال تبارك وتعالی في التحریض علی اتباعه، والترغیب في تصدیقه، والقبول لدعوته: قُلْ إِنْ كنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي یحْبِبْكمُ اللهُ وَیغْفِرْ لَكمْ ذُنُوبَكمْ، فاتباعه (صلی الله علیه و آله) محبة الله، ورضاه غفران الذنوب، وكمال الفوز ووجوب الجنة، وفي التولی عنه والإعراض محادة الله وغضبه وسخطه، والبعد منه مسكن النار، وذلك قوله: أُولَئِك یؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ یكفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، یعني الجحود به والعصیان له...

فإن الله تبارك اسمه امتحن بی عباده وقتل بیدي أضداده، وأفنی بسیفي جحاده وجعلني زلفة للمؤمنین وحیاض موت علی الجبارین، وسیفه علی المجرمین، وشد بي أزر رسوله (صلی الله علیه و آله) وأكرمني بنصره، وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه، واختصني بوصیته واصطفاني بخلافته في أمته، فقال (صلی الله علیه و آله) وقد حشده المهاجرون والأنصار، وانغصت بهم المحافل: أیها الناس إن علیاً مني كهارون من موسی إلا أنه لا نبي بعدي! فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول، إذ عرفوني

ص: 701

أني لست بأخیه لأبیه وأمه كما كان هارون أخا موسی لأبیه وأمه، ولا كنت نبیاً فأقتضي نبوة، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسی هارون (علیهما السلام) حیث یقول: أُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِیلَ الْمُفْسِدِینَ.

وقوله (صلی الله علیه و آله) حین تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله فخرج رسول الله إلی حجة الوادع ثم صار إلی غدیر خم، فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه، وأخذ بعضدي حتی رئي بیاض إبطیه رافعاً صوته، قائلاً في محفله: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فكانت علی ولایتي ولایة الله وعلی عداوتي عداوة الله. وأنزل الله عزوجل فی ذلك الیوم: الْیوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِینَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیكمْ نِعْمَتِي. فكانت ولایتي كمالَ الدین ورضا الرب جل ذكره، وأنزل الله تبارك وتعالی اختصاصاً لي وتكرماً نحلنیه وإعظاماً وتفضیلاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) منحنیه، وهو قوله تعالی: ثُمَّ رُدُّوا إِلَی اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِینَ. في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الإرتفاع، فطال لها الإستماع.

ولئن تقمصها دوني الأشقیان ونازعاني فیما لیس لهما بحق، وركباها ضلالة واعتقداها جهاله، فلبئس ما علیه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا، یتلاعنان في دورهما، ویتبرأ كل واحد منهما من صاحبه، یقول لقرینه إذا التقیا: یا لیت بیني وبینك بعد المشرقین فبئس القرین، فیجیبه الأشقی علی رثوثة: یا لیتني لم أتخذك خلیلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِی وَكانَ الشَّیطَانُ للَّإِنْسَانِ خَذُولاً، فأنا الذكر الذي عنه ضل، والسبیل الذي عنه مال، والإیمان الذي به كفر، والقرآن الذي إیاه هجر، والدین الذي به كذب، والصراط الذي عنه نكب.

ولئن رتعا في الحطام المنصرم، والغرور المنقطع، وكانا منه علی شفا حفرة من النار، لهما علی شر ورود، في أخیب وفود، وألعن مورود، یتصارخان باللعنة ویتناعقان بالحسرة، مالهما من راحة، ولا عن عذابهما من مندوحة.

إن القوم لم یزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان، یقیمون لها المناسك، وینصبون لها العتائر، ویتخذون لها القربان، ویجعلون لها البحیرة والوصیلة، والسائبة والحام، ویستقسمون

ص: 702

بالأزلام، عامهین عن الله عز ذكره، حائرین عن الرشاد، مهطعین إلی البعاد، وقد استحوذ علیهم الشیطان، وغمرتهم سوداء الجاهلیة، ورضعوها جهالة، وانفطموها ضلالة، فأخرجنا الله إلیهم رحمة، وأطلعنا علیهم رأفة، وأسفر بنا عن الحجب، نوراً لمن اقتبسه، وفضلاً لمن اتبعه، وتأییداً لمن صدقه، فتبوؤوا العز بعد الذلة، والكثرة بعد القلة، وهابتهم القلوب والأبصار، وأذعنت لهم الجبابرة، وطوائفها وصاروا أهل نعمة مذكورة، وكرامة میسورة وأمن بعد خوف، وجمع بعد كوف، وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان، وأولجناهم باب الهدی، وأدخلناهم دار السلام، وأشملناهم ثوب الإیمان، وفلجوا بنا في العالمین، وأبدت لهم أیام الرسول آثار الصالحین، من حام مجاهد، ومصل قانت، ومعتكف زاهد، یظهرون الأمانة ویأتون المثابة.

حتی إذا دعا الله عزوجل نبیه (صلی الله علیه و آله) ورفعه إلیه، لم یك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو ومیض من برقة، إلی أن رجعوا علی الأعقاب، وانتكصوا علی الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتاب، وردموا الباب، وفلوا الدیار، وغیروا آثار رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بدیلاً، اتخذوه وكانوا ظالمین، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولی بمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) ممن اختار رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمقامه! وأن مهاجر آل أبي قحافة خیر من المهاجري الأنصاري الرباني، ناموس هاشم بن عبدمناف!

ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام، شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان، رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مضی ولم یستخلف! فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) الطیب المبارك أول مشهود علیه بالزور في الإسلام! وعن قلیل یجدون غب ما یعملون، وسیجد التالون غب ما أسسه الأولون!

ولئن كانوا فی مندوحة من المهل، وشفاء من الأجل، وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور، وسكون من الحال، وإدراك من الأمل، فقد أمهل

ص: 703

الله عزوجل شداد بن عاد، وثمود بن عبود، وبلعم بن باعور، وأسبغ علیهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأمدهم بالأموال والأعمار، وأتتهم الأرض ببركاتها، لیذكروا آلاء الله، ولیعرفوا الإهابة له، والإنابة إلیه، ولینتهوا عن الإستكبار. فلما بلغوا المدة، واستتموا الأكلة، أخذهم الله عزوجل واصطلمهم، فمنهم من حصب، ومنهم من أخذته الصیحة، ومنهم من أحرقته الظلة، ومنهم من أودته الرجفة، ومنهم من أردته الخسفة: وَمَا كانَ اللهُ لِیظْلِمَهُمْ وَلَكنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ یظْلِمُونَ.

ألا وإن لكل أجل كتاباً، فإذا بلغ الكتاب أجله، فلو كشف لك عما هوی إلیه الظالمون، وآل إلیه الأخسرون، لهربت إلی الله عزوجل مما هم علیه مقیمون وإلیه صائرون!

ألا وإني فیكم أیها الناس كهارون في آل فرعون، وكباب حطة في بني إسرائیل، وكسفینة نوح في قوم نوح. إني النبأ العظیم، والصدیق الأكبر، وعن قلیل ستعلمون ما توعدون، وهل هي إلا كلعقة الآكل، ومذقة الشارب، وخفقة الوسنان، ثم تلزمهم المعرات، خِزْي فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَیوْمَ الْقِیامَةِ یرَدُّونَ إِلَی أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. فما جزاء من تنكب محجته، وأنكر حجته، وخالف هداته، وحاد عن نوره، واقتحم فی ظلمه، واستبدل بالماء السراب وبالنعیم العذاب، وبالفوز الشقاء، وبالسراء الضراء، وبالسعة الضنك، إلا جزاء اقترافه، وسوء خلافه، فلیوقنوا بالوعد علی حقیقته، ولیستیقنوا بما یوعدون: یوْمَ یسْمَعُونَ الصَّیحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِك یوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْیي وَنُمِیتُ وَإِلَینَا الْمَصِیرُ. یوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِك حَشْرٌ عَلَینَا یسِیرٌ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا یقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَیهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ یخَافُ وَعِیدِ».

24- احتجاج اثني عشر من شخصیات المهاجرین والأنصار

3- كان كبار الصحابة مذهولین، غاضبین لحركة أهل السقیفة، وأسلوبهم فی الخلسة والعنف لأخذ الخلافة! وقد اعترضوا اعلی أبي بكر وعمر رغم الجو الإرهابي القمعي الذی أوجده الطلقاء لفرض خلیفتهم!

وفي أول جمعة عندما صعد أبو بكر علی منبر النبي (صلی الله علیه و آله) قام اثنا عشر صحابیاً،

ص: 704

وتكلموا بكلام قوي، فأفحموه ومن معه، فانسحبوا من المسجد وظلوا ثلاثة أیام، یحشدون مناصریهم، ثم عادوا بقوة وتهدید!

روی في الإحتجاج: 1/97: «عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنكر علی أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: نعم كان الذي أنكر علی أبي بكر اثنا عشر رجلاً. من المهاجرین: خالد بن سعید بن العاص، وكان من بني أمیة، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن یاسر، وبریدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهیثم بن التیهان، وسهل وعثمان ابنا حنیف، وخزیمة بن ثابت ذو الشهادتین، وأبيّ بن كعب، وأبو أیوب الأنصاري.

قال: فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بینهم فقال بعضهم لبعض: والله لنأتینه ولننزلنه عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلك إذاً أعنتم علی أنفسكم فقد قال الله عزوجل: ولا تلقوا بأیدیكم إلی التهلكة، فانطلقوا بنا إلی أمیر المؤمنین لنستشیره ونستطلع رأیه، فانطلق القوم إلی أمیر المؤمنین بأجمعهم فقالوا: یا أمیر المؤمنین تركت حقاً أنت أحق به وأولی به من غیرك، لأنا سمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول: علي مع الحق والحق مع علي یمیل مع الحق كیفما مال. ولقد هممنا أن نصیر إلیه فننزل عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجئناك لنستشیرك ونستطلع رأیك فما تأمرنا؟ فقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): وأیم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العین، وأیم الله لو فعلتم ذلك لأتیتموني شاهرین بأسیافكم مستعدین للحرب والقتال، وإذاً لأتوني فقالوا لي بایع وإلا قتلناك، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي، وذلك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي: یا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقض فیك عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسی، وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه! فقلت: یا رسول الله فما تعهد إليّ إذا كان كذلك؟ فقال: إذا وجدت أعواناً فبادر إلیهم وجاهدهم، وإن لم تجد

ص: 705

أعواناً كف یدك واحقن دمك حتی تلحق بي مظلوماً.

فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) اشتغلت بغسله وتكفینه والفراغ من شأنه، ثم آلیت علی نفسي یمیناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتی أجمع القرآن، ففعلت، ثم أخذت بید فاطمة وابني الحسن والحسین فدرت علی أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلی نصرتي، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار وأبوذر والمقداد! ولقد راودت في ذلك بقیة أهل بیتي، فأبوا علَيَّ إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بیت نبیه! فانطلقوا بأجمعكم إلی الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبیكم، لیكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر، وأبعد لهم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا وردوا علیه.

فسار القوم حتی أحدقوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان یوم الجمعة، فلما صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتكلموا، فقال الأنصار للمهاجرین: بل تكلموا وتقدموا أنتم فإن الله عزوجل بدأ بكم في الكتاب. فأول من تكلم خالد بن سعید بن العاص، ثم باقي المهاجرین، ثم بعدهم الأنصار.

فقام إلیه خالد بن سعید بن العاص وقال: إتق الله یا أبا بكر، فقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال ونحن محتوشوه یوم بني قریظة، حین فتح الله له باب النصر، وقد قتل علي بن أبي طالب یومئذ عدة من صنادید رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: یا معاشر المهاجرین والأنصار إني موصیكم بوصیة فاحفظوها، ومودعكم أمراً فاحفظوه، ألا إن علي بن أبي طالب أمیركم بعدي وخلیفتي فیكم، بذلك أوصاني ربي. ألا وإنكم إن لم تحفظوا فیه وصیتي وتوازروه وتنصروه، اختلفتم في أحكامكم، واضطرب علیكم أمر دینكم وولیكم أشراركم.

ألا وإن أهل بیتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي. اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فیهم وصیتي فاحشرهم في زمرتي، واجعل لهم نصیباً من مرافقتي، یدركون به نور الآخرة. اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بیتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.

ص: 706

فقال له عمر بن الخطاب: أُسكت یا خالد فلست من أهل المشورة، ولا ممن یقتدی برأیه. فقال له خالد: بل أسكت أنت یا ابن الخطاب، فإنك تنطق علی لسان غیرك! وأیم الله لقد علمت قریش أنك من ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، وأخسها قدراً، وأخملها ذكراً، وأقلهم غناءً عن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، وإنك لجبان في الحروب، بخیل بالمال، لئیم العنصر، مالك في قریش من فخر، ولا في الحروب من ذكر، وإنك في هذا الأمر بمنزلة الشیطان: إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمین. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدین فیها وذلك جزاء الظالمین. فأبلس عمر، وجلس خالد بن سعید».

ثم أورد الإمام الصادق (علیه السلام) خُطَبَهم واحداً واحداً، وقال: «فأفحم أبو بكر علی المنبر حتی لم یحر جواباً، ثم قال: ولیتكم ولست بخیركم أقیلوني أقیلوني! فقال له عمر بن الخطاب: إنزل عنها یا لكع! إذا كنت لا تقوم بحجج قریش لمَ أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولی أبي حذیفة. قال: فنزل ثم أخذ بیده وانطلق إلی منزله، وبقوا ثلاثة أیام لا یدخلون مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلما كان في الیوم الرابع جاءهم خالد بن الولید ومعه ألف رجل فقال لهم: ما جلوسكم فقد طمع فیها والله بنو هاشم؟ وجاءهم سالم مولی أبي حذیفة ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل، فما زال یجتمع إلیهم رجل رجل حتی اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا شاهرین بأسیافهم یقدمهم عمر بن الخطاب حتی وقفوا بمسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عمر: والله یا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل یتكلم بالذي تكلم بالأمس، لنأخذن الذي فیه عیناه. فقام إلیه خالد بن سعید بن العاص وقال: یا بن صهاك الحبشیة أبأسیافكم تهددوننا، أم بجمعكم تفزعوننا، والله إن أسیافنا أحد من أسیافكم، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قلیلین لأن حجة الله فینا، والله لو لا أنی أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولی بي، لشهرت سیفي وجاهدتكم في الله إلی أن أبلط عذري. فقام أمیر المؤمنین وقال: أجلس یا خالد، فقد عرف الله لك

ص: 707

مقامك وشكر لك سعیك، فجلس! وقام إلیه سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر! سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهاتین الأذنین وإلا صُمَّتا یقول: بینا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار یریدون قتله وقتل من معه، فلست أشك إلَّا وإنكم هم! فهمَّ به عمر بن الخطاب، فوثب إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض، ثم قال: یا بن صهاك الحبشیة لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم، لأریتك أینا أضعف ناصراً وأقل عدداً!

ثم التفت إلی أصحابه فقال: إنصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسی وهارون، إذ قال له أصحابه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ. والله لا دخلته إلا لزیارة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لقضیة أقضیها، فإنه لا یجوز بحجة أقامها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن یترك الناس في حیرة»!

وعن عبدالله بن عبدالرحمن قال:«ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل یطوف بالمدینة وینادي: ألا إن أبا بكر قد بویع له فهلموا إلی البیعة، فینثال الناس یبایعون فعرف أن جماعة في بیوت مستترون، فكان یقصدهم في جمع كثیر ویكبسهم، ویحضرهم المسجد فیبایعون! حتی إذا مضت أیام أقبل في جمع كثیر إلی منزل علي (علیه السلام) فطالبه بالخروج فأبی، فدعا عمر بحطب ونار وقال: والذي نفس عمر بیده لیخرجن أو لأحرقنه علی ما فیه! فقیل له: إن فیه فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وولد رسول الله وآثار رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنكر الناس ذلك من قوله فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهویل، فراسلهم علی أن لیس إلی خروجي حیلة، لأني في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكم الدنیا عنه، وقد حلفت أن لا أخرج من بیتي ولا أدع ردائي علی عاتقي حتی أجمع القرآن. قال: وخرجت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلیهم فوقفت خلف الباب ثم قالت: لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) جنازة بین أیدینا، وقطعتم أمركم فیما بینكم ولم تؤمرونا، ولم تروا لنا حقاً، كأنكم لم تعلموا ما قال یوم غدیر خم! والله لقد عقد له یومئذ الولاء لیقطع منكم بذلك منها الرجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب بینكم وبین نبیكم! والله

ص: 708

حسیب بیننا وبینكم في الدنیا والآخرة».

هذا، وفي الموضوع أحادیث وبحوث، لایتسع لها الكتاب.

25- خطبة أخری لأبي بن كعب (رحمة الله) في إدانة السقیفة

في الإحتجاج 1/153: «لما خطب أبو بكر قام إلیه أبيّ بن كعب وكان یوم الجمعة أول یوم من شهر رمضان، وقال: یا معشر المهاجرین الذین اتبعوا مرضاة الله وأثنی الله علیهم في القرآن. ویا معشر الأنصار الذین تبوؤوا الدار والإیمان، وأثنی الله علیهم في القرآن، تناسیتم أم نسیتم أم بدلتم أم غیرتم أم خذلتم أم عجزتم؟! ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام فینا مقاماً أقام في علیاً فقال: من كنت مولاه فهذا مولاه یعني علیاً، ومن كنت نبیه فهذا أمیره؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: یا علي أنت منی بمنزلة هارون من موسی طاعتك واجبة علی من بعدي كطاعتي في حیاتي غیر أنه لا نبي بعدي؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: أوصیكم بأهل بیتي خیراً فقدموهم ولا تقدموهم، وأمِّروهم ولا تأمروا علیهم؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: أهل بیتي منار الهدی والدالون علی الله؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعلي (علیه السلام) أنت الهادي لمن ضل؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: علي المحیي لسنتي ومعلم أمتي، والقائم بحجتي، وخیر من أخلف من بعدي، وسید أهل بیتي، وأحب الناس إليّ طاعته كطاعتي علی أمتي؟

ألستم تعلمون أنه لم یول علی علي أحداً منكم وولاه في كل غیبته علیكم؟

ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحداً وارتحالهما واحداً؟

ألستم تعلمون أنه قال: إذا غبت فخلفت علیكم علیاً فقد خلفت فیكم رجلاً كنفسي؟

ألستم تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل موته قد جمعنا في بیت ابنته فاطمة فقال لنا: إن الله أوحی إلی موسی بن عمران أن اتخذ أخاً من أهلك فاجعله نبیاً،

ص: 709

واجعل أهله لك ولداً، أطهرهم من الآفات، وأخلصهم من الریب، فاتخذ موسی هارون أخاً، وولده أئمة لبني إسرائیل من بعده، الذین یحل لهم في مساجدهم ما یحل لموسی. وأن الله تعالی أوحی إليّ أن أتخذ علیاً أخاً كما أن موسی اتخذ هارون أخاً، واتخذ ولده ولداً، فقد طهرتهم كما طهرت ولد هارون، إلا أني قد ختمت بك النبیین، فلا نبي بعدك، فهم الأئمة الهادیة!

أفما تبصرون، أفما تفهمون أفما تسمعون! ضربت علیكم الشبهات، فكان مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شدید، حتی خشی أن یهلك فلقي رجلاً هادیاً في الطریق فسأله عن الماء، فقال له أمامك عینان: إحداهما مالحة والأخری عذبة، فإن أصبت المالحة ضللت، وإن أصبت العذبة هدیت ورویت! فهذا مثلكم أیتها الأمة المهملة كما زعمتم! وأیم الله ما أهملتم، لقد نصب لكم علمٌ یحل لكم الحلال ویحرم علیكم الحرام، ولو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ولا تقاتلتم ولا برئ بعضكم من بعض، فوالله إنكم بعده لناقضون عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإنكم علی عترته لمختلفون، وإن سئل هذا عن غیر ما یعلم أفتی برأیه فقد أبعدتم، وتخارستم وزعمتم أن الخلاف رحمة!

هیهات أبی الكتاب ذلك علیكم یقول الله تعالی جَده: وَلا تَكونُوا كالَّذِینَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَینَاتُ وَأُولَئِك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ.

ثم أخبرنا باختلافكم فقال سبحانه: وَلا یزَالُونَ مُخْتَلِفِینَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّك وَلِذَلِك خَلَقَهُمْ، أي للرحمة، وهي آل محمد (صلی الله علیه و آله).

سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) یقول: یا علي أنت وشیعتك علی الفطرة، والناس منها براء، فهلا قبلتم من نبیكم؟! كیف وهو خبركم بانتكاصتكم عن وصیه علي بن أبي طالب، وأمینه ووزیره وأخیه وولیه دونكم أجمعین، وأطهركم قلباً، وأقدمكم سلماً، وأعظمكم وعیاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أعطاه تراثه، وأوصاه بعداته، فاستخلفه علی أمته، ووضع عنده سره، فهو ولیه دونكم أجمعین، وأحق به منكم أكتعین، سید الوصیین، ووصي خاتم المرسلین، أفضل المتقین، وأطوع الأمة لرب العالمین، سلمتم علیه بإمرة المؤمنین في حیاة سید النبیین، وخاتم المرسلین، فقد أعذر من أنذر وأدی النصیحة من وعظ

ص: 710

وبصَّر من عمی! فقد سمعتم كما سمعنا، ورأیتم كما رأینا، وشهدتم كما شهدنا!

فقام إلیه عبدالرحمن بن عوف، وأبو عبیدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل فقالوا: یا أبيّ أصابك خبل أم بك جنة؟! فقال: بل الخبل فیكم، والله كنت عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) یوماً فألفیته یكلم رجلاً أسمع كلامه ولا أری شخصه، فقال فیما یخاطبه: ما أنصحه لك ولأمتك وأعلمه بسنتك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أفتری أمتي تنقاد له من بعدي؟ قال: یا محمد یتبعه من أمتك أبرارها، ویخالف علیهم من أمتك فجارها، وكذلك أوصیاء النبیین من قبلك، یا محمد إن موسی بن عمران أوصی إلی یوشع بن نون، وكان أعلم بني إسرائیل وأخوفهم لله وأطوعهم له، فأمره الله عزوجل أن یتخذه وصیاً كما اتخذت علیاً وصیاً، وكما أمرت بذلك، فحسده بنو إسرائیل، سبط موسی خاصة، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا له! فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائیل كذبوا وصیك وجحدوا إمرته وابتزوا خلافته وغالطوه في علمه! فقلت: یا رسول الله من هذا؟

«فقال رسول لله (صلی الله علیه و آله): هذا ملك من ملائكة ربي عزوجل، ینبئني أن أمتي تتخلف علی وصیي علي بن أبي طالب، وإني أوصیك یا أبي بوصیة إن حفظتها لم تزل بخیر: یا أبي علیك بعلي فإنه الهادي المهدي، الناصح لأمتي، المحیي لسنتي، وهو إمامكم بعدي، فمن رضي بذلك لقیني علی ما فارقته علیه. یا أبي، ومن غیر أو بدل لقیني ناكثاً لبیعتي، عاصیاً أمري، جاحداً لنبوتي، لا أشفع له عند ربي، ولا أسقیه من حوضي! فقامت إلیه رجال من الأنصار فقالوا: أقعد رحمك الله یا أبي، فقد أدیت ما سمعت الذي معك ووفیت بعهدك».

أقول: روینا عن النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل البیت (علیهم السلام) توثیق أبيّ بن كعب الأنصاري (رحمة الله)، وروی البخاري في صحیحه: 6/102 وروی غیره أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر الأمة فقال: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيَّ بن كعب».

لكنهم لم یأخذوا منه القرآن فكیف یأخذون برأیه في الخلافة؟! وقد كان (رحمة الله) یسمي أصحاب السقیفة: أهل العقدة ویقول: «هلك أصحاب العقدة ورب

ص: 711

الكعبة! یقولها ثلاثاً ثم قال: والله ما علیهم آسی ولكن آسی علی من أضلوا! قال قلت من تعني بهذا؟قال: الأمراء». الحاكم 2/226، أحمد 5/140 وتدوین القرآن للمؤلف/254.

وفي آخر عمره قرر أُبيُّ أن یخطب مرة أخری ویفضحهم فقال: «والله لئن عشت إلی هذه الجمعة لأقولن فیهم قولاً، لا أبالي أستحییتموني علیه أو قتلتموني»!

الطبقات 3/500. فمات (رحمة الله) یوم الأربعاء (رحمة الله) ! راجع: ألف سؤال وإشكال 1/341.

إلفات الی أهمیة الخرائط التوضیحیة لمواقع السیرة

تُبَینُ الخرائط الجغرافیة مواقع أحداث السیرة النبویة، فتساعد في فهم مواضیعها. ومن الممكن تجمیع الكثیر منها من شبكة النت، بالبحث عن أسماء الأماكن الواردة في السیرة. ومن المصادر المفیدة: أطلس السیرة النبویة لشوقي أبو خلیل، وأطلس التاریخ الإسلامي للدكتور حسین یونس. وهذه روابطها:

http: //www.waqfeya.net/search.php

337http: //www.waqfeya.net/book.php?bid =

http: //www.islamichistory.net/forum/showthread.php?p=31938

وتبقی الحاجة قائمة الی عمل دقیق في أطلس السیرة النبویة، لبیان مواقع حركة النبي (صلی الله علیه و آله) طول حیاته الشریفة، من سفراته الی الشام في صباه وشبابه، وحركته في مكة الی حراء وغیرها، ثم حركة الإسراء به من المسجد الحرام في مكة، الی كوفان من العراق حیث نزل وصلی في مسجدها، ثم الی بیت المقدس في فلسطین.

ثم هجرته المباركة الی المدینة، ثم تحركاته الكثیرة الی أكثر من عشرین موقعاً في أنحاء الجزیرة، وصلت غرباً الی تبوك عند حدود الأردن، وشرقاً الی حدود الیمن وداخل نجد، وكان ختامها سفره الی مكة لحجة الوداع. لكن ینبغي تحري الدقة في النص الذي یحدد مكان الحدث، والدقة في الخریطة. وكنا اخترنا مجموعة خرائط لهذا الكتاب، لكن منع مانع من نشرها!

 

«تم المجلد الثاني وبه تمت السيرة النبوية عند أهل البیت (علیهم السلام)

والحمدلله رب العالمین»

ص: 712

فهرس الموضوعات

الفصل الأربعون/سورة الأنفال سورة بدر 5

الأنفال فضحت كثيرًا من الصحابة البدريين! ...................................................................... 5

إختلافهم على الغنائم............................................................................................... 5

المؤمنون حقاً لا يختلفون على غنائم! ................................................................................ 6

صحابة يجادلون نبيهم وكأنهم يساقون إلى الموت!................................................................... 6

الإمداد الإلهي للمسلمين في بدر ..................................................................................... 6

الفرار إلى الصفوف الخلفية كالفرار من المعركة ....................................................................... 7

قاتلَ النبي (صلی الله علیه و آله) ورمى المشركين بكف حصى .......................................................................... 7

أمر الله المسلمين بطاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وذكرهم بنعمه عليهم ........................................................... 8

وحذرهم من خيانة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وخيانة أنفسهم .................................................................. 8

وذكَّر قريشاً بتآمرهم على الرسول (صلی الله علیه و آله) وعملهم لقتله ................................................................. 9

وذكَّر قريشاً بتآمرهم ضد الإسلام وهددهم ........................................................................... 9

وشرَّع الله فريضة الخمس لبني هاشم لأنهم أسسوا الأمة والدولة .................................................... 10

وأمر المسلمين بالثبات في الحرب وأن لا يبطروا كالمشركين .......................................................... 10

وحذرهم من المنافقين ومرضى القلوب في داخلهم .................................................................. 11

وحذرهم من عاقبة أعداء الرسل (علیهم السلام) ............................................................................. 11

ونبه المسلمين إلى شرالدواب الخائنين .............................................................................. 11

وعََّلم المسلمين قواعد التعامل مع أعدائهم ........................................................................ 12

وَّبخ الذين سارعوا إلى أسر القرشيين قبل أن يثخنوا فيهم .......................................................... 13

وأعلن الله وحدة الأمة من المهاجرين والأنصار ..................................................................... 14

كثرة مكذوبات السلطة عن بدر!................................................................................... 15

ص: 713

الصحابة الأبرار الذين اسشتهدوا في بدر............................................................................ 16

سورة الروم بشرت بالنصر في معركة بدر............................................................................. 16

بدأ تدهور الأمبراطورية الفارسية من أيام بدر!...................................................................... 17

الفصل الحادي والأربعون / «الخلافة الإسلامية » تثأر من بني هاشم لقتلى بدر! 19

1- تعصب قريش القبلي أشد من تعصب اليهود القومي ............................................................ 19

2- تأسست الخلافة القرشية على الثأر من بني هاشم!............................................................... 20

3- ودون الرواة صفحات طويلة في حزن قريش على قتلى بدر...................................................... 23

4- الشيخان يشربان الخمر وينوحان على قتلى بدر!................................................................. 25

5- دين قريش القبول بالتناقض! ................................................................................. 29

الفصل الثاني والأربعون/النبی (صلی الله علیه و آله) والعرب من غزوة بدر إلى أحد 33

1- ثلاث غزوات وعدة سرايا في سنة واحدة!....................................................................... 33

2- غزوة بني سَُلي.................................................................................................. 33

3- غزوة ذات السويق............................................................................................. 34

4- غزوة ذي أمر ................................................................................................... 35

5- سرية حارثة بن زيد لاعتراض قافلة قريش...................................................................... 36

6- محاولة قريش قتل النبي (صلی الله علیه و آله) ثأرًا ببدر........................................................................... 37

الفصل الثالث والأربعون/النبی (صلی الله علیه و آله) واليهود من غزوة بدرالى أحد 39

1- حاخامات اليهود في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................ 39

2- كعب بن الأشرف رئيس بني النضير.............................................................................. 42

3- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع بضاحية المدينة............................................................... 45

4- سارع بنو قينقاع بعد بدر إلى نقض عهدهم..................................................................... 48

5- رئيس بني قينقاع خير بني يهود .................................................................................. 50

6- غزوة بني النضير ................................................................................................ 51

7- حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) بني النضير وانتصرعليهم بعلي (علیه السلام) ............................................................. 52

8- غرور بني النضير عند جلائهم!................................................................................. 53

9- بداية حشر اليهود بإجلاء بني النضير............................................................................ 53

المسألة الأولى: معنى حشر اليهود وهو موضوع السورة:.............................................................. 55

المسألة الثانية: هل قطع النبي (صلی الله علیه و آله) نخل بني النضير أو أحرقه؟ ...................................................... 56

المسألة الثالثة: لماذا جع لا للهأرض بني النضير ملكاً خاصاً للنبي (صلی الله علیه و آله) ؟.............................................. 57

تحقيق هذه الأهداف: ................................................................................................ 60

من أين يأ كلون بحق السماء؟! ....................................................................................... 60

المسألة الرابعة: مسجد الفضيخ وتحريم الخمر ....................................................................... 61

ص: 714

الفصل الرابع والأربعون/تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة 62

1- مكة قبل بيت المقدس قبلة آدم ونوح و إبراهيم (علیهم السلام) ........................................................... 62

2- الكعبة والأمة الوسط .......................................................................................... 63

3- ترك بنو أمية الكعبة وحججوا الناس إلى بيت المقدس!......................................................... 65

الفصل الخامس والأربعون/زواج النبی (صلی الله علیه و آله) بعائشة وحفصة 66

زوجات الأنبياء (علیهم السلام) فيهم الصالحات والطالحات................................................................. 66

عائلتا عائشة وحفصة............................................................................................ 67

مبالغة عائشة في فضائل أبيها وثروته ............................................................................. 68

كم كان عمر عائشة لما تزوجها النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 72

ادعت عائشة أنها لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................................... 73

عائشة أكثر نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كلاماً................................................................................. 74

حَ تَمكَْ عائشة في دولة أبيها! ..................................................................................... 75

قطع عثمان مخصصاتهما فثارتا عليه ............................................................................. 75

زعمت أن النبي (صلی الله علیه و آله) جعل الخلافة لأبيها وأولاده!.................................................................... 77

واشتهرت عائشة بجرأتها على النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 77

وكانت معجبة بطلحة التيمي وابنه موسى......................................................................... 78

أدارت عائشة معركة الجمل سبعة أيام............................................................................. 79

قتل معاوية أخويها وسَكَّ اَهت....................................................................................... 79

نقاط عن حفصة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................. 80

اعترف محبوها أنها كانت تؤذي النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 82

نزلت فيها وفي عائشة آية النهي عن السخرية..................................................................... 84

كانت حفصة عنيفة فقتلت امرأتين!.............................................................................. 85

كانت حفصة وعائشة حليفتين ................................................................................... 85

تهديد الله تعالى لعائشة وحفصة! ................................................................................. 86

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث ر ضي الله عنها..................................................................... 87

أم المؤمنين ميمونة من أهل الجنة.................................................................................. 88

الفصل السادس والأربعون/غزوة أح د 91

1- استعداد قريش لحرب أحُد ....................................................................................... 91

2- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) واستعداده للدفاع ............................................................................... 93

3- النبي (صلی الله علیه و آله) يختار مكان معسكره ................................................................................ 94

4- انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولى...................................................................... 95

5- هزيمة المسلمين بعد انتصارهم! ................................................................................ 98

ص: 715

6- ثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أول الأمر بضعة أشخاص ................................................................... 100

7- بقي النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وحدهما ............................................................................... 102

أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى!..................................................................................... 103

8- نزل جبرئيل (علیه السلام) وبقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى انسحب المشركون...................................................... 104

9- ركز المشركون على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في أحُد فأصابته جراحات ..................................................... 104

10- أشد الأيام على النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................................... 107

11- أصعب اللحظات في حياة علي (علیه السلام) .......................................................................... 108

12- قميص النبي (صلی الله علیه و آله) الذي أصيب به في أحد ..................................................................... 108

13- لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة؟!..................................................................... 109

14- علي (علیه السلام) بطل أحُد وصاحب انتصاراتها....................................................................... 110

15- حب علي (علیه السلام) فريضة لا رخصة فيها.......................................................................... 112

16- جاءت فاطمة الزهراء (علیها السلام) منقضة كالصقر إلى قلب المعركة!................................................. 113

17- الصحابة الهاربون على جبل أحد ............................................................................ 114

18- نادى النبي (صلی الله علیه و آله) الفارين بأسمائهم ............................................................................. 115

19- ولحقهم علي (علیه السلام) في أول فرارهم ووبخهم! ...................................................................... 115

20- بعض الصحابة الهاربين كفروا وشبعوا كفرًا! ................................................................. 116

21- قالوا كل التقصير من النبي (صلی الله علیه و آله)!............................................................................. 117

22- شهادة حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................... 117

23- شهادة الحاخام مخيريق أفضل بني إسرائيل................................................................... 120

24- جهاد أبي دجانة الأنصاري (رحمة الله) ................................................................................ 120

25- جهاد نسيبة أم عمارة بنت کعب المازنية .................................................................... 122

26- دخل الجنة ولم يصلِّ ركعة.................................................................................... 124

27- شهادة حنظلة غسيل الملائكة (رحمة الله) .......................................................................... 124

28- جهاد رشَيْد الهَجَري في أحُد ................................................................................ 125

29- أبو عزة الذي أراد اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 125

30- النبي (صلی الله علیه و آله) ُيشفي عين قتادة من أجل عروسه.................................................................. 126

31- عندما اضطرب المسلمون قتلوا والد حذيفة خطأ!........................................................... 126

32- لعن النبي (صلی الله علیه و آله) أبا سفيان يوم أحُد ........................................................................... 126

33- لماذا قرر المشركون أن يبقوا عمر بن الخطاب ولا يقتلوه؟...................................................... 127

34- فداءً لك يا رسول الله!....................................................................................... 127

35- بركة النبي (صلی الله علیه و آله) على تمر جابر الأنصاري........................................................................ 128

36- قزمان مثلٌ لسيئ التوفيق................................................................................... 128

37- عثمان يؤوي عمه المشرك القاتل!........................................................................... 129

ص: 716

38- أسماء شهداء أحُد وقتلى المشركين فيها...................................................................... 131

الفصل السابع والأربعون/آيات معركة أحد كشفت أكثرية الصحابة! 134

ستون آية في معركة أحد .......................................................................................... 134

أهم موضوعات آيات أحد........................................................................................ 138

حقائق مهمة في آيات أحُد ....................................................................................... 142

الفصل الثامن والأربعون/مختارات من شعر أح د 147

أكثرَ القرشيون والمسلمون من الشعر في أحد....................................................................... 147

الفصل التاسع والأربعون/غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أُحد! 159

التدخل الإلهي في انسحاب قريش ............................................................................... 159

غزوة حمراء الأسد خاصة بالمجروحين في أحُد...................................................................... 159

الفصل الخمسون/أهم الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب 162

1- سرية جبل قطَن.............................................................................................. 162

2- سرية يوم الرجيع............................................................................................. 163

3- سرية بئر معونة............................................................................................... 164

4- غزوة بدر الموعد .............................................................................................. 165

5- غزوة دومة الجندل............................................................................................ 168

6- غزوة ذات الرقاع............................................................................................. 168

الفصل الحادي والخمسون/غزوة الأحزاب أو الخند ق 172

1- تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................. 172

2- كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي (صلی الله علیه و آله) يحفر الخندق........................................................... 174

3- خَّط النبي (صلی الله علیه و آله) مكان الخندق وقسَّم العمل فيه ............................................................... 175

4- محاصرة الأحزاب للمدينة..................................................................................... 176

5- فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق!........................................................................... 182

6- مرضى القلوب يتآمرون على النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأحزاب............................................................ 185

7- يقين النبي (صلی الله علیه و آله) بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها ............................................................... 187

8- من معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة الأحزاب ...................................................................... 187

9- جهاد علي (علیه السلام) في غزوة الأحزاب............................................................................... 189

10- شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين...................................................................... 190

11- عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق ..................................................................... 191

12- علي (علیه السلام) يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو................................................................ 194

13- حذيفة (رحمة الله) يصف مبارزة علي (علیه السلام) لعمرو بن ود................................................................ 195

ص: 717

14- رواية تفسير القمي لمبارزة علي لعمرو ........................................................................ 197

15- أخ عمرو بن ود يواجه علياً (علیه السلام) في مكة!..................................................................... 199

16- شبَّه الإمام الصادق (علیه السلام) يوم الأحزاب بيوم القيامة!.......................................................... 199

17- ضربة علي (علیه السلام) غيَّرت ميزان القوى!.......................................................................... 200

18- رسالة أبي سفيان قبل هروبه بجيش الأحزاب!................................................................. 201

19- إشادات النبي (صلی الله علیه و آله) بعلي (علیه السلام) يوم الأحزاب...................................................................... 201

20- معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): و إنك لذو قرنيها.............................................................. 202

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب.................................................................. 203

22- طعنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه فاتته أربع صلوات!................................................................... 206

23- من شعر الأحزاب ومبارزة علي (علیه السلام) لابن ود ................................................................... 207

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبدود ............................................................................. 210

الفصل الثاني والخمسون/غزوة بني قريظة 217

1- بنو قريظة آخر من أجلاهم النبي (صلی الله علیه و آله) من يهود المدينة........................................................... 217

2- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أمامه فحاصر بني قريظة............................................................. 217

3- بطولة علي (علیه السلام) في قريظة، ونزول جبرئیل بإمره المؤمنین له .................................................... 219

4- قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ........................................................ 220

5- المسلمون الأربعة من بني قريظة............................................................................... 222

6- أبو لبابة يخون النبي (صلی الله علیه و آله) ثم يتوب.............................................................................. 223

7- قصة أبي لبابة دليل على أفضلية التوسل .................................................................... 225

8- حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية ........................................................ 226

9- دراسة عمر عند بني قريظة وعلاقته الوطيدة معهم ........................................................... 226

الفصل الثالث والخمسون/غزوة بني المصطلق أو اُلمريسيع 230

1- خلاصة الغزوة................................................................................................. 230

2- علي (علیه السلام) صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح................................................................ 232

3- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) لقتال الجن.......................................................................... 233

4- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من جويرية بنت الحارث ...................................................................... 234

5- تنظيم الخمس لبني هاشم، والصدقات والفئ للمسلمين....................................................... 235

6- ابن سلول وسورة المنافقين!.................................................................................. 236

7- هبت ريح عند موت يهودي.................................................................................. 239

8- ضاعت ناقة النبي (صلی الله علیه و آله) فأرجف المنافقون...................................................................... 239

9- شبَّه النبي (صلی الله علیه و آله) علياً بعيسى بن مريم (علیهما السلام) ...................................................................... 240

10- الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن! ...................................................................... 241

ص: 718

11- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خالدًا فأفسد، فأرسل علياً (علیه السلام) فأصلح....................................................... 241

12- كان بنو المصطلق يماطلون في دفع زكاتهم!.................................................................... 242

13- قصة تأخر عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله) في غزوة بني المصطلق....................................................... 243

14- نزلت آية البراءة في مارية فجعلتها عائشة لها!............................................................... 245

الفصل الرابع والخمسون/من غزوة بني المصطلق إلى عمرة الحديبية 247

1- ثلاث غزوات، وأكثر من عشر سرايا، وعدد من الأحداث!...................................................... 247

2- تشجيع النبي (صلی الله علیه و آله) سباق الخيل والإبل.......................................................................... 248

3- لم تقع في المدينة زلزلة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 248

4- قصة زواج النبي (صلی الله علیه و آله) من زينب بنت حجش................................................................... 249

5- تشديد الحجاب على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................................... 253

6- غزوة بني يِْحلان............................................................................................... 257

7- غزوة الغابة أو ذي قِرَد........................................................................................ 259

8- سرية علي (علیه السلام) لملاحقة اللصوص العرنيين.................................................................... 260

9- اتهام عائشة للنبي (صلی الله علیه و آله) بأنه قسي القلب ...................................................................... 261

10- ثمامة سيد اليمامة هدية من الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 261

11- السنوات العجاف على قريش .............................................................................. 263

12- أبعد أبو بكر ثمامة فاضطهده مسيلمة! ...................................................................... 264

الفصل الخامس والخمسون/غزوة الحديبية والهدنة بين النبي و قريش 265

1- هدف الحديبية فرض الأمر الواقع على قريش.................................................................. 265

2- توجه النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين إلى العمرة.......................................................................... 265

3- استنفرت قريش وبعثت طليعةً لصد النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................. 267

4- عسكرت قريش في بْلدَح وعسكر النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية...................................................... 268

5- هدايا خزاعة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................... 270

6- ابتلى الله المسلمين بالصيد وهم محرمون ...................................................................... 270

7- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش............................................................ 270

8- حاول مسلمون الذهاب إلى مكة فأسرهم المشركون........................................................... 270

9- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) عمر بالذهاب فخاف فأرسل عثمان............................................................. 271

10- مبعوثو قريش إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................. 272

11- بيعة الرضوان بحضور مفاوض قريش....................................................................... 273

12- الإشتباكات مع قريش ودور علي (علیه السلام) فيها................................................................... 274

13- بنود معاهدة الحديبية....................................................................................... 280

14- غضبَ عمر وانشق على النبي (صلی الله علیه و آله)!.......................................................................... 281

ص: 719

15- بقي عمر غاضباً ولم يبايع بيعة الرضوان...................................................................... 284

16- عقدة عمر من شجرة بيعة الرضوان!......................................................................... 285

17- رؤيا النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في الحديبية وليس في المدينة .......................................................... 286

18- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإحلال من الإحرام ونحر الضحايا ............................................................ 287

19- نزلت سورة الفتح في عودة النبي (صلی الله علیه و آله) من الحديبية............................................................ 288

20- أهم موضوعات سورة الفتح.................................................................................. 289

21- الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان...................................................................... 291

22- ما جرى لأبي جندل وأبي بصير والمستضعفين بمكة........................................................... 292

23- النتائج الكبرى لمعاهدة الحديبية........................................................................... 295

24- لم تشارك قبائل العرب في غزوة الحديبية..................................................................... 296

الفصل السادس والخمسون/بعد الحديبية راسل النبی (صلی الله علیه و آله) ملوك العالم 297

الفصل السابع والخمسون/بعد الحديبية افتروا على النبی (صلی الله علیه و آله) أنه سحر 300

قصة افترائهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) مسحور ............................................................................... 300

رد علمائنا لهذه الفرية............................................................................................ 304

رد بعض علماء السنيين لهذه الفرية.............................................................................. 306

الفصل الثامن والخمسون/غزوة خيبر 308

1- محافظة خيبر.................................................................................................. 308

2- بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً توجه (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر ..................................................... 309

3- سبب حرب النبي (صلی الله علیه و آله) يهودَ خيبر .............................................................................. 310

4- وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى خيبر ..................................................................................... 311

5- نداء النبي (صلی الله علیه و آله) بالأمان لأهل خيبر.............................................................................. 313

6- فتح علي (علیه السلام) كل حصون خيبر؟............................................................................... 313

7- طريقة القتال في فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصون خيبر.................................................................. 315

8- طالت محاصرة حصن خيبر وظهرت هزيمة المسلمين!......................................................... 318

9- مَرِضَ علي (علیه السلام) بالرَّمَد والنبي (صلی الله علیه و آله) بالصداع!................................................................... 320

10- غَضِبَ النبي (صلی الله علیه و آله) من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غدًا!..................................................... 321

11- قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأصحابه الفارين: أميطوا عني!................................................................ 322

12- أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) الراية لعلي (علیه السلام) ودعا له..................................................................... 323

13- وصل علي (علیه السلام) إلى الحصن قبل الجيش! ..................................................................... 325

14- اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة..................................................................... 325

15- عَبَر الخندق وقصد مرحباً وفرسانه!......................................................................... 326

16- بعد قتله مرحباً هاجم الحصن وقلع بابه!................................................................... 327

ص: 720

17- الباب الذي تترس به (علیه السلام) غير الباب الذي قلعه............................................................ 330

18- وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) قلع باب حصن ناعم أيضاً!........................................................... 331

19- وتلقاه النبي (صلی الله علیه و آله) وبشره بنزول الوحي فيه!................................................................... 332

20- ثم فتح النبي (صلی الله علیه و آله) حصني السلالم والوطيح.................................................................... 333

21- أوسمة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) في خيبر............................................................................ 333

22- أّفٍ وُتّف لمن ينكر فضائل علي (علیه السلام)! ....................................................................... 335

23- قريش تفرح لساعات بخبر انتصار اليهود على النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................... 336

24- كنوز آل أبي الحقيق......................................................................................... 337

25- زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بصفية بنت حُی بن أخطب ................................................................ 338

26- ما أدري بأيها أنا أسَرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟........................................................... 338

27- أسلم أبو موسى الأشعري أيام فتح خيبر..................................................................... 339

28- أسلم أبوهريرة أيام فتح خيبر ................................................................................ 340

الفصل التاسع والخمسون/من غزوة خيبر إلى غزوة مؤتة 345

1- فدك خالصةً للنبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................................... 345

2- فدك رمزٌ لظلامة الإمامة...................................................................................... 345

3- غيروا إسم فدك وسموها «الحائط!» ......................................................................... 347

4- فتح النبي (صلی الله علیه و آله) وادي القرى.................................................................................... 349

5- رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) نام عن صلاة الصبح ...................................................................... 350

6- نظر إلى أحُد وقال: هذا جبل يحبنا ............................................................................ 351

7- قضى الله بزوال دولة فارس فقَتَلَ ابنُ كسرى أباه!............................................................. 351

8- هدايا المقوقس ملك مصر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 354

9- وفاة النجاشي وصلاة النبي (صلی الله علیه و آله) عليه......................................................................... 356

10- سرايا قبل سفر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عمرة القضاء ................................................................... 357

11- هل شققت عن قلبه يا أسامة؟ ............................................................................. 358

12- عيينة بن حصن يواصل الغارة على المسلمين................................................................ 359

النبي (صلی الله علیه و آله) يتوجه إلى عمرة القضاء................................................................................. 360

زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بميمونة بنت الحارث.............................................................................. 362

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص!........................................................................ 363

الفصل الستون/غزوة مؤتة وما بعدها إلى فتح مكة 364

1- موقع مؤتة والكرك والمزار ..................................................................................... 364

2- انحسر خطر الفُرس عن النبي (صلی الله علیه و آله) وتعاظم خطر الروم.......................................................... 365

3- غزوة مؤتة رسالة من النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل..................................................................... 367

ص: 721

4- جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) قائد جيش مؤتة ..................................................................... 368

5- وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لجيش مؤتة................................................................................. 369

6- واجهتهم سرية رومية في وادي القرى......................................................................... 370

7- ثم فاجأهم الروم فانحازوا إلى مؤتة ............................................................................ 371

8- سبب تحريف السلطة معركة مؤتة............................................................................ 371

9- القتال سبعة أيام في مؤتة كذبة من أجل خالد!.............................................................. 373

10- وصَف النبي (صلی الله علیه و آله) المعركة للمسلمين وصفاً حياً............................................................... 374

11- توبيخ المسلمين لخالد وجيش مؤتة ......................................................................... 376

12- رغم الهز يمة وصلت رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هرقل! .............................................................. 377

13 . من مناقب جعفربن أبي طالب (علیه السلام) ......................................................................... 379

14 . حول جناحي جعفر الطيار (علیه السلام) .............................................................................. 384

15 .حنين الجذع الذي كان يتكئ عليه النبي (صلی الله علیه و آله) ويخطب....................................................... 387

الفصل الحادي والستون/غزوة ذات السلاسل التي حذفوها من السيرة! 389

1- غزوة ذات السلاسل برواية أهل البيت (علیهم السلام) .................................................................. 389

2- ملاحظات على تحريفهم ذات السلاسل....................................................................... 394

الفصل الثاني والستون/غزوة فتح مكة 398

1- قريش تنقض معاهدة الحديبية.............................................................................. 398

2- خزاعة تطالب النبي (صلی الله علیه و آله) بنصرتها وفاءً بحلفهم ................................................................. 401

3- أحست قريش بجر يمتها فحاولت أن تسترضي النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................... 403

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يتجهز لغزو مكة ويخفي مقصده..................................................................... 404

5- الَوحْيُ يكشف خيانة بعض الصحابة........................................................................ 405

6- جاءت القبائل إلى المدينة وتحرك النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة........................................................... 408

7- فاجأ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً وعسكر قرب مكة...................................................................... 409

8- أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الأمان إلى أهل مكة مع أبي سفيان ............................................................ 413

9- نصب النبي (صلی الله علیه و آله) خيمته عند قبر خديجة (علیها السلام)!................................................................. 413

10- قريش تسترحم النبي (صلی الله علیه و آله) بشعر ضرار بن الخطاب ............................................................ 414

11- طاف النبي (صلی الله علیه و آله) بالبيت وحَطَّم الأصنام....................................................................... 416

12- جبرئيل يفضح زعماء قريش................................................................................. 417

13- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة و إعلانه العفو عن الطلقاء..................................................... 419

14- الذين هدر النبي (صلی الله علیه و آله) دمهم.................................................................................. 420

15- علي (علیه السلام) ينفذ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فتعترضه أخته أم هاني!.......................................................... 426

16- النبي (صلی الله علیه و آله) ينصب حاكماً لمكة ............................................................................... 428

ص: 722

17- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) سرايا إلى المناطق القريبة من مكة ........................................................... 428

18- بعث خالد بن الوليد في سرية فغدر بهم ..................................................................... 429

قتل خالد عاشقاً غريباً ولم يرحمه................................................................................. 431

19- قريش تعزل أبا سفيان وتنصب بدله سهيل بن عمرو ........................................................ 431

الفصل الثالث والستون/غزوة حنين والطائف 436

1- أسباب غزوة فتح مكة وغزوة حنين والطائف................................................................ 436

2- أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) قريشاً معه إلى حرب هوازن.................................................................... 437

3- دريد بن الصمة ينصح هوازن فلا يقبلون! ................................................................... 438

4- أدلة تآمر طلقاء قريش مع هوازن على النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................. 439

5- فرَّ الجميع وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم فقط!................................................................... 442

6- نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة!............................................................... 444

7- قاتلَ علي (علیه السلام) وحده ونزلت الملائكة! ........................................................................ 444

رجع المنهزمون فرأوا الأسرى حول النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 447

8- هز يمة هوازن وغنائم المسلمين منها........................................................................... 448

غنائم هوازن الوافرة .............................................................................................. 448

9- النبي (صلی الله علیه و آله) يحاصر قبيلة ثقيف في الطائف...................................................................... 449

10- النبي (صلی الله علیه و آله) يفك الحصار عن الطائف .......................................................................... 451

11- سياسة الإسلام العجيبة مع قريش وثقيف................................................................... 454

12- النبي (صلی الله علیه و آله) في الجعرانة يقسم الغنائم و رُحيم للعمرة.............................................................. 456

13- وفد هوازن والشيماء حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 458

14- مالك بن عوف مسلماً!..................................................................................... 459

15- الأنصار يسقطون في امتحان المال........................................................................... 460

16- ولادة الخوارج في الجعرانة..................................................................................... 462

17- اعتمر النبي (صلی الله علیه و آله) من الجعرانة، ثم رجع إلى المدينة............................................................. 463

الفصل الرابع والستون/استكمال فتح اليمن بعد حنين 464

1- ضعف الحكام الفرس في اليمن ............................................................................... 464

2- ضعف سلطة باذان وتفكك اليمن............................................................................ 465

3- فتح علي (علیه السلام) لليمن ......................................................................................... 466

4- أهدى علي (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أفراساً من اليمن................................................................. 472

5- وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) قاضياً إلى اليمن.................................................................... 472

6- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن ليصلح بينهم .................................................................. 473

7- ثم أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب...................................................... 473

ص: 723

8- الأسود العنسي يدعي النبوة في اليمن ........................................................................ 476

الفصل الخامس والستون/أزواج النبی (صلی الله علیه و آله) یشاركن ف یالصراع على الخلافة 478

1- نشاط زعماء قريش بعد هز يمتهم............................................................................ 478

2- كانت ولادة ابراهيم بن النبي (صلی الله علیه و آله) كارثة على قريش! ............................................................ 481

3- سورة التحريم كشفت الحزب القرشي في بيت النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................ 482

4- اتهامهم مارية وتبرئة الله لها................................................................................... 484

5- إبراهيم بن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..................................................................................... 488

6- ساءت علاقة النبي (صلی الله علیه و آله) بزوجاته فهجرهن!................................................................... 491

7- ملاحظات حول سورة التحريم وهجر النبي (صلی الله علیه و آله) لأزواجه........................................................ 491

الفصل السادس والستون/أحداث قبل غزوة تبوك 494

1- توبة كعب بن زهير ومدحه للنبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 494

2- انضمام البحرين وعُمَان إلى دولة النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................... 495

3- سرية علي (علیه السلام) لمنع تحويل طیئ إلى قاعدة للروم .............................................................. 496

الفصل السابع والستون/غزوة تبوك لمواجهة الروم 499

1- ملك دومة الجندل أكيدر بن عبد الملك ....................................................................... 499

2- غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) لدومة الجندل في السنة الخامسة............................................................... 500

3- الوضع السياسي للروم عند غزوة تبوك......................................................................... 501

4- النبي (صلی الله علیه و آله) يعمل لنقل المعركة إلى الشام وحصرها بالروم........................................................ 503

5- تبوك والثأر لجعفر بن أبي طالب (رحمة الله) ............................................................................ 504

6- هرقل يحرك المنافقين والأ كيدر لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 505

7- أكبر جيش في تاريخ الجزيرة .................................................................................. 506

8- أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين بمدة الغزوة ونتيجتها ................................................................. 507

9- عَسْكرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في ثنية الوداع ............................................................................... 512

10- استخلف علياً (علیه السلام) وودعه وناجاه ............................................................................ 513

11- أبوذر تأخر به بعيره........................................................................................... 516

12- في ذهابه (صلی الله علیه و آله) إلى تبوك أسَرَ الأ كيدر وأطلقه................................................................... 520

13- راسل النبي (صلی الله علیه و آله) هرقل من تبوك............................................................................... 521

14- انتقم هرقل من يوحنا فقتله ولم ينتقم من الأ كيدر!........................................................... 523

15- مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من تبوك! ................................................. 524

16- في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي (علیه السلام) في المدينة! ...................................................... 530

17- نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) عن الشرب قبله، فعصْوُه فلعنهم .......................................................... 533

18- نزول سورة التوبة في طريق العودة من تبوك.................................................................. 535

ص: 724

19- عودة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة .................................................................................. 537

20- المتخلفون الثلاثة الذين تاب الله عليهم .................................................................... 539

21- النبي (صلی الله علیه و آله) يرد على حُسَّاد علي (علیه السلام) في طريق تبوك ............................................................ 540

22- متفرقات من تبوك .......................................................................................... 542

23- تذكير ببعض مكذوبات الحكومات عن تبوك............................................................... 545

24- بعد تبوك مات ابن سلول كبير المنافقين المدنيين ............................................................ 545

25- وفد ثقيف بعد تبوك......................................................................................... 546

26- خضوع العرب للنبي (صلی الله علیه و آله) بعد فتح مكة وتبوك ............................................................... 548

27- بعث النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر بسورة براءة ثم سحبها منه............................................................. 550

الفصل الثامن والستون/السنة التاسعة للهجرة: عام الوفو د 554

1- وفادة قبائل العرب الی رسول الله (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 554

2- ملاحظات حول الوفود الی النبی (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 556

3- عدي بن حاتم الطائي........................................................................................ 557

4- وفد عبد القیس من هَجَر...................................................................................... 559

5- الجارود بن المنذر من عبد القیس.............................................................................. 560

6- أشهر وفود الیمن.............................................................................................. 564

7- السائب الأشعري جد الأشعر ینی القم ینی.................................................................... 566

8- الرجل الیماني المجادل السخي.............................................................................. 566

9- عمرو بن معدي كرب الفارس المشهور....................................................................... 566

10- وفد قبیلة النخع الی النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................................. 567

11- كان النبي (صلی الله علیه و آله) یهدد من یخاف عصیانهم بعلي (علیه السلام) .......................................................... 568

12- مالك بن نویرة (رحمة الله) من وفود بنی تمیم........................................................................... 569

13- صعصعة بن ناجیة جد الفرزدق............................................................................. 570

14- النابغة الجعدي الشاعر المتأله ............................................................................... 571

15- من الوفود المكذوبة وفد تمیم الداري.......................................................................... 572

16- من الوفود المكذوبة وفد أبي رزین............................................................................ 574

الفصل التاسع والستون/مباهلة النبی (صلی الله علیه و آله) مع نصاری نجران 575

1- نجران العاصمة الدینیة للمسیحیة فی الجزیرة.................................................................. 575

2- رسالة النبی (صلی الله علیه و آله) الی أسقف نجران وأهلها ...................................................................... 576

3- أمهل النبي (صلی الله علیه و آله) وفدهم ثلاثاً ثم ناظرهم....................................................................... 577

4- كتاب الصلح مع أهل نجران ................................................................................... 582

5- سمع الیهود بمجیئ وفد النصاری فحضروا معهم................................................................ 582

ص: 725

6- مستحبات یوم المباهلة....................................................................................... 584

7- مسائل في المباهلة ............................................................................................ 585

الفصل السبعون/حجة الوداع 591

1- أجواء حجة الوداع ............................................................................................ 591

2- صفة حج النبی (صلی الله علیه و آله) عند أهل البیت (علیهم السلام) ..................................................................... 593

3- خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع.............................................................................. 597

1- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في عرفات...................................................................................... 597

2- من خطب النبي (صلی الله علیه و آله) في منی: .................................................................................. 599

3- ومن مصادر السنیین........................................................................................... 602

4- بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع بالأئمة الإثني عشر بعده ....................................................... 604

5- تحذیر النبي (صلی الله علیه و آله) لقریش والصحابة أن یطغوا بعده............................................................. 607

6- عقوبة المخالفین لوصیة النبي (صلی الله علیه و آله) في عترته (علیهم السلام) ............................................................. 610

7- قریش تكتب معاهدة لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) من بني هاشم ................................................... 611

8 - نتیجة حجة الوداع عند قریش وعند النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 614

الفصل الحادي والسبعون/بیعة علي 7 یوم الغدیر 616

1- حدیث الغدیر في بیعة علي (علیه السلام) صحیح متواتر عندهم ......................................................... 616

2- جبرئیل ینزل بآیة التبلیغ ویوقف قافلة النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................. 618

3- خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) یوم الغدیر................................................................................... 620

4- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بنصب خیمة لعلي (علیه السلام) وتهنئته ومبایعته......................................................... 624

5- حجر من سجیل للمعترضین من قریش!..................................................................... 626

6- نزلت ثلاث آیات في بیعة الغدیر............................................................................. 627

7- محاولة قریش اغتیال النبي (صلی الله علیه و آله) بعد یوم الغدیر! ............................................................. 628

الفصل الثاني والسبعون/جیش أسامة وهدف النبی (صلی الله علیه و آله) منه 630

1- عاش النبي (صلی الله علیه و آله) سبعین یوماً بعد حجة الوداع ................................................................. 630

2- عَرَضَ الأنصار علی النبي (صلی الله علیه و آله) ثلث أموالهم .................................................................... 630

3- النبي (صلی الله علیه و آله) یجهر بالحقیقة ویتحدی قریشاً!.................................................................... 633

4- جیش أسامة لإفراغ المدینة من خصوم علي (علیه السلام) ............................................................. 635

5- أمیر المؤمنین (علیه السلام) یصف عملهم لإفشال جیش أسامة........................................................ 636

6- حذیفة یصف تسلل أبي بكر وعمر لیلا الی المدینة............................................................. 640

7- أبو بكر وعمر یظهران الندم علی تركهما جیش أسامة!........................................................ 643

8- الروایة الرسمیة لجیش أسامة.................................................................................. 644

9- رد قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) نصب أبا بكر للصلاة.................................................................... 645

ص: 726

الفصل الثالث والسبعون/مرض النبی (صلی الله علیه و آله) وشهادته 648

1 - النبي (صلی الله علیه و آله) یزور البقیع ویحذر صحابته! ...................................................................... 648

2- مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................................... 649

3- مات النبي (صلی الله علیه و آله) شهیدًا بالسُّمّ!................................................................................ 650

4- جاء الأنصار یبكون، فخطب فیهم النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................. 652

5- الأمة تواجه رسولها بالإنقلاب علیه! ......................................................................... 653

6- وصایا النبي (صلی الله علیه و آله) العامة والخاصة.............................................................................. 660

7- تأكیداته الأخیرة علی علي والعترة (علیهم السلام) ....................................................................... 661

8- الوصیة التي نزلت من الله تعالی الی الأئمة (علیهم السلام) .............................................................. 664

9- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لنسائه وعائشة خاصة....................................................................... 671

10- النبي (صلی الله علیه و آله) یخرج عمه العباس من وصیته ..................................................................... 671

11- قوله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): أنت أول أهل بیتي لحوقاً بي........................................................... 673

12- وصیة النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) بتجهیزه .......................................................................... 678

13- صفة احتضاره ووفاته (صلی الله علیه و آله) .................................................................................. 680

14- صفة تغسیله وتحنیطه وتكفینه (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 682

15- صفة الصلاة علیه ودفنه (صلی الله علیه و آله) .............................................................................. 684

16- من خصائص النبي (صلی الله علیه و آله) عند موته!......................................................................... 686

17- لم یحضر أهل السقیفة مراسم جنازة النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................... 688

18- دفن النبي (صلی الله علیه و آله) في بیته ولیس في حجرة عائشة ............................................................... 690

19- حُزن أهل البیت علی النبي (صلی الله علیه و آله) وتعزیة جبرئیل والخضر لهم.................................................... 691

20- جاؤوا بخبر السقیفة بعد دفن النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 694

21- ذهول الصحابي البراء بن عازب (رحمة الله) من بیعة الخلسة! ....................................................... 696

22- خطبة سلمان في الیوم الثالث لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................. 698

23- خطبة أمیر المؤمنین (علیه السلام) في الیوم السابع لوفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................... 699

24- احتجاج اثني عشر من شخصیات المهاجرین والأنصار ...................................................... 704

25- خطبة أخری لأبي بن كعب (رحمة الله) في إدانة السقیفة.............................................................. 709

ص: 727

ص: 728

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.