السیرة النبویه عند اهل البیت علیهم السلام المجلد 1

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الکوراني العاملي، علی، 1944 - م. Kurani,Ali

عنوان واسم المؤلف: السیرة النبویة عند اهل البیت علیهم السلام/ علی الکورانی العاملی.

تفاصيل المنشور: قم: دار النشر المعروف، 1438 ق.= 2017 م.= 1396.

مواصفات المظهر: 3 ج. /

لسان: العربية.

ISBN: 9786006612881

ملحوظة: الطبعة الثانية. / ملحوظة: ج. 2 (الطبعة الثانية: 1438 ق. = 2017 م.).

ملحوظة: نُشر هذا الكتاب لأول مرة عام 2008 تحت عنوان «جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع)» عن طريق المنشورات باقیات تم نشره.

عنوان آخر: جواهرالتاریخ: السیرةالنبویة عند اهل البیت (ع).

مشكلة: محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل الهجرة- 11 ق. / مشكلة: 632 .Muhammad, Prophet, d

مشكلة: التقليد النبوي/ مشكلة: * Wonts of the Prophet

مشكلة: دين الاسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11 ق/ مشكلة: 632 Islam -- History -- To

تصنيف ديوي: 93 / 297

ترتيب الكونجرس: 1396 9ج 9ک / 46 / BP24

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 4793168

حالة الاستماع: فیپا

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام (1)

المؤلف: علي الکَوراني

الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.

الطبعة: الأولی.

تاریخ النشر: ذيقعدة 1438 ه.ق - July 2017

المطبعة: باقری - قم المقدّسة.

عدد المطبوع: 3000 نسخة.

شابک: 1- 88 - 6612 - 600 - 978

دار المعروف

للطباعة و النشر

مرکز النشر والتوزیع:

إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب: 158 - 37156 تلفون: 32926175 25 (0)0098

جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف

www.maroof.org

Email: nashremaroof@gmail.com

ص: 1

اشارة

ص: 2

السيرة النبوية عند أهل البيت علیهم السلام

علی الکورانی العاملی

المجلد الأول

الطبعة الثانية- منقحة ومزيدة

2017-1438

دارالمعروف

ص: 3

ص: 4

مقدمة الطبعة الثانية

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد فقد وفقني الله تعالى لكتابة السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام)، وكتبت عن علي والزهرا ء صلوات الله عليهما، وعن الإمام الحسن السبط (علیه السلام)، وكذلك عن الأئمة زين العابدين، والكاظم، والجواد، والهادي، والعسكري، وعدة مجلدات عن الإمام المهدي صلوات الله عليهم.

وقد طالبني بعض العلماء الأجلاء بأن أكمل هذه الدورة في سيرة النبي وأهل البیت الأطهار (علیهم السلام)، فاستخرت الله تعالى وبدأت بتلبية طلبهم.

أسأله تعالى أن يهب لي التوفيق لإكمال هذا العمل المبارك، وأن يجعله ذخراً ليوم وقوفي بين يديه عزوجل، يوم يفوز به الفائزون بولاية النبي وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله) .

كتبه بقم المشرفة: علي الكوراني العاملي

في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1436

ص: 5

ص: 6

تمهيد

أهمية السيرة النبوية

للسيرة النبوية أهمية خاصة عند المسلم، فهي إيمانٌ وعلمٌ، وفقهٌ للرسول والرسالة، وتعريفٌ له بنبيه الذي ينتمي اليه، ويتقرب إلى ربه بالإقتداء به (صلی الله علیه و آله) .

وأشهر كتاب وصل الينا في السيرة ما عُرف بسيرة محمد بن إسحاق بن يسار «توفي 151»ثم اختصره وغيَّرَ فيه عبدالملك بن هشام «توفي218» فعُرف بسيرة ابن هشام، وذكر في أوله أنه تارك من سيرة ابن إسحاق: «أشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يُشَنَّعُ الحديث به، وبعضٌ يسوءُ بعض الناس ذكره»!

ومعناه أنه أراد كسب رضا العباسيين الذين ألف لهم كتابه، والذين يزعمون أن جدهم العباس وارث النبي (صلی الله علیه و آله)، ويزعم المنصور أنه رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في منامه: «وعقد له لواءً أسود وعممه بعمامة من ثلاثة وعشرين دوراً، وأوصاه بأمته، وقال له: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة»!

فأصدر المنصور أمره للمسلمين بتدوين رؤياه وقال: «ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب، وتعلقوها في أعناق الصبيان»! تاريخ بغداد: 1/85، تاريخ دمشق: 32/301، رواه ابن كثير

في النهاية: 10/129 وحكم بصحة المنام!

على أن سيرة ابن إسحاق أيضاً فيها مشكلات، فقد غَيَّر فيها في مراحل حياته،

ص: 7

حيث كان أول أمره يتشيع للحسنيين، ثم صار مع خصومهم العباسيين. وعاش في المدينة، ثم نفي منها إلى البصرة، وفارس، ثم عاش في بغداد. ولهذا صار لكتابه روايات متعددة، وقد اعتمد ابن هشام على رواية زياد البكائي دون غيرها، بينما قال في مقدمة القطعة التي عثروا عليها في المغرب: «ولسيرة ابن إسحق رواة غير البكائي، وابن بكير، وبكر بن سليمان، وسلمة بن الفضل، أوصلها مطاع الطرابيشي في كتابه: رواة المغازي والسير إلى واحد وستين راوياً».«ابن إسحاق: موقع الوراق».

ويظهر أن نسخ هؤلاء الرواة فيها «تعديلات» ابن إسحاق على كتابه، وأنه حذف منه كثيراً من مناقب أهل البیت (علیهم السلام)، وما يمس بني أمية وبني عباس!

ومن أمثلة ذلك حذف إسم العباس من أسرى بدر، مع أنه متواتر، وحذف ابن هشام لحديث الدار الذي نص على وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام)، عند نزول قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.

لذلك، فإن القيمة العلمية لسيرة ابن هشام وابن إسحاق منخفضة، وعلى الباحث فحص روايتها، ومقارنتها بالروايات الأخرى.

كانت الخلافة تحرق مصادر السيرة!

اتفقت المصادر على أن أول من صنف في السيرة: عبيدالله بن أبي رافع مولى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو قبطي: «هو أول من صنف في المغازي والسير». الذريعة: 17/153.

قال في الشيعة وفنون الإسلام/84: «الفصل الثامن في تقدم الشيعة في علم السير، فأول من وضعه عبيدالله بن أبي رافع مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، صنف في ذلك على عهد أميرالمؤمنين (علیه السلام)». وكان أبوه أبو رافع (رحمة الله) مرجعاً: «كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ما صنع النبي (صلی الله علیه و آله) يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها».تقييد العلم لابن عبدالبر/92 والإصابة لابن حجر: 4/125.

فأين هذا الكنز الثمين: كتاب ابن أبي رافع (رحمة الله)؟ لقد أحرقته الحكومات، ولا تعجب فقد كان الإحراق من صلب سياساتهم!

ص: 8

قال الزبير بن بكار في الموفقيات/222، وهو من علماء السلطة: «قدم سليمان بن عبدالملك إلى مكة حاجاً سنة 82 ﻫ،فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (صلی الله علیه و آله) ومغازيه فقال له أبان: هي عندي قد أخذتها مصححةً ممن أثق به. فأمر سليمان عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل! فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا! فقال أبان: أيها الأمير لايمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا! فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأميرالمؤمنين لعله يخالفه، ثم أمر بالكتاب فحُرِق! ورجع فأخبر أباه عبدالملك بن مروان بذلك الكتاب، فقال عبدالملك: وما حاجتك أن تَقْدِمْ بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها! قال سليمان: فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته»!

فالميزان عند الخليفة: أن يكون في الكتاب مدحٌ لبني أمية، أما إذا كان فيه مدحٌ لآخرين فيقول لابنه: «وما حاجتك أن تَقْدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل»!

وترى في هذا النص أن الخلافة تتبنى سياسة التعتيم والتجهيل، فقد قال لابنه: تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها! وقد طبقها الإبن وحرق ما كتبوه له!

كنوزٌ من السيرة وعلوم الإسلام أحرقتها السلطة!

حرصت الحكومات القرشية على إحراق كتب شيعة أهل البیت (علیهم السلام) وإبادتها، ومع ذلك سلمت من نارهم ثروة كبيرة، تغطي كثيراً من فصول السيرة النبوية وليس كلها، ونراها أحياناً تستفيض بأوسع من السيرة الحكومية.

ويكفيك مثالاً على سياستهم في إبادة العلم: كُتب جابر بن يزيد الجعفي، وكُتب أحمد بن عقدة، وكُتب سليمان الأعمش، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم! فقد أحرقوا كتبهم أو فقدت من تلاميذهم في سنوات تشريدهم وتقتيلهم! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث، أي مئتي مجلداً!

ص: 9

قال مسلم في مقدمة صحيحه /15: «الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» عن النبي (صلی الله علیه و آله) كلها»!

وقد أحضر المنصور سليمان الأعمش ليلاً ليمنعه من رواية مناقب علي (علیه السلام) وقال له: «فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله كم رويت من حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء؟ قلت: شئ يسير يا أميرالمؤمنين! قال: كم؟ قلت: مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد! قال: يا سليمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء؟ فإن حلفت لا ترويه لأحد من الشيعة حدثتك به»! فضائل علي (علیه السلام) لابن المغازلي/226.

وقال الشهيد نور الله التستري في الصوارم المهرقة/214: «إن أهل بغداد أجمعوا على أنه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة، من يكون أبلغ منه في حفظ الحديث. وأيضاً قال الدارقطني: سمعت منه أنه قال: قد ضبطت ثلاث مائة ألف حديث من أحاديث أهل البیت وبني هاشم:،وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها! ونقل الذهبي عن عبدالغني بن سعيد أنه قال: سمعت عن الدارقطني قال: إن ابن عقدة يعلم ما عند الناس، ولا يعلم الناس ما عنده!

وقال الثلاثة: إن ابن عقدة كان يقعد في جامع براثا من الكوفة، ويذكر مثالب الشيخين عند الناس، فلهذا تركوا بعض أحاديثه، وإلا فلا كلام في صدقه».

وقد اشتبه الراوي فمسجد براثا في بغداد، ومسكن ابن عقدة الكوفة.

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: 3/840: «قال الحاكم ابن البيِّع: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ما رأيت أحفظ لحديث الكوفيين من أبي العباس بن عقدة.

وعن ابن عقدة قال: أنا أجيب في ثلاث مائة ألف حديث من حديث أهل البیت وبني هاشم. حدث بهذا عنه الدارقطني. وعن ابن عقدة قال: أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها.. وقال أبو سعد الماليني: أراد ابن عقدة أن ينتقل، فكانت كتبه ست مائة حملة». وذكر نحوه في وسائل الشيعة: 20/131 وذكر قول الشيخ الطوسي فيه: «أمره في الثقة والجلالة والحفظ أشهر من أن يذكر».

ص: 10

وفي مجلة تراثنا: 21/180: «أفرد الذهبي رسالة عن حياته، مذكورة في مؤلفاته في مقدمة سير أعلام النبلاء باسم: ترجمة ابن عقدة. ترجم له أعلام العامة بكل تجلة وتبجيل ووثقوه، وأثنوا على علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه، وأرخوا ولادته ليلة النصف من المحرم سنة 249، ووفاته في7 ذي القعدة سنة (علیها السلام) 32. ومن المؤسف أن هذا الرجل العظيم لم يبق من مؤلفاته الكثيرة الكبيرة سوى وريقات توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق، ضمن المجموعة رقم4581، باسم: جزء من حديث ابن عقدة من الورقة: 9-15»!

أما اليوم فلا تجد حتى الترجمة التي كتبها الذهبي لابن عقدة!

ويتضح حجم جريمة الحكومات في تضييع علم العترة:لوعرفت أن كل ألفي حديث تبلغ مجلداً تقريباً، وأن صحيح بخاري ومسلم وبقية الكتب الستة مع حذف المكرر تبلغ: 9780 حديثاً، وكل ما في الصحيحين: 2980 حديثاً.

http: //www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=2586 9

فتكون أحاديث جابر بن يزيد الجعفي خمساً وثلاثين مجلداً، أو سبعة أضعاف البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة. والعشرة آلاف حديث التي يرويها سليمان الأعمش في فضائل أميرالمؤمنين (علیه السلام) وحدها أكثر من مجموع الكتب الستة!

أما أحاديث أحمد بن عقدة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتبلغ خمسين مجلداً، وأحاديثه عن أهل البیت (علیهم السلام) وبني هاشم، مئة وخمسين مجلداً!

ولم تكتفِ السلطة بمصادرة الكتب وإحراقها، حتى أفتى علماؤها بأن كل من روى شيئاً فيه نقد ولو بسيط لأبي بكر وعمر، فحكمه أن يدفن حياً!

قال الذهبي في ميزان الإعتدال: 2/75، عن العلل لأحمد بن حنبل: 3/8: «قال عبدالله بن أحمد: سألت ابن معين عنه» «زكريا بن يحيى الكسائي» «فقال: رجل سوء يحدث بأحاديث سوء. قلت: فقد قال لي: إنك كتبت عنه؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا كتب عنه. وقال: يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها»!

وقال عنه ابن تيمية في منهاج السنة: 7 - 232: «لا يحتج به باتفاق أهل العلم، فإن

ص: 11

زكريا بن يحيى الكسائي قال فيه يحيى: رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها.قال ابن عدي: كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة».

فهل يجوز أن تخسر أجيال الأمة ثروة عظيمة بسبب روايات تنتقد بعض الصحابة؟ أمَا كان الواجب على علماء الأمة أن يرووها ويردوا عليها؟! لكنهم صاروا أعداء العلم، لأنهم أطاعوا سياسة التعتيم والتجهيل الأموي التي قال عنها الخليفة لابنه: «تُعَرِّف

أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها»!

فحضرة الخليفة الذي يحدد ما يسمح بمعرفته للناس، ويحرق كل ما لم يعجبه!

القرآن مصدر للسيرة لكنهم ضيعوا أسباب نزوله!

كان جبرئيل (علیه السلام) ينزل بآيات القرآن فيبلغها النبي (صلی الله علیه و آله) للصحابه، لكنهم لم يحفظوا أسباب نزولها وأوقاتها! بل نرى أن الصحابة صلوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) على مئات الجنائز، ثم اختلفوا هل كان يُكَبِّر على الجنازة أربع تكبيرات، أو خمساً!

إن هذه الحالة من عدم الضبط في الأمة، تستوجب وجود إمام بعد النبي (صلی الله علیه و آله) عنده علم الكتاب ليبينه للأجيال بعلمٍ ويقين، لابظنون واحتمالات كما فعل الصحابة! ولذا أمر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) فأعدَّ علياً (علیه السلام) وصياً وخليفة وإماماً، وعلمه علم الكتاب، فجمعه بأمر النبي (صلی الله علیه و آله) في حياته، وأكمل جمعه عند وفاته.

لكن قريشاً أبعدت علياً والعترة:عن السلطة، ولم تقبل منهم حتى نسخة القرآن التي جاءهم بها علي (علیه السلام)، خوفاً من أن تكون في غير مصلحتها: «فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهذا الكتاب وأنا العترة! فقام إليه الثاني فقال له: إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما! فحمل الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة»! المناقب: 1/320.

فقد كان (علیه السلام) مأموراً من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعرضه عليهم، فإن لم يقبلوه احتفظ به عندالأئمة من ذريته:حتى يظهره المهدي (علیه السلام)، وتركهم يجمعونه كما يريدون، حتى لايكون للأمة

ص: 12

قرآنان.راجع: تدوين القرآن/182، ألف سؤال وإشكال: 1/243.

ولهذا السبب تخبطت الأمة في علوم القرآن وأسباب نزول آياته، فانظر من باب المثال إلى تهافت كلامهم في آخر آية نزلت، مع أنهم كانوا يومها ألوفاً:

1. روى أحمد: 1/36 في مسنده عن ابن المسيب أن عمر سئل عن آية الربا فلم يعرفها فقال إنها آخر آية! «وإن رسول الله قبض ولم يفسرها»!

2. وفي البخاري: 5/115: «وآخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ».

3. وفي البخاري: 5/182: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، آخر ما نزل».!

4. وفي مستدرك الحاكم: 2/338 وصححه على شرط الشيخين: «آخر ما نزل من القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ». يقصد الآيتين: 128 و129من سورة التوبة.

5. وفي صحيح مسلم: 8/243: «تَعْلمُ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟ قلت نعم، إذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفَتْح. قال: صدقت».

6. وفي الطبراني الكبير: 12/19: «آخر آية أنزلت: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ». يقصد الآية: 281 من سورة البقرة!

7. وكأن السيوطي استحى من تهافت أحاديثهم الصحيحة في آخر ما نزل فأجملها في الإتقان: 1/101، ولم يعددها كما عدد الأقوال في أول ما نزل!

وهذا التناقض يوجب سقوط رواياتهم، فلا يبقى للباحث في أسباب النزول إلا ما قاله أهل البیت (علیهم السلام) أو المجمع عليه وهو قليل، كآية: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، المجمع على نزولها بعد ثلاث سنين من البعثة، وأن الدعوة قبلها كانت لبني هاشم خاصة حتى كفاه الله المستهزئين. وهي مقطع مهم في السيرة، لأنها تعين سنة هلاك عدد من الفراعنة، وتنفي وجود دعوة عامة قبل ذلك التاريخ.

شعر أبي طالب (علیه السلام) مصدر للسيرة

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان أميرالمؤمنين (علیه السلام) يعجبه أن يُرْوَى شعرأبي طالب وأن يُدَوَّن وقال: تَعَلَّمُوهُ وعلموه أولادكم فإنه كان على دين الله.وفيه علمٌ كثير». وسائل

ص: 13

الشيعة: 17/331، إيمان أبي طالب للمفيد/10 ومكاتيب الرسول للأحمدي: 1/378.

وقد وصلنا منه نحو ألف بيت، وهي تكشف حقائق مهمة من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) من قبل البعثة، في كفالة عمه، وآياته التي شاهدها الراهب بحيرا، ومحاولة اليهود قتله، ثم بِعثته وتكذيب قومه له، إلى قرب هجرته (صلی الله علیه و آله)!

قال الصالحي الشامي في سبل الهدى: 2/142: «وقال أبوطالب في هذه السفرة قصائد، منها ما ذكره ابن إسحاق، وأبو هفان في ديوان شعر أبي طالب..الخ.».

وأبو هفان أقدم من جمع شعر أبي طالب (رحمة الله) وشَرَحَه، وهو عبدالله بن أحمد بن حرب بن مهزَّم البصري النحوي، صاحب كتاب أشعار عبدالقيس.«الذريعة: 14 /195 وإيضاح المكنون: 2/49». وذكره النجاشي كتبه في رجاله/218، وقال: «مشهور في أصحابنا وله شعر في المذهب. وبنو مهزم بيت كبير بالبصرة في عبدالقيس».

وقد اشتهر من شعر أبي طالب لاميته الرائعة، التي أرخ فيها لهيجان طغاة قريش ضد النبي (صلی الله علیه و آله) في مطلع نبوته، وقد مدحها العلماء حتى النواصب، لكنهم لم يستشهدوا بها في تدوينهم السيرة النبوية، لأنها تفضح زعماء قريش!

وأوردها ابن كثير في النهاية: 3/70 برواية ابن هشام، ورد تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، وقال عنها: «قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر».ويقصد بالأموي المؤرخ الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي مولى الأمويين توفي سنة 195، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي. الديباج: 1/34.

لكن أتباع السلطة أعرضوا عنها متعمدين لأنهم يبغضون علياً (علیه السلام)، وقد يصل بغضهم بسببه إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، ولاعذر لهم في ترك شعر أبي طالب حتى لو اعتبروه كافراً (رحمة الله)، لأن شعره وثائق من شاهدٍ على أحداث السيرة.

ص: 14

أهل البیت (علیهم السلام) أدرى بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق

يشهد الجميع بأن الأئمة من أهل البیت (علیهم السلام): علياً والحسنين وزين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي: أعرف بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق من غيرهم، ومع ذلك يُعرضون عنهم متعمدين ويأخذون السيرة من رواة مغرضين ويجعلون قولهم ديناً يدينون به! وكمثال على ذلك ما نسبوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه اقتص من أشخاص قتلوا رعاة إبل الصدقة، ففقأ عيونهم بمساميرمحماة، ثم أحرقهم بالنار أو تركهم ينزفون!

فقد رواه بخاري عن أنس: 1/64 قال: «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة «مرضوا من هوائها» فأمر لهم النبي بلقاح «نوق حلوبة» وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي (صلی الله علیه و آله) واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِّرَتْ أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون»!

وفي: 4/22: «أمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها، وطرحهم بالحرة حتى ماتوا»!

وقد رووا استنكار أهل البیت (علیهم السلام) لهذه التهمة للنبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم لم يقبلوا منهم!

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه سمَّرَ يد رجل إلى الحائط! ومن ثَم استحل الأمراء العذاب»!

علل الشرائع: 2/541، راجع ألف سؤال وإشكال: 2/440.

وقد أفتى الشافعي بجواز التعذيب. «الأم: 4/259» قال: «وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح..قال: والله ما سمل رسول الله عيناً، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم».

وهكذا جعلت السلطة أنس الصحابي كذاباً على النبي (صلی الله علیه و آله) لإثبات مشروعية تعذيب مخالفيها، وانتزاع الإعتراف منهم لقتلهم! ولو قبلوا من أهل البیت (علیهم السلام) تبرئة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكذبوا رواة السلطة لكانوا علماء بحق!

ص: 15

هدف الكتاب وفروقه عن السيرة الرسمية

1. اهتم علماؤنا بالسيرة وألفوا فيها كتباً وفصولاً. وكتب أخيراً العالم الصديق السيد جعفر مرتضى العاملي موسوعته: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، في أكثر من ثلاثين مجلداً، حاكم فيها بتفصيل مسائل السيرة الرسمية عند حكومات الخلافة القرشية. لكن بقيت الحاجة إلى سيرة تركز على أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) وكلمات علماء مذهبهم. لذا قمت بتدوين أحداث السيرة متتبعاً أولاً رواية أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ثم كلام علماء مذهبهم، أو ما ارتضوه من رواية غيرهم.

وكان لابد أحياناً من محاكمة الرواية المشهورة بما يناسب الكتاب، لتكتمل الصورة الناصعة لسيرة النبي (صلی الله علیه و آله) منزهةً عن أهواء الحكام، وتخليط رواتهم.

أما فروقها عن السيرة الحكومية الرسمية فتعرفه بمقارنة فهرسها بفهارس السِّيَر الرسمية، لتجد أولاً التسلسل المنطقي والعمق العلمي و الحداثة في كل فصل، وتجد العنونة حيث لم يعنونوا، وفروقاً في أسباب الأحداث، وإظهاراً لحقائق كثيرة، وكشفاً لتحريف الرواية الحكومية.

2. نعتقد بعصمة نبينا (صلی الله علیه و آله) عصمة شاملة قبل البعثة وبعدها، في تبليغ الرسالة، وفي أموره الشخصية، بدليل: قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. وقول علي (علیه السلام): ولقد قرنالله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم. فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) من طفولته نبياً، أما في الأربعين فبعث رسولاً.

أما قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى «الضحیٰ: 6، 7، 8»: فمعناه أن من نعم الله عليك أنه هيأ لك جدك عبدالمطلب وعمك أباطالب (صلی الله علیه و آله) فكفلاك في يتمك ونشأتك. ومن نعمه عليك أنه هداك من صغرك، لكنك كنت متحيراً ضالاً فيما يجب عليك عمله، فهداك بالرسالة إلى دعوة الناس إلى دينه. ووجدك عائلاً عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم، فأغناك بخديجة فوهبتك ثروتها، كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم (علیه السلام) .

ص: 16

وأفرط بعض أتباع السلطة ففسروا: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، بأنه (صلی الله علیه و آله) كان كافراً والعياذ بالله! ورده الرازي في تفسيره: 31/216، وفسره بأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان ضالاً عن النبوة، لأنه لم يكفر بالله تعالى طرفة عين. ومذهبنا أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً من صغره، وكان يرافقة ملك من لدن أن كان فطيماً، فلا بد أن يكون معنى الضلال الحيرة فيما يجب أن يفعله لهداية الناس، وليس الحيرة في ربه عزوجل.

قال الشريف المرتضى (رحمة الله) في تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) /150: «في معنى هذه الآية أجوبة: أولها: أنه أراد وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها، أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق. لأن الضلال هو الذهاب والإنصراف فلا بد من أمر يكون منصرفاً عنه». وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن معنى آوى: آوى اليك المؤمنين، ومعنى فهدى: هداهم اليك».تنزيه الأنبياء/151. عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/177، كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي/92، أخذ أكثره من تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى (رحمة الله)!

3. نعتقد بإيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى إسماعيل وإبراهيم وآدم:، وأن أجداده وعمه أباطالب كانوا على ملة إبراهيم (علیه السلام) الحنيفية، ولم يكونوا مكلفين باليهودية ولا بالمسيحية.

4. كان اليهود ينتظرون بعثة النبي الخاتم من الجزيرة، وجاءت لذلك مجموعات منهم بعد عيسى (علیه السلام)، وسكنت في وادي القرى، وخيبر، والمدينة، ومكة، وغيرها.

5. في السابعة والثلاثين من عمره (صلی الله علیه و آله) كان يأتيه جبرئيل (علیه السلام) ويعلمه، وفي الأربعين بدأ نزول الوحي عليه، وكان في أفق مبين واضح كما نص القرآن، ولم يكن في جو عُنفٍ وشكٍّ كما يرويه البخاري، بل نعتبر ذلك من طعن قريش في نبينا (صلی الله علیه و آله) أو من جهالة الراوي.

6. انتشر خبر بعثته (صلی الله علیه و آله) فاستشاط زعماء قريش غضباً، واتخذوا قراراً بقتله قبل أن يسمعوا حجته! لأنه نقض اتفاقية توزيع مناصب الشرف بين قبائل قريش ودعا إلى

ص: 17

زعامة بني هاشم! ثم أمره الله تعالى أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وزيراً ووصياً، فقام بذلك، فزاد ذلك من غضب قريش واعتبروه نبأ عظيماً،لأنه جعل وصيه من عشيرته بني هاشم!

فالمرحلة الأولى من الدعوة، كانت خاصة ببني هاشم وتوحيدهم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) ومدتها ثلاث سنوات، لم يَدْعُ فيها النبي (صلی الله علیه و آله) غيرهم، حتى أهلك الله الفراعنة المستهزئين الخمسة وأوحى اليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ، فبدأ بالدعوة العامة.

وقد حرَّف رواة السلطة سِرِّيَّة الدعوة، لأن سريتها انحصرت بمن كتموا إسلامهم خوفاً من قريش كعمار، أو كتموه حرصاً على نجاح الدعوة كأبي طالب وحمزة.

أما النبوة وآيات القرآن وسوره فكانت علنية.

7. ضخَّم رواة السلطة دار الأرقم وجعلوها مرحلة في دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لإثبات مناقب لبعض القرشيين، وادعوا أن المسلمين خرجوا من دار الأرقم إلى المرحلة العلنية، ولا وجود لمرحلة دار الأرقم أصلاً، ولا لإسلام عمر وأبي بكر في الفترة الأولى.

8. كانت الهجرة إلى الحبشة مرة واحدة، ولم يرجع المسلمون خطأ كما زعموا لما مدح النبي (صلی الله علیه و آله) أصنام قريش، ووصفها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتها ترجى.

9. بيَّنا الرواية الصحيحة لمحاصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب، ومدتها، ورددنا ما ادعوه لبعض زعماء قريش أنهم عملوا لنقض صحيفة المحاصرة!

10. بينا أن الصحيح أن وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام) كانت قبل هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) بسنة وأشهر، وليس بثلاث سنوات، كما قيل.

11. عرض النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه على نحو ثلاثين قبيلة ليحموه من قريش فيبلغ رسالة ربه، وقبلت بعضه القبائل حمايته بشرط أن تكون لها الخلافة بعده فرفض، وأخذ البيعة من الأنصار على أن يحموه وأهل بيته كما يحمون أنفسهم وذراريهم ولاينازعوهم الأمر.

ص: 18

12. زاد الخطر على حياة النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة عمه أبي طالب (رحمة الله) حتى اختبأ لفترة في الحجون، وتصاعد عملهم لقتله حتى طوقوا بيته فخرج مهاجراً بدون أن يشعروا، وأنام علياً (علیه السلام) مكانه. وفي طريقه (صلی الله علیه و آله) وجد أبابكر وغلامه فأخذهما معه، وجاء علي في اليوم التالي إلى الغار وجهزهم فهاجروا، ومعهم دليلهم عبدالله بن أريقط الجهني.

13. أدى علي (علیه السلام) أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة، ونجا من محاولة اغتيال، وكانت هجرته ببقية أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) الهجرة العلنية الوحيدة، وبعثت له قريش مجموعة فرسان ليردوه، فقتل قائدهم وانهزم الباقون. وكان النبي (صلی الله علیه و آله) في انتظاره في قباء، ولما وصل اليه أخبره أن الله أنزل فيه وفي الفواطم آيات تمدحهم.

14. طلب أبوبكر من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدخل المدينة ولاينتظر علياً (علیه السلام) في قباء، فأصر على انتظاره، فغضب أبوبكر وتركه في قباء وذهب إلى السنح، ولم يحضر هو ولا عمر في قُباء ولا في دخول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.

15. أرسى النبي (صلی الله علیه و آله) أسس دولته في المدينة، وعقد معاهدات مع اليهود، وآخى بين المسلمين واختار علياً (علیه السلام) فآخاه.

16. كان انتصار المسلمين في بدر كاسحاً، وقامت المعركة على أكتاف بني هاشم، وكان بطلها الأكبر علي (علیه السلام)،حيث قتل أكثر نصف السبعين فارساً، وقتل المسلمون أقل من نصفهم. ونزلت آية تأكيد الخمس لبني هاشم، وكان تشريع الخمس قبل بدر.

17. نزلت سورة الأنفال بعد بدر وفيها ذم مرضى القلوب، وتوبيخ بعضهم لفرارهم من الصف الأول، واختلافهم على الغنائم، واتهامهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخفى عباءة!

ولم يستفد الصحابة من توبيخهم في بدر فانهزموا في أحُد وتركوا النبي (صلی الله علیه و آله) لسيوف المشركين، وطعنوا في قيادته وإدارته وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! وثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) أبو دجانة ونسيبة فجرحا، وثبت عليٌّ (علیه السلام) وقاتل وحده حتى

دفع الله المشركين وهزمهم!

ص: 19

18. وفي غزوة الأحزاب طالت محاصرة المشركين للمدينة نحو شهر، فخاف المسلمون وفرَّ أكثرهم من المرابطة وتسللوا إلى المدينة بأعذار مختلفة! حتى بقي مع النبي (صلی الله علیه و آله) ذات ليلة في حراسة الخندق اثنا عشر شخصاً فقط! وتواطأ بعضهم مع المشركين فعبَّروا فرساناً منهم من نقطة من الخندق بقيادة فارس العرب عمرو بن ود العامري، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) الصحابة إلى مبارزته فخافوا، فبرز اليه علي (علیه السلام) وقتله وقتل بعض رفاقه، فهرب الباقون ووقع الرعب في المشركين، وأرسل الله عليهم الريح فتمت هزيمتهم.

19. في غزوة النبي (صلی الله علیه و آله) ليهود بني قينقاع والنظير وقريظة، كان بطل الإسلام عليٌّ (علیه السلام) فقتل عدداً من أبطالهم، فخضعوا لشروط النبي (صلی الله علیه و آله) بالجلاء عن المدينة.

20. وكان لعلي (علیه السلام) أدوار في غزوة الحديبية، فعتَّم عليها رواة السلطة، وبيَّناها!

21. وكانت خيبر قسمين: حصون النطاة وأهمها حصن ناعم، وحصون الشق وأهمها حصن القموص. فحاصر النبي (صلی الله علیه و آله) حصن ناعم وهاجمه علي (علیه السلام) فدحا بابه وفتحه، ثم أبقاه النبي (صلی الله علیه و آله) هناك لترتيب وضعها، واتجه إلى حصن القموص فحاصره لمدة شهر أو نحوه، فكان المسلمون يهاجمونه يومياً تقريباً ويرجعون مهزومين! حتى طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحضر علياً (علیه السلام) فأحضره وأخبرهم أنه سيفتح الحصن، فهاجم علي (علیه السلام) الحصن وحده ودحا بابه الحديدي الثقيل، وقتل بطلهم مرحباً، وفتح الحصن!

22. وفي غزوة حنين انهزم المسلمون، وكانوانحو عشرة آلاف، فثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) بنو هاشم فقط، وقاتل علي (علیه السلام) وحده فقتل أربعين من حملة الرايات، وحقق النصر!

ثم حاصر النبي (صلی الله علیه و آله) حصن الطائف، وكان المسلمون يهاجمونه فلم يستطيعوا فتحه، وكان علي (علیه السلام) في مهمة عسكرية، فاتفق النبي (صلی الله علیه و آله) مع ثقيف وأنهى حصار الطائف.

23. بعد حنين أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن مرات، فاستكمل فتحها وترتيب

ص: 20

أوضاعها، وكانت له فيها جولات وبطولات، أخفاها رواة السلطة.

24. تتميز هذه السيرة بتسليط الضوء على خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) وإثبات أنها كانت مطروحة من أول بعثته لما أمره الله تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين، ويطلب منهم وزيراً يبايعه على دعوته ليتخذه أخاً ووصياً، فاستجاب له علي (علیه السلام) فأعلنه: «أخاه ووزيره ووصيه وخليفته من بعده» وأمرهم بطاعته، فقال أبولهب لأبي طالب: لقد أمرك بأن تطيع ابنك هذا!

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لتحميه، فاستجابت له عدة قبائل، لكنها اشترطت أن تكون لها الخلافة بعده، فلم يقبل.

ثم كانت الخلافة مطروحة عند منافسي علي (علیه السلام) فانقسم المسلمون في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى شيعة علي ومبغضيه، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح علياً (علیه السلام) وشيعته، ويذم من أبغضهم.

ثم كانت مطروحة بعد فتح مكة، وكانت الشغل الشاغل لقريش وحلفائها اليهود، فحاولوا اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) مراراً، ليأخذوا دولته ويفرضوا خليفة منهم!

في الختام ننبه إلى أن مصادرنا هي من طبعة برنامجنا «مكتبة أهل البیت (علیهم السلام) - الإصدار الثاني». وننبه إلى أنا قد نذكر الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) كاملة وهي في المصدر ناقصة.

نسأل الله تعالى بجاه أحب خلقه اليه محمد وآله الطاهرين (صلی الله علیه و آله) أن يتقبل منا هذا العمل ويشملنا بشفاعته صلوات الله عليه وآله المعصومين.

كتبه بقم المشرفة: علي الكَوْراني العاملي

غرة ربيع المولد1429 ثم في ربيع المولد سنة1436

ص: 21

ص: 22

الفصل الأول: أول ماخلق الله نورالنبی (صلی الله علیه و آله)

1- عوالم وجودنا قبل هذا العالم

إن وجودنا الفعلي ليس أول وجودنا ولا آخره، فقد تظافرت الأدلة من القرآن والسنة وكشوف العلم، على أنا كنا موجودين في عوالم قبل عالمنا هذا، واشتهر منها عالم الذر الذي قال الله تعالى عنه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..

وقد نصت الآيات والأحاديث على أن الله امتحن الناس في عالم الذر امتحاناً كاملاً شاملاً، وأن عملنا في هذا العالم تطبيقٌ لما اخترناه بإرادتنا الكاملة هناك.

وورد أن الناس تعارفت أرواحهم في عالم الذر، فائتلفوا أو اختلفوا.

ويسمى عالم الأظلة أيضاً، وفي بعض الروايات عالم الأشباح النورانية، وعالم الأنوار الأولى، وأنه أول ظلال أو فَئْ خلقه الله تعالى من نور عظمته.

كما ورد إسم عالم الطينة، بمعنى الأصل الذي خلق منه الناس.

كما أن قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، يشير إلى عالمٍ للإنسان حين كان شيئاً ولكن غير مذكور. راجع العقائد الإسلامية: 1/60.

ص: 23

2- خلق الله نور نبينا وآله (صلی الله علیه و آله) قبل هذا العالم

وأحاديثه في مصادرنا ومصادر غيرنا كثيرة، وقد بحثها السيد الميلاني في المجلد الخامس من «نفحات الأزهار»، ونورد منها:

أ. ما نص على أن الله تعالى خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) قبل خلق الخلق، كما في الخصال/481 عن علي (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلی الله علیه و آله) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن خَلَقَ آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى:...

وخلق الله عزوجل معه اثني عشر حجاباً: حجاب القدرة، وحجاب العظمة، وحجاب المنة، وحجاب الرحمة، وحجاب السعادة وحجاب الكرامة، وحجاب المنزلة، وحجاب الهداية، وحجاب النبوة، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الشفاعة. ثم حبس نور محمد (صلی الله علیه و آله) في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السر، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو قائم لا يلهو..الخ.».

فهو صريح بأنه (صلی الله علیه و آله) خلقه الله تعالى قبل كل شئ.

ب. ومنها أن عترة النبي (صلی الله علیه و آله) خلقوا مع نوره (صلی الله علیه و آله) ففي الكافي: 1/442: «قال لي أبوجعفر (علیه السلام): يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله. قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور، أبدان نورانية بلا أرواح، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبدالله وعترته، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل، ويصلون الصلوات، ويحجون ويصومون».

ج. ومنها أن نبينا (صلی الله علیه و آله) أول من أجاب في عالم الذر عندما خلق الله البشر، وامتحنهم، ففي بصائر الدرجات/83،عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن بعض قريش قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله): بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت

ص: 24

أول من أقرَّ بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين و: أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله».

د. ومنها: أن الله تعالى بعث نبينا (صلی الله علیه و آله) نبياً للناس في عالم الأظلة، ففي تفسير العياشي: 2/126، عن زرارة وحمران، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (صلی الله علیه و آله) قالا: «إن الله خلق الخلق وهي أظلة فأرسل رسوله محمداً (صلی الله علیه و آله) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه، ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن في الأظلة، وجحده من جحد به يومئذ، فقال: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ».

وفي بصائر الدرجات/104: «سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى. قال: يعني به محمداً (صلی الله علیه و آله)،حيث دعاهم إلى الإقرار بالله في الذر الأول».

ه. ومنها: أن النبي وآله (صلی الله علیه و آله) كانوا حول العرش، وأنهم الكلمات التي تلقاها آدم (علیه السلام) ففي شرح الأخبار: 3/6، عن صفوان الجمال قال: «دخلت على أبي عبدالله جعفر بن محمد (علیه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، ثم التفت إليَّ فقال: يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم (علیه السلام) أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ قال: يا آدم صفوتي من خلقي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم، والنار لمن عاداهم. لو أن عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي، ثم توسل إليَّ بحق هؤلاء لعفوت له. فلما أن وقع آدم في الخطيئة قال: يا رب بحق هؤلاء الأشباح إغفر لي، فأوحى الله عزوجل إليه: إنك توسلت إلي بصفوتي وقد عفوت لك. قال آدم: يا رب بالمغفرة التي غفرت إلا أخبرتني من هم؟ فأوحى الله إليه: يا آدم هؤلاء خمسة من ولدك، لعظيم حقهم عندي اشتققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا الأعلى وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا المحسن وهذا الحسن، وأنا الإحسان وهذا الحسين».

ص: 25

و. ومنها: أن الله تعالى خلق أربعة عشر معصوماً (علیهم السلام) من نور عظمته، ففي المحتضر /228، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا. فقيل له: يا ابن رسول الله عُدَّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نوراً؟ فقال: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائمهم. ثم عدهم بأسمائهم وقال: نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونحن المثاني التي أعطاها الله تعالى نبينا محمداً (صلی الله علیه و آله)، ونحن شجرة النبوة،ومنبت الرحمة، ومعدن الحكمة، ومصباح العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وموضع سر الله، ووديعة الله جل اسمه في عباده، وحرم الله الأكبر، وعهده المسؤول عنه، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا. نحن الأسماء الحسنى الذين لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا، ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.

إن الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه على عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة عليهم بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزان علمه، وتراجمة وحيه، وأعلام دينه، والعروة الوثقى، والدليل الواضح لمن اهتدى، وبنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، ونزل الغيث من السماء، ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبدالله تعالى ولولانا لما عرف الله تعالى، وأيم الله لولا كلمة سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه أو يذهل منه الأولون والآخرون».

ز. ومنها: أحاديث خلق نور علي (علیه السلام) مع نور النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد رواها الجميع، ففي مناقب علي لأبي بكر بن مردويه/285، أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزءٌ أنا وجزء علي».

كما روى ابن مردويه بسنده عن الباقر (علیه السلام) عن آبائه عن جده (صلی الله علیه و آله)، قال: «كنت أنا وعلي

ص: 26

نوراً بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب، حتى أقره في صلب عبدالمطلب، فقسمه قسمين: قسماً في صلب عبدالله، وقسماً في صلب أبي طالب، فعلي مني وأنا منه، لحمه لحمي، ودمه دمي، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه».

ومثله الخصال للصدوق/640،وأمالي الطوسي/183، وفيه: «فجعل في عبدالله نصفاً، وفي أبي طالب نصفاً، وجعل النبوة والرسالة فيَّ، وجعل الوصية والقضية في علي، ثم اختار لنا إسمين اشتقهما من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا علي، فأنا للنبوة والرسالة وعلي للوصية والقضية».

ورواه العلامة في كشف اليقين/11ونهج الحق/212، عن ابن مردويه وابن حنبل، وابن المغازلي وفيه: «حتى قسمه جزءين، فجعل جزءً في صلب عبدالله، وجزءً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً، وأخرج علياً ولياً».

ح. ومنها أن الله تعالى خلق نور نبيه (صلی الله علیه و آله) وخلق معه نور علي وفاطمة (علیهما السلام) .

«ففي الكافي: 1/441»: «عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (علیه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة:فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله

تبارك وتعالى.

ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد».

ص: 27

3- أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) في مصادر السنيين

أ. روت عدداً منها مصادرهم وصححوا بعضها وضعفوا أكثرها، وجردوه من ذكر العترة! ففي مجمع الزوائد: 8/223: «عن ميسرة العجر، قال: قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح».

ب. وأشهرها حديث: كنت أنا وعليٌّ نوراً بين يدي الرحمان، رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة: 2/262، عن سلمان قال: «سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عزوجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلقالله آدم قسم ذلك النور جزءين، فجزء أنا وجزء علي».

وقد اجتزأه ابن حنبل، لأن نصه كما في تاريخ دمشق: 42/67: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله، مطيعاً، يسبح الله ذلك النور ويقدسه، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبدالمطلب، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي».

وهذا النص مجتزأ أيضاً، فقد نقله في شرح النهج: 9/171 عن الفردوس وقال: «رواه أحمد في المسند، وفي كتاب فضائل علي، وذكره صاحب كتاب الفردوس، وزاد فيه: ثم انتقلنا حتى صرنا في عبدالمطلب، فكان لي النبوة ولعلي الوصية».

ولا تجده في مسند أحمد فلا بد أنه حذف، وبقي في مناقب الصحابة، أما في الفردوس فنصه الموجود: 3/283 كرواية أحمد، وكذا في الرياض النضرة للطبري/392!

ج. ومنها حديث العرباض رواه أحمد: 4/127: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني لعبدالله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت. وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن».ورواه الحاكم: 2/418 و600 و608، صححه، وكنز العمال: 11/409، 11/418 و449 و450 والدر المنثور: 1/139 و 5/184 و207 و 6/213.

وفي مجمع الزوائد: 8/223: رواه أحمد بأسانيد، والبزار والطبراني.. رجاله رجال الصحيح».

د. ومنها: حديث: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر،قال في كشف الخفاء: 1/265

ص: 28

«رواه عبدالرزاق بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قَسَم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار. ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الحديث..

كذا في المواهب، وقال فيها أيضاً: واختُلف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قدر الله مقاديرالخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء. فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش...

وقيل: الأولية في كل شئ بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري، وكذا باقيها. وفي أحكام ابن القطان فيما ذكره ابن مرزوق عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام... قال الشبراملسي: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أن الله تعالى له نور قائم بذاته لاستحالته عليه لأن النور لايقوم إلا بالأجسام، بل المراد خلق من نور مخلوقٍ له قبل نور محمد، وأضافه إليه تعالى، لكونه تولى خلقه. ثم قال: ويحتمل أن الإضافة بيانية، أي خلق نور نبيه من نور

ص: 29

هو ذاته تعالى، لكن لابمعنى أنها مادة خلق نور نبيه منها، بل بمعنى أنه تعالى تعلقت إرادته بإيجاد نور بلا توسط شئ في وجوده، قال: وهذا أولى الأجوبة نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، حيث قال: أضافه إلى نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنه خلق عجيب، وأن له مناسبة إلى حضرة الربوبية».

ه. وروى في كنز العمال 12/427، حديث ابن عباس وشعر حسان قال: سئل النبي: «فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة؟ فقال (صلی الله علیه و آله): كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذباً، ولا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام لوجهي، وعلمني كتابه، ورقى بي في سمائه، وشق لي إسماً من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد.ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.قال ابن عباس: فقال حسان:

من قبلها طبت في الظلال *** وفي مستودع حيث يُخصف الورق

ثم سكنت البلاد لا بشرٌ *** أنت ولا نطفة ولا علق

مطهر تركب السفين وقد *** ألجم أهل الضلالة الغرقُ

تنقل من صلب إلى رحم *** إذا مضى عالم بدا طبق»

ومجمع الزوائد: 8/217، نحوه المناقب: 1/27، نسبو ه إلى العباس والصحيح أنه لحسان.

4- ملاحظات على أحاديث نور النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

1. إن ابتداء خلق الكون بخلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) حقيقةٌ كبيرة في تكوين الكون وإدارته، وتسمى الحقيقة المحمدية. وهي تدل على أن النبي (صلی الله علیه و آله) مشروع خاص لايقاس به أحد حتى الأنبياء (علیهم السلام) .ومعه عترته المعصومون علي وفاطمة والحسنان والتسعة من

ص: 30

ذرية الحسين علیهم السلام، الذين خلق نورهم مع نوره أو اشتقه منه، فهم جزءٌ لا يتجزأ من الحقيقة المحمدية. وهذا يفتح باباً لتفسير مقاماتهم:.

2.لايمكن لأحد أن ينفي أن الله تعالى بَدَأَ خلق الكون بنور محمد (صلی الله علیه و آله) لأن قدرتنا المعرفية لاتسمح لنا بالنفي أو الإثبات! فلم نكن حاضرين عندما بدأ الله تعالى خلقه، ولا وسائل عندنا لمعرفة ذلك، إلا بما أخبرنا به الوحي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .

فيجب أن نعترف بأن معلوماتنا محدودة رغم تطور العلم وكشفه الكثير عن النور والأشعة، واستفادة العلماء منها في الطب والحرب. ورغم اكتشاف آينشتاين نظرية النسبية الخاصة والعامة، اللتين تجعلان الزمن ركناً في وجود المادة، وتقدمان حقائق جديدة عن النور والحركة، وعن تحولها إلى طاقة وبالعكس، وإمكانية سفر الإنسان في المستقبل وفي الماضي!

إلا أنا مع كل ذلك، لا نعرف كيف بدأ الله تعالى خلق الكون، وغاية ما توصل اليه العلماء مرحلة الغيوم السديمية، ثم وصلوا إلى أنه كان قبلها بحرغاز سائل.

فمسائل بدء الخلق ثم تنويعه وتطويره، من الأسرار التي هي فوق قدرتنا!

3. حاول أتباع الخلافة تحريف أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) وآله:، فجعلوها في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة ومعاوية، أو في قريش كلها، لتشمل الذين اتخذوهم أئمة مقابل أهل البیت (علیهم السلام) . ثم حذفوا منها ما يشهد بإيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأمهاته إلى إبراهيم ثم إلى آدم:، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور: 3/295: «ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبويَّ، لم يلتقيا على سفاح قط».

وسبب حذفهم لها أنها تثبت وراثة النبي لآبائه المؤمنين:ووراثة عترته له، فلا يبقى محل لزيد وعمرو! وأشد نص عليهم حديث نور محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وإن رووه هم، لأن فيه: «ثم انتقلنا حتى صرنا في عبدالمطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية». فهو يعني أن علياً وصي النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر الله تعالى، فتكون بيعة السقيفة مخالفة لوصية النبي (صلی الله علیه و آله)!

ص: 31

رواياتهم التي تحاول تحريف أحاديث النور

قال السيوطي في الدر المنثور: 3/295: «عن ابن عباس أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه. قال رسول الله: فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح، وقذف بي في صلب إبراهيم، ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبويَّ لم يلتقيا على سفاح قط».

ورواه في ذيل تاريخ بغداد: 2/94 والخصائص: 1/66، وقال: «ويشهد لهذا ما أخرج الحاكم والطبراني عن خريم بن أوس قال: هاجرت إلى رسول الله منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك...». وذكر شعر حسان..

وقال القاضي عياض: 1/82: «ويشهد بصحة هذا الخبر شعر العباس المشهور».

ويلاحظ أن القسم الأول من الحديث كلام ابن عباس وقد جعلوه للنبي (صلی الله علیه و آله) فصارت قريش كلها بمن فيها أئمة الكفر كأبي جهل وأبي لهب، نوراً قبل خلق آدم (علیه السلام)!

ولذا قال الحلبي في سيرته: 1/48: «قوله: فأهبطني، ينبغي أن لايكون معطوفاً على ما قبله من قوله: إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى..الخ. فيكون نوره من جملة نور قريش، وإنه انفرد عن نور قريش، وأودع في صلب نوح..»!

ولهم تحريف آخر لمصلحة خلفاء قريش!

ففي تفسير الثعلبي: 7/111 والقرطبي: 12/286: «قال رسول الله: إن الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبابكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمتي من النساء من نور عائشة، فمن لم يحبني ويحب أبابكر وعمر وعائشة فما له من نور، فنزلت عليه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ».

وقال في السيرة الحلبية: 1/241: «وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شئ؟ قال: نعم نور أخصاء أصحابه. فقال: يا رب اجعله

ص: 32

في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر، ونور عثمان في الخنصر، ونور علي في الإبهام. فلما أكل من الشجرة، عاد ذلك النور إلى ظهره»!

وقال السيد الميلاني في نفحات الأزهار: 5/190:

«حديث موضوع آخر في فضل الشيخين: قال السيوطي: أبو نعيم في أماليه.. عن أبي هريرة مرفوعاً: خلقني الله من نوره، وخلق أبابكر من نوري، وخلق عمر من نور أبي بكر، فخلق أمتي من نور عمر، وعمر سراج أهل الجنة. قال أبو نعيم: هذا باطل.. وقال في الميزان: هذا خبر كذب، ما حدث به واحد من الثلاثة، وإنما الآفة عندي فيه المنبجي لا يعرف... فإذا كان هذا الحديث موضوعاً باعتراف أبي نعيم والذهبي والسيوطي وابن عراق، فإن خبر خلق الثلاثة قبل آدم (علیه السلام) وكونهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) على يمين العرش، كذب بالأولوية».

أقول: ومثله في تاريخ دمشق: 30/164: «قال: حدثني جبريل أن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين الأرواح، وجعل ترابها من الجنة وماءها من الحيوان، وجعل له قصراً في الجنة من درة بيضاء، مقاصيرها فيها من الذهب والفضة البيضاء، وإن الله تعالى آلى على نفسه ألا يسأله عن حَسَنة ولايسأله عن سيئة»!

هذا، وقد كثرت مكذوباتهم في فضائل أبي بكر وعمر حتى زكمت أنوفهم! قال في كشف الخفاء: 2/419: «وباب فضائل أبي بكر الصديق رضيالله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات، كحديث: إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة! وحديث: ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر! وحديث: كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي بكر! وحديث: أنا وأبوبكر كفرسي رهان! وحديث: إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر»!

راجع: نفحات الأزهار: 5/13و 11/208 والوضاعون للأميني/387.

4. نلاحظ أن أخبار خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) مغيبةٌ عند أتباع الخلافة، فلا تسمعها في مساجدهم وخطبهم، ولاتراها في مناهجهم التربوية. اللهم إلا ما أخذه منها

ص: 33

بعض الصوفية، وبنوا عليه بناءاتهم. وهذا السلوك المتعمد في الإعراض عن ذكر مقامات النبي (صلی الله علیه و آله) موروث من طلقاء قريش الذين كانوا في زمنه (صلی الله علیه و آله) يسمون خيار الصحابة «عُبَّاد محمد»! ويتهمونهم بالغلو فيه لأنهم يؤمنون بمقاماته (صلی الله علیه و آله) ويتعبدون بأوامره ونصوصه!

وقد ورثهم في عصرنا بدوٌ أجلاف متعصبون لقريش وبني أمية، فقالوا «محمد طارش ومات» أي مبعوث أوصل رسالة وانتهى، وهو الآن لا ينفع!

بل قال شيخهم«عصاي هذه أنفع من محمد»! وقد ناقشني أحد مشايخهم في نسبة هذا الكلام لابن عبدالوهاب، فقلت له لا بأس: أنت هل ترى أن عصاك أفضل أم النبي (صلی الله علیه و آله) الآن؟ فبَكِمَ ولم يجب!

وقد حرم هؤلاء القساة الجفاة زيارة قبره (صلی الله علیه و آله)! وحكموا على المسلمين بالغلو والشرك لمجرد قولهم: «يا رسول الله إشفع لنا عند الله»!

وقد بحثنا ذلك في المجلد الخامس من العقائد الإسلامية، والمجلد الثاني من ألف سؤال وإشكال، وذكرنا أن طعن «القرشيات» في شخصية النبي (صلی الله علیه و آله) أسوأ من طعن الإسرائيليات في أنبياء الله الماضين:.

ص: 34

الفصل الثاني: جزيرة العرب في عصر النبی (صلی الله علیه و آله)

1- أحوال العرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله)

1- كان للعرب دول

كان للعرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) دولة في اليمن، وكانوا في جزيرة العرب قبائل لاتضمهم دولة، وفي العراق قبائل بشكل دولة تحت نفوذ الفرس، وفي الشام والأردن دولة تحت نفوذ الروم،وكانوا في مصر أقلية تحت حكم القبط والروم.

ويمكن تقدير عدد العرب في كل الجزيرة بنصف مليون نسمة. لأن غاية ما أمكن لقريش أن تحشده من مكة لحرب الأحزاب أربعة آلاف مقاتل فلو حسبنا مقاتلاً من كل سبعة أشخاص يكون عددها في مكة وحولها أقل من أربعين ألفاً. وحشدت قبائل عرب الجزيرة نحو ثلاثين ألفاً، فلا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة، وإن بالغنا قلنا مليون نسمة.

وكان عدد سكان المدينة في حرب الأحزاب نحو خمسة آلاف نسمة «الصحيح: 9/182»وعند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) اثني عشرألفاً، وقد يكون عدد سكان المناطق القريبة من المدينة مثل عددها.

وذكر ابن حجر«فتح الباري: 81/15» أن عدد الذين أرسلهم النبي (صلی الله علیه و آله) في جيش أسامة ليبعدهم عن المدينة ثلاثة آلاف فيهم سبع مئة قرشي! قال: «لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة، منهم أبوبكر وعمر...وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبع مائة من قريش».

ص: 35

وهذا يعني أن عدة آلاف من طلقاء قريش جاؤوا إلى المدينة بعد فتح مكة، فوصل عدد سكانها إلى اثني عشر ألفاً.

أما عرب اليمن فكانوا نحو مليون، وعرب العراق والشام وفلسطين نحو مليون. فيكون مجموع العرب في الجزيرة وخارجها أقل من ثلاثة ملايين نسمة.

2- الحالة الإقتصادية للعرب

كان اليمانيون يعيشون على الزراعة وتربية المواشي، والتجارة وبعض الصناعات، وكذا العرب في مصر والعراق والشام وفلسطين. وكان عرب الجزيرة في فقر شديد، تكثر فيهم الغارات والنهب، فليس في الجزيرة إلا واحات قليلة للزراعة، ومراعٍ شحيحة للماشية. وكان لقريش تجارة بين الحجاز واليمن والشام ومصر، في رحلتي الشتاء والصيف.

3- أديان العرب قبل الإسلام

كان عرب الجزيرة والعراق وثنيين، يعبدون أصناماً عديدة، أهمها: هُبَل واللات والعُزَّى ومُنَاة، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم (علیه السلام) .

وكان فيهم أقلية يهودية، في وادي القرى وتيماء وخيبر وضواحي المدينة ومكة.

وكانت وثنية اليمنيين غير حادة، وفيهم أقلية يهودية في صنعاء وغيرها، وأقلية مسيحية في نجران وحولها. أما عرب الشام وفلسطين ومصر، فانتشرت فيهم المسيحية، بحكم كونهم تحت النفوذ الروماني.

قال الإمام الصادق «الكافي: 4/212»: «إن العرب لم يزالوا على شئ من الحنيفية: يصلون الرحم، ويُقْرُون الضيف، ويحجُّون البيت، ويقولون إتقوا مال اليتيم فإن مال اليتيم عِقال، ويكفُّون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة، وكانوا لا يُمْلَى لهم إذا انتهكوا المحارم، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الإبل فلا يجترئ أحد أن يأخذ من تلك الإبل حيثما ذهبت، ولا يجترئ أحد أن يعلق من غير لحاء شجر الحرم، أيهم فعل ذلك عوقب. وأما اليوم فأمليَ لهم، ولقد جاء أهل

ص: 36

الشام فنصبوا المنجنيق على أبي قبيس، فبعث الله عليهم سحابة كجناح الطير، فأمطرت عليهم صاعقة، فأحرقت سبعين رجلاً حول المنجنيق».

ومعنى كلامه (علیه السلام) أن الله تعالى أملى للعرب بعد الإسلام فلم يعاقبهم إذا تعدوا على حرمة الحرم، إلا في حالات قليلة، منها عندما تحصن ابن الزبير في الحرم وهاجمه يزيد سنة 63 هجرية، ثم هاجمه عبدالملك سنة 73، فعاقبهم الله تعالى بصاعقة، فلم يتعظوا ولم ينتهوا وأغواهم الحجاج، فتركهم الله في غيهم!

قال الطبري: 5/29: «فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها «غلب صوتها»! فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم، فرفع الحجاج بَرْكة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: إرموا، ورمى معهم! قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشأم لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا! إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم!

فصَعَقَتْ من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون. وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة»!

وفي نهاية ابن كثير: 8/363: «فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم! فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته! فعادوا إلى المحاصرة»!

4- كان العرب أميين

كان العرب أميين أي ليس لهم كتاب سماوي. قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) «نهجالبلاغة: 1/199»: «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولايدَّعي نبوةً ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى

ص: 37

منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير، ويقف للكسير فيقيم عليه حتى يُلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه، حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفتُ ولا جبنتُ، ولا خنتُ ولا وهنتُ. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

ومن خطبة له (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشرالعرب على شر دينٍ وفي شر دار، متنخَّوْنَ بين حجارة خُشْن وحيات صُمّ، تشربون الكدَر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة». نهجالبلاغة: 1/66.

5- وكان العرب مجتمعاً محارباً

ففي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/281: «قلت له: جعلت فداك، لم سموا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد، وأشباه ذلك؟ قال: كانت العرب أصحاب حرب فكانت تُهَوِّلُ على العدو بأسماء أولادهم، ويسمون عبيدهم: فرج ومبارك وميمون، وأشباه ذلك، يتيمنون بها».

6- تكلم خمسة أنبياء بالعربية

روي أن الله تعالى بعث أربعة أنبياء يتكلمون العربية، فعن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن خمسة من الأنبياء تكلموا بالعربية؟فقال: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد، صلوات الله عليهم». الخصال/319.

وروي عن الباقر (علیه السلام): «أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت (علیهم السلام) يا إسماعيل هابي ابن، أي أعطني حجراً، فيقول له إسماعيل بالعربية: يا أبت هاك حجراً، فإبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة». التبيان: 1/463.

ص: 38

وفي تحف العقول/297: «أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (صلی الله علیه و آله) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه، فهو أول من نطق بها وهو الذبيح».وفتح الباري: 6/286، عن علي (علیه السلام)، الجامع الصغير: 1/435 والقرطبي 1/283.

أقول: لابد أن يكون معنى الحديث أن إسماعيل (علیه السلام) أول من تكلم من أولاد إبراهيم بالعربية، وهي لغة محيطه من قبيلة جرهم وعرب الجنوب، أما لغته قبلها فكانت كأبيه وإخوته البابلية أو السريانية، ولغة أمه القبطية.

هذ ا، وقد رويت أحاديث في تكون اللغات، وهي مرسلة أو ضعيفة، يقلُّ فيها الصحيح، وزعم بعضها أن العربية لغة آدم (علیه السلام) ولغة أهل الجنة، والمعقول أن تكون لغة أهل الجنة أبلغ من كل لغات الدنيا.

7- إقرؤوا القرآن بألحان العرب

أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإعراب القرآن وقراءته بألحان العرب، ففي الكافي: 2/614 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أعربوا القرآن فإنه عربي،قال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية...قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، وأهل الكبائر، فإنه سيجيئ من بعدي أقوام يُرَجِّعُون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لايجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة،وقلوب من يعجبه شأنهم»!

وعن الإمام الرضا (علیه السلام)، أن علي بن الحسين كان يقرأ القرآن: «فربما مرَّ به المارُّ فصُعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه! قلت: ألم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يُحَمِّل الناس من خلفه ما يطيقون»!

ص: 39

8- أوجب الإسلام على عرب البادية الهجرة

وحرم عليهم التعرب بعد الهجرة، ففي النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري/26: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا رضاع بعد فطام، ولا وِصال في صيام، ولا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يمين لولد مع والده ولا لمملوك مع مولاه ولا لمرأة مع زوجها، ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة رحم».

وفي النوادر/28، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لايصلح للأعرابي أن ينكح المهاجرة، يخرج بها من أرض الهجرة فيتعرب بها، إلا أن يكون قد عرف السنة والحجة، وإن أقام بهذا في أرض الهجرة فهو مهاجر».

9- الهجرة إلى طلب العلم

معنى الهجرة إلى طلب العلم: الهجرة إلى الأئمة (علیهم السلام)، ففي معاني الأخبار/265: «عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: المتعرب بعد الهجرة، التارك لهذا الأمر بعد معرفته». وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ.

وفي معاني الأخبار/157: عن عبدالمؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): «إن قوماً رووا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن اختلاف أمتي رحمة؟ فقال: صدقوا، قلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال: ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنما أراد قول الله عزوجل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويختلفوا إليه فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد».

10- العروبة باللغة وليست بالنسب

نقل النبي (صلی الله علیه و آله) العروبة من النسب إلى اللغة، فعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «صعد

ص: 40

رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر يوم فتح مكة فقال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من آدم (علیه السلام) وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه، إن العربية ليست بأبٍ والد، ولكنها لسانٌ ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه». الكافي: 8/246 ودعائم الإسلام: 2/198.

11- وجَّه الإسلام عصبية العرب إلى التعصب للخير

فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية فيه عليهم وانقادت النعمة له معهم...

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل، فما أشد اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال! تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش! فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر وَوَبَر، أذلَّ الأمم داراً، وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها! فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزْل، وإطباق جهْل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة!

ص: 41

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، وعن خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم، في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب. وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تُغمز لهم قناة، ولا تُقرع لهم صفاة.

ألاوإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية. واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الإسلام إلا اسمه، ولاتعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه وأمناً بين خلقه.

وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم».«نهجالبلاغة: 2/150». وفي الكافي: 8/162عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل».

2- أعلن النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) سيد العرب!

قالت قبائل قريش لبني هاشم: «أما رضيتم يا بني قصي أنكم ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء، حتى جئتمونا زعمتم نبي منكم»! «مجمع الزوائد: 6/70». ثم صَبَّت قريش حقدها على علي (علیه السلام) لأنه بطل معارك النبي (صلی الله علیه و آله) وقاتل فرسانها، فكانت تسميه قتَّال العرب! فأمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يسميه «سيد العرب»!

فقد روى الحاكم: 3/124، وصححه: «عن سعيد بن جبير عن عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال:

ص: 42

أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب». ورواه في مجمع الزوائد: 9/131.

وروى في: 9/116عن أنس أن رسول الله قال: «مَنْ سيد العرب؟قالوا أنت يا رسول الله، فقال أنا سيد ولد آدم، وعليٌّ سيد العرب». والطبراني الأوسط:2/127.

وفي الطبراني الكبير: 3/88: «قال رسول الله: يا أنس إنطلق فادع لي سيد العرب يعني علياً، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ قال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. فلما جاء علي أرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الأنصار فأتوه فقال لهم: يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه لكرامتي، فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل».

وفي تاريخ بغداد: 11/90 عن سلمة بن كهيل قال: «مرَّ علي أبي طالب على النبي وعنده عائشة فقال لها: إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب! فقالت: يا نبي الله ألست سيد العرب؟ فقال: أنا إمام المسلمين وسيد المتقين. إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب».

وفي تاريخ دمشق: 42/305، عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رجل يا رسول الله أنت سيد العرب؟ قال: لا، أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب! وإنه لأول من ينفض الغبار عن رأسه يوم القيامة قبلي علي».

وفي الخصال/561، قال (صلی الله علیه و آله): «وأبناؤه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

أقول: أراد النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك أن يؤكد مكانة علي (علیه السلام)، ويرد الهجمة التي كانت تشنها قريش المشركة على بني هاشم وعلي (علیه السلام)، لكن حملتها استمرت عليه بعد النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأسف! على يد المتأثرين بقريش من المسلمين.

فقد غصَّ أتباع الخلافة بحديث: علي سيد العرب، لأنه يجعل علياً (علیه السلام) سيداً لقبائل قريش وزعمائها، فحاولوا تضعيف الحديث كما فعل الهيثمي في مجمع الزوائد، بحجة أن في سنده ابن عبدالله الأهتم، وقال إنه شيعي ضعفه أبو داود!

وردَّ عليهم علماؤهم كالحافظ ابن الصديق المغربي في رسالته: إرغام المبتدع

ص: 43

الغبي بجواز التوسل بالنبي/58، فذكر له عدة طرق، وقال عن ابن الأهتم: «ذكره ابن أبي حاتم في الجرح ولم يجرحه. وهو بصري والبصريون أبعد الناس عن التشيع».

أما الذهبي إمام السلفيين النواصب، فاعترف في تاريخه: 3/635 بصحته مرغماً! ورواه في ميزان الإعتدال: 4/115 عن حذيفة بن اليمان بسند صحيح، قال: «لما تهيأ علي يوم خيبر للحملة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي بأبي أنت، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك، هذا جبرائيل عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة. يا علي إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم. الحديث بطوله». ولم يكمل الذهبي رواية الحديث، لأن فيه مديحاً لعلي (علیه السلام) بأنه كرار غير فرار تعريضاً بفلان وفلان ممن فرُّوا في خيبر!

لكن يظهر أن مزاج الذهبي كان سيئاً حيث روى بعضه وقال باطل«لسان الميزان: 4/289»

وقال الصديق المغربي في رسالته في التوسل: «تحامل الذهبي على الحكم بوضع الحديث، لفهمه أن الحديث يقتضي تفضيل علي على الشيخين، وعلى أساس هذا الفهم رد هو وغيره كثيراً من الأحاديث في فضل علي، وحكموا بوضعها أو نكارتها، ولم يسلم من نقدهم بهذا الفهم إلا قليل.. بل يستنكرون الحديث الوارد في فضله، ولو لم يكن في سنده شيعي»!

وقال: «حكم بوضعه في مقدمة كتبها لبعض الرسائل، مستدلاً على وضعه بأن روح التشيع واضحة في الحديث، ولا أدري أين هذا التشيع الذي وضح له من الحديث! مع أن الحديث له شواهد وطرق! وعلى قوله هذا وقاعدته الفارغة، ينبغي ألا نقبل حديثاً في فضل علي ولو تواتر، لا سيما إذا كان يخبر بفضل لعلي لايوجد لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كحديث: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره! وهكذا إذا اتبع الإنسان كلَّ جاهل، وأجاب كلَّ صارخ، ولم يُعمل النظر ويبحث عن الأقوال قبل قائلها، فإنه يردُّ السنة الصحيحة جملة، ويعطي مع ذلك السلاح لأعداء الدين وملاحدة العصر في رد ما لايعجبهم ويوافق هواهم، من حديث سيد المرسلين!

ص: 44

وقد أقر الحافظ العسقلاني الذهبي على وضعه، فانظر لسان الميزان: 4/289 وقول الذهبي: موضوع، غلوٌّ غير مقبول! ذلك أن الحديث ورد من غير طريق

ابن علوان وعمر الوجيهي، فرواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك..».

ثم ذكر له عدة طرق، وبعضها صحيح على شرط الشيخين، وذكر أحاديث مشابهة ردوها رغم صحتها، لأنها تفضل علياً (علیه السلام) على غيره! ورواه: ابن أبي شيبة: 7/474،

تاريخ بغداد: 11/90، تاريخ دمشق: 42/304، 64/192، بعدة طرق، ذيل تاريخ بغداد: 5/60، السيرة الحلبية: 2/736 ونفحات الأزهار: 9/174.

أما معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) إن علياً (علیه السلام) ينهض من قبره قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أنه يحمل لواءه يوم القيامة، ويكون أمامه مقدمة لموكبه.

3- وصف جاهلية العرب

1- وصفها المغيرة بن شعبة لعامل كسرى

کما في صحيح بخاري: 4/63: «حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت؟قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبدالشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته، الينا نبياً من أنفسنا، نعرف أباه وأمه».

2- و وصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي

فقال: «كنا قوماً أهل جاهلية نعبدالأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه»! أحمد: 1/2020.

ص: 45

3- و وصف علي (علیه السلام) جاهلية العرب

فقال كما في نهجالبلاغة: 1/199 من خطبة له (علیه السلام): «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدَّعي نبوةً، ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير، ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته، إلا هالكاً لا خير فيه حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها، حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفتُ ولا جبنتُ، ولا خنتُ ولا وهنتُ. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

ومن خطبة له (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار، مُنِيخون بين حجارة خُشْن، وحيات صُمّ، تشربون الكدَر، وتأكلون الجَشَب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة».

وقد تقدم ذلك، وفي خطبه وكلماته (علیه السلام) وصف مفصل لجاهلية العرب، ووصف لعودتها بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)!

4- و وصفت الزهراء (علیها السلام) جاهلية العرب

في خطبتها البليغة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأسبوعين، حيث ذكَّرتهم بنعمة النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم. وقد روت خطبتها مصادر الشيعة والسنة، وجاء فيها قولها (علیها السلام):

«ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمداً (صلی الله علیه و آله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار عماها...وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال

ص: 46

وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمراً ناصحاً، مجداً كادحاً لاتأخذه

في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال!

فلما اختار الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم. هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة! ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين..». الإحتجاج: 1/131.

4- نشر كعب الأحبار أمنياته بهلاك العرب!

استطاع كعب الأحبار أن يقنع عمر بن الخطاب في خلافته بأن الإسلام كالبعير سيكبر عن قريب ويهرم وينتهي! وأن قريشاً والعرب سيهلكون ويبادون! وأن الكعبة ستهدم فلا تبنى أبداً! ومكة تخرب فلا تعمر أبداً!

ففي مسند أحمد: 3/463: «كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم: يا فلان كيف سمعت رسول الله ينعتُ الإسلام؟ قال: سمعت رسول الله يقول: إن الإسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ثم بازلاً. فقال عمر بن الخطاب: فما بعد البزول إلا النقصان»! البزول أقصى سن البعير-

الصحاح: 4/1321.

ص: 47

وهكذا صارت فرية كعب الأحبار حديثاً نبوياً في أصح كتب الخلافة!

فقد روى أحمد: 1/23، عن عمر أنه سمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «سيخرج أهل مكة ثم لايعبر بها إلا قليل، ثم تمتلئ وتبنى، ثم يخرجون منها فلا يعودون فيها أبداً»! ورواه مسلم: 8/183 ورواه بخاري في صحيحه وعقد باباً: 2/159 باب هدم الكعبة!

وفي الفتن لنعيم بن حماد: 1/398: «لاتستريبوا في هلكة قريش، فإنهم أول من يهلك حتى أن النعل لتوجد في المزبلة فيقال خذوا هذه النعل إنها لنعل قرشي». وقد بحثنا ذلك وردينا عليه، في كتاب ألف سؤال وإشكال: 1/492.

5- ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) على فرية كعب عن العرب

وقد ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) فرية كعب بهلاك الأمة. فقد روى الصدوق «الخصال/475»عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أبشروا ثم أبشروا، ثلاث مرات، إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً وأحسنها جَناً! وكيف تهلك أمة أنا أولها، واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب، والمسيح عيسى بن مريم آخرها؟ولكن يهلك بين ذلك نَتَجُ الهَرَج، ليسوا مني ولست منهم».

6- زعموا أن العرب لا يكونون من الأبدال!

زعم رواة السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لايصل العربي إلى درجة الأولياء الأبدال! قال القرطبي في تفسيره: 3/259: «واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟ فقيل هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً كلما مات واحد بدَّل الله آخر».

وقال أبو داود في سننه: 2/30 عن عنبسة بن عبدالواحد القرشي الأموي: «كنا نقول إنه من الأبدال، قبل أن نسمع أن الأبدال من الموالي»!

وقال في سؤالات الآجري: 1/204: «سئل أبو داود عن عنبسة بن عبدالواحد القرشي قال: سمعت محمد بن عيسى يقول: كنا نرى أنه من الأبدال حتى سمعنا أن الأبدال

ص: 48

من الموالي.. عن عطاء قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الأبدال من الموالي، ولا يبغض الموالي إلا منافق». وتاريخ بغداد: 12/279 وتهذيب الكمال: 22/421.

وصححه المناوي: 3/220 وقال: «من علامتهم أيضاً أنه لايولد لهم...وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها، لكن لايُنكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية، أو معاند متعصب».

وفي تهذيب الكمال: 7/264: «كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال، وعلامة الأبدال أن لا يولد لهم، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له»!

وعدوا أكثر من عشرين من أئمتهم من غير العرب من الأبدال!

وزعم ابن عربي أن أصحاب المهدي (علیه السلام) كلهم من العجم! قال في الفتوحات: 3/ 328: «وهم من الأعاجم ما فيهم عربي، لكن لايتكلمون إلا بالعربية»!

لكن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ساوَوْا بين العرب والعجم، ونصوا على أن أصحاب المهدي (علیه السلام) فيهم العرب والعجم، قال الإمام الباقر (علیه السلام) كما في غيبة الطوسي/284: «يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاث مائة ونيف عدة أهل بدر. فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق».

7- أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بظلم قريش لأهل بيته (علیهم السلام)

روى ابن حماد: 1 / 310 عن عبدالله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله إذ جاء فتية من بني هاشم فتغير لونه! قلنا: يا رسول الله ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، فقال: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلوه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فإنه المهدي». «ورواه ابن أبي شيبة: 15/235، بنحوه. وابن ماجة: 2 /1366، رواه

ص: 49

ابن المنادي/44، الحاكم: 4/464»، وفيه: «أتينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، قال: إنا أهل بيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلايعطونه، ثم يطلبونه فلايعطونه، ثم يسألونه فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون. فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج،فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه إسمي وإسم أبيه إسم أبي، فيملك الأرض فيملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً». ورواه البزار: 4 / 310، 354، الداني / 92، كابن شيبة بتفاوت يسير، نحوه جامع السيوطي: 3 / 101، وزوائد ابن ماجة / 527، المعجم الأوسط: 6 / 327 والسنن في الفتن: 5 / 1029، بروايتين وفيه:

«بينما نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ قال: يجئ قوم من هاهنا وأشار بيده نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه،حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج».

وقال نقاد الحديث عن رواية زائدة التي فيها: واسم أبيه إسم أبي: إنها زيادة في الحديث زادها زائدة بن قدامة.

ورواه من مصادرنا: دلائل الإمامة/233 و 235، بعدة روايات عن ابن مسعود، كابن حماد بتفاوت يسير. ومناقب أميرالمؤمنين لمحمد بن سليمان: 2/110، بنحوه عن ابن مسعود، وملاحم ابن طاووس/52، عن ابن حماد، وفي/161، عن فتن زكريا، وكشف الغمة:3 / 262، عن أربعين أبي نعيم. وفي / 268، عن البيان للشافعي. والعدد القوية / 90، كرواية دلائل الإمامة الثانية بتفاوت يسير، والثالثة، وإثبات الهداة: 3/595، عن كشف الغمة، والبحار: 51 /82، عن كشف الغمة، و: 51/83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم..الخ.

«لكن أدق نصوصه حديث الإمام الباقر (علیه السلام) الذي رواه النعماني/273، عن أبي خالد

ص: 50

الكابلي، عن الإام الباقر (علیه السلام) قال: كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم. قتلاهم شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».

والنتيجة: أن هذا الحديث المعروف بحديث الرايات السود، متواتر بالمعنى، لأنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة، يعلم منها أن مضمونه صدر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأخبر عن ظلامة أهل بيته:وأنها تستمر حتى يأتي قوم من المشرق يمهدون لمهديهم: فيظهر ويسلمونه رايتهم، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

8- سينقذ الله العرب بيد أهل البیت (علیها السلام)

أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بأن الله عزوجل سينقذ قريشاً والأمة بأهل بيته:، ففي كمال الدين/230: «قال علي لرسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله أَمِنَّا الهداة أم من غيرنا؟ قال: بل منا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم الله عزوجل من ضلالة الشرك، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة، وبنا يصحبون إخواناً بعد ضلالة الفتنة، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك. وبنا يختم الله كما بنا فتح الله».

وفي أمالي المفيد/288، عن علي (علیه السلام) قال: «لما نزلت على النبي (صلی الله علیه و آله): إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، قال لي: يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، فإذا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا. يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي، فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني!

فقلت: فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي! قال فقلت: يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن

ص: 51

يعجلها لي! فقال: أجل، قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا، وأومى إلى رأسي ولحيتي؟ فقلت: يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت فليس بموطن صبر، ولكنه موطن بشرى وشكر. فقال: أجل فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم أمتي. قلت: يا رسول الله أرشدني الفلج، قال: إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان.

يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن، وأخذوا بالشبهات، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والبخس بالزكاة، والسحت بالهدية! قلت: يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك، أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟ قال: هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل!

فقلت: يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا؟ فقال: بل منا، بنا يفتح الله وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة، فقلت:

الحمد لله على ما وهب لنا من فضله».

ومنها: في كنز العمال: 16/196، من وصية النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي إن القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم، ويزكون أنفسهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه، ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة، فيستحلون الخمر بالنبيد، والسحت بالهدية، والربا بالبيع... إلى أن ينقذهم الله بنا أهل البیت عند ظهورنا.. يا علي: بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه، وبنا أهلك الأوثان ومن يعبدها، وبنا يقصم كل جبار وكل منافق، حتى إنا لنقتل في الحق مثل من قُتل في الباطل. يا علي: إنما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعمت فوجاً عاماً، ثم فوجاً عاماً، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً، وأحسنها فرعاً، وأحلاها جنىً، وأكثرها خيراً وأوسعها عدلاً، وأطولها ملكاً».

وكان الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/266»: «إذا ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: بأبي وأمي وقومي وعشيرتي! عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها، والله عزوجل يقول في كتابه: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا! فبرسول الله (صلی الله علیه و آله) أنقذوا».

ص: 52

وفي المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي/374، والإحتجاج للطبرسي: 1/93 والإمامة والسياسة: 1/18، من حديث طويل عن السقيفة: «أن أبابكر دعا علياً إلى البيعة فامتنع وقال: إني لأخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يقولها غيري إلا كذاب، وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، إنكم أخذتم هذا الأمر من العرب بالحجة وتأخذونه منا أهل البیت غصباً وظلماً! احتججتم على العرب بأنكم أولى الناس بهذا الأمر منهم بقرابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الأمر، فأنا أحتج عليكم بما احتججتم به على العرب، فنحن والله أولى بمحمد (صلی الله علیه و آله) منكم، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، واعرفوا لنا من هذا الأمر ما عرفته لكم العرب، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون!

فقال أبو عبيدة بن الجراح: يا أبا الحسن أبوبكر أقوى على هذا الأمر، وأشد احتمالاً، فارض به وسلم له، وأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك! فقال لهم علي: أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي! أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتأخذونه منا أهل البیت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، أول من آمن به وصدقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر!

أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون.

فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً! فقال علي: إحلب حلباً لك شطره، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً! إذاً والله لا أقبل قولك، ولا

ص: 53

أحفل بمقامك ولا أبايع! فقال أبوبكر: مهلاً يا أبا الحسن، ما نشك فيك ولا نُكرهك!

فقام أبو عبيدة إلى علي فقال: يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك، ولكنك حدث السن، وكان لعلي يومئذ ثلاث وثلاثون سنة، وأبوبكر شيخ من مشايخ قومك وهو أحمل لثقل هذا الأمر، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له، فإن عمَّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك، ولا يختلف فيك اثنان. فقال علي (علیه السلام): يا معشر قريش، الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد (صلی الله علیه و آله) من بيته إلى بيوتكم، فإنكم إن تدفعونا أهل البیت عن مقامه في الناس وحقه تؤزروا! والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم.. وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي، ففسح المجلس وقال: إن الله يقلب القلوب، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك».

9- تحذيرات النبي (صلی الله علیه و آله) للعرب من الطغيان

روى البخاري: 4/109، 176، 8/104: «عن زينب ابنة جحش أن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها! قالت زينب فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث».

وفي البخاري: 8/88: «قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة أمتي علي يدي غَلَمَةٍ من قريش. فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة! فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت! فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم! قلنا أنت أعلم».

وفي مسند أحمد: 2/390، عن أبي هريرة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وَيْلٌ للعرب من شر قد اقترب! فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع قوم دينهم

ص: 54

بعرض من الدنيا قليل المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر».

وفي مسند أحمد: 1/319: «إذا رأيت الأمَة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة، كانوا رؤوس الناس، فذلك من معالم الساعة وأشراطها. قال: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: العرب».

وفي الكافي: 8/103: «سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً؟ قال: ما تقولون في ذلك؟ قلت: نقول: هم الأفجران من قريش: بنو أمية، وبنو المغيرة، قال: هي والله قريش قاطبة. إن الله تبارك وتعالى خاطب نبيه (صلی الله علیه و آله) فقال إني فضلت قريشاً على العرب، وأتممت عليهم نعمتي وبعثت إليهم رسولي، فبدلوا نعمتي كفراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ».

10- رفض الأئمة (علیهم السلام) تعصب العرب ضد الشعوب الأخرى

مَيَّزَ الحكام القرشيون العرب على غيرهم من الشعوب، واصر أهل البیت (علیهم السلام) على المساواة بينهم وجوز تزويجهم من بعضهم. واشتكى الموالي إلى علي (علیه السلام)، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 5/318»: «أتت الموالي أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية، وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا لا نفعل! فذهب إليهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) فكلمهم فيهم فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك! فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك الله لكم، فإني قد سمعت رسول الله يقول: الرزق عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في التجارة، وواحدة في غيرها».

وفي الكافي: 5/345: «لقي هشام بن الحكم بعض الخوارج فقال: يا هشام ما تقول في العجم، يجوز أن يتزوجوا في العرب؟ قال: نعم. قال: فالعرب يتزوجوا

ص: 55

من قريش؟ قال: نعم، قال: فقريش يتزوجوا في بني هاشم؟ قال: نعم. قال: عمن أخذت هذا؟ قال: عن جعفر بن محمد (علیه السلام) سمعته يقول: أتتكافأ دماؤكم، ولا تتكافأ فروجكم»؟!

وقال الكاظم (علیه السلام) كما في الخصال/123: «الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج، فأما العرب فنحن، وأما المولى فمن والانا، وأما العلج فمن تبرأ منا وناصبنا».

وفي الكافي: 8/226، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «كان عند أبي الحسن موسى (علیه السلام) رجل من قريش فجعل يذكر قريشاً والعرب، فقال له أبو الحسن (علیه السلام) عند ذلك: دع هذا، الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج، فنحن العرب، وشيعتنا الموالي، ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج! فقال القرشي: تقول هذا يا أبا الحسن، فأين أفخاذ قريش والعرب؟! فقال أبو الحسن: هو ما قلت لك»!

الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/166»: «نحن بنو هاشم، وشيعتنا العرب وسائر الناس الأعراب...نحن قريش، وشيعتنا العرب، وسائر الناس علوج الروم».

وقال الصادق (علیه السلام) «الكافي: 8/316»: «والله لايحبنا من العرب والعجم إلا أهل البيوتات والشرف والمعدن، ولا يبغضنا من هؤلاء وهؤلاء إلا كل دَنِسٍ مُلْصَق».

ص: 56

الفصل الثالث: اليهود في الجزيرة العربية

1- هاجر اليهود إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود

هاجر جماعات من اليهود مع أحبارهم بعد المسيح (علیه السلام) إلى الجزيرة العربية، بانتظار النبي الأخير الذي وعدهم أنبياؤهم:بأنه سيظهر فيها.

قال إسحاق بن عمار «الكافي: 8/310»: «سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟ قال: كانوا قوماً فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام بالنبي (صلی الله علیه و آله) ويقولون: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم، وليفعلن بكم وليفعلن، فلما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفروا به».

وفي الكافي: 8/308، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد (صلی الله علیه و آله) ما بين عير وأحد، فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حَداد فقالوا: حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرَّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عير وأحد، فقال له: إذا مررت بهما فآذنَّا بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذاك عير وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا: قد أصبنا بغيتنا، فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت! وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك

ص: 57

فما أسرعنا إليكم. فاتخذوا بأرض المدينة الأموال، فلما كثرت أموالهم بلغ تُبَّعٌ فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم، وكانوا يَرِقُّونَ لضعفاء أصحاب تُبَّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير، فبلغ ذلك تُبَّع فرقَّ لهم وآمنهم، فنزلوا إليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم فقالوا له: إنه ليس ذاك لك، إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم: إني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم: أما لو قد بعث محمد ليخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله عزوجل محمداً (صلی الله علیه و آله) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله عزوجل: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ».

أقول: يدل هذا الحديث على أن اليهود كانوا في المدينة قبل الأوس والخزرج، وقد تحالفوا، لكن الأنصار صاروا أقوى منهم لمحيطهم العربي، فاحتاج اليهود إلى أن يتحالفوا معهم ويكونوا في جوارهم.

وفي المحتضر/276، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «إن الله تعالى أخبر رسوله (صلی الله علیه و آله) بما كان من إيمان الأمم السابقة. وإن اليهود قبل ظهوره كانوا يستفتحون على أعدائهم بذكره والصلاة عليه، وكان الله عزوجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمرٌ ودهمتهم داهية أن يدعوا الله بمحمد وآله (صلی الله علیه و آله)، وكانوا يفعلون ذلك ويستنصرون به، حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور النبي (صلی الله علیه و آله) بسنين كثيرة يفعلون ذلك، ويكفون البلاء والداهية الدهياء».

وفي تفسير القمي: 1/32: «فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجئ النبي (صلی الله علیه و آله): أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون هجرته بالمدينة، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار عُرْيَةً، وهو الضحوك القتال، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى. يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر، وليقتلنكم الله به يا معشر العرب قتل

ص: 58

عاد، فلما بعث الله نبيه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /393: «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): وكانت اليهود قبل ظهورمحمد (صلی الله علیه و آله) بعشر سنين تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين، حتى قصدتهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة، فتلقاهم اليهود وهم ثلاث مائة فارس، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين فهزموهم وقطعوهم...فلما ظهر محمد (صلی الله علیه و آله) حسدوه، إذ كان من العرب، فكذبوه»!

وفي الدر المنثور: 1/88: «كانت يهود بني قريظة والنضير قبل أن يبعث محمد يستفتحون الله به يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم، فينصرون»! والإستفتاح على العدو: طلب النصر عليه، ويشمل الإستعانة عليه بأحد، أو شيء، أو دعاء.

وجبل حَدَد «معجم البلدان: 2/229» «مطل على تيماء..قال النابغة: ساق الرفيدات من جَوْشٍ ومن حَدَدِ» واحتمل المجلسي تصحيفه عن حداد، وقد يكون الشاعر خففه.

هذا، وقول أهل البیت (علیهم السلام) إن هجرة اليهود إلى الجزيرة كانت بعد المسيح (علیه السلام) يرد ما زعمه بعض الكتاب الغربيين من أنه كان في الجزيرة مواطنون يهود كأبناء إسماعيل (علیه السلام) . كما أن تُبَّعاً ملك اليمن والعرب،كان بعد عيسى (علیه السلام) وقد أسكن الأنصار في المدينة، فكثروا فهابهم اليهود وتحالفوا معهم.

2- أخبر اليهود العرب بولادة النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)

اشتهر خبر الحاخام يوسف اليهودي من مكة، ففي كمال الدين/196، عن علي بن إبراهيم عن رجاله: «كان بمكة يهودي يقال له يوسف، فلما رأى النجوم يقذف بها وتتحرك قال: هذا نبي قد ولد في هذه الليلة، وهو الذي نجده في كتبنا

ص: 59

أنه إذا ولد وهو آخر الأنبياء، رُجمت الشياطين وحجبوا عن السماء.

فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟قالوا: لا.قال: أخطأكم والتوراة، ولد إذاً بفلسطين، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم! فتفرق القوم فلما رجعوا إلى منازلهم أخبر كل رجل منهم أهله بما قال اليهودي فقالوا: لقد ولد لعبدالله بن عبدالمطلب ابنٌ في هذه الليلة، فأخبروا بذلك يوسف اليهودي فقال لهم: قبل أن أسألكم أو بعده؟ قالوا: قبل ذلك، قال: فاعرضوه عليَّ، فمشوا إلى باب آمنة فقالوا: أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي، فأخرجته في قماطه فنظر في عينيه، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء بين كتفيه وعليها شعرات، فلما نظر إليه وقع على الأرض مغشياً عليه، فتعجب منه قريش وضحكوا منه فقال: أتضحكون يا معشر قريش، هذا نبي السيف، ليبيرنكم، وقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد..الخ.».

كما انتشر بين العرب خبر بَحِيرا الراهب الآتي، وإخباره بنبوة نبينا (صلی الله علیه و آله) وتحذيره عمه أباطالب (رحمة الله) من خطر اليهود عليه! ومن جهة أخرى: ملأت آذان الأوس والخزرج بشائر حلفائهم اليهود بالنبي (صلی الله علیه و آله)، فكان ذلك سبب إيمانهم به. وروت المصادر قصة أسعد بن زرارة، أحد زعماء الأوس، لما ذهب إلى مكة ليتحالف مع قريش ضد الخزرج، فرأى النبي (صلی الله علیه و آله) وأسلم:

قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/138: «وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم النضير وقريظة وقينقاع، أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب..

فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله...والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ويبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلا لطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له»!

ص: 60

3- سبب معاداة اليهود للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من بني إسماعيل!

صرح اليهود بأن سبب عدائهم للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من غيرهم وهم يريدونه منهم! وقد أغمي على الحاخام يوسف لما ولد (صلی الله علیه و آله) لأن النبوة كما قال: ذهبت من

بني إسرائيل إلى الأبد! «وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل»! أسباب النزول/17.

وطلبوا منه (صلی الله علیه و آله) أن يعلن أنه رسولٌ خاص لهم ليؤمنوا به!

ففي أمالي الصدوق/ 254، عن علي (علیه السلام): «جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا محمد، أنت الذي تزعم أنك رسول الله، وأنك الذي يوحى إليك كما أوحي إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) ساعة، ثم قال: نعم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين.

قالوا: إلى من، إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا؟ فأنزل الله عزوجل هذه الآية: قُلْ «يا محمد» يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً».

ونشط اليهود من أول بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) في تعليم قريش الخطط لعدائه (صلی الله علیه و آله) وقتله! فكانوا يتبادلون معهم المشورة. ففي تفسير الطبري: 15/238: «بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء».

وتطور تعاونهم حتى وصل إلى تحشيد الأحزاب لغزو المدينة واستئصال محمد وبني عبدالمطلب، بزعمهم.ثم واصلوا عملهم مع قريش بعد هزيمة الأحزاب، وكانوا يضعون الخطط لقتله (صلی الله علیه و آله) وأخذ خلافته، وإبعاد عترته!

لذا يجب علينا في دراسة السيرة رصد نشاط اليهود في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وتأثيرهم على قادة قريش، ورصد مجموعة الصحابة الذين كانوا يدرسون عندهم، ويتصلون بهم وقد ابتكر لهم النبي (صلی الله علیه و آله) إسم «المُتَهَوِّكِين» وحذر المسلمين منهم!

ص: 61

وقوله تعالى يكشف اتفاقية سرية بين قريش واليهود ضد النبي (صلی الله علیه و آله)! قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.

محمّد: 25-26.

وقد بقي اليهود في جزيرة العرب خمسة قرون، وتكلموا العربية، وكان العرب يحترمونهم ويرجعون إليهم في مسائل التنبؤ بالمستقبل، واستمر ذلك في الصحابة حتى بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)!

فقد كانت عائشة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) وأبوها معجبين بالثقافة اليهودية!

روى مالك في الموطأ: 2/943: «أن أبابكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها! فقال أبوبكر: إرقيها بكتاب الله». فهي تثق بدعاء العجوز اليهودية أكثر مما تثق بنفسها وما علمها النبي (صلی الله علیه و آله)! وسواء قصد أبوها: إرقيها بكتاب الله، القرآن، أو التوراة، فهو يعلن أن اليهودية بمستوى أن ترقي زوجة النبي (صلی الله علیه و آله)!

وقد قلد فقهاء السلطة عائشة وأفتوا بأنه يجوز للمسلم أن يسترقي اليهودي!

والخلاصة: أن اليهود كانوا مقربين ولهم كلمتهم في «دار الخلافة» في المدينة، وفي «بلاط الخلافة» بالشام. وكان حاخاماتهم مستشارين ثقافيين وسياسيين للخليفة، فأثروا في سياسة الدولة وفي ثقافة الأمة تأثيراً كبيراً!

4- كتب النبي (صلی الله علیه و آله) عهداً مع اليهود للتعايش

عندما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة،كتب مع فئات اليهود معاهدة تعايش:

أما بنو قينقاع الصاغة، فنقضوا الصلح، فسار إليهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد عشرين يوماً من وقعة بدر، فتحصنوا فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكمه فأوثقهم كتافاً، ووهبهم لحليفهم المنافق عبدالله بن سلول، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وكانوا ست مئة مقاتل.

وأما بنو النضير، فتآمروا على النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر، فبعث

ص: 62

إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، فأرسل إليهم عبدالله بن أبي، أن لاتخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يموتون دونكم وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي (صلی الله علیه و آله): إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك! فكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكبر أصحابه!

وأمر علياً (علیه السلام) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم، ولم ينصرهم عبدالله بن أبيّ، ولا بنو قريظة، ولاحلفاؤهم من غطفان!

وبعد أيام من الحصار قالوا للنبي (صلی الله علیه و آله): نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال: لا، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل، فخرجوا إلى وادي القرى والشام.

وأما بنو قريظة، فبقوا على صلحهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) حتى ذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب، ثم تجولوا على قبائل نجد والجزيرة يحثونهم على حرب النبي (صلی الله علیه و آله)، ويعدونهم بتمر خيبر.

وعندما حاصرالأحزاب المدينة مزق بنو قريظة عهدهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) لكنهم طلبوا من الأحزاب رهائن حتى لا يذهبوا ويتركوهم وحدهم مقابل النبي، فلم يعطوهم، ولما انهزم الأحزاب سار إليهم النبي (صلی الله علیه و آله) فحاصرهم حتى نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ، فحكم بقتل من حرض منهم وكانوا ثلاث مئة.

وأما يهود خيبر، فكانوا أكبر قوة لليهود، وقد شاركوا في مؤامراتهم على النبي (صلی الله علیه و آله) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة، وأخضعهم وانتصرعليهم.

ص: 63

الفصل الرابع: مكانة الكعبة عند العرب

1- بَوَّأَ الله الكعبة لإبراهيم وذريته (علیهم السلام) وسماهم الأمة المسلمة

فقد استجاب الله دعاء إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله) لما بنىا البيت فقالا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

وهذه الأمة من ذرية إسماعيل (علیه السلام) لا تنطبق إلا على النبي والأئمة من آله (صلی الله علیه و آله) . وقد روى الثقفي في الغارات: 1/200، رسالة علي (علیه السلام) لمعاوية، وفيها: «ولكل نبي دعوة في خاصة نفسه وذريته وأهله.قال إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله) وهما يرفعان القواعد من البيت (علیهم السلام) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، فنحن الأمة المسلمة. وقالا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ.فنحن أهل هذه الدعوة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) منا ونحن منه،بعضنا من بعض وبعضنا أولى ببعض في الولاية والميراث: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وفي الكافي: 5/14 أن الإمام الصادق (علیه السلام) حصرالأمة المأذون لها بالدعوة في قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ. بالأمة المسلمة من ذرية إبراهيم (علیه السلام) فقال: «ثم أخبر عن هذه الأمة ومن هي وأنها من ذرية إبراهيم وذرية إسماعيل (علیهما السلام) من سكان الحرم، ممن لم يعبدوا غير الله قط! الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس».

ص: 64

وفي كتاب سليم/406: «إنا أهل بيت دعا الله لنا أبونا إبراهيم (علیه السلام) فقال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ،فإيانا عنى الله بذلك خاصة.ونحن الذين عنى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. إلى آخر السورة، فرسول الله الشاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحججه

في أرضه».

وفي الكافي: 1/392 أن الإمام الباقر (علیه السلام): «نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية! إنما أمروا أن يطوفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيُعْلِمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم! ثم قرأ هذه الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ». أي لم يقل: إليها!

وفي تفسير العياشي: 2/233، عنه (علیه السلام) قال: «ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه، وأن يلقونا حيث كنا، نحن الأدلاء على الله».

وفي دعائم الإسلام: 1/31، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لم يكن من الأمم السالفة والقرون الخالية والأسلاف الماضية ولا سمع به أحد أشد ظلماً من هذه الأمة، فإنهم يزعمون أنه لافرق بينهم وبين أهل بيت نبيهم (صلی الله علیه و آله) ولا فضل لهم عليهم، فمن زعم ذلك من الناس فقد أعظم على الله الفرية وارتكب بهتاناً عظيماً وإثماً مبيناً! وهو بذلك القول برئ من محمد وآل محمد حتى يتوب ويرجع إلى الحق بالإقرار بالفضل لمن فضله الله عزوجل عليه...فأصحاب دعوة إبراهيم وإسماعيل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (علیهم السلام)، ومن كان متولياً لهؤلاء من ولد إبراهيم وإسماعيل فهو من أهل دعوتهما، لأن جميع ولد إسماعيل قد عبدوا الأصنام، غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وكانت دعوة إبراهيم وإسماعيل لهم».

يقصد (علیه السلام) أصول هذا الفرع وهو فرع عبدالمطلب إلى إسماعيل:.

ص: 65

2- أولياء الكعبة هم إبراهيم وذريته المنصوص عليهم (علیهم السلام)

قال الله تعالى: جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْىَ وَالقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. إِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. المائدة: 97-98.

إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ. آل عمران: 96-97.

وَإِذْ بَوَأْنَا لآبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ. لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ.الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالمُقِيمِى الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلادِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ. الحج: 25-37.

3- الإمامة عهد الله لإبراهيم وإسماعيل وبعض ذريتهما (علیهم السلام)

قال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا

ص: 66

العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. الأنفال: 34-35.

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ. البقرة: 124-131.

4- نصوص التوراة عن إسكان إبراهيم ذريته في مكة

تقول التوراة الموجودة إن سارة حسدت ضرتها هاجر، فطلبت من إبراهيم (علیه السلام) أن يطردها مع طفلها! فطردهما إلى برية سيناء، ثم سكنا في برية فاران، أي مكة!

وتؤكد توراتهم أن عهد الله تعالى بالإمامة والخلافة في الأرض، إنما كان لإبراهيم وابنه إسحاق وذريته، ولا يشمل إسماعيل وذريته أبداً!

تقول الفقرات /25-30 من العهد القديم: «قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو إسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد. وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية... ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح، فقالت

ص: 67

لإبراهيم: أطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لايرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة إسمع لقولها، لأنه بإسحق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك.

فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر، واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس، لأنها قالت لا أنظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: مالك يا هاجر لا تخافي، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي إحملي الغلام وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران، وأخذت له أمةً زوجةً من أرض مصر».

وفي نص آخر: «وبعد أن حملت سارة نظرت إلى سيدتها باحتقار،لأنها كانت عاقراً، فطردتها سيدتها، ولاقاها ملاك الرب في الطريق وأمرها أن ترجع إلى سيدتها وإلى بيت إبراهيم، ووعدها بأنها ستلد إبناً تسميه إسماعيل، وأنه يكون أباً لجمهور من الناس وأنه سيسكن البرية كحمار وحشي»! قاموس الكتاب المقدس/74 تك: 16 5-14

وفي سفر التثنية/إصحاح: 33: «وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم».

وفي سفر حيقوق/إصحاح: 3: «الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع. وهناك استتار قدرته».

وسيناء: محل نزول الوحي على موسى. وسعير: محل بعثة عيسى. وفاران: جبال مكة

ص: 68

التي تلألأت بنبوة محمد (صلی الله علیه و آله)! وهي حجة واضحة لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) .

وفي التوراة والإنجيل/1140 موقع: arabicbible: «ستبيتين في صحاري بلاد العرب يا قوافل الددانيين. فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان واستقبلوا الهاربين بالخبز. لأنهم قد فروا من السيف المسلول والقوس المتوتر ومن وطيس المعركة. لأنه هذا ما قاله لي الرب: في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قلة. لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم».

هذا كل ما أوردته توراتهم عن سكن إسماعيل (علیه السلام) في مكة، وقد أهملت عن عمد تجديد إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) بناء الكعبة! لأنه يكشف التخطيط الرباني للأمة الآخرة من ذرية إسماعيل:، وإخبار بأن الله سينقل النبوة اليهم.

5- وفرة أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) في الكعبة وإبراهيم وإسماعيل (علیهم السلام)

أما أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) فبينت مكانة الكعبة، وأن أصلها كان قبل آدم (علیه السلام)، وأنها نزلت على آدم (علیه السلام) ياقوتة حمراء وكانت قواعدها زبرجدة خضراء، ثم عفيت بعد نوح، فأمر الله تعالى إبراهيم (علیه السلام) أن يسكن عندها طفله إسماعيل وأمه هاجر (علیهما السلام)، وبعث جبرئيل (علیه السلام) فاحتفر بئراً لشرابهم وشراب الحاج.

ثم أمر الله إبراهيم (علیه السلام) أن يجدد بناءها مع ابنه إسماعيل (علیه السلام) عندما صار يافعاً فجدداها، وأمره أن يدعو الناس إلى حجها، ويريهم مناسكهم، فدعا الناس واستجابوا له وحج بهم، ثم أمره الله تعالى أن يذبح إسماعيل فأطاعه، وفداه الله بكبش كما قَصَّ القرآن.

وتزوج إسماعيل (علیه السلام) من قبيلة جرهم العربية، ثم توفيت أمه هاجر (علیهما السلام) فدفنها في المسجد عند الكعبة، وأمره الله أن يجعل حول قبرها حِجْراً لئلا يدوسه الناس، وأدخله في المطاف!

كما بينت الأحاديث تقديس العرب للكعبة، والتزامهم بالعمرة في رجب وبالحج في ذي الحجة.. إلى عشرات العناوين والتفصيلات عن الكعبة ومكانتها،

ص: 69

وعن آل إبراهيم علیهم السلام.الكافي: 4/201، علل الشرائع: 2/586 وتفسير القمي: 1/60.

وروت شبيهاً بها مصادر السنة كالبخاري: 4/114.لكنها تأثرت بالإسرائيليات.

6- عقيدة العرب بالكعبة

يتعجب الإنسان كيف استطاع إبراهيم صلوات الله عليه أن يجمع العرب على تقديس الكعبة والحج اليها، مع أنه لم يكن حاكماً عليهم ولا كان يعيش بينهم!

فلا بد من القول بوجود إعجاز رباني في الأمر، وجه العرب إلى البيت الذي بناه هذا القديس البابلي، الذي أحرقه نمرود فلم يحترق!

وقد نصت على ذلك أحاديث النبي وأهل بيته (صلی الله علیه و آله)، في تفسير قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ.

وقد أسمع الله دعوة إبراهيم (علیه السلام) حتى لمن كانوا في أصلاب آبائهم: قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي4/205»: «فقال: أيها الناس إني إبراهيم خليل الله، إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة،وكان أول من أجابه من أهل اليمن».

وقال الإمام الباقر (علیه السلام) «علل الشرائع2/420»: «صار بإزاء أبي قبيس فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، إلى أن تقوم الساعة».

وروى نحوه الحاكم وصححه: 2/389: «يا أيها الناس كتب عليكم الحج حج البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض».

وسرعان ما تحققت المعجزة وصارت مكة موسماً في ذي الحجة وفي رجب، ومجمعاً لقبائل العرب وسوقاً رأوا فيه المنافع التي قال الله عنها: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. وكان إسماعيل وأبناؤه، وأصهاره من قبيلة جرهم، يخدمون الحجاج ويعلمونهم الحج والعمرة.

ص: 70

وكان ملوك التبابعة يحترمون الكعبة، قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 4/215»:

«إن تُبَّعًا لما أن جاء من قبل العراق وجاء معه العلماء وأبناء الأنبياء، فلما انتهى إلى هذا الوادي لهذيل أتاه أناس من بعض القبائل فقالوا: إنك تأتي أهل بلدة قد لعبوا بالناس زماناً طويلاً حتى اتخذوا بلادهم حرماً وبَنِيَّتَهم رباً أو ربةً! فقال: إن كان كما تقولون قتلت مقاتليهم وسبيت ذريتهم وهدمت بنيتهم. قال: فسالت عيناه حتى وقعتا على خديه! قال: فدعى العلماء وأبناء الأنبياء فقال: أنظروني وأخبروني لما أصابني هذا؟ قال: فأبوا أن يخبروه حتى عزم عليهم قالوا: حدثنا بأي شئ حدثت نفسك؟قال: حدثت نفسي أن أقتل مقاتليهم وأسبي ذريتهم وأهدم بنيتهم! فقالوا: إنا لا نرى الذي أصابك إلا لذلك، قال: ولم هذا؟ قالوا: لأن البلد حَرَم الله والبيت بيت الله، وسكانه ذرية إبراهيم خليل الرحمن. فقال: صدقتم فما مَخرجي مما وقعت فيه؟ قالوا: تُحدث نفسك بغير ذلك، فعسى الله أن يرد عليك، قال: فحدث نفسه بخير، فرجعت حدقتاه حتى ثبتتا مكانهما قال: فدعى بالقوم الذين أشاروا عليه بهدمها فقتلهم، ثم أتى البيت وكساه وأطعم الطعام ثلاثين يوماً،كل يوم مائة جزور، حتى حملت الجفان إلى السباع في رؤوس الجبال، ونثرت الأعلاف في الأودية للوحوش، ثم انصرف من مكة إلى المدينة فأنزل بها قوماً من أهل اليمن من غسان وهم الأنصار».

وكانت بعض قبائل العرب لا تحج البيت وهم الغساسنة في الشام وغيرهم ممن تنصروا، ونصارى نجران، وقسم من طئ على مشارف الشام، وكان القياصرة ومن والاهم يبذلون جهداً ليثنوا العرب عن الحج إلى الكعبة.

وكان من أهداف طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة، وهاجم المدينة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بستين يوماً، بعشرين ألف مقاتل، فنهض علي (علیه السلام) وتلاميذه وهاجموهم ليلاً، وقتل قائدهم وهزمهم.

وقال (علیه السلام) عن تلك الفترة: «حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام تدعو إلى محق دين محمد (صلی الله علیه و آله) وملة إبراهيم (علیه السلام)».

ص: 71

أي يريدون إزالة الإسلام، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي من ملة إبراهيم (علیه السلام)! كشف المحجة / 176، راجع قراءة جديدة في حروب الردة للمؤلف.

وكان قيصر يؤيد ردة بني أسد ومن معهم من طئ، لأنه كان يتهيأ لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) ويُحَضِّرُ دولة الغساسنة، وأبا عامر الفاسق وجماعته في المدينة، والأكيدر الكندي في دومة الجندل، وقد وثَّق ملك الشام الغساني علاقته بطيئ حتى تنصرعدي بن حاتم، وأهدى قيصر سيوفاً ثمينة لصنمي طيئ، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً وجاء بأسرى من طيئ! فلا بد أن قيصراً شجع طليحة على حملته!

ومع ذلك، فإن أكثرية قبائل العرب وجمهرتها كانت تؤمن بالكعبة وتحج اليها.

7- أما الأكاسرة الفرس فكان بعضهم يقدسون الكعبة

ذكر المسعودي في مروج الذهب: 1/265 وغيره من المؤرخين، أن ساسان بن بابك ملك الفرس حج إلى الكعبة وكان يعتقد بها، وكان يدعي أنه من ذرية إبراهيم (علیه السلام)، قال: «وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدرالزمان وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا، أهدى غزالَيْن من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً». حتى غلبت خزاعة جرهماً فرمى الحارث بن مضاض الغزالين في زمزم، ودفنها فضاع أثرهما، حتى استخرجهما عبدالمطلب (علیه السلام) .

وقد يكون ساسان أهدى إلى الكعبة لكسب قلوب قبائل العرب، لأن الأكاسرة المتأخرين كانوا لا يقدسونها.

ص: 72

الفصل الخامس: آباء النبی (صلی الله علیه و آله) موحدون لكن السلطة كَفَّرتهم!

1- لماذا أصر«الخلفاء» على تكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله)

السبب: أنهم إذا اعترفوا بأن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) مؤمنون، فهم ورثة إسماعيل وإبراهيم (علیهما السلام)، فيكون الوارث عبدالمطلب ثم النبي (صلی الله علیه و آله) ثم أبوطالب وعلي (علیه السلام) فلايبقى لخلفاء قريش شئ! لذلك اخترعوا أن يساووا بين آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وآبائهم الذين قاوموه وكفروا به، فقالوا إنهم جميعاً كفار ولا أحد أولى بوراثة النبي (صلی الله علیه و آله)، فكل قرشي مثل كل هاشمي له الحق أن يرث سلطانه (صلی الله علیه و آله)!

وهم صادقون بحق آبائهم، فتاريخهم غير مشرف وأكثرهم لعنهم النبي (صلی الله علیه و آله) .

وقد وصل عدوانهم إلى أوْجِهِ فزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن آباءه كفار في النار! وكذب عليه أنس فقال إن رجلاً سأله، صحيح مسلم1/133: «يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار»!

وقال السهيلي في الروض الأنف: 1/194: «وفي الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه و آله وسلم قال: استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي. وفي مسند البزار من حديث بريدة أنه حين أراد أن يستغفر لأمه، ضرب جبريل في صدره وقال له: لاتستغفر لمن كان مشركاً، فرجع وهو حزين».

فانظر إلى هذه الخشونة التي وصفوا بها الله الرحمن الرحيم، ورسوله (صلی الله علیه و آله)!

ص: 73

والعجيب أن أكثرهم صحح أحاديث الطعن في آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يردَّها إلا قليل من علمائهم المتأخرين!

قال الصالحي في سبل الهدى: 1/260: «قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم: وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وسئل القاضي أبوبكر بن العربي أحد الأئمة المالكية (رحمة الله) عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟ فأجاب: بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار»!

وعلى قوله فمسلم صاحب الصحيح ملعون لأنه نسب ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ومن العجيب أن الطاعنين أنفسهم اعترفوا ببطلان قولهم، حيث رووا أن الله تعالى اختار بني هاشم وميزهم على قريش، ولا يمكن أن يختارهم وهم كفارٌ!

وقد عقد الهيثمي باباً فی «مجمع الزوائد 8/215» في كرامة أصل النبي (صلی الله علیه و آله) روى فيه عن ابن عباس ووثقه أن معنى قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ: من صلب نبي إلى نبي حتى صرت نبياً. فدل ذلك على أن كل آبائه مؤمنون أنبياء، ولو لأنفسهم! ثم روى غضب النبي (صلی الله علیه و آله) لقول أحدهم: «إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن! وقول أحدهم: إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكَبا«المزبلة»! فقال (صلی الله علیه و آله): أيها الناس من أنا؟ قالوا أنت رسول الله، قال: أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. ألا إن الله عزوجل خلق خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً و

خيرهم نفساً».

وفي الدر المنثور: 3/294 والمستدرك: 4/73 والخصال/36: «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة، فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني

ص: 74

هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب».

ورد النبي (صلی الله علیه و آله) على حقد القرشيين رداً عنيفاً قاصماً، فقال لهم وهو على المنبر: فليسألني الطاعن بأسرتي: إبنُ مَن هو؟! فسأله صحابي عن أبيه، فقال له: إن أباك فلان الراعي! وكانت أول مرة يَجْبَهُ فيها أحداً بمثل هذا!

لكن القرشيين لا يرتدعون ولا تنكسر أعينهم، فقد أصروا على الإنتقاص من آبائه (صلی الله علیه و آله) لينفوا وراثتهم لإبراهيم (علیه السلام)! راجع: العقائد الإسلامية: 3/275.

2- تفرد مذهبنا بعقيدة إيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله)

قال المفيد في أوائل المقالات/45:«اتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله (صلی الله علیه و آله) من لدن آدم إلى عبدالله بن عبدالمطلب:مؤمنون بالله عزوجل موحدون له. واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار،قال الله عزوجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا. وأجمعوا على أن عمه أباطالب مات مؤمناً، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنها تحشر في جملة المؤمنين».

قال أبو حيان «البحر المحيط: 7/47»: «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين».

وقد وافقنا غيره من علمائهم فصاروا رافضة في هذا الموضوع، مثل الماوردي، والرازي في كتابه أسرار التنزيل، والسنوسي، والقاضي عياض، والتلمساني شارح الشفاء، وألف السيوطي رسائل لإثبات إيمانهم.الصحيح: 2/186.

والصحيح عندي أن آباءه (صلی الله علیه و آله) كانوا على دين إبراهيم (علیه السلام)، وأن الله كلفهم بالحنيفية ولم يكلفهم باليهودية ولا المسيحية، وقد ثبتوا على حنيفية إبراهيم (علیه السلام)، بينما انحرفت عنها قبائل قريش الأخرى.

والأدلة على ذلك عديدة، منها ما رواه الأصبغ بن نباتة (رحمة الله) قال: «سمعت

ص: 75

أميرالمؤمنين صلوات الله عليه يقول: والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولاعبدمناف، صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.

ويؤيده ما رواه البخاري: 2/98: «لما حضرت أباطالب الوفاة جاءه رسول الله

صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أباجهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أباطالب أترغب عن ملة عبدالمطلب!

فلم يزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبوطالب:

آخر ما كلمهم هو على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

ومع أن رواية البخاري عندنا مكذوبة، لكنا نستشهد باعترافها بأن أباطالب قال إنه على ملة عبدالمطلب، أي ملة إبراهيم (علیه السلام) .

وفي تفسيرابن عطية: 4/293: «أنا على ملة عبدالمطلب والأشياخ». «ونحوه تفسير الثعلبي: 5/100 وأسباب النزول /178». ويبدو أن كلمة الأشياخ أضافها رواة السلطة وقصدهم بهم أشياخ قريش، لا أشياخ أبي طالب بمعنى آبائه:.

وقد رووا أن أشياخ قريش سألوا أباطالب: هل أسلم؟ فكان يقول لهم: أنا على ملة عبدالمطلب أو ملة إبراهيم (علیه السلام)، ليخفف من عدائهم إذا قال لهم إنه أسلم.

ومما يدل على كذب رواية البخاري أن أباجهل لم يحضروفاة أبي طالب، وأن آية: مَا كَان لِلَّنِبيِّ.. لم تنزل يومها بل هي من سورة التوبة التي نزلت في رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك في السنة التاسعة، أي بعد وفاة أبي طالب (علیه السلام) بأكثر من عشر سنين.

وفي كمال الدين/171: «كان عبدالمطلب وأبوطالب (علیهما السلام) من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبي (صلی الله علیه و آله) وكانا يكتمان ذلك عن الجهال وأهل الكفر والضلال».

وفي الكافي: 1/444 من خطبة للإمام الصادق (علیه السلام): «تُبشر به كلُّ أمة مَن بعدها،

ص: 76

ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح، ولم ينجسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إلى أبيه عبدالله، في خير فرقة، وأكرم سبط، وأمنع رهط، وأكلأ حمل، وأودع حِجْر».

جَدَّا النبي (صلی الله علیه و آله) هاشم وعبدالمطلب

1- تفوُّق هاشم جد النبي (صلی الله علیه و آله) على قريش

فقد أسس هاشم (علیه السلام) رحلتي الشتاء والصيف. قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية /3: «أول من رفع الله تعالى من قريش قبل النبوة أربعة: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل. خرج هاشم في ألف من قريش إلى الشام، فأخذ من قيصر ملك الروم عهداً لقريش ليتجروا في بلاده. وخرج المطلب إلى اليمن فأخذ من ملوك اليمن عهداً لهم، وركب نوفل البحر فأخذ لهم من النجاشي عهداً».«كان هاشم يُدعى القمر، ويسمى زادُ الركب».عمدة الطالب/25.

«وكان يقال لهاشم والمطلب: البدران لجمالهما». الكامل لابن الأثير: 2/17.

«وكان هاشم أول من سنَّ الرحلتين، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن، والى الحبشة فيكرمه النجاشي، ويرحل في الصيف إلى الشام وبها مات، وربما وصل إلى أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه. ومن خصال بني هاشم ما عبرعنها علي بن أبي طالب: خصصنا بخمس: فصاحة، وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة». قبائل العرب لكحالة: 3/1207، في مصادره ابن خلدون: 2/328 والطبري: 5/23 و 9/48.

وقد مَنَّ الله على قريش بفعل هاشم (علیه السلام) فقال: لإيلافِ قُرَيْشٍ.إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ.الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.

لكن قريشاً لاتشكر نعم ربها، ولذلك رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقرأ السورة فيقول: ويلُ أمكم قريش، رحلةَ الشتاء والصيف! في موضع: لإيلافِ قُريش». تاريخ دمشق23/228، الزوائد 7/143،كبير الطبراني 24/178وأحمد 6/460.

وأسس هاشم إطعام الحجيج: «إنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحاج، وكانت

ص: 77

إليه الوفادة والرفادة، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي:

عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه *** ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عجافُ».

«أصاب الناس سنة جدب شديد، فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقاً وكعكاً، وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر، وجعله ثريداً وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمى بذلك هاشماً، وكان يقال له: أبو البطحاء وسيد البطحاء».الطبري: 2/8 واليعقوبي: 1/245.

وفي العدد القوية/140: «كان لهاشم خمسة بنين: عبدالمطلب وأسد ونضلة وصيفي وأبوصيفي. وسُمِّيَ هاشماً لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة، وكنيته أبو نضلة، وإسمه عمرو العلى. قال ابن الزِّبَعْرَى:

كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ *** فالمخُّ خالصُها لعبد مُناف

الرايشون وليس يوجد رايشٌ *** والقائلونَ هلمَّ للأضياف

والخالطونَ فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكافي

عمرو العلى هشمَ الثريد لقومه *** ورجالُ مكة مسنتون عجافِ

2- أمية وهاشم يشبهان قابيل وهابيل

نصَّت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) على أن الله تعالى أمر آدم أن يوصي لابنه الأصغر هابيل (علیهما السلام)، فأوصى له فحسده قابيل، فتباهلا بالقربان فتقبل الله قربان هابيل دون قابيل، فزاد حسد قابيل لأخيه حتى قتله!

ففي تفسير العياشي: 1/312: «عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما؟ فقال له: يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أن تروى هذا على نبي الله آدم! فقلت: جعلت فداك ففيمَ قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية. ثم قال لي: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية وإسم الله الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية! فأمرهما أن يقربا قرباناً

ص: 78

بوحيٍ من الله إليه ففعلا، فقبل الله قربان هابيل، فحسده قابيل فقتله!

فقلت: جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم، هل كانت أنثى غير حواء، وهل كان ذكر غير آدم؟ فقال: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل وكان بكر ولده، ومن بعده هابيل، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل ففعل ذلك آدم، ورضي بها قابيل وقنع، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء، وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل ففعل ذلك.

فقُتل هابيل والحوراء حامل فولدت الحوراء غلاماً فسماه آدم هبة الله، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم.

وولدت حواء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث ابن آدم، ففعل فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما. فمات هبة الله بن هابيل فأوحى الله إلى آدم أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم، وما أظهرتك عليه من علم النبوة، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم. فهذا حديثهم يا سليمان».

أقول: إن حال هاشم وأخيه أمية شبيهة بحال قابيل وهابيل، فقد اتفق المؤرخون على نُبل هاشم (علیه السلام) وتميزه، وأن أباه عبدمناف أوصى له بمفتاح البيت ومواريث إسماعيل (علیه السلام): «وكان مناف وصَّى إلى هاشم، ودفع إليه مفتاح البيت وسقاية الحاج، وقوس إسماعيل».العدد القوية/140.

وقال الطبري: 2/13: «ووليَ هاشم بعد أبيه عبدمناف، السقاية والرفادة». وروت المصادركلها أن أخاه أمية حسده وعاداه، ودعاه إلى المنافرة! ومعنى المنافرة أن يحتكم المتنافران إلى كاهن أو حكيم يقبلان بحكمه!

قال الطبري: 2/1: «فحسده أمية بن عبد شمس بن عبدمناف، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب

ص: 79

ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة! فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تَدَعْهُ قريش وأحفظوه، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفَّر هاشماً عليه «حكم لهاشم أنه أفضل» فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية..وتوارث ذلك بنوهما».

وروى الطبري: 2/13، أنهما تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة و«أن عبد شمس وهاشماً توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك فقيل: تكون بينهما دماء»!

وروى ابن عساكر: 9/220 قصة المعمر اليماني مع معاوية: «قال معاوية: إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس، يخبرنا عما رأى، فقال بعض جلسائه: ذلك رجل بحضرموت! فأرسل إليه فأتيَ به فقال له...فأخبرني هل رأيت هاشماً؟ قال: نعم رأيته رجلاً طوالاً حسن الوجه، بين عينيه غرة بركة. قال: فهل رأيت أمية؟ قال: نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى، يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً! قال: فهل رأيت محمداً؟ قال: من محمد؟قال: رسول الله، قال: ويحك ألا فخَّمته كما فخمه الله فقلت رسول الله (صلی الله علیه و آله)! قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلاً تاجراً. قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيباً، ولا أرد ربحاً! قال له: سلني، قال: أسألك أن تدخلني الجنة»!

وقالوا: «مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت».«معجم البلدان: 4/202، 3/40». وفي طبقات ابن سعد: 1/78: «فاشتكى، فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه بغزة، ورجعوا بتركته إلى وُلده».

لكن الظاهر أن عمره (رحمة الله) كان في الستينات كما يشير قول الراوي: ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره.ويؤيد قولنا أنه أنشأ علاقات مع ملوك عصره، وكانت له سفرات إلى الحبشة والشام واليمن، ووصل إلى أنقرة فأكرمه قيصر.

ص: 80

والمرجح أن أعداءه سقوه السم لأنه أول رجل من أولاد إسماعيل (علیه السلام) كانت له زعامة مطلقة في العرب واحترام من ملوك عصره. وكان لحاسده أمية علاقات باليهود، فقد يكون دبَّر سُمَّه على يد أصدقائه اليهود.

قال ابن قتيبة في المعارف/319: «كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فوقع على أمَةٍ لِلَخْم يهودية من أهل صفورية يقال لها ترنا، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستلحقه، وكناه أبا عمرو ثم قدم به مكة، فلذلك قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعقبة يوم أمر بقتله: إنما أنت يهودي من أهل صفورية»!

وفي رواية: «فقال عقبة: يا محمد ناشدتك بالله والرحم! فقال له (صلی الله علیه و آله): وهل أنت إلا علج من أهل صفورية! لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له».

وفي المنمق/97: «فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده، فأولدها أبان، وهو أبو معيط! ويقال استحلق ذكوان أيضاً أبان».

وروى ذلك ابن قتيبة في المعارف/319، وقال: «ولَّاه عمر على صدقات بني تغلب. وولَّاه عثمان الكوفة، بعد سعد بن أبي وقّاص، فصلَّى بأهلها وهو سكران»! راجع: الطبقات: 1/75، المنمق/97، الطبري: 1/371و2/13، ابن الأثير: 2/16، النزاع والتخاصم/49، إمتاع الأسماع: 10/6، سبل الهدى: 1/271، السيرة الحلبية: 1/7، المنتظم: 2/212، أعلام النبوة/251، نهاية الإرب/3253، أنساب الأشراف/39، معجم ما استعجم: 3/837، العدد القوية/140وشيخ المضيرة/159.

3- عبدالمطلب عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (علیهم السلام)

تشهد سيرة آباء النبي (صلی الله علیه و آله) خاصةً عبدالمطلب وأبي طالب، بأنهم من كبار المؤمنين، وأنهم الخط الوارث لإبراهيم وإسماعيل:، فلم يعبدوا الأصنام، بل كانوا يفتخرون بأنهم على ملة أبيهم إبراهيم وإسماعيل.

وقد ميزهم الله تعالى حتى في شكلهم فورَّثهم جمال إبراهيم (علیه السلام)! ولما رأى

ص: 81

أبرهة عبدالمطلب: «فجعل ينظر في وجهه، فراقه حسنه وجماله وهيئته فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيها الملك، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء.فقال له أبرهة: لقد فقتم الملوك فخراً وشرفاً، ويحق لك أن تكون سيد قومك. ثم أجلسه معه على سريره».أمالي الطوسي/80.

وفي أمالي الطوسي/682: «سرير أبرهة لما دخل عليه عبدالمطلب، انحنى ومال»!

«أول من خضب بالسواد من العرب.وكان أبيض مديد القامة».الأعلام: 4/154.

4- ورَّث عبدالمطلب بهاءه إلى أولاده!

قال اليعقوبي: 2/11: «كان لكل واحد من ولد عبدالمطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمالٌ جون «دُهْم» فقال: بهؤلاء تُمنع مكة!

وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة، يلحفون الأرض بحبراتهم «جببهم الطويلة»! فقال: يابني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء، هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال».

وفي المنمق/34: «لم يكن في العرب عدة بني عبدالمطلب أشرف منهم ولا أجسم ليس منهم رجل إلا أشم العرنين، يشرب أنفه قبل شفتيه، ويأكل الجذع ويشرب الفرق». «يأكل الخروف الصغير، ويشرب سطل المخيض».

5-آيات عبدالمطلب (علیه السلام) في زمزم

ظهر ماء زمزم لهاجر وإسماعيل (علیهما السلام) بمعجزة، وكان نبعاً صغيراً، ثم كثر الواردون عليه، فشكى إسماعيل لأبيه (علیهما السلام) قلة الماء فأمره الله أن يحفر بئراً فحفره، ونزل جبرئيل (علیه السلام) وأمره أن يسمي ويضرب في زوايا البئر الأربعة، فضرب إبراهيم فانفجرت أربع عيون فقال جبرئيل (علیه السلام): «إشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة، وخرج إبراهيم وجبرئيل (علیهما السلام) جميعاً من البئر فقال له: أفض عليك يا إبراهيم وطف حول البيت، فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل».الكافي: 4/204.

ص: 82

فزمزم سُقْيَا الله تعالى لبني إسماعيل (علیه السلام) خاصة ومنهم تصل إلى الناس.

وبعد قرون غاض ماء زمزم، حتى أعاده الله تعالى على يد عبدالمطلب (علیه السلام)، فحسده زعماء قريش وأرادوا أن يأخذوه منه! وأجبروه على الإحتكام إلى كاهنة في مشارف الشام فذهب معهم، وفي الطريق نفد ماؤهم فأظهر الله له آية ونبع الماء من تحت خف ناقته، فسلموا له لكن موقتاً، كما سلم اليهود لمريم (علیها السلام) موقتاً!

قال السيوطي في الدر المنثور: 3/220: «وأخرج الأزرقي والبيهقي في الدلائل عن علي بن أبي طالب رضيالله عنه قال: قال عبدالمطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال إحفر طيبة... فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: يا عبدالمطلب إنها بئر إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك فيها، فقال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم. قالوا: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم. قالوا: كاهنة من سعد هذيل. قال: نعم، وكانت بأشراف الشام فركب عبدالمطلب ومعه نفر من بني عبدمناف، وركب من كل ركب من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز، بين الحجاز والشام فنيَ ماء عبدالمطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبدالمطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه لما بكم الآن من القوة، وكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً! قالوا: سمعنا ما أردت. فقام كل رجل منهم يحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبدالمطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز، ما نبتغي لأنفسنا حيلة! عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، إرحلوا فارتحلوا حتى فرغوا ومن معهم من قريش ينظرون إليهم

ص: 83

وما هم فاعلون، فقام عبدالمطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب! فكبَّرعبدالمطلب وكبَّر أصحابه ثم نزل فشرب وشربوا واستقوا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش فقال: هلمَّ الماء، قد سقانا الله تعالى، فاشربوا واستقوا! فقالت: القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله لك يا عبدالمطلب علينا!والله لا نخاصمك في زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً! فرجع ورجعوا معه، ولم يمضوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم».روته عامة المصادر، مثل ابن سعد: 1/83، اليعقوبي: 1/248، ابن إسحاق: 1/5، ابن هشام: 1/94، ابن كثير: 1/169، الحلبية: 1/55 وابن الأثير: 2/13.

وقوله: فكبَّرعبدالمطلب وكبَّر أصحابه. قد يكون بمعنى هتفوا تعجباً كالتكبير، وقد يكون التكبير موجوداً من حنيفية إبراهيم (علیه السلام) فأظهره الإسلام.

6- رؤيا عبدالمطلب كرؤيا أشعيا النبي (علیهما السلام)

في الكافي: 4/219 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان في الكعبة غزالان من ذهب وخمسة أسياف، فلما غَلبت خزاعةُ جِرْهَمَ على الحرم ألقت جرهمُ الأسياف والغزالين في بئر زمزم، وألقوا فيها الحجارة وطموها وعَمَّوْا أثرها، فلما غلب قصي على خزاعة لم يعرفوا موضع زمزم، وعميَ عليهم موضعها، فلما غلب عبدالمطلب (علیه السلام) وكان يفرش له في فناء الكعبة ولم يكن يفرش لأحد هناك غيره، فبينما هو نائم في ظل الكعبة فرأى في منامه أتاه آتٍ فقال له: إحفر بَرَّة، قال: وما برة؟ ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: إحفر طيبة، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال: إحفر المصونة، قال: وما المصونة؟ ثم أتاه في اليوم الرابع فقال: إحفر زمزم لا تُنزح ولا تُذم، سَقْيُ الحجيج الأعظم، عند الغراب الأعصم، عند قرية النمل.

وكان عند زمزم حِجْرٌ يخرج منه النمل فيقع عليه الغراب الأعصم في كل يوم يلتقط النمل، فلما رأى عبدالمطلب هذا عرف موضع زمزم، فقال لقريش: إني أمرت في أربع ليال في حفر زمزم، وهي مأثرتنا وعزنا فهلموا نحفرها، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأقبل

ص: 84

يحفرها هو بنفسه، وكان له ابن واحد وهو الحارث وكان يعينه على الحفر، فلما صعب ذلك عليه تقدم إلى باب الكعبة ثم رفع يديه ودعا الله عزوجل ونذر له إن رزقه عشر بنين أن ينحر أحبهم إليه تقرباً إلى الله عزوجل، فلما حفر وبلغ الطويَّ طويَّ إسماعيل، وعلم أنه قد وقع على الماء، كبَّر وكبرت قريش وقالوا: يا أبا الحارث هذه مأثرتنا ولنا فيها نصيب، قال لهم: لم تعينوني على حفرها، هي لي ولولدي إلى آخر الأبد». ونحوه ابن إسحاق: 1/3، ابن هشام: 1/92.

وفي الكافي: 4/220 عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «لما احتفر عبدالمطلب زمزم وانتهى إلى قعرها، خرجت عليه من إحدى جوانب البئر رائحة منتنة أفظعته، فأبى أن ينثني، وخرج ابنه الحارث عنه، ثم حفر حتى أمعن فوجد في قعرها عيناً تخرج عليه برائحة المسك.

رؤيا عبدالمطلب وهو في داخل زمزم:

ثم احتفر فلم يحفر إلا ذراعاً، حتى تجلاه النوم فرأى رجلاً طويل الباع، حسن الشعر، جميل الوجه، جيد الثوب، طيب الرائحة، وهو يقول: إحفر تغنم، وجُدَّ تسلم، ولا تدخرها للمقسم، الأسياف لغيرك، والبئر لك، أنت أعظم العرب قدراً، ومنك يخرج نبيها ووليها، والأسباط النجباء الحكماء العلماء البصراء، والسيوف لهم، وليسوا اليوم منك ولا لك، ولكن في القرن الثاني منك. بهم ينير الله الأرض، ويخرج الشياطين من أقطارها، ويذلها في عزها ويهلكها بعد قوتها، ويذل الأوثان، ويقتل عُبَّادها حيث كانوا، ثم يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره ودونه في السن.. لا يعصيه حرفاً، ولا يكتمه شيئاً ويشاوره في كل أمر هجم عليه.

وجد عبدالمطلب أسيافاً بجنبه:

واستعيا عنها عبدالمطلب«عن الحفر»فوجد ثلاثة عشر سيفاً مسندة إلى جنبه، فأخذها وأراد أن يثب فقال: وكيف ولم أبلغ الماء! ثم حفر فلم يحفر شبراً حتى بداله قرن الغزال ورأسه فاستخرجه، وفيه طُبع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله

ص: 85

علي ولي الله، فلان خليفة الله«المهدي (علیه السلام)».

فسأل الراوي الإمام الكاظم (علیه السلام): فلان متى كان قبله أو بعده؟ قال: لم يجئ بعد ولاجاء شئ من أشراطه. فخرج عبدالمطلب وقد استخرج الماء وأدرك وهو يصعد، فإذا أسود له ذنب طويل يسبقه بِداراً إلى فوق، فضربه فقطع أكثر ذنبه ثم طلبه ففاته، وفلانٌ«المهدي (علیه السلام)»قاتله إن شاء الله.

تكملة الرؤيا في حجر الكعبة:

و[كان] من رأي عبدالمطلب (علیه السلام) أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر، ويضرب السيوف صفائح البيت، فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول: يا شيبة الحمد أحمد ربك، فإنه سيجعلك لسان الأرض وتتبعك قريش خوفاً ورهبة وطمعاً، ضع السيوف في مواضعها.

ثم جاءه في منامه:

واستيقظ عبدالمطلب فأجابه«الملاك»إنه يأتيني في النوم فإن يكن من ربي فهو أحب إليَّ، وإن يكن من شيطان فأظنه مقطوع الذنب، فلم ير شيئاً ولم يسمع كلاماً. فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان فقالوا له: نحن أتباع وَلدك، ونحن من سكان السماء السادسة. السيوف ليست لك: تزوج في مخزوم تَقْوَ، واضرب بعدُ في بطون العرب، فإن لم يكن معك مال فلك حسب، فادفع هذه الثلاثة عشرسيفاً إلى وُلْدِ المخزومية ولا يَبان لك أكثر من هذا، وسيف لك منها واحد، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً، إلا أن يستجنه جبل كذا وكذا، فيكون من أشراط قائم آل محمد.

فانتبه عبدالمطلب وانطلق والسيوف على رقبته، فأتى ناحية من نواحي مكة، ففقد منها سيفاً كان أرقَّها عنده، فيظهر من ثَمَّ.

ثم دخل معتمراً وطاف بها على رقبته والغزالين، أحداً وعشرين طوافاً، وقريش تنظر إليه وهو يقول: اللهم صدق وعدك فأثبت لي قولي، وانشر ذكري وشد عضدي، وكان هذا ترداد كلامه، وما طاف حول البيت بعد رؤياه في البئر ببيت شعر حتى مات. ولكن قد ارتجز على بنيه يوم أراد نحر عبدالله، فدفع الأسياف جميعها إلى بني

ص: 86

المخزومية إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبدالله، فصارلأبي طالب من ذلك أربعة أسياف: سيف لأبي طالب، وسيف لعلي، وسيف لجعفر، وسيف لطالب، وكان للزبير سيفان، وكان لعبدالله سيفان، ثم عادت فصارت لعلي الأربعة الباقية: اثنين من فاطمة واثنين من أولادها، فطاح سيف جعفر يوم أصيب فلم يُدْرَ في يد من وقع حتى الساعة. ونحن نقول: لايقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا، إلا صار فحماً.

قال: وإن منها لواحداً في ناحية يخرج كما تخرج الحية فيبين منه ذراع وما يشبهه فتبرق له الأرض مراراً، ثم يغيب، فإذا كان الليل فعل مثل ذلك، فهذا دأبه حتى يجيئ صاحبه، ولو شئت أن أسمي مكانه لسميته، ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه، فينسب إلى غير ما هو عليه».

7- شرح رؤيا عبدالمطلب

قوله: وانتهى إلى قعرها: يدل على أن حفرها القديم كان معلوماً وقعرها واسعاً.

وخرج ابنه الحارث عنه: أي لم يتحمل الرائحة الكريهة، فكأن الله أراد أن يبقى عبدالمطلب وحده، ليخصه بآياته. حتى تجلاه النوم: بعدما وجد عيناً برائحة المسك.

فرأى رجلاً طويل الباع: هو الملاك الذي رآه بعدها في حجر الكعبة، وكأنه لايأتي إلا في النوم: فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه.

ومنك يخرج نبيها ووليها والأسباط النجباء..: هذه بشار ة لعبدالمطلب

رضيالله عنه بالنبي والأئمة من ذريته (صلی الله علیه و آله) وقد سماه له محمداً (صلی الله علیه و آله) .

ومعنى: ليسوا اليوم منك، أنهم ليسوا نفس أولادك الموجودين، ولا أنهم يولدون لك مباشرة، بل هم من ذريتك في القرن الثاني.

والسيوف لهم: رمز القوة والنصرة والتأييد الإلهي. وعددها ثلاثة عشر، وهي رمز لأسهم هؤلاء من نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) . وسيف طالب يدل على إيمانه رضيالله

ص: 87

عنه ونصرته للنبي (صلی الله علیه و آله)، وليس فيها سيف لعقيل (رحمة الله) .

يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره: هذه بشارة له بولده علي (علیه السلام) .

واستعيا عنها: أي تعب فأراد ترك الحفر، لكنه عاود الحفر فوجد غزال الذهب. وفيه طُبع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، فلان خليفة الله: هذه بشارة له بالنبي بإسمه (صلی الله علیه و آله) وعلي باسمه (علیه السلام)،والمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً باسمه (علیه السلام) . وهو يدل على أن عبدالمطلب سماه محمداً (صلی الله علیه و آله) بإلهام ربه عزوجل.

فإذا أسود له ذنب طويل: كانت زمزم واسعة ومنحدرها متدرج، تشبه عين المغراس في المدينة، وقد نزلت إليها في درج. ورأى عبدالمطلب وهو صاعد منها ثعباناً أسود فضربه فقطع أكثر ذنبه ولم يُقتل، وهو يرمز إلى أعداء أولاده:.

وقوله: وفلانٌ «المهدي (علیه السلام)» قاتله إن شاء الله: يظهر أنه من كلام الإمام الكاظم (علیه السلام) .

أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر: أراد عبدالمطلب أن لايعمل برؤياه، وأن يستعمل السيوف في صنع باب الكعبة.

فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان: أي أتاه نفس الرجل ومعه جماعة، وهم ملائكة، ومعنى أنهم من السماء السادسة، ومن أتباع النبي (صلی الله علیه و آله): أنهم أنصار خاصون له سيأتون في المستقبل لنصرته (صلی الله علیه و آله) .

فقالوا له: تزوج في مخزوم تَقْوَ: أي تكلم هؤلاء الملائكة من أتباع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمروه أن يتزوج فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم،أم عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) وأم شقيقيه أبي طالب والزبير، وهذا يدل على مكانتها عند الله تعالى.

واضرب بعد في بطون العرب: أي تزوج غيرها أيضاً من قبائل العرب الأخرى.

فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية: وهي سهمهم من نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) .

وسيف لك منها واحد، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً: هو سيف المهدي (علیه السلام) وكان أرق السيوف، أي أمضاها، وقد أمروه أن يحمل الأسياف ويخرج من مكة، ففقد السيف في ناحية من مكة. وكأن خروج عبدالمطلب من مكة رمز لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) . وفقدانه السيف ليجنه الجبل ويحفظه للمهدي (علیه السلام) .

ص: 88

فيظهر من ثَمَّ: أي يظهر السيف من هناك لنصرة المهدي (علیه السلام) عند خروجه فيأخذه، وهو رمز قوته التي يعطيه إياها الله تعالى، وهو نفسه السيف الذي يخرج في جبل في مكة ويلمع، ثم يغيب حتى يظهر صاحبه المهدي (علیه السلام)، وقد ورد في علامة المهدي (علیه السلام): «وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله (صلی الله علیه و آله) .فقلت: ما تراث رسول الله؟ قال: سيف رسول الله ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولأمته وسرجه، حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده، ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده، ويستأذن الله في ظهوره».الكافي: 8/224.

ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه، فينسب إلى غير ما هو عليه: أي أخاف أسمي الذي عنده السيف الآن، وهو الإمام الكاظم (علیه السلام) نفسه، لئلا يقال ذلك، فيتصور السلطان أنه يريد الخروج عليه.

لايقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا إلا صار فحماً: هذا يؤكد أن السيوف بمعنى نصرتهم:وفي كل واحد منها سر، فإذا وقع في يد مخالف لهم، بطل سره وتحول إلى فحم.

أقول: هذه الآيات والكرامات، وهذه الرؤيا، كافية لأن يعتقد المنصف بأن عبدالمطلب (علیه السلام) من كبار الأولياء. لكن حسد قريش منعهم من الإقرار!

وفي الكافي: 1/447 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «يبعث عبدالمطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك، وسيماء الأنبياء (علیهم السلام)، وذلك أنه أول من قال بالبداء».

ومعناه أنه على درجة عالية من الإيمان والتسليم المطلق لله تعالى فيما يفعله حتى لو كان بخلاف توقعنا. فقد أنبأه الله أنه سيدفع جيش أبرهة، فأخبر أهل مكة وأبرهة بذلك، وفي نفس الوقت دعا ربه أن يدفع عن بيته، ثم خاطبه قائلاً:

إن كنت تاركهم وقب- *** -لتنا فأمرٌ ما بدا لك

أي إني مسلِّمٌ لأمرك ومؤمن بك، حتى لو لم تفعل ما أخبرتني به!

ص: 89

8- آية عبدالمطلب مع ثقيف

روى المؤرخون جميعاً أنه كان لعبدالمطلب بئر في الطائف يسمى ذا الهرم، حفره بعد زمزم، وكان مع بستانه بيد ثقيف، فأخذوه وأنكروه، ونافروه إلى سطيح الكاهن، فظهرت له آية في الطريق كما ظهرت في مخاصمة قريش له في زمزم.

قال اليعقوبي: 1/248: «وكان عبدالمطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئراً يقال لها ذو الهرم، فكان يأتي أحياناً فيقيم بذلك الماء، فأتى مرة فوجد به حيين من قيس عيلان، وهم بنو كلاب وبنو الرباب، فقال عبدالمطلب: الماء مائي وأنا أحق به، وقال القيسيون: الماء ماؤنا ونحن أحق به. قال: فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم، فنافروه إلى سطيح الغساني، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبدالمطلب فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبدالمطلب، وعشرون لسطيح، وإن قضى سطيح بالماء للحيين، فعلى عبدالمطلب مائة من الإبل للقوم وعشرون لسطيح، فانطلقوا وانطلق عبدالمطلب بعشرة نفر من قريش فيهم حرب بن أمية فجعل عبدالمطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزوراً وأطعم الناس، فقال القيسيون: إن هذا الرجل عظيم الشأن جليل القدر شريف الفعل، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا فيقضي له بالماء، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبئ له خبأ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه وإلا لم نرض به. فبينا عبدالمطلب في بعض الطريق إذ فني ماؤه وماء أصحابه، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم فأبوا أن يسقوهم، وقالوا: أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا، والله لا نسقيكم! فقال عبدالمطلب: أيهلك عشرة من قريش وأنا حي! لأطلبن لهم الماء حتى ينقطع خيط عنقي وأُبلي عذراً، فركب راحلته وأخذ الفلاة فبينا هو فيها، إذ بركت راحلته وبصر به القوم، فقالوا: هلك عبدالمطلب! فقال القرشيون: كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه وإنما مضى لصلة الرحم، فانتهوا إليه وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب رويٍّ، قد ساح على ظهر الأرض، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء، فقال القرشيون: كلا والله،

ص: 90

ألستم الذين منعتمونا فضل ماءكم؟ فقال عبدالمطلب: خلوا القوم، فإن الماء لا يمنع! فقال القيسيون: هذا رجل شريف سيد، وقد خشينا أن يقضى له علينا، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال: فأخبرنا ما هو؟ فقال: خبأتم لي ما طال فسمك، ثم أينع فما هلك، ألق التمرة من يدك..قالوا: إقض بيننا! قال: قد قضيت. اختصمتم أنتم وعبدالمطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، فالماء ماء عبدالمطلب، ولا حق لكم فيه، فأدوا إلى عبدالمطلب مائة من الإبل وإلى سطيح عشرين، ففعلوا.

وانطلق عبدالمطلب ينحر ويطعم، حتى دخل مكة، فنادى مناديه: يا معشر أهل مكة إن عبدالمطلب يسألكم بالرحم، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم، فأخذ مثل ما حدثته نفسه. فقاموا وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرئ منهم نفسه، وفضلت بعد ذلك جزائر، فقال عبدالمطلب لابنه أبي طالب: أي بني! قد أطعمت الناس، فانطلق بهذه الجزائر، فانحرها على أبي قبيس، حتى يأكلها الطير والسباع، ففعل أبوطالب ذلك، فأصابها الطير والسباع. قال أبوطالب:

ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا *** إذا جعلت أيدي المفيضين تَرْعُدُ».

ورواه البلاذري في أنساب الأشراف: 1/74، الميداني في مجمع الأمثال: 1/47، الحموي في معجم البلدان: 5/403، ابن حبيب في المنمق/94 وابن سعد في الطبقات: 1/87.

9- آيات عبدالمطلب (علیه السلام) في غزو أبرهة للكعبة

كعبة نجران بدل الكعبة

بنى نصارى نجران كنيسة ودعوا العرب إلى حجها. ففي معجم البلدان: 5/268: «كعبة نجران هذه، يقال بِيعَة بناها بنو عبدالملك بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة مقيمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ودعاهم إلى المباهلة».

«كان لآل عبدالمدان بن الديان سادة بني الحارث بن كعب، وكان بناؤه مربعاً

ص: 91

مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعاً من الأرض، يُصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة، فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب، ممن يحل الأشهر الحرم، ولا يحجون الكعبة، وتحجه خثعم قاطبة.

وكان أهل ثلاثة بيوتات يتبارون في البِيَع وزَيِّها: آل المنذر بالحيرة، وغسان بالشام، وبنو الحارث بن كعب بنجران، ويعتمدون ببنائها المواضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه، وكانوا يجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب. وكان على ذلك بنو الحارث إلى أن أتى الله بالإسلام، فجاء النبيَّ (صلی الله علیه و آله) منهم العاقب والسيد وغيرهما للمباهلة، فاستعفوا منها». معجم ما استعجم: 2/603.

وبنو عبدالمدان كانوا حكام نجران وقساوستها، وكانوا يهوداً فتنصروا.

كعبة صنعاء بدل الكعبة

وبنى أبرهة حاكم اليمن كعبةً بصنعاء ودعا الناس للحج اليها، ثم قصد بجيشه الكعبة ليهدمها! قال تعالى: ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ.!

قال في معجم البلدان: 3/427 و494: «بنى أبرهة بصنعاء القُلِّيْس وأخذ الناسَ بالحج إليه، وبناه بناء عجيباً.. مدينة لم يَرَ الناس أحسن منها، ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء، وألوان الأصباغ، وصنوف الجواهر، وجعل فيها خشباً له رؤوس كرؤوس الناس، ولكَّكَهَا بأنواع الأصباغ، وجعل لخارج القبة بُرنساً، فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها، حتى تكاد تلمع البصر.

الصنعاني قال: رأيت مكتوباً على باب القُلَّيس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسْند: بنيتُ هذا لك من مالك ليذكر فيه إسمك، وأنا عبدك.

ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.

قال عبدالرحمن بن محمد: سميت القُلَّيس لارتفاع بنيانها وعلوها، ومنه القلانس

ص: 92

لأنها في أعلى الرؤوس..وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعاً من السخر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس صاحبة سليمان (علیه السلام)، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس.

فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والآلات من الذهب والفضة ذات القيمة الوافرة والقناطير من المال، لايستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً، إلى زمان

أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها فبعث إليها خاله الربيع بن زياد الحارثي عامله على اليمن، وأصحبه رجالاً من أهل الحزم والجلَد، حتى استخرج ما كان فيها من الآلات والأموال، وخربها حتى عفى رسمها وانقطع خبرها، وكان الذي يصيب من يريدها من الجن منسوباً إلى كَعِيتْ وامرأته، صنمان كانا بتلك الكنيسة بنيت عليهما! فلما كُسر كَعِيت وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وقالوا: أصابه كعيت»!

أقول: لعل قصر بلقيس كان في غير مأرب، لأنهم قالوا إنه على بعد فراسخ من صنعاء أي قليلة، ومأرب على فراسخ كثيرة، كما يدل النص على طمع الدوانيقي وحرصه على جمع المال، ولهذا سمي أبا الدوانيق.

وقد ذكروا أن رجلاً من العرب دخل كعبة أبرهة وأحدث فيها، فغضب أبرهة وحلف أن يهدمَ الكعبة في مكة وخرج بجيشه اليها، ولا يبعد أن تكون القصة مكذوبة من أبرهة لتبررغزوه للكعبة ليهدمها ويجبر العرب على حج قُلَّيْسِه! راجع عن كعبة صنعاء: تاريخ الطبري: 1/550، تفسيره: 30/386 وابن خلدون: 2 ق: 1/61.

10- عبدالمطلب وأصحاب الفيل

في الكافي: 4/216 عن هشام بن سالم، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أقبل

ص: 93

صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة، مروا بإبل لعبدالمطلب فاستاقوها، فتوجه عبدالمطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه، فاستأذن عليه فأذن له وقيل له: إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش، وهو رجل له عقل ومروة، فأكرمه وأدناه، ثم قال لترجمانه: سله ما حاجتك؟ فقال له: إن أصحابك مروا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عليَّ، قال: فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال: هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله، يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده! أما لو سألني أن أنصرف عن هَدِّه لانصرفت له عنه! فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبدالمطلب: إن لذلك البيت رباً يمنعه، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها،

فأمر بردها عليه.

ومضى عبدالمطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم، فقال له: محمود! فحرك رأسه فقال له: أتدري لما جئ بك؟ فقال برأسه: لا، فقال: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتفعل؟ فقال برأسه: لا. قال: فانصرف عنه عبدالمطلب.

وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع، فأداروا به نواحي الحرم كلها، كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل! وبعث الله عليهم الطيركالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره، حتى لم يبق منه أحد إلا رجل هرب! فجعل يحدث الناس بما رأى إذا طلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطير منها، وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات»!

وفي الطبقات: 1/92 والطبري: 1/557: «فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وبثها في الحرم، لكي يصاب منها شئ فيغضب رب الحرم! وأوفى عبدالمطلب على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، ومطعم بن عدي، وأبو مسعود الثقفي، فقال عبدالمطلب:

لاهُمَّ إن المرءَ يمنعُ *** رحله فامنع حلالك

لا يغلبنَّ صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

ص: 94

ونزل عبدالمطلب من حراء، فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت كنت أعلم».

وفي كنز الفوائد/81، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما ظهرت الحبشة باليمن وجَّه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده، يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف، لهدم بيت الله الحرام، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الحبش، فلما قارب مكة طرد أصحابه عيراً لعبدالمطلب بن هاشم، فصار عبدالمطلب إلى أبرهة، وكان ترجمان أبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبدالمطلب، فقال الترجمان لأبرهة: هذا سيد العرب وديَّانها فأجلَّه وأعظمه، ثم قال لكاتبه: سله ما حاجته؟ فسأله فقال: إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً! فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال: قل له عجباً لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث تسألني في عير لك، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت! فقال: أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها، وإن لهذه البَنِيَّة رباً يدفع عنها! قال: فإني غاد لهدمها حتى أنظر ماذا يفعل! فلما انصرف عبدالمطلب حلَّ أبرهة بجيشه، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر: يا أهل مكة أتاكم أهل عكة بجحفل جرار يملأ الأندار ملء الجفار، فعليهم لعنة الجبار! فأنشأ عبدالمطلب:

أيها الداعي لقد أسمعتني *** كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ

إن للبيت لرباً مانعاً *** من يُرده بأثامٍ يصطلم

رامهُ تُبَّعُ في أجناده *** حميرٌ والحيُّ من آل إرم

هلكت بالبغي فيه جرهمٌ *** بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ

وكذاك الأمر فيمن كاده *** ليس أمر الله بالأمر الأَمَم

نحن آلُ الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ

ص: 95

لم يزل لله فينا حجةٌ *** يدفع الله بها عنها النقم

نعرف الله وفينا شيمة *** صلة الرحم ونوفي بالذمم

ولنا في كل دور كرة *** نعرف الدين وطوراً في العجم

فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم

فلما أصبح عبدالمطلب جمع بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال: أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر؟ فرجع فلم ير شيئاً، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر. فدعا ولده عبدالله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه، فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال:

يا سيد النادي، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته، وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارةً، وينحدر أخرى!

فنادى عبدالمطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران، فكان الطائرالواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ».

أقول: هذه الفقرة الوحيدة التي وصلت الينا من كلام عبدالله والد نبينا (صلی الله علیه و آله)، وهي تدل على أدبه وبلاغته سلام الله عليه، فخطابه لأبيه عبدالمطلب مميز بتعبيره واحترامه، ثم وصف سرب طيور الأبابيل بأنها سحاب، قد يكون غيماً فيه مطر، أو جهاماً أي غيماً أفرغ مطره. العين:3/397.

ثم وصف سربها بأنه يسفل ثم يرتفع، ثم وصفه بأنه يرتفع ثم ينحدر، وهذا من أبلغ الوصف. وقد فهم عليه أبوه (علیهما السلام)، وعرف أنها الطيور الموعودة له من ربه، في منامه أو بهاتف من الملائكة هاتفه، سلام الله عليهم.

ص: 96

وقالوا إنها أشبه بطائر السنونو، قد تكون ملائكة عذاب على شكل طيور.

هذا، وقد روى في البحار: 62/233 هلاك أبرهة فقال: «وأصيب أبرهة حتى تساقط أُنملةً أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر! حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما انتهى وقع عليه الحجر، فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه»!

ومعناه أن وزير أبرهة ذهب إلى أثيوبيا ليخبر النجاشي، فتبعه طائر الأبابيل وصبر عليه حتى أكمل القصة للمك، فرماه بالقنبلة الربانية، وهي

حجر السِّجِّيل!

11- تعاظم حسد قريش لعبدالمطلب (علیه السلام)

لما ظهرت آية الأبابيل بجيش أبرهة، سطع إسم الكعبة وعبدالمطلب في بلاد العرب وخارجها، وتوافد العرب إلى الحج أكثر من السابق، معتزين بحجهم إلى الكعبة، متبركين بوارث إبراهيم ولي الله عبدالمطلب (علیهما السلام)، وتولى سقايتهم من زمزم التي وهبها له الله، وضيافتهم بثريد أبيه هاشم المشهور. وصار عبدالمطلب سيد العرب بلا منازع، فزاد الحسد في صدور زعماء قريش!

وبعد سنتين من هلاك أبرهة حكم اليمن ابنه مسروق، وبعد سنتين من حكمه نجح سيف بن ذي يزن باستقدام كتيبة من كسرى، وقاتل مسروق بن أبرهة فقتله، ودخل صنعاء فاتحاً، وتَوَّجَ الجيش الفارسي ابن ذي يزن ملكاً على اليمن.

روى الصدوق (رحمة الله) في كمال الدين/176: «لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي (صلی الله علیه و آله) بسنتين، أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه،

فأتاه وفد من قريش ومعهم عبدالمطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جدعان، وأسد بن خويلد بن عبدالعزى، ووهب بن عبدمناف،

في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء». في حديث طويل، ذكر فيه

ص: 97

احترام سيف بن ذي يزن لعبدالمطلب احتراماً خاصاً، وإخباره بقرب عصر نبي في مكة وتمنى لو يدركه لينصره، فقال له: «إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة. فقال له عبدالمطلب: أبيت اللعن، لقد أبتُ بخبر ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته «جزيته» عن مَسَارِّه إياي ما ازدادَ به سروراً، فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً ليعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه.. فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوجته بكريمة من كرائم قومي إسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً».والمنمق/426. راجع: الأخبار الطوال/63، اليعقوبي: 1/165و 2/9 والطبقات: 5/533.

12- أسس حلف الفضول لمنع الإعتداء على الحجاج

أعداء النبي وآله (صلی الله علیه و آله) هم أعداء أجدادهم قبل الإسلام! وقد قال (صلی الله علیه و آله): «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». البخاري: 4/122.

ورويناه عن الإمام الصادق (علیه السلام) بلفظ أدق: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل». الكافي: 8/177.

وعندما تحسن وضع قريش الإقتصادي، بفضل رحلتي الشتاء والصيف، وتعاظم موسم الحج إلى الكعبة بعد آية أصحاب الفيل، ازدحمت مكة في الموسم، وكثرت تعديات القرشيين على الحجاج والتجار الوافدين إلى مكة!

وكانت المشكلة أمام عبدالمطلب أنه إذا أراد منع الظلم وقفت قبيلة الظالم معه تناصره! فرأى أن ينشئ حلفاً قبلياً ليمنع قبيلة الظالم أن تنصره، فأسس حلف الفضول، وكان أصل هذا الحلف لأخوال أبناء إسماعيل (علیه السلام) .

ص: 98

ففي أنساب الأشراف/13: «كان في جرهم رجال يردون المظالم، يقال لهم فضيل وفضال ومفضل وفضل، فتحالفوا على ذلك».

وروى اليعقوبي أن قريشاً بدأت بتشكيل حلف ضد عبدالمطلب، وروى أن الحلفین عبدالطلب كان السابق، مما يدل على أن الحلفين كانا متزامنين.

قال اليعقوبي: 1/248: «ولما رأت قريش أن عبدالمطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبدالدار لما رأت حال عبدالمطلب، فمشت بنو عبدالدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني

عبدمناف... فتطيَّب بنو عبدمناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، [وخزاعة] فسموا حلف المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبدالدار، وبنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو عدي، فسموا اللعقة».

قال ابن بكار: «كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان، فأكثروا من ذلك».شرح النهج: 15/224.

وكانت خزاعة هي ركن حلف عبدالمطلب، قال في المنمق/87: «وكتبوا كتاباً كتبه لهم أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة، وكان بنو زهرة يكرمون عبدالمطلب لصهره فكان الكتاب: هذا ما تحالف عليه عبدالمطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك، تحالفوا على التناصر والمؤاساة، حلفاً جامعاً غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأكابر، والشاهد على الغائب، تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير، وما حن بفلاة بعير. عقده عبدالمطلب بن هاشم، ورجال بني عمرو فصاروا يداً دون بني النضر، فعلى عبدالمطلب النصرة لهم على كل طالب وتر في بر أو بحر أو سهل أو وعر، وعلى بني عمرو النصرة لعبدالمطلب وولده على جميع العرب، في الشرق أو الغرب أو الحزَن أو السهب، وجعلوا الله على ذلك كفيلاً، وكفى بالله حميلاً.

ثم علقوا الكتاب في الكعبة، فقال عبدالمطلب:

ص: 99

سأوصي زبيراً إن توافت منيتي *** بإمساك ما بيني وبين بني عمرو

وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه *** ولا يلحدن فيه بظلم ولاغدر

هم حفظوا الإلَّ القديم وحالفوا *** أباك فكانوا دون قومك من فهر

وفي تصديق ذلك قول عمرو بن سالم للنبي (صلی الله علیه و آله) حين أغارت عليهم بنو بكر فقتلوا من قتلوا من خزاعة:

لا هُمَّ إني ناشدٌ محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا».

وجدَّد الزبير بن عبدالطلب حلف الفضول وحضره النبي (صلی الله علیه و آله)، وروت ذلك عامة المصادر كمحمد بن حبيب في كتابه المنمق/186، عن حكيم بن حزام قال: «كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وبينه وبين الفيل عشرون سنه، ورسول الله صلى الله عليه يومئذ ابن عشرين سنة، قالوا: وكان الفجار في شوال وكان الحلف في ذي القعدة، وكان هذا الحلف أشرف حلف جرى، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب، وذلك أن الرجل من العرب أو غيرها من العجم ممن كان يقدم بالتجارة ربما ظُلم بمكة، وكان الذي جرَّ ذلك أن رجلاً من بني زبيد قدم بسلعة فباعها من العاص بن وائل السهمي فظلمه ثمنها، فناشده الزبيدي في حقه فلم يعطه، فأتى الزبيدي الأحلاف: عبدالدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدياً، فأبوا أن يعينوه وزبروه وزجروه! فلما رأى الزبيدي الشر وافى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة وصاح:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرمٍ أشعث لم يقض عمرته *** يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمَّتْ كرامته *** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

قال فمشى في ذلك الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مَتْرك، فاجتمعت

بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً، فتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، قياماً يتماسحون صعداً، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله قائلين لنكونن

ص: 100

مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقال الزبير بن عبدالمطلب فيه:

حلفتُ لنعقدنْ حلفاً عليهم *** وإن كنا جميعاً أهلَ دار

نسميه الفضولَ إذا عقدنا *** يعزُّ به الغريبُ لذي الجوار

ويعلم من حوالي البيت أنا *** أباة الضيم نمنع كل عار

«ذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً أو معتمراً، ومعه ابنة له يقال لها القَتُول، من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه، فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟ فقيل له عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يالِ حلف الفضول! فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك؟! فقال: إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً. فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه! فقال: أفعل ولكن متعوني بها الليلة! فقالوا:

قبحك الله، ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم».

«وكان الزبير بن عبدالمطلب شجاعاً أبياً، وجميلاً بهياً، وكان خطيباً شاعراً، وسيداً جواداً.. وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي. وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء».شرح النهج: 15/203و205.

وقال اليعقوبي: 2/17: «حضر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حُمر النَّعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبدمناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بلَّ بحرٌ صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبدالمطلب

ص: 101

طيباً فغمسوا أيديهم فيه... فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم». وابن هشام: 1/85 والمنمق/187.

لقد أمضى النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الحلف وتبناه، ودعا به الإمام الحسين (علیه السلام) لما منعوا دفن أخيه عند جده (صلی الله علیه و آله)،ثم دعا به ما أراد معاوية أن يصادر أمواله. أنساب الأشراف/13.

13- سن عبدالمطلب سنناً فأجراها الله في الإسلام

روى في الخصال/313:«عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي إن عبدالمطلب سَنَّ في الجاهلية خمس سُنن أجراها الله له في الاسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عزوجل: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عزوجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ. الآية.. ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.الآية. وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عزوجل ذلك في الاسلام، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبدالمطلب سبعة أشواط، فأجرى الله ذلك في الاسلام.

يا علي إن عبدالمطلب كان لايستقسم بالأزلام، ولا يعبدالأصنام، ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم (علیه السلام)».

وقال اليعقوبي (رحمة الله): 2/10: «وكان عبدالمطلب جد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكفله، وعبدالمطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم «بئر في الطائف» وحَكَّمته قريش في أموالها، وأطعم في المَحْل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبوطالب:

ونُطعمُ حتى تأكل الطيرُ فضلَنا *** إذا جُعلت أيدي المفيضين ترعدُ

ورفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عزوجل، ووفى بالنذر، وسن سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزناء، والحد عليه،

ص: 102

والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذوات الرايات».

14- وهذا يكفي لمن كان له قلب!

لقد أغمضوا عيونهم عن كرامات عبدالمطلب وآياته، في حفر زمزم، وفي هجوم أصحاب الفيل، وإخباره بنبوة حفيده (صلی الله علیه و آله)، وافتخار النبي (صلی الله علیه و آله) يوم حنين بنبوته وبجده عبدالمطلب! البخاري: 4/28. وفي الواحدة منها كفاية لمن كان له قلب.

بل زعموا أن رجلاً سأل النبي (صلی الله علیه و آله) عن أبيه؟ فقال: إن أبي وأباك في النار. مسلم: 1/132. وحاشا أباه من النار، وحاشاه (صلی الله علیه و آله) من هذه الجلافة!

15- عبدالمطلب: إبراهيم الثاني

«وخرجوا هاربين يطلبون الشعاب، ومنهم من طلب الجبال، ومنهم من ركب البحر، قال: فعند ذلك قالوا لعبدالمطلب: ما يمنعك أن تهرب مع الناس؟ قال: أستحيي من الله أن أهرب عن بيته وحرمه، فوالله لا برحت من مكاني ولا نأيت عن بيت ربي، حتى يحكم الله بما يشاء..قال: فلما نظر عبدالمطلب إلى الكعبة خالية قال: «اللهم أنت أنيس المستوحشين ولا وحشة معك، فالبيت بيتك والحرم حرمك والدار دارك، ونحن جيرانك، تمنع عنه ما تشاء». البحار: 15/66.

ولما ظهرت آياته في حملة أصحاب الفيل، سماه المنصفون من قريش إبراهيم الثاني: «فكانت قريش تقول: عبدالمطلب إبراهيم الثاني». تاريخ اليعقوبي: 1/10.

16- نَذَر عبدالمطلب (رحمة الله) أحد أبنائه قرباناً للكعبة!

كان عرب الجزيرة وعرب العراق يقدسون صنم العُزَّى أكثر من غيره، ويقدمون له القرابين: «وكان للعزى منحرٌ ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب... قال الشاعر: والراقصات إلى منى بالغبغب». معجم البلدان: 4/185.

وفي أحُد: «نادى المشركون بشعارهم: يا لَلعزى يا لَهُبل، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، وولَّى من ولَّى منهم يومئذ، وثبت رسول الله (صلی الله علیه و آله)». الطبقات: 2/42.

ص: 103

وكانت حروبٌ بين المناذرة التابعين للفرس في العراق، والغساسنة التابعين للروم في الشام، وكان المنذر بن ماء السماء وثنياً، فأسرَ ابن ملك الغساسنة الحارث بن شمر في حربه معه، فذبحه قرباناً للعزى! خطط الشام: 1/67.

وفي المفصل في تاريخ العرب: 11/239: «وقد كان آل لخم ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن المنذر بن ماء السماء ضحى بأربع مائة راهبة للعزى»!

في هذا الجو، نذر عبدالمطلب (رحمة الله) لله تعالى إذا رزقه عشرة أبناء، أن يذبح أحدهم قرباناً له هدياً للكعبة، فكان عمله مقابلةً لعَبَدَة الأصنام والنصارى ودعوة لهم أن يعبدوا رب بيت إبراهيم (علیه السلام)، ويقدموا قرابينهم له وليس للعزى!

أما الإشكال الذي نراه في عمله فسببه عدم معرفتنا لمستنده الشرعي في نذره أن يذبح ابنه، ثم مستنده في طريقة وفائه به بالقرعة بينه وبين الإبل. لكن ما ثبت عن شخصيته (علیه السلام) وإيمانه العميق وإلهام الله تعالى إياه بحفر زمزم، وظهور المعجزة له لما أرادت قريش أخذها منه، وإخباره بآية أصحاب الفيل، وغير ذلك من آياته يدل على أنه ما نذر ولا تحلل من نذره، إلا بحجة من ربه تعالى.

روى في دعائم الإسلام: 2/522 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه تجب القرعة فيما أشكل وذكر القرعة في قصة يونس (علیه السلام)، وفي كفالة مريم (علیه السلام)، وقصة عبدالمطلب: «نذر ذبح من يولد له فولد له عبدالله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فألقى الله عليه محبته، فألقى عليه السهام وعلى إبل ينحرها يتقرب بها مكانه، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتى بلغت مائة، فوقع السهم على الإبل فأعاد السهام مراراً وهي تقع على الإبل، فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي ونحرها».

17- افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بجديه (علیهما السلام) فقال: أنا ابن الذبيحين

روى الصدوق في العيون:2 /189 عن علي بن فضال أنه سأل الإمام الرضا (علیه السلام) عن معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله): أنا ابن الذبيحين فقال: «يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل،

ص: 104

وعبدالله بن عبدالمطلب. أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت. سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح، يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويبول ويبعر في سواد، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً، وما خرج من رحم أنثى، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان، ليفدي به إسماعيل، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة. فهذا أحد الذبيحين.

وأما الآخر فإن عبدالمطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة، ودعا الله عزوجل أن يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عزوجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي فَلَأفِيَنَّ لله عزوجل، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبدالله أبي رسول الله وكان أحب ولده إليه، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبدالله، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبدالله، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك، واجتمع نساء عبدالمطلب يبكين ويصحن، فقالت له ابنته عاتكة: يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عزوجل في قتل ابنك. قال: فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة؟ قالت: أعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل وأعط ربك حتى يرضى. فبعث عبدالمطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب السهام فخرج سهم عبدالله، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة، فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة، فقال عبدالمطلب: لا، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبوطالب وإخوانه من تحت رجليه، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه، ويمسحون عنه

ص: 105

التراب. وأمر عبدالمطلب أن تنحر الإبل بالحزورة، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة».

وأضاف الصدوق (رحمة الله): «ولولا أن عبدالمطلب كان حُجَّةً وأن عزمه على ذبح ابنه عبدالله شبيهُ بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل:، لمَا افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بالإنتساب إليهما،لأجل أنهما الذبيحان في قوله (علیه السلام): أنا ابن الذبيحين.

والعلة التي من أجلها رفع الله عزوجل الذبح عن إسماعيل هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبدالله وهي كون النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) في صلبهما. فببركة النبي والأئمة (صلی الله علیه و آله) رفع الله الذبح عنهما، فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم».

وفي الفقيه: 4/368: «يا علي أنا ابن الذبيحين. يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم (علیه السلام)».

وتدل الرواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) «الفقيه:3/89»على أن الله تعالى نهى عبدالمطلب عن ذبح ولده وأمره بالقرعة، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة، قال (علیه السلام): «أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عزوجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، والسهام ستة، ثم استهموا في يونس (علیه السلام) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال: فمضى يونس إلى صدر السفينة، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه.

ثم كان عند عبدالمطلب تسعة بنين، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه فلما ولد عبدالله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبدالله، فخرجت السهام على عبدالله فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج على عبدالله ويزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبدالمطلب: ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً، فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي، فنحرها».

ومعناه أن الله تعالى نهاه عن ذبحه بالإلهام، وأمره أن يفديه بما استقرت عليه القرعة.

ونلاحظ في هذا الموضوع أن النبي (صلی الله علیه و آله) ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة، وهي عدد فداء جده عبدالله (علیه السلام)، وأشرك فيها علياً (علیه السلام) لشراكته في وراثة عبدالمطلب:.

ص: 106

18- الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق

زعم أهل الكتاب أن الذبيح إسحاق (علیهما السلام)، وأن الله فداه وأرسل جبرئيل (علیه السلام) بكبش وأمره أن يذبحه بدله.

قال في تفسير الكاشف: 6/352: «ولا مصدر لهذا القول إلا إسرائيليات كعب الأحبار، وحسد اليهود لأبناء إسماعيل، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل».

أقول: إن الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (علیهما السلام)، كثيرة:

الأول: أن توراتهم وتلمودهم ومصادرهم لم تذكر أن الذبيح إسحاق (علیه السلام)، وإنما هو قول حاخاماتهم، خاصة كعب الأحبار، وقد نسبوه إلى عمر وعلي وابن عباس وغيرهم. وعدم ذكره في مصادرهم دليل على أن الذبيح ليس إسحاق (علیه السلام) وإلا لذكرته مصادرهم بشكل واسع، وجعلوا مكانه مزاراً وافتخروا به. فالصحيح أنهم ادعوه بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ونزول القرآن بقصة ذبح إسماعيل (علیهما السلام) .

الثاني: صحح العلماء حديث: أنا ابن الذبيحين. رواه الحاكم: 2/554، صححه الذهبي، السرخسي: 8/141، بدائع الصنائع: 5/85، تخريج الأحاديث: 3/177. وفيض القدير:3/762.

الثالث: قال جمهور علماء المسلمين إن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (علیهما السلام) .

قال العجلوني في كشف الخفاء: 1/199: «إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب

عند علماء الصحابة والتابعين».

وقال الطوسي في أماليه/457: «قال أبو المفضل «الشيباني»: اختلف الناس في الذبيح وقول النبي (صلی الله علیه و آله): أنا ابن الذبيحين، يعني إسماعيل وعبدالله أباه (علیهما السلام) . والعرب مجمعة أن الذبيح هو إسماعيل. وأنا أقول: اختلفت روايات العامة والخاصة في الذبيح من هو؟ والصحيح أنه إسماعيل لمكان الخبر، ولإجماع علماء أهل البیت (علیهم السلام) على أنه إسماعيل».

الرابع: صحح الصدوق في معاني الأخبار/391: «عن داود بن كثير الرقي قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): أيهما كان أكبر إسماعيل أو إسحاق، وأيهما كان الذبيح؟

ص: 107

فقال: كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين، وكان الذبيح إسماعيل، وكانت مكة منزل إسماعيل، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى. قال: وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق:خمس سنين، أما تسمع لقول إبراهيم (علیه السلام) حيث يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. إنما سأل الله عزوجل أن يرزقه غلاماً من الصالحين، وقال في سورة الصافات: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، يعني إسماعيل من هاجر. فقال: ففدى إسماعيل بكبش عظيم.فقال أبوعبدالله (علیه السلام): ثم قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ، يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق. فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق، فقد كذب بما أنزل الله عزوجل في القرآن من نبئهما».

فقد استدل الإمام (علیه السلام) بنص الآيات وسياقها، وأن الذبيح الغلام الذي دعا إبراهيم (علیه السلام) ربه أن يهبه له فوهبه وهو إسماعيل، ثم رزقه بعده إسحاق فقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، فكيف يبشره بأنه نبي، ثم يأمره بذبحه!

وهذه آياته في سياقها: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للَّجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَالْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. الصافات: 99- 113.

وفي الكاشف: 6/352: فإنه يدل بصراحة على أن المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد، وهو الولد البكر لإبراهيم، وبكر إبراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود، فلقد جاء في التوراة الإصحاح 16 الآية 15

من سفر التكوين ما نصه بالحرف: «وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام». أي إبراهيم.

وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الإصحاح 17 الآية 17

ص: 108

وما بعدها: إن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق من سارة سقط على وجهه، وقال في قلبه: هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين؟ إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما أن إسماعيل هوالولد البكر، وأنه يكبر اسحق بأربعة عشر عاماً، وبينا أن البكر هو الذبيح».

الخامس: في كتاب أضواء على المسيحية للدكتور شلبي/66: «يقول برنابا: فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. والبكر هو إسماعيل (علیه السلام)، وقد ولد إسحاق (علیه السلام) بعده بسبع سنين».

السادس: قوله تعالى: «وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاءً له على طاعته لله في ذبح ولده البكر، فلا بد وهذه هي الحال، أن يكون زمن إسحاق متأخراً عن زمن الذبيح». تفسير الكاشف 6/352.

السابع: قوله تعالى في الآية 71 من سورة هود: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ومِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، فإن اللَّه بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله؟ وما ذا تقول سارة عندما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده!

الثامن: نسبوا إلى علي (علیه السلام) من أن الذبيح هو إسحاق، والصحيح أنه إسماعيل (علیهما السلام) . ففي أمالي الطوسي/338، عن الإمام الرضا (علیه السلام)، عن آبائه عن علي (علیه السلام) قال: الذبيح إسماعيل.

وبذلك يتضح أن القول بأن الذبيح إسحاق مكذوب، أو تصحيف في الإسم.

19- النبي (صلی الله علیه و آله) وارث عبدالمطلب

اختار الله بني عبدالمطلب من العالم:

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يجهر بأن الله تعالى اختار من العالم بني عبدالمطلب فقال (صلی الله علیه و آله): «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس،

ص: 109

ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب». الخصال/36 وغيره.

وكان (صلی الله علیه و آله) يفتخر بنبوته وجده عبدالمطلب (علیه السلام)!

ففي حنين هرب المسلمون مع أنهم كانوا اثني عشر ألفاً! وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) و

بنو هاشم، وافتخر بنبوته وبجده عبدالمطلب: «كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضايقه فما راعنا إلا كتائب الرجال، فانهزم بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم مَن وراءهم، وبقي علٌّي (علیه السلام) ومعه الراية، فقال مالك بن عوف: أروني محمداً، فأروه إياه فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيدة وهو ابن أم أيمن فالتقيا فقتله مالك.. فقام النبي (صلی الله علیه و آله) في ركاب سرجه حتى أشرف عليهم وقال: الآن حمى الوطيس: أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبدالمطلبْ».

وفي صحيح بخاري: 4/28: «نزل فجعل يقول: أنا النبي لاكذب أنا ابن عبدالمطلب. قال فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه».

وبنو عبدالمطلب لا يفرون أبداً!

وعليهم قامت معارك الإسلام! فقد كانوا أبطال بدر، وثبتوا في أحُد وخيبر وغيرها، في حين فرَّ الجميع. وفي حنين: «انهزموا بأجمعهم فلم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم، فرجعوا أولاً فأولاً». الإرشاد: 1/140.

بعثه الله لبني عبدالمطلب خاصة وللناس عامة:

قال لهم: «يا بني عبدالمطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن

ص: 110

أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي». الإرشاد: 1/49 ومسند الشاميين: 2/66.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) مخولاً من بني عبدالمطلب:

فعندما طلب أسرى خيبرمن النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُطلق سراحهم، قال لهم: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله فردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال».

أمالي الصدوق/591.

وَعَدَهم النبي (صلی الله علیه و آله) الشفاعة وكان يميزهم عن غيرهم:

قال (صلی الله علیه و آله): «يا بني عبدالمطلب إن الصدقة لاتحل لي ولا لكم، ولكني قد وعدت الشفاعة «قال أبوعبدالله (علیه السلام): إشهدوا لقد وعدها» فما ظنكم يا بني عبدالمطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة، أتروني مؤثراً عليكم غيركم».التهذيب: 4/58.

وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين! كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء، وضع كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فيقول: من مات من آل محمد (صلی الله علیه و آله)». الكافي: 3/200 والتهذيب: 1/460.

وأكرم الله بني هاشم فشرَّع لهم ميزانية خاصة:

وهي الخمس فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ. ومع ذلك حرموهم منه!

قال ابن قدامة: 2/519: «لانعلم خلافاً في أن بني هاشم لاتحل لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس. وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي (صلی الله علیه و آله): كِخْ كِخْ، ليطرحها! وقال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة! متفق عليه».

ص: 111

وفي الكافي: 1/540 عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم، عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة..

وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ذكرهم الله فقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وهم بنو عبدالمطلب الذكر منهم والأنثى، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد».

وحذرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يغتروا بنسبهم ويتركوا العمل:

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الصفا فقال: يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم، وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله، لاتقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبدالمطلب إلا المتقون. ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ويأتون الناس يحملون الآخرة، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين الله عزوجل فيكم». الكافي: 8/182.

وأتمَّ النبي (صلی الله علیه و آله) الحجة عليهم فأوصاهم بطاعة علي (علیه السلام):

فعن الإمام زين العابدين، في حديث وفاة النبي (صلی الله علیه و آله): «قال علي (علیه السلام): فلقد رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول ويسمع أقصى أهل البیت وأدناهم: إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب، يقضي ديني وينجز موعدي. يا بني هاشم يا بني عبدالمطلب، لاتبغضوا علياً، ولا تخالفوا أمره فتضلوا، ولاتحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا». أمالي الطوسي/600.

وكان حقد اليهود وقريش على كل بني عبدالمطلب::

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) لحاخام يهودي: «وأما الخامسة يا أخا اليهود، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً، لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى

ص: 112

أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له». الخصال/368.

وصححوا حديث أبناء عبدالمطلب سادة أهل الجنة:

فقد رواه ابن ماجة 2/1368 عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «نحن ولد عبدالمطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي». والحاكم: 3/211، وصححه على شرط مسلم، وتاريخ بغداد: 9/434 وفيه: نحن سبعة بنو عبدالمطلب سادات أهل الجنة، أنا وعلي أخي وعمي حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي». وتلخيص المتشابه: 1/197، الفردوس: 1/53، البيان للشافعي/488 وغيرها.

وفي كتاب سُلَيْم بن قيس (رحمة الله) /245: «كانت قريش إذا جلست في مجالسها فرأت رجلاً من أهل البیت (علیهم السلام) قطعت حديثها، فبينما هي جالسة إذ قال رجل منهم ما مثل محمد في أهل البیت إلا كمثل نخلة نبتت في كُناسة! فبلغ ذلك رسول الله فغضب ثم خرج فأتى المنبر فجلس عليه حتى اجتمع الناس، ثم قام

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال..».وأورد خطبة طويلة في فضله وفضل أهل بيته:جاء فيها: «ألا ونحن بنو عبدالمطلب سادة أهل الجنة، أنا وعلي وجعفر وحمزة والحسن والحسين وفاطمة والمهدي». ورواه أمالي الصدوق/384، غيبة الطوسي/113، العمدة/52 و430 والطرائف: 1/176.

وفي دلائل الإمامة/256، عن الأصبغ بن نباتة، قال: «كنا مع علي بالبصرة وهو على بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد اجتمع هو وأصحاب محمد فقال: ألا أخبركم بأفضل خلق الله عند الله يوم يجمع الرسل؟ قلنا: بلى يا أميرالمؤمنين، قال: أفضل الرسل محمد وإن أفضل الخلق بعدهم الأوصياء، وأفضل الأوصياء أنا، وأفضل الناس بعد الرسل والأوصياء الأسباط، وإن خيرالأسباط سبطا نبيكم، يعني الحسن والحسين. وإن أفضل الخلق بعد الأسباط الشهداء، وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، قال ذلك النبي (صلی الله علیه و آله)، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين مخضبان بكرامةٍ خص الله عزوجل بها نبيكم، والمهدي منا في آخر الزمان، لم يكن في أمة من الأمم مهدي ينتظر غيره».

ص: 113

أقول: كفى بهذا الحديث الشريف حجة ودليلاً على مكانة هؤلاء العظماء من أبناء عبدالمطلب:، فهو يفضح كل ما رووه من تفضيل زيد وعمرو عليهم!

20- وكان عبدالمطلب شاعراً، وكذا أبوطالب (صلی الله علیه و آله)

وتقدمت له أبيات في غزو أبرهة للكعبة، وكلها إيمان ويقين بالنصر، وفيها نبوءة بنبوة حفيده (صلی الله علیه و آله) وبدولة العدل الإلهي على يد ولده المهدي (علیه السلام)! قال:

نحن آلُ الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ

لم يزل لله فينا حجةٌ *** يدفع الله بها عنها النقم

نعرف الله وفينا شيمةٌ *** صلة الرحم ونوفي بالذمم

ولنا في كل دور كَرَّةٌ *** نعرف الدين وطوراً في العجم

فإذا ما بلغ الدورُ إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم

وطير القدم مثلٌ ضربه عبدالمطلب (رحمة الله) لأصحاب ولده الإمام المهدي (علیه السلام) الذين يجمعهم الله له في ليلة من أقاصي العالم، ليكونوا وزراءه.

فقد روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله، وتولى ما استطاع نصيحته، أولئك يتقلبون في رحمة الله، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له «القَدَم» فيبيض ويفرخ بها، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب! ثم تمثل بقول عبدالمطلب:

فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم

مستدرك الوسائل: 13/137 وجامع أحاديث الشيعة: 17/297.

وفي أمالي الصدوق/243: «قال الريان بن الصلت: أنشدني الرضا (علیه السلام) لعبدالمطلب:

ص: 114

يعيب الناس كلهم زماناً *** وما لزماننا عيب سوانا

نعيب زماننا والعيب فينا *** ولو نطق الزمان بنا هجانا

وأن الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

لبسنا للخداع مسوك طيب *** وويلٌ للغريب إذا أتانا»

وعيون أخبار الرضا 2/190.

21- أولاد عبدالمطلب عشرة، والعباس

قال الإمام الباقر (علیه السلام) كما في الخصال/452: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ولد عبدالمطلب فقال: عشرة والعباس»! وخيرهم: عبدالله، وأبوطالب، والزبير، وحمزة. وذرية عبدالله وأبي طالب خير البشر، وشذ من أبناء عبدالمطلب أبولهب إلى النار.

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/11: «وكان لعبدالمطلب من الولد الذكور عشرة، ومن الإناث أربع: عبدالله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وأبوطالب وهو عبدمناف. والزبير وهو أبو الطاهر. وعبدالكعبة وهو المقوم. وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبدالمطلب. والحارث وهو أكبر ولد عبدالمطلب وبه كان يكنى. وقثم. وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة. وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبدمناف بن زهرة، وهي أم صفية بنت عبدالمطلب. والعباس، وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط. وأبولهب وهو عبدالعزى، وأمه لُبنى بنت هاجر بن عبدمناف بن ضاطر الخزاعي. والغيداق وهو حجل وإنما سمى الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي. فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته».

والسؤال هنا: ما معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله): عشرة والعباس؟

ص: 115

والجواب: أن العباس عبدٌ لثلاثة من إخوته من بني عبدالمطلب،

ولذا عدَّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحده، لأنه عبد لإخوته، لأن أمه أمةً لهم أحَلّواها لأبيهما عبدالمطلب لتخدمه، فحملت منه بالعباس.

ففي «الكافي: 8/259»: «توفي مولى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبدالله (علیه السلام) وكان هشام بن عبدالملك قد حج في تلك السنة، فجلس لهم فقال داود بن علي: الولاء لنا.وقال أبوعبدالله (علیه السلام): بل الولاء لي. فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية. فقال: إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته. وقال: والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة، فقال له داود بن علي: كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق!

قال فقال هشام: إذا كان غداً جلست لكم، فلما أن كان من الغد خرج

أبوعبدالله ومعه كتاب في كرباسة، وجلس لهم هشام، فوضع أبوعبدالله (علیه السلام) الكتاب بين يديه، فلما أن قرأه قال: أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية، فرمى بالكتاب إليهما فقال: تعرفان هذه الخطوط؟ قالا: نعم، هذا خط العاص بن أمية، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش. وهذا خط حرب بن أمية، فقال هشام: يا أبا عبدالله أرى خطوط أجدادي عندكم؟ فقال: نعم، قال: فقد قضيت بالولاء لك، قال: فخرج وهو يقول:

إن عادت العقرب عدنا لها *** وكانت النعل لها حاضرهْ

قال فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟قال: فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبدالله، فأخذها عبدالمطلب فأولدها فلاناً، فقال له الزبير: هذه الجارية ورثناها من أمنا، وابنك هذا عبد لنا، فتحمل عليه ببطون قريش، قال فقال: قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس، ولايضرب معنا بسهم. فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه، فهو هذا الكتاب».

أقول: معنى ذلك أن العباس وأولاده مضافاً إلى أنهم من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، فهم عبيد لأبناء عبدالمطلب: الزبير، وأبي طالب، وعبدالله، الذين كانت أم

ص: 116

العباس أمةً لأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم «دلائل النبوة/99» وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها، فَوُلْدُها تبعاً لها ملكٌ لهم، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها.

ونلاحظ أن المؤرخين «تاريخ دمشق 26/276» قالوا إن أم العباس نتيلة بنت جناب، ثم قالوا: وقيل أو يقال: ابنة مالك بن خباب بن كليب،من بني النمر بن قاسط. وزعموا أن ابنها ضاع فنذرت أن تكسوا الكعبة حريراً. لكن هذه القصة لأم ضرار بن عبدالمطلب، سرقوها وجعلوها لأم العباس!

وقد رواها ابن حبيب في المنمق/36، والبلاذري في أنساب الأشراف: 1/90، قالا: «كان ضرار بن عبدالمطلب من فتيان قريش، جمالاً، وعقلاً، وهيبة، وسخاء، وإن أمه نتيلة أضلته فكاد عقلها يذهب جزعاً عليه، وكانت كثيرة المال، فجعلت تنشد في المواسم وتقول:

أضللت أبيض كالخصاف *** للفتية الغرِّ بني مناف

ثم لعمري منتهى الأضياف *** سنَّ لفهر سُنَّةَ الإيلاف

في القرِّ حين القر والأصياف

فجعلت لمن جاء به هنيدة، ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها. فمر بها حسان بن ثابت حاجاً في نفر من قومه، فرأى جزعها عليه فقال:

وأمّ ضرار تنشد الناس والهاً *** فيالبني النجَّار ما ذا أضلَّتِ

ولو أن ما تلقى نتيلة غدوة *** بأركان رضوى مثله ما استقلَّتِ

فأتاها به رجل من جذام فوفت له بجعلها وكست البيت ثياباً بيضاً وقالت:

الحمد لله وليِّ الحمدِ *** قد ردَّ ذو العرش عليَّ وُلدي

من بعد أن جوَّلتُ في مَعَدِّ *** أشكره ثم أفي بعهدي.

فقد أخذوا قصة أم ضرار بن عبدالمطلب ونسبوها إلى أم العباس»!

ص: 117

الفصل السادس: والده عبدالله ووالدته آمنة (علیهما السلام) ومولده المبارك

1- قلة الروايات عن والدي النبي (صلی الله علیه و آله)

وسببه أن حكومات قريش قررت أن تنشر في المسلمين أن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته كلهم كفار، ومنعت أن يروي المسلمون سيرتهم ومناقبهم.

وقد بينا في مقدمة هذه السيرة، أن الحكومات تبنت سياسة إبادة كنوز السيرة وعلوم الإسلام، وإحراق كتب شيعة أهل البیت (علیهم السلام)، ويكفي مثالاً على ذلك: كُتب جابر بن يزيد الجعفي، وكُتب أحمد ابن عقدة، وكُتب سليمان الأعمش، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم! فقد أحرقوها أو فقدت في أيام تشريدهم وتلاميذهم! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث، أي مئتي مجلداً!

قال مسلم في مقدمة صحيحه: 1/15: «الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» عن النبي صلى عليه وسلم كلها»!

2- تكريم خاص لوالدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته

في الكافي: 1/446، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبدالله بن عبدالمطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية ابن فضال: وفاطمة بنت أسد».

ص: 118

وأضافت رواية الخصال/293: «وفي بيت آواك وهو عبدمناف بن عبدالمطلب أبوطالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية. قيل: يا رسول الله من هذا الأخ؟ فقال: كان أنسي وكنت أنسه، وكان سخياً يطعم الطعام.

قال مصنف هذا الكتاب رضيالله عنه: إسم هذا الأخ الجلاس بن علقمة».

أقول: هؤلاء كلهم من أهل الجنة:، وهذه الشفاعة كرامة خاصة أهداها الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) بتكريمهم من أجله ورفع درجتهم في الجنة. وليس معناها كما تخيل البعض أنهم بدونها من أهل النار.

3- افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته (علیهم السلام)

وقد روى في الكافي: 5/50 افتخار النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناد: يا سوء صباحاه! فسمعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخيل، فركب فرسه في طلب العدو، وكان أول أصحابه لحقه:

أبوقتادة على فرس له، كان تحت رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً، وتتابعت الخيل فقال أبو قتادة: يا رسول الله إن العدو قد انصرف، فإن رأيت أن نستبق؟ فقال: نعم، فاستبقوا فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) سابقاً عليهم، ثم أقبل عليهم فقال: أنا ابن العواتك من قريش، إنه لهوَ الجواد البحر، يعني فرسه».

وقد افتخر بأمهاته (صلی الله علیه و آله) كما افتخر بجده عبدالمطلب (علیه السلام)، ولا يمكن أن يفتخر بمشركين أو مشركات من أهل النار.

وفسرالمحقق البحراني العواتك فقال في الحدائق: 22/356: «جَمْعُ عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب، وكان هذا الإسم لثلاث نسوة من أمهاته (صلی الله علیه و آله): إحداهن عاتكة بنت هلال، أم عبدمناف بن قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال، أم هاشم بن عبدمناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال،

أم وهب أبي آمنة أم النبي (صلی الله علیه و آله)، فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة. قيل: وبنو سليم كانوا يفتخرون بهذه الولادة.وقيل: العواتك في جدات

ص: 119

النبي (صلی الله علیه و آله) تسع، ثلاث من بني سليم وهن المذكورات، والبواقي من غيرهم».

4- عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) من كبار أولياء الله

قال الفتال النيسابوي/138: «إعلم أن الطائفة المحقة قد اجتمعت على أن أباطالب وعبدالله بن عبدالمطلب وآمنة بنت وهب:، كانوا مؤمنين».

وقد ركزالأئمة (علیهم السلام) المكانة الدينية لعبدالله وآمنة وعبدالمطلب رضيالله عنهم. قال داود الرقي وهومن كبار أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 4/544»: «دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) ولي على رجل مال قد خفت تَوَاهُ «ذهابه» فشكوت إليه ذلك، فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبدالمطلب طوافاً وصل ركعتين عنه، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن عبدالله طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين، ثم ادع أن يرد عليك مالك.

قال ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني! تعال إقبض مالك».

5- تزوج والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في سنّ السابعة عشرة

«قال محمد بن مسعود الكازروني في كتاب المنتقى: ولد عبدالله لأربع وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنوشروان، فبلغ سبع عشرة سنة ثم تزوج آمنة، فلما حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي، وذلك أن عبدالله بن عبدالمطلب خرج إلى الشام في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن عبدالله، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبدالمطلب أعظم ولده الحارث فوجده قد توفي في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبدالمطلب وإخوته وأخواته وجداً

ص: 120

شديداً، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يومئذ حمل، ولعبدالله يوم توفي خمس وعشرون سنة».

بحار الأنوار: 15/124.

ويؤيده ما تقدم عن الإمام الصادق (علیه السلام) في أصحاب الفيل: «فدعا ولده عبدالله وإنه لغلام حين أيفع، وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه، فقال له: اذهب فداك أبي وأمي فَاعْلُ أبا قبيس، وانظر ماذا ترى يجئ من البحر».

وعام الفيل هو عام ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) وهذا يعني أن أباه كان شاباً في أول شبابه، فلا تصح رواية أنه كان ابن خمس وعشرين سنة أو ثلاثين.«فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال: يا سيد النادي، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارةً، وينحدر أخرى!

فنادى عبدالمطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر».

وقد كانت عادتهم التزويج المبكر، ففي إكمال الدين/196: «لما بلغ عبدالله بن عبدالمطلب زوجه عبدالمطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وقال اليعقوبي: 2/9: «وكان تزويج عبدالله بن عبدالمطلب لآمنة بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبدالمطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة..وكان بين تزويج أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر».

6- خطب عبدالمطلب لابنه عبدالله، وخطب لنفسه

روى المؤرخون أن عبدالمطلب رضيالله عنه خطب في مجلس واحد آمنة بنت وهب لابنه عبدالله رضيالله عنه، وخطب لنفسه بنت عمها هالة بنت أهيب.

ففي تاريخ دمشق: 3/418: «أن عبدالمطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من

ص: 121

اليهود له علم، فنظر إلى عبدالمطلب فقال: أرني منك شيئين، فقال عبدالمطلب: وإني أريك ما لم يكن عورة، فقال لا أريد العورة، أريد أن أنظر إلى أنفك وإلى كفيك فقال: أنظر، فقال له: أبسط كفيك فبسطهما فقال: أما في أحد كفيك ملك، وأما أنفك فإن فيه النبوة، ولا يتم ذلك إلا في بني زهرة، هل لك في شاعة؟ قال: لا. قال فتزوج في بني زهرة. قال: فلما رجع عبدالمطلب تزوج هالة بنت وهيب، وزوج عبدالله آمنة بنت وهب».

قال الحاكم: 3/192: «كانت في حجر عمها أهيب بن عبدمناف بن زهرة، وإن عبدالمطلب بن هاشم جاء بابنه عبدالله بن عبدالمطلب أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتزوج عبدالله آمنة بنت وهب، وتزوج عبدالمطلب هالة بنت أهيب بن عبدمناف بن زهرة، وهي أم حمزة بن عبدالمطلب في مجلس واحد، وكان»حمزة«قريب السن من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخاه من الرضاعة».

وروى ابن شاذان في الفضائل/6، عن الواقدي أن عقيل بن أبي وقاص أجرى عقد قران عبدالله بآمنة (علیهما السلام) فقال لوهب: «يا أبا الوداح زوجتَ كريمتك آمنة من ابن سيدنا عبدالمطلب على صداق أربعة آلاف درهم بيض هجرية جياد وخمس مائة مثقال ذهب أحمر؟ قال: نعم. ثم قال: يا عبدالله قبلت بهذا الصداق يا أيها السيد الخاطب، قال: نعم. ثم دعا لهما بالخير والكرامة، ثم أمر وهب أن تقدم المائدة فقدمت مائدة خضرة، فأتى من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض فأكلوا وشربوا. قال ونثر عبدالمطلب على ولده قيمة ألف درهم من النثار، وكان متخذاً من مسك بنادق، ومن عنبر، ومن سكر ومن كافور. ونثر ذهب بقيمة ألف درهم عنبر».

أقول: والرواية طويلة، ذكرت أن عبدالله دخل بعروسه في ذلك اليوم، ولا بد أن يكون المخاطب عم آمنة أهيب أخ وهب لأنه كان وليها، وكان أبوها وهب توفي، كما تقدم. على أن هذه الرواية ربما كانت موضوعة.

ص: 122

7- حملت به أمه في منى في بيت أبيه عبدالمطلب

في الكافي: 1/439: «حملت به أمه في أيام التشريق، عند الجمرة الوسطى، وكانت في منزل عبدالله بن عبدالمطلب».

وقال السهيلي: 1/183: «قال الزبير»بن بكار: «كان مولده في رمضان.وهذا القول موافق لقول من قال إن أمه حملت به في أيام التشريق. وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه ولد بعد مجئ الفيل بخمسين يوماً. وهو الأكثر والأشهر».

والمتفق عليه أن ولادته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول، فلا يمكن أن يكون حمله في أيام التشريق في ذي الحجة. ولعل سبب الإشتباه أن عرس عبدالله كان في بيت أبيه عبدالمطلب في منى عند الجمرة، وهو البيت الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة، فاشتبه الراوي وأضاف اليه الزمان، وتصور أنه كان في أيام التشريق.

ويؤيد ما قلناه الرواياتُ التي ذكرت مكان الحمل به دون زمانه، كقول الإمام الباقر (علیه السلام) «الكافي 4/209»: «أراد أن يذبحه، أي إسماعيل في الموضع الذي حملت أم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند الجمرة الوسطى، فلم يزل مضربهم يتوارثون به كابر عن كابر، حتى كان آخر من ارتحل منه علي بن الحسين (علیه السلام) في شئ كان بين بني هاشم وبين بني أمية، فارتحل فضرب بالعرين».

8- المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله

رووا أن كاهنةً رأت النور في غرة والد النبي (صلی الله علیه و آله) فطلبت منه أن يتزوجها لتحمل منه، ولعله خبر صحيح لأن توقع ولادة النبي الموعود كان منتشراً.

قال الطبري: 2/6: «خرج عبدالمطلب بعبدالله ليزوجه ومر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مُر، متهودة من أهل تُبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نوراً، فقالت له: يافتى هل لك أن تقع عليَّ الآن وأعطيك مائة من الإبل.. فمضى به فزوجه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة».

ص: 123

وقال ابن سعد: 1/95: «المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله بن عبدالمطلب: وقد اختلف علينا فيها، فمنهم من يقول كانت قتيلة بنت نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي أخت ورقة بن نوفل..وكانت تنظر وتعتاف» تتفرس«فمر بها عبدالله بن عبدالمطلب فدعته يستبضع منها، ولزمت طرف ثوبه، فأبى.. ومنهم من يقول كانت فاطمة بنت مُرّ الخثعمية».

وقال في الروض الأنف: 1/178: «وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه هي: ليلى العدوية».

9- توفي عبدالله في المدينة وهو شاب

قال ابن سعد: 1/99: «خرج عبدالله بن عبدالمطلب إلى الشام إلى غزة، في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض، فقال: أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن عبدالله فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبدالمطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي، ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار في الدار التي إذا دخلتها فالدويرة عن يسارك، وأخبره أخواله بمرضه وبقيامهم عليه وما ولوا من أمره، وأنهم قبروه. فرجع إلى أبيه فأخبره فَوَجَدَ عليه عبدالمطلب وإخوته وأخواته وَجْداً شديداً». وفي رواية أن أباه عبدالمطلب أرسله إلى المدينة ليمتار لهم تمراً.

10- ما ورثه النبي (صلی الله علیه و آله) من أبيه وأمه (علیهما السلام)

قال البلاذري في أنساب الأشراف: 1/96: «ورث رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أبيه أم أيمن واسمها بركة فأعتقها، وخمسة أجمال أوارك«تأكل الأراك»وقطعة غنم، وسيفاً مأثوراً وورقاً«سيفاً قديماً ونقداً»فكانت أم أيمن تحضنه ويسميها أمي. وقال بعض الرواة: ورث أم أيمن من أمه، فأعتقها».

ص: 124

وورث النبي عن أبيه غلامه شَقْران الذي شارك في تجهيزه. تاريخ دمشق: 4/271.

11- آمنة بنت وهب من كرائم العرب

قال الطبري: 2/5: «فخرج به عبدالمطلب حتى أتى به وهب بن عبدمناف بن زهرة، ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً، فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لِبَرَّة بنت عبدالعزى».

وتقدم في رواية الصدوق (رحمة الله) «كمال الدين/176» أن سيف بن ذي يزن كان يتوقع ظهور النبي (صلی الله علیه و آله) وأنه قال لعبدالمطلب: «هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، ليعز بهم أولياؤه، ويذل بهم أعداءه.. فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوجته بكريمة من كرائم قومي، إسمها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء».والمنمق/426. راجع: الأخبار الطوال/63، اليعقوبي: 1/165و 2/9، الطبقات: 5/533.

12- تحدثت آمنة عن حملها برسول الله (صلی الله علیه و آله)

قال الصدوق في كمال الدين/196: «لما بلغ عبدالله بن عبدالمطلب زوجه عبدالمطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فروي عنها أنها قالت: لما حملت به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، فرأيت في نومي كأن آت أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام، فلما حان وقت الولادة خف علي ذلك حتى وضعته، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه، وسمعت قائلاً يقول: وضعت خير البشرفعوذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد. فولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الإثنين. فقالت آمنة: لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه

ص: 125

وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض.

ورُميت الشياطين بالنجوم وحجبوا عن السماء، ورأت قريش الشهب والنجوم تسير في السماء ففزعوا لذلك وقالوا: هذا قيام الساعة، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة فأخبروه بذلك، وكان شيخاً كبيراً مجرباً فقال: أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدوا بها في البر والبحر، فإن كانت قد زالت فهو قيام الساعة وإن كانت هذه ثابته فهو لأمر قد حدث.

وأبصرت الشياطين ذلك فاجتمعوا إلى إبليس فأخبروه أنهم قد منعوا من السماء ورموا بالشهب، فقال: أطلبوا فإن أمراً قد حدث، فجالوا في الدنيا ورجعوا وقالوا: لم نر شيئاً، فقال: أنا لهذا، فخرق ما بين المشرق والمغرب فلما انتهى إلى الحرم وجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فلما أراد أن يدخل صاح به جبرئيل (علیه السلام) فقال: إخسأ يا ملعون، فجاء من قبل حراء فصار مثل الصَُّرد [العصفور] قال: يا جبرئيل ما هذا؟ قال: هذا نبي قد ولد وهو خير الأنبياء، قال: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا، قال: ففي أمته؟ قال: بلى، قال: قد رضيت».

وفي الكافي: 1/454 و 8/302 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان حيث طَلَقَتْ آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي (صلی الله علیه و آله) حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتى وضعت. لما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فُتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فقالت إحداهما للأخرى: هل ترين ما أرى؟ فقالت: وما ترين؟ قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب! فبينما هما كذلك إذا دخل عليهما أبوطالب فقال لهما: ما لكما من أي شئ تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت، فقال لها أبوطالب: ألا أبشرك؟ فقالت: بلى، فقال: أما إنك ستلدين غلاماً يكون وصي هذا المولود».

وفي الكافي: 1/452: «إصبري سبتاً أبشرك بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة. وكان بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين (علیه السلام) ثلاثون سنة».

يدل هذا على أن أباطالب وعبدالمطلب يعلمان بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) وإمامة علي (علیه السلام) .

ص: 126

13- وُلِد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة

قال رواة السلطة إن النبي (صلی الله علیه و آله) ولد يوم الإثنين، وقال أهل البیت (علیهم السلام): وُلِد يوم الجمعة فجراً، ففي قرب الإسناد/299، عن علي بن جعفر قال: «جاء رجل إلى أخي «موسى بن جعفر (علیه السلام)» فقال له: جعلت فداك، إني أريد الخروج فادع لي. قال: ومتى تخرج؟ قال: يوم الإثنين. فقال له: ولمَ تخرج يوم الإثنين؟ قال: أطلب فيه البركة،لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وُلد يوم الإثنين. فقال: كذبوا! وُلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة، وما من يوم أعظم شؤماً من يوم الإثنين، يوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانقطع فيه وحي السماء، وظُلمنا فيه حقنا!

ألا أدلك على يوم سَهْلٍ ألانَ الله تبارك وتعالى لداود فيه الحديد؟ فقال الرجل: بلى جعلت فداك. قال: أخرج يوم الثلاثاء».

وفي الحدائق الناضرة: 17/423 ملخصاً: «كان مولده بمكة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد طلوع الفجر، سابع عشر شهر ربيع الأول عام الفيل، وهذا هو المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم. وقيل لاثنتي عشرة مضت من الشهر، وقيل اليوم العاشر منه، وقيل الثاني. وبُعث (صلی الله علیه و آله) في اليوم السابع والعشرين من رجب، وله أربعون سنة. وقُبض بالمدينة يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. ونقل في الدروس قولاً بأنه قبض لاثنتي عشرة من شهر ربيع الأول، واختاره الكليني..وذكر جمع من أصحابنا منهم الشيخ في التهذيب والعلامة في المنتهى أنه قبض مسموماً».

وقال الكليني في الكافي: 1/439: «ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف، في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلي الناس فيه...

وتوفي أبوه عبدالله بن عبدالمطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت أمه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو ابن أربع سنين، ومات عبدالمطلب وللنبي (صلی الله علیه و آله) نحو ثمان

ص: 127

سنين، وتزوج خديجة، وهو ابن بضع وعشرين سنة».

«الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجداً يصلي فيه الناس ويزورونه ويتبركون به، وبقي على حالته تلك، فلما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته! على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطاً للدواب».أعيان الشيعة: 1/219 والصحيح: 2/68.

أقول: إسم المكان شعب أبي طالب (رحمة الله)، أو شعب بني هاشم، ويسمونه الآن شِعب علي (علیه السلام)، وقد رأيتُه سنة 1961ميلادية وكان واضح المعالم، وفي يسار مدخله بيت عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو مكان مولده الشريف، وكان يومها مكتبة باسم: مكتبة مكة، ثم أراد مشايخهم هدمه فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين، فأبقوخالياً إلى يومنا هذا سنة 1438، ينتظرون فرصة لهدمه!

ورأيت يومها بيت أبي طالب (رحمة الله) داخل الشعب إلى اليمين، في مكان مرتفع، وقد جعلوه مدرسة باسم: مدرسة النجاح، ثم أزالوه مع البيوت، وأزالوا أكثر الجبلين اللذين يقع الشعب بينهما.

وفي الجهة الغربية مقابل شعب أبي طالب، بيت خديجة (علیها السلام) وكان في سوق الليل أو سوق الذهب، ويسمى: مولد فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وجعلوه مدرسة للبنات، ثم أزالوه فيما أزالوا، بل أمعنوا في أذاهم للنبي (صلی الله علیه و آله) فجعلوه مرافق!

فكأن لهؤلاء الوهابية عداوةً مع آثار النبي وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله) فهم يبادرون إلى إزالتها حتى لو كانت مساجد أو مملوكة للناس! لكنهم حافظوا على حصن عدو الإسلام اليهودي كعب بن الأشرف، الذي حاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) وأبقوه بسوره وساحته وبئره، وغرفه العشرة، بعهدة بلدية المدينة المنورة، جنب حديقة البلدية العامة! وتجد صورته في شبكة النت!

ص: 128

14- بعض الآيات الربانية عند ولادته (صلی الله علیه و آله)

قال الإمام الباقر (علیه السلام) «الكافي: 8/300»: «لما ولد النبي (صلی الله علیه و آله) جاء رجل من أهل الكتاب «الحاخام يوسف» إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة، والعاص بن هشام، وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن ربيعة، فقال: أوُلدَ فيكم مولودٌ الليلة؟ فقالوا: لا، قال: فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخزِّ الأدكن، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه، قد أخطاكم والله يا معشر قريش! فتفرقوا وسألوا فأخبروا أنه ولد لعبدالله بن عبدالمطلب غلام، فطلبوا الرجل فلقوه فقالوا: إنه قد ولد فينا والله غلام! قال: قبل أن أقول لكم أو بعدما قلت لكم؟ قالوا: قبل أن تقول لنا، قال: فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه، فانطلقوا حتى أتوا أمه فقالوا: أخرجي ابنك حتى ننظر إليه، فقالت: إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان، لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى، وسمعت هاتفاً في الجو يقول: لقد ولدته سيد الأمة، فإذا وضعته فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه محمداً، قال: فأخرجيه، فأخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخرَّ مغشياً عليه!فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى أمه وقالوا: بارك الله لك فيه. فلما خرجوا أفاق فقالوا له: ما لك ويلك؟ قال: ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة، هذا والله من يُبيرهم!ففرحت قريش بذلك، فلما رآهم قد فرحوا قال: قد فرحتم!أما والله ليسطون بكم سطوةً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب».

و في أمالي الصدوق/360، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع، فلما ولد عيسى (علیه السلام) حجب عن ثلاث سماوات. وكان يخترق أربع سماوات، فلما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حجب عن السبع كلها، ورميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه! وقال عمرو بن أمية، وكان من أزجر أهل الجاهلية: أنظروا

ص: 129

هذه النجوم التي يهتدى بها، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شئ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها، فهو أمرحدث!

وأصبحت الأصنام كلها صبيحة مولد النبي (صلی الله علیه و آله) ليس منها صنم إلاوهو منكبٌّ على وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى، وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى المؤبذان «عالم المجوس» في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح مُنكَّساً، والملك مُخْرَسّاً لايتكلم يومه ذلك.

وانتزع عِلْمُ الكهنة وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب، وسموا آل الله عزوجل. قال أبوعبدالله الصادق (علیه السلام): إنما سموا آل الله عزوجل، لأنهم في بيت الله الحرام. وقالت آمنة: إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نور أضاء له كل شئ، وسمعت في الضوء قائلاً يقول: إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً، وأتيَ به عبدالمطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه، فأخذ فوضعه في حجره، ثم قال:

الحمد لله الذي أعطاني *** هذا الغلام الطيب الأردانِ

قد ساد في المهد على الغلمانِ

ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً.

قال: وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟ فقال لهم: ويلكم، لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيمٌ ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً!

ص: 130

فقال إبليس: أنا لهذا الأمر. ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصِّر وهو العصفور فدخل من قبل حراء فقال له جبرئيل: وراءك لعنك الله. فقال له: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له: ولد محمد (صلی الله علیه و آله)! فقال له: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا. قال: ففي أمته؟ قال: نعم. قال: رضيت».

وفي دعائم الإسلام: 2/142 في قوله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا: «عن علي (علیه السلام) قال: كنا مع رسول الله ذات ليلة إذ رمي نجم فاستضاء، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للقوم: ما كنتم تقولون في وقت الجاهلية إذا رأيتم مثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: مات عظيم وولد عظيم، فقال: فإنه لايرمى بها لموت أحد ولا لحياة أحد، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبَّح حملة العرش فقالوا: قضى ربنا بكذا، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم فيقولون ذلك حتى يبلغ ذلك أهل السماء الدنيا. فتسترق الشياطين السمع، فربما اعتقلوا شيئاً فأتوا به الكهنة، فيزيدون وينقصون، فتخطئ الكهنة وتصيب.

ثم إن الله منع السماء بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة، وتلا قول الله عزوجل: إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. وقوله جل ثناؤه: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَداً».

15- نَسَبٌ طاهرٌ شامخٌ إلى إبراهيم وآدم (علیهم السلام)

في الصحيح: 2/63: «هو أبوالقاسم محمد (صلی الله علیه و آله) بن عبدالله، بن عبدالمطلب شيبة الحمد، بن هاشم، بن عبدمناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.

قالوا: إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف، أما ما فوقه ففيه اختلاف

ص: 131

كثير، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل (علیه السلام) .

وروي أنه (صلی الله علیه و آله) قال: إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا».

وفي نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب: 1/10: «أما عمود نسب النبي (صلی الله علیه و آله) فعلى ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وتبعه عليه ابن هشام... ثم أكمل النسب فقال: بن عدنان، بن أدد، بن مقوم، بن ناحور، بن تارخ، بن يعرب، بن يشجب، بن نابت، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن تارخ وهو آزر، بن تاخور بن شارخ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشد، بن سام، بن نوح، بن لامك، بن متوشلخ، بن أخنوخ وهو إدريس، بن يرد، بن مهلائيل، بن قنين، بن يافت بن شيث، بن آدم (علیه السلام) .والإتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان. وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل فيه خلاف كثير».

وفي شعب الإيمان للبيهقي: 2/137: «نسبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) صحيحة إلى عدنان، وما وراء ذلك فليس فيه شئ يعتمد.. وذلك لاختلاف النسابين في ذلك، منهم من يزيد ومنهم من ينقص، ومنهم من يُغَيِّر».

أقول: اتفق المؤرخون على أسماء أجداد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عدنان، وهم واحد وعشرون جداً، ثم ذكروا ثمانية أجداد إلى إبراهيم (علیه السلام)، وسبعاً وعشرين جداً إلى آدم (علیه السلام)، لكن هذا لايتفق مع المدة التي رووها، وهي 600 سنة إلى عيسى (علیه السلام)، ثم1270سنة إلى موسى (علیه السلام)، ثم 500 سنة إلى إبراهيم (علیه السلام)، خاصة إذا افترضنا لكل ثلاثة آباء قرناً.

وقد بنوا كلامهم وكتبهم على رواية اليهود بأن عمر الأرض سبعة آلاف سنة! وروى العياشي: 1/31 عن الصادق (علیه السلام) أن الله أسكن في الأرض الملائكة والجن قبل آدم، وأنه قدر لآدم عشرة آلاف عام. لكنها ضعيفة لايعتمد عليها.

وروي عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) أنه قال لأبي حمزة الثمالي: «أتظن أن الله لم يخلق خلقاً سواكم؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم، وألف ألف عالم، وأنت والله في آخر تلك العوالم». مشارق أنوار اليقين/60.

وأقوال المؤرخين في عمرالإنسان على الأرض كلها ظنونٌ ليس فيها علم ولا اطمئنان، وكذا قول علماء الطبيعة إن عمرالإنسان على الأرض ملايين السنين.

ص: 132

ومعنى قوله (صلی الله علیه و آله): إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا، أن ما بأيديكم بعد عدنان غيردقيق، ولعل معناه أن معلوماتكم عن التاريخ خطأ، وتصحيحها متشعب ولم يؤمر به النبي (صلی الله علیه و آله)! راجع الإختصاص/50، البحار: 54/86، ابن خلدون: 2 ق: 1/3 و298، الحاكم: 2/598، كشف الخفاء: 2/314، تفسير الرازي: 19/179

وقصة الحضارة مجلد: 34.

16- رضاع النبي (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة (علیها السلام)

أكثر المؤرخون والمحدثون من الرواية في رضاع النبي (صلی الله علیه و آله)، وضاعت الحقيقة لتفاوت مروياتهم ووجود المكذوب فيها. فقالوا: إن أمه لم ترضعه لأنها كانت قليلة اللبن، أو أرضعته أياماً قليلة، ثم أرضعته ثويبة أمة أبي لهب أياماً، ثم جاءت حليمة! وقصدهم بذلك مدح أبي لهب والطعن في أسرة النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا قالوا: إن المرضعات زهدن فيه لأنه يتيم، مع أنه جده عبدالمطلب رئيس قريش والعرب، ومطعم الحجيج، والناس تتنافس للتعامل معه!

والصحيح أن أمه (علیها السلام) أرضعته مدة سنة أو أكثر، ثم أعطته إلى حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف، كما كانت عادة أهل مكة.

قال الشهيد الثاني (رحمة الله) في شرح اللمعة: 5/165 والمسالك: 1/376: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة».فافتخر بالرضاع كما افتخر بالنسب، وهذه القبائل أفصح العرب.

وفي الإختصاص/187، أن أعرابياً سأله: «يا رسول الله من أَدَّبَكَ؟ قال: الله أدبني وأنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وربيت في حجرٍ من هوازن».

ورواه من السنيين: النووي في المجموع: 18/227، ابن حجر في تلخيص الحبير: 4/13 والمهذب في فقه الشافعي للشيرازي: 3/145.

فرضاعه الأول (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة بنت وهب (علیها السلام) هو الأصل والمؤثر في شخصيته. ورضاعه الثاني من حليمة تكميلٌ أو إضافة! فقوله (صلی الله علیه و آله): ارتضعت

ص: 133

من بني زهرة، معناه رضاعاً كاملاً عرفاً، لمدة سنة ونحوها.

وتتعجب من كثرة روايتهم: «أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد». وقلة روايتهم حديث رضاعه من أمه (صلی الله علیه و آله)، وكذلك كثرة روايتهم افتخاره بنشأته في بني سعد، كالذي رواه الطبراني في الكبير: 6/36: «عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا النبي لا كذب، أنا بن عبدالمطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن». والسيوطي في الصغير: 1/411 والخصائص: 1/63 والعجلوني: 1/206 وابن قتيبة في المعارف/132، ابن منظور: 3/99 والفائق: 1/9و126.

والظاهر أنه (صلی الله علیه و آله) كرر ذلك في مناسبات عديدة، ليذعن العرب لنبوته، ففي معاني الأخبار/320: «عن محمد بن إبراهيم التميمي قال: كنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنشأت سحابة فقالوا: يا رسول الله هذه سحابة ناشئة. فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون بواسقها؟قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد تراكمها.قال: كيف ترون جونها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنه وأشد سواده.قال: فكيف ترون رحاها؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: فكيف ترون برقها أخفواً أم وميضاً أم يشق شقاً؟ قالوا: يا رسول الله بل يشق شقاً، فقال رسول الله: الحيا. فقالوا: يا رسول الله ما أفصحك، وما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني من ذلك، وبلساني نزل القرآن بلسان عربي مبين.

ثم روى الصدوق (رحمة الله) تفسيره عن أبي عبيد قال: «القواعد: هي أصولها المعترضة في آفاق السماء، وأحسبها تشبه بقواعد البيت وهي حيطانه، والواحدة قاعدة، قال الله عزوجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ. وأما البواسق ففروعها المستطيلة إلى وسط السماء إلى الأفق الآخر، وكذلك كل طويل فهو باسق، قال الله عزوجل: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. والجُون هو الأسود اليحمومي وجمعه جُوَن. وأما قوله: فكيف ترون رحاها، فإن رحاها استدارة السحابة في السماء ولهذا قيل: رحا الحرب، وهو الموضع الذي يستدار فيه لها، والخَفْوُ الإعتراض من البرق في نواحي الغيم وفيه لغتان، ويقال: خفا البرق يخفو خفواً ويخفى خفياً. والوميض: أن يلمع قليلاً

ص: 134

ثم يسكن، وليس له اعتراض، وأما الذي يشق شقاً فاستطالته في الجو إلى وسط السماء، من غير أن يأخذ يميناً ولا شمالاً. قال مصنف هذا الكتاب: والحيا: المطر».

17- نشأته في البادية ورضاعه من حليمة

تناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له ومدة إرضاعها إياه! ولم أجد ما يطمأن اليه في ذلك عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام)، والمؤكد أن عبدالمطلب (رحمة الله) سلمه إلى زوجها الحارث السعدي، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف، وأرضعته حليمة مدة من الزمن، وأعادته إلى جده فأكرمهم.

ومن المقولات الكاذبة قولهم إنه (صلی الله علیه و آله) كان يتيماً فزهدت فيه المرضعات، مع أنه حفيد عبدالمطلب زعيم العرب! وكذلك قولهم إن ثويبة أو ثويبية مولاة أبي لهب أرضعته (صلی الله علیه و آله)! وغرضهم تخفيف العذاب عن أبي لهب «البخاري: 6/125»لأنه حليف أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) الذين حكموا من بعده!

وقال الكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد/72: «وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه وخصها بتربيته، وكانت ذات عقل وفضل، فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين، وكان لايرضع إلا من ثديها اليمين. قال ابن عباس: ألهم العدل حتى في رضاعه، لأنه علم أن له شريكاً، فناصفه عدلاً منه (صلی الله علیه و آله)! قالت حليمة: ولم أر قط ما يُرى للأطفال، طهارةً ونظافةً، وإنما كان له وقت واحد ثم لايعود إلى وقته من الغد، وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه..وكان بنوسعيد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم، حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده، فيزول ما بها وتعود إلى أحسن حالها! ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله، فاشتمل عليه جده عبدالمطلب يحبوه التُّحف ويمنحه الطُّرف، ويعد قريشاً به ويخبرهم بما يكون من حاله، إلى أن دنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب وأوصاه به،

ص: 135

وأمره بحياطته ورعايته، وعرفه ما يكون من أمره».

وفي المناقب: 1/32: «وروي عن حليمة أنه جلس محمد وهو ابن ثلاثة أشهر، ولعب مع الصبيان وهو ابن تسعة، وطلب مني أن يسير مع الغنم يرعى وهو ابن عشرة، وناضل الغلمان بالنبل وهو ابن خمسة عشر، وصارع الغلمان وهو ابن ثلاثين «شهراً» ثم رددته إلى جده».

وحديث المناقب الآنف إنها أعادته وعمره ثلاثون شهراً أي سنتين ونصفاً. قريب من قول ابن الجوزي في عيون التاريخ: 1/18: «ثم أرضعته حليمة بنت عبدالله السعدية، وردته إلى أمه بعد سنتين وشهرين».

لكن في رواية العدد القوية/122 والمناقب: 1/149 عن كتاب العروس وتاريخ الطبري: «ثم أرضعته حليمة السعدية، فلبث فيهم خمس سنين».

وفي صفوة الصفوة/27: «وقال ابن قتيبة: لبث فيهم خمس سنين..فكان عند أمه آمنة إلى أن بلغ ست سنين، ثم خرجت به إلى المدينة إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به ومعها أم أيمن تحضنه فأقامت به عندهم شهراً، ثم رجعت به إلى مكة، فتوفيت بالأبواء، فقبرها هنالك».

وفي تاريخ الذهبي: 1/46: «ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأخذته معها إلى أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى أمه».

وروى ابن سعد أنها جاءت به بعد أربع سنين لما جاء الملكان وشقا صدره، ثم عادت به فبقي سنة! لكن خبر شق الصدر عندنا مكذوب. والمرجح عندنا: أن أمه (صلی الله علیه و آله) أرضعته سنة أو نحوها،ثم أخذته حليمة السعدية فبقي عندها في بني سعد نحو أربع سنين. ويحتمل أن تكون حليمة في مدة وجوده عندها، تأتي به إلى أمه فيبقى أياماً أو شهراً، ثم تاخذه، لأن مكان حليمة قرب الطائف وهو على بعد يومين أو أقل من مكة، وهذه مسافة قريبة يومها.

ص: 136

18- وفاؤه (صلی الله علیه و آله) لحليمة وأولادها

رويَ أن حليمة السعدية توفيت قبل هجرته (صلی الله علیه و آله) فبكى لها.

وفي الكافي: 2/161 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سُرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟ فقال: لأنها كانت أبرُّ بوالديها منه».

وفي جواهر العقود: 2/161: «روي أن وفد هوازن قدموا على النبي (صلی الله علیه و آله) فكلموه في سبي أوطاس: فقال رجل من بني سعد: يا محمد، إنا لو كنا ملَّحْنَا للحارث بن

أبي شمر«أي أرضعنا لملك الشام» أو للنعمان بن المنذر «ملك الحيرة» ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين فاحفظ ذلك. وإنما قالوا له ذلك لأن حليمة التي أرضعت النبي كانت من بني سعد».

وفي البحار: 22/262: «لم يكن لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة من جهة أمه إلا من الرضاعة فإن أمه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا أخت. إلا أن بني زهرة يقولون: نحن أخواله لأن آمنة منهم، ولم يكن لأبويه عبدالله وآمنة ولد غيره.. وكان له خالةٌ من الرضاعة يقال لها سلمى، وهي أخت حليمة بنت أبي ذؤيب، وله أخوان من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بن الحارث، أبوهما الحارث بن عبدالعزى بن سعد بن بكر بن هوزان».

وسمتها الرواية الشيماء، وسماها في الفضائل/87: حُرَّة، وروى قصتها مع الحجاج، قال: «لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه قال لها: الله جاء بك، فقد قيل عنك إنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر وعثمان؟! فقالت: لقد كذب الذي قال إني أفضله على هؤلاء خاصة؟ قال: وعلى من غير هؤلاء؟ قالت: أفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان وعيسى بن مريم! فقال لها: ويلك أقول

ص: 137

لك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أولي العزم من الرسل؟إن لم تأت ببيان ما قلت وإلا ضربت عنقك! فقالت: ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء، ولكن الله عزوجل فضله عليهم في القرآن..الخ.».

أقول: لعل هذه ابنة الشيماء أخت النبي (صلی الله علیه و آله) من الرضاعة، فلو كانت نفسها لكان عمرها في زمن الحجاج أكثر من مئة سنة!

هذا، وقد رووا كثيراً من معجزاته (صلی الله علیه و آله) في رضاعه ونشأته في بني سعد، وبعضها مقبول، وأكثرها مرسل، وبعضها مردود، كحديث شق الصدر.

19- زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) قبري والديه عبدالله وآمنة (صلی الله علیه و آله)

كان قبر عبدالله والد نبينا (صلی الله علیه و آله) في المدينة المنورة مزاراً إلى الأمس، بناه المسلمون من قديم وآخرهم سلاطين مصر والدولة العثمانية، وقد زرته في سنة 1964 وسنة 1965ميلادية، وكان بيتاً داخل سوق المدينة غربي المسجد، وكانت واجهة بابه الخارجي وعتبته أحجاراً، نقشت عليها كتيبة بالعربية والتركية. وقد أقفله مشايخ الوهابية يومها مقدمة لهدمه!

أما الآن فأزالوه ودخل مكانه في توسعة ساحة المسجد النبوي، ولم يبق له أثر!

كما أن قبر والدته آمنة (علیها السلام) في الأبواء في طريق مكة، كان مزاراً للأوفياء لنبيهم وأسرته (صلی الله علیه و آله)، ويعرف مكانه اليوم باسم «الخريبة» في منطقة الفرع.

قال في مراصد الإطلاع: 1/19: «الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. وبالأبواء قبر آمنة أم النبي».

وقد أفتى فقهاؤنا باستحباب زيارة قبروالديه (صلی الله علیه و آله) وهذا نص زيارة أمه آمنة (علیها السلام):

«السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة، السلام عليك يا من خصها الله بأعلى الشرف، السلام عليك يا من سطع من جبينها نور سيد الأنبياء فأضاءت به الأرض والسماء. السلام عليك يا من نزلت لأجلها الملائكة وضربت لها حجب الجنة.

السلام عليك يا من نزلت لخدمتها الحور العين وسقنها من شراب الجنة وبشرنها

ص: 138

بولادة خير الأنبياء. السلام عليك يا أم رسول الله، السلام عليك يا أم حبيب الله. فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضله، والسلام عليك وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته».

وشذ الوهابية عن كافة المسلمين فحرموا زيارة قبر أم النبي3وعاقبوا من زاره!

ثم طغوا وفجَّروا القبر بالديناميت!

وكتب عبدالحسين البصري في شبكة الموسوعة الشيعية: 28/3 /2000 موضوعاً بعنوان«ديناميت السلفية»! قال فيه:

«للتاريخ فقط، ولتبقى صفحة سوداء في وجة خوارج العصر، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، الواقع في الأبواء وذلك في الثامن من مارس سنة 2000 ميلادي!

ألا لعنة الله على القوم الظالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

ثم كتب في رد مزاعم الوهابيين بأن زيارة قبر آمنة (علیها السلام) شرك بالله تعالى!

20- ظلم المسلمين لنبيهم في والديه (صلی الله علیه و آله)!

قال الحموي في معجم البلدان: 1/79: «وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي وكان السبب في دفنها هناك أن عبدالله والد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبدالمطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما صارت بالأبواء منصرفةً إلى مكة ماتت بها، ويقال إن أباطالب زار أخواله بني النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول الله، فلما رجع منصرفاً إلى مكة، ماتت آمنة بالأبواء».

وقال ابن سعد: 1/116: «فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك: لما نظر إلى أطَمِ بني عدي

ص: 139

بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبدالله بن عبدالمطلب، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار.

وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه، فقالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه،

ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت. فلما مرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

أقول: زعم أتباع مذاهب الخلافة أن والدة النبي (صلی الله علیه و آله) كافرة وأنها في جهنم! وزعموا أنه استأذن ربه في زيارة قبرها وهو في طريقه إلى الحديبية فأذن له، فبكى وأجهش بالبكاء طويلاً وأبكى المسلمين معه، لكنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له، وأبقاها في نار جهنم والنبي (صلی الله علیه و آله) يرى عذابها!

ففي شرح مسند أبي حنيفة للقاري/335: «فمكث طويلاً ثم اشتد بكاؤه حتى ظننا أنه لا يسكن.. قال: استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته في الشفاعة فأبى! فبكيت رحمة لها»!

وفي تفسير الطبري: 11/58: «وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ»!

وفي السيرة الحلبية: 1/173: «وفي رواية إن جبريل ضرب في صدره قال:

لا تستغفر لمن مات مشركاً، فما رؤى باكياً أكثر منه يومئذ»!

وقال محمد ناصر الألباني في أحكام الجنائز/187: «عن أبي هريرة قال:

ص: 140

زار النبي (صلی الله علیه و آله) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي»! وصحيح مسلم: 3/65 وأبو داود: 2/72.

وهكذا صوروا الرحمن الرحيم عزوجل خشناً قاسياً،لايرحم عواطف نبيه الإنسانية تجاه والدته، ولا يعبأ ببكائه وحرقته عليها، ولايسمح له أن يقول: اللهم اغفر لها! فالمهم عندهم أن يكون آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأمهاته في النار! حتى لايكونوا مؤمنين فيرثوا إسماعيل (علیه السلام) وتكون الخلافة في عترة النبي (صلی الله علیه و آله)!

ومن تناقضهم أنهم كذبوا أنفسهم، فرووا أن هذه الآية نزلت قبل الحديبية وأن سبب نزولها غير هذا! ثم كذبوا أنفسهم في موضع آخر فرووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) شفع لعمه أبي طالب فنقله من قعر جهنم إلى ضحضاحها!صحيح بخاري: 4/247!

ثم كذبوا أنفسهم فرووا في قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال (صلی الله علیه و آله): أجورهم: يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعة فيمن وجبت لهم النار، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا». الدر المنثور: 2/249.

وروى ابن ماجة: 2/1215: «يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً فَيَمُرُّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له. ويمر الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهوراً؟ فيشفع له»!

فتراهم عندما يصلون إلى والدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأجداده وعمه أبي طالب: يضيقون رحمة الله وشفاعة نبيه (صلی الله علیه و آله) حتى لا تشملهم، ويقلدون اليهود فينسبون إلى الله تعالى الشدة والقسوة على رسوله (صلی الله علیه و آله)!

والسبب: أنهم بحاجة إلى تكفير أسرته، ليرثوا سلطانه، ويبعدوا عترته:!

21- أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله) وخادمة فاطمة (علیها السلام)

1. كانت أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله)، ورثها من أبيه فأعتقها: «وورث خمسة أجمال أوارك «يرعون الأراك» وقطيعة غنم، وسيفاً مأثوراً «تاريخياً» وورِقاً «نقداً». «المناقب: 1/147 والطبقات: 1/100».«كان إسمها بركة، فأعتقها وزَوَّجها

ص: 141

عبيد الخزرجي بمكة، فولدت له أيمن فمات زوجها فزوجها النبي (صلی الله علیه و آله) من زيد، فولدت له أسامة، أسود يشبهها، فأسامة وأيمن أخَوَان لأم».البحار: 22/263.

كانت جارية سوداء نوبية «كتاب سليم/389» «فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه، حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي (صلی الله علیه و آله) ثم أنكحها زيد بن حارثة. توفيت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بخمسة أشهر». قاموس الرجال: 12/193.

روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة، فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد». الطبقات: 8/224.

وكانت أم أيمن تخطئ في العربية: «قالت يوم حنين: سبت الله أقدامكم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان». الطبقات: 8/225.

2. لما توفيت آمنة والدة النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعها من المدينة: «فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه، ثم بعد أن ماتت». الطبقات: 1/116.

3. في الطبقات: 1/117 وتاريخ دمشق: 3/85: «قال عبدالمطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله: يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة.

وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: عليَّ بابني فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبدالمطلب الوفاة أوصى أباطالب بحفظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحياطته».

4. قالت أم أيمن عن النبي (صلی الله علیه و آله): «ما رأيته شكى، صغيراً ولا كبيراً، جوعاً ولا عطشاً! كان يغدو فيشرب من زمزم، فأعرض عليه الغداء فيقول: لا أريده أنا شبعان». «الطبقات: 1/168». وقالت: «رأيته وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبدالمطلب، حتى دفن بالحجون». الطبقات: 1/119 والبحار: 15/162.

5. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يقول لها: يا أُمَّهْ، ويزورها في بيتها.«الطبقات: 8/223». ويثق بها، فقد وضع عندها أمانات الناس: «فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن، وأمر علياً (علیه السلام) أن يردها». الحدائق الناضرة: 21/433.

ص: 142

6. وكذبوا على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يبول في إناء فشربت أم أيمن بوله، قالوا أنه بال ذات مرة في قدح وكان تحت سريره، قالت أم أيمن: «فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة. قلت: قد والله شربت مافيها! قال فضحك النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: لن تشتكي بطنك». نيل الأوطار: 1/106 والمناقب: 1/108.

وضعفه في مجمع الزوائد لكنه صحح مثله: 8/270: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره فقام فطلبه فلم يجده فسأل فقال أين القدح قالوا شربته سُرَّة خادم أم سلمة، التي قدمت معها من أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد احتظرت من النار بحظار».

وجوَّز ذلك الشافعي وغيره وحكموا بطهارة بول النبي (صلی الله علیه و آله) . المعتبر: 1/410.

وروي أن أم أيمن: «ما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه».نيل الأوطار: 1/106.

لكنها رواية مكذوبة ولعلها من أجل تبرير عمل بعضهم!«راجع مسند الجعد/41». لأن بيت النبي (صلی الله علیه و آله) كان فيه كنيف، وفيه بيت للنار وللتنور، أي مطبخ. وفيه غرفة كبيرة يستقبل فيها الناس تفتح على المسجد، وفيه غرفة لابنته فاطمة (علیها السلام)، وغرفة للخادم. قال علي (علیه السلام) «النوادر/200 و227»: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أراد أن يتنخع وبين يديه ناس، غطى رأسه ثم دفنه، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه».

وقال (علیه السلام): «علمني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا دخلت الكنيف أن أقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبيث والخبائث المخبث، النجس الرجس الشيطان الرجيم».

فقد كانت الكُنف منشرة، ولهذا نردُّ حديث أنه كان يبول في إناء من فخار أو عيدان، وأن فلانة أو فلانة شربت بوله (صلی الله علیه و آله) .

وكذا نردُّ حديث عائشة الذي يزعم أن بيت النبي (صلی الله علیه و آله) كان مدة بلا كنيف! قالت: «البخاري: 3/155»: «فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع متبرزنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر

ص: 143

العرب الأول في البرية».فهذا يصح في بيت أبيها، وليس في بيت النبي (صلی الله علیه و آله) .

روى البيهقي: 1/93: «عن ابن عمر: دخلت بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) مستقبل القبلة». وقد توهم عبدالله في جهته.

ولهذا لا يصح ما رواه البخاري: 1/45: «إن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي أجب نساءك، فلم يكن رسول الله يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب».

فهو موضوع لإثبات أن آية حجب نساء النبي (صلی الله علیه و آله) نزلت بطلب عمر: «وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ».

7. وهاجرت أم أيمن مع ابنها أيمن وصغيرها أسامة،فقد واعدهم عليٌّ (علیه السلام): «أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد، إلى ذي طوى» فوافوه هناك، ومعهم عدد من مستضعفي المسلمين. أمالي الطوسي/469 وسبل الهدى: 3/267.

8. وكانت تعيش في المدينة مع زوجها زيد وتساعد الزهراء (علیها السلام) في عمل البيت، ففي أمالي الطوسي/669، عن علي (علیه السلام) قال: «زارنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدمناه فأكل منه ثم قام النبي (صلی الله علیه و آله) إلى زاوية البيت فصلى ركعات، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلم يسأله أحد منا إجلالاً له، فقام الحسين (علیه السلام) فقعد في حجره وقال له: يا أبت لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشئ كسرورنا بدخولك، ثم بكيت بكاء غمنا فلمَ بكيت؟ فقال: يا بني أتاني جبرئيل آنفاً فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى! فقال: يا أبت فما لمن يزور قبورنا على تشتتها؟ فقال: يا بني، أولئك طوائف من أمتي يزورونكم يلتمسون بذلك البركة، وحقيق عليَّ أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنة».

9. لما تزوجت فاطمة (علیها السلام) أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أم أيمن فكانت تساعدها، وروت عدة أحاديث في سيرتها، وسيرة العترة الطاهرة:.

ص: 144

منها: عن ولادة الحسين (علیه السلام) وفضل تربته وأنها من بطحاء الجنة، وأنها أطهر بقاع الأرض، وأعظمها حرمة. السجود على الأرض للأحمدي/140 والبحار: 98/114.

ومنها: معجزة الرحى: وقد رواها الجميع وأن الزهراء (علیها السلام) شكت إلى أبيها (صلی الله علیه و آله) ما تلقى من الرحى. «المجموع 19/374 وشرح مغني ابن قدامة 8/146». وقالت: «مضيت ذات يوم إلى منزل سيدتي ومولاتي فاطمة لأزورها في منزلها وكان يوما حاراً من أيام الصيف، فأتيت إلى باب دارها وإذا أنا بالباب مغلق، فنظرت من شق الباب وإذا بفاطمة نائمة عند الرحى ورأيت الرحى تدور وتطحن البر، وهي تدور من غير يد تديرها، والمهد أيضاً إلى جنبها والحسين نائم فيه والمهد يهتز ولم أر من يهزه! ورأيت كفاً تسبح لله قريباً من كف فاطمة. قالت أم أيمن: فتعجبت من ذلك فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقلت: يا رسول الله إني رأيت اليوم عجباً ما رأيت مثله أبداً.فقال لي: ما رأيت يا أم أيمن؟ فقلت: إني قصدت منزل فاطمة فلقيت الباب مغلقاً فإذا أنا بالرحى تطحن البر وهي تدور من غير يد، ورأيت مهد الحسين يهتز من غير يد تهزه ورأيت كفاً يسبح لله قريباً من كف فاطمة! فقال: يا أم أيمن إعلمي أن فاطمة صائمة، وهي متعبة والزمان قيض، فألقى الله عليها النعاس فنامت، فسبحان من لا ينام، فوكل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها وأرسل ملكاً آخر، يهز مهد ولدها الحسين لئلا يزعجها عن نومها، ووكل الله تعالى ملكا آخر يسبح الله عزوجل قريباً من كف فاطمة ثواب تسبيحه لها، لأن فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عزوجل فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة».مدينة المعاجز: 4/47.

10. أكرم الله أم أيمن ببركة الزهراء (علیها السلام): «خرجت إلى مكة لما توفيت فاطمة قالت: لا أرى المدينة بعدها! فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت: يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك؟ قال: فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت». المناقب: 1/116.

11. كانت طيبة بسيطة وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) أنها من أهل الجنة، وكانت تعرف

ص: 145

إمامة علي (علیه السلام) ولا تعرف إمامة بقية الأئمة (علیهم السلام) .

وقد سألها النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً عن علي (علیه السلام): «أثَم أخي؟ قالت: وكيف يكون أخوك وقد أنكحته ابنتك؟ قال: فإنه كذلك». الطبقات: 8/23.

وفي الكافي: 2/405: «عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الدين الذي لايسع العباد جهله؟فقال: الدين واسع، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم!قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم، ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم. فقال: ما جهلت شيئاً، هو والله الذي نحن عليه. قلت: فهل سلم أحد لايعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم، ثم قال: أرأيت أم أيمن، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه».

يعني كانت قاصرة الذهن أو شبه قاصرة عن إدراك منظومة الأئمة (علیهم السلام) بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، ومع ذلك فهي من أهل الجنة لأن الله تعالى يطلب من الشخص قدر ما آتاه من الإدراك والتعقل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا.

12. أمَّرَ النبي (صلی الله علیه و آله) في مرض وفاته أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم الذين قتلوا أباه زيداً.وكان أسامة في السابعة عشرة من عمره «الفصول للجصاص1/159» وأمره النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسير ولعن من تخلف عنه، وكان ذلك: «لأربع ليال بقين من صفر سنة 11من الهجرة وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين والأنصار إلا اشتد لذلك وتهيأ للخروج، منهم أبوبكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص». المراجعات/368 مستدرك سفينة البحار: 5/36و209.

وقال ابن حجر في فتح الباري: 8/115، وهو من كبار أئمة السلطة: «وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبوبكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه: بدأ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه

ص: 146

يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش. فذكر القصة وفيها: لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبوبكر وعمر.. وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش».

وكان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) أن يخلي المدينة لعلي (علیه السلام) ويبعد عنها الطامعين في خلافته وقد عملوا للتأثير على أم أيمن، فطلبت من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يؤخر إرسال أسامة لأنه قلق عليه فلم يقبل (صلی الله علیه و آله) وأكد أمره له بالمسير بالجيش.

ثم أشاعوا اعتراضهم على تأمير أسامة على شيوخ قريش والأنصار،وهو شاب أسود ابن سبع عشرة سنة! فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) وخرج وهو مريض وصعد المنبر ومدح أسامة وأمره بالحركة، ولعن من تخلف عنه!

فتحرك أسامة فعاد القرشيون إلى أم أيمن، فأرسلت إلى ولدها أن لا يتحرك بجيشه لأن حال النبي (صلی الله علیه و آله) قد ثقلت! فاستغلوا بساطتها رحمها الله.

13. لكنها عندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) استنكرت مسارعتهم إلى السقيفة وبيعتهم أبابكر، فجاءت اليهم وقالت: «يا أبابكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد! فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد». كتاب سُليم/157و389.

14. عندما صادروا تركة النبي (صلی الله علیه و آله)، واحتجت الزهراء (علیها السلام) على أبي بكر، طلب منها شهوداً. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فجاءت فاطمة (علیها السلام) إلى أبي بكر، فقالت يا أبابكر منعتني عن ميراثي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأمر الله. فقال لها هاتي على ذلك شهوداً، فجاءت بأم أيمن فقالت: لا أشهد حتى أحتج يا أبابكر عليك بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقالت: أنشدك الله ألست تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن أم أيمن من أهل الجنة؟ قال بلى. قالت: فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله): وَآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله. وجاء علي (علیه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟

ص: 147

فقال أبوبكر: إن فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبت لها بفدك، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه».تفسير القمي: 2/155 ونحوه العياشي: 2/278.

15. كانت أم أيمن ثقة الزهراء (علیها السلام) قال الصادق (علیه السلام): «لما نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها».علل الشرائع: 1/187.

16. «اشترى عبدالمطلب أم أيمن من جيش أبرهة، وتوفيت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) بشهورقليلة فتح الباري: 7/70 وكانت في السبعينات.لكن رواة الخلافة أخروا وفاتها عشر سنين ليقولوا إنها رضيت على أبي بكر وعمر ومدحته وقالت يوم قتل: اليوم وَهَى الإسلام». تاريخ البخاري الصغير: 1/88 وتاريخ دمشق: 4/302.

17. أيمن بن عبيد أفضل من أخيه أسامة بن زيد، فقد استشهد أيمن دفاعاً عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حنين لما فرَّ عنه المسلمون، وهاجمه عوف بن مالك زعيم هوازن ليقتله: فاعترضه أيمن: «فالتقيا فقتله مالك». ولم يصل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) . المناقب: 1/181، تاريخ دمشق: 4/257، ذخائر العقبى/198 وكبير الطبراني: 1/288.

قال المفيد في الإرشاد: 1/140 ونحوه الإستيعاب: 2/813: «فلم يبق منهم مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن (رحمة الله) وثبت تسعة النفر الهاشميون، حتى ثاب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان انهزم.وقال العباس بن عبدالمطلب في هذا المقام:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يا بني ليرجعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع

يعني به أيمن بن أم أيمن».

18. أما أسامة بن زيد ابن أم أيمن فعاش في كنف النبي وعترته (صلی الله علیه و آله) . وكان أسود قوي البنية وقد أمَّرَه النبي (صلی الله علیه و آله) على سرية، ثم أمَّره في مرض وفاته على جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، وكان في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة. وعاد من معسكره في الجرف بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يبايع أبابكر حتى بايع علي (علیه السلام) . وتوفي أسامة زمن معاوية سنة 54 هجرية.

ص: 148

الفصل السابع: في كفالة جده الحنون، وبيت عمه الحنون:

1- في كفالة جده الحنون عبدالمطلب

في الكافي: 1/448، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «كان عبدالمطلب يُفرش له بفناء الكعبة، لا يُفرش لأحد غيره، وكان له وُلْدٌ يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه، فقال له عبدالمطلب: دع ابني فإن المُلك قد أتاه»!

وفي رواية كمال الدين/171، عن ابن عباس، قال: «دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرته غرة تسود الناس، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط، ولا جسداً ألين منه، ولا أطيب منه. ثم يلتفت إلى أبي طالب وذلك أن عبدالله وأباطالب لأم واحدة، فيقول: يا أباطالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به، فإنه فردٌ وحيدٌ، وكن له كالأم، لا يوصل إليه بشئ يكرهه، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعاً.

وكانت هذه حاله حتى أدركت عبدالمطلب الوفاة، فبعث إلى أبي طالب، ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت، وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول: يا أباطالب أنظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه، ولا ذاق شفقة أمه، أنظر يا أباطالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك، فإني قد تركت بنيَّ كلهم وأوصيتك به، لأنك من أم

ص: 149

أبيه. يا أباطالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي. يا أباطالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا أمه على حال أمه، فاحفظه لوحدته، هل قبلت وصيتي فيه؟

فقال: نعم قد قبلت واللهُ عليَّ بذلك شهيد، فقال عبدالمطلب: فمدَّ يدك إليَّ فمد يده إليه فضرب يده على يده ثم قال عبدالمطلب: الآن خفَّ عليَّ الموت!

ثم لم يزل يقبله ويقول: أشهد أني لم أقبل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك، ولا أحس وجهاً منك، ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه!

فمات عبدالمطلب وهو (صلی الله علیه و آله) ابن ثمان سنين، فضمه أبوطالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام معه لا يأتمن عليه أحداً»!

قال اليعقوبي: 2/12، «أوصى لأبي طالب برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبزمزم، وقال له:

وصيك يا عبدمناف بعدي *** بمفرد بعد أبيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهد *** فكنت كالأم له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد *** فأنت من أرجى بَنِيَّ عندي

لدفع ضيم أو لشد عقد

وتوفي عبدالمطلب ولرسول الله ثماني سنين، ولعبدالمطلب مائة وعشرون سنة وقيل مائة وأربعون سنة، وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر، وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى سترهُ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام، إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب!

واحتبى«جلس» ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبدالمطلب، واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية، والوليد بن ربيعة المخزومي، فادعى كل واحد الرئاسة».

ص: 150

2- استسقى به جده عبدالمطلب فسقاهم الله تعالى

قال اليعقوبي: 2/12: «كان أصحاب الكتاب لايزالون يقولون لعبدالمطلب في رسول الله منذ ولد، فيعظم بذلك ابتهاج عبدالمطلب، فقال: أما والله لئن نَفَستني قريش الماء، يعني ماءً سقاه الله من زمزم، وذي الهرم «بئر» لتنفسني غداً الشرف العظيم، والبناء الكريم، والعز الباقي، والسناء العالي، إلى آخر الدهر ويوم الحشر! وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى، فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش إن النبي الأمي منكم، وهذا أوان تَوَكُّفه، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سنٌّ يدعو إليه وشرفٌ يعظم عليه، فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمِّن القوم، فخصبتم ما شئتم إذن وغُثتم!

فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد! فخرج عبدالمطلب ومعه رسول الله وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبدالمطلب: اللهم سادَّ الخَلة، وكاشف الكُربة، أنت عالمٌ غير مُعلم، مسؤولٌ غير مُبَخَّل، وهؤلاء عُبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع، وأذهبت الزرع، فاسمعنَّ اللهم، وأمطرنَّ غيثاً مَريعاً مغدقاً. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها، وكظ الوادي بثجه»، وفي ذلك يقول بعض قريش:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا *** وقد فقدنا الكرى واجلوَّذَ المطر

مناً من الله بالميمون طائرُهُ *** وخيرِ من بُشرت يوماً به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به *** ما في الأنام له عدلٌ ولا خَطَر

وقد اشتهرت رواية رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم، وفيها: «قام فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب، ثم قال... فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء

ص: 151

بمائها... فسمعت شِيخان قريش وجلتها: عبدالله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة يقولون لعبدالمطلب: هنيئاً لك سيد البطحاء»! الدعاء للطبراني/606، معجمه الكبير: 24/260، مجمع الزوائد: 2/214، شرح النهج: 7/271 وغيرها.

ومعنى: قد أيفع أو كرب: أنه كان صبياً يافعاً قارب البلوغ، فكان يبدو كبير السن للناظر، وإن كان سنه أصغر من ذلك (صلی الله علیه و آله) .

وكان جده يعتمد عليه في المهمات!ففي الكافي: 1/447 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان عبدالمطلب أرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رعاته في إبل قد ندَّت له ليجمعها فأبطأ عليه، فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمرٌ ما بدا لك! فجاء رسول الله بالإبل، وقد وجه عبدالمطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه.. ولما رأى رسول الله أخذه فقبله وقال: يا بني لاوجهتك بعد هذا في شئ، فإني أخاف أن تُغتال فتقتل».

وقال اليعقوبي: 2/10: «رجع من بني سعد ابن أربع سنين أو خمس وهو في خلق ابن عشر وقوته».

3- عاش صباه وشبابه في بيت عمه الحنون أبي طالب (علیه السلام)

«توفي عبدالمطلب في شهر ربيع الأول وللنبي (صلی الله علیه و آله) ثماني سنين من عمره، فكفله أبوطالب أحسن كفالة». كنز الفوائد/72.

«فكان خير كافل، وكان أبوطالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً..وخرج به إلى بُصْرَى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: والله لا أكلك إلى غيري!

وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً، يروى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما توفيت وكانت مسلمة فاضلة أنه قال: اليوم ماتت أمي! وكفنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع في لحدها، فقيل له: يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة! قال: إنها كانت أمي، إنْ كانت لتُجيع صبيانها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي». تاريخ اليعقوبي: 2/13.

وفي أمالي الصدوق/390، عن ابن عباس: «قال: يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا

ص: 152

فخر، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك: من ربك؟فقولي: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليي. ثم قال: اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت. ورويَ أنه (صلی الله علیه و آله) قال: يا علي أدخل، يا حسن أدخل، فدخلا القبر، فلما فرغ مما احتاج إليه قال له: يا علي أخرج، يا حسن أخرج فخرجا، ثم زحف النبي (صلی الله علیه و آله) حتى صار عند رأسها، ثم قال: يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك: من ربك؟فقولي: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليي».

أقول: توفيت فاطمة بنت أسد3في شوال في السنة الرابعة أو الخامسة، فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) سبطه الحسن وعمره نحو سنتين، لينزل في قبرها إيذاناً بمكانته، ولعله إشارة إلى أن هذه بقعته (علیه السلام) . مستدرك سفينة البحار: 5/207و 8/256.

وفي الحدائق الناضرة: 22/634 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة على قدميها»!

وروى الحاكم: 3/108: «لما ماتت فاطمة بنت أسد كفنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان وحثى في قبرها. فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد! فقال: يا عمر إن هذه المرأة كانت أمي التي ولدتني! إن أباطالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة، وكان يجمعنا على طعامه، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه. وإن جبريل أخبرني عن ربي عزوجل أنها من أهل الجنة، وأخبرني جبريل أن الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلون عليها»!

وعقد في مجمع الزوائد: 9/256 بابا: مناقب فاطمة بنت أسد رضيالله عنها.

ص: 153

4- واستسقى به عمه أبوطالب فسقاهم الله تعالى

اشتهر قول أبي طالب (رحمة الله) في مدح النبي (صلی الله علیه و آله) في قصيدته اللامية العصماء:

وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) طلب أن يُنشدوه القصيدة،كما في بدائع الصنائع: 1/283، البخاري: 2/15، أحمد: 2/93 وأمالي المفيد/301، قال: «جاء أعرابي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا غنم يغط، ثم أنشأ يقول:

أتيناك يا خير البرية كلها *** لترحمنا مما لقينا من الأزْلِ

أتيناك والعذراءُ يُدمى لُبانها *** وقد شُغلت أم الصبي عن الطفل

وألقى بكفيه الفتيُّ استكانةً *** من الجوع ضعفاً ما يُمِرُّ وما يُحلي

ولا شئ مما يأكل الناس عندنا *** سوى الحنظل العاميِّ والعلهز الفَسْل

وليس لنا إلا إليك فرارن *** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقال رسول الله لأصحابه: إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطاً شديداً!

ثم قام يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما حمد ربه أن قال: الحمد لله الذي علا في السماء فكان عالياً، و في الأرض قريباً دانياً، أقرب إلينا من حبل الوريد. ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً مريعاً، غدقاً طبقاً، عاجلاً غير رائث، نافعاً غير ضائر، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها. فما رد يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل والتفت السماء بأردافها، وجاء أهل البطاح يضجون يا رسول الله: الغرق الغرق، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن السماء، فضحك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: لله در أبي طالب، لو كان حياً لقرَّت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام عمر فقال: عسى أردت يا رسول الله:

وما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبرُّ وأوفى ذمةً من محمد

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ليس هذا من قول أبي طالب، بل من قول حسان بن ثابت، فقام علي بن أبي طالب فقال: كأنك أردت يا رسول الله قوله:

ص: 154

وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه *** ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ

يلوذُ به الهُلاَّكُ من آل هاشمٍ *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضل

كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً *** ولما نطاعنْ دونه ونقاتل

ونُسلمه حتى نُصَرَّع حوله *** ونَذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أجل. فقام رجل من بني كنانة فقال:

لك الحمد والحمد ممن شكرْ *** سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقه دعوةً *** وأشخص منه إليه البصر

ولم يك إلا كقلب الرداء *** وأسرع حتى أتانا المطر

دفاق العزائل جم البعاق *** أغاث به الله عَلْيَا مُضر

فكان كما قاله عمه *** أبو طالب ذا رواء غزر

به الله يسقي صيوبَ الغمام *** فهذا العيان وذاك الخبر

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بوأك الله يا كناني بكل بيت قلته بيتاً في الجنة».

وستأتي لامية أبي طالب، وقول ابن كثير إنها أبلغ من المعلقات السبع!

وقال ابن حجر في فتح الباري: 2/412: «قال السهيلي: فإن قيل: كيف قال أبوطالب يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله: أن أباطالب أشار إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي (صلی الله علیه و آله) معه غلام...وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت قريش على النبي، ونَفَّروا عنه من يريد الإسلام».

وفي خزانة الأدب: 2/61: «قال السهيلي في الروض الأنف: إن أباطالب قد شاهد من ذلك في حياة عبدالمطلب، ما دله على ما قال».

وقول السهيلي والبغدادي صحيح، فقد أجدبت قريش فشكت إلى عبدالمطلب فاستسقى بالنبي (صلی الله علیه و آله)، ثم أجدبت فشكت إلى أبي طالب فاستسقى بالنبي (صلی الله علیه و آله)،

ص: 155

وإنما حذفوه من السيرة حسداً لأبي طالب (رحمة الله) وأولاده!

وقال عنها في المناقب: 1/119: «والسبب في ذلك أنه كان قحط في زمن أبي طالب فقالت قريش: إعتمدوا اللات والعزى، وقال آخرون إعتمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال ورقة بن نوفل: أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل أبوطالب فاستسقوه، فخرج أبوطالب وحوله أغيلمة من بني عبدالمطلب، وسطهم غلام كأنه شمس دِجَنَّة «مشرقة» تجلت عنها غمامة، فأسند ظهره إلى الكعبة ولاذ بإصبعه، وبصبصت الأغيلمة حوله، فأقبل السحاب في الحال. فأنشأ أبوطالب اللامية»!

وروى آخرون هذه المعجزة بتفصيل، كفخار بن معد في كتابه: الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب/311، والصالحي في سبل الهدى: 2/137، والذهبي في تاريخه: 1/52، بسند صحيح عندهم، عن أبان بن تغلب، عن جلهمة بن عرفطة قال:

«إني لبالقاع من نِمْرة، إذ أقبلت عيرٌ من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني! وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير وإن هذا استعبدني وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قِعْدَد الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابناً يعني أباطالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الحدود وأعلوا بها الكدان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى! وقائل يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل؟ قالوا له: كأنك عنيت أباطالب! قال: إيهاً. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أباطالب قحط الوادي وأجدب العباد، فهلم فاستسق، فقال: رويدكم

ص: 156

زوال الشمس وهبوب الريح، فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبوطالب معه غلام كأنه دِجَنٌّ «سماءٌ لحسنه» تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي! وفي ذلك يقول أبوطالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تطيف به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير عائل

أقول: كفى بهذا الحديث وهذه القصيدة دليلاً على إيمان أبي طالب (علیه السلام) بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) من صغره! ولكن الذهبي وأمثاله من أتباع القرشيين والأمويين أشربوا في قلوبهم الإعراض عن عترة نبيهم (صلی الله علیه و آله)، بل كرههم»!

5- حديث بَحِيَرا الراهب مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعمه في الشام

قال علي بن يوسف الحلي (رحمة الله) في العدد القوية/118: «وخرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام وله تسع سنين، وقيل اثنتا عشرة سنة». وفي الخرائج: 1/71 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فلما انتهى به إلى بصرى وفيها راهب لم يكن يكلم أهل مكة إذا مروا به، ورأى علامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الركب، رأى غمامة تظله في مسيره، ونزل تحت شجرة قريبة من صومعته فتثنت أغصان الشجرة عليه والغمامة على رأسه بحالها، فصنع لهم طعاماً فاجتمعوا عليه وتخلف محمد (صلی الله علیه و آله)، فلما نظر بحيرا إليهم ولم ير الصفة التي يعرف قال: فهل تخلف منكم أحد؟ قالوا: لا واللات والعزى إلا صبي، فاستحضره فلما لحظ إليه نظر إلى أشياء من جسده قد كان يعرفها من صفته فلما تفرقوا قال: ياغلام أتخبرني عن أشياء أسألك عنها؟ قال: سل. قال: أنشدك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه! وإنما أراد أن يعرف لأنه سمعهم يحلفون بهما، فذكروا أن

ص: 157

النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: لا تسألني باللات والعزى، فإني والله لم أبغض بغضهما شيئاً قط!

قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال: فجعل يسأله عن حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره، فكان يجدها موافقة لما عنده.

فقال له: إكشف عن ظهرك فكشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الموضع الذي يجده عنده، فأخذه الإفكل وهو الرعدة، واهتز الديراني فقال: من أبو هذا الغلام؟ قال أبوطالب: هو ابني. قال: لا والله لا يكون أبوه حياً. قال أبوطالب: إنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وهو ابن شهرين. قال: صدقت. قال: فارجع بابن أخيك إلى بلادك واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأته وعرفوا منه الذي عرفت ليبغينه شراً! فخرج أبوطالب فرده إلى مكة».

وفي رواية كمال الدين/187: «لما بلغَ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أراد أبوطالب أن يخرج إلى الشام في عير قريش، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتشبث بالزمام وقال: يا عم على من تخلفني لا على أمٍّ ولا على أب؟! وقد كانت أمه توفيت فرقَّ له أبوطالب ورحمه وأخرجه معه...فلما نظر إليه بحيرى قال: من هذا الغلام؟ قالوا: ابن هذا وأشاروا إلى أبي طالب.. فقال بحيرى: رُدَّ هذا الغلام إلى بلاده، فإنه إن علمت به اليهود ما أعلم منه قتلوه! فإن لهذا شأناً من الشأن، هذا نبي هذه الأمة، هذا نبي السيف».

وفي قرب الإسناد/213، من حديث للإمام الكاظم (علیه السلام) مع حاخامات اليهود: «قالوا: إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة وجعل لهم الملك والإمامة، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم، ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا تُرقب فيكم ذمة نبيكم؟! فدمعت عينا أبي عبدالله (علیه السلام) ثم قال: نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق، والظلمة غالبة، وقليل من عباد الله الشكور! قالوا: صدقت، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليهم؟ قلت: آيات كثيرة أعدها إن شاء الله...

ومن ذلك: أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش، فلما كان بحيال بحيراء

ص: 158

الراهب نزلوا بفناء ديره، وكان عالماً بالكتب وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي (صلی الله علیه و آله) به وعرف أوان ذلك، فأمر فدعى إلى طعامه، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها، فقال: هل بقي في رحالكم أحد؟ فقالوا: غلامٌ يتيم. فقام بحيراء الراهب فاطَّلع فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) نائم وقد أظلته سحابة! فقال للقوم: أدعوا هذا اليتيم، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه، وهو يسير والسحابة قد أظلته فأخبر القوم بشأنه، وأنه سيبعث فيهم رسولاً، وما يكون من حاله وأمره! فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش».

وفي كمال الدين/182: «لما فارقه بحيرى بكى بكاء شديداً وأخذ يقول: يا ابن آمنة كأني بك وقد رمتك العرب بوترها، وقد قطعك الأقارب! ولو علموا لكنت لهم بمنزلة الأولاد، ثم التفت إليَّ وقال: أما أنت ياعم فارع فيه قرابتك الموصولة..».

وفي العدد القوية/132، أن بحيرا قال للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا من بذكره تعمر المساجد،كأني بك قد قدمت الأجناد والخيل الجياد، وتبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً، وكأني باللات والعزى قد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لايملكه غيرك، تضع مفاتيحه حيث تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه، معك مفاتيح الجنان والنيران، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام! أنت الذي لا تقوم الساعة حتى يدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قمئة! فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول: لئن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند. أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين. والله لقد بكت له البيع والأصنام والشياطين، فهي باكية إلى يوم القيامة! وأنت دعوة إبراهيم وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية»!

أقول: روى ابن هشام قصة بحيرا: 1/116 وحذف منها ما يتعلق بإيمان أبي طالب (علیه السلام)!

وفي رواية ابن إسحاق: 2/55: «فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن، فأسرعْ به إلى

ص: 159

بلاده. فخرج به عمه أبوطالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله عزوجل وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا! فقال أبوطالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله (صلی الله علیه و آله) وما أرادوا منه أولئك النفر، وما قال بحيرا:

إن ابن آمنة النبي محمداً *** عندي بمثل منازل الأولاد

لما تعلق بالزمام رحمته *** والعيس قد قلَّصن بالأزواد

فارفضَّ من عَيْنَيَّ دمعٌ ذارفٌ *** مثلُ الجمان مفرَّقُ الأفراد

راعيت فيه قرابةً موصولة *** وحفظت فيه وصية الأجداد

وأمرته بالسير بين عمومةٍ *** بيض الوجوه مصالت الأنجاد

ساروا لأبعد طيةٍ معلومة *** فلقد تباعدَ طيةُ المرتاد

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا *** لاقوا على شرفٍ من المرصاد

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً *** عنه وردَّ معاشر الحساد

قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى *** ظِل الغمام وعزَّ ذي الأكباد

ساروا لقتل محمد فنهاهم *** عنه وأجهد أحسن الإجهاد

فثنى زبيرٌ بَحِيراً فانثنى *** في القوم بعد تجادل وبعاد

ونهى دريساً فانتهى عن قوله *** حبر يوافق أمره برشاد

وقال أبوطالب أيضاً:

ألم ترني من بعد همٍّ هممته *** كأن لا يراني راجعاً لمعاد

بأحمد لما أن شددت مطيتي *** برحلي وقد ودعته بسلام

بكى حَزَناً والعيس قد فصلت بنا *** وأخذتُ بالكفين فضلَ زمام

ص: 160

ذكرتُ أباه ثم رقرقتُ عبرة *** تجود من العينين ذات سجام

فقلت تروح راشداً في عمومة *** مواسين في البأساء غير لئام

فرحنا مع العير التي راح أهلها *** شآمي الهوى والأصل غير شآمي

فلما هبطنا أرض بصرى تشوفوا *** لنا فوق دور ينظرون بسام

فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً *** لنا بشراب طيب وطعام

فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا *** فقلنا جمعنا القوم غير غلام

يتيم، فقال ادعوه إن طعامنا *** كثير عليه اليوم غير حرام

فلما رآه مقبلاً نحو داره *** يوقيه حر الشمس ظل غمام

حنا رأسه شبه السجود وضمه *** إلى نحره والصدر أي ضمام

وأقبل ركب يطلبون الذي رأى *** بحيرا من الأعلام وسط خيام

فثار إليهم خشية لعرامهم *** وكانوا ذوي دهى معا وعرام

دريساً وتمَّاماً وقد كان فيهم *** زبيراً وكل القوم غير نيام

فجاءوا وقد هموا بقتل محمد *** فردهم عنه بحسن خصام

بتأويله التوراة حتى تفرقوا *** وقال لهم: ما أنتم بطغام

فذلك من أعلامه وبيانه *** وليس نهار واضحٌ كظلام

وقال أبوطالب أيضاً:

بكى طرباً لما رآنا محمد *** كأن لا يراني راجعاً لمعاد

فبتُّ يجافيني تهللُ دمعه *** وقربته من مضجعي ووسادي

فقلت له قرب قعودك وارتحل *** ولا تخشى مني جفوةً ببلادي

وخل زمام العيسى وارتحل بنا *** على عزمة من أمرنا ورشاد

ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً *** لذي رحم في القوم غير معاد

فرحنا مع العير التي راح ركبها *** يؤمون من غوري أرض إباد

ص: 161

فما رجعوا حتى رأوا من محمد *** أحاديث تجلو غم كل فؤاد

وحتى رأوا حبار كل مدينة *** سجوداً له من عصبة وفراد

زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً *** دريساً وهموا كلهم بفساد

فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا *** له بعد تكذيب وطول بعاد

كما قال للرهط الذين تهودوا *** وجاهدهم في الله كل جهاد

فقال ولم یملك له النصح رده *** فإن له أرصاد كل مضاد

فإني أخاف الحاسدين وإنه *** أخو الكتب مكتوب بكل مداد»

وابن عساكر: 3/10، سبل الهدى: 2/142 ودلائل النبوة: 2/29 وغيرها.

6- شاعت نبوءة بحيرا عند العرب

قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأنْجِيلِ.. «الأعراف: 157» وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الأنعام: 20.

وقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يدي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..الصف: 6.

وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخرج شَطْأَهُ... «آخر سورة الفتح». وغيرها من الآيات.

وقد شاعت وذاعت قصص علماء النصارى واليهود في مكة والجزيرة، واتفقت الرواية على أن بحيراء الراهب النصراني واسمه نسطور «تاريخ دمشق: 3/10» قد آمن بالنبي (صلی الله علیه و آله) عندما رآه وكلمه وكان في الثانية عشرة من عمره أو دونها، وأن أحبار اليهود أرادوا قتله (صلی الله علیه و آله) فنهاهم بحيراء كما ذكر أبوطالب في شعره، وأقنعهم بأنهم إن أرادوا فسيمنعهم الله تعالى لأنه قضى أن يكون النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) .

وفي الخرائج: 1/71 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فنشأ رسول الله في حجر أبي طالب، فبينا هو غلام يجئ بين الصفا والمروة إذ نظر إليه رجل من أهل الكتاب فقال: ما اسمك؟ قال: إسمي محمد.

ص: 162

قال: ابن من؟ قال: ابن عبدالله. قال: ابن من؟ قال: ابن عبدالمطلب. قال: فما اسم هذه وأشار إلى السماء؟ قال السماء. قال: فما اسم هذه وأشار إلى الأرض؟ قال: الأرض. قال فمن ربهما؟ قال: الله. قال: فهل لهما رب غير الله؟ قال: لا».

أقول: إحفظ عندك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعرفون النبي (صلی الله علیه و آله)، كما نصت الآيات وتواترت الأحاديث والأخبار، وأنهم بشروا به قبل ولادته، وعرفوا يوم ولادته من علامات النجوم، ثم عرفوه بصفته لما رأوه، وأخبروا عمه أباطالب وغيره، وشاع ذلك وذاع في مكة وبين العرب!

يضاف إلى ذلك ما دل على أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً يرافقه ملك من طفولته، وأن جده عبدالمطلب وعمه أباطالب (علیهما السلام) كان يعرفان أن سيبعث نبياً، وسيكذبه قومه ويحاولون قتله فيهاجر، ويحاربونه فينصره الله ويخضع له العرب.

إحفظ هذه الحقائق، لأنك سترى أن رواة الحكومات يظهرونها أحياناً، ويطمسونها أحياناً! فقد طمسوها عند حديث عائشة في كيفية بدء الوحي! وطمسوها لينفواوجود صحابة قرشيين منافقين، بحجة أنه لم يكن للنبي (صلی الله علیه و آله) دولة تجذب أحداً ليسلم طمعاً، مع أن خبر نبوته (صلی الله علیه و آله) كان يستهوي مغمورين في قبائلهم لاتباعه طمعاً بموقع في دولته! فهو ابن عبدالمطلب زعيم العرب، وقد شهد له علماء اليهود والنصارى بأنه سيحكم العرب، وهو يعد الناس بأنه سيملك كنوز كسرى وقيصر! فمن الطبيعي أن يطمع عديدون في موقع في دولته ليخرج من فقره ومهانته!

وهؤلاء الأشخاص أخطر على الإسلام من المنافقين العاديين، لأنهم أصحاب طموح سياسي، ولذلك سماهم الله تعالى «مرضى القلوب» وذكرهم في أوائل سور القرآن فقال في المدثر: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً.. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً.. «المدثر 31». ثم تحدث عنهم في اثنتي عشرة آية! ووصفهم بأنهم وقحون، يفرون في الحرب، ويحملون النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولية الهزيمة،لأنه لم يشركهم في القيادة!

ص: 163

قال عنهم في آيات أحُد: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! آل عمران: 154.

وكاد القرآن أن يسميهم لما وصفهم بأنهم كانوا في مكة مستعجلين ليقاتل النبي قريشاً ببني هاشم الشجعان ليقطفوا هم الثمار، لكنهم لما كتب القتال في بدر نكصوا وخوفوا النبي (صلی الله علیه و آله) من قريش! فذكَّرهم الله بنفاقهم في مكة وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.. النساء: 77.

قال الطبري: 5/233: «نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد.. فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!

وفي برهان الزركشي: 1/422: «فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا! هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا، من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».

وقال ابن حجر: «نزلت في عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة، وقدامة بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال: لم أؤمر بالقتال، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال، كره بعضهم ذلك»! أسباب النزول: 2/918.والحاكم: 2/66، وصححه بشرط بخاري.، وفسرها النسائي: 6/3 والبيهقي: 9/11، بابن عوف وأصحابه.

وكذبوا على المقداد (رحمة الله) فجعلوه منهم، مع أنهم رووا قوله للنبي (صلی الله علیه و آله): «يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله». البخاري: 5/187.

ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) غضب من أهل آية: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وليس من المقداد (رحمة الله)!

قال الرازي: 10/184: «والأولى حمل الآية على المنافقين،لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين... فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً».

ص: 164

الفصل الثامن: زواجه (صلی الله علیه و آله) بخديجة (علیها السلام)

سبب زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة (علیها السلام)

1- سمعت خديجة بكراماته (صلی الله علیه و آله) فخطبته

ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /155: «كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حَمَارَّة القيظ يصيبهم حرتلك البوادي، وربما عصفت عليهم فيها الرياح، وسفت عليهم الرمال والتراب، وكان الله تعالى في تلك الأحوال يبعث لرسول الله (صلی الله علیه و آله) غمامة تظله فوق رأسه، تقف بوقوفه وتزول بزواله، إن تقدم تقدمت وإن تأخر تأخرت، وإن تيامن تيامنت وإن تياسر تياسرت، فكانت تكفُّ عنه حر الشمس من فوقه، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب، تُسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلهم، حتى إذا دنت من محمد (صلی الله علیه و آله) هدأت وسكنت، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب، وهبَّت عليه ريحٌ باردة لينة، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها: جوار محمد أفضل من خيمة! فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه، فكان الرَّوْح يصيبهم بقربه، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه. وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء، فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم».

وفي شرح الأخبار: 1/183: «ولما انتهى إليها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما قد فشا واستفاض عنه من الخبر، أرسلت إليه في أن تعطيه مالاً يتجر لها به إلى الشام، ففعل..وربح في تلك التجارة ما لم

ص: 165

يربح أحد مثله، فلما قدم بذلك على خديجة قالت لغلامها ميسرة: ما أعظم أمانة محمد وبركته، ما ربحت في تجارة قط كربحي فيما أبضعته معه. فقال لها ميسرة: وأعظم من ذلك ما سمعته فيه ورأيته منه! قالت: وما هو؟ فأخبرها بخبر الراهب وخبر الغمامة».

وفي سيرة ابن إسحاق: 2/59 وابن هشام: 1/121: «فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك».

وفي مسارِّ الشيعة للمفيد/49: «وفي اليوم العاشر منه «ربيع الأول» تزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة بنت خويلد أم المؤمنين، لخمس وعشرين سنة من مولده».

2- خطب أبوطالب خديجة للنبي (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 5/374 والفقيه: 3/397 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يتزوج خديجة بنت خويلد، أقبل أبوطالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش، حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة، فابتدأ أبوطالب بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثم إن ابن أخي هذا يعني رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ممن لايوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا عِدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال فإن المال رفدٌ جارٍ وظلٌّ زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي، الذي سألتموه عاجله وآجله. وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل.

ثم سكت أبوطالب، وتكلم عمها وتلجلج وقَصُر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر! وكان رجلاً من القسيسين، فقالت خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود، فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فَلْيُولِمْ بها وادخل على أهلك! قال

ص: 166

أبوطالب: إشهدوا عليها بقبولها محمداً، وضمانها المهر في مالها! فقال بعض قريش: يا عجباه، المهر على النساء للرجال!

فغضب أبوطالب غضباً شديداً وقام على قدميه، وكان ممن يهابه الرجال ويُكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي! ونحرأبوطالب ناقة، ودخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأهله. وقال رجل من قريش يقال له عبدالله بن غنم:

هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت *** لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلها *** ومن ذا الذي في الناس مثل محمد

به بشر البران عيسى بن مريمٍ *** وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرت به الكتاب قدماً بأنه *** رسول من البطحاء هاد ومهتد»

أقول: نص الحديث على أن الشاعر قرشي، لكن علماء الرجال ترجموا لعبدالله بن غنم الأشعري أو الأزدي، ويظهر أنه صحابي وقد قال شعره بعد الإسلام.

3- وهبت خديجة كل أموالها إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

وذلك كما وهبت سارة كل أموالها لإبراهيم (علیهما السلام)،فقد فسر ابن عباس قوله تعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى: «فأغناك بمال خديجة، ثم زادك من فضله فجعل دعائك مستجاباً، حتى لودعوت على حجرأن يجعله الله لك ذهباً لنقل عينه إلى مرادك، وأتاك بالطعام حيث لا طعام، وأتاك بالماء حيث لاماء، وأغاثك بالملائكة حيث لامغيث، فأظفرك بهم على أعدائك».معاني الأخبار/53. وعمدة القاري: 19/299.

وفي البحار: 16/71: «يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها، وعبيدها، وخدمها، وجميع ما ملكت يمينها، والمواشي، والصداق، والهدايا، لمحمد (صلی الله علیه و آله)».

وفسرالإمام الرضا (علیه السلام) آية: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى «العيون: 2/177»بأنه جعله مستجاب الدعوة، والآية مطلقة تشمل مال خديجة والغنائم التي أحلها الله له، وغيرها.

ص: 167

4- وصار بيت خديجة (علیها السلام) بيت النبي (صلی الله علیه و آله)

ويقع في الجهة المقابلة لشعب بني هاشم، وهو في سوق الليل معروفٌ بمولد فاطمة (علیها السلام)، وقد زرته في السبعينات ميلادية حتى هدمه الوهابية وأزالوه، في حملتهم على آثار النبي (صلی الله علیه و آله) وآثار الإسلام!

ولما كتبت قريش صحيفة مقاطعة بني هاشم ليسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه اضطر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يترك بيته ويدخل مع بني هاشم في شعب أبي طالب، وتحملت خديجة (علیها السلام) معه سنوات المحاصرة، فأرسل الله جبرئيل ليقرئها السلام ويسليها عن فقدان بيتها، ويبشرها بأن الله تعالى بني لها بيتاً في الجنة.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يذكرها كل عمره ويمدحها، ولما فتح مكة نصب خيمته على قبرها، فكانت عائشة تحسدها وتغار منها: «قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة»! صحيح بخاري: 8/195.

وفي فتح الباري: 7/102: «عن هشام بن عروة: ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة، حين بشرها النبي ببيت».

وهذا ينسجم مع طبيعة المرأة واهتمامها ببيتها، وحسدها لضرتها إذا كان بيتها أحسن، فكيف إذا بناه الله تعالى لخديجة (علیها السلام) وأرسل جبرئيل (علیه السلام) يبشرها به! فهو يستحق من عائشة أعلى درجات الحسد، كما قالت!

ولم تذكر عائشة هنا صفة بيت خديجة، لكنها بعد ذلك هونت من شأنه وقالت إنه بيت من قصب وسعف نخل! فنسب بعض الرواة وصفه بأنه بيت من قصب إلى النبي (صلی الله علیه و آله)! لكن بعضهم أبقاه على النص النبوي بأنه من لؤلؤة ولا صخب فيه ولا نصب. فقد قال الإمام الباقر (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): إن جبرئيل (علیه السلام) عهد إليَّ أن بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون، من لؤلؤة جوفاء لاصخب فيه ولا نصب».شرح الأخبار:3/17.

وكذلك هي بيوت كبار الأولياء من ياقوت ومرجان، ففي نظم درر السمطين للحنفي/183، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 1/666 عن أبي سعيد الخدري أن

ص: 168

النبي (صلی الله علیه و آله): «مر في السماء السابعة، قال: فرأيت فيها لمريم ولأم موسى، ولآسية امرأة فرعون، ولخديجة بنت خويلد، قصوراً من الياقوت، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصراً من مرجان أحمر، مكللةً باللؤلؤ».

وروى عددٌ من مصادرهم حديث بيت خديجة (علیها السلام) بدون قصب كما رويناه! ففي فضائل الصحابة للنسائي/75: «بشر رسول الله خديجة ببيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب». وسنن النسائي: 5/94، الجامع الصغير: 2/247

وتاريخ الذهبي: 1/238.

لكن عائشة جعلت بيت خديجة كوخاً من قصب! «بشر خديجة ببيت من الجنة من قصب، لاصخب فيه ولانصب»! صحيح بخاري: 2/203.

وبينت سبب القصب «فتح الباري: 1/27» فقالت: «ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي: رأيت لخديجة بيتاً من قصب، لاصخب فيه ولا نصب».

وفي مسند أبي يعلى: 4/41 من حديث المعراج، أن النبي (صلی الله علیه و آله): «سئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»!

وصحح في مجمع الزوائد: 9/416: «ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن»!

فبيت خديجة (علیها السلام) من قصب لأنها لم تصلِّ، وبيت عائشة من لؤلؤ لأنها صلَّت! لكن الصلاة يا أمنا عائشة فرضت في أول البعثة، وروى الجميع أن خديجة (علیها السلام) كانت تصلي مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أن توفيت قبيل هجرته! فكيف قلت: لم تُصَلِّ!

إنها فضيحة حسد عائشة لخديجة (علیها السلام) على بيتها في الجنة، فجعلته من قصب، وأنكرت صلاة خديجة، وأخرت تشريع الصلاة إلى ما بعد موت خديجة!

وجاء المعذرون ومنهم البخاري «فتح الباري: 7/104» ليغطوا حسد عائشة، فجعلوا معنى بيت القصب: قضبان الذهب! لكن اللغة العربية تأبى ذلك، فالقصب نبات، ولم يرد وصفاً لقصور الجنة في أي حديث صحيح!

ص: 169

5- كان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح خديجة (علیها السلام)

وهدفه أن يعرِّف المسلمين قدرها، وكانت عائشة تعلن حسدها لها، فيغضب النبي (صلی الله علیه و آله) عليها! ففي السيرة الحلبية: 3/401: «قالت له وقد مدح خديجة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: والله ما أبدلني الله خيراً منها»!

وقال ابن إسحاق: 5/228: «أهدي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) جزور أو لحم، فأخذ عظماً منها فتناوله بيده فقال له: إذهب به إلى فلانة»صديقة خديجة«فقالت له عائشة: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة! فقام رسول الله مغضباً فلبث ما شاء الله، ثم رجع فإذا أم رومان فقالت: يا رسول الله ما لك ولعائشة إنها حَدَث وأنت أحق من تجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على الأرض امرأة إلا خديجة!والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك ورزقت مني الولد وحرمتموه»!

وفي العمدة/394، أنه (صلی الله علیه و آله) طرد عائشة! «فقال (صلی الله علیه و آله): قومي عني فقامت إلى ناحية من البيت». ولعلها تكلمت بعد قيامها فأخذ بشدقها! ولم تبين الرواية كيف أخذ بشدقها، هل سدَّه ليسكتها، أم ضغط عليه تأديباً لها!

وفي الخصال/405، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترينَ إلا أن لأمك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا، ما هي إلا كبعضنا! فسمع مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكت فقال: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت! فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: مه يا حميراء فإن الله تبارك وتعالى بارك في الودود الولود، وإن خديجة رحمها الله ولدت مني طاهراً وهو عبدالله وهو المطهر، وولدت مني القاسم وفاطمة [وأم كلثوم ورقية وزينب] وأنت ممن أعقم الله رحمها، فلم تلدي شيئاً»!

أقول: وضعنا أسماء البنات الثلاث بين معقوفين، لأنه يوجد خلاف في أنهن بناته (صلی الله علیه و آله) أو ربائبه، وقوله (صلی الله علیه و آله): أعقم الله رحمها، يدل على أن الله تعالى حصر ذريته بفاطمة (علیها السلام) .لكن رغم توبيخ النبي (صلی الله علیه و آله) لعائشة ونهيها واصلت حسدها لخديجة! ولها

ص: 170

قصص في حساسيتها منها مع فاطمة (علیها السلام)، لكن سلوك فاطمة الرباني فرض على عائشة احترامها فكانت تقول: «ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها». الإستيعاب: 4/1896، الزوائد: 9/201 وصححه. «كان بينهما شئ فقالت عائشة: يارسول الله سلها فإنها لاتكذب». أبو يعلى: 8/153.

6- عائشة متهمة ولا تُقبل شهادة المتَّهَم

فلا يجوز قبول روايات عائشة في خديجة (علیها السلام)، بعد اعترافها بحسدها المفرط لها، ولا قول حكيم بن حزام المتعصب لعائشة، قال: «كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، وعمرها أربعون سنة. بينما قال ابن عباس: كان عمرها ثمانياً وعشرين سنة، رواهما ابن عساكر! وقال ابن جرير: كان ابن سبع وثلاثين سنة، وكذا نقل البيهقي عن الحاكم، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل خمساً وعشرين سنة». سيرة ابن كثير: 1/265.

7- أحل الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) من النساء ما شاء

لكنه لم يتزوج إلا لمصلحة الإسلام ولا تزوج على خديجة. ففي الكافي: 5/389 أن أبابكر الحضرمي سأل الإمام الباقر (علیه السلام): «عن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ؟ كم أحل له من النساء؟قال: ما شاء من شئ. قلت: قوله عزوجل: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ؟ فقال: لاتحل الهبة إلا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأما لغير رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا يصلح نكاح إلا بمهر. قلت: أرأيت قول الله عزوجل: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ؟ فقال: إنما عنى به لايحل لك النساء التي حرم الله في هذه الآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ.. إلى آخرها، ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له، لأن أحدكم يستبدل كلما أراد ولكن ليس الأمر كما يقولون. إن الله عزوجل أحل لنبيه (صلی الله علیه و آله) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم عليه في هذه الآية».

ص: 171

ثم روى تسمية نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: «عائشة، وحفصة، وأم حبيب بنت أبي سفيان بن حرب، وزينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث، وصفية بنت حي بن أخطب، وأم سلمة بنت أبي أمية، وجويرية بنت الحارث. وكانت عائشة من تيم، وحفصة من عدي، وأم سلمة من بني مخزوم، وسودة من بني أسد بن عبدالعزى، وزينب بنت جحش من بني أسد وعدادها من بني أمية، وأم حبيب بنت أبي سفيان من بني أمية، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وصفية بنت حي بن أخطب.

ومات (صلی الله علیه و آله) عن تسع نساء وكان له سواهن التي وهبت نفسها للنبي (صلی الله علیه و آله) وخديجة بنت خويلد أم ولده، وزينب بنت أبي الجون التي خدعت، والكندية».

8- اشتهر وفاء النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام)

ونشرت ذلك عائشة وهي تتحدث عن غيرتها منها، قال ابن البطريق في العمدة/394: «عن أم رومان «أم عائشة» قالت: كان لرسول الله جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها، فحضرعنده شئ من المأكل فأمر بإعطائها وقال: هذه أمرتني خديجة بأن أتعاهدها فقالت عائشة: وكنت أحسدها لكثرة ذكره لها».

وعندما أفاء الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) أموال بني النضير ومنها فدك، أمره الله أن يفي لخديجة فيعطي فدكاً لابنتها فاطمة (علیها السلام) . ونزل قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.«إن الله يأمرك أن تؤتى ذا القربى حقه.قال: يا جبرئيل ومن قرباي، وما حقهم؟قال: أعط فاطمة حوائط فدك، واكتب لها كتاباً.وهي من ميراثها من أمها خديجة». قصص الأنبياء/345 والمناقب: 1/122.

وقد أجمع المسلمون على أن أموال بني النضير كانت خالصة للنبي (صلی الله علیه و آله)، وفيها نزل قوله تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. الكافي: 1/539، المعتبر: 2/633 والبخاري: 3/227 و 4/209.

ص: 172

9- وكانت خديجة أماً لعلي (علیه السلام)

فقد ربته وأحبته كما أحبه النبي (صلی الله علیه و آله) ووفت بذلك لفاطمة بنت أسد في تربيتها للنبي (صلی الله علیه و آله)، وقد أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) يوماً في مهمة فتأخر فتخوف عليه فذهبت خديجة تبحث عنه! «وافتقد علياً (علیه السلام) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها، فقالت: يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك؟قال: غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صُنِع به..

فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي، فوافقته فأعلمته باغتمام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغيبته، وألفته مقبلاً إليه، فسبقته تبشره فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه». شرح الأخبار: 2/205 وتفسير فرات/547.

وفي مناقب ابن سليمان: 1/304: «قالت خديجة: فمضيت فأخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإذا هو قائم يقول: اللهم فرج غمي بأخي علي، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا».

10- عظموا أمر عائشة على باقي نساء النبي (صلی الله علیه و آله)

قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة/75: «وعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه، مع أنه (صلی الله علیه و آله) كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة: إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها. وأذاعت سر رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة. ثم إنها خالفت أمر الله تعالى في قوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وخرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً (علیه السلام) على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول: أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً! فلما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان. فأي ذنب كان لعلي (علیه السلام) على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير مطاوعتها على ذلك؟وبأي وجه يلقون رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة»!

ص: 173

11- أنفق النبي (صلی الله علیه و آله) على المؤمنين من أموال خديجة (علیها السلام)

ففي أمالي الطوسي/463: «إن رسول الله قال: ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال خديجة، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني، ويحَمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة.

وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف، كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان (صلی الله علیه و آله) ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها».

وروى البخاري: 5/80 قول عمر لأسماء بنت عميس: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم! فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله (صلی الله علیه و آله)! وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن كنا نُؤذى ونُخاف. قال لها (صلی الله علیه و آله): ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

12- كانت خديجة (علیها السلام) أجمل زوجات النبي (صلی الله علیه و آله)

وقد ورَّثت حسنها لابنتها وأحفادها،ففي المناقب: 3/170عن الإمام الحسن (علیه السلام) قال: «صوَّر الله عزوجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة (علیها السلام)، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى3».

13- بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟

المشهور أن زينب وأم كلثوم بنات النبي (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) ويوجد قول قوي بأنهن بنات أخت خديجة، وقد توفيت أمهن فربتهن خالتهن خديجة، فعُرفن ببنات محمد (صلی الله علیه و آله)! وأن خديجة لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله)، وأن عمرها عند زواجها كان بضعاً وعشرين، وكان عمرها لما ماتت خمسين سنة، حسب رواية البيهقي.

ص: 174

وقد تبنى هذا الرأي بعض كتاب السيرة القدماء والمعاصرين فقال إنهن ربائب. قال في المناقب: 1/138: «وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة».

وقد ألف الباحث السيد جعفر مرتضى كتاب: «بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟» تجده في: http: //www.aqaed.com/shialib/books/all/banat/index.html

وذكر فيه تناقض روايتهم في تاريخ زواج النبي (صلی الله علیه و آله) وفي ولادة أولاده، وزواج بناته، فبعضها ذكر أنه (صلی الله علیه و آله) تزوج بها قبل البعثة بثلاث سنين، وبعضها قال إن أولاده منها ولدوا جميعاً بعد البعثة، إلا ولده عبدالمطلب، وبعضها ذكر أن آية: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ، نزلت بعد موت ابنه القاسم، الذي كان أكبر أولاده.

كما استدل بنصوص على أن زينب هي بنت أخت خديجة (علیها السلام) من زوجها أبي هند المخزومي، ومنها نص كتاب الإستغاثة، ونص المناقب المتقدم.

واستدل بقول النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي: «يا علي، أوتيتَ ثلاثاً لم يؤتهن أحدٌ ولا أنا: أوتيت صهراً مثلي، ولم أوت أنا مثلي»! فدل على أن علياً صهره الوحيد.

وقول ابن عمر في صحيح بخاري: 5/157: «أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه! وأما علي فابن عم رسول الله وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون». فذكر الصهر لعلي ولم يذكره لعثمان!

ويؤيد هذا الرأي ما رواه الحاكم: 2/200وصححه على شرط الشيخين: عن عروة، عن خالته عائشة في زينب بنت النبي (صلی الله علیه و آله) وكان زوجها الربيع بن العاص الأموي أسيراً في بدر، فأرسلت فداءه فأطلقه النبي (صلی الله علیه و آله) ووعده الربيع أن يأذن لها بالهجرة، فأذن لها وخرج بها من مكة زيد بن حارثة وأبو رافع وأخ زوجها فمنعته قريش، وضرب ناقتها هبَّار بن الأسود، فوقعت زينب وأسقطت جنينها ثم سمحت لها قريش فهاجرت. قال عروة إن عائشة روت القصة وقالت: «فكان

ص: 175

رسول الله يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت فيَّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة (علیها السلام)! فقال: والله ما أحب أنَّ لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها! وأما بعدُ فلك أن لا أحدث به أبداً! قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ».

ومعناه أن الإمام زين العابدين (علیه السلام) وبَّخ عروة على روايته أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن زينب أفضل بناته، فتنصل عروة ووعد أن لايرويه، مع أنه قول خالته عائشة! ثم قال معتذراً عنها: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ. ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) عبَّرعن زينب بابنته قبل أن تنزل آية تحريم تسمية المتبنى إبناً وقد نزل ذلك في سورة الأحزاب سنة خمس للهجرة، أما بعدها فلم يقل عن زينب: بنتي لأنها كانت متبناة! فهذا حديث صحيح بشرط الشيخين يشهد بأن زينب ربيبة! فالقول بأنهن ربائب قوي علمياً، لكنه يحتاج إلى مؤيدات أخرى لينهض في مقابل النصوص على أنهن بنات النبي (صلی الله علیه و آله) من خديجة.

قال أبو الفتح الكراجكي في كتابه: التعجب من أغلاط العامة/101: «ومن عجيب أمرهم مثل هذا: قولهم: إن عثمان بن عفان ذو النورين، واعتقادهم من نحلته هذا بأنه تزوج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول الله من خديجة بنت خويلد، وقد اختلفت الأقوال فيهما، فمن قائل: أنهما ربيبتاه وأنهما ابنتا خديجة من سواه. ومن قائل: إنهما ابنتا أخت خديجة من أمها، وإن خديجة ربتهما لما ماتت أختها في حياتها، وقال إن اسم أبيهما هالة. ومن قال إنهما ابنتا النبي يعلم أنهما ليستا كفاطمة البتول (علیها السلام) في منزلتها، ولا يدانيانها في مرتبتها، فيسمون عثمان لأجل تزويجه بهما، (مع ما روي من أنه قتل إحداهما): ذا النورين، ولايقولون: إن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ذو النورين، وهو أبو السبطين السيدين الإمامين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وشنفي العرش، وريحانتي نبي الرحمة، وولدي ابنته فاطمة البتول سيدة نساء العالمين، والأئمة الهادين، صلوات الله عليهم أجمعين».

ص: 176

الفصل التاسع: ولادة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)

1- قالوا إن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترة عندهم، ثم أنكروها!

قال الحاكم في المستدرك: 3/483ه: «تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، في جوف الكعبة».

وقال في أعيان الشيعة: 1/323: «ورد أنه (علیه السلام) ولد في جوف الكعبة أعزها الله، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، وأن هذه فضيلة اختصه الله بها، لم تكن لأحد قبله ولا بعده. وقد صرح بذلك عدد كبير من العلماء ورواة الأثر، ونظمها الشعراء والأدباء، وذلك مستفيض عند شيعة أهل البیت (علیهم السلام)،كما أنه كذلك في كتب غيرهم، حتى لقد قال الحاكم وغيره: تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد.الخ.». قال السيد الحميري المتوفى سنة 173:

ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ

بيضاءُ طاهرة الثياب كريمةٌ *** طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدا مع القمر المنير الأسعد

ما لفَّ في خرق القوابل مثله *** إلا ابنُ آمنةَ النبيُّ محمدُ

وقال في الصحيح من سيرة الإمام علي (علیه السلام): 1/98: «لكن نفوس شانئي علي (علیه السلام) قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه الله بها، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء والمؤرخين ورواة الحديث والأثر، والضرب بها عرض الجدار! حيث نجدهم وبكل جرأة ولا مبالاة، يثبتون

ص: 177

ذلك لرجل آخر غير علي (علیه السلام)، بل ويحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضاً، حتى لقد قال في كتاب النور: حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره! وأما ما روي من أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء»!

وقال المعتزلي في شرح النهج: 1/14: «كثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة والمحدثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام».

أقول: أول من ادعى ولادة حكيم في الكعبة ابن عمه الزبير بن بكار، في كتابه: جمهرة نسب قريش: 1/353، قال: «دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل متمٌّ بحكيم بن حزام، فضربها المخاض في الكعبة، فأُتيت بنطع حيت أعجلتها الولادة، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع».

ويكفي لرده أنه لم يروه إلا الزبيريون، وبغضهم لعلي (علیه السلام) مشهور للعام والخاص. قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/315، عن عبدالله بن الزبير: «وهو الذي بقي أربعين جمعة لايصلي على النبي (صلی الله علیه و آله) في خطبته، حتى التاث عليه الناس، فقال: إن له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك، فلا أحب أن أقر عينهم بذكره»!وهذا من غرائب النصب والحقد!

2- رواية يزيد بن قعنب

وتدل شهادة الحاكم: 3/483 بأن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترةٌ عند الجميع، على أن السلطة غيبت نصوصها، ونشرت بدلها كذبة ابن بكار الزبيري لمصلحة ابن عمه حكيم بن حزام، وكلاهما من النواصب!

وقد ذكرنا في المقدمة أن السلطة أبادت أحاديث جابر بن يزيد الجعفي وكانت سبعين ألف حديث، وأحاديث ابن عقدة وكانت أكثر من ثلاث مائة ألف حديث!

هذا، وقد رويت كيفيات لولادته (علیه السلام) في الكعبة، ولعل أصحها رواية يزيد بن قعنب، التي رواها سعيد بن جبير عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه:، قال ابن قعنب «أمالي الصدوق/194»: «كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب وفريق من بني عبدالعزى

ص: 178

بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (علیه السلام) وأنه بني البيت العتيق، فبحق الذي بنیٰ هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي. قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزوجل.

ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أميرالمؤمنين (علیه السلام)، ثم قالت: إني فضلت على من تقدمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عزوجل سراً في موضع لا يحب أن يعبدالله فيه إلا اضطراراً، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلي الأعلى، يقول: إني شققت إسمه من إسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه»!

ورُويت لولادته (علیه السلام) كيفية أخرى عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) عن زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة «مناقب ابن المغازلي/25» قال (علیه السلام): «كنت جالساً مع أبي ونحن زائران قبرَ جدنا (علیه السلام) وهناك نسوان كثيرة، إذ أقبلت امرأة منهن فقلت لها: من أنت يرحمك الله؟ قالت: أنا زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة، فقلت لها: فهل عندك شئ تُحدثينا؟ فقالت: إي والله حدثتني أُمي أُم عمارة بنت عُبادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجلان الساعدي، أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبوطالب كئيباً حزيناً فقلت له: ما شأنك يا أباطالب؟ قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض، ثم وضع يديه على وجهه، فبينا هو كذلك إذ أقبل محمد (صلی الله علیه و آله) فقال له: ما شأنك يا عمِّ؟ فقال: إن فاطمة بنت أسد تشتكي

ص: 179

المَخاضَ، فأخذ بيده وجاء وهي معه فجاء بها إلى الكعبة فأجلسها في الكعبة، ثم قال أجلسي على اسم الله! قال فَطُلِقَت طَلقةً فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظّفاً لم أر كَحُسنِ وجهه، فسماه أبوطالب علياً وحَمله النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أداه إلى منزلها! قال علي بن الحسين (علیه السلام): فوالله ما سمعتُ بشئ قطُّ إلاّ وهذا أحسنُ منه».

فرواية ابن قعنب تذكر أن فاطمة بنت أسد (علیها السلام) جاءت وحدها إلى الكعبة، ودعت الله تعالى، فانشق لها الجدار ودخلت.

وهذه الرواية تذكر أن أباطالب جاء إلى المسجد الحرام فرآه النبي (صلی الله علیه و آله) فشكا له أن زوجته تشتكي المخاض، فجاء بها النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الكعبة، وولدت فيها.

ويمكن الجمع بينهما بأن دعاءها عند الكعبة عندما أتى بها النبي (صلی الله علیه و آله) .

وتوجد رواية بكيفية ثالثة، وإذا لم يمكن الجمع بينها، فالمرجح رواية ابن قعنب بن عتاب التميمي، وقد وثقوه وذكروا أنه كان فارساً، ويظهر أنه ابن عم الحر بن يزيد الرياحي، الذي استشهد مع الحسين (علیه السلام) . أنساب الأشراف: 12/159.

وفي المناقب: 3/59: «عليٌّ (علیه السلام) أول هاشمي ولد من هاشميين، وأول من ولد في الكعبة، وأول من آمن، وأول من صلى، وأول من بايع، وأول من جاهد، وأول من تعلم من النبي (صلی الله علیه و آله)، وأول من صنف».

3- دلالة ولادة علي في الكعبة

في ولادته (علیه السلام) في الكعبة إشارة ربانية مهمة إلى مكانته عند الله تعالى، وإن كان هو (علیه السلام) أفضل من الكعبة الشريفة، كما قال الشهيد نور الله التستري في إحقاق الحق/198: «على أن الكلام في تشرف الكعبة بولادته فيها، لا في تشرفه بولادته في الكعبة، فإنه (علیه السلام) هو الكعبة الحقيقية لأهل الإنتباه، وقبلة إقبال المقبلين إلى الله، كما روى عنه (علیه السلام) أنه قال: نحن كعبة الله، ونحن قبلة الله».نهج الإيمان /569.

4- إسم علي وإسم حيدرة

في أمالي الطوسي/3: «عن مكحول قال: لما كان يوم خيبر خرج رجل من اليهود يقال له مرحب، وكان طويل القامة عظيم الهامة، وكانت اليهود تقدمه لشجاعته ويساره.

ص: 180

قال: فخرج في ذلك اليوم إلى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما واقفه قرن إلا قال: أنا مرحب، ثم حمل عليه فلم يثبت له. قال: وكانت له ظئر وكانت كاهنة، وكانت تعجب بشبابه وعظم خلقته، وكانت تقول له: قاتل كل من قاتلك وغالب كل من غالبك، إلا من تسمى عليك بحيدرة، فإنك إن وقفت له هلكت. قال: فلما كثر مناوشته، وبَعُل الناس بمقامه شكوا ذلك إلى النبي (صلی الله علیه و آله) سألوه أن يُخرج إليه علياً فدعا النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وقال له: يا علي إكفني مرحباً، فخرج إليه أميرالمؤمنين، فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به، فأنكر ذلك وأحجم عنه، ثم أقدم وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي مرحبا.

فأقبل علي (علیه السلام) بالسيف، وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره.

فلما سمعها منه مرحب هرب ولم يقف خوفاً مما حذرته منه ظئره، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود، فقال: إلى أين يا مرحب؟فقال: قد تسمى عليَّ هذا القرن بحيدرة! فقال له إبليس: فما حيدرة؟ فقال: إن فلانة ظئري كانت تحذرني من مبارزة رجل إسمه حيدرة وتقول: إنه قاتلك.

فقال له إبليس: شوهاً لك، لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن، وحيدرة في الدنيا كثير، فارجع فلعلك تقتله، فإن قتلته سدت قومك، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك. فرده فوالله ما كان إلا كفَوَاق ناقة حتى ضربه علي (علیه السلام) ضربة سقط منها لوجهه وانهزم اليهود وهم يقولون: قتل مرحب، قتل مرحب!».

أقول: يظهر أن أمه سمته حيدرة وسماه أبوه علياً بتوجيه النبي (صلی الله علیه و آله) . وحيدرة بالعربية الأسد، وورد أن إسمه (علیه السلام) عند اليهود هيدار، ففي الروضة لابن شاذان/222، أن إسم النبي (صلی الله علیه و آله): «في التوراة: ميد ميد، وإسم وصيه: إليا، واسمه في الإنجيل: حمياطا، و إسم وصيه فيها: هيدار»

وفي معاني الأخبار/58، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في خطبة له: «إسمي في الإنجيل إليا، وفي التوراة برئ، وفي الزبور أري، وعند الهند كبكر،

ص: 181

وعند الروم بطريسا، وعند الفرس جبتر، وعند الترك بثير، وعند الزنج حيتر، وعند الكهنة بويئ، وعند الحبشة بثريك، وعند أمي حيدرة، وعند ظئري ميمون، وعند العرب علي، وعند الأرمن فريق، وعند أبي ظهير».

وفي الفضائل لابن شاذان/175: «وقد رويَ عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: لعلي سبعة عشر إسماً. فقال ابن عباس أخبرنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: إسمه عند العرب علي، وعند أمه حيدرة، وفي التوراة إليا، وفي الإنجيل بريا، وفي الزبور قريا، وعند الروم بطرسيا، وعند الفرس نيروز، وعند العجم شميا، وعند الديلم فريقيا، وعند الكرور شيعيا، وعند الزبح حيم، وعند الحبشة تبير، وعند الترك حميرا، وعند الأرمن كركر، وعند المؤمنين السحاب، وعند الكافرين الموت الأحمر، وعند المسلمين وعد، وعند المنافقين وعيد، وعندي طاهر مطهر، وهو جنب الله، ونفس الله، ويمين الله عزوجل».

وربما وجد ارتباط بين هيدار وقيدار، ففي قاموس الكتاب المقدس/751: «قيدار: إسم سامي، معناه قدير أو أسود، وهو ابن إسماعيل الثاني «تك 25: 13» وهو أب لأشهر قبائل العرب، وتسمى بلادهم أيضاً: قيدار».

5- ولد علي (علیه السلام) قبل البعثة بعشر سنين

كان عمر أميرالمؤمنين (علیه السلام) لمَّا بعث النبي (صلی الله علیه و آله) عشر سنين، لكنه كان جسمه ببنية الخمسة عشر، ووعقل أكبر من سنه بكثير، ويكفي دليلاً عليه أن النبي (صلی الله علیه و آله) كلفه بدعوة بني هاشم وإعداد الطعام لهم.

قال العلامة في تذكرة الفقهاء: 6/196: «يوم الثالث عشر منه، ولد مولانا أميرالمؤمنين (علیه السلام) في الكعبة قبل النبوة باثنتي عشرة سنة». والصحيح عشرة سنين.

وقال في الكافي: 1/452: «ولد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل (علیه السلام) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، بقي بعد قبض النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاثين سنة».

وتواترت في مصادر السنيين رواية ابن عفيف الكندي، قال: «أول شئ علمتُ

ص: 182

من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قدمت مكة في عمومة لي، فأرشدنا على العباس بن عبدالمطلب، فانتهينا إليه وهو جالس في زمزم فجلسنا إليه فبينا نحن عنده، أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أطراف أذنيه، أشم أقنى الأنف براق الثنايا أدعج العينين، كث اللحية دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه، مراهق أو محتلم، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه، ثم استلمه الغلام، واستلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفون معه، ثم استلم الركن ورفع يديه وكبر، وقام الغلام عن يمينه ورفع يديه وكبر، وقامت المرأة خلفهما ورفعت يديها وكبرت، وأطال القنوت ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت وهو قائم، ثم سجد وسجد الغلام والمرأة معه، يصنعان مثلما يصنع يتبعانه. قال: فرأينا شيئاً لم نكن نعرفه بمكة فأنكرنا، فأقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم، أشئ حدث؟ قال: أجل والله، أما تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا ابن أخي محمد بن عبدالله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد. أما والله ما على ظهر الأرض أحد يعبدالله على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة».والطبراني الكبير: 10/183، شرح النهج:13/225، شواهد التنزيل: 2/302، تاريخ دمشق: 3/265، سير الذهبي: 1/463، ما نزل من القرآن في علي لابن مردويه/49، الحاكم: 3/183، الإستيعاب: 3/1096، الفصول المختارة/273.

وفي رواية أحمد: 1/209 أنه رآهم في موسم الحج في منى خرجوا من خيمة وصلَّوْا. وفي رواية: «وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر».

6- أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وهو طفلٌ فرباه ليكون له عضداً

في المناقب: 2/29: «ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق، أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض

ص: 183

ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاك عندي.

فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت، فأخذ علياً (علیه السلام)».

وقال علي (علیه السلام): «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت أتبعه اتِّبَاع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالإقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير، وإنك لعلى خير». نهجالبلاغة: 2/158.

وهذا النص الصحيح يبطل قولهم إن أباطالب (رحمة الله) كان فقيراً لايملك قوت أولاده فأشفق عليه النبي (صلی الله علیه و آله) والعباس، فأخذا بعض أولاده ليخففوا عائلته! فأخذ محمد (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وأخذ العباس جعفراً!وقد أفاض رواة السلطة العباسية في ذلك، وأخذته منهم بعض مصادرنا لأن ظاهره المديح!

وأصله رواية ابن هشام: 1/162، عن ابن إسحاق، عن مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103، قال: «كان من نعم الله على علي بن أبي طالب رضيالله عنه ما صنع الله له وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبوطالب في عيال كثير فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم: يا أبا الفضل إن أخاك أباطالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه. فقال

ص: 184

العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أباطالب فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبوطالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما. فأخذ رسول الله علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى بعثه الله نبياً فاتبعه وصدقه، وأخذ العباس جعفراً، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه». والطبري: 2/57، الحاكم: 3/576، مجمع الزوائد: 8/153، الإستيعاب: 1/37، تفسير الثعلبي: 5/84، مجالس ثعلب/15، تاريخ دمشق: 26/283. وشرح النهج 13/198. ومن مصادرنا: علل الشرائع: 1/169، كشف الغمة: 1/77، روضة الواعظين/86، المناقب: 2/27، العمدة/63، ذخائر العقبى/58، عمدة الطالب/59 وبحار الأنوار: 35/24..الخ.

فالرواية إنما هي قولُ مجاهد بن جبر، مولى بني مخزوم، وعنه أخذها الجميع، وظاهرها مدح لعلي (علیه السلام) بأن فقر أبيه كان السبب في أن يربيه النبي (صلی الله علیه و آله)!

بل رووا عنه (علیه السلام) أنه قال: «أبي ساد فقيراً، وما ساد فقير قبله». اليعقوبي: 2/14.

لكن كيف كان أبوطالب فقيراً، وهو يطعم الحجيج ويسقيهم! وهو ابن عبدالمطلب الذي وَرَّثَه سقاية الحجيج ورفادتهم؟!

وقد روى مادحوا العباس أن أباطالب اقترض منه عشرة آلاف درهم، وأنفقها على الحجيج، وفي السنة الثانية اقترض أربعة عشر ألفاً. تاريخ دمشق: 26/283. فالذي ينفق الألوف لايعجز عن نفقة بيته وهي لا تزيد عن500 درهم في السنة!

ومما يردُّ كلامهم أيضاً أنَّا لم نسمع شيئاً عن طالب عند حمزة، ولا عن جعفر

عند العباس! ولا سمعنا شيئاً عن هذه الأزمة الشديدة على قريش، التي تفرد بذكرها مجاهد، الذي هو صاحب ابن عباس، وهو عباسي الهوى!

إن غرضهم إثبات فقر أبي طالب (رحمة الله) وغنى العباس، وإنفاقه عليه وعلى أولاده، وأن يقولوا إن أباطالب عجز عن نفقات الرفادة والسقاية التي ورثه إياها عبدالمطلب، فاشتراها منه العباس. وأن يجعلوا نشأة علي (علیه السلام) عند النبي (صلی الله علیه و آله) مصادفة! راجع: تاريخ دمشق: 26/283، المستطرف: 1/289، أخبار مكة:

ص: 185

2/106،ومجالس ثعلب/15.

والراوي الثاني لهذه القصة فهو ابن سلام، قال: «لما أمْعَرَ أبوطالب قالت له بنو هاشم: دعنا فليأخذ كل رجل منا رجلاً من ولدك. قال: إصنعوا ما أحببتم إذا خليتم لي عقيلاً، فأخذ النبي علياً..فكان أبوطالب يُدان لسقاية الحاج حتى أعوزه ذلك، فقال لأخيه العباس بن عبدالمطلب وكان أكثر بني هاشم مالاً في الجاهلية: يا أخي قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولا بد لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم فأسلفه العباس إياها، فأقام أبوطالب تلك السنة بها وبما احتال «هيأ» فلما كانت السنة الثانية وأفِد الموسم«قرب» قال لأخيه العباس: يا أخي إن الموسم قد حضر ولا بد للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم، فقال: إني قد أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم، ورجوتُ ألا يأتي عليك هذا الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها، وأنت تطلب العام أكثر منها، وترجو زعمت ألا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم! هاهنا أمرٌ لك فيه فرج: أدفع إليك هذه الأربعة العشر ألف، فإن جاء موسم قابل ولم توف حقي الأول وهذا، فولاية السقاية إليَّ، فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذْ عجزت عنها! فأنعم له أبوطالب بذلك فقال: ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة ولا أريد سائر بني هاشم، ففعل أبوطالب وأعاره العباس الأربعة عشرالألف بمحضر منهم ورضاً، فلما كان الموسم العام المقبل لم يكن بد من إقامة السقاية، فقال العباس لأبي طالب: قد أفد الحج وليس لدفع حقي إلي وجه، وأنت لاتقدر أن تقيم السقاية فدعني وولايتها أكفكها وأبريك من حقي ففعل،فكان العباس بن عبدالمطلب يليها وأبوطالب حيٌّ ثم تم لهم ذلك إلى اليوم».

أقول: صاحب هذا الكلام محمد بن سلام الجمحي، وهو من أتباع المتوكل،توفي سنة 231، ولم يسنده إلى أحد حتى إلى مجاهد تلميذ ابن عباس! والرواية موظفة لإثبات أن العباسيين اشتروا السقاية من أبي طالب، بعد أن أوصى له بها عبدالمطلب! والصحيح: أنه لما توفي أبوطالب وهاجر النبي (صلی الله علیه و آله) وحمزة وعلي وجعفر، بقي العباس في مكة فتصدى للسقاية،ولما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة سكت عن السقاية!

ص: 186

بل رووا أنه (صلی الله علیه و آله) كره أن يشرب من سقاية العباس، لأنه كان يضع في الماء عنباً أو زبيباً: «عطش النبي (صلی الله علیه و آله) حول الكعبة فاستسقى، فأتي بنبيذ من السقاية فشمَّه فَقَطَّب! فقال عليَّ بذَنوبٍ من زمزم، فصب عليه ثم شرب».فتح الباري: 10/34.

ولما افتخر العباس بالسقاية، نزل قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ». الكافي: 8/203.

والنتيجة: أن علياً (علیه السلام) ولد قبل زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بنحو سنتين حسب رواية أبي رافع «المناقب 2/29»: «ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق، أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاك عندي. فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت، فأخذ علياً (علیه السلام)».

ويدل قوله (علیه السلام): «وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه». على أنه كان في السنة الثالثة أو نحوها.

وقالت أمه فاطمة رضيالله عنها كما في رواية ابن قعنب كشف اليقين/23: «فولدت علياً ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثون سنة، فأحبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حباً شديداً وقال لي: إجعلي مهده بقرب فراشي. وكان (صلی الله علیه و آله) يلي أكثر تربيته، وكان يطهرعلياً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ويقول: هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي. وكان يحمله دائماً، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها».

ومعناه أنه (صلی الله علیه و آله) اهتم بعلي (علیه السلام) من أول ولادته، فكان يربيه ويطعمه وهو مع أمه في بيت أبي طالب، ثم طلبه من عمه أبي طالب (علیه السلام) وكان في نحو السنتين. ويكون عمره (علیه السلام) عند البعثة عشر سنين «فولدت علياً ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاثون سنة» وعاش معه ثلاثاً وثلاثين، وبعده ثلاثين سنة.

ص: 187

الفصل العاشر: مقدمات بعثة النبی (صلی الله علیه و آله)

1- حكَّمَتْه قريش في وضع الحجر قبل بعثته (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 4/217 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه وألقيَ في روعهم الرعب، حتى قال قائل منهم: ليأتِ كل رجل منكم بأطيب ماله، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام، ففعلوا فَخُلِّيَ بينهم وبين بنائه، فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر، فحكَّموا أول من يدخل من باب المسجد، فدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما أتاهم أمَرَ بثوب فبُسط ثم وضع الحجر في وسطه، ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه، ثم تناوله (صلی الله علیه و آله) فوضعه في موضعه، فخصه الله به».

وفي الكافي: 4/217 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أيضاً قال: «إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت، وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر، وكان حائطها قصيراً، وكان ذلك قبل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثين سنة... فلما بلغ البناء إلى موضع الحجرالأسود تشاجرت قريش في موضعه، فقال كل قبيلة: نحن أولى به نحن نضعه فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: هذا الأمين قد جاء! فحكموه فبسط رداءه وقال بعضهم كساء طاروني كان له، ووضع الحجر فيه ثم قال: يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس،

ص: 188

والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبدالعزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي (صلی الله علیه و آله) في موضعه». والبيهقي: 5/72، فتح الباري: 3/351، الطيالسي/18، أوائل ابن أبي عاصم/44، الإستيعاب: 1/35، التنبيه والإشراف/197، تاريخ الذهبي: 1/66، النهاية: 5/171 والشفا: 1/134.

وذكر اليعقوبي: 2/19 أن عمر النبي (صلی الله علیه و آله) كان خمساً وعشرين سنة. «كانت قريش تسمى رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين». ابن هشام: 1/124.

2- قبل الأربعين كان (صلی الله علیه و آله) نبياً وكان يصلي معه علي وخديجة (علیهما السلام)

بحث العلماء عبادة نبينا (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته، وهل كان يعبدالله تعالى حسب شريعة عيسى (علیه السلام) أم لا؟ «البحار 18/272» والصحيح أنه (صلی الله علیه و آله) وأجداده:كانوا فرعاً مستقلاً، مكلفين بحنيفية إبراهيم (علیه السلام) دون غيره من الأنبياء (علیهم السلام)، وأن قريشاً انحرفت عن ملة إبراهيم (علیه السلام) وثبت عليها آباؤه وأخيار أسرته (صلی الله علیه و آله)، ويدل عليه:

1- قول الفتال النيسابوري في روضة الواعظين/52: «إعلم أن الطائفة قد اجتمعت على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان رسولاً نبياً مستخفياً، يصوم ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله، مذ كلفه الله تعالى. فإذا أتت أربعون سنة أمرالله عزوجل جبرئيل (علیه السلام) أن يهبط إليه بإظهار الرسالة وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم. فاجتاز بميكائيل (علیه السلام) فقال: أين تريد؟ فقال له: قد بعث الله جل وعز نبياً نبي الرحمة وأمرني أن أهبط إليه بالرسالة فقال له ميكائيل: فأجئ معك قال له: نعم، فنزلا ووجد رسول الله نائماً بالأبطح بين أميرالمؤمنين وجعفر بن أبي طالب:فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، ولم ينبهه جبرئيل إعظاماً له، فقال ميكائيل لجبرئيل: إلى أيهم بعثت؟ قال: إلى الأوسط، فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل ثم انتبه النبي (صلی الله علیه و آله) فأدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى. فلما نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بثوبه. ثم قال: ما اسمك؟ قال له جبرئيل. ثم نهض رسول الله ليلحق بغنمه، فما مر

ص: 189

بشجرة ولامدرة إلا سلمت عليه وهنأته. ثم كان جبرئيل (علیه السلام) يأتيه فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه، فأتاه يوماً وهو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين، فتوضأ جبرئيل وتوضأ الرسول (صلی الله علیه و آله)، ثم صلى الظهر وهي أول صلاة فرضها الله عزوجل، وصلى أميرالمؤمنين تلك الصلاة مع رسول الله، ورجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يومه إلى خديجة فأخبرها، فتوضأت وصلت صلاة العصر من ذلك اليوم».

2- قال الأصبغ بن نباتة: «سمعت أميرالمؤمنين (علیه السلام) يقول: والله ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولاهاشم ولا عبدمناف صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.

3- تدل آيات تجديد إبراهيم (علیه السلام) للكعبة وإسكانه إسماعيل وذريته:فيها، على أنهم فرع مستقل عن بني إسرائيل ونبواتهم، وامتداد مباشر لإبراهيم ليهدوا الناس إلى حج البيت والطواف به والصلاة عنده، بانتظار النبي الموعود منهم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. إبراهيم: 37.

وقال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.البقرة: 127-129.

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.

البقرة: 135-136. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا.. آل عمران: 68.

4- تقدم في الفصل الأول أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان نبياً قبل آدم، فوضع الله نوره في صلب آدم، ثم ما زال ينقله من صلب طاهر إلى رحم مطهر، حتى أولده من أبويه المؤمنين الطاهرين عبدالله وآمنة (علیها السلام) .

ص: 190

5- تقدم قول أميرالمؤمنين (علیه السلام) يصف النبي (صلی الله علیه و آله): «ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلمه محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره». فهو نص على أنه (صلی الله علیه و آله) كان نبياً من فطامه على الأقل، وأن كبيراً من الملائكة كان معه ينبؤه ويعلمه، ثم بعث في الأربعين رسولاً.

6- قال الإمام الباقر (علیه السلام) في الرسول والنبي والمحدث «الكافي: 1/176»: «الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبَلاً «مواجهةً» فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (علیه السلام) ونحو ما كان رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أسباب النبوة قبل الوحي، حتى أتاه جبرئيل (علیه السلام) من عند الله بالرسالة.

وكان محمد (صلی الله علیه و آله) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيؤه بها جبرئيل ويكلمه بها قُبَلاً. ومن الأنبياء (علیهم السلام) من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة. وأما المحدَّث فهو الذي يُحَدَّث فيسمع، ولا يُعاين، ولايرى في منامه».

7- نصت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) على أن جبرئيل جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كان في سن السابعة والثلاثين، وأخبره أنه سيكون رسولاً، وعلمه الوضوء والصلاة وأن خديجة وعلياً (صلی الله علیه و آله) صدقاه، وكانا يصليان معه.

ففي إعلام الورى: 1/102: «ذكر مبدأ المبعث: ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول: يا رسول الله، فينكر ذلك، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب، فنظر إلى شخص يقول له: يا رسول الله. فقال له: من أنت؟ قال: جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً، فأخبر رسول الله خديجة بذلك، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبراليهودي، وخبر بحيراء، وما حدثت به آمنة أمه، فقالت: يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك.

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكتم ذلك، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) وأنزل عليه ماء من السماء فقال: يا محمد قم توضأ للصلاة، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه

ص: 191

واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وعلمه السجود والركوع. فلما تم له أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه أوقاتها، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت.

وكان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه، فدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي، فلما نظر إليه يصلي قال: يا أبا القاسم ما هذا؟ قال: هذه الصلاة التي أمرني الله بها، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة، فكان لا يصلي إلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي وخديجة خلفه.

فلما أتى لذلك أيام دخل أبوطالب إلى منزل رسول الله ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: ياجعفرصل جناح ابن عمك فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بينهما وتقدم». وفي المناقب: 1/41: «وأنشأ أبوطالب في ذلك يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ

والله لا أخذل النبيَّ ولا *** يخذله من بَنِيَّ ذو حسب

لاتخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي»

وفي فوائد أبي الفتح الكراجكي (رحمة الله) /116: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف، أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً، يخبر بذلك خديجة وعلياً (صلی الله علیه و آله) ويستسرهما هذه الحال، فكانت خديجة تثبته وتصبره، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له: والله يا ابن العم ما كذب عبدالمطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك.

ولم يزل كذلك إلى أن أُمِرَ بالتبليغ، فكان أول من آمن به من النساء خديجة (علیها السلام)، ومن الذكور أميرالمؤمنين علي (علیه السلام)».

8- وفي أمالي الطوسي/260: «عبدالله بن نجي قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: صليت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يصلي معه أحد من الناس ثلاث سنين». ورواه الشريف المرتضى في الفصول المختارة/261، وروى عن معاذة العدوية قالت: «سمعت

ص: 192

علياً (علیه السلام) يخطب على منبر البصرة، فسمعته يقول: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبوبكر، وأسلمت قبل أن يسلم. وعن أبي البختري قال (علیه السلام): صليت قبل الناس سبع سنين».

3- وروى الجميع أنه صلى وعلياً سبعاً قبل الناس

روت مصادر الشيعة والسنة بسند صحيح، أن النبي (صلی الله علیه و آله) صلى هو وخديجة وعلي سبع سنين قبل الناس. والظاهر أنه يقصد أربع سنوات قبل الرسالة، وثلاث سنوات بعدها، حتى أمره الله بالدعوة العامة.

روى الخطيب في المتفق: 3/141 عن أبي أيوب: «قال (صلی الله علیه و آله): صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله». وفي تاريخ دمشق: 42/39: «ولم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله من الأرض إلى السماء، إلا مني ومن علي».

كما رووا قول علي (علیه السلام) صليت قبل الناس بسبع سنين،وطرقه تصل إلى حد التواتر فمن مصادرنا: رواه في الخصال/401: «أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذاب، صليت قبل الناس بسبع سنين».

وفي روضة الواعظين/85: «اللهم إني لا أعلم أحداً أسلم قبلي من هذه الأمة غير نبيها، صليت قبل أن يصلي أحد سبعاً...بعث النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين، إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، قلت يا رسول الله: ما هذا؟ قال: أمرت به».

وفي أمالي الطوسي/341، عن الإمام الرضا عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».

وفي كشف اليقين/167: «ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل، عن عبدالله بن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لايقولها غيري إلا كاذب مفتر، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين.

ومن مسند أحمد: عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الصديقون ثلاثة:

ص: 193

حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ. وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رجلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ. وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم». والفصول المختارة/260، الغدير: 2/314 و 3/121 والصحيح من السيرة: 4/45. ومن مصادرغيرنا: ابن ماجة: 1/44، الحاكم: 3/111 وصححاه. ومجمع الزوائد: 9/102، بعدة روايات، ابن أبي شيبة: 7/498، الضحاك في الآحاد والمثاني:1/148، النسائي: 5/106، الثعلبي في تفسيره: 5/85، الطبري في الرياض النضرة: 2/209 وابن أبي عاصم في السنة/ 584.

وفي سنن النسائي: 5/107: «ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَد الله بعد نبيها -مباشرة- غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنين».

وقال في شرح النهج: 13/200: «أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام أبي بكر، وصليت قبل صلاته بسبع سنين. كأنه (علیه السلام) لم يرتض أن يذكر عمر، ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً»!

أقول: كان نزول جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) متعدداً قبل الأربعين، إلى أن نزل بالقرآن في الأربعين، وكان (صلی الله علیه و آله) يخبر علياً وخديجة (علیهما السلام) ويدعوهما إلى الإيمان بعد نزول جبرئيل (علیه السلام) . وفي المرة الأخيرة في غار حراء كان علي وخديجة معه (صلی الله علیه و آله) كما روى ذلك السنة والشيعة، ودعاهما أيضاً بعده فآمنا.

4- وروى الجميع ما يدل على نبوته (صلی الله علیه و آله) قبل رسالته!

ففي دلائل النبوة للبيهقي: 2/17 و424 ومسلم: 7/58: «عن علي رضيالله عنه قال: كنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله... قال رسول الله: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».

وفي فيض القدير: 3/25: «قيل هو الحجر الأسود، وقيل البارز بزقاق المرفق، وعليه أهل مكة سلفاً وخلفاً». وأضافت رواية الترمذي: 5/253 وغيره: كان يسلم عليَّ ليالي بعثت. ويبدو أنها زياة من الراوي.

ص: 194

5- زعموا أن إسرافيل نزل عليه قبل جبرئيل

اهتم رواة السلطة بأمرين جعلوهما أصلين في البعثة، وأخضعوا لهما ما روي!

الأول: أن نبوته ورسالته (صلی الله علیه و آله) كانتا معاً، وأنه قبل الأربعين كان شخصاً عادياً! وافتروا عليه بأنه كان يذبح للأصنام، ويأكل مما ذُبح لها!

وغاية ما رووه أنه (صلی الله علیه و آله) كان يتعبد قبيل البعثة في حراء، ويرى الرؤيا الصادقة!

والثاني: جعلوا حديث عائشة في البخاري عن بدء الوحي، وَحْياً منزلاً، بكل ما فيه من عنف جبرئيل (علیه السلام) وعدم منطقيته، وغطه وعكه النبي (صلی الله علیه و آله) أي ضربه إياه حتى كاد يخنقه، ثم تركه مذعوراً خائفاً شاكاً في نبوته! فعاد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيته وهو يرتجف وشكى إلى زوجته فأخذته إلى قسيس من أقاربها، فامتحنه وطمأنه بأنه نبي! ثم زعمت الرواية أن الوحي انقطع عنه فعاد اليه الشك، وحاول أن ينتحر مراراً من خوف الفضيحة، لكن جبرئيل منعه!

وقد أعرضوا عن آيات القرآن وأنه رآه في أفق مبين، لأنها تخالف حديث عائشة، وأعرضوا عن أحاديث صلاة النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) قبل الناس سبع سنين وثلاث سنين، مع أنها عندهم صحيحة، لأنها تعارض رواية عائشة!

ثم اخترعوا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في الأربعين، وكان ينزل عليه إسرافيل (علیه السلام) ثلاث سنين، قبل أن ينزل جبرئيل (علیه السلام)!

قال ابن كثير في سيرته: 1/388: «قال الإمام أحمد.. عن عامر الشعبي، أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي...وحديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا، ثم وكل به إسرافيل فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل، اختصاراً للحديث، أو لم تكن وقفت

ص: 195

على قصة إسرافيل». والإتقان: 1/128، الإستيعاب: 1/36، الدر المنثور 3/302 وعمدة القاري: 1/40 وغيرها.

فقبلوا كلام عامر الشعبي غير المسند لأنه ينسجم مع رواية عائشة!

وافترض الماوردي من عند نفسه: «ستة أحوال نُقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها» فعقد في أعلام النبوة/308، فصلاً بعنوان: «تَدَرُّجُه (صلی الله علیه و آله) في أحوال النبوة» لكنه جعلها كلها مراحل للخروج من شكه بنبوته إلى اليقين!

قال: «تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ»! وهو ككلام الشعبي تخيلٌ بلا دليل!

أما سبب اختيارهم لإسرافيل وميكائيل بدل جبرئيل:«عبدالرزاق: 3/599» فمن أجل إرضاء اليهود الذين يعادون جبرئيل (علیه السلام)، لأنه نزل بعذابهم!

روى ابن حجر في العجاب: 1/292 عن عمر،أن اليهود قالوا له: «ياابن الخطاب ما أحد أحب إلينا منك إنك تأتينا وتغشانا..قالوا عدونا جبريل وسِلْمُنَا ميكائيل»!

ثم روى أن اليهود قالوا: «لو أن ميكائيل الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالنقمة والعذاب، وهو لنا عدو»!

ص: 196

الفصل الحادي عشر: كيف بدأت بعثة النبی (صلی الله علیه و آله)

1- رواية أهل البیت (علیهم السلام) عن البعثة وابتداء الوحي

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعتكف لعبادة ربه عزوجل في جبل حراء في ضاحية مكة، وهو محل اعتكاف أجداده الطاهرين:، وله قمتان متصلتان بقمته الدنيا وفيها غار حراء، والعليا لايمكن صعودها مشياً، وفيها لون أبيض يميز الجبل.

ويمتاز غار حراء بأن المصلي فيه يرى الكعبة، مع أنها في وادٍ بين جبال، لأنه أعلى من الجبال التي حولها، فكأنه مخلوقٌ للعبادة مع استقبال الكعبة ومشاهدتها!

ويسمى المُعْتَكِفُ في جبل حراء مُتَحَنِّفاً أي عابداً لله على ملة إبراهيم الحنيفية، والحنيف المائل إلى الخير، ويقابله الجنيف المائل إلى الشر.

وقال بعضهم يتحنث بالثاء، لكن اللغويين قالوا: «لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم (علیه السلام)». عمدة القاري: 1/49.

ويعتزل المعتكف الناس شهراً أو أياماً، يعبدالله تعالى ويتأمل في آلائه. وكان عبدالمطلب (علیه السلام) يعتكف بحراء، وكان نبينا (صلی الله علیه و آله) يعتكف شهراً في السنة، ويعود إلى مكة فلا يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.

قال في فتح الباري: 12/213: «مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الإعتكاف.. إنما لم ينازعوا النبي (صلی الله علیه و آله) في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره،لأن جده عبدالمطلب أول من

ص: 197

كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه، فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان (صلی الله علیه و آله) يخلو بمكان جده وسلَّمَ له ذلك أعمامه».

وروي أن إبراهيم (علیه السلام) بنى الكعبة من أربعة جبال، ففي تاريخ دمشق: 2/348: «فلما كان إبراهيم أراه الله تعالى مكانة البيت، فاتَّبع منه أثراً قديماً، فبناه من طور زيتا، وطور سينا، ومن جبل لبنان، ومن أحد، وجعل قواعده من حراء».

وأقسم أبوطالب (رحمة الله) بالمتعبدين بحراء والزائرين له، فقال في لاميته:

ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

أعوذ برب الناس من كل *** طاعن علينا بسوء أو مُلِحٍّ بباطل

وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه *** وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ *** وبالله إن الله ليس بغافل

سيرة ابن هشام: 1/154و176

وأوضح نص في بدء بعثته (صلی الله علیه و آله) ما قاله علي (علیه السلام) في أطول خطبه التي تسمى القاصعة: «ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير، وإنك لعلى خير». نهجالبلاغة: 2/157 ومصادر نهجالبلاغة: 3/23.

وقوله (علیه السلام): ولقد سمعت رنة الشيطان..يظهر أن ذلك في أول بعثته (صلی الله علیه و آله) أيام اعتكافه وأن علياً (علیه السلام) كان حاضراً معه كما روي، وقد يكون ذلك في مرة أخرى بعدها.

قال الجاحظ في العثمانية /305: «فجاور في حراء في شهر رمضان، ومعه أهله خديجة، وعلي بن أبي طالب، وخادم».

وفي السيرة الحلبية: 1/383: «كان يخرج لجواره ومعه أهله، أي عياله التي هي خديجة، إما مع أولادها أو بدونهم».

وفي دلائل البيهقي: 2/14 وإمتاع الأسماع: 3/24: «وخرج معه بأهله».

ص: 198

لكن بعضهم تعمد تغييب علي (علیه السلام) حتى عن أخذ الزاد له! قال البخاري: 8/67: «ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها».

ومعنى رنة إبليس: صوت حزنه ورعبه. وروي أنه: «رنَّ أربع رنات: يوم لعن ويوم أهبط إلى الأرض، ويوم بعث النبي (صلی الله علیه و آله)، ويوم الغدير». قرب الإسناد/9.

وأضاف لها في الخصال/263: «وحين أنزلت أم الكتاب».

وفي الطبراني الكبير: 12/9: «لما افتتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة رنَّ إبليس».

وفي شرح النهج: 13/209 عن علي (علیه السلام)، أن الشيطان رنَّ: «صبيحة الليلة التي أسري فيها بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو بالحجر، ولما بايعه الأنصار ليلة العقبة».

وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن الوحي بدأ في أفق مبين، لا لبس فيه ولاخوف، واستمر كذلك تصديقاً لقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ. وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ.

ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /155: «وأما تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما ترك التجارة إلى الشام، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده، وينظر من قُلله إلى آثار رحمة الله عزوجل، وأنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض، والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات ويعبدالله حق عبادته.

فلما استكمل أربعين سنة، نظر الله عزوجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب، وأجلها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، فأذن لأبواب السماء ففتحت، ومحمد (صلی الله علیه و آله) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد (صلی الله علیه و آله) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد (صلی الله علیه و آله) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور، طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه، وقال: يا محمد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ. إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ.

ثم أوحى إليه ربه عزوجل ما أوحى إليه، ثم صعد جبرئيل إلى العلو.

ص: 199

ونزل محمد (صلی الله علیه و آله) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله، وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض، وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون، وأنه يعتريه شيطان، وكان من أول أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم.

فأراد الله عزوجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه، فأنطق الجبال والصخور والمدر، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه: السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، أبشر فإن الله عزوجل قد فضلك وجمَّلك وزيَّنك وأكرمك، فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين. لا يحزنك قول قريش: إنك مجنون وعن الدين مفتون، فإن الفاضل من فضَّله رب العالمين، والكريم من كرَّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات».

وهذا وأمثاله أحاديث صريحة في أن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في أفق مبين، وبصيرة ويقين، فلا رعب فيها ولا غط، ولا ريب ولا شك، ولا ورقة بن نوفل، ولا عدَّاساً، ولا نسطوراً، ولا شكاً في النبوة وذهاباً إلى الجبل للإنتحار! فكل ذلك مكذوبات من المشركين، وإن قبلتها عائشة ومن صدقها!

فانظر إلى هذه الصورة الرائعة المنسجمة مع القرآن والعقل وأفعال الله تعالى الحكيمة، وقارنها بالأساطير التي سطرتها الكتب، التي عظموها وعصموها!

كما تدل على أن الصلاة كانت قياماً وسجوداً بلا ركوع، ثم أمر الله بالركوع، ثم فرضت على المسلمين بصيغتها الفعلية في المعراج، في السنة الثانية.

2- طامات عائشة التي تبنتها السلطة

قالت عائشة: إن الوحي بدأ في جَوٍّ عنيف مبهم، بعكس قول أهل البیت (علیهم السلام)! وقد افتتح البخاري صحيحه بروايتها وكررها في كتابه أربع مرات! ولا يمكننا قبولها لأنها

ص: 200

تخالف القرآن والعقل، وتقول إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان شاكاً في نبوته! وأنه أمره بأمر غير معقول، ثم اعتدى عليه الملاك وغطه بعنف وخنقه وكاد أن يقتله!

قال بخاري في صحيحه: 8/67: «عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، فكان يأتي حِرَاء فيتحنَّث فيه، وهو التعبدالليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فَجَأَه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: إقرأ، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد! ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ باسم ربك! ثم أرسلني فقال: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..حتى بلغ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال يا خديجة مالي؟! وأخبرها الخبروقال: قد خشيت على نفسي! فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم إسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ابنَ أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك؟فقال رسول الله: أومُخْرِجِيَّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقه أن توفي!

وفَتَر الوحي فترةً حتى حزن النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي

ص: 201

يتردى من رؤس شواهق الجبال! فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه! تبدَّى له جبريل فقال: يامحمد إنك رسول الله حقاًفيسكن لذلك جأشه وتقرُّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك! فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك»!

قال النووي: 3/199والعيني: 1/50: «غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه، كله بمعنى واحد»! راجع كتابنا: ألف سؤال وإشكال: 2/180- مسألة: 140.

3- الموقف الشرعي من رواية عائشة

1- أيهما نصدق: قول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ، أم قول عائشة إنه رآه في أفق مرعب وشك مريب، فاحتاج إلى نصراني ليهدئ من رعبه وشكه؟!

2- وكيف نصدق الغط والخنق، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يعرف جبرئيل ولا فهم كلامه! فعاد إلى مكة مرعوباً شاكياً إلى زوجته (علیها السلام)، فطمأنته، لكنه بقي شاكاً فأخذته إلى طبيب هوالقسيس ورقة بن نوفل وعرضته عليه، كما تأخذ المرأة زوجها إلى فوال، فطمأنها بأنه نبي فاطمأنت!

لكن الوحي انقطع عنه فعاد اليه شكه وإحباطه، فقرر أن ينتحر، وذهب مراراً لينفذ قراره من فوق الجبل! لكن جبرئيل جاءه من بعيد، ومنعه من الإنتحار، لكنه عاود محاولات الإنتحار مراراً!

فأين هذا من قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدعو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. وقوله تعالى: إِنِّي لايَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ. وما هذا الرعب، والشك، وقرار الإنتحار!

3 - بشرت الأنبياء (علیهم السلام) بنبينا (صلی الله علیه و آله)، وتواترت الأخبار بأن اليهود والنصارى وأسرته عرفوا نبوته! فكيف لم يعرفها هو حتى بعد نزول الوحي عليه؟!

4- روينا «الكافي 5/374» عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن أباطالب تكلم في خِطبة خديجة (علیهما السلام) ولما أراد ورقة أن يتكلم: «تلجلج وقَصُرعن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر»! فأين شخصية ورقة الضعيفة مما زعمته له رواية عائشة.

ص: 202

5- ألا يكفي لرد هذه الرواية ما صححوه من أن النبي (صلی الله علیه و آله) عبَدَ الله مع عليٍّ سبع سنين قبل بعثته، وأنه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد! مجمع الزوائد: 8/223، أحمد: 4/66 و 5/59 و379،الحاكم: 2/609، ابن شيبة: 8/438، الطبراني الأوسط: 4/2727، الكبير: 12/73، آحاد الضحاك: 5/347، الدر المنثور: 5/184، العجلوني: 2/129 و132، الأحوذي: 10/56،المغني: 3/124 فتح القدير: 4/267 والباقلاني/58.

6- الوضع المنطقي لجبرئيل (علیه السلام) لما نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله): أن يسلم عليه ويعرفه أنه رسول ربه عزوجل إليه، وأنه اختاره رسولاً وأنه سينزِّل عليه قرآناً، ثم يشرح له مهمته. وأن يكون ذلك في جو اطمئنان ويقين وخشوع، كما نصت رواية أهل البیت (علیهم السلام)، وليس بالتعامل الخشن الذي نسبوه إلى الله تعالى، والذي يشبه أكاذيب اليهود عن عنف ربهم مع أنبيائه (علیهم السلام)! العنف الذي يشبه روايات كهَّان العرب المصابين بالعُصاب عندما يأتيهم جِنِّيُّهُم!

7- كيف يأمره جبرئيل (علیه السلام) بأن يقرأ ولا يفسر له ما يقرأ؟وهل رأيت عاقلاً يأمر أحداً بأمر لا يفهمه ولا يفسره له، بل يضربه ويخنقه إن لم يفعل؟!

-8وكل هذه الطامات في كفة، وعزم النبي (صلی الله علیه و آله) على أن ينتحر في كفة! فكيف يقبلون هذه الفرية على النبي (صلی الله علیه و آله) كقوله وحاشاه: «لا تتحدث بهذا قريش عني أبداً! فلأعمدنَّ إلى حالق من الجبل، ولأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن! فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني فانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت،فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي». إلى آخر هذه الخرافة التي تبنتها عائشة فحيرت فيها أتباعها!

9 – كان تبنيهم لهذه الرواية سبباً لافتراء أعداء الإسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يشك في نبوته، وإن القسيس ورقة بعثه نبياً، وليس الله تعالى!

ص: 203

10 - حاولوا أن ينفوا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قرر الإنتحار، فوجدوا في حديث البخاري عبارة: «حتى حزن النبي (صلی الله علیه و آله) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى» فقالوا إن قوله: فيما بلغنا، قول الزهري وليس قول عائشة! فتح الباري: 12/316.

فجعلوه في رقبة إمامهم الزهري، لينقذوا إمامتهم عائشة! لكن ابن مردويه رواه قطعة واحدة عن عائشة بدون «فيما بلغنا» كما شهد ابن حجر! ثم ذكر ابن حجر/118، روايات أخرى في أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب لينتحر! راجع الطبقات: 1/196، الطبري: 2/47، تفسيره: 30/ 317، تفسير الصنعاني: 3/327 وابن كثير: 4/265.

لقد افتضحوا فنسبوا إلى نبيهم (صلی الله علیه و آله) مالايقبلون نسبته إلى أنفسهم وأئمتهم! ونسبوا إلى ربهم أنه ظالمٌ يبعث إلى نبيه بأسلوب مبهم مرعب!فتعالى عما يصفون!

وأخيراً يتضح لك خطأ قولها: «وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب». والإنجيل لم يكن بالعبرية، بل بالسريانية.

4- رووا نحو ما روينا، وأعرضوا عنه لأجل عائشة!

ففي دلائل البيهقي: 2/160 عن محمد بن إسحاق، قال: «وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به، ثم إن جبريل أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد، ثم صليا ركعتين وسجدا أربع سجدات، ثم رجع النبي قد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من الله، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً.

قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد؟فقال رسول الله: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى! فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أباطالب. وكره

ص: 204

رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تُسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة.

ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد، ففعل عليٌّ وأسلم.فمكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره.

وأسلم ابن حارثة، فمكثا قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام». وتاريخ الذهبي: 1/135، أسد الغابة: 4/16، سيرة ابن كثير: 1/428، وسبل الهدى: 2/300.

وهذه تؤيد رواية أهل البیت (علیهم السلام)، وتبطل رواية عائشة! وروى شبيهاً بها القرطبي: 17/87، وتنوير الحوالك: 16/17 وفيه: «فرفعت رأسي فإذا جبريل صافٌّ قدميه بين السماء والأرض يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك»!

لكنهم لايحبون هذه الأحاديث، لأنها تكذب العنف والغط والخنق! فقد أشربوا في قلوبهم تصديق هذه التخيلات الإسرائيلية وعُصَاب الكُهَّان!

ثم ضخموا فترة انقطاع الوحي، لتتوافق مع هذه التخيلات!

ص: 205

الفصل الثاني عشر: المرحلة الأولى دعوة بني هاشم خاصة

1- نزل خبر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كالصاعقة على زعماء قريش!

انتشر في مكة خبر أن محمداً أعلن نبوته، فكان كالصاعقة على زعماء قريش لأن برأيهم حركة من بني هاشم لفرض رئاستهم على قريش والعرب، وانقلابٌ على صيغة التوافق في تقسيم مناصب الشرف، وهي: رئاسة قريش، ورايتها، وسقاية الحجاج ورفادتهم! وتركزت أنظارهم على أبي طالب شيخ بني هاشم، لمعرفة موقفه، وهو صاحب شخصية قوية، وكان يومها في نحو الخامسة والسبعين،لأنه توفي قبيل الهجرة وعمره سبع وثمانون. الطبقات: 1/124.

وزاد من تخوفهم أنهم سمعوا من اليهود ومن عبدالمطلب أن نبياً سيبعث من ذريته، وكان يتوقع أن يكون حفيده محمداً، وأوصى به إلى أبي طالب وشدد عليه الوصية بحفظه وإكرامه، فرباه أبوطالب وآثره على أولاده. وقد اشتهر حب أبي طالب له، وتغنى في شعره بفضله وآياته، وشهادة بحيرا الراهب بأنه نبي.

ويبدو أن علياً (علیه السلام) أخبر أباه بأن الملاك نزل على محمد (صلی الله علیه و آله) فذهب أبوطالب إلى بيت النبي وسأله: «يا ابن أخي، آللهُ أرسلك؟ قال: نعم. قال: فأرني آية. قال: أدع لي تلك الشجرة، فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم انصرفت. فقال أبوطالب: أشهد أنك صادق، يا علي صِلْ جناح ابن عمك».أمالي الصدوق/711.

ص: 206

وحرص زعماء قريش على معرفة حقيقة موقف أبي طالب، وتخوفوا لما بلغهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمره ربه أن يدعو عشيرته الأقربين فدعا بني هاشم، وأخبرهم أن الله بعثه اليهم خاصة ثم إلى الناس عامة، وأمره أن يتخذ منهم من يبايعه على نصرته أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة، فاستجاب له الفتى علي (علیه السلام)، فأعلنه أخاه ووزيره وخليفته، وأمر بني هاشم بطاعته! وكان ذلك نبأ عظيماً على زعماء قريش كما وصفه الله تعالى في سورة النبأ، حيث اعتبروا أن بني هاشم أعلنوا مشروعهم في النبوة، وقرروا حماية محمد، وقد اتخذ وزيراً ووصياً له منهم.

لقد قرر زعماء قريش بالإجماع قتل محمد لأن عمله خيانة عظمى، فيجب على عمه أن يسلمه اليهم ليقتلوه!

ولم يتضمن قرارهم أن يسألوه عن دليله أو معجزته! فلا يهمهم أن يكون عنده ذلك أو لايكون! لأن مجرد ادعائه النبوة مؤامرة على بقية القبائل!

وكان قرارهم غريباً فيه جلافة البداوة وخباثة اليهود! لكن الشيطان زينه لهم فذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه تسليم ابن أخيه لهم ليقتلوه!

فغضب أبوطالب وأعلن حمايته له وحذرهم إن مَسُّوا منه شعرةً! فسكتوا لأنهم يعرفون شجاعة بني هاشم، وأنهم لايُسَلِّمونهم محمداً إلا بحرب!

لكنهم لم يتراجعوا فقاموا بشن حملات افتراء وسخرية من النبي (صلی الله علیه و آله) وقرآنه ووصيه الذي اختاره، فكانوا يقولون: «هذا صفي محمد من بين أهله، ويتغامزون بعلي (علیه السلام)». «المناقب: 3/8». وأخذوا يعملون لاغتياله (صلی الله علیه و آله) ويرصدون من يستجيب لدعوته! وفي المقابل قام أبوطالب (رحمة الله) بتوحيد بني هاشم لحمايته (صلی الله علیه و آله)،وجعل حول النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث حلقات أمنية كما يدل حديث إسلام أبيذر (رحمة الله)، فعندما طلب اللقاء بالنبي (صلی الله علیه و آله) حقق معه أبوطالب (علیه السلام) وواعده اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني أخذه إلى حمزة، فحقق معه وسلمه إلى جعفر (علیهما السلام)، فحقق معه جعفر وسلمه إلى علي (علیه السلام)، فحقق معه، ثم أدخله على النبي (صلی الله علیه و آله)!

ص: 207

2- استمرت العاصفة ثلاث سنين حتى أهلك الله المستهزئين

استمرت هذه المرحلة الصعبة الخطرة ثلاث سنين، حتى أزاح الله من طريق رسوله (صلی الله علیه و آله) عتاة المستهزئين في يوم واحد، وأمره أن يصدع بالدعوة.

فقد قال الإمام الباقر (علیه السلام) كمال الدين/328: «ما أجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحدٌ قبل علي بن أبي طالب وخديجة (علیها السلام)، ولقد مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة ثلاث سنين مختفياً خائفاً يترقب، ويخاف قومه والناس».

وفي تفسير القمي: 1/377: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ «الحجر: 94-95» فإنها نزلت بمكة بعد أن نُبِّئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بثلاث سنين...أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ... دخل أبوطالب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي وعليٌّ (علیه السلام) بجنبه وكان مع أبي طالب جعفر، فقال له أبوطالب: صِلْ جناح ابن عمك، فوقف جعفر على يسار رسول الله فبدر رسول الله من بينهما، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به. فلما أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ. والمستهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن طلاطلة الخزاعي».

وفي تفسير العياشي: 2/253 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة سنين ليس يظهر، وعلي معه وخديجة. ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب».

وفي سيرة ابن إسحاق: 2/126: «ثم إن الله تعالى أمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يصدع بما جاء به، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعو إلى الله تعالى، وكان ربما أخفى الشئ واستسر به، إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه».

وفي سيرة ابن هشام: 1/169: «وكان بين ما أخفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ».

ص: 208

وفي الإستيعاب لابن عبدالبر: 1/34: «ثم نبأه الله تعالى وهو ابن أربعين سنة، وكان أول يوم أوحى الله تعالى إليه فيه يوم الإثنين، فأسر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره ثلاث سنين أو نحوها، ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه».

وروى الصدوق وغيره أن هذه المرحلة كانت خمس سنين، ففي كمال الدين/344، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر أمره، وعلي (علیه السلام) معه وخديجة، ثم أمره الله عزوجل أن يصدع بما أمر به، فظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأظهر أمره». والمناقب: 1/150 ونحوه غيبة الطوسي/332.

وقد يكون المعنى أن اختفاءه (صلی الله علیه و آله) انتهى بعد ثلاث وصدع بدعوته علناً، ثم استمر الخوف عليه من الإغتيال خمس سنين.

فالمجمع عليه أنه (صلی الله علیه و آله) في السنين الثلاث الأولى لم يدع غير بني هاشم. ولم أجد نصاً يذكر أنه جلس في المسجد في هذه المدة، فقد هدده عتاة المستهزئين بأنه إن دعا الناس فسيقتلونه، وأخيراً أنذروه إلى يوم معين ليعلن تراجعه عن نبوته (صلی الله علیه و آله) وإلا قتلوه، فكفاه الله شرهم وقتلهم، وأنزل عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ!

وبسبب ما تقدم قالت بعض الأحاديث السنية والشيعية إن سنوات البعثة في مكة عشر سنوات، فاستثنت الثلاث الأولى، لأنها خاصة ببني هاشم.

ففي الكافي: 5/7 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل بعث رسوله (صلی الله علیه و آله) بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال. فالخير في السيف وتحت السيف. والأمر يعود كما بدأ». يقصد ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

3- الإنجازات الرسولية في هذه المرحلة

1.توالى نزول القرآن، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يتلوه على المسلمين، ويوصله إلى المشركين فيستهزئون به، وكانت بعض الآيات تنزل جواباً لهم.

2. آمن له علي وخديجة (علیهما السلام) وعمه أبوطالب وابنه جعفر وعمه حمزة ومولاه

ص: 209

زيد رضيالله عنهم، وأمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وصياً، ففعل.

3. أخبرعن نبوته فشاع خبرها، واستنفرت قريش ضده، وبدأت حملتها.

4. نهض أبوطالب (علیه السلام) لنصرته، وحشد معه كل بني هاشم، وشذ منهم أبولهب، واستخفى النبي (صلی الله علیه و آله) من فراعنة قريش وشياطينهم.

5. آمن له أفراد من قبائل قريش وغفار والحلفاء والعبيد، سراً على تخوف.

6. كان للنبي (صلی الله علیه و آله) لقاءات بزعماء قريش لإقامة الحجة عليهم، لكنها قليلة.

4- معنى السرية في المرحلة الأولى للدعوة

السرية التي يضخمونها في هذه المرحلة، إنما كانت في أسماء المسلمين الجدد الذين لايستطيعون إعلان إسلامهم خوفاً من قريش، أو الذين أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) بإخفاء إسلامهم لمصلحة الدعوة، كأبي طالب وحمزة.

أما النبوة فلم تبق سرية لأنه خبرها انتشر من أول يوم، ومكة صغيرة: 40 ألفاً. كما أن نزول القرآن كان متواصلاً والنبي (صلی الله علیه و آله) يتلوه ويوصل آياته إلى قريش وغيرها. وقد نزلت في هذه السنوات سور عديدة.

قال ابن النديم في الفهرست/28، والزركشي في البرهان: 1/193: «أول ما نزل من القرآن بمكة: إِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ، ثم نون، ثم والقلم، ثم يا أيها المزمل، ثم المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعشر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم سورة الفيل، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم إذا هوى، ثم عبس».

وردَّت بعض السور مقولات المشركين، ووصفت عاصفتهم على النبي (صلی الله علیه و آله) لما بلغهم خبر نبوته! ففي سورة القلم نقرأ قوله تعالى: فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ...

وفي سورة المزمل نقرأ: وَاصْبِرْ عَلَى مَايَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً. وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ

ص: 210

وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً...

وفي سورة المدثر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا..

وفي سورة التكوير جواب الذين قالوا إنه (صلی الله علیه و آله) مجنون: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَاصَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ. وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ. وَمَاهُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ.

وفي المرسلات جواب من سخروا من الصلاة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.

وفي سورة قاف جواب تكذيبهم للنبوة: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَئٌ عَجِيبٌ. فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ.

5- آية المستهزئين تكشف تخبط رواة السلطة وكذبهم!

اتفق المفسرون والمحدثون على أن آيات: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. نزلت بعد ثلاث سنين من البعثة، فبدأ النبي (صلی الله علیه و آله) مرحلة جديدة هي مرحلة الإعلان والصدع بالدعوة لكل الناس، بعد أن أزال الله من طريقه العقبة الأساسية وأهلك المستهزئين الخمسة في يوم واحد!

فكل نص مبني على وجود أحد منهم بعد ذلك التاريخ خطأ أو مكذوب! وبه يظهر عوار عدد من نصوص رواة السلطة:

فمنها: روايتهم التي تتنافى مع الخطر الشديد والحيطة التي كان فيها النبي (صلی الله علیه و آله) في تلك الفترة، مثل إيمان أبي بكر وغيره، لأنه لو صح ذلك لرووا ردة فعل قريش كردة فعلها على إسلام أبيذر، وخالد بن سعيد، وعمار بن ياسر ووالديه، وخباب بن الأرت، وغيرهم ممن أسلم في تلك الفترة!

ومنها: زعمهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) صدع بدعوته العامة من السنة الأولى، وأنه عندما أمره الله في سورة الشعراء: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.. صعد على الصفا ونادى

ص: 211

كل قريش يا آل فلان ويا آل فلان..الخ. والصحيح أنه دعا بني هاشم فقط، وأن دعوته العامة بدأت بعد ثلاث سنين، بعد هلاك المستهزئين.

ومنها: تضخيم دار الأرقم، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يلتقي فيها بالمسلمين قبل السنة الثالثة، وقد جعلوا أحداثاً وقعت بعد السنة الثالثة في دار الأرقم، ومنها سورة عبس التي ربطوها بابن أم مكتوم مع أنها نزلت قبل إسلامه!

ومنها أن عمر جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في دار الأرقم وأعز الله به الإسلام بعد ذلته، وتكاملوا أربعين رجلاً فخرجوا يتحدون قريشاً، فخافت قريش وسكتت!

ومنها: خطأ ما رواه بخاري: 4/242 من حماية العاص بن وائل لعمرعندما أسلم لأن العاص أحد المستهزئين الستة الذين هلكوا في السنة الثالثة، وعمر أسلم في السنة السادسة بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة،كما نص عليه ابن هشام: 1/229 وغيره، قال: «كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحبشة». وكان هلاك المستهزئين ومنهم العاص بن وائل، قبل ذلك بسنوات!

ومنها: أن من المتفق عليه أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى،كان أحد المستهزئين وهلك في السنة الثالثة، لكنهم رووا أنه بكى على أولاده الذين قتلوا في بدر! قال ابن هشام: 2/474: «وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة وكان يحب أن يبكى على بنيه...الخ.». والطبري: 2/161، ابن كثير: 2/480. راجع: الصحيح: 3/171.

ومنها: تخليطهم أو كذبهم في سبب نزول السور والآيات، فتراهم يذكرون إسم أحد المستهزئين الخمسة في سورة نزلت بعد سورة الحجرمع أنه هلك عند نزولها! بل ذكروا بعضهم في معركة بدر وبعدها!

لذلك وجب أن نرد روايات أسباب النزول إلا قليلاً منها كآية: واصْدَعْ بمَا تُؤمر المتقدمة.. فقد أجمعوا على أنها نزلت في السنة الثالثة، وأن سورة صاد نزلت بعد أن صدع (صلی الله علیه و آله) بدعوته،وجاء زعماء قريش إلى أبي طالب (رحمة الله) فدعاهم إلى الإسلام!

ففي الكافي: 2/649 بسند صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أقبل أبوجهل بن هشام

ص: 212

ومعه قوم من قريش، فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه، قال فبعث أبوطالب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدعاه، فلما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) لم ير في البيت إلا مشركاً فقال: السلام على من اتبع الهدى، ثم جلس، فخبَّره أبوطالب بما جاؤوا له، فقال: أوَهَل لهم في كلمة خير لهم من هذا، يسودون بها العرب ويطؤون أعناقهم؟ فقال أبوجهل: نعم، وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون لا إله إلا الله. قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هُرَّاباً، وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق! فأنزل الله تعالى في قولهم: صاد. وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ..».

فالذي جاء إلى أبي طالب هو أبوجهل الذي ورث زعامة بني مخزوم بعد هلاك الوليد بن المغيرة، وبعد مجيئه نزلت سورة صاد جواباً على كلامه، فلا تصح الروايات التي تذكر أن الوليد كان حياً عند نزولها.

ومنها: خلطهم في الروايات التي تذكر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذهب إلى أفنية قريش ويدعوهم إلى الإسلام قبل هلاك المستهزئين، كالذي رواه الحاكم: 3/577 وأبو يعلى: 12/176 ومجمع الزوائد: 6/14 وصححه: «جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أباطالب إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل...فقال له أبوطالب: يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ فحلق ببصره إلى السماء فقال: والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار. فقال أبوطالب: والله ما كذب ابن أخي قط، إرجعوا راشدين».

فالحديث مسوق لتعذير قريش في شكايتها من النبي (صلی الله علیه و آله)، والوقت المزعوم لهذا الحديث قبل انتهاء الثلاث سنوات، وهذا لا يصح، لأنه (صلی الله علیه و آله) لم يذهب إلى نواديهم قبل ذلك أبداً، بل نشك في ذهابه اليهم بعدها، لأنه كان يدعو إلى ربه في

ص: 213

المسجد وحوله، وكان يقصد القبائل في موسم الحج، ويطلب منهم النصرة.

وأخيراً، فإن سبب جعلهم بعض هؤلاء الخمسة أحياء بعد هلاكهم أن أولادهم وأقاربهم صاروا حكاماً وشركاء في دولة «الخلافة» كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وزمعة بن الأسود من أسد عبدالعزى، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وأقارب الحارث بن طلاطلة الخزاعي، فأراد الرواة إظهار مكانة آبائهم حتى في كفرهم، فكذبوا، ولا حافظة لكذوب!

6- تخبط الكتَّاب المعاصرين في مراحل الدعوة تبعاً لرواة السلطة

اشتهر عند الكتَّاب المعاصرين تقسيم مراحل دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة إلى المرحلة السرية، ثم مرحلة دار أبي الأرقم، ثم مراحل الإضطهاد والهجرة إلى الحبشة والمدينة. فقلدوا الحكومات التي غيبت مراحل هامة من السيرة لتحذف أدوار بني هاشم والعترة النبوية:! غيبوا المرحلة الأولى حيث بعثه الله تعالى إلى بني هاشم خاصة، مع أنهم أنفسهم رووا قوله (صلی الله علیه و آله): «يا بني عبدالمطلب إني بعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة». تفسير ابن كثير: 3/363 وتفسير مقاتل: 2/466.

وروينا: «مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاثة عشر سنة، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لايظهر حتى أمره الله أن يصدع بما أمر به، فأظهر حينئذ الدعوة».غيبة الطوسي/333.

كما أهمل كتَّاب السيرة مرحلة ما قبل محاصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب وما بعدها، وكان الحصار في السنة الخامسة، واستمر بضع سنوات!

كما أهملوا مرحلتين تقدمتا في حديث النبي (صلی الله علیه و آله) من مصادرهم: «صَلَّتْ الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله».

وقول علي (علیه السلام): «صليت مع النبي (صلی الله علیه و آله) قبل الناس ثلاث سنين، وسبع سنين».

وكذا مرحلة ما قبل الإسراء والمعراج في السنة الثانية للبعثة، وما بعدها.

ومرحلة ما قبل وفاة أبي طالب (رحمة الله) وما بعدها، حيث فقد النبي (صلی الله علیه و آله) ناصره وحاميه

ص: 214

القوي، اضطر أن يذهب إلى الطائف ليطلب من ثقيف حمايته من قريش، ثم كان أحياناً يختبئ مع علي (علیه السلام) من قريش في الحجون.

ومرحلة ما قبل بيعة الأنصار سراً للنبي (صلی الله علیه و آله) في موسم الحج، وما بعدها...

وكذا مرحلة الثلاث سنين التي زعموا أن الله بعث فيها إسرافيل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يعلمه ويوجهه، ولم ينزل عليه قرآناً حتى أنزله مع جبرئيل (علیه السلام) .

أهملوا كل ذلك وغيبوه، وركزوا على مرحلة السرية بمفهوم خاطئ، ومرحلة دار أبي الأرقم بتضخيم خيالي! كما كذبوا في انتعاش النبي (صلی الله علیه و آله) بإسلام أبي بكر وإنفاقه عليه عند فقره! وقوة الإسلام بعمر وإعزازه بعد ذلته! مع أن راوياً واحداً لم يرو أن أبابكر أوصل صاع طحين إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في سنوات الحصار يوم وصل بهم الأمر إلى أن أكلوا ورق الشجر من الجوع، ومص أطفالهم الرمل من العطش! ولا رووا أين كان عمر عند تهديد قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) واستنفارها بعد أبي طالب لقتله، حتى اضطر لطلب حماية ثقيف، واضطر لأن يختبئ في الحجون!

إن إهمالهم لهذه المراحل، خاصة مرحلة دعوة الأقربين، واختراعهم أدواراً افترضوها لزيد وعمرو.. يضع يدك على غرضهم من التحريف، ويجعلك تشك فيما يروونه من أدوار مناقبية لمن صاروا حكاماً فيما بعد، ويجعلك تدقق في النصوص لتكشف الأدوار التي غيبوها لعلي وحمزة وجعفر وغيرهم من بني هاشم، ومعهم كبار الصحابة السابقون الأولون: أبوذر، وعمار، والمقداد، وأبو سلمة، وخالد بن سعيد، وخباب، ومصعب، وسلمان، رضوان الله عليهم!

ص: 215

الفصل الثالث عشر: دعوة النبی (صلی الله علیه و آله) عشيرته واستنفار قريش ضدهم

1- بعد بعثته أمره الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ

بعد بعثت مباشرة أمره الله بدعوة بني هاشم، وأنزل عليه من سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ... وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ. وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ أَلشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ أَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ. فَلاتَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِئٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.

فجمعهم النبي (صلی الله علیه و آله) وكانوا أربعين رجلاً، ودعاهم إلى الإسلام واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته،كما أمره ربه. وفي هذه المدة دوَّى خبر البعثة في أندية قريش حتى جاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً (صلی الله علیه و آله) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع هاشمي لحكم العرب، فقرروا بالإجماع العمل لقتل النبي (صلی الله علیه و آله)!

وقد عبَّر صاحب الصحيح: 3/59 بتعبير يوهم أن دعوة العشيرة الأقربين كان في المرحلة العلنية، قال: «بعد السنوات الثلاث الأولى بدأت مرحلة جديدة وخطيرة وصعبة هي مرحلة الدعوة العلنية إلى الله تعالى. وقد بدأت أولاً على نطاق ضيق نسبياً حيث نزل عليه

ص: 216

قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ». انتهى.

لكن آية إنذار العشيرة نزلت في أول البعثة، وأثارهم اختياره وصياً منهم! وكفى بحديث إسلام أبيذر دليلاً على خطورة السنوات الأولى على حياته (صلی الله علیه و آله) . أما آية المستهزئين فنزلت بعد ثلاث سنين.

2- غَيَّبَتْ الحكومات حديث الدار

وقد روته المصادر الأصلية، وصححه علماء الجرح والتعديل، وألفوا فيه كتباً وفصولاً، وعرف بإسم حديث الدار، وحديث الوصية، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه: يجب إنكاره، ومنعه من التداول تحت طائلة العقوبة القصوى!

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/49: «أجمع على صحته نُقاد الآثار، حين جمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة «الذبيحة» في مقام واحد، وشرب الفرق «السطل» من الشراب في ذلك المقام.

وأراد (صلی الله علیه و آله) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه. ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوا منه، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه.

ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب: يا بني عبدالمطلب، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي

ص: 217

من بعدي. فلم يجب أحد منهم، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً، فقلت: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: أجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: أجلس. ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: أجلس، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أباطالب، ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك!

وهذه منقبة جليلة اختص بها أميرالمؤمنين (علیه السلام) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار، ولا أحد من أهل الإسلام، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ولامقارب على حال».

وفي رواية روضة الواعظين/52: «قال لهم: إني بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر، وإن الله عزوجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله حظاً إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله. فقال أبولهب لعنه الله: لهذا دعوتنا؟!

ثم تفرقوا عنه، فأنزل الله تعالى: تبَّتْ يَدَا أبي لهبَ وتَبْ..الخ.ثم دعاهم دفعة ثانية فأطعمهم وسقاهم كالدفعة الأولى، ثم قال لهم: يا بني عبدالمطلب: أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها، وما بعث الله نبياً إلا جعل له وصياً وأخاً ووزيراً فأيكم يكون أخي ووزيري ووصي ووارثي وقاضي ديني؟ فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) وهو أصغر القوم سناً: أنا يا رسول الله، فلذلك كان وصيه.

ورويَ أنه جمعهم خمسة وأربعون رجلاً منهم أبولهب، فظن أبولهب أنه يريد أن ينزع عما دعاهم إليه فقام إليه، فقال له: يا محمد، هؤلاء عمومتك وبنوعمك قد اجتمعوا فتكلم واعلم أن قومك ليست لهم بالعرب طاقة، فقام (صلی الله علیه و آله) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله.والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم حقاً خاصة والى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن كما تعلمون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءً، وإنها الجنة أبداً

ص: 218

والنار أبداً. إنكم أول من أُنذرتم».

فقد طلب منهم أن يؤمنوا به، وأن يبايعه رجل على نصرته ويتفرغ معه للدعوة، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً. وكان أبوطالب وحمزة يومها مسلمين لكنهما سكتا لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرهما أن يكتما إيمانهما، فلو أعلنا لأعلنت قريش الحرب عليهم.

أما جعفر فكان مسلماً، ولعله سكت ليجيب علي (علیه السلام) لأنه يعلم ميل النبي (صلی الله علیه و آله) اليه، فلما أعلن عليٌّ قبوله أعلنه النبي (صلی الله علیه و آله) وزيراً وخليفة، فأخبربذلك أنه

يعيش بعده!

لكن المخالفين للنبي في أهل بيته، لا يحبون رؤية وجه الحديث ولا سماع صوته!

لأنه نصٌّ على أن النبي (صلی الله علیه و آله) اتخذ علياً (علیه السلام) بأمر ربه وصياً وخليفة!وهو ينقض ما بنوا عليه أمرهم بعد وفاته من أنه لم يوص إلى أحد وتَرَكَ الأمر لهم!

لذا منعوا رواية هذا حديث الدار أو حرفوه،كالطبري حيث رواه في تاريخه: 2/217 بنص المفيد المتقدم، ثم كتمه في تفسيره: 19/148 فقال: «فأيكم يؤازرني على هذا الأمرعلى أن يكون أخي وكذا وكذا! قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً، وأخمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»!

وتبعه ابن كثير في تفسيره: 3/364 والنهاية: 3/53 فلم ينقل من تاريخ الطبري كما هي عادته، واختار تفسيره لأن الحديث فيه محرف!

أما ابن تيمية فقال في منهاج السنة/299: «فإن هذا الحديث ليس في شئ من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل: لا في الصحاح ولا في المسانيد. والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف، مثل تفسيرالثعلبي والواحدي والبغوي، بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد

ص: 219

من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف. وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والسمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة».

لكن ابن تيمية معروف بأنه ينفي الواضحات ويرد الأحاديث الصحيحة، ويكفي في هذا الحديث أنه رواه عدد وفير من أئمة الحديث مثل: ابن إسحاق، والنسائي، والبزار، وسعيد بن منصور، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك، وابن حنبل، وابن مردويه، وأبي حاتم، والطحاوي، وأبي نعيم، والبغوي، والمقدسي، وابن عساكر، والبيهقي في الدلائل..الخ.

وقد أشكل بعضهم بوجود الراوي أبي مريم الأنصاري فيه، وهوعن عبدالغفار بن القاسم، وهو شيخ شعبة بن الحجاج الذي يلقبونه بأميرالمؤمنين في الحديث وكان يوثقه ويمدحه.

وأشكل بعضهم بربيعة بن ناجذ الأزدي في طريق له، لكن وثقه الألباني في صحيحته: 4/582. راجع تناقضات الألباني: 2/212 وحديث الدار للميلاني والصحيح: 3/158.

وأما محمد حسنين هيكل فأورده سليماً في كتابه: حياة محمد، في الطبعة الأولى في صفحة 104، ثم حرفه في الطبعة الثانية صفحة 139، لقاء شراء الوهابية ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه! راجع:فلسفة التوحيد والولاية/179للشيخ مغنية.

3- خلافة علي (علیه السلام) كانت محسومة من أول البعثة

وقد اتضح ذلك من آية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، ومن حديث الدار.

وكانت محسومة من يوم كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على قبائل العرب، ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته، فيجيبهم إن الأمر لله وقد اختار له أهلاً، وعليهم أن لا ينازعوا الأمر أهله!

قال ابن هشام: 2/289: «أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزوجل،

ص: 220

وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء. قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه».

وكانت الخلافة محسومة بعشرات الأحاديث النبوية، التي صرح فيها بمكانة علي (علیه السلام) وأوصى به الأمة بعده.

وكانت محسومة برفعه بيده في حجة الوداع وقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه!

وكانت محسومة بأعماله وأقواله العديدة، في مرض وفاته. لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع، ثم أتباعها الذين عاندوا مثلها، أو أحسنوا فيها الظن.

4- النبأ العظيم وصية محمد (صلی الله علیه و آله) لابن عمه

اتفق الرواة على أن سورة النبأ نزلت في الثلاث سنوات الأولى، ويؤيد ذلك أنها لاتتضمن إلّا عن التساؤل عن النبأ العظيم الذي حيرهم! قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ.عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا. وَالجِبَالَ أَوْتَادًا. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً. وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا.. الخ. «النبأ: 1-9» فقد كانت البعثة عند نزولها في أولها، وكان زعماء قريش يتساءلون عن النبأ العظيم، وهو عندهم أن بني هاشم انشقوا على قريش، وادعى ابنهم النبوة واختار ابن عمه خليفةً له، ولم يحسب لهم حساباً، وكأن غير بني هاشم لا وجود لهم!

فزعماء بطون قريش لايهمهم مضمون دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) ولامعجزاته، لأنهم لايفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم على قريش!

كما أنهم حساسون فيمن يستخلفه للنبوة، هل هو من بني هاشم أو من غيرهم؟ وقد أرادوا التأكد، فكلفوا أبا سفيان بأن يستطلع الأمر، كما روى في المناقب 2/276 عن تفسيرالقطان، بسند صحيح عندهم، عن وكيع، عن سفيان،

ص: 221

عن السدي، عن عبد خير، عن علي (علیه السلام) قال: «أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ؟ قال: يا صخر، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى! قال: فأنزل الله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ.الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما! ثم قال: كَلَّا. وردَّ عليهم: سَيَعْلَمُون: خلافته بعدك أنها حق. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون: يقول: يعرفون ولايته وخلافته إذ يُسألون عنها في قبورهم فلايبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن الولاية لأميرالمؤمنين بعد الموت يقولان للميت: من ربك، وما دينك، ومن نبيك، ومن إمامك؟»!

وفي الكافي: 1/207 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال له الثمالي: «جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. قال فقال: هي في أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، كان أميرالمؤمنين يقول: ما لله عزوجل آيةٌ هي أكبر مني، ولا لله من نبأٌ أعظم مني».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/9: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): يا علي أنت حجة الله، وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم».

وفي المناقب: 2/277: «قال السوسي:

إذا نادت صوارمه سيوفاً *** فليس لها سوى نعمٍ جواب

طعام سيوفه مهج الأعادي *** وفيض دم الرقاب لها شراب

وبين سنانه والدرع صلحٌ *** وبين البيض والبيض اصطحاب

هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الخطاب

وفي المزار للمفيد/78: «السلام عليك يا سيد الوصيين، السلام عليك يا حجة الله على الخلق أجمعين، السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون». وفي عيون المعجزات/136: «من ألقابه (علیه السلام): النبأ العظيم».

وورد عن أهل البیت (علیهم السلام) أن معنى: كَلا سَيَعْلَمُونَ. أنهم سيعلمون عند ظهور الإمام المهدي (علیه السلام)، ثم يعلمون يوم القيامة أن الإسلام حق بإمامة العترة:.

ص: 222

راجع: معجم أحاديث الإمام المهدي (علیه السلام): 5/377 وتفسير القمي: 2/401.

أقول: هذا هو التفسير الصحيح للنبأ العظيم، وهذا الذي أرَّق القرشيين وتساءلوا عنه واختلفوا فيه، وتداولوا الموقف منه. وليس النبأ العظيم الآخرة، كما زعم بعضهم فإن لسان حال المشركين: فليقل محمد إنه يوجد خمسون آخرة! ولا هو القرآن، فلينزل عليه خمسون قرآناً! ولا هو سب أصنامهم، فإنما هي أحجار نصبوها، وهم مستعدون أن يبيعوها بثمن جيد!

بل ليس النبأ العظيم النبوة بنفسها، فهم مستعدون لأن «يقبلوا» النبوة على صعوبتها عليهم، لكن بشرط أن يعطيهم القيادة بعده!

أما قيادة بني هاشم بعده، فهي الكفر العظيم والنبأ العظيم!

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «النَّبَأ العَظِيم: الولاية».الكافي: 1/418.

وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن، بدون مستند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة، وقال قتادة هو القرآن، وروي عن ابن زيد، والحسن البصري!«عبدالرزاق: 3/342 والطبري: 30/4». فتراهم أبعدوا تساؤل قريش واختلافهم عن أحداث البعثة!

ونلاحظ أنهم رووا ربطها بالبعثة، لكنهم أعرضوا عنها! قال الطبري: 30/3: «عن الحسن قال: لما بعث النبي جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ، يعني الخبر العظيم»!

والعجيب أن بعض مفسرينا ترددوا بين التفسيرين! قال في جوامع الجامع: 3/710: «وهو نبأ يوم القيامة والبعث، أو أمر الرسالة ولوازمها».

ووافق بعضهم مفسري الحكومات، ففي الميزان: 17/223 النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن، قال: «وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن» ثم فسره في سورة النبأ: 20/163 بالقيامة وقال: «في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي (علیه السلام)

وهو من البطن».

وتبعه صاحب تفسير الأمثل: 14/555 و 19/317 وعقد عنواناً: «الولاية والنبأ

ص: 223

العظيم» ذكر فيه أن تفسير النبأ العظيم بالولاية من الباطن، وأورد بعض رواياته وحاول أن يجمع بينه وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد!

وقد فاتهم أن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه إنما هو نبأ بعثة النبي واتخاذه وصياً من بني هاشم، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق، وليس من الباطن! أما القرآن والقيامة وكل عقائد الإسلام، فكانت أقل وقعاً عليهم من النبوة والوصاية، فكيف تصير ظاهراً، وتصير النبوة والإمامة بعدها باطناً.

بل كيف تكون أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) الصريحة المستفيضة تفسيراً بالباطن؟!

ص: 224

الفصل الرابع عشر: أبوطالب (علیه السلام) يوحد بني هاشم لحماية النبی (صلی الله علیه و آله)

1- أبوطالب يقف في وجه قريش بقوة

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 1/449»: «إن مَثَلَ أبي طالب مثلُ أصحاب الكهف، أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين. قيل له: إنهم يزعمون أن أباطالب كان كافراً؟ فقال: كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب»!

أقول: تواترت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) بإسلام أبي طالب رضيالله عنه، وشعره صريح بإسلامه، وقد صنف العلماء في إيمانه رسائل وكتباً مفردة. وتقدم أنه كان يؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته وينتظر ذلك، وعندما بعثه الله تعالى آمن به، وواجه عاصفة قريش ضده، فقد جاء زعماء قريش اليه يطلبون منه أن يتراجع محمد (صلی الله علیه و آله) عن نبوته، أو يسلمه اليهم ليقتلوه!

فردهم أبوطالب وهددهم، وأقنع بني هاشم بحماية النبي (صلی الله علیه و آله) من قريش، مستفيداً من نفوذه وشجاعة بني هاشم ومجدهم، وقد استخدم شاعريته في بعث حميتهم، ولعل أول شعر قاله في ذلك:

«حتى متى نحن على فترةٍ *** يا هاشماً والقومُ في جَحْفَلِ

تدعونَ بالخيل على رقبة *** منَّا لدى خوفٍ وفي معزل

ص: 225

كالحرة السوداء تغلو بها *** سرعانها في سبسبٍ مَجهل

عليهم الترك على رعلةٍ *** مثل القطا الساري للمنهل

ياقوم ذودوا عن جماهيركم *** بكل مفضال على مسبل

حديد خمس لهزٌ خده *** مآرثُ الأفضل فالأفضل

عريض ستٍّ لهبٌ خصرُهُ *** يصان بالتذليق في مجدل

فکم قد شهدت الحرب في فتية *** عند الوغى في عَثْيَر القسطل

لا متنحينَ إذا جئتهم *** وفي هياج الحرب كالأشبل

فلما استجاب لأبي طالب بنو هاشم وبنو المطلب، وثق بأمره في نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجهر في مقاومة بطون قريش، وقال:

منعنا الرسول رسول المليكْ *** ببيض تلألا كلمع البروقْ

بضرب يذيب بدون النهاب *** حذار الوتائر والخنفقيق

أذب وأحمي رسول المليك *** حماية عم عليه شفيق

وما إن أدب لأعدائه *** دبيب البكار حذار الفنيق

ولكن أزير لهم سامياً *** كما زار ليث بغيل مضيق

ولما رأى من قومه ما سره من حدبهم معه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيهم ليشتد لهم رأيهم فيه، فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر *** فعبدمنافٍ سِرُّها وصَمِيمُها

وإن حصلت أشرافُ عبدمنافها *** ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً *** هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قريش غثُّها وسمينُها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامة *** إذا ما ثنوا صَعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يومِ كريهة *** ونضرب عن أحجارها من يرومها

ص: 226

المناقب والمثالب للقاضي النعمان المغربي/86، سيرة ابن إسحاق: 2/129وغيره.

2- وشذ أبولهب فحاول أبوطالب تحريك شهامته فقال:

اشارة

«عجبت لحلمٍ ياابن شيبةحادثٍ *** وأحلام أقوامٍ لديك سخافِ

يقولون شايعْ من أراد محمداً *** بسوء وقم في أمره بخلاف

أصاميم إمَّا حاسدٌ ذو خيانة *** وإمّا قريب منك غير مُصاف

فلا تتركن الدهر منه ذمامه *** وأنت امرؤٌ من خير عبدمناف

ولا تتركنه ما حييت وأطعمن *** وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف

تذود العدى من ذروة هاشمية *** ألا فهمُ في الناس خير إلاف

فإن له قربى لديك قريبة *** وليس بذي حلف ولا بمضاف

ولكنه من هاشم من صميمها *** إلى أبحر فوق البحور طواف

وزاحم جميع الناس عنه وكن له *** وزيراً على الأعداء غير مخاف

فإن غضبت منه قريش فقل لها *** بني عمنا هل قومكم بضعاف

فما بالنا تعشون منا ظلامة *** وما بال أرحام هناك جوافي

وما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا *** ولا نحن فيما ساءهم بخفاف

ولكننا أهل الحفائظ والنهى *** وعز ببطحاء الحطائم واف»

ابن إسحاق: 4/189.

لكن أبا لهب ساء توفيقه فانضم إلى أعداء النبي (صلی الله علیه و آله)، فذمه أبوطالب!

قال ابن إسحاق: 2/131: «أقبل أبوطالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه ونصب العداوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) مع من نصب له، وكان أبولهب للخزاعية، وكان أبوطالب وعبدالله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فغمزه أبوطالب بأم له يقال لها سماحيج، وأغلظ له في القول:

مستعرضُ الأقوام يخبرْهم *** عذري وما أن جئت من عذر

ص: 227

فاجعل فلانة وابنها عوضاً *** لكرائم الأكفاء والصهر

واسمع نوادرمن حديث صادق *** تهوين مثل جنادل الصخر

إنا بنو أم الزبير وفحلها *** حملت بنا للطيب والطُّهر

حرَّمت منا صاحباً ومؤازراً *** وأخاً على السراء والضر»

«ثم قال أبوطالب في شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والدفاع عنه، على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوَسَّدَ في التراب دفينا

فاجهد لأمرك ما عليك غضاضة *** أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** فلقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامةَ أو حذاري سبةً *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

فلما قالت قريش لقد سفه أحلامنا وعاب ديننا وسب آباءنا، فوالله لا نُقِرُّ بهذا أبداً! وقام أبوطالب دون رسول الله وكان أحب الناس إليه، فشمر في شأنه ونادى قومه قال قصيدة يعوِّر فيها منهم. ويقصد لاميته. ابن إسحاق: 2/136.

أبولهب يحاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله)

«قالت قريش لأبي لهب: إن أباطالب هو الحائل بيننا وبين محمد، ولو قتلته لم ينكر أبوطالب، وأنت برئ من دمه ونحن نؤدي الدية وتسود قومك، قال: فإني أكفيكموه، فنزل أبولهب إليه وتسلقت امرأته الحائط حتى وقفت على رسول الله فصاح به أبولهب فلم يلتفت إليه وكانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شئ حتى انفجر الصبح وفرغ النبي من الصلاة! فقال أبولهب: يا محمد أطلقنا، قال: لا أطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني، قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا». المناقب لابن شهر آشوب: 1/115.

ص: 228

هلك أبولهب بعد هزيمة قريش في بدر

قال أبو رافع: «أقبل أبولهب بعد بدر يجر رجليه، فقال الناس هذا أبوسفيان بن حرب قد قدم، فاجتمع عليه الناس فقال له أبولهب: هلم إلي يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: يا ابن أخي خبرني خبر الناس قال: نعم والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح فينا حيث شاؤوا! ووالله مع ذلك ما لمت الناس لقيَنا رجالٌ بيضٌ على خيل بلق لا والله ما تليق شيئاً يقول ما تبقي شيئاً..

فوالله ما مكث إلا سبعاً حتى مات، ولقد تركه إبناه في بيته ثلاثاً ما كيد فناؤه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي هذه القرحة يعني العدسة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إن أباكما في بيته قد أنتن لا تدفنانه! فقالا: إنا نخشی عدوى هذه القرحة! فقال انطلقا فأنا أعينكما عليه، فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم إنهم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة»! تاريخ دمشق:67/171.

3- عرضوا على أبي طالب أن يأخذ شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)!

قال ابن إسحاق: 2/133: «ثم إن قريشاً حين عرفت أن أباطالب أبى خذلان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعدواتهم، مشوا اليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغنا: يا أباطالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد، جمالاً وشباباً ونهادة، فهو لك نصره وعقله، فاتخذه ولداً لا تنازع فيه، وخل بيننا وبين ابن أخيك، هذا الذي فارق دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومه وسفه أحلامهم، فإنما رجل كرجل، لنقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبة. فقال لهم أبوطالب: والله ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه! هذا والله لا يكون أبداً، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره!

ص: 229

فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف: لقد أنصفك قومك يا أباطالب، وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم! فقال أبوطالب للمطعم بن عدي: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال أبوطالب!

فحقب الأمر عند ذلك وجمعت للحرب، وتنادى القوم ونادى بعضهم بعضاً فقال أبوطالب عند ذلك، وإنه يعرض بالمطعم ويعم من خذله من بني عبدمناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه:

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم *** ألا ليت حظي من حياطتكم بكر

من الخور حبحابٌ كثير رغاؤه *** يرش على الساقين من بوله قطر

تخلف خلف الورد ليس بلاحقٍ *** إذا ما على الفيفاء تحسبه وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا *** إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

يلي لهما أمر ولكن تجرجما *** كما جرجمت من رأس ذي العلق الصخر

هما أغمزا للقوم في أخويهما *** وقد أصبحا منهم أكفهما صفر

أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً *** هما نبذانا مثلما نبذ الجمر

فأقسمت لا ينفك منهم مجاور *** يجاورنا ما دام من نسلنا شفر

هما اشتركا في المجد من لا أخاله *** من الناس إلا أن يرس له ذكر

وليداً أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهمُ *** وكانوا لنا مولى إذا ابتغيَ النصر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر شرما جهلت جفر».

ورواها ابن هشام: 1/173 وقال: «تركنا منها بيتين أقذع فيهما». والمناقب والمثالب للقاضي المغربي/87 . وذكر في الغدير: 7/361 الأبيات الثلاثة التي حذفها ابن هشام:

وما ذاك إلا سؤدد خصنا به *** إلهُ العباد واصطفانا له الفخر

رجال تمالوا حاسدين وبغضةً *** لأهل العلى فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

ص: 230

يقصد أن الوليد بن المغيرة كان عبداً لهاشم، وأمه رومية وابوه ليس المغيرة! وقد صدقه القرآن فقال عن الوليد: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ.أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ.

وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد، ففي تفسير الجلالين/758، وابن إسحاق: 2/140: «دعيٌّ في قريش وهو الوليد بن المغيرة، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة». وفي رواية أنه أكبر من أبيه بثمانية عشرة سنة.

وفي المناقب: 1/52: روى ابن بابويه في كتاب النبوة عن زين العابدين (علیه السلام): «أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده فقالوا: نسألك من ابن أخيك النَّصَف، قال: وما النصف منه؟ قالوا: يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه، ولا يقاتلنا ولا نقاتله. ألا إن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء! فقال: يا ابن أخي، أسمعت؟ قال: يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي! إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

فقالوا: قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء. فنزل «فيما بعد»: قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ. فقالوا: قل له أرسله الله إلينا خاصة أم إلى الناس كافة؟ قال: بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود، ومن على رؤس الجبال، ومن في لجج البحار ولأدعون فارس والروم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. فتجبرت قريش واستكبرت وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا، ولقلعت الكعبة حجراً حجراً! فنزل «فيما بعد» وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَئْ. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل».

ص: 231

4- من هو عمارة الذي أرادوا أن يعطوه بدل النبي (صلی الله علیه و آله)؟

هو عمارة بن الوليد بن المغيرة، فأبوه الوليد رئيس المستهزئين بالنبي (صلی الله علیه و آله) ورئيس قبيلة مخزوم، والوحيد الذي وصفه الله تعالى في القرآن بالزنيم!

فقد بلغ من كيده أنه أخذ ابنه عمارة إلى أبي طالب ليعطيه إياه بدل محمد، ويعطيهم محمداً (صلی الله علیه و آله) فيقتلونه! وكان عمارة يومها متزوجاً وله أولاد!

وتصور ابن عبدالبر أنه ابن الوليد بن الوليد فيكون ابن أخ خالد «الإستيعاب: 4/1557»لكنه ابن الوليد الأب، وأخ خالد،كما نص عليه في شرح النهج: 6/304. وكان عمارة جميلاً فاتكاً ماجناً، وذكر ابن حبيب في المنمق/130، أن عمر بن الخطاب كان يخدمه في سفره فأراد أن يقتله فهرب عمر منه. وكان عمارة يشبه عمرو بن العاص في دهائه ومجونه، وقد أرسلتهما قريش إلى النجاشي يطلبان منه إرجاع المسلمين المهاجرين اليهم!

قال ابن أبي شيبة: 8/465: «وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً». وذكر قصتهما لما سافرا في البحر فشربا خمراً، وأراد عمارة زوجة عمرو وألقاه في البحر ليغرقه، فنجا عمرو وعاد إلى السفينة، وأخذ يخطط لقتل عمارة، فأرسل إلى أبيه العاص: «أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته، فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل، مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما، ولا أدري ما يكون منهما، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته، فقد خلعته.

فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين، قال قد فعلت! فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجرى منه».شرح النهج: 6/304.

ثم أوقع ابن العاص بعمارة عند النجاشي، وأثبت للنجاشي أنه يخونه في جاريته فعاقبوه وقيل سحروه، فهام على وجهه مع الوحوش حتى مات!

قال العلامة في تحرير الأحكام: 5/397: «والسحر الذي يجب به القتل هو ما يعدُّ في

ص: 232

العرف سحراً، كما نقل الأموي في مغازيه أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد، فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال: خَلِّنِي وإلا مِتُّ! فلم يُخله فمات من ساعته»!

والأموي: المؤرخ صاحب الأوزاعي الوليد بن مسلم مولى الأمويين توفي سنة195، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي. الديباج: 1/34

وهدية العارفين: 2/500.

5- سورة المدثر تَفضح رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة!

أبرز من تصدى للنبي (صلی الله علیه و آله) من قريش خمسة فراعنة سماهم الله تعالى «المستهزئين» رئيسهم وعقلهم الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يجمعهم ويضع لهم الخطط، وقد ناقشواالنبي (صلی الله علیه و آله) فأقام لهم الأدلة على نبوته وأراهم المعجزات التي طلبوها، فلم يزدهم ذلك إلا كفراً وعتواً! وكثرمجيؤهم إلى أبي طالب ليسلمهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه! فرفض كلامهم بشدة، وحشَد بني هاشم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله)!

وتوالى نزول القرآن فاعتبروه تحدياً لهم وسبّاً لآلهتهم. ولما قرب موسم الحج للسنة الثانية من البعثة قام الوليد بتوحيد موقفهم أمام العرب الوافدين!

«ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه. قال: بل أنتم فقولوا، أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تَخَالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

ص: 233

قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السُّحَّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لَعَذِقٌ وإن فرعه لجُناه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.

فلما أقبلت العرب خرجوا يجلسون على طرقها يحذرون منه كل من قدم ويقولون: حدث عندنا ساحر، فإياكم أن يهلككم بسحره! وأنزل الله عزوجل في ذلك في الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لاتُبْقي وَلاتَذَرُ. لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ. «المدثر 11-30». فلم يزالوا يقولون ذلك لكل من جاء من ناحية من نواحي بلاد العرب، حتى صدروا عن الحج وأغروهم به واستنصروهم عليه، فوعدهم كثير منهم النصرة، وانتشر ذلك من أمرهم في العرب. وخاف أبوطالب دهماءها واجتماعها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) للحمية في دينها، وتحريض قريش عليه واستنفارهم إليه، وأشفق من ذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) إشفاقاً شديداً، فلم يرَ في دفع ذلك عنه إلا إصلاح جانب العرب له.

وكان إظهار أبي طالب ما يظهره من التمسك بدين العرب تقيّة عليه وذباً عنه، لأنه لو أظهر الإسلام كما أظهره حمزة لرفضته العرب ولم تلتفت إليه... وكان أبوطالب سيداً من سادات العرب، تعرف له حقه ولا تكاد تدخل فيما يسوءه، ولا تظاهره إلاّ بالمعروف وهو على دينها، فقال شعره الذي استعطف العرب به وتودد إلى أشرافها فيه، ليصرفهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبرهم أنه على دينهم لم يبدّله».المناقب والمثالب/92، لأبي حنيفة النعمان المغربي المتوفى:363، الإكتفاء: 1/218، للكلاعي الأندلسي المتوفى: 634. وابن إسحاق: 2/131 وكلها تصرح بأن أباطالب كان مسلماً.

ص: 234

6- أبوطالب يطلق لاميته في بلاد العرب

قال ابن كثير في النهاية: 3/70: «قال ابن إسحاق: ولما خشي أبوطالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله، ولا تاركه لشئ أبداً، حتى يهلك دونه».

ثم أورد ابن كثير القصيدة برواية ابن هشام، ورد على تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، قال: «قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة،وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. قلتُ: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه،وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر».

أقول: يظهر أن أباطالب (رحمة الله) أطلق لاميته في السنة الثانية للهجرة قبل موسم الحج رداً على إعلام قريش الكاذب وتحريضهم العرب على النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد جعل بعض كتَّاب السيرة وقتها بعد محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب، أو عندما عرضت قريش عليه شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)، ولا يصح ذلك.

قال ابن حجر في فتح الباري: 3/442: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت على النبي (صلی الله علیه و آله) ونفَّروا عنه من يريد الإسلام».

وقال العصامي في سمط النجوم/231: «قلت: لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام، فنقلتها منه ولله الحمد».

وقوله عجيب، لأن الذهبي أورد منها في تاريخه: 1/162 تسعة عشر بيتاً فقط! فلا بد أنهم حذفوا بقيتها من نسخته المطبوعة!

وقال ابن أبي الحديد: 2/315 بعد أن أورد جملة من شعر أبي طالب: «فكل هذه

ص: 235

الأشعار قد جاءت مجئ التواتر، لأنه إن لم يكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد (صلی الله علیه و آله)، ومجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي (علیه السلام) الفرسان منقولة آحاداً، ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف. قالوا: واتركوا هذا كله جانباً: ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قِفَا نَبْكِ. فإن جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها، جاز الشك في: قفا نبك».

وقال الأميني في الغدير: 7/340: «هذه القصيدة ذكر منها ابن هشام في سيرته: 1/286 أربعة وتسعين بيتاً وقال: هذا ما صح لي من هذه القصيدة. وذكر ابن كثير اثنين وتسعين بيتاً في تاريخه: 3/53 وفي رواية ابن هشام ثلاثة أبيات لم توجد في تاريخ ابن كثير. وأضاف الأميني: وذكرها أبو هفان العبدي في ديوان أبي طالب، في مائة وأحد عشر بيتاً، ولعلها تمام القصيدة».

وفي إرشاد الساري: 2/227: «قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل، وعدة أبياتها مائة وعشرة أبيات، قالها لما تمالأ قريش على النبي ونفروا عنه من يريد الإسلام».

وفي عمدة القاري: 3/434: «قصيدة طنانة، وهي مائة بيت وعشرة أبيات أولها:

خليلي ما أُذْني لأول عاذلِ بصغواءَ في حق ولا عند باطل

وذكر منها البغدادي في خزانة الأدب: 1/252 اثنين وأربعين بيتاً مع شرحها... وذكر الآلوسي بعضها في بلوغ الإرب في أحوال العرب: 1/237 وذكر كلمة ابن كثير المتقدمة، وقال: هي مذكورة مع شرحها في كتاب: لب لباب لسان العرب.

وذكر منها السيد زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبوية «هامش الحلبية: 1/88» وقال: قال الإمام عبدالواحد السفاقسي في شرح البخاري: إن في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنه كان يعرف نبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره من شأنه، مع ما شاهده من أحواله، ومنها الإستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوته (صلی الله علیه و آله) جاءت في كثير من الأخبار، زيادة على أخذها من شعره.

قال الأميني: أنا لا أدري كيف تكون الشهادة والإعتراف بالنبوة، إن لم يكن منها

ص: 236

هذه الأساليب المتنوعة المذكورة في هذه الأشعار! ولو وجد واحد منها في شعر أي أحد أو نثره، لأصفق الكل على إسلامه، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب! فاعجب واعتبر». انتهى.

وقال العسكري في كتابه: أبوطالب حامي الرسول (صلی الله علیه و آله) /108: «وخرجها أبو هفان العبدي توفي: 257 فيما جمعه من شعر أبي طالب، وهو معروف بديوان أبي طالب (علیه السلام) من/2 إلى/12، طبع النجف الأشرف في مائة واحد عشر بيتاً، وخرجناها في كتابنا: الشهاب الثاقب لرجم مكفر أبي طالب (علیه السلام)، نقلاً من كتب عديدة وفيها زيادة على جميع من ذكر القصيدة،وما ذكرناه مائة وستة عشرة بيتاً».

وقال صاحب الصحيح من السيرة: 15/52: «وما دام أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحب لهذه القصيدة أن تذكر في محافل أهل الإيمان، فإنني أحب أن أثبتها هنا ليرغم بها أنف الشانئ والناصب، ولتقر بها عين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعين أبي طالب، وعين ابنه أسد الله الغالب، وعين من هو لشفاعته طالب». وأوردها بمئة وثمانية عشر بيتاً.

ونحن نوردها برواية ابن هشام: 1/176: لأنها الرواية الرسمية، ونثبت أهم ما لم يورده من نسخة الصحيح بين معقوفين.

قال: «فلما خشي أبوطالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسَلِّمٍ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولا تاركه لشئ أبداً، حتى يهلك دونه، فقال:

[خليليَّ ما أُذني لأول عاذلِ *** بصغواء في حقٍ ولا عند باطلِ]

[خليليَّ إن الرأيَ ليس بشركة *** ولا نهنهٍ عند الأمور التلاتل]

وَلَمّا رَأَيْت القَوْمَ لا وُدّ فِيهِمْ *** وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ العُرَى وَالوَسَائِلِ

وَقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ وَالأَذَى *** وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العَدُوّ المُزَايِلِ

وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً *** يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ

ص: 237

صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ *** وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ

وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي *** وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِل

قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ *** لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ

وَحَيْثُ يُنِيخُ الأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ *** بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ

مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا *** مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِل

تَرَى الوَدْعَ فِيهَا، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً *** بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالعَثَاكِلِ

أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ *** عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ

وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِجج *** وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ

وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ *** وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ

وَبِالبَيْتِ حَقّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ *** وَبِاَللهِ إنّ اللهَ لَيْسَ بِغَافِلِ

وَبِالحَجَرِ المُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ *** إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالأَصَائِلِ

وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً *** عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ

وَأَشْوَاطِ بَيْنَ المَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا *** وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ

وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ *** وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ

وَبِالمَشْعَرِ الأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ *** إلالٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ القَوَابِل

وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الجِبَالِ عَشِيّةً *** يُقِيمُونَ بِالأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ

وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالمَنَازِلِ مِنْ مِنًى *** وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ

وَجَمْعٍ إذَا مَا المُقْرَبَاتُ أَجَزْنه *** سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ

وَبِالجَمْرَةِ الكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا *** يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالجَنَادِلِ

وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالحِصَابِ عَشِيّةً *** تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائل

حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ *** وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الوَسَائِلِ

وَخَطْمِهِمُ سُمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ *** وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ الحَوَامِلِ

ص: 238

فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ *** وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللهَ عَاذِلِ

يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ العِدَا وَدّ أَنّنَا *** تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ *** وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا *** وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ

وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصرَّع حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ

وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمْ *** نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلاصِلِ

وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ *** مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الأَنْكَبِ المُتَحَامِلِ

[أبيت بحمد الله ترك محمد *** بمكة أسلمه لشر القبائل]

[وقال لي الأعداء قاتل عصابة *** أطاعوه، وابغه من جميع الغوائل]

[نقيم على نصر النبي محمد *** نقاتل عنه بالظبى والعواسل]

وَإِنّا لَعَمْرُ اللهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى *** لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالأَمَاثِلِ

بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ *** أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ

شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلاً مُجَرّماً *** عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ

وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لا أَبَا لَك سَيّدًا *** يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ

[وما ترك قوم لا أباً لك سيداً *** يحوط الذمار غير ذرب مواكل]

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ

يَلُوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ

لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ *** إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ

[جزت رحم عنا أسيداً *** وخالداً جزاء مسيء لا يؤخر عاجل]

وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ *** وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ

أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ *** وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ

كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ *** وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ

ص: 239

فَإِنْ يُلْفَيَا، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا *** نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ

وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبی غَيْرَ بُغْضِنَا *** لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ

يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ *** فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ

وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا *** بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ

أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ *** مِنْ الأرض بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِلِ

وَسَائِلْ أَبَا الوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتنَا *** بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا كَالمُخَاتِلِ

وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ *** وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت بِجَاهِلِ

[فلست أباليه على ذات نفسه *** فعش ياابن عمي ناعماً غير ماحل]

فَعُتْبَةُ لا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ *** حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ

[وقد خفت إن لم تزدجرهم وترعووا *** تلاقي ونلقى منك إحدى البلابل]

وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا *** كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ

يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ *** وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ

وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ *** شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ

[وأعلم أن لا غافل عن مساءة *** كذاك العدو عند حق وباطل]

[فميلوا علينا كلكم إن ميلكم *** سواء علينا والرياح بهاطل]

أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ *** وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ

وَلا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً *** أُولِي جَدَلٍ مِنْ الخُصُومِ المَسَاجِلِ

أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً *** وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ

جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً *** عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ

لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ

وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ *** وَآلِ قُصَيّ فِي الخُطُوبِ الأَوَائِلِ

ص: 240

[وكان لنا حوض السقاية فيهم *** ونحن الذرى منهم وفوق الكواهل]

[فما أدركوا زحلاً ولا سفكوا دماً *** وما خالفوا إلا شرار القبائل]

وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا *** عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ

[وحث بنو سهم علينا عديَّهم *** عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل]

[يعضُّون من غيظ علينا أكفهم *** بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل]

[وشأيظ كانت في لؤي بن غالب *** نفاهم إلينا كل صقر حلاحل]

فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمُ خَيْرُ قَوْمِكُمْ *** فَلا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ

لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُم *** وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ

وَكُنْتُمْ حَدِيثاً حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ *** أَلانَ حِطَابٌ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ

لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا *** وَخِذْلانُنَا، أوَ تَرْكُنَا فِي المَعَاقِلِ

فَإِنْ نَكُ قَوْماً نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ *** وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ

وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ *** نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حُلاحِلِ

وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى *** وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ

فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا *** وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ

وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلاً قُصَيّا عَظِيمَةٌ *** إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي المَدَاخِلِ

وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْباً خِلالَ بُيُوتِهِمْ *** لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ المَطَافِلِ

[فإنْ تكُ كعبٌ من لؤيٍّ تجمعت *** فلا بد يوماً مرة من تزايل]

[وإن تكُ كعبٌ من كعوبٍ كبيرة *** فلابد يوماً أنها في مجاهل]

[وكنا بخير قبل تسويد معشر *** هم ذبحونا بالمدى والمقاول]

لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ

فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ *** لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ

سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلابِ بْنِ مُرّةَ *** بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ

ص: 241

[بني أسد لا تُطْرِقَنَّ على القذى *** إذا لم يقل بالحق مقول قائل]

[ونعم ابن أخت القوم غير مكذب *** زهير حساماً مفرداً من حمائل]

وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ *** وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ

وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ *** وَنَحْنُ الكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالكَوَاهِلِ

شَبَابٌ مِنْ المُطَّيّبِينَ وَهَاشِمِ *** كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ

فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلاً وَلا سَفَكُوا دَمًا *** وَلا حَالَفُوا إلا أشَرّ القَبَائِلِ

بِضَرْبِ تَرَى الفِتْيَانَ فِيهِ *** كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ

بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة *** بَنِي جمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ

وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ *** بِهِمْ نُعِيَ الأَقْوَامُ عِنْدَ البَوَاطِلِ

وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ *** زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ

أَشَمّ مِنْ الشّمّ البَهَالِيلِ يَنْتَمِي *** إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ المَجْدِ فَاضِلِ

لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ *** وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبّ المُوَاصِلِ

فَلا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالاً لأهْلِهَا *** وَزَيْنًا لِمَنْ وَالاهُ رَبّ المَشَاكِلِ

فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ *** إذَا قَاسَهُ الحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ

حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ *** يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ

فَوَاَللهِ لَوْلا أَنْ أَجِئَ بِسُبّةِ *** تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ

لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ *** مِنْ الدّهْرِ جِدّاً غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ

[وداستكم منا رجال أعزةٌ *** إذا جردوا أيمانهم بالمناصل]

[رجال كرام غير مِيلٍ نماهمُ *** إلى العز آباء كرام المخاصل]»

[وقفنا لهم حتى تبدد جمعهم *** وحُسِرَ عنا كل باغ وجاهل]

[شباب من المطَّلِّبين وهاشم *** كبيض السيوف بين أيدي الصياقل]

[بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم *** ضواري أسود فوق لحم خرادل]

ص: 242

[ولكننا نسلٌ كرام لسادة بهم *** يعتلي الأقوام عند التطاول]

[سيعلم أهل الضغن أيِّي وأيهم *** يفوز ويعلو في ليال قلائل]

[وأيهم مني ومنهم بسيفه يلاقي *** إذا ما حان وقت التنازل]

[ومن ذا يمل الحرب مني ومنهمُ *** ويحمد في الآفاق في قول قائل]

لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لا مُكَذّبٌ *** لَدَيْنَا، وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ

فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ *** تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ]

[كأني به فوق الجياد يقودها *** إلى معشر زاغوا إلى كل باطل]

حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته *** وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَى وَالكَلاكِلِ

فَأَيّدَهُ رَبّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ *** وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ

رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ *** إلَى الخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ المَحَاصِلِ

فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً *** فَلا بُدّ يَوْماً مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ»

[وجُدْتُ بنفسي دونه وحميته *** ودافعت عنه بالذرى والكلاكل]»ج

ورواها القاضي النعمان المغربي في المناقب والمثالب/92، بمئة وسبعة أبيات، وقال: «وفشا شعر أبي طالب هذا في العرب وأمْرُ رسول الله وقيام بني عبد شمس ومن أطاعها عليه، وانتصاب بني هاشم ومن تولاها دونه، وعلموا قديماً ما بين الفئتين من البغضاء وحسد بني عبد شمس بني هاشم...فتوقف من كانوا أغروه من قبائل العرب برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذب أكثرهم مقالهم فيه، وذكر أهل يثرب ما كانت اليهود خبَّرتهم وحدَّثتهم به من ظهور نبي فيهم، قد أزف وقت ظهوره وإخبارهم عن شأنه وأموره، فلما بلغهم أمر رسول الله تطلعت أعينهم إليه».

وقال في شرح الأخبار: 3/225: «وكان إظهار أبي طالب ما أظهر من التمسك بدين العرب والرغبة فيه، مع تصديقه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقراره بنبوته، مما أيد الله به أمر محمد (صلی الله علیه و آله) لأنه لو أظهر الإسلام لرفضته العرب، ولم يعضده من عضده منهم على نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

ص: 243

وقد شرح قصيدة أبي طالب بعض العلماء شرحاً موجزاً، كالسهيلي في الروض الأنف: 2/16، وهو من حفاظ القرن السادس. تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/1348.

وشرحها صاحب خزانة الأدب: 2/53، عبدالقادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 وأورد منها أربعين بيتاً، وقال: «وقد أحببت أن أوردها هنا منتخبة مشروحة بشرح يوفي المعنى، محبة في النبي صلى الله عليه».

وشرح ابن إسحاق بعض مفرداتها كما نقل ابن هشام: 1/181 قال: «والغياطل: من بني سهم بن عمرو بن هصيص، وأبوسفيان: ابن حرب بن أمية. ومطعم: ابن عدي بن نوفل بن عبدمناف. وزهير: ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وأمه عاتكة بنت عبدالمطلب. قال ابن إسحاق: وأسيد، وبكره: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبدمناف بن قصي. وعثمان: ابن عبيدالله، أخو طلحة بن عبيدالله التيمي. وقنفذ: ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وأبو الوليد: عتبة بن ربيعة. وأبيّ: الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة بن كلاب. قال ابن هشام: وإنما سمى الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر، وإنما اسمه أبيّ. وهو من بني علاج وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقدة. والأسود: ابن عبد يغوث بن وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب. وسبيع: ابن خالد، أخو بلحارث بن فهر. ونوفل: ابن خويلد بن أسد بن عبدالعزى ابن قصي وهو ابن العدوية، وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيدالله في حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر. وأبو عمرو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبدمناف. وقوله: وقوم علينا أظنة، بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة. فهؤلاء الذين عدد أبوطالب في شعره من العرب»!

لكن أباطالب (رحمة الله) ذكر غيرهم أشخاصاً وقبائل!

ثم روى ابن هشام قوله (صلی الله علیه و آله) عندما استسقى في المدينة: «لو أدرك أبوطالب هذا اليوم لسره، فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ...ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ؟ قال أَجل».

وفي عمدة القاري: 7/31: «لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه».

ص: 244

7- ملاحظات حول لامية أبي طالب (رحمة الله) وشعره

أ. يبلغ شعر أبي طالب (رحمة الله) الذي وصل إلينا نحو ألف بيت، وهو ثروة مهمة لم يعطه العلماء حقه في تدوين السيرة وتوثيقها! وقد رأيت قول الناصبي ابن كثير: «هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً»!

فلماذا لم يدرسوها ويعتمدوها؟! ولايذكرون شعر أبي طالب (علیه السلام) إلا عند الضرورة وباختصار، تقرباً وخوفاً من الحكومات! ثم زعموا أنه مات كافراً لينفوا وراثته لعبدالمطلب، فنفيُ الوراثة وتكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته أمرٌ مهم عندهم، لأنها تنقض أساس خلافة السقيفة!

ب. يكشف شعر أبي طالب (رحمة الله) عن أمور وأحداث في السيرة النبوية لم يسجلها الرواة والمؤلفون، أو عتَّموا عليها، فمنها أن قريشاً قررت إجلاء بني هاشم من مكة إن لم يسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه! وعملوا لتنفيذ ذلك فأحبطه أبوطالب:

كذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا *** وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلٍ

وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةً *** وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِل

وذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبیٰ غَيْرَ بُغْضِنَا *** لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ

يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ *** فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ

وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا *** بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ

وأبو عمرو المنافق هو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبدمناف، وهذا يدل على أن حساد بني هاشم من أقربائهم كبني نوفل وأمية، كانوا مع قرار نفيهم!

ج. ومن ذلك أن أباطالب (رحمة الله) أشار في شعره إلى أعمال عدائية قامت بها قبائل أو شخصيات معينة، لم يكشفها الرواة! لاحظ قوله (رحمة الله):

لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ *** إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ

ص: 245

[جزت رحم عنا أسيداً وخالداً *** جزاء مسئ لا يؤخرعاجل]

وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ *** وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ

أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ *** وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ

كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ *** وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ

فَإِنْ يُلْفَيَا، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا *** نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ

وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا *** كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ

يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ *** وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ

وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ *** شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ

[وأعلم أن لا غافلٌ عن مساءة *** كذاك العدو عند حق وباطل]

[فميلوا علينا كلكم إن ميلكم *** سواء علينا والرياح بهاطل]

أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَة *** وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ

أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً *** وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ

جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً *** عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ

لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُو *** بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ

وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا *** عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ

[وحث بنو سهم علينا عديَّهم *** عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل]

[يعضُّون من غيظ علينا أكفهم *** بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل]

[وشأيظ كانت في لؤي بن غالب *** نفاهم إلينا كل صقر حلاحل]

وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى *** وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ

ولم أجد تعبير«شر من وطأ الحصى» قبل وصف أبي طالب به لعدي، وهم قبيلة عمر، وكانوا قلة لكن لهم دور في عداء النبي (صلی الله علیه و آله) .

ص: 246

ولاحظ قوله (رحمة الله) في قصيدة أخرى:

وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

وتيم ومخزوم وزهرة منهم *** فكانوا لنا مولى إذا بغي النصر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** فكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر

والوليد هو أبو خالد بن الوليد، أحد المستهزئين الخمسة سنن البيهقي 9/8 وقد أخبر أبوطالب أن أمه رومية، كانت أمَةً لهاشم!

د. ولاحظ قوله (رحمة الله) في المعجزة التي ظهرت في أبي جهل: «لما جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد، وبيده حجر يريد أن يرميه به، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه»!

أفيقوا بني غالب وانتهوا *** عن الغي من بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذن خائفٌ *** بوائقَ في داركم تلتقي

تكون لغيركم عبرةً *** ورب المغارب والمشرق

كما ذاق من كان من قبلكم *** ثمودٌ وعادٌ فمن ذا بقي

غداة أتاهم بها صرصرٌ *** وناقة ذي العرش قد تستقي

فحل عليهم بها سخطةٌ *** من الله في ضربة الأزرق

غداة يعض بعرقوبها *** حساماً من الهند ذا رونق

وأعجب من ذاك في أمركم *** عجائب في الحجر الملصق

بكف الذي قام من خبثه *** إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه *** على رغمة الجائر الأحمق

أحيمق مخزومكم إذ غوى *** لغي الغواة ولم يَصدق»

كنز الفوائد/75، أبوطالب حامي الرسول/21، ابن إسحاق: 4/192 ولم يجزم بنسبتها إلى أبي طالب!

فلا بد من تتبع الأحداث التي أرخها أبوطالب رضيالله عنه، أو أشار اليها، وفيها مفردات جديدة في السيرة، أهملها الرواة أو جهلوها، فينبغي بحث نصوصها ومؤيداتها، أو ما يعارضها في السيرة الحكومية الرسمية.

ص: 247

الفصل الخامس عشر: الإسراء والمعراج

1- آيات الإسراء والمعراج

قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ. الإسراء 1.

وقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالآفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. النجم 1-18.

فمطلع سورة الإسراء في الإسراء، أما المعراج فآياته في سورة النجم.

وقال المفسرون واللغويون: السُّرى هو السير بالليل فقط «لسان العرب 4/389» لكن قوله تعالى: أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً، يدل على أن الإسراء مطلق السير، ولذا قال: لَيْلاً.

وتبلغ أحاديث الإسراء والمعراج في مصادر الطرفين مئات الصفحات، وغرضنا هنا إيراد مختارٍ منها، يعطي تصوراً شاملاً عن المعراج، ثم نشير إلى بعض الروايات المكذوبة فيه.

2- كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح

مذهب عامة الشيعة أن معراج النبي (صلی الله علیه و آله) كان بروحه وجسده. قال المجلسي في روضة المتقين: 2/218: «وأما المعراج فأخباره أكثر من أن تحصى، وإنكاره كفر.. ثم حمل على عائشة

ص: 248

ومعاوية، لأنهما أنكرا المعراج بالجسم وجعلاه بالروح»!

و قال النويري في نهاية الأرب: 16/293: «اختلف العلماء على ثلاث مقالات، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح وأنه رؤيا منام. وذهبت طائفة إلى أن الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح. والذي عليه الأكثرون وقال به معظم السلف أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة. قال القاضي عياض بن موسى بن عياض: وهذا هو الحق، وهو قول ابن عبّاس وجابر وأنس وحذيفة..وهو قول الطبرى، وابن حنبل، وغيرهما، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلَّة يطول علينا شرحها. قال القاضي عياض: وعليه تدل الآية، إذ لو كان مناماً لقال: بروح عبده، ولم يقل: بِعَبْدِه.وقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغى. ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة».

3- برنامجٌ رباني لإعداد النبي (صلی الله علیه و آله)

الإسراء: سَفَر النبي (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى الكوفة،ثم إلى جبل الطور وبيت المقدس، إشارةً إلى أنه وارث آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى:.

والمعراج: عروجه (صلی الله علیه و آله) إلى السماء، وكان ذلك في أوائل البعثة، وكأنه برنامج إعداد للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن يريه ربه ما شاء من ملكوته وآياته الكبرى.

ففي أمالي الصدوق/213: «عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك.قلت: فلمَ أسرى بنبيه محمد (صلی الله علیه و آله) إلى السماء؟قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزوجل: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى؟ قال: ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) دنا من حجب النور، فرأى ملكوت السماوات، ثم تدلى (صلی الله علیه و آله) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى».

وفي الإحتجاج: 1/327 أن حَبْراً قال لأميرالمؤمنين (علیه السلام): «هذا سليمان قد

ص: 249

سخرت له الرياح فسارت به في بلاده، غُدُوُّها شهر ورواحها شهر؟ قال له (علیه السلام): لقد كان ذلك، ومحمد (صلی الله علیه و آله) أعطي ما هو أفضل من هذا، إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقل من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش فدنى بالعلم فتدلى من الجنة على رفرف أخضر، وغشيَ النور بصره، فرأى عظمة ربه عزوجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها، أو أدنى».

أقول: هذا يدل على أن التدلي كان مرات، ومن عدة أمكنة، لمشاهدة ملكوت الأرض، ولمشاهدة آيات الله وعظمته فيها.

4- عُرِج بالنبي (صلی الله علیه و آله) مئة وعشرين مرة!

قال العيني في عمدة القاري: 4/39: «قيل إن الإسراء كان مرتين، مرة بروحه مناماً، ومرة بروحه وبدنه يقظة. ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً، حتى قال إنه أربع إسرا آت. وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة، ووفَّق أبو شامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعله ثلاث إسرا آت، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضاً. ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات».

وقال ابن عباس: «كان المعراج مرتين، بعد النبوة بسنتين، فالأول معراج العجائب والثاني معراج الكرامة». المناقب: 1/153.

ورجح في الصحيح من السيرة: 3/25 أنه مرتان، طبق رواية الكافي: 1/443 لكن سندها غيرتام، بينما صح عن أهل البیت (علیهم السلام) أنه مرات، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «عرج بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء مائة وعشرين مرة. ما من مرة إلا وقد أوصى الله النبي (صلی الله علیه و آله) بولاية علي والأئمة (علیهم السلام) من بعده، أكثر مما أوصاه بالفرايض».

بصائر الدرجات/99، الخصال/600، المحتضر/44 والفوائد الطوسية/140.

ومما يدل على أن المعراج وقع أيضاً في أواخر نبوته (صلی الله علیه و آله)، ما رواه الصدوق في الأمالي /696،

ص: 250

عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث أسري به إلى السماء، لم يمر بخلق من خلق الله إلا رأى منه ما يحب، من البِشْر واللطف والسرور به، حتى مر بخلق من خلق الله فلم يلتفت إليه ولم يقل له شيئاً، فوجده قاطباً عابساً فقال: يا جبرئيل، ما مررت بخلق من خلق الله إلا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلا هذا، فمن هذا؟ قال: هذا مالك خازن النار، وهكذا خلقه ربه! قال: فإني أحب أن تطلب إليه أن يريني النار. فقال له جبرئيل: إن هذا محمداً رسول الله، وقد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار. قال: فأخرج له عنقاً منها فرآها، فما افترَّ ضاحكاً حتى قبضه الله عزوجل».

ونحوه في كتاب الحسين بن سعيد/99 وفيه: «فكشف له طبقاً من أطباقها».

فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه لم يضحك بعده حتى توفي فهو في أواخر حياته الشريفة، ومعراجه الأول كان في أوائل بعثته، وقد ضحك بعده في مناسبات عديدة.

5- الإسراء والمعراج من عقائد الإسلام

في أمالي الصدوق/738: «دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد الله تعالى ذكره، ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق به، والإقرار بأنبياء الله ورسله وحججه وملائكته وكتبه، والإقرار بأن محمداً هو سيد الأنبياء والمرسلين..وبمعراج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء السابعة، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وبمناجاة الله عزوجل إياه، وأنه عرج به بجسمه وروحه على الصحة والحقيقة لا على الرؤيا في المنام، وأن ذلك لم يكن لأن الله عزوجل في مكان هناك، لأنه متعال عن المكان، ولكنه عزوجل عرج به تشريفاً له وتعظيماً لمنزلته، وليريه ملكوت السماوات كما أراه ملكوت الأرض، ويشاهد ما فيها من عظمة الله عزوجل وليخبر أمته بما شاهد في العلو من الآيات والعلامات».

وفي رسالة الإعتقادات للصدوق (رحمة الله) /79: «واعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان

ص: 251

وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قد دخل الجنة، ورأى النار، حين عرج به».

إن المعراج حدثٌ ضخمٌ، ومفرداته كثيرة، وقد تبلغ موضوعاته مائتي عنوان، وهذا طبيعي، لأنه جولة في الأرض على ربوع الأنبياء السابقين:، وجولاتٌ في السماوات السبع، أرى الله فيها رسوله (صلی الله علیه و آله) آيات ملكوته الكبرى. أراه جميع الأنبياء (علیهم السلام)، والجنة بأعلى نعيمها، وطرفاً من النار والمعذبين فيها.

وأراه مشاهد ستحدث من مستقبل أمته، وأراه الأئمة من ذريته:، وعلمه علم ما يكون. وفي كل واحد من هذه المواضيع: عناوين، وفروع، وتفاصيل.

وقد أفاضت مصادرنا في رواية أحاديث المعراج التي بينت مقام النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة من عترته:، ومقام شيعتهم وما يجري عليهم من اضطهاد، وما أعد الله لهم من نصر في نهاية المطاف، ودرجات عالية في الآخرة.

6- هل المسجد الأقصى مسجد القدس أو البيت المعمور؟

يوجد رأي نادر للباحث السيد جعفر مرتضى، ذكره في رسالة عن البيت المعمور، وفي كتابه الصحيح من السيرة: 3/147 مفاده: أن المقصود بالمسجد الأقصى في آية الإسراء هو البيت المعمور في السماء وليس مسجد بيت المقدس، وأن المسجد الذي يدخله المؤمنون مرتين هو المسجد الحرام، قال:

«الظاهر أن المراد به هو المسجد الحرام، أما المسجد الأقصى الذي حصل الإسراء إليه، والذي بارك الله حوله، فهو في السماء».

واستدل على ذلك برواية أن النبي صلى بالأنبياء (علیهم السلام) في المسجد الأقصى، وهو البيت المعمور: «انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى، فلما دنا منه أتى جبرئيل عيناً فتوضأ منها ثم قال يا محمد توضأ». اليقين لابن طاووس/294.

وفي تفسير القمي: 2/243 ونوادر المعجزات/66: «عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعداً وأبوجعفر (علیه السلام) في ناحية، فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة، ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى..

ص: 252

وكرر ذلك ثلاث مرات، ثم التفت إليَّ فقال: أي شئ يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت: يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس، فقال: لا، ليس كما يقولون، ولكنه أسريَ به من هذه وأشار بيده إلى الأرض، إلى هذه وأشار بيده إلى السماء، وقال: ما بينهما حرم. قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل (علیه السلام) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل في هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك، فوالله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك.فرأيت من نور ربي وحال بيني وبينه السبحة. قلت: وما السبحة

جعلت فداك؟ فأومئ بوجهه إلى الأرض وأومى بيده إلى السماء وهو يقول جلال

ربي ثلاث مرات. قال يا محمد! قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني.

قال فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته. قال: يا محمد فيمَ اختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: يا رب في الدرجات والكفارات والحسنات.

فقال: يا محمد قد انقضت نبوتك وانقطع أُكلك، فمن وصيك؟ فقلت: يا رب قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أطوع لي من علي؟ فقال: ولي يا محمد. فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر في خلقك أحداً أشد حباً لي من علي بن

أبي طالب. قال: ولي يا محمد، فبشره بأنه راية الهدى وإمام أوليائي ونورٌ لمن أطاعني، والكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحداً. فقلت: يا رب أخي وصاحبي ووزيري ووارثي، فقال إنه أمر قد سبق أنه مبتلى ومبتلى به، مع ما أني قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته، أربعة أشياء عقدها بيده ولا يفصح بها عقدها».

أقول: في هذا الحديث عناصر قوة، لكن فيه عناصر خلل توجب التوقف فيه، أهمها ما يوافق المخالفين في التجسيم، أو ما يوهم التجسيم.

ومنها وجود روايات تعارضه وتدل على أن المسجد الأقصى مسجد

ص: 253

بيت المقدس، منها ما رواه في الكافي: 3/491 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «جاء رجل إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد عليه، فقال: جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى، فأردت أن أسلم عليك وأودعك، فقال له: وأي شئ أردت بذلك؟ فقال: الفضل جعلت فداك، قال: فبع راحلتك وكل زادك، وصلِّ في هذا المسجد فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة، والنافلة عمرة مبرورة، والبركة فيه على اثني عشر ميلاً، يمينه يمن ويساره مكر، وفي وسطه عين من دهن، وعين من لبن، وعين من ماء شراب للمؤمنين، وعين من ماء طهر للمؤمنين. منه سارت سفينة نوح، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق، وصلى فيه سبعون نبياً وسبعون وصياً، أنا أحدهم. وقال بيده في صدره: ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج، إلا أجابه الله

وفرج عنه كربته».

فلو صحت الرواية التي تسمي البيت المعمور في السماء المسجد الأقصى أوبيت المقدس، فدلالتها على تعدد المسجد الأقصى أولى من دلالتها على البدلية.

لذلك نستقرب أن يكون المسجد الأقصى اسماً للبيت المعمور وبيت المقدس معاً.

7- علَّمه الله في المعراج علم ما يكون

في الكافي: 1/251: «قال رجل لأبي جعفر (علیه السلام): يا ابن رسول الله لا تغضب عليَّ قال: لماذا؟ قال: لما أريد أن أسألك عنه، قال: قل. قال: ولا تغضب؟ قال: ولا أغضب. قال: أرأيت قولك في ليلة القدر تنزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد علمه؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله يعلمه؟وقد علمت أن رسول الله مات وليس من علمه شئ إلا وعلي (علیه السلام) له واع!

قال أبوجعفر (علیه السلام): مالي ولك أيها الرجل ومن أدخلك علي؟

قال: أدخلني عليك القضاء لطلب الدين. قال: فافهم ما أقول لك: إن رسول الله لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون، وكان

ص: 254

كثير من علمه ذلك جملاً، يأتي تفسيرها في ليلة القدر.وكذلك كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر، كما كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال السائل: أوما كان في الجمل تفسير؟ قال: بلى، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي وإلى الأوصياء:: إفعل كذا وكذا، لأمر قد كانوا علموه، أمروا كيف يعملون فيه؟

قلت: فسر لي هذا. قال: لم يمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا حافظاً لجمله وتفسيره. قلت: فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو؟ قال: الأمر واليسر فيما كان قد علم. قال السائل: فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا؟ قال: هذا مما أمروا بكتمانه، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عزوجل. قال السائل: فهل يعلم الأوصياء ما لا يعلم الأنبياء؟ قال: لا، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه. قال السائل: فهل يسعنا أن نقول إن أحداً من الوصاة يعلم ما لايعلم الآخر؟ قال: لا لم يمت نبي إلا وعلمه في جوف وصيه، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم الذي يحكم به بين العباد.

قال السائل: و ما كانوا علموا ذلك الحكم؟ قال: بلى قد علموه، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شئ منه حتى يؤمروا في ليالي القدر كيف يصنعون إلى السنة المقبلة. قال السائل: يا أبا جعفر لا أستطيع إنكار هذا؟ قال أبوجعفر (علیه السلام): من أنكره فليس منا. قال السائل: يا أبا جعفر أرأيت النبي (صلی الله علیه و آله) هل كان يأتيه في ليالي القدر شئ لم يكن علمه؟ قال: لا يحل لك أن تسأل عن هذا، أما علم ما كان وما سيكون، فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه، أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عزوجل أبي أن يطلع الأوصياء عليه إلا أنفسهم.

قال السائل: يا ابن رسول الله كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة؟ قال: إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه».

ص: 255

أقول: لاغرابة في أن يكون الله تعالى علَّم نبيه (صلی الله علیه و آله) وأراه في معراجه كثيراً من المستقبل! لأن كل ما سيحدث في هذا الكون مخزون في علم الله تعالى الذي أحاط بكل شئ، ونحن نرى في المنام أموراً من المستقبل، ثم تحدث كما رأيناها تماماً، فكأن ذلك المنام لقطة من المستقبل المخزون!

كما يدلنا هذا الحديث الشريف العميق على أن تعليم الله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأوصيائه:له نظام وأصول، في توقيته، وتدرجه، وإمضائه، والسماح ببيانه، بما يحفظ لهم الإختيار، ويحفظ المسار الصحيح لتبليغهم رسالات ربهم. قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدداً. الجن: 26-28.

8- كان الإسراء إلى المدينة وكوفان والطور وبيت المقدس

في الكافي: 8/279: «عن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس «السفاح» فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد (رحمة الله)، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين، فنزل وقال: إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم (علیه السلام)، وأنا أكره أن أدخله راكباً. قال قلت: فمن غيَّره عن خطته؟ قال: أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح (علیه السلام)، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان، ثم غيَّره بعدُ زياد بن أبي سفيان. فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح (علیه السلام)؟فقال لي: نعم يا مفضل، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات، مما يلي غربي الكوفة، قال: وكان نوح (علیه السلام) رجلاً نجاراً فجعله الله عزوجل نبياً وانتجبه، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء.

قال: ولبث نوح (علیه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزوجل فيهزؤون به ويسخرون منه، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلايَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا. فأوحى الله عزوجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها.

ص: 256

قال: المفضل ثم انقطع حديث أبي عبدالله (علیه السلام) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين، وهو موضع دار ابن حكيم وذاك فرات اليوم، فقال لي: يا مفضل، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح (علیه السلام): يغوث ويعوق ونسراً.

ثم مضى حتى ركب دابته فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها؟ قال: في دورين، قلت: وكم الدورين؟ قال: ثمانين سنة. قلت: وإن العامة يقولون: عملها في خمس مائة عام، فقال: كلا كيف والله يقول: وَوَحْيِنَا.

قال قلت: فأخبرني عن قول الله عزوجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ، فأين كان موضعه وكيف كان؟فقال: التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. فقلت له: فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال: نعم إن الله عزوجل أحب أن يرى قوم نوح آية، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً، وفاض الفرات فيضاً، والعيون كلهن فيضاً، فغرقهم الله عز ذكره، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة. فقلت له: كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها؟ فقال: لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها، وطافت بالبيت أسبوعاً، ثم استوت على الجودي، وهو فرات الكوفة. فقلت له: إن مسجد الكوفة قديم؟فقال: نعم، وهو مصلى الأنبياء (علیهم السلام) ولقد صلى فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أسري به إلى السماء، فقال له جبرئيل: يا محمد هذا مسجد أبيك آدم، ومصلى الأنبياء (علیهم السلام)، فانزل فصل فيه فنزل فصلى فيه.. ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء».

وفي رواية في تفسير القمي: 2/3 أن جبرئيل (علیه السلام) أنزل النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة فصلى فيها، وأخبره أنها مهاجره، وصلى في طور سيناء عند قبر موسى (علیه السلام)، وفي بيت لحم مولد عيسى (علیه السلام) .

أقول: «روى الطبري: 3/145 أن سلمان وحذيفة كانا رائدي جيش فتح العراق فارتادا لهم مكاناً لنزولهم، فخرج سلمان حتى أتى الأنبار، فسار في غربي الفرات

ص: 257

لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، والكوفة على حصباء، وكل رملة حمراء يقال لها سهلة، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة، فأتيا عليها وفيها دَيْرَات ثلاثة: دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة».

وفي فتوح البلاذري: 2/354 أن سلمان الفارسي قال: «الكوفة قبة الإسلام، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها، أو يهوي قلبه إليها».

ولا بد أن يكون عمله (رحمة الله) بتوجيه علي (علیه السلام) باب مدينة علم النبي (صلی الله علیه و آله) .

9- استنفر أبوطالب ليلة الإسراء لأنه افتقد النبي (صلی الله علیه و آله)

كانت مدة المعراج الأول أقل من ثلث ليلة، حسب رواية الاحتجاج: 1/327. وكان وقته الثلث الأخير من الليل، كما في الخرائج: 1/85.

وفي تفسير العياشي، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أسريَ به فيها بمكة. وكان أبوطالب أمرعلياً وجعفراً وحمزة بالتناوب لحراسته، وكان يتفقد مكانه في الليل! ولما لم يجده خاف أن يكون القرشيون قتلوه، فبعث من يبحث عنه، واستدعى شباب بني هاشم ووزع عليهم سيوفاً قصيرة أو شفاراً، وأمرهم أن يكون كل واحد منهم بجانب زعيم قرشي فإذا أمرهم فليقتل كل منهم من بجنبه من الزعماء،وأولهم أبوجهل! مناقب ابن شهرآشوب: 1/156 وروضة الواعظين/59.

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/26: «قال لهم: إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم، وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولاتنتظروني. فوجدوه على باب

أم هانئ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرَّفهم ما كان منه!فأعظموا ذلك وجلَّ في صدورهم، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لايؤذون رسول الله، ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبداً».

وفي الخرائج للراوندي: 1/85: «لما رجع من السُّرى نزل على أم هاني بنت أبي طالب

ص: 258

فأخبرها فقالت: بأبي أنت وأمي والله لئن أخبرت الناس بهذا ليكذبنَّك من صدَّقَك، وكان أبوطالب قد فقده تلك الليلة فجعل يطلبه وجمع بني هاشم، ثم أعطاهم المُدى، وقال لهم: إذا رأيتموني قد دخلت وليس معي محمد فليضرب كل رجل منكم جليسه، والله لا نعيش نحن ولا هم وقد قتلوا محمداً.

فخرج في طلبه وهو يقول: يا لها عظيمة إن لم يواف رسول الله مع الفجر، فتلقاه على باب أم هاني حين نزل من البراق فقال: يا ابن أخي، إنطلق فادخل بين يديَّ المسجد، وسلَّ سيفه عند الحجر وقال: يا بني هاشم أخرجوا مُداكم. فقال: لو لم أره ما بقي منكم شِفْر ٌ«أحد» أو عشنا، فاتقته قريش منذ يوم أن يغتالوه.

ثم حدثهم محمد (صلی الله علیه و آله)، فقالوا: صف لنا بيت المقدس. قال: إنما دخلته ليلاً، فأتاه جبرئيل فقال: أنظر إلى هناك، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه، ثم نعت لهم ما كان لهم من عير ما بينهم وبين الشام».

لكن ابن سعد: 1/202 جعل الحادثة عندما جاء زعماء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يعطوه رجلاً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)، ونزلت سورة صاد فاشمأزوا منها! قال: «فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجاء أبوطالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب، ثم قال: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني فإذا دخلت المسجد فلينظركل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية يعني أباجهل، فإنه لم يغب عن شر، إن كان محمد قد قتل! فقال الفتيان نفعل».

وفي الغدير: 7/350، عن الحجة لفخار بن معد، عن ابن الجوزي عن الواقدي: «كان أبوطالب بن عبدالمطلب لايغيب صباح النبي ولا مساءه، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه، فلما كان ذات يوم فقده فلم يره... فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده: أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده، فلما رأوا السكاكين قالوا: ما هذا يا أباطالب؟ قال: ما ترون، إني طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم، فأمرت

ص: 259

هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم: إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه ولو كان هاشمياً! فقالوا: وهل كنت فاعلاً؟فقال: إي ورب هذه وأومى إلى الكعبة! فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان من أحلافه: لقد كدت تأتي على قومك؟ قال: هو ذلك. ومضى به وهو يقول:

إذهب بُنَيَّ فما عليك غضاضةٌ *** إذهب وقَرَّ بذاك منك عيونا

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت قبل أمينا

وذكرت ديناً لا محالة إنه *** من خير أديان البرية دينا

فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف، وهو لا يحفل بهم»!

أقول: لايبعد أن يكون عمل أبي طالب (رحمة الله) قد تكرر منه لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) وتهديد قريش.

10- رأت قريش آيات المعراج فزادت كفراً وعتواً

في أمالي الصدوق/533، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء (علیهم السلام) وصلى بها، ورده فمرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجوعه بِعِيرٍ لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك الماء وأهرق باقيه! فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لقريش: إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس، وأراني آثار الأنبياء (علیهم السلام) ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك. فقال أبوجهل: قد أمكنتكم الفرصة منه فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه! فلما أخبرهم قالوا: حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تصديق ذلك أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق. فلما كان من الغد

ص: 260

أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق، فسألوهم عما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: لقد كان هذا، ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أهريق الماء! فلم يزدهم ذلك إلا عتواً»!

وفي الكافي: 8/262 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «ثم قال: هذه عير بني فلان تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق أو أحمر، قال: وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لهفاً ألا أكون لك جذعاً، حين تزعم أنك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك»!

ونحوه في الخرائج: 1/141، عن علي (علیه السلام)،وفيه: «فلما كان اليوم الثالث خرجوا إلى باب مكة لينظروا صدق ما أخبر به محمد (صلی الله علیه و آله) قبل طلوع الشمس، فهم كذلك إذا طلعت العير عليهم بطلوع الشمس في أولها الجمل الأحمر! فتعجبوا من ذلك! وسألوا الذين كانوا مع العيرفقالوا مثل ما قال محمد (صلی الله علیه و آله) في إخباره عنهم. فقالوا: هذا أيضاً من سحر محمد»!

وفي تفسير العياشي: 2/137 في قول الله عزوجل: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ، قال: «فأجابهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلا قليل، وهو قول الله تبارك وتعالى: وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. ثم قال أبوعبدالله (علیه السلام): نعوذ بالله أن لا نؤمن بالله وبرسوله. آمنا بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله)».

11- صفة البُراق الذي حمل النبي (صلی الله علیه و آله) في معراجه

روى في الكافي: 8/376: «أتى جبرئيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالبراق أصغرمن البغل وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عينيه في حافره، وخطاه مد بصره، إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه، فإذا هبط طالت يداه وقصرت رجلاه، أهدب العرف الأيمن، له جناحان من خلفه».

في أمالي الصدوق/534: «رجلاها أطول من يديها، خَطْوُها مدُّ البصر، فلما

ص: 261

أراد النبي أن يركب امتنعت فقال جبرئيل (علیه السلام): إنه محمد، فتواضعت حتى لصقت بالأرض. قال فركب فكلما هبطت ارتفعت يداها وقصرت رجلاها، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها، فمرت به في ظلمة الليل على عيرٍ مُحَمَّلة، فنفرت العير من دفيف البراق، فنادى رجل في آخر العير غلاماً له في أول العير: يافلان، إن الإبل قد نفرت»!

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/35 ومسند زيد بن علي/497، قال (صلی الله علیه و آله): «هي دابة من دواب الجنة، ليست بالطويل ولا بالقصير، فلو أن الله أذن لها لجالت الدنيا في جرية واحدة، وهي أحسن الدواب لوناً».

وفي الخرائج: 1/84: «فوقفه على باب خديجة ودخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل (علیه السلام) فقال: أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه». وفي روضة الواعظين/53: «ومضى إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء الدنيا، فتلقته الملائكة فسلمت عليه، وتطايرت بين يديه، حتى انتهى إلى السماء السابعة».

وفي مسند زيد بن علي/449: «قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام): لما بدأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتعليم الأذان أتى جبريل بالبراق فاستصعب عليه: ثم أتاه بدابة يقال لها براقة فاستصعبت عليه، فقال لها جبريل أسكني براقة، فما ركبك أحد أكرم على الله منه فسكنت، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فركبتها حتى انتهت إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، فخرج ملك من وراء الحجاب، فقال الله أكبر الله أكبر، قال فقلت: يا جبريل ومن هذا الملك، قال: والذي أكرمك بالنبوءة ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه! فقال: الله أكبر، الله أكبر، فنودي من وراء الحجاب: صدق».

وفي صحيح البخاري: 4/77: «وأتيتُ بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا، قيل من هذا؟ قال جبريل. قيل: ومن معك؟ قيل: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به».

ويفهم من دعاء إقبال الأعمال: 2/51 أن الله تعالى علم رسوله (صلی الله علیه و آله) بعض أسمائه الحسنى فسخر له البراق: وباسمك الذي سخرت به البراق لمحمد صلواتك عليه وآله.

ص: 262

12- النبي (صلی الله علیه و آله) سيركب البراق يوم القيامة

روى الحاكم: 3/153، والطوسي والصدوق في أماليهما /35/275، قال النبي (صلی الله علیه و آله): «وأبعث على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة (علیها السلام) أمامي».

وفي الخصال/203: «عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة، فقام إليه العباس بن عبدالمطلب فقال: من هم يا رسول الله؟ فقال: أما أنا فعلى البراق ووجهها كوجه الإنسان وخدها كخد الفرس، وعرفها من لؤلؤ مسموط، وأذناها زبرجدتان خضراوان، وعيناها مثل كوكب الزهرة، تتوقدان مثل النجمين المضيئين، لها شعاع مثل شعاع الشمس، ينحدر من نحرها الجمان، مطوية الحلق طويلة اليدين والرجلين، لها نفس كنفس الآدميين، تسمع الكلام وتفهمه، وهي فوق الحمار ودون البغل.

قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال (صلی الله علیه و آله): وأخي صالح على ناقة الله عزوجل التي عقرها قومه، قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: وعمي حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، سيد الشهداء على ناقتي العضباء، قال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: وأخي علي على ناقة من نوق الجنة، زمامها من لؤلؤ رطب عليها محمل من ياقوت أحمر، قضبانه من الدر الأبيض، على رأسه تاج من نور عليه حلتان خضراوان، بيده لواء الحمد وهو ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله. فيقول الخلائق ما هذا إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، فينادي مناد من بطنان العرش: ليس هذا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا حامل عرش، هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين»! ونحوه أمالي الطوسي/258.

وقال الصدوق في الخصال: هذا حديث غريب لما فيه من ذكر البراق ووصفه، وذكر حمزة بن عبدالمطلب.

وفي أمالي الصدوق/275: «لن يركب إلا أربعة: أنا وعلي وفاطمة وصالح

نبي الله».

ص: 263

أقول: تفاوتت الرواية في عد الركبان فبعضها عد منهم الزهراء (علیها السلام) فيكونون خمسة، ومنهم عدهم أربعة فيكون المقصود الرجال. ولم تبين الرواية مكان ركوبهم أو زمانه. على أن أسانيدها ليست قوية.

13- ركب إبراهيم (علیه السلام) البراق والمهدي (علیه السلام) سيركبه

روى القمي في تفسيره: 1/60 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن الله تعالى حمل إبراهيم على البراق إلى مكة.وروي أن المهدي (علیه السلام) يأتيه جبرئيل بالبراق فيركبه من المدينة إلى مكة: «فيأخذ بيده ويصافحه ويسلم عليه ويقول له: قم ويجيؤه بفرس يقال له البراق فيركبه ثم يأتي إلى جبل رضوى، فيأتي محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) فيكتبان له عهداً منشوراً يقرؤه على الناس، ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها. قال: فيقوم رجل منه فينادي: أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول الله. قال: فيقوم هو بنفسه فيقول: أيها الناس أنا فلان بن فلان، أنا ابن نبي الله، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله. فيقومون إليه ليقتلوه فيقوم ثلاث مائة وينيف على الثلاث مائة فيمنعونه، منه خمسون من أهل الكوفة، وسائرهم من أفناء الناس لايعرف بعضهم بعضاً، اجتمعوا على غير ميعاد».

معجم المهدي: 3/198.

14- قميص المعراج وقميص أحُد من ماريث الأنبيا (علیهم السلام)

في الكافي: 1/236 عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما عرض على عمه العباس قبول ديونه وعداته فاعتذر، ثم عرضها على علي (علیه السلام) فقبلها، فأمر بإحضارها، وفيه: «يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية... والقميصين: القميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي جُرح فيه يوم أحد... فقال: إقبضها

في حياتي».

أقول: يظهر من أحاديث المعراج أن النبي (صلی الله علیه و آله) ركب على وسيلة خاصة، وأنه استعمل الإسم الأعظم، وأنه لبس قميصاً خاصاً.

ص: 264

15- معنى سدرة المنتهى

روى البخاري عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: 4/249: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى».

فسدرة المنتهى عند هذا الراوي شجرة سدر، لكن ثمرها نبق كبير، الواحدة منه بقدر قربة ماء كبيرة، من قِلال هجر البحرين، أوهجر المدينة!

وهذا تبسيط عامي لسدرة المنتهى، لكن أهل البیت (علیهم السلام) رووا أنها شجرة خاصة في عوالم أنوار الله تعالى، وأن منطقتها آخر ما يمكن أن يصل اليه مخلوق.

ففي الإحتجاج: 1/361: «ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. يعني: محمداً كان عند سدرة المنتهى، حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عزوجل».

وفي المحاسن: 2/334: «قال أبوجعفر (علیه السلام): إنما سميت سدرة المنتهى، لأن أعمال

أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محل السدرة. وقال: الحفظة الكرام البررة دون السدرة، يكتبون ما ترفعه إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض وينتهون بها إلى محل السدرة».

وفي قرب الإسناد/101: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الورقة منها تظل الدنيا، وعلى كل ورقة ملك يسبح الله، يخرج من أفواههم الدر والياقوت، تبصر اللؤلؤة مقدار خمس مائة عام، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى، فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا: يا محمد مرحباً بك، فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان، قد اهتزت فرحاً لمجيئك، فسمعت الجنان تنادي: واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين».

وفي دلائل الامامة/100: «عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: لما زوج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة من علي (علیهما السلام) أتاه أناس من قريش فقالوا: إنك زوجت علياً بمهر قليل! فقال: ما أنا زوجت علياً ولكن الله زوجه ليلة أسريَ بي إلى السماء، فصرت عند سدرة المنتهى أوحى الله إلى السدرة:

ص: 265

أن انثري ما عليك، فنثرت الدر والجوهر والمرجان، فابتدر الحور العين فالتقطن، فهن يتهادينه ويتفاخرن به، ويقلن: هذا من نثار فاطمة بنت محمد».

16- لم يرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ربه بعینه بل رأى من آياته الكبرى

عقد في الكافي: 1/95 باباً في تنزيه الله تعالى عن الخضوع لقوانين الزمان والمكان، والرؤية بالعين، وروى فيه بضعة عشر حديثاً، منها حديثان عن الكندي الفيلسوف يعقوب بن يوسف، من رسالتين بعث بهما إلى الإمام العسكري (علیه السلام):

1- عن يعقوب بن إسحاق قال: «كتبت إلى أبي محمد «الحسن العسكري (علیه السلام)» أسأله كيف يعبدالعبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (علیه السلام): يا أبا يوسف، جل سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يرى. وسألته: هل رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربه؟ فوقع (علیه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب».

2- عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «جاء حبر إلى أميرالمؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال فقال: ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره! قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».

3- عن عاصم بن حميد قال: «ذاكرت أبا عبدالله (علیه السلام) فيما يروون من الرؤية فقال: الشمس جزء من سبعين جزءً من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب».

4- عن صفوان بن يحيى قال: «سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية!

ص: 266

فقال أبو الحسن (علیه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس: لاتُدْرِكُهُ الأبْصَار، ولا يحُيطون به علماً، ولَيْسَ كمثلهِ شَئ، أليس محمد؟ قال: بلى. قال: كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لاتدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شئ، ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر؟! أما تستحون! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر!

قال أبو قرة: فإنه يقول: ولقد رآه نزلةً أخرى، فقال أبو الحسن (علیه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ما كذب الفؤاد ما رأى، يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، فآيات الله غير الله، وقد قال الله: وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْما، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة! فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (علیه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ».

5 - عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: «قلت لأبي جعفر «الإمام الجواد (علیه السلام)»: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون»!

6- عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء، بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه قط جبرئيل.فكُشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب.

وفي الكافي: 1/443: «فخلى عنه فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟فقال: إمضه، فوالله لقد وطأت مكاناً ما وطأه بشر، وما مشى فيه بشرٌ قبلك».

7- وروى الصدوق في التوحيد/117، بسند صحيح عن أبي الصلت الهروي قال: «قلت لعلي بن موسى الرضا (علیهما السلام): يا ابن رسول الله، فما معنى الخبر

ص: 267

الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته، وقال الله عزوجل: كل من عليها فان و يبقى وجه ربك. وقال عزوجل: كل شئ هالك إلا وجهه».

17- زعم أتباع السلطة أنه رأى ربه في داره شاباً أمرد!

قال البخاري: 8/205 في حديث فرض الصلاة وأن موسى (علیه السلام) قال له إرجع وأطلب من الله تخفيف الصلاة عن أمتك: «فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار وهو في مكانه فوضع عنه عشراً»!

ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى الله على صورة شاب أمرد، يلبس قبقاباً من ذهب! وتبناه ابن تيمية في منهاج السنة/634 وفي نقض التأسيس: 3/241، فقال: «سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم. قال: وكيف رآه؟قال: في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ،كأن قدميه في خضرة.. وهذا يدل على أنه رآه. وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة، وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم، فيقتضي أنها رؤية عين، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): رأيت ربي في صورة شاب أمرد، له وفرة، جعد، قطط، في روضة خضراء»!

وكذلك تبناه في كتابه بيان تلبيس الجهمية/223، ونقل عن الطبراني أنه قال: «روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة، عن قتادة.. ونقل عن ابن صدقة الحافظ قوله: من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق!

ثم روى أن عبدالله بن عمر سأل ابن عباس فأجابه: نعم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب، على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة».

ثم قال ابن تيمية: «وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال: باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي (صلی الله علیه و آله) خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت، وذكر أن الله

ص: 268

نبيه خصَّ محمداً (صلی الله علیه و آله) بالرؤية كما خص إبراهيم (علیه السلام) بالخلة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعاً، وكما خص موسى (علیه السلام) بالكلام، كل واحد بفضيلة، كما أخبرنا عزوجل في محكم تنزيله بقوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ. البقرة 253.

ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب..فأما خبر قتادة والحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وخبر عبدالله بن أبي سلمة، عن ابن عباس، فبينٌ واضحٌ أن ابن عباس رضيالله عنهما كان يثبت أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى ربه، وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق، وأنها تفيد رؤية العين لله».

وزعم ابن تيمية أن كل ما في التوراة من تجسيم يطابق السنة! ولذا رد الأحاديث التي تنفي الرؤية بالعين، وتشبث بأحاديث التجسيم حتى الضعيفة كحديث لقيط العقيلي في العماء، وحديث أم الطفيل عن معبودهم الشاب الأمرد، اللابس نعلين من ذهب، وحديث الأوعال والأسد والثور التي تحمل عرشه، كما في التوراة، وحديث طقطقة العرش وصريره وأزيزه، لأن خشبه جديد كمحمل الجمل! وأنه يفضل من العرش أربع أصابع، فيُقعد فيها إلى جانبه من يحبه...إلخ.

فالتوراة في عقيدته هي الأساس، والسنة يجب أن تخضع لها، والقرآن أيضاً!

وقال ابن باز«4/368 رقم2331»: «خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً! وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه.. الضمير في قوله: على صورته، يعود على الله، بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: على صورة الرحمن»!

وقال الألباني أيضاً في فتاويه/506: «هل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى؟ جواب: الهرولة كالمجئ والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها.

وأثبت له ابن باز صفة الهرولة، قال في فتاويه: 5/374: «ومن

ص: 269

تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً...أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة».

ورووا أن الله يجلس على كرسي ويُجلس حوله النبيين::2/58: «عن أنس: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء...قال لأن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الجنة وادياً من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه تبارك وتعالى، ثم حف كرسيه منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجئ النبيون حتى يجلسوا عليها»!

ووصف البدوي أمية بن الصلت ربه وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) صدَّقه«الإصابة 549»:

رجل وثور تحت رجل يمينه *** والنسر للأخرى وليثٌ مرصد

والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ *** فجراً وتصبح لونها يتوقد

تأبى فما تطلع لهم في وقتها *** إلا معذبةً، وإلا تُجلدُ».

وفي جزء الشعر للنابلسي/90: أخرجه أحمد في المسند: 1/256، وقد صحح العلامة أحمد شاكر إسناده وابن أبي شيبة في المصنف: 8/505، برقم: 6064 وأبو يعلى في مسنده:4/365.

وأصله رواية البخاري: «3 /30و 4/178 ومسلم: 1/96»: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟قالوا: الله ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش». أما أهل البیت (علیهم السلام) فردوا كل هذه الروايات وكل أنواع التجسيم والتشبيه.

18- أخذ الله ميثاق الأنبياء (علیهم السلام) للنبي وآله (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 3/302 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى السماء فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصَفَّ الملائكةُ والنبيون خلف محمد (صلی الله علیه و آله)».

وفي علل الشرائع: 1/8 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): تقدم يا جبرئيل، فقال له: إنا لانتقدم على الآدميين، منذ أُمرنا بالسجود لآدم».

وفي الكافي: 8/120: «عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (علیه السلام) في السنة التي

ص: 270

كان حج فيها هشام بن عبدالملك، وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطاب «من علماء النصارى والسلطة» فنظر نافع إلى أبي جعفر (علیه السلام) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أميرالمؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة، هذا محمد بن علي!فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لايجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (علیه السلام) فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي! قال: فرفع أبوجعفر (علیه السلام) رأسه فقال: سل عما بدا لك. فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً. قال: أما في قولي فخمس مائة سنة، وأما في قولك فست مائة سنة. قال: فأخبرني عن قول الله عزوجل لنبيه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟! قال: فتلا أبوجعفر (علیه السلام) هذه الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً (صلی الله علیه و آله) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه: حي على خير العمل، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا.. فولَّى «نافع» من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً، فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك هذا، والله أعلم الناس حقاً حقاً، وهو ابن رسول الله حقاً، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً».

أقول: نصت أكثر الأحاديث على صلاة النبي (صلی الله علیه و آله) بالأنبياء (علیهم السلام) في البيت المعمور

ص: 271

في السماء الرابعة، وقد يوهم هذا الحديث بأن الصلاة في بيت المقدس وهو بعيد.

وفي نوادر المعجزات/72، ونحوه في العياشي: 2/128 عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «فلما أقام الصلاة قال: يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لايعلم عددهم إلا الله، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم جميعاً ركعتين، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر: يا محمد: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. قال: فالتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى من خلفه من الأنبياء فقال: على ما تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن لكل نبي منا خلفا وصياً من أهله، ما خلا هذا فإنه لا عصبة له، يعنون بذلك عيسى بن مريم (علیه السلام) . ونشهد أنك سيد النبيين، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا».

وفي مائة منقبة لابن أحمد القمي/150، عن ابن عباس: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء انتهى بي المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة، فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر فقال جبرئيل هذا هو البيت المعمور، خلقه الله تعالى قبل السماوات والأرضين بخمسين ألف عام، قم يا محمد فصلِّ إليه.. ثم أمر الله تعالى حتى اجتمع جميع

الرسل والأنبياء».

وروى الحاكم في المعرفة/96، عن عبدالله بن عمر: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): يا عبدالله أتاني ملك فقال: يا محمد، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا، على ما بعثوا؟ قال قلت: على ما بعثوا؟ قال على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب! قال الحاكم: ولم نكتبه إلا عن بن مظفر، وهو عندنا حافظ ثقةٌ مأمون».

وعن أبي هريرة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «لما أسري بي ليلة المعراج اجتمع عليَّ الأنبياء في السماء فأوحى الله إلي: سلهم يا محمد بماذا بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي بن أبي طالب». رواه في خصائص الوحي المبين/170، عن الإستيعاب. وفي الطرائف/101، عن أبي نعيم، وفي ينابيع المودة: 2/246، عن أبي هريرة. ونهج الحق/183، عن ابن عبدالبر وغيره. ومنهاج الكرامة/ 130، وفي هامشه الصراط المستقيم 1/181، عن الثعلبي والزمخشري في

ص: 272

الكشاف: 4/94 والكنجي في كفاية الطالب/136. وأورده في نفحات الأزهار: 5/260 و 16/366، وردَّ في: 20/392 و396، على إنكار ابن تيمية وجود الحديث، وبحث سنده في مصادر السنة.

روى القمي في تفسيره: 1/246 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أول من سبق من الرسل إلى: بَلَى، محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء: تقدم يا محمد فقد وطأت موطئاً لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل! ولولا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه، فكان من الله عزوجل كما قال الله: قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أي بل أدنى».

وفي المحتضر/266، في حديث الجالوت النصراني: «فقال رسول الله: يا جالوت، ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله تعالى إليَّ أن: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا.. على ما بعثوا؟ فقلت لهم: على ماذا بعثتم؟قالوا: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريتكما. ثم أوحى إليَّ أن التفت إلى يمين العرش، فالتفت فإذا علي، والحسن، والحسين، وعلي، ومحمد، وجعفر، وموسى، وعلي، ومحمد، وعلي، والحسن، والمهدي، في ضحضاح من نور يُصلون. فقال الرب تعالى: هؤلاء الحجج أوليائي، وهذا منهم المنتقم من أعدائي. قال الجالوت فقلت: هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور».

19- حديث النبي (صلی الله علیه و آله) مع ملك الموت (علیه السلام)

في تفسير القمي: 2/168 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء رأيت ملكاً من الملائكة بيده لوح من نور، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئة الحزين، فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك الموت مشغول في قبض الأرواح. فقلت: أدنِني منه يا جبرئيل لأكلمه، فأدناني منه فقلت له: يا ملك الموت، أكل من مات أو هو ميت فيما بعد أنت تقبض روحه؟ قال: نعم. قلت: وتحضرهم بنفسك؟ قال: نعم، وما الدنيا كلها عندي

ص: 273

فيما سخرها الله لي ومكنني منها، إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار في الدنيا إلا وأدخلها في كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل البیت على ميتهم: لا تبكوا عليه، فإن لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد! فقال رسول الله: (صلی الله علیه و آله) كفى بالموت طامة يا جبرئيل! فقال جبرئيل: إنما بعد الموت أطم وأعظم من الموت».

وفي الكافي: 3/136 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على رجل من أصحابه وهو يجود بنفسه فقال: يا ملك الموت إرفق بصاحبي فإنه مؤمن، فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم يا محمد أني أقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول: ما هذا الجزع! فوالله ما تعجلناه قبل أجله، وما كان لنا في قبضه من ذنب! فإن تحتسبوا وتصبروا تؤجروا، وإن تجزعوا تأثموا وتوزروا، واعلموا أن لنا فيكم عودة ثم عودة! فالحذر الحذر إنه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدر ولا وبر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات، ولأنا أعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، ولو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتى يأمرني ربي بها! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنما يتصفحهم في مواقيت الصلاة، فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونحى عنه ملك الموت إبليس».

وفي نوادر المعجزات/66، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لمَّا عرج بي إلى السماء سلم عليَّ ملك الموت ثم قال لي: يا محمد ما فعل ابن عمك علي؟ قلت: وكيف سألتني عنه يا عزرائيل؟ قال: إن الله تعالى أمرني أن أقبض أرواح الخلائق كلهم إلا أنت وابن عمك، فالله تعالى يقبض أرواحكما بيده».

20- آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون

في تفسير القمي: 1/95، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيه ليلة أسريَ به إلى السماء، قال النبي (صلی الله علیه و آله): انتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا بورقة

ص: 274

منها تظل أمة من الأمم، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى الله عزوجل، فناداني ربي تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. فقلت أنا مجيباً عني وعن أمتي: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فقال الله: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. فقلت: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا. وقال الله: لا أؤاخذك، فقلت: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاتُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. البقرة: 285-286.

فقال الله تعالى: قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك.فقال الصادق (علیه السلام): ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حيث سأل لأمته هذه الخصال».

وفي المحاسن: 1/136 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لقد أسرى بي فأوحى الله إلي من وراء الحجاب ما أوحى، وشافهني من دونه بما شافهني، فكان فيما شافهني أن قال: يا محمد، من أذلَّ لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة، ومن حاربني حاربته، قال فقلت: يا رب ومن وليك هذا؟فقد علمت أنه من حاربك حاربته، فقال: ذلك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولورثتكما بالولاية».

21- كلم الله نبيه (صلی الله علیه و آله) في المعراج بصوت علي (علیه السلام)

عقيدتنا أن الله تعالى ليس كمثله شئ ولاتدركه الأبصار، ولا يخضع لقوانين المكان والزمان فهو خالقهما، ومعنى قوله: وكَلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً: أنه خلق صوتاً في شجرة أو في جبل، فكان موسى يسمع الصوت من جميع الجهات كما روي.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «فسبحان من توحد في علوه، فليس لشئ منه امتناع، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع، إجابته للداعين سريعة، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة. كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات، ولا شفةٍ ولا لهوات، سبحانه وتعالى عن الصفات، فمن زعم أن إلهَ الخلق محدود، فقد جهل الخالق المعبود». التوحيد للصدوق/79 وفتح الباري: 13/383.

ص: 275

ولا بد أن يكون الصوت الذي كلم الله به موسى صوتاً يحبه موسى، وقد روي أنه صوت أخيه هارون (علیهما السلام)، وكذلك الأمر في نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) عندما عرج به، فقد روى الفريقان أن الله تعالى كلمه بصوت علي (علیه السلام) .

روى الموفق الخوارزمي في المناقب/78، عن عبدالله بن عمر قال: «سمعت رسول الله وسئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ فقال: خاطبني بلغة علي بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أنت أم علي؟ فقال يا أحمد أنا شئ ليس كالأشياء، لا أقاس بالناس، ولا أوصف بالشبهات، خلقتك من نوري وخلقت علياً من نورك، فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد في قلبك أحب إليك من علي بن أبي طالب. خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك». ومنهاج الكرامة/90.

وفي المحتضر للحسن بن سليمان الحلي/ 146، عن ابن عباس من حديث المعراج: «فناداني ربي: يا أحمد! وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي في علو مكاني لقد اطلعت على سرك وما استكن في صدرك فلم أجد أحداً أحب إليك من علي في سرك فخاطبتك بلسانه، لتطمئن إلى الكلام وتهدأ في الخطاب، ولو خاطبتك بلسان الجبروت لما استطعت أن تسمع».

وفي الإحتجاج: 1/230 عن القاسم بن معاوية قال: «قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبوبكر الصديق!فقال: سبحان الله غيروا كل شئ حتى هذا! قلت: نعم. قال: إن الله عزوجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أميرالمؤمنين، ولما خلق الله عزوجل الماء كتب في مجراه: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أميرالمؤمنين... فإذا قال أحدكم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل علي أميرالمؤمنين».

وقال في الصحيح من السيرة: 3/15: «وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة، فلايبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا من أنه قد سمي صديقاً حينما صدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قضية الإسراء، ولا لما يذكرونه من أن ملكاً كان يكلم رسول الله

ص: 276

حين المعراج بصوت أبي بكر «الدر المنثور: 4/155». وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة من تلك الروايات. والصحيح أنه كلمه بصوت علي (علیه السلام)».

22- أراه الله تعالى مكانة المؤمن عنده

في الكافي: 2/352 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري بالنبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي. وما ترددت عن شئ أنا فاعله كترددي عند وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته».

23- تشريع الصلاة في المعراج

اتفقت المصادر على أن تشريع فريضة الصلاة اليومية كان في معراج النبي (صلی الله علیه و آله)، ويبدو أنه في أول معراج له، ففي تهذيب الأحكام: 2/60 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذن جبرئيل (علیه السلام) وأقام فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصفَّ الملائكة والنبيون خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

قال فقلنا له: كيف أَذَّنَ؟ فقال: الله أكبر الله أكبر،أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله لا إله إلا الله.

والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، بين حي على

ص: 277

خير العمل حي على خير العمل، وبين الله أكبر الله أكبر، فأمر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلالاً، فلم يزل يؤذن بها حتى قبض الله رسوله (صلی الله علیه و آله)».

وفي نوادر المعجزات/72 والعياشي: 2/128: «فلما أقام الصلاة قال: يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لايعلم عددهم إلا الله، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فصلى بهم جميعاً ركعتين، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر: يا محمد: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. قال: فالتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى من خلفه من الأنبياء فقال: على مَ تشهدون؟ قالوا: نشهد أنك سيد النبيين، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا».

أقول: ما تقدم هوالأذان في مذهبنا، وقد حذف منه عمر«حي على خير العمل»لكن ابنه عبدالله كان يؤذن بها ويقول: هو الأذان الأول! «نيل الأوطار: 2/19». أما أشهد أن علياً ولي الله، فنقولها استحباباً بعد الشهادة بالنبوة، لأنه يستحب كلما شهدت بالنبوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تشهد بالولاية لعلي والعترة:.

قال السيد الخوئي (رحمة الله) «صراط النجاة: 3/318» في جواب سؤال: هل وردت رواية من المعصوم باستحبابها؟ فقال: الرواية واردة باستحباب الشهادة بالولاية له (علیه السلام) متى شُهد بالنبوة لا في خصوص الأذان والإقامة، ولذا لا نعدها جزءً منهما». وقال السيد السيستاني «منهاج الصالحين/191»: «الشهادة لعلي (علیه السلام) بالولاية وإمرة المؤمنين مكملة للشهادة بالرسالة ومستحبة في نفسها،وإن لم تكن جزء من الأذان ولا الإقامة، وكذا الصلاة على محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) عند ذكر اسمه الشريف».

كما روت مصادر الطرفين أن الله تعالى فرض على النبي (صلی الله علیه و آله) خمسين صلاة كل يوم ثم قال له موسى (صلی الله علیه و آله) إن أمتك لاتطيق، فاطلب من الله تعالى أن يخفف عنها فطلب النبي (صلی الله علیه و آله) من ربه فجعلها خمس صلوات.

ففي الفقيه: 1/198: «عن زيد بن علي (رحمة الله) قال: سألت أبي سيد العابدين (علیه السلام) فقلت له: يا أبه أخبرني عن جدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما عرج به إلى السماء وأمره ربه عزوجل بخمسين

ص: 278

صلاة، كيف لم يسأله التخفيف عن أمته حتى قال له موسى بن عمران (علیه السلام) إرجع إلى ربك فسله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؟ فقال: يا بني، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لايقترح على ربه عزوجل ولا يراجعه في شئ يأمره به، فلما سأله موسى (علیه السلام) ذلك وصار شفيعاً لأمته إليه لم يجز له رد شفاعة أخيه موسى (علیه السلام)، فرجع إلى ربه يسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات. قال: فقلت له: يا أبه، فلم لم يرجع إلى ربه عزوجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى (علیه السلام) أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف؟ فقال: يا بني، أراد (صلی الله علیه و آله) أن يحصل لأمته التخفيف مع أجرخمسين صلاة، لقول الله عزوجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا.ألا ترى أنه (صلی الله علیه و آله) لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد، إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إنها خمس بخمسين: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ للَّعَبِيدِ. قال فقلت له: يا أبه، أليس الله تعالى ذكره لا يوصف بمكان؟ فقال: بلى،تعالى الله عن ذلك. فقلت: فما معنى قول موسى (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إرجع إلى ربك؟ فقال: معناه معنى قول إبراهيم (علیه السلام): إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ، ومعنى قول موسى (علیه السلام): وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لتَرْضَى طه/84، ومعنى قوله عزوجل: فَفِرُّوا إلى الله، يعني حجوا إلى بيت الله. يا بُني، إن الكعبة بيت الله فمن حج بيت الله فقد قصد إلى الله، والمساجد بيوت الله فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه، والمصلي ما دام في صلاته فهو واقف بين يدي الله جل جلاله، وأهل موقف عرفات هم وقوف بين يدي الله عزوجل. وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها، فقد عرج به إليه، ألا تسمع الله عزوجل يقول: تَعْرُجُ الملَائكةُ والرُّوحُ إليْه. ويقول عزوجل في قصة عيسى (علیه السلام): بَلْ رَفَعَهُ الله إليْه، ويقول عزوجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».

ملاحظات

1. شرح الإمام زين العابدين (علیه السلام) لولده زيد رضوان الله عليه، في هذا الحديث سبب عدم اقتراح النبي (صلی الله علیه و آله) على ربه، وسبب قبوله اقتراح موسى (علیه السلام)، ثم معنى

ص: 279

رجوعه إلى ربه أي إلى المكان الذي كلمه منه.وقد جعله المجسمة مكان الله تعالى!

2. نلاحظ أن الشيعة والسنة رووا أن تشريع الصلاة بصورتها الفعلية تكوَّن من أحداث مراسم خضوع النبي (صلی الله علیه و آله) لربه في معراجه.

ونلاحظ أن أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) أكثر دقة وتفصيلاً، ومنطقية.

24- ردَّ أهل البیت (علیهم السلام) مزا عم الآخرين في تشريع الأذان

ردَّت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) رواية السلطة بأن تشريع الأذان كان بسبب أن بعض الصحابة وهو عمر بن الخطاب أو أبيُّ بن كعب أو عبدالله بن زيد، رأى الأذان في منامه، فاقترحه على النبي (صلی الله علیه و آله) فأدخله في الإسلام!

ففي الكافي: 3/482 عن عمر بن أذينة أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال له: «ما تروي هذه الناصبة؟ فقلت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم؟ فقلت: إنهم يقولون: إن أبي بن كعب رآه في النوم! فقال: كذبوا فإن دين الله عزوجل أعز من أن يرى في النوم!قال: فقال له سدير الصيرفي: جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً، فقال أبوعبدالله (علیه السلام): إن الله عزوجل لما عرج بنبيه إلى سماواته السبع، أما أولاهن فبارك عليه، والثانية علمه فرضه، فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور، كانت محدقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين. أما واحد منها فأصفر، فمن أجل ذلك اصفرَّت الصفرة، وواحد منها أحمر فمن أجل ذلك احمرت الحمرة، وواحد منها أبيض، فمن أجل ذلك ابيضَّ البياض، والباقي على ساير عدد الخلق من النور والألوان، في ذلك المحمل حلق وسلاسل من فضة.

ثم عرج به إلى السماء، فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل (علیه السلام): الله أكبر الله أكبر. ثم فتحت أبواب السماء، واجتمعت الملائكة فسلمت على النبي (صلی الله علیه و آله) أفواجاً.. الحديث..». وذكر فيه تشريع الأذان والصلاة.

كما روينا أن التكبيرات السبع المستحبة في أول الصلاة، جاءت من تكبير

ص: 280

النبي (صلی الله علیه و آله) عندما تخطى الحجب السبع. ثم من تعليمه التكبير للحسين (علیه السلام) لما كبَّر أمامه يعلمه التكبير، حتى وصل إلى التكبيرة السابعة، فكبر الحسين (علیه السلام) وانفتح لسانه. راجع: الكافي: 3/487، علل الشرائع: 2/332 والمختلف للعلامة الحلي: 2/186.

وقد يقال: كيف يشرع الله تعالى استحباب التكبير للأمة ست مرات قبل تكبيرة الإحرام، بسبب أن الحسين (علیه السلام) لم ينفتح لسانه بالتكبير إلا في المرة السابعة؟ وجوابه: كما شرع الله تعالى وجوب السعي في الحج، بسبب سعي هاجر3بين الصفا والمروة تطلب الماء! والحسين (علیه السلام) أفضل من هاجر3.

25- أخبر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) أنه سيمتحنه في ثلاث

في كامل الزيارات/547، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما أسري بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى السماء قيل له: إن الله تبارك وتعالى يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك؟

قال: أسلِّمُ لأمرك يا رب، ولا قوة لي على الصبر إلا بك، فما هن؟

قيل له: أولاهن: الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك، لأهل الحاجة!

قال: قبلت يا رب ورضيت وسلمت، ومنك التوفيق والصبر.

وأما الثانية، فالتكذيب والخوف الشديد، وبَذْلُكَ مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك، والصبر على ما يصيبك منهم ومن أهل النفاق من الأذى والألم في الحرب والجراح.قال: قبلت يا رب ورضيت وسلمت، ومنك التوفيق والصبر.

وأما الثالثة، فما يلقي أهل بيتك من بعدك من القتل، أما أخوك علي فيلقى من أمتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد والظلم، وآخر ذلك القتل، فقال: يا رب قبلت ورضيت، ومنك التوفيق والصبر.

قال: وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها، وتضرب وهي حامل، ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن، ثم يمسها هوان وذل، ثم لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب!

ص: 281

قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قبلت يا رب وسلمت، ومنك التوفيق للصبر. ويكون لها من أخيك ابنان، يقتل أحدهما غدراً ويسلب ويطعن، تفعل به ذلك أمتك، قلت: يا رب قبلت وسلمت، إنا لله وإنا إليه راجعون، ومنك التوفيق للصبر. وأما ابنها الآخر فتدعوه أمتك للجهاد ثم يقتلونه صبراً، ويقتلون ولده ومن معه من أهل بيته ثم يسلبون حرمه، فيستعين بي وقد مضى القضاء مني فيه بالشهادة له ولمن معه، ويكون قتله حجة على من بين قطريها، فيبكيه أهل السماوات وأهل الأرضين جزعاً عليه، وتبكيه ملائكة لم يدركوا نصرته.

ثم أخرج من صلبه ذكراً به أنصرك، وإن شبحه عندي تحت العرش يملأ الأرض بالعدل ويطبقها بالقسط، يسير معه الرعب، يقتل حتى يُشك فيه.

قلت: إنا لله.فقيل: إرفع رأسك، فنظرت إلى رجل أحسن الناس صورة وأطيبهم ريحاً، والنور يسطع من بين عينيه ومن فوقه ومن تحته، فدعوته فأقبل إليَّ وعليه ثياب النور وسيماء كل خير، حتى قبَّل بين عينيَّ، ونظرت إلى الملائكة قد حفوا به لايحصيهم إلا الله عزوجل. فقلت: يا رب لمن يغضب هذا، ولمن أعددت هؤلاء، وقد وعدتني النصر فيهم فأنا أنتظره منك.

وهؤلاء أهلي وأهل بيتي وقد أخبرتني مما يلقون من بعدي، ولئن شئت لأعطيتني النصر فيهم على من بغى عليهم، وقد سلمت وقبلت ورضيت، ومنك التوفيق والرضا، والعون على الصبر. فقيل لي: أما أخوك فجزاؤه عندي جنة المأوي نزلاً، بصبره، أفلج حجته على الخلائق يوم البعث، وأوليه حوضك يسقي منه أولياءكم ويمنع منه أعداءكم، واجعل عليه جهنم برداً وسلاماً، يدخلها ويخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من المودة، وأجعل منزلتكم في درجة واحدة في الجنة. وأما ابنك المخذول المقتول، وابنك المغدور المقتول صبراً، فإنهما مما أزين بهما عرشي، ولهما من الكرامة سوى ذلك مما لا يخطر على قلب بشر، لما أصابهما من البلاء، فعليَّ فتوكل. ولكل من أتى قبره في الخلق من الكرامة، لأن زواره زوارك وزوارك زواري وعليَّ كرامة زواري، وأنا أعطيه ما سأل، وأجزيه جزاء يغبطه من نظر إلى عظمتي إياه، وما

ص: 282

أعددت له من كرامتي.

وأما ابنتك فإني أوقفها عند عرشي فيقال لها: إن الله قد حكمك في خلقه فمن ظلمك وظلم ولدك فاحكمي فيه بما أحببت، فإني أجيز حكومتك فيهم..الخ.».

26- مكانة عترة النبي (صلی الله علیه و آله)

من العناصر البارزة في أحاديث المعراج في مصادرنا والى حدٍّ في مصادر أتباع السلطة: المكانة الخاصة لعترة النبي (صلی الله علیه و آله) عند الله تعالى.

ويكفينا من مصادرهم الحديث الذي نص على أن إسم النبي (صلی الله علیه و آله) عند الله تعالى مقرونٌ بإسم علي والأئمة من عترته:، تفسيراً لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. «الأنفال 62». قال القاضي عياض في الشفاء: 1/174: «وروى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي»! ورواه الحسكاني بطرق متعددة في شواهد التنزيل: 1/298، في: 1/293و294، عن أنس و/295، عن جابر، /297، عن أبي الحمراء. والدر المنثور: 3/199 عن ابن عساكر عن أبي هريرة، وفي: 4/153، عن أنس، الخطيب في تاريخه: 11/173، عن أبي الحمراء، كذا ابن عساكر: 16/456، في: 42/336، عن جابر بن عبدالله، في/360، عن أبي هريرة و: 47/344، عن أنس..الخ.

وروته مصادرنا، كالصدوق في أماليه/284، عن أبي هريرة، وأبي الحمراء. والخزاز القمي في كفاية الأثر/74، كاملاً، قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور فيهم علي بن أبي طالب وسبطيَّ وبعدهما تسعة أسماء: علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد ومحمد مرتين، وجعفر وموسى والحسن. والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب». ونحوه في/105، عن أبي أمامة.

وروى في كفاية الأثر/116، في أحداث حرب الجمل: «نزل أبوأيوب في بعض

ص: 283

دور الهاشمیين فجمعنا إليه ثلاثين نفساً من شيوخ أهل البصرة، فدخلنا إليه وسلمنا عليه وقلنا: إنك قاتلت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببدر وأحد المشركين، والآن جئت تقاتل المسلمين. فقال: والله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي: إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين قلنا: آلله إنك سمعت من رسول الله في علي؟ قال: سمعته يقول: علي مع الحق والحق معه، وهو الإمام والخليفة بعدي، يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وابناه الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة، إمامان إن قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما، والأئمة بعد الحسين تسعة من صلبه، ومنهم القائم الذي يقوم في آخر الزمان كما قمت في أوله ويفتح حصون الضلالة. قلنا: فهذه التسعة من هم؟ قال: هم الأئمة بعد الحسين خلف بعد خلف. قلنا: فكم عهد إليك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكون بعده من الأئمة؟ قال: اثنا عشر. قلنا: فهل سماهم لك؟ قال: نعم إنه قال (صلی الله علیه و آله): لما عُرج بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش فإذا هو مكتوب بالنور: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي. ورأيت أحد عشر إسماً مكتوباً بالنور على ساق العرش بعد علي، منهم الحسن والحسين وعلياً علياً علياً ومحمداً ومحمداً، وجعفراً وموسى والحسن، والحجة. قلت: إلهي من هؤلاء الذين أكرمتهم وقرنت أسماءهم باسمك؟ فنوديت: يا محمد هم الأوصياء بعدك والأئمة، فطوبى لمحبيهم والويل لمبغضيهم! قلنا: فما لبني هاشم؟ قال: سمعته يقول لهم: أنتم المستضعفون من بعدي. قلنا: فمن القاسطين والناكثين والمارقين؟ قال: الناكثين الذين قاتلناهم، وسوف نقاتل القاسطين والمارقين، فإني والله لا أعرفهم غير أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: في الطرقات بالنهروانات»!

وروى نحوه/136، عن حذيفة بن اليمان وفي آخره: «يا محمد إنهم هم الأوصياء والأئمة بعدك، خلقتهم من طينتك، فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب. قال حذيفة: ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي». ورواه في/224 و185 وشبيهه/216.

ص: 284

وطبيعي أن لا يقبل علماء السلطة أمثال هذه الأحاديث، لأنها تحكم على السقيفة بأنها مؤامرة ضد النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته!

ونلاحظ ضعف تضعيفهم لهذه الأحاديث مما كتبه اثنان من أكبر علمائهم المتخصصين في الجرح والتعديل! فقد كتب الذهبي «ميزان الإعتدال: 1/530»: «الحسين بن إبراهيم البابي.. وله حديث آخر واه: ابن عدي، عن عيسى بن محمد، عنه، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلى ونصرته بعلي. وهذا اختلاق».

وروى الذهبي نحوه في: 2/76، عن أشعث ابن عم الحسن بن صالح..«قال

أبو نعيم الحافظ: أخبرنا أبو علي بن الصواف... حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة فساقه بنحوه... ساقه الخطيب عن أبي نعيم في ترجمة الحسن هذا. وقد روى الكسائي عن ابن فضيل وجماعة. وقال النسائي والدارقطني: متروك». انتهى.

وقال ابن حجر في لسان الميزان: 2/268: «عن أنس قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عُرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي. وهذا اختلاق بيِّن.. ورواه ابن عساكر في ترجمة الحسن بن أحمد ابن هشام السلمي بسنده إليه عن أبي جعفر محمد بن عبدالله البغدادي، حدثني محمد بن الحسن بباب الأبواب ثنا حميد الطويل فذكر مثله، وهو موضوع لا ريب فيه، لكني لا أدري من وضعه! وقال ابن عدي لما أخرجه: هذا حديث باطل والحسين مجهول. وقد ذكره عياض من وجه آخر رواه عن أبي الحمراء».انتهى.

أقول: رأيت أنهما ضعفا طريقاً أو طريقين للحديث، وغيَّبا الطرق العديدة الأخرى له، وهي لاتخفى على المتخصص أمثالهما!

على أن تضعيفهما لأشعث ابن عم صالح بن حي لاوجه له عندهما لأنه صحابي، وابن عمه الحسن بن حي إمام عندهما، وقد شهد الطبراني وأبو نعيم بأنه كان يفضل على ابن عمه الحسن بن صالح! المعجم الأوسط: 5/343 وحلية الأولياء: 7/256.

ثم لم يكتفوا برد الحديث بالإستنكار والحيلة، حتى وضعوا أحاديث تزعم أن

ص: 285

النبي (صلی الله علیه و آله) رأى في معراجه أسماء أبي بكر وعمر وعثمان مقرونة بإسمه الشريف!

قال في ميزان الإعتدال: 3/117: «وروى علي بن جميل عن جرير... عن ابن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبوبكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين. تابعه شيخ مجهول يقال له معروف بن أبي معروف البلخي، عن جرير».

ونقل ابن حجر في لسان الميزان: 4/209، عن ابن عدي وغيره أن هذا الحديث موضوع أو مسروق! قال: «حدث بالبواطيل عن ثقات الناس ويسرق الحديث. وقال الحاكم وأبو سعيد النقاش: روى عن عيسى بن يونس وجرير بن عبدالحميد بأحاديث موضوعة. وقال أبو نعيم: روى عن جرير وغيره المناكير». انتهى.

وهذا من تغطيتهم لبطلان تكذيبهم لحديث «أيدته بعلي..» فهم يأتون بحديث موضوع في مدح خلفائهم الثلاثة ويردونه، ليردوا معه الأحاديث في حق علي (علیه السلام) أو يجعلوه مساوياً لحديثهم المكذوب! راجع: نفحات الأزهار: 5/234 و240، الشهادة بالولاية في الأذان/29، تراثنا: 59/19، الصحيح من السيرة: 3/15 والمراجعات/249.

27- المزيد من أحاديث مقام النبي وآله (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 2/46: «قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصةً وجعل له نوراً وجعل له حصناً وجعل له ناصراً، فأما عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة، وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (علیه السلام) لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثم هبط بي إلى أهل الأرض، فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله عزوجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي، فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة. ألا فلو أن الرجل من أمتي عبدالله عزوجل عمره أيام الدنيا ثم لقي الله عزوجل مبغضا لأهل بيتي

ص: 286

وشيعتي، ما فرج الله صدره إلا عن النفاق».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/237، عن آبائه:: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني! قال علي (علیه السلام): فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال (صلی الله علیه و آله): يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا!

يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا.

يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم (علیه السلام) ولا حواء، ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض! فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده، ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظمت أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون وأنه منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا! فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهه يجب أن نعبد معه أو دونه! فقالوا: لا إله إلا الله. فلما شاهدوا كبر محلنا كبَّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به! فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة، فقلنا: لا حول ولا قوه إلا بالله، لتعلم الملائكة أنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله. فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة، قلنا: الحمد لله، لتعلم الملائكة ما يستحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه، فقالت الملائكة: الحمد لله. فبنا اهتدوا إلى معرفه توحيد الله عزوجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.

ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم لله عزوجل عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة، وقد سجدوا لآدم كلهم

ص: 287

أجمعون. وإنه لما عُرج بي السماء أذَّنَ جبرئيل مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد، فقلت لجبرئيل: أتقدم عليك؟ قال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه وملائكته أجمعين وفضلك خاصه. قال: فتقدمت فصليت بهم ولا فخر، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلفَ عني، فقلت له: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟! فقال: يا محمد انتهاء حدي الذي وضعني الله عزوجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعديَّ حدود ربي جل جلاله، فزخَّ بي النور زخة حتى انتهيت إلى ما شاء الله عزوجل من علو مكانه، فنوديت فقلت: لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فأعبد وعليَّ فتوكل فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي. لك ولمن تبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.فقلت: يا رب ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثني عشر نوراً في كل نور سطر أخضر عليه إسم وصيٍّ من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهدي أمتي، فقلت: يا رب هؤلاء أوصيائي بعدي؟ فنوديت: يا محمد هؤلاء أوصيائي وأحبائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك.

وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملكنه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرن له الرياح، ولأذللن له السحاب الصعاب، ولأرقينه في الأسباب، ولأنصرنه بجندي، ولأمدنه بملائكتي، حتى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمن ملكه، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/60، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء أوحى إلى ربي جل جلاله فقال: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطَّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبياً، وشققت لك من إسمي إسماً، فأنا المحمود

ص: 288

وأنت محمد. ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً وجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأباذريتك، وشققت له إسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى وهو علي. وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي المقربين.

يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي! يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربي، فقال عزوجل: إرفع رأسك فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، والحجة بن الحسن قائم في وسطهم كأنه كوكب دري! قلت: رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحل حلالي ويحرم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحة لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما، فلفتنةُ الناس بهما يومئذ أشد من فتنه العجل والسامري».

وكمال الدين/252. وبعضه غيبة الطوسي/147 والعلل: 1/5.

وفي كتاب التوحيد للصدوق/117: «عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث إن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمد (صلی الله علیه و آله) على جميع خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عزوجل: من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال: إن الذين يبايعونك إنما

يبايعون الله يد الله فوق أيديهم. وقال النبي (صلی الله علیه و آله): من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله. إن درجة النبي (صلی الله علیه و آله) في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى. قال: فقلت له: يا ابن رسول الله

ص: 289

فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (علیه السلام): يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته، وقال الله عزوجل: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك. وقال عزوجل: كل شئ هالك إلا وجهه. فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه:في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة. وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله): من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة. وقال (علیه السلام): إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني. يا أبا الصلت إن الله تبارك و تعالى لا يوصف بمكان، ولا تدركه الأبصار والأوهام.

فقال قلت له: يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد دخل الجنة، ورأى النار لما عرج به إلى السماء، قال فقلت له: إن قوماً يقولون إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟

فقال (علیه السلام): ما أولئك منا ولا نحن منهم. من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي (صلی الله علیه و آله) وكذبنا، ولا من ولايتنا على شئ، ويخلد في نار جهنم، قال الله عزوجل: هذه جهنم التي يكذب بها، المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن.

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة (علیها السلام)، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». والعيون: 2/ 106 وأمالي الصدوق/545.

وروى في المحاسن: 1/180 وفضائل الشيعة/35، مشاهدة النبي (صلی الله علیه و آله) للجنة، وتفسير قوله تعالى: ما أخفي لهم من قرة أعين. وروى في المحتضر/78، قول الملائكة للنبي (صلی الله علیه و آله): «أنتم أول خلق خلقه الله...فلما خلقنا كنا نمر بأرواحكم فنسبح بتسبيحكم،ونحمد بتحميدكم، ونهلل بتهليلكم ونكبر بتكبيركم، ونقدس بتقديسكم، ونمجد بتمجيدكم».

وفي أمالي الصدوق/731: «ناداني ربي جل جلاله: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربك،

ص: 290

فلي فاخضع، وإياي فاعبد، وعليَّ فتوكل، وبي فثق، فإني قد رضيت بك عبداً وحبيباً ورسولاً ونبياً، وبأخيك علي خليفة... وبك وبه وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم أعمر أرضي بتسبيحي وتهليلي وتقديسي وتكبيري وتمجيدي، وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي، وبه أجعل كلمة الذين كفروا بي السفلى وكلمتي العليا، وبه أحيي عبادي وبلادي بعلمي، وله أظهر الكنوز والذخائر بمشيئتي، وإياه أظهر على الأسرار والضمائر بإرادتي، وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري وإعلان ديني، ذلك وليي حقاً، ومهدي عبادي صدقاً».

وفي نوادر المعجزات/74 وأمالي الطوسي/343 و354، عن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء، وصرت إلى سدرة المنتهى، أوحى الله إلي: يا محمد، قد بلوت خلقي، فمن وجدت أطوعهم؟ قلت: يا رب علياً. قال: صدقت يا محمد. ثم قال: هل اخترت لأمتك خليفة من بعدك، يعلمهم ما جهلوا من كتابي ويؤدي عني؟ قلت: اللهم اختر لي فإن اختيارك خير من اختياري. قال: قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفة ووصياً، فإني قد نحلته علمي وحلمي، وهو أميرالمؤمنين حقاً، لم ينلها أحد قبله وليست لأحد بعده».

وفي أمالي الصدوق/375، أن الله تعالى قال لنبيه (صلی الله علیه و آله): «إن علياً إمام أوليائي، ونور لمن أطاعني...فلما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام)، خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى».

وفي أمالي الصدوق/433 و563 والطرائف/413: «نادى مناد من وراء الحجاب: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك عليٌّ، فاستوص به».

وفيه/566 711 والخصال/115: «كلمني ربي جل جلاله فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي. فقال: إن علياً حجتي بعدك على خلقي، وإمام أهل طاعتي».

وفي أمالي المفيد/173: «نوديت: يا محمد، إستوص بعلي خيراً، فإنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين يوم القيامة».

وفي أمالي الطوسي/295، أن الله أوحى اليه في علي (علیه السلام): «إقریٰ علي بن أبي طالب

ص: 291

أميرالمؤمنين السلام، فما سميت بهذا أحداً قبله ولا أسمي بهذا أحداً بعده».

وفي الخرائج: 2/811، أن الله خلق ملائكة بصورة النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي والأئمة (علیهم السلام) .

وروى الخزاز في كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر:/72، وما بعدها عدة أحاديث عن الصحابة، في تسمية النبي (صلی الله علیه و آله) للأئمة من عترته، وأنه رأى أنوارهم ومثالهم في معراجه.. منها قوله (صلی الله علیه و آله): «لما عرج بي إلى السماء وبلغت سدرة المنتهى ودعني جبرئيل (علیه السلام)، فقلت: حبيبي جبرئيل أفي هذاالمقام تفارقني؟ فقال: يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي. ثم زج بي في النور ما شاء الله، فأوحى الله إلي: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبياً ثم اطلعت ثانيةً فاخترت منها عليا فجعلته وصيك ووارث علمك والإمام بعدك، وأخرج من أصلابكما الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي، فلولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنة ولا النار. يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يا رب. فنوديت: يا محمد إرفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري. فقلت: يا رب من هؤلاء ومن هذا؟ قال: يا محمد هم الأئمة بعدك المطهرون من صلبك، وهو الحجة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويشفي صدور قوم مؤمنين. قلنا: بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجباً. فقال (علیه السلام): وأعجب من هذا أن قوماً يسمعون مني هذا ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ويؤذوني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي».

وفي النص على الأئمة الإثني عشر/74 و244، قال (صلی الله علیه و آله): «لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور، فيهم علي بن أبي طالب وسبطيّ، وبعدهما تسعة أسماء علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد محمد مرتين، وجعفر وموسى والحسن، والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء

ص: 292

من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب».

وفي/105، عن أبي أمامة وفيه: «فنوديت: يا محمد هم الأئمة بعدك والأخيار من ذريتك». وفي/110، عن واثلة، وفيه: «أتحب أن تراهم يا محمد؟ قلت: نعم يا رب. قال: إرفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار الأئمة بعدي اثنا عشر نوراً، قلت: يا رب أنوار من هي؟ قال: أنوار الأئمة بعدك أمناء معصومون».

وروى في/137، تفسير قوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ: «فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب. ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسلم يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي، وعقب عقبي، وفي زرعي، وزرع زرعي».

وفي/185، عن أم سلمة عن النبي (صلی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء نظرت فإذا مكتوب على العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته بعلي، ورأيت أنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وأنوار علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، ورأيت نور الحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري، فقلت: يا رب من هذا ومن هؤلاء؟ فنوديت يا محمد هذا نور علي وفاطمة وهذا نور سبطيك الحسن والحسين، وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهرون معصومون، وهذا الحجة يملأ الدنيا قسطا وعدلاً».

وفي شرح الأخبار: 2/415، أن الله تعالى أمر رسوله أن يبلغ السلام إلى علي (علیه السلام) . وقال في كنز الفوائد/259: «وقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأى في السماء لما عرج به ملكاً على صورة أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله، حدثني به من طريق العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي، ونقلته من كتابه المعروف بإيضاح دقائق النواصب، وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعمائة قال.».

وفي شرح الأخبار: 3/468، عن عمار، وفيه: «إني اصطفيتك لنفسي وانتجبتك

ص: 293

لرسالتي، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي، ثم الصديق الأكبر علي وصيك، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك، وابناك الحسن والحسين...».

28- رأى النبي (صلی الله علیه و آله) مستقبل أهل بيته (علیهم السلام)

في الكافي: 1/444 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين، وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته. إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة. قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم، وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات».

وفي قرب الإسناد/101، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء وانتهيت إلى سدرة المنتهى، قال: إن الورقة منها تظل الدنيا وعلى كل ورقة ملك يسبح الله، يخرج من أفواههم الدر والياقوت، تبصر اللؤلؤة مقدار خمسمائة عام، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى. فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا: يا محمد مرحباً بك. فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان قد اهتزت فرحاً لمجيئك، فسمعت الجنان تنادي: واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين».

29- العنف واللامعقول والمكذوبات في أحاديث المعراج!

يلفتك في المعراج أحاديث كثيرة يغلب عليها العامية، وأحاديث فيها عنف وقسوة، وأحاديث غير معقولة، كأنها منسوخة من مقولات اليهود عن ربهم وأنبيائهم، وأحاديث فيها تجسيم وتشبيه لله تعالى بخلقه!

وقد تتبعت حديث المرأة المعلقة بثدييها في جهنم، لأنها لم ترضع أولادها، فلم أجد ذلك في أحاديث أهل البیت (علیهم السلام)، لأن إرضاع الأم بنص القرآن مستحب وليس واجباً، فكيف يظلم الله تعالى المرأة التي لم ترضع ابنها؟

وكذا حديث امتحان الله للنبي (صلی الله علیه و آله) بأقداح خمر ولبن وماء، وحديث رؤية

ص: 294

الأنبياء (علیهم السلام) في قبورهم يصلون، وكأن الآخرة فيها تكليف بالصلاة، وكأن الله عنده أزمة سكن فأسكن أنبياءه:في قبوررهم!

فهذه الروايات تدل على أن العامية والعنف جاءا من رواة السلطة، وقد يكون تسرب منهم شئ إلى مصادرنا. وهذه نماذج من أحاديثهم:

30- ربط النبي (صلی الله علیه و آله) البراق لئلا يهرب!

رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) ربط البراق كالدابة: «عن أنس أن رسول الله قال: فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطتُ الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء، ثم دخلتُ فصليتُ فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة». ابن شيبة: 8/443.

فهو يزعم أن البراق قد يفلت من يد النبي (صلی الله علیه و آله)!وأن الأنبياء لهم مكان في القدس يربطون به دوابهم! ثم يقول إن جبرئيل ثقب الصخرة وربط رسن البراق بثقبها!

قال ابن حجر في فتح الباري: 7/160: «ووقع في رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسري به، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق. ونحوه للترمذي»!

وروى ابن أبي شيبة: 8/445 نقاشاً للراوي زرّ بن حبيش،مع حذيفة قال: قيل لحذيفة: وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء؟ فقال: أوَكان يخاف أن تذهب وقد أتاه الله بها؟!

31- إمتحان للرسول (صلی الله علیه و آله) غير معقول!

قال البخاري في صحيحه: 5/224: «قال أبو هريرة أتيَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة أسريَ به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك»!

وفي الإكتفاء: 1/234: «أتيَ بثلاثة آنية، إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء،

ص: 295

قال: فسمعت قائلاً يقول: إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته»!

فكيف يخيره الله بين الحرام والحلال؟ وكيف يجوز أن يختار النبي (صلی الله علیه و آله) الخمر، وكيف يؤثِّر اختياره على أمته كلها، فتضل وتغوي، أو تغرق بالماء!

32- أكذوبة شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله)

زعمت أحاديث المعراج أن الله شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) قبل المعراج، وأخرج منه علقة الشر! وهي سهم الشيطان، ثم غسله فصار سليماً! وقد تناقضت روايتهم في ذلك فزعموا أنه شق صدره وهو عند حليمة السعدية، ورووا أن ذلك كان قبيل المعراج، وبينهما نحو أربعين سنة، ثم زعموأن شق الصدر كان أربع مرات.

قال مسلم في صحيحه: 1/101: «عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاه جبرئيل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.وكان ذلك هو سبب إرجاعه إلى أمه».

وقال البخاري: 8/203: «ليلة أسري برسول الله (صلی الله علیه و آله) من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه، ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه، ثم أطبقه، ثم عرج

ص: 296

به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: فمرحباً به وأهلاً».

وفي عمدة القاري بشرح البخاري: 16/116: «كان نائماً بين عمه حمزة وابن عمه جعفر بن أبي طالب. قوله: وأوسطهم: هو النبي (صلی الله علیه و آله)». وقال شاعرهم:

لقد شُقَّ صدرٌ للنبي محمد *** مراراً لتشريف وذا غاية المجد

فأولى له التشريف فيها مؤثلٌ *** لتطهيره من مضغة في بني سعد

وثانيةً كانت له وهو يافع *** وثالثةً للمبعث الطيب الند

ورابعة عند العروج لربه *** وذا باتفاق فاستمع يا أخا الرشد

وخامسة فيها خلاف تركتها *** لفقدان تصحيح لها عند ذي النقد

نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز لرفاعة الطهطاوي/56.

وعقيدتنا أن ذلك كله مكذوب، وأن الله تعالى صفَّاه واصطفاه وطهره منذ خلقه في الدنيا وقبل ذلك، ولا نقبل أحاديث شق الصدر جملةً وتفصيلاً.

33- الأنبياء يصلون في قبورهم

رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى أنبياء يصلون في قبورهم: «قال: ليلة أسري بي مررت على موسى وهو يصلي في قبره». مسند أحمد: 5/59.

وكأن الله تعالى عنده أزمة سكن في الآخرة، مع أن جنته عرضها كعرض السماوات والأرض! ثم إن الموت ينهي التكليف فلا صلاة في الآخرة، والدنيا دار عملٍ ولا حساب والآخرة دار حسابٍ ولا عمل. لكن الراوي عامي جاهل!

34- النساء المعلقات بأثدائهن!

اشارة

زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ثم انطلق بي حتى مرَّ بي على نسوة معلقات بثديهن، تنهش ثديهن الحيات! قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن».تاريخ دمشق: 29/331.

ص: 297

وهذه عقوبة ظالمة تخالف نص القرآن، قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ! فالأم لها الحق أن لا ترضع طفلها، وأن تطلب على إرضاعه أجرة، فكيف يعذبها الله تعالى في الآخرة؟!

ثم كيف يمكن تعليق المرأة بثدييها؟!وهل هذه إلا قسوة من ذهن راوٍ بدوي؟!

وقال ابن هشام في السيرة: 2/273: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم».

ورواه الصالحي في سيرته على أنه منام للنبي (صلی الله علیه و آله)، فقال: 7/265: «روى الطبراني في الكبير: 8/156 برجال الصحيح، والبيهقي في كتاب عذاب القبر، والأصبهاني في الترغيب، عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد صلاة الصبح فقال: إني رأيت رؤيا هي حق تعقلونها، أتاني جبريل (علیه السلام) فأخذ بيدي.. ثم انطلقنا فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن، مصوبة رؤوسهن تنهش أثداءهن الحيَّات! فقلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يمنعن أولادهم من ألبانهن»!

وفي تفسير عبدالرزاق: 2/368 وتفسير الطبري: 15/17 وتفسير الثعلبي: 6/66: «ثم نظرت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن!قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هن اللائي يزنين ويقتلن أولادهن».

وفي سيرة ابن هشام: 2/275: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم».

رواية وحيدة في مصادرنا

روت مصادرنا رواية واحدة عن النساء المعلقات في جهنم، أوردها الصدوق (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/13 قال: «حدثنا علي بن عبدالله الوراق رضيالله عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسني، عن محمد بن علي الرضا، عن أبيه الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه

ص: 298

أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «دخلت أنا وفاطمة على رسول الله فوجدته يبكى بكاءً شديداً، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك؟ فقال: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد، فأنكرت شأنهن فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن. ورأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغ رأسها. ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها ورأيت امرأة معلقة بثدييها. ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها والنار توقد من تحتها. ورأيت امرأة قد شد رجلاها إلى يديها وقد سلط عليها الحيات والعقارب. ورأيت امرأة صماء عمياء خرساء في تابوت من نار، يخرج دماغ رأسها من منخرها، وبدنها متقطع من الجذام والبرص. ورأيت امرأة معلقة، برجليها تَنُّور من نار.ورأيت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاريض من نار. ورأيت امرأة تحرق وجهها ويداها وهي تأكل أمعاءها. ورأيت امرأة رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، وعليها ألف ألف لون من العذاب. ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار!

فقالت فاطمة (علیها السلام): حبيبي وقرة عيني، أخبرني ما كان عملهن وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب؟ فقال: يا بنيتي، أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال. وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها.

وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها. وأما المعلقة برجليها فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها. وأما التي تأكل لحم جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس. والتي شُد يداها إلى رجليها وسلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف، وكانت تستهين بالصلاة.

وأما الصماء العمياء الخرساء، فإنها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق زوجها.

وأما التي تقرض لحمها بالمقاريض، فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال.

ص: 299

وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وتأكل أمعاءها، فإنها كانت قوادة.

وأما التي كان رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، فإنها كانت نمامة كذابة.

وأما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، فإنها كانت قينة نواحة حاسدة. ثم قال (علیه السلام) ويل لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضيَ عنها زوجها».

أقول: لا يكفي رواية الصدوق (رحمة الله) لهذا الحديث للوثوق به، فهو أولاً من مروياته عن مشايخ بغداد، وثانياً في سنده سهل بن زياد الآدمي، وقد اتهمه بعض علمائنا بأنه ضعيف كذاب، ووثقه جماعة من المتأخرين، لكن حتى لو صح مروياته فلا يمكن قبول الحديث بل لانشك في أنه موضوع. وثالثاً لا يمكن قبول متنه لأنه لا يعقل أن يعاقب الله تعالى بهذا العذاب الزوجة التي لم ترضع ابنها كما في بعض رواياته، أو لا تطيع زوجها في المقاربة! «وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها».

35- نماذج أخرى من رواياتهم المكذوبة في المعراج

1. أخروا وقت المعراج إلى قبيل هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) لأجل تصحيح كلام عائشة! فقد قال القاري في شرح الشفا: 1/222 و393: «ذكرالنووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء، على أن الإسراء والمعراج كان بعد البعثة بستة عشر شهراً». لكن رواة السلطة أخروه لأن عائشة قالت إن بيت خديجة في الآخرة من قصب، لأنها لم تصل، والصلاة شرعت في المعراج، فيكون بعد وفاتها.

قال في فتح الباري: 7/154: «تقدم أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة». وتقدم أن بشارة النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام): بيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب. ولا ذكر فيه للقصب! فضائل الصحابة/75 للنسائي وسنن النسائي: 5/94، الجامع الصغير: 2/247 وتاريخ الذهبي: 1/238.

لكن عائشة جعلته بيتاً من قصب، وبررته بأن خديجة ماتت قبل أن تصلي! قالت: «ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): رأيت لخديجة بيتاً من قصب،

ص: 300

لاصخب فيه ولا نصب». فتح الباري: 1/27.

2- أَعْطَوْا أبابكر لقب الصدِّيق، وجعلوا سببه أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما عُرج به أخبر المشركين فكذبوه وكذبه قسم من المسلمين! لكن أبابكرصدقه فسمي الصديق! «فحدثهم، فمن بين مُصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً، وارتد ناس ممن كان آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قال: أتصدقه على ذلك؟ قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق». تخريج الأحاديث والآثار: 2/256، تاريخ الخلفاء/29، عن الحاكم عن عائشة وجَوَّدَهُ، الرياض النضرة: 1/404، الكشاف: 2/437، الإستيعاب:3/966، تفسير البغوي: 3/96، البيضاوي: 3/430، أبي حيان: 6/6، أبي السعود: 5/155وغيرها.

ولكي يصح ذلك جعلوا إسلام أبي بكر قبل المعراج! أو أخروا وقت المعراج ليكون بعد إسلام أبي بكر! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبابكر أسلم متأخراً، فقال ابنه محمد: «قلت لأبي: أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاماً». الطبري: 2/60.

ورووا ما يدل على أن إسلامه كان في السنة السابعة أو بعدها، وأن شخصاً من قبيلة أسد كان يربطه هو وطلحة بحبل ويحبسهما ويعذبهما فسميا القرينين، لأن قبيلة تيم ملحقة أو متحالفة مع بني أسد عبدالعزى. الإصابة: 6/77.

وروى البخاري: 3/59 عن عائشة، أن أبابكر خرج مهاجراً خوفاً من قريش «حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدَّغِنَّة» فأجاره، وهو سيد الأحابيش القارة أي الرماة: «فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبابكر، وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبابكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن»

ثم ذكرت أنه رد إلى ابن الدغنة جواره قبيل هجرته إلى المدينة.

3. قال القاضي عياض في الشفاء: 1/174: «وروى ابن قانع القاضي عن

أبي الحمراء قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي»!

ص: 301

فوضعوا مقابله: «ما مررت بسماء إلا وجدت إسمي فيها مكتوباً: محمد رسول الله، أبوبكر الصديق...قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ليلة أسرى به إن قومي لايصدقوني، فقال له جبريل: يصدقك أبوبكر وهو الصديق». مجمع الزوائد: 9/41.

لكن بعض علمائهم اعترف بأنه من موضوعات عبدالله بن إبراهيم ومحمد بن عبدالله الهلالي البصري! راجع الغدير: 5/303 والصحيح: 4/44.

ويطول الكلام لو أردنا استعراض رواياتهم الكثيرة الموضوعة عن المعراج.

ص: 302

الفصل السادس عشر: أول من أسلم و أول من أعلن إسلامه

1- أول من أسلم وأعلن إسلامه: عليٌّ وخديجة (علیهما السلام)

أ. أول من أسلم علي وخديجة وجعفر، ثم أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن ينذر عشيرته الأقربين: روت مصادر الطرفين متواتراً عن علي قوله (علیه السلام): «صليت قبل الناس بسبع سنين» «ابن ماجة: 1/44، الحاكم: 3/111. وفي الترمذي: 5/304»: «بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين، وصلى وعلي (علیه السلام) يوم الثلاثاء»! ورواه الحاكم: 3/112 وصححه.

وفي الأحوذي: 10/160: «فيه دليل على أن أول من أسلم من الذكور هو علي

رضيالله عنه». ومثله أبو يعلى: 1/348، والبدء والتاريخ/303، عن أبي رافع.

وقال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 3/1095: «وروى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال: استنبئ النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء. وقال زيد بن أرقم: أول من آمن بالله بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي بن أبي طالب...الخ.».

وحسَّنَه في مجمع الزوائد: 9/274: «عن ابن عباس قال: أسلم زيد بن حارثة بعد علي، فكان أول من أسلم بعده».والطبراني الكبير: 5/84، الطبري: 2/60، تهذيب الكمال: 5/52 وسير الذهبي: 1/216.

وقال ابن هشام: 1/163: «وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب رضيالله عنهما». وسير الذهبي 1/13وتاريخ دمشق 19/353.

ب . وبعد القرن الخامس أنكر علماء السلطة أن علياً (علیه السلام) أول من أسلم! ففي مقدمة ابن

ص: 303

الصلاح/178: «قال الحاكم: لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاماً. واستُنكر هذا من الحاكم»!

واستنكره علماء السلطة بعد القرن الخامس!أما قبله فكانوا متفقين مجمعين عليه!

قال في الصحيح من السيرة: 2/315: «إن أول من أسلم واتبع وصدق وآزر وناصر، هو أميرالمؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أبنائه الأئمة الطاهرين. وأورد العلامة الأميني في الغدير: 3/95، أقوالاً لعشرات من كبار الصحابة والتابعين وغيرهم من الأعلام، وعشرات من المصادر غير الشيعية، تؤكد أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) هو أول الأمة إسلاماً».

وقال المناوي في فيض القدير: 4/468: «علي أخي في الدنيا والآخرة: كيف وقد بُعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الإثنين فأسلم وصلى يوم الثلاثاء، فمكث يصلي مستخفياً سبع سنين، كما رواه الطبراني عن أبي رافع. وفي أوسط الطبراني عن جابر مرفوعاً: مكتوب على باب الجنة لاإله إلا الله محمد رسول الله علي أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي سنة! وفيه: عن أبي أمامة أن رسول الله (صلی الله علیه و آله): آخى بين الناس وآخى بينه وبين علي.

قال الإمام أحمد: ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي! وقال النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما ورد في حق علي».

ويحق لنا هنا أن نتعجب من ابن حجر الذي يعرف حديث الدار وإنذار العشيرة الأقربين أول البعثة، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أعلن علياً (علیه السلام) أخاه ووزيره ووصيه، ويعرف الأحاديث الصحيحة المتقدمة في خلق نورالنبي (صلی الله علیه و آله) ونور علي (علیه السلام) قبل الخلق، ويعرف حديث النبي (صلی الله علیه و آله) الصحيح إن الملائكة صلت عليه وعلى علي سبعاً، لأنهما صليا قبل الناس سبع سنين! ويعرف قول علي (علیه السلام): «أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذاب! صليت قبل الناس لسبع سنين».وأنه صحيح بشرط الشيخين!

ويعرف أنه لايوجد حديث في إسلام أن أبابكر أول من أسلم إلا ما نسبوه إلى عمار!

ص: 304

وقد صرح «فتح الباري: 7/130» بأن البخاري لم يجد حديثاً في أن إسلام أبي بكر هو الأول، إلا مانسبه إلى عمار فقال: «اكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئاً على شرطه غيره، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي بكر، إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي (صلی الله علیه و آله) من الرجال غيره»! فيكفي عنده لإثبات أولية إسلام أبي بكر حديث مبهم ليرد به أحاديث قوية ويقول: «قد اتفق الجمهور على أن أبابكر أول من أسلم من الرجال». والجمهور هنا أتباع السلطة فقط، واتفاقهم تم في القرن الخامس!

ج . أما روايات أهل البیت (علیهم السلام) فأجمعت على أن علياً وخديجة (علیهما السلام) أول من أسلم، ومن ذلك ما رواه اليعقوبي: 2/22: «أتاه جبريل (علیه السلام) ليلة السبت... وقال من رواه عن جعفر بن محمد: يوم الجمعة... وعلى جبريل جبة سندس، وأخرج له درنوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه، وأعلمه أنه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وبلغه عن الله وعلمه: إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. وأتاه من غد وهو متدثر فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ..

وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما توضأ جبريل (علیه السلام) ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله. ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل... وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد3من النساء، وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) من الرجال، ثم زيد بن حارثة، ثم أبوذر». وفي قصص الأنبياء للراوندي/316: «فكان يصلي خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي وجعفر وزيد وخديجة».

وفي روضة الواعظين للنيشابوري/85، عن علي (علیه السلام) قال: «إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، قلت يا رسول الله: ما هذا؟ قال: أمرت به. قال أبو رافع: صلى النبي غداة الإثنين وصلت خديجة آخر نهار يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء».

ورواه محمد بن سليمان في المناقب: 1/278، بطريقين عن حبة العرني وأنس. وذخائر العقبى/59، تفسير الإمام العسكري/429. وشرح الأخبار: 1/177و449، المناقب: 2/7، التعجب/98، كنز الفوائد/125، الإحتجاج: 1/37 وفيه: «بعث يوم الإثنين وصليت

ص: 305

معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين، حتى دخل نفر في الإسلام».

وروى ابن طاووس (رحمة الله) في كتاب الطرف/5 والبحار: 65/392 عن عيسى بن المستفاد، أنه سأل الإمام الكاظم (علیه السلام) عن بدء الإسلام فقال: «سألت أبي جعفر بن محمد (علیه السلام) عن بدء الإسلام كيف أسلم علي (علیه السلام) وكيف أسلمت خديجة (علیهما السلام) ؟فقال لي أبي: إنهما أسلما لما دعاهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلَّمتما له؟ وقال: إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام، فأسلما تسلما وأطيعا تُهديا، فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله، فقال: إن جبرئيل عندي يقول لكما: إن للإسلام شروطاً ومواثيق، فابتداؤه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ويبعث من في القبور. قالا: شهدنا. قال: وإسباغ الوضوء على المكاره واليدين والوجه والذراعين، ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين، وغسل الجنابة في الحر والبرد، وإقام الصلوات، وأخذ الزكوات من حلها ووضعها في أهلها، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والعدل في الرعية والقسم في السوية، والوقوف عند الشبهة إلى الإمام فإنه لا شبهة عنده، وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي، والأئمة من بعده واحداً فواحداً، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه... والحياة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته، إلى يوم القيامة، والموت على مثل ذلك، غير شاقة لأمانته ولامتعدية ولامتأخرة عنه، وترك شرب الخمر، وملاحاة الناس. يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك؟ قالت: نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت. قال علي: وأنا على ذلك. فقال: ياعلي تبايع على ما شرطت عليك؟ قال: نعم..».

ص: 306

2- إسلام جعفر بن أبي طالب رضيالله عنه

أ. أخبر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) نشأ على الفطرة وحنيفية إبراهيم (علیه السلام) ففي علل الشرائع: 2/558 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «أوحى الله تعالى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك: ما شربت خمراً قط لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط لأن الكذب ينقص المروءة، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لايضر ولاينفع! قال: فضرب النبي (صلی الله علیه و آله) على عاتقه وقال: حقٌّ لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة»!

ب. روى الصدوق في أماليه/597، عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «أول جماعة كانت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يصلي وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب معه، إذ مرَّ أبوطالب به وجعفر معه، فقال: يا بني صِلْ جناح ابن عمك. فلما أحسه رسول الله (صلی الله علیه و آله) تقدمهما، وانصرف أبوطالب مسروراً، وهو يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند مهم الأمور والكرب

لاتخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي

والله لا يخذل النبي ولا *** يخذله من بني ذو حسب

قال: فكانت أول جماعة جُمعت، ذلك اليوم».

والحدائق الناضرة: 11/91، صححه، روضة الواعظين/86، كنز الفوائد/79 و124، المناقب: 1/301، الطرائف/305، عمدة الطالب/23، حلية الأبرار 1/69، البحار: 35/174، إيمان أبي طالب للشيخ المفيد/39، الفصول المختارة/171، الوسائل: 8/288، جامع أحاديث الشيعة: 6/406، الغدير: 7/356و396، إعلام الورى: 1/103، كشف الغمة: 1/86،

نهج الإيمان/376. راجع الغدير: 7/396، مناقب محمد بن سليمان: 1/129، تأويل الآيات: 1/271، بتفاوت وشبيه به الكافي: 1/450، عن علي (علیه السلام) . وأبو هلال العسكري في الأوائل/51،

ص: 307

ونحوه النكت لابن حبيب: 4/437، العثمانية للجاحظ/314، أبو حيان: 8/489 والآلوسي: 30/183 و الإسكافي في نقض العثمانية.

ورواه أبو الفتح الكراجكي في كنز الفوائد/124، بسنده عن أبي صفو بن صلصال بن الدلهمس، قال: «كنت أنصر النبي (صلی الله علیه و آله) مع أبي طالب قبل إسلامي، فإني يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدة القيض، إذ خرج أبوطالب إليَّ شبيهاً بالملهوف فقال لي: يا أبا الغضنفر هل رأيت هذين الغلامين؟ يعني النبي وعلياً. فقلت: ما رأيتهما مذ جلست! فقال: قم بنا في الطلب فلست آمن قريشاً أن تكون اغتالتهما! قال فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكة، ثم صرنا إلى جبل من جبالها فاسترقينا قلته، فإذا النبي وعلي عن يمينه، وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان ويسجدان. قال: فقال أبوطالب لجعفر ابنه: صِلْ جناح ابن عمك، فقام إلى جنب علي فأحس بهما النبي (صلی الله علیه و آله) فتقدمهما، وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا مما كانوا فيه، ثم أقبلوا نحونا فرأيت السرور يتردد في وجه أبي طالب ثم انبعث يقول: إن علياً وجعفراً ثقتي..الأبيات.».

وهذا يدل على أن أباطالب وجعفراً كانا مسلمَيْن قبل ذلك،لأن جعفراً دخل مباشرة في الصلاة، ولأن أباطالب شهد بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله)، ولم يصلِّ معهم لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمره أن يكتم إسلامه، فلو أظهره لما استطاع أن يحمي النبي (صلی الله علیه و آله) . وكذا حمزة كان مسلماً يكتم إيمانه، كما يدل حديث إسلام أبيذر.

ج. حذف بعض رواة السلطة أبيات أبي طالب (رحمة الله) من الحديث لأن فيها تصريحاً بإسلامه وإيمانه بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو يردُّ زعمهم بأنه مات مشركاً!

وزادوا فيه أن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا أباطالب ليصلي معهم فرفض، وقال كلمة سخرية من الصلاة كان يقولها المشركون الطلقاء!

ففي تاريخ بغداد: 2/271 عن علي (علیه السلام) قال: «بينا أنا مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حِيرٍ «مُحَوَّطة» لأبي طالب، أشرف علينا أبوطالب فبصر به النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا عم ألا تنزل فتصلي معنا؟ قال: ابن أخي إني لأعلم أنك على حق ولكني أكره أن أسجد فتعلوني إستي! ولكن إنزل يا جعفر فصل جناح ابن عمك. فنزل جعفر فصلى عن يسار النبي (صلی الله علیه و آله) فلما

ص: 308

قضى النبي صلاته التفت إلى جعفر فقال: أما إن الله قد وصلك بجناحين تطير بهما في الجنة كما وصلت جناح ابن عمك.

قال الشيخ أبوبكر: تفرد برواية هذا الحديث عن سفيان الثوري ابن أخته سيف بن محمد، ولا نعلم رواه عنه إلا السمتي».ورواه في تاريخ دمشق: 54/164، خيثمة/206،طبقات الحنابلة 1/309، اللالكائي: 8/1420. ورده الذهبي في ميزان الإعتدال: 2/257، لأنه يثبت إسلام جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) قبل أبي بكر!

د. في المناقب: 1/176: «سنة ثمان في جمادى الأولى وقعة مؤتة، وهم ثلاثة آلاف. في كتاب أبان قال الصادق (صلی الله علیه و آله): إنه استعمل عليهم جعفراً فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة، ثم خرجوا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة الف من الروم ومائة ألف من المستعربة، فانحازوا إلى أرض يقال لها المشارف، ونسبت السيوف المشرفية إليها لأنها طبعت لسليمان بن داود (علیهما السلام)، فاختلفوا في القتال أو في إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) بكثرتهم فقال ابن رواحة: ما نقاتل الناس بكثرة وإنما نقاتلهم بهذا الدين! فلقوا جموعهم بقرى البلقاء، ثم انحازوا إلى مؤتة.

وفي البخاري: نعى النبي (صلی الله علیه و آله) جعفراً، وزيداً، وابن رواحة، قبل أن يجئ خبرهم وعيناه تذرفان. زيد بن أرقم: حارب جعفر على أشقره حتى عقر، وهو أول من عقر فرسه في الإسلام، فحارب راجلاً حتى قتل. عن الباقر (علیه السلام) قال: أصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة، خمس وعشرون منها في وجهه».

وفي الكافي: 1/49 عن الإمام الباقر (علیه السلام): «لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف، وكان أول من عرقب في الإسلام».

وفي التنبيه والإشراف/230، للمسعودي أن هرقل: «يومئذ مقيم بأنطاكية وعلى الروم تيادوقس البطريق، وعلى متنصرة العرب من غسان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب بعد أن عرقب فرسه، وهو أول فرس عرقبت في الإسلام، وجرح نيفاً وتسعين جراحة كلها في مقادمه، وقتل عبدالله بن رواحة، ورجع خالد بن الوليد بالناس».

ص: 309

ه. عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن جابركان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً ويقول: كانا يحدثاني ويؤنساني فذهبا جميعاً. ولما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من واقعة أحد إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيلاً نوحاً وبكاءً، ولم يسمع من دار حمزة عمه، فقال: لكن حمزة لا بواكي له! فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولايبكوه حتى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه،فهم إلى اليوم على ذلك».الفقيه: 1/183.

3- كان أبوطالب وحمزة يخفيان إسلامهما

أ. كان أبوطالب كأبيه عبدالمطلب رضوان الله عليهما، يعرف أن محمداً (صلی الله علیه و آله) هوالنبي الموعود من ذرية إبراهيم وإسماعيل (صلی الله علیه و آله)، ويؤمن به من صغره ويحبه ويحرسه.

أما حمزة (رحمة الله) فذكر رواة السلطة أنه أسلم في السنة الثالثة أو الرابعة عندما شتم أبوجهل النبي (صلی الله علیه و آله) فغضب وانتصر للنبي (صلی الله علیه و آله) وضرب أباجهل وأعلن إسلامه.

لكن الصحيح أنه يومئذ أعلن، وأنه أسلم أول بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ووقف إلى جنبه في مواجهة قريش، ووقاه بنفسه مع أبي طالب وعلي وجعفر وزيد بن حارثة، كما يدل حديث إسلام أبيذر (رحمة الله) الآتي، وأن أباطالب رتب نظام حراسة مشددة حول النبي (صلی الله علیه و آله) وكان يدقق في من يريد لقاءه.

فقد روى الكليني في الكافي: 8/297 والصدوق في الأمالي/567، حديث إسلام أبيذر وإصراره أن يرى النبي (صلی الله علیه و آله) حتى قال له أبوطالب: «قم معي، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة فسلمت عليه وجلست فقال لي: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم؟ فقال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: فشهدت قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر..».

أقول: آمن أبوذر بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله) قبل أن يراه، لأن الله أنطق له الذئب،

كما يأتي.

ص: 310

ب. أعلن حمزة إسلامه يوم ثأر للنبي (صلی الله علیه و آله)، وتحدى قريشاً في ناديهم، وضرب أباجهل زعيم بني مخزوم! فقد روى ابن إسحاق: 2/151 وابن هشام: 1/188: «أن أباجهل اعترض رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند الصفا فآذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومولاةٌ لعبدالله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمعُ ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم.

ولم يلبث حمزة بن عبدالمطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له، وكان إذا رجع لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة، وكان يومئذ مشركاً على دين قومه «في الظاهر» فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرجع إلى بيته، فقالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنفاً قُبَيْل؟ وجده هاهنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد! فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله عزوجل به من كرامته، فخرج سريعاً لايقف على أحد - كما كان يصنع حين يريد الطواف بالبيت- مُعداً لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس وضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة! وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أباجهل منه فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت! قال حمزة: وما يمنعني منه وقد استبان لي منه ذلك، وأنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين! فقال أبوجهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً»!

وقال في الصحيح من السيرة: 3/153: «قوله الأخير: وما يمنعني وقد استبان لي منه أنه رسول الله والذي يقول حق: أنه لم يكن في إسلامه منطلقاً من عاطفته التي أثيرت وحسب، وإنما سبقت ذلك قناعة كاملة مما شاهده عن قرب...

ص: 311

وبعد إسلام حمزة بن عبدالمطلب بدأت تتراجع قريش وتلين من موقفها، وتدخل في مفاوضات معه (صلی الله علیه و آله)،وتعطيه بعض ما يريد، لأنها رأت أن المسلمين يزيد عددهم ويكثر، فكلمه عتبة فأبى (صلی الله علیه و آله) كل عروضهم». البدء والتاريخ: 5/98.

ج. تعصب رواة قريش على بني هاشم، فجردوا حمزة من فضيلة سبقه إلى الإسلام، وقرنوا به عمر وكأنه شجاع مقاتل مثله، وخففوا من تمثيل هند بجثمان حمزة ومحاولتها أكل كبده، أو أنكروا ذلك. كما خففوا من جريمة قاتله وحشي غلام هند، ونسبوا اليه أنه قتل مسيلمة الكذاب فغفر الله له قتله حمزة!

ثم افتروا على حمزة بأنه كان يشرب الخمر صحيح بخاري3/80 و4/41 وأنه سكر يوماً وجاء إلى جملين لعلي (علیه السلام) فشق بطنيهما وأخذ كبديهما، وجلس يشرب الخمر وجاريته تغنيه! فشكوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فجاء مع علي وزيد، فشتمهم حمزة! فتركه النبي (صلی الله علیه و آله) لما رآه سكراناً! وقد فند ذلك في الصحيح من السيرة: 5/290.

د .كان علي وحمزة بطلا معركة بدر التي غيرت موازين القوى بين النبي (صلی الله علیه و آله) والمشركين. فقد سأل أمية بن خلف: «من المُعَلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قلت ذاك حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) . قال: ذاك فعل بنا الأفاعيل منذ اليوم».الحاكم: 2/117.

ه. وفي معركة أحُد انتصر المسلمون في الجولة الأولى، ببطولة علي وحمزة، ثم خالفوا النبي (صلی الله علیه و آله) فانهزمو ا، وثبت النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي وحمزة، فقتل حمزة (رحمة الله) .

قال في الإرشاد: 2/83: «وكانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلاً على أن يقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) أو حمزة بن عبدالمطلب، فقال لها: أما محمد فلا حيلة لي فيه لأن أصحابه يطيفون به، وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الذئب، وأما حمزة فإني أطمع فيه لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة يومئذ قد أُعلم بريشة نعامة في صدره، فكمن له وحشي في أصل شجرة، فرآه حمزة فبدر إليه بالسيف فضربه ضربة أخطأت رأسه، قال وحشي: وهززت حربتي حتى إذا تمكنت منه رميته فأصبته في أربيته «أسفل بطنه» فأنفذته، وتركته حتى إذا برد

ص: 312

صرت إليه فأخذت حربتي، وشغل عني وعنه المسلمون بهزيمتهم. وجاءت هند فأمرت بشق بطن حمزة، وقطع كبده، والتمثيل به، فجذعوا أنفه وأذنيه، ومثلوا به».

وفي تفسير القمي: 1/117: «فقطعت مذاكيره وقطعت أذنيه وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها، وقطعت يديه ورجليه».

وفي شرح النهج: 14/271: «كانت هند بنت عتبة أول من مثل بأصحاب النبي وأمرت النساء بالمثلة وبجدع الأنوف والآذان، فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخَدَمتان»!

والمعضد ما يلبس في العضد، والمسكة سوار يلبس في ذراع اليد، والخدمة الخلخال يلبس في الساق.

وفي مسند أحمد: 1/463، ابن أبي شيبة: 8/492 وفتح الباري: 7/272: «وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أأكلت منه شيئاً؟ قالوا: لا. قال ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار».

وفي تفسير البغوي: 3/91: «فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً، إن حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئاً من جسده النار».

قال الحافظ ابن عقيل في النصائح الكافية/112: «كانت شديدة العداوة للنبي (صلی الله علیه و آله) بمكة، ولما تجهز مشركوا قريش لغزوة أحد، خرجت معهم تحرض المشركين على القتال. ولما مروا بالأبواء حيث قبر أم النبي (صلی الله علیه و آله) آمنة بنت وهب (علیها السلام)، أشارت على المشركين بنبش قبرها وقالت: لو نبشتم قبر أم محمد، فإن أسرَ منكم أحداً فديتم كل إنسان بإرب من آرابها أي جزء من أجزائها! فقال بعض قريش: لايفتح هذا الباب»!

وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في مذبحة كربلاء/74: «خذ على سبيل المثال: أم معاوية هند بنت عتبة، وهي امرأة والمرأة على الغالب ترمز للرحمة وتجنح

ص: 313

للموادعة، لكن هنداً لم تكتف بأن يخرج زوجها وابناها لمعركة أحد، بل أصرت على الخروج بنفسها وحملت نساء البطون على الخروج، لتشهد العنف والدم على الطبيعة! لقد تيقنت من قتل حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) لكنها لم تكتف بقتله بل سارت بخطى ثابتة حتى وقفت بجانب جثته، وبأعصاب باردة شقت بطن حمزة وهو ميت واستخرجت كبده، وحاولت أن تأكله! ثم قطعت أذنيه وأنفه ومثلت به أشنع تمثيل! فإذا كانت المرأة منهم تفعل بضحيتها هكذا، فكيف يفعل أبوسفيان ومعاوية وذريتهم بضحاياهم؟! هذه هي البيئة الدموية التي تربى فيها يزيد مهندس مذبحة كربلاء! فأبوه معاوية وجده أبوسفيان وجدته هند! لقد ورث العنف والتنكيل بخصومه كابراً عن كابر».

وفي شرح الأخبار للقاضي المغربي: 1/281: «مضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يلتمس حمزة، فوجده وقد بقروا بطنه عن كبده! فقال حين رآه: أما إنه لولا أن تحزن صفية ويكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير! ثم قال: والله ما وقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا الموقف! فهبط جبرئيل فقال: يا محمد إنه مكتوب في أهل السماوات إن حمزة أسد الله وأسد رسوله.

ثم أمر به صلوات الله عليه فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فيصلي عليه وعليهم، حتى صلى اثنين وسبعين صلاة. ثم أمر به فدفن في مصرعه، وأمر بالقتلى كذلك أن يدفنوا في مصارعهم وقال: أنا أشهد على هؤلاء أنه ما من أحد يجرح في الله إلا واللهُ عزوجل يبعثه يوم القيامة بدم جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك».

و. رويَ أن وحشياً أسلم وأن النبي (صلی الله علیه و آله) سأله كيف قتل حمزة، ثم قال له: «غَيِّبْ وجهك عني، فإني لا أستطيع أن أرى قاتل حمزة»! شرح الأخبار: 1/268.

وروي أنه حسن إسلامه وجاهد «ذخائر العقبى/178» وأن الله قد يتوب عليه، ففي الكافي: 2/381: «عن حمزة بن الطيار قال: قال لي أبوعبدالله (علیه السلام): الناس على ستة أصناف، قال قلت: أتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم. قلت: ما أكتب؟ قال: اكتب أهل الوعيد من أهل الجنة وأهل النار. واكتب: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. قال قلت:

ص: 314

مَن هؤلاء؟ قال: وحشي منهم. قال: واكتب: وَآخَرُونَ مَرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. قال: واكتب: إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً «الى الكفر» وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً «الى الإيمان» فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَعَنْهُمْ. قال: واكتب أصحاب الأعراف قال قلت: وما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته».

ز. من زيارة قبر حمزة (رحمة الله): «السلام عليك يا عم رسول الله وخير الشهداء. السلام عليك يا أسد الله وأسد رسوله، أشهد أنك جاهدت في الله، ونصحت لرسول الله وجدت بنفسك، وطلبت ما عند الله ورغبت فيما وعد الله. كامل الزيارات/62.

ح . في كشف الإرتياب/55: «هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها من القباب والأضرحة والمزارات، فهدموا قبة أئمة أهل البیت (علیهم السلام) بالبقيع، ومعهم العباس عم النبي (صلی الله علیه و آله)، وجدرانها، وأزالوا الصندوق والقفص الموضوعين على قبورهم، وصرفوا على ذلك ألف ريال مجيدي.. وهدموا قباب عبدالله وآمنة أبوي النبي (صلی الله علیه و آله) ..وكانوا قبل ذلك هدموا قبة حمزة عم النبي (صلی الله علیه و آله) وشهداء أحد حتى أصبح مشهد حمزة والشهداء والجامع الذي بجانبه، وتلك الأبنية كلها أثراً بعد عين، ولا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا قبراً في برية، على رأس تل من التراب»!

4- زيد بن حارثة الذي اختار النبي (صلی الله علیه و آله) على أبيه!

في تفسير القمي: 2/172، بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «كان سبب نزول ذلك«وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ..» أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها، ورأي زيداً يباع، ورآه غلاماً كَيِّساً حصيفاً فاشتراه، فلما نُبئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان يدعى زيد مولى محمد (صلی الله علیه و آله)، فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً، فأتى أباطالب فقال: يا أباطالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك، فسله إما أن يبيعه وإما

ص: 315

أن يفاديه وإما أن يعتقه. فكلم أبوطالب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني إلحق بشرفك وحسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبداً! فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما دمت حياً! فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش إشهدوا أني قد برئت منه وليس هو ابني! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني، فكان يدعى زيد بن محمد، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبه وسماه زيد الحِبّ، فلما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش». وسيأتي طلاقه لها، وتزويج الله رسوله (صلی الله علیه و آله) بها.

5- أبوذر الغفاري (رحمة الله) رابع المسلمين المعلنين إسلامهم

أ. كان أبوذر قبل الإسلام يصلي بهداية فطرته! قال: «صليت قبل الناس بأربع سنين، قلت له: من كنت تعبد؟ قال: إله السماء».دلائل النبوة: 4/1307.

«قلت: يا أباذر أين كنت تتوجه؟ قال: كنت أتوجه حيث وجهني الله، كنت أصلي من أول الليل فإذا كان آخر الليل ألقيت هذا، حتى كأنما أنا خفاء حتى تعلوني الشمس». الطبراني الأوسط: 3/246.

وفي الكافي: 8/297، وأمالي الصدوق/567، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال لرجل من أصحابه: ألا أخبرك كيف كان سبب إسلام سلمان وأبيذر رحمة الله عليهما؟ فقال الرجل وأخطأ: أما إسلام سلمان فقد علمت، فأخبرني كيف كان سبب إسلام أبيذر؟ فقال أبوعبدالله الصادق (علیه السلام): إن أباذر (رحمة الله) كان في بطن مُرّ «واد قرب مكة» يرعى غنماً له، فأتى ذئب عن يمين غنمه فهش بعصاه على الذئب، فجاء الذئب عن شماله فهش عليه أبوذر، ثم قال له أبوذر: ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شراً! فقال له الذئب: شرٌّ والله مني أهل مكة بعث الله عزوجل إليهم نبياً فكذبوه وشتموه! فوقع في أذن أبيذر فقال لامرأته: هلمي مزودي وإداوتي وعصاي، ثم خرج على رجليه يريد مكة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به! حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب،

ص: 316

فأتى زمزم وقد عطش فاغترف دلواً فخرج لبن! فقال في نفسه: هذا والله يدلني على أن ما خبرني الذئب وما جئت له حق، فشرب وجاء إلى جانب من جوانب المسجد، فإذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون النبي (صلی الله علیه و آله) كما قال الذئب! فما زالوا في ذلك من ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) والشتم له حتى جاء أبوطالب من آخر النهار، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: كفُّوا فقد جاء عمه! قال فكفوا فلما دنا منهم أكرموه وعظموه، فلم يزل أبوطالب متكلمهم وخطيبهم إلى أن تفرقوا. فلما قام أبوطالب تبعته فالتفت إلي فقال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم. قال: وما حاجتك إليه؟ فقال له أبوذر: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي، ولا يأمرني بشئ إلا أطعته. فقال أبوطالب: تشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال فقلت: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال قال: وتفعل؟ قلت: نعم قال: فتعال غداً في هذا الوقت إليَّ حتى أدفعك إليه، قال: بتُّ تلك الليلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم، فما زالوا في ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) وشتمه حتى إذا طلع أبوطالب، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: أمسكوا فقد جاء عمه! فأمسكوا، فلما قام أبوطالب تبعته فالتفت إلي فقال: ما حاجتك؟.«فأعاد عليه ما قاله» فقال: قم معي فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة فسلمت عليه وجلست، فقال لي: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم؟ فقال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: فشهدت قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر فسلمت عليه وجلست فقال لي جعفر: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم قال: وما حاجتك إليه؟ فقلت: أو من به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال فشهدت فدفعني إلى بيت فيه علي سلمت وجلست فقال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم؟ قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه

ص: 317

وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله فسلمت وجلست فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما حاجتك؟ قلت: النبي المبعوث فيكم؟ قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشئ إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أباذر إنطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات وليس له وارث غيرك، فخذ ماله وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا! قال: فرجع أبوذر فأخذ المال وأقام عند أهله حتى ظهر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقال أبوعبدالله (علیه السلام): هذا حديث أبيذر وإسلامه رضيالله عنه وأما حديث سلمان فقد سمعته! فقال: جعلت فداك حدثني بحديث سلمان، فقال: قد سمعتَهُ، ولم يحدثه لسوء أدبه».

وفي رواية الصدوق: «قال أبوذر: فانطلقت إلى بلادي فإذا ابن عم لي قد مات وخلف مالاً كثيراً في ذلك الوقت الذي أخبرني فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فاحتويت على ماله، وبقيت ببلادي حتى ظهر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتيته».

وفي قصص الأنبياء للراوندي/304: «فلما انصرفت إلى قومي أخبرتهم بذلك، فأسلم بعضهم وقال بعضهم: إذا دخل رسول الله أسلمنا، فلما قدم أسلم بقيتهم».

أقول: يدل هذا الحديث على أن أباطالب وحمزة وجعفراً وعلياً:قد أسلموا من أول الأمر، وأحاطوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وحرسوه، ودعوا الناس إلى الإيمان به بأساليب متنوعة تتناسب مع كل واحد منهم، ودوره الذي حدده له النبي (صلی الله علیه و آله) .

لكن زعماء قريش الذين عادوا النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته وحاربوهم ثم أبعدوا عترته عن خلافته، يريدون حذف أي دور لعترته في دعوته!

وقد روت مصادر السلطة إسلام أبيذر (رحمة الله) بصيغ متفاوتة، أشهرها رواية البخاري: 4/241 قال: «عن ابن عباس قال: لما بلغ أباذر مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأخيه: إركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخير من السماء، واسمع من قوله ثم أئتني. فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله (صلی الله علیه و آله) ثم رجع إلى أبيذر

ص: 318

فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت! فتزود وحمل شِنَّةً له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه عليٌّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي (صلی الله علیه و آله) حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌّ فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله! فأقامه فذهب به معه لايسأل واحد منهما صاحبه عن شئ! حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على عليٍّ مثل ذلك فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك، فقمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي (صلی الله علیه و آله) ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري. قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم! فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباس عليه».

ب- لم يرو بخاري شيئاً من كرامات أبيذر (رحمة الله) مثل أنه كان موحداً على الفطرة، وكان يصلي لربه كما هداه، وقد رواه البيهقي وغيره، وأن الله أكرم أباذر بأن كلمه الذئب، وأرشده إلى النبي (صلی الله علیه و آله) كما رواه الكليني، ولا روى بخاري كرامة شبعه وريِّه بماء زمزم، كما رواه مسلم وغيره.. الخ. كما حذف بخاري ذكر أبي طالب وحمزة وجعفر من روايته! ثم اختار روايته عن ابن عباس مع أنه لم يكن مولوداً عندما أسلم أبوذر، ولا أسند روايته إلى أبيذر أو من عاصره وسمع منه!

ص: 319

وكذا غيَّب بخاري العديد من أحاديث أبيذر (رحمة الله) وفيها الصحيح على شرطه!

وهذا ليس عجيباً، فقد كان بخاري يعتاش من مال المتوكل، ويطبق سياسته في طمس ذكر أبي طالب وإسلامه، وتنقيص مكانة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ومن والاهم كأبيذر (رحمة الله)! وقد زعم بخاري أن العباس خلَّصَ أباذر مرتين من أيدي قريش!

ج- يظهر تعصب بخاري ضد أبيذر (رحمة الله) عندما تقارن ما رواه عنه في صحيحه بما أهمله من الصحيح على شرطه، كجهاده مع النبي (صلی الله علیه و آله) في كل حروبه، وشهادات النبي العظيمة فيه، وموقفه من السقيفة، وجهاده عشرين سنة في فتوح الشام وفلسطين لبنان وقبرص ومصر، وجهره بموالاة أهل البیت (علیهم السلام)، وروايته أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) فيهم وفي مخالفيهم، وثورته على معاوية وعثمان، ونفي معاوية له إلى بر الشام، ونفي عثمان له إلى الربذة، وموته فيها غريباً وحيداً، وصلاة ركب من الصالحين عليه، فيهم مالكالأشتر (رحمة الله) كما أخبرالنبي (صلی الله علیه و آله) .

وغاية ما رواه البخاري قول أبيذر: 1/25: «لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أنى أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن تجيزوا عليَّ، لأنفذتها».وكتم أنه قال ذلك لما منعه عثمان من التحديث!

بل زوَّر البخاري عن عمد نفي عثمان له إلى الربذة بأنه كان بسبب خلافٍ بسيطٍ مع معاوية في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. فشكاه معاوية إلى عثمان فجاء أبوذر إلى المدينة: «فكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً.فذاك الذي أنزلني هذا المنزل» أي الربذة. 2/111 و 5/203.

د- ثم روى بخاري أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذم أباذر، وقال له: إنك امرؤ فيك جاهلية! «1/13و3/123 و 7/85». وأمره أن يطيع الحاكم بعده حتى لو كان عبداً حبشياً: «اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسه زبيبة»: 1/171. أي وجهه كالزبيبة السوداء.

وروى عن أبيذر أحاديث عديدة لتأييد مكذوبات رواة السلطة، منها أن النبي

ص: 320

حكم بأن التوحيد كافٍ لدخول الجنة حتى بدون إيمان بالنبي (صلی الله علیه و آله)، وحتى لو زنى وسرق، على رغم أنف أبيذر! «2/69 و 4/81 و 7/43 و137و176و 8/196»وحديث أن الشمس تستأذن بالسجود تحت العرش فلايؤذن لها! «4/75و 6/30و 8/136و178». وأن المسجد الحرام كان أول بيت وضعه الله للناس قبلة، ثم وضع المسجد الأقصى بعده بأربعين يوماً! 4/117و136.

وحديث أن جبرئيل شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) وغسله بماء من طست من ذهب، ثم عرج به! «1/91 و 2/167و 4/106». ثم روى عنه أحاديث عادية: 3/82 و4/121 و 156، 5/6و242 و 6/150، 7/81و84 و150، 219، 8/216.

بينما روت مصادرنا ومصادر السلطة الكثيرالوفير المهم عن أبيذر، وكتب العلماء فيه بحوثاً ضافية وكتباً خاصة، وكتبنا عنه موجزاً في ترجمة معاوية وأبيه.

ه- روى مسلم: 7/152 قصة إسلام أبيذر بخلاف رواية بخاري، وفيها أنه صلى قبل الإسلام بثلاث سنين، ودخل مكة فسأل: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ وأنهم اجتمعوا عليه وضربوه وأدمَوْه فغسل عنه الدماء بماء زمزم، وبقي شهراً لم يَرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يكن له طعام إلا ماء زمزم حتى سمن، ثم رأى النبي (صلی الله علیه و آله) جاء للطواف مع أبي بكر فسلم عليه، واستأذن أبوبكر من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يضيفه فأطعمه من زبيب الطائف! وأسلم ورجع إلى قومه يدعوهم...

قال ابن حجر: 7/132: «أخرج مسلم قصة إسلام أبيذر من طريق عبدالله بن الصامت عنه، وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس.. ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولاً مع علي، ثم لقيه في الطواف أو بالعكس... وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلفٌ شديد، ولا سيما أن في حديث عبدالله بن الصامت أن أباذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء..إلخ.».

وصدق القرطبي، فرواياتهم في إسلامه متناقضة لايمكن الجمع بينها!

ص: 321

و- شهد أهل البیت (علیهم السلام) وأبوذر (رحمة الله) أنه رابع المسلمين الذين أعلنوا إسلامهم، وهم علي وجعفر وزيد وأبوذر. ففي الفوائد الرجالية: 2/153 في حديث نفي عثمان لأبيذر: «فقال أبوذر: أجل والله لقد رأيتني رابع أربعة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما أسلم غيرنا، وما أسلم أبوبكر ولا عمر. فقال علي (علیه السلام): والله لقد رأيته وهو رابع الإسلام». وروى عنه الطيالسي/157، والحارث/304 والآحاد والمثاني 2/230 «كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع» وابن حبان: 16/83، كبير الطبراني: 2/147، الحاكم: 3/341، الزوائد: 9/327، ووثقه. وبه يظهر تعصب بخاري وابن حجر.

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء: 1/156: «هو العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الإسلام، ورافض الأزلام، قبل نزول الشرع والأحكام، تعبد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأول من حيا الرسول بتحية الإسلام، لم يكن تأخذه في الحق لائمة اللوام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء، وثبت على المشقة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا، إلى أن حل بساحة المنايا، أبوذر الغفاري رضيالله عنه، خدم الرسول، وتعلم الأصول، ونبذ الفضول».

لكنهم لم يتركوا حديثه بدون تخريب، فجعلوه رابع النبي (صلی الله علیه و آله) وأبي بكر وبلال، وكذبوا عليه بأنه قال: «لم يسلم قبلي إلا النبي وأبوبكر وبلال».«الحاكم 3/342»وحذفوا علياً وخديجة وجعفراً وزيداً وحمزة وأباطالب! مع أنهم رووا حديثاً صحيحاً متواتراً عن عفيف الكندي سمى فيه الثلاثة الذين قبله، قال: «كنت امرأ تاجراً وكنت صديقاً للعباس بن عبدالمطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبدالمطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي، فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن أخي، يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام. وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب. قال عفيف الكندي وأسلم وحسن إسلامه:

ص: 322

لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام». الحاكم: 3/183، ابن كثير: 1/430 وغيرهما.

وقد شطح ابن حبان فقال في صحيحه: 16/83: «قول أبيذر كنت رابع الإسلام: أراد من قومه، لأن في ذلك الوقت أسلم الخلق من قريش وغيرهم»!

ز- لم يهتم أتباع مذاهب السلطة بأبيذر (رحمة الله)، معشار ما اهتموا بأصاغر الصحابة، ولو كان لأحد ممن يحبونهم عشر ما له من المناقب، لملؤوا به كتبهم!

روى في الكافي: 2/587 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن أباذر أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعنده جبرئيل (علیه السلام) في صورة دحية الكلبي وقد استخلاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما رآهما انصرف عنهما ولم يقطع كلامهما، فقال جبرئيل: يا محمد هذا أبوذر قد مرَّ بنا ولم يسلم علينا، أما لو سلم لرددنا عليه، يا محمد إن له دعاء يدعو به، معروفاً عند أهل السماء، فسله عنه إذا عرجتُ إلى السماء.

فلما ارتفع جبرئيل جاء أبوذر إلى النبي فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما منعك يا أباذر أن تكون سلمت علينا حين مررت بنا؟ فقال: ظننت يا رسول الله أن الذي معك دحية الكلبي قد استخليته لبعض شأنك، فقال: ذاك جبرئيل (علیه السلام) يا أباذر، وقد قال: أما لو سلم علينا لرددنا عليه، فلما علم أبوذر أنه كان جبرئيل (علیه السلام) دخله من الندامة حيث لم يسلم عليه ما شاء الله، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما هذا الدعاء الذي تدعو به، فقد أخبرني جبرئيل (علیه السلام) أن لك دعاء تدعو به معروفاً في السماء؟ فقال: نعم يا رسول الله أقول: اللهم إني أسألك الأمن والإيمان بك، والتصديق بنبيك، والعافية من جميع البلاء، والشكر على العافية، والغنى عن شرار الناس». وفي رجال الطوسي: 1/107: «وسله عن كلمات يقولهن إذا أصبح».

وفي الخصال/448: «عن عبدالعزيز القراطيسي قال: دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) فذكرت له شيئاً من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال: يا عبدالعزيز، الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي، تُرْتَقى منه مرقاتٌ بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على

ص: 323

شئ، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شئ، حتى انتهى إلى العاشرة. قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبوذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبدالعزيز: لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملن عليه ما لا يطيقه فتكسره، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل

حمل البازل فسخته».

وفي الخصال/42، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان أكثر عبادة أبيذر رحمة الله عليه: التفكر والإعتبار».

وفي الكافي: 3/250 عن علي بن إبراهيم رفعه، قال: «لما مات ابن أبيذر، مسح أبوذر القبر بيده ثم قال: رحمك الله يا ذر، والله إن كنت بي باراً، ولقد قبضت وإني عنك لراض، أما والله ما بي فقدك وما عليَّ من غضاضة، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك! والله ما بكيت لك ولكن بكيت عليك، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك؟ ثم قال: اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي فهب له ما افترضت عليه من حقك، فأنت أحق بالجود مني».

وفي الكافي: 2/458 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «جاء رجل إلى أبيذر فقال: يا أباذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب! فقال له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسئ منكم فكالآبق يرد على مولاه! قال: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: أعرضوا أعمالكم على الكتاب، إن الله يقول: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. قال فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين».

وفي كامل الزيارات/153، عن عروة قال: «سمعت أباذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة، فقال له الناس: يا أباذر أبشر فهذا قليل في الله تعالى، فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن علي (علیه السلام) قتلاً، أو قال ذبحاً! والله لايكون

ص: 324

في الإسلام أعظم قتيلاً منه، وإن الله سيسلُّ سيفه على هذه الأمة لايغمده أبداً، ويبعث قائماً من ذريته فينتقم من الناس!

وإنكم لو تعلمون مايدخل على أهل البحار وسكان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم! وما من سماء يمر به روح الحسين (علیه السلام) إلا فزع له سبعون ألف ملك يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة! وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله، وما من يوم إلا تعرض روحه على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيلتقيان».فقير... غني بولاية علي

6- إسلام عمرو بن عبسة السلمي أخ أبيذر لأمه

ذكرت بعض الروايات أن أباذر أسلم هو وأخوه أنيس وأمه رملة بنت الوقيعة الغفارية، وعدد من قبيلته بني غفار. أعيان الشيعة: 4/225 والأحوذي: 10/305.

وذكروا له أخاً من أمه هو عمرو بن عبسة السلمي. تهذيب الكمال: 33/294.

قال الطبري: 2/61: «اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) خديجة بنت خويلد، ثم اختُلف عندنا في ثلاثة نفر، في أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، أيهم أسلم أول، قال الواقدي: أسلم معهم خالد بن سعد بن العاص خامساً، وأسلم أبوذر قالوا رابعاً أو خامساً، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي، فيقال رابعاً أو خامساً. قال: فإنما اختلف عندنا في هؤلاء النفر أيهم أسلم أول، وفي ذلك روايات كثيرة». وشبيه به تاريخ اليعقوبي: 2/23.

وروى الحاكم: 4/148 عن عمرو بن عبسة السلمي، قال: «أتيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخف».

وروى أحمد: 4/112 عن ابن عبسة: «إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً، ثم سمعت عن رجل يخبر أخبار مكة ويحدث أحاديث، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة فإذا أنا برسول الله مستخف، وإذا قومه عليه جرآء، فتلطفت له فدخلت عليه فقلت: ما أنت؟ قال أنا نبي الله، فقلت: وما

ص: 325

نبي الله؟ قال: رسول الله. قال قلت: آلله أرسلك؟ قال: نعم. قلت: بأي شئ أرسلك؟ قال: بأن يوحد الله ولا يشرك به شئ وكسرالأوثان وصلة الرحم. فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حُرٌّ وعبد، أو عبد وحر، وإذ معه أبوبكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر. قلت إني متبعك. قال: إنك لاتستطيع ذلك يومك هذا، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي.قال: فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت فخرج رسول الله مهاجراً إلى المدينة، فجعلت أتخبَّر الأخبار حتى جاء ركبة من يثرب فقلت: ما هذا المكي الذي أتاكم؟ قالوا: أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك وحيل بينهم وبينه، وتركنا الناس سراعاً اليه.

قال عمرو بن عبسة: فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: نعم، ألست أنت الذي أتيتني بمكة؟ قال قلت: بلى، فقلت: يا رسول الله علمني مما علمك الله وأجمل. قال: إذا صليت الصبح فاقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فلا تصل حتى ترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، فإذا ارتفعت قيد رمح أو رمحين فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر، فإذا صليت العصر فاقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب حين تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار.

قلت: يا نبي الله أخبرني عن الوضوء. قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله تعالى إلا خرجت خطاياه وجهه من أطراف لحيته من الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرجت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله عزوجل إلا خرجت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثم يقوم فيحمد الله عزوجل ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنبه كهيئته يوم ولدته أمه!

قال أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة أنظر ما تقول! أسمعت هذا من رسول الله؟! أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟! قال فقال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة لقد كبرت

ص: 326

سني ورق عظمي واقترب أجلى وما بي من حاجة أن أكذب على الله عزوجل وعلى رسوله! لو لم أسمعه من رسول الله إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك»! وبعضه الطبقات: 4/217 وهو عندي محل شك.

وكان عمرو بن عبسة يقول: «رأيت النبي (صلی الله علیه و آله) وهو نازل بعكاظ فقلت: من معك على هذا الأمر؟ فقال: رجلان أبوبكر وبلال، فأسلمت. ولقد رأيتني وأنا ربع الإسلام». أحمد: 4/112، المستدرك: 3/66، 285 و 1/164. وتهذيب الكمال: 22/121، الطيالسي/157، ابن خزيمة: 1/129 والأحاديث الطوال/36.

وقال ابن سعد في الطبقات: 4/219: «لما أسلم عمرو بن عبسة بمكة، رجع إلى بلاد قومه بني سليم، وكان ينزل بصُفَّة وحَاذَة، وهي من أرض بني سليم، فلم يزل مقيماً هناك حتى مضت بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر، ثم قدم على رسول الله بعد ذلك المدينة». وفي الطبقات: 7/403: «ثم خرج بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الشام فنزلها إلى أن مات بها». راجع معجم البلدان: 4/386.

أقول: كلامه عن الصلاة، وعن كيفية إسلامه يوجب الشك في صدقه، ولعله زار أمه وأخويه أباذر وأنيساً، فوجدهم مسلمين فأسلم، ثم عاد إلى موطنه في بني سليم في أطراف نجد، وبقي هناك ولم يهاجر. ومما يزيد الشك في صدقه أنه جعل إسلام أبي بكر قبل كل الناس، وإسلام بلال مع أبي بكر، ولم يقل به أحد!

7- قالوا أبوبكر أول من أسلم وقال سعد أسلم بعد خمسين

قالوا إن علياً كان صغيراً لم يبلغ الحلم عندما أسلم، وكان أبوبكر شاباً! وردهم المأمون بأن النبي (صلی الله علیه و آله) دعاه إلى الإسلام بأمر ربه، فهو كبير وإن كان صغيراً!

ثم قالوا إن أبابكر أسلم قبل علي (علیه السلام) وبالغوا في شجاعته وثروته، وعددوا أناساً أسلموا على يده! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبابكر أسلم متأخراً. قال ابنه محمد: «قلت لأبي: أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاماً». الطبري: 2/60.

ص: 327

وروى ابن أبي شيبة: 8/448 عن هشام بن عروة قال: «أسلم أبوبكر يوم أسلم وله أربعون ألف درهم.. أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله وأبوبكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار، فأما رسول الله فمنعه عمه، وأما أبوبكر فمنعه قومه، وأُخذ الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ثم صهروهم...».

وهذا لا يصح عن أول البعثة، لأن مرحلة دعوة العشيرة الأقربين امتدت ثلاث سنين وكان الخوف فيها شديداً، فلوأسلم أبوبكر في تلك الفترة، لكان لقريش ردة فعل كما في إسلام أبيذر وعمار.

كما لا يصح قوله: منعته قبيلته، في أبي بكر، لأن نوفل بن خويلد من بني أسد عبدالعزى كان يربط أبابكر بحبل هو وطلحة ويحبسهما، فسميا القرينين. وكان خويلد يدعى أسد قريش فقتله علي (علیه السلام) في بدر. «الحاكم3/369». وكان عثمان بن عبيدالله أيضاً يربطهما بحبل. «الإصابة 6/77». ولم تحمهما قبيلتهما تيم.

ورووا أن أبابكر هاجر إلى اليمن لخوفه على نفسه، فوجد ابن الدِّغِنَّة وهو رئيس الأحابيش القارة، أي الرماة! فحماه وأرجعه معه إلى مكة، وأعلن لقريش أنه يجيره فبلت، في قصة طويلة كررها البخاري: 3/58 وابن هشام: 1/249.

8- خامس المسلمين خالد بن سعيد بن العاص الأموي

أ- شاء الله عزوجل أن يجعل من أبناء أبي أُحَيْحَة مسلمين مؤمنين!

وأبوأحيحة هو سعيد بن العاص الأموي، من كبار فراعنة قريش وأثريائهم، ومعنى الأُحَيْحَة الضغينة في الصدر، ويقال كان له ابن إسمه أحيحة توفي صغيراً. وكان له خمسة أولاد ذكور وقيل ثمانية، والمعروف منهم ابنه الكبير العاص الذي شهد بدراً مع المشركين فقتله علي (علیه السلام)، وخالد وعمرو وأبان، الذين أسلموا وختم الله لهم بالشهادة، وأفضلهم خالد الذي أكرمه الله برؤيا كانت سبب هدايته!

ففي الطبقات: 1/166، تاريخ دمشق: 16/67، عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: «لما كان قبيل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) بينا خالد بن سعيد ذات ليلة نائم قال: رأيت كأنه

ص: 328

غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينا هو كذلك إذ خرج نور ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أضاء مكة كلها، ثم إلى نجد، ثم إلى يثرب فأضاءها حتى أني لأنظر إلى البسر «التمر» في النخل! قال فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جَزِلَ الرأي «راجحه» فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب! ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم «زمزم».

قال خالد: فإنه لما هداني الله به للإسلام. قالت أم خالد: فأول من أسلم أبي، وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا خالد أنا والله ذلك النور، وأنا رسول الله، فقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد، وأسلم عمرو».ورواه ابن حبيب في المنمق /292، وكنز الفوائد/93 وغيرها، بروايات متعددة وتفاصيل.

وفي المستدرك: 3/248: «وأرسل أبوه في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ورافعاً مولاه، فوجده فأتوا به أباه أبا أحيحة، فأنَّبه وبكَّته وضربه بصريمة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمداً وأنت ترى خلاف قومه، وما جاء به من عيب آلهتهم وعيبه من مضى من آبائهم؟!

فقال خالد: قد صدق والله واتبعته. فغضب أبوه أبو أحيحة ونال منه وشتمه، ثم قال: إذهب يا لكع حيث شئت، والله لأمنعنك القوت!

فقال خالد: إن منعتني فإن الله عزوجل يرزقني ما أعيش به! فأخرجه وقال لبنيه: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان يكرمه ويكون معه».

وفي الطبقات: 4/95: «كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص ثالثاً أو رابعاً، وكان ذلك ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعو سراً... فضربه أبو أحيحة بقراعة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم أمر به إلى الحبس وضيق عليه وأجاعه وأعطشه، حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثاً ما يذوق ماء، فرأى خالد فُرجة فخرج فتغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى حضر خروج أصحاب رسول الله إلى الحبشة في الهجرة الثانية».

وفي المناقب: 1/288: «استفاضت الرواية أن أول من أسلم علي، ثم خديجة،

ص: 329

ثم جعفر، ثم زيد، ثم أبوذر، ثم عمرو بن عنبسة السلمي، ثم خالد بن سعيد بن العاص، ثم سمية أم عمار، ثم عبيدة بن الحرث، ثم حمزة «أعلن إسلامه» ثم خباب بن الأرت، ثم سلمان، ثم المقداد، ثم عمار، ثم عبدالله بن مسعود، في جماعة. ثم أبوبكر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وصهيب وبلال».

وفي الآحاد والمثاني: 1/387: «كان «خالد»جميلاً وسيماً، قتل وهو ابن نحو خمسين».

وفي الإستيعاب: 2/420: «هاجر إلى أرض الحبشة مع امرأته الخزاعية، وولد له بها ابنه سعيد بن خالد، وابنته أم خالد... قالت..وشهد أبي مع رسول الله عمرة القضاء وفتح مكة، وحنيناً، والطائف، وتبوك، وبعثه رسول الله على صدقات اليمن، فتوفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبي باليمن».

ب- هاجر خالد إلى الحبشة، لكنه كان يتردد على النبي (صلی الله علیه و آله) ويقوم له بمهمات. فقد أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قيصر الروم، فتأثر به كبير الأساقفة. تاريخ دمشق: 16/67.

وكان يتاجر إلى اليمن فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بآلة كالمنجنيق من جرش.إمتاع الأسماع: 2/21.

وكان إلى جانب جعفر في الهجرة، ورجع معه في السنة السابعة. الإستيعاب: 3/1177.

ولما توفي في الحبشة زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، فكتب النبي (صلی الله علیه و آله) للنجاشي أن يخطبها له، فوكلت خالد بن سعيد وخطبها النجاشي منه. الإستيعاب: 4/1932.

ج- شارك سعيد بفعالية في حروب النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمَّره في فتح مكة على سرية وأرسله إلى ذي عَرَنة. التنبيه والإشراف/233.

وكان يكتب للنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أول من ابتدأ بالبسملة. «الدر المنثور: 1/11 ومكاتيب الرسول: 1/149». وتوسط للنبي (صلی الله علیه و آله) مع ثقيف وكتب عهدهم. الدرر/248.

د- أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) مع علي (علیه السلام) لفتح اليمن فجعله علي (علیه السلام) قائد مقدمته، وبرز إلى عمرو بن معدي كرب فنهاه علي (علیه السلام)، وبرز هو اليه وصاح بعمرو فهرب! ثم جاء عمرو واستأمن، وأعطى سيفه المشهور الصمصامة إلى خالد.

ص: 330

وذهب خالد بن الوليد بمن معه في اليمن إلى جهة، فنهاه علي (علیه السلام) فخالفه، فبعث اليه خالد بن سعيد، فأجبره على طاعة أميره. كشف الغمة: 1/229.

ولاه النبي (صلی الله علیه و آله) على اليمن وكتب له كتاب الفرائض. مكاتيب النبي: 1/303.

ه- عندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) رجع خالد إلى المدينة وتفاجأ ببيعة أبي بكرفغضب «وأتى بني هاشم فقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار والعصا دون اللحا، فإذا رضيتم رضينا وإذا أسخطتم سخطنا... وبلغت أبابكر فلم يحفل بها واضطغنها عليه عمر فلما ولاه أبوبكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال!». شرح النهج: 2/58.

و- كان أول الخطباء المعترضين على بيعة أبي بكر، ففي الاحتجاج: 1/97 والخصال/461،عن أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق: جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: نعم كان الذي أنكر على أبي بكر اثنا عشر رجلاً. من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية،

وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وبريدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبيُّ بن كعب، وأبوأيوب الأنصاري، وغيرهم. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم وقال الله عزوجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره، فأتوا علياً (علیه السلام) فقالوا: يا أميرالمؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك، فقال لهم علي: لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم، ولا كنتم إلا كالكحل في

ص: 331

العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها والكاذبة على ربها! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت لما تعلمون من وَغَرِ صدور القوم وبغضهم لله عزوجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله)، وإنهم يطالبون بثارات الجاهلية! والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي، وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي، إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر! ألا وإنهم سيغدرون بك لامحالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي! كذلك أخبرني جبرئيل، عن ربي تبارك وتعالى.

ولكن إئتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم (صلی الله علیه و آله)، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه (صلی الله علیه و آله)، وخالف أمره»!

ز- وقال علي (علیه السلام): «فأتى رهط من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) يعرضون عليَّ النصرة منهم خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود الكندي، وأبوذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والزبير بن العوام، وأبوسفيان بن حرب، والبراء بن مالك الأنصاري. فقلت لهم: إن عندي من نبي الله العهد وله الوصية، وليس لي أن أخالفه ولست أجاوز أمره وما أخذه علي لله! لو خزموا أنفي لأقررت سمعاً وطاعة لله عزوجل، فبينا أنا على ذلك إذ قيل: قد انثال الناس على أبي بكر وأجفلوا عليه ليبايعوه، وما ظننت أنه تخلف عن جيش أسامة إذ كان النبي (صلی الله علیه و آله) قد أمَّره عليه وعلى صاحبه وأمر أن يجهز جيش أسامة، فلما رأيته قد تخلف وطمع في الأمارة، ورأيت انثيال الناس عليه أمسكت يدي... فلبثت ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام وأظهرت ذلك يدعون إلى محو دين الله، وتغيير ملة محمد (صلی الله علیه و آله)! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وقعدت أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون مصيبته علي أعظم من فوت ولاية أموركم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، ثم يزول ما كان منها كما

ص: 332

يزول السراب، وينقشع كما ينقشع السحاب. ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فتألفته، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام ثم نهضت في تلك الأحداث حتى انزاح الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، ولو كره المشركون». المسترشد/411.

ح- عرض عليه أبوبكر الولاية فرفضها هو وإخوته، قال لهم أبوبكر: «ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إرجعوا إلى أعمالكم، فقالوا: لا نعمل بعد رسول الله لأحد! فخرجوا إلى الشام فقتلوا عن آخرهم»! الحاكم: 3/249.

ثم أعلن بعض العرب عدم طاعتهم لأبي بكر، وأعلن مسيلمة الكذاب نبوته وحث أبوبكر الناس على الجهاد فتثاقلوا حتى نهض علي (علیه السلام) وحثهم على جهاد مسيلمة وذات مرة قال عمر: «لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا..الآية. فقال له خالد بن سعيد بن العاص: يا ابن أم عمر، ألنا تضرب أمثال المنافقين! والله لقد أسلمت وإنَّ لبني عدي صنماً إذا جاعوا أكلوه، وإذا شبعوا استأنفوا».عين العبرة لابن طاووس/18.

ط- ولما رأى أبوبكر رفض خالد للولاية ورغبته في الجهاد، عقد له على جيش فتح الشام: «فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسيِّره، وولى يزيد بن أبي سفيان فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام».

«عن ابن عمرقال: لما عقد أبوبكر الأمراء على الشام كنت في جيش خالد بن سعيد بن العاص، فصلى بنا الصبح بذي المروة وهو على الجيوش كلها، فوالله إنا لعنده إذ أتاه آت فقال قدم يزيد بن أبي سفيان، فقال خالد بن سعيد هذا عمل عمر بن الخطاب، كلم أبابكر في عزلي وولى يزيد بن أبي سفيان!

فقال ابن عمر فأردت أن أتكلم، ثم عزم لي على الصمت. قال: فتحولنا إلى يزيد بن أبي سفيان وصار خالد كرجل منهم، وقال محمد بن عمر: وهذا أثبت عندنا مما روي في عزل خالد وهو بالمدينة». تاريخ دمشق: 65/244.

وفي تاريخ الطبري: 2/586 وشرح النهج: 2/58: «واضطغنها عليه عمر، فلما ولاه أبوبكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس

ص: 333

عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال».

ي- وكان خالد في الشام هو القائد الحقيقي لقوة إيمانه وشجاعته، وضعف يزيد بن أبي سفيان الشاب أمامه، فسعيد من ناحية اجتماعية ابن أبي أحيحة الأقوى والأعرق في قيادة بني أمية، من أبي سفيان وأولاده. على أن خالداً لم يذهب مع يزيد بن أبي سفيان، بل اختار أن يذهب في جيش شرحبيل بن حسنة فأوصاه به أبوبكر، وربما كان ذلك بفعل تأنيب الضمير!

ففي الطبقات: 4/98: «لما عزل أبوبكر خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة، وكان أحد الأمراء فقال: أنظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج والياً عليك، وقد عرفت مكانه من الإسلام، وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي وهو له والٍ، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه. ما أغبط أحداً بالأمارة! وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك على ابن عمه، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليكن خالد بن سعيد ثالثاً، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً. وإياك واستبداد الرأي عنهم، أو تطوي عنهم بعض الخبر.

قال محمد بن عمر: فقلت لموسى بن محمد: أرأيت قول أبي بكر قد اختارك على غيرك؟ قال: أخبرني أبي أن خالد بن سعيد لما عزله أبوبكر كتب إليه أي الأمراء أحب إليك؟ فقال: ابن عمي أحب إلي في قرابته، وهذا أحب إلي في ديني، فإن هذا أخي في ديني على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناصري على ابن عمي، فاستحبَّ أن يكون مع شرحبيل بن حسنة».

أقول: شرحبيل صحابي عرف باسم أمه حسنة. واسم أبيه المطاع من قبيلة غوث من كندة، ولد ونشأ في مكة وتحالف مع بني زهرة، وأسلم وهاجر إلى الحبشة وكان فارساً وصديقاً لخالد بن سعيد الفارس البطل يحترمه ويناصره، ولذلك اختار خالد أن يكون معه فأعطاه قيادة الخيل، ولا بد أن تكون خططه كلها من خالد، ولذا قلنا

ص: 334

إن ثقل معركة أجنادين التي تم فيها فتح الأردن وفلسطين كان على خالد، وكان الروم يجمعون فيها قواتهم فنزل شرحبيل مقابلهم، ولما اقتربت المعركة جاءه من المسلمين مدد مساعد، وقد فتح جيش شرحبيل الأردن كلها عنوة أي بالحرب، إلا طبرية فصالحه أهلها، بينما فتحت المدن التي توجهت اليها الفرق الأخرى صلحاً، أي بالمحاصرة أو بالتخويف، بدون حرب كبيرة.

ك- وكان خالد (رحمة الله) بطل معركة أجنادين التي بدأت بها هزيمة هرقل، فقد توجه جيش المسلمين إلى الشام فاجتاحوا مدينة بصرى الشام بسهولة، وصالحهم أهلها على الجزية وأن يكونوا تحت حكمهم. وكان هرقل يومها في حمص فأمر بتجميع الجيش لقتال المسلمين في «أجنادين» وهي في فلسطين قرب مدينة بيت جبرين، وجعل القيادة لابنه وخليفته، فجمعوا لهم تسعين ألف مقاتل.

قال البلاذري: 1/135: «ثم كانت وقعة أجنادين وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم، وتجمع باقوهم من النواحي، وهرقل يومئذ مقيم بحمص». «واجتمعت الروم بأجنادين، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه، وقيل كان على الروم القبقلار». الكامل: 2/417.

«ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة...من بصرى يُعلم خالداً بمسير الروم اليه من أجنادين في تسعين ألف فارس» «فتوح الواقدي: 1/48». وهذا يدل على أن خالداً كان قائد الجيش الميداني.

وقال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 1/64: «وكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر الصديق، قبل وفاة أبي بكر بدون شهر... وكان في إجنادين أمراء أربعة أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، كل على جنده».

«فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فظهر المسلمون وهزم الله المشركين، وقتل خليفة هرقل». تاريخ الطبري: 2/611.

ص: 335

وفي رواية ابن عساكر: 16/66: «فحملت لهم خيل على خالد بن سعيد، وكان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يحرض الناس ويدعو الله عزوجل، ثم يقبض عليهم، فحملت طائفة منهم عليهم فنازلهم فقاتلهم قتالاً شديداً».

وورد ذكر أخيه أبان بن سعيد: «ورُمِيَ أبان بن سعيد بن العاص بنشابة فنزعها وعصبها بعمامته فحمله أخواه خالد بن سعيد وعمرو بن سعيد فقال: لاتنزعوا عمامتي عن جرحي فإنكم إذا انتزعتموها عن جرحي تبعتها نفسي، أما والله ما أحب أنها بأقصى حجر من البلاد مكاني، فلما نزعوا العمامة مات (رحمة الله)».

«واستشهد من المسلمين طائفة...وانتهى خبر الوقعة إلى هرقل فنخِب قلبه، و مُلئ رعباً فهرب من حمص إلى إنطاكية». معجم البلدان: 1/103.

ل- ولم يكن شرحبيل يعجب عمر فعزله بدون سبب، بحجة أنه وجد أقوى منه! وتوفي شرحبيل في طاعون عمواس وعمره 67 سنة. تاريخ دمشق: 22/464.

م- تعمد تاريخ السلطة أن يخفي بطولات الأبطال الذين حققوا النصر للمسلمين في هاتين المعركتين لمجرد أنهم من تلاميذ علي (علیه السلام)!وفي طليعتهم خالد بن سعيد بن العاص بطل معركة أجنادين وأخواه عمرو وأبان، ومالكالأشتر بطل معركة اليرموك، وأبوذر، وهاشم بن عتبة المرقال، وغيرهم.

وكذلك دور حذيفة بن اليمان، وحجر بن عدي، وحبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، أبطال فتوحات العراق وفارس وأرمينيا. وكذلك دور جعدة بن هبيرة قائد فتوح خراسان، وما وراء النهر!

كما أخفى تاريخ السلطة استغاثة أبي بكر وعمر بعلي (علیه السلام) في الشدائد، ونهوضه فيها، وإدارته أهم معارك الفتوحات!

ن- بعد انتصار المسلمين في أجنادين بقيادة سعيد وبطولته، ثم في معركة اليرموك ببطولة مالكالأشتر (رحمة الله)، انسحب هرقل إلى القسطنطينية وودع سوريا قائلاً: السلام عليك يا سوريا! وسقطت الشام وفلسطين وقبرص بيد المسلمين.

ص: 336

س- كان خالد القائد الحقيقي لجيش شرحبيل، وكان الأشتر الفارس الحاسم في جيش خالد وأبي عبيدة، وكان أبوذر (رحمة الله) مفتي جيش الشام وموجهه.

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار: 2/156: «غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس وهو أمير على الشام فغنموا وقسموا الغنائم، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين وكانت جميلة، فذكرت ليزيد فانتزعها من الرجل! وكان أبوذر يومئذ بالشام فأتاه الرجل فشكا إليه واستعان به على يزيد ليرد الجارية إليه، فانطلق إليه معه وسأله ذلك فتلكأ عليه! فقال له أبوذر: أما والله لئن فعلت ذلك، لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ثم قام! فلحقه يزيد فقال له: أذكرك الله عزوجل أنا ذلك الرجل؟ قال: لا. فرد عليه الجارية». وفي سير الذهبي: 1/329 وتاريخ دمشق: 65/250: «فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد»!

وصححه الألباني: 4/329، ولم يبين مناسبته! قال: «أول من يغير سنتي رجل من بني أمية! ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة»!

وفي تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي/266: «كتب معاوية إلى عثمان: إن أباذر قد حرَف قلوب أهل الشام وبغَّضك إليهم فما يستفتون غيره ولا يقضي بينهم إلا هو! فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل أباذر على ناب صعبة».والبحار: 31/274.

ع- قُتل خالد بن سعيد بعد تحقيقه النصر في أجنادين، في ظرف مريب، وزاد من الريبة تناقض روايتهم فقالوا قتل في معركة أجنادين، لكن ثبت أنه تزوج بأم حكيم الخزاعية بعد استشهاد زوجها عكرمة بن أبي جهل في أجنادين، وقد اعتدت بعده أربعة اشهر وعشراً. وقالوا قتل في مرج الصفر، وهي قرية في حوران، وقد تناقضت روايتها في وجود معركة فيها، وفي وقتها!

وقالوا خرج يستمطر في مرج الصفر بعد انتصاره في أجنادين، أي نزع ثيابه ووقف تحت ماء المطر «فيض القدير: 5/280»، فباغته الروم فقتلوه! الطبري: 2/601.

وقالوا كان غيره يستمطر فقتلهم الروم، فهرب هو بفئة من الجيش «تاريخ:

ص: 337

2/104»لكنه لم يعرف عنه الهرب في المعارك!«وقالوا لما قتل الرومي خالد بن سعيد قلب ترسه وأسلم واستأمن! وقال مَن الرجل الذي قتلنا، فإني رأيت له نوراً ساطعاً في السماء». «تاريخ دمشق: 16/83». والسر عند ذلك الرومي الذي أخفوا إسمه!

ومما يوجب زيادة الشك أن السلطة أشاعت بعد قتل خالد بن سعيد، أن عمر كان رضي عنه لحسن بلائه في الفتوحات!

ف- وقد ذكر الباحث الشيخ نجاح الطائي في كتابه اغتيال أبي بكر/64، بأن عمر اغتال أبابكر وخالد بن سعيد، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وأبا عبيدة وبلالاً وأصحابه المعترضين عليه... فدس اليهم السم،إذ مات أبوبكر وطبيبه وواليه على مكة في يوم واحد!

ص- ولعل زواج خالد بن سعيد بأم الحكم الخزاعية أثار عمر، «ففي الطبقات 4/98»: «شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصفر، وكانت أم الحكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل، فقتل عنها بأجنادين، فأعدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها في عدتها يتعرض للخطبة فحطت إلى خالد بن سعيد فتزوجها على أربعمائة دينار، فلما نزل المسلمون مرج الصفر أراد خالد أن يعرس بأم حكيم فجعلت تقول لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك. فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها في صبح مدخله فدعا أصحابه على طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفَّت الروم صفوفها صفوفاً خلف صفوف، وبرز رجل منهم معلم يدعو إلى البراز، فبرز إليه أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري فنهاه أبو عبيدة، فبرز حبيب بن مسلمة فقتله حبيب ورجع إلى موضعه، وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل، وشدت أم حكيم بنت الحارث عليها ثيابها وعَدَت وإن عليها لدرعاً والخلوق في وجهها... وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد معرساً بها. وكانت وقعة مرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة، في خلافة عمر بن الخطاب». انتهى.

ص: 338

ويظهر أنها كانت من فاضلات النساء، فقد هرب زوجها عكرمة بن أبي جهل عند فتح مكة فأسلمت هي وبايعت النبي (صلی الله علیه و آله)، وأخذت منه أماناً لزوجها ولحقت به إلى اليمن وجاءت به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلم، وكانت مع زوجها عكرمة في فتوح الشام، وبعد شهادته تزوجت بخالد بن سعيد، وبعد شهادته«فتزوجها عمر بن الخطاب، فولدت له فاطمة بنت عمر». تاريخ دمشق: 70/225. راجع: الكافي: 5/572، الموطأ: 2/545، المستدرك: 3/241، فتح الباري: 8/9، التوابين لابن قدامة/123 والطبقات: 5/50.

9- من أوائل المسلمين عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب

أ- في الخصال/452، عن الإمام الباقر (علیه السلام)، عن جابر قال: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ولد عبدالمطلب فقال: عشرة، والعباس! قال الصدوق: وهم عبدالله، وأبوطالب والزبير، وحمزة، والحارث وهو أسنُّهم، والغيداق، والمقوم، وحجل، وعبدالعزى وهو أبولهب، وضرار، والعباس».

وفي جواهر العقود للأسيوطي: 1/396: «وأجمعوا على تحريم الصدقة المفروضة على بني هاشم، وهم خمس بطون: آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبدالمطلب. واختلفوا في بني المطلب فحرمها مالك وأحمد في أظهر روايته، وجوزها أبو حنيفة». وذكر الشيخ الطوسي أن ذرية عبدالمطلب انحصرت بأولاد أبي طالب، والحارث، والعباس، وأبي لهب، ولا عقب للباقين. الخلاف: 3/540.

ب- أسلم من أعمام النبي (صلی الله علیه و آله) أبوطالب وحماه ونصره، وكذا حمزة، وأسلم عبيدة بن الحارث ابن عم النبي (صلی الله علیه و آله) في أوائل البعثة، وكان أكبر سناً من النبي (صلی الله علیه و آله) . ولم يسلم العباس إلا بعد أن أخذ أسيراً في بدر، وشذ أبولهب إلى النار. «كان «عبيدة» مربوعاً أسمر حسن الوجه». الطبقات: 3/50.

وكان مسلماً صادقاً، ففي المرحلة الأولى من الدعوة عندما تكالبت قريش على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) تعاهد هو وحمزة وعلي وجعفر، على نصرة النبي (صلی الله علیه و آله) وبذل أرواحهم دونه فنزل فيهم قرآن.

ص: 339

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في حديثه مع حبر يهودي: «قد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر، من ذي العطش الصدي! ولقد كنت عاهدت الله عزوجل ورسوله (صلی الله علیه و آله) أنا وعمي حمزة، وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة، على أمر وفينا به لله عزوجل ولرسوله (صلی الله علیه و آله)، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم، لما أراد الله عزوجل فأنزل الله فينا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. حمزة، وجعفر، وعبيدة، وأنا والله والمنتظر يا أخ اليهود، وما بدلت تبديلا». الخصال/376.

وقد طبق الإمام الصادق (علیه السلام) هذه الآية على الشيعة الذين صدقوا ووفوا بولاية أهل البیت (علیهم السلام) فقال لأبي بصير (رحمة الله) «الكافي: 8/34»: «يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً، إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا، وإنكم لم تبدلوا بنا غيرنا، ولو لم تفعلوا لعيركم الله كما عيرهم حيث يقول جل ذكره: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ».

ج- هاجر عبيدة مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وأمَّره النبي (صلی الله علیه و آله) على سرية بعثها لاعتراض قافلة قريش، وكانت أول سرية حسب قول ابن إسحاق والبخاري، والثانية حسب قول غيرهما، والأولى كانت بقيادة حمزة.

قال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 1/313: «وكانت هجرته إلى المدينة مع أخويه الطفيل والحصين بن الحارث بن المطلب، ومعه مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، ونزلوا على عبدالله بن سلمة العجلاني. وكان لعبيدة بن الحارث قَدر ومنزلة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال ابن إسحاق: أول سرية بعثها رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع عبيدة بن الحارث في ربيع الأول سنة اثنتين في ثمانين راكباً، ويقال في ستين من المهاجرين ليس فيها من الأنصار أحد، وبلغ سيف البحر حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعاً من قريش، ولم يكن بينهم قتال».

ص: 340

د- وفي معركة بدر: «فلبس عتبة درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقال: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش، فتطاولت الأنصار لمبارزتهم فدفعهم، وأمر علياً (علیه السلام) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وهو ابن سبعين سنة بالبراز، وقال: قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليطفؤا نورالله، فلما رأوهم قالوا: أكفاء كرام.

فقتل علي الوليد وحمزة عتبة وأصابت فخذ عبيدة ضربة، فحمله علي وحمزة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألستُ شهيداً؟ قال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي، فمات بالصفراء». المناقب: 1/162.

ه- قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) في جوابه على رسالة معاوية: «ثم أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين فكان يقدم أهل بيته إلى حر الأسنة والسيوف، حتى قتل عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر بمؤتة وزيد بن حارثة، وأسلم الناس نبيهم يوم حنين غير العباس عمه، وأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عمه، وأراد من لو شئت يا معاوية ذكرت اسمه، مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إلا أن آجالاً أجلت ومنية أخرت، والله ولي الإحسان إليهم والمنان على أهل بيتي بما أسلفوا من الصالحات. وقد أنزل الله تعالى في كتابه فضلهم يوم حنين فقال: ثمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وإنما عنانا بذلك دون غيرنا، فتذكرُ في الفضل غيرنا وتدعنا! فلم لا تذكر فيه من استشهد في الله ورسوله منا؟ وما ذاك إلا لحسدك إيانا وبغيك علينا، كما أن تلك عادتك فينا! فهل سمعت يا معاوية بأهل بيت نبي في سالف الأمم أصبر على الضراء واللأواء وحين البأس والمواطن الكريهة، من هؤلاء النفر الذين عددتهم من أهل بيتي. وفي المهاجرين والأنصار خير كثير جزاهم الله بأحسن أعمالهم». مناقب الخوارزمي/251.

و- في المناقب للقاضي النعمان/146: «وقد قطع عتبة رجل عبيدة فمات بعد منصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، بالصفراء، رحمة الله عليه».

ص: 341

وفي الإستيعاب: 3/313: «فمات بالصفراء على ليلة من بدر، ويروى أن رسول الله لما نزل بأصحابه بالتاربين قال له أصحابه: إنا نجد ريح المسك! قال: وما يمنعكم وهاهنا قبر أبي معاوية».

وفي وفاء الوفا: 2/1064: «بذفران مسجد يتبرك به على يسار من سلكه إلى ينبع...أمام محرابه قبر قديم محكم البناء...قبر عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب».

ولا بد أن الوهابية أزالهم الله، أزالوه فيما أزالوا من معالم الإسلام!

10- إسلام عمار ووالديه ياسر وسمية رضيالله عنهم

أ- اتفق رواة السيرة على أن عائلة ياسرمن أول المسلمين، وكانوا حلفاء لبني مخزوم، وقد يكون إسلامهم في السنوات الثلاث الأولى يوم كان رئيس بني مخزوم الوليد بن المغيرة، لكن لا تجد له ذكراً في رواية إسلامهم وتعذيبهم، بل الذي عذبهم وقتل ياسراً وسمية هو أبوجهل الذي صار رئيس بني مخزوم بعد هلاك الوليد، وقد هلك مع بقية المستهزئين في السنة الثالثة. نعم، يحتمل أن يكونوا أسلموا سراً وكتموا إسلامهم، أو لم ينكشف إلى ما بعد هلاك الوليد.

إن ظروف السنوات الثلاث الأولى للبعثة، التي ختمت بقوله تعالى: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ. يدل على أنها المرحلة الأصعب والأخطر على حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، وكل من أسلم، حتى كفاه فراعنة قريش الخمسة فأهلكهم في يوم واحد في يوم نزول آية: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ!

ولم يثبت أن أحداً أظهر إسلامه في تلك المدة من غير بني هاشم، إلا أبوذر الغفاري (رحمة الله) فتعرض للأذى والضرب! وقد يكون أسلم في تلك الفترة المقداد وخباب بن الأرت وبلال وعبدالله بن مسعود وآل ياسر، وكانوا يخفون إسلامهم حتى اكتشفه أبوجهل فعذبهم وقتل سمية.

ولهذا لايصح ما ذكروه عن إسلام أبي بكر كقول ابن هشام: 1/164: «فلما أسلم أبوبكر أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله». ثم عدد من دعاهم: عثمان، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، وأنهم أسلموا على يد

ص: 342

أبي بكر وجاء بهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، وقال: «فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا، ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد.. والأرقم بن أبي الأرقم.. وعثمان بن مظعون بن حبيب.. وعبيدة بن الحارث بن المطلب.. وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.. وامرأته فاطمة بنت الخطاب..أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة، وخباب بن الأرت، حليف بني زهرة».

ومن الواضح أن قولهم: «سبقوا الناس بالإسلام فَصَلَّوْا» وضعوه مقابل أن علياً أول من أسلم، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله».

رواه الخطيب في المتفق: 3/141، تاريخ دمشق: 42/39 وفيه: «لأنا كنا نصلي ليس معنا أحد يصلي غيرنا، وبلفظ آخر فيه: ولم يصعد أو ترفع شهادة أن لاإله إلا الله من الأرض إلى السماء إلا مني ومن علي بن أبي طالب».

ب- قال ابن أبي جمهور في غوالي اللئالي: 2/104: «في الحديث أن ياسراً وابنه عماراً وأمه سمية قبض عليهم أهل مكة وعذبوهم بأنواع العذاب لأجل إسلامهم، وقالوا: لا ينجيكم منا إلا أن تنالوا محمداً وتبرؤوا من دينه! فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه، وأما أبواه فامتنعا فقتلا، ثم أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: في عمار جماعة إنه كفر! فقال (صلی الله علیه و آله): كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما خبرك؟ فقال: يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمسح عينيه، ويقول: إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت. فأنزل الله عزوجل فيه: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان. فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): يا عمار إن عادوا فعد. فقد أنزل الله عزوجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا». راجع: الكافي: 2/219 وقرب الإسناد/12.

«صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا..فلما كان

ص: 343

العشي جاء أبوجهل فجعل يشتم سمية ويرفث، ثم طعنها فقتلها»! ابن أبي شيبة: 8/448.

ج- ومن كرامة عمار (رحمة الله) أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تصله النار ولم يصله منها مكروه! وقتلت قريش أبويه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة. ما تريدون من عمار! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان. عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».رجال الطوسي: 1/127، الخوئي: 13/284، الطبقات: 3/248 والذهبي:3/571.

د- تعمدت السيرة الرسمية أن تجعل أبابكر أول من أسلم، وتشيد به وتطمس أدوار من لم ترض عنهم، وأولهم بنو هاشم، وأبوذر، وعمار، وخالد بن سعيد، وخباب، والمقداد، وغيرهم من كبار الصحابة وأبطال الإسلام، الذين سبقوا أبابكر وعمر وعثمان في الإسلام والدعوة والتضحية والجهاد، وشهد النبي (صلی الله علیه و آله) في حقهم شهادات عظيمة رفعت مكانتهم، ومن هؤلاء عمار بن ياسر (رحمة الله) .

ه- «هاجر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة».«شهد بدراً والمشاهد كلها وأبلى بلاء حسناً، ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضاً، ويومئذ قطعت أذنه». عمدة القاري: 1/197،

شرح النهج: 20/37 وغيرهما.

وفي المسترشد/657: «قال فيه النبي (صلی الله علیه و آله): عمار جلدة بين عيني. وهذا حين ارتجز وهم ينقلون حجارة المسجد بأبيات سمعها من أميرالمؤمنين:

لايستوي من يعمر المساجد *** وبات فيها قائماً وقاعداً

ومن غدا عن الغبار حائدا.

يعرِّض بعمر، فقال له عمر: يا بن السوداء لهممت أن أغمسه في أنفك! فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما لكم ولعمار؟عمار جِلدة ما بين عينيَّ، ثم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية».

و- كان منقطعاً إلى علي (علیه السلام) من زمن النبي (صلی الله علیه و آله) قال النوبختي في فرق الشيعة/17: «أول فرق الشيعة وهم فرقة علي بن أبي طالب المسمون بشيعة علي في زمان النبي

ص: 344

وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته منهم: المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبوذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمار بن ياسر...».

وكان بذلك ينفذ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) ففي مناقب الخوارزمي/193، ومذاهب الطوائف/102: «عن علقمة والأسود قالا: أتينا أباأيوب الأنصاري فقلنا: يا أباأيوب إن الله أكرمك بنبيه (صلی الله علیه و آله) إذ أوحى إلى راحلته فبركت على بابك، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ضيفاً لك، فضيلة الله فضلك بها، فأخبرنا عن مخرجك مع علي بن أبي طالب؟ قال أبوأيوب: فإني أقسم لكما لقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذا البيت الذي أنتما فيه وما فيه غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي جالس عن يمينه، وأنا جالس عن يساره، وأنس بن مالك قائم بين يديه إذ تحرك الباب فقال (صلی الله علیه و آله): أنظر من بالباب؟ فخرج أنس فنظر فقال: هذا عمار بن ياسر فقال (صلی الله علیه و آله): إفتح لعمار الطيب المطيب، ففتح أنس ودخل عمار فسلم على رسول الله فرحب به، ثم قال لعمار: إنه سيكون في أمتي من بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضاً، وحتى يبرأ بعضهم من بعض! فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب! وإن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً، فاسلك وادي علي وخل الناس طراً! إن علياً لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي، وطاعتي طاعة الله».

ز- وانتدب الصحابة عماراً ليسلم عريضتهم إلى عثمان، فضربه عثمان، وكاد يقتله! قال ابن الأعثم في الفتوح: 2/372: «واجتمع نفر من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) ثم إنهم كتبوا كتاباً، وذكروا فيه كل حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم ثم إنهم خوفوه في الكتاب وأعلموه أنه إن لم ينزع عما هو عليه خلعوه واستبدلوا به غيره... ثم أقبلوا على عمار بن ياسر وقالوا له: يا أبا اليقظان! هل لك أن تكفينا هذا الأمر وتنطلق بالكتاب إلى عثمان؟ فقال عمار: أفعله، ثم أخذ الكتاب وانطلق إلى عثمان، فإذا عثمان وقد لبس ثيابه وخفيه في رجليه، فلما خرج من باب منزله نظر إلى عمار واقفاً والكتاب في يده فقال له: حاجة يا

ص: 345

أبا اليقظان؟ فقال عمار: مالي حاجة، ولكنا اجتمعنا فكتبنا كتاباً نذكر فيه أموراً من أمورك لا نرضاها لك،قال: ثم دفع إليه الكتاب فأخذه عثمان فنظر فيه حتى قرأ سطراً منه، ثم غضب ورمى به من يده، فقال له عمار: لا ترم بالكتاب وانظر فيه حسناً، فإنه كتاب أصحاب رسول الله وأنا والله ناصح لك! فقال له عثمان: كذبت يا بن سمية! فقال عمار: أنا والله ناصح لك! فقال عثمان: كذبت يا ابن سمية! فقال عمار: أنا والله ابن سمية وابن ياسر. قال: فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضرباً شديداً حتى وقع لجنبه، ثم تقدم إليه عثمان فوطئ بطنه ومذاكيره حتى غشي عليه وأصابه الفتق، فسقط لما به لا يعقل من أمر شيئاً! قال: واتصل الخبر ببني مخزوم فأقبل هشام بن الوليد بن المغيرة في نفر من بني مخزوم فاحتملوا عماراً من موضعه ذلك وجعلوا يقولون: والله لئن مات الآن لنقتلن به شيخاً عظيماً من بني أمية، ثم انطلقوا بعمار إلى منزله مغشياً عليه، فلم يصل ظهراً ولا عصراً ولا مغرباً ولا عشاءً حتى ذهب بعض الليل، ثم أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلواته كلها. قال: فكان هذا من إحداثه الذي نقموا عليه، فبلغ ذلك أباذر وكان مقيماً بالشام فجعل يظهر عيب عثمان هناك ويذكر منه خصالاً قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان... فكتب إليه عثمان: أما بعد، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر أبيذر جندب بن جنادة، فإذا ورد عليك كتابي هذا فابعث به إلي واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها، وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار حتى يغلبه النوم، فينسيه ذكري وذكرك والسلام»!

ح- غيَّبَ رواة السلطة دور عمار في مواجهة السقيفة، ثم في حرب اليمامة والفتوحات! عملاً بسياستهم تجاه علي (علیه السلام) وأصحابه وشيعته! والنصوص القليلة التي وصلتنا تدل على دوره في فتح العراق، وكان والي الكوفة، ونبه عمر إلى خطر الفرس وحثه على مواجهة خطتهم! فقد روى ابن الأعثم في الفتوح: 2/290 ونحوه الطبري: 3/209، رسالة عمار التاريخية إلى عمر الخليفة، ينذره بأن الفرس جمعوا مئة وخمسين ألف جندي: «وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا... فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضيالله عنه

ص: 346

وقرأه وفهم ما فيه، وقعت عليه الرِّعدة والنَّفْضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي: أين المهاجرون والأنصار! ألا فاجتمعوا رحمكم الله وأعينوني أعانكم الله». ثم وصفوا اجتماعهم وكيف وضع علي (علیه السلام) الخطة،وقال عمر لا أبقاني لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وكيف أطلق يده فأدار (علیه السلام) جبهة فتح فارس ومدها بقادة من تلاميذه، وكان لحذيفة وسلمان وعمار أدوار أساسية فيها، وحقق للمسلمين النصر الحاسم،كما أدار قبلها فتح بلاد الشام ومعركتيها المهمتين أجنادين واليرموك، وكان لأبيذر وخالد بن سعيد ومالكالأشتر الأدوار الأساسية فيها.

ط- وتنفس عمار الصعداء لما بايعت الأمة علياً (علیه السلام) فنهض لنصرة إمامه ولازمه في خلافته حتى استشهد بين يديه في صفين!وفي صفين قاتل، وناظر عمرو بن العاص في يوم مشهود وأفحمه وفضح إمامه معاوية!

وكان ينادي في المسلمين: «أيها الناس! والله ما أسلم القوم ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا له أعواناً أظهروه»! الجمل للمفيد/19، والمناقب لمحمد بن سليمان: 2/356، ووقعة صفين/216، بسند صحيح عندهم.

وفي شرح الأخبار: 2/15: «دعا عمار يوم صفين بشراب، فأتي بضياح من لبن فشربه ثم قال: اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه. سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لي: تقتلك الفئة الباغية، ويكون آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن، ثم تقدم إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه».

وفي الاحتجاج: 1/266، عن الصادق (علیه السلام): «لما قتل عمار بن ياسر ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عمار تقتله الفئة الباغية، فدخل عمرو على معاوية وقال: يا أميرالمؤمنين قد هاج الناس واضطربوا، قال: لماذا؟ قال: قتل عمار! فقال: قتل عمار فماذا؟ قال: أليس قال رسول الله: تقتله الفئة الباغية؟ فقال معاوية: دحضت في بولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: فإذاً

ص: 347

رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو الذي قتل حمزة لمَّا ألقاه بين رماح المشركين»!

وقال الإمام الهادي (علیه السلام) مخاطباً جده أميرالمؤمنين (علیه السلام) في زيارته يوم الغدير: «مولاي بك ظهر الحق وقد نبذه الخلق، وأوضحت السنن بعد الدروس والطمس ولك سابقة الجهاد على تصديق التنزيل، ولك فضيلة الجهاد على تحقيق التأويل، وعدوك عدو الله جاحد لرسول الله، يدعو باطلاً ويحكم جائراً، ويتأمر غاصباً، ويدعو حزبه إلى النار. وعمار يجاهد وينادي بين الصفين: الرواح الرواح إلى الجنة. ولما استسقى فسقي اللبن كبَّر وقال: قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية فاعترضه أبو الغادية الفزاري فقتله فعلى أبي الغادية لعنة الله ولعنة ملائكته ورسله أجمعين». المزار لابن المشهدي/277.

ص: 348

الفصل السابع عشر: ولادة الصديقة الزهراء (علیها السلام) وبقية أولاد النبی (صلی الله علیه و آله)

1- لم تتزوج خديجة (علیها السلام) قبل النبي (صلی الله علیه و آله)

أ. من مسائل السيرة: هل كانت خديجة (علیها السلام) متزوجة قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أم كانت باكراً كما قال المؤرخ البلاذري وغيره. ومن الذي أشاع أنها كانت متزوجة؟

لا نجد مستفيداً من هذه الإنتقاص من خديجة (علیها السلام) إلا عائشة التي تعترف أنها تغار منها غيرة شديدة، رغم أنها لم ترها!

قالت عائشة كما في البخاري: 4/231: «ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي (صلی الله علیه و آله) يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد».

وفي رواية البخاري: 6/158: «غِرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إياها وثنائه عليها،وقد أوحى إلى رسول الله أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب». وفي فضائل الصحابة للنسائي/75: «يبشرها ببيت في الجنة» بدون قصب.

فهذه الغيرة المفرطة التي تعترف بها عائشة، يمكن أن تدفعها إلى ارتكاب أنواع من الأعمال، ومنها ادعاء أن خديجة كانت متزوجة قبل النبي (صلی الله علیه و آله) وأن بيتها في الجنة من قصب، لأنها لم تُصَلِّ وماتت قبل أن تُشرع الصلاة، أما بيت عائشة فمن لؤلو ومرجان لأنها صَلَّت،

ص: 349

لكن الصلاة شُرعت في الإسراء والمعراج في أول البعثة، فاضطرت عائشة للقول: إن خديجة ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، والمعراج كان قبل الهجرة بسنة، وبذلك غيرت تاريخ وفاة خديجة، وتاريخ المعراج لتصحح مقولتها، ولا ضير عندها في ذلك!

وفي اعتقادي أن عائشة وراء نشر روايات كثيرة تنتقص من خديجة ومارية القبطية رضيالله عنهما، فقد تحدثت عن غيرتها من مارية أيضاً واعترفت أنها آذتها هي وحفصة حتى جزعت! فاضطر النبي (صلی الله علیه و آله) لنقلها إلى بيت بعيد عنهن!

قالت عن مارية كما في الطبقات: 8/313: «كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان أنزلها أول ما قُدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها، حتى فرغنا لها فجزعت! فحولها إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا. ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه»!

لهذا لا يمكن أن نقبل أحاديث عائشة في أي شئ يتعلق بخديجة ومارية (علیهما السلام)، كما يجب أن ننتبه إلى تحريكها أحداث السيرة تقديماً وتأخيراً وتغييراً لتوافق مقولاتها، والى طاعة الرواة لها لأنها بنت الرئيس، ووقوعهم في تناقضات

بسبب ذلك!

فقد رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يصلي قبل البعثة وبعدها، وكانت خديجة تصلي معه ثم صححوا قول عائشة إنها لم تصلِّ ولذلك كان بيتها في الجنة من قصب!

ورووا أن المعراج كان في السنة الثانية، ثم صححوا قول عائشة أنه كان بعد وفاة خديجة وقبل الهجرة بسنة.

ورووا أن خديجة توفيت قبل الهجرة بسنة، ثم صححوا قول عائشة أنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين..وهكذا!

وقد شهد المؤرخ الثقة البلاذري، وكذا ابن شهرآشوب وغيرهما، بأن خديجة لم تتزوج قبل النبي (صلی الله علیه و آله) قال في المناقب: 1/138و140: «روى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها

ص: 350

وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة.. وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش».

2- عدد أولاد النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

اتفق المؤرخون على أن النبي (صلی الله علیه و آله) رزق بإبراهيم من مارية القبطية، وتوفي ابن سنة ونصف بالمدينة، وكان رزق بصبيين من خديجة: القاسم وعبدالله، وتوفيا في سن الرضاع بمكة، ورزق منها بفاطمة الزهراء (علیها السلام) وهي الوحيدة التي عاشت بعده. وقال أكثرهم إنه رزق منها بثلاثة بنات غير فاطمة هن: زينب ورقية وأم كلثوم، وقال بعضهم إنهن ربائبه، وهن أولاد أخت خديجة، توفيت أمهن وربتهن خالتهن خديجة، وهو الرأ ي الراجح عندنا. وقد توفين في المدينة.

واختلف الرواة كثيراً في ولادة أولاده (صلی الله علیه و آله) قبل البعثة أو بعدها.

والمرجح عندنا رواية الكليني الصحيحة «الكافي: 8/338»: «ولم يولد لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) على فطرة الإسلام إلا فاطمة (علیها السلام)».

والطيب والطاهر هما: القاسم وعبدالله،كما نص عليه ابن شهراشوب في المناقب: 1/140 قال: «ولد له من خديجة القاسم وعبدالله وهما: الطاهر والطيب».

وفي شرح الأخبار: 3/15: «ومات القاسم الطيب، وعبدالله الطاهر بمكة صغيرين».

وفي الفقيه: 3/397: «فأول ما حملت ولدت عبدالله بن محمد (صلی الله علیه و آله)».

وفي الكافي: 3/218 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي فقال لها: مايبكيك؟فقالت: دَرَّتْ دَرِيرَةٌ فبكيت فقال: يا خديجة، أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها، وذلك لكل مؤمن، إن الله عزوجل أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده، ثم يعذبه بعدها أبداً».

وجعل اليعقوبي: 2/20 الطيب والطاهر لقبين لعبدالله.

ص: 351

فالمرجح عندنا أن أبناءه (صلی الله علیه و آله) ثلاثة: القاسم، وعبدالله، وإبراهيم:. وأن القاسم توفي بعد البعثة.

زينب وأم كلثوم ورقية: بنات، أم ربائب؟

المعروف المشهور بين المسلمين أنهن بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع فاطمة الزهراء (علیها السلام) . ويقابله الرأي بأنهن ربائب، وأن ابنته الوحيدة فاطمة (علیها السلام) .

وقد ألف الأخ الباحث السيد جعفر مرتضى كتاباً بأنهن ربائب، وثارت عليه ثائرة البعض، فأجاب برسالة ثانية، وقد أطال الطرفان في الإثبات والرد، ورأي السيد مرتضى أقوى، وخلاصة ما قاله: «قد ذكر المقريزي «إمتاع الأسماع 6/295»أن زينب كانت ربيبة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقال الطريحي: بأن البنات ربائب، ونقل ذلك عن المرتضى في الشافي، والطوسي في التلخيص، وبه قال المقدس الأردبيلي في زبدة البيان، والدلفي، والشيخ محمد حسن آل يس، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، بالإضافة إلى الخاقاني، والجزائري، وربما المحقق الكركي، والمقدسي، والكراجكي..و..الخ.».

مؤيدات لرأي السيد جعفر مرتضى

1. قال ابن شهرآشوب في المناقب: 1/140: «ولد له من خديجة القاسم وعبدالله وهما: الطاهر والطيب، وأربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم وهي آمنة، وفاطمة وهي أم أبيها. ولم يكن له ولد من غيرها إلا إبراهيم من مارية، ولد بعالية في قبيلة مازن في مشربة أم إبراهيم، ويقال ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة ومات بها وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام وقبره بالبقيع. وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش، فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين».

2. يؤيد ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) شمل بعطفه الجميع، لكنه يتعامل مع فاطمة (علیها السلام) كأنها بنته الوحيدة، وكأنه لا بنت له غيرها.

3. أن النبي (صلی الله علیه و آله) أفاض في مدح فاطمة (علیها السلام) ومكانتها ومقامها، ولم يؤثر عنه أي كلمة

ص: 352

في أي من أخواتها الثلاث، توحي بمقامهن، أو بنسبتهن الصريحة اليه.

4. ورد ذكر فاطمة (علیها السلام) في السيرة مع أبيها النبي (صلی الله علیه و آله) وأمها خديجة (علیها السلام)، ولم يرد لواحدة منهن ذكر في ذلك. مثلاً ورد ذكر فاطمة (علیها السلام) مع أبيها في المسجد دونهن، وذكرها عند وفاة والدتها وأنها كانت تسأل أباها عنها، ولم يرد ذكرهن.

5. لعل أقوى ما يؤيد الرأي القائل بأنهن ربائب، ما رواه الحاكم: 2/200 وصححه على شرط الشيخين: «عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دماً، فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقالت بنو أمية نحن أحق بها، وكان تحت ابن عمهم أبي العاص فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، فكانت تقول لها هند: هذا بسبب أبيك! فقال رسول الله لزيد بن حارثة ألا تنطلق تجيئني بزينب؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فخذ خاتمي فأعطاه إياه، فانطلق زيد وبرك بعيره، فلم يزل يتلطف حتى لقى راعياً، فقال: لمن ترعى؟ فقال: لأبي العاص، فقال: فلمن هذه الأغنام؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيه إياها ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم، فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا قال فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاء ته قال لها: إركبي بين يديه على بعيره، قالت: لا، ولكن إركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه، حتى أتت. فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ.

فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة؟ فقال: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها. وأما بعد فلك أن لا أحدث به أبداً. قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ». الأحزاب/5.

ص: 353

أقول: قيل إن اعتذار عروة عن خالته، لأنها روت أن زيد بن حارثة أركب زينب خلفه ولا يناسب بنت النبي (صلی الله علیه و آله) أن تركب خلف رجل غير محرم، فاعتذر عروة بأن زيداً كان أخاها بالتبني، وكانت القصة قبل نزول آية رد التبني.

لكن الصحيح أن عروة اعتذر عن مقولة إنها خير بناتي أصيبت فيَّ، فهذا الذي فيه انتقاص لفاطمة الزهراء (علیها السلام)، وليس ركوب زينب خلفه. فقال عروة إن خالته عائشة قالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) قال عن زينب بنتي، وخير بناتي، قبل نزول آية: أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ، التي تأمر بنسبة الشخص إلى أبيه، أما بعد نزولها فلم يُعَبِّر عنها بأنها بنته! ومعناه أنها كانت ربيبته، وكانت متبناة كما تبنى زيداً!

فهذا يوجب التوقف على الأقل عن القول بأنهن بنات لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقد يكون (صلی الله علیه و آله) سكت عن نسبتهن اليه وجرى عليه الناس، لكن الجزم بأنهن ربائب وإن كانت قرائنه قوية لكنه يحتاج إلى مزيد أدلة أقوى، لتنهض مقابل ما يعارضها.

هذا، وسيأتي ذكر حياتهن في السنة الثانية من الهجرة، بعد معركة أحد.

حَصَرَ اللهُ ذرية نبيه (صلی الله علیه و آله) بفاطمة (علیها السلام)

قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «يا علي: ما بعث الله عزوجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه، وجعل ذريتي من صلبك، ولولاك ما كانت لي ذرية». الفقيه: 4/365.

وقال الفقيه البهوتي في كشاف القناع: 5/31: «أولاد بناته (صلی الله علیه و آله) ينسبون إليه، لحديث إن ابني هذا سيد، مشيراً إلى الحسن. رواه أبو يعلى. وفي حديثٍ: إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي».

وقد بشر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) بذلك، ففي الكافي: 1/464 عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام): «إن جبرئيل (علیه السلام) نزل على محمد (صلی الله علیه و آله) فقال له: يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولد من فاطمة، تقتله أمتك من بعدك، فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة، تقتله أمتي من بعدي، فعرج ثم هبط فقال له مثل ذلك، فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي، فعرج جبرئيل (علیه السلام) إلى السماء ثم هبط فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه

ص: 354

جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: قد رضيت.

ثم أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يولد لك تقتله أمتي من بعدي، فأرسلت إليه: لا حاجة لي في مولود تقتله أمتك من بعدك، فأرسل إليها إن الله قد جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فأرسلت إليه أن قد رضيت، فحَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى. فلولا أنه قال: أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى، لكانت ذريته كلهم أئمة».

وروى ابن حجر في الإصابة: 8/103: «أثنى النبي (صلی الله علیه و آله) على خديجة ما لم يثن على غيرها، وذلك في حديث عائشة قالت: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها! فغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد، دون غيرها من النساء».

وروى الصدوق في الخصال/405، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن عائشة انتقصت خديجة فبكت فاطمة (علیهما السلام) . فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: مه يا حميرا، فإن الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود..وأنت ممن أعقم الله رحمه، فلم تلدي شيئاً».

وفي أمالي الصدوق/345، في كلام الله تعالى لعيسى (علیه السلام): «يا عيسى، جِدَّ في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا بن الطاهرة الطهر البكر البتول،صدقوا النبي الأمِّيَّ صاحب الجمل والمدرعة..ذو النسل القليل، إنما نسله من مباركة، لها بيت في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب».

فهذه أحاديث متظافرة عند السنة والشيعة في أن الله تعالى حصر ذرية رسوله (صلی الله علیه و آله) في فاطمة وعلي (علیهما السلام).

ص: 355

لكن النبي (صلی الله علیه و آله) يؤمن بالبداء ولا يحتم على ربه

قال علي (علیه السلام) «دعائم الإسلام /146»: «اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه، فاحتملته فاطمة (علیها السلام) فأتت به النبي (صلی الله علیه و آله) مستغيثة مستجيرة، فقالت: يا رسول الله، أدع الله لابنك أن يشفيه، ووضعته بين يديه، فقام (صلی الله علیه و آله) حتى جلس عند رأسه، ثم قال: يا فاطمة يا بنية، إن الله هو الذي وهبه لك هو قادر على أن يشفيه!

فهبط عليه جبرئيل فقال: يا محمد، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء، وكل فاء من آفة، ما خلا الحمد لله، فإنه ليس فيها فاء، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه الحمد أربعين مرة ثم صبه عليه، فإن الله يشفيه، ففعل ذلك فكأنما أنشط من عقال»!

وهذا يعني أن النبي (صلی الله علیه و آله) مع يقينه بوعد الله تعالى، لكنه لا يحتم عليه. وهذا معنى الإيمان بالبداء، ويقابله ما حكاه الله عن اليهود: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.

ومعنى قول جبرئيل (علیه السلام) عن خلو سورة الحمد من الفاء، أن ما يبدو لنا من القرآن عادياً فإن وراءه حساباً إلهياً دقيقاً! وأن الحروف الثمانية والعشرين في القرآن ليست كحروف كتاب بشري، بل هي عوالم من العلوم والحقائق! فوجود الحرف له دلالة، وعدم وجوده، وعدده، وتوزيعه في الآية، وفي السورة، وفي كل القرآن!

فحيثما كانت الفاء في سورة أو موضوع، فهي تدل على وجود آفة، وحيثما وجدت الباء والسين والقاف وغيرها، فوراؤها معانٍ!

ثم ما معنى الآفة وخلو سورة الحمد منها؟ وما معنى قراءة كلام الله الذي ليس فيه آفة على قدح ماء؟ وما تأثير تكرار القراءة؟ وهل يتغير تركيب الماء بذلك؟ فتؤثر فيزياؤه المطورة على بدن المريض وتذهب منه الآفة؟

من المؤكد أنه يوجد ارتباط بين النظام الفيزيائي والروحي للكون، وبين نظام القرآن، وأن للقرآن تأثيرات متنوعة على الروح والمادة، هي من فاعليات الله تعالى في الكون، لأن الكون فعله تعالى، والقرآن كلامه وفعله سبحانه!

ومن المؤكد أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعطي من معرفة ذلك أقصى ما يحتمله إنسان، لأنه أفضل

ص: 356

مخلوق، لكنه (صلی الله علیه و آله) يعمل بالأسباب الطبيعية العادية ولايستعمل ذلك إلا بأمر الله تعالى. فالفرق بينه وبين موسى والخضر أن الخضر أعطي العلم اللدني أو علم الباطن فهو يعمل به، وموسى أعطي الشريعة وعلم الظاهر فهو يعمل بها. ونبينا (صلی الله علیه و آله) أعطي العلمين معاً لكنه يعمل بالظاهر إلا عندما يؤمر! وهذه سنة الله تعالى، فهولايطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضاه، ولا يرتضيه إلا إذا استوعب قانون العمل بالقوانين الطبيعية والغيبية، ثم يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً!

والقرآن من أكبر تلك الوسائل، وقد كان له ترتيب نزل به جبرئيل (علیه السلام) منجماً في بضع وعشرين سنة، وكان يلبي حاجة أحداث النبوة وصناعة الأمة، ثم صار له ترتيب ككتاب تقرؤه الأجيال، كتاب من مقدمة وفصول وفقرات.

فما المانع أن يكون للقرآن ترتيب ثالث، ورابع، وخامس، أملاه النبي (صلی الله علیه و آله) على وصيه (علیه السلام)، وادخره عنده مع عهده المعهود إلى ولده المهدي (علیه السلام)؟ والذي يظهر الله به دينه على الدين كله، فتخضع لبراهينه العقول والأعناق. أرواحنا فداه.

وهل إذا قلنا إن النبي (صلی الله علیه و آله) رتب القرآن بأكثر من ترتيب، وإن الروايات تدل على أن النسخة المعهودة منه إلى ولده الإمام المهدي يختلف ترتيبها عن النسخة الموجودة بأيدينا.. صرنا من الكافرين بالقرآن الذي بين أيدينا، والقائلين بتحريفه؟!

على أيٍّ، نحن أتباع النص الثابت عن نبينا وعترته:، وليقل الناس ما يقولون!

سورة الكوثر بشارة ربانية بالذرية الطاهرة

في أسباب النزول/307 للواحدي، وسيرة بن هشام: 2/265: «كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له،

لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. ما هو خير لك من الدنيا وما هو فيها، والكوثر العظيم من الأمر. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ: العاص بن وائل».

وفي أسباب النزول/306: «عن ابن عباس قال: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم.. وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر،

ص: 357

فسمته قريش عند موت ابنه: أبتر وصنبوراً، فأنزل الله سبحانه: إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر».

أقول: هذه الرواية لايصح وقتها ولا بد أن يكون ذلك قبل ثلاث سنين من البعثة لأن العاص بن وائل من المستهزئين الستة الذين قتلهم الله في السنة الثالثة.

كما ما فيها من أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذهب إلى المسجد بحريته، فلم يكن ذلك في الثلاث سنوات الأولى. فلا بد أن تكون وفاة ابنيه قبل السنة الثالثة من البعثة.

وفي إمتاع الأسماع: 5/333 عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) قال: «توفي القاسم بن النبي (صلی الله علیه و آله) فمر رسول الله وهو آتٍ من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو بن العاص، فقال عمرو حين رأى رسول الله: إني لأشنؤه، فقال العاص: لا جرم لقد أصبح أبتراً، وأنزل الله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ».

وتفاوت الرواة في وقت قول العاص ذلك، وفي وقت ولادة القاسم وعبدالله، لكن ذلك لايضر بالمضمون.

3- سنة ولادة فاطمة الزهراء (علیها السلام)

اشارة

وُلدت فاطمة الزهراء (علیها السلام) بعد معراج النبي (صلی الله علیه و آله) . «والقول الحق هو ما عليه شيعة أهل البیت تبعاً لأئمتهم:وأهل البیت أدرى بما فيه، وتابعهم عليه جماعة من غيرهم، وهو أنها قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة، وتوفيت وعمرها ثمانية عشر عاماً».الصحيح من السيرة: 2/177.

وقد اتفق معنا على ولادتها بعد البعثة عدد من رواة السلطة، بينما قال أكثرهم إنها ولدت قبل البعثة باثنتي عشرة سنة، وقال بعضهم بسبع سنين، وقال بعضهم في سنة البعثة، وقال بعضهم بعد البعثة بسنة.

ومن أقوى الأحاديث الدالة على مذهبنا ما رويناه بسند صحيح، أن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل الجنة في المعراج وأكل من ثمارها، فتكونت نطفة فاطمة (علیها السلام) .

قال الصدوق (رحمة الله) في التوحيد/118: «قال النبي (صلی الله علیه و آله): لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما

ص: 358

أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». والأمالي/546، العيون: 2/107، العلل: 1/183، الإحتجاج: 2/191، مناقب ابن سليمان: 2/191. ومعاني الأخبار/396.

وروته مصادر غيرنا: «عن ابن عباس، وسعد بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، والإمام الصادق، وعمر بن الخطاب، وعائشة، قالت إنه (صلی الله علیه و آله) قال لها حينما سألته عن تقبيله ابنته فاطمة (علیها السلام): «نعم يا عائشة، لما أسري بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنة فناولني منها تفاحة فأكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما نزلت واقعت خديجة، ففاطمة من تلك النطفة. ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها». الصحيح من السيرة: 3/10، في مصادره: تاريخ بغداد: 5/87، المواهب اللدنية: 2/29، مقتل الحسين للخوارزمي/63، ذخائر العقبي/36، ميزان الإعتدال: 2/297 و160، مستدرك الحاكم: 3/165، تلخيصه للذهبي، مجمع الزوائد: 9/202، ينابيع المودة/97، نزهة المجالس: 2/179، مناقب المغازلي/358، البحار:18/315 و350، 364ونور الأبصار/44 و45.

وتدل الأحاديث على تعدد تناوله (صلی الله علیه و آله) من ثمار الجنة، وفي بعضها أن جبرئيل (علیه السلام) أتاه بها وأمره أن يجتنب خديجة أربعين يوماً. مأساة الزهراء 2/316.

ولدت (علیها السلام) في العشرين من جمادى الثانية

استفاضت الرواية أنها (علیها السلام) ولدت في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة. ففي دلائل الامامة/79، عن الصادق (علیه السلام) قال: «ولدت فاطمة (علیها السلام)

في جمادى الآخرة يوم العشرين منه، سنة خمس وأربعين من مولد النبي (صلی الله علیه و آله) فأقامت بمكة ثمان سنين، وبالمدينة عشر سنين وبعد وفاة أبيها خمسة وتسعين يوماً، وقبضت في جمادى الآخرة، يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة».

وفي أمالي الصدوق/690، عن المفضل بن عمر: «قلت لأبي عبدالله الصادق (علیه السلام): كيف كانت ولادة فاطمة (علیها السلام) ؟ فقال: نعم، إن خديجة (علیها السلام) لما تزوج بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) هجرتها نسوة مكة فكنَّ لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها، ولا

ص: 359

يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذراً عليه (صلی الله علیه و آله) فلما حملت بفاطمة كانت تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة (علیها السلام) فقال لها: يا خديجة من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه. فلم تزل خديجة:على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئاً.

فاغتمت خديجة لذلك فبينا هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سُمْرٌ طِوال كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك: أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثوم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (علیها السلام) طاهرة مطهرة، فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولاغربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور. ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة وإبريق من الجنة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة بالشهادتين، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد الأوصياء، وولدي سادة الأسباط، ثم سلمت عليهن، وسمت كل واحدة منهن باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً

ص: 360

بولادة فاطمة (علیها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها فدر عليها، فكانت فاطمة (علیها السلام) تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة».

وفي تاريخ دمشق: 12/128، وفيه: «وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته لمن ترضعه، فلما ولدت فاطمة (علیها السلام) لم تُرضعها أحداً غيرها».

وفي علل الشرائع: 1/181: «عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن فاطمة (علیها السلام) لم سميت الزهراء؟ فقال: لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء، كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض».

وفي روضة الواعظين/148: «قال أبوعبدالله (علیه السلام): لفاطمة (علیها السلام) تسعة أسماء عند الله عزوجل: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء».

فاطمة استثنائية لا تقاس بها امرأة

لفاطمة الزهراء (علیها السلام) مقام عظيم في الإسلام بإجماع المسلمين، فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) يحترمها احتراماً مميزاً مقصوداً، ليفهم المسلمين مكانتها!

«كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة، ثم يأتي أزواجه.وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة (علیها السلام)، ثم أتى بيوت نسائه».فتح الباري: 8/89.

وكان يقف لها احتراماً، ويجلسها في مجلسه ويقول: «فاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة». أمالي الصدوق/546.

وروت مصادر الفريقين فضائلها ومناقبها (علیها السلام)، وألف العلماء كتباً خاصة فيها.

ومن فضائلها المدهشة مارواه البخاري: 4/71: «بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ساجد وحوله ناس من قريش المشركين، إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي فلم يرفع رأسه، حتى جاءت فاطمة (علیها السلام)، فأخذت من ظهره، ودعت على من

ص: 361

صنع ذلك، فقال النبي: اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أباجهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، أو أبي بن خلف..».

وكفى بذلك فضيلة: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يَدْعُ على قومه حتى دعت عليهم فاطمة (علیها السلام)، فكان دعاؤها عليهم وحياً له (صلی الله علیه و آله) من ربه، وإذناً له بالدعاء عليهم! فقد استعمل الله تعالى إلهامه لفاطمة (علیها السلام) بدل وحيه لجبرئيل (علیه السلام)! واستعمل إبلاغ رسوله (صلی الله علیه و آله) بعمل فاطمة (علیها السلام) بدل إبلاغه بقول جبرئيل (علیه السلام)! فأي مقام هذا لفاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها.

ومن فضائلها المدهشة أيضاً أنها أخبرت النبي (صلی الله علیه و آله) بمؤامرة قريش ليلة هجرته!

«عن ابن عباس قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى وأساف ونائلة، لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضيالله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: هذا الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فيقتلوك، فما منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك! قال: يا بنية أدِّ لي وضوءً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا هذا هو!وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعُقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه رجل منهم، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلاً من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً».مجمع الزوائد: 8/228 وصححه.

وقد كان تآمر المشركين لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) في غاية السرية، فمن أين جاءت هذه المعلومة السرية للغاية إلى فاطمة (علیها السلام)، إلا من إلهام الله تعالى؟! ومعناه أن الله تعالى جعلها مكان جبرئيل (علیه السلام) في إيصال الوحي إلى رسوله (صلی الله علیه و آله)!فأي مقام عظيم هذا لبنت في الثامنة من عمرها الشريف، يوحي لها الله بتآمرهم عليه فتخبر به أباها سيد المرسلين،ويوحي لها أن تدعو على فراعنة قريش فيدعو عليهم النبي (صلی الله علیه و آله)! فأي امرأة حول النبي (صلی الله علیه و آله)، أو في العظيمات والقديسات في كل التاريخ، وصلت إلى هذا المقام الرباني العظيم؟!

ص: 362

عائشة تشهد بأن فاطمة (علیها السلام) أصدق الناس لهجة

روى الحاكم وصححه بشرط مسلم: 3 /160 عن عائشة أنها قالت في فاطمة (علیها السلام): «مارأيت أحداً كان أصدق لهجة منها، إلا أن يكون الذي ولدها».

ومع ذلك لم يقبل أبوبكر قول فاطمة (علیها السلام) بأن فدكاً لها أعطاها إياها النبي (صلی الله علیه و آله)! قال ابن أبي الحديد في شرح نهجالبلاغة: 16/284: «سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم. قلت: فلمَ لم يدفع إليها أبوبكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الإعتذار والموافقة بشئ. لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعى كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل».

كانت فاطمة (علیها السلام) تسكن مع أبيها في مكة والمدينة

ولدت فاطمة الزهراء في بيت أبيها (صلی الله علیه و آله) وأمها خديجة (علیهما السلام) الواقع بين شعب أبي طالب وسوق أبي سفيان، في سوق الذهب، ويعرف بمولد فاطمة (علیها السلام) . وقد ارتكب الوهابية جريمة، فأزالوه وجعلوا مكانه مرافق، غيضاً وعناداً!

وفي سنة ولادتها (علیها السلام) حاصرت قريش النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم في شعب أبي طالب وهجَّرت عائلته من بيته، ففتحت الزهراء (علیها السلام) عينيها وهي محاصرة في الشعب، وأبوها (صلی الله علیه و آله) مستهدف بالقتل من قريش، يحرسه بالليل والنهار جدها أبوطالب، وابناه علي وجعفر، وعمها حمزة. ولم ترتو الطفلة المباركة من حنان أمها، فقد توفيت أمها قبل الهجرة بنحو سنة، وكان عمرها سبع سنين، حسب ترجيحنا.

وقد رووا حالتها المؤثرة عند وفاة أمها خديجة (علیهما السلام)، ففي أمالي الطوسي/175: «عن بريد العجلي قال: سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد (علیهما السلام) يقول: لما توفيت

ص: 363

خديجة رضي الله عنها جعلت فاطمة صلوات الله عليها تلوذ برسول الله (صلی الله علیه و آله) وتدور حوله وتقول: يا أبهْ أين أمي؟قال: فنزل جبرئيل (علیه السلام) فقال له: ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام وتقول لها: إن أمك في بيت [من قصب] كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة (علیها السلام): إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام».

وجعلنا [من قصب] بين معقوفين لأنا نحتمل أنها تسربت من رواية الطبراني، قال في الأوسط: 1/139: «عن فاطمة أنها قالت للنبي (صلی الله علیه و آله): أين أمنا خديجة؟ قال في بيت [من قصب] لا لغو فيه ولا نصب، بين مريم وآسية امرأة فرعون. قالت مِن هذا القصب؟ قال: لا بل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت».

ويدل هذ الحديث على أن المتبادر من القصب: القصب المعروف، ولذلك سألته فاطمة حسب الرواية. لكنا نرى أن كلمة من قصب إضافة من عائشة وقد بررتها بأن خديجة لم تُصلِّ، فلم تستحق أكثر من بيت القصب!

وقد حاول ابن حجر «فتح الباري: 7/104» أن يصحح وصف القصب ويجعله مدحاً لبيت خديجة، وأطال في ذلك بدون طائل.

غرفة فاطمة (علیها السلام) وبيتها في المدينة

عندما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة انتظر وصول علي والفواطم خمسة عشر يوماً في قباء، ثم دخل معهم المدينة، ونزل في بيت أبي أيوب الأنصاري.

واشترى أرضاً كانت مربد تمر، وبنى فيها مسجده وبيته، وجعل له باباً يفتح على المسجد وباباً يفتح من جهة البقيع، يفتح على غرفة استقبال كبيرة ولوازمها، وغرفة لفاطمة (علیها السلام) ولوازمها، ومن الجهة الثانية دار فيه غرفة خادم وتنور، وبقية لوزم المنزل.

وتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) عدة زوجات بعد هجرته، لكنه لم يُسكن أياً منهن في بيته، بل كان يبني لكل واحدة منهن غرفةً من جهة البقيع شرقي المسجد، في مكان بعيد نسبياً عن بيته.

وكان يخدمه في بيته أنس بن مالك وغيره، وبنات أبي أيوب وغيرهن يخدمن فاطمة.

ص: 364

وبقيت فاطمة (علیها السلام) في بيته حتى تزوجت بعد نحو سنتين. وكانت تشرف عليها أم سلمة، أو بعض نساء النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «وخطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) النساء وتزوج سودة أول دخوله المدينة، فنقل فاطمة (علیها السلام) إليها، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفوض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني، وأعرف بالأشياء كلها». دلائل الامامة/81.

أما علي (علیه السلام) فكان يسكن مع أمه فاطمة بنت أسد رضيالله عنها، في مكان بعيد نسبياً عن المسجد. وعندما تزوج أخذ لهم النبي (صلی الله علیه و آله) بيتاً أقرب اليه، ثم بدله ببيت قريب يفتح على المسجد، عاشت فيه فاطمة وعلي وأم علي:.

وقال ابن سعد في الطبقات: 8/22: «لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها، فلما تزوج علي فاطمة قال لعلي: أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي (صلی الله علیه و آله) قليلاً فبنى بها فيه، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) إليها فقال: إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ، فقالت لرسول الله: فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني. فقال رسول الله: قد تحول حارثة عنا حتى استحييت منه، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك، وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): صدقت، بارك الله عليك، فحولها رسول الله إلى بيت حارثة».

وبعد زواج فاطمة (علیها السلام) بقيت غرفتها في بيت أبيها (صلی الله علیه و آله)، وهي من جهة الصُّفَّة شمالي المسجد. وقد شرحنا جغرافية بيت النبي وبيوت نسائه وقبره الشريف في سيرة الإمام الحسن (علیه السلام) من جواهر التاريخ، وفي كتيب: مصادرة قبر النبي (صلی الله علیه و آله) .

«وقد أخبرني الثقة الشيخ محمد التبريزي أنه دخل إلى سرداب قبر النبي (صلی الله علیه و آله) فوجد من جهة الصفة رخامة يظهر أنها مكان غرفة فاطمة (علیها السلام)

وأنها القبر الرمزي، وقد كتب عليها الحديث النبوي، وهو: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 365

فاطمة مهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي حبل ممدود من السماء إلى الأرض، من اعتصم بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى». رواه الزمخشري في المناقب ص:213، وابن أبي الفوارس في الأربعين حديثاً، والحمويني في فرائد السمطين، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين ص144 وغيرهم.

هذا، وسيأتي تفصيل خبر تزويج فاطمة بعلي (علیهما السلام) في المدينة المنورة.

ص: 366

الفصل الثامن عشر: المرحلة الثانية، الدعوة العامة: فاصدع بما تؤمر

1- عدد سكان مكة وموقع قريش في العرب

كانت بطون قريش نحو عشرين قبيلة، أشهرها: بنو هاشم بن عبدمناف، وبنو أمية بن عبد شمس بن مناف بن قصي، وبنو عبدالدار بن قصي، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبدالعزى، وبنو الحارث بن فهر بن مالك، وبنو عامر بن لؤي،

وبنو سهم بن عمرو، وبنو جمح بن عمرو، وبنو أنمار بن بغيض، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو عدي...إلخ.

وكان عددهم جميعاً نحو أربعين ألف نسمة، لأن غاية ما استطاعوا تجنيده في حرب الأحزاب مع أحابيشهم أربعة آلاف «عمدة القاري: 17/176» فلو حسبنا من كل عشرة أشخاص مقاتلاً، يكون عددهم أربعين ألفاً. ومهما زدنا فلا يصل عددهم إلى ستين ألفاً. لكن التأثير كان لبضع قبائل والباقون تبعٌ لها، فقد وصف ابن هشام: 2/331 اجتماعهم في دار الندوة لبحث «مشكلة محمد (صلی الله علیه و آله)»! فقال: «اجتمع فيها أشراف قريش: من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبوسفيان بن حرب. ومن بني نوفل بن عبدمناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبدالدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة. ومن

بني أسد بن عبدالعزى: أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبوجهل ابن هشام. ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ص: 367

ومن بني جمح: أمية بن خلف.. ومن كان معهم غيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً...إلخ.».

وكان هذا الإجتماع بعد السنة الثالثة، لأنه سمى أباجهل زعيماً لمخزوم، وقد صار زعيمها بعد هلاك الوليد بن المغيرة، بعد ثلاث سنين من البعثة.

والقبائل الأهم خمسة التي اعتبروها تمثل الجميع وارتضوا أن تضع الحجر الأسود مكانه، وهم: بنو هاشم، وقد مثلهم النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: «يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبدالعزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي (صلی الله علیه و آله) في موضعه». الكافي: 4/218.

وأهم الجميع: بنو هاشم وبنو أمية، ولذا تراهم واصلوا صناعة أحداث التاريخ وكانت بقية قريش تبعاً لهم. وقد أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) أن مستقبل الأمة هو الصراع بين بني أمية وبني هاشم، كما رأينا أن وضع العالم ومستقبله الصراع بين بني إسماعيل وبني إسحاق!

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله! قلنا صدق الله وقالوا كذب الله! قاتل أبوسفيان رسول الله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب! وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي والسفياني يقاتل القائم».

معاني الأخبار/346.

2- رؤساء قريش عند بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)

قال المؤرخ محمد بن حبيب في المنمق/ 331: «كانت الرئاسة أيام عبدمناف لعبدمناف بن قصي، وكان القائم بأمور قريش والمنظور إليه منها، ثم أفضى ذلك بعده إلى هاشم ابنه فولي ذلك بحسن القيام، فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو. ثم صارت الرئاسة لعبدالمطلب، وفي كل قريش رؤساء، غير أنهم كانوا يعرفون لعبدالمطلب فضله وتقدمه وشرفه».

ص: 368

وكان أكبر أولاد عبدالمطلب الحارث ثم الزبير، وكان الزبير سيداً في زمن أبيه واشتهر بحلف الفضول لرد الظلم عن الحجاج: «فكان سيداً شريفاً شاعراً، وهو أول من تكلم في حلف الفضول ودعا إليه».أنساب الأشراف/11 والمنمق/171.

«فتحالفوا بالله قائلين: لا ننقض هذا الحلف ما بلَّ بحرٌ صوفة، وأن لا ندع بمكة مظلوماً. قال حكيم: ونظرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد حضرذلك الحلف يومئذ في دار ابن جدعان، وكان الذي كتبه بينهم الزبير بن عبدالمطلب». المنمق/188.

وكان الزبير كأبيه يحب النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي المنمق/349: «قال الزبير بن عبدالمطلب يزفِّن «يُرَقِّص» النبي صلى الله عليه:

محمد بن عبدَمْ *** عشت بعيشٍ أنعمْ

لا زلت في عيشٍ عم *** ودولة ومغنمْ

يغنيك عن كل عمْ *** وعشت حتى تهرم»

وفي المنمق/ 34: «وذكروا أن أكثم بن صيفي «رئيس بني تميم» قال: دخلت البطحاء بطحاء مكة فإذا أنا ببني عبدالمطلب يخترقونها كأنهم أبرجة الفضة، وكأن عمائمهم نوق الرجال ألوية، يلحفون الأرض بالحبرات «ثيابهم طويلة» فقال أكثم: يا بني تميم! إذا أراد الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء! هذا غرس الله لا غرس الرجال! قال هشام: لم يكن في العرب عدة بني عبدالمطلب أشرف منهم ولا أجسم، ليس منهم رجل إلا أشم العرنين يشرب أنفه قبل شفتيه، ويأكل الجذع ويشرب الفرق».

وقيل له: «ممن تعلمت الحكم والرياسة والحلم والسياسة؟فقال: من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب، أبي طالب بن عبدالمطلب». ومعنى: يأكل الجذع ويشرب الفرق: جسيمٌ، يأكل خروفاً، ويشرب سطل لبن.الحجة على الذاهب/334.

وكان أكبر زعما قريش بعد أبي طالب: الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم، وكان بارزاً من حياة عبدالمطلب، وقد أخذه معه في وفد قريش إلى اليمن لتهنئة الملك سيف بن

ص: 369

ذي يزن، وكان الوفد سبعاً وعشرين شخصية فيهم غير الوليد: عتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف. كمال الدين/176 والبحار: 15/146.

وتعددت الزعامة بعد وفاة عبدالمطلب، فبرز ابنه أبوطالب (رحمة الله) رئيساً لبني هاشم، وزعيماً محترماً في قريش والعرب، وبرزت معه شخصيات قرشية، منهم حرب بن أمية بن عبد شمس رئيساً لبني عبد شمس، وأبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية رئيساً لهم أيضأً، وعبد يزيد بن هاشم بن المطلب رئيساً لبني المطلب، والمطعم بن عدي بن نوفل رئيساً لبني نوفل بن عبدمناف، وخويلد بن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد رئيسين لبني أسد بن عبدالعزى، وعكرمة بن هاشم بن عبدمناف رئيساً لبني عبدالدار، ومخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبدمناف رئيساً لبني زهرة، وعبدالله بن جدعان بن عمرو رئيساً لتيم بن مرة، والوليد بن المغيرة رئيساً لبني مخزوم، وعمرو بن نفيل رئيساً لبني عدي، وأمية بن خلف رئيساً لبني سهم وبني جمح، وعمرو بن عبد شمس رئيساً لبني عامر بن لؤي، وضرار بن الخطاب بن مرداس رئيساً لبني محارب بن فهر، وعبدالله أبو أبي عبيدة بن الجراح، رئيساً لبني الحارث بن فهر. المنمق لابن حبيب/331.

وكانت قريش عامة تدين بالوثنية مع بقايا الحنيفية، إلا عبدالمطلب وبنوه فكانوا على حنيفية أبيهم إبراهيم (علیه السلام)،قال أميرالمؤمنين (علیه السلام): «والله ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولا عبدمناف صنماً قط! قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».كمال الدين/174.

وكان أبوطالب يقول: أنا على ملة عبدالمطلب. صحيح بخاري: 2/98.

وكان في قريش ملحدون يعلنون إلحادهم، سماهم المؤرخ ابن حبيب في المنمق/388: زنادقة قريش، وقال إنهم تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة، وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، وصخر بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف، وأبو عزة، والنضر بن الحارث بن كلدة من بني عبدالدار، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان.

ص: 370

3- قريش معدن فراعنة وأكثرهم حق عليهم القول!

سجل القرشيون رقماً قياسياً في العناد فجمعوا العناد اليهودي والبدوي!فلم يقل أحد قبلهم ولا بعدهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. الأنفال: 32. أي: لانريد نبوة بني هاشم، حتى لو كانت حقاً، فإن كانت حقاً فليهلكنا الله بعذاب من عنده، فهو خير لنا!!

«قال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ... ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه». تفسير القمي: 1/276 والصراط المستقيم: 3/49.

ولذا حكم الله عليهم بأنهم فراعنة فقال لهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً. المزمل: 15-16.

وقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله) لما وقف على قتلى بدر: «جزاكم الله من عصابة شراً، لقد كذبتموني صادقاً، وخونتموني أميناً! ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى»! أمالي الطوسي: 1/316 ومجمع الزوائد: 6/91.

«وفرعون وقومه أخذهم الله بالسنين فطلبوا من موسى (علیه السلام) أن يدعو لهم ربه، لكن قريشاً أخذهم الله بالقحط فما دعوا الله، ولا طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يدعو لهم، مع أنه أرسل لهم أحمالاً من المواد الغذائية! فأنزل الله فيهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ». المؤمنون: 76. مستدرك الحاكم: 2/394.

لكن رواة السلطة كذبوا فكذَّبوا القرآن، قالوا: «أتى أبوسفيان يشفع عنده (صلی الله علیه و آله) في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم». النهاية: 6/101.

كما أن أكثر قريش أبلسوا وحق عليهم القول، فلن يؤمنوا أبداً، قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ

ص: 371

سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. يس 6-11.

لكن رواة السلطة كذَّبوا القرآن وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم، بل أسلموا وحسن إسلامهم، وصار منهم خلفاء وأئمة، ما شاء الله!

وقد وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) موقف «الملأ من قريش» من نبوة النبي (صلی الله علیه و آله) والمعجزة التي طلبوها منه ورأوها بأم أعينهم! فقال (علیه السلام):

«ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير وإنك لعلى خير. ولقد كنت معه (صلی الله علیه و آله) لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب. فقال (صلی الله علیه و آله): وما تسألون؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله على كل شئ قدير، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم. قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وإن فيكم من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب. ثم قال: يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن الله. فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه (صلی الله علیه و آله) . فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علواً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها! فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول الله (صلی الله علیه و آله)! فقالوا كفراً وعتواً: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع! فقلت أنا: لا إله إلا الله، فإني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك. فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر

ص: 372

خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا! يعنوني»! نهجالبلاغة: 2/157.

أقول: صدق فيهم قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لاتفيئون إلى خير»! وهذا إخبار عن عاقبة أمرهم، فلم يفيؤوا إلى خير ومنهم من قتل في بدر ورُمي في البئر ثم حزَّبوا الأحزاب، وبعد فتح مكة اضطرهم إلى خلع سلاحهم، لكنهم واصلوا تآمرهم عليه (صلی الله علیه و آله) حتى أخذوا دولته واضطهدوا عترته!

أقول: وما تقدم من سوء عاقبة أكثرهم لا ينافي أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرهم بأنهم سيخضعون جميعاً ويقبلون دعوته ونبوته، كما في الهداية الكبرى/66، عن

أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: «لما ظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودعا قريشاً إلى الله تعالى فنفرت قريش من ذلك وقالوا: يا ابن أبي كبشة لقد ادعيت أمراً عظيماً! أتزعم أنك نبي وأن الملائكة تنزل عليك! فقد كذبت على الله وملائكته، ودخلت فيما دخل فيه السحرة والكهنة! فقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله): لمَ تجزعون يا معاشر قريش أن أدعوكم إلى الله والى عبادته؟ والله ما دعوتكم حتى أمرني بذلك، وما أدعوكم أن تعبدوا حجراً من دون الله ولا وثناً ولا صنماً ولا ناراً، وإنما دعوتكم أن تعبدوا من خلق هذه الأشياء كلها وخلق الخلق جميعاً، وهو ينفعكم ويضركم ويميتكم ويحييكم ويرزقكم.

ثم قال: والله لتستجيبُنَّ إلى هذا الذي أدعوكم إليه شئتم أم أبيتم، طائعين أو كارهين، صغيركم وكبيركم! فبهذا أخبرني جبريل عن رب العالمين، وإنكم لتعلمون ما أنا بكاذب، وما بي من جنون، ولا سحر ولاكهانة، فقد أخبرتكم بما أخبرني به ربي، فاسمعوا وأطيعوا. فكان هذا من دلائله (صلی الله علیه و آله)».

4- فراعنة قريش أكثر من خمسة والمُؤْذُون للنبي (صلی الله علیه و آله) بالعشرات

استشاط زعماء قريش غضباً بمجرد أن سمعوا خبر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)، وذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يسلمهم النبي (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه، فردهم وجمع بني هاشم لحمايته فأجابوه، وأخذ المشركون يترصدون الفرصة لأذى النبي (صلی الله علیه و آله) وقتله. وكان بنو أمية وبنو مخزوم أسوأ من يؤذيه، ومنهم:

ص: 373

من بني عبد شمس: حنظلة بن أبي سفيان، وعبيدة بن سعيد بن العاص، والعاص بن سعيد بن العاص، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأخوه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة بن ربيعة.

ومن بني مخزوم: «الوليد بن المغيرة، وأبوجهل بن هشام وإسمه عمرو بن هشام بن المغيرة، وأخوه العاص بن هشام، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، ورفاعة بن أبي رفاعة وأخواه المنذر وعبدالله، والسائب بن أبي السائب بن عابد، وأخوه حاجب، والأسود بن عبدالأسد بن هلال، وعويمر بن السائب بن عويمر.

ومن بني سهم: منبه بن الحجاج بن عامر، وابنه العاص بن منبه، وأخوه نبيه بن الحجاج، وأبو العاص بن قيس، وعاصم بن أبي عوف.

ومن بني جمح: أمية بن خلف بن وهب، وابنه علي، وأوس بن معير بن لوذان.

ومن بني أسد بن عبدالعزى: زمعة بن الأسود، وابنه الحارث، وأخوه عقيل بن الأسود، وأبو البختري وهو العاص بن هشام بن الحارث، ونوفل بن خويلد بن أسد، وهو ابن العدوية وكان من شياطين قريش.

ومن بني عبدالدار: النضر بن الحارث بن كلدة، وزيد بن مليص. ومن بني تيم بن مرة: عمير بن عثمان، وعثمان بن مالك.

ومن بني عامر بن لؤي: معاوية بن عامر، ومعبد بن وهب، حليفان لهم.

ومن بني نوفل بن عبدمناف: الحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي».ابن هشام 2/525.

راجع أسماء المؤذين للنبي (صلی الله علیه و آله) في إمتاع الأسماع للمقريزي: 14/323 وكامل ابن الأثير: 2/70. وأسماء الملعونين على لسان النبي (صلی الله علیه و آله) في كتابنا: ألف سؤال وإشكال: 2/239.

ولا يعني إهلاك الله تعالى للمستهزئين الخمسة أن غيرهم أقل عداء للنبي (صلی الله علیه و آله) والإسلام، بل يعني أنهم كانوا مانعاً من الدعوة أكثر من غيرهم، وقد يكون غيرهم أخطر منهم على المدى الطويل كأبي سفيان، الذي هو العدو الأول للإسلام، فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنا وآلُ أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله قلنا صدق الله وقالوا كذب الله..». معاني الأخبار/346.

ص: 374

5- المستهزئون الخمسة عقبة أزاحها الله من طريق الدعوة!

يعتبر النص القرآني في المستهزئين ركناً في تدوين السيرة، لأنه قطعي الدلالة مجمع عليه عند المؤرخين، وأن الله تعالى أهلكهم ففتح باب الدعوة لرسوله (صلی الله علیه و آله) وأمره أن يصدع بأمر ربه. والصدع: الإعلان بحزم، فقال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ.

وتفاوتت الرواية في عددهم من خمسة إلى سبعة عشر، لكنا اعتمدنا الخمسة لأنه المشهور والمروي عن أهل البیت (علیهم السلام) .وكان إهلاكهم بمعجزة ربانية، لتبدأ مرحلة جديدة في عمل النبي (صلی الله علیه و آله): مرحلة إعلان الدعوة العامة إلى الإسلام، بعد أن كانت دعوة خاصة لبني هاشم. وكان كل واحد من المستهزئين يقول قبل هلاكه: «قتلني رب محمد»! فانتشر الخوف في قريش من رب محمد (صلی الله علیه و آله)!

وكان إهلاكهم يوم تشديد إنذارهم للنبي (صلی الله علیه و آله) بالقتل إن لم يتراجع عن نبوته!

وعندما أخبره جبرئيل بهلاكهم: «فخرج رسول الله فقام على الحِجْر فقال: يا معشر قريش، يا معشر العرب، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة. فاستهزؤوا وقالوا: جُنَّ محمد بن عبدالله، ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب». تفسير القمي: 1/377.

وفي الخصال/279، عن الإمام الحسين (علیه السلام): «أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال ليهودي من أحبار الشام في جواب مسائله: فأما المستهزؤون فقال الله عزوجل له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ، فقتل الله خمستهم، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد: أما الوليد بن المغيرة فإنه مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه، فانقطع أكحله حتى أدماه، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد! وأما العاص بن وائل السهمي، فإنه خرج في حاجة له إلى كداء فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة، فمات وهو يقول:

قتلني رب محمد!

ص: 375

وأما الأسود بن عبد يغوث، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له فاستظل بشجرة تحت كداء فأتاه جبرئيل (علیه السلام) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: إمنع هذا عني! فقال: ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلا نفسك! فقتله وهو يقول: قتلني رب محمد!..

وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه، وهو يقول: قتلني رب محمد!

وأما الأسود بن المطلب فإنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات، وهو يقول: قتلني رب محمد!

كل ذلك في ساعة واحدة، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك، فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً بقولهم، فأتاه جبرئيل (علیه السلام) ساعته فقال له: يامحمد السلام يقرئك السلام وهو يقول: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادع، وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. قال: يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني؟ قال له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. قال: ياجبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي؟ فقال: قد كفيتهم! فأظهر أمره عند ذلك»!

وهذه الرواية أوثق عندي من رواية ابن إسحاق قال: 5/254: «كان المستهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) خمسة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب، والأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل،والحارث بن الطلاطلة أحد خزاعة، فكانوا يهزؤون برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويغمزونه، فأتاه جبريل فوقف به عند الكعبة وهم يطوفون به فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى بطنه فمات حبناً، ومر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح في كعب رجله قد كان أصابه قبل ذلك بيسير فانتقض به فقتله، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته، ومر به الحارث

ص: 376

بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتحض قيحاً حتى قتله، ففيهم أنزل الله عزوجل: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ». وابن هشام: 2/277. وفي فتح الباري: 8/290: «الأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والعاصي بن وائل، والحرث بن قيس، والوليد بن المغيرة».

6- رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة

أ. من صفات المستهزئين الخمسة: الإلحاد، والمادية، والتكبر، والتعقيد النفسي! بحيث أن الله تعالى الذي وسع حلمه كل شئ، قال عنهم وعن رئيسهم الوليد:

وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُوم.

وقال عزوجل: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ.ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ.

فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاسِحْرٌ يُؤْثَرُ .

وكانت مهنة الوليد صناعة الدروع «البحار: 31/101» وكان زنديقاً ملحداً لا يؤمن بشئ، وكذا العاص بن وائل، وعدد من كبار قريش. المنتمق/288 وعمدة القاري: 11/209.

وكان الوليد رئيس بني مخزوم، وهو الذي قاد زعماء قريش في مواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) .

وفي تفسير القمي: 2/430: أنه نزل فيه قوله تعالى: كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى. أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى.

وفي تفسير القمي: 2/393: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله (صلی الله علیه و آله) . وإنما سمي وحيداً لأنه قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة، وكان له مال كثير وحدائق، وكان له عشر بنين بمكة، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وتلك القنطار في ذلك الزمان».

ص: 377

ب. وقد وصف الله تعالى الوليد بقوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، لأنه كان دعياً وليس لأبيه!

وفي الكشاف: 4/142: «العتل: الجافي. والزنيم: الدعي. وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده».

وفي المنمق/104، أنه تنافر مع أسيد بن أبي العيص الأموي فقال له أسيد: «أنت رجل من كنانة من بني شجع! دخيل في قريش نزيع في بني مخزوم»!

وسيأتي طعن أبي طالب (رحمة الله) بنسبه. كما أن بني أمية مطعون في نسبهم، فقد قال أبوطالب (رحمة الله) إن أمية كان عبداً لعبدالمطلب. شرح النهج: 15/233.

كما طعن النبي (صلی الله علیه و آله) في نسب عقبة بن أبي معيط فقال له: «ما أنت وقريش، وهل أنت إلا يهودي من صفورية»! الإحتجاج: 1/412، الإصابة: 5/398 والطبري: 5/157.

ج. قال الوليد بن المغيرة للنبي (صلی الله علیه و آله): «والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك! لأنني أكبر منك سناً، وأكثر منك مالاً». المناقب: 1/47 وعدد من التفاسير.

وفي تفسير الثعلبي: 4/187: ونزلت فيه: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ. اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وقال الوليد: «أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها! ويترك أبو مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين»! «الإحتجاج 1/26 وابن هشام 1/242». فأنزل الله: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ. الزخرف: 31-32.

د. وفي السنة الأولى لبعثة النبي (صلی الله علیه و آله) دعا الوليد زعماء قريش إلى وليمة ليتفقوا على موقف واحد من النبي (صلی الله علیه و آله)! ففي الطبراني الكبير: 11/102: «صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن.وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: سحر يؤثر! فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر».

وتقدم ذلك في فصل دعوة العشيرة الأقربين.

ص: 378

ه. اقترح زعيم قريش الوليد على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعبدوا ربه سنة، ويعبد آلهتهم سنة!

«اعترضوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، منهم عتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن سعيد، فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشترك نحن وأنت في الأمر، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه، وإن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه، فأنزل الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ». أمالي المفيد/246، أمالي الطوسي/19 وسيرة ابن هشام الحميري: 1/243. وفي ذلك إخبار بأن هؤلاء لن يؤمنوا أبداً.

و. قال الوليد ومعه الملأ من قريش للنبي (صلی الله علیه و آله): «إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين قال: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، فأشار إليه بإصبعه فانشق شقتين رؤي حراء بين فَلْقيه فقالوا: هذا سحر مستمر من سحر محمد! فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ». المناقب: 1/106، مجمع البيان: 9/310، الفصول المختارة/20، مقدمة فتح الباري/300، المناقب لمحمد بن سليمان: 1/42، الصحيح من السيرة: 3202 وجعلها في السنة الثامنة.

أقول: أفاضت التفاسير ومصادر السيرة في وصف معجزة شق القمر، وفي الخرائج: 1/31 أنها كانت في أول البعثة، وروي أنها مرتان. عيون الأثر: 1/149.

وذكرت رواية ابن عباس في الحلية وفتح الباري: 7/139 إسم الوليد بن المغيرة في الذين طلبوا هذه المعجزة، وهو دليل على أنها كانت قبل هلاكه في السنة الثالثة، ولا يضر وجود إسم أبي جهل لأنه كان إلى جانب الوليد، ولعل الطلب تكرر.

هذا، وقد ذكر الفلكيون أن في القمر شقاً الآن، فقد يكون انشق حقيقة، ثم عاد واحداً.

ص: 379

ز. هاجر الأوس بسبب صراعهم مع الخزرج إلى مكة وحالفتهم قريش، فأبطل الوليد بمكيدته حِلْفَهم، ففي المنمق/268: «خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها، فلما حالفتها قال الوليد بن المغيرة: والله! ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم، فاقطعوا حلف الأوس، فقالوا: بأي شئ؟ قالوا: إن في القوم حشمة، فقولوا: إنا قد نسينا شيئاً لم نذكره لكم: إنا قوم إذا طاف النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قبلها ولمسها بيده، فلما قالوا ذلك للأوس نفروا وقالوا: إقطعوا الحلف بيننا وبينكم فقطعوه، ثم انقطع هذا الحلف».

ح. كانت وصية الوليد لأولاده من أغرب الوصايا، ففي المنمق/191: «فلما حضرت الوليد الوفاة..فدعا ولده هشاماً وخالداً والوليد والفاكه وأبا قيس وقيساً وعبد شمس وعمارة، فقال لهم: يا بَنِيَّ إني أوصيكم بثلاث فلا تضيعوهن: دمي في خزاعة فلا تطلُّنَّه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكن أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم! ورباي في ثقيف فلا تدَعوه حتى تأخذوه، وعُقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به، وكان أبو أزيهر قد زوجه ابنة له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات... فقال له بنوه: والله ما نعلم أحداً من العرب أوصى بنيه بشرِّ مما أوصيت به... فلما هلك الوليد بن المغيرة وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون عقله... وغلظ الأمر بينهم، وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلاً من كعب بن عمرو من خزاعة...ثم إن الناس ترادوا وعرفوا أنما يخشى القوم السُّبَّة، فأعطتهم خزاعة بعض العقل، وانصرفوا عن بعض».

وسبب طلبه ديته من خزاعة أنه: «مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد»! الخصال/279.

فقد اعترف بأن رب محمد قتله، وأوصى بأخذ الدية من صاحب السهام!

ونفذ ابنه خالد وصيته، فأخذوا الدية من خزاعة، وقتلوا أبا أزيهر غيلة، عندما كان ضيفاً عند حليفهم أبي سفيان! المنمق/199و203 وابن هشام: 2/278.

ص: 380

ط. أسلم الوليد بن المغيرة في مكة، ثم ارتد مع ابن أخيه الفاكه، عمدة القاري: 18/187. ثم كان مع المشركين في بدر فقتله علي (علیه السلام) .شرح الأخبار: 1/265 وابن هشام: 2/528.

وعمارة بن الوليد، هو الذي جاؤوا به إلى أبي طالب ليعطيهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه ويأخذه بدله! ثم أرسلوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي فاختلفا وهلك هناك.

والوليد بن الوليد بن المغيرة، زعموا أنه أسلم سراً، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يدعو له في قنوته بعد صلح الحديبية: «فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سني يوسف». رواه بخاري: 1/194، سبع مرات!.

وتوفي الوليد بن الوليد في المدينة في حياة النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي الكافي: 5/117 عن الإمام الصادق (علیه السلام) «فقالت أم سلمة «المخزومية» للنبي (صلی الله علیه و آله): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن له، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت:

أنعى الوليد بن الوليد *** أبا الوليد فتى العشيرة

حامي الحقيقة ماجدي *** سمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثاً في السنين *** وجعفراً غدقاً وميرة

قال: فما عاب ذلك عليها النبي (صلی الله علیه و آله) ولا قال شيئاً».

وهشام بن الوليد بن المغيرة، كان من شخصيات قريش المؤلفة قلوبهم. «الإستيعاب 4/1541». وهو الذي قتل أبا أزيهر الدوسي. وهو الذي هدد عثمان عندما ضرب عماربن ياسر (رحمة الله) حليف بني مخزوم، فقال له: «أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا، لأقتلن به رجلاً عظيماً من بني أمية». الإمامة والسياسة: 1/51.

وخالد بن الوليد، كان مع أبيه في عدائه للنبي (صلی الله علیه و آله)، وأحد الذين انتدبتهم قريش لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة عندما بات علي (علیه السلام) في فراشه: «فلما بصر بهم

ص: 381

علي قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب به عليٌّ فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر. أمالي الطوسي/467.

ومعنى يقمص قِمَاصَ البكر: يصيح كالجمل الصغير. وشارك مع إخوته في بدر فنجا، وقُتل أخوه أبو قيس، وأُسر أخوه الوليد بن الوليد.شرح النهج: 14/203.

وكان خالد أحد قادة المشركين في أُحُد، وسبباً في هزيمة المسلمين بعد انتصارهم عندما اغتنم مع عكرمة وضرار فرصةً وهاجمهموهم من خلفهم.

وأسلم خالد بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص لما رأيا أن ميزان القوة تحول إلى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً! «ابن هشام: 3/748»فجاء إلى المدينة هو وعمرو بن العاص وأسلما. وبعد فتح مكة شارك مع قريش إلى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) في حرب حنين، وكان أول المنهزمين.

وبعد فتح الطائف وخضوع ثقيف، أراد خالد أن يستوفي ربا أبيه من ثقيف فمنعه النبي (صلی الله علیه و آله) . «المنمق/203 والحدائق: 19/222»، ثم طالبهم به، فشكاه الثقفيون إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. «عمدة القاري: 11/201 وجواهر الكلام: 23/299». فأكد النبي إلغاء

ربا الجاهلية.

ي. عمل خالد مع اليهود والطلقاء لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان في من هاجموا بيت علي وفاطمة (علیهما السلام) وهددوهم بحرق البيت عليهم إن لم يبايعوا! وأرسله أبوبكر لإخضاع مالك بن نويرة رئيس عشيرة من بني تميم، الذي عينه النبي (صلی الله علیه و آله) مسؤولاً عن صدقات قومه، فلما بلغه وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) جاء إلى المدينة:

قال ابن شاذان في الفضائل/76: «فدخل يوم الجمعة وأبوبكر على المنبر يخطب بالناس فنظر إليه وقال: أخو تيم؟ قالوا: نعم. قال: فما فعل وصي رسول الله الذي أمرني بموالاته؟ قالوا: يا أعرابي، الأمر يحدث بعده الأمر! قال: بالله ما حدث شئ وإنكم قد خنتم الله ورسوله! ثم تقدم إلى أبي بكر وقال: من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله جالس؟فقال أبوبكر: أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد

ص: 382

رسول الله! فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد، فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه! فركب راحلته وأنشأ:

أطعنا رسول الله ما كان بيننا *** فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر

إذا مات بكر قام عمر و مقامه *** فتلك وبيت الله قاصمة الظهر

يدب ويغشاه العشار كأنما *** يجاهد جماً أو يقوم على قبر

فلو قام فينا من قريش عصابة *** أقمنا ولكن القيام على جمر

قال فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد، وقال له: قد علمت ما قاله مالك على رؤس الأشهاد، ولست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم، فاقتله!

فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارساً يعد بألف، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق، ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله وأعرس بامرأته في ليلته»!

ك. ضخموا دور خالد في الفتوحات، ونسبوا اليه بطولات غيره، وقد بينا بعض مكذوباتهم في كتاب: قراءة جديدة في حروب الردة، والفتوحات.

ل. كان عمر بن الخطاب يبغض خالد بن الوليد، لأن خالداً كسر ساقه، فكان عمر يخوي، أي يفحج في مشيه كل عمره. النهاية: 7/131 وتفسير الطبري: 2/79.

وكان خالد يرى نفسه أنه ابن أكبر شخصية في قريش، وأن عمر مغمور ومن قبيلة مغمورة، ويرى أن عمر ن يعمل مبرطشاً أي دلال كراية حمير وإبل. «نهاية ابن الأثير 1/119 وتاج العروس 9/58». وكان عمر قبل ذلك خادماً لأخ خالد عمارة بن الوليد في سفر له إلى الشام، فغضب عليه عمارة وأراد أن یقتله.المنمق/130.

وأول عمل قام به عمر لما صار خليفة أنه عزل خالداً، وكتب لأبي عبيدة بن الجراح إن لم يتراجع عن تحقره لأم عمر ونفيها من بني مخزوم، أن يعزله ويقاسمه كل ما يملك، فأبى خالد فعزله وقاسمه حتى أخذ «فردة» نعله وترك له الثانية!

وعاش خالد بقية حياته في حمص، ولما مات منع عمر البكاء عليه.

م. برز من أولاد خالد عبدالرحمن وكان قائد جيش معاوية في صفين،

ص: 383

وأحبه أهل الشام فطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده، فقتله معاوية بالسم على يد طبيب مسيحي، فجاء أخوه المهاجر من مكة وأخذ بثأره. وكان المهاجر شيعياً شهد مع علي (علیه السلام) حرب الجمل وصفين، وله أولاد شيعة. «الاستيعاب: 4/1453». وقيل مات في طاعون عمواس عشرون شخصاً من ولد الوليد بن المغيرة. لكنا نشك في موته بالطاعون، فلعله بسم معاوية، مثل بلال وأصحابه الثلاثين الذين كتبوا إلى عمر بفساد معاوية، وكان عمر يدعو عليهم في صلاته، فاستجاب الله دعاءه ودعاء معاوية وماتوا جميعاً في تلك السنة! الإستيعاب: 4/1711.

7- إهلاك المستهزئين غيَّرَ ميزان القوة لصالح النبي (صلی الله علیه و آله)

كان إهلاك المستهزئين الخمسة قوة لأبي طالب (رحمة الله)، فقوَّى عزيمة بني هاشم في حماية النبي (صلی الله علیه و آله) . ومما يدل على ذلك موقف حمزة القوي الذي تحدى به أباجهل رئيس مخزوم وضربه على رأسه بقوسه، وأعلن إسلامه!

وكذلك مواقف أبي طالب في حماية النبي (صلی الله علیه و آله) التي تحدى فيها قريشاً وأذلها!

منها: ما رواه الكافي: 1/449، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «بينا النبي (صلی الله علیه و آله) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد، فألقى المشركون عليه سلا ناقة فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله، فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: وماذا يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبوطالب حمزة وأخذ السيف، وقال لحمزة: خذ السلا! «الفرث والدم» ثم توجه إلى القوم والنبي معه، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه، ثم قال لحمزة: أمِرَّ السَّلى على سِبالهم «شواربهم» ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم!

ثم التفت أبوطالب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا»!

وروت المصادر القصة بصيغ مشابهة وفيها أبيات لأبي طالب (رحمة الله)، كرواية السيد فخار بن معد في كتابه الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب/346، عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «مر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً

ص: 384

وكانوا يسمونها الظهيرة ويذبحونها على النصب فلم يسلم عليهم، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا: يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه؟ فقال عبدالله بن الزبعرى السهمي: أنا أفعل، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره، فانصرف النبي حتى أتى عمه أباطالب فقال: يا عم من أنا؟ فقال: ولمَ يا بن أخ؟ فقص عليه القصة، فقال: وأين تركتهم؟ فقال: بالأبطح، فنادى في قومه: يا آل عبدالمطلب يا آل هاشم، يا آل عبدمناف، فأقبلوا إليه من كل مكان مُلَبِّين قال: كم أنتم؟ قالوا: نحن أربعون قال: خذوا سلاحكم فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا فقال لهم: ورب هذه البنية لايقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف! ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات، حتى قطعها ثلاثة أفهار «أحجار» ثم قال: يا محمد سألتني من أنت ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي (صلی الله علیه و آله):

أنت النبي محمدُ *** قَرْمٌ أغَرُّ مُسَوَّدُ

لمسوَّدين أكارمٍ *** طابوا وطاب المولد

نعم الأرومة أصلها *** عمرو الخضم الأوحد

هشم الربيكة في الجفان *** وعيش مكة أنكد

فجرت بذلك سنة *** فيها الخبيزة تثرد

ولنا السقاية للحجيج *** بها يماث العنجد

والمأزمان وما حوت *** عرفاتها والمسجد

أنى تضام ولم أمت *** وأنا الشجاع العربد

وبطاح مكة لا يرى *** فيها نجيع أسود

وبنو أبيك كأنهم *** أسدُ العرين توقد

ولقد عهدتك صادقاً *** في القول لا تتزيد

ص: 385

ما زلت تنطق بالصواب *** وأنت طفل أمرد

ثم قال: يا محمد أيهم الفاعل بك؟ فأشار النبي (صلی الله علیه و آله) إلى عبدالله بن الزبعرى السهمي الشاعر، فدعاه أبوطالب فوجأ أنفه حتى أدماها، ثم أمر بالفرث والدم فأُمِرَّ على رؤس الملأ كلهم!ثم قال: يا ابن أخ أرضيت؟ ثم قال: سألتني من أنت؟ أنت محمد بن عبدالله، ثم نسبه إلى آدم، ثم قال: أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً. يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني»!

ورواه في شرح النهج: 14/77، البحار: 35/164 والغدير: 7/388، وثمرات الأوراق بهامش المستطرف: 2/3، كما في حياة أميرالمؤمنين. والربيكة: طعام من تمر وأقط وسمن. والعنجد: الزبيب.

وروى في التوحيد/158، تفسير الإمام الباقر (علیه السلام) للبيتين الأخيرين، قال: «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ. قال: يكاد العالم من آل محمد: يتكلم بالعلم قبل أن يسأل. نُورٌ عَلَى نُورٍ: يعني: إماماً مؤيداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عزوجل خلفاءه في أرضه وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم. يدل على صحة ذلك قول أبي طالب في رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنت الأمين محمد..الأبيات.. يقول: ما زلت تتكلم بالعلم قبل أن يوحى إليك، وأنت طفل كما قال إبراهيم (علیه السلام) وهو صغير لقومه: إنِّي بَرِئٌ مِمَّا تُشْرِكُون. وكما تكلم عيسى (علیه السلام) في المهد فقال: إنِّي عَبْدُ الله آتانيَ الكتَابَ وجَعَلَنِي نَبِياً.. الآية..».

ومنها: ما رواه في كنز الفوائد/74، قال: «ومن ذلك أن أباجهل جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه حَجَرٌ يريد أن يرميه به إذا سجد، فلما سجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) رفع أبوجهل يده فيبست على الحجر، فرجع فقالوا له: أجبنت؟ قال: لا، ولكن رأيت بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه!وهذا الحديث مشهور وفيه يقول أبوطالب (رحمة الله):

أفيقوا بني غالب وانتهوا *** عن الغي من بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذن خائف *** بوائق في داركم تلتقي

ص: 386

تكون لغيركم عبرة *** ورب المغارب والمشرق

كما ذاق من كان من قبلكم *** ثمود وعاد فمن ذا بقي

غداة أتاهم بها صرصر *** وناقة ذي العرش قد تستقي

فحل عليهم بها سخطة *** من الله في ضربة الأزرقجج

غداة يعض بعرقوبها *** حساما من الهند ذا رونق

وأعجب من ذاك في أمركم *** عجائب في الحجر الملصق

بكف الذي قام من خبثه *** إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه *** على رغمة الجائر الأحمق

أحيمق مخزومكم إذ غوى *** لغي الغواة ولم يصدق»

ورواه الحميري في قرب الإسناد/317، بسند صحيح. والإحتجاج: 1/343 وشرح النهج: 14/74.

ومن عجيب ما تراه في نسخة سيرة ابن إسحاق 4/193 أن بعضهم زعم أن هذه الأبيات لعمر بن الخطاب، مع أن عمر لم يقل الشعر! قال: «قال عمر بن الخطاب فيما يزعمون بعد إسلامه، يذكر ما رأت قريش من العبرة فيما كان أبوجهل هم به من رسول الله وقائل يقول قالها أبوطالب، والله أعلم بمن قالها»!

ونلاحظ في شعرأبي طالب توبيخه لزعماء قريش عامة، ولأبي جهل خاصة، وهذا أشد عليهم من ضربة حمزة له في نادي قريش، مما يعني أن ميزان القوة بعد هلاك الفراعنة الخمسة مال بشكل واضح لمصلحة النبي (صلی الله علیه و آله)، فقد انخذل زعماء قريش وسكتوا أمام ما فعله حمزة وما فعله أبوطالب، وما فعله علي (علیه السلام) الذي: «كان يقضم آذان صبيانهم وأنوفهم! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا عليٌّ، قضمنا علي. تفسير القمي: 1/114! ويسكت الآباء على فعل علي (علیه السلام)!

ومنها: أن أحد أعيان بني مخزوم أسلم، فبادر بنو مخزوم ورئيسهم أبوجهل ليؤذوه، فتدخل أبوطالب (رحمة الله) وخلصه من تعذيبهم لأن أمه من بني هاشم»!

ففي سيرة ابن إسحاق 2/145: «عَدَتْ قريش على من أسلم منهم فأوثقوه

ص: 387

وآذوه، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً، وعدت بنو جمح على عثمان بن مظعون، وفرَّ أبو سلمة بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه وكان خاله، فجاء بنو مخزوم ليأخذوه فمنعهم فقالوا: يا أباطالب منعت منا ابن أخيك أتمنع منا ابن أخينا؟ فقال أبوطالب: أمنع ابن أختي مما أمنع ابن أخي! فقال أبولهب - ولم يتكلم بكلام خير قط ليس يومئذ-: صدق أبوطالب لايسلمه إليكم! فطمع فيه أبوطالب حين سمع منه ما سمع ورجا نصره والقيام معه، فقال شعراً استجلبه بذلك:

وإن امرأً أبو عتيبة عمه *** لفي روضة من أن يسام المظالما

أقول له وأين مني نصيحتي *** أبا معتب ثبت سوادك قائما

ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة *** تسب بها أما هبطت المواسم

[وول سبيل العجز غيرك منهم *** فإنك لم تخلق على العجز لازما ]

وحارب فإن الحرب نصف ولن تری *** أخا الحرب يعطي الضيم إلا يسالما

وولى سبيل العجز غيرك منهم *** فإنك لن تلحق على العجز لازما»

[وكيف ولم يجنوا عليك عظيمةً *** ولم يخذلوك غانماً أو مغارما]

[جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً *** وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما]

[بتفريقهم من بعد ود وألفة *** جماعتنا كيما ينالوا المحارما ]

[كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً *** ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما ]»

أقول: ما بين المعقوفين من نسخة ابن هشام: 1/248 مع أنه نقلها عن ابن إسحاق، وليست في نسخته التي بأيدينا، فدل على أنها ناقصة أو محرفة»!

وقال ابن هشام: «وبقي منها بيت تركناه». والبيت الذي حذفه رواه القاضي النعمان في المناقب/123، قال: «فقام إليهم أبولهب فقال: قد والله أكثرتم على هذا الشيخ! ما تزالون توثَّبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام حتى يبلغ ما أراد! فقالوا: بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة. وخافوا أن يجتمع أمره مع

ص: 388

أبي طالب فيعظم الأمر عليهم، ولم يكن من أبي لهب قبل ذلك خير. فلما سمع منه أبوطالب ما سمع طمع فيه فقال..وروى البيت الذي حذفه ابن هشام:

أطاعوا ابن ذكوان وقيساً ودَيْسماً *** فضلوا وذاقوا بالجميع المياسما.

وقال: يعني بابن ذكوان: عقبة بن أبي معيط. ودَيْسم: الوليد بن المغيرة. وقيس: قيس بن عاقل». والدَّيْسَم: ابن الذئب من الكلبة! لسان العرب: 12/201.

وكان أبوطالب (رحمة الله) يطعن في نسب الوليد بن المغيرة، وقد صدَّقه الله تعالى فوصفه في سورة القلم بأنه: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. «فتح الباري 8/507».

أي دعي ملحق بأبيه وليس له! العين: 1/375.

فترك ابن هشام هذا البيت ليغطي على أصل الذين حكموا هذه الأمة المسكينة! ومنه تعرف لماذا يكرهون شعر أبي طالب (رحمة الله)! ويظهر أن قيس بن عاقل كان رئيس بني جمح، فقد ذمهم أبوطالب ووصفهم بأنهم عبيده. ابن هشام: 1/179.

كما يظهر أن ابن أبي معيط الأموي كان له تأثير على أبي سفيان وبني أمية عامة في عداوة النبي (صلی الله علیه و آله)، ونسبوا آل معيط إلى ذكوان بن أمية، وقال عنه النبي (صلی الله علیه و آله): «ما أنت وقريش، وهل أنت إلا يهودي من صفورية؟!» البكري: 3/131.

ومنها: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أحياناً يذهب بعد هلاك المستهزئين إلى المسجد وحده بدون حراسة، كما دل حديث إعلان حمزة إسلامه عندما استفرد به أبوجهل وشتمه! وكما دل تحريكهم الأولاد ليؤذوه في طريق ذهابه، أو عودته!

روى في تفسير القمي: 1/114، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي: يا قضيم، قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب وأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، فشكى ذلك إلى علي فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول الله ومعه أميرالمؤمنين فتعرض الصبيان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كعادتهم فحمل عليهم أميرالمؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم

ص: 389

ويقولون: قضمنا عليٌّ، قضمنا علي! فسمي لذلك: القضيم».

وفي نهاية ابن الأثير: 1/402 و 4/78: «ومنه حديث علي رضيالله عنه: كانت قريش إذا رأته قالت: إحذروا الحطم، إحذروا القضم! أي الذي يقضم الناس فيهلكهم». وفي أدب الكاتب لابن قتيبة/171: «الخَضْم بالفم كله، والقَضْمُ بأطراف الأسنان. قال

أبوذر (رحمة الله): تَخْضِمُونَ وَنَقْضَمُ، والمَوْعِدُ الله».

ويظهر أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أغلب الأحيان يتحرك إلى المسجد بحراسة ويصلي فيه، ويتلو القرآن بصوت هادئ أو مرتفع أحياناً، ويدعو الناس إلى الإسلام علناً.

كما كان يذهب إلى القبائل في موسم الحج، وفي عمرة رجب، وسوق عكاظ، يعرض عليهم أن يذهب إلى بلادهم فيحموه حتى يبلغ رسالة ربه، فكانوا يرفضون ذلك خوفاً من قريش، أو يشرطون عليه أن يكون الأمر لهم من بعده، فيجيبهم إن الأمر لله وقد وضعه في أهله، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله.

ص: 390

الفصل التاسع عشر: تعذيب المسلمين في مكة

1- ملاحظات حول المعذبين لإسلامهم

أ.كان الخطر على من يُسلم محصوراً بعشيرته التي هو منها بالولادة أو بالتحالف أو بالعبودية، ولا شغل للمجتمع أو للعشائر الأخرى به. لذلك كانت صعوبة الإستجابة للنبي (صلی الله علیه و آله) والدخول في الإسلام، تختلف من شخص إلى آخر.

فالذين لاقوا الأذى والتعذيب لاقوه من عشائرهم، أما الذي لا خطر عليه من عشيرته لمكانته فيها، أو لضعف مركزية شيخها، أو لقلتها وذلتها، فلم يكن عليه خطر إن أسلم.

وهناك حالات فردية مثل نوفل بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى، ابن العدوية، وقد ربط أبابكر وطلحة وكانا يعذبهما وهما من قبيلة تيم، ولا تجرؤ قبيلتهما على فك حبلهما لأنه كان فاتكاً شريراً، قال ابن سعد: 2/215: «فلما أسلم أبوبكر وطلحة بن عبيدالله أخذهما نوفل بن خويلد ابن العدوية، فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم! وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبوبكر وطلحة القرينين». راجع: ابن هشام: 1/181 والإصابة: 6/77.

وهذا يدل على ضعف بني تيم المفرط! وكان ابن العدوية هذا في معركة بدر يصيح ويرعد، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): اللهم اكفني شر ابن العدوية، فقتله علي (علیه السلام) .

ب. بالغ بعض الرواة في الأذى والتعذيب الذي تعرض له بعض المسلمين الأوائل رضوان الله عليهم، وكثرت أكاذيب رواة السلطة في عدد المعذبين وأنواع تعذيبهم ومدته، ليثبتوا

ص: 391

فضائل للحاكم ومؤيديه!

فتراهم مثلاً يدَّعون أن أبابكر أسلم قبل هلاك المستهزئين، وأن عشيرته حمته فلم يكن بحاجة إلى جوار أحد ولا للهجرة.

ثم يتحدثون عن فضائل المعذبين في سبيل الله فيعدُّون أبابكر منهم، ويقولون إن ابن العدوية كان يربطه بحبل مع طلحة فسميا القرينين.ابن هشام: 1/181.

وفي الإصابة: 6/77، أن شخصاً آخر كان يربطهما!

ثم يتحدثون عن فضائل الهجرة فيقولون إن أبابكر هاجر إلى اليمن خوفاً من قريش، فأجاره رئيس الأحابيش. ابن هشام: 1/249.

وقد انحصر تعذيب قريش للمسلمين بأفراد لايصل عددهم إلى العشرين، كما أن الذين هاجروا إلى الحبشة لا يبلغون مئة نفر.

ج. ومع مبالغتهم في تعذيب المسلمين أخفوا أسماء من عذَّبهم، فصرت تقرأ في رواياتهم وصفاً لتعذيب فلان بدون إسم من ارتكب ذلك، لأن المعذِّب وأبناءه صاروا من المسؤولين بعد النبي (صلی الله علیه و آله) فسجل رواة الحكومة جرائمهم ضد مجهول! وذكروا على حياء إسم عمر، وأنه كان يعذب جارية سوداء لأحد بني عدي!

د. بدأت مرحلة الدعوة العامة في السنة الثالثة، وفيها بدأ تعذيب بعض المستضعفين، ولا نجد حادثة اعتداء وتعذيب لمسلم قبلها إلا على أبيذر (رحمة الله) عندما أعلن إسلامه في المسجد، ودعا قريشاً إلى الإسلام.

وبعد أن أهلك الله المستهزئين وصدع النبي (صلی الله علیه و آله) بالدعوة العامة، أخذ بعض الشباب والعبيد يسلم علناً أو يسلم سراً فيكتشفون إسلامه ويؤذونه، وبادر أبو أحيحة إلى اضطهاد ابنه خالد بن سعيد، وأبوجهل إلى اضطهاد عائلة ياسر حليف مخزوم، ولم يرد ذكر للوليد بن المغيرة في تعذيبهم مع أنهم كانوا تحت يده، فيكون إسلامهم أو اكتشاف إسلامهم بعد موت الوليد، رئيس المستهزئين.

وقد أوجزت رواية المناقب: 1/53، عن كتاب النبوة للصدوق (رحمة الله) عن الإمام زين العابدين (علیه السلام)، مفاوضة زعماء قريش مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعمه أبي طالب،

ص: 392

وذكرت أن التعذيب وقع بعدها، قال (علیه السلام): «اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده فقالوا: نسألك من ابن أخيك النصف، قال: وما النصف منه؟ قالوا: يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه ولا يقاتلنا ولا نقاتله، إلا أن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء! فقال: يا ابن أخي أسمعت؟ قال: يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي، إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان، ومن عصاني قاتلته حتى

يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. فقالوا: قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء، فنزل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. قالوا: إن كان صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فإن وجدناه صادقاً آمنا به، فنزل: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.

قالوا: والله لنشتمنك وإلهك، فنزل: وَانْطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَئٌ يُرَادُ. «صاد /6» . قالوا: قل له فليعبد ما نعبد ونعبد ما يعبد، فنزلت سورة الكافرين. فقالوا قل له: أرسله الله الينا خاصة أم إلى الناس كافة؟ قال: بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود، ومن على رؤس الجبال ومن في لجج البحار، ولأدعونَّ إليه فارس والروم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.«الأعراف/ 158». فتجبرت قريش واستكبرت وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجراً حجراً، فنزل: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا.وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. فقال مطعم بن عدي: والله يا أباطالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً!

فقال أبوطالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد اجتمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك، فوثبت كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم..وقدم قوم من قريش من الطائف وأنكروا ذلك. ووقعت

ص: 393

فتنة، فأمر النبي المسلمين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة».

وقال ابن إسحاق: 2/128: «ثم إن قريشاً توامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذين أسلموا، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسوله بعمه أبي طالب».

2- أسماء المعذبين

1-4. آل ياسر: ياسر وزوجته سمية وابناهما عمار وعبدالله. وهم من قبيلة عَنْس، فرع من قبيلة مراد اليمانية، وقد سكن ياسر مكة وتحالف مع قبيلة مخزوم، فلما أسلموا قتل أبوجهل ياسر تحت التعذيب فهو أول شهيد في الإسلام، كما قتل زوجته سمية فهي أول شهيدة في الإسلام، طعنها بحربة في قبلها فقتلها! ومات ابنهما عبدالله بمكة وربما من التعذيب، وشددوا العذاب على عمار بوضع الصخرة على صدره ورمسه بالماء، وقالوا لا نتركك حتى تسب محمداً وتقول في اللات والعزى خيراً، ففعل فتركوه، فأتى النبي يبكي فقال: ما وراءك قال شرٌّ يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا! قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئناً بالإيمان. فأنزل الله تعالى: إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان.

وهاجر عمار وشهد المشاهد كلها مع النبي (صلی الله علیه و آله)، واستشهد مع علي (علیه السلام) بصفين وعمره بضع وتسعون سنة! الإستيعاب: 3/1001 وقاموس الرجال: 12/281.

وفي غوالي اللئالي: 2/104: «فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه، وأما أبواه فامتنعا فقتلا..وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما خبرك؟ فقال: يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك، فعُدْ لهم بما قلت».

وفي الكافي: 2/219 وقرب الإسناد/12، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «فأنزل الله عزوجل فيه: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان. فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): يا عمار إن عادوا فعد. فقد أنزل الله عزوجل عذرك، وأمرك أن تعود إن عادوا».

ص: 394

ومن معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) وكرامة عمار (رحمة الله) أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم! فلم تصله النار ولم يصله منها مكروه! وقتلت قريش أبويه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة».

وقال (صلی الله علیه و آله) في عمار: «ما تريدون من عمار! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان. عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار». رجال الطوسي: 1/127، معجم الحديث: 13/284 والطبقات: 3/248.

5. خَبَّاب بن الأرتّ التميمي، كان أبوه من سواد الكوفة فسباه قوم من ربيعة وباعوه من سِبَاع بن عبدالعزى الخزاعي الذي قتله حمزة في أحد. ابن إسحاق: 3/308.

وكانوا يعذبونه عذاباً شديداً فيلصقون ظهره بالرمضاء، ثم بالرضف وهي الحجارة المحماة بالنار، ولووا رأسه، فلم يجبهم إلى شئ مما أرادوا!

وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونزل الكوفة ومات فيها سنة ست وثلاثين، وأوصى أن يدفن بظهر الكوفة.

وأبَّنَهُ أميرالمؤمنين (علیه السلام): «يرحم الله خباب بن الأرت فلقد أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وقنع بالكفاف ورضي عن الله، وعاش مجاهداً». نهجالبلاغة: 4/13، ومعجم رجال الحديث: 8/47، الكامل: 2/67 والطبقات: 3/164.

6. بلال بن رباح الحبشي. كان غلاماً لأمية بن خلف الجمحي، وكان أمية يعذبه ويلقيه في الظهيرة في الرمضاء على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبداللات والعزى. «الكامل 2/66» . وزعم رواة السلطة أن أبابكر اشتراه واشترى غيره من العبيد المعذبين، ورد ذلك نُقَّاد الحديث. الصحيح من السيرة: 3/89.

7. صهيب بن سنان الرومي ولم يكن رومياً ونسب إليهم لأنهم سبَوْهُ وباعوه، وقالوا هو نمري من قبيلة نمر بن قاسط، ولعله مولاهم. الصحاح: 2/837.

ص: 395

قالوا إنه عذب عذاباً شديداً، ولما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله. وكان يحب عمر فأوصى عمر أن يصلي بالناس حتى يستخلف أهل الشورى. وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة. الكامل: 2/68.

8. عامر بن فهيرة غلام الطفيل بن عبدالله الأزدي، والطفيل أخ عائشة لأمها أم رومان، قالوا إنه عُذب لإسلامه ولا يصح ذلك، وكان أسود يرعى غنماً لسيده وأخذه النبي (صلی الله علیه و آله) مع أبي بكر في هجرته، وشهد بدراً وأحداً، واستشهد يوم بئر معونة، وله أربعون سنة. «الكامل: 2/68». وسيأتي ذكره في هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) .

9. أبو فكيهة واسمه أفلح وقيل يسار، وكان عبداً لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال فأخذه سيده أمية وربط في رجله حبلاً وجره، ثم ألقاه في الرمضاء، ومَرَّ به جُعَل «حَشَرة» فقال له أمية: أليس هذا ربك؟! فقال: الله ربي وربك ورب هذا، فخنقه خنفاً شديداً، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره! وهاجر ومات قبل بدر.الكامل: 2/68.

10. لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب، كان عمر يعذبها حتى يتعب فيدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة! فتقول كذلك يفعل الله بك! الكامل: 2/69.

11. زنيرة وكانت لبني عدي وكان عمر يعذبها. وقيل كانت لبني مخزوم وكان أبوجهل يعذبها حتى عميت فقال لها: إن اللات والعزى فعلا بك.فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدهما! ولكن هذا أمٌر من السماء وربي قادر على رد بصري فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها!فقال: هذا من سحر محمد! الكامل: 2/69.

12. أم عبيس، أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها. الكامل: 2/70.

13. مصعب بن عمير العبدري، ففي الطبقات: 3/116 والإستيعاب: 4/1474 أنه أسلم في دار الأرقم: «وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله سراً، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي، فأخبر به قومه وأمه، فأخذوه وحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن خرج إلى أرض الحبشة».

ص: 396

14. أهمل رواة السلطة عدداً أسلموا ثم ارتدوا تحت ضغط قبائلهم أو تعذيبهم، ومنهم من خرج مع المشركين إلى بدر وقاتل معهم وقتل! لأنهم أولاد زعماء المشركين، الذين حكموا بعد النبي (صلی الله علیه و آله) أو صاروا ولاة، كأخ خالد بن الوليد!

وفي إمتاع الأسماع: 9/114: «عُذِّبَ قوم لا عشائر لهم ولا مانع لهم، فبعضهم ارتد وبعضهم أقام على الإسلام،وبعضهم أعطى ما أريد منهم من غير اعتقاد منه للكفر، وكان قوم من الأشراف قد أسلموا ثم فتنوا، منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي»!

ص: 397

الفصل العشرون: مكذوبات السلطة في دارالأرقم

من مكذوبات رواة السلطة في دار الأرقم

1. جعل رواة السيرة الحكومية دار الأرقم بن أبي الأرقم مرحلة في سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: أسلم فلان قبل دخول النبي (صلی الله علیه و آله) دار الأرقم، وفلان في دار الأرقم، وفلان بعد دارالأرقم! وقالوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستخفي مع أصحابه في شعاب مكة ثلاث سنين، يصلون ويعبدون ربهم، ثم اكتشفت قريش أمرهم فاشتبك معهم سعد بن أبي وقاص وجرح شخصاً منهم، لم يذكروا إسمه!

فاستَخْفَوْا بعدها في دار الأرقم المخزومي سنين، حتى أسلم عمر، فعزوا به بعد ذلهم، وخرجوا وأعلنوا إسلامهم! لكن قصة دارالأرقم مفتعلة بأصلها وفصلها!

2. تقع دار الأرقم خلف الصفا بينها وبين شعب أبي طالب، فهي على يمين الخارج من المسجد نحو شعب أبي طالب، أو بيت خديجة (علیهما السلام)، وهي قريبة من مكان مولد النبي (صلی الله علیه و آله) الذي صار بعدها مكتبة مكة. وقد رأيتها قبل أن يهدموها وكانت مكتبة، ثم أزالوها مع الجبل المتصل بالصفا، فهي من ناحية أمنية لاتصلح للإختفاء من قريش ولا للتحصن، لأنها على مرأى الواقف في المسجد أو الذاهب اليه! فكيف تكون مقراً بعيداً عن عيون قريش؟!

3. الأرقم من بني مخزوم، فهو أحد رعايا الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم الذي هلك مع بقية المستهزئين في أواخر السنة الثالثة للبعثة، فصار الأرقم رعية أبي

ص: 398

جهل الذي صار بعد الوليد رئيس مخزوم، والذي قتل سمية وياسراً، وعذب عماراً رضوان الله عليهم، فكيف يسكت على إسلام الأرقم، ويجهل جعل داره قرب المسجد قاعدة لمحمد (صلی الله علیه و آله) ومن آمن به؟!

4. ثم إن الدار ليست للأرقم، بل لأبيه أبي الأرقم، ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في دار الأرقم فدعا الله أن يسلم أبوجهل أو عمر: «فكانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس، وكبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل البیت تكبيرة فسمعت بأعلى مكة وخرج أبو الأرقم وهوأعمى كافر وهو يقول: اللهم اغفر لبنيَّ غير الأرقم فإنه كفر! فقام عمر فقال: يا رسول الله على مَ نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهروا دينهم وهم على الباطل؟ قال: يا عمر إنا قليل، قد رأيت ما لقينا! فقال عمر بن الخطاب: فوالذي بعثك بالحق لايبقى مجلس جلستُ فيه بالكفر إلا أظهرتُ فيه الإيمان! ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش وهي تنتظره فقال أبوجهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه ووثب عتبة وبرك عليه فجعل يضربه وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح! فتنحى الناس فقام عمر وجعل لايدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه حتى أعجز الناس!

واتَّبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ظاهر عليهم.. فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب، حتى طاف بالبيت فصلى الظهر معلناً، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر. ثم انصرف عمر وحده». تاريخ دمشق:30/50 والنهاية: 3/42.

وفي السيرة الحلبية: 2/21، عن عمر أن النبي (صلی الله علیه و آله) سماه الفاروق يومئذ، لأنه فرق بين الحق والباطل! ثم ذكر: 1/456 أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستخفي في شعاب مكة ثلاث سنين فرآهم المشركون: «فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم بلحى بعير فشجه..ثم دخل (صلی الله علیه و آله) وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة.. فكان

ص: 399

وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم.. إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين..في السنة الرابعة وقيل مدة استخفائه أربع سنين وأعلن في الخامسة، وقيل أقاموا في تلك الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون»!

ثم زعم الحلبي أنه بذلك يفسر كلام ابن إسحاق، مع أن ابن إسحاق لم يذكر دار الأرقم أبداً! وإنما ذكر أن عبدالله بن الأرقم أسلم مع عثمان بن مظعون. 2/124.

وفي الطبقات: 3/269: «أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله دار الأرقم وبعد أربعين أو نيف وأربعين بين رجال ونساء قد أسلموا قبله، وقد كان رسول الله قال بالأمس: اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام»أبي جهل«فلما أسلم عمر نزل جبريل فقال: يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر»!

والنتيجة: أن دار الأرقم غير معقولة، لا في موقعها، ولا في أحداثها المروية، ولا في شخصية الأرقم صاحب البيت! وكان له أخ هو عبدالله لم يسلم ولم يهاجر معه، وبقي مع جده حتى كان من الطلقاء في فتح مكة! سيرة ابن كثير: 4/687.

5. يظهر أن القصة نشأت من أن بيت أبي الأرقم قرب الصفا، وهو في طريق النبي (صلی الله علیه و آله) من بيته إلى المسجد، فلفقوا حوله القصص وجعلوه مقراً سرياً للنبي (صلی الله علیه و آله) أو مسجداً يجتمع فيه المسلمون حتى بلغوا أربعين شخصاً بعمر فأعلنوا إسلامهم! وغرضهم مدح عمر بن الخطاب وأنه أسلم قبل إسلامه، فعز به الإسلام بعد ذله ودخل مرحلة العلنية بعد مرحلته السرية. وكل ذلك لم يكن!

وقد رد الصالحي في سبل الهدى: 2/319، قصة دار الأرقم، قال: 2/230: «وذكر إسلام عمر هنا غريب. والصحيح أنه أسلم بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة».

6. ورووا أن عائشة قالت إن البطولة في دار الأرقم كانت لأبيها لا لعمر بن الخطاب! فقد روى في سبل الهدى: 2/319 عن سليمان بن خيثمة، عن عائشة قصة طويلة تشهد على نفسها بالكذب، خلاصتها: أن المسلمين كانوا ثمانية عشر: «فألحَّ

ص: 400

أبوبكر على رسول الله في الظهور...فلم يزل أبوبكر يلح حتى ظهر رسول الله».

وقام أبوبكر خطيباً «فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووُطئ أبوبكر وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرقهما لوجهه من على بطن أبي بكر، حتى مايعرف وجهه من أنفه! وجاءت بنو تيم يتعادون «ولم تذكر اسم واحد منهم» فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبابكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولايشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبوبكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبابكر حتى أجاب، فتكلم في آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله»!

لكن نقول لعائشة: إن نوفل بن العدوية الأسدي وكان من شياطين قريش، ربط أبابكر وطلحة بحبل وكان يعذبهما لأنهما أسلما،فلم يجرؤ بنو تيم على فك حبلهما!

7. مشكلة هؤلاء الرواة أنهم يريدون إثبات بطولات لشخصيات السلطة، فيقعون في التناقض ويخالفون منطق الأمور وثوابت السيرة القطعية! فمن الثابت كما تقدم أن الدعوة العامة لم تكن ممكنة قبل إهلاك المستهزئين الخمسة ونزول قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. وعندما صدع النبي (صلی الله علیه و آله) بالدعوة العامة في السنة الثالثة وقفت قبائل قريش ضده ومنعت أبناءها وعبيدها من الإسلام، وكان أشدهم بنومخزوم بقيادة أبي جهل، حتى قتل ياسراً وزوجته سمية رضيالله عنهما.

ومن الثابت أن الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة، وحصار قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة، وأن إسلام عمر كان بعد الهجرة إلى الحبشة. فمتى كانت مرحلة دار الأرقم المزعومة؟ وكيف اكتشفت قريش تجمع المسلمين في شعاب مكة ولم ترهم في دار الأرقم الملاصقة للمسجد؟ وكيف سكتت على البطولات المزعومة لابن وقاص وابن الخطاب؟!

ص: 401

ولماذا لا نجد إسم الذي ضربه ابن وقاص فشجه، ولا إسم أحد من بني تيم الذين أنقذوا أبابكر، وهددوا بني عبد شمس بقتل زعيمهم؟! إلى آخر المناقشات التي توهن أصل القصة؟! راجع: روضة الواعظين/52، ابن هشام: 1/166 و230، تاريخ دمشق: 44/41 والصحيح من السيرة: 2/433 و 7/286.

ص: 402

الفصل الحادي والعشرون: هجرة المسلمين إلى الحبشة

1- ملاحظات حول الهجرة

أ. كان السفر والهجرة طبيعياً عند المكيين، فحياتهم متقومة بالسفر إلى اليمن والشام ومصر، خاصة بعد أن صار الطريق آمناً وأسس هاشم (رحمة الله) رحلة الصيف والشتاء وأكملها ابنه عبدالمطلب (رحمة الله) فعقدا اتفاقيات مع القبائل والدول لتأمين قوافل قريش وسلامتها. فمن ضاقت عليه مكة هاجر إلى الجزيرة أو الشام أو الحبشة. قال ابن خلدون: 2/2/8: «وكان قريش يتعاهدونها «الحبشة» بالتجارة فيحمدونها».

ب. قال في الصحيح من السيرة: 3/123: «نرجح أنه لم يكن سوى هجرة واحدة للجميع، عليها جعفر بن أبي طالب (علیه السلام)، الذي لم يكن غيره من بني هاشم، فلم يكن ثمة هجرتان...وذلك بدليل الرسالة التي وجهها الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى ملك الحبشة مع عمرو بن أمية الضمري والتي جاء فيها: قد بعثت إليكم ابن عمي جعفر بن أبي طالب معه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرهم.. إلخ.».

أقول: وهو المتعين، ويدل عليه أيضاً أن الهجرة التي كان أميرها جعفر كان فيها أكثر من ثمانين مسلماً، واستمرت بضع عشرة سنة. أما الذين ذهبوا إلى الحبشة قبلها فكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، سافروا في شهر رجب وأقاموا شهر شعبان ورمضان ورجعوا في شوال! الطبري: 2/68، الطبقات: 1/206، الإمتاع: 1/37، عيون الأثر: 1/157، سبل الهدى: 2/366، فتح الباري:

ص: 403

7/143 والسيرة الحلبية: 2/9.

فهذه سفرة قصيرة للتجارة! ولعلهم سموها هجرة من أجل عثمان الذي كان فيها ليجعلوه أول المهاجرين، مع أنه لم يتعرض لتعذيب أو ضغط!

وقد ردَّ في الصحيح: 3/123 مقولتهم بأن عثمان أول المهاجرين، وقال إنه عثمان بن مظعون الجمحي (رحمة الله) . ولعل النبي (صلی الله علیه و آله) أرسله لاستكشاف الوضع لتهجير المضطهدين اليها، فقد كان ابن مظعون من حواريي النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال ابن هشام: 1/214: «فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة.. وكان عليهم عثمان بن مظعون».

وقد اتفق الرواة على أن ما سموه «الهجرة الأولى» كانت في شهر رجب في السنة الخامسة للهجرة وأنهم رجعوا بعد شهرين. وهم: عثمان بن عفان وامرأته بنت النبي (صلی الله علیه و آله) أو ربيبته، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبدالأسد وامرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل بن بيضاء.

وكانت هجرة جعفر وأصحابه في نفس السنة بعد الحج، مع بداية محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب، أو قبلها بقليل، وهي الهجرة الوحيدة.

ج. من أصح روايات الهجرة إلى الحبشة ما رواه السنة والشيعة عن أم سلمة (علیها السلام) قالت: «لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن بأرض الحبشة ملكاً لايظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلماً.

فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً، أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من

ص: 404

بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على ذي حدة، وقالوا لهما إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموه فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا!

فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته وكلموه وقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل ثم قدما إلى النجاشي هداياه، وكان أحب ما يهدى اليه من مكة الأدم«الجلود». فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه وقد لجؤوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً.

فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عيناً، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك! فغضب ثم قال: لا لعمرو الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم، وأنظر ما أمرهم؟ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخلِّ بينهم وبينهم ولم أنعمهم عيناً!

فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شئ أبغض إلى عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم! فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول؟ نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا (صلی الله علیه و آله) كائن في ذلك ما كان!

فلما دخلوا عليه كان الذي كلمه منهم جعفر بن أبي طالب فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟فقال جعفر: أيها الملك،كنا قوماً على الشرك

ص: 405

نعبدالأوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرمه! فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبدالله وحده لا شريك له، ونصل الرحم ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره. فقال: هل معك شئ مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله.

فقال له جعفر: نعم، قال: هلم فاتل عليَّ ما جاء به فقرأعليه صدراً من كهيعص! فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى! إنطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً! فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبدالله بن أبي ربيعة،

فقال له عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم! لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد! فقال له عبدالله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا، فإن لهم رحماً ولهم حقاً. فقال: والله لأفعلن! فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه! فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول هو عبدالله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول! فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عويداً بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود! فتناخرت بطارقته فقال: وإن تناخرتم والله! إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي- والسيوم الآمنون- ومن سبكم غُرِّم «ثلاثاً»! ما أحب أن لي دبيراً وأني آذيت رجلاً منكم - والدبير بلسانهم الذهب-! فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، واخرجا من بلادي!

ص: 406

فخرجا مقبوحين، مردود عليهما ما جاءا به!فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه فرقاً أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لايعرف من حقنا ماكان يعرف، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فقال أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعضهم لبعض: مَن رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون؟ فقال الزبير: وكان من أحدثهم سناً: أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى جنب التقاء الناس، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير فجعل يلمح الينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي! فوالله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي.

قالت: ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله (صلی الله علیه و آله)».ذخائر العقبى/209، ابن إسحاق: 4/193، ابن هشام: 1/224، الخرائج: 1/133، عن ابن مسعود (رحمة الله) مختصراً.

ورواه في إعلام الورى: 1/115، وفيه احتجاج جعفر: «فقال: أيها الملك سلهم أنحن عبيد لهم؟ قال عمرو: لا، بل أحرار كرام. قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال: لا، ما لنا عليهم ديون. قال: فلهم في أعناقنا دماء يطالبوننا بذحولها؟ قال عمرو بن العاص: لا، ما لنا في أعناقهم دماء ولانطالبهم بذحول.

قال: فما تريدون منا؟ قال عمرو: خالفونا في ديننا ودين آبائنا، وسبوا آلهتنا، وأفسدوا شباننا، وفرقوا جماعتنا، فردهم إلينا ليجتمع أمرنا. فقال جعفر: أيها الملك خالفناهم لنبي بعثه الله فينا، أمرنا بخلع الأنداد، وترك الإستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حلها، والزنا والربا والميتة والدم، وأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى بن مريم».

ص: 407

د. أرسلت قريش ابن العاص مرتين إلى النجاشي، وكتب النبي (صلی الله علیه و آله) وأبوطالب (رحمة الله) إلى النجاشي. كما في مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله): 1/430:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي، وبالذي جاءني فإني رسول الله، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقر ودع التجبر، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا، والسلام على من اتبع الهدى».

وذكر أن النجاشي إسم لملك الحبشة كقيصر وكسرى، وإسم ذلك النجاشي أصحمة ومعناه: عطية. ثم روى كتاب أبي طالب (رحمة الله) إلى النجاشي، وفيه:

تعلَّمْ مليك الحبْش أن محمداً *** نبيٌّ كموسى والمسيح بن مريمِ

أتى بالهدى مثل الذي أتيا به *** وكل بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلونه في كتابكم *** بصدق حديث لا حديث المرجِّمِ

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا *** فإن طريق الحق ليس بمظلم

وإنك ما يأتيك منا عصابة *** بفضلك إلا أرجعوا بالتكرم»

وذكر مصادره: ابن هشام: 1/357، الحاكم: 2/623، البحار:35/163 و 18/418، ابن أبي الحديد: 14/75، المناقب لابن شهرآشوب: 1/62 وطبعة/44، الغدير: 7/331 وإعلام الورى: 30 و55.

وروى الأحمدي أيضاً 2/448، أن النجاشي أسلم على يد جعفر وكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله):

«بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الذي لا إله إلا هو، الذي هداني للإسلام، بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً «عرق التمرة» إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادق مصدق، وقد بايعتك

ص: 408

وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله».

وكان سفر ابن العاص بعد هجرتهم مباشرة، ففي ذخائر العقبى/213، عن ابن مسعود: «أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد».

وقال القمي: 1/176: «فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة» وقال دحلان في سيرته: 1/ 417: «كان لعمرو بن العاص هجرتان إلى الحبشة في شأن المهاجرين على ما يذكره التاريخ: أحدهما مع عمارة في بدء الهجرة، والثاني مع عبدالله بن ربيعة بعد بدر ورجع خائباً خاسراً».

وقال ابن هشام: 1/221: «قال أبوطالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتاً للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم»:

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفرٌ *** وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وهل نال أفعال النجاشي جعفرا *** وأصحابه أم عاق ذلك شاغب

تعلم أبيت اللعن إنك ماجد *** كريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلم بأن الله زادك بسطة *** وأسباب خير كلها بك لازب

فإنك فيض ذو سجال غزيرة *** ينال الأعادي نفعها والأقارب»

وجاء في مناظرة الإمام الحسن (علیه السلام) مع ابن العاص قوله (علیه السلام): «وأما أنت يا عمرو الشاني اللعين الأبتر...ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عدوه أشدهم له عداوة وأشدهم له تكذيباً! ثم كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النجاشي في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين فحاق المكر السئ بك، وجعل جدك الأسفل، وأبطل أمنيتك وخيب سعيك، وأكذب أحدوثتك وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا». الإحتجاج: 1/415.

ه. وكتم النجاشي إسلامه عن بطارقته ووزرائه خوفاً من معارضيه ومن

ص: 409

هرقل، أما الرسالة التي حملها اليه الضمري من النبي (صلی الله علیه و آله) فكانت في السنة السادسة عندما راسل ملوك العالم. «الطبقات 1/207» وهي غير رسالته التي أرسلها اليه بيد جعفر.

و. كانت الحبشة أو أثيوبيا، قاعدة حكم إفريقيا للروم، وكانت تدار من مصر، وقد نشر الرومان فيها المسيحية، وتعاظمت قوة الحبشة حتى احتلت اليمن وبنى أبرهة الحبشي حاكم اليمن من قبل الروم كنيسة في صنعاء، ليصرف اليها العرب بدل الكعبة، وقصد بجيشه مكة ليهدم الكعبة، فكانت قصة أصحاب الفيل عام ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) . وبعد جيش الفيل بسنتين تمكن سيف بن ذي يزن بمساعدة الفرس من تحرير اليمن من الحبشة، فضعفت دولة الحبشة ونشب فيها الصراع الداخلي ثم حكمها النجاشي أصحمة، وكان عاقلاً عادلاً فأوقف تدهور الدولة.

وبعد وفاة النجاشي عاد الصراع الداخلي وضاقت الأمور على أهل الحبشة فأرسلوا إلى ابن النجاشي وكان أرسله والده إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، يطلبون منه العودة لتتويجه عليهم فلم يقبل، لأنهم أرادوا منه أن يرجع عن الإسلام!

وتقدم قول النجاشي في رسالته إلى النبي (صلی الله علیه و آله): «وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت».

وهذا يدل على أن وزراءه رؤساء القبائل الذين سماهم الروم بطارقة، لم يستجيبوا له، وأنه كان يتقيهم، فعرض على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يترك ملك الحبشة ويأتيه، فأمره أن يبقى، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يبقى عنده ويساعده.

أما ابنه «أرها» الذي أرسله فيبدو أنه أبو نيزر وكيل علي (علیه السلام) في استنباط عيون ينبع، وقد سمى أكبرها باسمه: «عين أبي نيزر».

قال الحموي في معجم البلدان: 4/175: «عين أبي نيزر.. روى يونس عن محمد بن إسحاق بن يسار أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى علي بن أبي طالب رضيالله عنه كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون، لصلبه، وأن علياً وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه، مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه. وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي، وأنهم أرسلوا

ص: 410

وفداً منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملكوه عليهم ويتوجوه ولا يختلفوا عليه، فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالإسلام! قال: وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجهاً، وقال: ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربي... قال المبرد... كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيراً فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) صار مع فاطمة وولدها رضيالله عنهم».

وفي سيرة ابن إسحاق: 4/202: «رأيت أبا نيزر بن النجاشي، فما رأيت رجلاً قط عربياً ولا عجمياً، أعظم ولا أطول ولا أوسم منه..الخ.». ولانقبل قولهم إن علياً (علیه السلام) اشتراه كغلام، بل أرسله والده لنصرة النبي (صلی الله علیه و آله) فكان حليفه، ثم حليف علي (علیه السلام) .

ز. روت المصادر مراسلات بين النبي (صلی الله علیه و آله) والنجاشي، وأنه كان بينهما هدايا متبادلة فمن ذلك: «أهدى النجاشي إلى رسول الله قارورة من غالية، وكان أول من عمل له الغالية». عمدة القاري: 13/168.

«أهدى ملك الروم إلى النبي (صلی الله علیه و آله) جبة سندس فبعث بها إلى جعفر، وقال أعطها إلى أخيك النجاشي». لسان العرب: 10/343، الطبقات: 1/456 وأبو داود: 2/258.

«أهدى النجاشي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغلة فكان يركبها». عيون الأثر: 2/411.

«أهدى له النجاشي خفين أسودين ساذجين فلبسهما. وأهدى له خاتماً من ذهب فدعا أمامة ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية».المناقب: 1/147

و ابن ماجة: 1/182.

أرسل النجاشي مع جعفر: «بقدح من غالية وقطيفة منسوجة بالذهب هدية إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقدم جعفر والنبي بأرض خيبر، فأتاه بالقدح من الغالية والقطيفة فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فمد أصحاب النبي أعناقهم إليها، فقال النبي: يا علي خذ هذه القطيفة

ص: 411

إليك. فأخذها علي وأمهل حتى قدم إلى المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة، فأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكاً سلكاً فباع الذهب وكان ألف مثقال ففرقه علي في فقراء المهاجرين والأنصار، ثم رجع إلى منزله، ولم يبق له من الذهب قليل ولاكثير».دلائل الإمامة/144.

وأهدى له النجاشي حربة: «فكان بلال يحملها بين يديه يوم العيد، ويخرج بها في أسفاره فتركز بين يديه يصلي إليها. ويقولون هي التي تحمل المؤذنون بين يدي الخلفاء». «المناقب: 1/147». وصارت الحربة في رواياتهم ثلاثة للزبير وعمر وعلي! «فأما حربة علي فهلكت، وأما حربة عمر فصارت إلى أهله، وأما الحربة التي أمسك لنفسه، فهي التي يمشي بها مع الامام يوم العيد». تاريخ المدينة: 1/139.

وأهدى له النجاشي حلة مثل العباءة فأعطاها لعلي (علیه السلام) وكان يصلي فيها فجاءه سائل، فطرح الحلة إليه وأومى بيده أن احملها. حلية الأبرار: 2/279.

وبعث له النبي (صلی الله علیه و آله) عوذة للصداع يضعها في قلنسوته. مكارم الأخلاق/403.

وأهدى النجاشي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ذات مرة، زنجبيلاً. الجرح والتعديل: 6/228.

وعندما ارتد المهاجر عبيدالله بن جحش، بعث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى النجاشي أن يخطب له زوجته رملة بنت أبي سفيان، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص وخطبها النجاشي: «ومهرها أربعة آلاف، ثم جهزها من عنده، فبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة وجهازها كله من عند النجاشي». البيهقي: 7/232.

«لما تزوج رسول الله (صلی الله علیه و آله) أم سلمة قال لها إني أهديت إلى النجاشي أواقاً من مسك وحلة وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت فهي لك..فكان كما قال (صلی الله علیه و آله)، فلما ردت إليه الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطى سائره أم سلمة». كبير الطبراني: 25/81.

وفي الخصال/359، عن الإمام الرضا عن آبائه:: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزين عليه وقال: إن أخاكم أصحمة - وهو اسم النجاشي - مات، ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه، وكبر سبعاً فخفض الله له كل مرتفع حتى

ص: 412

رأى جنازته، وهو بالحبشة».

وفي المناقب: 1/93: «فقالت المنافقون في ذلك! فجاءت الأخبار من كل جانب أنه مات في ذلك اليوم في تلك الساعةوما علم هرقل بموته إلا من تجار رأوا المدينة».

ح. دوَّن الرواة أسماء المهاجرين، ورووا أخبارهم في المهجر، وذكرت الروايات أن بعضهم رجع وشارك مع النبي (صلی الله علیه و آله) في معركة بدر وغيرها، كعمار وابن مسعود، وبعضهم كان يسافر إلى اليمن للتجارة، كخالد بن سعيد بن العاص، الذي أتى للنبي (صلی الله علیه و آله) من جرش بآلة حرب تشبه المنجنيق. إمتاع الأسماع: 2/21.

قال في الطبقات: 1/207: «فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي بأحسن جوار، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ومن النساء ثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر. وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً».

وأبقى النبي (صلی الله علیه و آله) جعفراً إلى السنة السابعة مع بضعة عشرمهاجر حتى أحضره وأنهى الهجرة «كان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلاً».ابن هشام:3/818.

ط. اخترع القرشيون قصة الغرانيق والآيات الشيطانية فافتروا على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قرأ سورة النجم في المسجد، وأضاف اليها آيات ألقاها عليه الشيطان ومدح فيها أصنام قريش، فوصفها بقوله: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى»! وروتها مصادرهم بكثرة، وقال بخاري: 2/32: «قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا»! ورواها في أربعة مواضع: 2/32، 4/239، 5/7، 6/52!

وانفتح خيال رواة السلطة بأن المشركين فرحوا يومها باعتراف محمد (صلی الله علیه و آله) بآلهة قريش وسجد لها! وأضافوا أن المسلمين المهاجرين في الحبشة سمعوا بالخبر فرجعوا إلى مكة، لكنهم وجدوا أن جبرئيل نزل ووبخ النبي (صلی الله علیه و آله) فعادوا!

ص: 413

وصارت هذه الفرية مادة للمستشرقين فبنوا عليها طعنهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) وكتبوا كتاب «الآيات الشيطانية»! وقد بحثنا ذلك في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 1/136.

2- دور جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) المميز في الحبشة

1. لم يكن جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) بحاجة إلى الهجرة، لأنه مع شجاعته، محمي من أبيه وعشيرته، بل هو يحمي ويجير. كما أن إدارة أمور المهاجرين يمكن أن يقوم بها أحدهم، وفيهم شخصيات كخالد بن سعيد بن العاص. وإنما أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) معهم وأبقاه في الحبشة إلى السنة السابعة لإدارة جبهة الروم في الدعوة، وكانت الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا، وهذا يفسر قول النبي (صلی الله علیه و آله) عن جعفر إنه في جهاد لله بأرض الحبشة! ففي تفسير القمي: 1/264: «نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وكان له سبعون سنة، فقال عبيدة: أما لوكان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه! قال: وأي أعمامي تعني؟قال: أبوطالب، حيث يقول:

كذبتم وبيت الله نُبْزي محمداً *** ولما نطاعنْ دونه ونناضل

وننصره حتى نُصَرَّعَ حوله *** ونذهلَ عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة؟! فقال: يا رسول الله أسخطت عليَّ في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك»!

وهذا يكشف عن مكانة أبي طالب (رحمة الله) عند النبي (صلی الله علیه و آله) فقد تأذى لمجرد تعريض ابن عمه عبيدة به وتفضيله نفسه عليه، مع أنه جاهد وقطعت رجله ثم استشهد! ومع ذلك قال له لاتؤذني في عمي ولا تفضل نفسك عليه، فقد نصرني أكثر منك في حياته، وهاهما ولداه ينصراني أكثر منك، هذا علي كالليث بين يدي الله ورسوله، وذاك جعفر في أرض الحبشة كل أوقاته جهاد لله تعالى!

فقد كان جعفر إذن في مهمة جهاد، يرعى شؤون المهاجرين ونشاطهم، ويوجه النجاشي في علاقته مع الروم وسياسته الداخلية مع البطارقة وهم ملوك الحبشة في

ص: 414

مناطقهم، وكانت الحبشة تمتد من اليمن إلى حدود مصر، وتشمل السودان!

وكان جعفر يزور البطارقة ويدعوهم إلى الإسلام، وجاء منهم بوفد إلى مكة للقاء النبي (صلی الله علیه و آله) ومشاهدة معجزاته، ولم تجرأ قريش على التعرض له ولضيوفه!

ففي تفسير القمي: 1/176: «ولد للنجاشي ابن فسماه محمداً.وبعث إليه «الى النبي (صلی الله علیه و آله)» بثياب وطيب وفرس، وبعث ثلاثين رجلاً من القسيسين فقال لهم: أنظروا إلى كلامه والى مقعده ومشربه ومصلاه، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن... فلما سمعوا ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي، فأخبروه خبر رسول الله، وقرأوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون».

وفي تفسير الطبري: 7/4، في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى. قال: «هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة».

ثم روى الطبري أن النجاشي بعث إلى النبي (صلی الله علیه و آله): «اثني عشر رجلاً من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسيِنَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لايَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي، فهاجر النجاشي معهم، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله والمسلمون واستغفروا له».

وفي تفسير القرطبي: 13/296: «قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وهم أربعون رجلاً، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى: منهم بحيراء الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. كذا سماهم الماوردي».

وقال ابن إسحاق: 4/199: «ثم قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا اليه فكلموه وساءلوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول

ص: 415

الكعبة، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عما أرادوا، دعاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الله وتلى عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا من عنده اعترضهم أبوجهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبرالرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم؟!

ما نعلم ركباً أحمق منكم! أو كما قالوا لهم. فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألو أنفسنا خيراً»!

ثم روى ابن إسحاق، أن النجاشي بعث إلى النبي (صلی الله علیه و آله) اثني عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) القرآن فبكوا وكان فيهم سبعة رهبان وخمسة قسيسين أو خمسة رهبان وسبعة قسيسين، ففيهم أنزل الله: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ..». ونحوه القرطبي: 6/255، ابن كثير: 3/405

وابن هشام: 1/263.

«وهذا يدل على عدة وفود رتب سفرهم إلى مكة جعفر وعلي (علیه السلام) والنجاشي وكان مجئ وفود القساوسة تحدياً كبيراً لقريش، خاصة وأنهم التقوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) في المسجد وأسلموا على يده، واعترضهم أبوجهل فأجابه القساوسة فسكت، ولو قام بعمل ضدهم لحماهم جعفر وعلي (علیهما السلام)،لأنهم ضيوف النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم!

كما تشير هذه الروايات وغيرها إلى أن جعفراً (رحمة الله) أتى بوفود علماء النصارى من الحبشة ونجران والشام، والتقوا برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسلم عدد منهم!

كما ورد أن علياً (علیه السلام) سافر مرة إلى الحبشة مع جعفر، فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) يرسله في مهمات خاصة غير معلنة. روى في المناقب: 1/289، عن ابن عباس قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصار: نزلت في أميرالمؤمنين (علیه السلام) سبق الناس كلهم بالإيمان، وصلى إلى القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة، ومن الحبشة إلى المدينة». ومعناه أن هجرة علي (علیه السلام) كانت مع جعفر في إحدى

ص: 416

رجعاته من الحبشة إلى مكة.

2. تدل أحاديث جعفر في الحبشة على أنه أحدث تياراً للدخول في الإسلام، في قساوسة الحبشة والجزيرة والشام ومصر، ولا بد أن يكون إسلامهم مؤثراً على أتباعهم، وبه نفسر ردة فعل الروم القوية ضد النجاشي وضد النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنهم كانوا مشغولين بمعاركهم مع الفرس في سوريا وفلسطين ومصر.

كما نقرأ في الحبشة عن ثورة لخصوم النجاشي من وراء النيل لإسقاط حكمه، وكانت حركتهم قوية، وجيشهم كبيراً كما وصفته أم سلمة، وقد طلب المهاجرون من النجاشي أن يقاتلوا معه،فلم يقبل. الحاكم: 2/300.

وفي السيرة الحلبية: 3/301 أن عمرو بن العاص أخبر جيفر بن الجلندي ملك عُمان بإسلام النجاشي فسأله: «فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة أي رؤساء النصرانية والرهبان؟ قلت: نعم.قال أنظر يا عمرو ماتقول! إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له أي أكثر فضيحة من كذب! قلت: وما كذبت وما نستحله في ديننا. ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي»!

والظاهر أن النجاشي لم يعلن إسلامه إلا في نطاق محدود، وأن هرقل عرف بإسلامه، لكنه كان مشغولاً بحربه للفرس، ثم حرك ضد النجاشي من استطاع من الملوك «البطارقة» فقاتلوا النجاشي فنصره الله عليهم!

ثم وضع هرقل بعد انتصاره على الفرس خطة للقضاء النبي (صلی الله علیه و آله)، كما يأتي في حرب مؤتة وتبوك.

ص: 417

الفصل الثاني والعشرون: محاصرة قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب

1- مؤتمر زعماء قريش لإجبار بني هاشم على تسليم النبي (صلی الله علیه و آله)

بعد هلاك المستهزئين الخمسة، رأى زعماء قريش أن الإسلام أخذ ينتشر في أبنائهم وعبيدهم، ولم يستطيعوا إيقافه بتهديد النبي (صلی الله علیه و آله) وتعذيب من يسلم من المستضعفين! عندها تنادت بطون قريش إلى مؤتمر في منى، للإتفاق على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة، حتى يُسَلِّموهم محمداً (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه!

واجتمع معهم قبيلة كنانة، وكتبوا صحيفة المقاطعة، وقعها أربعون شيخاً، وفي رواية اليعقوبي ثمانون شيخاً، على نفي بني هاشم من مكة، ومقاطعتهم حتى يسلموهم محمداً (صلی الله علیه و آله)! وتُعرف هذه الوثيقة بالصحيفة الملعونة الأولى، لأن قريشاً كتبت بعدها في أيام حجة الوداع الصحيفة الملعونة الثانية، تعاهدت فيها على أنه إن مات محمد لا ندع خلافته تصل إلى أهل بيته! وقد روي أنهم تعاهدوا عليها في الكعبة، وأودعوها عند أبي عبيدة بن الجراح، وسيأتي خبرها.

قال في المناقب: 1/57: «لما رأت قريش أنه (صلی الله علیه و آله) يفشو أمره في القبائل وأن حمزة أسلم «أعلن إسلامه» وأن عمرو بن العاص رُدَّ في حاجته عند النجاشي، فأجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله علانية، فلما رأى ذلك أبوطالب جمع بني عبدالمطلب، فأجمع لهم أمرهم على أن يُدخلوا رسول الله شعبهم.. وكانوا أربعين رجلاً، مؤمنهم وكافرهم، ما خلا أبا لهب».

وقال ابن إسحاق: 2/140و139: «فلما قدم عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة إلى

ص: 418

قريش، وأخبروهم بالذي قال النجاشي لمحمد وأصحابه، اشتد وجدهم وآذوا النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه أذى شديداً، وضربوهم في كل طريق، وحصروهم في شعبهم، وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحداً من الناس يُدخل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم!

وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم، وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويُغْلُونها عليهم! ونادى منادي الوليد بن المغيرة «وهومنادي أبي جهل»

في قريش: أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه!

وانطلق بهم أبوطالب فقاموا بين أستار الكعبة، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم وقطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم، وتناولهم بسفك دمائهم، فقال أبوطالب: اللهم إن أبى قومنا إلا النصر علينا فعجل نصرنا، وحُلْ بينهم وبين قتل ابن أخي. ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون اليه والى أصحابه فقال أبوطالب: ندعو برب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم. والله لتنتهين عن الذي تريدون، أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون! فأجابوه: إنكم يا بني عبدالمطلب لاصلح بيننا وبينكم ولا رحم إلا على قتل هذا الصابي السفيه! ثم عمد أبوطالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه، ومن اتبعهم من بين مؤمن دخل لنصرة الله ونصرة رسوله، ومن بين مشرك يحمي، فدخلوا شعبهم وهو شعب أبي طالب في ناحية من مكة».

2- أعطونا ابنكم لنقتله، وإلا--

كان اليهود ينكرون نبوة أنبيائهم: ثم يقتلونهم، ولم يقولوا يوماً نعترف بنبوة نبي ونقتله! لكن القرشيين قالوا حتى لوكان محمد نبياً مرسلاً من الله فلا نؤمن به ونريد قتله، لأن موتنا أفضل من الإيمان برسول من بني هاشم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ! فجمعوا تكبر اليهود وجلافة البدو معاً، فهم يصرون على قتله (صلی الله علیه و آله)، ولا تهمهم معجزاته!

ص: 419

من جهة ثانية: لاتجد قوماً أرادوا قتل شخص، لكنهم كانوا يخافون من عشيرته، فقرروا أن يضغطوا عليهم حتى يسلموهم ابنهم بأيديهم فيقتلوه! فهو موقف يجمع: العناد، والتكبر، والجبن، والحقارة جميعاً، وصفات أخرى معها!

وقد اجتمعت كلها في محاصرتهم بني هاشم وتجويعهم إياهم مع أطفالهم، حتى يخضعوا ويسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه!

وكانوا يرون حالة بني هاشم من الحصار أربع سنوات أو أكثر، ويسمعون تضوَّر أطفالهم من الجوع، لكنهم حرموا الرأفة بهم، وحرموا أي نوع من التفاوض تحت أي ظروف! «لايقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً،ولايأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموه للقتل»! الدرر لابن عبدالبر/54، سبل الهدى: 10/59 وعيون الأثر: 1/165.

3- النبي (صلی الله علیه و آله) يخلد مكان المؤتمر وطغيان زعمائه

توجه النبي (صلی الله علیه و آله) إلى مكة فاتحاً، فأراد أن يُخَلِّد في وجدان المسلمين مؤامرة قريش ولؤمهم، فأعلن: «منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خِيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر». السيرة الحلبية: 3/27.

ثم أكد ذلك عندما توجه إلى معركة حنين، فقال: «منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»! البخاري: 5/92.

ثم أكد ذلك بعد سنتين في حجة الوداع، فقال (صلی الله علیه و آله) يوم التروية: «منزلنا غداً إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر». البخاري: 2/158.

ثم أكد ذلك عندما عاد من عرفات، فقال يوم النحر: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب». البخاري: 4/247.

فقد كان هدف زعماء قريش أن يشددوا على بني هاشم ليسلموهم النبي (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه، ولما عجزوا عن قتله، وانتصر عليهم وأقام دولة، صار هدفهم أن يعزلوهم أهل بيته عن خلافته ويأخذوا دولته!

لذلك اهتم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحفظ المسلمون تلك الحادثة الخطيرة التي وقعت في هذا

ص: 420

المكان، ويحفظوا كيد فراعنة قريش الذي فاق كيد اليهود!فقد تقاسموا باللات والعزى ومناة على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) بأي طريقة، غيلة أو علانية، وعلى مقاطعة بني هاشم مقاطعة كاملة شاملة، حتى يسلموه لهم للقتل! وذنبه أن الله أرسله نبياً، وهم لايريدون نبياً من بني هاشم، حتى لو كان صادقاً!

وحاصروا بني هاشم أربع سنين وأكثر، وضيقوا عليهم حتى أكل أطفالهم ورق الشجر من الجوع، ومصوا الرمل الرطب من العطش!

فكان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) تخليد الحادثة بمكانها وزعمائها لتعرف أجيال المسلمين أن معدن الكفر في هؤلاء الذين أخضعهم في فتح مكة بسيوف بني هاشم والأنصار، وأنهم سيعودون لوراثة دولة الإسلام وإبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله)!

وعندما أطلق النبي (صلی الله علیه و آله) كلامه كان عدد من قادة مؤتمر الكفر قد ماتوا، لكن عدداً منهم ما زالوا أحياء ينظرون ويسمعون! كسهيل بن عمرو، وأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبي الأعور السلمي، وغيرهم.كانوا حاضرين في حجة الوداع يسمعون كلامه، ويتعجبون من عفوه عنهم! لكنه (صلی الله علیه و آله) كان ينفذ أمر ربه، ويعلم أجيال المسلمين أن الخطر على الإسلام من قريش وحدها، فبقية القبائل تبعٌ لها!

وفي مقابل عمله (صلی الله علیه و آله) عَمِلَ زعماء قريش لينسى المسلمون الجريمة ومكانها وأشخاصها وطمستها قريش بعد النبي (صلی الله علیه و آله)! ولم يحفظها إلا آل النبي (صلی الله علیه و آله) وشيعتهم، فصار خيف بني كنانة أو محصَّب منى منزل بني هاشم إلى يمين الداخل إلى منى!

وقد تعجبت هذه السنة 1429 من أن الوهابيين أقاموا رمز مسجد لمكان بيعة الأنصار للنبي (صلی الله علیه و آله) قرب جمرة العقبة، لكن لم يقيموا رمزاً لمؤتمر الكفر القرشي!

كما حرصوا على إزالة شِعب أبي طالب من أساسه، ابتداءً بمكان مولد النبي (صلی الله علیه و آله) فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين، فأبقوه خرباً كتب عليه:

«مكتبة مكة»!

ص: 421

4- أبوطالب يُحَصِّن الشِّعْب ويحرس النبي (صلی الله علیه و آله)!

بعد قرار قريش مقاطعة بني هاشم، وجدوا أنفسهم مضطرين لترك بيوتهم والتجمع في نقطة واحدة لحفظ حياة النبي (صلی الله علیه و آله) فاختاروا الشِّعْبَ حيهم القديم: «وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع». الحلبية: 2/25.

وحصَّنَ أبوطالب (رحمة الله) الشِّعْب، وفرض الحراسة على رجال بني هاشم لمدخله والنقاط الضعيفة فيه من جهة الجبال والتلال المحيطة.

قال في النزاع والتخاصم/67: «واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق: أن لايقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولاتأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل! فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا تركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله»!

وفي المناقب: 1/57: «كان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاءه أبوطالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع علياً (علیه السلام) مكانه، ووكل عليه وُلْدَهُ وَوُلد أخيه، فقال علي (علیه السلام): يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة، فقال أبوطالب:

إصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى *** كل حيٍّ مصيرُه لشَعوب

قد بلوناك والبلاء شديد *** لفداء النجيب وابن النجيب

لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب *** والباع والفناء الرحيب

إن تصبك المنون بالنبل تبرى *** فمصيب منها وغير مصيب

كل حي وإن تطاول عمراً *** آخذٌ من سهامها بنصيب

فأجابه علي (علیه السلام):

أتأمرني بالصبر في نصر أحمدٍ *** ووالله ما قلتُ الذي قلتُ جازعا

ولكنني أحببت أن ترَ نُصرتي *** وتعلم أني لم أزل لك طائعا

وسعيي لوجه الله في نصر أحمد *** نبي الهدى المحمود طفلاً ويافع

أقول: هذه الرواية لاتتناسب مع شجاعة علي (علیه السلام)، لكن هدف إفهام الآخرين.

ص: 422

5- بعد سنوات الحصار جاءت المعجزة الإلهية

«أوحى الله عزوجل إليه أنه قد بعث أَرَضَةً على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي (صلی الله علیه و آله) وجميع بني هاشم، المختومة بأربعين خاتماً، المعدلة عند زمعة بن الأسود، فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم، وتركت ما كان فيها من اسم الله عزوجل». الهداية للصدوق/144.

وقال الطبرسي في إعلام الورى: 1/ه127: «فلما أتى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور، وتركت إسم الله! ونزل جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بذلك، فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أباطالب (علیه السلام) فقام أبوطالب ولبس ثيابه، ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلما بصروا به قالوا: قد ضجر أبوطالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه».

وقال ابن سعد في الطبقات: 1/208: «وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع..وقطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب. فأرسل الله عزوجل على الصحيفة دابة فأكلت كل شئ إلا اسم الله عزوجل. فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسقط في أيديهم، ونكسوا على رؤوسهم! فقال أبوطالب: علامَ نُحبس ونُحصر وقد بان الأمر! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا! ثم انصرفوا إلى الشعب»!

6- سنوات الحصار والشدائد على بني هاشم

كتب أميرالمؤمنين (علیه السلام) في جواب لمعاوية: «أما بعد، فإن أخا خولان أتاني منك بكتاب تذكر فيه محمداً (صلی الله علیه و آله)، والحمد لله الذي صدق له الوعد، ومكن له في البلاد، وأظهره على أهل عداوته والشنآن من قومه، الذين ألبوا عليه العرب،

ص: 423

وهم قومه الأدنى فالأدنى، إلا قليلاً ممن عصمه الله.

كنا أهل البیت أول من آمن وصدق بما أرسل به، فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، وأمسكوا منا المادة، وقطعوا عنا الميرة، ومنعونا الماء العذب، وأحلونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وكتبوا بينهم كتاباً أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا نأمن فيهم، حتى ندفع إليهم نبينا (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه ويمثلوا به! فعزم الله على منعه والذب عن حوزته، فمؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأصل، وأنا أول أهل بيتي إسلاماً معه، ومن أسلم بعدنا أهل البیت من قريش فحليف ممنوع، وذو عشيرة تحامي عنه».

المناقب للخوارزمي/251.

وقال في إعلام الورى: 1/125: «كتبوا صحيفة بينهم إنهم يدٌ واحدة على محمد يقتلونه غيلةً أو صراحاً، فلما بلغ ذلك أباطالب جمع بني هاشم، ودخلوا الشعب، وكانوا أربعين رجلاً فحلف لهم أبوطالب بالكعبة والحرم والركن والمقام، إن شاكت محمداً شوكة، لآتينَّ عليكم يا بني هاشم!

وحَصَّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله (صلی الله علیه و آله) مضطجع، ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا، ويوكل وُلده ووُلد أخيه به يحرسونه بالنهار، فأصابهم الجهد!

وكان من دخل مكة من العرب لايجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً! ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله، وكان أبوجهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله! وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً، ختمه كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبولهب على ذلك!

فلم تزل هذه حاله فبقوا في الشعب أربع سنين، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبايعون إلا في الموسم! وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة: موسم

ص: 424

للعمرة في رجب، وموسم للحج في ذي الحجة. وكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون، ثم لايجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي طالب: إدفع إلينا محمداً حتى نقتله، ونملكك علينا»!

وقال اليعقوبي: 2/31: «حصرت قريش رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته من بني هاشم و

بني المطلب بن عبدمناف، في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم، بعد ست سنين من مبعثه، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين «وأكثر» حتى أنفق رسول الله ماله، وأنفق أبوطالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها «الذي وصلت اليه يدها» وصاروا إلى حد الضر والفاقة».

وفي الخرائج: 1/85: «فلقوا من الجوع والعري ما الله أعلم به»!

وفي السيرة الحلبية: 2/52: «جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر»!

وقال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه: المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /175: «وعانوا الحرمان والجوع، فأكلوا نبات الأرض، وأخذ الأطفال يَمُصُّون الرمال من العطش، وكانت بطون قريش تشاهد كل هذا وتتلذذ به، دون أي إحساس بالحرج! ولكن الهاشميين لم يركعوا ولم يستسلموا، ولم يستجيبوا لبطون قريش في طلبها تسليم النبي. لقد تحملوا ما لم تتحمله قبيلة على وجه الأرض في سبيل محمد (صلی الله علیه و آله) وفي سبيل دينه ولولا صبرهم وثباتهم لقتلت البطون رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما قتل غيره من الأنبياء وأجهضت دعوته في مهدها، ولكن الله أراد أن يظهر دينه، وأن يتحمل البطن الهاشمي أعباء مرحلة التأسيس الحاسمة.

ثم أوحى الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) أنه أرسل حشرة أكلت صحيفة الحصار ولم تُبق من كتابتها إلا إسم الله. وما أن انتهى جبريل من إلقاء تلك البشارة العظيمة حتى نهض رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبر عمه بتفاصيل خبر السماء، وعلى إثر ذلك توجه النبي وأبوطالب والهاشميون جميعاً إلى مكة.

ص: 425

أقبلت قريش تريد الوقوف على حقيقة الأمر، وهي تظن أباطالب قد جاء ليعلن استسلامه واستسلام بني هاشم، ولكن أباطالب طلب من زعماء الشرك أن يحضروا صحيفة الحصار، فلما فعلوا ذلك قال لهم: أليست هذه صحيفتكم على العهد الذي تركتموها فيه؟ فقالت زعامة البطون: نعم. فقال أبوطالب: فهل أحدثتم فيها حدثاً؟ فقالوا: اللهم لا. فقال لهم: لقد أعلمني محمد عن ربه أن الله قد بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله، أفرأيتم إن كان صادقاً ما تصنعون؟ فقالت زعامة البطون: نكف ونمسك. فقال أبوطالب: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه! فقالوا: قد أنصفت وأجملت. وفُضَّت الصحيفة فإذا كل ما فيها قد محي إلا مواقع اسم الله عزوجل، وبهتت زعامة الشرك وأسلم على أثر هذه المعجزة عدد من الناس، وأعلن أبوطالب أنه على الدين الحق، واهتزت شرعية الحصار والمقاطعة.

إن للهاشميين فضلاً على كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين، فلولا موقفهم الحاسم المشرف بقيادة أبي طالب، لتمكنت بطون قريش من قتل محمد (صلی الله علیه و آله) ولما قامت للإسلام قائمة! ومن المهازل أن تقوم السلطات التي سيطرت على مقاليد أمور المسلمين فيما بعد بتصوير أبي طالب مشركاً وتنكر كفاحه وجهاد أبنائه، وتفرض مسبتهم على المنابر، ولا تقبل شهادة من يواليهم، وتلقي في أذهان العامة والغوغاء أن الهاشميين ماتوا بموت محمد، وأنهم لم يخلقوا للقيادة، وإنما خلقوا ليكونوا أتباعاً لخلفاء بطون قريش، وأن الخلافة حق خالص للبطون، مثلما كانت النبوة حقاً خالصاً للهاشميين، وأن هذه القسمة هي القسمة العادلة، وكأن البطون هي المخولة بتوزيع فضل الله تعالى».

7- أبوطالب يؤرخ بقصائده حصار الشعب

أرَّخَ أبوطالب (رحمة الله) محاصرة قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، بأكثر من عشرقصائد شرح فيها إصرارهم على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) موقفه الحاسم في مقاومتهم، ومدح النبي (صلی الله علیه و آله) وأعلن إسلامه، وهذا بعضها من سيرة ابن إسحاق: 2/141 وغيرها:

«كان أبوطالب يخاف أن يغتالوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلاً أو سراً فكان رسول الله إذا

ص: 426

أخذ مضجعه أو رقد، بعثه أبوطالب من فراشه وجعله بينه وبين بنيه، خشية أن يقتلوه! فقال أبوطالب وهو يذكر ما طلبوا من محمد وما حشدوهم في كل موسم يمنعونهم أن يبتاعوا بعض ما يصلحهم، وذكره في الشعر:

ألا هل أتى بَحْرِيَّنَا صُنْعُ ربنا *** على نأيهم والأمر بالناس أور

ألم يأتهم أن الصحيفة أُفسدت *** وكل الذي لم يُرضه الله مُفْسَد

وكانت أحق رقعة بأثيمة *** يُقَطَّع فيها ساعد ومقلد

فمن يك ذا عزٍّ بمكة مثله *** فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها أقلة *** فلم ننفكك نزداد خيراً ونمجد

جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا *** بنصر امرئ يهدي لخير ويرشد

قعوداً لدى خطم الحجون كأنهم *** مقاولة، بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه *** إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جرى على جُلَّى الخطوب كأنه *** شهاب بكفٍّ قابس يتوقد

من الأكرمين من لؤي بن غالب *** إذا سيم خسفاً وجهه يتربد

عظيم الرماد سيد وابن سيد *** يحض على مقري الضيوف ويحشد

قضوا ماقضوا في ليلهم ثم أصبحوا *** على مهل سائر الناس رقَّد

متى شرك الأقوام في جل أمرنا *** وكنا قديماً قبلها نتودد

وكنا قديماً لا نقر ظلامة *** وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيا لقصيٍّ هل لكم في نفوسكم *** وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائل *** لديك البيان لو تكلمت أسود»

ويقصد ب«بحرينا» جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) . راجع: سيرة ابن إسحاق: 2/138، ابن هشام: 1/234 و253، الطبقات: 1/210، المناقب: 1/57، إعلام الورى: 1/125، أنساب الأشراف/31 وأبوطالب حامي الرسول/30.

ألا من لهمٍّ آخر الليل معتمِ *** طواني وأخوى النجم لم يتقحمِ

ص: 427

طواني وقد نامت عيون كثيرة *** وسائر أخرى ساهرٌ لم ينوم

لأحلام أقوامٍ أرادوا محمداً *** بسوء ومن لا يتقي الظلم يُظلم

سعوا سفهاًواقتادهم سوء رأيهم *** على قلل من رأيهم غير محكم

رجاء أمور لم ينالوا نظامها *** وإن حشدوا في كل نفر وموسم

يرجون أن نسخى بقتل محمد *** ولم تختضب سمر العوالي من الدم

يرجون منا خطة دون نيلها *** ضراب وطعن بالوشيح المقوم

كذبتم وبيت الله لا تقتلونه *** جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى حليلةٌ *** خليلاً وتغشى محرماً بعد محرم

وينهض قوم في الدروع إليكم *** يذبون عن أحسابهم كل مجرم

 

وقالوا خطة جوراً وحمقاً *** وبعض القول أبلج مستقيم

لتخرج هاشم فيصير منها *** بلاقع بطن مكة والحطيم

فمهلاً قومنا لا تركبونا *** بمظلمة لها أمر وخيم

فيندم بعضكم ويذل بعض *** وليس بمفلح أبداً ظلوم

فلا والراقصات بكل خرق *** إلى معمور مكة لا يريم

طوال الدهر حتى تقتلونا *** ونقتلكم وتلتقيَ الخصوم

ويعلم معشر قطعوا وعقوا *** بأنهم هم الجلد الظليم

أرادوا قتل أحمد ظالموه *** وليس لقتله فيهم زعيم

ودون محمد فتيان قوم *** هم العرنين والعضو الصميم

 

ألا أبلغا عني على ذات نأيها ج *** لؤياً وخُصَّا من لؤيٍّ بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب

ص: 428

وأن عليه في العباد محبة *** ولا خير فيمن خصه الله بالخَبِّ

وأن الذي أضفيتم في كتابكم *** لكم كائنٌ نحساً كراغية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى *** ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا ج *** أياصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حرباً عواناً وربما ج *** أمرُّ على من ذاقه حلب الحرب

ولسنا ورب البيت نسلم أحمداً *** على الحال من عض الزمان ولا كرب

أليس أبونا هاشمٌ شد أزره ج *** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ج *** ولا نشتكي مما ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفاظ ذووا النهى *** إذا طار أرواح الكماة من الرعب

وقوله (رحمة الله): نحساً كراغية السقب، يحذرهم من يوم كأصحاب ناقة صالح (علیه السلام) .

ألا أبلغا عني لؤياً رسالة *** بحق وما تغني رسالة مرسل

بني عمنا الأدنين تيماً نخصهم *** وإخوتنا من عبد شمس ونوفل

أظاهرتم قوماً علينا ولايةج *** وأمر غويٍّ من غواة وجُهَّل

يقولون إنا إن قتلنا محمداً *** أقرت نواصي هاشم بالتذلل

كذبتم ورب الهديِ تُدمى نحورها *** بمكة والركن العتيق المقبَّل

تنالونه أو تبطلون لقتله *** صوارم تُفري كل عظم ومفصل

وتدعو بويل أنتم إن ظلمتم *** مقاليد في يوم أغر محجل

فمهلاً ولما تنتح الحرب بكرها *** وتأتي تماماً أو بآخر معجل

وأنا متى ما نُمْرِها بسيوفنا *** تجلجل فنعرك من نشاء بكلكل

ويعلو ربيع الأبطحين محمد *** على ربوة من رأس عنقاء عيطل

ويأوي إليها هاشم إن هاشماً *** عرانين كعب آخراً بعد أول

فإن كنتم ترجون قتل محمد *** فروموا بما جمعتم نفل يذبل

ص: 429

فإنا سنحميه بكلٍّ وطمرةج *** وذي ميعة نهد المواكل هيكل

وكل رديني ظماءٌ كعوبه *** وغضب كإيماض الغمامة يفصل

بأيمان شم من ذؤابة هاشم *** مغاوير الأبطال في كل محفل

 

تطاول ليلي بهم نصبْ *** ودمعي كسحِّ السِّقاء السَّرِبْ

ولعبُ قُصي بأحلامها *** وهل يرجع الحلمُ بعد اللعب

ونفيُ قصيٍّ بني هاشمٍ *** كنفي الطُّهاة لِطافَ الحطب

وقولٌ لأحمد أنت امرؤ *** خلوق الحديث ضعيف النسب

ألا إن أحمد قد جاءهم *** بحق ولم يأتهم بالكذب

 

وقد كان من أمر الصحيفة عبرة *** متى ما يُخَبَّرْ غائبُ القوم يعجب

محا الله منها كفرهم وعقوقهم *** وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً *** ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبدالله فينا مصدقاً ج *** على سخط من قومنا غير معتب

فلا تحسبونا خاذلين محمداً *** لدى غربة منا ولا متقرب

ستمنعه منا يد هاشميةٌ *** مركبها في الناس خير مركب

فلا والذي تخذى له كل نضوة *** طليحٌ نجيُّ نجلةٍ فالمحصب

يميناً صدقنا الله فيها ولم نكن *** لنحلف كذباً بالعتيق المحجب

نفارقه حتى نصرع حوله *** وما نال تكذيب النبي المقرب

ويظهر من شعر أبيطالب (رحمة الله) أن قريشاً كانت تريد قتل النبي (صلی الله علیه و آله) وإجلاء بني هاشم من مكة! وقد أحبط الله هدفها بموقف أبيطالب (رحمة الله) وبني هاشم.

ص: 430

8- رواة الخلافة جعلوا لؤم قريش نبلاً!

شارك كل زعماء قريش في صحيفة المقاطعة والمحاصرة، فلم يشذ منهم زعيم عن توقيعها، ولا تهاون في تنفيذها! لكن بعد انتصار النبي (صلی الله علیه و آله) عليهم بالآية الربانية جعلت الخلافة القرشية زعماء قريش قمة في النبل والإنسانية! وزعمت أن خمسة أو سبعة منهم «تلاوموا» وقرروا «نقض الصحيفة الظالمة» وعملوا وعرضوا أنفسهم لأخطار، حتى تمكنوا من نقض الصحيفة!

«وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) شكر لهم صنيعهم! وأوصى المسلمين أن لاتقتلوا فلاناً لأنه لم يؤذني! وفلاناً لأنه كان خيِّراً باراً، وبطلاً من أبطال نقض الصحيفة! وجعلوهم خمسة» «ابن إسحاق 2/145»: هشام بن عمرو بن ربيعة، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن مخزوم، ومطعم بن عدي، وأبي البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد. «ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأرضة قد أكلتها»! ونظموا في مدحهم 2/37:

«فتية بيتوا على فعل خير *** حمد الصبح أمره والمساء

يالأمر أتاه بعد هشام *** زمعة إنه الفتى الأتَّاءُ

وزهير والمطعم بن عدي *** وأبو البحتري من حيث شاءوا

نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد *** دت عليه من العدا الأنداء»!

وزعموا أن شاعرالنبي (صلی الله علیه و آله) رثى مطعماً، قال ابن هشام: 1/255: «وقال حسان بن ثابت يبكي المطعم بن عدي حين مات»، ويذكر قيامه في نقض الصحيفة:

أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي *** بدمع، وإن أنزفته فاسكبي الدما

وبكِّي عظيم المشعرين كليهما *** على الناس معروفاً له ما تكلما

فلو كان مجد يخلد الدهر واحداً *** من الناس أبقى مجده اليوم مطعما

أجرت رسولالله منهم فأصبحوا *** عبيدك ما لبى مهل وأحرما

فلو سئلت عنه معد بأسرها *** وقحطان أو باقي بقية جرهما

ص: 431

لقالوا: هو الموفي بخفرة جاره *** وذمته يوماً إذا ما تذمما

وقال في السيرة الحلبية: 2/36: «المطعم بن عدي مات كافراً، وأبو البحتري بن هشام قتل ببدر كافراً، وزمعة بن الأسود قتل ببدر كافراً».

لكن رووا عن جبير بن مطعم، وهو من الطلقاء سير الذهبي: 3/95 أن النبي (صلی الله علیه و آله) مدح أباه، وقال في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له»! بخاري: 5/20.

وقال في سبل السلام: 4/56: «وفيه دليل على أنه يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير والسماحة به لشفاعة رجل عظيم، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً».

وقد صور ابن حجر الدور البطولي لهؤلاء «العظماء» في نقض الصحيفة والخدمة الكبرى التي قدموها للإسلام ورسوله (صلی الله علیه و آله)! فقال في الإصابة: 6/426، عن هشام بن عمرو بن ربيعة إنه من المؤلفة قلوبهم أعطاه النبي (صلی الله علیه و آله) من غنائم حنين! وقال: «ذكر بن إسحاق قصته في نقض الصحيفة ومخاطرته في ذلك بنفسه (رحمة الله)»!

وقال في فتح الباري: 7/147: «ولم يكن يأتيهم شئ من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر، من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحرث العامري، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية فوافقه ومشيا جميعاً إلى المطعم بن عدي والى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطؤوا عليه فقال أبوجهل: هذا أمر قضي بليل، وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها»!

وتسألهم: متى كان ذلك من سنوات الحصار؟ فيقولون لك: كان بعد ثلاث سنوات منه أو أربع! يعني بعد سنوات رقَّت قلوب هؤلاء النبلاء لأطفال بني هاشم، فعملوا ليل نهار حتى فكوا عنهم الحصار!

وتسألهم: وأين دور معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) وآية الأرَضَة الربانية؟ أليست هي السبب الذي جعل زعماء قريش يبلسون، فتجرأ بنو هاشم على كسر الحصار وخرجوا من

ص: 432

الشعب إلى مساكنهم!فيقولون: لقد ترافق سعي أولئك الأخيار لفك الحصار مع المعجزة فاستطاعوا أن ينهوا حصار بني هاشم رغم مخالفة أبي جهل!

لاحظ مكذوبات القرشيين في شهامة زعماء الشرك في رواية ابن إسحاق: «ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأَرَضَة قد أكلتها»

فقد جعلوا شهامتهم توأماً لمعجزة النبوة، لأن أولاهم حكموا الأمة!

راجع تخريفاتهم في: الإصابة: 1/230، الدرر/57، عمدة القاري: 17/119، الطبري: 2/78 وغيرها!

والحقيقة، أنه لم يكن عند زعماء قريش ذرةٌ من النُّبل، وأن الذي أفشل الحصار آية الأرَضة، فخرج بنو هاشم من الحصار برأس مرفوع وعين قوية على عدوهم! غايته أن موقف بعض زعماء المشركين أمام المعجزة كان ألين من أبي جهل.

9- لك الله يا أباطالب!

فقد ادعت الخلافة أن زعماء المشركين خدموا النبي (صلی الله علیه و آله) ونقضوا صحيفة المقاطعة فأكرمهم الله تعالى! روى البخاري: 5/20 أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لو كان مطعم حياً وطلب إطلاق أسرى بدرلأطلقتهم له، وقالوا: «يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير، والسماحة به لشفاعة رجل عظيم، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً».

أما أبوطالب، الذي قام الإسلام بمواقفه وحمايته بماله ونفسه وأبنائه وعشيرته! فمكافأته عندهم سخرية النبي (صلی الله علیه و آله) به! قالوا إن العباس قال له: «ما أغنيت عن عمك فوالله كان يحوطك ويغضب لك! قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»!

وقد رواه بخاري: 4/247، وكرره متبجحاً، وفسر ضحضاح النار: 7/203 بأنه: «يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه»!وقالوا: «إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار، فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم، وأفاع كأنهن البخاتي فضربنهم»! الدر المنثور: 4/127.

لقد انتقموا من أبي طالب فجعلوه كافراً في قعر جهنم! وزعموا أن

ص: 433

النبي (صلی الله علیه و آله) شفع له شفاعة مضحكة! مع أن الرجل المسلم يشفع لمن سقاه شربة ماء، فيدخله الجنة «ابن ماجة 2/496» والمؤمنين يشفعون: «فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» «الدر المنثور: 2/249». أنظر للمؤلف: ألف سؤال وإشكال: 1/174.

10- كذبة المليون أوقية ذهب وأخواتها!

رافق كذبة شهامة زعماء قريش في نقض الصحيفة، أكاذيب عن مساعدتهم لبني هاشم في سنوات الحصار! كالذي رواه ابن إسحاق: 2/145 عن هشام بن عمرو: «كان يأتي في الشعب ليلاً قد أوقر جملاً طعاماً حتى إذا أقبل في الشعب حل خطامه من رأسه، ثم ضرب جنبه فدخل الشعب عليهم، ويأتي به وقد أوقره براً أو بزاً، فيفعل به مثل ذلك»!

ورووا عن حكيم بن حزام أنه أتى بحمل بعير حنطة لعمته خديجة (علیها السلام)، وعن أبي العاص بن أمية زوج زينب، أنه كان يوصل مواد غذائية إلى الشعب.

وقد ناقش ذلك صاحب الصحيح: 3/211 فقال ملخصاً: «لانجد أثراً لابن عم خديجة حكيم بن حزام الذي تدعي الروايات أنه كان يرسل الطعام لهم وهم محصورون في الشعب.فحكيم هذا كان من الذين انتدبتهم قريش لقتل رسول الله ليلة الغار، وباتوا على باب النبي (صلی الله علیه و آله) يرصدونه فرد الله كيدهم! وحكيم هذا كان يحتكر جميع الطعام الذي كان يأتي إلى المدينة على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)!ومن كانت هذه نفسيته لايكون جواداً ويعرض نفسه لخطر عداء قريش، إلا أن يكون عمله احتكاراًتجارياً ليبيع المسلمين بأغلى الأثمان، ويعرض نفسه للخطر حباً بالمال!

كمالا تجد في حصار الشعب ذكراً لأبي العاص بن الربيع الأموي! الذي زعموا أنه كان يخاطر بنفسه، ويأتي لهم بالطعام من مكة».

وأكبر كذبة هنا قولهم إن أبابكر كان أول من أسلم وكان صاحب ثروة عظيمة أنفقها على النبي (صلی الله علیه و آله)! قالت عائشة: «فَخِرْتُ بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية». قال ابن أبي عاصم/225: «قال الألباني: أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 970 وفي أفعال

ص: 434

العباد ص: 89 والحاكم: 4/574 وعنه البيهقي في الأسماء ص: 78 وأحمد: 3/495 من طرق أخرى عن همام بن يحيى به.وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي»!

وقال الذهبي في سيره: 2/185: «وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة، فإنه يكون أربعين ألف درهم، وفي ذلك مفخرٌ لرجل تاجر وقد أنفق ماله في ذات الله، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم، فأخذها صحبته. أما ألف ألف أوقية، فلا تجتمع إلا لسلطان كبير».

لكن لا تصح دعوى الذهبي،لأنهم صححوا الخبر بلفظ: ألف ألف أوقية! كما لا يصح ما افترضه أن أبابكر أنفق ألف أوقية ذهباً على النبي (صلی الله علیه و آله) لأن ذلك لم يروه أحد، ولم يظهرحتى في أوقية واحدة، ولا في صاع حنطة في سنوات الحصار، ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمستضعف من المسلمين، وقد زعموا أنه اشترى بلالاً ولم يثبت، أما إنفاقه على ابن خالته مسطح فهومن مال مسطح لأنه كان يعمل معه!

فلو كان أنفق على بني هاشم في سنوات الحصار، أو أرسل اليهم شيئاً، لرواه رواة الخلافة بطرق عديدة في المسانيد والصحاح، ولما تفردت به عائشة!

ولو أن عمر وأبابكر قالا كلمة في مواجهة زعماء قريش في مكة، لردداها في خلافتهما وكررا حديثها، وشرحها أتباعهما، ورفعوها علماً!

لقد كشفت سنوات الشِّعب أن بعض الذين ضخمهم الرواة لم يكن لهم وجود في تاريخ الإسلام، فهم غائبون في البأساء والضراء، حاضرون في الرخاء!

11- علي بن أبي طالب (علیه السلام) منكور الفضل كأبيه!

لم يسجل رواة السلطة جهاد علي (علیه السلام) في سنوات الحصار، إلا لمُاماً من حراسته للنبي (صلی الله علیه و آله)، ووصل منه شئ برواية أبي جعفر الإسكافي أحد كبار علماء المعتزلة! فقد نقل في شرح النهج: 13/254، رده على الجاحظ فقال: «وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات برسول الله (صلی الله علیه و آله) في تلك

ص: 435

الظلمات، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما، والمصطلي لكل مكروه، والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض بالحمل الثقيل وناء بالأمر الجليل.

ومَن الذي كان يخرج ليلاً من الشعب على هيئة السارق يخفي نفسه ويضائل شخصه، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبوطالب من كبراء قريش، كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره، ولو ظفروا به لأراقوا دمه!

أعليٌّ كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبوبكر؟ ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويظمئ نفسه ويسقيه، وهو كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش، وأبوبكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولايعلم بشئ من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم! فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها»!

ص: 436

الفصل الثالث والعشرون: عام وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام): عام الحزن

1- أبوطالب (رحمة الله) يقود عملية كسر الحصار قبيل وفاته

عندما حذَّر بحيرا الراهب أباطالب أن يدخل بالنبي (صلی الله علیه و آله) إلى دمشق خوفاً عليه من اليهود، يومها عاد أبوطالب (علیه السلام) بحبيبه إلى مكة فطاف حول الكعبة داعياً ربه أن يحفظ محمداً (صلی الله علیه و آله) من كيد اليهود، وأطلق قصائده في مديحه، وتشدد في حراسته، واستمر في ذلك أكثر من ثلاثين سنة!

وما أن بعثه الله رسولاً حتى واجهته قريش بأشد من كيد اليهود، فطلبت من أبي طالب بكل وقاحة أن يسلمها إياه لتقتله! لأن ادعاءه النبوة يهدد تقاسم الزعامة في قبائل قريش، ويعني الدعوة إلى رئاسة بني هاشم!

من ذلك اليوم دخل أبوطالب (رحمة الله) في مواجهة ضارية مع زعماء شرسين وجبناء في آن واحد، وقاد بني هاشم بحكمة وقوة، وجمعهم حوله مؤمنهم وكافرهم، يحمون ابنهم محمداً (صلی الله علیه و آله) بشجاعة هاشمية مميزة!

كان محمد (صلی الله علیه و آله) عنده أعز من أولاده ومن نفسه، فهو محبوبه المفدى، وصديقه الحميم، والنبي الصادق. وقد نجح في حمايته حتى في أشد السنوات في حصار الشعب! وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يوجه عمه الجليل بأدب الإبن مع أبيه، وحنان الرسول على المؤمن. وقد جاءه يوماً بعد سنوات من حصار قريش فقال له: ياعم إن الله عزوجل قد أرسل على صحيفة القوم أرَضَةً فأكلت كل بنودها الظالمة، وأبقت منها إسم الله تعالى!

ص: 437

قال ابن إسحاق في سيرته: 2/142: «فأخبر الله عزوجل بذلك رسوله (صلی الله علیه و آله) فأخبر أباطالب، فقال أبوطالب: يا ابن أخي من حدثك هذا، وليس يدخل الينا أحد ولاتخرج أنت إلى أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب؟فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبرني ربي هذا! فقال له عمه: إن ربك لحق وأنا أشهد أنك صادق. فجمع أبوطالب رهطه ولم يخبرهم ما أخبره به رسول الله كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة بالخبث والمكر، فانطلق أبوطالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة، فلما أبصروه تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقتلوه!

فلما انتهى إليهم أبوطالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم، وفي حياته فرقتكم وفسادكم! فقال أبوطالب: قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة، فاقبلوا ذلك منا. هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا، فجاؤوا بها ولا يشكون إلا أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها، فلما جاؤوا بصحيفتهم قال أبوطالب: صحيفتكم بيني وبينكم، وإن ابن أخي قد خبرني ولم يكذبني أن الله عزوجل قد بعث على صحيفتكم الأرَضة فلم يدع لله فيها إسماً إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فإن كان كاذباً فلكم عليَّ أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه! فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله! وكانوا هم بالغدر أولى منهم، واستبشر أبوطالب وأصحابه، وقالوا أينا أولى بالسحر والقطيعة والبهتان».

وفي رواية ابن سعد: 1/210: «إن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله».

وفي الخرائج: 1/85:«فما راعَ قريشاً إلا وبنو هاشم عُنُقاً واحداً، قد خرجوا من الشعب! فقالت قريش: الجوع أخرجهم! فجاؤوا حتى أتوا الحِجْر وجلسوا فيه، وكان لا يقعد فيه إلا فتيان قريش. فقالوا: يا أباطالب قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخبر، إبعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح.

ص: 438

قال: فبعثوا إليها وهي عند أم أبي جهل، وكانت قبلُ في الكعبة فخافوا عليها السرق، فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها. فقال أبوطالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط، أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرَضة، فأكلت كل قطيعة وإثم وتركت كل اسم هو لله، فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه. فصاح الناس: نعم يا أباطالب، ففتحت ثم أخرجت فإذا هي مُشَرَّبَة كما قال، فكبَّر المسلمون، وامتقعت وجوه المشركين. فقال أبوطالب: أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة؟ فأسلم يومئذ عالمٌ من الناس».

وفي إعلام الورى: 1/127: «فتفرق القوم ولم يتكلم أحد.وقال عند ذلك نفر من بني عبدمناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي، وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد،

وأبو البختري بن هشام، وزهير بن أمية المخزومي، في رجال من أشرافهم: نحن بَراء مما في هذه الصحيفة! وقال أبوجهل: هذا أمر قضي بليل!

وخرج النبي (صلی الله علیه و آله) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس! ومات أبوطالب بعد ذلك بشهرين، وماتت خديجة بعد ذلك».

2- أبوطالب يُوَدِّع حبيبه (صلی الله علیه و آله) ويوصيه بالهجرة إلى المدينة

انتصر أبوطالب (رحمة الله) في كسر الحصار، وحلَّت الفرحة قلب حامي النبي (صلی الله علیه و آله) وفاديه بنفسه وبنيه، وعاد إلى بيته في مدخل الشعب، شجرة باسقة أظلت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر من أربعين سنة، وأظلت دعوته أكثر من عشرسنين!

كان أبوطالب قرير العين بما أنعم الله على ابن أخيه وعليه، وأخذ يدير عملياته في ظروف جديدة، مليئة بالأمل، حتى مع المرض. وفي هذه المدة، نظم بقية قصائده في نصرة الإسلام ورسوله (صلی الله علیه و آله)، وراسل ابنه جعفراً في الحبشة بإحداها، يخبره بالمعجزة الربانية وفشل الحصار!

ص: 439

وكان يعقد الجلسات مع حبيبه الغالي (صلی الله علیه و آله) ويتداول معه أخبار قريش، ومستقبل النبي (صلی الله علیه و آله) والإسلام، والخطر الذي سيواجهه بعد وفاته.

كان يعرف أن فراعنة قريش عنيدون حاقدون، وأنه بمجرد أن يغمض عينيه سيقولون مات الذي وحَّد بني هاشم لحمايته، وجاءت الفرصة لقتل محمد (صلی الله علیه و آله)! وسينفلتون كالذئاب الجائعة لدم محمد (صلی الله علیه و آله)!

كان يعرف أن قبائل العرب تخاف من قريش فلا تحمي محمداً (صلی الله علیه و آله)، أو تريد الثمن من محمد (صلی الله علیه و آله) لحمايته بأن تكون لها خلافته، ومحمد (صلی الله علیه و آله) يجيبهم بأن للأمر أهلاً، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله!

لهذا لم يكن عند أبي طالب أمل إلا في المدينة وبني النجار خاصة، وقد روت المصادر: «لما حضرت أبوطالب الوفاة دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: ابنَ أخي: إذا أنا متُّ فائت أخوالك من بني النجار، فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم». تاريخ دمشق: 66/338، الطبقات: 3/543 وتاريخ الذهبي: 1/233.

كما روت المصادر أن أباطالب (علیه السلام) سأل النبي (صلی الله علیه و آله) ذات يوم: «هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يسجروني أو يقتلوني أو يخرجوني! قال: من خبرك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً، قال: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي. فنزلت: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. الآية». عمدة القاري: 18/246، وتفاسير: الطبري: 9/299، ابن أبي حاتم: 5/1688، الثعلبي: 4/350 وابن كثير: 2/314. وقال في الدر المنثور: 3/179: وأخرج سنيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ».

وقال في لباب النقول/110: «قال ابن كثير: ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر، لأن القصة ليلة الهجرة، وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين»!

وسبب استغرابهم: بغضهم لأبي طالب!وإلا فقد رووا أن المشركين كانوا يأتمرون بالنبي (صلی الله علیه و آله) من أول بعثته وقرروا قتله أو سجنه أو نفيه عدة مرات، وكان الله تعالى يخبره بذلك، فيخبر عمه ويتداول الموقف، ونزلت الآية بعد ذلك.

أما قولهم «فاستوص به خيراً» فهو للطعن بأبي طالب (رحمة الله) والصحيح ما رووه هم

ص: 440

في قصة الصحيفة كما سيأتي: «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبرني ربي هذا! فقال له عمه: إن ربك لحق، وأنا أشهد أنك صادق». سيرة ابن إسحاق: 2/142.

فتأمل في بغضهم لأبي طالب وللنبي (صلی الله علیه و آله)!

3- جَمَعَ بني هاشم قبل وفاته وأوصاهم بالنبي (صلی الله علیه و آله)

بلغه أن زعماء قريش: «تحالفوا وتقاعدوا لئن مات أبوطالب لتجمعن قبائل قريش كلها على قتله.فجمع بني هاشم وأحلافهم من قريش، فوصاهم برسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: إن ابن أخي نبيٌّ كما يقول.إن محمداً نبي صادق، وأمين ناطق، وإن شأنه أعظم شأن، ومكان من ربه أعلى مكان، فأجيبوا دعوته، واجتمعوا على نصرته، وارموا عدوه من وراء حوزته، فإنه الشرف الباقي لكم مدى الدهر».وأنشأ يقول:

أوصي بنصر النبي الخير مشهده *** علياً ابني وعمَّ الخير عباسا

وحمزة الأسد المخشي صولته *** وجعفراً أن تذودوا دونه الباسا

وهاشماً كلها أوصي بنصرته *** أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا

كونوا فداءً لكم نفسي وما ولدت *** من دون أحمد عند الروع أتراسا

بكل أبيض مصقول عوارضه *** تخاله في سواد الليل مقباسا»

المناقب: 1/55 وروضة الواعظين/54 .

4- وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يا عَمّ وجزاك الله عني خيراً

قال ابن واضح اليعقوبي وهو مؤرخ ثبت إن خديجة توفيت قبل أبي طالب (علیهما السلام) بعد كسر الحصار بقليل، فحزن عليها النبي (صلی الله علیه و آله) حزناً عميقاً، وكان يمضي وقته في بيته، أو يزور عمه أباطالب. وذات يوم جاءه الخبر: مات ناصرك أبوطالب وهوت الشجرة الظليلة الحانية!

قال اليعقوبي: 2/35: «توفي أبوطالب بعد خديجة (علیهما السلام) بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إن أباطالب قد

ص: 441

مات، عظم ذلك في قلبه، واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسرثلاث مرات ثم قال: يا عم، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني خيراً. ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم، وجزيت خيراً. وقال (صلی الله علیه و آله): اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب».

إن فعل النبي (صلی الله علیه و آله) بليغ، وكلامه بليغ، ورحم الله ابن واضح اليعقوبي على أمانته وهو أقدم من الطبري، فقد توفي سنة 284.

وكان موت خديجة وأبي طالب (علیهما السلام) مصيبتان على أمة الإسلام على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنهما مجاهدان في تأسيس هذه الأمة وحمايتها، ونصرة نبيها ومؤسسها.

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما مات أبوطالب وقف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على قبره فقال: جزاك الله من عم خيراً، فقد ربيتني يتيماً، ونصرتني كبيراً».

وروى ابن أبي حاتم في الدر النظيم/221، عن علي (علیه السلام) قال: «أخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بموت أبي طالب فبكى ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه، ففعلت ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره، وجعل يستغفر له، وبقي أياماً لا يخرج من بيته».

أقول: كانت قريش تتأهب لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) بمجرد وفاة أبي طالب (رحمة الله)! ومع ذلك شارك في مراسم تشييعه في بيته القريب، وحمله معهم على سريره، وشيع جنازته إلى قبره في الحجون رغم الخطر على حياته كماروي عن الإمام الصادق (علیه السلام)، ثم اعتكف في بيته أياماً، وهو يعالج نشاط قريش وتخطيطهم لقتله. ولعله أوكل دفنه إلى علي بسبب ظرفه الأمني ثم ذهب إلى قبره بعد ذلك.

وفي الجواهر السنية/219، عن عبدالرحمن بن كثير قال: «قلت لأبي عبدالله «الإمام الصادق (علیه السلام)»: إن الناس يقولون إن أباطالب في ضحضاح من النار! فقال: «كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل! قلت: وبماذا نزل جبرئيل؟ فقال أتى جبرئيل في بعض ما كان ينزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إن أهل الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أباطالب أسر الإيمان وأظهر

ص: 442

الشرك، فآتاه الله أجره مرتين. ثم قال (علیه السلام): كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبوطالب فقال: يا محمد، أخرج من مكة، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب».

وفي الكافي: 1/439و 8/341 عن الصادق (علیه السلام) قال: «لما توفي أبوطالب أوحى الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله): أخرج من القرية الظالم أهلها، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب».

ثم روى عن الإمام العسكري (صلی الله علیه و آله) قال: «إن الله أوحى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سراً فسيدهم وأفضلهم أبوطالب، وشيعة تنصرك علانية، فسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب».

وفي كمال الدين/174، عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: «والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولا عبدمناف، صنماً قط. قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به».

وفي البحار: 35/116، عن الباقر (علیه السلام): «مات أبوطالب بن عبدالمطلب مسلماً مؤمناً».

وفي المناقب: 1/62: «وقالوا: لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء، ولأمكنه جميع الآيات، ولأمكنه منع الموت عن أقاربه، ولمَا مات أبوطالب وخديجة، فنزل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ». الرعد 38.

5- وفاة خديجة وأبي طالب (علیهما السلام) قبل الهجرة بسنتين وكسر

تفاوتت الرواية في كل المصادر عن سنة وفاة خديجة وأبي طالب (علیهما السلام)، فروي أنها قبل الهجرة بسنة وروي أنها قبلها بثلاث سنوات، والذي أطمئن إليه أنها كانت قبلها بسنتين وكسر، لأن أباطالب (علیه السلام) توفي في شوال وذهب النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاته مباشرة تقريباً إلى الطائف، وفي موسم الحج بعد وفاة أبي طالب كان لقاؤه بستة من الأنصار، وفي السنة الثانية التقى ببضعة عشر وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وفي السنة التالية جاءه السبعون وبايعوه بيعة العقبة الثانية، وبعدها مباشرة كانت هجرته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول من السنة التالية.

ص: 443

وكانت وفاة خديجة (علیها السلام) قريباً من وفاة أبي طالب، وقد سمى النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك العام: عام الحزن.

وفي الطبقات: 1/210: «لما توفي أبوطالب وخديجة بنت خويلد وكان بينهما شهر وخمسة أيام، اجتمعت على رسول الله مصيبتان فلزم بيته وأقلَّ الخروج،ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به».

وفي تفسير ابن كثير: 4/176: «وخروجه (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين، كما قرره ابن إسحاق وغيره».

أقول: ما تراه في بعض الروايات من أن وفاة خديجة (علیها السلام) كان قبل الهجرة بثلاث سنين أو سنتين، فوجهه أنها بسنتين وكسر السنة.

أما رواية السنة كما في مستدرك الحاكم: 3/182، فلا تصح.

6- سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): عام الحزن!

في الكافي: 1/440: «فلما فقدهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) شنئ المقام بمكة، ودخله حزن شديد، وشكا ذلك إلى جبرئيل (علیه السلام) فأوحى الله تعالى إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها، فليس لك بمكة ناصر بعد أبي طالب، وأمره بالهجرة».

وفي عمدة القاري: 8/180، ومناقب آل أبي طالب: 1/150: فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يسمي ذلك العام عام الحزن. وفي شرح الأخبار: 3/17: «وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: ما اغتممت بغم أيام حياة أبي طالب وخديجة، لمِا كان أبوطالب يدفعه عنه، وخديجة تعزيه وتصبره وتهون عليه ما يلقاه في ذات الله عزوجل».

وفي أمالي الطوسي/463: «كان الله عزوجل يمنع نبيه (صلی الله علیه و آله) بعمه أبي طالب، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته، فلما مات أبوطالب نالت قريش من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغيتها، وأصابته بعظيم من الأذى حتى تركته لِقىً! فقال (صلی الله علیه و آله): لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم! وصلتك رحم، فجزيت خيراً يا عم.

ثم ماتت خديجة بعد أبي طالب بشهر فاجتمع بذلك على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حزنان حتى

ص: 444

عرف ذلك فيه. قال هند: ثم انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة، ليأتمروا في رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأسروا ذلك بينهم..الى آخر الحديث».

7- هاجمت قريش النبي (صلی الله علیه و آله) مرات لتقتله فخابت!

كانت الفترة بعد وفاة أبي طالب إلى الهجرة الأخطر على حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبوطالب». أي منكمشة عن أذاه خوفاً من أبي طالب. إعلام الورى: 1/53 والحاكم: 2/622.

وكثفت محاولاتها لقتله (صلی الله علیه و آله) فكانت تتجسس عن مكانه وتضع الخطط لقتله، وكان جبرئيل (علیه السلام) يخبره، وذات مرة أمره أن يفر ويختبئ مع علي (علیه السلام) في الحجون لأن بيته (صلی الله علیه و آله) كان قرب المسجد.

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 1/449»: «لما توفي أبوطالب نزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبي (صلی الله علیه و آله) فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون، فصار إليه».

ومعنى ثاروا به: أنهم هاجموا بيته ليقتلوه!

وفي مجمع الزوائد: 6/15: «وعن أبي هريرة قال: لما مات أبوطالب تحينوا النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم».

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/36: «واجترأت قريش على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه، وهموا به مرة بعد أخرى».

وفي تفسير القمي: 2/431: «لما مات أبوطالب (علیه السلام) فنادى أبوجهل والوليد عليهما لعائن الله: هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره! فقال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانية.قال: كما دعا إلى قتل محمد رسول الله نحن أيضاً ندع الزبانية».

أقول: هذا يدل على نزول هذه الآيات مرتين، وهو كثير في القرآن.

وفي الطبري: 2/80: «وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب».

ص: 445

ولم يذكر لنا رواة السلطة أين كان عمر ومن ادعوا لهم البطولة في تلك الفترة! ولماذا ذابوا وقت الشدة كما يذوب الملح؟

8- دفنها النبي (صلی الله علیه و آله) في مقبرة المعلا بالحجون

في الخصال/225، عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شئ أربعة: اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت:، واختار من الأنبياء أربعة للسيف: إبراهيم و داود وموسى وأنا، واختار من البيوتات أربعة، فقال: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. واختار من البلدان أربعة فقال عزوجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ. فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سينين الكوفة وهذا البلد الأمين مكة. واختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة». وفي تاريخ اليعقوبي: 2/35 وأمالي الطوسي/175: «توفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهي تجود بنفسها فقال: بالكُرْهِ مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً. إذا لقيت ضُرَّاتك في الجنة يا خديجة فاقرئيهن السلام. قالت: ومن هنَّ يا رسول الله؟ قال: إن الله زوجنيك في الجنة، وزوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثوم أخت موسى. فقالت: بالرفاء والبنين!

ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي أين أمي؟ فنزل عليه جبريل (علیه السلام) فقال قل لفاطمة: إن الله تعالى بنى لأمك بيتاً في الجنة [من قصب] لانصب فيه ولاصخب. فقالت فاطمة (علیها السلام): إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام».

«ودفنت خديجة بالحجون، ونزل في قبرها رسول الله (صلی الله علیه و آله)». الحاكم: 3/182.

«ويستحب أن يزور خديجة (علیها السلام) بالحجون، وقبرها معروف هناك، قريب من سفح الجبل». الدروس الشرعية: 1/468.

ص: 446

9- الوهابيون انتقموا من خديجة!

تقع مقبرة الحجون في مكة على يسار الذاهب إلى منى، وفيها قبور أجداد النبي (صلی الله علیه و آله)، والمشهور منها قبر جده عبدالمطلب، وعمه أبي طالب، وزوجته خديجة سلام الله عليهم، وكان المسلمون منذ الجيل الأول يزورونها ويصلون ويدعون الله تعالى عندها، ويستشفعون إلى الله بأصحابها، وبنوا عليها قباباً.

إلى أن جاء الوهابيون النجديون صنيعة الإنكليز فهدموها بحجة أن زيارتها شرك!

قال الحائري في شجرة طوبى: 2/175، يصف هدمهم لقبرها: «وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون بالقوافي، ويستهزؤن بالقبور التي هدموها! هدموا قبة مولد النبي (صلی الله علیه و آله) وقالوا هذا الموضع الذي ولدت فيه تلك المرأة ذلك المولود! وقالوا عندما هدموا قبر خديجة: طالما عبدك الناس فالآن قومي وامنعينا! ونادى بعضهم هاك يا خديجة! وقالوا: أطلعوا للقبب واهدموها واطرحوا الأصنام وارموها، حتى لا يكون لكم معبود غير الله! وهدموا مولد سيدتنا فاطمة (علیها السلام) . ودخلوا حرم النبي (صلی الله علیه و آله) . فأقدمت جماعة من الأعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)! ثم منعوا الناس عن قول يا رسول الله، ويضربونهم! وجعلوا ينادون غيرهم بلفظ: يامشرك وياكافر!».

10- وانتقم القرشيون من أبي طالب (رحمة الله) بعد موته!

بمجرد أن استولى الطلقاء على دولة النبي (صلی الله علیه و آله) ورفعوا شعار نبوته، صار عتاة قريش الذين كذبوه وأبغضوه وعملوا لقتله.مؤمنين دعا لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخير، وشهد في حقهم بأنهم أبرارٌ أخيارٌ من أهل الجنة!

أما عمه أبوطالب، ناصره وفاديه بنفسه وبأولاده وعشيرته، فأنكروا إسلامه، وغيبوا شعره الصريح بإسلامه، وغيبوا شهادات النبي (صلی الله علیه و آله) في حقه! وافتروا عليه أنه كان كافراً لم يؤمن بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله)!

ومع ذلك أفلتت أحاديث في مصادرهم تكذب افتراءهم! كالذي رواه

ص: 447

ابن سعد في الطبقات: 1/123 عن علي (علیه السلام) قال: «أخبرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بموت أبي طالب فبكى ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه. قال ففعلت ما قال وجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته».

وعلق عليه في هامش الخصائص للنسائي/38: «قال البرزنجي كما في أسنى المطالب /35: أخرجه أبو داود وابن الجارود وابن خزيمة. وإنما ترك النبي المشي في جنازته اتقاء شر سفهاء قريش، وعدم صلاته لعدم مشروعية صلاة الجنازة يومئذ».

لكن المبغضين تجاهلوا هذا الحديث وأمثاله، ورووا بدله أن الله نهى نبيه عن الإستغفار لأبي طالب، وأنزل آية في ذمه آية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ..الخ.! مع أنها نزلت بعد أكثر من عشر سنين من وفاة أبي طالب (علیه السلام)!

ثم كذبوا على لسان علي (علیه السلام) بأنه قال: «لما مات أبوطالب أتيت رسول الله فقلت إن أباطالب عمك الكافر قد مات! فقال رسول الله: إذهب فواره. فقلت: والله لا أواريه! فقال: فمن يواريه إن لم تواره فانطلق فواره، ثم لاتحدث شيئاً حتى تأتيني. فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى رسول الله فقال: إنطلق فاغتسل ثم أئتني ففعلت، ثم أتيته فلما أن أتيته دعا لي بدعوات ما أحب أن لي بهن ما على الأرض من شئ». وفي رواية كرروها: «إن عمك الضال قد مات»! ابن إسحاق: 4/223، أم الشافعي: 7/173 الإصابة: 7/200 وتلخيص الحبير: 5/148، عن أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي.. عن ناجية بن كعب عن علي.. وقال: «مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف، ولا يتبين وجه ضعفه، وقد قال الرافعي إنه حديث ثابت مشهور»!

أقول: ذكروا أن البيهقي ضعف ناجية لأن شُعبة وجده يلعب بالشطرنج، فلم يكتب عنه! الثقات لعمر بن شاهين/243.

وتحمس الألباني في أحكام الجنائز/134، لتصحيح حديث ناجية محتجاً بتوثيق ابن حبان له، لكن ابن حبان جرحه فقال في المجروحين: 3/57: «في حديثه تخليط.قال النسائي ليس بثقة، وقال ابن عدي: يسرق الحديث. وقال الجوزجاني مذموم».

ومن عجيب أمرهم أنهم نسبوا القسوة والجلافة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) ليطعنوا

ص: 448

بأبي طالب! ثم نقضوا كلامهم ورووا رثاء علي لأبيه (علیه السلام)!

قال ابن إسحاق: 2/224: «وقال علي بن أبي طالب يرثي أباه حين مات:

أرقت لنوح آخر الليل غردا *** أباطالب مثوى الصعاليك ذا الندى

وذا الحلم لا جلفاً ولم يك قعددا *** لشيخي ينعي والرئيس المسودا

أخا الهلك خلى ثلمة سيشدها *** بنو هاشم أو تستباح وتضهدا

فأمست قريش يفرحون لفقده *** ولست أرى حياً لشيء مخلدا

أرادوا أموراً زينتها حلومهم *** ستوردهم يوماً من الغي موردا

يرجون تكذيب النبي وقتله *** وأن يفتروا بهتاً عليه وجحدا

كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم *** صدور العوالي والصقيع المهندا

ويبدوَ منا منظر ذو كريهة *** إذا ما تسربلنا الحديد المسردا

فإما تبيدونا وإما نبيدكم *** وإما تروا سلم العشيرة أرشدا

وإلا فإن الحي دون محمد *** بنو هاشم خير البرية مجندا

نبي أتاه الوحي في كل حطة *** فسماه ربي في الكتاب محمدا

أغر كضوء الشمس صورة وجهه *** جلا الغيم عنه ضوؤه فتعددا

أمين على ما استودع الله قلبه *** وإن قال قولاً كان فيه مسددا

ثم لم يكتفوا بكذبة ناجية على أبي طالب! فزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) عرض عليه الإسلام في مرض وفاته فأبى أن يقول لاإله إلا الله وقال: أخاف أن يعيروني بها! بل أنا على ملة أبي عبدالمطلب»! قال بخاري: 2/98 و 4/247: «لما حضرت أباطالب الوفاة جاءه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوجد عنده أباجهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة. قال رسول الله لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله! فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أباطالب أترغب عن ملة عبدالمطلب! فلم يزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرضها عليه ويعودان

ص: 449

بتلك المقالة حتى قال أبوطالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبدالمطلب! وأبى أن يقول لا إله إلا الله! فقال رسول الله: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.فأنزل الله تعالى فيه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. ونزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ».

لاحظ أن البخاري زعم أن هذه الآية من سورة براءة نزلت يومئذ، وقد قال هو في صحيحه: 5/115و185 و202: «آخر سورة نزلت كاملة: براءة»!

لكنهم لبغضهم أباطالب (رحمة الله) يتناقضون ولا يستحون! راجع الغدير: 8/4.

ثم لم يكتفوا بذلك! فكذب لهم الزهري بأن علي بن الحسين (علیه السلام): «أخبره أن أباطالب توفي في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يَرِثْهُ جعفر ولا علي وورثه طالب وعقيل، وذلك لأنه لايرث المسلم الكافر ولايرث الكافر المسلم». الطبقات: 1/124.

وغرضهم أن يلغوا وراثة النبي (صلی الله علیه و آله) من آبائه: وأعمامه لأنهم كفارٌ كغيرهم من زعماء قريش بل أسوأ! وغرضهم أن يتساووا مع بني هاشم في النبي (صلی الله علیه و آله) فترث قريش سلطانه دون الأنصار لأنهم غرباء، قال عمر في السقيفة: «من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدْلٍ بباطل أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة». الطبري: 2/457.

11- معنى شفاعة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب (رحمة الله)

ورد في حزن النبي (صلی الله علیه و آله) على عمه أبي طالب وتأبينه له قوله (صلی الله علیه و آله): «أما والله لأشفعن لعمي شفاعة يُعجب بها أهل الثقلين».إيمان أبي طالب للمفيد/25، إعلام الورى/282، البحار: 22/261 و 35/125 والغدير: 7/386.

لكنها ليست شفاعة لنجاته من النار كما زعم القرشيون، لأنه كان مسلماً مؤمناً مجاهداً، ويكفيه عمل صغير من أعماله العظيمة لدخول الجنة، بل هي شفاعة لرفع درجته في الجنة، بدليل قوله (صلی الله علیه و آله): «يعجب بها أهل الثقلين».

وكذا معنى الحديث القدسي «الكافي: 1/446» عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «نزل جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد

ص: 450

حَرَّمْتُ النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحِجْر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبدالله بن عبدالمطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية: وفاطمة بنت أسد».

وهذاتكريم للنبي (صلی الله علیه و آله) بتكريم من له علاقة بنشأته ونصرته: .

12- سافر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف وطلب حماية ثقيف

في المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي/11: «توفيت خديجة رضيالله عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام. وخرج إلى الطائف بعد ذلك بثلاثة أشهر وثمانية أيام، وأقام بالطائف شهراً ويومين».

والأرجح عندنا ما ذكره البلاذري في أنساب الأشراف: 1/227: «وكان خروج النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف لثلاث ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة، وقدم مكة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة».

ولعله يفهم من قول ابن عبدالبر في الدرر/58، ويناسبه الإعتبار لأنهم آذوه في الطائف وطلبوا منه الخروج، ومعناه أنه (صلی الله علیه و آله) بقي فيها بضعة أيام، والطريق من مكة رواحاً ومجيئاً بضعة أيام، وروي أنه بقي يومين في نخلة قبل دخوله إلى مكة، فتكون مجموع سفرته دون الشهر.

ويناسبه أنه (صلی الله علیه و آله) كان حريصاً على لقاء وفود الحجاج في ذي القعدة

وذي الحجة.

وفي المناقب: 1/113: «لما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) الطائف رأى عتبة وشيبة جالسين على سرير فقالا: هو يقوم قبلنا «أي لا نقوم للسلام عليه» فلما قرب النبي منهما خر السرير ووقعا على الأرض، فقالا: عجز سحرك عن أهل مكة، فأتيت الطائف»!

وفي المناقب: 1/62: «فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه فخلص منهم واستظل في ظل حبلة «كرمة» منه وقال: اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي: وناصري وهواني على الناس يا أرحم الراحمين.

فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً

ص: 451

وكان نصرانياً، فلما مد يده وقال: بسم الله، فقال: إن أهل هذا البلد لا يقولونها، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): من أين أنت؟ قال: من بلدة نينوى، فقال (صلی الله علیه و آله): من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى قال: وبما تعرفه؟ قال: أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس، فخر عداس ساجداً لرسول الله وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فقال عتبة لأخيه: قد أفسد عليك غلامك، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال: والله إنه نبي صادق، فقالوا: إن هذا رجل خداع لايفتننك عن نصرانيتك، وقالوا: لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منع الموت عن أقاربه. ولما مات أبوطالب وخديجة فنزل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً».

وقال اليعقوبي: 2/36: «فعمد لثقيف بالطائف فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم: عبد يالْيَلْ بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكى إليهم البلاء، فقال أحدهم: ألا إنه يسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك؟ وقال الآخر: أعجزَ الله أن يُرسل غيرك؟وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! وتهزؤوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له وقعدوا له صفين، فلما مر رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله! فقال رسول الله: ما كنت أرفع قدماً ولا أضعها إلا على حجر! ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس، فوجها به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما سمع كلامه أسلم».

وفي الإصابة: 4/385: «وذكر الواقدي في قصة بدر من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، عن حكيم بن حزام قال: فإذا عداس جالس على الثنية البيضاء والناس يمرون عليها فوثب لما رأى شيبة وعتبة وأخذ بأرجلهما يقول: بأبي وأمي أنتما، والله إنه لرسول الله وما تساقان إلا إلى مصارعكما! قال: ومر به العاص بن شيبة فوجده يبكي فقال مالك؟ فقال: يبكيني سيداي وسيدا هذا الوادي فيخرجان ويقاتلان رسول الله! فقال له العاص: إنه لرسول الله؟فانتفض عداس انتفاضة شديدة واقشعر

ص: 452

جلده وبكى وقال: إي والله إنه لرسول الله إلى الناس كافة. وذكر الواقدي من وجه آخر أنه نهاهما عن الخروج وهما بمكة فخالفاه، فخرج معهما فقتل ببدر، قال ويقال إنه لم يقتل بها، بل رجع فمات».

13- دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الطائف

اشارة

في حلية الأبرار: 1/129 و131: «فعمد لحائط من كرومهم، وجلس مكروباً فقال: اللهم إني أشكو إليك غربتي وكربتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت رب المكروبين. اللهم إن لم يكن لك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك. لاأحصي الثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، لك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ونحوه المناقب: 1/61، إعلام الورى: 1/135، الدرر/62، شرح النهج: 14/96، الدعاء للطبراني/315 وابن هشام: 2/285.

كان علي (علیه السلام) وزيد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في سفره إلى الطائف

ذكرت أكثر مصادرهم على أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان وحده في سفره إلى الطائف، أو معه زيد فقط! قال في الطبقات: 1/211: «فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليال بقين من شوال. فأقام بالطائف عشرة أيام».

لكن ابن أبي الحديد المعتزلي روى عن المدائني وهو إمام عندهم، أن علياً (علیه السلام) كان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في سفرته تلك، قال في شرح النهج: 4/127: «فكان معه علي وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني، ولم يكن معهم أبوبكر. وقال ابن إسحاق كان معه زيد بن حارثة وحده. وكان غياب النبي (صلی الله علیه و آله) في سفرة الطائف أربعين يوماً». راجع الصحيح من السيرة: 3/266.

14- طلب النبي (صلی الله علیه و آله) الجوار من مطعم لكسر قرار قريش

كان مطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف زعيم بني نوفل، من الذين واجهوا النبي (صلی الله علیه و آله)، مع أنه من بني عبدمناف، وقد ورد ذكره في شعر أبي طالب.

ص: 453

وعاش مطعم سبعاً وتسعين سنة وتوفي قبل بدر. «فتح الباري 7/249، وأسد الغابة 1/271»وشارك أخوه طعيمة في بدر وقتل، وشارك فيها ابنه جبير وفاوض النبي باسم قريش على أسرى بدر، وزعم رواة السلطة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «لوكان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»! بخاري: 5/20.

وجبير هو صاحب وحشي الذي وعده أن يعتقه إن قتل محمداً أو علياً أو حمزة وشجعته هند آكلة الأكباد وجعلت له جائزة، فقتل حمزة! شرح الأخبار 1/268، المناقب 1/166، ابن إسحاق 3/302، تاريخ دمشق 62/411 وشرح النهج 15/11.

وبقي جبير على كفره حتى أسلم مع الطلقاء في فتح مكة. أسد الغابة: 1/271.

وكان يقول: «كنت آذى قريش لمحمد (صلی الله علیه و آله)».الخرائج: 1/130.

وسكن المدينة وجاء مع عثمان إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وطلبا أن يجعل لهم سهماً في الخمس لأنهم من بني عبدمناف فقالا: يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً وقرابتنا مثل قرابتهم! فقال لهما: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد. ولم يقسم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئاً». صحيح بخاري: 5/79.

وكان مطعم بن عدي صديقاً لبني أمية، وهذا سبب مدح رواة السلطة له بأنه عمل لنقض صحيفة المحاصرة، وأنه أجار النبي (صلی الله علیه و آله) في رجوعه من الطائف، وقولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) بقي سنتين في جواره إلى أن هاجر!

والحقيقة أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يستطيع دخول مكة بحماية حمزة وعلي وحدهما، فضلاً عن بقية بني هاشم! بل يستطيع دخولها لأنه في شهر ذي القعدة الحرام، الذي يأمن فيه كل الناس حتى الأعداء. لكنه أراد أن يخفف غلواء قريش بعد أن اشتدت محاولاتهم لقتله بعد وفاة حاميه أبي طالب (علیه السلام)، فيدخل مكة علناً وهو معتمر فيطوف ويسعى بحماية أحد أعدائه من زعماء قريش، فبعث إلى مطعم أن يحميه حتى يؤدي عمرته فقَبِلَ، فدخل (صلی الله علیه و آله) واعتمر، ثم رد عليه جواره!

وبذلك كسر قرار قريش وإجماعهم على قتله، وخفض من خطرهم على حياته، لأن قتله صار يعني الخلاف بين زعماء قريش أنفسهم!

ص: 454

وفي نفس الوقت خفف عن بني هاشم بعد أبي طالب (رحمة الله)، فصار من السهل عليهم إعلان حمايته بعد أن حماه مطعم وهو من زعماء المشركين!

ففي تفسير القمي: 2/431: «لما مات أبوطالب (علیه السلام) نادى أبوجهل.. هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره فقال الله: فَلْيَدعُ نَادِيَهْ سَنَدْعُو الزَّبَانِيَة..لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجاره مطعم بن عدي بن نوفل بن عبدمناف، ولم يجسر عليه أحد».

وقال الطبرسي في إعلام الورى: 1/135: «قال علي بن إبراهيم بن هاشم: ولما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الطائف وأشرف على مكة وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سراً فقال له: إئت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر. فأتاه وأدى إليه ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم والحليف لايجير على الصميم، وأخاف أن يخفروا جواري فيكون ذلك مسبة. فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره، وكان رسول الله في شعب حراء مختفياً مع زيد فقال له: إئت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتى أطوف بالبيت وأسعى. فأتاه وأدى إليه قوله فقال له: لا أفعل. فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إذهب إلى مطعم بن عدي فسله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى. فجاء إليه وأخبره فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه فقال: هو قريب، فقال: إئته فقل له: إني قد أجرتك فتعال وطف واسع ما شئت. فأقبل رسول الله وقال مطعم لولده وأختانه «أصهاره» وأخيه طعيمة بن عدي: خذوا سلاحكم فإني قد أجرت محمداً، وكونوا حول الكعبة حتى يطوف ويسعى، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح، وأقبل رسول الله حتى دخل المسجد، ورآه أبوجهل فقال: يا معشر قريش هذا محمد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به! فقال له طعيمة بن عدي: يا عم لا تتكلم، فإن أبا وهب قد أجار محمداً! فوقف أبوجهل على مطعم بن عدي فقال: أبا وهب أمجير أم صابئ؟ قال: بل مجير. قال: إذاً لا يُخفر جوارك! فلما فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم فقال: أبا وهب قد أجرت

ص: 455

وأحسنت فرد عليَّ جواري. قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال: أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم. قال مطعم: يا معشر قريش إن محمداً قد خرج من جواري».

أقول: ردَّ صاحب الصحيح من السيرة: 3/269 رواية جوار مطعم للنبي (صلی الله علیه و آله) بحجة أنه: «لم يكن يقبل أن يكون لمشرك عنده يد يستحق الشكر عليها وهذه يد ولا شك». لكن لا دليل في سيرة نبينا (صلی الله علیه و آله) أو غيره من الأنبياء (علیهم السلام) على إبائهم ذلك، فقد قال يوسف (علیه السلام) لرئيس وزراء مصر: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. يوسف: 55 وهذه يد على يوسف توجب الشكر دون شك.

وقال موسى (علیه السلام) لفرعون: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.«الشعراء: 22». ولو فعلها فرعون لكانت له يداً له على موسى (علیه السلام) وشكره عليها.

واحتج صاحب الصحيح أيضاً بأن طلب الجوار من مطعم ركونٌ للظالمين، والله تعالى يقول: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. سورة هود: 113.

وجوابه: أنه ليس ركوناً، ولو سلمنا، فالضرورة والتقية أوسع من ذلك. ولم أرَ أحداً من فقهائنا أفتى بحرمة طلب الجوار من كافر، أو إعطائه لكافر.

وقد حث أميرالمؤمنين (علیه السلام) على الوفاء بالجوار والذمام مطلقاً، فقال في نهجالبلاغة: 2/150: «فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام..».

ويكفي لإثبات استجارته (صلی الله علیه و آله) بمطعم أن يرويه علي بن إبراهيم والطبرسي وابن شهرآشوب «المناقب: 1/15» وقد أورده علماؤنا على أنه من مسلَّمات السيرة.

ونشير في الختام إلى أن حكيم بن جبير بن مُطعم، كان من خاصة أصحاب الإمام زين العابدين (علیه السلام)، فهو على العكس من جده مطعم.

قال السيد الخوئي (رحمة الله) في معجم الرجال: 7/195: «حكيم بن جبير بن مطعم بن عدي بن عبدمناف القرشي المدني، من أصحاب السجاد (علیه السلام)».

وفي الكشي: 1/44 و338: «ارتد الناس بعد الحسين (علیه السلام) إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا».

وفي الإختصاص/61، عن الإمام الكاظم (علیه السلام):«إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين

ص: 456

حواري رسول الله (علیهما السلام) الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبوذر..الى أن قال: ثم ينادي أين حواري علي بن الحسين؟فيقوم [حكيم بن] جبير بن مطعم، ويحيى بن أم الطويل، وأبو خالد الكابلي، وسعيد بن المسيب».

15- لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة بعد خديجة (علیها السلام)

لايصح قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بعد وفاة خديجة (علیها السلام) قبل الهجرة، لأنه لا يوجد نص صحيح بزواجه في تلك الفترة، ولعل السبب أنها كانت أشد الفترات خطراً على حياته (صلی الله علیه و آله) . فلا تصح رواية أن خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون بأنها عرضت على النبي بعد وفاة خديجة (علیها السلام) أن تخطب له فقبل، وخطبت له سودة بنت زمعة من أبيها وكان كافراً، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بيته وزوجه، وأن أخاها عبد بن زمعة لما عرف بزواج أخته من النبي (صلی الله علیه و آله) حثا التراب على رأسه!

ولا روايتهم بأن خولة اقترحت على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يتزوج بعائشة وقالت له: بنت أبي بكر أحب خلق الله اليك، فأرسلها لخطبتها فوافق أبوبكر وذهب رسول الله إلى بيته فعقد عليها!وقالت عائشة إن عمرها كان يومها ست سنين، وإنه تزوجها في المدينة وقد أكملت تسع سنين.مجمع الزوائد: 9/225 و246 والطبقات: 8/57.

لكنهم رووا أن عائشة كانت متزوجة قبل النبي (صلی الله علیه و آله): «خطب رسول الله عائشة بنت أبي بكر فقال: إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير، فدعني حتى أسُلَّها منهم فاستلها منهم، فطلقها فتزوجها رسول الله». الطبقات: 8/59.

وروى الذهبي في تاريخه: 1/279 أن النبي (صلی الله علیه و آله) بقي سنتين لم يتزوج بعد خديجة.

وفي دلائل الامامة/81، عن الصادق (علیه السلام) قال: «خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) النساء وتزوج سودة أول دخوله المدينة، فنقل فاطمة إليها ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله وفوض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها».

ص: 457

16- أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن

روى الجميع أن الله تعالى صرف إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في عودته من الطائف عند منطقة نخلة، نفراً من الجن، وأمره أن يتلو عليهم القرآن فآمنوا.

ورويَ ذلك أيضاً في عودته من سوق عكاظ عند وادي مِجَنَّة، بكسر الميم وهي قرب مكة. قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. الأحقاف: 29.

وقال تعالى في سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.

وتدل هذه الآية وغيرها على أن الجن أصحاب مستوى ذهني عال، وأن بعضهم قد استوعب بمجرد سماع القرآن من النبي (صلی الله علیه و آله)، وتخرجوا منذرين لأقوامهم!

قال ابن هشام: 2/287: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولَّوْا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه (صلی الله علیه و آله) قال الله عزوجل: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ».

ونخلة: موضع بين الطائف ومكة على مسير ليلة من مكة. معجم البلدان: 5/278.

وفي تفسير القمي: 2/299: «تهجد بالقرآن في جوف الليل، فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلی الله علیه و آله) استمعوا له، فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أنصتوا.فجاؤوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله شرائع الإسلام.ومنهم كانوا يعودون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل وقت، فأمر رسول الله أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن يعلمهم ويفقههم، فمنهم مؤمنون ومنهم كافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس، وهم ولد الجان.

وسئل العالم (علیه السلام) عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة؟ فقال لا، ولكن لله حظائر

ص: 458

بين الجنة والنار، يكون فيها مؤمنو الجن، وفساق الشيعة».

وروى في المحاسن: 2/379: «عن عمر بن يزيد قال: ضللنا سنة من السنين ونحن في طريق مكة، فأقمنا ثلاثة أيام نطلب الطريق فلم نجده، فلما أن كان في اليوم الثالث وقد نفد ماكان معنا من الماء، عمدنا إلى ما كان معنا من ثياب الإحرام ومن الحنوط، فتحنطنا وتكفنا بإزار إحرامنا، فقام رجل من أصحابنا فنادى: يا صالح يا أبا الحسن، فأجابه مجيب من بُعد! فقلنا له: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا من النفر الذي قال الله عزوجل في كتابه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. ولم يبق منهم غيري، فأنا مرشد الضال إلى الطريق! قال: فلم نزل نتبع الصوت حتى خرجنا إلى الطريق».

وفي الإحتجاج: 1/330، من حديث يهودي مع أميرالمؤمنين (علیه السلام): «ولقد سُخِّرَت لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) الشياطين بالإيمان، فأقبل إليه من الجِنة تسعة من أشرافهم.وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. وهم التسعة فأقبل إليه الجن والنبي (صلی الله علیه و آله) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً. ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططاً». راجع أيضاً المناقب: 1/44 و191، المحاسن: 2/380، الأمان/123، الحاكم: 2/456 و518، مجمع الزوائد: 7/106. والبحار: 10/44، 18/76و90،60/55 وفيه: «ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله (صلی الله علیه و آله) وإنما سميا ثقلين لعظم خطرهما

وجلالة شأنهما».

ص: 459

الفصل الرابع والعشرون: النبی (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لحمايته من قريش

1- بدأ (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل من السنة الرابعة

أ.كان العرب يحجون إلى مكة في شهر ذي الحجة، ويعتمرون في رجب، ويقيمون بعد الحج سوقهم المشهور سوق عُكاظ. وقد أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يلتقي بشخصياتهم ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه، لأن قريشاً منعته من تبليغها.

ففي تفسير العياشي: 2/253 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «اكتتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة سنين ليس يظهر وعلي معه وخديجة (علیهما السلام)، ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب».

وقال اليعقوبي: 2/36: «كان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل، حتى أبلغ رسالات ربي».

وفي الطبقات: 1/216: «مكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي الموسم كل عام، يتتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم

ص: 460

ملوكاً في الجنة.. جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ ومجنة وبذي المجاز، يدعونا إلى الله عزوجل، وأن نمنع له ظهره، حتى يبلغ رسالات ربه». والطبري: 2/84، وسبل الهدى:2/451 والحلبية: 2/153.

وعدَّ منهم المقريزي في الإمتاع: 1/49 خمس عشرة قبيلة، قال: «عرض نفسه على القبائل أيام الموسم ودعاهم إلى الإسلام وهم: بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم».

يضاف اليهم قبيلة ثقيف حيث قصدهم إلى الطائف، والأوس والخزرج، الذين قبلوا عرضه وبايعوه، فهاجر اليهم. وآخرون.

وقال ابن هشام: 2/288 إن النبي (صلی الله علیه و آله) أتى بني كندة فأبوا عليه، وأتى بني عبدالله من بني كلب فلم يقبلوا منه ما عرضه عليهم. وأتى بني حنيفة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منهم.

وذكر ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي (صلی الله علیه و آله) قصد سويد بن صامت، أخا بني عمرو بن عوف، وكان سويد حكيماً شاعراً، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان، يعني حكمة لقمان، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إعرضها عليَّ فعرضها عليه فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث..

«وهو لايسمع بقادم يقدم مكة من العرب له إسم وشرف، إلا تصدى له، فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده».

وفي مسند أحمد: 3/322: أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان معروفاً في الأمصار، فكان الرجل

ص: 461

يخرج من اليمن أو من مصر فيأتيه قومه فيقولون: إحذر غلام قريش لايفتنك!

ب. كان يذهب إلى دعوة القبائل ومعه زيد بن حارثة، أو علي (علیه السلام)، وروت المصادر أن أبابكر بعد أن أسلم ذهب معه ذات مرة، كما في ثقات ابن حبان: 1/80 عن علي قال: «لما أمر الله رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبوبكر، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبوبكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها؟ فقالوا: لا، بل من هامتها العظمى. قال أبوبكر: وأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر. قال أبوبكر: فمنكم عوف الذي يقال له لا حُرَّ بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبوبكر: فلستم إذا ذهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بَقَل وجهه، فقال: على سائلنا أن نسأله! يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ فقال أبوبكر: أنا من قريش. فقال الفتى: بخ بخ أهل الشرف والرئاسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة، فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر، فكان يدعى في قريش مجمعاً؟ قال: لا. قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجافُ؟ قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد عبدالمطلب مطعم طير السماء، الذي كأن وجهه القمر يضئ في الليلة الظلماء الداجية؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية؟ قال: لا. واجتذب أبوبكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله فقال الغلام:

صادف درأ السيل درأً يدفعه *** يُهيضه حيناً وحيناً يصدعه!

أما والله لو ثبت! قال فتبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال عليٌّ: فقلت يا أبابكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة «داهية»! فقال لي: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها

ص: 462

طامة، والبلاء موكل بالمنطق!

قال علي: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبوبكر [وكان مقدماً في كل خير] فسلَّم وقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبوبكر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وراء هؤلاء القوم عز، هؤلاء غُرَرُ قومهم وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكان غديرتان تسقطان على تربيته، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر فقال أبوبكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن يغلب ألف من قلة. فقال أبوبكر: وكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد. قال أبوبكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكونن لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى. لعلك أخو قريش؟ قال أبوبكر: وقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. قال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، قال: فإلى مَ تدعو يا أخا قريش؟ قال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، فكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد.

فقال مفروق بن عمرو: إلى مَا تدعونا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله (صلی الله علیه و آله): قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. الأنعام:/ 151.

قال مفروق: وإلى مَا تدعو يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله (صلی الله علیه و آله): إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالآحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. «النحل/ 90». فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق

ص: 463

ومحاسن الأعمال، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا، زلةٌ في الرأي وقلةُ فكر في العواقب، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر!وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، وإنما أنزلنا بين ضرتين!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما هاتان الضرتان؟ قال: أنهار كسرى ومياه العرب، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثاً ولا نؤي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم نعم. قال: فتلا رسول الله (صلی الله علیه و آله): يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.الأحزاب/ 45.

ثم نهض قابضاً على يد أبي بكر وهو يقول: يا أبابكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض»!

ورواه السمعاني في الأنساب: 1/38، ابن كثير في النهاية: 3/173، السيرة:2/160 واعتبره غريباً فقال: «وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي».

ورواه في تاريخ دمشق: 17/293، مطولاً وليس فيه مديح أبي بكر على لسان علي بقوله [وكان مقدماً في كل خير] ولذلك وضعناها بين معقوفين، لأنها من كلام الراوي. لكن الإشكال في قوله: «فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله. لأن بيعة الأنصار كانت قبل هجرة النبي بسنتين وسنة».

ص: 464

أقول: هذه الرواية على ما فيها تعطي صورة عن دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لقبائل العرب في المواسم، كما تدل على أن وقتها في آخر الفترة المكية عندما بايع الأنصار.

ج. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يقول للذين يزورهم: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به».

«قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم. وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة». «سبل الهدى: 2/451».«هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي». تاريخ الذهبي 1/281.

«لا أكره أحداً على شئ. من رضي الذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي». السيرة الحلبية: 2/158.

«ألا رجل يعرض على قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عزوجل. فأتاه رجل من همذان فقال: ممن أنت؟ فقال الرجل: من همذان، فقال: هل عند قومك من منعة؟ قال: نعم ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله فقال: آتيهم أخبرهم ثم آتيك من قابل. قال: نعم. فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب». السيرة الحلبية: 2/153، مجمع الزوائد: 6/35 وفتح الباري: 7/171.

د. وكانت القبائل ترفض دعوته (صلی الله علیه و آله) لأن زعماء قريش قاموا بحملة من السنة الأولى على وفود الحجاج: «يقولون لمن أتى مكة: لاتغتروا بالخارج منا، والمدعي النبوة». مجمع البيان: 6/131، الكشاف: 2/406 والواحدي: 1/598.

وقد فسروا المقتسمين في سورة الحجر/89، بالستة عشر الذين أرسلهم الوليد بن المغيرة إلى مداخل مكة، ليحذروا الوفود من النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنه بعيد.

والمؤكد أن موقع قريش في العرب، ونشاطها المعادي للنبي (صلی الله علیه و آله) في موسم الحج والعمرة كانا السبب في رفض القبائل حمايته، فكانت تجيبه: «أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك».«ترون أن رجلاً يصلحنا، وقد أفسد قومه». «السيرة الحلبية: 2/155و158 وسبل الهدى 2/451».«يا محمد إعمد لطيتك. أي إمض لوجهك

ص: 465

وقصدك. ويقال: إلحق بطيتك وبنيتك، أي بحاجتك». لسان العرب: 15/20.

ه. وقد قبلت بعض القبائل دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) لكنها اشترطت أن يكون لها الحكم بعده فأجابهم بأن الأمر ليس له، بل لله تعالى وقد عين له أهلاً، وكان يشرط عليهم أن لاينازعوا الأمر أهله! «أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه.

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبدالمطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف، هل لذناباها من مُطَّلب؟! والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم»! ابن هشام: 2/289 والطبري:2/84.

وكذا قبيلة كندة اليمانية: «حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الملك لله يجعله حيث يشاء، فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به». سيرة ابن كثير: 2/159 ونحوه: 4/114.

وفي التراتيب الإدارية للفاسي: 1/2: «كان يطوف على القبائل في أول أمره لينصروه فيقولون له ويكون لنا الأمر من بعدك؟ فيقول: إني قد منعت من ذلك».

و. أخذ (صلی الله علیه و آله) بيعة الأنصار على حمايته، وحماية أهل بيته:، وأن لاينازعوهم الأمر. ففي المناقب: 1/305، وأوسط الطبراني: 2/207، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «أشهد لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي، قال: لما جاءت الأنصار تبايع

ص: 466

رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة قال: قم يا علي. فقال علي: على ما أبايعهم يا رسول الله؟ قال: على أن يطاع الله فلا يعصى، وعلى أن يمنعوا رسول الله وأهل بيته وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم. ثم كان الذي كتب الكتاب بينهم».

وفي الكافي: 8/261، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «وأخذ عليهم عليٌّ أن يمنعوا محمداً وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم..نجا من نجا، وهلك من هلك».

وفي مناقب ابن سليمان: 2/165: «فالتزمتها رقاب القوم ووفى بها من وفى».

وفي شرح الأخبار: 2/159: «عن الحسن البصري أنه قال: قاتل الله معاوية سلب هذه الأمة أمرها، ونازع الأمر أهله، واستعمل على المؤمنين علجاً، يعني زياداً».

هذا، وقد ورد عن الأئمة (علیهم السلام) ذمُّ الأنصار، لأنهم لم يفوا ببيعتهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حماية أهل بيته، وأن لا ينازعوهم الأمر بعده!

وفي تفسير الطبري: 28/59، عن قتادة: «بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار، ذكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلها أو يسلموا. ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله، إشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني وأهل بيتي وذريتي مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم. قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا يانبي الله؟قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة».

وفي البخاري: 8/88 وموطأ مالك: 2/445 عن عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر المنشط والمكره، وأن لاننازع الأمر أهله». وفي فتح الباري: 13/6 وعمدة القاري: 24/179: «والمراد بالأمر الملك والإمارة».

وعلى ذلك كانت بيعة الحديبية! قال النووي في شرح مسلم: 13/2: «وفي حديث ابن عمر وعبادة: بايعنا على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر أهله».

ز. وبعد أن نازعت قريش الأمر أهله، وأخذت دولة النبي (صلی الله علیه و آله) واضطهدت عترته، كذبت على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه كان يقصد بشرط عدم منازعة الأمر أهله، منازعة قريش وليس عترته! قال السيوطي في الدر المنثور: 6/18: «عن علي وابن

ص: 467

عباس قالا: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور، فإذا قالوا: لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم بشيء، لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. «الزخرف/ 44»، فكان بعدها إذا سئل قال: لقريش، فلا يجيبوه! وقبلته الأنصار على ذلك».

أقول: لاحظ أنهم زعموا أن الوحي نزل عليه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، ومعناه أن القرآن لك ولقريش، فالخلافة لقريش! وقد جعلوا ذلك على لسان علي وابن عباس ليقولوا إن بني هاشم أنفسهم رووا أن الملك بعد النبي (صلی الله علیه و آله) حق شرعي لقريش، وليس لبني هاشم، ولا للأنصار لأنهم بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) على ذلك!

وهم بذلك يكذبون أنفسهم بأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يوصِ ولا سأله أحدٌ عن الخلافة! فالصحيح أن خلافته (صلی الله علیه و آله) كانت مطروحة من أول بعثته وأن القبائل كانت تطمع بها وتشرط عليه أن تكون لها بعده فلا يقبل، فترفض حمايته!

ثم كذبوا عليه بأنه كان يجيب القبائل بأن الملك بعده لقريش! فلو صح لسألته القبائل: كيف تريد أن نحميك من قريش أن تقتلك، وتجعل لها الخلافة دوننا!

ولو كان الذكر في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، يعني الخلافة، لوجب أن تكون الخلافة لكل الناس، لأنه تعالى قال: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ.

بل هذا الحديث من مكذوباتهم لإعطاء الشرعية لنظام «الخلافة» الذي أسسوه في السقيفة! وقد اعترف الذهبي بأنه موضوع! قال في ميزان الإعتدال: 2/255، في ترجمة راويه: «سيف بن عمر الضبي الأسيدي: مصنف الفتوح والردة وغير ذلك قال أبو حاتم: متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة..مكحول البيروتي سمعت جعفر بن أبان سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي تميمي. كان سيف يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة»!

2- استمرت مفاوضة النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأنصار بضع سنين

أ. روى الطبري في تفسيره: 4/46، والثعلبي: 3/164، وغيرهما، في تفسير قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا:

ص: 468

«فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام. يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة. وهم أخَوان لأب وأم! فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم.

ثم إن الله عزوجل أطفأ ذلك بالإسلام وألف بينهم برسوله محمد (صلی الله علیه و آله) فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم، عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) والإيمان به وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع».

ب.وكانت آخر الحروب بين الأوس والخزرج حرب بُعاث، إسم حصن للأوس قبل الهجرة بخمس سنين «الحاكم: 3/421» وقيل بثلاث «فتح الباري: 2/367».

وكانوا حينذاك يتفاوضون مع النبي (صلی الله علیه و آله)، ورووا أن أياس بن معاذ الأشهلي الأوسي كان أسلم وبايع النبي (صلی الله علیه و آله) ورجع إلى قومه، فوقعت الحرب وقُتل فيها، فعدوه من الصحابة. «معجم السيد الخوئي: 4/159» ومعناه أن المفاوضة استمرت نحو أربع سنين، حتى بيعة العقبة التي هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) على أثرها.

ج. وأول من سمع من النبي (صلی الله علیه و آله) من أهل المدينة فتية فيهم أياس بن معاذ الأشهلي الأوسي كما في رجال الطوسي/22، وعده صحابياً، وكبير الطبراني: 1/276: «لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبدالأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتاهم فجلس إليهم فقال: هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل الله عليَّ الكتاب، ثم شرع لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قومي، هذا والله خير مما جئتم له! قال فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها في وجه إياس وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال فصمت إياس وقام عنهم

ص: 469

رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات. فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع». والطبقات: 3/437، الطبري: 2/85 ووثقه مجمع الزوائد: 6/36.

وقيل أول من رأى النبي (صلی الله علیه و آله): أبو الحيسر، أو سويد بن الصامت. تفسير الطبري: 4/46.

د. ثم جاء بعدهما أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، فالتقيا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأسلما. قال الطبرسي في إعلام الورى: 1/136: «قال علي بن إبراهيم: قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهراً طويلاً، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث وكانت للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم. فقال له عتبة: بعدت دارنا من داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشئ. قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله سفَّه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شباننا وفرق جماعتنا! فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبدالله بن عبدالمطلب، من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً!

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النضير وقريظة وقينقاع- أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلمه، فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بد لي أن أطوف بالبيت! قال: ضع في أذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه بالقطن، فطاف

ص: 470

بالبيت ورسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه! فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحاً، فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم. فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأدعوكم إلى: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعز منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك، والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، ويبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك. والله ما جئنا إلا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتينا له.

ثم أقبل ذكوان، فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلمَّ فأسلم فأسلم ذكوان، ثم قالا: يا رسول الله إبعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهما ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الشعب حتى تغير

ص: 471

وأصابه الجهد فأمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبدالله بن أبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث، ولم يعن على الأوس وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبدالله ما جاء به أسعد وذكوان فتر أمره، فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، هو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا فهلم نأتي محلتهم، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد ابن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا فأته وانهه عن ذلك!فجاء أسيد بن حضير فنظر إليه أسعد فقال لمصعب: إن هذا رجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا فاصدق الله فيه.

فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا ولا تفسد شباننا واحذر الأوس على نفسك. فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً فإن أحببته دخلت فيه وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه؟ فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: أعرض فعرض عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالها ثم صلى ركعتين ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن

ص: 472

خالك، وأحتال عليه في أن يجيئك. فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، وأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. فلما سمعها قال مصعب: والله لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم فبعث إلى منزله، وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين. ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحداً.

ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لا يبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلا خرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟ قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمراً فمرنا بما شئت. فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليَّ حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به! فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه، وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية، وشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود».

ه. أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) مصعب بن عمير (رحمة الله) إلى المدينة قبل ثلاث سنوات من هجرته مع أسعد بن زرارة، وكان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الشعب خوفاً من أهله بني عبدالدار، وكان إرساله قبل بيعة العقبة الأولى بسنة أو نحوها، فلا يصح قول ابن حجر: «كان قبل الهجرة بسنة واحدة». فتح الباري: 3/60.

وكان يأتي إلى مكة ثم يرجع إلى المدينة. قال ابن هشام: 2/299: «ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة».

ص: 473

و.كان لمصعب دور أساسي في بناء قاعدة الإسلام في المدينة، كما كان أحد القادة في معركة أحد، فهو من بني عبدالدار الشجعان الذين لهم لواء الحرب في قريش، وقد أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) لمصعب لواء الأنصار في أحُد فأجاد القتال، وعندما انهزم المسلمون في الجولة الثانية ثبت مع النبي (صلی الله علیه و آله) وقاتل حتى استشهد (رحمة الله)، قتله أبيُّ بن خلف بن قميئة، وقيل ظنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

«أقبل يومئذ أبيُّ بن خلف وهو على فرس له وهو يقول: هذا ابن أبي كبشة بُؤْ بذنبك لا نجوتُ إن نجوتَ. ورسول الله (صلی الله علیه و آله) بين الحارث بن الصمة وسهل بن حنيف يعتمد عليهما، فحمل عليه فوقاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعباً فقتله، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنزة «حربة» كانت في يد سهل بن حنيف، ثم طعن أبياً في جربان الدرع، فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور، فقال أبوسفيان: ويلك ما أجزعك إنما هو خدش ليس بشئ! فقال: ويلك يا ابن حرب أتدري من طعنني! إنما طعنني محمد وهو قال لي بمكة إني سأقتلك فعلمت أنه قاتلي، والله لو أن ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم! فلم يزل يخور الملعون حتى صار إلى النار». إعلام الورى: 1/178 والحاكم: 2/327.

وقالت نسيبة بنت كعب رحمها الله: «خرجت أول النهار إلى أحُد وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجعلت أباشرالقتال وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إليَّ الجراح..أقبل بن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله يصيح: دلوني على محمد فلا نجوتُ إن نجا! فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان». الطبقات: 8/412.

وفي تفسير القمي: 1/114: «ونظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رجل من كبار المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت

ص: 474

تقاتل المشركين، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان»!

والذي أمره النبي (صلی الله علیه و آله) بإلقاء ترسه هو عمر، وروى السرخسي في شرح السير الكبير: 1/200، أن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما مدح نسيبة سمى جماعة ممن فروا.

وروي أن عبد بن عمير أخا مصعب كان مع المشركين في أحُد فقتله مصعب، وأن أخاه الآخر أبا عزة الشاعر أسر يوم أحد وقتله النبي (صلی الله علیه و آله)، لأنه كان أسر يوم بدر وأطلقه النبي (صلی الله علیه و آله) بلا فداء، بشرط أن لايعود فعاد وأسر في أحد «الخرائج: 1/149»وروى البيهقي في السنن: 9/65 وغيره، أن أبا عزة جمحي، وليس ابن عمير.

وفي سيرة ابن هشام: 2/472: «قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: شد يديك به فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك! قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي فأردها على أحدهم فيردها عليَّ ما يمسها. قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر وهو الذي أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟! فقال مصعب: إنه أخي دونك! فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي؟ فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها».

وقد بالغ الرواة في تصغير سنه يوم أسلم، مع أن عمره كان فوق الثلاثين، لأنه كان يوم استشهد بضعاً وأربعين سنة. عمدة القاري: 8/60.

كما بالغوا في دوره في حرب أحُد، وفي عده من المعذبين في مكة، ويبدو أن أمه وأقاربه من بني عبدالدار اكتشفوا إسلامه فمنعوه من الذهاب إلى النبي (صلی الله علیه و آله)، ثم وافقوا على هجرته إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة وكان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الشعب. كما بالغوا في ترفه قبل الإسلام، وهو صحيح إلى حد.

قال ابن سعد في الطبقات: 3/122 و118: «كان مصعب بن عمير رقيق البشرة،

ص: 475

حسن اللُّمَّة، ليس بالقصير ولا بالطويل، قتل يوم أحد على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئاً، فوقف عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو في بردة مقتول فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدق أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة!

ثم خرج مصعب بن عمير من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في العقبة الثانية من حاج الأوس والخزرج، ورافق أسعد بن زرارة في سفره ذلك، فقدم مكة فجاء منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أولاً، ولم يقرب منزله فجعل يخبر رسول الله عن الأنصار وسرعتهم إلى الإسلام، واستبطائهم رسول الله فسُرَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكل ما أخبره، وبلغ أمه أنه قد قدم فأرسلت إليه: يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي! فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما سلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره بما أخبره، ذهب إلى أمه فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد؟! قال: أنا على دين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو الإسلام الذي رضيالله لنفسه ولرسوله. قالت: ما شكرت ما رثيتك! مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب! فقال: أفر بديني أن تفتنوني! فأرادت حبسه فقال: لئن أنت حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي! قالت: فاذهب لشأنك وجعلت تبكي، فقال مصعب: يا أمهْ إني لك ناصح عليك شفيق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قالت: والثواقب لا أدخل في دينك فيزري برأيي ويضعف عقلي، ولكني أدعك وما أنت عليه، وأقيم على ديني! قال: وأقام مصعب بن عمير مع النبي (صلی الله علیه و آله) بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وقدم قبل رسول الله إلى المدينة مهاجراً لهلال شهر ربيع الأول، قبل مقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) باثنتي عشرة ليلة».

وعندما انهزم المسلمون وتركوا نبيهم لسيوف المشركين ثبت معه مصعب واستشهد مع النفر الذين ثبتوا فاستشهدوا أو جرحوا، فبقي هو وعلي (صلی الله علیه و آله) وحدهما! فقاتل قتال الأبطال حتى أمره الله أن يستطل بصخرة، وعليٌّ يرد عنه هجمات قريش فيقصد قائد الكتيبة فيقتله فتنهزم الكتيبة، حتى يئس الكفار وانسحبوا! وأنزل الله في وصف ذلك أربعين آية! 139- 179 آل عمران.

ص: 476

وفي ذلك الوقت العصيب جاءت فاطمة الزهراء (علیها السلام) من المدينة إلى المعركة كالصقر المنقض، وواست رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسها، وضمدت جراحه!

ثم جاء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ميدان المعركة وصلى على الشهداء ودفنهم ومنهم عمه حمزة، ومصعب بن عمير رضيالله عنهما. وروى الجميع أنه كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة، وروى في الطبقات: 3/122، أنه (صلی الله علیه و آله) وقف على مصعب: «وهو في بردة مقتول فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدق أرق حلة ولا أحسن لُمَّةً منك ثم أنت شعث الرأس في بردة! ثم أمر به أن يقبر فنزل في قبره أخوه أبو الروم بن عمير، وعامر بن ربيعة، وسويبط بن سعد بن حرملة».

ولايصح نزولهم في قبره لأنهم فروا من المعركة ولم يحضروا دفن شهداء أحُد. ورووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) وقف على قبرهم وقال: «أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفس محمد بيده لايسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة».

مجمع الزوائد: 6/123.

ولم يُعقب مصعب بن عمير (رحمة الله) إلا ابنته زينب، وأمها حمنة أخت زينب بنت جحش. الطبقات: 8/241، أسد الغابة: 5/470 والإصابة: 3/163.

ص: 477

الفصل الخامس والعشرون: النبی (صلی الله علیه و آله) يأخذ البيعة من الأنصار استعداداً للهجرة

النبي (صلی الله علیه و آله) يُكَوِّن قاعدة لدعوته في المدينة

1. بعد تكوين قاعدة الإسلام في المدينة وانتشاره بين أهلها، تواصل طلبهم من النبي أن يهاجر اليهم: قال في إعلام الورى: 1/136: «وبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة، فكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً، فيصيرون إلى المدينة، فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم. قال: فلما قدمت الأوس والخزرج مكة جاءهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لهم: تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنة؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فخذ لنفسك وربك ما شئت. فقال: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق. فلما حجوا رجعوا إلى منى، وكان فيه ممن قد أسلم بشر كثير، وكان أكثرهم مشركين على دينهم، وعبدالله بن أبيّ فيهم، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في اليوم الثاني من أيام التشريق: فاحضروا دار عبدالمطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائماً، وليتسلل واحد فواحد. وكان رسول الله نازلاً في دار عبدالمطلب، وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار، فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنة؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبدالله بن حرام: نعم يا رسول الله،

ص: 478

فاشترط لنفسك ولربك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم؟ قالوا: فما لنا على ذلك؟ قال: الجنة، وتملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً. فقالوا: قد رضينا. فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال: يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الأبيض والأحمر، وعلى حرب ملوك الدنيا، فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه، فإن رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عز ومنعة. فقال له عبدالله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيهان: مالك وللكلام! يا رسول الله، بل دَمُنَا بدمك وأنفسنا بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً. فقالوا: إختر من شئت. فأشار جبرئيل (علیه السلام) إليهم فقال: هذا نقيب، وهذا نقيب، حتى اختار تسعة من الخزرج وهم: أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبدالله بن حرام أبو جابر بن عبدالله، ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبدالله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت.

وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم ابن التيهان وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف، وأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة».

وفي المناقب: 1/157: «ثم عاد مصعب إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة، ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، في أيام التشريق بالليل فقال (صلی الله علیه و آله): أبايعكم على الإسلام، فقال له بعضهم: نريد أن تعرفنا يا رسول الله ما لله علينا وما لك علينا وما لنا على الله؟ قال: أما ما لله عليكم فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأما مالي عليكم فتنصروني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن تصبروا على عض السيف وأن يقتل خياركم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك ما لنا على الله؟قال: أما في الدنيا فالظهور على

ص: 479

من عاداكم وفي الآخرة الرضوان والجنة.

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعك بما تمنع به أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر.

فقال أبو الهيثم إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، ثم قال: أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً، فاختاروا ثم قال: أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين كفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك. فصرخ الشيطان في العقبة: يا أهل الجباجب هل لكم في محمد والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم»!

وفي الطبقات: 1/222: «فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً، فلا يجدن منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل فلما تخيرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي؟ قالوا: نعم».

أقول: «معنى ذلك أن نظام الإثني عشر من الدين الإلهي، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) اعتمد النقباء الإثني عشر لضمان وفاء الأنصار ببيعتهم. وهو نظام اجتماعي للإيمان والكفر، فالنقباء الكافلون لقومهم بالبيعة اثنا عشر، والأئمة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) اثنا عشر، والأئمة المضلون الذين يدعون إلى النار، إثنا عشر إماماً أيضاً!

2 ذكر ابن عبدالبر في الدرر/66، أن العقبة الأولى كانت في الموسم قبل حرب بعاث، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) التقى فيها بستة من الخزرج فأسلموا، ورجعوا إلى المدينة فدعواإلى الإسلام حتى انتشر فيهم، وأن العقبة الثانية كانت في العام المقبل مع اثني عشر رجلاً بايعهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند العقبة على بيعة النساء، ولم يكن أُمِرَ بالقتال. ثم كانت العقبة الثالثة عندما رجع مصعب بن عمير إلى مكة وجاء معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار، يريدون لقاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جملة قوم كفار منهم لم يسلموا

ص: 480

بعد فأسلموا وبايعوا، وكانوا سبعين رجلاً وامرأتين، واختار رسول الله منهم اثنا عشر نقيباً.وكانت بيعتهم على حرب الأسود والأحمر، وأخذ لنفسه واشترط عليهم لربه وجعل لهم نقباء على الوفاء بذلك الجنة».

3. اختار النبي (صلی الله علیه و آله) دار جده عبدالمطلب (رحمة الله) بمنى، عند جمرة العقبة، مكاناً للبيعة وتقدم من تفسير القمي: 1/272وإعلام الورى: 1/142، قوله (صلی الله علیه و آله): «فاحْضَروا دارَ عبدالمطلب على العقبة ولا تنبهوا نائماً وليتسلل واحد فواحد. وكان رسول الله نازلاً في دار عبدالمطلب وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار».

لكن رواة السلطة لم يذكروا بيت عبدالمطلب وقالوا: «فواعدوا رسول الله العقبة من أواسط أيام التشريق». ابن هشام: 2/299 والدرر/68.

وقد تعجبتُ في هذه السنة 1429 من أن الوهابيين أقاموا مسجداً صغيراً مكان بيت عبدالمطلب جعلوه رمزاً لبيعة الأنصار للنبي (صلی الله علیه و آله)، ويقع قرب جمرة العقبة على يمين الخارج منها إلى مكة، مع أنهم يزيلون آثار الإسلام والنبي وآله (صلی الله علیه و آله)، لكن لا ندري كيف حولوه إلى مسجد ومن أوقفه مسجداً؟! ولعلهم استندوا إلى نص في طبقات ابن سعد: 1/121 يقول إن الموضع كان مسجداً، قال: «وعَدَهُم «النبي (صلی الله علیه و آله)» منى وسط أيام التشريق، ليلة النفر الأول إذا هدأت الرجل، أن يوافوه في الشعب الأيمن، إذا انحدروا من منى بأسفل العقبة، حيث المسجد اليوم». أي في زمن ابن سعد في القرن الثالث.

4. كانت قريش في تلك السنة مستنفرة لمراقبة النبي (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، لأنها رأت أن بعض أهل المدينة دخلوا في الإسلام، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) يأمر أصحابه المضطهدين في مكة بالهجرة إلى المدينة. ورغم رقابتهم استطاع النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرتب لقاءه بالأنصار سراً، وجعله في بيت عبدالمطلب في منى، وواعدهم في وقت نوم الحجاج: «فخرجوا في ثلث الليل الأول متسللين من رحالهم إلى العقبة»

ص: 481

ولا بد أنه رتب حراسةً عند مدخل الشعب ومدخل الدار.

قال في إعلام الورى: 1/143: «فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) صاح بهم إبليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم! فأسمع أهل منى فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح! وسمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) النداء فقال للأنصار: تفرقوا، فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم. فقالوا: يا رسول الله فتخرج معنا؟قال: أنتظرأمرالله.

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)، فلما نظروا إلى حمزة قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟ قال: ما اجتمعنا وما هاهنا أحد، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلا ضربته بسيفي!

فرجعوا وغدوا إلى عبدالله بن أبيّ وقالوا له: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمداً على حربنا! فحلف لهم عبدالله أنهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك، وأنهم لم يطلعوه على أمرهم، فصدقوه. وتفرقت الأنصار ورجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى مكة».

أقول: مضافاً إلى نداء إبليس، فقد تكون قريش عرفت خبر بيعة الأنصار من جواسيسها، أو من تحركات الأنصار. أما امتناعها عن مواجهة النبي (صلی الله علیه و آله) فسببه أنها تعرف من هو حمزة وعليٌّ وبنو هاشم، فلم تجرؤ على فتح معركة معهم، خاصة أنها في موسم الحج والأشهر الحرم!

لكن زعماء قريش واصلوا اجتماعاتهم بقية الشهر، حتى قرروا بالإجماع قتل النبي (صلی الله علیه و آله) بعد انتهاء الأشهر الحرم، وعينوا الأشخاص من القبائل للتنفيذ.

ص: 482

الفصل السادس والعشرون: خطة قريش المبرمة لقتل النبی (صلی الله علیه و آله)

1- قريش تستنفر لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) بعد بيعة الأنصار

أ. بعد الحج شاع خبر بيعة العقبة، فثارت قريش على الأنصار! ففي المناقب: 1/158: «نفر الناس من منى وفشى الخبر، فخرجوا في الطلب فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه وربطوه بنسع رحله وأدخلوه مكة يضربونه، فبلغ خبره إلى جبير بن مطعم، والحرث بن حرب بن أمية، فأتياه وخلصاه». المناقب: 1/158.

وفي سيرة ابن هشام: 2/306: «فلما بايعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب «المنازل» هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم. قال فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هذا أَزَبُّ العقبة، أتسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إرفَضُّوا إلى رحالكم..قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شئ وما علمناه. قال: وقد صدقوا لم يعلموه.أتوا عبدالله ابن أبي ابن سلول فقالوا له مثل ما قال كعب من القول». ونحوه الطبري: 2/95.

ص: 483

وفي أمالي الطوسي/176، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «تمثل إبليس لعنه الله في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال لقريش: وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيئٌ مِنْكُمْ.. وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: إن محمداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأنصار: لاتخافوا فإن صوته لن يعدوهم.

وتصور يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، وأشار عليهم في النبي (صلی الله علیه و آله) بما أشار فأنزل الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. وتصور يوم قبض النبي (صلی الله علیه و آله) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية، وسِّعوها تتسع، فلا تردوها في بني هاشم، فتنتظر بها الحبالى»!

ب. وتواصلت مشاورات قريش بقية محرم وصفر، حتى كانت جلستهم الشهيرة في أواخر صفر، وقرروا فيها قتل النبي (صلی الله علیه و آله)، وعينوا المنفذين ووقت التنفيذ.

ففي تفسير القمي: 1/273: «فرجعوا إلى مكة وقالوا: لا نأمن من أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد، فاجتمعوا في الندوة وكان لايدخل دار الندوة إلا من قد أتى عليه أربعون سنة، فدخلوا أربعون رجلاً من مشايخ قريش، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البوَّاب: من أنت؟ فقال أنا شيخ من أهل نجد لايعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل، فجئت لأشير عليكم، فقال الرجل: أدخل فدخل إبليس!

فلما أخذوا مجلسهم قال أبوجهل: يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعزّ منا، نحن أهل الله تغدو الينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا، ونحن في حرم الله لايطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبدالله فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه، ادعى أنه رسول الله وأن أخبار السماء تأتيه، فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا، وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا! وقد رأيتُ فيه

ص: 484

رأياً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلاً منا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشرديات، فقال الخبيث: هذا رأي خبيث! قالوا وكيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لامحالة، فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمد تغضب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض، فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا.

فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر قالوا: وما هو؟ قال نثبته في بيت ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس، فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر! قالوا: وكيف ذلك؟ قال لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه! قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ نحن لعبادة آلهتنا.

قال إبليس: هذا أخبث من الرأيين المتقدمين! قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً وأنطق الناس لساناً وأفصحهم لهجة، فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً! فبقوا حائرين ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأي واحد. قالوا وما هو؟ قال يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكيناً أو حديدة أو سيفاً، فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة، حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات! فقالوا: نعم وعشر ديات.

ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي! فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبولهب عم النبي، ونزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

ص: 485

واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يُصَفِّرون ويُصفِّقون ويطوفون بالبيت، فأنزل الله: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فالمكاء التصفير، والتصدية صفق اليدين، وهذه الآية معطوفة على قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقد كتبت بعد آيات كثيرة.

فلما أمسى رسول الله جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبولهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل، فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة. فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

قال في الصحيح من السيرة: 4/8: «إن أولئك القوم الذين انتدبتهم قريش اجتمعوا على باب النبي (صلی الله علیه و آله) وهو باب عبدالمطلب على ما في بعض الروايات، يرصدونه يريدون بياته، وفيهم: الحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبولهب، وأبوجهل، وأبو الغيطلة، وطعمة بن عدي، وأبي بن خلف، وخالد بن الوليد، وعتبة، وشيبة، وحكيم بن حزام، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج».

أقول: أين كان الذين ادعوا لهم البطولة، وأن الإسلام عز بهم كعمر وسعد وأبي بكر وطلحة؟! تراهم يغيبون في الشدائد ويظهرون في الرخاء؟!

ج. قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه: المواجهة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) /181: «في دار الندوة، اتفقت زعامة البطون على قتل النبي ووضعت خطة القتل، وتطرقت لأدق التفاصيل! ومهمة الفتية الذين تم اختيارهم من كل البطون تتلخص بتنفيذ خطة الجريمة، وتقضي الخطة بمراقبة البيت المبارك الذي يقيم فيه حتى إذا ما خيم الظلام وهجع السامر، زحف فتية البطون بعزم وهدوء وطوقوا البيت المبارك، فإن خرج النبي خلال فترة التطويق انقضوا عليه بسيوفهم وضربوه ضربة واحدة، وإن لم يخرج خلال مدة معقولة، دخلوا عليه البيت جميعاً وضربوه وهو نائم ضربة رجل واحد!

وقرار زعامة البطون واضح بأن تلك الليلة يتوجب أن تكون آخر ليالي محمد من الحياة، فالأمور مرتبة ترتيباً محكماً، ولا طاقة لبني هاشم على مواجهة البطون خاصة بعد موت سيدهم وعميدهم شيخ البطاح أبي طالب.

ص: 486

كل شئ جهزته البطون لتنفيذ الجريمة وبأعصاب هادئة، مع أن محمداً من قريش ومع أن الهاشميين بنو عمومتهم، ولكن عندما يتمكن الحقد من النفوس فإنها تبور ولا شئ يصلحها.

هيأ الرسول (صلی الله علیه و آله) نفسه للهجرة والخروج من مكة، وكلف ولي عهده والإمام من بعده علي بن أبي طالب، أن يتدثر ببرد النبي الحضرمي الأخضر، وأن ينام في فراش النبي، ليوهم المتآمرين القتلة أن النائم هو النبي وليس علياً فينشغلوا عنه. وكلف النبي ولي عهده أيضاً أن يتولى تأدية الأمانات الموجودة عند الرسول إلى أهلها، وبعد أن يفعل ذلك يحمل أهل النبي، ويتبعه مهاجراً إلى المدينة المنورة.

وبعد أن رتب النبي (صلی الله علیه و آله) أموره ودَّعَ ولي عهده وأهل بيته وخرج مهاجراً.

شاهد النبي المتآمرين القتلة يحيطون بالبيت المبارك إحاطة السوار بالمعصم، ويطوقونه تطويقاً كاملاً، بحيث يتعذر الدخول أو الخروج من البيت!

وقف النبي (صلی الله علیه و آله) وقرأ: يَس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ... وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ.

وطال انتظار المتآمرين ولم يخرج النبي وبدأت الوساوس تعمل في صدورهم! لقد انبلج الفجر ولاحت الدنيا، ومن المستحيل أن يتأخر خروج محمد إلى هذا الحد، واقتحموا بيت النبي ودخلوا الحجرة المقدسة، واقتربوا من فراش النبي وكشفوا الغطاء، فإذا النائم بفراش النبي علي وليس محمداً! فهاج القتلة وسألوا علياً عن النبي فقال لهم علي بهدوء المؤمن ورباطة جأشه: «قلتم له أخرج عنا فخرج عنكم»!

أحيطت زعامة بطون قريش علماً بما حدث، فهاجت وماجت وجن جنونها، فأطلقت فرسانها ورجالها ليبحثوا عن محمد وليعودوا به حياً أو ميتاً، وخصصت جائزة كبرى مقدارها مائة ناقة لمن يقبض على محمد، وبذلت زعامة بطون قريش كل وسعها للقبض على محمد، ولكنها فشلت ولم تفلح، حيث دخل النبي الغار وقضى فيه ثلاثة أيام، حتى يئست زعامة البطون من العثور عليه، وبعد ذلك شق طريقه بيمن الله ورعايته إلى عاصمة دولته المباركة».

ص: 487

2- مبيت علي (علیه السلام) في فراش النبي (صلی الله علیه و آله) يفديه بنفسه

اشارة

أ. اتفق الرواة على أن مندوبي قريش دخلوا البيت وهم شاهرون سيوفهم يتقدمهم خالد بن الوليد، فتفاجؤوا بأن النائم مكانه علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فنهض في وجههم وهو شاهر سيفه، وتلاسنوا معه وأساء معه الكلام خالد، فأمسك علي بيده وجذبه وعصر عضده، فصاح خالد كالبَكر أي البعير الصغير، ونزع علي سيف خالد، فتدخل البقية وقالوا لعلي إنهم لايريدون به شراً!

وقد روت حديث المبيت مصادرنا وبعضه مصادرهم. ففي أمالي الطوسي/466 عن عمار وأبي رافع: «فخرج القوم عِزِين «متفرقين» وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل، فتلا هذه الآية على رسول الله (صلی الله علیه و آله): وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. فلما أخبره جبرئيل بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وقال له: يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفاً، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إليَّ ربي عزوجل أن أهجر دار قومي، وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ليخفى بمبيتك عليهم أثري، فما أنت قائل وصانع؟فقال علي (علیه السلام): أوَتسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟قال: نعم، فتبسم علي (علیه السلام) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من سلامته، وكان علي (علیه السلام) أول من سجد لله شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما رفع رأسه قال له: إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه بمسرتك، واقعاً منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله. قال (صلی الله علیه و آله): وإنه ألقي عليك شبه مني، فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي. ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل:، فصبراً صبراً فإن رحمة الله قريب من المحسنين. ثم ضمه النبي (صلی الله علیه و آله) إلى صدره وبكى إليه وجداً به،

ص: 488

وبكى علي (علیه السلام) جشعاً لفراق رسول الله (صلی الله علیه و آله) . ولبث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكانه مع علي يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين، ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وأخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم!

فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر، أقبل القوم على علي (علیه السلام) يقذفونه بالحجارة والحلم «الأعواد» ولا يشكُّون أنه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، هجموا على علي (علیه السلام)، وكانت دور مكة يومئذ سوائب لا أبواب لها، فلما بصر بهم علي (علیه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب له علي (علیه السلام) فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر «يرفس كالفصيل» ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار «منعطفها» من خلفه، وشد عليهم علي (علیه السلام) بسيفه يعني سيف خالد، فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار، فتبصروه فإذا هو علي (علیه السلام)، فقالوا: إنك لعلي؟ قال: أنا علي. قالوا: فإنا لم نردك فما فعل صاحبك؟ قال: لا علم لي به. وقد كان علم يعني علياً (علیه السلام) أن الله تعالى قد أنجى نبيه (صلی الله علیه و آله) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه، فأذكت قريش عليه العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول.

وأمهل علي (علیه السلام) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الغار، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبوبكر: قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال: إني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن. قال: فهي لك بذلك، فأمر (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) فأقبضه الثمن، ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته.

وكانت قريش تدعو محمداً (صلی الله علیه و آله) في الجاهلية الأمين،وكانت تستودعه

ص: 489

وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك، فأمر علياً (علیه السلام) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً: ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة، فليأت فلتؤد إليه أمانته.

وقال النبي (صلی الله علیه و آله) «أي كتب إلى علي»: إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليَّ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً.

ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.

قال أبو عبيدة: فقلت لعبيدالله، يعني ابن أبي رافع: أوَكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة (علیها السلام) ؟ وقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة..

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي وهو يوصيه: وإذا أبرمت ما أمرتك، فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إليَّ لقدوم كتابي إليك، ولا تلبث بعده.

وانطلق رسول الله لوجهه يؤم المدينة، وكان مقامه في الغار ثلاثاً، ومبيت علي على الفراش أول ليلة. قال عبيدالله بن أبي رافع: وقد قال علي بن أبي طالب (علیه السلام) شعراً يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الغار ثلاثاً:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى- *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ

محمدُ لما خاف أن يمكروا به *** فوقَّاه ربي ذو الجلال من المكر

وبتُّ أراعيهم متى ينشرونني *** ووطنت نفسي على القتل والأسرج

ويأت رسول الله في الغار آمناًج *** هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثاً ثم زمت قلائص *** قلائص يفرين الحصا أينما تفري»

وفي إعلام الورى: 1/146: «أجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم، فقال أبولهب: بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه.فباتوا حول حجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يفرش له، وقال لعلي بن أبي طالب: يا علي إفدني بنفسك. قال:

ص: 490

نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي والتحف ببردي. فنام (علیه السلام) على فراش رسول الله والتحف ببردته، وجاء جبرئيل (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: أخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعلي (علیه السلام) نائم عليه فيتوهمون أنه رسول الله (صلی الله علیه و آله)»!

وفي الخرائج: 1/143: «فدعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة، فقد أمرني الله تعالى بذلك. فقلت له: السمع والطاعة، فنمت على فراشه وفتح رسول الله الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ومضى وهم لايرونه، فرأى أبابكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم فأخرجه معه إلى الغار. فلما طلع الفجر تواثبوا إلى الدار وهم يظنون أني محمد، فوثبت في وجوههم وصحت بهم، فقالوا: علي! قلت: نعم. قالوا: وأين محمد؟ قلت: خرج من بلدكم. قالوا: والى أين خرج؟قلت: الله أعلم فتركوني وخرجوا».

وفي تفسير القمي: 1/275: «وأمر رسول الله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب: إفدني بنفسك، قال نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي، والتحف ببردتي، فنام علي على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله) والتحف ببردته، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان. فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب عليٌّ في وجوههم فقال: ما شأنكم؟ قالوا له أين محمد؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم!

فأقبلوا يضربون أبا لهب ويقولون أنت تخدعنا منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال،

ص: 491

وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار، فقالوا له يا أبا كرز اليومَ اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: هذه قدم محمد والله إنها لأخت القدم التي في المقام! وكان أبوبكر استقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرده معه فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، ثم قال: وهاهنا عبر ابن أبي قحافة. فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار، ثم قال: ما جاوزا هذا المكان! إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض. وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال: ما في الغار واحد فتفرقوا في الشعاب وصرفهم الله عن رسوله (صلی الله علیه و آله) ثم أذن لنبيه في الهجرة». واليعقوبي: 2/39.

ب. وروى الجميع حديث مباهاة الله تعالى لملائكته بفداء علي (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه، ففي أمالي الطوسي/469: «قال أبو اليقظان: فحدثنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن معه بقباء عما أرادت قريش من المكر به، ومبيت علي (علیه السلام) على فراشه، قال: أوحى الله عزوجل إلى جبرئيل وميكائيل أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه؟فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: عبديَّ ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيي فآثره بالحياة على نفسه، ثم رقد على فراشه يفديه بمهجته، إهبطا إلى الأرض كلاكما فاحفظاه من عدوه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله عزوجل يباهي بك الملائكة! قال: فأنزل الله عزوجل في علي (علیه السلام): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ.

وفي المناقب: 1/339: «الثعلبي في تفسيره، وابن عقبة في ملحمته، وأبو السعادات في فضايل العشرة، والغزالي في الإحياء، وفي كيمياء السعادة أيضاً، برواياتهم عن أبي اليقظان. وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي الينا، نحو ابن بابويه، وابن شاذان، والكليني، والطوسي، وابن عقدة، والبرقي، وابن فياض، والعبدلي، والصفواني، والثقفي، بأسانيدهم عن ابن عباس، وأبي رافع، وهند بن أبي هالة، أنه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر

ص: 492

أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه؟ فكلاهما كره الموت فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد نبيي، فآثره بالحياة على نفسه، ثم ظل بائتاً على فراشه يقيه بمهجته! إهبطا إلى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوه. فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول: بخٍ بخٍ، من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي بك الملائكة، فأنزل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ». وشواهد التنزيل: 1/123، الثعلبي في تفسيره: 2/125، المسترشد لابن جرير الطبري/360 والصراط المستقيم: 1/173، أسد الغابة: 4/25، الفضائل لابن عقدة/179، كشف اليقين/89، الصراط المستقيم: 1/173، الصحيح من السيرة:4/32، أمالي الطوسي/468، العمدة/239، الطرائف/37، سعد السعود/216، خصائص الوحي المبين/120، الجواهر السنية/307 والمراجعات/216.

ج. وذكر علي (علیه السلام) في مناسبات هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)، ومبيته في فراشه يفديه بنفسه، و روى الصدوق في الخصال/365، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن حاخام اليهود الأكبر أتى علياً (علیه السلام) فقال: «يا أميرالمؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لايعلمها إلا نبي أو وصي نبي! قال: سل عما بدا لك يا أخا اليهود؟قال: إنا نجد في الكتاب أن الله عزوجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده، وأن الله عزوجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم. فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة؟.. فقال: يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني في حياء نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي، بنعمة الله له مطيعاً.

قال: فيمَ وفيم يا أميرالمؤمنين؟ قال: أما أولاهن...وأما الثانية يا أخا اليهود، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي (صلی الله علیه و آله) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها

ص: 493

على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه، ثم يأتي النبي (صلی الله علیه و آله) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها، فيمضي دمه هدراً! فهبط جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله) فأنبأه بذلك، وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار، فأخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً بأن أقتل دونه، فمضى (صلی الله علیه و آله) لوجهه واضطجعت في مضجعه، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي (صلی الله علیه و آله)، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله».

آية مبيت علي (علیه السلام) على فراش النبي (صلی الله علیه و آله)

1- أنزل الله في علي (علیه السلام): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ . ففي تفسير العياشي: 1/101 عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «فإنها أنزلت في علي بن أبي طالب (علیه السلام) حين بذل نفسه لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله)، ليلة اضطجع على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله)». وأمالي الطوسي/446 و469، عن علي بن الحسين (علیه السلام)، وشواهد التنزيل: 1/123، 129 و130، عن أبي سعيد الخدري. والإرشاد: 1/53، والمسترشد/360، الصراط المستقيم: 1/173، مناقب الخوارزمي/127، منهاج الكرامة/122، الخصال: 2/364، أمالي الطوسي/446، التعجب للكراجكي/122 وشرح الأخبار: 2/345.

2- ضاقت السلطة ذرعاً بنزول الآية في علي (علیه السلام)، فقال رواتها نزلت في صهيب الرومي، لأن المشركين قبضوا عليه ومنعوه من الهجرة، فبذل لهم ماله فنزلت فيه الآية! وتقدم أن صهيباً من قبيلة نمر بن قاسط، وعرف بالرومي لأن الروم أسروه وباعوه عبداً. وكان محباً لعمر. راجع: أسباب النزول للواحدي/39

ومجمع الزوائد: 6/318.

ثم قالوا إن الآية لاتخص علياً، بل تعم المهاجرين والأنصار! عبدالرزاق: 1/81.

ص: 494

ثم قالوا: اختلف أهل التأويل فيمن نزلت، فقال بعضهم في المهاجرين والأنصار، وقال بعضهم في من باع نفسه في الجهاد واستقتل، وقال بعضهم في رجال من المهاجرين بأعيانهم منهم علي، ثم رجح الطبري أنها نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، كما قال عمر. تفسير الطبري: 2/437.

وذكر الفخر الرازي: 5/233، في سبب نزولها أقوالاً، أحدها في صهيب، وعمار وبلال وغيرهم، والثاني: في من أمر بمعروف ونهى عن منكر. والثالث: «نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة. ونزلت الآية».

أما الحاكم: 3/4 فصحح مضمونها، ولم يذكر الآية! قال: «عن ابن عباس قال: شرى عليٌّ نفسه ولبس ثوب النبي (صلی الله علیه و آله) ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألبسه بردة، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي (صلی الله علیه و آله) فجعلوا يرمون علياً ويرونه النبي (صلی الله علیه و آله) وقد لبس بردة، وجعل علي يتضوَّر «يظهر الضجر من الحصى الذي يصيبه» فإذا هو علي، فقالوا إنك للئيم، إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه منك..»ثم روى عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: «إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب وقال علي عند مبيته على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. وذكر أبيات علي (علیه السلام)». ونسج على منوال الحاكم بعض علمائهم، كالصالحي في سبل الهدى: 3/233.

وأنصف بعضهم كالمقريزي، فقال في الإمتاع: 1/57: «فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه. فلما رآهم (صلی الله علیه و آله) أمر علياً بن أبي طالب رضيالله عنه أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك. فقام علي مقامه وغطي ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه وفيه نزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ. وخرج (صلی الله علیه و آله) وأخذ حفنة من تراب وجعله على رؤوسهم وهو يتلو

ص: 495

الآيات من: يس وَالْقٌرْآنِ الحَكِيم.. إلى قوله: فهم لا يبصرون، فطمس الله تعالى أبصارهم فلم يروه وانصرف. وهم ينظرون علياً فيقولون إن محمداً لنائم».

وبهذا ترى عمل السلطة لإبعاد الآية عن علي (علیه السلام)، بل رووا أن معاوية بذل مالاً لصحابي ليجعل الآية في ابن ملجم ويجعل آية أخرى في علي (علیه السلام)!

«قال أبوجعفر الإسكافي: وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَأَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعىَ فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ.«البقرة/ 204-205»وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ. فلم يقبل، فبذل له مأتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل أربعمائة فقبل! وقال: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي فاختلقوا ما أرضاه! منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير».

شرح النهج: 4/73 والغارات: 2/840.

3- وأنكر بعض النواصب نزول الآية في علي (علیه السلام)، وحديث أن الله باهى به الملائكة ولو استطاع أن ينكر مبيته في فراش النبي (صلی الله علیه و آله) لفعله! لكنه قال إنه لافضيلة لعلي فيه لأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبره بأنه لايصيبهم منهم مكروه! مع أن ذلك كان في رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) له من المدينة بعد مبيته على فراشه!

فعندما ساق أبو واقد يسوق بعائلة النبي (صلی الله علیه و آله) سوقاً عنيفاً في الهجرة، قال له علي (علیه السلام): «إرفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف.قال: إني أخاف أن يدركنا الطلب! فقال علي (علیه السلام): إربع عليك فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي: يا علي، إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه، ثم جعل يسوق بهن سوقاً رفيقاً». أمالي الطوسي/469 وراجع: نفحات الأزهار: 17/211والغدير: 2/47.

وقال في الصحيح من السيرة: 4/17، 32 و251: «أنكر ابن تيمية على عادته في إنكار فضائل أميرالمؤمنين علي (علیه السلام) وقال: كذبٌ باتفاق أهل العلم بالحديث والسير. وأيضاً

ص: 496

قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له: لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم، فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة، وهي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب لما هاجر».

ثم رد صاحب الصحيح مكذوبات ابن تيمية وغيره من النواصب.

ص: 497

الفصل السابع والعشرون: هجرة النبی (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة

1- أحكمت قريش خطتها لقتله فنصره الله

أ- اتفقت المصادر على أن آية الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ.. ففي تفسير القمي: 1/275: «ونزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».

وفي تفسير العياشي: 2/53، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه، ويُخرجوا من كل بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعاً عند الكعبة. ثم قرأ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ.. الآية».

وفي أمالي الطوسي/445، عن ابن عباس قال: «فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهم جلوس على الباب عددهم خمسة وعشرون رجلاً،فأخذ حفنة من البطحاء ثم جعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ: يس والقرآن الحكيم، حتى بلغ: فأغْشَيْنَاهم فَهُمْ لايُبصرون.. فقال لهم قائل: ما تنظرون قد والله خبتم وخسرتم، والله لقد مر بكم وما منكم رجل إلا وقد جعل على رأسه تراباً! فقالوا: والله ما أبصرناه»!

وفي الدر المنثور: 3/179: «فأطلع الله نبيه (صلی الله علیه و آله) على ذلك، فبات عليٌّ (علیه السلام) على فراش النبي». وسيرة ابن هشام: 2/334 وعامة المصادر.

ص: 498

قال المفيد في مسارِّ الشيعة/48: «شهر ربيع الأول: أول ليلة منه هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة سنة ثلاث عشرة من مبعثه، وكانت ليلة الخميس. وهي ليلة فيها عظيم الفخر لمولى المؤمنين بما يوجب مسرة أوليائه المخلصين.

وفي صبيحة هذه الليلة صار المشركون إلى باب الغار عند ارتفاع النهار لطلب النبي (صلی الله علیه و آله) فستره الله تعالى عنهم، وقلق أبوبكر بن أبي قحافة وكان معه في الغار بمصيرهم إلى بابه، وظن أنهم سيدركونه فحزن لذلك وجزع، فسكَّنه النبي (صلی الله علیه و آله) ورفق به وقوَّى نفسه بما وعده من النجاة منهم، وتمام الهجرة له.

وهذا اليوم يتجدد فيه سرور الشيعة بنجاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أعدائه، وما أظهره الله تعالى من آياته، وما أيده به من نصره. وفي الليلة الرابعة منه كان خروج النبي (صلی الله علیه و آله) من الغار متوجهاً إلى المدينة، فأقام بالغار وهو في جبل عظيم خارج مكة غير بعيد منها، إسمه ثَوْر، ثلاثة أيام وثلاث ليال، وسار منه فوصل المدينة يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، عند زوال الشمس».

أقول: وقعت الهجرة في أول السنة الرابعة عشرة من بعثته (صلی الله علیه و آله)، لأن بيعة العقبة كانت في موسم الثالثة عشرة، وهجرته (صلی الله علیه و آله) بعد انتهاء الموسم ودخول الرابعة عشرة. وقد تسامحوا في ذلك، كما تسامحوا في عد السنة الأولى من بعثته (صلی الله علیه و آله) كاملة،وقد بعث في وسطها في شهر رجب.

2- استنفرت قريش في طلب النبي (صلی الله علیه و آله)

أ. قال اليعقوبي: 2/39: «فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع، فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة، فقالوا: ما في هذا الغار أحد وانصرفوا. وخرج رسول الله متوجهاً إلى المدينة، ومرَّ بأم معبدالخزاعية فنزل عندها، ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة. وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه».

ص: 499

وفي إعلام الورى: 1/148: «وأقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن أريقط فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال له: يا ابن أريقط أأتمنك على دمي؟قال: إذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك، فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب. قال: والله لأسلكن بك مسلكاً لا يهتدي فيه أحد! قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): إئت علياً وبشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فيهيئ لي زاداً وراحلة..وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال، فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد، فنزلوا على أم معبد هناك».

وسيأتي أن النبي (صلی الله علیه و آله) هو الذي أحضر ابن أريقط.

ب. يسأل البعض: مادام الله تعالى أظهر معجزة تعشيش الحمامة ونسج العنكبوت فلماذا لم ينقل نبيه إلى المدينة بمعجزة كما أسرى به إلى القدس في دقائق، وعرج به إلى السماوات في دقائق أو بلمح البصر؟!

والجواب: أنه تعالى على كل شئ قدير، والنبي (صلی الله علیه و آله) عنده الإسم الأعظم، لكنه يعمل بالأسباب الطبيعية ولايطلب من ربه المعجزة إلا أن يأمره.

قال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «هكذا قالت قريش للنبي (صلی الله علیه و آله): كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء (علیهم السلام) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة، من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً؟! وذلك حين هاجر منها. ثم قال (علیه السلام): جهلوا والله أمرالله وأمر أوليائه معه! إن المراتب الرفيعة لاتنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه، وترك الإقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به. إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عزوجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنهم مع ذلك لايريدون منه إلا مايريده لهم»! أمالي الصدوق/539.

3- رفقاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الهجرة

أ.المشهور أن رفقاءه (صلی الله علیه و آله) في هجرته: أبوبكر، وعبدالله بن أريقط، وعامر بن فهيرة، وهناك رأي بأن أبابكر لم يكن مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الغار، وقد حاول الباحث الشيخ نجاح الطائي أن يثبت ذلك، فتحامل عليه أتباع أبي بكر، وأثاروا ضده ضجة لأنه خالف المتفق

ص: 500

عليه عند المذاهب السنية، والمسكوت عنه في مذهبنا، ولا يتسع المجال لهذا البحث.

وفي شرح الأخبار: 1/259: «مضى نحو الغار وقد واعد أبابكر وعامر بن فهيرة وعبدالله بن أريقط، ليمضوا معه إلى المدينة ومايحتاج إليه ويدلوه على الطريق».

وفي المناقب: 1/142: «أبوبكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبدالله بن أريقط الليثي».

ب. قالوا إن عبدالله بن أريقط اسستأجره أبوبكر دليلاً وإنه لم يكن مسلماً، والصحيح أن النبي (صلی الله علیه و آله) استأجره وكان يعرفه ويثق به قبل الهجرة، فقد أرسله عندما رجع من الطائف إلى زعماء قريش.النهاية: 3/168 وسبل السلام: 2/440.

وفي الخرائج: 1/145، في حديث عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن ابن الأريقط أسلم يومها أو ازداد إيماناً، قال: «وافى ابن الأريقط بأغنام يرعاها إلى باب الغار وقت الليل يريد مكة بالغنم، فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أفيك مساعدة لنا؟ قال: إي والله، فوالله ما جعل الله هذه القبجة على باب الغار حاضنة لبيضها،ولا نسج العنكبوت عليه إلا وأنت صادق، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله): الحمد لله على هدايتك، فصرالآن إلى علي فعرفه موضعنا، ومُرَّ بالغنم إلى أهلها إذا نام الناس، ومُرَّ إلى عبد أبي بكر. فصار ابن الأريقط إلى مكة وفعل ما أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتى علياً وعبد أبي بكر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أعدَّ لنا يا أبا الحسن راحلة وزاداً وابعثها إلينا، وأصلح ما تحتاج إليه لحمل والدتك وفاطمة والحقنا بهما إلى يثرب. وقال أبوبكر لعبده مثله، ففعلا ذلك، فأردف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ابن الأريقط، وأبوبكر عبده».

وذكر بعضهم أن ابن أريقط عدوي حليف العاص بن وائل السهمي «المحبر/190»والصحيح أنه من جهينة محل ثقة النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان عيناً له على المشركين في بدر، قال الثعلبي في «تفسيره: 4/330»، في خبر بدر: «وبعث رسول الله أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الأريقط، فأتاه بخبر القوم». والطبري: 9/247، البغوي:2/232. وسماه في الدرر/80، ابن أرقط وفي أحكام القرآن: 2/512.

ص: 501

ج. وأما عامر بن فهيرة فقالوا إنه غلام أسود سبق إلى الإسلام، فاشتراه أبوبكر وأعتقه إشفاقاً عليه من التعذيب. والصحيح أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة وزوجته أم رومان الكنانية، وتحالف مع أبي بكر، وزوَّج عبده فهيرة من سوداء، فولدت عامر بن فهيرة. وأسلم عامر ومولاه الحارث قبل أبي بكر، ثم مات الحارث فورثه ابنه الطفيل وهو صغير، وتزوج أبوبكر أمه أم رومان، فولدت له عبدالرحمن وعائشة، فهما أخوا الطفيل من أمه.بخاري: 5/43، الطبقات: 8/278 و طبقات خليفة/48.

وقالوا كان عامر بن فهيرة يُعَذَّب، ولم يذكروا من عذبه، فمولاه الحارث مسلم وقد مات، وابنه الطفيل صغير! تهذيب التهذيب: 5/69.

وقال في الصحيح من السيرة: 3/90 إن ابن إسحاق والواقدي قالا إن النبي (صلی الله علیه و آله) اشتراه مع بلال وأعتقهما وليس أبابكر.ومعناه أن علاقته بالنبي (صلی الله علیه و آله) كانت قوية.

وقد استشهد ابن فهيرة في بئر معونة في السنة الرابعة «الإستيعاب: 2/797»فروى رواة السلطة حوله أساطير لتعظيم أبي بكر وقالوا إنهم رأوه رفع إلى السماء! «راجع: صحيح بخاري: 5/44». أما بلال وهو أفضل منه فلا يمدحونه لأنه كتب مع عدد من الصحابة من الشام إلى عمر معترضين على معاوية، فماتوا!

«دعا عليهم «عمر» على المنبر فقال: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه! فما حال الحول وفيهم عين تطرف أي ماتوا جميعاً»! «مبسوط السرخسي: 10/16 والبيهقي:9/138». وأشاعوا أنهم ماتوا بالطاعون، لكن يظهرأنهم ماتوا بسم معاوية!

د رووا أن النبي (صلی الله علیه و آله) ومن معه كانوا أربعة أشخاص، على بعيرين، وأنهم ترادفوا أو تعاقبوا. والتعاقب أن يركب الشخص مرحلة ثم ينزل فيركب صاحبه، والترادف أن يركبا معاً. ففي الدرر/80: «فركبا الراحلتين، وأردف أبوبكر عامر بن فهيرة». «ونحوه الحاكم 3/8». وهو يشير إلى أن ابن أريقط كان يتعاقب مع النبي (صلی الله علیه و آله) ولايركب خلفه احتراماً له. وفي الخرائج: 1/145: «فأردف رسول الله ابن الأريقط». ولعله تعبير عن تعاقبه.

لكن الصحيح أن النبي (صلی الله علیه و آله) هاجر على ناقته القصواء، واشترى بعيراً من أبي بكر

ص: 502

لدليله ابن أريقط، فمات البعيرفاستأجر له بعيراً آخر. وهاجر أبوبكر على بعيره، وكان يتعاقب عليه مع ابن فهيرة. فتكون الرواحل ثلاثاً.

ففي الكافي: 8/339، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم عليه علي (علیه السلام) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (علیه السلام) معه، يوم الجمعة مع طلوع الشمس فخط لهم مسجداً، ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين، ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها».

قال ابن هشام: 2/336: «فلما قرَّب أبوبكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال: إركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني لا أركب بعيراً ليس لي، قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي. قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها به.قال: هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا وأردف أبوبكرالصديق عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق».

وفي صحيح بخاري: 7/39: «فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين. قال: النبي: بالثمن». وفي مقدمة فتح الباري/300: «وفي سيرة عبدالغني وغيره أن الثمن كان أربع مائة درهم، وعند الواقدي أنه ثمان مائة».

ونلاحظ أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرعلياً (علیه السلام) أن يفديه بنفسه، ثم لم يقبل من أبي بكر بعيراً إلا بثمنه، فكيف يزعمون أنه كان ينفق عليه! وفي فتح الباري: 7/183: «سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبابكر أنفق عليه ماله؟فقال: أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه»!

لكن البعير الذي اشتراه النبي (صلی الله علیه و آله) من أبي بكر مات في الطريق: «وقف عليهم بعض ظهرهم، وفي بعضها: أعيا». جوامع السير/93 وأسد الغابة: 1/147و 3/10.

قال ابن هشام: 2/340: «فحمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة وبعث معه غلاماً له يقال له مسعود بن هنيدة «ليرد الجمل كما صرح في الدرر» ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك بهما ثنية الغائر عن يمين رَكوبة. حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قباء على بني

ص: 503

عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الإثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل». الصحيح:4/216، مناقب ابن سليمان: 1/364 والدرر/37.

4- سراقة بن جشعم يحاول قتل النبي (صلی الله علیه و آله) أو أسره

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي 8/263»: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما خرج من الغار متوجهاً إلى المدينة وقد كانت قريش جعلت لمن أخذه مائة من الإبل، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب، فلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم اكفني شر سراقة بما شئت، فساخت قوائم فرسه! فثنى رجله ثم اشتدَّ «جاء ماشياً راكضاً» فقال: يا محمد إني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك، فادع الله أن يطلق لي فرسي، فلعمري إن لم يصبكم مني خير لم يصبكم مني شر، فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأطلق الله عزوجل فرسه، فعاد في طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى فعل ذلك ثلاث مرات! كل ذلك يدعو رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتأخذ الأرض قوائم فرسه! فلما أطلقه في الثالثة قال: يا محمد هذه إبلي بين يديك فيها غلامي، فإن احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه، وهذا سهم من كنانتي علامة، وأنا أرجع فأرد عنك الطلب! فقال (صلی الله علیه و آله): لا حاجة لنا فيما عندك».

ونحوه الثاقب/145، عن ابن عباس، وفيه: «كان سراقة بن جعشم المدلجي قريباً من قريش في ناحية مكة فأتاه رجل فقال: يا سراقة لقد رأيت ركباناً ثلاثة قد مروا فقال سراقة: ينبغي أن يكون هذا محمد، لأتخذن عند قريش يداً! فركب فرسه وأخذ رمحه، وكانت قريش قد بعثت الرجال في كل طريق».والمناقب: 1/64، عن ابن إسحاق، وفيه: «وأتبعه دخان حتى استغاثه، فانطلق الفرس».

فعذله أبوجهل «أي لم يصدقه» وقال سراقة:

أبا حكمٍ واللات لو كنت شاهداً *** لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمُهْ

عجبت ولم تشكك بأن محمداً *** نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه

عليك فكف الناس عنه فإنني *** أرى أمره يوماً سيبدو معالمه»

وروى اليعقوبي: 2/40، البيتين الأولين منها. وابن هشام:2/338، برواية مطولة والدرر لابن

ص: 504

عبدالبر/81 وروى في قرب الإسناد/379، بسند صحيح أن قريشاً أرسلت سراقة في

طلب النبي (صلی الله علیه و آله) .

وفي الخرائج: 1/145، والثاقب في المناقب/109 وغيرهما: «فلما قرب قال (صلی الله علیه و آله): اللهم خذه، فارتطم فرسه في الأرض فصاح: يا محمد خلص فرسي، لا سعيت لك في مكروه بعدها، وعلم أن ذلك بدعاء محمد (صلی الله علیه و آله)! فقال: اللهم إن كان صادقاً فخلصه فوثب الفرس. فقال: يا أبا القاسم ستمر برعاتي وعبيدي فخذ سوطي، فكل من تمرُّ به خذ ما شئت فقد حكمتك في مالي. فقال (صلی الله علیه و آله): لا حاجة لي في مالك. قال: فسلني حاجة. قال (صلی الله علیه و آله): رد عنا من يطلبنا من قريش. فانصرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: إنصرفوا عن هذا الطريق فلم يمر فيه أحد، وأنا أكفيكم هذا الطريق، فعليكم بطريق اليمن والطائف». وكان سراقة من زعماء بني مدلج من كنانة. الطبري: 2/138.

وبنو مدلج مزارعون في بطن ينبع. المناقب: 1/161 والمحبر/110.

وكان سراقة كبقية زعماء كنانة حليفاً لقريش، وقد تصور الشيطان بصورته في بدر! المناقب: 1/163 ومغازي الواقدي/38.

ولم يُسلم سراقة مع أنه رأى هذه المعجزة، ونجَّاه الله بدعاء رسوله (صلی الله علیه و آله) من الخسف! وزعم أنه أسلم بعد ثمان سنين، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان كتب له كتاباً! قال: «حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفرغ من حنين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة، قال: فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار. قال: فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك ما تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهوعلى ناقته والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة «لب النخل من جمالها» قال: فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن جعشم. قال: فقال رسول الله: يوم وفاء وبر، أدنه، قال: فدنوت منه فأسلمت». سيرة ابن هشام: 2/338.

وكان عمر يحب سراقة، وأعطاه من غنائم فارس سوارين من كنز كسرى

ص: 505

وبرروا فعل عمر بأن النبي (صلی الله علیه و آله) نظر إلى ذراعي سراقة وقال: «كأني بك وقد لبست سواري كسرى»! «أم الشافعي: 4/165». وكل هذا لأن سراقة حليف للطلقاء!

5- لماذا أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر معه

اشارة

1. قال في الصحيح من السيرة: 4/212: «لعل الصحيح هو الرواية التي تقول: إن النبي (صلی الله علیه و آله) قد لقي أبابكر في الطريق، وكان أبوبكر قد خرج ليتنسم الأخبار، وربما يكون استصحبه معه لكيلا يسأله سائل إن كان قد رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقر لهم بأنه رآه ثم يدلهم على الطريق التي سلكها، خوفاً من أن يتعرض لأذاهم».

وفي شواهد التنزيل: 1/127، عن ابن عباس: «أنام رسول الله علياً على فراشه ليلة انطلق إلى الغار،فجاء أبوبكر يطلب رسول الله فأخبره علي أنه قد انطلق فاتبعه».

وفي الخرائج: 1/144: «قال علي (علیه السلام): فدعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة فقد أمرني الله تعالى بذلك. فقلت له: السمع والطاعة، فنمت على فراشه وفتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.«يس 9». ومضى وهم لا يرونه، فرأى أبابكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم، فأخرجه معه إلى الغار».

بكى أبوبكر لما جاء سُراقة!

في صحيح بخاري: 4/190 ومسند أحمد: 1/3، من حديث عن أبي بكر قال: «فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم، على فرس له، فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال: لاتحزن إن الله معنا حتى إذا دنا منا، فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قال قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت! قال: لم تبكي؟ قال: قلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك! قال: فدعا عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت قوائم

ص: 506

فرسه إلى بطنها في أرض صلد! ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب.». والطبقات: 4/366، أبو يعلى: 1/107، ابن شيبة: 8/457 وعامة مصادرهم.

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة: 1/338: «فلما لحقهم سراقة بن مالك وهو رجل واحد بكى الصاحب خوفاً! أترى لو كان معهم علي (علیه السلام) هل كان يبكي ويهتم لرجل واحد ليس معه أحد، وهو لم يهتم لثمانية فوارس»!

6- ليس في آية الغار مدحٌ لأبي بكر

قال تعالى في سورة التوبة التي نزلت في السنة التاسعة، بعد غزوة تبوك: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ.إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ.إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

ومعنى الآية: أن الله تكفل بنصرنبيه (صلی الله علیه و آله) وإن لم تنصروه، وقد نصره عندما كان وحيداً فاراً من قومه ليس معه إلا شخص واحد غير مقاتل، فأنزل عليه السكينة والطمأنينة وجنوداً من ملائكته لم يرها رفقاءه. فليس في الآية إلا إشارة إلى شخص كان معه، بقطع النظر عن نوع ذلك الشخص، ومن هُوَ. فالآية متركزة على الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) وغير ناظرة إلى غيره.

بل يشير إفراد الضمائر فيها إلى أن أبابكر لايشترك معه إلا في مجرد التواجد، فهو لايشترك معه في الإجبار على الهجرة لأنه قال: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ولم يقل إذ أخرجهما. ولا في تأييد النبي (صلی الله علیه و آله) بالسكينة فقد قال: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.ولم يقل عليهما، مع أنه قال في الحديبية وفي حنين: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فدل بإفراد الضمير هنا على

ص: 507

أن صاحبه لم يكن أهلاً لنزول السكينة عليه.

وفي شرح الأخبار: 2/246: «الصحبة قد تكون للبر والفاجروقد وصف الله تعالى في كتابه صحبة مؤمن لكافرفقال: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَيُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ».

لكن مع ذلك، اعتبروا الآية فضيلة لأبي بكر يستحق بها الخلافة!

قال ابن حجر في فتح الباري: 13/180: «قال ابن التين: ما انفرد به أبوبكر وهو كونه ثاني اثنين، وهي أعظم فضائله التي استحق بها أن يكون الخليفة من بعد النبي، لذلك قال «عمر»: وإنه أولى الناس بأموركم.. فقوموا فبايعوه».

وقال في الإصابة: 4/148: «من أعظم مناقبه قول الله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ. فإن المراد بصاحبه أبوبكر بلا نزاع.وثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأبي بكر وهما في الغار: ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

وفي تحفة الأحوذي: 10/106: «وقد قالوا من أنكر صحبة أبي بكر كَفَرَ، لأنه أنكر النص الجلي! بخلاف صحبة غيره». وهكذا رفعوا آية الغار سيفاً في وجه أهل البیت (علیهم السلام) وشيعتهم فردوها عليهم، ففي الإحتجاج: 2/143 عن الأعمش (رحمة الله) قال: «اجتمعت الشيعة والمحكِّمة «الخوارج» عند أبي نعيم النخعي بالكوفة، وأبوجعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر، فقال ابن أبي حذرة: أنا أقرر معكم أيتها الشيعة أن أبابكر أفضل من علي ومن جميع أصحاب النبي بأربع خصال، لا يقدر على دفعها أحد من الناس، هو ثان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيته مدفون، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو ثاني اثنين الصديق من هذه الأمة. فقال أبوجعفر مؤمن الطاق (رحمة الله): يا بن أبي حذرة وأنا أقرر معك أن علياً أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) بهذه الخصال التي وصفتها وأنها مثلبة لصاحبك! وألزمك طاعة علي من ثلاث جهات: من القرآن وصفاً، ومن خبر الرسول (صلی الله علیه و آله) نصاً، ومن حجة العقل اعتباراً.

ووقع الإتفاق على إبراهيم النخعي، وعلى أبي إسحاق السبيعي، وعلى سليمان بن مهران الأعمش، فقال: أبوجعفر مؤمن الطاق: أخبرني يا ابن أبي حذرة عن

ص: 508

النبي (صلی الله علیه و آله) كيف ترك بيوته التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه ميراثاً لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ قل ما شئت. فانقطع ابن أبي حذرة، لما أورد عليه ذلك وعرف خطأ ما هو فيه!

فقال أبوجعفر مؤمن الطاق: إن تركها ميراثاً لولده وأزواجه، فإنه قبض عن تسع نسوة، وإنما لعايشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه صاحبك، ولا يصيبها من البيت ذراع في ذراع! وإن كان صدقة فالبلية أطمُّ وأعظم، فإنه لم يصب من البيت إلا ما لأدنى رجل من المسلمين، فدخول بيت النبي (صلی الله علیه و آله) بغير إذنه في حياته وبعد وفاته، معصية! إلا لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) وولده، فإن الله أحل لهم ما أحل للنبي (صلی الله علیه و آله)!

ثم قال لهم: إنكم تعلمون أن النبي أمر بسد أبواب جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي (علیه السلام) فسأله أبوبكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله فأبى عليه، وغضب عمه العباس من ذلك فخطب النبي (صلی الله علیه و آله) خطبة وقال: إن الله تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون: أَنْ تَبَوَآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون وذريتهما، وأن علياً هو بمنزلة هارون من موسى وذريته كذرية هارون، ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول الله ولا يبيت فيه جنباً إلا علي وذريته. فقالوا بأجمعهم: كذلك كان. قال أبوجعفر: ذهب ربع دينك يا ابن أبي حذرة، وهذه منقبة لصاحبي ليس لأحد مثلها، ومثلبة لصاحبك!

وأما قولك: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، أخبرني هل أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين في غير الغار؟ قال ابن أبي حذرة: نعم. قال أبوجعفر: فقد أخرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه بالحزن! وكان علي (علیه السلام) في هذه الليلة على فراش النبي (صلی الله علیه و آله) وبذل مهجته دونه، وهو أفضل من مكان صاحبك في الغار. فقال الناس: صدقت. فقال أبوجعفر: يا ابن أبي حذرة، ذهب نصف دينك!

وأما قولك ثاني اثنين: الصديق من الأمة، فقد أوجب الله على صاحبك

ص: 509

الإستغفار لعلي بن أبي طالب في قوله عزوجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان.إلى آخر الآية. والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس، ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق أولى به ممن سماه الناس، وقد قال علي (علیه السلام) على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن آمن أبوبكر وصدقت قبله. قال الناس: صدقت.

قال أبوجعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي حذرة، ذهب ثلاثة أرباع دينك!

وأما قولك في الصلاة بالناس، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تتم له، وأنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة، فلو كان ذلك بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما عزله عن تلك الصلاة بعينها، أما علمت أنه لما تقدم أبوبكر ليصلي بالناس خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتقدم وصلى بالناس وعزله عنها، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين: إما أن تكون حيلة وقعت منه فلما أحس النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك خرج مبادراً مع علته فنحاه عنها لكيلا يحتج بها بعده على أمته، فيكونوا في ذلك معذورين!

وإما أن تكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضاً إليه كما في قصة تبليغ براءة، فنزل جبرئيل وقال: لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك، فبعث علياً في طلبه وأخذها منه وعزله عنها وعن تبليغها! فكذلك كانت قصة الصلاة! وفي الحالتين هو مذموم، لأنه كشف عنه ما كان مستوراً عليه، وفي ذلك دليل واضح أنه لا يصلح للإستخلاف بعده، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين.

فقال الناس: صدقت. قال أبوجعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي حذرة ذهب دينك كله، وفضحتَ حيث مدحتَ!

فقال الناس لأبي جعفر: هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي (علیه السلام) .

فقال أبوجعفر مؤمن الطاق: أما من القرآن وصفاً فقوله عزوجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. فوجدنا علياً (علیه السلام) بهذه الصفة في القرآن في قوله عزوجل: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ - يعني في الحرب والشعب-أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. فوقع الإجماع من الأمة بأن علياً أولى بهذا

ص: 510

الأمر من غيره، لأنه لم يفر من زحف قط كما فر غيره في غير موضع! فقال الناس: صدقت. قال: وأما الخبر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نصاً، فقال: إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. وقوله (صلی الله علیه و آله): إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومن تقدمها مرق ومن لزمها لحق. فالمتمسك بأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) هاد مهتد بشهادة من الرسول، والمتمسك بغيرها ضال مضل. قال الناس: صدقت يا أبا جعفر.

قال: وأما من حجة العقل فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم، ووجدنا الإجماع قد وقع على علي (علیه السلام) بأنه كان أعلم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان الناس يسألونه ويحتاجون إليه، وكان علي مستغنياً عنهم، هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عزوجل: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فما اتفق يوم أحسن منه ودخل في هذا الأمر عالمٌ كثير».

راجع: عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/201، مناقشة المأمون لفقهاء عصره في آية الغار، كتاب سُلَيم/348، الإفصاح للمفيد/185، الصوارم المهرقة/307، الغدير:7/10 والصحيح من السيرة:4/233.

7- كذبة ذات النطاقينَ

قالوا إن أسماء كانت تحمل لهم الطعام إلى الغار، وأنها شقت حزامها قطعتين لتربط الزاد فسماها النبي (صلی الله علیه و آله) ذات النطاقين، مع أنها كانت هاجرت قبلهم إلى المدينة مع زوجها الزبير وكانت حاملاً في شهرها بعبدالله بن الزبير، وقد نص المؤرخ خليفة بن خياط/207، وغيره، على أنها وضعت عبدالله بن الزبير هناك، وهذا ينفي زعم من زعم أنها وضعته في قباء أيام وصول النبي (صلی الله علیه و آله) .

وكذلك جعلت عائشة لنفسها مناقب في الهجرة!

ص: 511

8- النبي (صلی الله علیه و آله) في ضيافة أم معبد

«خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغار وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقُدَيْد، فنزلوا على أم معبد هناك». إعلام الورى/41.

«أُثال وادٍ بصدر وادي ستارة، و هو المعروف بقُدَيْد، يسيل في وادي الخيمتين.. خيمتا أم معبد.ويقال بئر أم معبد بين مكة والمدينة، نزله رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هجرته». معجم البلدان: 2/414 والجبال والأمكنة للزمخشري/2.

وفي الخرائج: 1/146: «سار حتى نزل خيمة أم معبد، فطلبوا عندها قِرىً فقالت: ما يحضرني شئ، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى شاة في ناحية الخيمة قد تخلفت من الغنم لضرها فقال: تأذنين في حلبها؟ قالت: نعم ولا خير فيها، فمسح يده على ظهرها فصارت أسمن ما يكون من الغنم، ثم مسح يده على ضرعها فأرخت ضرعاً عجيباً، ودرت لبناً كثيراً فقال: يا أم معبد هاتي العس، فشربوا جميعاً حتى رووا! فلما رأت أم معبد ذلك قالت: يا حسن الوجه إن لي ولداً له سبع سنين وهو كقطعة لحم لا يتكلم ولا يقوم، فأتته به فأخذ تمرة قد بقيت في الوعاء ومضغها وجعلها في فيه، فنهض في الحال ومشى وتكلم!

وجعل نواها في الأرض فصارت في الحال نخلة، وقد تهدل الرطب منها وكانت كذلك صيفاً وشتاءً! ولما توفي (صلی الله علیه و آله) لم تُرْطِبْ تلك النخلة وكانت خضراء! فلما قتل علي (علیه السلام) لم تخضرّ، وكانت باقية فلما قتل الحسين (علیه السلام) سال منها الدم ويبست!

فلما انصرف أبو معبد ورأى ذلك وسأل عن سببه قالت: مرَّ بي رجل قرشي من حاله وقصته كذا وكذا! قال: يا أم معبد إن هذا الرجل هو صاحب أهل المدينة الذي هم ينتظرونه، ووالله ما أشك الآن أنه صادق في قوله إنه رسول الله، فليس هذا إلا من فعل الله. ثم قصد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فآمن هو وأهله». ونحوه الثاقب في المناقب/111، عن هند بنت الجون.

وفي مستدرك الحاكم: 3/9: «قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلاً ظاهرَ الوَضاءة، أبلجَ الوجه، حسنَ الخلق لم تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ «بِطنة» ولم تُزْرِ به صَعْلَة «صغر الرأس»

ص: 512

وسيمٌ قسيم «جميل حسن الملامح» في عينيه دَعَجٌ «سواد» وفي أشفاره وَطَف «أجفانه طويلة» وفي صوته صَحَل «ليس صوته حاداً بل فيه حركة محببة كالبحة» وفي عنقه سَطَع «طول» وفي لحيته كثَاثة «كثافة الشعر» أزجُّ أقْرَن «حاجباه مقوسان متصلان» إن صمتَ فعليه الوقار، وإن تكلم سَمَاهُ وعلاه البهاء، أجملُ الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلوُ المنطق، فصلاً لا نزرٌ ولا هَذْر،كأن منطقه خرزات نظمٍ يتحدرن، ربعةٌ لا تشنؤهُ من طول، ولا تقتحمه عين من قِصَر».

وفي المناقب: 1/105: «وقال خطيب منبج:

ومَنْ حَلَب الضئيلة َوهي نِضْوٌ *** فأسبلَ درُّها للحالبينا

وكانت حائلاً فغدت وراحت *** بيمن المصطفى الهادي لبونا»ج

9- وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة

وصف الإمام زين العابدين (علیه السلام) هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث صحيح في الكافي:8/338: «عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (علیه السلام): إبن كم كان علي بن أبي طالب يوم أسلم؟ فقال: أوَكان كافراً قط، إنما كان لعلي (علیه السلام) حيث بعث الله عزوجل رسوله (صلی الله علیه و آله) عشر سنين، ولم يكن يومئذ كافراً، ولقد آمن بالله تبارك وتعالى وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وسبق الناس كلهم إلى الإيمان بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وإلى الصلاة بثلاث سنين، وكانت أول صلاة صلاها مع رسول الله الظهر ركعتين، وكذلك فرضها الله تبارك وتعالى على من أسلم بمكة ركعتين ركعتين. وكان رسول الله يصليها بمكة ركعتين ويصليها علي (علیه السلام) معه بمكة ركعتين مدة عشر سنين، حتى هاجر رسول الله إلى المدينة، وخلف علياً في أمور لم يكن يقوم بها أحد غيره، وكان خروج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة في أول يوم من ربيع الأول، وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث، وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس، فنزل بقبا، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، ثم لم يزل مقيماً ينتظر علياً (علیه السلام) يصلي الخمس صلوات ركعتين

ص: 513

ركعتين، وكان نازلاً على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يقولون له: أتقيم عندنا فنتخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقول: لا إني أنتظر علي بن أبي طالب وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم علي وما أسرعه إن شاء الله، فقدم علي (علیه السلام) والنبي (صلی الله علیه و آله) في بيت عمرو بن عوف فنزل معه.

ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم عليه علي (علیه السلام) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (علیه السلام) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس، فخط لهم مسجداً ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين، ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها، وعلي (علیه السلام) معه لايفارقه يمشي بمشيه، وليس يمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به ورسول الله (صلی الله علیه و آله) واضع لها زمامها حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى، وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يصلي عنده بالجنائز، فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأقبل أبوأيوب مبادراً حتى احتمل رحله فأدخله منزله. ونزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) معه حتى بنيَ له مسجده، بنيت له مساكنه ومنزل علي (علیه السلام)، فتحولا إلى منازلهما.

فقال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين: جعلت فداك كان أبوبكر مع رسول الله حين أقبل إلى المدينة فأين فارقه؟ فقال: إن أبابكر لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى قبا فنزل بهم ينتظر قدوم علي (علیه السلام) فقال له أبوبكر: إنهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم عليك إلى شهر! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلا ما أسرعه ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل، وأحب أهل بيتي إليَّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين. قال: فغضب عند ذلك أبوبكر واشمأز، وداخله من ذلك حسد لعلي (علیه السلام)، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام)، وأول خلاف على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فانطلق حتى دخل المدينة، وتخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقبا ينتظر علياً (علیه السلام) .

قال: فقلت لعلي بن الحسين: فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي (علیهما السلام)؟ فقال:

ص: 514

بالمدينة بعد الهجرة بسنة، وكان لها يومئذ تسع سنين.

قال علي بن الحسين (علیه السلام): ولم يولد لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من خديجة (علیها السلام) على فطرة الإسلام إلا فاطمة (علیها السلام)، وقد كانت خديجة ماتت قبل الهجرة [بسنة] ومات أبوطالب بعد موت خديجة [بسنة] فلما فقدهما رسول الله سئم المقام بمكة ودخله حزن شديد، وأشفق على نفسه من كفار قريش، فشكا إلى جبرئيل ذلك، فأوحى الله عزوجل إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة، فليس لك اليوم بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً.

فعند ذلك توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.

فقلت له: فمتى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم عليه اليوم؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام، وكتب الله عزوجل على المسلمين الجهاد، وزاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الصلاة سبع ركعات: في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي العشاء الآخرة ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت، لتعجيل نزول ملائكة النهار من السماء، ولتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء، وكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) صلاة الفجر، فلذلك قال الله عزوجل: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً. يشهده المسلمون ويشهده ملائكة النهار وملائكة الليل».

ملاحظات

تضمن هذا الحديث الشريف حقائق مهمة عن البعثة والهجرة، وعن عمر أميرالمؤمنين وفاطمة (علیهما السلام) وزواجهما، وقد جعلناه محوراً فيما كتبناه، إلا قوله إن أباطالب توفي بعد خديجة (علیهما السلام) بسنة، وإنهما توفيا قبل الهجرة بسنة، والظاهر أن فيه تصحيفاً، وقد يكون تصحيف ستة، وسقط ما بعده.

ص: 515

10- نزل النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء وهي ضاحية المدينة

في إعلام الورى/41، عن الزهري: «كان بين ليلة العقبة و بين مهاجرة رسول الله ثلاثة أشهر، وكانت بيعة الأنصار لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة في ذي الحجة، وقدوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه يوم الإثنين. وكانت الأنصار خرجوا يتوكفون أخباره، فلما أيسوا ورجعوا إلى منازلهم أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوافى ذا الحليفة سأل عن طريق بني عمرو بن عوف فدلوه، فرفعه الآل «تلة في الطريق» فنظر رجل من اليهود وهو على أطم له إلى ركبان ثلاثة يمرون على طريق بني عمرو بن عوف فصاح: يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافى! فوقعت الصيحة بالمدينة فخرج الرجال والنساء والصبيان، مستبشرين لقدومه يتعادَوْن، فوافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقصد مسجد قبا ونزل، واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف، وسُرُّوا به واستبشروا واجتمعوا حوله (صلی الله علیه و آله) . ونزل على كلثوم بن الهَدْم شيخ من بني عمرو صالح مكفوف البصر، واجتمعت بطون الأوس، وكان بين الأوس والخزرج عداوة، فلم يجسروا أن يأتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما كان بينهم من الحروب، فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتصفح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج، وقد كان قدم على عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ناس من المهاجرين فنزلوا فيهم».

وفي المناقب: 1/151: «هاجر إلى المدينة وأمر أصحابه بالهجرة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وكانت هجرته يوم الإثنين، وصار ثلاثة أيام في الغار ليُخَيِّب من قصد إليه وروي ستة أيام، ودخل المدينة يوم الإثنين الثاني عشرمن ربيع الأول وقيل الحادي عشر، وهي السنة الأولى من الهجرة، فرد التاريخ إلى المحرم.

وكان نزل بقبا في دار كلثوم بن الهدم، ثم بدار خيثمة الأوسي ثلاثة أيام ويقال اثني عشر يوماً، إلى بلوغ علي وأهل البیت (علیهم السلام) .

وكان أهل المدينة يستقبلون كل يوم إلى قبا وينصرفون، فأسس بقبا مسجدهم وخرج يوم الجمعة ونزل المدينة، وصلى في المسجد الذي ببطن الوادي».

وفي قصص الأنبياء/335 وإعلام الورى: 1/152: «فلما أمسى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فارقه

ص: 516

أبوبكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار، وبقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم، فلما صلى المغرب والعشاء الآخرة جاءه أسعد بن زرارة مقنَّعاً فسلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفرح بقدومه، ثم قال: يا رسول الله ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك، إلا أن بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم، فكرهت أن آتيهم، فلما أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأوس: من يجيره منكم؟ فقالوا: يا رسول الله، جوارنا في جوارك فأجره. قال: لا، بل يجيره بعضكم. فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة: نحن نجيره يا رسول الله فأجاروه، وكان يختلف إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيتحدث عنده ويصلي خلفه.فبقي خمسة عشر يوماً فوافى علي (علیه السلام) بعياله، فلما وافى كان سعد بن الربيع وعبدالله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج، وكان كل رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيبه، ولكل بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له، فلما قدم الإثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم، فلما قدم السبعون كثر الإسلام وفشا، وجعلوا يكسرون الأصنام».

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/40: «قدم رسول الله المدينة يوم الإثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت منه فنزل على كلثوم بن الهدم، فلم يلبث إلا أياماً حتى مات كلثوم، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف، فمكث أياماً. ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل، فلما رأى ذلك قال: ما هذا الجوار؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال: خلوا زمامها».

وفي سيرة ابن هشام: 2/340: «كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلاً دخلنا، وذلك في أيام حارة. فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) علينا فصرخ بأعلى صوته: يا بني

ص: 517

قَيْلة هذا جدُّكم قد جاء.كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا خرج من منزل كلثوم بن هندم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة. ونزل أبوبكر الصديق على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسُّنح. «الجهة الأخرى للمدينة». ثم قال ابن هشام: «أقام علي بن أبي طالب (علیه السلام) بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن هدم. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده.فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة».

11- نشيد أهل المدينة: طَلَعَ البدرُ علينا

في المبسوط للطوسي: 8/224: «وأما الحداء وهو الشعر الذي تحث به العرب الإبل على الإسراع في السير، فهو مباح وهو ممدود لأنه من الأصوات كالدعاء والنداء والثغاء والرغاء..وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في سفر فأدرك ركباً من تميم معهم حاد فأمرهم بأن يحدو وقال: إن حادينا نام آخر الليل.

فأما الكلام في الشعر فهو مباح أيضاً ما لم يكن فيه هجو ولا فحش ولا تشبيب بامرأة لا يعرفها. روى عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: أردفني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ؟ قال قلت: نعم، قال: هيه، قال فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت. فإذا ثبت أنه مباح فقد روي كثير مما سمعه النبي (صلی الله علیه و آله) ولم ينكره، فمن ذلك ما روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما هاجر إلى المدينة استقبله فتيان المدينة، وأنشدوا:

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع

[أنت يا مرسل حقاً *** جئت بالأمر المطاع

جئتنا تسعى رويداً *** مرحبا يا خير ساع

جئت شرفت المدينة *** مرحباً ياخير داع

ص: 518

يا نبياً من ضياه *** أشرقت كل البقاع

قد لبسنا ثوب عز *** بعد تمزيق الرقاع

ربنا صل على من *** حل في خير البقاع]

ومر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أزقة المدينة فسمع جواري لبني النجار ينشدن:

نحن جوارٍ من النجارْ *** يا حبذا محمدٌ من جار

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتحبوني؟ فقالوا: إي والله يا رسول الله. قال: أنا والله أحبكم. ثلاث مرات». وإعلام الورى: 1/151، الصراط المستقيم: 1/158، البحار:19/105، مستدرك سفينة البحار: 5/446، فتح الباري: 8/98 وعمدة القاري: 17/60.

وأشكل في الصحيح من السيرة: 4/109، على رواية هذا النشيد، بأن ثنيات الوداع ليست من جهة مكة بل من جهة الشام، لكن لو صح ذلك جغرافياً فلا يضر بالرواية، لأن ثنيات الوداع تعني التلال التي يودع منها أهل البلد مسافريهم ويستقبلونهم، فيكون النشيد شائعاً عند أهل المدينة فأنشدوه للنبي (صلی الله علیه و آله) وأكملوه بما يناسب. وقد ورد أن إماء مكة استقبلن النبي (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة بنفس النشيد. تاج العروس: 11/500.

12- ترك أبوبكر النبي (صلی الله علیه و آله) بقباء وذهب غاضباً!

تقدم من إعلام الورى: 1/152، وقصص الأنبياء/335، أن أبابكر أراد من النبي أن يدخل المدينة فقال (صلی الله علیه و آله): «لا أريم من هذا المكان حتى يوافيني أخي علي بن أبي طالب..فقال أبوبكر: ما أحسب علياً يوافي! قال: بلى ما أسرعه إن شاء الله. فلما أمسى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فارقه أبوبكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار».

وتقدم ذلك من الكافي: 8/338. وقد غطى رواة السلطة ترك أبي بكر للنبي (صلی الله علیه و آله) في قباء فلم يصرحوا به! قال ابن هشام: 2/342: «نزل النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء ونزل أبوبكر على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج، بالسنح».

وفي الطبقات: 3/174: «ولم يزل في بيت الحارث بن الخزرج بالسنح، حتى توفي

ص: 519

رسول الله (صلی الله علیه و آله)». وفي أسد الغابة: 3/219: «وكان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، وكان قد حجر عليه حجرة من شعر، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى المدينة».

وأخطأ ابن أبي الحديد أو كذب ليغطي على أبي بكر! فقال في شرح النهج: 13/305: «وأما حال علي فلما أدى الودائع، خرج بعد ثلاث من هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) فجاء إلى المدينة راجلاً قد تورمت قدماه فصادف رسول الله (صلی الله علیه و آله) نازلاً بقباء على كلثوم بن الهدم فنزل معه في منزله. وكان أبوبكر نازلاً بقباء أيضاً في منزل خبيب بن يساف ثم خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهما معه من قباء».

ومنزل ابن يساف في السنح وليس بقباء! والسنح يقع في العالية خارج المدينة باتجاه نجد: «قال عياض: هذا حد أدناها وأبعدها ثمانية أميال، وبه جزم ابن عبدالبر، وصاحب النهاية». الصحيح من السيرة: 11/63.

13- إسلام سلمان الفارسي في قباء

1. جاءت مجموعات من اليهود بعد نبي الله عيسى (علیه السلام)، وسكنت الجزيرة بانتظار النبي الموعود، وكان أشخاص غير اليهود ينتظرون ظهوره (صلی الله علیه و آله) أيضاً مثل سلمان الفارسي الذي أعجبته المسيحية فترك المجوسية وهاجر إلى الشام، ثم إلى العراق وتركيا وعاش مع علمائهم، ثم جاء إلى أرض العرب ينتظر النبي الموعود.

ففي كمال الدين/161، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان بين عيسى وبين محمد (صلی الله علیه و آله) خمس مائة عام، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولاعالم ظاهر. قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (علیه السلام) . قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثم قال (علیه السلام): ولا يكون الأرض إلا وفيها عالم.

وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي رضيالله عنه، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد (صلی الله علیه و آله) أربع مائة سنة، حتى بشر

ص: 520

بولادته، فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي».

وقد وجد سلمان في المدينة امرأة فارسية، جاءت قبله تنتظر النبي الموعود (صلی الله علیه و آله)! «قال سلمان: لما قدمت المدينة رأيت امرأة إصبهانية كانت قد أسلمت قبلي، فسألتها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهي التي دلتني على رسول الله (صلی الله علیه و آله)». طبقات المحدثين بأصبهان لابن حبان: 1/123، الإصابة لابن حجر: 8/29 وأخبار إصبهان: 1/44.

«كان سلمان الفارسي عبداً لبعض اليهود، وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتب يخبرونه به، فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه فقال: أطلبه بمكة مخرجه، واطلبه بيثرب فثَمَّ مهاجره. فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسَبَوْهُ، واشتراه رجل من اليهود فكان يعمل في نخله، وكان ذلك اليوم على النخلة يصرمها، فدخل على صاحبه رجل من اليهود فقال: يا أبا فلان أشعرت أن هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيهم؟ فقال سلمان: جعلت فداك ما الذي تقول؟ فقال له صاحبه: ما لك وللسؤال عن هذا، أقبل على عملك! قال فنزل وأخذ طبقاً وصيَّر عليه من ذلك الرطب وحمله إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له رسول الله: ما هذا؟ قال: صدقة تمورنا، بلغنا أنكم قوم غرباء قدمتم هذه البلاد فأحببت أن تأكلوا من صدقتنا. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سَمُّوا وكلوا. فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه: هذه واحدة يقولها بالفارسية، ثم أتاه بطبق آخر فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما هذا؟ فقال له سلمان رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أهديتها إليك. فقال: سموا وكلوا، وأكل، فعقد سلمان بيده: اثنين، وقال: هذه اثنان يقولها بالفارسية، ثم دار خلفه فألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كتفه الإزار فنظر سلمان إلى خاتم النبوة والشامة فأقبل يقبلها! قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل فارس قد خرجت من بلادي منذ كذا وكذا، وحدثه بحديثه وبه طول، فأسلم وبشره رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: أبشر واصبر، فإن الله سيجعل لك فرجاً من هذا اليهودي». إعلام الورى: 1/42.

ص: 521

وفي إعلام الورى: 1/60: «وكان آخر من أتى «عاش معه سلمان علماء النصارى» آبي، فمكث عنده ما شاء الله، فلما ظهر النبي قال آبي: يا سلمان إن صاحبك الذي تطلبه بمكة قد ظهر، فتوجه إليه سلمان». كمال الدين/665.

وحدَّث سلمان (رحمة الله) عن حاله بعد الراهب آبي: «فلما واريناه أقمت على خير، حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنمتي هذه وبقراتي، قالوا نعم فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى». ثم باعه مالكوه إلى أقاربهم من قريظة في المدينة، فكان عبداً لهم نحو سنتين حتى هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ذهبت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بقبا فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شئ للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به، فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل فقلت في نفسي هذه خلة مما وصف لي صاحبي. فاستدرت لأنظر إلى الخاتم في ظهره فلما رآني رسول الله أستدير عرف أني استثبت من شئ قد وصف لي فوضع رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي! فقال: تحول يا سلمان هاكني، فتحولت فجلست بين يديه وأحب أن يسمع أصحابه حديثي فحدثته». ابن إسحاق: 2/68 وأحمد: 5/443.

وحدَّث سلمان عن عمله عند ذلك اليهودي فقال: «فكنت أسقي كما يسقي البعير حتى دَبَر ظهري وصدري «جُرح» من ذلك، ولا أجد أحداً يفقه كلامي حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فكلمتها ففهمت كلامي، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج دليني عليه؟قالت: سيمر بك بكرة إذا صلى الصبح».أخبار أصبهان: 1/76.

14- من مناقب سلمان الفارسي (رحمة الله)

1- روت مصادر السنة وصححته أن النبي (صلی الله علیه و آله) اشتراه بأواقي ذهب وثلاث مئة نخلة حتى تطعم، ففي الحاكم: 2/16، أحمد: 5/354 و443 والبيهقي: 10/321، عن بريدة قال:

ص: 522

«وكان لليهود فاشتراه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكذا وكذا درهماً وعلى أن يغرس نخلاً فيعمل سلمان فيها حتى تطعم، قال فغرس رسول الله «وأصحابه» النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر فحملت النخل من عامها ولم تحمل النخلة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من غرسها؟ قالوا: عمر،فنزعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم غرسها فحملت من عامها».

2. وكان سلمان في أعلى درجات الإيمان وهي الدرجة العاشرة، ففي الخصال/447 عن عبدالعزيز القراطيسي قال: «قال لي أبوعبدالله (علیه السلام): يا عبدالعزيز إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحد لصاحب الإثنين لست على شئ، حتى تنتهي إلى العاشرة، ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك، فإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره. وكان المقداد في الثامنة، وأبوذر في التاسعة، وسلمان في العاشرة».

3- آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بينه وبين أبيذرواشترط عليه طاعة سلمان. الكافي: 8/162.

4- وكان سلمان مُحَدَّثاً، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان سلمان محدثاً.قال قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت». «بصائر الدرجات/342». وقال (علیه السلام): «إن سلمان علم الإسم الأعظم». الإختصاص/11 ورجال الطوسي: 1/65.

5- ولذلك اتخذه النبي (صلی الله علیه و آله) خليلاً، قال سلمان: «أوصاني خليلي بسبعة خصال لا أدعهن على كل حال: أوصاني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقى، وأن أحب الفقراء وأدنو منهم، وأن أقول الحق وإن كان مُرّاً، وأن أصل رحمي وإن كانت مدبرة، ولا أسأل الناس شيئاً، وأوصاني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها كنز من كنوز الجنة». المحاسن: 1/11.

6. وتوفي سلمان وهو أمير المدائن، وأمر زوجته: «أن تديف «تُذَوِّب» مسكاً أصابه من الفئ وخبأه لأجل وفاته، وقال لها: ميثيه في الماء، ورشي

ص: 523

بالماء حولي، فإني اليوم يحضرني من ملائكة ربي من لم أرهم قط! ففعلت ذلك، وتوفي في ذلك اليوم». «إكمال الكمال: 7/362». وحضر أميرالمؤمنين (علیه السلام) من المدينة بكرامة وغسل سلمان وصلى عليه وودعه. «الفضائل لشاذان بن جبرئيل/90، في حديث طويل». وقال له: «إذا لقيت رسول الله فقل له ما مرَّعلى أخيك من قومك».

مستدرك السفينة: 6/34.

وفي مدينة المعاجز: 2/14، عن الراوندي: «أن علياً (علیه السلام) دخل المسجد بالمدنية غداة يوم وقال: رأيت في النوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) البارحة فقال لي: إن سلمان توفي، ووصاني بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وها أنا خارج إلى المدائن لذلك. فقال عمر: خذ الكفن من بيت المال. فقال علي (علیه السلام): ذاك مكفي مفروغ منه، فخرج والناس معه إلى ظاهر المدينة، ثم خرج وانصرف الناس، فلما كان قبل الظهيرة رجع وقال: دفنته، وأكثر الناس لم يصدقوه حتى كان بعد مدة ووصل من المدائن مكتوب: إن سلمان توفي يوم كذا، ودخل علينا أعرابي فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، ثم انصرف. فتعجب الناس كلهم»!

6. تزوج سلمان (رحمة الله) امرأة من قبيلة كندة، وأنجب أولاداً وعرف منهم محمد وعبدالله. رجال الطوسي: 1/68، طرائف المقال: 2/601، الإستيعاب: 2/638، تاريخ دمشق: 21/428، سنن البيهقي: 7/273، تهذيب الكمال: 11/249، لسان الميزان: 3/421،ومصنف عبدالرزاق: 6/153و192.

وذكروا له أولاداً: يحيى بن سلمان «تاريخ دمشق5/227» وعامر بن سلمان «المنفردات لمسلم بن الحجاج/104» ولعله هو عمر بن سلمان «كشف الظنون 2/1488». وزاذان بن سلمان «الدر النظيم/321» وهو إسم فارسي، وهو يروي عن أبيه عن النبي (صلی الله علیه و آله) .

وذكروا لهم ذرية، ففي فهرست منتجب الدين/52: «الشيخ بدر الدين الحسن بن على بن سلمان بن أبي جعفر بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي بكر بن سلمان بن عباد بن عمار بن أحمد بن أبي بكر بن علي بن سلمان بن منبه بن محمد بن عمارة بن ابراهيم بن سلمان بن محمد بن سلمان الفارسي رضيالله عنه صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، نزيل أشناباد السد من الري، واعظ، فصيح، صالح».

ص: 524

7. وكان سلمان (رحمة الله) من المعمرين، روي أنه عاش أكثر من ثلاث مئة سنة. وكان من كبار صحابة النبي (صلی الله علیه و آله) وأفاضلهم، وقد اشتهر بين المسلمين قول النبي (صلی الله علیه و آله): سلمان منا أهل البیت، وشارك في حروب النبي (صلی الله علیه و آله)، وفي فتح إيران وآذربيجان وغيرها، وصار هذا الفارسي المشرد حاكماً للمدائن مكان كسرى!

وكان من حواريي علي:، وأحد الإثني عشر الذين خطبوا في المسجد بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وواجهوا أبابكر وهو على المنبر، وأدانوا بيعة السقيفة.

وقد أفاضت المصادر في ذكره فلا يكاد يخلو مصدر حديثي من أحاديثه ومناقبه. وألفت فيه كتب مستقلة، لكنها لاتفي بالغرض.ولعل قومه الفرس أول المقصرين في حقه! فلا ترى في إيران عملاً مهماً باسمه، أو ذكراً مناسباً له!

وقد كتبت له ترجمة في كتاب: قراءة جديدة في الفتوحات.

ص: 525

الفصل الثامن والعشرون: الهجرة العلنية الوحيدة: هجرة علي (علیه السلام)

1- علي (علیه السلام) يؤدي أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) جهاراً في مكة

قال المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: 1/53: «ومن ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أمين قريش على ودائعهم، فلما فَجَأَهُ من الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتةً، لم يجد في قومه وأهله من يأتمنه على ما كان مؤتمناً عليه سوى أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها، وقضاء ما عليه من دين لمستحقيه، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه والهجرة بهم إليه، ولم ير أن أحداً يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس، فوثق بأمانته وعول على نجدته وشجاعته، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه، وعرف من ورعه وعصمته ما تسكن النفس معه إلى إئتمانه على ذلك.

فقام (علیه السلام) به أحسن القيام ورد كل وديعة إلى أهلها، وأعطى كل ذي حق حقه، وحفظ بنات نبيه (علیه السلام) وآله وحرمه، وهاجر بهم ماشياً على قدمه يحوطهم من الأعداء، ويكلؤهم من الخصماء، ويرفق بهم في المسير، حتى أوردهم عليه المدينة على أتم صيانة وحراسة، ورفق ورأفة، وحسن تدبير. فأنزله النبي (صلی الله علیه و آله) عند وروده المدينة داره، وأحله قراره، وخلطه بحرمه وأولاده، ولم يميزه من خاصة نفسه، ولا احتشمه في باطن أمره وسره».

وقال في السيرة الحلبية: 2/232: «فلما توجه (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة قام عليٌّ بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله وديعة فليأت تُؤَدَّى إليه أمانته. فلما نفد ذلك وردَ عليه كتاب

ص: 526

رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشخوص إليه، فابتاع ركائب، وقدم ومعه الفواطم ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين». و نحوه الصالحي: 3/267.

2- علي (علیه السلام) يتحدى قريشاً ويعلن عزمه على الهجرة!

قال ابن جبر في نهج الإيمان/311 وابن شهراشوب في المناقب: 1/335: «ذكر الواقدي وغيره أن علياً (علیه السلام) لما عزم على الهجرة قال له العباس: إن محمداً ما خرج إلا خِفْياً وذكر حديثاً ثم قال له: ما أرى أن تمضي إلا في خفارة خزاعة،

فقال علي (علیه السلام):

إن المنية شَرْبَةٌ مورودةٌ *** لا تجزعنَّ وشُدَّ للترحيل

إن ابن آمنة النبي محمداً *** رجل صدوقٌ قال عن جبريل

أرْخ الزمام ولاتخفْ من عائقٍ *** فالله يرديهم إلى التنكيل

إني بربي واثقٌ وبأحمد *** و سبيله متلاحقٌ بسبيلي

أقول: يدل هذا على أن إعلان علي (علیه السلام) هجرته كان بأمر النبي (صلی الله علیه و آله)! فبعد أن هاجر أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) أولاً، ثم هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) وأفلت من أظافر قريش! أراد الله تعالى أن تكون هجرة علي (علیه السلام) بأسرة النبي (صلی الله علیه و آله) آية لصدق النبوة، ورسالة قوة، فقريش لا تفهم غيرالقوة»!

3- قريش تدبر محاولة لاغتيال علي (علیه السلام) قبل هجرته

روى ابن شهر آشوب في المناقب: 1/335 عن الواقدي، وأبي الفرج النجدي، وأبي الحسن البكري، وإسحاق الطبراني: «أن علياً (علیه السلام) لما عزم على الهجرة قال له العباس..الى آخر ما تقدم. قال: فكمن له مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه فصاح عليٌّ به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه! فلما أصبح توجه نحو المدينة، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب بثمانية فوارس».

أقول: هذه أول صيحة وأول ضربة سيف من علي (علیه السلام) صلوات الله عليه.

ص: 527

4- واخترعت قريش مكيدة مالية لعلي (علیه السلام) قبل هجرته

روى في المناقب: 2/175، عن الواقدي، وإسحاق الطبري: «أن عمير بن وابل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدعي على علي (علیه السلام) ثمانين مثقالاً من الذهب وديعةً عند محمد (صلی الله علیه و آله)، وأنه هرب من مكة وأنت وكيله، فإن طلب بينة الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب، منها قلادة عشر مثاقيل لهند، فجاء وادعى على علي (علیه السلام)، فاعتبر الودايع كلها ورأى عليها أسامي أصحابها، ولم يكن لما ذكره عمير خبر، فنصح له نصحاً كثيراً فقال: إن لي من يشهد بذلك وهو أبوجهل، وعكرمة، وعقبة بن أبي معيط، وأبوسفيان، وحنظلة! فقال (علیه السلام): مكيدة تعود إلى من دبرها، ثم أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة، ثم قال لعمير: يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أي الأوقات كان؟ قال: ضحوة نهار فأخذها بيده ودفعها إلى عبده. ثم استدعى بأبي جهل وسأله عن ذلك قال: ما يلزمني ذلك.

ثم استدعى بأبي سفيان وسأله فقال: دفعها عند غروب الشمس، وأخذها من يده وتركها في كمه! ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك فقال: كان عند وقت وقوف الشمس في كبد السماء، وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه!

ثم استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال: تسلمها بيده وأنفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر! ثم استدعى بعكرمة، وسأله عن ذلك فقال: كان بزوغ الشمس أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة!

ثم أقبل على عمير وقال له: أراك قد اصفر لونك وتغيرت أحوالك! قال: أقول الحق ولا يفلح غادر، وبيت الله ما كان لي عند محمد وديعة، وإنهما حملاني على ذلك، وهذه دنانيرهم وعقد هند عليه إسمها مكتوب!

ثم قال علي: إيتوني بالسيف الذي في زاوية الدار فأخذه وقال: أتعرفون هذا السيف؟ فقالوا: هذا لحنظلة. فقال أبوسفيان: هذا مسروق. فقال (علیه السلام): إن كنت صادقاً في قولك فما فعل عبدك مهلع الأسود؟ قال: مضى إلى الطائف في حاجة لنا! فقال:

ص: 528

هيهات أن يعود تراه، ابعث إليه أحضره إن كنت صادقاً! فسكت أبوسفيان. ثم قام (علیه السلام) في عشرة عبيد لسادات قريش فنبشوا بقعة عرفها، فإذا فيها العبد مهلع قتيل، فأمرهم بإخراجه فأخرجوه وحملوه إلى الكعبة، فسأله الناس عن سبب قتله فقال: إن أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثَّاه على قتلي، فكمن لي في الطريق ووثب عليَّ ليقتلني، فضربت رأسه وأخذت سيفه!

فلما بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية بعمير! فقال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله

وأن محمداً رسول الله (صلی الله علیه و آله)»!

5- انتظر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في قباء وكتب اليه وطمأنه

في أمالي الطوسي/469: «قال أبيٌّ وابن أبي رافع: ثم كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التَّلوُّم «التأخر» وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي، فلما أتاه كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) تهيأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى. وخرج علي (علیه السلام) بفاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله، وأبو واقد مولى رسول رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم فقال علي: إرفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف. قال: إني أخاف أن يدركنا الطلب! فقال علي (علیه السلام): إربع عليك فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي: «في رسالته» يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه، ثم جعل يعني علياً (علیه السلام) يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:

ليس إلا الله فارفع ظَنَّكا *** يكفيك ربُّ الناس ما أهمَّكا».

6- علي (علیه السلام) يدوس غطرسة قريش

في أمالي الطوسي/470: «وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحاً، فأقبل علي (علیه السلام) على أيمن وأبي واقد، وقد تراءى القوم فقال لهما: أنيخا الإبل

ص: 529

واعقلاها، وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم (علیه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: أظننت أنك يا غُدَر ناجٍ بالنسوة، إرجع لا أباً لك! قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك!

ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (علیه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (علیه السلام) عن ضربته، وتختله علي فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه، فكان (علیه السلام) يشد على قدمه شد الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:

خلوا سبيل الجاهد المجاهدِ *** آليت لا أعبدُ غير الواحدِ

فتصدع عنه القوم وقالوا له: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب. قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيثرب فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني. ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما».

والكاثبة: مجتمع الكتف! وهذه ثاني ضربة سيف لعلي، صلوات الله عليه.

7- فاطمة بنت أسد أول مسلمة هاجرت مشياً

اختارت فاطمة بنت أسد3أن تهاجر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ماشية على قدميها، تحتسب ذلك عند الله تعالى، ففي الكافي: 1/453 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين (علیهما السلام) كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبر الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وروى عن داود الرقي قال: دخلت على أبي عبدالله (علیه السلام) ولي على رجل مالٌ قد خفتُ تَوَاهُ «ذهابه» فشكوت إليه ذلك فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبدالمطلب طوافاً وصل ركعتين عنه، وطف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن عبدالله طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين، ثم ادع أن يرد عليك مالك. قال: ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني، تعال إقبض مالك».

ص: 530

8- ونزلت آيات القرآن تصف علياً (علیه السلام) والفواطم في طريق الهجرة

في أمالي الطوسي/471: «ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فتلوَّمَ بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فظل ليلته تلك هو والفواطم، أمه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفاطمة بنت الزبير، طوراً يصلون، وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى (علیه السلام) بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل، لا يفتر عن ذكر الله، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه، حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. آل عمران: 190-195.

الذَّكَر علي (علیه السلام) والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن، وهن فاطمة بنت رسول الله وفاطمة بنت أسد وفاطمة بنت الزبير. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: يقول: علي من فاطمة أو قال: الفواطم، وهن من علي (علیه السلام) وتلا (صلی الله علیه و آله): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، وقال: يا علي، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان، ولايبغضك إلا منافق أو كافر».

ص: 531

9- بخلت السلطة برواية هجرة أميرالمؤمنين (علیه السلام)

كأن السلطة أمرت الرواة أن يخفوا مناقب علي (علیه السلام) في هجرته، وما جرى له في مكة، ولا يذكروا لحاق فرسان قريش به وقتله فارسهم جناح، ولا نزول الآيات في عبادته ووالدته وفاطمة: ورفقائهم في طريق الهجرة، ولا أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في مدحه! فذلك يرفع من قدره، وهم يريدون انتقاص قدره!

قال ابن هشام: 2/335: «قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبوبكر الصديق وآل أبي بكر. أما علي فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته».

وقال في: 2/342: «وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الودائع التي كانت عنده الناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن هَدم».

وقال في السيرة الحلبية: 2/233: «كان يسير الليل ويكمن النهار، حتى تفطرت قدماه، فاعتنقه النبي (صلی الله علیه و آله) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرَّهما على قدميه، فلم يشكهما بعد ذلك! ولا مانع من وقوع ذلك من علي مع وجود ما يركبه، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشياً، رغبة في عظيم الأجر».

أقول: كان يسير في الليل بسبب الحر وليس الخوف.

وروى ابن سعد: 3/22: «عن أبي رافع عن علي قال: لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة في الهجرة، أمرني أن أقيم بعده حتى أؤدي ودائع كانت عنده للناس، ولذا كان يسمى الأمين، فأقمت ثلاثاً فكنت أظهر ما تغيبت يوماً واحداً، ثم خرجت فجعلت أتبع طريق رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى قدمت بني عمرو بن عوف ورسول الله مقيم فنزلت على كلثوم بن الهدم وهنالك منزل رسول الله.. قدم علي للنصف من شهر ربيع الأول ورسول الله بقباء لم يُرِمْ»يذهب«بعد». تاريخ دمشق: 42/69.

ص: 532

وكثرت مكذوبات الحكومة في هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته، وزعموا أن علياً (علیه السلام) لم يؤد أماناته ولم يهاجر بأسرته (صلی الله علیه و آله)! وأن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث شخصين أتيا بهن!

قال في الطبقات: 1/237: «بعث رسول الله من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وسودة بنت زمعة»!

والصحيح أنهما كانتامع زوجيهما، وأن سودة لم تكن زوجة النبي في مكة!

10- سرقوا مناقب علي (علیه السلام) وأعطوها لعمر!

فقد هاجر عمر قبل النبي (صلی الله علیه و آله) بشهور أو سنة، سراً خوفاً من قريش، وواعد هشام بن العاص عند إضاة بني غفار في المدينة، ولم يواعده في أطراف مكة ولا في الطريق!

التنبيه للمسعودي/200، الدرر/77، الإمتاع: 9/188، السيرة الحلبية: 2/183 وغيرها.

بل روى الذهبي في تاريخه: 1/313، بسند صحيح عندهم: «فلما اشتدوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رَسْلاً رسلاً..».

وعدَّ في الذين هاجروا عمر وجماعة، وكان ذلك قبل شهور أو سنة من هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)! ومع ذلك سرقوا هجرة علي (علیه السلام) وأعطوها لعمر وجعلوا روايتها على لسان علي (علیه السلام)! فقال كما زعموا: «ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب»! أسد الغابة 4/58.

قال في الصحيح من السيرة: 4/195: «ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة.لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً حتى جاءه العاص بن وائل فأجاره فخرج حينئذٍ». ثم عدد صاحب الصحيح فراره في الحروب وما عرف به من الجبن.

أقول: وقد وثق في مجمع الزوائد: 6/61 حديث عمر عن نفسه، بأنه تواعد مع اثنين عند مشارف المدينة، فحبس أحدهما ونجا الآخر! وقال البخاري: 2/264

ص: 533

إن عمر هاجر في عشرين، ولم يسمِّ أحداً منهم! ولا وصف هجرته كيف كانت!

ومع ذلك يدهشك ابن الجوزي في كتابه: المدهش/224: «هاتوا لنا مثل عمر كل الصحابة هاجروا سراً وعمر هاجر جهراً، وقال للمشركين قبل خروجه: ها أنا على عزم الهجرة، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي»!

لكن كيف نصدق كلام ونحن لا نراه حضر في خطر تعرض له النبي (صلی الله علیه و آله)! ولا نجد له دوراً في نزول النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء، ولا في بناء المسجد النبوي.

ثم نقرأ أنه نزل في المدينة قرب اليهود خارج المدينة، وكان يحضر دروسهم، قال كما في البخاري: 1/31: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك».

وبنو أمية بن زيد جيران ملاصقون ليهود بني قريظة، وبني زريق. تاريخ المدينة:1/170، ابن إسحاق: 3/299 وابن هشام: 2/569.

وبنو زريق هم الذين كتبوا لعمر التوراة ليتبناها النبي (صلی الله علیه و آله): «جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من

بني زريق، فتغير وجه رسول الله»! مجمع الزوائد: 1/174 ووثقه.

ص: 534

الفصل التاسع والعشرون: أبو أيوب الأنصاري اختاره الله لضيافة رسوله (صلی الله علیه و آله)

أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد

1. جاء في ترجمته في الأصابة: 2/199: «خالد بن زيد بن كليب. أبوأيوب الأنصاري معروف باسمه وكنيته. شهد العقبة وبدراً وما بعدها، ونزل عليه النبي (صلی الله علیه و آله) لما قدم المدينة، فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده.

وآخى بينه وبين مصعب بن عمير، وشهد الفتوح وداوم الغزو، واستخلفه علي على المدينة لما خرج إلى العراق ثم لحق به بعد، وشهد معه قتال الخوارج.

عن أبي رهم أن أباأيوب حدثهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل في بيته، وكنت في الغرفة فهريق ماء في الغرفة فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتتبع الماء شفقاً أن يخلص إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنزلت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا مشفق، فسألته فانتقل إلى الغرفة قلت يا رسول الله كنت ترسل إلي بالطعام، فأنظر فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك حتى كان هذا الطعام! قال أجل إن فيه بصلاً فكرهت أن آكل من أجل الملك، وأما أنتم فكلوا.

شهد أبوأيوب بدراً ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى.ولزم أبوأيوب الجهاد بعد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة خمسين وقيل إحدى وقيل اثنتين وخمسين وهو أكثر». وهو من رجال الصحاح الستة.

2. و جاء في ترجمته في مصادرنا الكشي: 1/165: «روى الحارث بن حصيرة الأزدي، عن

ص: 535

أبي صادق، عن محمد بن سليمان قال: قدم علينا أبوأيوب الأنصاري فنزل ضيعتنا يعلف خيلاً له، فأتيناه فأهدينا له، قال: قعدنا عنده فقلنا: يا أباأيوب قاتلت المشركين بسيفك هذا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم جئت تقاتل المسلمين؟ فقال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) أمرني بقتال القاسطين والمارقين والناكثين، فقد قاتلت الناكثين وقاتلت القاسطين، وإنا نقاتل إن شاء الله بالمسعفات بالطرقات بالنهروانات، وما أدري أنى هي؟

وسئل الفضل بن شاذان عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وقتاله مع معاوية المشركين؟فقال: كان ذلك منه قلة فقه وغفلة، ظنَّ أنه إنما يعمل عملاً لنفسه يقوي به الإسلام ويوهي به الشرك وليس عليه من معاوية شئ كان معه أولم يكن.

وسئل عن ابن مسعود وحذيفة؟ فقال: لم يكن حذيفة مثل ابن مسعود،لأن حذيفة كان ركناً، وابن مسعود خلط ووالى القوم ومال معهم وقال بهم.

وقال أيضاً: إن من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) أبو الهيثم بن التيهان وأبوأيوب وخزيمة بن ثابت وجابر بن عبدالله وزيد بن أرقم وأبو سعيد الخدري وسهل بن حنيف والبراء بن مالك وعثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت، ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة وعدي بن حاتم وعمرو بن الحمق وعمران بن الحصين وبريدة الأسلمي وبشر كثير».

وقال السيد الخوئي: 22/38: «اعتراض الفضل على أبي أيوب الأنصاري في غير محله، وتقدم في البراء بن مالك عد الفضل أباأيوب من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) . قال المفيد: هو صاحب منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وله كلام يدعو به الناس إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) ولزوم إطاعته.

وتقدم في ترجمة جندب بن جنادة أبيذر الغفاري، عدُّ أبي أيوب الأنصاري من الإثني عشر الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيروا ولم يبدلوا».

أقول: أبوأيوب ذو مكانة جليلة، فهو من نقباء بيعة العقبة، وقد نال شرف نزول رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيته لما هاجر، وبقي عنده مدة حتى كمل بناء بيته ومسجده.

وشهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بدراً وأحداً والخندق ومشاهده كلها. وشهد مع

ص: 536

علي (علیه السلام) مشاهده كلها، وكان والياً له على المدينة، وقائداً في جيشه.

وتدل أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) في حقه على إيمانه وجلالته، فقد يكون النبي (صلی الله علیه و آله) أمره بالجهاد حتى مع معاوية بعد علي (علیه السلام)، وأخبره أنه سيدفن عند سور القسطنطينية، ولذلك كان حريصاً على ذلك وأوصى به رغم أن معسكره كان بعيداً عن القسطنطينية.

3. ورد في صفاته «قرب الاسناد/45» أن علياً (علیه السلام) سأله: «يا با أيوب، ما بلغ من كرم أخلاقك؟ قال: لا أؤذي جاراً فمن دونه، ولا أمنعه معروفاً أقدر عليه. قال: ثم قال: ما من ذنب إلا وله توبة، وما من تائب إلا وقد تسلم له توبته، ما خلا السيئ الخلق، لا يكاد يتوب من ذنب إلا وقع في غيره أشر منه».

و روي عنه: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر».مجمع الزوائد: 1/278.

وهذا يدل على أنهم كانوا في الجاهلية يدخلون الحمام عراة، فعلمهم الإسلام الحياء.

وفي المناقب: 1/114: «عن سلمان أنه (صلی الله علیه و آله) لما نزل دار أبي أيوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير فذبح له الجدي وشواه وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدم بين يدي النبي (صلی الله علیه و آله) فأمر بأن ينادى: ألا من أراد الزاد فليأت دار أبي أيوب، فجعل أبوأيوب ينادي والناس يهرعون كالسيل حتى امتلأت الدار فأكل الناس بأجمعهم والطعام لم يتغير، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إجمعوا العظام، فجمعوها فوضعها في إهابها ثم قال: قومي بإذن الله تعالى فقام الجدي! فضج الناس بالشهادتين».

4. وكان أبوأيوب يصدع بإمامة أهل البیت (علیهم السلام)، ففي الخصال/412: «عن أبي أيوب الأنصاري قال: إن رسول الله مرض مرضة فأتته فاطمة (علیها السلام) تعوده وهو ناقهٌ من مرضه، فلما رأت ما برسول الله (صلی الله علیه و آله) من الجهد والضعف خنقتها العبرة حتى جرت دمعتها على خدها، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لها: يا فاطمة إن الله جل ذكره اطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك واطلع ثانية فاختار منها بعلك،

ص: 537

فأوحى إلي فأنكحتكه، أما علمت يا فاطمة أن لكرامة الله إياك زوجك أقدمهم سلما وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً. قال: فسرت بذلك فاطمة واستبشرت بما قال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأراد رسول الله أن يزيدها مزيد الخير كله من الذي قسمه الله له ولمحمد وآل محمد، فقال (صلی الله علیه و آله): يا فاطمة لعلي ثمان خصال: إيمانه بالله وبرسوله، وعلمه وحكمته، وزوجته، وسبطاه حسن وحسين، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقضاؤه بكتاب الله.يا فاطمة إنا أهل بيت أعطينا سبع خصال لم يعطها أحد من الأولين قبلنا ولا يدركها أحد من الآخرين بعدنا: نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة عم أبيك، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة وهو جعفر، ومنا سبطا هذه الأمة، وهما ابناك». وفي رواية كفاية الأثر/113: «ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين، ومنا مهدي هذه الأمة».

5. وكان من الإثني عشر الذين وقفوا ضد السقيفة وخطبوا: ففي الإحتجاج: 1/97 والخصال/461 عن أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: نعم، كان الذي أنكر على أبي بكر اثني عشر رجلاً. من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وبريدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبي بن كعب، وأبوأيوب الأنصاري.. وغيرهم. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) .وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقال الله عزوجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره. فأتوا علياً (علیه السلام) فقالوا: يا أميرالمؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الحق حقك، وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.فقال لهم علي (علیه السلام): لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم،ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح

ص: 538

في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها، والكاذبة على ربها! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت، لما تعلمون من وَغَر صدور القوم وبغضهم لله عزوجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) وأنهم يطالبون بثارات الجاهلية! والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال، كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني، وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي! وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي إنِ القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر! ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة، فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي! كذلك أخبرني جبرئيل عن ربي تبارك وتعالى! ولكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم (صلی الله علیه و آله) ولا تجعلوه في الشبهة من أمره، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه (صلی الله علیه و آله) وخالف أمره! قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم جمعة فقالوا للمهاجرين: إن الله عزوجل بدأ بكم في القرآن فقال: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فبكم بدأ. وكان أول من بدأ وقام، خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية فقال: يا أبابكر إتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..الى آخر كلامه ومشادته مع عمر بن الخطاب.

ثم قام أبوأيوب الأنصاري فقال: إتقوا الله في أهل بيت نبيكم، وردوا هذا الأمر إليهم، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام، من نبي الله (صلی الله علیه و آله)، أنهم أولى به منكم. ثم جلس.

6. أعلن أبوأيوب حديث الغدير، فقد «جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا، قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟قالوا: سمعنا رسول الله يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فإن هذا مولاه. قال رياح فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبوأيوب الأنصاري».مسند أحمد: 5/419، وثقه في الزوائد: 9/103 والرياض النضرة: 3/126.

ص: 539

7. وعندما ناشد علي (علیه السلام) الصحابة على وصية النبي (صلی الله علیه و آله) قام أبوأيوب وشهد له. ففي أسد الغابة لابن الاثير: 3/307: «نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي (صلی الله علیه و آله) يوم غدير خم قال ما قال إلا قام؟ ولا يقوم إلا من سمع رسول الله يقول، فقام بضعة عشر رجلاً فيهم أبوأيوب الأنصاري، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن، وأبو زينب بن عوف الأنصاري، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبدالله بن ثابت الأنصاري، وحبشي بن جنادة الصلولي، وعبيد بن عازب الأنصاري، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وثابت بن وديعة الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبدالرحمن بن عبد رب الأنصاري، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: ألا من كنت مولا فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه، وأعن من أعانه».

8.واجه أبوأيوب (رحمة الله) مروان بن الحكم في خلافة عثمان، فسكت مروان ولم يتجرأ عليه روى الحاكم: 4/515: «عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر،فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم. فأقبل عليه فإذا هو أبوأيوب الأنصاري رضيالله عنه فقال: جئت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم آت الحجر. سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا عليه إذا وليه غير أهله».

أي اعترض عليه مروان لأنه أكب على القبر الشريف، لأن السلطة حَرَّمت ذلك!

فقال له أبوأيوب: يامروان أنا أزور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأكلمه، ولا أعبدالحجر كما تزعمون، وأنتم الذين وليتم الأمة بدون حق وغيَّرتم الدين، وأنتم الذين قال فيكم النبي (صلی الله علیه و آله): إبكوا على الدين إذا وليه غير أهله! فسكت مروان!

9. وكان أبوأيوب فارساً قائداً شجاعاً، ففي المناقب: 2/355: «وبرز أبوأيوب الأنصاري فنكلوا عنه، فحاذى معاوية حتى دخل فسطاطه». ومعناه أنهم خافوا من مبارزته، أو خافوا أن يفتضحوا إن قتلوه.

ص: 540

وكان في معركة النهروان قائد ميمنة جيش علي (علیه السلام)، وتقدم نحو معسكرهم ورفع لهم راية الأمان.شرح النهج لابن ميثم البحراني: 2/153.

وفي المناقب: 2/374، «أن علياً (علیه السلام) عقد للحسين (علیه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف».

وفي الطبري: 4/64 أن علياً (علیه السلام) جعل على الخيل أباأيوب الأنصاري، ورفع معه راية أمان «فناداهم أبوأيوب: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يَقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم. فقال فروة بن نوفل الأشجعي والله ما أدري على أي شئ نقاتل علياً،لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه، وانصرف في خمس مائة فارس

حتى نزل البندنيجين والدسكرة،وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة وكانوا أربعة آلاف فكان الذين بقوا مع عبدالله بن وهب منهم ألفين وثمان مائة وزحفوا إلى علي، وقدم على الخيل دون الرجال وصف الناس وراء الخيل صفين وصف المرامية أمام الصف الأول وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤوكم».وفيه: وشد أبوأيوب على زيد بن حصين من قادتهم فقتله، وشد أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير رئيسهم فقتله.

وفي المناقب: 2/370: «وجرت بينهم مخاطبات فجعل بعضهم يرجع، فأعطى أميرالمؤمنين (علیه السلام) راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبوأيوب: من جاء إلى هذه الراية، أو خرج من بين الجماعة فهو آمن. فرجع منهم ثمانية آلاف رجل، فأمرهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) أن يتميزوا منهم، وأقام الباقون على الخلاف وقصدوا إلى النهروان».

10.أعلن أبوأيوب أن حب علي (علیه السلام) ميزان وأن النبي (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ له أن يقاتل أعداءه: ففي علل الشرائع: 1/145: «قال أبوأيوب الأنصاري: أعرضوا حب علي على أولادكم، فمن أحبه فهو منكم، ومن لم يحبه فاسألوا أمه من أين جاءت به،

ص: 541

فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي بن أبي طالب: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق، أو ولد زنية، أو حملته أمه وهي طامث».

وفي كبير الطبراني: 4/172: «عن محنف بن سليم قال: أتينا أباأيوب الأنصاري وهو يعلف خيلاً له بضيعتنا فقِلْنا عنده، فقلت له: أباأيوب قاتلت المشركين مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم جئت تقاتل المسلمين؟ قال: إن رسول الله أمرني بقتال ثلاثة الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلت الناكثين، وقاتلت القاسطين، وأنا مقاتل إن شاء الله المارقين، بالشعفات بالطرقات بالنهراوات وما أدري ماهم».

ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: 13/188 وابن عساكر في تاريخ دمشق: 42/472 بسند صحيح عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا: «أتينا أباأيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين فقلنا له: يا أباأيوب إن الله أكرمك بنزول محمد (صلی الله علیه و آله) وبمجئ ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله! فقال: يا هذان إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرنا بقتال ثلاثة مع علي: بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين. فأما الناكثون فقد قاتلناهم: أهل الجمل طلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم، معاوية وعمراً، وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات، والله ما أدري أين هم، ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله.

قال: وسمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره،فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه، قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه، قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار! قلنا: يا هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله»!

وروى قول عمار رضيالله عنه: «سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) يقول: يا علي ستقاتلك الفئة الباغية، وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني»!

ص: 542

11.كان والي المدينة، لكنه لم يقاوم غارة بُسْر بن أرطاة! فقد أرسل معاوية بسر بن أبي أرطاة ليغير على المدينة، فخاف منه الناس لشدة فتكه، فنكَّل بهم، وكان أبوأيوب والي المدينة فهرب منها!قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: 2/9: «فدخلوها، وعامل علي عليها أبوأيوب الأنصاري، صاحب منزل رسول الله فخرج عنها هارباً ودخل بُسْر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم، ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن كانت للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين! ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد، بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبدالأشهل، أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة. فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حويطب بن عبدالعزى ويقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله، وليسوا بقتلة عثمان، فلم يزل به حتى سكن، ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه. ونزل فأحرق دوراً كثيره، منها دار زرارة بن حرون، أحد بني عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الزرقي، ودار لابن أبي أيوب الأنصاري، وتفقد جابر بن عبدالله، فقال: ما لي لا أرى جابراً! يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي،أو تأتوني بجابر! فعاذ جابر بأم سلمة رضيالله عنها فأرسلت إلى بسر بن أرطاة، فقال: لا أؤمنه حتى يبايع فقالت له أم سلمة: إذهب فبايع، وقالت لابنها عمر إذهب فبايع، فذهبا فبايعاه. قال إبراهيم: وروى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن

ص: 543

عبدالله الأنصاري يقول: لما خفت بسراً وتواريت عنه قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر، فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك، فإنك إن لم تفعل قتلتَ مقاتلينا، وسبيتَ ذرارينا! فاستنظرتهم الليل، فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر فقالت: يا بنيَّ انطلق فبايع، احقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة».

أقول: كانت غارة ابن أرطاة على المدينة ومكة واليمن، أکثر غارات معاوية فتكاً وتخريباً ونهباً وحرقاً وتقتيلاً، فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً!

قال ابن عبدالبر في الإستيعاب: 1/161: «ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات، فأُقِمْنَ في السوق»!

أي باعوهن! وكان من الطبيعي لأبي أيوب رضيالله عنه أن يقاومه، لكن يظهر أن أهل المدينة كانوا في حالة شديدة من الضعف والانهيار، ولعل أباأيوب كان مريضاً، وإلا فهو قائد عسكري ومن شجعان الأنصار رضيالله عنه.

12.ساءت علاقة أبي أيوب مع معاوية لكنه لم يترك الجهاد: «غزا أرض الروم فمر على معاوية فجفاه، فانطلق ثم رجع من غزوته فجفاه، ولم يرفع له رأساً فقال: أنبأني رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنا سنرى بعده أثرةً.قال معاوية: فبمَ أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر. قال: إصبروا إذاً»! مجمع الزوائد: 9/323 وصححه.

وفي رواية الحاكم: 3/459: «قال وما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال: فاصبروا. قال: فغضب أبوأيوب وحلف أن لا يكلمه أبداً».

13. حرص أبوأيوب رضيالله عنه على أن يُدفن عند سور القسطنطينية. ففي المناقب: 1/122: «حكى القعبي أن أباأيوب الأنصاري رؤي عند خليج قسطنطينة فسئل عن حاجته قال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن إن مت فقدموني ما استطعتم في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله يقول: يدفن عند سور القسطنطينة

ص: 544

رجل صالح من أصحابي، وقد رجوت أن أكونه».

وزعم رواة السلطة أنه كان مع يزيد بن معاوية في تلك الغزوة فتوفي، والصحيح أنه كان في معسكر الفرقدونه وهو بعيد عن القسطنطينية، وكان الجيش ينتظر مجيئ يزيد ليقوده إلى القسطنطينية لكنه لم يأت وبقي مشغولاً بخمره في دير مران قرب دمشق، حتى وقع المرض والوباء في الجيش ومات قسم منهم، فأوصاهم أبوأيوب (رحمة الله) إن مات أن ينقلوا جنازته ويدفنوه عند سور القسطنطينية، ليكون الذي وعده رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك، فحملوا جنازته مسافة يومين.

وفي رواية الحاكم: 3/457: «إذا أنا متُّ فاركب ثم اسع في أرض العدو ما وجدت مساغاً، فإذا لم تجد مساغاً فادفني ثم ارجع». ونحوه الإستيعاب: 4/1607.

وفي النهاية: 8 / 59: «ولينطلقوا فيبعدوا بي في أرض الروم ما استطاعوا». ونحوه تاريخ دمشق:16 / 59 والإصابة: 2 / 200 وغريب الحديث: 2 / 713 وأسد الغابة: 2 / 82 وسير الذهبي: 2 / 404، الطبقات: 3 / 485، في رواية أخرى: ولينطلقوا بي فليبعدوا ما استطاعوا... فانطلقوا بجنازته ما استطاعوا. وفي الروض الأنف 4/94: فركب المسلمون به حتى إذا لم يجدوا مساغاً دفنوه.

وقد نص البلاذري وهو مؤرخ ثبت على أن يزيداً لم يذهب حتى إلى معسكر الفرقدونة، الذي كان ينتظره، حتى وقع فيه المرض!

قال البلاذري في أنساب الأشراف/1149: «وأمر يزيد بالغزو فتثاقل واعتلَّ، فأمسك عنه»!وأرسل له معاوية أرسل مرات أن يتحرك فلم يفعل، وقال:

إذا اتكأتُ على الأنماط مرتفقاً *** بدير مُرَّانَ عندي أم كلثوم

فما أبالي بما لاقت جموعهم *** بالغذقذونة من حمى ومن مُومِ

وفي تاريخ دمشق: 65/406: «فكبر ذلك على معاوية فاطلع يوماً على ابنه يزيد وهو يشرب وعنده قينة تغنيه.الأبيات المتقدمة، فقال معاوية: أقسم عليك يا يزيد لترتحلن حتى تنزل مع القوم وإلا خلعتك»، فتهيأ يزيد للرحيل وكتب إلى أبيه:

تجنى لا تزال تعد ديناً *** ليقطع وصل حبلك من حبالي

فيوشك أن يريحك من بلائي *** نزولي في المهالك وارتحالي

ص: 545

وفي الأغاني: 17/211: «فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين، وكان ابنه يزيد مصطبحاً بدير مران مع زوجته أم كلثوم، فبلغه خبرهم فقال...البيتين.

والموم أو البرسام: التهاب رئوي يسمى ذات الجنب، وفسره بعضهم بالجدري.

لسان العرب: 12 / 46 والعين: 8 /422.

أنظر كيف فصلوا هذا الحديث على مقاس معاوية وابنه يزيد!

قال بخاري في صحيحه: 3/232: «فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي (صلی الله علیه و آله) يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم! فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا».

وقصدها أن معاوية أول من غزا في البحر لفتح قبرص فقد أوْجَبَ، أي استحق الجنة! وبنت ملحان هي أم أنس، وكانت زوجة عبادة بن الصامت (رحمة الله) وكان قائداً في جيش قبرص، وماتت بنت ملحان هناك.

قال في فتح الباري: 6/74: «قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية، لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد، لأنه أول من غزا مدينة قيصر».

وقد عدها ابن تيمية منقبة ليزيد، وكررها في كتبه! كما في منهاجه: 4/544 و571 وقال في مجموع الفتاوى: 3/413 «فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة». ونحوه في: 4/486 و 18/352 وغيرها.

والصحيح أنهم كذبوا في الغزوتين، وفي جعلهما منقبة! وقد أوضحنا ذلك في المجلد الثاني الخاص بمعاوية من جواهر التاريخ.

وادعت رواية أن يزيداً وصل إلى استانبول: «ضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده فهشمه حتى انخرق، فضرب عليه لوح من ذهب،فهو عليه إلى اليوم»! لكن لم تذكر الرواية لماذا لم يدخل الجنود من مكان ضربة يزيد التي خرقت باب السور، وأن جنود الروم ماتوا من عزم الضربة!

ص: 546

الفصل الثلاثون: النبی (صلی الله علیه و آله) يؤسس مسجد قباء

1- مسجد قباء: أول مسجد أسس على التقوى

قال الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.

وفي التهذيب: 6/17 قال الإمام الصادق (علیه السلام): لاتدع إتيان المشاهد كلها: مسجد قُبا فإنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، ومشربة أم إبراهيم، ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء، ومسجد الأحزاب، وهو مسجد الفتح».

وقال (علیه السلام) كما في جواهر الكلام: 20/108: «هل أتيتم مسجد قُبا أو مسجد الفضيخ أو مشربة أم إبراهيم؟ فقلت: نعم، فقال: إنه لم يبق من آثار رسول الله (صلی الله علیه و آله) شئ إلا وقد غُيِّر غير هذا. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من أتى مسجد قبا فصلى فيه ركعتين رجع بعمرة. إبدأ بقبا فصل فيه وأكثر فيه، فإنه أول مسجد صلى فيه رسول الله في هذه العرصة». راجع: العياشي: 2/111، كامل الزيارات/64 و66 والفقيه: 1/229.

ويظهر أن لروح النبي (صلی الله علیه و آله) ارتباطاً بمسجد قباء، فقد روي أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) احتج على أبي بكر بعد السقيفة وقال له: هل تتوب إن رأيت النبي (صلی الله علیه و آله) وأمرك برد الحق إلى صاحبه؟ قال نعم، فأخذه إلى مسجد قباء ورأى النبي (صلی الله علیه و آله) جالساً في محرابه، وأمره برد الحق إلى صاحبه!

بصائر الدرجات/297 والإختصاص/272.

ص: 547

2- مسجد الضرار خطة رومية ضد النبي (صلی الله علیه و آله)!

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وقد أسس مسجد الضرار جماعة أبي عامر الراهب، الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله)

أبا عامر الفاسق، وبنوْهُ في السنة التاسعة للهجرة ليكون مقراً لهم، فكشفهم الله تعالى وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يهدمه فهدمه، وجعله المسلمون موضع كناسة!

وقد رأيت موضعه قبل نحو أربعين سنة، إلى يسار الداخل إلى مسجد قباء، وكان محل قمامة، لكن الوهابيين أزالوه.

وفي تفسيرالقمي: 1/305: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا، فإنه كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم، للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني؟فأذن لهم رسول الله وهو على الخروج إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه؟ قال (صلی الله علیه و آله): أنا على جناح سفر فإذا وافيت إن شاء الله أتيته فصليت فيه، فلما أقبل رسول الله من تبوك نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الراهب: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، يعني أبا عامر الراهب كان يأتيهم في ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ: يعني مسجد قبا، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. قال كانوا يتطهرون بالماء. وقوله: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

فبعث رسول الله مالك بن الدخشم الخزاعي، وعامر بن عدي على أن يهدموه ويحرقوه، فجاء مالك فقال لعامر: إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي، فدخل فجاء

ص: 548

بنار وأشعل في سعف النخل، ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية، ثم أمر بهدم حائطه».

وقال ابن هشام: 4/956: «كان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، أحد بنى عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب، من بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد. وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر وابناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية. ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة. وبحزج من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو من بني أمية بن زيد».

3- أبو عامر الراهب الفاسق مندوب هرقل

في أعيان الشيعة: 1/284: «وقوله تعالى: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ: يراد به أبو عامر الراهب، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح «ثياب الشعر» فلما قدم النبي (صلی الله علیه و آله) المدينة حزَّب عليه الأحزاب، ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصر، وسماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبا عامر الفاسق».

وفي الصحيح من السيرة: 4/130: «عن سعيد بن المسيب.. أبو عامر النعمان بن صيفي الراهب، الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله): الفاسق، كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فقدم المدينة فقال للنبي (صلی الله علیه و آله): ما هذا الذي جئت به؟

قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها فقال (صلی الله علیه و آله): لست عليها لكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): نعم أمات الله الكاذب منا كذلك!

وإنما قال هذا يعرض برسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث خرج من مكة.

فلما كان يوم أحُد قال أبو عامر لرسول الله: إن أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك

ص: 549

معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم، وكتب إلى المنافقين: إستعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمداً من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيداً. وفيه نزل: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ». وبحار الأنوار: 22/36، تفسير الثعلبي: 5/92 وأسباب النزول للواحدي/175.

وفي شرح النهج: 14/219: «كان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من الأوس حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي (صلی الله علیه و آله) يحرضها ويعلمها أنها على الحق وما جاء به محمد باطل! فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان».

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) /488: «قال موسى بن جعفر (علیه السلام): وعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) غانماً ظافراً «من تبوك» وأبطل الله تعالى كيد المنافقين،أمر رسول الله بإحراق مسجد الضرار، وأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا.. الآيات. ثم ذكرأن أبا عامر الراهب كان عجل هذه الأمة كعجل قوم موسى، وأنه دمر الله عليه وأصابه بقولنج وبرص وجذام وفالج ولقوة، وبقي أربعين صباحاً في أشد عذاب، ثم صار إلى عذاب الله تعالى». راجع في قصة أبي عامر الراهب: البحار: 21/252، شرح النهج: 14/219 و244، ابن هشام: 2/423و 4/956، نظرية عدالة الصحابة/45، وقصص الأنبياء للراوندي/350، تفسير الطبري: 11/38 والإستيعاب: 1/381.

وجماعته على مبنى المخالفين لمذهب أهل البیت (علیهم السلام): صحابة عدول!

4- حنظلة بن أبي عامر الفاسق وابنه عبدالله!

جاء أبو عامر الفاسق مع قريش إلى حرب أحُد مع النبي (صلی الله علیه و آله) وشارك فيها، وحفر في مواجهة المسلمين حفائر وغطاها، ليقع المسلمون فيها، فوقع النبي (صلی الله علیه و آله) في إحداها!

وكان له ولد إسمه حنظلة أسلم، أسرع إلى أحُد وترك عروسه وقاتل مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وقصد أبا سفيان وكاد أن يقتله فتكاثر عليه المشركون وقتلوه (رحمة الله)، فسبحان من يخرج الحي من الميت، وسيأتي خبره في معركة أحُد.

ص: 550

قال الصدوق في من لايحضره الفقيه: 1/159: «استشهد حنظلة بن أبي عامر الراهب بأحُد فلم يأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بغسله وقال: رأيت الملائكة بين السماء والأرض تغسل حنظلة بماء المزن في صحاف من فضة، وكان يسمى غسيل الملائكة».

وكان لحنظلة ولد إسمه عبدالله كان رئيس الأنصار في زمنه، وأوفدوه إلى الشام ليتعرف على حقيقة يزيد بن معاوية وما شاع من فسقه وتهتكه: «فقدموا على يزيد وهو بحَوَّارين فنزلوا على الوليد بن عتبة، فأقاموا عشرة أيام لم يصلوا إلى يزيد! وانتقل يزيد من حوارين منتزهاً، وشَخَصَ الوفد معه، فأذن لهم يوم جمعة. واعتذر إليهم من تركه الإذن لهم عليه وقال: لم أزل وجعاً من رجلي إن الذباب ليسقط عليها فيخيل إليَّ أن صخرة سقطت عليها. وأذن لهم في الإنصراف فرجعوا ذامين له مجمعين على خلعه»!تاريخ دمشق: 26/258 والطبري: 4/380.

قال في الطبقات: 5/66: «أجمعوا على عبدالله بن حنظلة فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال: يا قوم إتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء! إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة! والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً! فتواثب الناس يومئذ يبايعون

من كل النواحي».

وهكذا كانت ثورة أهل المدينة بعد كربلاء بسنتين، فأرسل اليهم يزيد جيشاً أمعن تقتيلاً في بقية الصحابة والتابعين، واستباح المدينة وقتل عبدالله بن حنظلة. راجع ما كتبناه عن ثورة أهل المدينة في سيرة الإمام زين العابدين (علیه السلام) .

ص: 551

الفصل الحادي والثلاثون: فريضة الهجرة وحقوق المهاجرين في الإسلام

1- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) جميع المسلمين بالهجرة

اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، وكان عدد المسلمين فيها أربعين مسلماً، ثم تكاثروا وجاء منهم في الموسم نحو سبعين وبايعوا النبي (صلی الله علیه و آله)، فأمر المسلمين بالهجرة اليهم فهاجروا، وانتظر هو حتى أمره ربه بالهجرة فهاجر. وبهذا نجحت خطة النبي (صلی الله علیه و آله) في إيجاد قاعدة تحميه من قريش، وتوفر له الجو المناسب ليبلغ رسالة ربه عزوجل، رغم أنف قريش وفعالياتها المستميتة لقتله (صلی الله علیه و آله)!

قال المسعودي في التنبيه والإشراف/200: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً فكان أولهم قدوماً أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وعامر بن ربيعة، وعبدالله بن جحش الأسدي، وعمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة».

وقال الواحدي في أسباب النزول/164: «لما أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شئ فنضيع، فيرق فيجلس معهم ويدع الهجرة، فنزل بعتابهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان.. ونزل في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا

ص: 552

وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ..».

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: 1/55: «اشتد الأذى على من بمكة من المسلمين فأذن لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الهجرة إلى المدينة، فبادروا إلى ذلك وتجهزوا إلى المدينة في خفاء وستر وتسللوا،فيقال: إنه كان بين أولهم وآخرهم أكثر من سنة، وجعلوا يترافدون بالمال والظهر ويترافقون، وكان من هاجر من قريش وحلفائهم يستودع دوره وماله رجلاً من قومه، فمنهم من حفظ من أودعه، ومنهم من باع..أول من هاجر بعد العقبة الأخيرة وخرج أول الناس أبو سلمة.. ثم هاجر عمر، ثم تلاحق المسلمون بالمدينة يخرجون من مكة أرسالاً».

2- جعل الله الهجرة ميزاناً للإيمان والحقوق

1. جعل الله الهجرة ميزاناً في تقييم المسلمين، وعلاقاتهم، وثبوت حقوقهم المدنية. وقد بدأت بالهجرة إلى الحبشة لما أمر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين المضطهدين، ثم أمر الباقين بالهجرة إلى المدينة قبل هجرته بأكثر من سنة. ثم أوجب الهجرة إلى المدينة على من يسلم، واستمرت الهجرة إلى فتح مكة فلا هجرة بعد الفتح، إلا الهجرة إلى الإمام (علیه السلام)، والى طلب العلم، والهجرة من البلاد التي ينقص فيها دينه!

2. وقد تضمنت آيات الهجرة مديحاً كبيراً للمهاجرين، بشرط أن يكونوا مخلصين، فقال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.النحل/ 41-42.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَخَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.الحج/ 58-59.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. «البقرة/ 218». وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. 100.

ص: 553

ونزلت أوائل آيات الهجرة في مدح علي والزهراء (صلی الله علیه و آله) ومن هاجر معهما كما تقدم فقال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ.. الآيات من آل عمران.

3. وتضمنت حث الأنصار والمسلمين الميسورين على مساعدة المهاجرين، وشرعت لهم حقوقاً، فقال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَليَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاتُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. النور/22.

مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. لْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَءُو الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ.الحشر/7-10.

4. وجعلها الإسلام شرطاً لوجوب الولاية والتناصر، فمن لم يهاجر لا تشرع ولايته: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَئٍْ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. الأنفال/ 72-75.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا. إِلا الَّذِينَ

ص: 554

يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَّهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً. النساء/88-90.

5. وأوجب الله الهجرة على كل المسلمين يومذاك وأسقطها عن العاجزين فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فيِمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَعَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. النساء/ 97-100.

6. والمهاجرون درجات ككل الناس، ومنهم من يذنب ثم يتوب، فيتوب الله عليه: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَالتَّوَابُ الرَّحِيمُ.

7. ومع فضل المهاجرين، فضَّل الله المجاهدين منهم ومن غيرهم على القاعدين: لايَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. النساء/ 95-96.

8. بل فضَّل الله الجهاد مع النبي (صلی الله علیه و آله) على كل مناصب الشرف التي تفخر بها قريش: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ

ص: 555

مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. التوبة/ 16-24.

9. ومع ولاية المهاجرين وأخُوَّتهم لبعضهم، أبقى الله التوارث حسب النسب، فقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.

3- القيمة الشرعية لإجماع المهاجرین والأنصار

تتكون أمة النبي (صلی الله علیه و آله) من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان،وقد أخرج منها طلقاء قريش وعتقاء ثقيف وذرياتهم إلى يوم القيامة، فقال (صلی الله علیه و آله):

«المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة».

وقد روته المصادر بأسانيد صحيحة بشرط الشيخين، كأحمد: 4/363 بروايتين، وأفتى عمر بأن رئاسة الدولة الإسلامية محرمة على الطلقاء، فقال «الطبقات 3/342» «هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ».

وَقد بَيَّنَ أهل البیت (علیهم السلام) السبب في جعل الإسلام ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار حجة شرعية وهو أن العترة النبوية الطاهرة: في هذه المجموعة فإجماعها يتضمن رأي الإمام المعصوم (علیه السلام) الذي هو حجة شرعية كالقرآن، بحكم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

ولذا احتج علي (علیه السلام) على معاوية بأنك إن لم تعترف بالنص النبوي على الخلافة، فإن المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا على بيعتي، فوجب عليك القبول!

ص: 556

قال (علیه السلام) لأبي هريرة وأبي الدرداء عندما جاءاه برسالة معاوية: «قد أبلغتماني عنه فأبلغاه عني وقولا له: إن عثمان بن عفان لايعدو أن يكون أحد رجلين، إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولانصرته، فلا يخلو من إحدى الخصلتين. والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً مظلوماً كان أو ظالماً حلال الدم أو حرام الدم، أن لايعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا يبدأوا بشئ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيأهم ويقيم حجتهم وجمعتهم ويجبي صدقاتهم، ثم يحتكمون اليه في إمامهم المقتول ظلماً ويحاكمون قتلته اليه ليحكم بينهم بالحق، فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك.

هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه. وإن كانت الخيرة إلى الله عزوجل والى رسوله (صلی الله علیه و آله)، فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والإختيار، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد رضي لهم إماماً، وأمرهم بطاعته واتباعه». كتاب سليم/291.

4- من أعمال السلطة لتحريف الهجرة ومصادرتها

أ- الهجرة في الإسلام نوعان: الأول: هجرة أمر بها النبي في عصره وانتهت بفتح مكة، ففي الكافي: 5/443، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لارضاع بعد فطام، ولاوصال في صيام، ولايُتم بعد احتلام، ولاصمت يوم إلى الليل، ولاتَعَرُّبَ بعد الهجرة، ولاهجرة بعد الفتح، ولاطلاق قبل النكاح، ولاعتق قبل ملك، ولايمين للولد مع والده، ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها.ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة».

ونحوه في مبسوط السرخسي: 5/135 عن جابر: «لارضاعَ بعد الفصال، ولايتم

ص: 557

بعد الحلم، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل الملك، ولا وفاء في نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة رحم، ولاتغرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح».

والنوع الثاني: هجرة بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الإمام (علیه السلام)، والى طلب العلم، وهجرة من البلاد التي ينقص فيها دينه ولا يستطيع أداء واجباته! راجع: جواهر الكلام: 13/363، 17/337 و 21/34 والمغني: 10/513.

ب. من أعمال بطون قريش: أنهم جعلوا الهجرة امتيازاً مطلقاً لقريش وحقاً مكتسباً لكل مهاجر، فرفعوها شعاراً في مقابل الأنصار وأهل البیت (علیهم السلام)، لأنها برأيهم ميزت المهاجرين على الأنصار، وساوتهم بأهل البیت (علیهم السلام)!

وقد حذف عمر الواو من قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، ليجعل الأنصار تبعاً للمهاجرين، فوقف في وجهه الأنصار وقالوا إنهم مستعدون للحرب من أجل الواو! الحاكم: 3/305.

ج. ومن أعمالهم: أنهم غَلَّبُوا الهجرة على الجهاد، فالمهاجر ممتازٌ على الناس حتى لو كان فرَّاراً هرَّاباً في الحرب، ناكثاً لبيعته للنبي (صلی الله علیه و آله) على أن لايفر!

د. ومن أعمالهم: «أنهم أهملوا شرط الهجرة، بأن تكون لله تعالى لا لمكسب دنيوي، مع أنهم رووا تشديد النبي (صلی الله علیه و آله) للمسلمين على نية الهجرة عندما قال النبي (صلی الله علیه و آله) لعمر: إنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنياً يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». صحيح بخاري: 1/2، وكرر روايته. وكذا الغازي المقاتل مسائل علي بن جعفر/346.

وقد أخفوا الذين كانت نياتهم من هجرتهم دنيوية، ومنهم من كان يصرح بها كمهاجر أم قيس، الذي قال إنه هاجر ليتزوج أم قيس، وقد ضيعوا إسمه!

قال في فتح الباري: 1/16: «مهاجر أم قيس، ولم نقف على تسميته»!

ويظهر أن تحريف الهجرة بدأ في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) ولذا قال: «ألا أنبئكم لمَ سمي المؤمن

ص: 558

مؤمناً؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم. ألا أنبئكم من المسلم؟ من سلم الناس يده ولسانه. ألا أنبئكم بالمهاجر؟ من هجر السيئات وما حرم الله عليه». علل الشرائع: 2/532، نحوه الكافي: 2/235، المحاسن: 1/285 وفتح الباري: 1/51.

ه. ومن أعمالهم: أنهم غطوا على قرشيين ارتدوا وعصوا ولم يهاجروا، وزعموا أنهم كانوا محبوسين من قبائلهم! ومن أمثلتهم ثلاثة من أقارب عتاة قريش، فقد زعم البخاري في سبع مواضع من صحيحه أن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا لهم شهوراً في قنوته أن ينجيهم الله من أيدي المشركين، ويقول: «اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين»!صحيح البخاري: 1/194، 2/15، 3/233، 4/122، 5/171، 7/118 و165.

وهم: ابن الوليد بن المغيرة، وأخ أبي جهل، وابن عمه! «فتح الباري 8/170». ومعنى دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) لهم أنهم أخيار! ورووا أن هؤلاء اتفقوا على الهجرة مع عمر فمنعهم قومهم فنزلت فيهم آية التوبة فأرسلها لهم عمر.تفسير الطبري: 24/21.

لكنهم اعترفوا بأن عياشاً أخ أبي جهل: «قتل رجلاً مؤمناً،كان يعذبه مع أبي جهل»! وقالوا إنه أسلم وهاجر مع المهاجرين، فجاء أبوجهل إلى المدينة وربطه وأرجعه إلى مكة، فقال المشركون: «إن أباجهل ليقدر من محمد على ما يشاء. فيأخذ أصحابه فيربطهم»! تفسير الطبري: 5/276.

ورووا: «كان الوليد بن الوليد على دين قومه وشهد بدراً مع المشركين فأسر وافتدى، ثم أسلم ورجع إلى مكة فوثب عليه قومه فحبسوه مع عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، فألحقه رسول الله بهما في الدعاء». الطبقات: 4/131.

قال المقريزي في إمتاع الأسماع: 9/114: «وكان قوم من الأشراف قد أسلموا ثم فتنوا «ارتدوا»! منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي»!

فحقيقة هؤلاء«المهاجرين» أنهم ارتدوا، وبعضهم حارب النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر!

و. ومن أعمالهم: أنهم ادعوا أن آية غزوة الحديبية: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ

ص: 559

لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. «الفتح/ 25». نزلت فيمن أحبوا من مشركي قريش وطلقائها! لذا لايمكن الوثوق برواياتهم فيهم.وقد روينا عن أهل البیت (علیهم السلام) أن الآية تقصد المؤمنين في أصلاب المشركين، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان لله ودايع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علي (علیه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الودايع، فلما خرج ظهر على من ظهر وقتله، وكذلك قائمنا أهل البیت لم يظهر أبداً حتى تخرج ودايع الله، فإذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله». تفسير القمي: 2/316.

والمؤكد أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو كان مسلماً ممنوعاً من الهجرة، ولعل منهم طالب بن أبي طالب (رحمة الله)، أما عقيل والعباس بن عبدالمطلب فكان هواهما مع النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنهما جاءا مع قريش إلى بدر فوقعا في الأسر، ونزل فيهما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «نزلت في العباس وعقيل ونوفل، وقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فأسروا، فأرسل علياً (علیه السلام) فقال: أنظر من هاهنا من بني هاشم، قال: فمر علي على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه فقال له عقيل: يا ابن أم علي، أما والله لقد رأيت مكاني! قال: فرجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، وهذا عقيل في يد فلان، وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان. فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى انتهى إلى عقيل فقال له: يا أبا يزيد قتل أبوجهل! قال: إذا لا تنازعون في تهامة. فقال: إن كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم! فقال: فجيئ بالعباس فقيل له: إفْدِ نفسك وافد ابن أخيك، فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي! فقال: أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ فقال: أتاني به جبرئيل (علیه السلام) من عند الله عزوجل! فقال ومحلوفه: ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي! أشهد أنك رسول الله، قال: فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل، وفيهم نزلت هذه الآية». الكافي: 8/202.

ص: 560

الفصل الثاني والثلاثون: القرآن المكي والمدني

1- قياسهم القرآن بكتب البشر!

لايقاس القرآن بكتب البشر، فهو المعجزة الخالدة التي ما زالت تتحدى أهل الأرض فيخضعون أمامها، أو يتولون معرضين!

وهو كتاب متوسط الحجم يقع في نحو أربع مئة صفحة، فمجموع كلماته نحو 80.000 كلمة، ومعدل السطر عشر كلمات، ومعدل الصفحة عشرون سطراً.

وقد تنزَّل في مدة بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، نزل فيها بضع وثمانون سورة، في4475 آية، أي ثلاثة أرباع القرآن، لأن مجموعه6226 آية، ونزل بقيته نحو بضع وثلاثين سورة في المدنية، في نحو 1716آية. وقلنا «نحو» بسبب اختلاف الإجتهاد في تعداد الآيات.

راجع: تفسير التبيان للطوسي: 10/438، فهرست ابن النديم/28، شواهد التنزيل: 2/410 والبرهان للزركشي: 1/194. ومواقع:

http://www.lomazoma.com/forum/showthread.php?t=1540

http://wahat.sahara.com/index.php

http://www.alhashemih.com/vb/showthread.php?p=18288

وتأثر بعض المسلمين بالمستشرقين فكتب عن المكي والمدني في القرآن والفرق بينهما، بأسلوب معادٍ يهدف إلى إثبات أن القرآن من تأليف النبي (صلی الله علیه و آله)! وأنه خضع للتطور البشري

ص: 561

في التأليف، في فترة معاداة قريش ومحاصرتها له في مكة، ثم في فترة حروبه (صلی الله علیه و آله) وانتصاره، ثم مرحلة تكوين الدولة والمجتمع.

ووقع بعضهم في تعميمات لاتصح، وظنون لاتغني عن الحق. والصحيح أنه لافرق في البلاغة والإعجاز والجوهر بين النص المكي والمدني، وإن اختلف ظرفاهما، فالمنبع والصيغة ورؤية المؤلف عزوجل فيهما واحدة، ولو نطق النص عن شخصية مؤلفه لقال إنه كلام العليم بالمطلق سبحانه.

أما عن أسباب نزول الآيات وأمكنتها وأوقاتها، فقد ذكرنا في المقدمة أنه لا يمكن الاعتماد على رواياتهم إلا ما ندر، لكثرة مكذوبات رواة السلطة فيها.

هذا، وقد تعرضنا لبعض الآيات في فصول الكتاب، كآيات الأنفال في معركة بدر، وآيات معركة أحُد، وغيرها من مقاطع السيرة.ولا يتسع المجال لعرض معالم السيرة النبوية في القرآن، لأنه يحتاج إلى كتاب مستقل.

2- هَزَّت آيات القرآن وجدان العرب وعقولهم

أ. في إعلام الورى: 1/110: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يكف عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمد! ويقول بعض: بل هو كهانة! ويقول بعضهم: بل هو خطب. وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً وكان من حكام العرب، يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون لايبرحون مكة، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان، والقنطار جلد ثور مملوء ذهباً، وكان من المستهزئين برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان عم أبي جهل بن هشام، فقالوا له: يا عبد شمس ماهذا الذي يقول محمد أسحرٌ أم كهانة أم خُطَب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه! فدنا من رسول الله وهو جالس في الحجر فقال: يا محمد أنشدني من شعرك. فقال: ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي بعث أنبياءه ورسله. فقال: اتلُ عليَّ منه. فقرأ عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله): بسم الله الرحمن الرحيم،

فلما سمع الرحمن استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن؟ قال: لا

ص: 562

ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم. ثم افتتح حم السجدة، فلما بلغ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وسمعه اقشعر جلده، وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش! فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبا أبو عبد شمس إلى دين محمد! أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله! فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه أبوجهل فقال: يا عم نكست برؤوسنا وفضحتنا. قال: وما ذلك يا ابن أخي؟ قال: صبوت إلى دين محمد! قال: ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود. قال أبوجهل: أشعرٌ هو؟ قال: ما هو بشعر. قال: فخطبٌ هي؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضاً، له طلاوة. قال: فكهانةٌ هو فكأنه هي؟ قال: لا. قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه. فلما كان من الغد، قالوا: يا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر، فإنه أخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى فيه:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ.كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ». وتفسير القمي: 2/393 والتسهيل: 4/161.

ب. وفي إمتاع الأسماع: 4/345: «أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش «دعاهم إلى طعام» وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويردُّ قولكم بعضه بعضاً! قالوا: فأنت يا عبد شمس، قم وأقم لنا رأياً نقل به، فقال: بل أنتم تقولون وأسمع، قالوا: نقول: إنه كاهن، قال: فما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم. قالوا: فنقول: إنه مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بتخالجه

ص: 563

ولا وسوسته. قالوا: فنقول إنه شاعر، قال ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: فما نقول يا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن يقولوا: هو ساحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون يسألون الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره! فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا». وابن إسحاق: 2/132، الدر المنثور: 4/106.

ج. وفي تفسير العياشي: 2/295 وتفسير فرات/241 والكافي: 8/266، عن عمرو بن شمر قال: «سألت جعفر بن محمد (علیه السلام): إني أؤمُّ قومي فأجهر ببسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: نعم فاجهر بها قد جهر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) . ثم قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فإذا قام من الليل يصلي جاء أبوجهل والمشركون يستمعون قراءته «ومنهم عتبة وشيبة» فإذا قال: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وضعوا أصابعهم في آذانهم وهربوا، فإذا فرغ من ذلك جاؤوا فاستمعوا! قال: وكان أبوجهل يقول: إن ابن أبي كبشة ليردد إسم ربه إنه ليحبه. فقال جعفر (علیه السلام): صدق وإن كان كذوباً، فأنزل الله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا!وهو: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».

وروى العياشي: 1/21 ردَّت الإمام الصادق (علیه السلام) لإنكارهم البسملة وإخفائها، قال: «ما لهم قاتلهم الله! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله، فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها»!

3- أكذوبة احتباس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

1. زعم رواة السلطة، كما في البخاري، أن الوحي احتبس على النبي (صلی الله علیه و آله) فأراد أن يرمي نفسه من شاهق وینتحر! وزعموا أنه كان لمدة طويلة، أو قصيرة. وأن سببه

ص: 564

خطأ من النبي (صلی الله علیه و آله) حيث قال سأفعل غداً ولم يستثنِ! أو سببٌ من الناس، أو بدون سبب! وكل ذلك لا يصح من ذلك إلا احتاسه قليلاً وعدم نزول جبرئيل (علیه السلام) بسبب وسخ بعض الناس وروائحهم النتنة.

واستدلوا على احتباس الوحي بقوله تعالى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى.مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، مع أنه قد يكون السبب أن المشركين سألوه هل نزل عليك الوحي اليوم وأمس، فقال لا، فأشاعوا أن محمداً قلاه ربه وتركه، فأجابهم الله تعالى.

واستدلوا بقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ. وليس فيها دلالة على أنه (صلی الله علیه و آله) قال سأفعل ذلك غداً ولم يستثن. وقد تكون الآية تعليماً ابتدائياً للرسول والناس،وما ذكروه من عدم استثنائه (صلی الله علیه و آله) لم يثبت منه شئ!

2. كان الوحي ينزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) متتابعاً، وقد يتأخر أياماً، وذكرالله تعالى حكمة تنزيل القرآن متفرقاً، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. لكن المشركين كانوا يبحثون عن أي شئ لينتقصوا به النبي، قال البخاري: 6/97:«اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك! فأنزل الله عزوجل: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى».

لكنه حديث مضطرب، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكن يقم الليل في مكة في المسجد. وقالوا إن المرأة فهي حمالة الحطب أو إحدى عماته (صلی الله علیه و آله) «فتح الباري: 2/8» وزعم بعضهم أنها خديجة (علیها السلام) «عمدة القاري: 7/173» فينبغي أن يكون أصل الحديث أنه غاب عن المسجد يومين فقالت ذلك حمالة الحطب، أما خديجة (علیها السلام) وعماته فلايمكن أن يصدر منهن مثل هذا الكلام.

3. ثم جعلوا مدة احتباس الوحي أربعة أيام، وجعلها بعضهم شهوراً، أو سنوات! وزعمت عائشة كما في البخاري أن ذلك كان في أوائل البعثة فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) مراراً إلى شواهق الجبال لينتحر فرده جبرئيل!

ص: 565

ونسب ابن إسحاق: 2/115 وابن هشام: 1/159، إلى النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: «قد خشيت أن يكون صاحبي قد قلاني وودعني! فجاء جبريل بسورة والضحى».

4. قال في فتح الباري: 3/6، إنهما قضيتان، بل يفهم من رواياتهم أنها وقعت أكثر من مرتين، فبعضهم ذكر أنها أول البعثة، وبعضهم جعلها بعد نزول سورة المسد وبعضهم جعلها عندما سئل النبي (صلی الله علیه و آله) عن أهل الكهف. وزعم بعضهم أن سبب انقطاع الوحي أنه كان في غرفة النبي (صلی الله علیه و آله) جرو كلب فمات تحت السرير ولم ينتبه له النبي (صلی الله علیه و آله)! أسباب النزول/302 والإتقان: 1/94.

واضطراب روايتهم يوجب زيادة الشك، والمعقول أنهم سألوه (صلی الله علیه و آله) عن شئ مثلاً فقال أنتظر الوحي، فقالوا قلاه ربه أو نحوه، فنزلت الآية.

5. وروى ابن إسحاق، «فتح الباري: 8/545»: «أن المشركين لما سألوا النبي (صلی الله علیه و آله) عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره وتكلم المشركون، فنزل جبريل بسورة والضحى وبجواب ما سألوا وبقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ». وفي تفسير الطبري: 15/284: «فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة..فقال: ولاتقولن يا محمد لشئ إني فاعل ذلك غداً،كما قلت لهؤلاء».

وفي رواية عندهم وعندنا أنه (صلی الله علیه و آله) قال لليهود:«تعالوا غداً أحدثكم ولم يستثن، فاحتبس جبرئيل عنه أربعين يوماً» «الفقيه 3/362» فنزل عليه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ». لكن هذا بعيد عن منطقه (صلی الله علیه و آله) وخلقه الذي قال الله عنه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

ولعل بعده عن منطق النبي (صلی الله علیه و آله) هو السبب في أن صاحب الجواهر (رحمة الله) لم يصف الحديث بالصحة «جواهر الكلام 35/245» وإن وصفه بذلك صاحب تتمة الحدائق (رحمة الله):2/168.

6. نعم قد يصح أن الوحي كان يتأخر عنه (صلی الله علیه و آله) في وقت ما أو مكان ما، بسبب الروائح الكريهة من أجسامهم! ففي الكافي: 6/492، وقرب الإسناد/23، قال الإمام

ص: 566

الصادق (علیه السلام): «احتبس الوحي عن النبي (صلی الله علیه و آله) فقيل له احتبس الوحي عنك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): وكيف لايحتبس وأنتم لا تقلمون أظفاركم، ولاتُنَقٌّون رواجبكم»!

وفي مسند أحمد: 1/243: «ولم لايبطئ عني وأنتم حولي لاتستنون ولا تقلمون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون رواجبكم». ومجمع الزوائد: 5/167 ووثقه.

والرواجب رؤوس الأصابع، والوسخ تحتها يسمى الرَّفَغ. ابن الأثير: 2/244.

لكن هذا احتباس موقت بسبب وجود القذرين، ويمكن أن ينزل في غيره.

وقد ورد في مصادر الطرفين حساسية الملائكة من الروائح. ففي الكافي: 2/429: «عن عبدالله بن موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن الملكين يعلمان الذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو بالحسنة؟قال فقال (علیه السلام): فريح الكنيف والطيب عندك واحدة؟ قال: قلت: لا.قال (علیه السلام): العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال قف فإنه قد هم بالحسنة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه، وريقه مداده فيثبتها له وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فإنه قد هم بالسيئة».

وفي كتاب سعيد/53:«فيثبتان ما كان من خير وشر، ويلقيان ماسوى ذلك».

ص: 567

الفصل الثالث والثلاثون: بعض صفات النبي وأخلاقه ومعجزاته (صلی الله علیه و آله)

1- من وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله)

في أمالي الطوسي/340، قالوا لأميرالمؤمنين (علیه السلام): «صف لنا نبينا (صلی الله علیه و آله) كأننا نراه، فإنا مشتاقون إليه! قال: كان النبي (صلی الله علیه و آله) أبيض اللون، مشرباً حمرة، أدعج العين، سبط الشعر، كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة «شعر الصدر» كأنما عنقه إبريق فضة، يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته إلى سرته، كقضيبٍ خِيطَ إلى السرة، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.

شثن الكفين والقدمين، شثن الكعبين، إذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب، إذا التفت التفت جميعاً بأجمعه كله.

ليس بالقصير المتردد، ولا بالطويل الممعَّط «المفرط» وكان في وجهه تدوير، إذا كان في الناس غمرهم، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من ريح المسك.

ليس بالعاجز ولا باللئيم، أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفاً. من خالطه بمعرفةٍ أحبه، ومن رآه بديهةً هابه. له غرةٌ بين عينيه. يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله (صلی الله علیه و آله)».

«مستقرُّهُ خيرُ مستقر، ومنبتُه أشرف منبت، في معادن الكرامة، ومماهد السلامة.

قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثُنيت إليه أزمة الأبصار. دفن الله به الضغائن، وأطفأ به الثوائر. ألف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعز به الذلة، وأذل به العزة. كلامه بيان، وصمته لسان». نهجالبلاغة/الخطبة:94، 187.

ص: 568

«فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلی الله علیه و آله) فإن فيه أسوةً لمن تأسى، وعزاءً لمن تعزَّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيه والمقتصُّ لأثره. قضم الدنيا قضماً، ولم يُعِرْهَا طرفاً. أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً. عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها. علم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغَّر شيئاً فصغَّره. ولو لم يكن فينا إلاّ حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله، ومحادَّةً عن أمر الله!

ولقد كان (صلی الله علیه و آله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه. ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً. فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده. و لقد كان في رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يدلّك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.

فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمّداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه فقد كذب والله العظيم بالإفك العظيم. وإن قال أكرمه، فليعلم أنّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له، وزواها عن أقرب النّاس منه». نهجالبلاغة/ 88 ح، 580.

«فقاتلَ بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير «يعالج الضعيف» ويقف الكسير فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته، إلاّ هالكاً لا خير فيه. حتّى أراهم منجاتهم، وبوّأهم محلّتهم، فاستدارت رحاهم واستقامت قناتهم». نهجالبلاغة/ الخطبة: 102، 198.

«اللهم داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها، إجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمد عبدك

ص: 569

ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدم، ولا واه في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن، وأقام موضحات الأعلام ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق.

اللهم افسح له مفسحاً في ظلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعْلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، ومرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطة فصل.

اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش، وقرار النعمة، ومنى الشهوات، وأهواء اللذات، ورخاء الدعة، ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة».نهجالبلاغة: 1/120.

وفي الغارات للثقفي: 1/161: «كان علي (علیه السلام) إذا نعت النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لم يك بالطويل الممعط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يك بالجعد القطط ولا السبط. شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً. أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، أوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشْرة».

«اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضّياء، وذؤابة العلياء، وسُرَّة البطحاء، ومصابيح الظُّلمة، وينابيع الحكمة». نهجالبلاغة/الخطبة: 106، 205.

2- من وصف بقية الأئمة (علیهم السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله)

في تفسير العياشي: 1/203، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «جاء أعرابي أحد بني عامر فسأل عن النبي (صلی الله علیه و آله) فلم يجده فقالوا هو بقزح «مكان بالمزدلفة» فطلبه فلم يجده، قالوا: هو بمنى. قال: فطلبه فلم يجده، فقالوا: هو بعرفة، فطلبه فلم يجده، قالوا: هو بالمشعر قال: فوجده في الموقف، قال: حَلُّوا «صِفُوا» لي النبي (صلی الله علیه و آله) فقال الناس: يا

ص: 570

أعرابي ما أنكرت! إذا وجدت النبي وسط القوم وجدته مفخماً. قال: بل حَلُّوهُ لي حتى لاأسأل عنه أحداً، قالوا: فإن نبي الله أطول من الربعة، وأقصر من الطويل الفاحش، كأن لونه فضة وذهب، أرجَلُ الناس جُمَّة «شعره ممشط» وأوسع الناس جبهة، بين عينيه غُرَّة، أقنى الأنف، واسع الجبين، كث اللحية، مفلج الأسنان، على شفته السفلى خال، كأن رقبته إبريق فضة، بعيد ما بين مشاشة المنكبين، كأن بطنه و صدره سواء، سبط البنان، عظيم البراثن «الكفين» إذا مشى مشى متكفياً، وإذا التفت التفت بأجمعه، كأن يده من لينها متن أرنب، إذا قام مع إنسان لم ينفتل حتى ينفتل صاحبه، وإذا جلس لم يحلل حبوته حتى يقوم جليسه.

فجاء الأعرابي فلما نظر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) عرفه فقال بمحجنه «أشار بعصاته» على رأس ناقة رسول الله عند ذنب ناقته، فأقبل الناس تقول ما أجرأك يا أعرابي؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): دعوه فإنه أريب «عنده حاجة» ثم قال: ما حاجتك؟ قال: جاءتنا رسلك أن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتحجوا البيت، وتغتسلوا من الجنابة، وبعثني قومي إليك رائداً، أبغي أن استحلفك وأخشى أن تغضب! قال (صلی الله علیه و آله): لا أغضب، إني أنا الذي سماني الله في التوراة والإنجيل محمد رسول الله المجتبى المصطفى، ليس بفاحش ولاسخاب «عالي الصوت» في الأسواق، ولا يتبع السيئة السيئة، ولكن يتبع السيئة الحسنة، وأنا الذي سماني الله في القرآن: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فسلني عما شئت.

قال: آلله الذي رفع السماوات بغير عمد هو أرسلك؟ قال: نعم هو أرسلني. قال: آلله الذي قامت السماوات بأمره هو الذي أنزل عليك الكتاب وأرسلك بالصلاة المفروضة والزكاة المعقولة؟ قال: نعم، قال: وهو أمرك بالإغتسال من الجنابة وبالحدود كلها؟ قال: نعم. قال: فإنا آمنا بالله ورسله وكتابه واليوم الآخر والبعث والميزان والموقف والحلال والحرام صغيره وكبيره!

قال: فاستغفر له النبي (صلی الله علیه و آله) ودعا له».

وفي الكافي: 1/443 عن جابر الجعفي قال: «قلت لأبي جعفر (علیه السلام): صف لي

ص: 571

نبي الله قال: كان نبي الله (صلی الله علیه و آله) أبيض مشرباً حمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف، كأن الذهب أفرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين، إذا التفت يلتفت جميعاً من شدة استرساله، سربته سائلة من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة، وكأن عنقه إلى كاهله إبريق فضة،يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء، وإذا مشى تكفأ كأنه ينزل في صبب، لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده».

وفي الكافي: 1/446، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا رُئي في الليلة الظلماء، رئي له نور كأنه شقة قمر».

وفي علل الشرائع: 1/55، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «استأذنت زليخا على يوسف فقيل لها: إنا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه، قالت: إني لا أخاف من يخاف الله، فلما دخلت قال لها: يا زليخا مالي أراك قد تغير لونك؟ قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً! قال لها: ما الذي دعاك يا زليخا إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك يا يوسف. فقال: كيف لو رأيت نبياً يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن مني وجهاً، وأحسن مني خلقاً وأسمح مني كفاً؟قالت: صدقت. قال: وكيف علمت أني صدقت؟ قالت: لأنك حين ذكرته وقع حبه في قلبي. فأوحى الله عزوجل إلى يوسف: إنها قد صدقت، إني قد أحببتها لحبها محمداً، فأمره الله تبارك وتعالى أن يتزوجها».

وفي كتاب المؤمن للحسين بن سعيد/31، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لاتقدر الخلائق على كنه صفة الله عزوجل فكذلك لاتقدر على كنه صفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)! وكما لاتقدر على كنه صفة الرسول (صلی الله علیه و آله) كذلك لاتقدر على كنه صفة الإمام (علیه السلام) . وكما لا تقدر على كنه صفة الإمام،كذلك لايقدرون على كنه صفة المؤمن».

وفي المحاسن: 1/143، عن مالك بن أعين الجهني: «وكما لا يقدر أحد أن يصف فضلنا وما أعطانا الله وما أوجب الله من حقوقنا، فكذلك لا يقدر أحد أن يصف حق المؤمن ويقوم به مما أوجب الله على أخيه المؤمن، والله يا مالك إن المؤمنيْن ليلتقيان فيصافح كل واحد منهما صاحبه، فما يزال الله تبارك وتعالى ناظراً إليهما بالمحبة والمغفرة، وإن

ص: 572

الذنوب لتَحَاتُّ عن وجوههما وجوارحهما حتى يفترقا! فمن يقدر على صفة الله وصفة من هو هكذا عند الله»؟!

3- حديث الإمام الحسن (علیه السلام) في صفة النبي (صلی الله علیه و آله)

من أشمل ما ورد في صفة النبي (صلی الله علیه و آله) ما روي عن الإمام الحسن (علیه السلام) قال: «سألت خالي هند أبي هالة وكان وصافاً، عن حلية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً، متماسكاً، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، عريض الصدر، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء. إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام.

قال: فقلت: فصف لي منطقة، فقال: كان (علیه السلام) متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليناً ليس بالجافي ولا بالمهين، تعظم عنده النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئاً، غير أنه كان

ص: 573

لا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحدٌ، ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام.

قال الحسن (علیه السلام): سألت أبي (علیه السلام) عن مدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، فإذا أوى إلى منزله جزء دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزء جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئاً، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وبإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يقدر على إبلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة. لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقيد من أحد عثرة، يدخلون رواداً، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة.

قال: فسألته عن مخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخزن لسانه إلا عما يعنيه، ويؤلفهم ولاينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويهونه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه.

الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة ومؤازرة.

فسألته عن مجلسه فقال: كان (صلی الله علیه و آله) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر

ص: 574

بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب من جلسائه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه وصار لهم أباً، وصاروا عنده في الخلق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، ولا ترتفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.

فقلت: فكيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه، ولا يخيب فيه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عثراته ولا عورته. ولا يتكلم إلا في ما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولايقطع على أحد كلامه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام.

قال: فسألته عن سكوت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والإستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى أو يفنى، وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته،والقيام فيما جمع لهم من خير الدنيا والآخرة» المناقب: 1/134، العدد القوية للحلي/120، مسند أحمد: 1/96، الحاكم:

ص: 575

2/605، مجمع الزوائد: 8/271 و276، ابن أبي شيبة: 7/ 446، الشمائل المحمدية للترمذي/15، مسند أبي يعلى: 1/304، والأحاديث الطوال/78، المعجم الكبير: 22/155، الفايق: 2/186، الطبقات الكبرى: 1/422،الشفا للقاضي عياض: 1/155 وغيرها.

وعقَّب عليه الصدوق (رحمة الله) في معاني الأخبار/79: «قوله: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخماً مفخماً: معناه كان عظيماً معظماً في الصدور والعيون.. يتلألأ تلألؤ القمر: ينير ويشرق كإشراق القمر. أطول من المربوع وأقصر من المشذب: المشذب الطويل الذي ليس بكثير اللحم.

وقوله: رَجْل الشعر: في شعره تكسر وتعقف.العقيقة: الشعر المجتمع في الرأس. أزهر اللون: نير اللون. أزج الحواجب: طويل امتداد الحاجبين.

أقنى العرنين: في عظم الأنف احديداب في وسطه.كث اللحية: لحيته قصيرة كثيرة الشعر. ضليع الفم: كبير الفم. الأشنب: الشنب في الفم تحدد ورقة وحدة في أطراف الأسنان. دقيق المسربة: الشعر المستدق الممتد من اللبة إلى السرة.

بادناً متماسكاً: تام خلق الأعضاء ليس بمسترخي اللحم ولا بكثيره.

سواء البطن والصدر: بطنه ضامر وصدره عريض. والكراديس: رؤوس العظام.

أنور المتجرد: نيِّر الجسد الذي تجرد من الثياب. رحب الراحة: واسع الراحة كبيرها. شثن الكفين: خشن الكفين. سائل الأطراف: تامها غير طويلة ولا قصيرة. مسيح القدمين: ليس بكثير اللحم فيهما. زال قلعاً: معناه متثبتاً.

يخطو تكفؤاً: خطاه كأنه يتكسر فيها ولا تبختر فيها ولا خيلاء. ويمشي هوناً: معناه السكينة والوقار. ذريع المشية: واسع المشية. كأنما ينحط في صبب: الصبب الإنحدار. إذا غضب أعرض وأشاح: أشاح جَدَّ في الغضب وانكمش.

يفتر عن مثل حب الغمام: يكشف شفتيه عن ثغر أبيض يشبه حب الغمام.

لكل حال عنده عتاد: أعد للأمور أشكالها ونظائرها.

ثم يرد ذلك بالخاصة على العامة: يعتمد في هذه الحال على أن الخاصة ترفع إلى العامة علومه وآدابه وفوائده.

ص: 576

ولا يفترقون إلا عن ذواق: عن علوم يذوقون من حلاوتها ما يذاق من الطعام المشتهي. لا تؤبن فيه الحُرم: أي لا تعاب.

ولا تنثى فلتاته: من غلط فيه غلطة لم يشنع ولم يتحدث بها، يقال: نثوت الحديث أنثوه نثواً إذا حدثت به. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير: لإجلالهم نبيهم (صلی الله علیه و آله) لايتحركون. ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ: من صح عنده إسلامه حسن موقع ثنائه عليه عنده».

ونقد صاحب الصحيح: 2/132 هذه الرواية بضعف سندها، وبأن الإمام الحسن عاش مع جده النبي (صلی الله علیه و آله) وروى عنه فلايحتاج في وصفه إلى هند بن أبي هالة، وهو أفصح العرب وأعلم الأمة، رباه النبي (صلی الله علیه و آله) في حجره، وكان يعرف عنه كل شئ مما دق وجل. ثم قال: «تقدم كله يدفع هذا الحديث».

أقول: إشكاله لا يصح، وهذه الصفات وردت بشكل وآخر في غيرها.

4- حديث الإمام الكاظم (علیه السلام) في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله)

نكتفي في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) بحديث واحد يُبين عدداً منها باختصار، فقد روى أبو العباس الحميري في قرب الإسناد/317، بسند صحيح عن الإمام الكاظم (علیهما السلام) قال: «كنت عند أبي عبدالله (علیه السلام) ذات يوم وأنا طفل خماسي، إذ دخل عليه نفر من اليهود فقالوا: أنت ابن محمد نبي هذه الأمة والحجة على أهل الأرض؟ قال لهم: نعم. قالوا: إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة، وجعل لهم الملك والإمامة، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لاتتعداهم النبوة والخلافة والوصية، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم، ونلقاكم مستضعفين مقهورين، لا ترقب فيكم ذمة نبيكم؟! فدمعت عينا أبي عبدالله (علیه السلام) ثم قال: نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق، والظلمة غالبة، وقليل من عباد الله الشكور.

قالوا: فإن الأنبياء وأولادهم علموا من غير تعليم، وأوتوا العلم تلقيناً، وكذلك ينبغي لأئمتهم وخلفائهم وأوصيائهم، فهل أوتيتم ذلك؟

ص: 577

فقال أبوعبدالله (علیه السلام): ادن يا موسى فدنوت فمسح يده على صدري ثم قال: اللهم أيده بنصرك بحق محمد وآله، ثم قال: سلوه عما بدا لكم.

قالوا: وكيف نسأل طفلاً لا يفقه؟ قلت: سلوني تفقهاً ودعوا العنت!

قالوا: أخبرنا عن الآيات التسع التي أوتيها موسى بن عمران.

قلت: العصا، وإخراجه يده من جيبه بيضاء، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ورفع الطور، والمن والسلوى آية واحدة، وفلق البحر.

قالوا: صدقت، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليه. قلت: آيات كثيرة، أعدها إن شاء الله، فاسمعوا وعوا وافقهوا:

1. أما أول ذلك: أنتم تقرون أن الجن كانوا يسترقون السمع قبل مبعثه، فمنعت في أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم، وبطلان الكهنة والسحرة.

2. ومن ذلك: كلام الذئب يخبر بنبوته، واجتماع العدو والولي على صدق لهجته وصدق أمانته، وعدم جهله أيام طفوليته وحين أيفع وفتى وكهلاً، لا يعرف له شِكْل ولا يوازيه مِثل.

3. ومن ذلك: أن سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة وفد عليه وفد قريش، فيهم عبدالمطلب، فسألهم عنه ووصف لهم صفته، فأقروا جميعاً بأن هذه الصفة في محمد (صلی الله علیه و آله)، فقال: هذا أوان مبعثه، ومستقره أرض يثرب وموته بها.

4. ومن ذلك: أن أبرهة بن يكسوم قاد الفيلة إلى بيت الله الحرام ليهدمه قبل مبعثه فقال عبدالمطلب: إن لهذا البيت رباً يمنعه، ثم جمع أهل مكة فدعا، وهذا بعدما أخبره سيف بن ذي يزن، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم طيراً أبابيل، ودفعهم عن مكة وأهلها.

5. ومن ذلك: أن أباجهل عمرو بن هشام المخزومي، أتاه وهو نائم خلف جدار ومعه حجر يريد أن يرميه به، فالتصق بكفه.

6. ومن ذلك: أن أعرابياً باع ذَوْداً له من أبي جهل فمَطَله بحقه، فأتى قريشاً وقال: أُعدوني على أبي الحكم فقد لوى حقي، فأشاروا إلى محمد (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي في الكعبة

ص: 578

فقالوا: إئت هذا الرجل فاستعده عليه، هم يهزؤون بالأعرابي! فأتاه فقال له: يا عبدالله أعدني على عمرو بن هشام فقد منعني حقي. قال: نعم، فانطلق معه فدق على أبي جهل بابه فخرج إليه متغيراً. فقال له: ما حاجتك؟ قال: أعط الأعرابي حقه. قال: نعم. وجاء الأعرابي إلى قريش فقال: جزاكم الله خيراً، إنطلق معي الرجل الذي دللتموني عليه فأخذ حقي! فجاء أبوجهل فقالوا: أعطيت الأعرابي حقه؟ قال: نعم. قالوا: إنما أردنا أن نغريك بمحمد ونهزأ بالأعرابي! قال: يا هؤلاء دق بابي فخرجت إليه فقال: أعط الأعرابي حقه، وفوقه مثل الفحل فاتحاً فاه كأنه يريدني، فقال: أعطه حقه، فلو قلت: لا، لابتلع رأسي، فأعطيته!

7. ومن ذلك: أن قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وعلقمة بن أبي معيط بيثرب إلى اليهود وقالوا لهما: إذا قدمتما عليهم فسائلوهم عنه، وسألوهم عنه فقالوا: صفوا لنا صفته فوصفوه. وقالوا: من تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا. فصاح حبر منهم فقال: هذا النبي الذي نجد نعته في التوراة، ونجد قومه أشد الناس عداوة له.

8. ومن ذلك: أن قريشاً أرسلت سراقة بن جعشم حتى خرج إلى المدينة في طلبه، فلحق به فقال صاحبه: هذا سراقة يا نبي الله فقال: اللهم اكفنيه، فساخت قوائم ظهره فناداه: يا محمد خل عني بموثق أعطيكه أن لا أناصح غيرك، وكل من عاداك لا أصالح. فقال النبي (علیه السلام): اللهم إن كان صادق المقال فأطلق فرسه. فانطلق فوفى وما انثنى بعد ذلك.

9. ومن ذلك: أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أتيا النبي (صلی الله علیه و آله)، فقال عامر لأربد: إذا أتيناه فأنا أشاغله عنك فاعله بالسيف، فلما دخلا عليه قال عامر: يا محمد خالَّني «أي أخلني بك - الطبري 2/389» قال: لا، حتى تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. وهو ينظر إلى أربد وأربد لا يحير شيئاً. فلما طال ذلك

ص: 579

نهض وخرج وقال لأربد: ما كان أحد على وجه الأرض أخوف على نفسي فتكاً منك، ولعمري لا أخافك بعد اليوم، فقال له أربد: لا تعجل، فإني ما هممت بما أمرتني به إلا ودخلت الرجال بيني وبينك حتى ما أبصر غيرك، فأضربك؟!

10. ومن ذلك: أن أربد بن قيس والنضر بن الحارث اجتمعا على أن يسألاه عن الغيوب فدخلا عليه، فأقبل النبي (صلی الله علیه و آله) على أربد فقال: يا أربد، أتذكر ما جئت له يوم كذا ومعك عامر بن الطفيل؟ فأخبره بما كان فيهما فقال أربد: والله ما حضرني وعامراً أحد، وما أخبرك بهذا إلا ملك من السماء، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله. «وأربد هذا أخ لبيد الشاعر».

11. ومن ذلك: أن نفراً من اليهود أتوه، فقالوا لأبي الحسن جدي: إستأذن لنا على ابن عمك نسأله، فدخل علي (علیه السلام) فأعلمه فقال النبي (صلی الله علیه و آله): وما يريدون مني؟ فإني عبد من عبيدالله، لا أعلم إلا ما علمني ربي، ثم قال: إئذن لهم، فدخلوا عليه فقال: أتسألوني عما جئتم له أم أنبئكم؟ قالوا: نبئنا، قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين، قالوا: نعم، قال: كان غلاماً من أهل الروم ثم ملك، وأتى مطلع الشمس ومغربها، ثم بني السد فيها. قالوا: نشهد أن هذا كذا.

12. ومن ذلك: أن وابصة بن معبدالأسدي أتاه فقال: لا أدعُ من البر والإثم شيئاً إلا سألته عنه، فلما أتاه قال له بعض أصحابه: إليك يا وابصة عن رسول الله، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): أدنهْ يا وابصة، فدنوت. فقال: أتسأل عما جئت له أو أخبرك؟ قال: أخبرني. قال: جئت تسأل عن البر والإثم. قال: نعم. فضرب بيده على صدره ثم قال: يا وابصة، البر ما اطمأن به الصدر، والإثم ما تردد في الصدر وجال في القلب، وإن أفتاك الناس وأفْتَوْك.

13. ومن ذلك: أنه أتاه وفد عبدالقيس فدخلوا عليه، فلما أدركوا حاجتهم عنده قال: إئتوني بتمر أهلكم مما معكم، فأتاه كل رجل منهم بنوع منه، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): هذا يسمى كذا وهذا يسمى كذا، فقالوا: أنت أعلم بتمر أرضنا، فوصف لهم أرضهم

ص: 580

فقالوا: أدخلتها؟ قال: لا، ولكن فسح لي فنظرت إليها. فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله، هذا خالي وبه خبل، فأخذ بردائه ثم قال: أخرج عدو الله ثلاثاً ثم أرسله، فبرأ. وأتوه بشاة هرمة، فأخذ أحد أذنيها بين أصابعه فصار ميسماً، ثم قال: خذوها فإن هذه السمة في آذان ما تلد إلى يوم القيامة! فهي تتوالد وتلك في آذانها، معروفة غير مجهولة.

14. ومن ذلك: أنه كان في سفر، فمر على بعير قد أعيا، وقام منزلاً على أصحابه فدعا بماء فتمضمض منه في إناء وتوضأ وقال: إفتح فاه فصب في فيه. فمر ذلك الماء على رأسه وحاركه ثم قال: اللهم احمل خلاداً وعامراً ورفيقيهما وهما صاحبا الجمل، فركبوه وإنه ليهتز بهم أمام الخيل.

15. ومن ذلك: أن ناقة لبعض أصحابه ضلت في سفر كانت فيه، فقال صاحبها: لو كان نبياً لعلم أمر الناقة، فبلغ ذلك النبي (علیه السلام) فقال: الغيب لا يعلمه إلا الله، إنطلق يا فلان فإن ناقتك بموضع كذا وكذا، قد تعلق زمامها بشجرة، فوجدها كما قال.

16. ومن ذلك: أنه مر على بعير ساقط فتبصبص له فقال: إنه ليشكو شر ولاية أهله له يسأله أن يخرج عنهم، فسأل عن صاحبه فأتاه فقال: بعه وأخرجه عنك، فأناخ البعير يرغو ثم نهض وتبع النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يسألني أن أتولى أمره. فباعه من علي (علیه السلام)، فلم يزل عنده إلى أيام صفين.

17. ومن ذلك: أنه كان في مسجده، إذ أقبل جمل نادٌّ، حتى وضع رأسه في حجره ثم خرخر، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): يزعم هذا أن صاحبه يريد أن ينحره في وليمة على ابنه فجاء يستغيث. فقال رجل: يا رسول الله، هذا لفلان وقد أراد به ذلك. فأرسل إليه وسأله أن لا ينحره، ففعل.

18. ومن ذلك: أنه دعا على مضر فقال: اللهم أشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسنين يوسف، فأصابهم سنون، فأتاه رجل فقال: فوالله ما

ص: 581

أتيتك حتى لا يخطر لنا فحل ولا يتردد منا رائح. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم دعوتك فأجبتني وسألتك فأعطيتني، اللهم فاسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً سريعاً طبقاً سجالاً، عاجلاً غير ذائب نافعاً غير ضار. فما قام متى ملأ كل شئ ودام عليهم جمعة، فأتوه فقالوا: يا رسول الله انقطعت سبلنا وأسواقنا، فقال النبي (علیه السلام): حوالينا ولا علينا فانجابت السحابة عن المدينة، وصار فيما حولها، وأمطروا شهراً.

19. ومن ذلك: أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش، فلما كان بحيال بحيراء الراهب نزلوا بفناء ديره، وكان عالماً بالكتب، وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي (صلی الله علیه و آله) به وعرف أوان ذلك، فأمر فدعى إلى طعامه، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها، فقال: هل بقي في رحالكم أحد؟ فقالوا: غلام يتيم. فقام بحيراء الراهب فاطلع فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) نائم وقد أظلته سحابة، فقال للقوم: أدعوا هذا اليتيم، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه وهو يسير، والسحابة قد أظلته، فأخبر القوم بشأنه وأنه سيبعث فيهم رسولاً، ويكون من حاله وأمره، فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش، وقد خطبها كل صنديد ورئيس قد أبتهم، فزوجته نفسها للذي بلغها من خبر بحيراء.

20. ومن ذلك: أنه كان بمكة أيام ألَّبَ عليه قومه وعشائره، فأمر علياً أن يأمر خديجة أن تتخذ له طعاماً ففعلت، ثم أمره أن يدعو له أقرباءه من بني عبدالمطلب، فدعا أربعين رجلاً فقال: هات لهم طعاماً يا علي، فأتاه بثريدة وطعام يأكله الثلاثة والأربعة فقدمه إليهم، وقال: كلوا وسموا، فسمى ولم يُسَمِّ القوم فأكلوا وصدروا شبعى. فقال أبولهب: جاد ما سحركم محمد يطعم من طعام ثلاث رجال أربعين رجلاً! هذا والله هو السحر الذي لا بعده! فقال علي (علیه السلام): ثم أمرني بعد أيام فاتخذت له مثله ودعوتهم بأعيانهم، فطعموا وصدروا.

21. ومن ذلك: أن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: دخلت السوق فابتعت لحماً بدرهم

ص: 582

وذُرَةً بدرهم، فأتيت به فاطمة (علیها السلام) حتى إذا فرغت من الخبز والطبخ قالت: لو دعوت أبي فأتيته وهو مضطجع وهو يقول: أعوذ بالله من الجوع ضجيعاً. فقلت له: يا رسول الله إن عندنا طعاماً، فقام واتكأ عليَّ ومضينا نحو فاطمة (علیها السلام)، فلما دخلنا قال: هلم طعامك يا فاطمة فقدمت إليه البَرمة والقرص، فغطى القرص وقال: اللهم بارك لنا في طعامنا. ثم قال: أغرفي لعائشة فغرفت، ثم قال: أغرفي لأم سلمة فغرفت، فما زالت تغرف حتى وجهت إلى نسائه التسع قرصة قرصة ومرقاً. ثم قال: أغرفي لأبيك وبعلك ثم قال: أغرفي وكلي واهدي لجاراتك، ففعلت، وبقي عندهم أياماً يأكلون.

22. ومن ذلك: أن امرأة عبدالله بن مسلَّم أتته بشاة مسمومة، ومع النبي (صلی الله علیه و آله) بشر بن البراء بن عازب، فتناول النبي (صلی الله علیه و آله) الذراع وتناول بشر الكراع، فأما النبي (علیه السلام) فلاكها ولفظها وقال: إنها لتخبرني أنها مسمومة.وأما بشر فلاك المضغة وابتلعها فمات، فأرسل إليها فأقرت، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قالت: قتلت زوجي وأشراف قومي فقلت: إن كان ملكاً قتلته وإن كان نبياً فسيطلعه الله تبارك وتعالى على ذلك.

23. ومن ذلك: أن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: رأيت الناس يوم الخندق يحفرون وهم خماص، ورأيت النبي (علیه السلام) يحفر وبطنه خميص، فأتيت أهلي فأخبرتها فقالت: ما عندنا إلا هذه الشاة ومحرز من ذُرَة. قال: فاخبزي، وذبح الشاة وطبخوا شقها وشووا الباقي، حتى إذا أدرك أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله اتخذت طعاماً فائتني أنت ومن أحببت، فشبك أصابعه في يده ثم نادى: ألا إن جابراً يدعوكم إلى طعامه. فأتى أهله مذعوراً خجلاً فقال لها: هي الفضيحة قد حفل بهم أجمعين. فقالت: أنت دعوتهم أم هو؟ قال: هو. قالت: فهو أعلم بهم. فلما رآنا أمر بالأنطاع فبُسطت على الشوارع، وأمره أن يجمع التواري يعني قصاعاً كانت من خشب، والجفان، ثم قال: ما عندكم من الطعام؟ فأعلمته،

ص: 583

فقال: غطوا السدانة والبرمة والتنور، واغرفوا، وأخرجوا الخبز واللحم وغطوا! فما زالوا يغرفون وينقلون ولا يرونه ينقص شيئاً حتى شبع القوم، وهم ثلاثة آلاف! ثم أكل جابر وأهله، وأهدوا وبقي عندهم أياماً.

24. ومن ذلك: أن سعد بن عبادة الأنصاري أتاه عشية وهو صائم فدعاه إلى طعامه،ودعا معه علي بن أبي طالب (علیه السلام) فلما أكلوا قال النبي (صلی الله علیه و آله): نبي ووصي، يا سعد أكل طعامك الأبرار، وأفطر عندك الصائمون، وصلت عليكم الملائكة. فحمله سعد على حمار قطوف وألقى عليه قطيفة، فرجع الحمار وإنه لهملاج ما يسايَر.

25. ومن ذلك: أنه أقبل من الحديبية وفي الطريق ماء يخرج من وشل بقدر ما يروي الراكب والراكبين، فقال: من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه. فلما انتهى إليه دعا بقدح فتمضمض فيه ثم صبه في الماء ففاض الماء، فشربوا وملؤوا أدواتهم ومياضيهم وتوضؤوا. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لئن بقيتم أو بقي منكم، ليتسعن بهذا الوادي بسقي ما بين يديه من كثرة مائه، فوجدوا ذلك كما قال (صلی الله علیه و آله) .

26. ومن ذلك: إخباره عن الغيوب وما كان وما يكون، فوجد ذلك موافقاً لما يقول. ومن ذلك أنه أخبر صبيحة الليلة التي أسري به بما رأى في سفره، فأنكر ذلك بعض وصدقه بعض، فأخبرهم بما رأى من المارة والممتارة، وهيآتهم ومنازلهم وما معهم من الأمتعة، وأنه رأى عيراً أمامها بعير أوْرَق، وأنه يطلع يوم كذا من العقبة مع طلوع الشمس! فغدوا يطلبون تكذيبه للوقت الذي وقته لهم، فلما كانوا هناك طلعت الشمس فقال بعضهم: كذب الساحر، وأبصر آخرون بالعير قد أقبلت يقدمها الأورق، فقالوا: صدق، هذه نِعَمٌ قد أقبلت!

27. ومن ذلك: أنه أقبل من تبوك فجهدوا عطشاً، وبادر الناس إليه يقولون: الماء الماء يا رسول الله. فقال لأبي هريرة: هل معك من الماء شئ؟ قال: كقدر قدح في ميضاتي، قال: هلم ميضاتك فصب ما فيه في قدح ودعا وأوعاه، وقال: ناد: من أراد الماء! فأقبلوا يقولون: الماء يا رسول الله. فما زال يسكب وأبو هريرة يسقي حتى روي

ص: 584

القوم أجمعون، وملؤوا ما معهم، ثم قال لأبي هريرة: إشرب، فقال: بل آخركم شرباً، فشرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

28. ومن ذلك: أن أخت عبدالله بن رواحة الأنصاري مرَّت به أيام حفرهم الخندق فقال لها: إلى أين تريدين؟ قالت: إلى عبدالله بهذه التمرات، فقال: هاتيهن، فنثرت في كفه، ثم دعا بالأنطاع وفرقها عليها وغطاها بالأزُر، وقام وصلى، ففاض التمر على الأنطاع ثم نادى: هلموا وكلوا. فأكلوا وشبعوا، وحملوا معهم، ودفع ما بقي إليها!

29. ومن ذلك: أنه كان في سفر فأجهدوا جوعاً فقال: من كان معه زاد فليأتنا به. فأتاه نفر منهم بمقدار صاع، فدعا بالأزر والأنطاع، ثم صفف التمر عليها، ودعا ربه فأكثر الله ذلك التمر، حتى كان أزوادهم إلى المدينة!

30. ومن ذلك: أنه أقبل من بعض أسفاره فأتاه قوم فقالوا: يا رسول الله، إن لنا بئراً إذا كان القيظ اجتمعنا عليها، وإذا كان الشتاء تفرقنا على مياه حولنا، وقد صار من حولنا عدواً لنا فادع الله في بئرنا، فتفل (صلی الله علیه و آله) في بئرهم ففاضت المياه المغيبة فكانوا لا يقدرون أن ينظروا إلى قعرها بعدُ، من كثرة مائها. فبلغ ذلك مسيلمة الكذاب فحاول ذلك في قليب قليل ماؤه، فتفل الأنكد في القليب، فغار ماؤه وصار كالجبوب!

31. ومن ذلك: أن سراقة بن جعشم حين وجهه قريش في طلبه، ناوله نبلاً من كنانته وقال له: ستمر برعاتي فإذا وصلت إليهم فهذا علامتي، أطعم عندهم واشرب، فلما انتهى إليهم أتوه بعنز حائل فمسح (صلی الله علیه و آله) ضرعها فصارت حاملاً ودرت، حتى ملؤوا الإناء وارتووا ارتواءً!

32. ومن ذلك: أنه نزل بأم شريك فأتته بعكة فيها سمن يسير، فأكل هو وأصحابه ثم دعا لها بالبركة، فلم تزل العكة تصب سمناً أيام حياتها!

33. ومن ذلك: أن أم جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة «تبَّت» ومع

ص: 585

النبي أبوبكر بن أبي قحافة، فقال: يا رسول الله، هذه أم جميل مُحْفَظَة أي مُغضبة تريدك، ومعها حجر تريد أن ترميك به. فقال: إنها لا تراني. فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: حيث شاء الله. قالت: لقد جئته ولو أراه لرميته، فإنه هجاني واللات والعزى إني لشاعرة! فقال أبوبكر: يا رسول الله لم تَرَك؟ قال: لا، ضرب الله بيني وبينها حجاباً.

34. ومن ذلك: كتابه المهيمن الباهر لعقول الناظرين [القرآن الكريم] مع ما أعطي من الخلال التي إن ذكرناها لطالت.

فقالت اليهود: وكيف لنا أن نعلم أن هذا كما وصفت؟ فقال لهم موسى (علیه السلام): وكيف لنا أن نعلم أن ما تذكرون من آيات موسى على ماتصفون؟

قالوا: علمنا ذلك بنقل البررة الصادقين. قال لهم: فاعلموا صدق ما أنبأتكم به، بخبر طفل لقنه الله من غير تلقين، ولا معرفة عن الناقلين. فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنكم الأئمة القادة والحجج من عند الله على خلقه. فوثب أبوعبدالله (علیه السلام) فقبل بين عينيَّ ثم قال: أنت القائم من بعدي، فلهذا قالت الواقفة، إنه حي وإنه القائم. ثم كساهم أبوعبدالله (علیه السلام) ووهب لهم وانصرفوا مسلمين». انتهى.

أسماء النبي (صلی الله علیه و آله) وألقابه

قال ابن شهرآشوب في المناقب: 1/131: «وأسماؤه في الأخبار: العاقب، وهو الذي يعقب الأنبياء. الماحي،الذي يمحى به الكفر، ويقال تمحى به سيئات من اتبعه، ويقال الذي لا يكون بعده أحد. الحاشر، الذي يحشر الناس على قدميه. والمقفى، الذي قفى النبيين جماعة. الموقف، يوقف الناس بين يدي الله. القثم وهو الكامل الجامع. ومنه: الناشر، والناصح، والوفي، والمطاع، والنجي، والمأمون، والحنيف، والحبيب، والطيب، والسيد، والمقترب، والدافع، والشافع، والمشفع، والحامد، والمحمود، والموجه والمتوكل، والغيث.

وفي التوراة: ميذميذاي: غفور رحيم، وقيل ميد ميداي: محمد، وقيل مود مود.

وفي حكاية أن إسمه فيها مرقوفا، أي المحمود.

ص: 586

وفي الزبور: قليطا مثل أبي القاسم فقالوا بلقيطا، وقالوا فاروق وقالوا محياثا.

وفي الإنجيل: طاب طاب أحمد، ويقال يعني طيب طيب. وفي كتاب شعيا: نور الأمم، ركن المتواضعين، رسول التوبة، رسول البلاء. وفي الصحف: بلقيطا، وفي صحف شيث: طاليثا، وفي صحف إدريس: بهيائيل، وفي صحف إبراهيم: مود مود. وفي السماء الدنيا: المجتبی، وفي الثانية: المرتضى، وفي الثالثة: المزكى، وفي الرابعة: المصطفى، وفي الخامسة: المنتجب، وفي السادسة: المطهر والمجتبى، وفي السابعة: المقرب والحبيب».

ص: 587

الفصل الرابع والثلاثون: المدينة عند هجرة النبی (صلی الله علیه و آله)

1- النبي (صلی الله علیه و آله) يدخل عاصمته ويؤسس المسجد النبوي

في ذكرى الشيعة: 3/116: «قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة فنزل في علو المدينة، في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا متقلدين بسيوفهم، فجاء معهم حتى ألقى بفناء أبي أيوب».

وفي الكافي: 8/339: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قدم عليه علي (علیه السلام) تحول من قُبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (علیه السلام) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس، فخط لهم مسجداً ونصب قبلته، فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين.

ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي (علیه السلام) معه لا يفارقه يمشي بمشيه، وليس يمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به ورسول الله (صلی الله علیه و آله) واضعٌ لها زمامها، حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى، وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يصلي عنده بالجنائز، فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقبل أبوأيوب مبادراً حتى احتمل رحله فأدخله منزله، ونزل رسول الله وعلي (علیه السلام) معه، حتى بني له مسجده، وبنيت له مساكنه ومنزل علي (علیه السلام) فتحولا إلى منازلهما».

وفي المناقب: 1/115: «فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ولم يكن في المدينة أفقر

ص: 588

منه، فانطلقت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبي (صلی الله علیه و آله) فنادى أبوأيوب: يا أماه إفتحي الباب، فقد قدم سيد البشر وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفى والرسول المجتبى، فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت: واحسرتا، ليت كان لي عين أبصر بها إلى وجه سيدي رسول الله، فكان أول معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة أنه وضع كفه على وجه أم أبي أيوب، فانفتحت عيناها»!

أقول: في بعض الروايات أن أم أبي أيوب جاء وأخذت وسائل النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يصح ذلك لأن أباأيوب كان موجوداً وكانت أمه عمياء حتى شفاها النبي (صلی الله علیه و آله) . وسنفرد عنواناً لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

وفي المناقب: 1/159: «فنزل النبي (صلی الله علیه و آله) على كلثوم بن هدم، وكان يخرج فيجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وكان قيام علي (علیه السلام) بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاث ليال، ثم لحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) فنزل معه على كلثوم. فأقام النبي (صلی الله علیه و آله) بقبا يوم الإثنين والأربعاء والخميس، وأسس مسجده وصلى يوم الجمعة في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رافوقا، فكانت أول صلاة صلاها بالمدينة، ثم أتاه غسان بن مالك وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعُدة والمِنعة، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، يعني ناقته.

ثم تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة، فقالا كذلك.

ثم اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة.

ثم اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبدالله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج. فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، فلما بركت ورسول الله (صلی الله علیه و آله) لم ينزل، ووثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت، ثم تجلجلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) . واحتمل أبوأيوب رحله فوضعه في بيته، ونزل النبي (صلی الله علیه و آله) في بيت أبي أيوب،

ص: 589

وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء فأرضاهما معاذ، وأمر النبي ببناء المسجد، وعمل فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون، فقال بعضهم:

لئن قعدنا والنبيُّ يَعْمَلُ *** لَذَاكَ منَّا العملُ المُضَلَّلُ

والنبي (صلی الله علیه و آله) يقول: لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة.

ثم انتقل من بيت أبي أيوب إلى مساكنه التي بنيت له. وقيل كان مدة مقامه بالمدينة إلى أن بني المسجد وبيوته من ربيع الأول إلى صفر من السنة القابلة».

وفي رواية إعلام الورى: 1/154: «أن دخوله إلى المدينة كان يوم الجمعة، وأنه صلى الجمعة في مسجد بني سالم في طريقه، وصلى إلى بيت المقدس، وصلى معه مائة رجل. ثم انتهى إلى عبدالله بن أبي فأخذ عبدالله كُمَّه ووضعه على أنفه من الغبار وقال للنبي (صلی الله علیه و آله): يا هذا إذهب إلى الذين غروك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولاتَغْشَنا في ديارنا! فسلط الله على دورهم الذر فخربها، فصاروا نُزَّالاً على غيرهم، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله لايعرض في قلبك من قول هذا شئ، فإنا كنا اجتمعنا على أن نملكه علينا وهو يرى الآن أنك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه، فانزل عليَّ يا رسول الله، فإنه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر مني، ونحن أهل الجَلَد والعِز. فأرخى زمام ناقته ومرت تَخِبُّ به حتى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم، فبركت على باب أبي أيوب خالد بن زيد. وكان أبوأيوب له منزل أسفل وفوق المنزل غرفة، فكره أن يعلو رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي العلو أحب إليك أم السُّفل؟ فإني أكره أن أعلو فوقك. فقال (صلی الله علیه و آله): السُّفل أرفق بنا لمن يأتينا.

قال أبوأيوب: فكنا في العلو أنا وأمي، فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله، وكنت أصعد وأمي إلى العلو خفياً من حيث لا يعلم ولا يحس بنا، ولا نتكلم إلا خُفياً، وكان إذا نام (صلی الله علیه و آله) لا نتحرك، وربما طبخنا في غرفتنا فنجيف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخان.

ولقد سقطت جرة لنا وأهريق الماء فقامت أم أبي أيوب إلى قطيفة لم يكن لها والله غيرها،

ص: 590

فألقتها على ذلك الماء تستنشف به، مخافة أن يسيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك شئ! وكان يحضر رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين، وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه في كل يوم غداء وعشاء، في قصعة ثريد عليها عراق «قطع لحم» وكان يأكل معه من حوله حتى يشبعوا، ثم تُرَدُّ القصعة كما هي!

وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشى معه من حضره، وترد القصعة كما هي! فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه: أسعد بن زرارة، وسعد بن خيثمة، والمنذر بن عمرو، وسعد بن الربيع، وأسيد بن حضير.

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصلي في المربد بأصحابه، فقال لأسعد بن زرارة: إشترِ هذا المربد من أصحابه، فساوم اليتيمين عليه فقالا: هو لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال رسول الله: لا إلا بثمن، فاشتراه بعشرة دنانير، وكان فيه ماء مستنقع فأمر به رسول الله فَسُيِّلَ وأمر باللبن فضُرب فبناه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحفره في الأرض، ثم أمر بالحجارة فنقلت من الحرة، وكان المسلمون ينقلونها فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحمل حجراً على بطنه، فاستقبله أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطني أحمله عنك، قال: لا، إذهب فاحمل غيره.

فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتى بلغ وجه الأرض،ثم بناه أولاً بالسعيدة لبنة لبنة، ثم بناه بالسميط وهو لبنة ونصف، ثم بناه بالأنثى والذكر لبنتين مخالفتين، ورفع حائطه قامة. ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً، فرفع أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب، ثم ظلله وألقى عليه سعف النخل فعاشوا فيه فقالوا: يا رسول الله لو سقفت سقفاً. قال: لا، عريشٌ كعريش موسى، الأمر أعجل من ذلك.

وابتنى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منازله ومنازل أصحابه حول المسجد، وخط لأصحابه خططاً فبنوا فيها منازلهم، وكلٌّ شرع منه باباً إلى المسجد، وخطَّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد، وخط لعلي بن أبي طالب مثل ما خط لهم.

وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد، فنزل عليه جبرئيل فقال:

ص: 591

يامحمد إن الله يأمرك أن تأمر كل من كان له باب إلى المسجد يسده، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلا لك ولعلي، يحل لعلي فيه ما يحل لك. فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال: أنا عمه يأمر بسد بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر مني! فجاءه فقال (صلی الله علیه و آله): يا عم لاتغضبن من سد بابك وترك باب علي، فوالله ما أنا أمرت بذلك ولكن الله أمر بسد أبوابكم وترك باب علي! فقال: يا رسول الله رضيت وسلمت لله ولرسوله. قال: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث بني منازله كانت فاطمة (علیها السلام) عنده».

وفي الكافي: 3/295 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنى مسجده بالسميط، ثم إن المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال: نعم فأمر به فزيد فيه وبناه بالسعيدة. ثم إن المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال: نعم فأمر به فزيد فيه وبنا جداره بالأنثى والذكر، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، فقال نعم، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثم طرحت عليه العوارض والخصف والإذخر،فعاشوا فيه حتى أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يَكِفُ عليهم فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين، فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا، عريشٌ كعريش موسى (علیه السلام)، فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وكان جداره قبل أن يظلل قامة، فكان إذا كان الفيئ ذراعاً، وهو قدر مريض عنز صلى الظهر، وإذا كان ضعف ذلك صلى العصر.

وقال (علیه السلام): السميط لبنة لبنة، والسعيدة لبنة ونصف، والذكر والأنثى لبنتان مخالفتان. وعن الحلبي قال: سألته كم كان مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: كان ثلاثة آلاف وست مائة ذراع تكسيراً».

وفي الكافي: 5/121: قال روح بن عبدالرحيم: سألت الإمام الصادق (علیه السلام): «عن شراء المصاحف وبيعها؟ فقال: إنما كان يوضع الورق عند المنبر، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجلٌ منحرف، قال: فكان الرجل يأتي ويكتب من ذلك، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك. قلت: فما ترى في ذلك؟ قال لي: أشتري أحب إليَّ من أن أبيعه. قلت: فما ترى أن أعطي على كتابته أجراً؟ قال: لا بأس، ولكن هكذا كانوا يصنعون».

ص: 592

2- المدينة واحاتٌ زراعية سكنها العرب اليمانيون

قال الحموي في معجم البلدان: 5/82: «سبخةٌ من الأرض، ولها نخيل كثيرةٌ ومياه، ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد. وللمدينة سور، والمسجد في نحو وسطها، وقبر النبي (صلی الله علیه و آله) في شرقي المسجد. وبقيع الغرقد خارج المدينة.

وقُباء خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة، وهي شبيهة بالقرية. وأحُدُ جبل في شمال المدينة، وهو أقرب الجبال إليها، مقدار فرسخين. وبقربها مزارع فيها نخيل وضياع لأهل المدينة، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع، والفرع من المدينة على أربعة أيام في جنوبيها. وكان على المدينة وتهامة في الجاهلية عامل من قبل مرزبان الزارة يجبي خراجها «حاكم القطيف من قبل كسرى- معجم البلدان 3/126» وكانت قريظة والنضير اليهود ملوكاً حتى أخرجهم منها الأوس والخزرج من الأنصار. وكانت الأنصار تؤدي خراجاً إلى اليهود، قال بعضهم:

نؤدي الخرْج بعد خَرَاج كسرى *** وخَرْج بني قريظة والنضير

لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة وثب على أصحابه وباء شديد حتى أهمدتهم الحمى فما كان يصلي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا اليسير، فدعا لهم.

ومن خصائص المدينة أنها طيبة الريح، وللعطر فيها فضل رائحة لا توجد في غيرها، وتمرها الصيحاني لا يوجد في بلد من البلدان مثله، ولهم حَبُّ اللبَّان ومنها يحمل إلى سائر البلدان، وجبلها أحد قد فضله رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وأخبار مدينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثيرة، وقد صنف فيها وفي عقيقها وأعراضها وجبالهاكتب. وأما المسافات، فإن من المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل، ومن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، وطريق البصرة إلى المدينة نحو من ثماني عشرة مرحلة، ويلتقي مع طريق الكوفة بقرب معدن النقرة، ومن الرقة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، ومثله من فلسطين إلى المدينة».

ص: 593

أقول: روت مصادر التاريخ والسيرة أن الأوس والخزرج قبيلة يمانية سكنت في واحة يثرب من زمن الملك تُبَّع الأول، وعرفوا ببني قَيْلَة، وهي أمهم بنت كال بن عذرة، ورووا أن تُبَّعاً الأول كان ملكاً لليمن والحجاز والعراق، وكان يعرف بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) فأسكن فيها يمانيين، وكتب معهم رسالة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .

ففي المناقب: 1/17، عن كتاب النبوة لابن بابويه عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن تبعاً قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي، أمَا لو أدركته لخدمته ولخرجت معه». راجع: ابن هشام: 1/10، الطبري: 1/534، العدد القوية/113، عمدة القاري: 4/176 والصحيح من السيرة: 4/91.

أما اليهود فجاؤوا بعد المسيح (علیه السلام) «الكافي 8/310» لانتظار نبي موعود يكون مهاجره المدينة، ثم جحدوه لأنه من أبناء إسماعيل، وأرادوه من أبناء إسحاق!

لكن ابن خلدون قال: 1/356 واليعقوبي: 1/203: «ملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز، ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها».

ولا يعني ذلك أن المدينة كانت مملكة، بل واحة فيها يهود، وكانت جزءً من الجزيرة واليمن التي يحكمها تُبَّع، فأسكن فيها الأوس والخزرج، فهابهم اليهود وتحالفوا معهم. فلا دليل على أن اليهود كانوا يوماً حاكمين في الجزيرة.

وتدل تبعية المدينة لمرزبان الزارة الفارسي أي حاكم البحرين، على أن الجزيرة العربية كانت مطوقة بنفوذ الفرس، من دولة المناذرة في العراق وحاكم البحرين وحاكم اليمن وكلهم تابعون لكسرى. وإذا صح بيت الشعر المتقدم، فلا بد أن يكون خرج اليهود الذي يدفعه الأنصار بمعنى رباهم، لأنهم كانوا مرابين.

3- عدد سكان المدينة عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)

كان سكان المدينة لما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) اليها بضعة آلاف نسمة، وروي أن أربعة آلاف أكلوا في وليمة عرس علي وفاطمة (علیهما السلام)، لكن كان معهم أهل ضواحيها.

ففي أمالي الطوسي/42 والمناقب: 3/129، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «قال علي (علیه السلام):

ص: 594

وأكل القوم عن آخرهم طعامي وشربوا شرابي ودعوا لي بالبركة، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، ولم ينقص من الطعام شئ! ثم دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصحاف فملئت ووجه بها إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال: هذا لفاطمة وبعلها».

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) يأمر بعدَّ المسلمين، فعن حذيفة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر أن يكتب له كل من تلفظ بالإسلام من أهل المدينة، فكانوا سبع مئة. ابن ماجة: 2/1337.

ثم قال (صلی الله علیه و آله): «أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس فكتبنا له ألفاً وخمس مائة رجل، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمس مائة»! صحيح بخاري: 4/33.

وكان ذلك في السنة الخامسة، أو السادسة. فتح الباري: 6/124.

4- عدد المسلمين المهاجرين إلى المدينة

يعرف عدد المهاجرين من أحاديث مؤاخاة النبي (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار، أو بين المهاجرين أنفسهم أوالأنصار أنفسهم. بل يعرف عدد كل المسلمين يومها لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يترك أحداً بدون مؤاخاة. الإمتاع: 1/69.

وفي تاريخ دمشق: 42/52: «آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين فقال لعلي: أنت أخي وأنا أخوك، وآخى بين أبي بكر وعمر، وآخى بين المسلمين جميعاً».

وذكر في الصحيح من السيرة: 4/228، أن المهاجرين كانوا في بدر خمسة وأربعين، ثم وصلوا في المدينة إلى مئة وخمسين. ويضاف اليهم أربعة وعشرون من مهاجري الحبشة جاؤوا إلى المدينة: «لما بلغهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً، فشهدوا بدراً». فتح الباري: 3/60.

5- كيف تم إسكان المسلمين المهاجرين في المدينة

كان استقبال الأنصار للمسلمين المهاجرين فريداً من نوعه، فقد استضافوهم في بيوتهم وفضلوهم على أنفسهم، ثم وهبوا لهم بيوتاً وأراضي وساعدوهم على

ص: 595

بنائها. وقد مدحهم لإيثارهم فقال تعالى: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَءُوا الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلاتَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ.

وفي شرح النهج: 6/29، أن عمرو بن العاص ذم الأنصار لموقفهم في السقيفة ضد خلافة أبي بكر وعمر وقال: «ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة». ثم قال شعراً في ذمهم! فجاء خالد بن سعيد بن العاص فغضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال: «يا معشر قريش، إن عمراً دخل في الإسلام حين لم يجد بداً من الدخول فيه، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه! وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار. والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا، وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم، وما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، ولقد وصى رسول الله بهم وعزَّاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني».

وفي جامع أحاديث الشيعة: 8/575، من مناظرة المأمون مع الفقهاء:«قال النبي (صلی الله علیه و آله) للأنصار: إن شئتم أخرجتم المهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لهم هذه الأموال دونكم، وإن شئتم تركتم أموالكم وأقسمت لكم معهم.

قالت الأنصار: بل إقسم لهم دوننا واتركهم معنا في دورنا وأموالنا، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، يعني يهود قريظة، فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ، لأنهم كانوا معهم بالمدينة أقرب من أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب،

ص: 596

ثم قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

وقال البلاذري في الفتوح: 1/5: «وهبت الأنصار لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كل فضل كان في خططها وقالوا: يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا! فقال لهم خيراً».

وفي معجم البلدان: 5/86: «كان (صلی الله علیه و آله) يُقطع أصحابه هذه القطائع، فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له، فكان يقطع من ذلك ما شاء. وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان فوهب له ذلك وأقطعه».

وفي فتح الباري: 6/181 «جعلوا للنبي ما لا يبلغه المأمن من أرضهم، فأقطع النبي (صلی الله علیه و آله) من شاء منه».

وقال الطوسي في المبسوط: 3/274: «روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أقطع الدور بالمدينة». وذكر في مكاتيب الرسول: 1/350 نحو ثلاثين مورداً من إقطاعاته (صلی الله علیه و آله) .

وفي الطبقات: 8/22: «لما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها، فلما تزوج علي فاطمة قال لعلي: أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي (صلی الله علیه و آله) قليلاً فبنى بها فيه، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) إليها فقال: إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ، فقالت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قد تحول حارثة عنا قد استحيت منه، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع! فقال رسول الله: صدقت، بارك الله عليك، فحولها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى بيت حارثة».

وفي صحيح بخاري: 4/208، أن رجلاً سأل عبدالله بن عمر عن علي (علیه السلام): «فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: أجل! قال فأرغم الله بأنفك»! وفي فتح الباري: 7/59:

ص: 597

«سألت ابن عمر عن علي فقال: أنظر إلى منزله من نبي الله ليس في المسجد غير بيته».

وفي الكافي: 4/555 عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا دخلت من باب البقيع فبيت علي صلوات الله عليه على يسارك، قدر ممر عنز من الباب، وهو إلى جانب بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وباباهما جميعاً مقرونان».

وقال في الطبقات: 8/166 يصف بيوت أزواج النبي (صلی الله علیه و آله): «رأيت منازل أزواج رسول الله حين هدمها عمر بن عبدالعزيز وهو أمير المدينة في خلافة الوليد بن عبدالملك، وزادها في المسجد: كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد، مطرور بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي (صلی الله علیه و آله)».

أقول: كانت حجرة عائشة أبعد الحجر عن بيت النبي (صلی الله علیه و آله)، أما بيت أبي بكر فكان في السنح من جهة أحد، وبيت عمر كان في العوالي من جهة قباء، وهما يبعدان عن المسجد كيلو مترات، ولم يكن بجانب المسجد وبيت النبي (صلی الله علیه و آله) إلا بيت علي (علیه السلام)، وبعض بيوت بني هاشم. وقد بحثنا ذلك في سيرة الإمام الحسن (علیه السلام) من جواهر التاريخ، وأثبتنا أن النبي (صلی الله علیه و آله) دفن في بيته، لا في بيت عائشة.

6- الوضع السياسي العالمي عند تأسيس النبي (صلی الله علیه و آله) لدولته

كانت الدولتان اللتان تحكمان العالم في عهد النبي (صلی الله علیه و آله): فارس والروم. فكان كسرى يحكم قسماً من العراق مباشرة، وقسماً بواسطة المناذرة، وكانت فيه قبائل عربية كبيرة من أشهرها ربيعة، وكانت البحرين ومحيطها تحت حكم كسرى مباشرة أيضاً، يعين لها حاكماً يسمى المرزبان، وأبرز قبائلها عبدالقيس، وبنو تميم، كما كانت اليمن تحت حكم كسرى وفيها حاكم فارسي إلى جنب الملك، من أبناء الذين حرروها من حكم الحبشة مع سيف بن ذي يزن، وكان فيها قبائل قوية عديدة كهمدان وكندة. أما قبائل الحجاز فكانت شبه مستقلة، وأبرزها قريش بسبب ولايتها للكعبة، وأكثرها عدداً تميم وهوازن في نجد.

ص: 598

وقد شمل حكم كسرى مضافاً إلى بلاد فارس وما وراء النهر إلى حدود الصين وروسيا، وقسماً من الهند، وكانت الشام وفلسطين منطقة صراع بين الفرس والروم، وقد غلب عليها الفرس بعد بعثة النبي (صلی الله علیه و آله)، وأخبر القرآن بأن الروم سيغلبونهم بعد بضع سنين فغلبوهم في أذرعات أيام معركة بدر.

وكانت أمبراطورية الروم أوسع، فكانت روما الغربية تحكم أوروبا الغربية والشرقية، وكان قيصر روما الشرقية في القسطنطينية يحكم تركيا وبلاد الشام وفلسطين ومصر والحبشة، ويمد منها نفوذه إلى أفريقيا، كما يمد نفوذه من جهة الشام إلى الجوف، ويطمع أن يُخضع المدينة ويقضي على النبوة.

وكان اليهود عملاء للرومان مع أنهم دمروا دولتهم، وبعضهم عملاء للفرس الذين دمروا دولتهم من قبل، وقد هاجرت قبائل منهم إلى أرض العرب تنتظر النبي الموعود، على أمل أن يكون من أبنائهم!

أما بقية دول العالم فكان أهمها الهند والصين، وكانتا دولتين نائيتين مقفلتين على نفسيهما. أو ممالك صغيرة تحكمها أسر وقبائل.

ص: 599

الفصل الخامس والثلاثون: النبی (صلی الله علیه و آله) يرسي أسس الدولة الإسلامية

1- آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين، واتخذ علياً (علیه السلام) أخاً له

اشارة

كانت المؤاخاة مرتين في مكة والمدينة «فتح الباري: 7/210». وربما آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلم وثلاثة فقد آخى بين سلمان الفارسي وأبيذر، وبينه وبين أبي الدرداء.

قال العلامة الحلي في كشف اليقين/208: «قال حذيفة بن اليمان (رحمة الله): آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال: هذا أخي. قال حذيفة: فرسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد المرسلين وإمام المتقين، ورسول رب العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير، وعلي أخوه. والأخبار في ذلك كثيرة، وهذه منزلة شريفة ومقام عظيم، لم يحصل لأحد مثله».

وقال ابن أبي حاتم في الدر النظيم/250: «قال أهل العدل: وجدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما آخى بين أصحابه ضم كل شكل إلى شكله وكل إنسان إلى مثله، وكل نظير إلى نظيره، فضم أبابكر إلى عمر، وعثمان إلى أبي عبيدة بن الجراح، وطلحة إلى الزبير، وسعد بن أبي وقاص إلى سعيد بن نفيل، وآخى بينهم على هذا المثال. وآخى بينه وبين أميرالمؤمنين (علیه السلام)».

وفي الدر المنثور: 3/205: «عن ابن عباس قال: كان رسول الله آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، فآخى بين حمزة بن عبدالمطلب وبين زيد بن حارثة، وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء، وبين الزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود وبين أبي بكر وطلحة،

ص: 600

وبين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وقال لسائر أصحابه: تآخوا، وهذا أخي. يعني علي بن أبي طالب».

أما وقت المؤاخاة، فقيل بعد الهجرة بثمانية أشهر وقيل بخمسة، والصحيح أنها في ثاني عشر شهر رمضان في السنة الأولى لهجرة النبي (صلی الله علیه و آله) عند نزول قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.ففي كتاب مسارِّ الشيعة للصدوق (رحمة الله) /7 وفي طبعة/32: «وفي الثاني عشر نزل الإنجيل على عيسى بن مريم، وهو يوم المؤاخاة التي آخى فيه بين أصحابه، وآخى بينه وبين علي (علیه السلام)».

وفي أمالي الطوسي/587: «عن عبدالله بن عباس قال: لما نزلت: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبدالرحمن، وبين فلان وفلان، حتى آخى بين أصحابه أجمعهم، على قدر منازلهم، ثم قال لعلي بن أبي طالب (علیه السلام): أنت أخي وأنا أخوك».

وروى الجميع مؤاخاة النبي (صلی الله علیه و آله) بينه وبين علي (علیه السلام)، ومن ذلك:

ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 42/53: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما آخى بين المسلمين أخذ بيد علي فوضعها على صدره، ثم قال: يا علي أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. أما تعلم أن أول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي فأقام عن يمين العرش في ظلة فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بأبيك إبراهيم فيقام عن يمين العرش فيكسى حلة خضراء من حلل الجنة.

ثم يدعى بالنبيين والمرسلين بعضهم على إثر بعض فيقومون سماطين فيكسون حللاً خضرا من حلل الجنة.وأنا أخبرك يا علي أنه أول من يدعى بي من أمتي يدعى بك لقرابتك مني ومنزلتك عندي، فيدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد، يستبشر به آدم وجميع من خلق الله عزوجل من الأنبياء والمرسلين،فيستظلون بظل لوائي، فتسير باللواء بين السماطين الحسن بن علي عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش، فتكسى حلة خضراء من حلل الجنة فينادي مناد من عند العرش: يا محمد نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ

ص: 601

أخوك وهو علي. يا علي إنك تدعى إذا دعيت، وتحيا إذا حييت، وتكسى إذا كسيت».

هذا، وفي مؤاخاة النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين وبينه وبين علي (علیه السلام)، بحوث مهمة.

أسماء الذين آخى بينهم النبي (صلی الله علیه و آله)

قال ابن هشام: 2/351: «آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال، فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا في الله أخوين أخوين، وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب رضيالله عنه، أخوين.

وكان حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وزيد بن حارثة مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخوين.. وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة، ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة، أخوين.

وكان أبوبكر الصديق.. وخارجة بن زيد... أخوين.

وعمر بن الخطاب.. وعتبان بن مالك..أخوين. وأبو عبيدة بن عبدالله بن الجراح.. وسعد بن معاذ بن النعمان.. أخوين. وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع.. أخوين. والزبير بن العوام، وسلمة بن سلامة بن وقش..أخوين. وعثمان بن عفان، وأوس بن ثابت بن المنذر.. أخوين.

وطلحة بن عبيدالله، وكعب بن مالك..أخوين.

وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبى بن كعب.. أخوين.

ومصعب بن عمير بن هاشم، وأبوأيوب خالد بن زيد.. أخوين.

وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعباد بن بشر بن وقش.. أخوين.

وعمار بن ياسر.. وحذيفة بن اليمان.. أخوين.

وأبوذر.. والمنذر بن عمرو.. أخوين..

وكان حاطب بن أبي بلتعة.. وعويم بن ساعدة.. أخوين.

ص: 602

وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء عويمر بن ثعلبة.. أخوين.

وبلال.. مؤذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبو رويحة.. أخوين.

فهؤلاء من سميَ لنا ممن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بينهم من أصحابه».

وقال ابن عبد ربه في الدرر/90: «والصحيح عند أهل السير والعلم بالآثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المهاجرين والأنصار في حين قدومه إلى المدينة، أنه آخى بين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت، وآخى بين علي بن أبي طالب وبين نفسه (صلی الله علیه و آله) فقال له: أنت أخي في الدنيا والآخرة.. وآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو بأرض الحبشة ومعاذ بن جبل. وبين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع. وبين الزبير وسلمة بن سلامة بن وقش. وبين طلحة وكعب بن مالك. وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ. وبين سعد ومحمد بن مسلمة. وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب. وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين عمار وحذيفة بن اليمان حليف بني عبدالأشهل، وقد قيل بين عمار وثابت بن قيس. وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر. وبين أبيذر والمنذر بن عمرو. وبين ابن مسعود وسهل بن حنيف. وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء. وبين بلال وأبي رويحة الخثعمي حليف الأنصار. وبين حاطب بين أبي بلتعة وعويم بن ساعدة. وبين عبدالله بن جحش وعاصم بن ثابت. وبين عبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام. وبين الطفيل بن الحارث أخيه وسفيان بن بشر بن زيد من بني جشم بن الحارث بن الخزرج. وبين الحصين بن الحارث أخيهما وعبدالله بن جبير. وبين عثمان بن مظعون والعباس بن عبادة...وآخى رسول الله بينه «أوس بن ثابت» وبين عثمان بن عفان».

وهذه نصوص في المؤاخاة، وطبيعي أن يكون بعضها ضعيفاً وبعضها مكذوباً:

«فآخى بين أبي بكر وعمر وبين طلحة والزبير، وبين عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف». الطبقات: 3/174 والإكمال/177.

«آخى بين عويم وعمر». تاريخ بخاري: 1/69.

ص: 603

«آخى بين عويم بن ساعدة وحاطب بن أبي بلتعة». الطبقات: 3/459.

«آخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد الخزرجي». تاريخ دمشق:30/94.

«آخى بين الزبير وطلحة..آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك». الطبقات: 3/102 .

«وآخى النبي (صلی الله علیه و آله) بينه «الزبير» وبين سعد بن معاذ». تهذيب التهذيب: 6/25.

«آخى بين الزبير وبين عبدالله بن مسعود». تاريخ دمشق: 33/76 وسيرالذهبي: 1/467.

«آخى بينه «الزبير»وبين سلمة بن سلامة بن وقش». أسد الغابة: 2/196.

«آخى بين الزبير وبين عبدالله بن مسعود». تاريخ بغداد: 9 /57.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين عبدالله بن مسعود ومعاذ بن جبل». الطبقات:3/152.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل». الطبقات: 4/35والإصابة: 1/592.

«آخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت». العثمانية/161.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أبي سبرة بن أبي رهم وبين سلمة بن سلامة بن وقش». الطبقات: 3/402.

«آخى بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص.الطبقات: 3/125.

فآخى بينه «ابن عوف» وبين سعد بن الربيع الأنصاري».الإصابة:4/290، صحيح بخاري: 4/222، الآحاد والمثاني: 3/388.

«آخى رسول الله بين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص».الطبقات: 3/120.

«وآخى بين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، ويقال ذكوان بن عبد قيس». الطبقات: 3/120.

«وآخى رسول الله بين أبي أيوب ومصعب بن عمير».الطبقات: 3/484، والإصابة: 2/200.

«دعا سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر...ثم آخى بينهما». الآحاد والمثاني: 5/171.

«آخى بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان». عمدة القاري: 1/197ذيل الطبري/14.

«آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء...آخى بين سلمان وحذيفة». الطبقات: 4/84 وتاريخ دمشق: 21/440.

ص: 604

«وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك الأشجعي». الطبقات: 4/280.

«آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أصحابه بين سلمان وأبي الدرداء. وآخى بين عوف بن مالك وصعب بن جثامة».تاريخ دمشق: 47/48، الآحاد والمثاني: 5/171.

«عن الصادق (علیه السلام): إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بين سلمان وأبيذر، واشترط على أبيذر أن لا يعصي سلمان». الفوائد الرجالية: 2/149 والصحيح من السيرة: 4/244.

«آخى بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة». تاريخ دمشق: 47/48.

«آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بينه «المنذر بن عمرو» وبين أبيذر الغفاري». الإستيعاب: 3/1449.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين المنذر بن عمرو وطليب بن عمير». الطبقات: 3/555.

«وآخى رسول الله بين طليب بن عمير والمنكدر بن عمرو».تاريخ دمشق: 25/143.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بينه «سالم مولى أبي حذيفة» و أبي بكر». تأويل ابن قتيبة/285.

«وآخى رسول الله بينه «سالم» وبين معاذ بن ماعص الأنصاري». الطبقات: 3/88.

«وآخى بين معاذ بن ماعص وسالم مولى أبي حذيفة». الطبقات: 3/595.

«آخى بين أبي الهيثم بن التيهان وعثمان بن مظعون». الحاكم:3/286،

«وآخى رسول الله بين الحارثة بن سراقة والسائب بن عثمان بن مظعون». الطبقات:3/510.

«وآخى رسول الله بين السائب بن عثمان وبين حارثة بن سراقة الأنصاري». الطبقات:3/403.

«وآخى رسول الله بين عبدالله بن مظعون وسهل بن عبيدالله بن المعلى الأنصاري» الطبقات: 3/400، الإستيعاب: 2/810 والإصابة: 7/365.

«وآخى رسول الله بين أسيد بن حضير وزيد بن حارثة». الحاكم: 3/387.

«آخى بين حمزة وزيد بن حارثة». الطبقات: 8/159 وتاريخ دمشق: 19/361.

«آخى رسول الله بين عامر بن ربيعة ويزيد بن المنذر بن شريح الأنصاري». الحاكم: 3/358،الطبقات: 3/387 و 3/575 والإستيعاب: 4/1580.

«آخى رسول الله بين خباب وبين جبر بن عتيك». الحاكم: 3/382 والطبقات: 3/166.

ص: 605

«وآخى رسول الله بينه «محمد بن مسلمة» وبين أبي عبيدة بن الجراح». الحاكم:3/333، الطبقات: 3/410 و443، تاريخ دمشق: 55/260 والإصابة: 6/28.

«وآخى رسول الله بينه «شجاع بن وهب» وبين أوس بن خولي». الطبقات: 3/94 و542 والإستيعاب: 2/707.

«وآخى رسول الله بين عمير بن عبد عمرو الخزاعي وبين يزيد بن الحارث بن فسحم». الطبقات: 3/168 و534.

«وآخى رسول الله بين مسعود بن الربيع القاري وبين عبيد بن التيهان». الطبقات: 3/168، الإستيعاب: 3/1392 والإصابة: 6/77.

«وآخى رسول الله بين زيد بن الخطاب ومعن بن عدي بن العجلان». الطبقات:3/377.

«وآخى رسول الله بين عاقل بن أبي البكير وبين مبشر بن عبدالمنذر». الطبقات: 3/388و553.

«آخى رسول الله بين خنيس بن حذافة وأبي عبس بن جبر».الطبقات: 3/393 و450.

«وآخى رسول الله بين معمر بن الحارث ومعاذ بن عفراء». الطبقات: 3/401 و492.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين عبدالله بن مخرمة وفروة بن عمرو بن وذفة». الطبقات 3/404 و599.

«وآخى رسول الله بينه «المنذر أبا عبدة» وبين الطفيل بن الحارث بن المطلب». الطبقات: 3/377.

«آخى بين الطفيل بن الحارث وسفيان بن نسر بن عمرو بن الحارث». الطبقات: 3/52، و421.

«وآخى رسول الله بين وهب بن سعد وسويد بن عمرو». الطبقات: 3/407.

«وآخى رسول الله بين الحارث بن خزمة وإياس بن أبي البكير». الطبقات: 3/447.

«آخى رسول الله بين عباد بن بشر وبين أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة». الطبقات: 3/440.

«آخى رسول الله بين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى».الطبقات: 3/416 و601.

«آخى رسول الله بين رافع بن عنجدة والحصين بن الحارث بن المطلب». الطبقات: 3/461.

«آخى رسول الله بين ثعلبة بن حاطب ومعتب بن الحمراء».الطبقات: 3/460.

«وآخى رسول الله بين عاصم بن ثابت و عبدالله بن جحش».الطبقات: 3/462.

«آخى رسول الله بين عمارة بن حزم ومحرز بن نضلة». الطبقات: 3/486.

ص: 606

«وآخى رسول الله بين عبادة بن الصامت وأبي مرثد الغنوي». الطبقات: 3/546 .

«آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أبي دجانة وعتبة بن غزوان». الطبقات: 3/556.

«آخى رسول الله بين عمير بن الحمام وعبيدة بن الحارث». الطبقات: 3/565.

«وآخى بين بشر بن البراء بن معرور وبين واقد بن عبدالله التميمي». الطبقات: 3/570.

«آخى رسول الله بينه «واقد بن عبدالله»وبين بشربن البراء بن معرور».الإستيعاب: 4/1550.

«وآخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين جبار بن صخر والمقداد بن عمرو». الطبقات: 3/576.

«آخى رسول الله بينه «أحمد بن سلمة السلمي» وبين المقداد». الإستيعاب: 1/228.

«آخى رسول الله بين عائذ بن ماعص وسويبط بن عمرو العبدري». الطبقات:3/595.

«آخى بين بلال وبين أبي رويحة الخثعمي». الطبقات: 3/233وتاريخ دمشق: 66/234.

«آخى بين أبي بن كعب وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل». الطبقات:3/498.

«آخى بين المقداد بن عمرو وعبدالله بن رواحة». تاريخ دمشق: 60/157.

«آخى بين الحارث بن الصمة وصهيب». تاريخ الذهبي: 2/252.

«آخى بينه «زيد بن الدثنة الأنصاري»وبين مسطح بن أثانة».الوافي: 15/28.

ومن مكذوباتهم أن النبي (صلی الله علیه و آله) آخى بين نوفل بن الحارث والعباس. الطبقات: 4/46. مع أن العباس لم يهاجر، وخرج في بدر مع المشركين وأخذ أسيراً.

وكذا روايتهم بأنه (صلی الله علیه و آله) آخى بين علي (علیه السلام) وعثمان، وأن عثمان طالب بها علياً (علیه السلام)!

2- النبي (صلی الله علیه و آله) يرسي ميثاق الدولة الإسلامية ويحدد دستورها

اشارة

نورد هنا خلاصة لما كتبه المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم: «حقوق الإنسان عند أهل بيت النبوة والفكر المعاصر»:

«عندما وصل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى إقليم الدولة ومقر المجتمع الجديد، آخى بين الأنصار ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وآخى مرة ثانية بينه وبين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فأصبح المسلمون «المهاجرون والأنصار» كعائلة واحدة تربطهم وشائج الإسلام والإيمان وأخوته، وأصبح النبي (صلی الله علیه و آله) ولي هذه العائلة مجتمعة بالنص الشرعي، علاوة على رئاسته العامة لكل مواطني يثرب، من أتباع الديانات الأخرى..

ص: 607

أ- التعاقد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين

تم التعاقد الفعلي والقانوني بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفته الولي، أو السلطة، أو القيادة المختارة إلهياً لقيادة المجتمع الجديد، وبصفته أيضاً المتلقي للشريعة الإلهية والمؤتمن على تطبيق أحكامها في المجتمع الجديد، وبين المسلمين كأعضاء في المجتمع الجديد. وقد حرص رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أن يتم الدخول في الإسلام والإنتماء إلى المجتمع الجديد بموجب عقد حقيقي مع كل واحد يريد الدخول في الإسلام والإنتماء لمجتمعه الجديد، وأن يكون من بنود العقد القبول بقيادة الرسول للمجتمع، والقبول بطبيعة أحكام الشريعة الإلهية باعتبار أن «قيادة الرسول وتطبيق الشريعة الإلهية» الضمانة العملية لحماية الإنسان وتمكينه من ممارسة حقوقه كاملة غير منقوصة.

فلم يرو راوٍ قط أن رجلاً أو أنثى دخل في الإسلام دون أن يبايع رسول الله، فكل رجل كان يضع يده بيد الرسول كناية عن تمام التعاقد، وكل أنثى كانت تبايع الرسول بالصيغة والشكل الذي حدده الرسول (صلی الله علیه و آله) ... تلك حقيقة مطلقة لايملك أحد إنكارها، فالبيعة بين الطرفين كناية عن تمام التعاقد حسب الأعراف والأطر القانونية التي كانت سائدة آنذاك، وكانت كل بيعة تتم بالرضا والطواعية التامين، وبدون إكراه أو ضغط..

ب- التعاقد لتحديد إقليم الدولة ومكان المجتمع الجديد

وقع الإختيار الإلهي على مدينة يثرب «المدينة المنورة» لتكون المكان الذي تقام فيه نواة المجتمع الجديد، ومقر الدولة الإسلامية المباركة الجديدة، وكلف الله نبيه أن يترجم هذه التوجيهات الإلهية، فالتقى بعد أداء مناسك الحج بوفد مسلمي المدينة المنورة المكون من73 رجلاً وامرأتين، والذي كان يرأسه أسعد بن زرارة، واتفق هذا الوفد المفوض مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتعاقد معه على ما يلي:

1. أن يهاجر رسول الله وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة المنورة.

2. أن يقوم الأنصار متكافلين ومتضامنين بحماية رسول الله وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) كما يحمي كل واحد منهم نفسه ونساءه وأولاده.

ص: 608

3. أن تتاج الفرصة لمن يرغب من مسلمي مكة بالهجرة إلى المدينة والإنتماء إلى المجتمع الجديد، وأن يتولى الأنصار احتضان المهاجرين كأخوة لهم.

4. أن لايترك رسول الله المدينة المنورة عندما تعلو كلمة الله ويظهر أمره.

وبعد الإتفاق على المضمون الآنف لهذا العقد قام أعضاء الوفد والمرأتان بمبايعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ذلك فرداً فرداً، كناية عن تمام العقد وإبرامه...

ج- التعاقد مع أتباع الديانات المقيمين في المدينة

بوصول النبي والمهاجرين إلى المدينة المنورة تكونت كل مقومات الدولة:

1. السلطة: المكونة من الإمام وهو رسول الله وأهل شوراه أو حكومته الفعلية.

2. الإقليم: وهو منطقة يثرب أو المدينة المنورة وما حولها.

3.الشعب: من خلال البيعة العامة لرسول الله، عندما استقر في المدينة تكوَّن شعب الدولة الإسلامية وتحدد عملياً من:

1. المسلمين: وهم أمة واحدة من دون الناس، ويتألفون من: المهاجرين والأنصار الأوس والخزرج ومواليهم.

2. اليهود المتحالفين مع قبائل الأوس والخزرج، وهم يهود بني النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة.

3. من قبائل اليهود التي تعيش في أحياء خاصة بها حول المدينة.

4. ممن بقي على الشرك من الأعراب المتواجدين داخل المدينة وحولها.

وكان المسلمون يعرفون الشريعة الإلهية كقانون نافذ في المجتمع، ويرتبطون مع الرسول دائماً في الصلاة يومياً، أو مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.

أما العناصر الأخرى في مجتمع الدولة الإسلامية من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، فهي لاتعرف الحلال من الحرام، وبتعبير آخر فهي تجهل القانون النافذ في المجتمع الجديد الذي بدأت الدولة الإسلامية بتطبيقه، ولم ترتبط مع النبي بأي عقد. صحيح أن الكلمة العليا والقول الفصل في هذا المجتمع للنبي (صلی الله علیه و آله) وأن هذه العناصر قد استقبلته عند وصوله إلى يثرب، وعبرت عن ترحيبها وفرحتها

ص: 609

بقدومه، لكنه (صلی الله علیه و آله) لم ير من المناسب أن يمتد سلطان دولته إلى هذه العناصر دون رضاها والتعاقد معها.

لذلك وضع صحيفة تنظيمية بمثابة ملحق دستوري لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع الجديد وفئاته، ليعرفوا حدودهم فلا يتجاوزوها، وتتكرس فكرة سيادة الشريعة الإسلامية على الأمة المسلمة، وسيادة القانون.

د- تكييف هذا العقد

وهذا الملحق الدستوري عبارة عن كتاب من محمد (صلی الله علیه و آله): 1- للمؤمنين.

2- لكافة فئات مجتمع المدينة. 3- لمن تبعهم. 4- لمن لحق بهم. 5- لمن جاهد معهم.

ولا تثريب على النبي (صلی الله علیه و آله) لو قدم هذا الملحق كمواد نافذة على جميع المنتمين إلى المجتمع الجديد، لكن روح الإسلام القائمة على الرضا والقبول، وخُلُق النبي الرحيم اقتضت أن يكون بمثابة عقد خاص يشمل كل المسلمين الذين بايعوه، وتعاقدوا معه بدخولهم في الإسلام.

ثم إن هذا الملحق الدستوري...عقدٌ حقيقي نظمه النبي (صلی الله علیه و آله) ووافق عليه أتباع الديانات الأخرى داخل المجتمع الجديد، الذين تربطهم بالأوس والخزرج علاقات القربى والموالاة. ويدل على ذلك المادة التي نصت على أن رسول الله هو المخول والمختص بفصل النزاعات الناتجة عن تطبيق هذه الصحيفة.

ه- الخطوط العريضة لهذا الملحق أو العقد التنظيمي

1. المؤمنون والمسملون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة من دون الناس.

2. قريش عدوة للمجتمع اليثربي لا تُجَارُ أبداً.

3. يشترك اليهود بالنفقات الحربية ويقتسمون الغنائم.

4. يثرب للجميع وهي محرمة لايقطع شجرها ولا يقتل طيرها ولايروع ساكنها.

5. دين الدولة الجديدة هو الإسلام، ورئيس الدولة هو محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو مختص بفصل النزاعات التي تنشأ في المجتمع الجديد.

ص: 610

6. المجرم عدو للمجتمع لايجوز إيواؤه. والقاتل يقتل، ويتعاون الجميع على تنفيذ الحكم عليه ولو كان ابن أحدهم.

7. الجريمة شخصية لا يسأل غير مقترفها، والمجتمع كله ضد البغي.

8. جار الإنسان كنفسه لا يضارّ.

9. المجتمع مع المظلوم ضد الظالم.

10. لا تجار المرأة إلا بإذن أهلها.

11. من خرج من المدينة فهو آمن، ومن قعد في بيته فهو آمن.

12. وحتى يضمن الأمن لليهود ومنهم وضعت مادة: لا يجوز لأي يهودي أن يخرج من المدينة إلا بإذن محمد.

13. على المسلمين سداد دين الغارم منهم.

14. اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

15. يهود بني عون أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وكذلك يهود بني الحارث، وبني النجار، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة وبطانة الجميع كأنفسهم.

16. الله ومحمد جارٌ لمن بَرَّ واتقى، ومن ظلم فلا أمن له.

وقد تألف هذا العقد أو الملحق من47 بنداً تعاقدياً، وكرس البند التعاقدي رقم 21 الشريعة الإسلامية كقانون أعلى نافذ في المجتمع، كما كرس بوضوح تام رئاسة محمد للدولة والمجتمع، بإعطائه الحق بفصل النزاعات والخصومات...

وهذه عقود حقيقية تمت بين السلطة وأعضاء المجتمع، وبين أعضاء المجتمع أنفسهم، وليست عقوداً افتراضية كالتي تصورها روسو!

ونقول بكل موضوعية: إن مثل هذه التعاقدات سابقة إنسانية، ليس لها مثيل في التاريخ البشري..

كل هذه الأسباب دعت النبي (صلی الله علیه و آله) لاعتبار المدينة المنوّرة وطناً للجميع بما فيهم اليهود، واعترف بالتحالفات القبلية السابقة لقدومه وتركها على حالها،

ص: 611

وأعطى تشكيلات المجتمع الحرية بإدارة شؤونها، وعند اختلافها فهو المرجع لحل هذه الإختلافات، وظهر اليهود بمظهر الموالين للنبي (صلی الله علیه و آله) والترتيبات التي أعلنها، وقبلوا بالملحق الدستوري بدليل أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يذكرهم بالعقد كلما هموا بالخروج عليه». انتهى.

3- هل كانت حروب النبي (صلی الله علیه و آله) دفاعية أم هجومية؟

كان مجتمع المدينة مجتمعاً مقاتلاً، لأن المسلمين كانوا مستهدفين.

قال أميرالمؤمنين (علیه السلام) «أمالي الطوسي/ 174»: «فلما آووا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا للدين وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل، وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة، وأهل مكة واليمامة، وأهل الحزَن وأهل السهل قناة الدين والصبر، تحت حماس الجِلَاد».

وفي سيرة ابن إسحاق: 2/154: «فمكث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمكة عشر سنين بعدما أوحى إليه، خائفاً هو وأصحابه، يدعون الله عزوجل سراً وعلانية، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وكانوا بها خائفين يمسون ويصبحون في السلاح، فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله: لن تعبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم، ليس فيه حديد».

قالوا: لهذا، فإن حروب النبي (صلی الله علیه و آله) كانت دفاعاً عن كيانهم ووجودهم، أو وقاية من اعتداء متوقع. وقد تبنى هذا التحليل الكُتَّاب المسلمون المعاصرون، دفاعاً عن الإسلام ونبيه (صلی الله علیه و آله) ورداً على الغربيين الذين اتهموا الإسلام بأنه دين توسعي دموي، يتبنى القتال باسم الجهاد، وأنه انتشر بالقوة في جزيرة العرب، ثم في البلاد التي هاجمها وفتحها.

كما اتهم الغربيون نظام الحكم الإسلامي بأنه نظام ديكتاتوري «ثيوقراطي» يعطي الخليفة صلاحيات مطلقة، ويقمع الرأي المخالف له بإسم الله تعالى.

فأجابهم الكتَّاب المسلمون بأن نظام الحكم الإسلامي يقوم على الشورى، وحاولوا أن يجدوا تطبيقاً للشورى في السقيفة وغيرها، فلم يوفقوا!

ص: 612

4- حقائق غابت عن المُتَّهمين والمدافعين

استند المنتقدون للإسلام على العاطفة والدعاية ضد الإسلام، وأجابهم بعض المسلمين بالقول إن جميع حروب النبي (صلی الله علیه و آله) دفاعية واحتج ببعضها، وبآية: لا إكراه في الدين، وجوابهم أن آيات فريضة الجهاد صريحة في تشريع القتال للدفاع والهجوم، وكذا ما دوَّنه الفقهاء في أبواب الجهاد في مصادر الفقه، كالكافي: 5/13، مبسوط الطوسي: 2/2، الجواهر: 21/3، المجموع: 19/265 والمغني: 10/364.

والجواب الحقوقي في هذه المسائل: أن المالك المطلق للأرض والكون وكل المخلوقات هو الله تعالى، فهو خالقها وصاحبها ومديرها عزوجل، وهو الذي يملك جميع الحقوق القانونية، وكل ملكية وصلاحية لمخلوقاته من ملائكة وبشر وغيرهم، لا بد أن تكون بتمليكه وإعطائه. وبما أنه عزوجل عادل حكيم، فهو لايعطي حق دعوة الناس وحكمهم إلا للمطهرين المعصومين من أنبيائه وأوصيائه:.

1- قال الله تعالى في بيان خلقه وملكيته المطلقة للكون: «ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَايَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ».

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ».

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

2- وقال تعالى في تسليط رسله:: «وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ».

3- وقال تعالى في الإذن لرسوله وأوصيائه:: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا

ص: 613

الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ». الحج: 39-41.

4- وقال تعالى يأمر المؤمنين بالقتال بقيادة نبيه وأوصيائه المعصومين(علیهم السلام): «قَاتِلُوا الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا. الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا». النساء: 75-76.

وقد حصرت أحاديث أهل البیت (علیهم السلام) المأذون لهم بالدعوة والقتال بالمعصومين الذين اختارهم الله تعالى وهم النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) «تهذيب الأحكام: 6/131» ولا تشمل الذين اختارهم الناس، أو فرضوا حكمهم بقوة السلاح.

لذلك كتب فقهاء مذهبنا بحوثاً فقهية مفصلة في حق الحكم في عصر غيبة النبي والإمام:، وهل يكون بالشورى ويتم تطبيقه بالإنتخابات المعروفة، أم هو حق للمعصوم فقط، فإن غاب فالناس في حالة فراغ، والحكم غير شرعي، والمؤمنون يتعايشون مع الحكومات الموجودة، ويعملون لتحسين أدائها وتقليل ظلمها. وقال القليل منهم إن حق الحكم للناس لمن ينتخبونه ضمن الشروط الشرعية، وإن لم يصح وصفه بأنه خليفة للنبي (صلی الله علیه و آله) .

وقال بعضهم كالسيد الخميني (رحمة الله) إن الحكم في عصر الغيبة للفقيه الجامع للشرائط «المرجع أو المجتهد» وله الولاية المطلقة على الناس شبيهاً بالمعصوم (علیه السلام)، لكنه (رحمة الله) قبل بنظام يعتمد الانتخابات، بشرط أن يمضي نتيجتها الفقيه ولي الأمر.

وأما فقهاء مذاهب السلطة فقالوا يجب على المسلمين أن يبايعوا حاكماً ويصير خليفة شرعياً للنبي (صلی الله علیه و آله) بمجرد أن يصفق على يده بالبيعة شخص واحد، فيجب على الباقين بيعته، ويجوز إجبارهم بالسيف عليها! فإن قام ضده أحد وجب قتاله لأنه باغ معتد بخروجه على الإمام، لكن إذا غلب الباغي تحول إلى خليفة شرعي ووجبت بيعته! وبهذا تكون الشرعية عندهم لمن غلب وتسلط، ويكون الله تعالى مع من غلب!

ص: 614

5- أذن الله لرسوله (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين

في الكافي: 8/341، بسند صحيح عن ابن المسيب، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «لما ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة، ومات أبوطالب.. حزن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حزناً شديداً، وخاف على نفسه من كفار قريش فأوحى الله إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها، وهاجر إلى المدينة، فليس لك بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً. فعند ذلك توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة».

وفي تفسير القمي: 1/71:«قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَكُرْهٌ لَكُمْ. نزلت بالمدينة ونسخت آية: كُفُّوا أيْدِيَكم.. التي نزلت بمكة».

وفي جواهر الكلام: 21/57:«فلما أرادوا ما هموا به من تبييته، أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال، فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا..».

وفي الكافي: 5/13، عن أبي عمرو الزبيري، أنه قال للإمام الصادق (علیه السلام): «أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله، أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم، أم هو مباح لكل من وحد الله عزوجل وآمن برسوله (صلی الله علیه و آله) ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عزوجل وإلى طاعته وأن يجاهد في سبيله؟

فقال: ذلك لقوم لايحل إلا لهم ولا يقوم بذلك إلا من كان منهم. قلت: من أولئك؟ قال: من قام بشرائط الله عزوجل في القتال والجهاد على المجاهدين، فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عزوجل، ومن لم يكن قائماً بشرائط الله عزوجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء إلى الله، حتى يحكم في نفسه ما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد.

قلتُ: فبيِّن لي يرحمك الله. قال: إن الله تبارك وتعالى أخبر نبيه في كتابه الدعاء إليه ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً ويستدل بعضها على بعض فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتباع أمره فبدأ بنفسه فقال: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ثم ثنى برسوله فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ

ص: 615

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. يعني بالقرآن..ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ

هُمُ الْمُفْلِحُونَ..

ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي وأنها من ذرية إبراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط، الذين وجبت لهم الدعوة، دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا... ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلا أصحاب هذه الشروط فقال عزوجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ..

وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله عزوجل ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله (صلی الله علیه و آله) والمولي عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات وغلبوهم عليه مما أفاء الله على رسوله، فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم، وإنما معنى الفيئ كل ما صار إلى المشركين ثم رجع مما كان قد غُلب عليه أو فيه، فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل فقد فاء.. وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم، ممن يبغي ويجب جهاده حتى يتوب! وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى الله عزوجل، لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال..

فليتق الله عزوجل عبدٌ ولا يغتر بالأماني التي نهى الله عزوجل عنها، من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يكذبها القرآن، ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها».

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/44: «وأقام رسول الله يتلوَّم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله، عزوجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. والآية التي بعدها. وقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ. إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله عزوجل: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ

ص: 616

يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ. وأنزل الله عليه سيفاً من السماء له غمد، فقال له جبريل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله وإنك رسول الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. فكان أول سرية سارت ولواء عقد في الإسلام لحمزة بن عبدالمطلب».

وقال ابن هشام: 2/320: «أذن الله عزوجل لرسوله (صلی الله علیه و آله) في القتال والإنتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء، قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».

وفي الكافي: 5/7 و2 قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الله عزوجل بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال! فالخير في السيف وتحت السيف والأمر يعود كما بدأ. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الخير كله في السيف وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار».

ص: 617

الفصل السادس والثلاثون: زواج النبی (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة خديجة (علیها السلام)

لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) على خديجة وتزوج بعد هجرته

قال ابن شهر آشوب في المناقب: 1/137: «في إعلام الورى، ونزهة الأبصار، وأمالي الحاكم، وشرف المصطفى: أنه (صلی الله علیه و آله) تزوج بإحدى وعشرين امرأة. وقال ابن جرير وابن مهدي: واجتمع له إحدى عشرة امرأة في وقت.

ترتيب أزواجه: تزوج بمكة أولاً خديجة بنت خويلد، قالوا: وكانت عند عتيق بن عايذ المخزومي ثم عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسدي.

وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج بها وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة.

وسودة بنت زمعة بعد موتها بسنة، وكانت عند سكران بن عمرو من مهاجري الحبشة فتنصر ومات بها. وعائشة بنت أبي بكر، وهي ابنة سبع قبل الهجرة بسنتين، ويقال كانت ابنة ست ودخل بها بالمدينة في شوال وهي ابنة تسع، ولم يتزوج غيرها بكراً، وتوفي النبي وهي ابنة ثمانية عشر سنة، وبقيت إلى أمارة معاوية وقد قاربت السبعين.

وتزوج بالمدينة أم سلمة، واسمها هند بنت أمية المخزومية، وهي بنت عمته عاتكة بنت عبدالمطلب، وكانت عند أبي سلمة بن عبدالأسد، بعد وقعة بدر من سنة اثنتين من التاريخ،

ص: 618

وفي هذه السنة تزوج بحفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن عبدالله ابن حذاقة السهمي، فبقيت إلى آخر خلافة علي (علیه السلام) وتوفيت بالمدينة. وزينب بنت جحش الأسدية، وهي ابنة عمتها أميمة بنت عبدالمطلب، وكانت عند زيد بن حارثة، وهي أول من ماتت من نسائه بعده في أيام عمر، بعد سنتين من التاريخ.

وجويرية بنت الحارث بن ضرار المصطلقية، ويقال إنه اشتراها فأعتقها وتزوجها وماتت في سنة خمسين،وكانت عند مالك بن صفوان بن ذي السفرتين. وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وإسمها رملة وكانت عند عبدالله بن جحش، في سنة ست، وبقيت إلى أمارة معاوية.

وصفية بنت حي بن أخطب النضري، وكانت عند سلام بن مسلم، ثم عند كنانة ابن الربيع، وكانت أتي بها وأسر بها في سنة سبع. وميمونة بنت الحارث الهلالية، خالة ابن عباس، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي، ثم عند أبي زيد بن عبدالعامري، خطبها للنبي (صلی الله علیه و آله) جعفر بن أبي طالب وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسرف، وهو على عشرة أميال من مكة في سنة سبع، وماتت في سنة ست وثلاثين. وقد دخل بهؤلاء.

والمطلقات أو من لم يدخل بهن أو من خطبها ولم يعقد عليها: فاطمة بنت شريح وقيل بنت الضحاك، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين أنزلت عليه آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية اخترت الدنيا. وزينب بنت خزيمة بن الحرث أم المساكين من عبدمناف، وكانت عند عبيدة بن الحرث بن عبدالمطلب. وأسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي من أهل اليمن. وأسماء بنت النعمان، لما دخلت عليه قالت: أعوذ بالله منك، فقال: أعذتك إلحقي بأهلك، وكانت بعض أزواجه علمتها وقالت: إنك تحظين عنده. وقتيلة أخت الأشعث بن قيس الكندي، ماتت قبل أن يدخل بها، ويقال طلقها فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وهو الصحيح.

وأم شريك، وإسمها غزية بنت جابر من بني النجار. وسنا بنت الصلت من

ص: 619

بني سليم، ويقال خولة بنت حكيم السلمي ماتت قبل أن تدخل عليه، وكذلك صراف أخت دحية الكلبي.

ولم يدخل بعمرة الكلابية، وأميمة بنت النعمان الجونية، والعالية بنت ظبيان الكلابية، ومليكة الليثية. وأما عميرة بنت بريد رأى بها بياضاً فقال: دلستم عليَّ فردها، وليلى بنت الحطيم الأنصارية ضربت ظهره وقالت: أقلني، فأقالها فأكلها الذئب، وعمرة من العرطا «كذا» وصفها أبوها حتى قال: إنها لم تمرض قط، فقال (صلی الله علیه و آله): ما لهذه عند الله من خير. والتسع اللاتي قبض عنهن: أم سلمة، زينب بنت جحش، ميمونة، أم حبيبة، صفية، جويرية، سودة، عائشة، حفصة.

قال زين العابدين (علیه السلام)، والضحاك، ومقاتل: المُوهبة امرأة من بني أسد، وفيه ستة أقوال. ومات قبل النبي (صلی الله علیه و آله): خديجة، وزينب بنت خزيمة. وأفضلهن خديجة، ثم أم سلمة، ثم ميمونة.

مبسوط الطوسي، أنه اتخذ من الإماء ثلاثاً: عجميتين وعربية فأعتق العربية واستولد إحدى العجميتين، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية القبطية، وريحانة بنت زيد القرظية، أهداهما المقوقس صاحب الإسكندرية، وكانت لمارية أخت اسمها سيرين فأعطاها حسان فولدت عبدالرحمن، فتوفيت مارية بعد النبي بخمس سنين، ويقال إنه أعتق ريحانة ثم تزوجها.

وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش، فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين».

أم سَلمة أفضل أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام)

اشارة

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أفضلهن خديجة بنت خويلد، ثم أم سلمة، ثم ميمونة». «الخصال/419». وقد تزوج سَوْدة أول دخوله المدينة، ثم تزوج أم سلمة وهي بنت عم أبي جهل، أبوها أبو أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر المخزومي! وكان يسمى زاد الراكب لكرمه، وأبوجهل هو: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم. دلائل الإمامة/ 81 وعمدة القاري: 17/84.

ص: 620

أما زوجها قبل النبي (صلی الله علیه و آله) أبو سلمة فهو: «عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم». «الحاكم: 4/16و 19». وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة.

وكان أخوها لأبيها عبدالله بن أبي أمية من أشد أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) مع أنه ابن عاتكة بنت عبدالمطلب عمة النبي (صلی الله علیه و آله)! وهو الذي قال: «لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّماً وترقى فيه وأنا أنظر، حتى تأتيها، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة، يشهدون لك أنك كما تقول»!

وفيه وفي رفقائه نزل قوله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً».أسباب النزول/199.

«وقد أسلمت أم سلمة وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، ورزقت منه ثلاثة بنين وثلاث بنات، ورجعوا من الحبشة إلى المدينة وتوفي أبو سلمة قبل بدر، فتزوج بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد بدر في شوال. وعاشت إلى خلافة يزيد بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، وصلى عليها سعيد بن زيد وكان أمير المدينة».المناقب: 1/138، الإستيعاب: 4/1920 و 3/18، ذخائر العقبى/250، الحاكم:4/18، أسباب النزول/199،الطبقات: 8/43 وابن إسحاق: 2/180.

خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة

أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) يخطبها فأجابته: «فيَّ خصال ثلاث: أما أنا فكبيرة، وأنا مُطفلٌ، وأنا غيورٌ. فقال (صلی الله علیه و آله): أما ما ذكرت من الغيرة فندعو الله حتى يذهبه عنك، وأما ما ذكرت من الكبر فأنا أكبر منك، والطفل إلى الله وإلى رسوله». «ابن إسحاق: 5/429، الطبقات: 8/91». وفي رواية قالت: أنا امرأة مصبية، أي عندي أطفال.

وفي الانتصار للمرتضى/285: «فقالت ليس أحد من أوليائي حاضراً، فقال (صلی الله علیه و آله): ليس أحد من أوليائك حاضراً أو غائباً إلا ويرضى بي، ثم قال لعمر

ص: 621

بن أبي سلمة وكان صغيراً: قم فزوجها، فتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) بغير ولي».

وكانت موصوفة بالجمال، «ففي الكافي: 5/117»، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «مات الوليد بن المغيرة فقالت أم سلمة للنبي (صلی الله علیه و آله): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت:

أنعى الوليد بن الوليد *** أبا الوليد فتى العشيرة

حامي الحقيقة ماجد *** يسمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثاً في السنين *** وجعفراً غدقاً وميرة

قال: فما عاب ذلك عليها النبي (صلی الله علیه و آله) ولا قال شيئاً».

وقالت عائشة: «لما تزوج رسول الله أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها! قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وُصفت لي في الحسن والجمال! قالت: فذكرت ذلك لحفصة وكانتا يداً واحدة، فقالت: لا والله إن هذه إلا الغيرة ما هي كما يقولون، فتلطفت لها حفصة حتى رأتها فقالت: قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين وإنها لجميلة! قالت: فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غَيْرَى». الطبقات: 8/94.

أمينة النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته (علیهم السلام)

أدَّت أم سلمة رضيالله عنها واجبها في خدمة النبوة والإمامة على أحسن وجه وكان لها دور في نشر حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والدفاع عن أميرالمؤمنين والزهراء والحسنين والأئمة (علیهم السلام)، سواء في عهد النبي (صلی الله علیه و آله)، أو بعد وفاته (صلی الله علیه و آله)، وفي مواجهة أهل السقيفة، ثم في مواجهة عائشة وطلحة والزبير ومعاوية ويزيد! وساعدها على ذلك أنها من شخصيات بني مخزوم، وأنها أطول نساء النبي (صلی الله علیه و آله) عمراً، وصاحبة مكانة محترمة عند النبي (صلی الله علیه و آله)، وقد أودع عندها تربة كربلاء التي أتاه بها جبرئيل (علیه السلام) وأخبرها أنها عندما يقتل الحسين (علیه السلام) في كربلاء تتحول إلى دم عبيط، أي صافٍ! وقد استفاضت

ص: 622

روايتها في مصادر الشيعة والسنة، فمن ذلك ما رواه أحمد: 3/242 ووثقوه، عن أنس بن مالك: «أن ملك المطر استأذن ربه أن يأتي النبي فأذن له فقال لأم سلمة: إملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، قال: وجاء الحسين ليدخل فمنعته فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي (صلی الله علیه و آله) وعلى منكبه وعلى عاتقه، قال فقال الملك للنبي (صلی الله علیه و آله): أتحبه؟ قال: نعم.قال: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه! فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة فَصَرَّتها في خمارها، قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء».

ومن مصادرنا ما رواه الطوسي في أماليه/315، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) فخرجت يتوجه بي قائدي إلى منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلما انتهيت إليها قلت: يا أم المؤمنين ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبدالمطلب أسعدنني وابكين معي، فقد والله قتل سيدكن وسيد شباب أهل الجنة، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين! فقيل: يا أم المؤمنين ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام الساعة شَعِثاً مذعوراً فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم! قالت: فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال: إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك، وأعطانيها النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: إجعلي هذه التربة في زجاجة أو قال: في قارورة ولتكن عندك، فإذا صارت دما عبيطاً فقد قتل الحسين! فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور! قال: وأخذت أم سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين (علیه السلام)، فجاءت الركبان بخبره، وأنه قتل في ذلك اليوم!

قال عمرو بن ثابت قال أبي: فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) منزله

ص: 623

فسألته عن هذا الحديث، وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبدالله بن عباس فقال: أبوجعفر (علیه السلام) حدثنيه عمر بن أبي سلمة، عن أمه أم سلمة».

كما أعطاها صحيفة علامةً على إمامة علي (علیه السلام)، ففي بصائر الدرجات/186، عن ابن عباس و: 188، عن أم سلمة قالت: «أعطاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاباً قال: أمسكي هذا فإذا أنا قبضت فقام رجل على هذه الأعواد يعني المنبرفأتاك يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه. قالت: فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) صعد أبوبكر المنبر فانتظرته به فلم يأت، فلما مات صعد عمر فانتظرته فلم يأت فلما مات عمر صعد عثمان فانتظرته فلم يأت، فلما مات عثمان صعد أميرالمؤمنين فلما صعد ونزل جاء فقال: يا أم سلمة أريني الكتاب الذي أعطاك رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقالت: وإنك أنت صاحبه؟ فقالت: أما والله إن الذي كنت أحب أن يحبوك به فأخرجته إليه ففتحه فنظر فيه ثم قال: إن في هذا لعلما جديداً. قال قلت أي شئ كان ذلك؟ قال: كل شئ يحتاج إليه ولد آدم»!

ونحوه بصائر الدرجات/183، عن عمر بن أم سلمة: «فاستأذن عليٌّ فدخل فقال لها: أعطني الكتاب الذي دفع إليك بآية كذا وكذا، وكأني أنظر إلى أمي حتى قامت إلى تابوت لها في جوفها تابوت صغير، فاستخرجت من جوفه كتاباً فدفعته إلى علي (علیه السلام)، ثم قالت لي أمي: يا بنيَّ إلزمه فلا والله ما رأيت بعد نبيك إماماً غيره»!

كما استودعها المؤمنين (علیه السلام) مواريث الأنبياء (علیه السلام) لتسلمها إلى الإمام الحسن (علیه السلام)، «ففي الكافي: 1/298»، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن علياً حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية، فلما رجع الحسن (علیه السلام) دفعتها إليه».

كما استودعها الإمام الحسين (علیه السلام) وصيته ومواريث الأنبياء (علیهم السلام)، «ففي الكافي: 1/304»، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أم سلمة الكتب والوصية، فلما رجع علي بن الحسين (علیه السلام) دفعتها إليه».

وفي بصائر الدرجات/197،عن حمران أنه سأل الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «سألته عما يتحدث الناس أنه دفعت إلى أم سلمة صحيفة مختومة؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما قبض ورث علي (علیه السلام) سلاحه وما هنالك، ثم صار إلى الحسن والحسين، فلما خشيا أن

ص: 624

يفتشا استودعا أم سلمة، ثم قبضا بعد ذلك فصار إلى أبيك علي بن الحسين (علیه السلام)، ثم انتهى إليك أو صار إليك؟ قال نعم».

وفي غيبة الطوسي/195: «لما توجه الحسين (علیه السلام) إلى العراق دفع إلى أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) الوصية والكتب وغير ذلك، وقال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما دفعت إليك، فلما قتل الحسين أتى علي بن الحسين (صلی الله علیه و آله) أم سلمة فدفعت إليه كل شئ أعطاها الحسين (علیه السلام)».

طلب معاوية شهادتها بإمامة علي (علیه السلام)

روى محمد بن سليمان في المناقب: 1/507 عن عبيدالله بن أبي رافع قال: «كنا جلوساً في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) عام حج معاوية بن أبي سفيان، ومعي عبدالله بن عباس وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، فأتانا معاوية فسلم وقعد إلينا، فاشمأز منه ابن عباس حين قعد إليه حتى عرف ذلك معاوية، فقال له: يا ابن عباس كأنك مشمئز مني كأنك واجدٌ عليَّ أن طلبت بدم أميرالمؤمنين وكنتُ أحق من طلب بدمه وأقواهم عليه؟ فقال له ابن عباس: وبمَ أنت أحق الناس؟ قال: أليس ابن عمي قتل وهو أميرالمؤمنين؟ فقال ابن عباس: فهذا! وأشار إلى ابن عمر أحق بالأمر منك! قد قتل أبوه وهو خليفته! فقال له معاوية: قتل أباه مشرك وقتل ابن عمي المسلمون. فقال ابن عباس: فذاك أشرإذن. قال: ثم التفت معاوية إلى سعد فقال: يا سعد ما منعك أن تقاتل معي وتخرج إذ طلبت بدم أميرالمؤمنين؟ فقال له سعد: أقاتل علي بن أبي طالب وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟! فقال له معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: قوموا بنا إليها فقمنا جميعاً فدخلنا عليها فقال لها سعد: يا أم المؤمنين إني ذكرت لمعاوية أن رسول الله قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فأنكر ذلك وقال: من سمعه معك فذكرتك فهل سمعت ذاك من رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ فقالت أم سلمة: أما مرة

ص: 625

واحدة فلا، ولكن سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مراراً! فقال معاوية لسعد: أنت أظلم وأقل عذراً إذ سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم تخرج إليه ولم تقاتل معه ولم تنصره! فلو سمعتُ هذا من رسول الله لم أقاتله».

ونحوه: 1/421، وفيه قال معاوية لسعد: «ألْوَمُ والله ما كنت عندي الساعة! لو سمعتُ هذا من رسول الله، ما زلت خادماً لعلي حتى أموت»!

من امتيازاتها على نساء النبي (صلی الله علیه و آله)

كانت أم سلمة كخديجة، تشتري العبيد وتعتقهم، وربما اشترت الصغير فربته حتى يكبر وأعتقته، لذا تجد عدداً من الرواة والعلماء من موالي أم سلمة ففي الإصابة: 7/4: «أبو إبراهيم مولى أم سلمة.. قال: كنت عبداً لأم سلمة، فكنت أبيت على فراش النبي وأتوضأ من محضنته، فلما بلغت مبالغ الرجال أعتقتني».

وكانت تشجع المملوك على العمل ليحرر نفسه، ففي الطبقات: 5/296، عن نصاح بن سرجس بن يعقوب عن أبيه قال: «كاتبتني أم سلمة على نجوم «أقساط»وفيتها، فكلمتها أن تحط عني وتقاطعني على ذهب أو ورق، ففعلت. وعجَّلت لها ذلك ووضعت عني.وكان شيبة إمام أهل المدينة في القراءة في دهره».

وهذا عدد آخر من موالي أم سلمة رضيالله عنها:

ففي الهداية الكبرى/115، في حديث زفاف فاطمة (علیها السلام): «فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب».

وفي الطبقات: 5/297: «عبدالله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي (علیه السلام) عتاقةً، سمع من أم سلمة، وبقي حتى سمع منه عبدالله بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وقدامة بن موسى وجارية بن أبي عمران، وكان ثقة كثير الحديث.

ناعم بن أجيل مولى أم سلمة. قيس مولى أم سلمة، ويكنى أبا قدامة.

أبو ميمونة مولى أم سلمة. وكان قارئ أهل المدينة في زمانه، وهو الذي قرأ عليه نافع بن أبي نعيم كثير بن أفلح».

وفي المغني: 12/339: «عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: إذا

ص: 626

كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي، فلتحتجب منه».

«وفي إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق» المجموع: 16/136.

«عن عبدالله بن رافع، مولى أم سلمة».الموطأ: 1/8.

«عن طلحة بن يحيى عن عبدالله بن فروخ مولى أم سلمة».الجوهر النقي: 6/189.

«سفينة هو مولى أم سلمة، وشرطت عليه أن يخدم النبي (صلی الله علیه و آله)». المحلى: 5/157.

«أفلح.. مولى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وقيل مولى لأم سلمة». سبل السلام: 3/216.

«عن ناعم مولى أم سلمة». مسند أحمد: 2/163.

«حدثني عمرو، عن أبي السمح، عن السائب مولى أم سلمة، عن أم سلمة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال خير مساجد النساء قعر بيوتهن». مسند أحمد:6/297.

«حبيب، عن ناعم مولى أم سلمة، عن أم سلمة». مسند أحمد: 6/299.

«عن السائب مولى أم سلمة أن نسوة دخلن على أم سلمة من أهل حمص». «مسند أحمد: 6/301». «أن أبا الجراح مولى أم سلمة أخبره». مسند أحمد: 6/326.

«عبدالله بن زياد بن سمعان مولى أم سلمة مكي».رجال الطوسي/231.

«القزاز قال: سمعت مولى لأم سلمة يقول: سمتني أم سلمة مخوضاً، وكنت طويلاً». علل أحمد: 1/221.

«عبدالله بن زياد بن سمعان هو مولى أم سلمة» «التاريخ الصغير للبخاري: 2/106». «نجيح أبو معشر السندي المدني مولى أم سلمة».«التاريخ الصغير للبخاري2/187». «السائب مولى أم سلمة» «نفيع مولى أم سلمة» «يزيد مولى أم سلمة». «التاريخ الكبير للبخاري4/153، 8/113 و271». «أبي الجراح مولى أم سلمة».كنى البخاري/19.

«أحمر مولى أم سلمة، قيل هو اسم سفينة».الإصابة: 1/187.

«من طريق إبراهيم بن عبدالرحمن بن صبيح مولى أم سلمة» الإصابة: 3/327.

«المهاجر مولى أم سلمة يكنى أبا حذيفة صحب النبي (صلی الله علیه و آله) وخدمه، وشهد فتح مصر واختط بها، ثم تحول إلى طحا فسكنها إلى أن مات».الإصابة: 6/181.

«أبي سليمان مولى أم سلمة»«الإصابة: 6/501».«قيس مولى أم سلمة»

تعجيل المنفعة/346.

ص: 627

«ويقال بل كانت أم الحسن «البصري» مولاة لأم سلمة.فيذكرون أن أمه كانت ربما غابت فيبكي الصبي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجئ أمه فدر عليها ثديها فشربه فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك». الطبقات:7/156.

وفي أمالي الصدوق/463، عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) قال: «بلغ أم سلمة زوجة النبي أن مولى لها يتنقص علياً (علیه السلام) ويتناوله، فأرسلت إليه فلما أن صار إليها قالت له: يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله؟ قال لها: نعم يا أماه. قالت: أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم اختر لنفسك! إنا كنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) تسع نسوة وكانت ليلتي ويومي من رسول الله فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) وهو متهلل أصابعه في أصابع علي، واضعاً يده عليه فقال: يا أم سلمة، أخرجي من البيت وأخليه لنا، فخرجت واقبلا يتناجيان، أسمع الكلام وما أدري ما يقولان، حتى إذا انتصف النهار أتيت الباب فقلت: أدخل يا رسول الله؟ قال: لا. فكبوت كبوة شديدة مخافة أن يكون ردني من سخطة، أو نزل في شئ من السماء، ثم لم ألبث أن أتيت الباب الثانية فقلت: أدخل يا رسول الله؟ فقال: لا. فكبوت كبوة أشد من الأولى. ثم لم ألبث حتى أتيت الباب الثالثة، فقلت: أدخل يا رسول الله؟ فقال: أدخلي يا أم سلمة، فدخلت وعلي جاث بين يديه، وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إذا كان كذا وكذا فما تأمرني؟ قال: آمرك بالصبر. ثم أعاد عليه القول الثانية فأمره بالصبر، فأعاد عليه القول الثالثة فقال له: يا علي يا أخي، إذا كان ذاك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قدماً قدماً، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم! ثم التفت (علیه السلام) إلي فقال لي: ما هذا الكآبة يا أم سلمة؟ قلت: للذي كان من ردك لي يا رسول الله. فقال لي: والله ما رددتك من موجدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله، لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني، وعلي عن يساري، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك علياً!

يا أم سلمة، إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب أخي في الدنيا وأخي في الآخرة.

يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب وزيري في الدنيا، ووزيري

ص: 628

في الآخرة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب، حامل لوائي في الدنيا وحامل لوائي غداً في القيامة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي.

يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

قلت: يا رسول الله، من الناكثون؟قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة. قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان.

فقال مولى أم سلمة: فرجت عني فرج الله عنك، والله لاسببت علياً أبداً»!

«عن عبدالله بن مغيرة مولى أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) أنها قالت: نزلت هذه الآية في بيتها: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً. أمرني رسول الله أن أرسل إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما أتوه اعتنق علياً بيمينه والحسن بشماله والحسين على بطنه وفاطمة عند رجله، فقال: اللهم هؤلاء أهلي وعترتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالها ثلاث مرات. قلت: فأنا يا رسول الله. فقال: إنك على خير إن شاء الله». أمالي الطوسي/263.

«عن أبي الأحوص مولى أم سلمة قال: إني مع الحسن (علیه السلام) بعرفات ومعه قضيب وهناك أجراء يحرثون، فكلما هموا بالماء أجبل عليهم، فضرب بقضيبه إلى الصخرة فنبع لهم منها ماء واستخرج لهم طعاماً». دلائل الامامة/171.

أي كانوا يحفرون بئراً فظهر صخر صعب، فضربه الإمام (علیه السلام) فنبع الماء، ثم استخرج لهم طعاماً من هناك. راجع لسان العرب: 11/97.

أذى نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة!

قالت عائشة، «البخاري 3/132»: «إن نساء رسول الله كنَّ حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة. والحزب الآخر: أم سلمة وسائر نساء

ص: 629

رسول الله»! روى في الطبقات: 8/80، عن فاطمة الخزاعية قالت إن عائشة قالت لها: «دخل علي يوماً رسول الله فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة. فقلت: ماتشبع من أم سلمة»!

وروى بخاري: 3/108، أن أم سلمة أرسلت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو عند عائشة، بقصعة فيها طعام: «فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة». وفي سبل السلام: 3/70 والنسائي: 7/70: «واتفقت مثل هذه القصة من عائشة في صحفة أم سلمة. ووقع مثلها لصفية».

وتدخَّل عمر بين نساء النبي (صلی الله علیه و آله) فغضبت أم سلمة كما في «البخاري: 6/69»: «فقالت أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شئ، حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأزواجه»!

وفي الكافي: 5/565، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إن أبابكر وعمر أتيا أم سلمة فقالا لها: يا أم سلمة إنك قد كنت عند رجل قبل رسول الله فكيف رسول الله من ذاك في الخلوة؟! فقالت: ما هو إلا كسائر الرجال! ثم خرجا عنها وأقبل النبي فقامت إليه مبادرة فرقاً أن ينزل أمر من السماء فأخبرته الخبر فغضب رسول الله حتى تربد وجهه والتوى عرق الغضب بين عينيه، وخرج وهو يجر رداؤه حتى صعد المنبر.فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال أقوام يتبعون عيبي ويسألون عن غيبي! والله إني لأكرمكم حسباً وأطهركم مولداً وأنصحكم لله في الغيب، ولايسألني أحد منكم عن أبيه إلا أخبرته..الى آخر الحديث».

أم سلمة عند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)

وروت أم سلمة أجواء وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)، فقالت كما في الخصال/642: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي توفي فيه: ادعوا لي خليلي، فأرسلت عائشة إلى أبيها فلما جاء غطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجهه وقال: ادعوا لي خليلي! فرجع أبوبكر! وبعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجهه وقال: ادعوا لي خليلي».

ص: 630

وفي الإرشاد: 1/185: «فأفاق إفاقة فافتقد علياً فقال وأزواجه حوله: ادعوا لي أخي وصاحبي، وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة أدعوا له أبابكر، فدعي فدخل عليه فقعد عند رأسه فلما فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه، فقام أبوبكر وقال: لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي. فلما خرج أعاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) القول ثانية وقال: أدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت حفصة أدعوا له عمر، فدعي فلما حضر رآه النبي فأعرض عنه فانصرف. ثم قال: أدعوا لي أخي وصاحبي، فقالت أم سلمة: أدعوا له علياً فإنه لا يريد غيره، فدعي أميرالمؤمنين (علیه السلام) فلما دنا منه أومأ إليه فأكب عليه فناجاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) طويلاً، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له الناس: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟ فقال: علمني ألف باب فتح لي كل باب ألف باب، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله. ثم ثقل وحضره الموت وأميرالمؤمنين حاضر عنده. فلما قرب خروج نفسه قال له: ضع رأسي يا علي في حجرك، فقد جاء أمرالله عزوجل فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس، ولاتفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى فأخذ علي رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فأكبت فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي» أقول: من الغريب أن أحمد بن حنبل روى هذا الحديث: 1/356!

أدانت أم سلمة أهل السقيفة

فقد روى سليم بن قيس (رحمة الله) في كتابه/389، عن البراء بن عازب في إجبارهم علياً على البيعة: «فقام عمر فقال لأبي بكر: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب، لا يقوم فيبايعك، أو تأمر به فنضرب عنقه، والحسن والحسين قائمان، فلما سمعا مقالة عمر بكيا، فضمهما (علیه السلام) إلى صدره فقال: لا تبكيا، فوالله ما يقدران على قتل أبيكما. وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: يا أبابكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم، فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد وقال: ما لنا

ص: 631

وللنساء. وقام بريدة الأسلمي وقال: أتثب ياعمر على أخي رسول الله وأبي ولده وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك؟ ألستما قال لكما رسول الله: إنطلقا إلى علي وسلما عليه بإمرة المؤمنين؟ فقلتما: أعن أمر الله وأمر رسوله؟ قال: نعم. فقال أبوبكر: قد كان ذلك ولكن رسول الله قال بعد ذلك: لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة. فقال: والله ما قال هذا رسول الله، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير، فأمر به عمر فضرب وطرد. وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله وأم سلمة فقالتا: يا عتيق، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد! فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد، وقال: ما لنا وللنساء»!

وفي قرب الإسناد/60، عن الصادق (علیه السلام) قال:«كانت امرأة من الأنصار تدعى حسرة تغشى آل محمد وتحن، وإن [فلاناً وفلاناً] لقياها ذات يوم فقالا: أين تذهبين يا حسرة؟فقالت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم، وأحدث بهم عهداً فقالا: ويلك إنه ليس لهم حق، إنما كان هذا على عهد رسول الله! فانصرفت حسرة ولبثت أياماً ثم جاءت فقالت لها أم سلمة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله): ما أبطأ بك عنا يا حسرة؟ فقالت: استقبلني [فلان وفلان] فقالا: أين تذهبين يا حسرة؟ فقلت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم الواجب. فقالا: إنه ليس لهم حق إنما كان هذا على عهد النبي (صلی الله علیه و آله)! فقالت أم سلمة: كذبا لعنهما الله! لايزال حقهم واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة»!

كما أن أم سلمة رضيالله عنها بعد خطبة فاطمة (علیها السلام) في المسجد، فحثَّت المسلمين على نصرتها، ففي دلائل الإمامة/124، والدر النظيم/480، أنها قالت بعد خطبة فاطمة (علیها السلام) وجواب أبي بكر لها: «ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا القول؟! هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأ، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يُعلمها، وقد قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرتكَ الأَقْرَبِين! أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة ابنة عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله!

ص: 632

رويداً ورسول الله بمرأى منكم، وعلى الله تردون، واهاً لكم فسوف تعلمون! قال: فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة»!

نصيحة أم سلمة لعائشة أن لاتعصي النبي (صلی الله علیه و آله)

وكان لها موقف تاريخي مع عائشة، فقد نصحتها وحذرتها، لتثنيها عن الخروج. قال الشريف المرتضى في رسائله: 4/66: «ومن الأخبار الطريفة ما رواه نصر بن مزاحم هذا عن أبي عبدالرحمن المسعودي عن السري بن إسماعيل بن الشعبي عن عبدالرحمن بن مسعود العبدي قال: كنت بمكة مع عبدالله بن الزبير وبها طلحة والزبير. قال: فأرسلا إلى عبدالله بن الزبير، فأتاهما وأنا معه فقالا له: إن عثمان قتل مظلوماً وإنا نخاف الإنتشار من أمة محمد، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعل الله يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً. قال: فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبدالله بن الزبير في سمرها وجلست على الباب، فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله، ما أمرت بالخروج، وما تحضرني امرأة من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة، فإن خرجت خرجت معها! فرجع إليهما فأبلغهما ذلك فقالا: إرجع إليها فلتأتها فإنها أثقل عليها منا، فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت أم سلمة: مرحباً بعائشة، والله ما كنت لي بزائرة فما بدا لك؟ قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن أميرالمؤمنين عثمان قتل مظلوماً! قال: فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت: يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أميرالمؤمنين قتل مظلوماً، فما تريدين! قالت: تخرجين معي، فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد! فقالت: يا عائشة أخرج وقد سمعت من رسول الله ما سمعت! نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت، أتذكرين يومك من رسول الله فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو يقول: والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي فقال: ما بالك يا أم سلمة؟ قلت: يا رسول الله ألا يسقط

ص: 633

الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول؟ ما يؤمنني أن أكون أنا هي! فضحكتِ أنت فالتفت إليك فقال: ما يضحكك يا حمراء الساقين، إني لأحسبك هي!

ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول الله من مكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب يحدثنا، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال: أما والله ما يومك منه بواحد ولا بليته منك بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق أو كذاب!

وأنشدك الله يا عائشة أتذكرين مرض رسول الله الذي قبض فيه فأتاك أبوك يعوده ومعه عمر، وقد كان علي بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول الله ونعله وخفه ويصلح ماوهى منها، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية وهو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله تعالى. قالا: ما بد من الموت؟ قال: لا بد منه. قالا: يا رسول الله فهل استخلفت أحداً؟فقال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل، فخرجا فمرا على علي وهو يخصف النعل!

كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه، لأنك سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله)!

ثم قالت أم سلمة: يا عائشة أنا أخرج على علي بعد هذا الذي سمعته عن رسول الله؟! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت: يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة بعد الذي سمعته من أم سلمة، فرجع فبلغهما. قال: فما انتصف الليل حتى سمعنا رغاء إبلها ترتحل، فارتحلت معهما».

وأضاف الشريف المرتضى (رحمة الله): «و من العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الذي يتضمن النص بالخلافة، وكل فضيلة غريبة، موجوداً في كتب المخالفين وفيما يصححونه من روايتهم ويصنفونه من سيرتهم ولا يتبعونه، لكن القوم رووا ما سمعوا وأودعوا كتبهم ما حفظوا ونقلوا، ولم يتخيروا ويتبينوا ما وافق مذهبهم دون ما خالفهم. وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحق»! شرح النهج: 2/78،العقد الفريد:3/96، البدء والتاريخ: 2/109،

الفائق للزمخشري: 1/190.

ص: 634

وروى نحوه في الإختصاص/116، وفيه تفصيلات، وفيه: «وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه، وسكني عقيراك فلا تضحي بها.وما كنت قائله لو أن رسول الله عرض لك ببعض الفلوات وأنت ناصة قلوصاً من منهل إلى آخر؟! أقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً (صلی الله علیه و آله) هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ! ثم قالت: لو ذكَّرتك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) خمساً في علي لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرقة ذات الحبب! قالت: ويوم جمعنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيت ميمونة فقال: يا نسائي إتقين الله ولا يسفر بكن أحد! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم، ما أقبلني لوعظك وأسمعني لقولك فإن أخرج ففي غير حرج، وإن أقعد ففي غير بأس، وخرجت»!

ورواه ابن أعثم في الفتوح: 2/454، وفيه أن اُم سلمة قالت لها: «فاتقي الله يا عائشة في نفسك، واحذري ما حذرك الله ورسوله ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، ولايغرنك الزبير وطلحة، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً! قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها!

وكتبت أم سلمة إلى علي بن أبي طالب: لعبدالله علي أميرالمؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال، خرجوا مع ابن الجزار عبدالله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً، وأنهم يطلبون بدمه! والله كافيكم وجعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى. وتالله لولا ما نهى الله عزوجل عنه من خروج النساء من بيوتهن، وما أوصى به رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند وفاته، لشخصت معك، ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وإليك ابني عمر بن أبي سلمة. والسلام.

فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له: ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عزوجل أن تقر فيه، وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاقي وفراقي؟! فقال له محمد: يا أميرالمؤمنين

ص: 635

لا عليك، فإن الله معك ولن يخذلك، والناس بعد ذلك ناصروك، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله».

ولما أصرَّت عائشة على الفتنة، آلت أم سلمة على نفسها أن لاتكلمها كل عمرها! ففي مواقف الشيعة للأحمدي: 1/93: «دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً، من أجل مسيرها إلى محاربة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين، فقالت: يا حائط ألم أنهك ألم أقل لك؟ قالت عائشة: فإني أستغفر الله وأتوب إليه كلميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت! وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط مني». المحاسن للبيهقي/181.

لماذا لايسمون أم سلمة: أم المؤمنين؟

مع المكانة العظيمة لأم سلمة (علیها السلام)، تراهم يذكرون في كتبهم اسمها مجرداً! بينما يذكرون اسم عائشة مقروناً بأم المؤمنين، دائماً أو غالباً! وبذلك تعرف موقفهم من مرويات أم سلمة (علیها السلام)، التي تبلغ أضعاف ما روته عائشة في الكمية، وهي أرقى من روايات عائشة في النوعية، وليس فيها إفراط عائشة ومبالغاتها في مدح نفسها، ولا إسفافها في الأمور الشخصية!

قال العلامة الحلي (رحمة الله): «وعظموا عائشة على باقي نسوانه (صلی الله علیه و آله) ..وساعدوها على حرب أميرالمؤمنين (علیه السلام)! ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص واحد بكلمة واحدة! وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك»! شرح منهاج الكرامة للميلاني: 1/454.

وقال الکراجکي/102: «ومن عجيب أمرهم تفضيلهم عائشة بنت أبي بكر على جميع أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) ..وكثرة ترحمهم عليها وإظهارهم الخشوع والبكاء عند ذكرها، ثم لا يذكرون خديجة بنت خويلد وفضلها متفق عليه وعلو قدرها لا شك فيه، وهي أول من آمن برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنفقت عليه مالها. وكان يكثر ذكرها ويحسن الثناء عليها ويقول: مانفعني مال كمالها، ورزقه الله الولد منها، ولم يتزوج في حياتها إكراماً لها»!

ص: 636

أقول: ما ذكره العلامة (رحمة الله) يدل على مخالطته لهم وتتبعه مؤلفاتهم، وهم كذلك إلى اليوم يعبرون عن زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بأسمائهن فإذا وصلوا إلى عائشة قالوا: أم المؤمنين!

أولاد أم سلمة

كان لها من أبي سلمة ثلاثة أبناء، هم: سلمة ومحمد وعمر، وثلاث بنات: درة وزينب وأم كلثوم، فهم صحابة وربائب النبي (صلی الله علیه و آله) . وأشهرهم عمر ويسمى أيضاً عمرو، ثم زينب التي روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يلاعبها وهي طفلة ويقول: «يا زوينب، يا زوينب، مراراً». الجامع الصغير: 2/396.

وكان عمر أصغر من أخويه وأبرزهما، فقد رضي به النبي (صلی الله علیه و آله) أن يزوجه والدته ولياً لها: «زوجها إياه عمر بن أبي سلمة وهو صغير لم يبلغ الحلم». الكافي: 5/391.

وجاءت أم سلمة بولديها محمد وسلمة إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) لينصراه وقالت له: «هما عليك صدقة، فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك». رجال الطوسي/48.

ومعنى كلامها أنهما وقف لله تعالى لنصرتك. وقال ابن عقدة: «جاءت بعمر وسلمة. وشهد عمر مع علي حرب الجمل ثم استعمله على فارس، وتوفي في خلافة عبدالملك بن مروان بالمدينة. وعاش أخوه سلمة إلى خلافة عبدالملك، وكان أسن من عمر». مذيل الطبري/58.

وفي نهجالبلاغة: 3/67: «من كتاب له (علیه السلام) إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله على البحرين، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه:

أما بعد فإني قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظَلَمَة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو، وإقامة عمود الدين إن شاء الله».

ورواه في أنساب الأشراف/158 واليعقوبي: 2/201، وفيه: «جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر فشهد معه ثم انصرف، وتبع علياً إلى الكوفة فمكث معه سنة وبعض أخرى».

ص: 637

سودة بنت زمعة أول زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام)

1- سَوْدَة بنت زَمْعَة القرشية. أبوها زمعة بن قيس من قبيلة عامر بن لؤي القرشية، التي عرف منها ابن الزبعرى الشاعر الذي كان يهجو النبي (صلی الله علیه و آله)، وعمرو بن عبد ود، الذي قتله علي (علیه السلام) مع ابنه يوم الخندق، وحويطب بن عبدالعزى، «العلل لابن حنبل: 3/422» ومنهم بسر بن أرطاة القائد السفاك عند معاوية، الذي أغار على الحجاز واليمن وكانا تحت حكم علي (علیه السلام) فقتل في غارته ثلاثين ألفاً! «ابن خياط/150». ومنهم عبدالله بن مخرمة بن عبدالعزى، الذي رووا أنه انحاز في بدر من صف المشركين إلى صف النبي (صلی الله علیه و آله) . ابن هشام: 1/246.

وكان رئيسهم سهيل بن عمرو، من أشد المشركين على النبي (صلی الله علیه و آله)، والمفاوض عنهم في صلح الحديبية.وعندما غضب القرشيون على أبي سفيان في فتح مكة واتهموه بأنه وافق محمداً (صلی الله علیه و آله) على تسليمه مكة بدون شروط، عزلوه ونصبوا بدله سهيل بن عمرو، فصار زعيم قريش. وكان له دور في الإعداد للسقيفة.

وقد وقع سهيل أسيراً يوم بدر هو وعبد بن زمعة أخ سودة.«ابن هشام: 2/534»وقد يكون عبد هذا نفسه عبدالله بن زمعة الذي نصوا عليه.الطبقات: 4/204.

وكانت سودة زوجة السكران بن عمرو، أخ سهيل بن عمر، فقد هاجر إلى الحبشة خوفاً من أخيه سهيل وعشيرته، ثم استرضاه ورجع إلى مكة قبل الهجرة فتوفي فيها، وروى ابن سعد أنه مات في الحبشة وأن له ولداً من سودة. «الطبقات: 4/204» وقال غيره لم يكن لهما أولاد «أنساب السمعاني: 4/117».

وقال الطبري: 2/411: «وكان السكران من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها، فخلف عليها رسول الله». وقد اشتبه السرخسي «المبسوط 28/186» في إسم أبيها زمعة بن قيس، فحسبوه زمعة بن الأسود. وتنبه له ابن حجر. الإصابة: 4/322.

وبهذا نعرف الحكمة من زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بسودة لمكانتها في قريش ومكانة أقاربها.

2. خطب النبي (صلی الله علیه و آله) سودة قبل الهجرة وتزوج بها بعد الهجرة، ووصفتها عائشة فقالت: «كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة» نيل الأوطار: 5/142،ومسند أحمد: 6/94.

ص: 638

وفي إمتاع الأسماع: 6/33: «كانت امرأة ثقيلة ثبطة وكان في أذنها ثقل، وأسنَّت عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهم بطلاقها، ويقال طلقها في سنة ثمان من الهجرة تطليقة».

وفي دلائل الامامة/81: «تزوج سودة أول دخوله المدينة فنقل فاطمة إليها، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفوَّض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها».

وزعمت عائشة، «مسند أحمد: 6/210» أن خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون عرضت على النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة خديجة سودة وعائشة، فأمرها أن تخطبهما له، وكان عمر عائشة ست سنين! فقال أبوبكر لخولة: «أدعي لي رسول الله فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين»!

ثم زعمت عائشة أن خولة ذهبت بعد خطبتها هي إلى زمعة والد سودة، وكان شيخاً كبير السن فحيته بتحية الجاهلية! وخطبت منه سودة فقبل: «فجاء رسول الله إليه فزوجها إياها، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي في رأسه التراب..قالت عائشة فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحرث بن الخزرج في السنح. قالت فجاء رسول الله فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيْعَة «شعر قليل» ففرقتها ومسحت وجهي بشئ من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله في بيتنا، ما نحرت عليَّ جزور ولا ذبحت عليَّ شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين».

ولايمكن قبول رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) تزوج في مكة بعد خديجة (علیها السلام)، لمعارضتها بغيرها، مضافاً إلى أنه كان بعد وفاة أبي طالب وخديجة في ظرف أمني خطير،

ص: 639

وقد اختفى مدة في الحجون خوفاً على حياته من قريش!

وكذلك لا نقبل أن النبي (صلی الله علیه و آله) ذهب إلى بيت أبي بكر في المدينة وتزوج بعائشة هناك، لأن أبابكر كان يعيش في خيمة شعر عند أهل زوجته!قال ابن سعد في الطبقات: 3/174: «ولم يزل في بيت الحارث بن الخزرج بالسنح، حتى توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله)». وفي أسد الغابة: 3/219: «كان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، وكان قد حجر عليه حجرة من شعر، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى المدينة». أي صار خليفة.

3. زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل: «زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وسودة بنت زمعة».«الطبقات: 1/237» لكن روايتهم استفاضت بأن النبي (صلی الله علیه و آله) انتظر علياً (علیه السلام) في قباء حتى جاء بعائلته، ولم تكن فيهم سودة ولا عائشة، فلا بد أن تكون هذه الرواية من قصص عائشة الكثيرة التي مدحت فيها نفسها! والمعقول أنها هاجرت مع أمها ونزلت في بيت أبيها أبي بكر، وكان له زوجتان في السنح غير أم رومان. أما سودة فلا يعرف كيف هاجرت إلى المدينة.

4. وكانت عائشة وحفصة تسخران من سودة وتؤذيانها حتى صارت من حزبهما، ففي دلائل الإعجاز للجرجاني وأحاديث عائشة للعسكري: 1/63: «سمعت أم المؤمنين عائشة سودة تنشد: عديٌّ وتيمٌ تبتغي من تحالفُ! فقالت عائشة لحفصة: ماتُعَرِّضُ إلا بي وبك! يا حفصة فإذا رأيتني أخذت برأسها فأعينيني! فقامت فأخذت برأسها وخافت حفصة فأعانتها، وجاءت أم سلمة فأعانت سودة! فأتى النبي فأُخْبِرَ وقيل له: أدرك نساءك يقتتلن! فقال: ويحكن مالكن؟ فقالت عائشة: يا رسول الله ألا تسمعها تقول: عدي وتيم تبتغي من تحالفُ. فقال: ويحكن ليس عديكن ولا تيمكن، إنما هو عدي تميم، وتيم تميم»!

ورأتها عائشة وحفصة تزينت فقالتا: خرج الدجال! خرج الدجال! فخافت سودة: «وكانت امرأة طويلة فدخلت خباء كان لوقودهم!قالت: واستضحكنا فدخل

ص: 640

رسول الله فإذا سودة تنتفض فقال: مالك؟ فقالت: يا رسول الله خرج الدجال؟فقال: لا، وهو خارج؟فأخذ بيدها وأخرجها وجعل ينفض بكم قميصه عن وجهها وعن خمارها أثر الدخان ونسج العنكبوت».الآحاد والمثاني: 6/208.

وفي مختصر تاريخ دمشق: 18/286: «قالت عائشة2 كان عندي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسوده فصنعت حريره فجئت بها فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت والله لتأكلين أو لألطخن وجهك! فقالت: ماأنا بذائقة، فاخذت من الصحفة شيئاً فلطخت به وجهها»!

5. وقالوا: «أسنَّت عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهم بطلاقها» ولا يصح، لأنه اتهام للنبي (صلی الله علیه و آله)، فإنه ما تزوج ولا طلق لأسباب جنسية، فقد يكون السبب أنها صارت من حزب عائشة، أو أنها كانت تعظم سهيل بن عمرو أخ زوجها السابق! فعندما رأته مع أسارى بدر حرضته على النبي (صلی الله علیه و آله) ووبخته كيف استسلم ولم يقاوم! وقالت له بحضور النبي (صلی الله علیه و آله): «أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً! فقال لها رسول الله: أعلى الله ورسوله تحرضين ياسودة»! ابن هشام: 2/472.

كما لايصح قولهم إنها لم يكن لها إربة بالرجال فوهبت ليلتها لعائشة! قال الشافعي «في الأم 5/152»: «أراد فراق سودة فقالت: لاتفارقني ودعني حتى يحشرني الله في أزواجك، وأنا أهب ليلتي ويومى لأختي عائشة».

وأصله ما زعمته عائشة فقالت كما في صحيح بخاري: 3/135: «كان (صلی الله علیه و آله) يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي (صلی الله علیه و آله) تبتغى بذلك رضا رسول الله».

والصحيح أن الله تعالى أسقط عن نبيه (صلی الله علیه و آله) القسمة لنسائه، فقال: تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ. فلا حق لسودة حتى تهبه.

ص: 641

الفصل السابع والثلاثون: زواج علي و فاطمة (علیهما السلام)

1- خَطَبَها كبار الصحابة فردهم النبي (صلی الله علیه و آله)!

روى الجميع أن أبابكر وعمر وغيرهما خطبا الزهراء (علیها السلام)، فردهم النبي (صلی الله علیه و آله) . قال ابن سعد في الطبقات: 8/19: «إن أبابكر خطب فاطمة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا أبابكر أنتظر بها القضاء، فذكر ذلك أبوبكر لعمر فقال له عمر: ردك يا أبابكر. ثم إن أبابكر قال لعمر: أخطب فاطمة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فخطبها فقال له مثلما قال لأبي بكر: أنتظر بها القضاء، فجاء عمر إلى أبي بكر فأخبره فقال: له ردك يا عمر»!

وفي تذكرة الخواص/276، عن أحمد في الفضائل: «فقال رسول الله: إنها صغيرة، وإني أنتظر بها القضاء، فلقيه عمر فأخبره، فقال: ردك، ثم خطبها عمر فرده».

وفي سنن النسائي: 6/62: «فقال رسول الله: إنها صغيرة فخطبها علي فزوجها منه».

وفي مجمع الزوائد: 9/204 عن الطبراني الكبير: 22/408 ووثقه: «خطب أبوبكر وعمر فاطمة فقال النبي: هي لك يا علي».

وفي المناقب: 3/122: «اشتهر في الصحاح بالأسانيد عن أميرالمؤمنين (علیه السلام)، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر الأنصاري، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وأم سلمة، بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، أن أبابكر وعمر خطبا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مرة بعد أخرى فردهما. وروى ابن بطة في الإبانة أنه خطبها عبدالرحمن فلم يجبه. وفي رواية غيره أنه قال: بكذا من المهر، فغضب (صلی الله علیه و آله) ومد يده إلى حصى فرفعها فسبحت في يده، وجعلها في ذيله فصارت دراً

ص: 642

ومرجاناً، يعرض به جواب المهر».

وفي الصحيح من السيرة: 5/270: «وقد عاتب الخاطبون النبي (صلی الله علیه و آله) على منعهم وتزويج علي (علیه السلام)، فقال (صلی الله علیه و آله): والله ما أنا منعتكم وزوجته، بل الله منعكم وزوجه! وقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله) أنه قال: لو لم يُخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ».

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/203: «عن علي (علیه السلام) قال: قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي لقد عاتبتني رجال قريش في أمر فاطمة، وقالوا: خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت علياً؟! فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله تعالى منعكم وزوجه! فهبط عليَّ جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا محمد إن الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض، آدم فمن دونه»!

وفي كشف الغمة: 2/100: «إن الله عزوجل زوجك فاطمة (علیها السلام)، وجعل صداقها الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً».

ورد الشريف المرتضى روايتهم بأن علياً (علیه السلام) آذى فاطمة (علیها السلام) فقال: «إن الله تعالى هو الذي اختار علياً لفاطمة، فكيف يختار لها من يؤذيها ويغمها»! الشافي: 2/277.

2- تولى الله أمر فاطمة (علیها السلام) دون أبيها (صلی الله علیه و آله)

النبي (صلی الله علیه و آله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لكن لا ولاية له على ابنته الزهراء (علیها السلام)!

فقد علل رده لمن خطبها غير علي (علیه السلام) بأن أمرها لله تعالى وليس له!

وفي الكافي: 5/568، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم، إلا فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء».

وفي كشف الغمة: 1/363، من كلام أبي بكر قال: «قد خطبها الأشراف من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إن أمرها إلى ربها، إن شاء أن يزوجها زوجها».

وهذا يدل على أنها كانت منذورة لله تعالى مثل مريم (علیها السلام)، أو أن الله تعالى أمر نبيه أن يترك أمرها له! وهذا مقام عظيم لم يبلغه قبلها رجل ولا امرأة!

وقد حاول بعضهم أن ينتقص من مقامها (علیها السلام) ويعمم هذه الفضيلة، فروى

ص: 643

الحاكم: 4/49 أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ما أنا أزوج بناتي ولكن الله تعالى يزوجهن».لكنه (صلی الله علیه و آله) زوج زينب وأم كلثوم ولم يقل إن أمرهن لله تعالى وليس له!

ويشبه ذلك ما رواه الحاكم: 2/201، عن عروة عن خالته عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال عن ابنته أو ربيبته زينب: «هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة (علیها السلام) ؟ فقال: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها! وأما بعد، فلك أن لا أحدث به أبداً.

قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: أدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ..».

ومعناه أنه يعتذر عن خالته عائشة بأنها قالت إن النبي (صلی الله علیه و آله) قال بنتي قبل نزول النهي عن النسبة بالتبني. ومعناه أن زينب ربيبة النبي (صلی الله علیه و آله) وليست بنته.

3- عرس الزهراء (علیها السلام) أعظم عرس في تاريخ الأنبياء (علیهم السلام)

أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يزوج فاطمة من علي (علیهما السلام) ويحتفل بعرسها. قال أنس: «كنت قاعداً عند النبي (صلی الله علیه و آله) فغشيه الوحي فلما سُرِّيَ عنه قال: أتدري يا أنس ما جاء به جبريل من عند صاحب العرش؟قلت: بأبي وأمي!وما جاء به جبريل من عند صاحب العرش؟ قال: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي». تاريخ دمشق: 37/13، نحوه كبير الطبراني: 10/156، الزوائد: 9/204، المناقب لابن مردويه/196، الجامع الصغير: 1/258، كنز العمال: 11/606، و13/671، الكشف الحثيث/174، جواهر المطالب: 1/155، سبل الهدى: 11/38، الحلبية: 2/471 وغيرها وصححوه.

ووصفت الأحاديث في مصادر الطرفين مراسم الخطبة، ثم العقد، ثم تهيئة المنزل، وتأثيثه، ثم وليمة الزفاف. وتبلغ نحو خمسين صفحة!

4- أيها الرسول: زوج النور من النور

نزل جبرئيل بأمر الله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله) أن يزوج النور من النور، فتحدث النبي (صلی الله علیه و آله) في المسجد وأمر علياً (علیه السلام) أن يخطب فخطب وطلب منه يد فاطمة (علیها السلام)،

ص: 644

وأجابه النبي (صلی الله علیه و آله) بالقبول، وأخبر المسلمين باحتفال الملأ الأعلى بعرسهما.

ثم باع علي (علیه السلام) درعه وجاء بثمنه مهراً وأعطاه للنبي (صلی الله علیه و آله)، فأعطى منه قبضة إلى أم سلمة وأم أيمن لشراء لوازم عرس الزهراء (علیها السلام)، وقبضة لسلمان وأبي بكر، لشراء لوازم المنزل. ثم أمر الصحابة والصحابيات بتهيئة المنزل.

وبقيت الزهراء بعد عقد زواجها مدة في بيت أبيها (صلی الله علیه و آله)، ثم أقام النبي (صلی الله علیه و آله) مراسم زفافها فأولم وليمة كبيرة لم يحدث التاريخ بأوسع منها في كل سيرته (صلی الله علیه و آله) . والأحاديث في مراسم زواج الزهراء (علیها السلام) عديدة، اخترنا نماذج منها:

في المناقب: 3/123 وتاريخ بغداد: 4/432: «طلع النبي (صلی الله علیه و آله) ووجهه مشرق كالبدر، فسأله ابن عوف عن ذلك فقال: بشارة أتتني من ربي لأخي وابن عمي وابنتي، واللهُ زوج علياً بفاطمة (علیهما السلام)، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار، بأخي وابن عمي وابنتي، فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي.

دعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما كان من همتي تزويجك، أتاني جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها، فتناولتهما وأخذتهما فشممتهما، فقلت: ما سبب هذا السنبل والقرنقل؟ قال: إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها، وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب، وأمر حور عينها بالقراءة فيها طه ويس وطواسين وحم وعسق، ثم نادى مناد من تحت العرش: ألا إن اليوم يوم وليمة علي، ألا إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي، رضاً مني ببعضهما لبعض.

ثم بعث الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها، وقامت الملائكة فنثرن من سنبلها وقرنفلها، وهذا مما نثرت الملائكة».

وفي حديث خباب بن الأرت: أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل: «زوج النور

ص: 645

من النور وكان الولي الله، والخطيب جبرئيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات والأرضين. ثم أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك، فنثرت الدر الأبيض والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر واللؤلؤ الرطب، فبادرن الحور العين يلتقطن، ويهدين بعضهن».

وفي تعبير: زوج النور من النور سرٌّ لطيف، لأن نور النبوة صار جزءين، وافترق في عبدالله وأبي طالب: جزء للنبوة، وجزء للإمامة، ثم اجتمع في الحسن والحسين (علیهما السلام) .

قال الإمام الصادق (علیه السلام) «الكافي: 1/442»: «إن الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار، الذي نورت منه الأنوار، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهو النور الذي خلق منه محمداً (صلی الله علیه و آله) وعلياً (علیه السلام)، فلم يزالا نورين أولين، إذ لا شئ كون قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبدالله وأبي طالب (علیهم السلام)».

وقال القاضي سعيد في شرح توحيد الصدوق: 2/79:«وعندها يتحد النوران اللذان اقتسما في عبدالله وأبي طالب رضيالله عنهما».

5- خطبة علي (علیه السلام) الرسمية وجواب النبي (صلی الله علیه و آله)

قال في المناقب: 3/126: «وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة (علیها السلام) خطبة، رواها يحيى بن معين في أماليه، وابن بطة في الإبانة بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً، ورويناها عن الرضا (علیه السلام) .وروى ابن مردويه أنه قال لعلي: تكلم خطيباً لنفسك، فقال: الحمد لله الذي قرب من حامديه، ودنا من سائليه، ووعد الجنة من يتقيه، وأنذر بالناس من يعصيه، نحمده على قديم إحسانه وأياديه، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه، ومميته ومحييه، ومسائله عن مساويه، ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونستكفيه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغه وترضيه، وأن محمداً عبده ورسوله، صلاة تزلفه وتخطيه، وترفعه وتصطفيه.

والنكاح ما أمر الله به ورضيه، واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه، وهذا رسول الله

ص: 646

زوجني ابنته فاطمة على خمس مائة درهم وقد رضيت، فاسألوه واشهدوا.

وفي خبر: زوجتك ابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن، وقد رضيت بما رضيالله لها، فدونك أهلك فإنك أحق بها مني.

وفي خبر: فنعم الأخ أنت، ونعم الختن أنت، ونعم الصاحب أنت، وكفاك برضى الله رضاً، فخر عليٌّ ساجداً شكر الله تعالى وهو يقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): آمين».

6- عرس فاطمة (علیها السلام) في السماء

في تفسير العياشي: 2/211، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «أمر الله طوبى فنثرت عليهم من حللها وسندسها، وإستبرقها، ودرها، وزمردها، وياقوتها، وعطرها، فأخذوا منه حتى ما دروا مايصنعون به. ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة (علیها السلام)، فهي في دار علي بن أبي طالب».

وفي المناقب: 3/128: «قيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): قد علمنا مهر فاطمة في الأرض فما مهرها في السماء فقال: سل ما يعنيك ودع ما لا يعنيك. قيل: هذا مما يعنينا يا رسول الله، قال: كان مهرها في السماء خمس الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لها أو لولدها، مشى عليها حراماً إلى أن تقوم الساعة».

وفي روضة الواعظين/144،عن علي (علیه السلام) قال: «أتاني رسول رسول لله فقال لي: أجب النبي وأسرع، فما رأينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشد فرحاً منه اليوم! قال: فأتيته مسرعاً فقال: أبشر ياعلي فإن الله تعالى قد كفاني ماكان من همي من أمر تزويجك. قلت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبرئيل ومعه سنبل الجنة وقرنفلها فناولنيهما، فأخذتهما فشممتهما فقلت: ما سبب هذا السنبل والقرنفل؟ فقال: إن الله تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها، ثم نادى مناد: ألا يا ملائكتي وسكان جنتي،

ص: 647

باركوا علي بن أبي طالب حبيب محمد وفاطمة بنت محمد، فقد باركت عليهما. قال علي: فقلت: يا رسول الله بلغ من قدري حتى أني ذكرت في الجنة وزوجني الله في ملائكته. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله تعالى إذا أكرم وليه وأحبه، أكرمه بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، فاختار الله لك يا علي. فقلت: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): آمين».

وفي تاريخ دمشق: 42/126: «عن جابر بن عبدالله قال: دخلت أم أيمن على النبي وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك لا أبكى الله عينيك؟ قالت: بكيت يا رسول الله لأني دخلت منزل رجل من الأنصار قد زوج ابنته رجلاً من الأنصار، فنثر على رأسها اللوز والسكر، فذكرت تزويجك فاطمة من علي بن أبي طالب ولم ينثر عليها شيئاً! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا تبكي يا أم أيمن فوالذي بعثني بالكرامة واستخصني بالرسالة ما أنا زوجته ولكن الله زوجه، ما رضيت حتى رضي علي، وما رضيت فاطمة حتى رضيالله رب العالمين. يا أم أيمن، إن الله لما أن زوج فاطمة من علي أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وأمر الجنان أن تزخرف فتزخرفت، وأمر الحور العين أن يتزينَّ فتزينَّ، وكان الخاطب الله وكان الملائكة الشهود! ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر فنثرت عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الياقوت الأحمر مع الزبرجد الأخضر، فابتدر حور عين من الجنان يرفلن في الحلي والحلل يلتقطنه،ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد، فهن يتهادينه بينهن إلى يوم القيامة».

أقول: يظهر أن أم أيمن تتكلم عن المرحلة الأولى من عرس فاطمة (علیها السلام)، فقد ورد في حديث زفافها أنهم نثروا في عرسها: «فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب».الهداية الكبرى/115.

ص: 648

7- تهيئة النبي (صلی الله علیه و آله) منزل فاطمة وعلي (علیهما السلام)

روى الطبراني في الأوسط: 6/290 وابن ماجة: 1/615: «عن عائشة وأم سلمة قالتا: أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفقتين ليفاً فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماء عذباً، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلق عليه السقاء. فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة».

وكان أميرالمؤمنين (علیه السلام) يسكن في بيت مع أمه فاطمة بنت أسد، وعندما تزوج انتقل إلى بيته الجديد وسكنت معه والدته (علیها السلام) .

ففي ذخائر العقبى/51 1: «فقال علي لأمه فاطمة بنت أسد: إكفي بنت رسول الله الخدمة خارجاً، سقاية الماء والحاجة وتكفيك العمل في البيت (علیهم السلام) العجن والطحن».

8- وصف أثاث بيت فاطمة (علیها السلام)

في المناقب: 3/127: «قال الصادق (علیه السلام): وسكب الدراهم في حجره، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين إلى أم أيمن لمتاع البيت، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب، وقبضة إلى أم سلمة للطعام، وأنفذ عماراً وأبابكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها. وكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية وسرير مزمل بشريط، وفراشان من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطايف، حشوها إذخر، وستر من صوف، وحصير هجري، ورحاء اليد، وسقاء من أدم ومخضب من نحاس، وقعب للبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف.. ونطع من أدم،وعباء قطراني، وقربة ماء». إلى آخر الروايات.

ص: 649

9- أفخم الأعراس عرس فاطمة (علیها السلام)

أقام النبي (صلی الله علیه و آله) بأمر ربه عرساً لفاطمة وعلي (علیهما السلام) لانظير له في تاريخ الأنبياء (علیهم السلام)، فقد زوج بناته أو ربيباته قبل فاطمة (علیها السلام) وبعدها، وتزوج هو، وكانت احتفالاته مختصرة، فكان يدعو من حضر إلى طعام من تمر وسمن وما شابه، وانتهی الأمر.

وقد جاء في رواية الطبراني في الأوسط: 6/290 وابن ماجة: 1/615: «عن عائشة: فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة».

وضاق بعض حساد علي وفاطمة (صلی الله علیه و آله) بهذا الحديث فقالوا إنه كان أحسن عرس فقط بالحَيْس، أي حلاوة التمر، أو الطحين التي تحاس بالدهن!

ورووا «عن جابر: حضرنا عرس علي، فما رأينا عرساً كان أحسن منه حَيْساً» «الطبراني الأوسط: 6/290». ثم حاولوا أن يضعفوا رواية ابن ماجة بسلم بن خالد الزنجي، فقال في مجمع الزوائد: 4/50: «وهو ضعيف وقد وثق».

وقد وثقه ابن معين والدارقطني وابن حبان، وهم من كبار الأئمة عندهم!

ففي تاريخ ابن معين: 1/50: «سألت يحيى عن مسلم بن خالد الزنجي فقال ثقة». وفي مشاهير ابن حبان /234: «كان أبيض مشرب الحمرة، فلذلك قيل زنجي! مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان من فقهاء أهل مكة، ومنه تخرج الشافعي وإياه كان يجالس قبل أن يلقى مالكاً».«قال الدارقطني: ثقة». تهذيب التهذيب: 10/117.

فقد ضعفوه لروايته فضائل أهل البیت (علیهم السلام)!قال بخاري في الضعفاء/110: «منكر الحديث»!ولعلهم لبغضهم إياه سموه زنجياً، مع أنه أبيض أحمر!

10- وليمة الزفاف بعد شهر من العقد

أقام النبي (صلی الله علیه و آله) وليمة عامة لعرس علي وفاطمة (علیهما السلام)، ومدَّ السفر للناس في المسجد، ففي مناقب علي بن أبي طالب (علیه السلام) لأبي بكر بن مردويه/198، ومناقب ابن شهر آشوب: 3/129: «في حديث: فمكث علي تسعة وعشرين ليلة، فقال له جعفر وعقيل: سله أن يدخل عليك أهلك، فعرفت أم أيمن ذلك وقالت: هذا من أمر النساء

ص: 650

فخلت به أم سلمة فطالبته بذلك، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: حباً وكرامة، فأتى الصحابة بالهدايا، فأمر بطحن البُر وخبزه، وأمر علياً بذبح البقر والغنم، فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يُفَصِّل «الذبيحة» ولم يُرَ على يده أثر دم!

فلما فرغوا من الطبخ أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن ينادى على رأس داره: أجيبوا رسول الله وذلك كقوله تعالى: وأذن في الناس بالحج «والناس في أماكنهم يسمعون دعوته» فأجابوا من النخلات والزروع، فبسط النطوع في المسجد وصدر الناس، وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة، ورفعوا منها ما أرادوا، ولم ينقص من الطعام شئ! ثم عادوا في اليوم الثاني وأكلوا! وفي اليوم الثالث أكلوا مبعوثة أبي أيوب، ثم دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصحاف فملئت ووجه إلى منازل أزواجه، ثم أخذ صحفة وقال: هذا لفاطمة وبعلها.

ثم دعا فاطمة، وأخذ يدها فوضعها في يد علي وقال: بارك الله لك في ابنة رسول الله يا علي نعم الزوج فاطمة، ويا فاطمة نعم البعل علي.

وفي مناقب آل أبي طالب: 1/114: «وأتى أبوأيوب بشاة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عرس فاطمة فنهاه جبرئيل عن ذبحها، فشق ذلك عليه فأمر (صلی الله علیه و آله) زيد بن جبير الأنصاري فذبحها بعد يومين، فلما طبخ أمر ألا يأكلوا إلا باسم الله وأن لا يكسروا عظامها، ثم قال: إن أباأيوب رجل فقير، إلهي أنت خلقتها وأنت أفنيتها وإنك قادر على إعادتها، فأحيها يا حي لا إله إلا أنت. فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي أيوب وشفاء المرضى في لبنها، فسماها أهل المدينة المبعوثة، وفيها قال عبدالرحمن بن عوف أبياتاً منها:

ألم ينظروا شاة ابن زيد وحالها *** وفي أمرها للطالبين مزيد

وقد ذبحت ثم استُجِرَّ إها بها *** وفصلها فيما هناك يزيد

وأنضج منها اللحم والعظم والكلى *** فهلهله بالنار و هو هريد

فأحيى له ذو العرش والله قادر *** فعادت بحال ما يشاء يعود

ص: 651

11- تزيين النساء لفاطمة (علیها السلام)

«وكان النبي (صلی الله علیه و آله) أمر نساءه أن يزينها، ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة، فاستدعين من فاطمة (علیها السلام) طيباً فأتت بقارورة، فسألت عنها فقالت: كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقول لي: يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمك، فكان إذا نهض سقط من بين ثيابه شئ فيأمرني بجمعه.

فسئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن ذلك فقال: هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل!

وأتت بماء ورد، فسألت أم سلمة عنه فقالت: هذا عرق رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنت آخذه عند قيلولة النبي عندي.

وروي أن جبرئيل (علیه السلام) أتى بحلة قيمتها الدنيا، فلما لبستها تحيرت نسوة قريش منها، وقلن: من أين لك هذا؟ قالت: هذا من عند الله».المناقب:3/130.

وفي المعجم الكبير للطبراني: 22/408: «عن عبدالله بن مسعود قال: سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، سمعته في غزوة تبوك يقول ونحن نسير معه: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي (علیهما السلام) ففعلت، قال جبريل: إن الله بنی جنة من لؤلؤة «ووصفها بتفصيل» قلت: يا جبريل لمن بنى الله هذه الجنة؟ قال: بناها لفاطمة ابنتك وعلي بن أبي طالب، سوى جنانها، تحفة أتحفها وأقر عينيك يا رسول الله».

12- مراسم زفاف فاطمة لعلي (علیهما السلام)

في شرح الأخبار: 2/358: «ثم قال: يا أسماء، إملئي لي مخضب ماء وآتيني به، فملأت وأتته به، فأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) منه ومجَّه في فيه، ثم غسل فيه وجهه وقدميه، ودعا فاطمة (علیها السلام) فأخذ كفاً من ذلك الماء فنضحه على صدرها، وأخذ كفاً ثانياً فنضحه على ظهرها، ثم أمرها أن تشرب بقية الماء.

ثم دعا بعلي (علیه السلام) فصنع به مثل ذلك، ثم قال: اللهم إنهما مني وأنا منهما، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني، فأذهبه عنهما وطهرهما. ثم قال: قُوما إلى بيتكما جمع الله بينكما، وبارك لكما في سيركما، وأصلح بالكما.

ص: 652

قالت أسماء: إنه (صلی الله علیه و آله) لم يزل يدعو لهما لم يشرك في دعائه أحداً حتى توارى في حجرته».وكشف الغمة: 1/382، كشف اليقين/198، ينابيع المودة: 2/64، المناقب: 3/131.

وفي رواية أنه (صلی الله علیه و آله) دعا لهما: «اللهم إنهما مني وأنا منهما، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما... اللهم اجمع شملهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم. اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وأنت وليهما في الدنيا والآخرة».خصائص أميرالمؤمنين/115،مناقب أميرالمؤمنين: 2/203 والبحار: 43/122.

وفي مناقب آل أبي طالب: 3/130، عن كتاب مولد فاطمة (علیها السلام) للصدوق قال: «أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة (علیها السلام) وأن يفرحن ويرجزن ويكبرن ويحمدن، ولا يقلن ما لا يرضيالله. قال جابر: فأركبها على ناقته، وفي رواية على بغلته الشهباء، وأخذ سلمان زمامها، وحولها سبعون حوراء والنبي (صلی الله علیه و آله) وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البیت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم، ونساء النبي (صلی الله علیه و آله) قدامها يرجزن. فأنشأت أم سلمة».ثم ذكر أراجيز أم سلمة، وعائشة، وحفصة، ومعاذة أم سعد بن معاذ.

وروى الطبراني في معجمه الكبير: 22/410 حديثاً مطولاً فيه ذكر مراسم زفاف فاطمة (علیها السلام) شبيهاً بحديث المناقب.

وفي المناقب: 3/130: «تاريخ الخطيب، وكتاب ابن مردويه، وابن المؤذن، وابن شيرويه الديلمي، بأسانيدهم عن علي بن الجعد، عن ابن بسطام، عن شعبة بن الحجاج، وعن علوان عن شعبة، عن أبي حمزة الضبعي، عن ابن عباس وجابر: أنه لما كانت الليلة التي زُفت فاطمة إلى علي (علیهما السلام) كان النبي (صلی الله علیه و آله) أمامها، وجبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن يسارها، وسبعون ألف ملك من خلفها، يسبحون الله ويقدسونه».

أقول: هذا مقام رباني عظيم، حيث خرج النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه كبار الملائكة:، مع فاطمة (علیها السلام) من بيته إلى بيت علي (علیه السلام) الذي كان أول الأمر بعيداً نسبياً عن المسجد.

وفي شرح إحقاق الحق: 25/410، عن توضيح الدلائل للإيجي/334، عن ابن سيرين،

ص: 653

عن أم سلمة، وسلمان من حديث: «حتى إذا صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشاء الآخرة انصرف إلى بيت فاطمة (علیها السلام) فدعاها فأجلسها خلف ظهره، ثم دعا علياً فأخذ بيد فاطمة فوضعها في يد علي وقال (صلی الله علیه و آله): إنطلقا إلى بيتكما ولا تحدثا شيئاً حتى آتيكما. فقامت فاطمة (علیها السلام) معه غير عاصية ولامتلكئة حتى دخلا بيتهما فجلسا على فراش، ثم قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى دخل عليهما فجلس بينهما، ثم قال لعلي: قم فائتني بماء، فأخذ علي قعباً فاصطب من ماء شلوة فأتاه به، فأخذ رسول الله القعب بيده ثم أخذ ملء فيه ماء فتمضمض به ثم أعاده في القعب، فأخذ قبضة من الماء فنضح به رأس علي ووجهه وصدره، ثم قال (صلی الله علیه و آله): إشربه فشربه.

ثم قال لفاطمة: قومي فائتني بماء، فجاءت به أيضاً في القدح، فأخذ رسول الله ملء فيه فتمضمض به فأعاده في القدح، ثم أخذ قبضة فنضح به رأس فاطمة ووجهها ونحرها. ثم قام وخلاهما.ولبث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعاً لايدخل عليهما».

وفي الإصابة: 8/265: «وأخرج الدولابي في الذرية الطاهرة بسند جيد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة بني علي بفاطمة: لا تحدث شيئاً حتى تلقاني فدعا بماء فتوضأ منه ثم أفرغه عليهما وقال: اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما».

المعجم الكبير للطبراني: 22/409: «فجاءت مع أم أيمن فقعدت في جانب البيت وأنا في جانب فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ههنا أخي؟ فقالت: أم أيمن أخوك قد زوجته بنتك! فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به فمج فيه ثم قال لها قومي فنضح بين ثدييها وعلى رأسها. ثم قال: اللهم أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال لها أدبري فأدبرت فنضح بين كتفيها،ثم قال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم قال ائتيني بماء فعملت الذي يريده فملأت القعب ماء فأتيته به فأخذ منه بفيه ثم مجه فيه ثم صب على رأسي وبين يدي ثم قال: اللهم إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم، ثم قال: أدخل على أهلك بسم الله والبركة».

ص: 654

13- صديقات أمها (علیها السلام) حضرن عرسها

ورد في أحاديث زواج فاطمة (علیها السلام) ذكر أسماء بنت عميس وأم سلمة، وكانتا صديقتين لأمها خديجة (علیها السلام) وروي أنها أوصتهما بفاطمة (علیها السلام) . وكانت أم سلمة مع زوجها أبي سلمة المخزومي، فرجعوا إلى مكة ثم هاجروا إلى المدينة.

أما أسماء فأشكل بعضهم بأنها كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب في الحبشة «كشف الغمة للإربلي: 1/383» لكنه يدل على أنها حضرت خصيصاً لخدمة الزهراء (علیها السلام) في عرسها، وقد كثر مجئ المهاجرين من الحبشة إلى المدينة، وشارك عدد منهم في بدر وأحد، وبقي جعفر بن أبي طالب ينفذ المهام التي أمره بها النبي (صلی الله علیه و آله) والمتعلقة بالحبشة، فقد كانت مركز الروم في أفريقيا. وفي السنة السابعة أمر النبي (صلی الله علیه و آله) جعفراً (رحمة الله) بالعودة مع بضعة أشخاص كانوا معه لأسباب مختلفة.

وقد روى الطبراني في معجمه الكبير: 22/412 وغيره حضور أسماء عرس فاطمة (علیها السلام) قال: «ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل فلما رأينه النساء ذهبن وبينهن وبين النبي ستر، وتخلفت أسماء بنت عميس فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): على رسلك من أنت؟ قالت أنا التي أحرس ابنتك،إن الفتاة ليلة تبنى بها لا بد لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة، أو أرادت شيئاً أفضت بذلك إليها. قال: فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، من الشيطان الرجيم».

14- ولادة الإمام الحسن (علیه السلام)

في أمالي الصدوق/197: «عن زيد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين (علیه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (علیها السلام) الحسن (علیه السلام) قالت لعلي: سمه. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال: ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها، ثم قال لعلي (علیه السلام): هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه؟فقال (صلی الله علیه و آله): وما كنت

ص: 655

لأسبق باسمه ربي عزوجل، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط واقرئه السلام وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيل فهنأه من الله عزوجل، ثم قال: إن الله عزوجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. قال: وما كان اسمه؟ قال: شبر. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسن، فسماه الحسن.

فلما ولد الحسين (علیه السلام) أوحى الله عزوجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، قال: فهبط جبرئيل فهنأه من الله تبارك وتعالى ثم قال: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون. قال: وما اسمه؟ قال: شبير. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسين، فسماه الحسين».

وفي الكافي: 1/461: «ولد الحسن بن علي (علیهما السلام) في شهر رمضان في سنة بدر، سنة اثنين بعد الهجرة. وروي أنه ولد في سنة ثلاث ومضى (علیه السلام) في شهر صفر في آخره من سنة تسع وأربعين، ومضى وهو ابن سبع وأربعين سنة وأشهر».

وفي الكافي: 6/ 33: «عن الحسين بن خالد قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن التهنية بالولد متى؟ فقال إنه قال: لما ولد الحسن بن علي هبط جبرئيل بالتهنية على النبي (صلی الله علیه و آله) في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه، وكذلك حين ولد الحسين (علیه السلام) أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك.

قال: وكان لهما ذؤابتان في القرن الأيسر، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن، وفي اليسرى في أعلى الأذن، فالقرط في اليمنى والشنف في اليسرى، وقد روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس. وهو أصح من القرن».

وفي الهداية للصدوق/ 70: «وقال النبي (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام): أنقبي على أذني ابني الحسن والحسين خلافاً على اليهود». وفي قاموس الكتاب المقدس/316: «وكانت عادة قومية عند الإسماعيليين أن يلبس الرجال أقراطاً». قضاة: 8 25 و 26.

أقول: اتفق جمهور المؤرخين على أن ولادة الإمام الحسن (علیه السلام) في نصف شهر رمضان،

ص: 656

واختلفوا هل كانت في السنة الثانية للهجرة أو الثالثة، تبعاً لتاريخ زواج علي وفاطمة (صلی الله علیه و آله) . والمرجح قول الإربلي في كشف الغمة: 2/136: «أصح ما قيل في ولادته أنه ولد بالمدينة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وكان والده علي بن أبي طالب (علیه السلام) قد بنیٰ بفاطمة (علیها السلام) في ذي الحجة من السنة الثانية

من الهجرة».

فالمرجح أن الأمر الإلهي بزواج فاطمة بعلي (علیهما السلام) نزل على النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كثر الخاطبون لها (علیها السلام) في السنة الأولى من الهجرة، ولعله (صلی الله علیه و آله) عقد زواجهما في تلك الفترة، كما روى ابن سعد واليعقوبي، وأخر زفافها إلى السنة الثانية في ذي الحجة كما نصت رواية ابن المسيب عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «فقلت لعلي بن الحسين: فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي؟ فقال: بالمدينة بعد الهجرة بسنة وكان لها يومئذ تسع سنين» «الكافي 8/338». ومعنى تسع سنين أنها دخلت في العاشرة، لأن ولادتها في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة، أي بعد أربع سنوات ونصف من البعثة التي كانت في رجب نصف السنة فحسبت سنة، ويكون عمرها عند هجرته (صلی الله علیه و آله) في ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته نحو ثمان سنين، وعمرها عند زواجها في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً، وولدت الحسن (علیه السلام) وعمرها نحو عشر سنوات ونصفاً.

وتؤيد رواية اليعقوبي: 2/41 ما ذكرناه: «زوجها رسول الله (صلی الله علیه و آله) من علي بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أنا زوجته ولكن الله زوجه».

ورواية ابن سعد: 8 /22: «تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في رجب بعد مقدم النبي (صلی الله علیه و آله) المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها مرجعه من بدر».

ص: 657

15- ولادة الإمام الحسين (علیه السلام)

في الكافي: 1/463: «ولد الحسين بن علي (علیهما السلام) في سنة ثلاث، وقبض (علیه السلام) في شهر المحرم من سنة إحدى وستين من الهجرة، وله سبع وخمسون سنة وأشهر.

عن عبدالرحمن العرزمي، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: كان بين الحسن والحسين (علیهما السلام) طهرٌ، وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشراً».

وفي مصباح المتهجد/826، عن الإمام الباقر (علیه السلام) أن مولده (علیه السلام) في الثالث من شعبان.

وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/52: «عن سُليم بن قيس الهلالي قال: سمعت عبدالله بن جعفر الطيار يقول: كنت عند معاوية والحسن والحسين وعبدالله بن عباس وعمر بن أبي سلمه، وأسامة بن زيد يذكر حديثاً جرى بينه وبينه وأنه قال لمعاوية بن أبي سفيان: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين (علیه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا علي، ثم ابني محمد بن علي الباقر أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا عبدالله، وتكملة اثني عشر إماماً، تسعه من ولد الحسين. قال عبدالله: ثم استشهدت الحسن والحسين وعبدالله بن عباس وعمر بن أبي سلمه وأسامة بن زيد، فشهدوا لي عند معاوية. قال سليم بن قيس: وقد كنت سمعت ذلك من سلمان وأبيذر والمقداد وأسامة، أنهم سمعوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وفي كامل الزيارات/140: «عن إبراهيم بن شعيب الميثمي قال: سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: إن الحسين بن علي (علیهما السلام) لما ولد أمر الله عزوجل جبرئيل (علیه السلام) أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الله ومن جبرئيل (علیه السلام)، قال: وكان مهبط جبرئيل (علیه السلام) على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له: فطرس،كان من الحملة فبعث في شي فأبطأ فيه، فكسر جناحه وألقي في تلك الجزيرة يعبدالله فيها ست مائة عام، حتى ولد الحسين (علیه السلام) فقال الملك لجبرئيل (علیه السلام): أين تريد. قال: إن الله تعالى أنعم على محمد (صلی الله علیه و آله) بنعمة فبعثت أهنيه من الله ومني، فقال: يا جبرئيل إحملني معك لعل

ص: 658

محمداً (صلی الله علیه و آله) يدعو الله لي، قال فحمله فلما دخل جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) وهنأه من الله وهنأه منه وأخبره بحال فطرس، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل أدخله، فلما أدخله أخبر فطرس النبي (صلی الله علیه و آله) بحاله فدعا له النبي (صلی الله علیه و آله) وقال له: تمسح بهذا المولود وعد إلى مكانك. قال: فتمسح فطرس بالحسين (علیه السلام) وارتفع، وقال: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما أن أمتك ستقتله وله عليَّ مكافاة أن لا يزوره زائر إلا بلغته عنه، ولا يسلم عليه مسلِّم إلا بلغته سلامه، ولايصلي عليه مصل إلا بلغته عليه صلاته، قال: ثم ارتفع».

أقول: حديث فطرس صحيح السند فيجب قبوله، لكن الإشكال فيه أنه يدل على ارتكاب الملائكة للذنوب واستحقاقهم للعقوبة، وأنه يعارض قول تعالى: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ. وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. لكن الصحيح أن هذه الآيات تتكلم عن زبانية جهنم المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول. فلا مانع أن هناك أنواع أخرى، تصدر منهم المعصية مثل فطرس.

على أن المعصية أمر نسبي، كما أن اعتراض الملائكة في استخلاف آدم (علیه السلام) عُدَّ معصية: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.«وروى في الكافي: 4/188»:«فأعرض عنها«الملائكة»فرأت أن ذلك من سخطه فلاذت بعرشه، فأمر الله ملكاً من الملائكة أن يجعل لها بيتاً في السماء السادسة يسمى الضراح بإزاء عرشه، فصيره لأهل السماء يطوف به سبعون ألف ملك في كل يوم لا يعودون ويستغفرون».

ص: 659

الفصل الثامن والثلاثون: هدف سرايا النبی (صلی الله علیه و آله) وحروبه

1- عدد سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته وحروبه، وهدفها

أعلنت قبائل العرب عداءها مع قريش لأهل المدينة لأنهم بايعوا النبي (صلی الله علیه و آله) على حمايته وقتال أعدائه: «فلما آووا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه ونصروا الله ودينه رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود، وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة». أمالي الطوسي/173، بمعناه الغارات للثقفي: 2/479 والحاكم: 2/401 .

وقد اعتمد النبي (صلی الله علیه و آله) لمواجهة هذا العداء إرسال السرايا، وهي مجموعات مقاتلة صغيرة وكبيرة، تبعث لأهداف محددة ومناطق محددة، لمحاربة عدو يتعاون مع قريش ضد الإسلام، أو يخشى منه أن يغزو المدينة.

واصطلح الرواة على إسم السرية إذا لم يكن النبي (صلی الله علیه و آله) فيها، فإن كان فيها سميت غزوة، وهو مجرد اصطلاح، وقد تكون السرية أكثر عدداً وأشد قتالاً. ثم نراهم خالفوا هذا الإصطلاح، فسموا معركة مؤتة وغيرها غزوة.

ويمكن حصرأهداف سراياه وغزواته (صلی الله علیه و آله) بثلاثة: حماية الدولة، وإظهار القوة لإرهاب من يفكر بالإعتداء، ومحاولة جر قريش إلى الحرب.

قال ابن هشام: 4/1027: «وكان جميع ما غزا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه سبعاً وعشرين غزوة. قاتل منها في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح،

ص: 660

وحنين، والطائف. وكانت بعوثه (صلی الله علیه و آله) وسراياه ثمانياً وثلاثين». فيكون المجموع نحو سبعين، وقيل اثنان وسبعون، شرح المغني: 5/339.

وقال أهل البیت (علیهم السلام) إن مجموع سراياه وغزواته (صلی الله علیه و آله) ثمانون، فعندما سُمَّ المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير، فتحير الفقهاء في مبلغ المال، فأرسل إلى الإمام الهادي (علیه السلام) فأجابه إن الكثير ثمانون، لقوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وكانت ثمانين موطناً. وروي ذلك عن الصادق (علیه السلام) وأفتى به عدد من فقهائنا.

الكافي: 7/463، الفقيه:3/368 و 4/206، التهذيب: 8 /309، فقه الرضا/274، المقنع/411، المقنعة/565، الخلاف: 3/359، المختلف: 8/188 والجواهر: 35/416.

وكانت أول غزواته (صلی الله علیه و آله) بدر، وآخرها تبوك قبيل وفاته (صلی الله علیه و آله) واستغرقت ثمانين يوماً ولم يقع فيها حرب، لأن الروم انسحبوا من تبوك عندما توجه اليهم، ووقع الأكيدر ملك الدومة في الأسر، فكتب النبي (صلی الله علیه و آله) معه صلحاً.

وأهم حروبه (صلی الله علیه و آله): بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، ومؤتة. والباقي إما سرايا، أو لم تكن فيها معركة تذكر.

وفي المناقب: 1/161: «إن جميع ما غزا النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه ست وعشرون غزوة على هذا النسق: البواط، العشيرة، بدر الأولى، بدر الكبرى، السويق، ذي إمرة، أحد، نجران، بنو سليم، الأسد، بنو النضير، ذات الرقاع، بدر الآخرة، دومة الجندل، الخندق، بنو قريظة، بنو لحيان، بنو قرد، بنو المصطلق، الحديبية، خيبر، الفتح، حنين، الطايف، تبوك، ويلحق بها بنو قينقاع.

وقاتل في تسع وهي: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وبني قريظة، وبني المصطلق، وبني لحيان، وخيبر، والفتح، وحنين، والطايف.

وأما سراياه فست وثلاثون، أو لها سرية حمزة لقى أباجهل بسيف البحر في ثلاثين من المهاجرين».

ومما تلاحظه في روايات السلطة في سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته: أنهم عملوا لتوظيفها لتكبير أشخاص السلطة وأقاربهم وقبائلهم، وطمس أدوار غيرهم!

ص: 661

فاخترعوا بطولات ومناقب كاذبة، وادعوا حضور أشخاص لم يحضروا، وأنكروا فرار أشخاص فروا، وسرقوا أدوار أشخاص ونسبوها إلى آخرين!

ووصل أمرهم إلى إنكار غزوة بكاملها كغزوة ذات السلاسل التي كان قائدها علي (علیه السلام)، واخترعوا بدلها غزوة لا وجود لها وسموها بنفس الإسم!

ثم حاولوا التخفيف عن أعداء الإسلام خاصة القرشيين، حتى لو كان ثمن ذلك إلقاء اللوم على النبي (صلی الله علیه و آله) أو المسلمين، فجعلوا أخذ الأسرى منهم في بدر سبباً للعقوبة الإلهية للمسلمين بهزيمتهم في أحُد، والعقوبة للنبي (صلی الله علیه و آله) بجرحه!

كما أنهم كذبوا على النبي (صلی الله علیه و آله) في فعله وقوله، وانتقصوا من شخصيته (صلی الله علیه و آله) أحياناً، لتبرير فعل حاكم، أو صحابي، أو ادعاء منقبة له!

2- معجزة إنشاء الأمة والمد الحضاري!

من عجائب نبينا (صلی الله علیه و آله) وخصائص شخصيته الربانية، أنه استطاع أن ينشئ أكبر أمة وأكبر مد حضاري في تاريخ الأرض، في مدة قياسية هي عشر سنوات بعد هجرته، وبأقل كلفة عرفتها حركة كبرى! حيث لم يتجاوز عدد القتلى من جيشه وجيوش أعدائه كما حسبه بعضهم 589 شخصاً!

3- سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته قبل بدر

ذكرت مصادرنا وعدد من مصادرهم أن:«أول سرية سارت ولواء عقد في الإسلام، لحمزة بن عبدالمطلب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين إلى سيف البحر، من ناحية العيص من أرض جهينة، في ثلاثين راكباً من المهاجرين، فلقي أباجهل في ثلاث مائه راكب من قريش، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعاً للفريقين، وانصرفوا ولم يك بينهم قتال». اليعقوبي: 2/44 .

وزعم ابن حجر في فتح الباري: 7/67 والإستيعاب: 1/370 أنها كانت بإمرة عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب. وهذا فهرس لسرايا النبي (صلی الله علیه و آله) إلى بدر من سيرة ابن هشام: 2/428، الطبري: 2/121، ذخائر العقبى/175، إعلام الورى: 1/163 والصحيح من السيرة: 5/272.

ص: 662

أول غزوة غزاها (صلی الله علیه و آله) في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه، فخرج حتى بلغ الأبواء، يريد قريشاً وبني ضمرة، ثم رجع ولم يلق كيداً، فأقام بالمدينة بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول، وبعث عبيدة بن الحارث في ستين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار، فالتقى هو والمشركون على ماء يقال له أحياء، وكانت بينهم الرماية، وعلى المشركين أبوسفيان بن حرب.

ثم غزا (صلی الله علیه و آله) في شهر ربيع الآخر يريد قريشاً، حتى بلغ بُوَاط ولم يلق كيداً.

ثم رجع (صلی الله علیه و آله) من العشيرة إلى المدينة فلم يقم بها عشر ليال، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة بدر الأولى، وفاته كرز فلم يدركه.

فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقام جمادى الآخرة ورجب وشعبان، وكان بعث بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط، فرجع ولم يلق كيداً.

ثم بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدالله بن جحش إلى نخلة، في اثني عشر رجلاً من المهاجرين وقال: كنَّ بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وكتب له كتاباً وقال: اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر ما فيه وامض لما أمرتك. فلما سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى ننزل نخلة، فائتنا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعاً وطاعة، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي! فمضى معه القوم حتى إذا نزلوا النخلة مر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبدالله، معهم تجارة قدموا بها من الطائف، أدَم وزبيب، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبدالله وكان قد حلق رأسه، فقالوا: عُمَّار، ليس عليكم منهم بأس، وأتمر أصحاب رسول الله وهي آخر يوم من رجب، فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلن هذه الليلة مكة فليمتنعن منكم! فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمر بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان

ص: 663

بن عبدالله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة بن عبدالله فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله فقال لهم: والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئاً، وأسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام، فأنزل الله سبحانه:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَكَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «البقرة/217». فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) العير وفداء الأسيرين، وقال المسلمون: أتطمع لنا أن نكون غزاة؟ فأنزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «البقرة/218». وكانت هذه قبل بدر بشهرين. ورد عبدالله بالخمس على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقسم الباقي بين أصحابه، فكان أول خمس خمسه (صلی الله علیه و آله) .

وعلى رأس ثمانية أشهر من مهاجره الشريف، عقد لعبيدة بن الحارث بن المطلب على ستين رجلاً، ليلقوا أبا سفيان في بطن رابغ وكان في مئتين. وفي هذه السرية فر المقداد، وعتبة بن غزوان،«مهاجرين»إلى المسلمين.

وبعد ذلك كانت سرية سعد بن أبي وقاص على فريق من المهاجرين أيضاً ليعترضوا عيراً لقريش فسبقتهم. وقيل كان ذلك بعد بدر.

ثم كانت غزوة الأبواء، خرج فيها النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه يريد قريشاً وبني مرة بن بكر فتلقاه سيد بني مرة بالأبواء فصالحه، ثم رجع (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.

وبعدها كانت غزوة بواط، جبل لجهينة، قرب المدينة خرج (صلی الله علیه و آله) في مئتين من المهاجرين أيضاً، يعترض عير بني ضمرة، فبلغ بواطاً ورجع ولم يلق كيداً.

وبعدها بأيام قلائل كانت غزوة العشيرة، يريد قريشاً، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.

ص: 664

وفيها كنَّى علياً (علیه السلام) بأبي تراب، فروي عن عمار بن ياسر قال: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فقال لي علي: هل لك يا أبا اليقظان في هذه الساعة بهذا النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء«تراب ناعم»من الأرض فنمنا فيه، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): يا أبا تراب لما عليه من التراب. فقال: ألا أخبركم بأشقى الناس؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا ووضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده على رأسه، حتى يبل منها هذه، ووضع يده على لحيته»!

ثم كانت سرية ابن جحش في رجب أو في جمادى الثانية من السنة الثانية، في ثمانية أو اثني عشر رجلاً من المهاجرين. وكتب له النبي (صلی الله علیه و آله) كتاباً وأمره أن لا يفتحه حتى يسير يومين، ففتحها بعد يومين فوجد فيها بعد البسملة: أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك، حتى تنزل بطن نخلة، فترصد بها عير قريش، حتى تأتينا منها بخبر.

4- مشروعية سياسة النبي (صلی الله علیه و آله) في السرايا و الغزوات

1. بهذه التحركات السريعة المتنوعة عرف أهل المدينة وجيرانهم اليهود، ومن وراءهم من قريش والعرب، أن الدولة التي أقامها النبي (صلی الله علیه و آله) قوية ومتوثبة. فقد كان هذا هو الطريق الوحيد لردع ذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، وفراعنة قريش!

عرفوا يقظة النبي (صلی الله علیه و آله) وتنبهه لتحركاتهم، وسرعة تحريكه لقواته، ولو إلى مسافات بعيدة، تصل أحياناً إلى مئات الكيلومترات.

ولذلك وادعه بنو مدلج وكتبوا معه صلحاً يتعهدون فيه بعدم قتاله، وعدم معاونة أحد على قتاله! مع أنهم قريبون من مكة، ومع أن زعيمهم سراقة بن جشعم اعترض النبي (صلی الله علیه و آله) في طريق هجرته ليقتله أو يأسره ويأخذ جائزة

ص: 665

قريش، وكانت مئة بعير من قريش! اليعقوبي: 2/39 والثاقب/145.

فقد تفاجأ سراقة عندما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خمسة عشر شهراً في وسط عشيرته، في مئات من المسلمين مملوئين شجاعة وتوثباً، فعقد معه معاهدة عدم اعتداء!

2. لم يكتف النبي (صلی الله علیه و آله) بإرسال القادة الشجعان في سرايا الإستطلاع والترهيب، بل كان يشارك فيها شخصياً عندما يرى لزوم ذلك، أو يأمره ربه به، ونلاحظ أنه شارك في ثلاثة غزوات قبل بدر هي: الأبواء وبواط والعشيرة، وهذا يعطي لدولته ودعوته جدية خاصة.

3. كان هدف النبي (صلی الله علیه و آله) أن يقطع طريق تجارة قريش الأساسية، وهي طريق المدينة إلى الشام وفلسطين ومصر، وبذلك لا يبقى لها إلا طريق الطائف إلى نجد والعراق، وطريق جدة إلى الحبشة، وطريق اليمن، لكن تجارتها إلى هذه المناطق ثانوية.

وقد حاولت قريش أن تسلك طريق العراق إلى الشام بعد معركة بدر، فأثبت لها النبي (صلی الله علیه و آله) أنها أيضاً تحت سيطرته!

ففي سيرة ابن إسحاق: 3/296، ابن هشام: 2/563: «أن قريشاً كانت قد أخافت طريقها التي تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، وخرج منهم تجار فيهم أبوسفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة، وهو معظم تجارتهم، واستأجروا من بني بكر بن وائل رجلاً يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق، وبعث رسول الله زيد بن حارثة في ذلك الوجه، فلقيهم على ذلك الماء فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال».

بل وقعت الطرق الأخرى تحت تهديد النبي (صلی الله علیه و آله)، كما حصل في السنة السابعة عندما أسرت سرية للنبي (صلی الله علیه و آله) ثمامة بن أثال زعيم اليمامة، وعفا عنه النبي (صلی الله علیه و آله) فأسلم ثمامة وذهب إلى مكة فقالوا له: «صبوتَ؟! قال: لا، ولكني أسلمت مع محمد، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله)». «الكافي: 8/299، تاريخ المدينة: 2/435». فجاء أبوسفيان إلى المدينة مستغيثاً، فكتب اليه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرفع عنهم الحصار فرفعه. ابن هشام: 4/1053 وأسباب النزول/211.

ص: 666

4. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يعرف أن التحرش بقوافل قريش يعني الإستعداد لرد فعلها العنيف الذي قد يصل إلى الحرب، بل هذا ما يريده (صلی الله علیه و آله)، فقد أوحى إليه ربه عزوجل: «اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة، فليس لك بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً. فعند ذلك توجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مكة إلى المدينة». «الكافي: 8/341 وتفسيرالعياشي: 1/257». ومعناه أن هذا المد الإسلامي يجب أن يتم، والعقبة أمامه قريش، ولا يمكن إزاحتها إلا بحربها وإخضاعها.

أما الوجه القانوني لأمر الرسول بحرب قريش، فهو أن المالك للجميع هو الله تعالى، وقد قال: وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ.

وهذا معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر: «قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قاتلوا على حقكم الذي بعث به نبيكم». «الفصول المهمة: 1/315». فحقهم على قريش أن الله الخالق المالك أرسل رسولاً (صلی الله علیه و آله) وأمره أن يبلغ دينه لعباده، فكذبته قريش ومنعته هو وأصحابه من تبليغه للناس، وظلمتهم واضطهدتهم، فأعطاهم الله حق حربها وإزاحتها من طريقهم.

ويؤيد ذلك ما رواه ابن شهراشوب في المناقب: 1/161: «لما كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل بقوله: أُذِنَ للَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الآمُورِ. وقلده في عنقه سيفاً، وفي رواية: لم يكن له غمد، فقال له: حارب بهذا قومك حتى يقولون لا إله إلا الله».

ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه في الكافي: 5/10: «عن حفص بن غياث،

عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سأل رجل أبي صلوات الله عليه عن حروب أميرالمؤمنين (علیه السلام) وكان السائل من محبينا، فقال له أبوجعفر (علیه السلام): بعث الله محمداً (صلی الله علیه و آله) بخمسة أسياف، ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب

ص: 667

أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم في ذلك اليوم،فيومئذ: لايَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.

وسيف منها مكفوف، وسيف منها مغمود، سله إلى غيرنا وحكمه إلينا.

وأما السيوف الثلاثة الشاهرة: فسيف على مشركي العرب قال الله عزوجل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.. فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنه سبى وعفى وقبل الفداء..الخ».

ص: 668

الفصل التاسع والثلاثون: معركة بدر-- يوم الفرقان

1- معالم معركة بدر ونتائجها

1- موقع بدر

في معجم البلدان: 1/358 ومعجم البكري: 1/231: «ماء على ثمانية وعشرين فرسخاً من المدينة، في طريق مكة». أي نحو مئة وخمسين كيلو متراً من المدينة باتجاه مكة، وإسم الوادي الذي هو فيه يَلْيَل، وهو يصب في البحر. لاحظ البلاذري: 1/288.

أما زمان المعركة فكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة. كشف اليقين/124، ابن هشام: 1/158، عن الإمام الباقر (علیه السلام) والطبري: 2/128و148.

2- كانت مدة المعركة نصف نهار

فقد انتهت ظهراً، وبدأت مع طلوع الشمس برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى قريش بأنه لايحب أن يبدأ حروبه بهم لأنهم قومه، وطلب منهم أن يرجعوا ويتركوه والعرب ويكونوا على الحياد! وقبل ذلك زعيمهم عتبة بن ربيعة، وكان هو وأبوجهل المخزومي قائديْ قريش، فركب عتبة بعيره وخطب في معسكرهم داعياً إلى قبول اقتراح النبي (صلی الله علیه و آله) وأعلن أنه يدفع من ماله دية ابن الحضرمي الذي تطالب قريش النبي (صلی الله علیه و آله) بدمه لأن أحد سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) قتلته. فقبل عامة الناس كلامه لكن أباجهل رفض واتهمه بالجبن ووبخه وأفحش له القول! فغضب عتبة

ص: 669

وثارت حميته الجاهلية، فدعا أخاه شيبة وابنه الوليد، ولبسوا عدة حربهم وبرزوا للقتال!

فبرز اليهم من بني هاشم: علي وحمزة وعبيدة، وانتصروا عليهم ثم برز عدة أبطال من مشركي قريش، فقتلهم علي وحمزة. ثم كانت الحملة العامة واستغرقت نحو ساعتين، قتل فيها تسعة من المسلمين، ونحو سبعين من المشركين، ووقعت فيهم الهزيمة فأسر المسلمون منهم نحو سبعين، فيهم شخصيات منهم. وجمع المسلمون الغنائم وأدوا الصلاة، وسرعان ما اختلفوا عليها اختلافاً سيئاً، واتهم بعضهم بعضاً بأنه غلَّ أشياء أي سرقها وأخفاها، واتهم مرضى القلوب النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ قطيفة! أي عباءة ثمينة كانت لأحد زعماء المشركين،

فكشف الله كذبهم وبرأ نبيه (صلی الله علیه و آله) .

ثم أنزل الله سورة الأنفال، وفيها حقائق مهمة عن حال الصحابة ونقاط ضعفهم وقوتهم، وعن معركة بدر ومستقبل الإسلام.

3- وعد الله المسلمين بالنصر في بدر

اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخبر أصحابه قبل الخروج إلى بدر أن الله تعالى أمره أن يعترض قافلة قريش، واحتمال أن تستنفر قريش لحربهم، ولذلك كره قسم منهم الخروج، كما قال الله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. وكان ذلك يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان، بعد ثمانية عشر شهراً للهجرة.

البحار: 19/232.

ولما أفلتت القافلة وجاءهم خبر مجيئ قريش للحرب، استشارهم النبي (صلی الله علیه و آله) هل يواصلون السير للقاء قريش أو يرجعون؟ فأشار أبوبكر وعمر والكارهون للحرب بالرجوع، وأشار عدد من المؤمنين الشجعان بالمضي، وكان أحسنهم موقفاً رئيس الأنصار سعد بن معاذ (رحمة الله) . فمشى بهم النبي (صلی الله علیه و آله) حتى وصلوا مساء إلى بدر، فوجدوا المشركين سبقوهم إلى الماء، فنزلوا وهم في حالة من التعب والخوف، وأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ليلاً فاستقى لهم، وبات يصلي ويدعو ربه فأنزل الله عليهم المطر،

ص: 670

وقيل إنهم بقوا مدة بلا ماء.

ففي تفسير مقاتل: 2/7: «ونزل المسلمون حيالهم على غير ماء، وبينهم وبين عدوهم بطن واد فيه رمل، فمكث المسلمون يوماً وليلة يصلون محدثين مجنبين. فحزن المسلمون وخافوا وامتنع منهم النوم، فعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الحزن فألقى الله عليهم النعاس أمنة من الله ليذهب همهم، وأرسل السماء عليهم ليلاً فأمطرت مطراً جواداً حتى سالت الأودية، وملؤوا الأسقية وسقوا الإبل، واتخذوا الحياض، واشتدت الرملة وكانت تأخذ إلى كعبي الرجال». راجع: المناقب: 1/122، تفسير الواحدي: 1/432 والطبري: 9/257.

وفي تفسير ابن عبدالسلام: 1/526، أن الذين: «غشيهم النعاس ببدر فهم الرسول (صلی الله علیه و آله) وكثير من أصحابه، فناموا». لكن سيأتي أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم ينم ليلة بدر، وأن النعاس نزل على المؤمنين دون مرضى القلوب الذين أهمتهم أنفسهم! وسيأتي وصفهم في سورة الأنفال وفي أحُد، وأن عيونهم بقيت«تبحلق»ولم ينزل عليهم أمنة ولا نعاساً! قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئْ.

4- عدد أهل بدر مقدس، وليس كل البدريين مقدسين

كان عدد المسلمين أهل بدر ثلاث مئة وثلاث عشرة، وقيل أكثر، ففي المناقب: 1/161: «خرج (صلی الله علیه و آله) سابع عشر شهر رمضان، ويقال ثالثه في ثلاث مائة وسبعة عشر رجلاً في عدة أصحاب طالوت، منهم ثمانون راكباً أو سبعون، ويقال سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين، ومائتي وثلاثين رجلاً من الأنصار وكان المقداد فارساً فقط. يعتقب النفر على البعير الواحد، وكان بين النبي (صلی الله علیه و آله) وبين أبي مرثد الغنوي بعير ويقال فرس. وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف».

«فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين، أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن نتعادَّ ففعلنا، فإذا نحن ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فأخبرنا النبي (صلی الله علیه و آله) بعدتنا فسُرَّ بذلك

ص: 671

وحمد الله، وقال عدة أصحاب طالوت. فقال: ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ فقلنا: يا رسول الله لا والله مالنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير». الطبراني الكبير: 4/174، مجمع الزوائد: 6/73 وحسنه. وراجع: الطبري:2/138.

أقول: قداسة عدد الثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً ليست بسبب أهل بدر، لأن فيهم بنص سورة الأنفال من غلَّ من الغنائم،وفيهم من اتهم النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ! وفيهم مرضى القلوب، وهم أسوأ أنواع المنافقين!

بل قداسة هذا العدد لأنه عدد الملائكة الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) والذين نزلوا على النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر، وهم غير المسومين والمردفين، وسيكونون مع الإمام المهدي (علیه السلام) وهذا عدد أصحاب المهدي الخاصين، لكنهم كلهم أولياء الله، ما فيهم منافق أو مريض القلب، فهم مقدسون وعددهم.

ففي كمال الدين/672: «فإذا نشر راية رسول الله (صلی الله علیه و آله) انحط إليه ثلاثة عشر ألف ملك وثلاث مائة وثلاثة عشر ملكاً، كلهم ينتظر القائم (علیه السلام)، وهم الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم الخليل (علیه السلام) حيث ألقي في النار، وكانوا مع عيسى (علیه السلام) حيث رفع. وأربعة آلاف مسومين ومردفين».

وفي غيبة النعماني/322: «وهم الذين كانوا مع موسى لما فلق له البحر.. ومعهم أربعة آلاف صعدوا إلى السماء يستأذنون في القتال مع الحسين، فهبطوا إلى الأرض وقد قتل فهم عند قبره». ودلائل الامامة/457، الخرائج: 2/782 وغيرها.

5- كان عدد المشركين تسع مئة وخمسون

ففي الدر المنثور: 3/165: «فنفروا على كل صعب وذلول، وقال أبوجهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة! سيعلم أنمنع عيرنا أم لا؟ فخرجوا بخمسين وتسع مائة مقاتل وساقوا مائة فرس، ولم يتركوا كارهاً للخروج يظنون أنه في صَغْو محمد وأصحابه، ولا مسلماً يعلمون إسلامه، ولا أحداً من بني هاشم، إلا من لايتهمون «كأبي لهب، كان مريضاً وهلك يوم وصل خبر بدر» إلا أشخصوه معهم،

ص: 672

فكان ممن أشخصوا العباس بن عبدالمطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، في آخرين، فهنالك يقول طالب بن أبي طالب:

يارب إما يخرجن طالبْ *** بمقنب من هذه المقانبْ

في نفر مقاتل يحاربْ *** فليكن المسلوب غير السالبْ

والراجع المغلوب غير الغالبْ.

ونحوه الكافي: 8/375 وفيه: «فقالت قريش: إن هذا لعلينا فردوه! وفي رواية أخرى عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنه كان أسلم».

لكن طالباً (رحمة الله) لم يرجع إلى مكة ولم يُعرف مصيره، فالمرجح أن القرشيين قتلوه!

«أجمعت قريش لحرب رسول الله بأحابيشها ومن أطاعهم من قبائل بني كنانة وأهل تهامةكل أولئك قد استُغووا على حرب رسول الله». ابن إسحاق: 3/302.

وروي أن معهم من الأحابيش ألفين، والصحيح أن الأحابيش كانوا قلة: «لم يشهد بدراً إلا قرشي أو أنصاري، أو حليف لأحد الفريقين». عبدالرزاق: 5/348.

ويدل على عددهم عدد الأباعر المنحورة لطعامهم، ففي المحبر/161 والمنمق/389، لابن حبيب: «المطعمون من قريش لحرب يوم بدر: أبوجهل وهو عمرو بن هشام بن المغيرة، نحر أول يوم عشراً، ثم نحر أمية بن خلف تسعاً، ثم نحر سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي عشراً، ثم شيبة بن ربيعة نحر عشراً، ثم نحر منبه ونبيه ابنا الحجاج عشراً ثم نحر أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد عشراً، ثم نحر العباس بن عبدالمطلب وكان أخرج إلى بدر كارهاً، عشراً. وذكر محمد بن عمرأن قريشاً لم تطعم من الطعام العباس لعلمها بهواه وميله مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنه أخرج مكرهاً».

وروي أن المطعمين كانوا اثني عشر ونزل فيهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ. راجع: إعلام الورى: 2/168، شرح النهج: 14/205، تفسير الثعلبي: 4/355، أسباب النزول للواحدي/159، تفسير البيضاوي: 3/106، فتح القدير: 5/318 والمعارف/154.

ص: 673

6- نزل الملائكة في بدر ومعهم جبرئيل (علیه السلام)

وقد رآهم علي (علیه السلام) لما ذهب ليستقي وسلموا عليه، ففي تفسير القمي 1/256: «ثم رفع يده (صلی الله علیه و آله) إلى السماء وقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العَرَق عن وجهه ويقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين، قال: فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق وريح، قد وقعت على عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقائل يقول: أقدم حيزوم أقدم حيزوم! وسمعنا قعقعة السلاح من الجو»!

وفي المناقب: 1/118: «ظهروا على الخيل البُلْق بالثياب البيض يوم بدر، يقدمهم جبرئيل على فرس يقال له حيزوم».

وفي المناقب: 1/161: «قال علي وابن عباس في قوله: مُسَوَّمِين: كان عليهم عمايم بيض أرسلوها بين أكتافهم. وسمع غفاري في سحابة حمحمة الخيل وقائل يقول: أقدم حيزوم. قال رجل: يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك! فقال (صلی الله علیه و آله): ذاك ضَرْبُ الملائكة. لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وإنما أتوا بالمدد».

وفي تفسير الثعلبي: 4/234: «قال أبو داود المازني وكان شهد بدراً: اتبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل سيفي! فعرفت أنه قتله غيري! وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، قال: لقد رأيت يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف! وقال ابن عباس: حدثني رجل عن بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان، ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب! قال: فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت».

وتاريخ الطبري: 2/152. وسيأتي أنهم سلموا على علي (علیه السلام) لما ذهب ليلاً ليستقي.

ص: 674

7- وكان الشيطان في معركة بدر

واتفقت الرواية على أنه جاء بصورة سراقة بن مالك زعيم بني مدلج، ليُطَمْئِنَ قريشاً بأن كنانة لن يهاجموا مكة إن ذهبت قريش لحرب النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال ابن هشام: 2/445: «لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعاً».

وفي أمالي الطوسي/176: «تمثل إبليس لعنه الله في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال لقريش: لاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ.

وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: إن محمداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأنصار: لاتخافوا فإن صوته لن يعدوهم.

وتصور يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، وأشار عليهم في النبي (صلی الله علیه و آله) بما أشار، فأنزل الله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

وتصور يوم قبض النبي (صلی الله علیه و آله) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية، وسعوها تتسع فلا تردُّوها في بني هاشم فتنتظر بها الحبالى»!

وفي المناقب: 1/163 عن الإمام الباقر (علیه السلام): «كان إبليس في صف المشركين أخذ بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث: يا سُرَاقُ أين، أتخذلنا على هذه الحالة؟! فقال له: إني أرى مالاترون، فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب «الجعسوس: القصير الذميم» فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس! فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة! فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم! فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم، فلما

ص: 675

أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان».

وفي البحار: 19/342 عن عمارة الليثي قال: «حدثني شيخ صياد من الحي كان يومئذ على ساحل البحر قال: سمعت صياحاً: يا ويلاه يا ويلاه، قد ملأ الوادي: يا حرْباه يا حرباه! فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه فقلت: مالك فداك أبي وأمي؟ فلم يُرجع إليَّ شيئاً! ثم أراه اقتحم البحر ورفع يديه ماداً يقول: يا رب ما وعدتني! فقلت في نفسي: جُنَّ وبيت الله سراقة! وذلك حين زاغت الشمس عند انهزامهم يوم بدر».

وفي المناقب: 2/74: «عن ابن عباس: لما تمثل إبليس لكفار مكة يوم بدرعلى صورة سراقة بن مالك، وكان سائق عسكرهم إلى قتال النبي (صلی الله علیه و آله) فأمرالله تعالى جبرئيل فهبط إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه ألف من الملائكة، فقام جبرئيل عن يمين أميرالمؤمنين، فكان إذا حمل عليٌّ حمل معه جبرئيل، فبصر به إبليس فولى هارباً وقال: إني أرى ما لاترون! قال ابن مسعود: والله ما هرب إبليس إلا حين رأى أميرالمؤمنين فخاف أن يأخذه ويستأسره ويعرفه الناس فهرب، فكان أول منهزم»!

أقول: يبدو أن هذا هو السبب في وضعهم حديث هروب الشيطان من عمر! فقد رووا هروبه من علي (علیه السلام) في بدر، فزعموا أنه كان يهرب من عمر كل عمره!

قال بخاري: 4/96: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاًّ «طريقاً» إلا سلك فجاً غير فجك». وبذلك فضلوا عمر على النبي (صلی الله علیه و آله)، لأن بخاري نفسه روى عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ يقطع الصلاة عليَّ، فأمكنني الله منه».بخاري: 4/94. راجع: ألف سؤال وإشكال: 2/474.

8- كان شعار المسلمين في بدر: يا نصر الله اقترب اقترب

ففي الكافي: 5/47، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «شعارنا: يا محمد يا محمد. وشعارنا يوم بدر: يا نصرالله اقترب اقترب. وشعار المسلمين يوم أحد: يا نصرالله اقترب. ويوم بني النضير: يا روح القدس أرح. ويوم بني قينقاع: يا ربنا لا يغلبُنَّك. ويوم الطائف: يا رضوان. وشعار يوم حنين: يا بني عبدالله. ويوم الأحزاب: حم لا يبصرون. ويوم

ص: 676

بني قريظة: يا سلام أسلمهم. ويوم المريسيع وهو يوم بني المصطلق: ألا إلى الله الأمر. ويوم الحديبية: ألا لعنة الله على الظالمين. ويوم خيبر يوم القموص: يا علي آتهم من عل. ويوم الفتح: نحن عباد الله حقاً حقاً. ويوم تبوك: يا أحد يا صمد. ويوم بني الملوح: أمت أمت. ويوم صفين: يا نصر الله.

وشعار الحسين (علیه السلام): يا محمد. وشعارنا: يا محمد».

وروي عنه (علیه السلام): «قدم أناس من مزينة على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ما شعاركم؟ قالوا: حرام، قال: بل شعاركم: حلال. وروي أن شعار المسلمين يوم بدر: يا منصور أمت، ويوم أحد للمهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وللأوس: يا بني عبدالله».

وفي جواهر الكلام: 21/55: «ينبغي اتخاذ الشعار في الحرب، وهو النداء الذي يعرف به أهلها، فيكون علامة على ذلك».

2- معركة بدر فرقانٌ في تكوين الأمة الإسلامية

1- حدد الله هدف معركة بدر

بقوله عزوجل: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلامِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللهِ مَا فِي لسَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

فالهدف: إهلاك طرفٍ، أي قطعة من قبائل قريش، وكبْتُ الباقين وهزيمتهم!

وروي عن علي (علیه السلام) أنه قال: «أما بنو مخزوم فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين». فتح الباري: 7/235.

ورووا عن ابن عباس أنه سأل عمر عن هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ

ص: 677

كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ: «فقال من هم؟قال: هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية، أخوالي وأعمامك! فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين». فتح الباري: 8/287.

لكن معنى الآية: أن الله تعالى أراد أن يستأصل بعضهم سياسياً، ويخرجهم من ساحة الصراع مع الإسلام، بقتل زعمائهم! لذلك لم نرَ لهم أي دور مهم في التاريخ، وهم: بنو عبدالدار أصحاب راية قريش، وقد قتل علي (علیه السلام) منهم في بدر وأحُد بضعة عشر قائداً! كما استأصل الله بني المغيرة سياسياً، وهم العائلة المالكة في بني مخزوم، فقد انطفأت مخزوم بعد مقتل أبي جهل في بدر، ولم يبرز منهم إلا خالد بن الوليد! فعزله عمر سياسياً حتى مات في بيته في حمص! ثم برز بعده ابنه عبدالرحمن وأحبه أهل الشام، وطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده، فقتله بالسم! وبه انتهى بنو المغيرة سياسياً كلياً.

كما أراد عزوجل من معركة بدر أن يكبت الكافرين من قريش، أي يخزيهم بالهزيمة والأسر، ويمهل بعضهم ويتوب عليهم إن أسلموا وتابوا.

وقد عدَّهم الإمام الباقر (علیه السلام) من المُرْجَوْن لأمر الله فقال: «المرجَوْن: هم قوم قاتلوا يوم بدر وأحد ويوم حنين، وسلِموا، ثم أسلموا بعد تأخر، فإما يعذبهم وإما يتوب عليهم». تفسير العياشي: 2/110.

ومعنى قوله تعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله): لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أنه يجب أن تتبع إرادة الله تعالى لأن الأمر له، فهو صاحب العلم والحكمة المطلقيْن، وله أهداف في الإنسان بقانون صراع الخير والشر.

2- سمى الله بدراً يوم الفرقان

أي في تكوين الأمة المسلمة، لأنه ميزها عن المشركين، قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ. الأنفال: 41.

ص: 678

فهي الفرز الإجتماعي الضروري لتكوين أمة الإسلام وتمييزها عن غيرها، حتى لو حدث فيها اختلاط بعد ذلك. ففي الأصول الستة عشر/86 أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال عن بدر: «هو الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وهو اليوم الذي فرق الله بين الحق والباطل، وإنما كان قبل ذلك اليوم هذا كذا، ووضع كفيه أحدهما على الآخر. وإنما كان (صلی الله علیه و آله) يومئذ خرج في طلب العير. وأهل بدر الذين شهدوا إنما كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، ولم يريدوا القتال إنما ظنوا أنها العيرالتي فيها أبوسفيان، فلما أتى أبوسفيان الوادي نزل في بطنه عن ميسرة الطريق، فقال: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى. قلت له: ما العُدوة الدنيا؟ قال: مما يلي الشام، والعدوة القصوى: مما يلي مكة. قلت: فالعدوتان بين ضفتي الوادي؟ فقال: نعم. قال أبوعبدالله (علیه السلام): ونادى الشيطان على جبل مكة: إن هذا محمد في طلب العير، فخرجوا على كل صعب وذلول».

والراوي مهتم بالمكان، والإمام (علیه السلام) يقصد الفرز الإجتماعي العقائدي، ولأهمية هذا الفرقان خلده الله تعالى في شريعته، فكانت ليلة بدر ويومها من الأوقات الفضيلة، تستحب فيهما العبادة والغسل: «ليلة سبع عشرة من شهر رمضان، وهي ليلة التقى الجمعان».الحدائق: 4/180 وصححه.

وفي الطبراني الكبير: 9/221: «التمسوا ليلة القدر لسبع عشرة خلت من رمضان صبيحة يوم بدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان. وفي إحدى وعشرين، وفي ثلاث وعشرين، فإنها لا تكون إلا في وتر».

3- بدر فرقانٌ في تكوين شيعة العترة

فقد شرع الله الخمس لقرابة نبيه (صلی الله علیه و آله) قبل بدر، لكنه ربطه بالإيمان بما أنزل يومها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَاأَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. يقول عزوجل: أيها المختلفون على الغنائم، المتهمون لنبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ

ص: 679

وسرق منها! إنكم مدينون بوجودكم وانتصاركم لمحمد (صلی الله علیه و آله) وقرابته:، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بما عاينتم! ألا ترون أن الملائكة وبني هاشم هم الذين حققوا النصر، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة؟!

وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني (رحمة الله) /341: «فلما قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة أنزل الله عليه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى..».

قال البيضاوي: 3/109: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ: متعلق بمحذوف دل عليه: وَاعْلَمُوا. أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء، فسلموه إليهم».

وفي الكافي: 8/63: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، فنحن والله عنى بذي القربى، الذين قرننا الله بنفسه وبرسوله (صلی الله علیه و آله)».

وفي كتاب سُلَيْم بن قيس (رحمة الله) /228: «قال سُلَيْم: ثم أقبل«علي (علیه السلام)» على العباس وعلى من حوله ثم قال: ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا فقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ».

فالفرقان في سورة الفرقان بثلاث معان: فرقان الأمة وتمييزها عن غيرها. وفرقان الموالين للنبي (صلی الله علیه و آله) في أهل بيته من الأمة. وفرقان البصيرة للمؤمن ليميز بين الحق والباطل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا. الفرقان: 29.

4- كان تشريع الخمس قبل بدر

وإن نزلت آيته على أثر بدر، ففي كتاب الأوائل للطبراني/90: «أول خمس خُمِّسَ عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) مغانم عبدالله بن جحش».

وفي الدرر/100: «ثم قدموا بالعير والأسيرين وقال لهم عبدالله بن جحش إعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ففعلوا فكان أول خمس في الإسلام». ونحوه أسباب النزول للواحدي/43، الطبقات: 2/75، تفسير الثعلبي: 2/140، البغوي: 1/189،الطبقات: 2/11و30، تاريخ اليعقوبي: 2/69 والصحيح من السيرة: 4/335.

ص: 680

كما اتفقت المصادر على أن النبي (صلی الله علیه و آله) عيَّنَ مسؤولاً عن الخمس هومحمية بن جزء. ففي صحيح مسلم: 3/118، أن شابين من بني هاشم طلبا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أن يستعملهما على الصدقات فقال (صلی الله علیه و آله): «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس! أدعوا لي محمية، وكان على الخمس، ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب. قال فجاءاه فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك. وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا».ونحوه ابن هشام: 3/820، أحمد: 4/166،البيهقي: 7/31، فتح الباري: 11/9، ابن خزيمة: 4/56، الطبقات: 2/64 و 4/198 والإصابة: 6/37.

أقول: كان تشريع الخمس قبل بدر، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يأخذه في بدر خاصة، ربما لأن بعضهم أساء الأدب واتهمه بأنه غلَّ قطيفة! الصحيح من السيرة: 5/90.

وفي تفسير القمي: 1/255: «فلم يخمس رسول الله (صلی الله علیه و آله) ببدر وقسمه بين أصحابه ثم استقبل يأخذ الخمس بعد بدر». ومثله الشافعي في أحكام القرآن: 2/183.

وقال البخاري وابن جرير وغيرهما إن غنائم بدر خمست. سيرة ابن كثير: 2/469.

3- خلاصة معركة بدر

1- يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ!

في تفسير علي بن إبراهيم القمي: 1/256: في قوله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. قال: «كان سبب ذلك أن عيراً لقريش خرجت إلى الشام فيها خزائنهم، فأمر رسول الله أصحابه بالخروج ليأخذوها، فأخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش أن أظفُر بهم، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فلما قارب بدر كان أبوسفيان في العير فلما بلغه أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قد خرج يتعرض العير، خاف خوفاً شديداً ومضى إلى الشام، فلما وافى البَهْرة «موضع باليمامة» اكترى ضمضم الخزاعي بعشرة دنانير وأعطاه

ص: 681

قلوصاً وقال له: إمض إلى قريش وأخبرهم أن محمداً والصُّبَاة «المسلمين» من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فأدركوا العير! وأوصاه أن يخرم ناقته ويقطع أذنها حتى يسيل الدم ويشق ثوبه من قبل ودبر! فإذا دخل مكة ولى وجهه إلى ذنب البعير وصاح بأعلى صوته: يا آل غالب، اللطيمة اللطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، وما أراكم تدركون! فإن محمداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم.

2- منام عاتكة بنت عبدالمطلب

«رأت عاتكة بنت عبدالمطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيام كأن راكباً قد دخل مكة ينادي: يا آل غُدر يا آل فهر! أغدوا إلى مصارعكم صبح ثالث!

ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجراً فدهدهه من الجبل، فما ترك من دور قريش إلا أصابها منه فلذة، وكأن وادي مكة قد سال من أسفله دماً! فانتبهت ذعرة فأخبرت العباس بذلك، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة: مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا في قريش! وبلغ ذلك أباجهل فقال: ما رأت عاتكة هذه الرؤيا، وهذه نبية ثانية في بني عبدالمطلب! واللات والعزى لننتظر ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقاً فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبن بيننا كتاباً أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ولا نساءً من بني هاشم!

فلما مضى يوم قال أبوجهل: هذا يوم قد مضى، فلما كان اليوم الثاني قال أبوجهل: هذان يومان قد مضيا، فلما كان اليوم الثالث وافى ضمضم ينادي في الوادي: يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة..فتصايح الناس بمكة وتهيؤوا للخروج، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأبو البختري بن هشام ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ونوفل بن خويلد، فقالوا: يا معشر قريش والله ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه، أن يطمع محمد والصباة من أهل يثرب أن يتعرضوا لعيركم التي فيها خزائنكم، فوالله ما قرشي ولا قرشية إلا ولها في هذه العير شئ فصاعداً، وإنه الذل والصغار أن يطمع محمد في أموالكم ويفرق بينكم وبين متجركم، فاخرجوا».تفسير القمي: 1/256.

ص: 682

3- أثرياء قريش يمولون الحرب

أخرج صفوان بن أمية خمس مائة دينار وجهز بها، وأخرج سهيل بن عمرو خمس مائة، وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرجوا مالاً، وحملوا وقوَّوْا، وخرجوا على الصعب والذلول، ما يملكون أنفسهم! كما قال الله تعالى: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ، وأخرجوا معهم العباس بن عبدالمطلب، ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب. وأخرجوا معهم القينات. يشربون الخمر، ويضربون بالدفوف!

4- جيش النبي (صلی الله علیه و آله) المتواضع الفقير

وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فلما كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الدعناء، ومجد بن عمرو، يتجسسان خبر العير، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما واستعذبا من الماء، وسمعا جاريتين قد تشبثت إحداهما بالأخرى وتطالبها بدرهم كان لها عليها فقالت: عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا، وهي تنزل غداً هاهنا، وأنا أعمل لهم وأقضيك، فرجع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبراه بما سمعا، فأقبل أبوسفيان بالعير فلما شارف بدر تقدم العير وأقبل وحده حتى انتهى إلي ماء بدر، وكان بها رجل من جهينة يقال له كسب الجهني فقال له: يا كسب هل لك علم بمحمد وأصحابه؟ قال: لا: قال: واللات والعزى لئن كتمتنا أمر محمد لاتزال قريش معادية لك آخر الدهر، فإنه ليس أحد من قريش إلا وله في هذه العير النش فصاعداً فلا تكتمني، فقال: والله مالي علم بمحمد، وما بال محمد وأصحابه بالتجار، إلا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا واستعذبا من الماء وأناخا راحلتيهما ورجعا، فلا أدري من هما.

فجاء أبوسفيان إلى موضع مناخ إبلهما ففت أبعار الإبل بيده فوجد فيها النوى فقال: هذه علايف يثرب، هؤلاء عيون محمد، فرجع مسرعاً وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر وتركوا الطريق ومروا مسرعين، ونزل جبرئيل على

ص: 683

رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره أن العير قد أفلتت، وأن قريشاً قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأمره بالقتال ووعده النصر.

وكان نازلاً ماء الصفراء فأحب أن يبلو الأنصار لأنهم إنما وعدوه أن ينصروه في الدار، فأخبرهم أن العير قد جازت، وأن قريشاً قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأن الله قد أمرني بمحاربتهم، فجزع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذلك وخافوا خوفاً شديداً! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أشيروا عليَّ، فقام الأول «أبوبكر»فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنتْ منذ كفرتْ، ولا ذلت مند عزَّت، ولم تخرج «أنت» على هيئة الحرب! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس، قال: أشيروا علي، فقام الثاني «عمر» فقال مثل مقالة الأول، فقال (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس!

ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراش لخضنا معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، ولكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون! فجزَّاهُ النبي (صلی الله علیه و آله) خيراً ثم جلس. ثم قال: أشيروا عليَّ، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ قال: نعم، قال: فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ قال: نعم، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت، والذي أخذت منه أحب إلي من الذي تركت منه، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك! فجزَّاه خيراً.

ثم قال سعد: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله ما خضت هذا الطريق قط ومالي به علم، وقد خلفنا بالمدينة قوماً ليس نحن بأشد جهاداً منهم، ولو علموا أنه الحرب لما تخلفوا، ولكنا نَعُدُّ لك الرواحل ونلقى عدونا، فإنا لصُبَّرٌ عند اللقاء أنجادٌ في الحرب، وإنا لنرجو أن يقر الله عينك بنا، فإن يك ما تحب فهو ذلك وإن يكن غير ذلك قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أو يحدث الله غير ذلك، كأني بمصرع فلان هاهنا وبمصرع

ص: 684

فلان هاهنا وبمصرع أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله الميعاد!

فنزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذه الآية: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.. إلى قوله: وَلَوْكَرِهَ المُجْرِمُون. فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالرحيل حتى نزل عشاءً على ماء بدر وهي العدوة الشامية، وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانية.

5- عقلاء من بني عبدمناف ضد الحرب، لكن!

ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام بن هاشم بن عبدالمطلب فقال له: أما ترى هذا البغي، والله ما أبصر موضع قدمي! خرجنا لنمنع عِيرنا وقد أفلتت فجئنا بغياً وعدواناً، والله ما أفلح قوم قط بغوا، ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبدمناف ذهب كله ولم نسر هذا المسير! فقال له أبو البختري: إنك سيد من سادات قريش، تَحَمَّل العير التي أصابها محمد (صلی الله علیه و آله) وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك، فقال عتبة: أنت عليَّ بذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن حنظلة، يعني أباجهل، فسر إليه وأعلمه أني قد تحملت العير التي قد أصابها محمد، ودم ابن الحضرمي. فقال أبو البختري فقصدت خباءه فإذا هو قد أخرج درعاً له فقلت له: إن أبا الوليد بعثني إليك برسالة، فغضب ثم قال: أما وجد عتبة رسولاً غيرك؟ فقلت: أما والله لو غيره أرسلني ما جئت ولكن أبا الوليد سيد العشيرة، فغضب أشد من الأولى فقال: تقول سيد العشيرة! فقلت: أنا أقوله وقريش كلها تقوله! إنه قد تحمل العير ودم ابن الحضرمي.

فقال: إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام ويتعصب لمحمد! فإنه من بني عبدمناف وابنه معه«أبو حذيفة» ويريد أن يُخذِّل بين الناس! لا، واللات والعزى حتى نقتحم عليهم بيثرب، ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، ولا يكونن بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه!

ص: 685

6- خاف المسلمون من جيش قريش!

وبلغ أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثرة قريش ففزعوا فزعاً شديداً وبكوا واستغاثوا فأنزل الله على رسوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. «الأنفال/ 9-10». فلما مشى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وَجَنَّهُ الليل ألقى الله على أصحابه النعاس حتى ناموا، وأنزل الله تبارك وتعالى عليهم السماء، وكان نزل الوليد في موضع لايثبت فيه القدم، فأنزل الله عليهم السماء حتى تثبت أقدامهم على الأرض، وهو قول الله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ. وذلك أن بعض أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) احتلم: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، وكان المطر على قريش مثل العزالى «كصب القرب» وكان على أصحاب رسول الله رذاذاً، بقدر ما لبَّد الأرض.

7- وخاف المشركون من المسلمين!

وخافت قريش خوفاً شديداً فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات، فبعث رسول الله عمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود فقال: أدخلا في القوم وأتياني بأخبارهم، فكانا يجولان في عسكرهم لايرون إلا خائفاً ذعراً، إذا صهل الفرس وثب على جحفلته! فسمعوا منبة بن الحجاج يقول:

لايترك الجوع لنا مبيتا *** لا بد أن نموت أو نميتا.

قال (صلی الله علیه و آله): والله كانوا شباعى ولكنهم من الخوف قالوا هذا، وألقى الله على قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. فلما أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبأ أصحابه وكان في عسكره فرَسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد، وكان في عسكره سبعون جملاً يتعاقبون عليها، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وعلي بن أبي طالب على جمل، يتعاقبون عليه والجمل لمرثد، وكان في عسكر قريش أربع مائة فرس، فعبأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه

ص: 686

بين يديه وقال: غضوا أبصاركم، ولا تبدؤوهم بالقتال، ولا يتكلمن أحد، فلما نظر قريش إلى قلة أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال أبوجهل: ما هم إلا أكلة رأس، ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد! فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً ومدداً؟فبعثوا عمر بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً فجال بفرسه حتى طاف إلى معسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم صعد الوادي وصوب، ثم رجع إلى قريش فقال: ما لهم كمين ولا مدد، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلون، ولا يقتلون حتى يقتلون بعددهم، فارتؤوا رأيكم! فقال أبوجهل: كذبت وجبنت وانتفخ منخرك، حين نظرت إلى سيوف يثرب!

8- وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا

فزع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين نظروا إلى كثرة قريش وقوتهم، فأنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله): وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وقد علم الله أنهم لايجنحون ولايجيبون إلى السلم وإنما أراد سبحانه بذلك ليطيِّب قلوب أصحاب رسول الله، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى قريش فقال: يا معشر قريش ما أحد من العرب أبغض إليَّ من أن أبدأ بكم، خَلُّوني والعرب فإن أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً، وإن أك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري، فارجعوا.

فقال عتبة: والله ما أفلح قوم قط ردوا هذا! ثم ركب جملاً له أحمر فنظر إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجول في العسكر وينهى عن القتال، فقال: إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، فإن يطيعوه يرجعوا ويرشدوا، فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش إجتمعوا واستمعوا. ثم خطبهم فقال: يُمْنٌ رَحْبٌ فرحبٌ مع يمن. يا معشر قريش: أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور وعانقوا الحور، فإن محمداً له إلٌّ «عهد» وذمة، وهو ابن عمكم

ص: 687

فارجعوا ولا تنبذوا رأيي، وإنما تطالبون محمداً بالعير التي أخذها محمد بنخيلة، ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعليَّ عقله. فلما سمع أبوجهل ذلك غاظه وقال: إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام، ولئن رجعت قريش بقوله ليكونن سيد قريش آخر الدهر، ثم قال: يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبدالمطلب وجبنت وانتفخ سحرك، وتأمر الناس بالرجوع، وقد رأينا ثارنا بأعيننا!

فنزل عتبة عن جمله وحمل علي أبي جهل وكان على فرس فأخذ بشعره، فقال الناس: يقتله، فعرقب فرسه وقال: أمثلي يُجَبَّن، وستعلم قريش اليوم أينا ألأم وأجبن وأينا المفسد لقومه، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عياناً! ثم قال: هذا حبائي وخياره فيه وكل جانٍ يده إلى فيه! ثم أخذ بشعره يجره فاجتمع الناس فقالوا: يا أبا الوليد اللهَ اللهَ لا تَفُتَّ في أعضاد الناس، تنهى عن شئ وتكون أوله! فخلصوا أباجهل من يده، فنظر عتبة إلى أخيه شيبة، ونظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بنيَّ فقام، ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه، فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتم بعمامتين ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه ونادى: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش! فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار عَوْد ومُعَوَّد وعَوف من بني عفراء فقال عتبة: من أنتم، انتسبوا لنعرفكم. فقالوا: نحن بنو عَفْرَا أنصار الله وأنصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) . قال: ارجعوا فإنا لسنا إياكم نريد، إنما نريد الأكفاء من قريش! فبعث إليهم رسول الله أن ارجعوا فرجعوا، وكره أن يكون أول الكرة بالأنصار، فرجعوا ووقفوا موقفهم.

9- أطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم

ثم نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وكان له سبعون سنة فقال له: قم يا عبيدة، فقام بين يديه بالسيف، ثم نظر إلى حمزة بن عبدالمطلب فقال: قم يا عم، ثم نظر إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال له: قم يا علي وكان أصغرهم، فقال: فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم، قد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفي نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عبيدة عليك بعتبة،

ص: 688

وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعلي عليك بالوليد بن عتبة. فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقال عتبة من أنتم، إنتسبوا لنعرفكم؟ فقال عبيدة: أنا عبيدة بن حارث بن عبدالمطلب، فقال كفوٌ كريم، فمن هذان؟ قال حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب، فقال: كفوان كريمان، لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا الموقف! فقال شيبة لحمزة: من أنت؟ فقال أنا حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد الله! فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة ففلق هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها وسقطا جميعاً، وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وكل واحد يتقي بدرقته. وحمل أميرالمؤمنين (علیه السلام) على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه! فقال علي (علیه السلام): فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض! ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: ياعليُّ أما ترى الكلب قد أبهر عمك! فحمل علي (علیه السلام) ثم قال: يا عم طأطئ رأسك، وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على رأسه فطير نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه، وحمل عبيدة بين حمزة وعلي (علیه السلام) حتى أتيا به رسول الله فنظر إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستعبر، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست شهيداً؟ فقال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي. قال: أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه، قال وأي أعمامي تعني؟ قال أبوطالب حيث يقول:

كذبتم وبيت الله نبزي محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرَّع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة؟! فقال: يا رسول الله أسخطتَ عليَّ في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرتَ عمي، فانقبضت لذلك».

ص: 689

10- أبوجهل ينصح قريشاً!

وقال أبوجهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر أبناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً، وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي كانوا عليها...

وجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جاركم، إدفعوا إليَّ رايتكم، فدفعوها إليه وجاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول الله، ويخيل إليهم ويفزعهم، وأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية، فنظر إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: غضوا أبصاركم، وعضوا على النواجذ، ولا تسلوا سيفاً حتى آذن لكم، ثم رفع يده إلى السماء وقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العرق عن وجهه ويقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين، قال: فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق وريح، قد وقعت على عسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقائل يقول: أقدم حيزوم أقدم حيزوم! وسمعنا قعقعة السلاح من الجو! ونظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال: ويلك يا سراقة تفتُّ في أعضاد الناس، فركله إبليس ركلة في صدره وقال: إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ! وهو قول الله: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٌْ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ... قال وحمل جبرئيل (علیه السلام) على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر وقال: رب أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم الدين!

وروي في الخبر أن إبليس التفت إلى جبرئيل وهو في الهزيمة فقال: يا هذا أبَدَا لكم فيما أعطيتمونا؟ فقيل لأبي عبدالله (علیه السلام): أترى كان يخاف أن يقتله؟ فقال: لا ولكنه كان يضربه ضرباً يشينه منها إلى يوم القيامة!

11- شاهت الوجوه!

وأنزل على رسوله (صلی الله علیه و آله): إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ

ص: 690

الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. قال أطراف الأصابع. وخرج أبوجهل من بين الصفين فقال: اللهم إن محمداً قطعنا الرحم وأتانا بما لانعرفه فأحنه الغداة! فأنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله): إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. ثم أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كفاً من حصى فرمى به وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه! فبعث الله رياحاً تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اللهم لايفلتنَّ فرعون هذه الأمة أبوجهل بن هشام. فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، والتقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل فضرب عمرو أباجهل بن هشام على فخذيه، وضرب أبوجهل عمرو على يده فأبانها من العضد، فتعلقت بجلدة فاتكأ عمرو على يده برجله ثم نزا في السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده! وقال عبدالله بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحط في دمه فقلت: الحمد لله الذي أخزاك، فرفع رأسه فقال: إنما أخزى الله عبد بن أم عبدالله لمن الدين ويلك؟ قلت: لله ولرسوله وإني قاتلك! ووضعت رجلي على عنقه فقال: ارتقيت مرتقىً صعباً يارويعي الغنم! أما إنه ليس شئ أشد من قتلك إياي في هذا اليوم إلا تولى قتلي رجل من المطيبين أو رجل من الأحلاف! فاقتلعت بيضة كانت على رأسه، فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام، فسجد لله شكراً.

12- أسرى من بني هاشم

وأسر أبو بشرالأنصاري العباس بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب، وجاء بهما إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له: هل أعانك عليهما أحد؟ قال: نعم رجل عليه ثياب بياض، فقال رسول الله: ذاك من الملائكة، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): للعباس إفد نفسك وابن أخيك، فقال: يا رسول الله قد كنت أسلمت، ولكن

ص: 691

القوم استكرهوني، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقاً فإن الله يجزيك عليه، وأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا. ثم قال (صلی الله علیه و آله): يا عباس إنكم خاصمتم الله فخصمكم، ثم قال: إفد نفسك وابن أخيك، وقد كان العباس أخذ معه أربعين أوقية من ذهب، فغنمها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما قال للعباس إفد نفسك فقال: يا رسول الله إحسبها من فدائي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا، ذاك أعطانا الله منك، فأفد نفسك وابن أخيك، فقال العباس: فليس لي مال غير الذي ذهب مني، قال: بلى المال الذي خلفته عند أم الفضل بمكة فقلت لها إن حدث عليَّ حدث فاقسموه بينكم. فقال: ماتتركني إلا وأنا أسأل الناس بكفي!

فأنزل الله على رسوله في ذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.وَإِنْ يُريِدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. الأنفال/ 70-71.

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعقيل: قد قتل الله يا أبا يزيد: أباجهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشیبة بن ربيعة، ونبيه ومنبه ابني الحجاج، ونوفل بن خويلد، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، وفلاناً وفلاناً. فقال عقيل: إذاً لا تنازع في تهامة، فإن كنت قد أثخنت القوم وإلا فاركب أكتافهم! فتبسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قوله. وكان القتلى ببدر سبعين والأسرى سبعين، قتل منهم أميرالمؤمنين (علیه السلام) سبعة وعشرين ولم يأسر أحداً، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال وساقوهم على أقدامهم، وجمعوا الغنائم. وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال، فمنهم سعد بن خثيمة، وكان من النقباء.

13- الرحيل من بدر إلى المدينة

«فرحل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونزل الأثيل عند غروب الشمس، وهو من بدر على ستة أميال فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة وهما في قران واحد، فقال النضر لعقبة: يا عقبة أنا وأنت من المقتولين، فقال عقبة: من

ص: 692

بين قريش؟ قال: نعم لأن محمداً قد نظر الينا نظرة رأيت فيها القتل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي عليَّ بالنضر وعقبة، وكان النضر رجلاً جميلاً عليه شعر، فجاء علي فأخذ بشعره فجره إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال النضر: يا محمد أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أجريتني كرجل من قريش، إن قتلتهم قتلتني وإن فاديتهم فاديتني، وإن أطلقتهم أطلقتني. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا رحم بيني وبينك، قطع الله الرحم بالإسلام، قدمه يا علي فاضرب عنقه! فقال عقبة: يا محمد ألم تقل لا تُصبر قريش أي لا يقتلون صبراً، قال: أفأنت من قريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له، لست منها! قدمه يا علي فاضرب عنقه، فقدمه وضرب عنقه!

فلما قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) النضر وعقبة، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم فقاموا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، وهم قومك وأساراك، هبهم لنا يا رسول الله وخذ منهم الفداء وأطلقهم، فأنزل الله عليهم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

أقول: النص المتقدم لعلي بن إبراهيم (رحمة الله) وأكثره موافق لرواية المصادر السنية وقد ضمنه روايات عن المعصومين(علیهم السلام)، كما في محاولة جبرئيل ضرب إبليس.

كما ضمنه رأيه في تفسير بعض الآيات كآية فداء الأسرى، ولا نوافقه عليه، لأنه جعل نزولها وتحليل الفداء للمسلمين بعد ستة أميال من المسير من بدر، وقد تقدم في كلامه أن النبي (صلی الله علیه و آله) طلب من عمه العباس في بدر أن يفدي نفسه، ومعناه أن تشريع الفداء كان من بدر، ولم ينزل في طريق العودة منها!

مضافاً إلى الإشكال بأنه كيف يحلل الله شيئاً ثم يعاقب عليه، فقد أحل لهم الفداء فكيف يعاقبهم بخسارة سبعين رجلاً منهم! وستأتي مسألة أسرى بدر.

ص: 693

4- أضواء من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر

1- رسالة أبي جهل إلى النبي (صلی الله علیه و آله)

روى في الإحتجاج: 1/40 عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) أن أباجهل أرسل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) رسالة قبيل بدر، وهي: «يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة، ورمت بك إلى يثرب، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك، إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد، لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك، ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك، فيلجؤه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب،كما يأتون على أموالك وعيالك، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح!

وأُدِّيَتْ هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل، وهكذا أُمِر الرسولُ ليُجبِّن المؤمنين، ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للرسول: قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك؟ قال: بلى. قال: فاسمع الجواب:

إن أباجهل بالمكاره والعطب يتهددني، ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق! لن يضر محمداً من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه.

قل له: يا أباجهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوماً، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي! وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان

ص: 694

وذكر عدداً من قريش في قليب بدر، مقتولين! أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين، وأحملهم على الفداء الثقيل!

ثم نادى (صلی الله علیه و آله) جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط: ألا تحبون أن أريكم مصارع هؤلاء المذكورين، مصرع كل واحد منهم؟

قالوا: بلى. قال: هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر، وهناك البلاء الأكبر لأضع قدمي على مواضع مصارعهم، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة، ولا قليلاً ولا كثيراً!

فلم يَخُفَّ ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب (علیه السلام) وحده قال: نعم بسم الله. فقال الباقون: نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولايمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون؟ فقالوا: نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لانَصَبَ لكم في المسير إلى هناك، أخطوا خطوة واحدة،فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك!

قال المسلمون: صدق رسول الله فلنُشَرَّفْ بهذه الآية، وقال الكافرون والمنافقون: سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد، وتصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه! قال: فخطى القوم خطوة ثم الثانية، فإذا هم عند بئر بدر، فتعجبوا! فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع، فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها، قال: هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبدالله بن مسعود، أضعف أصحابي.

ثم قال: إذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب آخر، كذا وكذا ذراعاً وذراعاً، وذكر أعداد الأذرع مختلفة، فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع شيبة، وذاك مصرع الوليد، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم! وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم

ص: 695

ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم، ونسب الموالي منهم إلى مواليهم.

ثم قال: أوقفتم على ما أخبرتكم به؟ قالوا: بلى. قال: إن ذلك من الله لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوماً في اليوم التاسع والعشرين، وعداً من الله مفعولاً، وقضاءً حتماً لازماً.

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم. فقالوا: يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الكتابة أذكر لكم. فقالوا: يا رسول الله فأين الدواة والكتف؟فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ذلك للملائكة! ثم قال: يا ملائكة ربي أكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب، واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفاً من ذلك! ثم قال: يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها وأخرجوها واقرؤوها، فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة قرأوها وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك سواء لا يزيد ولا ينقص ولايتقدم ولا يتأخر. فقال: أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم، وشرفاً للمؤمنين منكم، وحجة على أعدائكم، فكانت معهم!

فلما كان يوم بدر، جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا تزيد ولا تنقص، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبتها الملائكة، لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر، فقبل المسلمون ظاهرهم، ووكلوا باطنهم إلى خالقهم».

2- سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ

أنزل الله قبل بدر سورة القمر وأخبر فيها بأن قريشاً ستنهزم! وكان النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر: مصلتاً سيفه يتلو قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. واشترك في حرب بدر بنفسه، وقاتل قتالاً شديداً «الصحيح: 5/43». وكان (صلی الله علیه و آله) أخبرهم عن هزيمتهم في أول بعثته عندما طلبوا منه معجزة: «فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك، ولا أحد من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب! فقال (صلی الله علیه و آله): وما تسألون؟ قالوا

ص: 696

تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال (صلی الله علیه و آله): إن الله على كل شئ قدير، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم. قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وأن فيكم من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب! ثم دعا ربه فأراهم ما طلبوا فازدادوا كفراً»! نهجالبلاغة:2/157.

3- من أدعية النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر وغيرها

وكان (صلی الله علیه و آله) يعلم أنه سيقاتل في بدر، لكنه تألف أصحابه واستشارهم مرتين، «فتح الباري 7/223» أولاهما قبل حركته من المدينة، والثانية عندما بلغه نجاة القافلة ومجئ قريش لحربه، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ. ثم عزم (صلی الله علیه و آله) ولم يهتم لتخويف مرضى القلوب الذين قالوا: غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ. ولالجدل الصحابة المنهارين: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ! وكان في سفره وفي ليلة بدر ويومها، يدعو ربه تعالى.

ومن أدعيته (صلی الله علیه و آله) لما خرج من المدينة: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالةٌ فأغنهم من فضلك. قال: فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهراً، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عارياً، وأصابوا طعاماً من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى». الإمتاع: 12/178.

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لما نظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى كثرة المشركين وقلة المسلمين استقبل القبلة وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فنزلت: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ». الصحيح 5/35.

وبات (صلی الله علیه و آله) في ليلة بدر يدعو: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد في الأرض، فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والجحف، فصلى بنا رسول الله وحرض على القتال». الطبري: 2/134.

ص: 697

«ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده» القرطبي: 3/256. وعن علي (علیه السلام) قال: «إغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفين، وعند دعوة المظلوم.

كان (صلی الله علیه و آله) إذا لقي العدو قال: اللهم إنك أنت عصمتي وناصري ومعيني. اللهم بك أصول وبك أقاتل. وكان (صلی الله علیه و آله) إذا لقي العدو عبأ الرجَّالة وعبأ الخيل والإبل.

كان (صلی الله علیه و آله) إذا زحف للقتال يعبئ الكتائب ويفرق بين القبائل، ويقدم على كل قوم رجلاً، ويصفف الصفوف، ويكردس الكراديس، ثم يزحف إلى القتال.

كان (صلی الله علیه و آله) إذا زحف للقتال جعل ميمنةً، وميسرةً وقلباً يكون هو فيه، ويجعل لها روابط ويقدم عليها مقدمين، ويأمرهم بخفض الأصوات والدعاء، واجتماع القلوب، وشهر السيوف، وإظهار العدة، ولزوم كل قوم مكانهم، ورجوع كل من حمل إلى مصافه بعد الحملة». دعائم الإسلام: 1/371.

وقال ابن مسعود: «ما سمعنا مناشداً ينشد حقاً له أشد مناشدة من محمد يوم بدر يقول: اللهم إني أنشدك ما وعدتني، إن تهلك هذه العصابة لاتعبد. ثم التفت كأن وجهه القمر فقال: كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية».الزوائد: 6/82.

وأراد بخاري أن يمدح أبابكر فذمه، فزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أفرط في الدعاء حتى نهاه أبوبكر! قال في صحيحه: 6/54: «قال النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في قبة: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لاتعبد بعد اليوم! فأخذ أبوبكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك! وهو يَثب «يقفز» في الدرع! فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر»!وتعبيره لا يخلو من انتقاص النبي (صلی الله علیه و آله)! وهم لايتورعون عن الطعن في نبيهم (صلی الله علیه و آله)، لمدح من يحبونه من الصحابة!

4- وعطش النبي (صلی الله علیه و آله) فاستقى لهم علي (علیه السلام)

لما وصلوا إلى بدر نزلوا على غير ماء لأن قريشاً سبقتهم إلى الماء، أو لأن عين بدر كانت مملوكة كما يظهر. وعطش النبي (صلی الله علیه و آله) فذهب علي (علیه السلام) ليلاً وجاء له بالماء. وفي

ص: 698

الصباح أنزل الله عليهم المطر فاستقوا واغتسلوا، وألقى الله عليهم النعاس فناموا، وبقي النبي (صلی الله علیه و آله) تلك الليلة يصلي ويدعو ربه. وكانت ليلة جمعة.

5-كانت وقعة بدر يوم جمعة

وفي يوم الجمعة يوم بدر صلى النبي (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين الفجر وصفَّهم، وأرسل إلى قريش يقترح عليهم الرجوع وعدم الحرب، واستجاب له عتبة بن ربيعة لكن أباجهل جَبَّنَه! فأخذت عتبة الحمية وبرز هو وابنه الوليد وأخوه شيبة، فبرز اليهم أبناء عفراء من الأنصار، فأبوا وطلبوا أن يبرز اليهم أكفاءهم، فاختار النبي (صلی الله علیه و آله) لهم ثلاثة من بني هاشم، علياً، وحمزة، وعبيدة، ونصرهم الله تعالى على فرسان قريش. وبارز علي (علیه السلام) وحمزة عدة أخرى فقتلاهم، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين بالزحف وزحف معهم وقاتل، وهزم الله المشركين شر هزيمة!

قال علي (علیه السلام): «لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.. كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه».مكارم الأخلاق/18.

وكان علي (علیه السلام) في المعركة قرب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): «ناولني كفاً من حصى، فرمى بها في وجوههم وقال لهم: شاهت الوجوه! فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهزماً».الدر النظيم/152.

وفي إعلام الورى/169: «فكثر الله المسلمين في أعين الكفار، وقلل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا، وأخذ رسول الله كفاً من تراب فرماه إليهم وقال: شاهت الوجوه! فلم يبق منهم أحد إلا اشتغل بفرك عينيه». وفي رواية «فما بقي أحد إلا امتلأت عينه من الحصباء، وأفواههم ومناخرهم».المناقب: 1/164.

وفي الطبري: 2/150: «ثم نفحهم بها وقال لأصحابه: شدوا، فكانت الهزيمة».

وفي الصحيح: 5/53: «وبالمناسبة فإن عائشة قالت في حرب الجمل: ناولوني كفاً من تراب، فناولوها فحثت في وجوه أصحاب أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقالت:

ص: 699

شاهت الوجوه، كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأهل بدر! فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى! وليعودنَّ وبالك عليكِ إن شاء الله! وَنَظَرَتْ إلى علي (علیه السلام) وهو يجول بين الصفوف في حرب الجمل فقالت: أنظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله يوم بدر، أما والله ما ينتظر بكم إلا زوال الشمس، وهكذا كان».

أقول: وزعموا أن أبابكر كان مع النبي (صلی الله علیه و آله) في العريش، لكن لم يكن عريش في بدر، ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) قاتل وأبوبكر وعمر لم يقاتلا، وذهبا إلى خلف!

6- خاطب النبي (صلی الله علیه و آله) فراعنة المشركين

أمر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يُلقى قتلى المشركين في بئر مهجورة لاماء فيها، ثم وقف عليهم وخاطبهم فأحياهم الله وسمعوه، قال لهم: «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما خطابك لهامٍ قد صَدِيَتْ؟

فقال له: مَهْ يا ابن الخطاب! فوالله ما أنت بأسمع منهم! وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد، إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم».

«فقال المنافقون: إن رسول الله يكلم الموتى! فنظر إليهم فقال: لو أذن لهم في الكلام لقالوا: نعم، وإن خير الزاد التقوى». رواه الصدوق في الفقيه: 1/180، تصحيح الإعتقاد/92، الصحيح من السيرة: 5/64، الطبري: 2/155، ابن هشام: 2/466، القرطبي: 7/377 وسمى منهم بضعة رجال.

7- أبوجهل فرعون الفراعنة

كان النبي (صلی الله علیه و آله) يدعو على أبي جهل ويعتبره فرعون الفراعنة، ويوم بدر أحاطت بأبي جهل قبيلته «ولما كان يومئذٍ ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالوا: أبو الحكم لايُخلص إليه! فإن ابني ربيعة قد عجلا وبطرا، ولم تُحام عليهما عشيرتهما، فاجتمعت بنومخزوم فأحدقوا به فجعلوه في مثل الحرْجة، وأجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلاً منهم فألبسوها عبدالله بن المنذر بن أبي رفاعة فصمد له علي (علیه السلام) فقتله وهو يراه أباجهل،

ص: 700

ومضى عنه وهو يقول: خذها وأنا ابن عبدالمطلب!

ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، فصمد له حمزة وهو يراه أباجهل فضربه فقتله وهويقول: خذها وأنا ابن عبدالمطلب!

ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فصمد له علي (علیه السلام) فقتله، وأبوجهل في أصحابه! ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم، فأبى أن يلبسها»! مغازي الواقدي/47.

أقول: كان أبوجهل في المعركة محاطاً ببني مخزوم وغيرهم من قريش و: «لما اصطفت الخيلان يوم بدر رفع أبوجهل يده وقال: اللهم إنه أقطعنا للرحم، أتانا بما لا نعرفه فأجئه بالعذاب، فأنزل الله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع». القمي: 2/385.

أي جاء تفسيرها. ولما اشتدت المعركة انشغل بنو مخزوم بأنفسهم، وانفرجوا عن زعيمهم أبي جهل، فاشترك في قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ ابن عفراء، وأجهز عليه ابن مسعود أضعف أصحاب النبي، كما أخبرالنبي (صلی الله علیه و آله) الدرر /110.

ووقف النبي (صلی الله علیه و آله) على مصارع عتاة قريش بعد المعركة وخاطبهم: «جزاكم الله من عصابة شراً، لقد كذبتموني صادقاً، وخونتموني أميناً! ثم التفت إلى أبي جهل فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى» أمالي الطوسي: 1/316 والزوائد: 6/91.

8- أبو حذيفة بن عتبة وابنه محمد

كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مسلماً مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وكان ابنه محمد شيعياً من أبطال فتح الشام ومصر. وفي الطبري: 2/156: «لما أمر بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُلْقَوْا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما بلغني في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة لعلك دخلك من شأن أبيك شئ، أو كما قال؟ فقال: لا والله يا نبي الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد

ص: 701

الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك. قال فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) له بخير وقال له خيراً».

9- وخاطب علي (علیه السلام) طلحة في البصرة وقاضي القضاة

فعل علي (علیه السلام) بعد معركة الجمل في البصرة، شبيهاً بما فعل النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر. قال المفيد في الإرشاد: 1/256: «فمر بكعب بن سور فقال: هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف يزعم أنه ناصر أمه،يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه، ثم استفتح فخاب كل جبار عنيد، أما إنه دعى الله أن يقتلني فقتله الله. أجلسوا كعب بن سور، فأُجلس فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام): يا كعب، لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوا كعباً.

ومرَّ على طلحة بن عبيدالله فقال: هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة والمُجْلب عليَّ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي! أجلسوا طلحة فأُجلس، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): يا طلحة بن عبيدالله، قد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتَ ما وعد ربك حقاً!؟ ثم قال: أضجعوا طلحة، وسار. فقال له بعض من كان معه: يا أميرالمؤمنين أتكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما؟ قال: أما والله إنهما لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم بدر».

10- أفطر النبي (صلی الله علیه و آله) وخالفه بعضهم فسماهم العصاة

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافراً أفطر. إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر، فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه، وتمَّ ناسٌ على صومهم، فسماهم العصاة! وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله)».الفصول المهمة: 1/691.

وفي سنن النسائي: 4/177: «فدعا بقدح من الماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض، فبلغه أن ناساً صاموا فقال: أولئك العصاة»! لكن الشافعي برر للعصاة ووقف معهم فقال: «بلغه أن ناساً صاموا فقال: أولئك العصاة،

ص: 702

فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى، فأما من رأى الفطر مباحاً وصام وقويَ على ذلك، فهو أعجب إليَّ». الترمذي: 2/107.

كما كان النبي (صلی الله علیه و آله) يحرص على الإعتكاف في شهر رمضان، فعن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «كانت بدر في شهر رمضان، فلم يعتكف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما كان من قابل اعتكف عشرين، عشراً لعامه، وعشراً قضاءً لما فاته». الكافي: 4/175.

5- أضواء من سيرة علي (علیه السلام) في بدر

1- أحس علي (علیه السلام) بالملائكة وسلموا عليه

بعث النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ليلة بدر ليستقي لهم، فأحس بنزول مجموعات الملائكة، ففي تفسير العياشي: 2/65: «عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: لما عطش القوم يوم بدر، انطلق علي (علیه السلام) بالقربة يستقي وهو على القليب، إذ جاءت ريح شديدة ثم مضت، فلبث ما بدا له، ثم جاءت ريح أخرى ثم مضت، ثم جاءت أخرى كادت أن تشغله وهو على القليب، ثم جلس حتى مضت، فلما رجع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بذلك فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما الريح الأولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة، والثانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة، والثالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة، وقد سلموا عليك وهم مدد لنا، وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حتى يقول: وَقَالَ إِنِّي بَرِيٌْ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وفي المناقب: 2/80 عن: «محمد بن ثابت بإسناده عن ابن مسعود، والفلكي المفسر، بإسناده عن محمد بن الحنفية قال: بعث رسول الله علياً في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده... وفي رواية: ما أتوا إلا ليحفظوك، وقد رواه عبدالرحمن بن صالح بإسناده عن الليث وكان يقول: كان لعلي في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاث مناقب، ثم يروي هذا الخبر، قال الحميري:

وسلم جبريل وميكال ليلةً *** عليه وإسرافيلُ حياه معربا

ص: 703

أحاطوا به في ردءة جاء يستقي *** وكل على ألف بها قد تحزبا

ثلاثة آلافٍ ملائكَ سلموا *** عليه فأدناهم وحِيّاً ومرحبا»

وفي أمالي الطوسي/547، أنه (علیه السلام) قال حين ناشد المسلمين بعد قتل عثمان: «فهل فيكم من سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة، وفيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ليلة القليب لما جئتُ بالماء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) غيري؟! قالوا: لا».

2- علمه الخضر (علیهما السلام) دعاء قبل بدر

ففي التوحيد للصدوق/89: «قال (علیه السلام): رأيت الخضر (علیه السلام) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء، فقال: قل: يا هوَ، يا من لا هوَ إلا هو. فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لي: يا علي عُلِّمْتَ الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر.وإن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قرأ: قُلْ هُوَ الله أحَد، فلما فرغ قال: يا هو، يا من لا هو إلا هو، إغفر لي وانصرني على القوم الكافرين. وكان علي (علیه السلام) يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد، فقال له عمار بن ياسر:

يا أميرالمؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: إسم الله الأعظم وعماد التوحيد لله

لا إله إلا هو، ثم قرأ: شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إِلَّا هُو، وآخر الحشر، ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال. وقال أميرالمؤمنين (علیه السلام): الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه، والله هوالمستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

وهذا يدل على أن سر الإسم الأعظم وتأثيره إنما هو في من يعلمه ومن يدعو به.

3- بدر أول معركة خاضها علي (علیه السلام)

كانت معركة بدر أول حرب يخوضها علي (علیه السلام)، وكان عمره نحو أربع وعشرين سنة، على الرواية المشهورة بأن عمره عند البعثة عشر سنين، وعلى رواية الإثنتي عشرة سنة يكون عمره (علیه السلام) ستاً وعشرين، وكانت بدر بعد أربع عشرة سنة ونصفاً من البعثة.

ولم يشترك (علیه السلام) قبلها في حرب لكن كان له تجربتان في القتال في مكة بعد هجرة

ص: 704

النبي (صلی الله علیه و آله) حيث كمن له فارسٌ في الليل ليفاجأه ويقتله: «فصاح علي به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه» «المناقب1/335»فكانت هذه أول صيحة له وأول ضربة سيف!

ثم في طريق هجرته (علیه السلام) لما أرسلت قريش بضعة فرسان ليردوه، يقودهم فارس معروف بفتكه، فأدركوه قريب ضجنان: «فأهوى له جَنَاح بسيفه فراغ علي (علیه السلام) عن ضربته، وتختله علي (علیه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه»! أمالي الطوسي/470.

فكانت هذه ثاني ضربة لعلي (علیه السلام)! والكاثبة: مجتمع الكتف. أي شقت ضربته كتف الفارس وبدنه، حتى وصلت إلى مرتفع ظهر فرسه!

وفي نسخة المناقب: 2/312 أن سعد بن أبي وقاص رأى علياً يوم بدر: «يحمحم فرسه» وقد كان راجلاً ولم يكن عنده فرس، فهو تصحيف لما رواه الخوارزمي في مناقبه/158، عن سعد: «قال معاوية: أتحب علياً؟ قلت: وكيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، ولقد رأيته بارز يوم بدر وهو يُحمحم كما يحمحم الفرس، ويقول:

ما تنقمُ الحرب العوان مني *** بازلُ عامين حديثٌ سني

سنحْنَحْلُ الليل كأني جني *** لمثل هذا ولدتني أمي!

فما رجع حتى خضب سيفه». ومناقب ابن سُلَيْمان: 2/569، الصراط المستقيم: 2/4، الفايق: 1/95، ينابيع المودة: 1/158، النهاية لابن الأثير: 2/412، لسان العرب: 11/52 وفيه: يقول: أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة.وابن هشام: 2/463، روى أن أباجهل تمثل بهذا الشعر!.

4- سطع نجم علي (علیه السلام) في بدر

وبرز بطلاً فاق عمه حمزة (رحمة الله)، حيث قتل قرينه، وساعد حمزة على قتل قرينه: «وحمل أميرالمؤمنين على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى

ص: 705

الكلب قد أبهر عمك! فحمل علي (علیه السلام) ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أميرالمؤمنين (علیه السلام) على رأسه فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه».المناقب: 1/311.

وفي الفصول المهمة لابن الصباغ: 1/315، أن المبارزة كانت بالترتيب: بارز عليٌّ (علیه السلام) الوليد، ثم بارز حمزة عتبة، ثم بارز عبيدة شيبة. «برز الوليد لعلي فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبدالله وأخو رسوله، فقتله». الطبقات: 2/23 وابن كثير: 2/414.

ولم يذكر رواة السلطة أنه (علیه السلام) قتل قرن حمزة وأجهز على قرن عبيدة، قالوا: «أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله». «ابن هشام 2/456» ومعناه أنه برز مع صاحبيه لقرنيهما!

وفي الدر النظيم/152: «ثم بارز أميرالمؤمنين (علیه السلام) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه، فلم يلبث إلا أن قتله. وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش. ولم يزل (علیه السلام) يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين قتيلاً. وتولى كافة من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين الشطر الآخر، وكان قتل أميرالمؤمنين (علیه السلام) للشطر بمعونة الله تعالى له وتوفيقه وتأييده ونصره، وكان الفتح له بذلك».

وفي الإرشاد: 1/74: «فاختلفا ضربتين أخطأت ضربة الوليد أميرالمؤمنين (علیه السلام) واتقى بيده اليسرى ضربة أميرالمؤمنين فأبانتها. فروي أنه كان يذكر بدراً وقتله الوليد فقال في حديثه: كأني أنظر إلى وميض خاتمه في شماله، ثم ضربته ضربة أخرى فصرعته وسلبته، فرأيت به ردعاً من خَلوق «طيب» فعلمت أنه قريب عهد بعرس».

وفي إعلام الورى: 1/170: «قتل علي (علیه السلام) ببدر من المشركين: الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان شجاعا فاتكاً، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والد سعيد بن العاص، وطعيمة بن عدي بن نوفل، شجره بالرمح وقال: والله لاتخاصمنا في الله بعد اليوم أبداً! ونوفل بن خويلد، وهو الذي قرن أبابكر وطلحة قبل الهجرة بحبل وعذبهما يوماً إلى الليل، وهو عم الزبير بن العوام.

ص: 706

ولما أجلت الوقعة قال النبي (صلی الله علیه و آله): من له علم بنوفل؟ فقال (علیه السلام): أنا قتلته، فكبر النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه.

وروى جابر عن الباقر عن أميرالمؤمنين (علیهما السلام) قال: لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم، وقد قتلت الوليد بن عتبة، إذ أقبل إليَّ حنظلة بن أبي سفيان، فلما دنا مني ضربته بالسيف فسالت عيناه، ولزم الأرض قتيلاً».

«قتل (علیه السلام) من المشركين في بدر نصف السبعين وشارك في قتل النصف الآخر! وقد عدَّ الشيخ المفيد ستة وثلاثين بأسمائهم ممن قتلهم علي (علیه السلام)، وقال ابن إسحاق: أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي». الصحيح من السيرة: 5/59.

وفي كشف الغمة: 1/181: «قال الواقدي في كتاب المغازي: جميع من يحصى قتله من المشركين ببدر تسعة وأربعون رجلاً، منهم من قتله علي وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً، شرك في أربعة وقتل بانفراده ثمانية عشر، وقيل إنه قتل بانفراده تسعة بغير خلاف وهم: الوليد بن عتبة بن ربيعة خال معاوية قتله مبارزة، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وعامر بن عبدالله، ونوفل بن خويلد بن أسد وكان من شياطين قريش، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه، وعبدالله ابن المنذر بن أبي رفاعة، والعاص بن منبه بن الحجاج، وحاجب بن السايب. وأما الذين شاركه في قتلهم غيره فهم: حنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية وعبيدة بن الحارث، وزمعة وعقيل ابنا الأسود بن المطلب.

وأما الذين اختلف الناقلون في أنه قتلهم أو غيره فهم: طعيمة بن عدي، وعمير بن عثمان بن عمرو، وحرملة بن عمرو، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العباس بن قيس، وأوس الجمحي، وعقبة بن أبي معيط صبراً، ومعاوية بن عامر. فهذه عدة من قيل إنه قتلهم في هذه الرواية، غير النضر بن الحارث فإنه قتله صبراً بعد القفول من بدر. هذا من طرق الجمهور.

فأما المفيد فقد ذكر في كتابه الإرشاد.. أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أميرالمؤمنين (علیه السلام) قتلهم ببدر من المشركين، على اتفاق فيما نقلوه من

ص: 707

ذلك واصطلاح، فكان ممن سموه. فذلك ستة وثلاثون رجلاً، سوى من اختلف فيه، أو شرك أميرالمؤمنين فيه غيره، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه. وعلى اختلاف المذهبين في تعيين عدة المقتولين، فقد اتفقا على أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قتل النصف ممن قتل ببدر أو قريباً منه!

وقال المفيد (رحمة الله): فمن مختصرالأخبار التي قد جاءت بشرح ما أثبتناه، ما رواه شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس إلا المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإنه كان منتصباً في أصل شجرة يصلي ويدعو حتى الصباح»! راجع في من قتلهم (علیه السلام) في بدر: شرح الأخبار: 1/263، أعيان الشيعة: 6/245،مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي/199، شرح النهج:18/19 وغيرها.

5- يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي (صلی الله علیه و آله)

وكان جبرئيل (علیه السلام) يوجه النبي (صلی الله علیه و آله) في قتاله فكان يقاتل شوطاً ثم يرجع إلى مركزه ويدعو. ويظهر أنه بعد أن ألقى كف الحصى على المشركين، واصل الدعاء حتى وقعت الهزيمة، قال علي (علیه السلام): «لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما فعل. فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، لا يزيد عليها. فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً. فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، حتى فتح الله عليه». الصحيح من السيرة: 5/68.

وروت ذلك عامة مصادرهم، وفي بعضها أنه (علیه السلام) رجع إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مرتين، كما في النسائي: 6/157، الطبقات: 2/26، الحاكم: 1/147 وصححه. وفي مجمع الزوائد: 10/147، أنها ثلاث مرات، وكذا الثعالبي عن الترمذي، وغيره.

وشارك النبي (صلی الله علیه و آله) في القتال، وقال علي (علیه السلام): «رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً».

مكارم الأخلاق/18.

ص: 708

6- مدحه النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ورفع بيده

وأكد للمسلمين أنه وزيره ووليهم من بعده، ففي الإحتجاج: 1/209: «قال (علیه السلام) في احتجاجه على أعضاء شورى عمر: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيده يوم بدر فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول: ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه، فإنه وليكم بعدي،غيري؟قالوا لا».

7- وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل (علیهم السلام)

«وكان جبرئيل يقاتل عن يمين علي (علیه السلام) وميكائيل عن يساره، وملك الموت قدامه». «المناقب: 3/54». وسماه المشركون: الموت الأحمر. المناقب: 3/43.

وسماه الطلقاء والمنافقون: قَتَّال العرب، فعندما حمل الحسين (علیه السلام) على جيش عمر بن سعد الحسين في كربلاء وكانوا ثلاثين ألفاً، قال لهم عمر بن سعد: «الويل لكم أتدرون من تبارزون! هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتَّال العرب فاحملوا عليه من كل جانب». المناقب: 3/258.

وسموه: قاتل الأحبة، ففي جواهر الكلام: 21/331، أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) لما زار عائشة بعد معركة الجمل: «انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن: هذا قاتل الأحبة، فلم يقل لهن شيئاً وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها، وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لاوالله وبلى والله، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة، فقال لها يا صفية فأتته مسرعة، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة! ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه وأومأ إلى ثلاث حجر! فذهبت إليهن وقالت لهن: فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت! قال الأصبغ وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، وفي الأخرى عبدالله

ص: 709

بن الزبير وأهله! فقيل للأصبغ: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم، أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلمَ استبقيتموهم؟! قال: قد ضربنا والله بأيدينا إلى قوائم سيوفنا، وأحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل وأوسعهم عفواً».

8- كانت بدر ثالث امتحان لأميرالمؤمنين (علیه السلام)

تحدث أمير المؤمين (علیه السلام) عن بدر في مناسبات، واعتبرها أحد امتحاناته الربانية السبعة التي وفقه الله للنجاح فيها، فقال له حبر يهودي إن كتبنا تقول إن وصي هذا النبي يمتحن في حياته وبعد وفاته، فأخبرني كم هذه الإمتحانات وما هي؟ فأجابه (علیه السلام): «وأما الثالثة يا أخا اليهود، فإن ابني ربيعة وابن عتبة، كانوا فرسان قريش، دَعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش، فأنهضني رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع صاحبيَّ رضيالله عنهما وقد فعل، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة، فقتل الله عزوجل بيدي وليداً وشيبة، سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم، وسوى من أسرت، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي. واستشهد ابن عمي في ذلك (رحمة الله)». الخصال/367.

وذكر (علیه السلام) بدراً، رداً على قولهم إنهم بايعوا أبابكر يوم السقيفة خوفاً على الإسلام فقال (علیه السلام): «ما لنا ولقريش؟ وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيَّد الله فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى الله فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا الله عليهم فنقموا عليه أن اختارنا عليهم! وسخطوا ما رضيالله وأحبوا ما كره الله! فلما اختارنا عليهم شركناهم في حريمنا وعرفناهم الكتاب والسنة، وعلمناهم الفرايض والسنن وحفظناهم الصدق واللين، وديَّناهم الدين والإسلام، فوثبوا علينا وجحدوا فضلنا ومنعونا حقنا، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا!

اللهم فإني أستعديك على قريش فخُذ لي بحقي منها، ولاتدع مظلمتي لها، وطالبهم يا رب بحقي، فإنك الحكم العدل.

يا معشر المهاجرين والأنصار: أين كانت سبقة تيمٍ وعديٍّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟ ألا كانت يوم الأبواء إذ تكاتفت الصفوف وتكاثرت الحتوف

ص: 710

وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد وُدّ، وقد نفح بسيفه وشمخ بأنفه وطمح بطرفه!وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر إذ الأرواح في الصَّعْداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟

ثم عدَّد (علیه السلام) وقايع النبي (صلی الله علیه و آله) وقرَّعهما بأنهما في كل هذه المواقف كانا مع النظارة! ثم قال: ما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا من قريش؟ أنا صاحب هذه المشاهد وأبو هذه المواقف، وابن هذه الأفعال الحميدة...». المناقب: 2/46.

وذكر (علیه السلام) بدراً، في رسالة إلى معاوية: «فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل. ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه، بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان آمن. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة! فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة. وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن آجالهم عُجلت، ومنيته أُجلت.

فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه،

والحمد لله على كل حال».نهجالبلاغة: 3/8.

وفي رسالة له (علیه السلام) إلى معاوية: «وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إليَّ واعف الفريقين من القتال، ليعلم أينا المرين على قلبه والمغطى على بصره! فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقى عدوي، ما استبدلت ديناً ولا استحدثت نبياً. وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين».نهجالبلاغة: 11/8.

وفي رسالة له (علیه السلام) إلى معاوية أيضاً: «فأنا ابن عبدالمطلب صاحب ذلك

ص: 711

السيف، وإن قائمه لفي يدي، وقد علمتَ من قتلتُ من صناديد بني عبد شمس، وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم، وأيتمت أبناءهم وأيَّمت نساءهم، وأذكرك ما لست له ناسياً يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب، وأسرت أخاك عمراً فجعلت عنقه بين ساقيه رباطاً، وطلبتك ففررت ولك حصاص» «نهج السعادة: 4/213». والحصاص: ركض الشيطان إذا سمع الأذان، وركض الكلب إذا اشتد عدوه وهو يمصع بذنبه - نهاية ابن الأثير: 1/396.

9- نزل جبرئيل بذي الفقار على النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر

1- نزل به جبرئيل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ففي الكافي: 1/234 و 8/267، وأمالي الصدوق/364 «عن الإمام الرضا (علیه السلام): «سألته عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أين هو؟ قال: هبط به جبرئيل من السماء، وكانت حليته من فضة، وهو عندي».

وفي الاحتجاج: 1/200 أن علياً (علیه السلام) قال في احتجاجه على أعضاء شورى عمر: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد نوديَ باسمه من السماء يوم بدر: لاسيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليٌّ، غيري؟ قالوا: لا».

وفي الفقيه للصدوق: 4/178: «كان له سيفان،يقال لأحدهما ذو الفقار والأخرى: العون، وكان له سيفان آخران يقال لأحدهما: المخذم، والآخر الرسوم».

وفي تاريخ اليعقوبي: 2/88: «وكان رسم رايته العقاب، وكانت سوداء على عمل الطيلسان، وكان له سيف يقال له المخدام وسيف يقال له الرسوب، وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار، وقد روي أن جبريل نزل به من السماء، فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبراً، وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة، وفيه حلقتان فضة، ورمحه المثوي حربته العنزة، وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول: هكذا أخلاق السنن، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور، ونبله المتصلة، وترسه الزلوق، ومغفره السبوع، ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان، وفرسه السكب،

ص: 712

وفرس آخر المرتجز، وفرس آخر السجل، وفرس آخر البحر».

2- سُمِّيَ ذو الفقار لفقراته ولأنه يفقر من ضرب به

في علل الشرائع: 1/160عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنما سمي سيف أميرالمؤمنين (علیه السلام) ذا الفقار،لأنه كان في وسطه خط في طوله، فشبه بفقار الظهر، فسميَ ذا الفقار بذلك، وكان سيفاً نزل به جبرئيل (علیه السلام) من السماء، وكانت حلقته فضة، وهو الذي نادى به مناد من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.

وروي أنه سمي ذا الفقار، لأنه ما ضرب به أحدٌ إلا افتقر في الدنيا والآخرة، وهو معنى منتزع من إسمه.

وفي المناقب: 3/81: «عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: إنما سمي سيف أميرالمؤمنين ذو الفقار، لأنه كان في وسطه خطة في طوله مشبهة بفقار الظهر. وزعم الأصمعي أنه كان فيه ثماني عشرة فقرة. تاريخ أبي يعقوب: كان طوله سبعة أشبار، وعرضه شبر، وفي وسطه كالفقار. قال ابن حماد:

فأنزل الله ذا الفقار له *** مع جبرئيل الأمين منتجبا

وقيل إن النبي ناوله *** جريدة رطبة لها اجتلبا

فانقلبت ذا الفقار في يده *** كرامة من إلهه وحبا

سيف يكون الإله طابعه *** فكيف ينبو وأن يقال نبا

وقال الزاهي:

من هزم الجيش يوم خيبره *** وهز باب القموص واقتلعه

من هز سيف الإله بينكم *** سيف من النور ذو العلى طبعه

أبوعبدالله (علیه السلام): نظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.

القاضي أبوبكر الجعاني بإسناده عن الصادق (علیه السلام): نادى ملك من السماء يوم أحد يقال له رضوان: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، ومثله في إرشاد المفيد، وأمالي الطوسي عن عكرمة وأبي رافع. وقد رواه السمعاني في فضائل

ص: 713

الصحابة، وابن بطة في الإبانة، إلا انهما قالا: يوم بدر. قال أحمد بن علوية:

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى *** إلا أبو حسن فتى الفتيان

قال النبي أما علمت بأنه *** مني ومنه أنا وقد أبلاني

جبريل قال له واني منكما *** فمضى بفضل خلاصة الخلان

وقال أبو مقاتل بن الداعي العلوي:

ومن مشى جبريل مع ميكاله *** عن جانبيه في الحروب إذا مشى

ومن ينادي جبرئيل معلناً *** والحرب قد قامت على ساق الردى

لا سيف إلا ذو الفقار فاعلموا *** ولا فتى إلا علي في الورى

وقال الزاهي:

لا فتى في الحروب غير علي *** لا ولا صارم سوى ذي الفقار

وقال العوني:

من صاح جبريل بالصوت العلي به *** دون الخلائق عند الجحفل اللجب

فخرا ولا سيف إلا ذو الفقار ولا *** غير الوصي فتى في هفوة الكرب

وقال منصور الفقيه:

من قال جبرئيل والأرماح شارعة *** والبيض لامعة والحرب تشتعل

لا سيف يذكر إلا ذو الفقار ولا *** غير الوصي إمام أيها الملل

وقال آخر:

جبريل نادى في الوغى *** والنقع ليس بمنجل

والمسلمون بأسرهم *** حول النبي المرسل

والخيل تعثر بالجما *** جم والوشيح الذيل

هذا النداء لمن له *** الزهراء ربة منزل

لا سيف إلا ذو الفقار *** ولا فتى إلا علي

وقال غيره:

ص: 714

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى *** إلا علي للطغاة طعون

ذاك الوصي فما له من مشبه *** فضلاً ولا في العالمين قرين

ذاك الوصي وصي أحمد في الورى *** عف الضماير للإله أمين

وقال آخر:

من كان يمدح ذا ندى لنواله *** فالمدح مني للنبي وآلهِ

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى *** إلا علي في أوان قتالهِ

نادى النبي له بأعلى صوته *** يا رب من والى علياً والهِ».

3- أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى

في معاني الأخبار للصدوق/119: «إن أعرابياً أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إليه في رداء ممشق فقال: يا محمد لقد خرجت إليَّ كأنك فتى. فقال (صلی الله علیه و آله): نعم يا أعرابي أنا الفتى، ابن الفتى، أخو الفتى. فقال: يا محمد، أما الفتى فنعم، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى؟ فقال: أما سمعت الله عزوجل يقول: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، فأنا ابن إبراهيم، وأما أخو الفتى فإن منادياً نادى في السماء يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، فعلي أخي وأنا أخوه».

4- ماضربت به أحداً إلا ودخل النار!

كتب (علیه السلام) إلى حاكمٍ خان بيت المال: «فسبحان الله، أما تؤمن بالمعاد؟أو ما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب! كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد. فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار»! نهجالبلاغة: 3/62.

ص: 715

5- قیل كان يَعْوَجُّ فيقيمه علي (علیه السلام) بركبته

وفي شرح النهج: 2/282 في حربه (علیه السلام) للخوارج: «التفت إلى أصحابه فقال لهم: شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم. وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه، ثم يخرج فيسويه بركبتيه، ثم يحمل به».

6- انكسر سيفه يوم أحد فأعطاه النبي (صلی الله علیه و آله) ذا الفقار

في علل الشرائع: 1/7 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال في أحُد: «وكان علي (علیه السلام) كلما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه.فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال يا رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه سيفه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أثر وانكسر، فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) وقال: يا محمد، إن هذه لهي المواساة من علي لك، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل وأنا منكما. وسمعوا دوياً من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي».

الخرائج: 1/148قال علي (علیه السلام): «انقطع سيفي يوم أحد فرجعت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: إن المرء يقاتل بسيفه، وقد انقطع سيفي، فنظر إلى جريدة نخل عتيقة يابسة مطروحة فأخذها بيده، ثم هزها فصارت سيفه ذا الفقار فناولنيه، فما ضربت به أحداً إلا وقده بنصفين».

أقول: يظهر من ذلك أن سر ذي الفقار من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه كان له وقد يعطيه لعلي (علیه السلام) في المعركة، ولما انكسر في أحد عوض الله نبيه بأن أمره أن يهز جريدة النخل اليابسة، فكانت ذا الفقار بنفس خصائصه. وروي أنه (صلی الله علیه و آله) أعطاه لعلي (علیه السلام) لما برز إلى عمرو بن ود، بعد أحُد بستين.

وفي المناقب: 3/81: «وقد روى كافة أصحابنا أن المراد بهذه الآية: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ، ذو الفقار أنزل به من السماء على النبي فأعطاه علياً.

وسئل الرضا (علیه السلام) من أين هو؟ فقال: هبط به جبرئيل من السماء، وكان حلية من فضة وهو عندي. وقيل: أمر جبرئيل أن يتخذ من صنم حديد في اليمن فذهب علي

ص: 716

وكسره واتخذ منه سيفين: مخذم، وذا الفقار وطبعهما عمير الصيقل، وقيل: صار إليه يوم بدر أخذه من العاص بن منبه السهمي وقد قتله، وقيل: كان من هدايا بلقيس إلى سُلَيْمان، وقيل: أخذه من منبه بن الحجاج السهمي في غزاة بني المصطلق بعد أن قتله، وقيل: كان سعف نخل نفث فيه النبي (صلی الله علیه و آله) فصار سيفاً، وقيل: صار إلى النبي (صلی الله علیه و آله) يوم بدر فأعطاه علياً (علیه السلام)، ثم كان مع الحسن، ثم مع الحسين، إلى أن بلغ المهدي (علیه السلام)».

والذي أرجحه أن ذا الفقار نزل من السماء، ولكنه كان قابلاً للكسركأي سيف، فانكسر بيد علي (علیه السلام) مرات، وعوضه الله بسعفة نخل صارت بيد النبي (صلی الله علیه و آله) ذا الفقار.

وفي إحداها أمر نبيه بأن يصنعه من حديد هو قاعدة صنم في اليمن وأصل ذلك الحديد من سليمان (علیه السلام)، فبعث علياً (علیه السلام) وأتى به وأعطاه للحداد فصنع منه ذا الفقار.

ففي بصائر الدرجات/206: «عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال يا محمد، إن باليمن صنماً من حجارة، له مقعد من حديد، فابعث إليه حتى يجاء به، قال فبعثني النبي (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن فجئت بالحديد، فدفعته إلى عمر الصيقل، فضرب عنه سيفين ذا الفقار ومُخَذَّماً، فتقلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مخذماً وقلدني ذا الفقار، ثم إنه صار إليَّ بعدُ مخذم».

أقول: ظاهر قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ، أنه نازل من السماء، وقيل إنه غبار من كواكب أخرى. وورد أن للمهدي (علیه السلام) أنصاراً من كواكب أخرى حديدهم ليس كحديدكم، فيبدو أن حديد ذي الفقار يختلف عن الحديد العادي، وقد روي أن ضربته تترك أثراً كالكي بالنار،ولم أعثر عليها الآن، وهي من روايات صفين.

7- وقاتلَ الحسين (علیه السلام) بذي الفقار يوم عاشوراء

في أمالي الصدوق/222: «ثم وثب الحسين (علیه السلام) متوكئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: أنشدكم الله، هل تعرفوني؟ قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه.. قال: فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا

ص: 717

متقلده؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنا لابسها؟ قالوا: اللهم نعم..قال: فبم تستحلون دمي، وأبي الذائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادي عن الماء، ولواء الحمد في يدي جدي يوم القيامة؟ قالوا: قد علمنا ذلك كله، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً! فأخذ الحسين (علیه السلام) بطرف لحيته، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة، ثم قال: اشتد غضب الله على قوم قتلوا نبيهم، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم».

8- ذو الفقار في مواريث النبي (صلی الله علیه و آله)

في الكافي: 1/236 عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة دعا العباس بن عبدالمطلب وأميرالمؤمنين (علیه السلام) فقال للعباس: يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق (صلی الله علیه و آله) هنيئة ثم قال: ياعباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح. قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها، ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟فقال: نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي. قال العباس: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي، قال: فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم. ثم صاح: يا بلال عليَّ بالمغفر، والدرع، والراية، والقميص، وذي الفقار، والسحاب، والبرد، والأبرقة، والقضيب. قال: فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك-يعني الأبرقة- فجييء بشقة كادت تخطف الأبصار، فإذا هي من أبرق الجنة فقال: يا علي إن جبرئيل أتاني بها،وقال: يا محمد اجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة. ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف، والقميصين القميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر،وقلنسوة العيدين والجمع، وقلنسوة كان

ص: 718

يلبسها ويقعد مع أصحابه. ثم قال: يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى، والفرسين: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحيزوم، وهو الذي كان يقول أقدم حيزوم، والحمار عفير، فقال: أقبضها في حياتي. فذكر أميرالمؤمنين (علیه السلام) إن أول شيء من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) قطع خطامه ثم مر يركض، حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها، فكانت قبره».

9- ذو الفقار من علامات الإمام (علیه السلام)

في عيون أخبار الرضا (علیه السلام):1/192 قال الإمام الرضا (علیه السلام): «للإمام علامات: يكون أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس وأحلم الناس وأشجع الناس وأسخى الناس وأعبدالناس.. ويكون عنده سلاح رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيفه ذو الفقار».

10- طلبه المسور ابن مخرمة من الإمام زين العابدين (علیه السلام)

ففي مسند أحمد: 4/226والبخاري: 4/47: «ابن شهاب أن علي بن حسين حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية، مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه لقيه المسور بن مخرمة فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ فقلت له: لا، فقال: فهل أنت معطي سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه. وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبداً حتى تبلغ نفس».

وفي فتح الباري: 6/149: «والذي يظهر أن المراد بالسيف المذكور ذو الفقار الذي تنفله يوم بدر، ورأى فيه الرؤيا يوم أحد».

وذكر ابن حجروغيره أن غرض المسور حفظ السيف له إكراماً لجدته فاطمة (علیها السلام) .

11- وقالوا إنه كان سيف منبه بن الحجاج

قال البلاذري في أنساب الأشراف: 1/14: «وأما نبيه فقتله علي بن أبي طالب. وقتل أيضاً العاص بن منبه، وكان صاحب ذي الفقار، سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك الثبت. وبعضهم يقول: إنه كان سيف منبه».

ص: 719

وقال الواقدي في المغازي: 1/103: «عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: تنفل رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار يومئذٍ، وكان لمنبه بن الحجاج».

وقال الطبري: 2/172: «وفي غزوة بدر انتقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار وكان لمنبه بن الحجاج. وفيها غنم جمل أبي جهل، وكان مهرياً يغزو عليه».

أقول: لعلهم وضعوا هذه الروايات ليسلبوا علياً فضيلة نزول ذي الفقار من السماء.

12- وادعاه العباسيون والحسنيون

قال العيني في عمدة القاري: 15/33: «ولم يزل ذو الفقار عنده (صلی الله علیه و آله) حتى وهبه لعلي رضيالله تعالى عنه قبل موته ثم انتقل إلى آله. وكانت له عشرة أسياف منها: ذو الفقار، تنفله يوم بدر».

وفي الطبري: 6/219: «الأصمعي قال: رأيت الرشيد أميرالمؤمنين بطوس متقلداً سيفاً فقال لي: يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار؟ قلت بلى جعلني الله فداك، قال: استل سيفي هذا، فاستللته فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة».

وفي وفيات الأعيان: 6/330: «كان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبوجعفر الطبري بإسناد متصل إلى عمر بن المتوكل عن أمه وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضيالله عنهما قالت: كان ذو الفقار مع محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضيالله عنه يوم قتل في محاربته لجيش أبي جعفر المنصور العباسي والواقعة مشهورة، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه وكان له عليه أربع مائة دينار وقال له خذ هذا السيف، فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه منك وأعطاك حقك».

وفي الكافي: 1/233: قيل للإمام الصادق (علیه السلام) إن شخصين يزعمان أن عبدالله بن الحسن عنده سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: «والله ما رآه عبدالله بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه، ولا رآه أبوه، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين، فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضة، وما أثر في موضع مضربه!

ص: 720

وإن عندي لسيف رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإن عندي لراية رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودرعه ولأمته ومغفره، فإن كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟

وإن عندي لراية رسول الله (صلی الله علیه و آله) المغلبة، وإن عندي ألواح موسى وعصاه، وإن عندي لخاتم سُلَيْمان بن داود، وإن عندي الطست الذي كان موسى يقرب به القربان، وإن عندي الإسم الذي كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة. وإن عندي لمِثْل التابوت الذي جاءت به الملائكة. ومَثَلُ السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، في أي أهل بيت وجد التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة، ولقد لبس أبي درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخطت على الأرض خطيطاً ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله».

وصححه المجلسي الأول في روضة المتقين: 12/243 وقال: «وفي البصائر في الموثق كالصحيح عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: لبس أبي درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات الفضول فخطت، ولبستها أنا ففضلت».

إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة المتواترة فيما تقدم.

وفي بصائر الدرجات/205: «أتاني إسحاق بن جعفر فعظم عليّ بالحق والحرمة السيف الذي أخذه هو سيف رسول الله. فقلت: لا،كيف يكون هذا وقد قال أبوجعفر (علیه السلام): مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار

دار الأمر».

10- غُلُوُّ السُّلطة في الصَّحابة البدريين، غَيْر علي

كانت معركة بدر معجزة ربانية، وسر إعجازها النبي (صلی الله علیه و آله) والملائكة، وبطولة علي (علیه السلام) وبني هاشم. وقد سرقت السلطة القرشية ذلك وأعطته لكل الصحابة وجعلتهم جميعاً كالملائكة: أبطالاً أخياراً أبراراً، من أهل الجنة!

ويكفي جواباً على زعمهم: سورة الأنفال التي نزلت خصيصاً في بدر،

ص: 721

وكشفت سقوط صحابة بدريين خرجوا من المدينة على كره كأنهم يساقون إلى الموت!

ومنهم من أراد من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يرجع ولايقاتل قريشاً، بنص رواة «الخلافة»!

ومنهم من كان يلحُّ على النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة أن يقاتل قريشاً فيقول لهم كفوا أيديكم واصبروا، فلما كتب عليه القتال في بدر اعترضوا على ربهم لماذا كتب عليهم القتال، ونكصوا عن مبارزة الفرسان، وفروا إلى خلف الصفوف، جبناً وحباً للحياة! فوبخهم الله تعالى بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً!

ومنهم: من اختلفوا على الغنائم، واتهموا بعضهم البعض طمعاً بدراهم معدودات أو بفرس أو بعير، أو ثوب قماش، أو نصف كيس شعير!

ومنهم: من أعماه الطمع وأفقده دينه فاتهم نبيه (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق قطيفةً أو عباءة! فكذبهم الله تعالى بقوله: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ!

ونورد في العناوين التالية بعض الحقائق عن مواقف بعض الصحابة في بدر:

6- منافقون تحمسوا للقتال في مكة ونكصوا في بدر!

قال الله عزَّ وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً.

فالآية تتحدث عن منافقين كانوا في مكة يطالبون النبي (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين فأمرهم بكف أيديهم، ولم يأمر بكف اليد في المدينة، فلما كتب الله عليهم القتال بعد الهجرة، ظهر نفاقهم وأنهم جبناء يخافون الناس أكثر مما يخافون الله!

كما ظهرت وقاحتهم فاعترضوا على الله تعالى لماذا كتب عليهم القتال الآن؟! وكشفت أسماء بعضهم رواية الواحدي في أسباب النزول/111 وابن حجر: 2/918، قال: «نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم عبدالرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، كانوا يلقون

ص: 722

من المشركين أذى كثيراً ويقولون: يا رسول الله إئذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة، وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين،كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية»!

وروى الحاكم: 2/66 و307، أنها نزلت في عبدالرحمن بن عوف، وأصحاب له، وصححه على شرط بخاري، قال: «أتوا النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة؟! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا! فأنزل الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ». والنسائي: 3/3 و 6/325، البيهقي: 9/11،والطبري في تفسيره: 5/234.

وروى الطبري أيضاً أنها نزلت في: «أناس من أصحاب رسول الله.كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد..فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!

وقال الرازي في تفسيره: 10/184: «والأولى حمل الآية على المنافقين، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين.فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً».

وسمَّى الثعلبي: 3/345 منهم أربعة ورجح أنها: «نزلت في قوم كانوا مؤمنين، فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن وتخلفوا عن الجهاد. ويدل عليه أن الله لايتعبدالكافر والمنافق بالشرائع، بل يتعبدهم أولاً بالإيمان ثم بالشرائع، فلما نافقوا نبه الله على أحوالهم. وقد قال الله مخبراً عن المنافقين أنهم آمنوا ثم كفروا». وقال البغوي: 1/453: «يخشون الناس: يعني يخشون مشركي مكة».

وفي برهان الزركشي: 1/422: «فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ. هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم: الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».

وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس/74: «إذا فريق منهم: طائفة، منهم طلحة بن عبدالله. يخشون الناس: يخافون أهل مكة».

ص: 723

وفي العجاب لابن حجر: 2/918: «من هذا الفريق طلحة بن عبيدالله، كذا قال، ولعله كان ممن قال ذلك أولاً، وأما الفريق الذين قالوا: لم كتبت علينا القتال فاللائق أنهم ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه، وطلحة كان من الراسخين»!

وتصدى علماء السلطة للدفاع عمن ذمهم الله، فقالوا إن خوفهم طبيعي! وقال بعضهم يستحيل أن يكون هؤلاء من الصحابة، فردوا بذلك القرآن!

قال القرطبي: 5/281: «معاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين»!

وهذه مكابرة منهم أو ردٌّ على الله تعالى! لأن المذمومين صحابة منافقون كانوا في بدر! وهم أكثر من خمسة، وقد جبنوا في بدر وتخبؤوا خلف المقاتلين، وطمعوا بالغنائم واتهموا البعض بالغل والسرقة!واتهموا نبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ قطيفة حمراء! وتجد بقية صفاتهم في سورة الأنفال الفاضحة!

وقد خلطوا بهم شخصاً بريئاً هو المقداد (رحمة الله)! ونسُوا أنهم رووا أن، موقفه عكس ذلك تماماً! ففي البخاري: 5/187 أن النبي (صلی الله علیه و آله) استشار أصحابه فقال المقداد: «يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله». ومعنى سُرِّيَ عنه: أنه ارتاح لكلامه بعد غضبه من أهل آية: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، الذين خوَّفوه من قريش، وأنها ما ذلت منذ عزت، وأن من قاتلها ذل!

7- مرضى القلوب «مكيون بدريون»!

ذكر الله تعالى «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» في اثنتي عشرة آية، وجعلهم قسماً مقابل المؤمنين والمنافقين والمشركين. وحذر منهم من أوائل البعثة في سورة المدثر فقال: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً..وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً. «المدّثّر: 31» ثم ذكرهم في معركة بدر فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. الأنفال/ 49.

ص: 724

ثم ذكرهم في معركة الأحزاب: هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا. الأحزاب/11-12.

وقد دلس أتباع السلطة فجعلوهم قسماً من المنافقين مع أنهم قسم مقابلهم! ثم جعلوا المنافقين كلهم من المدينة وقالوا ليس في القرشيين منافق! لكنهم اصطدموا بآية كفوا أيديكم، وهي في صحابة كبار وبالآية 31 من المدثر المكية،، فهم موجودون في مكة قبل الهجرة إذن، لكن أتباع السلطة القرشية يكابرون!

قال في الكشاف: 4/184: «فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه: وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة».

وهذه مكابرة أخرى لإبعاد النفاق عن القرشيين! لأن الآية نزلت في مكة في منافقين موجودين، وليس في أناس سيأتون بعد بضع عشرة سنة!

ومن مكابرتهم أيضاً حصرهم سبب النفاق بالخوف لإبعاده عن القرشيين، مع أن سببه قد يكون الطمع بموقعٍ مع النبي (صلی الله علیه و آله)، بل هو أكثر إغراءً لشخص معدم من عشيرة معدمة، يسمع بأن كنوز كسرى وقيصر ستقع في يد ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) .

ولهذا السبب نجد أن القرآن حذر من مرضى القلوب القرشيين في مكة، ثم في بدر، وأحد، والأحزاب، وبقية حياة النبي (صلی الله علیه و آله)، وبعده!

وتدلك صفاتهم على أنهم طبقة سياسية منافقة، لها طموح سياسي مفرط، وأنهم حشريون يتدخلون في كل قضية! بل يحددون لله تعالى ما يجب أن يفعله، ويقولون إن جعله زبانية جهنم تسعة عشر اشتباه! مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً؟!

وتراهم يسخرون من المؤمنين الذين أطاعوا النبي (صلی الله علیه و آله) وشجعوه على المضي إلى بدر لقتال قريش: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ!

وتراهم يعترضون على النبي (صلی الله علیه و آله) ويحملونه مسؤولية الهزيمة في أحُد، لأنه لم يشركهم في القيادة، ولم يأخذ برأيهم في الإدارة! يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ..يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَاقُتِلْنَا هَاهُنَا!

ص: 725

ولم يتراجع فضولهم ولا خفَّ جُبنهم،فوصفهم الله تعالى في حرب الأحزاب: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا.. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاغُرُورًا. الأحزاب/ 10و12.

وكشف الله تعالى عدداً من صفاتهم، ورسم فيها خوفهم: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ. طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. محمّد/ 20-21.

ثم أخبرهم الله تعالى بأنهم سيحكمون الأمة بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ويفسدون! وأنهم استحقوا اللعن والطرد من رحمته، لأنهم عرفوا الهدى جيداً ثم كفروا، وأخفوا كفرهم! وأخبرهم بأنهم عقدوا اتفاقية سرية مع اليهود على طاعتهم في إبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله) عن خلافته! فقال عزوجل: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَانَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. محمّد/ 22-26.

وقد أقسم الإمام الصادق (علیه السلام) على أن مرض قلوبهم هو عداوة أهل البیت (علیهم السلام)، لأن هدفهم من إسلامهم سرقة دولة النبي (صلی الله علیه و آله) والوصول إلى الحكم وإبعاد عترة النبي (صلی الله علیه و آله)! قال (علیه السلام) في حديث النداء السماوي: «ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض. والمرض والله عداوتنا».غيبة النعماني/267.

فمرضى القلوب هم الطبقة السياسية من المنافقين، الذين يعشيون ذواتهم فقط ويقيسون الأمور والأشياء بالنفع والضرر المادي الشخصي، ويزيدون على المنافقين بأنهم يفسرون الأمور دائماً بالمعادلات السياسية، ويتعاملون مع النبي (صلی الله علیه و آله)

بهذه المعادلة ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً!

وقد يصير المنافق من مجموعة مرضى القلوب، كما في قوله تعالى عن ولاء اليهود والنصارى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ. وهذا قول رئيس المنافقين ابن سلول «تفسير القمي 1/170والطبري 6/376» لكنه أيضاً من مرضى

ص: 726

القلوب، لطموحه ومنهجه السياسي المادي!

وهذا هو السبب في وصف الله تعالى لمرض القلب بأنهم رجس، لأن أحدهم يجعل نفسه إلهاً مقابل الله تعالى، وقيِّماً على الرسول (صلی الله علیه و آله)، بل على ربه عزوجل! وهذا عمل شيطاني يستحق صاحبه عليه العقوبة، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. التوبة: 125.

وقد حاول رواة السلطة إبعاد الرجس عن القرشيين، وجعلوه لأناس ارتدوا وحاربوا النبي (صلی الله علیه و آله) وقتلوا في بدر! قال ابن إسحاق: 3/290: «كانوا أسلموا ورسول الله (صلی الله علیه و آله) هاجر إلى المدينة وحبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعاً، فهم فتية مسلمون! فمن بني أسد بن عبدالعزى بن قصي الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، ومن بني مخزوم أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة، ومن بني جمح علي بن أمية بن خلف، ومن بني سهم العاص بن منبه بن الحجاج».

ونحوه تفسير الطبري: 10/29، عن مجاهد، وفيه: «خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) قالوا: غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم»! وتفسير الصنعاني: 2/261، مجمع الزوائد: 6/78، فتح الباري: 8/198 وشرح النهج: 14/156.

وهذا التفسير مضحك، لأن الذين قاتلوا النبي (صلی الله علیه و آله) مع قريش مع المشركين ومن المشركين، فلا يوصف بأنه من فئة المنافقين أو من فئة الذين في قلوبهم مرض! ولايطمح أن يكون له شراكة في القيادة مع النبي (صلی الله علیه و آله) ليقول: هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَئ؟!

وقد أجاد صاحب تفسير الميزان: 9/109 فقال: «سياق الآية الظاهر في حضورهم، وقولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.والذي ذكره لاينطبق على الآية البتة فالقرآن لايسمي المشركين منافقين ولا الذين في قلوبهم مرض».

وقصده أنه القرآن يعبر عن الكفار بالمشركين، ولا يسميهم مرضى القلوب ومنافقين.

ص: 727

8- «صحابة» اتهموا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ

يأخذك العجب عندما تقرأ أن الصحابة البدريين «الأبرار الأخيار» بعد انتصارهم في بدر، اختلفوا على الغنائم وتشاجروا وساءت أخلاقهم، واتهم بعضهم بعضاً، وبلغ بهم الأمر أن اتهموا نبيهم (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق قطيفة، فبرأه الله تعالى!

قال عبادة بن الصامت كما في تاريخ الذهبي: 2/64: «نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) فقسمه بين المسلمين على السواء».

ومن المؤكد أن هؤلاء المتشاجرين على الحطام، ليسوا أبطال بدر ولا صنَّاع نصرها، ولا أظن أن فيهم مقاتلاً حتى من الدرجة الثانية والثالثة! بل هم من الذين يلتطون خلف الصفوف! والذين اتهموا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه سرق قطيفة، لا يمكن أن يكونوا مؤمنين به! وأما الذي سرق قطيفة وطمرها بعيداً في التراب، واتهم بها النبي (صلی الله علیه و آله) فهو كأي بدوي سارق مُفْترٍ، لامن الصحابة ولا المؤمنين!

وخلاصة ما حدث بعد المعركة: أن قريشاً انهزمت عند الظهر فانشغل بعض المسلمين بتعقب الفارين، وكان همُّ بعضهم أن يأخذ أسيراً ليربح فِدْيته، مع أن النبي (صلی الله علیه و آله) نهاهم عن الأسر حتى يثخنوا فيهم. وقسم آخر منهم سارع إلى أخذ الغنائم، وكانت كلها: «مئة وخمسين من الإبل وعشرة أفراس. وعند ابن الأثير: ثلاثين فرساً، ومتاعاً، وسلاحاً، وأنطاعاً، وأدماً كثيراً».الصحيح: 5/89.

والمتاع: الوسائل. والأنطاع: ما يفرش. والأدم المواد الغذائية: كالجبن واللحم .

واشتكى بعضهم للنبي (صلی الله علیه و آله) بأن فلاناً أخذ لنفسه شيئاً، أو أخذ كثيراً، فلم يترك له شيئاً، فأمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يردوا جميع ما أخذوه حتى ينزل فيه أمر الله، فردوه على مضض، وفقدوا بعضه، ومنه القطيفة التي اتهموه (صلی الله علیه و آله) بها.

وساق النبي (صلی الله علیه و آله) الأسرى والغنائم حتى وصل إلى الصفراء، فنزلت سورة الأنفال، وفيها أن الغنائم للنبي (صلی الله علیه و آله) خاصة فوزعها عليهم بالسوية، وقتل هناك أحد أشرار قريش، وساق بقية الأسرى إلى المدينة. قال الطبري: 2/156: «ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 728

أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع فاختلف المسلمون فيه»!

وقال علي بن إبراهيم القمي: 1/126: «كان سبب نزولها أنه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت، فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لنا لا نرى القطيفة، ما أظن إلا أن رسول الله أخذها! فأنزل الله في ذلك: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ.الخ. فجاء رجل إلى رسول الله فقال: إن فلاناً غل قطيفة فأخبأها هنالك، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحفر ذلك الموضع، فأخرج القطيفة»!

وفي شرح النهج: 14/168، أنهم طلبوا من النبي (صلی الله علیه و آله) أن يستغفر له فلم يفعل! وفي الترمذي: 4/297 وأبي داود: 2/243: «فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها».

وفي عدد من رواياتهم بدون لعل! كالطبراني الكبير: 11/288، وتفسير الطبري: 4/206، عن ابن عباس قال: «كانت قطيفة فقدت يوم بدر فقالوا: أخذها رسول الله»! وفي تفسير الثعالبي: 2/134: «وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً».

وفي أسباب النزول/84، والعجاب لابن حجر: 2/777 وغيرهما: «لكن المنافقين اتهموا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في شي من الغنيمة، فأنزل الله عزوجل: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ..».

فقد اعترف أتباع السلطة بأن البدريين كان فيهم منافقون، فلماذا لايكون فيهم مرضى القلوب وهم سادتهم؟! وكيف يقال لهؤلاء: عدول ومن أهل الجنة؟!

وفي أمالي الصدوق/164: «قال علقمة: فقلت للصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلك صدورنا! فقال (علیه السلام): يا علقمة، إن رضا الناس لايملك وألسنتهم لاتضبط! فكيف تَسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحججه:؟! ألم ينسبوا يوسف (علیه السلام) إلى أنه هم بالزنا؟ ألم ينسبوا أيوب (علیه السلام) إلى أنه ابتلي بذنوبه؟ ألم ينسبوا داود (علیه السلام) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها؟وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها؟ ألم ينسبوا موسى (علیه السلام) إلى أنه عنين، وآذوه حتى برأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً؟ ألم ينسبوا جميع أنبياء الله إلى أنهم سحرة طلبة الدنيا؟ ألم ينسبوا مريم بنت عمران(علیها السلام) إلى أنها حملت بعيسى من رجل نجار اسمه يوسف؟!

ص: 729

ألم ينسبوا نبينا محمداً (صلی الله علیه و آله) إلى أنه شاعر مجنون؟ ألم ينسبوه إلى أنه هوی امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتى استخلصها لنفسه؟ ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره الله عزوجل على القطيفة وبرأ نبيه (صلی الله علیه و آله) من الخيانة، وأنزل بذلك في كتابه: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ!

ألم ينسبوه إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمه علي (علیه السلام) حتى كذبهم الله عزوجل فقال سبحانه: مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى..». النجم: 3،4

9- سبب تعمد «الخلافة» الغلو في أهل بدر؟

قال في الصحيح من السيرة: 5/134، تحت عنوان: أهل بدر مغفور لهم: «ويذكرون أنه حينما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتجهز لفتح مكة،كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يحذرهم، وأعطاه امرأة لتوصله إليهم، فأخبر جبرئيل النبي بالأمر فأرسل علياً ونفراً معه إلى روضة خاخ، موضع بين مكة والمدينة، ليأخذوا الكتاب منها، فأدركوها في ذلك المكان وفتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً، فهموا بالرجوع فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه وقال لها: أخرجي الكتاب وإلا لأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها! فرجعوا بالكتاب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأرسل إلى حاطب فسأله عنه فاعترف به، وادعى أنه إنما فعل ذلك لأنه خشيهم على أهله، فأراد أن يتخذ عندهم يداً، فصدقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعذره، لكن عمر بن الخطاب رأى أن حاطباً خان الله ورسوله فطلب من النبي أن يضرب عنق حاطب فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أليس من أهل بدر؟ لعل الله - أو إن الله - اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم»! قال الحلبي: وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه لأنه إذا وقع يقع مغفوراً، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه. وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر حُدَّ وكان بدرياً. وقال الحلبي أيضاً: وفي الخصائص الصغرى نقلاً عن شرح جمع الجوامع أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب

ص: 730

مايفسق به غيرهم. ورووا عنه (صلی الله علیه و آله) قوله: لن يدخل النار أحد شهد بدراً.

ونقول: «إذا كان شرب البدري للخمر لايضر ولا يحتاجون للتوبة من الكبائر، فليكن الزنا حتى بالمحارم غير مضر لهم أيضاً! وكذلك تركهم الصلاة وسائر الواجبات وغيرها! وليكن أيضاً قتل النفوس كذلك، ولقد قتلوا عشرات الألوف في وقعتي الجمل وصفين، وقتلوا العشرات سراً وجهراً غيلة وصبراً! فإن ذلك كله لايضر، ولا يوجب لهم فسقاً ولا عقاباً»! انتهى.

أقول: أكد النبي (صلی الله علیه و آله) على مكانة عترته الطاهرين: طوال حياته، وجعلهم وصيته المؤكدة لأمته فقال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» فقامت قريش باضطهادهم، ونصبت مقابلهم الصحابة وزعمت أنهم كلهم عدول، بل ادعت لبعضهم العصمة وفضلته على النبي (صلی الله علیه و آله) بأساليب ملتوية!

فكل ما تراه من مبالغة في الصحابة وغلو فيهم، وفضائل مكذوبة لهم، إنما هو من أعمال السلطة لجعلهم وجوداً مقابل النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته الطاهرين:.

ومن ذلك غلوهم في أهل بدر حيث جعلوهم كلهم صانعي تاريخ الإسلام مع أن قسماً منهم كانوا عالةً على المسلمين حتى إذا انتصروا ادعوا أنهم أبطال النصر!

راجع كتاب: نظرية عدالة الصحابة، للمحامي الأردني، خير من كتب في الموضوع.

10- التعجب من أغلاط العامة في الصحابة!

قال أبو الفتح الكراجكي (رحمة الله) في كتابه: التعجب من أغلاط العامة/83: «الفصل الحادي عشر في أغلاطهم في الصحابة: ومن عجيب أمرهم غلوهم في تفخيم الصحابة وإفراطهم في تعظيمهم، وقولهم لا يدخل الجنة مستنقص لأحد منهم، وليس بمسلم من روى قبيحاً عنهم! ويقولون إنا لا نعرف لأحد منهم بعد إسلامه عيباً، وليس منهم من واقع ذنباً، ويجعلون من خالفهم في هذا زنديقاً، ومن ناظرهم فيه أو طلب الحجة منهم عليه، مبتدعاً شريراً.

هذا ولهم في الرسل المصطفين والأنبياء المفضلين، الذين احتج الله تعالى بهم

ص: 731

على العالمين صلوات الله عليهم أجمعين، أقوال تقشعر منها الجلود، وترتعد لها القلوب، ولا تثبت عند سماعها النفوس، يتدينون بذكرها، ويتحملون بنشرها، ويغتاظون على من أنكرها ودحضها، كغيظهم على من أضاف إلى أحد الصحابة بعضها، فينسبون آدم وحواء إلى الشرك، وإبراهيم الخليل إلى الإفك والشك، ويوسف إلى ارتكاب المحظور والجلوس من زليخا مجلس الفجور، وموسى إلى أنه قتل نفساً ظلماً، وداود إلى أنه عشق امرأة أوريا وحمله عشقها إلى أن قتل زوجها وتزوجها، ويونس إلى أنه غضب على الله تعالى.

ويقولون في سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلی الله علیه و آله) في تزويجه بامرأة زيد بن حارثة، وفي غير ذلك من الأقوال القبيحة المفتعلة ما لا ينطلق لمؤمن بذكره لسان، ولا يثبت لمسلم عند سماعه جنان، ولا يطلقه عاقل، ولا يجيزه منه إلا كافر جاهل! فإذا قيل لهم إن جميع الأخبار الواردة في ذلك باطلة، وسائر الآيات التي تظنون أنها تقتضيه متأولة، وقد شهدت العقول بعصمة الأنبياء (علیهم السلام) ودل القرآن على فضلهم وتميزهم عن الأنام، فوجب أن تتأول الأقوال بما يوافق مقتضى الإستدلال. قالوا إذا سمعوا هذا الكلام: هذا ضلال وترفض، وهو فتح باب التزندق! فياليت شعري كيف صار الهتف بالأنبياء (علیهم السلام) بالباطل إسلاماً وستراً، والطعن على بعض الصحابة بالحق ضلالاً وكفراً؟! وكيف صار القادح في الأفاضل المصطفين: ثبتاً صديقاً ومن قدح في أحد قوم غير معصومين رافضياً زنديقاً؟! ألم يسمعوا قول الله تعالى في أنبيائه صلوات الله عليهم: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ، وقوله سبحانه وتعالى لأصحاب نبيه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.

وقول النبي (صلی الله علیه و آله): إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني! فأي نسبة بين الطبقتين، وأي تقارب بين القبيلتين، لولا ما مع خصومنا من العصبية التي حرمتهم حسن التوفيق. وقد قال بعض المعتزلة لأحد الشيعة: إن أمركم معشر الشيعة لعجيب، ورأيكم طريف غير مصيب، لأنكم أقدمتم على وجوه الصحابة الأخيار، وعيون الأتقياء الأبرار، الذين سبقوا إلى الإسلام واختصوا بصحبة الرسول

ص: 732

وشاهدوا المعجزات، وقطعت أعذارهم الآيات، وصدقوا بالوحي، وانقادوا إلى الأمر والنهي، وجاهدوا المشركين، ونصروا رسول رب العالمين، ووجب أن يحسن بهم الظنون، ويعتقد فيهم الإعتقاد الجميل، فزعمتم أنهم خالفوا الرسول، وعاندوا أهله من بعده، واجتمعوا على غصب حق الإمام وإقامة الفتنة في الأنام، واستأثروا بالخلافة، وسارعوا إلى الترأس على الكافة، وهذا مما تنكره العقول وتشهد أنه مستحيل، فالتعجب منكم طويل!

فأجابه: أما المؤمنون من الصحابة الأخيار، والعيون من الأتقياء الأطهار، فمن هذه الأمور مبرؤون، ونحن عن ذمهم متنزهون، وأما من سواهم ممن ظهر زللهم وخطؤهم، فإن الذم متوجه إليهم، وقبيح فعلهم طرق القول عليهم، ولو تأملت حال هؤلاء الأصحاب لعلمت أنك نفيت عنهم خطأ قد فعلوا أمثاله ونزهتهم عن خلاف قد ارتكبوا أضعافه، وتحققت أنك وضعت تعجبك في غير موضعه، وأوقعت استطرافك في ضد موقعه، فاحتشمت من خصمك، ورددت التعجب إلى نفسك. وهؤلاء القوم الذين فضلتهم وعظمتهم، وأحسنت ظنك بهم ونزهتهم، هم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة بين رجلي ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) طلباً لقتله.

وهم الذين كانوا يضحكون خلفه إذا صلى بهم، ويتركون الصلاة معه وينصرفون إلى تجاراتهم ولهوهم، حتى نزل القرآن يهتف بهم.

وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر، وكرهوا رأيه في الجهاد، واعتقدوا أنه فيما دبره على غير الصواب، ونزل فيهم: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.

وهم الذين كانوا يلتمسون من النبي (صلی الله علیه و آله) بمكة القتال وينازلونه في الجهاد منازلة ويرون أن الصواب خلاف ما تعبدوا به في تلك الحال من الكف والإمساك، فلما حصلوا في المدينة وتكاثر معهم الناس، ونزل عليهم فرض الجهاد وأمروا بالقتال كرهوا ذلك وطلبوا التأخير من زمان إلى زمان، ونزل فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

ص: 733

قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ.

وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة، وأضمروا الخيانة والمعصية، حتى نزل فيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الأنفال: 27.

وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم، حتى نزل فيهم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

وهم الذين شكوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وخبثت نياتهم، فظنوا أن الأمر بخلاف ما أخبرهم به النبي (صلی الله علیه و آله)، إذ نزل فيهم: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا.

وهم الذين نكثوا عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونقضوا ما عقده عليهم في بيعته تحت الشجرة، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولوا الدبر ونزل فيهم: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً.

وهم الذين انهزموا يوم حنين وأسلموا النبي (صلی الله علیه و آله) للأعداء، ولم يبق معه إلا أميرالمؤمنين (علیه السلام) وتسعة من بني هاشم، ونزل فيهم: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. وأمثال ذلك مما يطول بشروحه الذكر!

وهم الذين قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..

وهم الذين قال لهم النبي (صلی الله علیه و آله): لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لاتبعتموه! قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟

وهم الذين قال لهم: ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

وهم الذين قال لهم: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال من

ص: 734

أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم!

وهم الذين قال لهم: بينما أنا على الحوض إذ مُرَّ بكم زمراً فتفرق بكم الطرق فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق، فينادي مناد من ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقاً ألا سحقاً. وهم الذين قال لهم عند وفاته: جهزوا جيش أسامة ولعن من تخلف عنه، فلم يفعلوا.

وهم الذين قال (صلی الله علیه و آله) لهم: إئتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي فلم يفعلوا وقال أحدهم: دعوه فإنه يهجر! ولم ينكر الباقون عليه!

هذا مع إظهارهم الإسلام واختصاصهم بصحبة النبي (صلی الله علیه و آله) ورؤيتهم الآيات، وقطع أعذارهم بالمعجزات! فانظر الآن أينا أحق بأن يتعجب، وأولانا بأن يتعجب منه: من أضاف إلى هؤلاء الأصحاب ما يليق بأفعالهم، ومن جعلهم فوق منازل الأنبياء (علیهم السلام)، وهذه أحوالهم»؟!

11- ماذا قال الشيخان لما استشارهم النبي (صلی الله علیه و آله) بشأن بدر؟

وصف الله تعالى في لوحة خالدة إلى يوم الدين، خوف بعض الصحابة وانهيارهم لما أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله) بالخروج لاعتراض قافلة قريش! فقال عزوجل: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وأخبرهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن الله وعده إحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير! فأفلتت منهم القافلة وبلغهم أن قريشاً جاءت لحربهم، فاستشارهم النبي (صلی الله علیه و آله)، وطلبوا منه الرجوع وعدم قتال قريش!

قال مسلم في صحيحه: 5/170: «شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال فتكلم أبوبكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه». ولم يبين لماذا أعرض عنهما!

وفي الدر المنثور: 3/165: «فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إنها قريش وعزها! والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب

ص: 735

لذلك أهبته وأعدد له عدته». وعيون الأثر: 1/327 والنهاية: 3/321.

وهنا حذفوا الفقرة الحساسة وهي قوله للنبي (صلی الله علیه و آله): «ولم تخرج على هيئة الحرب»! أي إرجع ولا تقاتل قريشاً لأنك لم تستعد! أو حرفوها وجعلوها: والله لتقاتلنك فتأهب لذلك واعدد له عدته! أو نسبوها إلى شخص مجهول!

لكن موقف الشيخين واضح، وهو التحذير من مواجهة قريش وطلب الرجوع!

قال في الكشاف: 2/143، تخريج الأحاديث: 2/11، السيرة الحلبية: 2/385 وغيرها: «فاستشار النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه وقال: ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو! فتغير وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله): ثم ردد عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبوجهل قد أقبل! فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو»!

فهؤلاء الذين أجابوا النبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الكلام المنافق، هم الذين قال الله عنهم: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ؟ الأنفال/6

وكمثال لتعصب علماء السلطة وتغطيتهم على فلان وفلان: أن ابن حزم الذي حكم بأن أصحاب هذه الآية فساق!

قال في الأحكام: 6/308: «وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة، فعندنا فهو فاسق مردود الشهادة.قال الله تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. فذم عزوجل من عاند بعد أن تبين له الحق».

لكن مَن هم الفساق الذين جادلوا في الحق! لقد ذابوا كالملح، وذاب جواب أبي بكر وعمر، وقال رواة قريش: إنهما قالا وأحسنا، وكان الله يحب المحسنين!

فقد قالت روايتهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) أعرض عنهما وتغير وجهه، ثم فرح وأشرق وجهه بموقف المقداد «بخاري: 5/4».

لكن رواة الخلافة يصرون على قولهم: إنهما قالا فأحسنا! فتح الباري: 7/223.

وفي المناقب: 1/162: «شاور النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه في لقائهم أو الرجوع؟فقال أبوبكر وعمر كلاماً فأجلسهما! ثم قال المقداد وسعد بن معاذ كلاماً فدعا لهما وسُرَّ، ونزل:

ص: 736

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ». آل عمران/151

وفي تفسير القمي: 1/158وتفسير أبي حمزة /180، عن الإمام الباقر (علیه السلام) ملخصاً: «نزل جبرئيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير، فقام أبوبكر فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم تخرج على هيئة الحرب! فقال (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك! فقال (صلی الله علیه و آله): أجلس فجلس. ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقنا، وشهدنا أن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ. ولكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون! فجزَّاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) خيراً على قوله ذاك.

ثم قال (صلی الله علیه و آله): أشيروا عليَّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، لأن أكثر الناس منهم ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا. فكان (صلی الله علیه و آله) يتخوف أن لا يكون الأنصار يرون أن عليهم نصرته، إلا على من دهمه بالمدينة من عدو. فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال: نعم. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله عزوجل أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله! ففرح بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: سيروا على بركة الله، فإن الله عزوجل قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وفلان وفلان، وأمر رسول الله بالرحيل وخرج إلى بدر».

ص: 737

12- افتراؤهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخطأ وأصاب عمر!

بحثنا في كتاب: ألف سؤال وإشكال: 2/355 قصة أسرى بدر التي زعم عمر أنه أصاب فيها وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أخطأ!

وخلاصتها: أن آيات الأنفال صريحة في أن عمله (صلی الله علیه و آله) كان بتوجيه ربه عزوجل، لاحظ قوله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. الأنفال: 5-8.

ولم يدَّع أحدٌ يومها ولا في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أخطأ في الحرب، أو في أخذ أسرى أو في إطلاقهم مقابل فدية! لكن عمر ادعى في خلافته أنه نهى النبي (صلی الله علیه و آله) عن أخذ الأسرى القرشيين المحترمين، ونهاه عن أخذ الفدية منهم فلم يطعه، فعاقبه الله في معركة أحد، فانهزم جيشه وقتل منهم سبعون، وأصيب هو (صلی الله علیه و آله)! فنزلت آيات توبخه والمسلمين على ذنبهم في بدر، وتؤيد رأي عمر!

قال في مجمع الزوائد: 6/115: «عن عمر بن الخطاب قال: فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله عزوجل: أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، بأخذكم الفداء»!

وهذا الحديث الصحيح عندهم، ظالمٌ وباطلٌ: أولاً: لأن التوبيخ في الآية ليس للنبي (صلی الله علیه و آله) بل للذين أرادوا غنيمة القافلة وخافوا من القتال، ومنهم أبوبكر وعمر كما تقدم! وللذين أخذوا الأسرى ولم يقتلوهم فيثخنوا في الأرض.

ثم إن روايتهم التي جعلوها فضيلة لعمر وطعناً بالنبي (صلی الله علیه و آله)، متهافتة!

ففي الدر المنثور: 3/163: «فقال: ماترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ فقلنا يا رسول الله لا والله مالنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير. إلى أن قال: فقتلنا

ص: 738

وأسرنا، فقال عمر: يا رسول الله ما أرى أن تكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون، فقلنا معشر الأنصار: إنما يحمل عمر على ما قال حسده لنا، فنام رسول الله ثم استيقظ ثم قال: أدعوا لي عمر فدعي له فقال له: إن الله قد أنزل عليَّ: ماكان لنبي أن تكون له أسرى..» وحسَّنه في الزوائد: 6/73.

وهو يدل على أن عمر وأبابكر قالا: لا طاقة لنا بقتال قريش، وأن عمر كان معارضاً لأخذ الأسرى تعصباً أن يأسرهم الأنصار فيربحوا فديتهم! ثم زعموا بعد ذلك أن عمر كان أشد على المشركين، وأن رأيه كان أن تضرب أعناقهم!

ثم إن عمر زعم أنه اعترض في بدر فنزلت الآية مؤيدة لرأيه، لأن بدراً لم تكن إثخاناً كافياً يحلل أخذ الأسرى! فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فقرأها له وأقرَّ أن عمر أصاب وأنه (صلی الله علیه و آله) أخطأ وبكى على ذنبه! ومع ذلك خالف (صلی الله علیه و آله) أمر ربه وأخذ الأسرى وساقهم إلى المدينة! ثم عصى ربه ثانية فأخذ منهم الفداء!

وقد روى ذلك أحمد: 1/30، برواية طويلة عن عمر يحكي فيها منقبته، قال: «فأخذ منهم الفداء فلما أن كان من الغد قال عمر: غدوتُ إلى النبي فإذا هو قاعد وأبوبكر وإذا هما يبكيان!فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك. فقال النبي: الذي عرض عليَّ أصحابك من الفداء! لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة! وأنزل الله عزوجل: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض. فلما كان يوم أحُد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء! فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي عن النبي وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه! وأنزل الله تعالى: أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا...بأخذكم الفداء»! و مسلم: 3 /158 و170، مجمع الزوائد: 6 /113 و 115 و 118، أحمد: 1 /32 وأبي داود: 1/608.

فقد زعم عمر أن رأيه كان قتل الأسرى فوافقه الوحي، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) عصى ولم يقتلهم! ثم وزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخذ الفداء في اليوم الثاني فنزلت الآية توبخه فقعد هو وأبوبكر يبكيان على ذنبهما! ومع ذلك عاد بالأسرى إلى المدينة وأخذ

ص: 739

الفداء! فمن يصدق أن الله تعالى ناقض نفسه فأحل لهم الغنائم والأسرى وعفا عنهم، ثم عاقبهم في أحُد! وأن النبي (صلی الله علیه و آله) بكى على ذنبه، ثم أصر عليه؟!

13- معنى: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض

معنى الإثخان في الأرض: الإثخان في قتل المشركين، وقد نهاهم النبي (صلی الله علیه و آله) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية، لكنهم أخذوا أسرى قبل ذلك طمعاً في فدائهم! فالتوبيخ في الآية لهؤلاء وليس للنبي (صلی الله علیه و آله) كما تصوره عمر وتبعه رواة الخلافة!

قال أبو الفتح الكراجكي (رحمة الله) في: التعجب من أغلاط العامة/88: «وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم: مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا..».

واختاره السيد الخوئي كما سيأتي. فلم يبق مكان لكثير مما رووه وقالوه!

14- أكذوبة: لو نزل العذاب ما نجى منه إلا ابن الخطاب!

أرادوا مدح عمر بن الخطاب فوضعوا على لسان النبي (صلی الله علیه و آله): «لو نزل العذاب لما نجا منه إلا ابن الخطاب»! ومعناه أن الجميع بمن فيهم النبي (صلی الله علیه و آله) كانوا في معرض العذاب الإلهي لأخذهم أسرى بدر وفدائهم، إلا عمر!

ومع أنهم اعترفوا بأنه حديث مكذوب، إلا أن علماءهم كانوا وما زالوا يستشهدون به ويصححونه عملياً! فهو كحديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ينصون على أنه موضوع مكذوب، لكنهم يستشهدون به، في الفضائل، والعقائد، والفقه، والتفسير، وخطب المساجد!

قال السيوطي في الدر المنثور: 3/202: «عن ابن عمر قال... فأخذ رسول الله بقول أبي بكر ففاداهم رسول الله، فأنزل الله: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فقال رسول الله: إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر».

ص: 740

وقال السرخسي في المبسوط: 10/139: «قال (صلی الله علیه و آله): لو نزل العذاب ما نجا منه إلا عمر، فإنه كان أشار بقتلهم»! وقال الغزالي في المستصفى/170: «حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر: لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر».

وفي تفسير ابن الجوزي: 3/258: «فلقي النبي عمر فقال: كاد يصيبنا في خلافك بلاء».

وقال الكاشاني في بدائع الصنائع: 7/119: «وأشار سيدنا عمر إلى القتل، فقال رسول الله: لو جاءت من السماء نار ما نجا إلا عمر»!

وقد تناقض الجصاص فقال في أحكام القرآن: 3/94: «يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه: مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. ومن الناس من يجيز ذلك على النبي (صلی الله علیه و آله) من طريق اجتهاد الرأي! ويجوز أيضاً أن يكون النبي أباح لهم أخذ الفداء، وكان ذلك معصية صغيرة! فعاتبه الله والمسلمين عليها»!

وحاول القرطبي في تفسيره: 8/45، إبعاد التوبيخ عن النبي (صلی الله علیه و آله) فجعله على الذين أمروه به، ثم جعله على الذين باشروا الحرب! ثم جعله على النبي (صلی الله علیه و آله)! واعتذر عنه بأنه انشغل عن الإثخان بالحرب وعن قتل الأسرى!

فانظر إلى هذا التناقض والتخبط والإصرار على تفضيل عمر على النبي (صلی الله علیه و آله)!

وسر القضية في أسرى بدر: تعصب عمر ضد الأنصار، لأنهم أخذوا زعماء قريش أسرى في بدر، ثم أطلقوهم بفدية وكانوا يَمُنُّون بذلك عليهم! فاضطغن ذلك القرشيون عليهم وتبعهم عمر، وحملوا مسؤوليته للنبي (صلی الله علیه و آله)!

ولم أجد من وافقنا من علمائهم في تبرئة النبي (صلی الله علیه و آله)، إلا قلة كالفخر الرازي حيث قال في المحصول: 6/15: «إذا جوزنا له (صلی الله علیه و آله) الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز أن يخطئ، وقال قوم: يجوز بشرط أن لايقر عليه. لنا: أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ، وذلك ينافي كونه خطأ.

واحتج المخالف بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. وقال تعالى: في أسارى بدر: لَوْلاكِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا

ص: 741

أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فقال عليه الصلاة والسلام: لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب، وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء.

والجواب عن هذه الوجوه: في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء (علیهم السلام)».

ثم، إن عمر زعم أن العذاب نزل على النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين في أحُد لأخذهم الفداء من قريش في بدر فهل نجا منه هو، وقد وصف نفسه فقال: «لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى«عنزة جبلية» والناس يقولون قتل محمد»! ألا يكفيه من نزول العذاب الذي جعله على النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمين، أنه شمله قول الله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الأنفال 16.

ثم رأينا المشركين قرروا عدم قتله في أحد، فما هو السبب؟!

ففي سيرة ابن هشام: 2/282 والدر المنثور: 2/88: «وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب «وليس أخاه» يوم أحُد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: أنج يا ابن الخطاب. لا أقتلك»!

فهل كان عفوهم عنه في أحد يا ترى، بسبب تعصبه لهم ضد الأنصار!

15- أكذوبة مشاورة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي بكر في العريش

اخترع أتباع أبي بكر وعمر دوراً لهما في العريش، أي في الخيمة مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وزعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) استبقى أبابكر ليستشيره في إدارة المعركة!

قال ابن هشام: 2/457: «ثم عدَّل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبوبكر الصديق، ليس معه فيه غيره».

يقصد بذلك أن أبابكر لم يقاتل،لأنه كان يحرس النبي (صلی الله علیه و آله)، لكنهم رووا أن الأنصار كانوا يحرسونه (صلی الله علیه و آله) . ففي سيرة ابن هشام: 2/458: «وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) متوشحٌ السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخافون عليه كرة العدو».

ص: 742

ثم إنه من الثابت أن النبي (صلی الله علیه و آله) قاتل في بدر قتالاً شديداً ولم يكن معه أبوبكر ولا عمر، فأين كانا وقت القتال؟ قال علي (علیه السلام): «لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً»!

«مكارم الأخلاق للطبرسي/18». ورواه مجمع الزوائد: 9/12، بطرق وحسنه، وابن أبي شيبة: 7/578، تاريخ دمشق: 4/14، كنز العمال: 10/397 وقال إن الطبري صححه.

إذن لا بد من القول إن أبابكر كان مثل عمر يحفظ نفسه بالفرار إلى الصفوف الخلفية، فقد حدَّثَ عمرعن نفسه بأنه كان في أطراف المعركة فرأى العاص بن أبي أحيحة فهابه وهرب منه! قال لابنه سعيد بن العاص: «مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه! فقال: إلى أين يا ابن الخطاب! وصمد له علي فتناوله، فما رمت من مكاني حتى قتله!

فقال له علي: اللهم غفراً ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم، فما لك تهيِّج الناس عليَّ؟ فكفَّ عمر. وقال سعيد: أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب». ابن هشام 2/464 وكشف الغمة 1/186.

فقد برأ عمر نفسه من قتل العاص، واعترف أنه هرب منه، فآيات الفرار إلى الصفوف الخلفية تشمله!

ومع ذلك ادعوا أنه وأبابكركانا في العريش! وغرضهم تفضيلهما على علي (علیه السلام) الذي تحمل نصف أعباء المعركة، وجندل بسيفه نصف قتلى بدر من طغاة قريش!

وقد أجابهم علماؤنا على ذلك، فقال الشريف المرتضى (رحمة الله) في الفصول المختارة/34: «إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في العريش أفضل من جهاد أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالسيف لأنهما كانا مع النبي في مستقره يدبران الأمر معه، ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه..الى أن قال: فأما ما توهموه من أنه حبسهما للإستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان

ص: 743

كاملاً وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوماً وكانا غير معصومين، وكان مؤيداً بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما»!

وقال المفيد في الإفصاح/198: «ثم يقال لهم: خبرونا عن حبس رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبابكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه، وتدبيرهما الأمر معه أقلتم ذلك ظناً أو حدساً، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين؟فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم، فكفاهم بذلك خزياً في مقالهم وشناعةً وقبحاً، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه، وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه السمع والتوقيف؟! فلا يجدون شيئاً يتعلقون به من الوجهين جميعاً. ثم يقال لهم».

وقد واصل المتأخرون الإفتخار بما اخترعه أسلافهم وزادوا عليه! فجعل ابن تيمية أبابكر وعمر أشجع من علي (علیه السلام)! وأغمض عن فرارهما في بدر وأحد وخيبر وحنين وغيرها! قال في منهاجه: 8/86 و78: «فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه مايكون بالحجة والبيان والدعوة..وأبوبكر وعمر مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن! قال أبو محمد بن حزم: وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً، والجهاد أفضل الأعمال. قال: وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة: أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد! ثم قال ابن تيمية: «وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب، فلا ريب أن أبابكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير، وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم، فإن أبابكر باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله،وهو في ذلك كله مقدم!

وكان يوم بدر مع النبي (صلی الله علیه و آله) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه. ولما قام النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 744

يدعو ربه ويستغيث ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبداللهم اللهم.. جعل أبوبكر يقول له: يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك! وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته»! وكرره في مجموع فتاواه: 28/257.

وقد رد علماء الشيعة المعاصرون على هذر ابن تيمية وابن حزم!راجع الغدير: 7/200، محاضرات في الإعتقادات للسيد الميلاني: 1/324، دراسات في منهاج السنة/214، الصحيح من السيرة: 5/41 وقد شكك في أصل وجود العريش في بدر.

آيتان في الفرار إلى الصفوف الخلفية

لم ينقلوا فرار أحد من المسلمين في بدر، لكن نزلت آيتان في سورة الأنفال وهي سورة بدر، تنهيان عن الفرار من الزحف، فلا بد أنها تقصدان من فروا من الصفوف الأمامية إلى الخلفية.كما أنها تحذير من الفرار في المستقبل!

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 15-16.

وسيأتي بسند صحيح عندهم، أن أحد عشر صحابياً فيهم أبوبكر وعمر، شربوا الخمر بعد بدر، وتغنوا بالنوح على قتلى المشركين في بدر! فلا حول ولا قوة إلا بالله.

 

«تم المجلد الأول من السيرة النبوية عند أهل البیت (علیهم السلام)»

ص: 745

ص: 746

فهرس الموضوعات

مقدمة الطبعة الثانية .............................................................................................. 5

تمهيد ............................................................................................................. 7

أهمية السيرة النبوية.................................................................................................. 7

كانت الخلافة تحرق مصادر السيرة!................................................................................... 8

كنوزٌ من السيرة وعلوم الإسلام أحرقتها السلطة! ...................................................................... 9

القرآن مصدر للسيرة لكنهم ضيعوا أسباب نزوله!..................................................................... 12

شعر أبي طالب (علیه السلام) مصدر للسيرة .................................................................................... 13

أهل البيت (علیهم السلام) أدرى بسيرة جدهم (صلی الله علیه و آله) وأصدق.................................... 15

هدف الكتاب وفروقه عن السيرة الرسمية ............................................................................ 16

الفصل الأول/أول ما خلق الله نورالنبي (صلی الله علیه و آله) 23

1. عوالم وجودنا قبل هذا العالم .................................................................................... 23

2. خلق الله نور نبينا وآله (صلی الله علیه و آله) قبل هذا العالم...................................................................... 24

3. أحاديث خلق نور النبي (صلی الله علیه و آله) في مصادر السنيين ............................................................... 28

4. ملاحظات على أحاديث نور النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................ 30

رواياتهم التي تحاول تحريف أحاديث النور......................................................................... 32

الفصل الثاني/جزيرة العرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) 35

1. أحوال العرب في عصر النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................... 35

1. كان للعرب دول ................................................................................................ 35

2. الحالة الإقتصادية للعرب ....................................................................................... 36

3. أديان العرب قبل الإسلام ...................................................................................... 36

4. كان العرب أميين ............................................................................................... 37

5. وكان العرب مجتمعاً محارباً ....................................................................................... 38

ص: 747

6. تكلم خمسة أنبياء بالعربية ....................................................................................... 38

7. إقرؤوا القرآن بألحان العرب ....................................................................................... 39

8. أوجب الإسلام على عرب البادية الهجرة .......................................................................... 40

9. الهجرة إلى طلب العلم ............................................................................................ 40

10 . العروبة باللغة وليست بالنسب ................................................................................... 40

11 . وجَّه الإسلام عصبية العرب إلى التعصب للخير ................................................................... 41

2. أعلن النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) سيد العرب!.......................................................................... 42

3. وصف جاهلية العرب ......................................................................................... 45

1. وصفها المغيرة بن شعبة لعامل كسرى ............................................................................. 45

2. و وصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي ............................................................................ 45

3. و وصف علي (علیه السلام) جاهلية العرب ................................................................................. 46

4. و وصفت الزهراء (علیها السلام) جاهلية العرب ............................................................................... 46

4. نشر كعب الأحبار أمنياته بهلاك العرب!........................................................................ 47

5. ردَّ أهل البيت (علیهم السلام) على فرية كعب عن العرب .................................................................. 48

6. زعموا أن العرب لا يكونون من الأبدال!......................................................................... 48

7. أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بظلم قريش لأهل بيته (علیهم السلام) .................................................................... 49

8. سينقذ الله العرب بيد أهل البيت (علیها السلام) ........................................................................... 51

9. تحذيرات النبي (صلی الله علیه و آله) للعرب من الطغيان ........................................................................ 54

10 . رفض الأئمة (علیهم السلام) تعصب العرب ضد الشعوب الأخرى ......................................................... 55

الفصل الثالث /اليهود في الجزيرة العربي ة 57

1. هاجر اليهود إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود................................................................... 57

2. أخبر اليهود العرب بولادة النبي الموعود (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 59

3. سبب معاداة اليهود للنبي (صلی الله علیه و آله) أنه من بني إسماعيل!............................................................. 61

4. كتب النبي (صلی الله علیه و آله) عهدًا مع اليهود للتعايش...................................................................... 62

الفصل الرابع /مكانة الكعبة عند العر ب 64

1. بَّوَأ الله الكعبة لإبراهيم وذريته (علیهم السلام) وسماهم الأمة المسلمة ........................................................ 64

2. أولياء الكعبة هم إبراهيم وذريته المنصوص عليهم (علیهم السلام) ......................................................... 66

3. الإمامة عهد الله لإبراهيم و إسماعيل وبعض ذريتهما (علیهم السلام) ....................................................... 66

4. نصوص التوراة عن إسكان إبراهيم ذريته في مكة ............................................................... 67

5. وفرة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) في الكعبة و إبراهيم و إسماعيل (علیهم السلام) ............................................... 69

6. عقيدة العرب بالكعبة......................................................................................... 70

7. أما الأ كاسرة الفرس فكان بعضهم يقدسون الكعبة ............................................................ 72

الفصل الخامس/آباء النبي (صلی الله علیه و آله) موحدون لكن السلطة كَفَّرتهم! 73

ص: 748

1. لماذا أصر «الخلفاء» على تكفير آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 73

2. تفرد مذهبنا بعقيدة إيمان آباء النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 75

جَدَّا النبي (صلی الله علیه و آله) هاشم وعبد المطلب ................................................................................ 77

1. تفوُّق هاشم جد النبي (صلی الله علیه و آله) على قريش............................................................................ 77

2. أمية وهاشم يشبهان قابيل وهابيل ............................................................................... 78

3. عبد المطلب عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (علیهم السلام) ................................................................ 81

4. ورَّث عبد المطلب بهاءه إلى أولاده!................................................................................ 82

5.آيات عبد المطلب (علیه السلام) في زمزم .................................................................................... 82

6. رؤيا عبد المطلب كرؤيا أشعيا النبي (علیهما السلام) ........................................................................... 84

7. شرح رؤيا عبد المطلب ........................................................................................... 87

8. آية عبد المطلب مع ثقيف.......................................................................................... 90

9. آيات عبد المطلب (علیه السلام) في غزو أبرهة للكعبة ........................................................................ 91

10 . عبد المطلب وأصحاب الفيل .................................................................................... 93

11 . تعاظم حسد قريش لعبد المطلب (علیه السلام) ........................................................................... 97

12 . أسس حلف الفضول لمنع الإعتداء على الحجاج................................................................. 98

13 . سن عبد المطلب سنناً فأجراها الله في الإسلام .................................................................. 102

14 . وهذا يكفي لمن كان له قلب!.................................................................................... 103

15 . عبد المطلب: إبراهيم الثاني...................................................................................... 103

16 . نذَر عبد المطلب (رحمة الله) أحد أبنائه قرباناً للكعبة! ................................................................... 103

17 . افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بجديه (علیهما السلام) فقال: أنا ابن الذبيحين.............................................................. 104

18 . الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق ............................................................................ 107

19 . النبي (صلی الله علیه و آله) وارث عبد المطلب..................................................................................... 109

20 . وكان عبد المطلب شاعراً، وكذا أبوطالب (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 114

21 . أولاد عبد المطلب عشرة، والعباس............................................................................... 115

الفصل السادس/والده عبدالله ووالدته آمنة (علیهما السلام) ومولده المبارك 118

1. قلة الروايات عن والدي النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................ 118

2. تكريم خاص لوالدي النبي (صلی الله علیه و آله) وأسرته ........................................................................ 118

3. افتخر النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه وجداته (علیهم السلام) ............................................................................. 119

4. عبدالله والد النبي (صلی الله علیه و آله) من كبار أولياء الله ...................................................................... 120

5. تزوج والد النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في سنّ السابعة عشرة ................................................................. 120

6.خطب عبد المطلب لابنه عبدالله، وخطب لنفسه ............................................................... 121

7. حملت به أمه في منى في بيت أبيه عبد المطلب ................................................................ 123

8. المرأة التي عرضت نفسها على عبدالله ......................................................................... 123

9. توفي عبدالله في المدينة وهو شاب ............................................................................. 124

10 . ما ورثه النبي (صلی الله علیه و آله) من أبيه وأمه (علیهما السلام) ......................................................................... 124

11 . آمنة بنت وهب من كرائم العرب ............................................................................. 125

ص: 749

12 . تحدثت آمنة عن حملها برسول الله (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 125

13 . وِلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الجمعة ............................................................................... 127

14 . بعض الآيات الربانية عند ولادته (صلی الله علیه و آله) ........................................................................ 129

15 . نسَبٌ طاهرٌ شامخٌ إلى إبراهيم وآدم (علیهم السلام) ...................................................................... 131

16 . رضاع النبي (صلی الله علیه و آله) من أمه آمنة (علیها السلام) ............................................................................ 133

17 . نشأته في البادية ورضاعه من حليمة ........................................................................ 135

18 . وفاؤه (صلی الله علیه و آله) لحليمة وأولادها ................................................................................... 137

19 . زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) قبري والديه عبدالله وآمنة (صلی الله علیه و آله) ............................................... 138

20 . ظلم المسلمين لنبيهم في والديه (صلی الله علیه و آله)! ........................................................................ 139

21 . أم أيمن حاضنة النبي (صلی الله علیه و آله) وخادمة فاطمة (علیها السلام) ................................................................. 141

الفصل السابع /في كفالة جده الحنون، وبيت عمه الحنون (علیهم السلام) 149

1. في كفالة جده الحنون عبد المطلب ............................................................................. 149

2. استسقى به جده عبد المطلب فسقاهم الله تعالى ................................................................ 151

3. عاش صباه وشبابه في بيت عمه الحنون أبي طالب (علیه السلام) ....................................................... 152

4. واستسقى به عمه أبوطالب فسقاهم الله تعالى ................................................................. 154

5. حديث يَحبَِرا الراهب مع النبي (صلی الله علیه و آله) وعمه في الشام ............................................................. 157

6. شاعت نبوءة بحيرا عند العرب ................................................................................ 162

الفصل الثامن/زواجه (صلی الله علیه و آله) بخديجة (سلام الله علیها) 165

سبب زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بخديجة (علیها السلام) ................................................................................ 165

1. سمعت خديجة بكراماته (صلی الله علیه و آله) فخطبته ............................................................................ 165

2. خطب أبوطالب خديجة للنبي (صلی الله علیه و آله) .............................................................................. 166

3. وهبت خديجة كل أموالها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................................... 167

4. وصار بيت خديجة (علیها السلام) بيت النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 168

5. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يمدح خديجة (علیها السلام) ................................................................................ 170

6. عائشة متهمة ولا تقبل شهادة المتَّهَم ............................................................................ 171

7. أحل الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) من النساء ما شاء .......................................................................... 171

8. اشتهر وفاء النبي (صلی الله علیه و آله) لخديجة (علیها السلام) ............................................................................... 172

9. وكانت خديجة أماً لعلي (علیه السلام) ..................................................................................... 173

10 . عظموا أمر عائشة على باقي نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 173

11 . أنفق النبي (صلی الله علیه و آله) على المؤمنين من أموال خديجة (علیها السلام) ............................................................. 174

12 . كانت خديجة (علیها السلام) أجمل زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................................... 174

13 . بنات النبي (صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟ ..................................................................................... 174

الفصل التاسع /ولادة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) 177

1. قالوا إن ولادة علي (علیه السلام) في الكعبة متواترة عندهم، ثم أنكروها!.................................................. 177

ص: 750

2. رواية يزيد بن قعنب .......................................................................................... 178

3. دلالة ولادة علي في الكعبة .................................................................................... 180

4.إسم علي و إسم حيدرة......................................................................................... 180

5. ولد علي (علیه السلام) قبل البعثة بعشر سنين........................................................................... 182

6. أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) وهو طفلٌ فرباه ليكون له عضدًا...................................................... 183

الفصل العاشر /مقدمات بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) 188

1. حكَّمَتْه قريش في وضع الحجر قبل بعثته (صلی الله علیه و آله) .................................................................. 188

2. قبل الأربعين كان (صلی الله علیه و آله) نبياً وكان يصلي معه علي وخديجة (علیهما السلام) ................................................. 189

3. وروى الجميع أنه صلى وعلياً سبعاً قبل الناس................................................................ 193

4. وروى الجميع ما يدل على نبوته (صلی الله علیه و آله) قبل رسالته!............................................................. 194

5. زعموا أن إسرافيل نزل عليه قبل جبرئيل....................................................................... 195

الفصل الحادي عشر /كيف بدأت بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) 197

1. رواية أهل البيت (علیهم السلام) عن البعثة وابتداء الوحي................................................................ 197

2. طامات عائشة التي تبنتها السلطة............................................................................. 200

3. الموقف الشرعي من رواية عائشة.............................................................................. 202

4. رووا نحو ما روينا، وأعرضوا عنه لأجل عائشة!................................................................. 204

الفصل الثاني عشر /المرحلة الأولى دعوة بني هاشم خاص ة 206

1. نزل خبر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) كالصاعقة على زعماء قريش! ........................................................ 206

2. استمرت العاصفة ثلاث سنين حتى أهلك الله المستهزئين...................................................... 208

3. الإنجازات الرسولية في هذه المرحلة............................................................................. 209

4. معنى السرية في المرحلة الأولى للدعوة.......................................................................... 210

5. آية المستهزئين تكشف تخبط رواة السلطة وكذبهم! ............................................................ 211

6. تخبط الكتَّاب المعاصرين في مراحل الدعوة تبعاً لرواة السلطة................................................ 214

الفصل الثالث عشر/دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) عشيرته واستنفار قريش ضدهم 216

1.بعد بعثته أمره الله تعالى: وَأْنذِْر عَشِيرََتكَ الأَقْرَبِيَن ............................................................. 216

2.غَيَّبَتْ الحكومات حديث الدار ................................................................................ 217

3.خلافة علي (علیه السلام) كانت محسومة من أول البعثة................................................................. 220

4.النبأ العظيم وصية محمد (صلی الله علیه و آله) لابن عمه ........................................................................ 221

الفصل الرابع عشر/أبوطالب (علیه السلام) يوحد بني هاشم لحماية النبي (صلی الله علیه و آله) 225

1.أبوطالب يقف في وجه قريش بقوة ............................................................................. 225

2.وشذ أبولهب فحاول أبوطالب تحريك شهامته فقال:........................................................... 227

ص: 751

أبولهب يحاول اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................... 228

هلك أبولهب بعد هز يمة قريش في بدر .............................................................................. 229

3- عرضوا على أبي طالب أن يأخذ شاباً بدل النبي (صلی الله علیه و آله)!.......................................................... 229

4. من هو عمارة الذي أرادوا أن يعطوه بدل النبي (صلی الله علیه و آله) ؟ ........................................................... 232

5- سورة المدثر تفضح رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة!........................................................ 233

6- أبوطالب يطلق لاميته في بلاد العرب ......................................................................... 235

7- ملاحظات حول لامية أبي طالب (رحمة الله) وشعره ................................................................... 245

الفصل الخامس عشر /الإسراء والمعراج 248

1- آيات الإسراء والمعراج.......................................................................................... 248

2- كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح .......................................................................... 248

3- برنامجٌ رباني لإعداد النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................ 249

4- عُرِج بالنبي (صلی الله علیه و آله) مئة وعشرين مرة! ........................................................................... 250

5- الإسراء والمعراج من عقائد الإسلام............................................................................. 251

6- هل المسجد الأقصى مسجد القدس أو البيت المعمور؟......................................................... 252

7- عَّلمه الله في المعراج علم ما يكون............................................................................. 254

8- كان الإسراء إلى المدينة وكوفان والطور وبيت المقدس ......................................................... 256

9- استنفر أبوطالب ليلة الإسراء لأنه افتقد النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................. 258

10- رأت قريش آيات المعراج فزادت كفرًا وعتوًا................................................................... 260

11- صفة البُراق الذي حمل النبي (صلی الله علیه و آله) في معراجه................................................................. 261

12- النبي (صلی الله علیه و آله) سيركب البراق يوم القيامة ....................................................................... 263

13- ركب إبراهيم (علیه السلام) البراق والمهدي (علیه السلام) سيركبه ................................................................ 264

14- قميص المعراج وقميص أحُد من ماريث الأنبيا (علیهم السلام) ........................................................... 264

15- معنى سدرة المنتهى.......................................................................................... 265

16- لم يرَ النبي (صلی الله علیه و آله) ربه بعینه بل رأى من آياته الكبرى.......................................................... 266

17- زعم أتباع السلطة أنه رأى ربه في داره شاباً أمرد! ............................................................ 268

18- أخذ الله ميثاق الأنبياء (علیهم السلام) للنبي وآله (صلی الله علیه و آله) ................................................................. 270

19- حديث النبي (صلی الله علیه و آله) مع ملك الموت (علیه السلام) ...................................................................... 273

20- آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون.................................................................... 274

21- كلم الله نبيه (صلی الله علیه و آله) في المعراج بصوت علي (علیه السلام) ................................................................ 275

22- أراه الله تعالى مكانة المؤمن عنده ........................................................................... 277

23- تشريع الصلاة في المعراج................................................................................... 277

24- ردَّ أهل البيت (علیهم السلام) مزاعم الآخرين في تشريع الأذان.......................................................... 280

25- أخبر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) أنه سيمتحنه في ثلاث............................................................... 281

ص: 752

26- مكانة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................................... 283

27- المزيد من أحاديث مقام النبي وآله (صلی الله علیه و آله) .................................................................... 286

28- رأى النبي (صلی الله علیه و آله) مستقبل أهل بيته (علیهم السلام) ...................................................................... 294

29- العنف واللامعقول والمكذوبات في أحاديث المعراج! ......................................................... 294

30- ربط النبي (صلی الله علیه و آله) البراق لئلا يهرب!............................................................................ 295

31- إمتحان للرسول (صلی الله علیه و آله) غير معقول!............................................................................ 295

32- أكذوبة شق صدر النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................ 296

33- الأنبياء يصلون في قبورهم.................................................................................. 297

34- النساء المعلقات بأثدائهن! ................................................................................. 297

رواية وحيدة في مصادرنا ........................................................................................... 298

35- نماذج أخرى من رواياتهم المكذوبة في المعراج................................................................ 300

الفصل السادس عشر /أول من أسلم و أول من أعلن إسلامه 303

1- أول من أسلم وأعلن إسلامه: علٌّي وخديجة (علیهما السلام) .............................................................. 303

2- إسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه........................................................................ 307

3- كان أبوطالب وحمزة يخفيان إسلامهما........................................................................ 310

4- زيد بن حارثة الذي اختار النبي (صلی الله علیه و آله) على أبيه!................................................................ 315

5- أبوذر الغفاري (رحمة الله) رابع المسلمين المعلنين إسلامهم............................................................. 316

6- إسلام عمرو بن عبسة السلمي أخ أبي ذر لأمه................................................................. 325

7- قالوا أبوبكر أول من أسلم وقال سعد أسلم بعد خمسين....................................................... 327

8- خامس المسلمين خالد بن سعيد بن العاص الأموي......................................................... 328

9- من أوائل المسلمين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ........................................................ 339

10- إسلام عمار ووالديه ياسر وسمية رضي الله عنهم............................................................... 342

الفصل السابع عشر/ولادة الصديقة الزهراء (سلام الله علیها) وبقية أولاد النبي (صلی الله علیه و آله) 349

1- لم تتزوج خديجة (علیها السلام) قبل النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 349

2- عدد أولاد النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................................... 351

زينب وأم كلثوم ورقية: بنات، أم ربائب؟........................................................................... 352

مؤيدات لرأي السيد جعفر مرتضى.................................................................................. 352

حَصَرَ اللهُ ذرية نبيه (صلی الله علیه و آله) بفاطمة (علیها السلام) ............................................................................... 354

لكن النبي (صلی الله علیه و آله) يؤمن بالبداء ولا يحتم على ربه ...................................................................... 356

سورة الكوثر بشارة ربانية بالذرية الطاهرة .......................................................................... 357

3- سنة ولادة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ................................................................................ 358

ولدت (علیها السلام) في العشرين من جمادى الثانية........................................................................... 359

فاطمة استثنائية لا تقاس بها امرأة.................................................................................. 361

عائشة تشهد بأن فاطمة (علیها السلام) أصدق الناس لهجة ................................................................. 363

ص: 753

كانت فاطمة (علیها السلام) تسكن مع أبيها في مكة والمدينة .................................................................. 363

غرفة فاطمة (علیها السلام) وبيتها في المدينة ................................................................................... 364

الفصل الثامن عشر /المرحلة الثانية، الدعوة العامة: فاصدع بما تؤمر 367

1- عدد سكان مكة وموقع قريش في العرب..................................................................... 367

2- رؤساء قريش عند بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................................ 368

3- قريش معدن فراعنة وأكثرهم حق عليهم القول! ............................................................. 371

4- فراعنة قريش أكثر من خمسة والمؤذُون للنبي (صلی الله علیه و آله) بالعشرات ................................................. 373

5- المستهزئون الخمسة عقبة أزاحها الله من طريق الدعوة!...................................................... 375

6- رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة ........................................................................... 377

7- إهلاك المستهزئين غيَّرَ ميزان القوة لصالح النبي (صلی الله علیه و آله) ......................................................... 384

الفصل التاسع عشر /تعذيب المسلمين في مكة 391

1. ملاحظات حول المعذبين لإسلامهم............................................................................ 391

2. أسماء المعذبين ................................................................................................ 394

الفصل العشرون /مكذوبات السلطة في دارالأرقم 398

من مكذوبات رواة السلطة في دار الأرقم......................................................................... 398

الفصل الحادي والعشرون /هجرة المسلمين إلى الحبشة 403

1. ملاحظات حول الهجرة ........................................................................................ 403

2. دور جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) المميز في الحبشة..................................................................... 414

الفصل الثاني والعشرون /محاصرة قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب 418

1. مؤتمر زعماء قريش لإجبار بني هاشم على تسليم النبي (صلی الله علیه و آله) ...................................................... 418

2. أعطونا ابنكم لنقتله، و إلا.. .................................................................................. 419

3. النبي (صلی الله علیه و آله) يخلد مكان المؤتمر وطغيان زعمائه ................................................................... 420

4. أبوطالب صُحيَِّن الشِّعْب ويحرس النبي (صلی الله علیه و آله)!................................................................... 422

5. بعد سنوات الحصار جاءت المعجزة الإلهية ..................................................................... 423

6. سنوات الحصار والشدائد على بني هاشم...................................................................... 423

7. أبوطالب يؤرخ بقصائده حصار الشعب ...................................................................... 426

8. رواة الخلافة جعلوا لؤم قريش نبلاً!............................................................................ 431

9. لك الله يا أباطالب!.......................................................................................... 433

10 . كذبة المليون أوقية ذهب وأخواتها!............................................................................ 434

11 . علي بن أبي طالب (علیه السلام) منكور الفضل كأبيه!.................................................................. 435

ص: 754

الفصل الثالث والعشرون /عام وفاة أبي طالب وخديجة (علیهما السلام): عام الحزن 437

1. أبوطالب (رحمة الله) يقود عملية كسر الحصار قبيل وفاته.............................................................. 437

2. أبوطالب يَودِّع حبيبه (صلی الله علیه و آله) ويوصيه بالهجرة إلى المدينة ......................................................... 439

3. عَمجََ بني هاشم قبل وفاته وأوصاهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................ 441

4. وصََلتْكَ رحِمٌ يا عَمّ وجزاك الله عني خيرًا....................................................................... 441

5. وفاة خديجة وأبي طالب (علیهما السلام) قبل الهجرة بسنتين وكسر ......................................................... 443

6. سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): عام الحزن!................................................................................ 444

7. هاجمت قريش النبي (صلی الله علیه و آله) مرات لتقتله فخابت! ............................................................... 445

8. دفنها النبي (صلی الله علیه و آله) في مقبرة المعلا بالحجون ....................................................................... 446

9. الوهابيون انتقموا من خديجة!................................................................................. 447

10 . وانتقم القرشيون من أبي طالب (رحمة الله) بعد موته! .................................................................. 447

11 . معنى شفاعة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب (رحمة الله) ......................................................................... 450

12 . سافر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الطائف وطلب حماية ثقيف............................................................... 451

13 . دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الطائف................................................................................... 453

كان علي (علیه السلام) وزيد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في سفره إلى الطائف ............................................................. 453

14 . طلب النبي (صلی الله علیه و آله) الجوار من مطعم لكسر قرار قريش............................................................ 453

15 . لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) في مكة بعد خديجة (علیها السلام) .................................................................. 457

16 . أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن............................................................................. 458

الفصل الرابع والعشرون/النبي (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل لحمايته من قريش 460

1- بدأ (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل من السنة الرابعة............................................................ 460

2- استمرت مفاوضة النبي (صلی الله علیه و آله) مع الأنصار بضع سنين.......................................................... 468

الفصل الخامس والعشرون /النبي (صلی الله علیه و آله) يأخذ البيعة من الأنصار استعدادًا للهجر ة 478

النبي (صلی الله علیه و آله) ُيكَّوِن قاعدة لدعوته في المدينة........................................................................ 478

الفصل السادس والعشرون /خطة قريش المبرمة لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) 483

1- قريش تستنفر لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) بعد بيعة الأنصار .............................................................. 483

2- مبيت علي (علیه السلام) في فراش النبي (صلی الله علیه و آله) يفديه بنفسه.............................................................. 488

آية مبيت علي (علیه السلام) على فراش النبي (صلی الله علیه و آله) .......................................................................... 494

الفصل السابع والعشرون /هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة 498

1- أحكمت قريش خطتها لقتله فنصره الله....................................................................... 498

2- استنفرت قريش في طلب النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 499

3- رفقاء النبي (صلی الله علیه و آله) في الهجرة....................................................................................... 500

ص: 755

4- سراقة بن جشعم يحاول قتل النبي (صلی الله علیه و آله) أو أسره................................................................. 504

5- لماذا أخذ النبي (صلی الله علیه و آله) أبابكر معه................................................................................. 506

بكى أبوبكر لما جاء سُراقة! ......................................................................................... 506

6. ليس في آية الغار مدحٌ لأبي بكر................................................................................ 507

7. كذبة ذات النطاقيَن........................................................................................... 511

8. النبي (صلی الله علیه و آله) في ضيافة أم معبد .................................................................................. 512

9. وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة.................................................................................... 513

10 . نزل النبي (صلی الله علیه و آله) في قباء وهي ضاحية المدينة.................................................................... 516

11 . نشيد أهل المدينة: طَلعَ البدُر علينا........................................................................... 518

12 . ترك أبوبكر النبي (صلی الله علیه و آله) بقباء وذهب غاضباً!.................................................................... 519

13 . إسلام سلمان الفارسي في قباء ............................................................................... 520

14 . من مناقب سلمان الفارسي (رحمة الله) ............................................................................... 522

الفصل الثامن والعشرون/الهجرة العلنية الوحيدة: هجرة علي (علیه السلام) 526

1- علي (علیه السلام) يؤدي أمانات النبي (صلی الله علیه و آله) جهارًا في مكة ............................................................... 526

2- علي (علیه السلام) يتحدى قريشاً ويعلن عزمه على الهجرة! ............................................................. 527

3- قريش تدبر محاولة لاغتيال علي (علیه السلام) قبل هجرته............................................................... 527

4- واخترعت قريش مكيدة مالية لعلي (علیه السلام) قبل هجرته .......................................................... 528

5- انتظر النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) في قباء وكتب اليه وطمأنه........................................................... 529

6- علي (علیه السلام) يدوس غطرسة قريش ............................................................................... 529

7- فاطمة بنت أسد أول مسلمة هاجرت مشياً .................................................................. 530

8- ونزلت آيات القرآن تصف علياً (علیه السلام) والفواطم في طريق الهجرة ................................................. 531

9- بخلت السلطة برواية هجرة أميرالمؤمنين (علیه السلام) .................................................................. 532

10- سرقوا مناقب علي (علیه السلام) وأعطوها لعمر!....................................................................... 533

الفصل التاسع والعشرون /أبو أيوب الأنصاري اختاره الله لضيافة رسوله (صلی الله علیه و آله) 535

أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد................................................................................ 535

الفصل الثلاثون/النبي (صلی الله علیه و آله) يؤسس مسجد قباء 547

1- مسجد قباء: أول مسجد أسس على التقوى................................................................... 547

2- مسجد الضرار خطة رومية ضد النبي (صلی الله علیه و آله)! ................................................................... 548

3- أبو عامر الراهب الفاسق مندوب هرقل........................................................................ 549

4- حنظلة بن أبي عامر الفاسق وابنه عبدالله!.................................................................... 550

ص: 756

الفصل الحادي والثلاثون/فريضة الهجرة وحقوق المهاجرين في الإسلام 552

1- أمر النبي (صلی الله علیه و آله) جميع المسلمين بالهجرة........................................................................... 552

2- جعل الله الهجرة ميزاناً للإيمان والحقوق ........................................................................ 553

3- القيمة الشرعية لإجماع المهاجرین والأنصار................................................................... 556

4- من أعمال السلطة لتحريف الهجرة ومصادرتها................................................................ 557

الفصل الثاني والثلاثون/القرآن المكي والمدني 561

1- قياسهم القرآن بكتب البشر!.................................................................................. 561

2- هَزَّت آيات القرآن وجدان العرب وعقولهم...................................................................... 562

3- أكذوبة احتباس الوحي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) .................................................................... 564

الفصل الثالث والثلاثون/بعض صفات النبي وأخلاقه ومعجزاته (صلی الله علیه و آله) 568

1- من وصف أميرالمؤمنين (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله) .................................................................... 568

2- من وصف بقية الأئمة (علیهم السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 570

3- حديث الإمام الحسن (علیه السلام) في صفة النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................. 573

4- حديث الإمام الكاظم (علیه السلام) في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله) ............................................................. 577

أسماء النبي (صلی الله علیه و آله) وألقابه........................................................................................... 586

الفصل الرابع والثلاثون/المدينة عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) 588

1. النبي (صلی الله علیه و آله) يدخل عاصمته ويؤسس المسجد النبوي............................................................ 588

2. المدينة واحاتٌ زراعية سكنها العرب اليمانيون................................................................ 593

3. عدد سكان المدينة عند هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 594

4. عدد المسلمين المهاجرين إلى المدينة........................................................................... 595

5. كيف تم إسكان المسلمين المهاجرين في المدينة................................................................ 595

6. الوضع السياسي العالمي عند تأسيس النبي (صلی الله علیه و آله) لدولته ........................................................ 598

الفصل الخامس والثلاثون/النبي (صلی الله علیه و آله) يرسي أسس الدولة الإسلامية 600

1- آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين، واتخذ علياً (علیه السلام) أخاً له........................................................... 600

أسماء الذين آخى بينهم النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................. 602

2- النبي (صلی الله علیه و آله) يرسي ميثاق الدولة الإسلامية ويحدد دستورها....................................................... 607

أ. التعاقد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين......................................................................... 608

ب. التعاقد لتحديد إقليم الدولة ومكان المجتمع الجديد............................................................. 608

ج. التعاقد مع أتباع الديانات المقيمين في المدينة ................................................................... 609

د. تكييف هذا العقد ............................................................................................... 610

ه. الخطوط العريضة لهذا الملحق أو العقد التنظيمي ................................................................. 610

3. هل كانت حروب النبي (صلی الله علیه و آله) دفاعية أم هجومية؟ .............................................................. 612

ص: 757

4- حقائق غابت عن ا تَّهُلممين والمدافعين ....................................................................... 613

5- أذن الله لرسوله (صلی الله علیه و آله) بقتال المشركين............................................................................ 615

الفصل السادس والثلاثون/زواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة خديجة (سلام الله علیها) 618

لم يتزوج النبي (صلی الله علیه و آله) على خديجة وتزوج بعد هجرته ................................................................. 618

أم سَلمة أفضل أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام) .................................................................. 620

خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة ......................................................................................... 621

أمينة النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته (علیهم السلام) ....................................................................................... 622

طلب معاوية شهادتها بإمامة علي (علیه السلام) ............................................................................ 625

من امتيازاتها على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................................. 626

أذى نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لأم سلمة!..................................................................................... 629

أم سلمة عند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................................ 630

أدانت أم سلمة أهل السقيفة ...................................................................................... 631

نصيحة أم سلمة لعائشة أن لاتعصي النبي (صلی الله علیه و آله) ................................................................... 633

لماذا لايسمون أم سلمة: أم المؤمنين؟.............................................................................. 636

أولاد أم سلمة ..................................................................................................... 637

سودة بنت زمعة أول زوجات النبي (صلی الله علیه و آله) بعد خديجة (علیها السلام) ......................................................... 638

الفصل السابع والثلاثون/زواج علي و فاطمة (علیهما السلام) 642

1- خَطَ اَهب كبار الصحابة فردهم النبي (صلی الله علیه و آله)!...................................................................... 642

2- تولى الله أمر فاطمة (علیها السلام) دون أبيها (صلی الله علیه و آله) ....................................................................... 643

3- عرس الزهراء (علیها السلام) أعظم عرس في تاريخ الأنبياء (علیهم السلام) ......................................................... 644

4. أيها الرسول: زوج النور من النور............................................................................... 645

5. خطبة علي (علیه السلام) الرسمية وجواب النبي (صلی الله علیه و آله) ..................................................................... 646

6. عرس فاطمة (علیها السلام) في السماء................................................................................. 647

7. تهيئة النبي (صلی الله علیه و آله) منزل فاطمة وعلي (علیهما السلام) ....................................................................... 649

8. وصف أثاث بيت فاطمة (علیها السلام) ................................................................................ 649

9. أفخم الأعراس عرس فاطمة (علیها السلام) .............................................................................. 650

10 . وليمة الزفاف بعد شهر من العقد ............................................................................. 650

11 . تزيين النساء لفاطمة (علیها السلام) ................................................................................... 652

12 . مراسم زفاف فاطمة لعلي (علیهما السلام) ............................................................................... 652

13 . صديقات أمها (علیها السلام) حضرن عرسها........................................................................... 655

14 . ولادة الإمام الحسن (علیه السلام) ....................................................................................... 655

15 . ولادة الإمام الحسين (علیه السلام) ..................................................................................... 658

ص: 758

الفصل الثامن والثلاثون/هدف سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وحروبه 660

1- عدد سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته وحروبه، وهدفها................................................................. 660

2- معجزة إنشاء الأمة والمد الحضاري! .......................................................................... 662

3- سرايا النبي (صلی الله علیه و آله) وغزواته قبل بدر ............................................................................. 662

4- مشروعية سياسة النبي (صلی الله علیه و آله) في السرايا و الغزوات ............................................................ 665

الفصل التاسع والثلاثون/معركة بدر.. يوم الفرقان 669

1- معالم معركة بدر ونتائجها .................................................................................... 669

1. موقع بدر ....................................................................................................... 669

2. كانت مدة المعركة نصف نهار ................................................................................... 669

3. وعد الله المسلمين بالنصر في بدر ............................................................................... 670

4. عدد أهل بدر مقدس، وليس كل البدريين مقدسين ............................................................ 671

5. كان عدد المشركين تسع مئة وخمسون .......................................................................... 672

6. نزل الملائكة في بدر ومعهم جبرئيل (علیه السلام) .......................................................................... 674

7. وكان الشيطان في معركة بدر.................................................................................... 675

8. كان شعار المسلمين في بدر: يا نصر الله اقترب اقترب .......................................................... 676

2. معركة بدر فرقانٌ في تكوين الأمة الإسلامية................................................................... 677

1. حدد الله هدف معركة بدر ..................................................................................... 677

2. سمى الله بدراً يوم الفرقان ...................................................................................... 678

3. بدر فرقانٌ في تكو ين شيعة العترة .............................................................................. 679

4. كان تشريع الخمس قبل بدر .................................................................................... 680

3- خلاصة معركة بدر .......................................................................................... 681

1. يُسَاقُونَ إلی الْمَوْتِ! ............................................................................................. 681

2. منام عاتكة بنت عبد المطلب................................................................................... 682

3. أثرياء قريش يمولون الحرب.................................................................................... 683

4. جيش النبي (صلی الله علیه و آله) المتواضع الفقير................................................................................ 683

5. عقلاء من بني عبدمناف ضد الحرب، لكن! ................................................................... 685

6. خاف المسلمون من جيش قريش! ............................................................................ 686

7. وخاف المشركون من المسلمين! ................................................................................ 686

8. وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ................................................................................. 687

9. أطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم.............................................................................. 688

10 . أبوجهل ينصح قريشاً!.......................................................................................... 690

11 . شاهت الوجوه!................................................................................................. 690

12 .أسرى من بني هاشم............................................................................................ 691

13 . الرحيل من بدر إلى المدينة..................................................................................... 692

4- أضواء من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر .............................................................................. 694

1. رسالة أبي جهل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................... 694

2. سَیُهزَمُ الجَمعُ وَیُوَلُّونَ الدُّبُرَ....................................................................................... 696

ص: 759

3. من أدعية النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر وغيرها............................................................................ 697

4. وعطش النبي (صلی الله علیه و آله) فاستقى لهم علي (علیه السلام) ....................................................................... 698

5.كانت وقعة بدر يوم جمعة ....................................................................................... 699

6. خاطب النبي (صلی الله علیه و آله) فراعنة المشركين............................................................................... 700

7.أبوجهل فرعون الفراعنة ......................................................................................... 700

8. أبو حذيفة بن عتبة وابنه محمد.................................................................................. 701

9. وخاطب علي (علیه السلام) طلحة في البصرة وقاضي القضاة............................................................. 702

10 . أفطر النبي (صلی الله علیه و آله) وخالفه بعضهم فسماهم العصاة ................................................................ 702

5.أضواء من سيرة علي (علیه السلام) في بدر ............................................................................... 703

1. أحس علي (علیه السلام) بالملائكة وسلموا عليه.......................................................................... 703

2.علمه الخضر (علیهما السلام) دعاء قبل بدر................................................................................. 704

3. بدر أول معركة خاضها علي (علیه السلام) ................................................................................ 704

4. سطع نجم علي (علیه السلام) في بدر ...................................................................................... 705

5. يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي (صلی الله علیه و آله) ........................................................................... 708

6. مدحه النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ورفع بيده.............................................................................. 709

7. وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل (علیهم السلام) ...................................................................... 709

8.كانت بدر ثالث امتحان لأميرالمؤمنين (علیه السلام) ........................................................................ 710

9. نزل جبرئيل بذي الفقار على النبي (صلی الله علیه و آله) في بدر ................................................................ 712

10 . غُلُوُّ السُّلطة في الصَّحابة البدريين، غَيْر علي ................................................................... 721

6. منافقون تحمسوا للقتال في مكة ونكصوا في بدر!............................................................. 722

7. مرضى القلوب «مكيون بدريون!» ........................................................................... 724

8. «صحابة» اتهموا النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه غلَّ......................................................................... 728

9. سبب تعمد «الخلافة» الغلو في أهل بدر؟ ..................................................................... 730

10. التعجب من أغلاط العامة في الصحابة!.................................................................... 731

11. ماذا قال الشيخان لما استشارهم النبي (صلی الله علیه و آله) بشأن بدر؟....................................................... 735

12. افتراؤهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه أخطأ وأصاب عمر! ............................................................ 738

13. معنى: حَتى يثْخِنَ فی الأرض ............................................................................... 740

14. أكذوبة: لو نزل العذاب ما نجی منه إلا ابن الخطاب!....................................................... 740

15. أكذوبة مشاورة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي بكر في العريش................................................................ 742

آيتان في الفرار إلى الصفوف الخلفية ............................................................................. 745

ص: 760

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.