مساعي الوصول الى المثمرات من الأصول المجلد 4

هوية الکتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الجزء الرابع

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

المتبرع الدیجیتالي : جمعیة المساعدة إمام الزمان (عج) في اصفهان

محرر : خانم شهناز محققیان

ص: 1

اشارة

هوية الكتاب

اسم الكتاب: مساعي الوصول الى الثمرات من الأصول

تالیف: سماحة آية الله العظمى السيد علاء الدين الموسوي الغريفي (دام ظله)

الجزء: الرابع

الناشر: موسسة العلامة الفقيه السید محسین الغریفی الثقافية

الطبعة: الأولى

سنة الطبع: 1442ه- / 2021م

ص: 2

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحیم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد المصطفى، وآله الطَّاهرين ذوي السُّؤدد والعُلا واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين والعقبي وبعد:

فهذا هو الجزء الرابع من الكتاب المسمى ب( مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) لسماحة سيدنا المفدى المرجع الديني الكبير والفقيه النحرير آية الله العظمى السيد علاء الدين الموسوي البحراني الغريفي "دام الظله الوارف "البادئ من الباب السادس والمختص بالمباحث اللبية والذي يبدأ ب- (الإجماع والعقل مع ملحقاتهما، والمثنى بشيء من مباحث الحجة ومراتبها، والمنتهي بمباحث التعادل والترجيح وتعارض الأدلة، بعد استحصال موافقة سماحته "دامت تأييداته" على طباعته ونشره وتقديمه بين المطالع الكريم.

راجين منه ومن الجميع التفضل بالدعاء لنا بالتسديد والتأييد في إكمال نشر جميع أجزاء هذا الكتاب القيم، وجميع ما ينتجه يراعه الشريف وقلمه المنيف.

كما نسأل الله تعالى أن يمتعنا بطول بقائه وفي أتم صحة وعافية، إنَّ الله سمیع مجيب.

الناشر موسسة العلامة الفقيه السید محسین الغریفی الثقافية

ص: 3

ص: 4

المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الرابع

قد جعلنا منهجية بحوث الجزء الرابع من كتابنا (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) و مكوناته الرئيسية الابتداء بمقدمتين مهمتين للباب السادس الذي يتعلق ب- (الإجماع اللبي والعقل اللبي) وهما:

الأولى تتمة الأركان الأربعة وهي الدليلان اللبيان (الإجماع والعقل).

الثانية: الحجة الدامغة بين الألفاظ والألباب لعموم وإطلاق الأركان الأربعة.

الباب السادس ويقع في بحثين مهمين:-

الأول: وهو البحث عن الإجماع اللبي وتوابعه من السيرة والشهرة.

الثاني: وهو البحث عن العقل اللبي ودفع ما ألحق به مما عند العامة.

الباب السابع: بحوث الحجة ومراتبها مع بحوث أخرى لأشياء من تفاصيله.

الباب الثامن: وهو البحث عن (التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة).

ويقع في بحوث :-

الأول: وفيه تمهيدان:-

التمهيد الأول: حول سبب عدم تأخير الكلام عن هذا البحث إلى الجزء الرابع من الأصول، وتقدّم وتأخر بعض نماذج مما قد يشبهه ولكنها بدون مطابقة تامة.

التمهيد الثاني: عن سبب اختيارنا لعنوان البحث أعلاه وترك ما عبر به القدامى و هو (التعادل والتراجيح ).

الثاني: جواب المقارنة بين ما جاء به القدامى من "التعادل" و بين ما جئنا به نحن أيضاً مثلهم

الثَّالث: جواب المقارنة بين تعبير القدامى بالتعادل وما قلنا به أيضاً وتعبيرنا بالتّعارض واحتمال معنى الإضراب فيه.

ص: 5

الرابع: جواب المقارنة بين مختارنا مع بعض السابقين من لفظ الترجيح بدون الألف وبين اختيار القدامى معها.

الخامس: التعارض في الأدلة وخواصه المميزة له عن التزاحم.

السادس: شروط التعارض الخاصة.

السابع: الفرق بين التعارض والتزاحم.

الثامن: مشخصات التزاحم بخواصه الأكثر وقواعد الترجيح عليه.

التاسع: قواعد الترجيح في بعض حالات التزاحم.

العاشر: خلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستّة للتّزاحم .

الحادي عشر: ماذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عن الحكومة والورود و المناسبة للمقام

الثاني عشر: ماذا قال المعترضون كالشيخ قدس سره و من سبقه لخصوص الحكومة.

الثالث عشر : ماذا قال السابقون عند تعرضهم لخصوص أمر الورود.

الرابع عشر: ما هي القاعدة في التعارض المستقر هل هي التساقط أم التخيير؟

الخامس عشر: ما المقصود عندهم من كون (الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح)؟ وما هي وظيفتنا؟

السادس عشر: انحصار كون القاعدة السابقة في العرف الدلالي دون التبرعي.

السابع عشر : عود الكلام عن التعارض قبل الاستقرار مع العلاجات بما هو ادق

الثامن عشر: أخبار الترجيح في أمور.

التاسع عشر : التفاضل العلمي العملي في مرجحات ما بين الأدلة.

الباب التاسع: الإجتهاد والتقليد في علم الأصول.

ص: 6

الباب السادس : (الإجماع اللبي والعقل اللبي)

اشارة

وقبل الدخول في صلب الكلام عن بحوثهما لابد من مقدمتين مهمتين:-

المقدمة الأولى: (تتمة الأركان الأربعة و هي الدليلان اللبيان الإجماع - والعقل)

بعد أن مر وتم الكلام الميسور في الباب الثالث وفي بداية الجزء الثاني من مباحث الألفاظ لكتابنا الأصولي (المساعي) - والمرتبط في مضامينها بأهم مباحث الحجة الشرعية من الأركان الأربعة المعروفة وهي (الكتاب والسنة والإجماع والعقل)، وأعنى الأولين منها وهما الدليلان اللفظيان (الأول والثاني) منها مما مضى ذكره وتيسر لنا بيانه هناك مع فروعهما الأصولية الماضية منها -

جاء دور الباب الخامس في هذا وهو بداية الجزء الرابع للكلام عن بقية مقومات الحجة الشرعية من كتاب (المساعي)، وهما الركنان الأخيران من تلك الأركان الأربعة، وهما المسميان بالدليلين اللبيين مقابلة لسابقيهما اللفظيين وهما الإجماع والعقل.

وقبل الخوض في تفاصيل كل من هذين اللبيين (الإجماع والعقل) واحدا بعد الآخر لابد من سبقهما بالكلام عن العنوان الآتي، و هو:

ص: 7

المقدمة الثانية :-الحجة الدامغة بين الألفاظ والألباب لعموم وإطلاق الأركان الأربعة

وهي لناحية أهمية ما على عاتق أهل الحل والعقد الأصوليين الفاعلين في عملية تسيير وتيسير أمور المتعلمين وتنشيط مبتدئي الباحثين بالتسهيلات المتعددة لهم ببذل قصارى جهودهم لهم جميعا لفهم مدارك أمور الشريعة وجميع مصطلحاتها والتبصر فيها لأنفسهم، ولكل طبقات الآخرين من الأصوليين طلاباً وباحثين وأرقى.

و للخلاص أيضاً من مسؤولية الخروج عن مألوف ما اختص به أرباب الأدب اللفظي العام، ولدى أهل كل لسان في قواعد كل منهم الأدبية اللغوية من كل لغة مهما تنوعت ، لا لخصوص لساني الكتاب والسنة ولو في بداية الأمر.

لأهمية الحاجة المثلى لوسائل الإفهام والتفهيم والتفهم اللساني أو مطلق العمل البياني وبنحو المباشرة والتسبيب وبواسطة السمع، أو السمع مع البصر، أو حتى لفاقد السمع بمعونة الكتابة على اختلاف أنواعها اللغوية مع الإشارة المفهمة، أو حتى البصر بمعونة حاسة السمع، أو مع اللمس إذا فقد سمعه مع بصره بمثل الكتابة التخريمية والتثقيبية المتعارفة حديثاً للمكفوفين المسمات ب- (البراي)، وبالأخص كثيراً حال التيسر الكامل، أو عند فرض الأمر الواقع بين أهل الأدب العربي الخاص في تنوع طرق الإيصال والاتصال من لغته ألفاظاً وكتابات وإشارات وعقد ونصب وعلامات وهواتف وتسجيلات صوتية ونحو ذلك مما استحدث له إعلامياً واستعلامياً.

إضافة إلى ما قد عرف قديماً وحفظ في القواميس وكتب القواعد النحوية

ص: 8

و الصرفية والتجويدية والمعاني والبيان والبديع من أمور الفصاحة والبلاغة من مقومات الحجة البالغة نصاً و ظاهراً وعلماً مقطوعاً به وظناً علمياً خاصاً موثوقاً به ومنطوقاً ومفهوماً مأخوذاً بهما، وعلى المنهج المنطقي العام من مباحث الألفاظ، وبما لم يخرج منها عن مستوى تمام ما هو المعقول، لكون علم المنطق خادم كل العلوم وبواسطة جميع اللغات.

وأهم تلك العلوم معارف الشريعة المبحوث عن حجيتها الدامغة الآن والأهم من ذلك كله ما كان موافقاً للمنهج الأصولي، بل والأخص في مباحث ألفاظه.

لكون الأصول هذه تُعد المنطق الفقهي الخاص، والأخص في مباحثه اللفظية المرتبطة بالصفة الأقرب إلى المدركين اللفظيين الماضي ذكرهما كتاباً وسنة

فلابد إذن أن لا تكون ألفاظه يوماً منفكة عن عربيتها في قعر بحري تمام معقولي الكتاب والسنة تصوراً وتصديقاً ذهنياً مقطوعاً به أو مظنوناً خاصاً به من مدارك الأحكام اللفظية المشبعة بأعلى اللبيات العقلية المنسجمة تماماً مع الشرع الشريف ومداركه.

ولأجل الخلاص أيضاً من مسؤولية الخروج عن مألوف ما تعارف عليه أرباب أهل الأدب الإضافي العقلائي العام، وبالأخص من ذلك أعني الإضافي الخاص قديماً قبل نشؤ التّجارب اللفظية والممارسة اللغوية.

بل وحتى حديثاً لو تجردنا عما هو أوسع من عالم المعقول اللبي مثل ما عن وسائل الإيضاح المتعارفة واكتفينا بعجائب المواهب المتقنة والتفكرية الصائبة بأدنى تأمل في مواهب الرحمن الإلهية التي في العقول من عالم الكون والفساد أرضاً وسماءاً وبحراً وجواً وكواكب وكل شيء كما في الآيات التي تدعوا إلى التفكر والتدبر فيها وما يعطى بسببهما من الفيوضات الربانية الهائلة.

ومن هؤلاء في طول الزمان وعرضه من فقد قدرته اللسانية وسمعه، ولكنه لم

ص: 9

يفقد مواهبه الذهنية اللُّبيَّة حتى أنقذ نفسه ومحتوياته الفكرية بحسن الإشارة أو الكتابة ونحوهما من حالات تسيير الآخرين الأقدر منه إلى ما يحتاجه المبتلى كلاً أو بعضاً.

ومنهم من فقد بصره ولكنه لم يفقد مواهبه الذهنية اللبية أيضاً حتى اهتدى أو أهتدي له وبمعونته من اتَّخذ له وسيلة اللمس المفهم مع بقية أحاسيسه مع موهبة الحفظ والذكاء الفطري الوقاد مما مر ذكره.

ومن حالات اللمس ما تفهم عن طريقه كافة المعلومات الأخرى المستحدثة، ومن أهمهم من فقد بصره متأخراً بعد أن دبر لنفسه كل أو أغلب أو بعض ما ينفعه من العلم والعمل الصالح، ومنهم من اجتهد ووفق للمرجعية الدينية من ذوي هذه الصفة.

ومنهم من فقد اللغة العربية أو لم يهتد لدقائقها أو اهتدى لبعضها أو لسطحيات هذه اللُّغة فقط واضطر لمعرفة علومه الحوزوية المطلوبة منه بواسطة وسيلته الإستيضاحية المتعارفة لديه من بقية اللغات و لو مؤقتاً إلى أن يهتدى إلى مضامين ركني الكتاب و السنة.

أو كان من قبيل الأبكم الأصم أو الأعمى وتيسرت لديه وسائله المتعارفة لديه حالة طلبه للعلم وإن ضعفت هذه الوسائل عن مثل تلك الإستيضاحية الأصيلة للاعتماد الأفضل والأهم عليها اعتيادياً.

لكن قد يكون بل كثيراً ما يكون الاعتماد على ما فوق الوسائل الاعتيادية المذكورة بمثل الفيوضات الإلهية الحاصلة لمثل هؤلاء من بركات المعاني اللبية غير المحدودة ما دام الإخلاص وحسن النوايا والجدية مثبتة في قلوبهم، وقد نبغ كثير من جهابذة العلم عن هذه الطرق غير المألوفة مما لم يتوقع عادة وصاروا من المراجع المهمين أيضاً.

ص: 10

إضافة إلى أن أهل المواهب الإلهية الذهنية الكاملة عن أسماعهم وألسنتهم وأبصارهم لا يحق لهم هجران معقولياتهم اللبية بإهمال ما أتحفوا به من وسائل أخذهم وعطاءهم في توسعتها والتعمق بها، لأن بهذا الهجران مع كونه قد يكون ناشئاً من عين الغرور والاتكالية على قدرات الآخرين البارعين، وهو من العيب بمكان.

فإن من تمام السعي للنزول لحضيض الجهل الموجب للأخذ من الغير الذين لم يحرز إخلاصهم، بل كثيراً ما يصل تارك التفكر وهاجره وأصلاً إلى ما هو الأشد سيرة البهائم إذا انعدم المرجع الكفوء، أو لم يتيسر له من يسعى لإنقاذه من الأكفاء المحبين.

بل قد يضاف إلى هذا أنَّ استخدام اللّسان والسمع والبصر وغيرها في أمور الاستزادة التفكيرية اللبية المطلوبة مع ما ذكرناه والأهم منه ما لو كان في طلب العلم المقارن للاعتزاز بالنفس وحباً بالتنافس الذي دعا له القرآن والسنّة كما لو قل المخلصون من المراجع -

فلابد أن يعطى حسب العادة التواصلية الدراسية والمثابرة الجدية التي فيها الأضعاف المضاعفة من النورانية التي لا يضاهيها مقدور أحد، حتى من حوى اللّسان والسمع والبصر وعلى أحسن مستوى من الصحة والعافية لو لم يستثمر علومه بمعونتها تماماً لاستقلالية بعض أو كثير عبقريات عن هذه الوسائل، وإن أفادته سطحيا في الطريق

و لذا قد يحاسب إلهياً على نورانيته تلك كل عاقل مقصر، ليحافظ عليها ويرعاها، لأنه قد يكون تاركها كالأبكم الأصم الأعمى أو ما يشبه ذلك ممن يعطل حواسه ولا يرعى أمور لبياته.

وقد خلق الله تعالى العقول قبل خلق آدم علیه السلام وجعلها أول الرسل للإنسان، بل

ص: 11

هي الرسول الباطني، وعن طريقه اهتدى من اهتدى من البشر وقبل ممارسة التداول اللفظي للغات، وبالأخص كثيراً من أوحي إليهم من الأنبياء والملهمين.

بل قيل إن أرسطو طاليس ما وحد الله جل جلاله إلا عن طريق عقله بعد نبي الله آدم وشيت علیهما السلام.

وحيث أن العقل كما في الحديث القدسي المعروف عند الله تعالى أنه به يثيب وبه يعاقب.

فلابد أن يكون كل عاقل من البشر حتى قبل إرسال الرسل وبعثة الأنبياء متمتعاً بهداه الفائق مع كامل أحاسيسه الطبيعة الفطرية، وإن لم يمارسها تماماً كما ينبغي، بل يحب مع الآخرين لنفسه وأهله وللأخرين بالمودة والألفة ودعوتهم للاستقامة النوعية والإذعان المشترك لوحدانية الله وشكر أنعمه بكل مصاديق عبادته على نعم الوجود العامة والخاصة التي من ألزم لوازمها غير المنفكة عدم الاعتداء على الآخرين، وإن سبقته الملائكة في عقولها بحسن الإطاعة - كما حصل من الأول بين هابيل وقابيل وهو جريمة قتل النفس المحترمة مما أشعر القاتل المفسد في الأرض فوراً بالندامة بذنبه العظيم الحاصل من وسوسة إبليس "لعنة الله" عدو القاتل والمقتول وعدو أبيهما آدم علیهما السلام الذي أنزله مع زوجته حواء من جنتهما بحسده الأعمى إلى هذه الدنيا المفسدة الفانية وبندامة الخزي لما رأي القاتل الغراب الذي لم يعقل حينما اهتدى ليدفن ميته .

ولهذا اهتمت الكتب السماوية والألواح الربانية بالاقتضاء التام من الحكم الإلهية لإنقاذ البشرية التي قد يفضل المعصومون من رجالها ونساءها حتّى على ذوات الملائكة القدسية من إغراءات النفس والهوى وإبليس والدنيا الدنيئة بمجيء تلك الألواح والكتب بالشرائع الدينية المحفوفة بالمعاجز الخارقة للعادات للإسراع بتصديقها على أيدي الأنبياء والرسل وأولى العزم المكلفين ببثها ونشرها، لتكون

ص: 12

حاكمة على العقول المستضعفة لو استقلت وحدها في كل شيء عن مبادى السماء العلية والإعجازية.

وآخر تلك الكتب كتاب خاتم الأنبياء والمرسلين المصطفى وهو القرآن العظيم الذي حوى توصيات جميع تلك الألواح المهمة والكتب وتعاليمها وزيادات، لتدول العادلة العظمى في الكرة الأرضية بالدولة الموعودة الخاتمة ولو بتنجيزها على يد الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه التلك التعاليم والتوجيهات هو وجوب ولزوم الاهتمام برعاية حقوق العقول والأفئدة والألباب تحت ضلّ تلك الشرائع السماوية، لئلا تسخر لصالح النفوس الإمارة وبقية المغريات التي أقل ما في مخاطرها هو الخلط بين الحسن و القبيح.

وللاهتمام بها قبل كل شيء كثيراً وعلى هذا النحو من النهج جعلت ألفاظ العقول والألباب معتنى بها في آخر الآيات الشريفة كرموز تنبيهية لتدلل على أعلى ما يجب أن تستخدم ألفاظهما من أجله في الحياة تحت الظل القرآني وظل السنة دون أي استغلال خطر عنهما.

و كم من عبقري جهبذ حباه الله تعالى من أعالي هذه الأفكار اللبية ما لم يقدر أن يباريه أي منافس، حتى إذا كان العبقري ممن كان دون العصمة من الأنبياء والأئمة علیهم السلام و كان عي البيان، أو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وإن لم يعجز قدرة عن تعلمهما، أو كانت تضعف عنده حالاتهما بالاعتماد على تلقيانه من أساتذته المهمين وعلى إخلاصه في حسن القصد وحسن الأخذ وعلى الذكاء والحافظة الجيدين، لقوة قفزاته التفوقية على الاعتياديين، وإن قل أن يثبت لنا التأريخ الصحيح الوافر الواقعي من هذه النماذج للاقتداء بهم في بعض موارد العسرة.

فالأمر سهل في أن تثبته القدرات الإلهية وإن كانت في وفرة فعليتها إعجازية،

ص: 13

فإِنَّ الله تعالى فعل الإعجاز في عموم الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين علیه السلام.

فصنع تعالى ما فوق هذه المقاييس كإتحاف سيد الكائنات الرسول الأعظم الخاتم صلی الله علیه و آله بإعجازاته المتنوعة و الجمة والنابعة من نقاوة لبياته التي أهلته ليكون المختار لهذه الأمة دنيا وآخرة، وإن ترجمتها دقائق معاني الوحي المبين بما جمع ألفاظ ولبيات ما بين الفضيلتين من المنقول وخير المعقول في القرآن والسنة الشريفة ومن بعده خليفته ومعجزته وباب مدينة علومه أمير المؤمنين علیه السلام في فصاحته وبلاغاته.

وهكذا بقية الصفوة علیهم السلام لينهج بقية السالكين في مثل هذا الطريق المعبد الرباني لیزدان الاستثمار من اللبيات من النمير العذب الوارد عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم و آله علیهم السلام وبما يطابق التعاليم الإسلامية دون غيرها.

وبتكامل الناحيتين اللفظيتين مما مر ذكره من المعاني التي حواهما الكتاب والسنة مع الناحيتين اللبيتين مما أشرنا إليهما بعد ذلك، وهما محل كلامنا في هذا البحث مما سنبدأ بتفصيله كما وضعه الأصوليون في التسلسل العلمي الآتي قبل الأصول العملية وهما (الإجماع والعقل) حينما يشتد بعضهما ببعض حسب العادة الاصطلاحية المتبعة إلا ما قل وشذّ من المواهب الخارقة.

لابد أن تظهر تلك الحجية الدامغة في الشريعة المقدسة وفي جميع الاصطلاحية علماً وعملاً، بل بما لابد أن تفوق أي حجة علمياً إذا استقلت الشريعة وإن دعمت تلك الحجج المستقلة ما يسمى بالدقائق الفلسفية، لأن من مباني الشرعيات العرفيات الخاصة والمتناسبة مع القانون التسهيلي الإرفاقي المناسب لحالات الأمة المتفاوتة بين ذوى القدرة التامة وأهل العسر والحرج.

ومن حالات ذوى العسر والحرج ما يمكن منه أن تفسح الشريعة شيئاً من مجالها لقبول بعض المقررات العلمية المستقلة كالطب والصيدلة عند تشخيص أهل الاختصاص المحكم لبعض المرضى بمثل ترك الصوم أو تقليله في الأيام أو التدني في

ص: 14

الصلاة من الحالة الاعتيادية إلى الحالة الأخفض في الكيفية كالجلوس بدل القيام أو الإيماء بدل الركوع والسجود الاعتياديين ونحو ذلك.

وكذلك في بعض قرارات العلوم الأخرى المستقلة لو أيدها الشرع تجاه انحصار بعض أعمال المكلف الذي لم يقدر إلا على ما قررته مما تحت العناوين الثانوية وقاعدة الميسور بدل حالة الترك الكلّى الاعتيادي.

ولأجل أهمية الخوض في مطالب هذا المقام حيث موارد الحاجة المتعددة في الأصول حول خصوص الأمور اللبية وما يرتب عليه أمر أهمية ذكر ما يتعلق بالشيء لإيضاح ما يحقق معنى الحجة الدامغة.

ومن أجل الابتلاء بتعدد المذاهب الإسلامية وتشتت الآراء الأصولية بسبب تعدد مشاربها وما نشأت عليه وتطرف البعض، بل الكثير منها في المنقول والمعقول والقواعد الأدبية اللغوية والمقاصد اللبية المعتبرة وحباً بالتلاقي العلمي والعملي الثبوتي والإثباتي وبما يلتقى بواقع ما يرضي شرع الله تعالى ورسوله صلی الله علیه و آله بدون وضع وابتداع أو بما تظهره القواعد الأصولية المتفق عليها عند الجميع وإن قلت نسبها بيننا وبينهم لتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد وما ينسجم معها، وعلى كلمة سواء ولو على النهج التقريبي دفعاً للتعصب أمام العدو المشترك الواحد -

لابد أن نقول ما يناسب أمر الركنين اللبين من الأركان الأربعة التي تتقوم بجميعها الحجة الأصولية وهما (الإجماع والعقل) كما لا يخفى.

وقبل البدء بتفصيل الكلام عن كل منهما على حده وكان هناك من الحديث ما يمكن أن تتفق النتيجة معه بالنحو المشترك أو المتشابه بينهما فلا بأس بتقديمه قبل التفصيل ولو موجزاً.

ص: 15

هل تأثير موضوعية لبية الإجماع والعقل في الجملة أم بالجملة؟

لابد من التنبيه على الأمر المشترك أو ما يشبهه في تصادف ما عرف بين أهل العلم والمتتبعين من الأصوليين عن أمر الإجماع والعقل وإن عرف من ظاهر أمرهما حسب تصور بعض سطحياً أنهما المكملان للأركان الأربعة المثبتة للحجة الشرعية.

فإنهما بعد التأمل والمتابعة الدقيقة - وإن سبقهما الكتاب والسنة في ضخامة ما تتحقق به الحجة منهما بالأساليب الأصولية المتعدّدة في الألفاظ والمعاني غير المنفكة عن اللَّبيات وبالنحو الأكبر قبل هذين اللبين الخاصين -

فإن المحقق عن هذين اللبيين بعد تأكد تفاوت نظر أهل كل علم وعرف بما يرضيهم ويقنعهم في اجتماعاتهم وبين كافة المجتمعات دينية وغيرها.

وبعد العلم بتفاوت نظر المذاهب المختلفة عما هو مستقر عند أهل البيت علیهم السلام حول إجماعهم المغاير لمعاني الإجماعات الأخرى.

وبعد تأکد تفاوت نظر بقية العلوم ومنها الفلسفة غير المقيدة بالشرع والمنطق المتفاوت عن الأصول الشرعية بأوسعيته، بل حتى التي تسمى بالشَّرعيّة إلا أنها قياسية وتمثيلية في بقية المذاهب غير الإمامية في أساليب تخريجاتهم العقلية حول لبية العقل -

لابد أن يكون مثل هذا الإجماع ومثل هذا العقل منفصلين عن أن يكون لهما موضوعية تامة في الفقه وفي عرض الكتاب والسنة إلا ما اصطلح عليه منها بالأخذ في الفقه عند الإمامية.

فالموضوعية في الفقه في الجملة لا بالجملة وإن كانت لبية كل منهما قابلة لأن تقبل في إثباتها أو تعقل في خصوص عالم الثبوت في ميدان الأمور العامة غير الفقه.

وإن حصل إجمال في عرض هذا المعنى الموجز عن ما اشترك فيه هذان الركنان

ص: 16

اللبيان فسوف يتضح الأمر كثيراً عند التفصيل عن كل منهما.

وبعد هذا النحو من الإيجاز لنبدأ بالكلام عن الأول من اللبيين أو الثالث الأركان وهو مبحث الإجماع.

ص: 17

المبحث الأول / (الإجماع)

وفيه فصول:

الفصل الأول المعنى اللغوي

قد بدا الباحثون في الإجماع أصولياً ولنكتة ظهرت من خلال تعمقهم في البحث أنه كان البحث عن كل ما يقتضيه الحديث عنه لفظياً ولُبياً، للوصول إلى نتيجة تحقيقية مطمئنة، ولو لم يكن بنحو التحديد المنطقي الدقي التام له، لتعذره أو تعسره في أصولنا الصناعية اللازمة للاستدلالات الفقهية المعتبرة شرعاً، لغرض التعرف عليه ولو عن طريق جمع الأفراد ومنع الأغيار مما سيأتي ذكره في البحث إن أمكن الوصول من خلال ذلك إلى كون الإجماع حجة لبية قابلة لأن يتمسك بها أو يستفاد منها مستقلة أو منضمة إلى بقية الحجج الثلاث الأخرى أو بعضها، وإلا فلابد بيان شيء قبل الخوض في المقصود.

وذلك بناءً على أنَّ الإجماع من الأمور العرفية العقلائية العامة في كل عصر وزمان ومصر ودون أن يختص بقوم دون آخرين من أعراب ومدنيين ممن اختبروا الحياة وتخضرموا فيها قروناً وعقوداً وسنين من أميين ومتعلمين، وليس لملة دون أخرى، ولا لعلم وصنعة حرفية دون أخرى، ومن طبيعة التعايش التأريخي القديم الجاهلي وما سبقه وما جاء بعده من الجديد البادي من شروق شمس الإسلام حينما تأسس فكر التدوين اللغوي وكتب ما حفظ من المعاني اللغوية ودونت القواميس على هذا الأساس بكل ما يعنيها -

ص: 18

لم ينعزل المسلمون كمن سبقهم في اللغة العربية العامة مع نبيهم صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام و من حولهم وفقهاءهم عن من سبقهم من بقية أهل الملل والنحل وبعض المبادئ السماوية وغيرها ممن حفظوا اللغة العربية وتداولوها وورثونا إياها - في شمول ما جمعه اللغويون في تلك القواميس حول لفظ هذه المفردة وهي (الإجماع) وكل ما حوته من معانيها.

ومنها ما نقصده مما أشرنا إليه أعلاه للنظر فيما جمعته المفردة من تلك المعاني اللغوية العديدة والتدقيق فيما يتناسب مع الهدف المنشود بفصله عما لا يتناسب معه من الأغيار، وهو ما يحتاج في البداية إلى استعراض بعض ما يتيسر ذكره مما قد يتساوى لفظه الآخرين في الذكر تحت المشترك العام وتفاوت بعضها عن بعض معنوياً قليلاً أو أكثر على ما تبرهن عليه القرائن المميزة بعضها عن بعض.

و من ذلك ما في الحديث ( خذ ما اجتمع عليه أصحابك واترك الشاذ الذي ليس بمشهور )(1) وهو ما إذا فسر الإجماع فيه بما يتساوى مع الشهرة، وهو ما لو ظهر منه في العموم اللغوي عدم التعارف على لزوم ربطه بالاصطلاح الآتي ذكره.

ومنه أنه سئل أبو جعفر علیه السلام عن معنى الواحد فقال (إجماع الألسن عليه بالوحدانية)(2) أي لما دعت إليه الفطرة السليمة التي لم تلوثها المغريات المعاكسة بالشرك والعياذ بالله تعالى في باب الاعتقادات الحقة دون الحاجة لينضم هذا الأمر إلى ما سيأتي من المعنى الاصطلاحي.

فضلاً عما لو أدّى هذا القول من الإمام علیه السلام الى عدم منعه من أن يراد أيضاً في باب الأعداد أنه لا يختلف اثنان في أن الواحد أول العدد مع ثبوت وإثبات المصداق

ص: 19


1- المعتبر - المحقق الحلي - ج 1 ص 62 عن أصول الكافي ج 1 كتاب فضل العلم ص 86.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 118.

الأسمى على وحدانية الله تعالى دون أي شريك.

ومنه مجيء الإجماع بمعنى الاتفاق، ومن أهمية حصول التوحد في الأقوال والآراء بين المجتمعين بنحو تصادفي بحيث لم ير كل منهم الآخر، وبدون تواطؤ منهم على معنى اتفقوا عليه لا في الزمان ولا في المكان، وهو من أهم حالات ما يدعو العقلاء إلى تصديقه.

ومن هذه المصادفة غير العادية أطلق على الإجماع بأنه (العزم)، لشدة عزم كل من يعرف هذه الاتفاقية بالأخذ بكل ما يظهر منها، ولكن تكامل الحجة لا يتم شرعاً مع هذه العمومية إلا بما هو آت من الاتفاق المخصوص دون الاتفاق العام.

ومنه قول الشيخ قدس سره في العدة (ذهب الجمهور الأعظم والسواد الأكثر إلى أن طريق كونه حجة السمع دون العقل، ثم اختلفوا، فذهب داوود وكثير من أصحاب الظاهر إلى أن إجماع الصحابة حجة دون غيرهم من أهل الأعصار، و ذهب مالك ومن تابعه إلى أن الإجماع المراعى هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم غير أنه حجة في كل عصرهم، وذهب الباقون إلى أن الإجماع حجة في كل عصر ، ولا يختص ذلك ببعض الصحابة ولا بإجماع أهل المدينة).(1)

أقول: إن الشيخ قدس سره لم يترك رأيه الشريف الإيجابي بعد هذا المنقول إلا بما سيتضح منه ومن غيره، إلا أنَّ هذا المنقول عن العامة وبعض مذاهبهم لابد أن نبقيه في مصاف ما تذكره القواميس اللغوية العامة لخلو معانيها عن المصطلح الإمامي الآتي، وإن دخل في المصطلح الأصولي الخاص عندهم.

وإذا أردنا إخراجه من العموميات اللغوية العامة وإدخاله في الإسلاميات دون إسلاميات الإمامية وأصولها فيمكن أن نطلق عليها بالإجماع أو الاتفاق الخاص ولو

ص: 20


1- عدة الأصول (ط. ق) - الشيخ الطوسي - ج 3 ص 64.

بمعنى الاصطلاح السطحي لهم.

وأما الذي عليه الإمامية فسياتي الاصطلاح التام لهم، بمعنى ما هو الاخص دون الخاص فقط.

ومنه الإجماع الذي اختاره بعض الصحابة الذي أنتجته سقيفة بني ساعدة مخالفة لخلافة أمير المؤمنين علي علیه السلام الشرعية بعد النبي صلی الله علیه و آله المباشرة ومعارضة لبيعة يوم الغدير المتواترة على رؤوس الأشهاد، والذي يمكن أن يكون معبراً عنه فيما نقله الشيخ قدس سره سابقاً في كتابه العدة، وهو وإن أنتج بعد حكم المشايخ الثلاثة اختيارهم لأمير المومنيين الله كونه رابعاً للخلافة في انسجام خلافته الأصيلة هذه الرابعة بعض الشيء مما قد يتصور البعض لأجله مصداقية هذا التعريف الاصطلاحي الآتي.

إلا أنه في الجملة غير الواضحة دون التفصيل اللازم لهذا النوع من الإجماع مع أنَّ هذا التصور المزعوم في واقعه عقيدة وعملاً لا يقل عن كونه وهماً أو إرضاء من ذوي النفوس التواقة لمجاملة الآخرين ولو على حساب المظلومين دوماً من مدققي الإمامية، وهو مما لا يرتضى عقيدة من جهة دقة أدق.

لأن الاصطلاح الآتي من أهم لوازمه البينة بالمعنى الأخص عدم مشروعية خلافه المشايخ الثلاثة قبله صلی الله علیه و آله، و إن كان مرجع الكلِّ في الكلِّ أيام حكمهم كما أهل لذلك لإمامته المسلمة بينهم شاءوا أم أبوا اغتصبوا الخلافة الأولى منه في البداية أم جعلوه رابعاً.

وحجية قوله وفعله وتقريره - في النظر الفقهي والأصولي الآتي له طريقيا مع ما هو الاعمق من الحالة اللبية وكذا الأنبياء والحجج الميامين الأحد عشر علیهم السلام بعد النبي صلی الله علیه و آله وبعد أبيهم علیه السلام - ثابتة ، سواء ثنيت لهم وساده الحكم أم لم تثن.

وإن وردت من أولئك الصحابة بالقول المتواتر لفظاً ومعنى من الفريقين اعترافات عديده جداً، لاحتياجهم إليه واستغنائه عنهم بالحقيقة، وأفضليته في عديد

ص: 21

الأمور عليهم.

ومن أجل هذا وغيره ثبت في الروايات الصحيحة عنه علیه السلام حتى التي من طرق العامة إذا كانت مقبولة ومعمولاً بها كالمرويات الشريفة منهم عنه من طرق الإمامية ما لم تختلف عن ثوابت الإمامية ودون المرويات عن غير الأئمة الباقين من أبناءه علیهم السلام بالنتيجة، لكونها مشروطة بأن تكون في الغالب من طرق الخاصة وهم الإمامية، لكثرة ما حصل من التلاعب من قبل غيرهم بالوضع والدس والتلفيق أيام الدولتين الأموية والعباسية مع المضايقات لأولئك الأئمة علیهم السلام إلا ما قل وندر من روايات الثّقات من العامة عنهم.

ومع ذلك كلّه لا يتحقق بهذا التعريف للإجماع معنى إلا بما وجهناه لا بمستوى ما يتوهم المتوهّم لما مرّ، ولو لاشتراط طلحة والزبير لرضاهما بخلافته مكان الخليفة الثالث، على أن تكون سيرته بعد كتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله على نهج الأول والثاني، أي حتى لو اجتهدا في مقابل النصوص، وهو غير مقبول عند الإمام علیه السلام إلا باجتهاد رأيه الموافق للنصوص.

ولذلك لما ثنيت له تلك الوسادة بعد الخليفة الثالث حاربه الناكثان ومن بعدهما القاسطون والمارقون.

وكذلك بانت نتائج اتجاهات باقي المسلمين من غير الإمامية حتى اليوم بما لم نحسد عليه بمثل قلة الأخذ والتقيد حتى بهذه الخلافة الرابعة إلا ببعض المظاهر السطحية.

بينما الإمامية وأتباعهم التزموا بقوة علاقتهم بالخلافة الأولى وإن لم يضادوا إخوانهم الآخرين إن بقوا متمسكين بإمامته في تلك الرابعة حباً للألفة ورغبة في توسع الأخوة الإسلامية العامة مع رسمية التزامات الفريقين دون تنازل أو تشاحن.

ولعدم سداد ما ذكرناه عن هذا النوع من الإجماع، لعدم كونه مانعاً للأغيار

ص: 22

لابد أن يبقى في محفظة القواميس اللغوية، دون أن يكون اصطلاحياً.

ومنه ما يمكن أن يقترب من المعنى الاصطلاحي للإجماع ولو لبعض من تسرع إلى ذهنه البسيط هذا تلك التصورات ولو من بعض النواحي دون جميعها، بينما الواقع الاصطلاحي التام خلافه، وإن كان هذا النحو من الاقتراب من المعنى المدعى - إن أمكن تعقله في الجملة الثبوتية - لم يتصور إلا عند الإمامية بالنحو الأشد، دون الباقين من عامة المسلمين.

لأن حجية الإجماع عند هؤلاء الإمامية لن يكون لها وجه على ما سيأتي في محلّه القادم إلا بوجود الإمام المعصوم علیهم السلام في ضمن المجمعين، وهو ما لم يعتقد بشيء منه وحده بقية الآخرين من غير الإمامية، وإن أذعنوا ببعض مظاهر أخرى من ذلك تبعاً لما قد يطلقون عليه بإجماع الصحابة المعينين عندهم دون الأئمة الخواص عند الإمامية الإثني عشر علیهم السلام، لو لم تنتف صحبة المولى أمير المؤمنين "سلام الله عليه" عنهم، بل هي البارزة، وهو الإجماع الذي نسميه بإجماع الواجبات الضرورية بين كل المسلمين.

بحيث لا يختلف في أمر وجوب كل منها جميعاً اثنان من المسلمين، إماميهم وغير إماميهم كأصل وجوب الصلاة وأصل وجوب الصوم وأصل وجوب الزكاة وأصل وجوب الحج وغير ذلك، حتى مع اختلاف المبنى عند كل من الفريقين.

لأن مبنى كل منها عند الإمامية هو حجية قول المعصوم علیهم السلام من النبي صلی الله علیه و آله والأمام علیه السلام مع الضرورة الزائدة على الإجماع ، وهو عدم صحة إنكار كل منها.

ومبنى كل منها هو حجية قول الصحابة على ما حدد عندهم، وإن صاحب ذلك شيء من الضرورة غير القابلة للإنكار من أحد منهم حتى لو اقتصرت على مجرد الظواهر المعروفة عنهم نوعاً.

لكن هذا النحو من الاقتراب المشار إليه من المعنى الاصطلاحي للإجماع، الذي

ص: 23

قد يتكون في الحقيقة حتى من إجماعات متعدّدة لكل واجب ضروري مما مر ذكره وحتى من مختلف طرق فرق المسلمين المتعددة مع طرق فرق المسلمين المتعدّدة مع السطحية المتصورة ودقة التعريف الآتي تحت العنوان الاصطلاحي عند الإمامية في أصولهم مع اختلاف مبنى الإمامية عن مبنى غيرهم مما مر ذكره، وبالأخص كثيراً في بعض الفرعيات واختلاط المبنيين في المصداق الواحد الذي ذكرناه وهو إجماع الواجبات الضرورية الذي تظافرت مصاديقه عليها، إضافة إلى تضارب آراء المذاهب الأربعة الأصولية والفقهية فيما بينهم في الفرعيات وبالنَّحو الذي لا يمكن السيطرة عليه إلا في المعنى الموحد الواضح وهو كل الضروريات وما تلائم معها فيه لصالح التوحد المذهبي. وعن مثل ذلك استكشف بعض رجالنا الفقهاء قدس سرهم قوة جانب من جوانب هذا الإجماع من اختفاء نسب أحد المجمعين من رجالنا الإمامية لنكتة غيبته عجل الله تعالی فرجه الشریف

فلابد من أن يقال بعدم وجود مجال لما يشبه التعريف الاصطلاحي للإجماع في هذا المعنى الأخير، فضلاً عن محاولة تمام التعريف.

فإنه مع فرض إمكان ادعاء سطحية جمع الأفراد بين الفريقين فلا مجال لهذا الجمع بنحو الدقة مع عدم إمكان ووقوع منع الأغيار، لما مر ذكره من بعض الأسباب، ولتفاوت مصاديق الواجبات الضرورية المذكورة أعلاه في ثوابتها الفرعية عند الإمامية عما عند غيرهم في باب الأدلة الأصولية، لعدم الاتفاق عليها في ذلك فيما بين مذاهب العامة أنفسهم في الأدلة وتفاوت المدلولات.

إضافة إلى ما مر ذكره من تفاوت أنظارهم في الإجماع على ما بينه الشيخ الطوسي قدس سره في العدة عما اختلفوا فيه.

فلضبط الأدلة عند الإمامية ومنها الإجماع الآتي لابد من عزل هذا المعنى الأخير لصالح خصوص القواميس اللغوية، وإن أدخلناه ما سبقه في الأمور الإسلامية العامة بعد الأعم اللغوي أو الاصطلاحي العام دون الخاص.

ص: 24

الفصل الثاني المعنى الاصطلاحي الخاص

قد أشرنا في السابق وصرحنا أيضاً بعد ذلك بأن الإجماع بما هو إجماع عند الإمامية لا قيمة علمية ،له سواء قل عدده أو توسط في العدد، كما لو أشبهوا عدد التواتر أو استغرقوا الجميع ما لم يكشف عن قول المعصوم علیه السلام، وإن شبهوه في بعض تعابيرهم بأنه كالخبر المتواتر.

فلمجرد تشبيه قوة حجيته بقوة حجية التواتر الجامع القطعية المحققة في كلِّ منهما مع فارق لبية الإجماع - لحمله مجرد رأي الإمام دون لفظه ولفظية المتواتر - ولجامع الكاشفية بين الإجماع والتواتر أيضاً، أي كما أن الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلاً على الحكم الشرعي دائماً بل بواسطة القطعية المستفادة من تواتر الخبر.

فكذلك الإجماع اللبي ليس بنفسه هو الحجة المقطوع بها وإن كان هو الكاشف ظاهراً ، وإنما الحجة فيه هو الأمر المنكشف، وهو رأي الإمام المحرز دون الأبعد.

وهكذا الأمر في حجية هذا الإجماع في الذين قل عدد أفرادهم من المجمعين أواستغرقوا في معنى ما يمكن أن يستفاد من معنيي الحجة اللبية.

ولغرض الوصول إلى ما قيمته علمية وعملية متناولة في اليد استدلالياً في مواردها بها لابد من استعراض طرق محتملة وردت في الأصول.

الطريق الأول: الإجماع المسمى بالدخولي

قد جاء في بعض المصادر عن السيد المرتضى علم الهدى قدس سره على ما نقل عنه قوله (إذا كانت علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم فكل جماعة كثرت أو

ص: 25

قلت كان الإمام في أقوالها فإجماعها حجة)(1)

أقول: وهو ما سموه بطريقة الحس أو الطريقة التضمنية، وهي معروفة عند القدماء ومنهم السيد المرتضى قدس سره ومن سلك مسلكه.

ولذا جاء في العدة للشيخ الطوسي قدس سره أيضاً بعد ما نقلنا أيضاً في الحقل اللغوي بعض آراء العامة حول إجماعهم قولاً (والذي نذهب إليه أن الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وإن ما يجمع عليه لا يكون إلا حجة، لأن عندنا أنه لا يخلو عصر من الأعصار من أمام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول صلی الله علیه و آله، و قد دللنا على ذلك في كتابنا " تلخيص الشافي " واستوفينا كلّما يسأل عن من ذلک من الأسئلة، وإذا ثبت ذلك، فمتى أجمعت الأمة عن قول فلابد من كونها حجة لدخول الإمام المعصوم علیه السلام في جملتها(2)

أقول: إنّ التلاؤم فيما قاله السيد المرتضى قدس سره و الشيخ الطوسي قدس سره في معنى الإجماع الدخولي ثابت، وكذا وجود الإمام علیه السلام بين كل المجتمعين، وكذا في النسب الأقل ما دام الإمام علیه السلام هو صاحب الحجية القاطعة دون الخصوصية في العدد قل أو كثر، لأن (إثبات الشيء "وهو الكل" لا ينفي ما عداه) من العدد المتوسط والقليل ما دام الكل مطلقاً في عبارة الشيخ قدس سره إن لم يمتنع النسب الأقل بصراحة للبركة الدائمة و التّامة بدخوله لهذه الأمة ولو تقريراً.

وعلى أي حال لو لم يمتنع وجود احتمال آخر بين القولين الكريمين للعلمين قدس سرهما أن و هو ان يقال بأنَّ في الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي يدور عليها مدار

ص: 26


1- أصول الفقه للمظفر : ج 3 ص 93 عن الذريعة في أصول الشريعة، طبعة جامعة طهران، ج 2 ص 656-603.
2- عدة الأصول (ط.ج) - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 602، وراجع تلخيص الشافي ج1 59-102.

الإجماعات الفقهية ما هو ممتنع عادة من ذلك، وإن أمكن ذاتاً، لخطورة ما يتحقق أجله ادعاء رؤية الإمام علیه السلام بعد هذه الغيبة المقتضية للمفسدة، إلا بمعنى ما لو تحقق مثل هذا الإجماع مبتدئاً من زمان ظهور المعصوم علیه السلام واستمر إلى ما بعد هذه الغيبة ناجحاً إلى هذين العلمين وأمثالهما قولاً وفعلاً وتقريراً -

فله وجه قابل للاحتجاج به على أنه من نوع الإجماع الدخولي، وإن انصرف كلام بعض الأعلام إلى ما هو غير هذا المعنى مما هو مشكل جداً، وهو ادعاء أحد بالتشرف بلقاء الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد هذه الغيبة وأخذه حكماً منه ونقله عنه بعنوان الإجماع، لتغير هذا المعنى عما افترضناه من المعنى الصحيح مع تأكد ما ورد من التشديد في تكذيب ادعاء الرؤية في هذه الغيبة.

إضافة إلى أن جعل مثل هذا الإجماع من نوع الاصطلاحي من الأشد إشكالاً.

وخلاصة الأمر بأن الدخول الذي أوضحناه - بما كان هو الممكن في ذاته والمستمر إلى هذه الغيبة مما ابتدأ به من زمن الظهور دون ما عرف توجيهه عن بعض آخرين مع إمكان أن يراد من دخول شخص الإمام دخول رأيه الشريف ولو تقريراً فلا بأس به وهو الصحيح دون أن يُعرف بشخصه بين المجمعين.

وطريق تحصيل ما يفيد من هذا المعنى أما بالإجماع المحصل وهو أن يتقن الفقيه بنفسه تحصيل وجود رأي الإمام علیه السلام بين المجمعين باستقصائهم مستمراً مما كان أيام الحضور إلى أيام الغيبة بتتبع أقوالهم وبالنحو الاتفاقي الذي بينا معناه سابقاً وصادف من بين أقوال أولئك المجمعين من الفقهاء من كان بعضهم مجهولاً في نسبه، بحيث تم له قرائن القديم والحديث ما يطمئنه بأن من بين هذه الآراء الإيجابية الإتفاقية مثلاً رأي الإمام أو أن يتواتر لدى هذا الفقيه من بين بعض الأعصار والأمصار النقل الاتفاقي القطعي الحاوي لهذا الرأي الشريف بين الجمع المتواتر من القديم إلى عهد الغيبة من غير أن يعلم هذا الرأي للإمام بشخصه.

ص: 27

وقد استفاد الأجلة من علماءنا من خلال أهمية كون الجهل في نسب بعض المجمعين لهذا المعنى عدم إضرار مخالفة بعض معلومي النسب لمعنى هذا الإجماع بما لا يغير في جوهر المعنى المحفوظ بين المجمعين من المخالفة.

وهذا النوع من الإجماع مما يجوز أن يتعبد به.

الطّريق الثاني: الإجماع اللطفي

ومن الطرق المحتملة في المقام ليكون الإجماع قابلاً لأن يحتج به في الفقه الإسلامي لدى الإمامية إن كان التمسك به لديهم مع بقية الأدلة المتعارف هو طريق قاعدة اللطف الإلهي.

علماً بأن أساسيات هذه القاعدة في نفسها تكويناً وتشريعاً عقلاً ونقلاً لا شك في ثبوتها وإثباتها في مجال العقائد والإلتزامات الفقهية.

لكون كل عاقل بعد أقل تأمل في مختلف المواهب الرّحمانية لو خُلّي وحسن فطرته السليمة من إغراءات الأبالسة ومخادعات الدنيا الزائفة والنفوس الإمارة والهوى الزائف -

لابد أن يذعن يوماً إلى ألطاف الله الأزلية وفيوضاته الدائمة في جميع مجالات هذه الحياة مادية وروحية، وإن يشعر بالنعم الظاهرة والباطنة وبما يذكره بأهمية شكر المنعم وبمنحه كمال الشعور بالفوز الحتمي عند فعل الطاعات واجتناب كل ما يخالفها اعتزازاً بالسعادة الدائمة في الدارين عند حسن الانتقال من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية.

وهذا ما تُؤكّد عليه وتؤيده وترشد إليه كل المنقولات المستقيمة والمتواترة في الألفاظ وفي العمق اللطيف في المعاني من مثل كتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله الواردة عن طريق العترة الشريفة قولاً وفعلاً وتقريراً، وبما لا تضر هذه النورانية المشعة

ص: 28

بلطافتها المهداة إلى الأفئدة من اللطيف الخبير.

حتى لو قيل بوجود إجماعات غير مصطلحة من أهل الكفر والإلحاد والضلال والإضلال والفساد والإفساد وإن كثروا لقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنفُسكُمْ لا يَضُرُكُم مِّن ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم»(1)وقوله حول ما لو ازدادوا على المؤمنين «وأكثَرُهُم لِلْحَقِّ كَارِهُونَ »(2)وقوله حول ما لو قل المؤمنون أمامهم «وَ قَلِيلٌ مَا هُم»(3)

لأن الحجة الدامغة هي الأئمة مع أهل الحق وإن قلوا في عددهم بقوة الإيمان والتمسك الديني ونصر الله تعالى لهم بغير احتساب بقوله«كَم مِّن فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيَرةً بِإذنِ اللهِ»(4)إلى غير ذلك من الضمانات الإلهية ومعها السنة مما لا يخفى على المتتبع الحريص.

فهذه الأساسيات الثابتة بما أوجزناه ونحوه هي العائدة إلى القاعدة التي جاءت من عناية الله تعالى ولطفه بخلقه وتدبير موجبات كمالهم العقلي والروحي والنفسي تفريقاً للبشر عن البهائم والعجماوات والذي أعده لهم في علمه الأزلي في التكوين المرتبط بإيصال الممكنات إلى الغايات الساميات المعدة لها .

والتشريع المرتبط بإيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب وإتمام الحجة وإقامة المحجة عليه بالوعد والوعيد ولو على يد من يمثلهم من الأسباط والأئمة والحوارى بأفضل الأدلة وأحسن الأساليب ومع بعض الكرامات.

ص: 29


1- سورة المائدة / آية 105
2- سورة المؤمنون / آية 70.
3- سورة ص / آية 24
4- سورة البقرة / آية 249

وقد حاول بعض الأعلام الأعاظم أن يتجاوز حالات ألطاف هذه القاعدة المهمة كشيخ الطَّائفة الطوسي قدس سره مع بعض من سبقه حسب ما عرف من نقل علم الهدى قدس سره فقال(1) بما مضمونه ومعناه:

بإطلاق معنى اللطف على نحو أنه كما يجب عليه تعالى حيث ألزم نفسه بالسعة في لطفه بعباده مع بقية المخلوقين بتقريب أولئك العباد إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية وبمختلف الأساليب من ذلك وبما لا ينافي الاختيار.

فإذا حصل إجماع مثلاً على ما لا يرتضيه الله في شرعه من قبل بعض الفقهاء أو كثيرين منهم صدفة فضلاً عن غير ذلك أو ما هو الأشد كما لو تغير نوع المجمعين إلى حيث معنى التطرف والعياذ بالله منه -

كذلك لابد أن يجب عليه تعالى من واقع لطفه وسعته صرفهم عنه أو إلهام ما هو الواقع إليهم عن طريق حجية ولاة الأمور من قبله.

و من ذلك دليل الإجماع اللبي الحاوي للإمام المعصوم علیه السلام في حضوره أو غيبته الحالية باستكشاف رأيه عقلاً من اتفاق عداه من العلماء الموجودين مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة خفية أو ظاهرة، أما بظهوره بنفسه في عصره لعلاج الأمر أو بإظهار من يبين الحق في المسألة.

وإلا لزم سقوط التكليف بذلك الحكم المتفاوت أو إخلال الإمام علیه السلام بأعظم ما وجب عليه ونصب لأجله، وهو تبليغ الأحكام الصحيحة المنزلة، وهو من المستحيل.

لكن يمكننا أن نقول بعد هذا: بأن الواجب على الله بعد ذلك اللطف الوافي مع إطلاقه الذي لا نزيد عليه من توسعات بعض المجتهدين، وقد حصل كاملاً وتاماً كما مر بمثل إرسال الرسل وبعثة الأنبياء والكتب وبالأساليب المختلفة على أيدي الأئمة

ص: 30


1- أصول الفقه - المظفر ج 3 ص 114 عن العدة ج 2 ص 639-642.

علیهم السلام والدعاة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وبالجهاد بكل ما تقتضيه حكمة اللطف من أنواعه لساناً وقلماً - بل وسناناً - دون أن نستعمل آية قساوة يوماً في تكويناته العادلة ولا تشريعاته المحرجة بل بما يتناسب وتمام ألطافه مع مستوى أعراف الناس المطابقة للمصلحة ودفع المفسدة.

وقد استفاضت الأدلة الإسلامية المتعارفة أصولياً بآيات إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب الجليل على أيدى الأئمة علیهم السلام بعد النبي صلی الله علیه و آله مع الروايات الجمة وبما يملأ أذهان أهل العقول بالآراء المحمودة المتطابقة معها إيجابياً تجاه هذه الألطاف ما دام لم يترك عباده سُدى حينما أمرهم بتحصيل العلم الإلهي كما لم يخلقهم عبثاً.

لكن دون أن يرتضي دوماً لزوم الاحتجاج بالإجماع اللبي حتى إذا لم تتوفر ظرفيته المعقولة والمقبولة كما مر في أمر الإجماع الدخولي.

وعند عدم توفر ما يقتضي حصول هذا الإجماع اللطفي وتوفّر لدى بعض الاذهان مسیس الحاجة إلى بعض الطرق الإصلاحية للاتكاء عليها كما يتكأ على الأدلة فلم يكن بعد ما أدلة مر من إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرَّب إلا باستعانة المؤمنين بإصلاح أنفسهم ومن حولهم لقوله تعالى «إِنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ مَا بِقُومِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم»(1)وهو الجهاد الأكبر وبعد إصلاح النفس يتم إصلاح الآخرين.

ويمكن أن تشترك القدرتان الإصلاحيتان بعد تهذيب النفس كما في هذه الآية بمثل حماية النفس وحماية الأهل من المفسدات في قوله الاخر«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(2)

ص: 31


1- سورة الرعد / آية .11.
2- سورة التحريم / آية 6

و مع هذه المساعي المهمة لكل فرد ومجتمع يمكن أن تتجلى بعد ذلك ألطاف الله الواسعة لكل من يريد الشعور بسعتها ما دامت مستمرة بلا حاجة إلى مزيد من نوع آخر لم تتوفر مقتضياته.

فحينئذ يكون احتمال الخطأ في إجماع المجتمعين الذي ذكرناه أيضاً كاحتماله في فتوى فقيه يكون مرجعاً للتقليد في هذه الغيبة التي أبتلي بها المؤمنون بوجوب انتظار الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف وطلب العلم والاجتهاد فيه حتى بابتلائهم في بعض الأحوال بالخطأ والاشتباه ما دام لم يكن عن عمد ، لأنَّ الإمامية هم مخطئة، ولذا ورد عن العامة (إذا) حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(1) .

والفقيه المجتهد الجامع للشرائط في هذه الغيبة الكبرى هو الذي أمره سائد في الرجوع إليه بعد تسليم كونه ممن شملته إنابة الأئمة عليهم السلام العامة لهذه الأمة، مع ما احتمل من خطأه في بعض الأمور، فلا محير لأن يطلب إجماع لطفى لا دليل قوي عليه.

الطريق الثالث: الإجماع الحدسي

قد ينشأ الحدس المسمّى والمعتد به بين أكثر المتأخرين بالإجماع الحدسي من اتفاق الرعايا والمرؤوسين وأهمهم فقهاء الإمامية على أن أداء الرئيس والمتبع رأيه وبالأحرى في المقام أنه الإمام علیه السلام.

وكأنَّ هذا الاتفاق الذي مضى معناه في الإجماع الدخولي له موضوعية لتشديد معنى الإجماع هنا مع الاطمئنان بعدم التواطئ بين المتفقين حتى لو كان الحدس يؤدي إلى معنى التخرص الظنّي.

ص: 32


1- مسند أحمر198:4 حديث عمرو بن العاص.

ولكن أشكل على هذا التعريف بأن له وجهاً وجيهاً إذا كان باب المراجعة والمشاورة من المأمومين مع الإمام علیه السلام مفتوحاً بوسائل الاتصال المرضية كما مرَّ في الدخولي بأن تشاوره الرّعيّة وهو يراجعهم أيضاً.

وهو ما قد يستفاد منه حال الحضور والغيبة ما دامت هذه الوسائل مطمئنة.

وأما إذا كان الباب مسدوداً بالمرة وحالت بينها أستار الغيبة فلا وجه لهذا الحدس أصلاً، لمثل وجود اختلاف آخر في مقابل هذا الاتفاق، كالقدامى والمخالفين للمتأخرين، ومنهم من يعتد برأيهم وشأنهم من معلومي النسب ومجهوليه.

ولكون الاتفاق في نفسه لم يكن هو ذات الإجماع، بل مقدمة من مقدماته.

إضافة إلى أن التخرص قد لا يؤدي إلى ما يؤديه القطع المطمئن بالمواصلة بين الحضور والغيبة.

ويمكن أن يورد على هذا الإشكال بأن الانفتاح لم يكن حاصلاً على المصراعين بين القديم حال الحضور والحديث حال الغيبة بالتمام، ولا الانسداد كذلك.

ولكن لا يمكن إنكار انفتاح باب معظم الأحكام الصادرة من الأئمة علیهم السلام، بل كان المعظم في متناولنا وجرت العادة إلى الرجوع إلى مصادرها في زمن الحضور وزمن الغيبة.

وعليه فيكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم علیهم السلام والعادة تقضي برضاهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم ورواة أحاديثهم.

ولكن الحق هو الكامن في جملة ما ذكرناه لا بجميع تفاصيله ما دام الاتفاق الخاص واصلاً إلى ما يحقق مصداقية الإجماع الإمامي عليه، وبما تتواصل لأجله قنوات الاتصال بين العهدين وبنحو ما يتحقق به القطع دون التخرص.

إلا أنه غير واضح الإنتاج في الإثبات إلا ما أوضحه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بجعله الحدس مقبولاً إذا كان ناشئاً من الحس السابق.

ص: 33

الطريق الرابع: الإجماع التقريري

مما ذكروه من الإجماعات في المقام ما سمّي بطريقة التقرير، وهو أن يتحقق إجماع بين الفقهاء أو البعض منهم ولو من تراكم ظنون من آرائهم الإتفاقية بمرأى ومسمع من الإمام علیه السلام على نحو كاشف قطعاً عن رضاه وموافقته.

وهو الذي يسمى في دليل أهل السنة بالتقرير ما دام قد توفرت شروطه، ولو لم يكشف ذلك عن رضاه وموافقته لردع المجتمعين عما اتفقوا عليه ولو بإلقاء الخلاف

فيما بينهم،کما صرحت بهذا المعنى بعض الروايات التوجيهية من الإمام علیه السلام لبعض حواريه، كما في خبر سالم أبي خديجة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (سأل إنسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر، وبعضهم يصلّي الظهر، فقال: أنا أمرتهم بهذا لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم)(1)، وسيتضح قريباً ما هو أكثر.

وبعدم الردع منه يكون التقرير دليلاً على احتوائه على حكم الله واقعاً.

بل إن أصل حجية التقرير من المعصوم علیه السلام ثابت في وجوب الأخذ به في مورد الوجوب مثلاً ونحوه كذلك حتى من فرد واحد إذا تصرف بين يدى الإمام علیه السلام بما يعطى رضاه كما هو محرر في محلّه.

فإن كلا المقامين - وهما الإجماع التقريري الكاشف والتقريري أمام الفرد الواحد - لا نزاع في حجية الأخذ بهما في عصر الحضور.

وإنما الكلام في تفصيل دور الإجماع في أيام الغيبة، ولذلك أوردوا هذا النحو من الإجماع للكلام حوله.

ص: 34


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 2 ص 252 ، الكافي ج 3 ص 276 باب 6 ح1.

وأشكل على هذا النحو من الإجماع وبالأخص حينما تكونت أفكار ذويه من الظَّنون مع ربط أمره بالغيبة والفجوة بين العهدين.

إضافة إلى أن هذا إحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل والآراء ومبانيها بين مختلف الأشخاص وإن اتفقوا في النتيجة، لكون الإمام علیه السلام عند صدور التقرير منه بالموافقة - إن ثبتت في مثل زمن الغيبة أيضاً - لابد أن يكون المبنى الشريف لديه هو واحد من بين تلك المباني المختلفة، أو واحد مغاير لجميع مباني أولئك المجمعين، لا أن يكون مقرراً لمبانيهم كلها .

وللحفاظ على أمانة الحق والحقيقة ونقلهما وإن كانت جزئية جداً يمكن أن يورد على هذا الإشكال:

بأنَّ المراد على حصول الاطمئنان النوعي بهذا الإجماع وغيره مما يمكن تصحيحه على الأسس الاصطلاحية المقبولة.

وبما أنه مختلف بحسب المراتب والطبقات فيمكن الاكتفاء بحصول أول مرتبة وطبقة مما يطمئن به من معاني الإجماع والتقرير له من آخر زمن الحضور وأول زمن الغيبة، دون أن يؤخذ بما لم يظن أو أن يشك في علمية بعض الأعلام أو في صحة مبانيهم فهو بهذا المقدار لا بأس به.

وأما الإجماعات المتأخرة في أزمنتنا هذه فهي ضعيفة المأخذ، لبعد اتصالها بالقديم المطمئن به غالباً.

الطَّريق الخامس: الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر

قد يستفاد من اتفاق لا تواطئ فيه بين طبقة من حواري الأئمة علیهم السلام عن دليل معتبر واصل إليهم ولم يصل إلينا.

لأن بناء الأئمة علیه السلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص

ص: 35

الأصحاب منهم، وهم بدورهم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم، فوصلت بعد ذلك بطبيعة النقل الائتماني إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعاً عليها من دون ذكر نفس المدرك ،بالخصوص، كي لا يكون كالمدركي.

وهذا وجه حسن في نفسه من حيث المقتضي وعدم المانع، بل يصلح أن يكون مدركاً أيضاً لاعتبار الشُّهرة التي قد تكون جابرة لبعض الأدلة الضعيفة.

إلا أن هذا يختص بما إذا لم يكن في البين مدرك يصح الاستناد إليه، وهو قليل جداً عند من لا يخفى عليهم أمره تطبيقياً .

الطريق السادس: الإجماع الكاشف عن القاعدة

وهو ما قد يدعى شيء يكشف عن قاعدة معتبرة، سواء كانت عقلائية أو شرعية كالذي ذكر صاحب الجواهر قدس سره في كتاب القضاء، حيث جعله حسب ظنّه وبقوة أنَّه من باب الاتفاق على القواعد الكلية وإن كثرت مصاديقه بين القدماء أو جعلت مدركاً لبعض الأحكام الجزئية(1)

وهذا لا ينهض بقوة للتمسك به وإن تمت عندنا حجية بعض الإجماعات المنقولة كما بيناه في الإجماع الدخولي وكما سيجيء بيانه.

الطريق السابع: الإجماع المنسوب إلى القدماء

و مما لا يمكن الرضا به والإطالة ببيانه هو الإجماعات التي انتسبت إلى السيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلّي قدس سره بسبب كثرة الأخذ بفتاوى كل منهم،

ص: 36


1- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام / ج 13 ص 80.

لأن كلاً منهم فقيه عصره حتى من قبل بعض فضلاء تلامذتهم والمنتسبين إليهم وكأن كثرة من ينقل عن هؤلاء الأعاظم الثلاثة من الفتاوى من الأفاضل المحسوبين على كل منهم تعد - موهمة - كثرة إجماع.

قال صاحب الجواهر قدس سره في كتاب الكفارات (وإجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء لا وثوق بالمراد منها على وجه يريح النفس في الفتوى بها بالوجوب والحرمة) (1).

الطريق الثّامن: الإجماع القهري الإنطباقي

وهو ما يشبه السابع الملحق بما لم يعتبر من ذلك، ويزيد في مدة الاعتبار قهراً من شدة الشُّهرة بالانتساب إلى هذا المرجع الأعلى أو ذلك.

ولربما يصل هذا النوع من المجمع عليه خلفاً عن سلف قرناً أو أزيد، ومن مؤشّرات استمرارية الأخذ به عدم وجود رأي مخالف له في الظاهر.

الطَّريق التاسع: الإجماع الإحتفاظي

وهو مما لم يعتبر من ذلك أيضاً، وإن بدأ به الأئمة علیهم السلام في بعض فترات توجيهاتهم الشريفة الحواريهم للحاجة المؤقتة إلى ما سموه بالإجماع الإحتفاظي.

ومنشأ تسميته بذلك هو لتعليم مؤمني الإمامية وحواريهم ليأخذوا بخصوص ما يتلقونه من أئمتهم علیهم السلام تعبداً، وإن سماه الأئمة إجماعاً مؤقتاً بدل ما شاع بين العامة من كثرة تعدد مذاهبهم الخاصة بهم في بداية تحررهم الفكري بعد عهد الانقلاب

ص: 37


1- نفس المصدر ج 33 ص190.

على الأعقاب إلى ما وصل إلى أكثر من تسعين مذهباً على ما عرف في التأريخ.

وبعد أن ضاق ذلك على خواص رجالهم ذرعاً خجلاً ونحوه، فقلصها منهم أحد خلفائهم إلى أربعة وهي الرئيسية المعروفة اليوم لدى الجميع بتلقيها معارفها الأساسية بالمباشرة والواسطة من الإمام الصادق علیه السلام.

ومع ذلك وخوف أن تشتت أذهان الإمامية قديماً كتشتت غيرهم من الآخرين مما ابتلوا به مما يشتت تلك الأذهان المستقيمة من القياسات ونحوها -

تعلم الحواري وحدة الحكم الشرعي من الأئمة علیهم السلام، وإن سمي إجماعاً إحتفاظيًاً مؤقتاً على ما نطقت به بعض الروايات الشريفة وتم الأخذ به بنحو الإجماع سطحياً، لا كما اختلفت به المذاهب الأربعة.

كل ذلك للتنبيه على وحدة المسلك المخضوع إليه من الأربعة، لأنه المنهج الحق لا لمقابلته لها في المذهبية المشاعة.

وبعد أن انتهى دور خطورة حال التشتت المذكور - الذي سببه الآخرون لئلاً يحمل الفكر بعض الشبهات المجلوبة من هنا وهناك وتشويه الأفكار أنوار الصلابة والصمود المستقيم وبما أزاح ظمأها الأئمة علیهم السلام ومكنها من التأمل المنقح في خصوص المعنى الواحد مع دليله بدون ذكر هذا الإجماع -

انتهت حالة الاستمرار عليه، ولأنَّ هذا الاستمرار قد أصبح ضاراً بما يأتي.

الطريق العاشر: الإجماع الاختلافي

وهو أن الاستمرار بما مر ذكره أصبح مضراً من جهة ظلم وبطش حكام الجور الماضيين، ولهذا السبب استجد بعد ذلك نوع آخر من الإجماع وإن كان في حقيقته المؤقت كذلك، لأنَّ التَّقيَّة إن حصلت ظروفها فهي واجبة بمقتضياتها المناسبة وإلاً فالظروف الاختيارية هي الملتزم بها شرعاً دون غيرها.

ص: 38

وهذا الإجماع سموه ب- (الإجماع الاختلافي) كما أشرنا، حيث اختاره الأئمة علیهم السلام بعد أن رأوا أن الذي اختاروه في الماضي أضر بهم وبشيعتهم من جهات غير الجهة الماضية بنحو تستدعي كتمان التصريح بالرأي الإمامي حتى لو انفرد وحده ولا يلاحق به غير الإمام المعروف به.

فكيف لو تم تكاتف جمع من العلماء لصالحه في زمن الحضور، وبذلك تعم الملاحقة لأعلام الشيعة مع إمامهم.

ولأجل هذا انتقل (الإجماع الإحتفاظي) إلى (الإجماع الاختلافي) حيث ورد في خبر أبي خديجة الذي مضى ذكره في الطريق الرابع وهو (الإجماع التقريري) عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (سأل إنسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر، وبعضهم يصلّي الظهر، فقال: أنا أمرتهم بهذا لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم)(1).

هذه جملة ما تيسر بأيدينا من الإجماعات التي استعرضت أصولياً مما بني عليه وما لم يبن عليه ومما قبل الأخذ به مستمراً ثبوتاً وإثباتاً ومما قبل الأخذ به ثبوتاً فقط ومما أخذ به مؤقتاً وانتهى دوره لدى مصطلح الإمامية دون الآخرين وما رجحناه في نظرنا من ذلك.

وفي حال تردد إجماع بين ما هو معتبر وغير معتبر لا وجه للاعتماد عليه كما هو معلوم ، إلا إذا عينت القرائن الاصطلاحية ما هو المعتبر منه دون غيره

علاقة المعنى اللغوي للإجماع بالمعنى الإصطلاحي

قد وعدنا في بداية الحديث عن الذي ذكرته القواميس اللغوية العربية حول معنى

ص: 39


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 2 ص 252 ، الكافي ج 3 ص 276 باب 6 ح1.

الإجماع لغة بالنحو العام أن نبين نكتة الفرق بين ما ذكرت وبين ما وصلتنا الأحاديث عنه بالنحو الاصطلاحي لدى المسلمين عموماً مما ذكرته القواميس أو بعضها كذلك أو خصوصاً بالنحو الاصطلاحي السطحي أو بالنحو الاصطلاحي الأخص عند الإمامية مما لم تتعرض له تلك القواميس.

وحيث جاء دور هذا الحديث بعد ذلك اللغوي العام لنعرف ما هي النكت بين ما ذكرت وبين المعنى الاصطلاحي العام لعموم ما دار بين الإسلاميين من العام والخاص.

ومن أبرز ما يمكن أن يقال عن صدق تسمية معناه اصطلاحياً - وإن كان عاماً، لاجتماع العام والخاص في ذلك -

هو كون إجماعهم الاصطلاحي ثابتاً على الواجبات الضرورية في خصوص المعنى المصطلح لدى الإمامية، وأما عند غيرهم من المسلمين فهو لغوي.

وكذا ما أجمع عليه العامة في خلافه أمير المؤمنين علیه السلام بالمرتبة الرابعة، وأجمع عليه الخاصة معهم برجوع الأمر الأول إليه بنحو الأخذ بما أجمع عليه أولئك الخاصة من مصطلحهم، وإلا فهو في العام لغوي أيضاً.

فهذه النكتة هي علاقة المصطلح العام والخاص باللغوي العام، علاقة الجزء من الكل، لحمل اللغة ما هو الأعم من كلا المصطلحين مع قدم العلاقة العربية على الاعتزاز بها ولو بهذا النحو من العموم والخصوص.

وبالخصوص أنَّ الرسالات السماوية السابقة وكتبها التي حفظ مضامينها القرآن الكريم كانت قد تعرضت في تعاليمها إلى أمور ما في ديننا الحنيف ولو إجمالاً مثل الفرائض الضرورية التي أشرنا إليها سابقاً أكثر من مرة كالصلاة والصيام والحج والزَّكاة ونحوها، وإن بقي مصداقاً المصطلح العام محسوبين على عموم اللغة، وإن ضعفت فيها هذه العمومية بسبب احتمال وجود بعض تفاوت في هذه الواجبات بين

ص: 40

ما هو القديم السماوي وحديثنا الإسلامي.

وبالأخص كثيراً كثيراً هي علاقة المصطلح الأصولي الخاص عند الإمامية مع اللغة. العامة ومع المصطلح العام المحسوب على بعض عموم اللُّغة

فإنّ النكتة التي علينا تجليتها للباحث الكريم بالنّحو الأكثر هي أنّ هذا الاصطلاح الخاص عند أصولي الإمامية هل هو على نحو الحقيقة العلمية الكاملة؟

لاختلاف معاني أجزاء تعريف إجماعهم وتفاوته عن كل ما سبق من مصاديق عموم اللغة، أو أنَّ بعض ما مضى مما نقلته اللغة من التزامات أهل المبادي السماوية موجود في التزاماتنا أيضاً؟

فنقول بناءً على صدق وجود هذا المعنى الثاني ولو إجمالاً ومجهولية أمر العدم المحض بين القديم السماوي والحديث الإسلامي -

لابد من القول بالحقيقة العرفية الخاصة التي لا تعدم العلاقة بتمامها مع ما يتناسب مع القديم، ولو لتبقى العلاقة الجزئية، ليظهر الفرق بين المصطلح الخاص الإمامي وبين غيره ولو للتعبد به.

الإجماع الإمامي اللبي بين محصل ومنقول

قبل ذكر الكلام عن المحصل والمنقول والإجماع اللبي الإمامي لنذكر مقدّمة تهيئنا للخوض في نقل هذا الإجماع محصلاً ومنقولاً نقلاً تواترياً أو شائعاً ومستفيضاً، و من بعد ذلك وبنحو بحثي مستقل عن المنقول بخبر الواحد.

فحيث أن كل شيء يتم الأخذ به في مقام الاحتجاج به من بحوثنا العلمية هذه لابد أن يكون مستنداً إلى دليل صحيح يدل عليه بمستواه ويقوى به، ليكون محسوباً عندنا من القواعد الكلية أو لوازمها الجزئية ومنها بحث الإجماع اللبي عندنا نحن الإمامية.

ص: 41

وحيث أن المعروف والمألوف عرفاً في هذا الأمر أيضاً في الفقه وفي تابعه الأصول الخادم له أيضاً، لكون خادم الفقه أهم لا بدية الارتباط به، ليتيسر ما يمكن إجراءه من الأدلة الأربعة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً، وبما يمكن الأخذ به من فرعيات هذه الأمور الأربعة المقرر الاستفادة منها في الأصول -

لابد من أن يكون علينا التفكير الجدي في هذا المجال هل يمكننا الاستفادة منها في المقام كلاً أم بعضاً أم ماذا؟

وبما أن التسلسل الاعتيادي لم يتيسر الأخذ به على طبيعته للمانع الذي سوف يتضح معناه عند جعل ثاني الأدلة وهو السنة سابقاً سابقة عليها آخر الأدلة الأربعة، مع أنَّ الثالث وهو الإجماع في تسلسله سابق عليها في تعداد الأربعة.

لكون هذا الجزء الرابع هو محور البحث في المقام، لكونه مورد الاستفادة دون الثلاثة السابقة، حيث سنمر عليها ونبين موانع الاستفادة منها لحصر البحث في الأخير، فنقول في الجواب:-

أما الكتاب الكريم فإنه وإن كان فيه أمثال قوله تعالى «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تبيانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ »(1)وغيره، ويدل على العموم والإطلاق كذلك، لأنه لم يكن في الوجود من المعاني الثّمينة والأدلة المتينة إلا وبينته آياته المحكمة الرصينة ظهوراً وإضمارا بالكواشف.

بل وتصدت بعض آياته الشريفة إلى ذكر ما يشمل معنى الإجماع عموماً وإطلاقاً في ظاهر ما يمكن أن يستفاد منه شيء عنه كقوله تعالى «وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا»(2)ونحوه.

ص: 42


1- سورة النحل / آية 89
2- سورة آل عمران / آية 103.

لكنه لا يتحقق معناه الاصطلاحي إلا بما تشمله مضامين القواميس اللغوية العامة أولاً، وإن قربت بعض مضامينها إلى ما يتدنّى كثيراً إلى المضامين العقائدية والفقهية.

ثم إنه بعد ما يحمله من المعنى الإجمالي عن المصطلح - قل أو كثر - لابد أن يتوجه التركيز في دفع هذا الإجمال، وتفصيل الأمر على السنة الشريفة الآتي ذكرها وذكر موارد الحاجة إليها لبيان المراد الواقعي في آخر الأدلة الأربعة.

لما مر من الإشارة تفسيراً أو تأويلاً لما يراد منه الإجماع الإمامي اللبي ومنه معنى كون أمير المؤمنين علیه السلام (حبل الله المتين) في تحقيق درجات المولاة له وللمعصومين من آله عليهم السلام والبراءة من أعداءهم، تمسكاً بحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين منضماً إلى الآية، لا أن تكون هذه الآية وحدها دالة على ما تعطيه من العموم والإطلاق.

إلا أن هذا الكتاب الكريم لا يمكن أن يكون دليلاً علمياً وافياً وحده للإجماع المقصود، لأنه ميسور بين أيدينا ومقروء ومفهوم لدينا ما دمنا نملك قدرة تطبيق القواعد الأدبية العربية المتنوعة - بعد تعلمها - على مصاديقها مع حسن السليقة وسلامة الذوق للاستفادة منه بنفسه.

إذ لا يمكن فرض آية منه دلت على هذا الإجماع المخصوص كانت قد خفيت علينا وظهرت للسابقين أيام الأئمة علیهم السلام من ،حواريهم، وإن المقاييس الأدبية بين الجميع واحدة.

وإلا لما عمرت ديار حوزاتنا العلمية الإمامية الحالية وتم التشجيع والحث عليها وعلى الاستمرار فيها بأعلى معاني الأوامر الإلهية والنبوية الحاثة على ذلك شرحاً لغوامض الآيات، ومن السنة الصدر الأول الذين في طليعتهم أمير المؤمنين "سلام الله عليه" ومن بعده أولاده الأئمة علیهم السلام بينه وبينهما أمهم الزهراء علیها السلام.

ففهم القدامى من آية شيئاً خفي علينا وجهها دونهم ليس حجة علينا حتماً لمساواتنا لهم في طبقية الفهم والمتابعة المتشابهة في حسن التلقي، إن لم يكن فينا من

ص: 43

هو الأحسن من بعضهم عن طريق تلك القواعد الأدبية عدا ما خص به الأئمة علیهم السلام كما كان على القدامى اتباعه.

فاجتماع القدامى في ادعاء إجماعهم لو استند إلى فهمهم وحدهم من بعض تلك الآيات - على ما تعطيه من الإجماع الإمامي المصطلح دون الاستعانة بما تقول به السنة في قولها وفعلها وتقريرها مما مر بيانه من معنى الإجماع الدخولي وما يشبهه - لا يكون موجباً للقطع بالحكم الواقعي أو محققاً لقيام الحجة علينا لصالحهم دون وجود الإمام علیه السلام.

فلا ينفع إذن مثل هذا الإجماع إن أدعي عن مثل هذا الطريق.

وأما الإجماع فوضوح أمره تجاه نفسه لدى كل أحد تام الوعي والشعور لا يمكن أن يتصور منه بالبداهة قبول أن يكون الإجماع مدركاً للإجماع نفسه.

لأنّ الشيء المحتاج للتدليل عليه بما كان أعرف منه كيف يكون هو نفسه مع حاجته دليلا لنفسه.

وتعريف الشيء لنفسه من نفسه باطل أيضاً ببطلان الدور الظاهر الصريح، و (فاقد الشيء لا يعطيه) حتى بمستوى شرح الاسم، ولأن (توضيح الواضحات من أشكل المشكلات.)

إذن فلا يصح أن يكون مدرك هذا الإجماع إلا مدركاً آخراً يحويه بكل خصائصه الاصطلاحية كما أشرنا وكما سيجيء.

وأما العقل من هذه الأدلة للإجماع:

فإنّ العقلاء قديماً وحديثاً لما كانت عقولهم الممنوحة لهم من الله تعالى تكريماً - لهم ومن فيوضاته لهم جميعاً بهذا التكريم أن تكون تعقلاتهم للأشياء متساوية تجاه الإجماع اللبي المصطلح بناءً عليه وعلى نهج تحقيق وعلمية -

لابد أن تكون آراءهم أجمعها متطابقة على حجية القول بهذا الإجماع، فهو

ص: 44

كما كان عند القدماء من بعض قضايا معقولة توصلوا بها إلى حكم شرعي بمثل (حسن الإحسان وقبح الظلم) وكانت سابقاً مستوردة إلينا وظهرت لهم أخيراً بمثل دخول الإمام علیه السلام في إجماع شرعي خاص -

كذلك لابد أن نكون نحن مثلهم في ذلك، لمستوى التعقل الواحد بيننا وبينهم إن كان تشخيص الإجماع الإمامي يأتي عن خصوص التعقل الموحد.

فإن لم يكن ذلك عندنا له أثر مقطوع به - للحاجة إلى شيء زائد على ما يقول به العقل والتعقل مما سيأتي بيانه كتصدي الإمام علیه السلام بإلقاء الخلاف بين بعض حواريه ليعلم الحق من بين مختلف آراءه -

فكذلك عند أولئك القدامى لابد أن يكون للإجماع عن هذا الطريق أثر مقطوع به للحاجة إلى ما يثبته.

فما بقي إذن لنا إلا السنة الشريفة، وهي ضالتنا التي أخرناها في الذكر كما نبهنا في السابق، وإن كانت هي الثانية في تسلسل الأدلة الأربعة الطبيعية بعد الكتاب الكريم.

وعليه فلابد من أن يُلقى الضوء الكافي على ما ينبغي أو يلزم ذكره من السنة التي يشخصها ما مر ذكره مراراً من قول المعصوم علیه السلام وفعله وتقريره.

وعن طريق هذه الأمور الشخصية من أساليب وطرق ما استفيد من علمي الرواية والدّ رأيه التي وصلت إلينا وتلقيناهما مما تجهز لنا من بركات مساعي سلفنا الصالح من زمن الحضور إلى هذه الأزمنة والتي حوت جوامعهم ومجامعهم ما لا يمكن القطع بتواصلها بعدمه من الأصول الأربعمائة، بل القطع بوجوده منها ولو في الجملة المؤثرة ظنونا معتبرة وإن تبعثرت -

يمكننا تشخيص ما يتناسب من الأخذ به من تلك المشخصات الثلاثة للسنة لصالح الإجماع اللبي المصطلح من بين المحتملات العشرة المذكورة.

ص: 45

ومن مواردها ما نلقي الضوء لأجله من المنشأ لمصاديق النقل العام للإجماع المصطلح بحثياً.

فمنشأ المحصل في نقله هو سبب تحقيقه فقط، وهو من سرد أقوال الفقهاء بإحصائها نقلاً للنفس والغير تفصيلاً أو نقلها إجمالاً، ولو بالجمع بين المنقول والمحصل بما يتحقق منه المحصل لرأى المعصوم علیه السلام مما بين زمن الحضور والغيبة.

فالمحصل هو عبارة عن أن يطلع الشخص الفقيه على أقوال الفقهاء الواصلة إليه و فتاواهم في المسألة، بحيث يُكشف منها رأي المعصوم علیه السلام.

ولا يعتبر فيه مباشرة الشخص الساعي بنفسه، بل يكفي فيه الاستنابة ممن يثق به عنه، بل يكفي فيه أيضاً أن يكون بعضه منقولاً متواتراً أو مستفيضاً أو بعضه محصلاً كما مر بيانه.

واعتبار هذا المحصل بحجيته أو تمام حجيته - سواء بالمحصل التام أو كل ما يتحقق به من العدد المتضمن دخول رأي المعصوم علیه السلام أو بالملفق بين المحصل في البعض والمضاف إليه نقل أفراد آخرين -

مشروط بما إذا اطمأن المحصل والمنقول إليه مع التلفيق بأن ما كان مطمئناً به لدى المجتمعين هو معتبر لديه أيضاً، حتى لو كان ذلك من بعض القرائن الخارجية المساعدة على حصول هذا الاطمئنان.

وقد أشرنا إلى شيء من هذا المعنى في الإجماع الدخولي.

أما مع عدم حصول الاطمئنان فلا وجه لاعتباره، وإن اعتبره بعض متسامحين في ذلك، لأنَّ اعتبار شيء حجة عند بعض لا تسري تلك الحجية على الآخرين بدون دليل مقوم كافي.

وقد يكون من نقل المسبب وهو رأي المعصوم علیه السلام حدساً كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة، ولم نرجحه فيما مضى وحده إلا بنشوء الحدس عن الحس.

ص: 46

أو حساً وهو النادر، مع أخذنا به على ندرته، وبالأخص لو كان النقل تواترياً أو مستفيضاً وشائعاً على ما مر ذكره في الدخولي إن توفّرت مشخصاته.

وأما المنقول آحادياً فقد يدخله رأي المعصوم علیه السلام حساً، فهو وإن كان خاضعاً لشروط الغربلة الروائية وأقسامها كالصحيح والموثق والحسن والضعيف ونحوها وضبط أمره إلى حد الرضا به بمستوى إمكان الأخذ بروايته -

إلا أنَّ الأخذ بها ليتقوم الأخذ بالإجماع عن طريقها فإنه يحتاج إلى كلام مستقل قريبا جدا بعد هذا الكلام.

وعلى كل حال فإن الإجماع المنقول عن مثل التواتر والاستفاضة والشياع معتبر للملازمة العرفية بين اتفاق رواة أحاديث الأئمة علیهم السلام على شيء بعد الفحص والتثبيت والدقة وبين رضا المعصوم علیه السلام به على ما دلت عليه قرائنه، بلا فرق فيه بين عصر الحضور وعصر وعصر الغيبة القريب منه وبقية العصور، حينما كان الاعتبار ثابتاً لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل.

أما لو لم يكن معتبراً لديه ككون ذلك في نظره فتوى منه لا رأيا للمعصوم علیه السلام، أو كان نظره في وجه الاعتبار مخالفاً لنظر الناقل فلا يعتبر من حيث نقل المسبب حينئذ، وإنما يعتبر من حيث نقل السبب بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل.

الإجماع المنقول بخبر الواحد

اشارة

إن الكلام في المقام قبل كل شيء ينبغي أن يكون عن خبر الواحد مطلقاً جهتين، لأن الأصوليين تطرقوا إلى ذكره من كليهما.

فالكلام عنه من الجهة الأولى إنما كان للتعرف على أهل هذا الخبر أن الخبر عندهم حجة في ذاته، للتدليل به على شيء من الأشياء أم لا؟

فخاضوا غمار هذه الجهة فبعضهم قالوا بحجيته بمثل إمكان الأخذ بحجيته

ص: 47

ثبوتاً، بل حتى بتحققها إثباتاً.

واستفادوا من تتبعهم هذا أدلة على هذا الأمر من الكتاب الكريم كأية النبأ وغيرها، ومن السنة الشريفة من بعض روايات جعلوها دالة على مرادهم كرواية (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم(1)ورواية (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا)(2) وغيرها بناء على الإطلاق واستفادة من موثقات الآخرين.

ومن الإجماع ما قد رتبوه منه له، ومن العقل كذلك وبما تدعو له الفطرة عقلائياً في نقل الأحداث القديمة من المصادر الموثوقة، ومنها روايات الآحاد للقضايا المهمة ومنها الدينية، بناءً على إمكان وتحقق ذلك بدون قيد أو شرط.

وآخرون نفوا ذلك مطلقاً، واستدلوا على ذلك بأدلتهم الخاصة على نفيه.

كما أن بعضاً من النافين فصلوا، حيث وضعوا شروطاً للخبر كمدلول يمكن الأخذ به لأدلَّته ومنها الإجماع، على أن تكون ويكون ذا مواصفات خاصة، فلن يكون الخبر حجة مطلقاً ولا أدلته الفاقدة للمواصفات ومنها الإجماع لو فقدها كذلك.

وقد سبق منا الحديث حول أصل حجية الخبر الواحد في بحث الدليل الثاني من المصدرين اللفظيين وهو السنة في الجزء الثاني من كتابنا هذا (مساعي الوصول).

ولذلك وبناءً على القول بالنّفي المطلق، وكذلك المشروط للخبر فقد أورد على مطلق الخبر كيف يكون من أدلته الإجماع المحتاج إلى التدقيق في أمره لإحراز أن يكون دليلاً له، وفاقد الشيء بدون تدقيق كيف يكون قابلاً لأن يعطيه.

ص: 48


1- كمال الدين ج 2 ص 483 ب 45 ح4 ، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 283.
2- وسائل الشيعة ج 18 ص ص 103 ، الحديث 13.

كما أن الإجماع بعد التدقيق فيه وإحراز كماله باحتوائه على مواصفاته الخاصة لن يكون مقوماً لمطلق خبر الواحد قبل توفر جميع مؤهلات قبوله، لعدم تطابق مواصفات الدال والمدلول عليه.

وأما الكلام عنه من الجهة الثانية وهي محاولة التعرف على مجال حجية الإجماع ، بعد ما ذكرناه سابقاً من عدم إمكان الاستدلال على حجيته من الكتاب ومن الإجماع ومن العقل، لما مر من التوضيح وقلنا بحصر الأمر بعد اليأس بخصوص آثار السنة حوله.

وتم منا عن طريق هذه السنة ما يقوم بعض معاني الإجماع دون جميعها، وعن طريق ما يمكن قبوله من ذلك من بعض المحتملات العشرة وترك الباقي ومن صريح المقبولات منها بعد المحصل الذي يناله محصله بتبعيته وإن ندر هي المتواترات والمستفيضات والشائعات التي ينال الإجماع بواسطتها بواسطة واحده أو أكثر، دون مطلق أخبار الآحاد لما ذكرناه من الإشارة إلى حصول الخلل بسبب بعض مناقشات العلماء الهدامة للمرفوض والبنّاءة للمقبول، لإمكان أن تفرض نفسها على ذهن أقل متتبع دقيق، وهي أن يقال لماذا يقبل الاستدلال على الإجماع المطلق؟

وهو بين مقبول ومرفوض بنفس مطلق خبر الواحد، وهو محتاج أيضاً لأن يستدل له بما يثبت له حجيته مع أن (فاقد الشيء لا يعطيه).

وبعد الانتهاء من هذه المقدمة لابد أن نقول ولو باختصار:

حينما كان يطلق الإجماع المنقول بين الأصوليين على أنهم يريدون منه غالباً المنقول بخبر الواحد، وقد يدخل فيه ما إذا كان من نوع خبر الواحد في سلسلته القديمة وإن لم يكن في بعض الطبقات المتأخرة كذلك، كما لو طراءها بعض تواتر أو استفاضة أو شك بأمره بسبب ما حصل من بعض الطوارئ بين احتسابه أنه من خبر الواحد أم لا؟

ص: 49

لأنه لابد أن يحكم عليه بحاجته إلى تثبيت حجيته حينما كان محسوباً من قبل أخبار الآحاد وإنما كان الغالب عندهم هو هذا الخبر ، لكثرة الابتلاء بالاختلاف في أمره، وبالأخص في الآونة الأخيرة التي كثرت فيها أخبار الآحاد وعزّت المتواترات ومعها المستفيضات، وإن الثابت منهما مما حفظ من القديم مع قلته لا خلاف عندهم في الإجماع المدلول عليه بهما دون خبر الواحد، وهو ما أحوج غير الملتزمين به عن هذا الخبر بدل التواتر والاستفاضة إلى التعويض بالضعاف المجبورة بعمل الأصحاب والشهرة العملية.

والحديث في الإجماع عندهم عن طريق خبر الواحد على أقوال:

1 - أنه حجة مطلقاً، لأنه خبر واحد أو ملحق به.

2- أنه ليس حجة مطلقاً، لأنه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كونه حجة ما دامت شروط قبول الاعتماد عليه غير تامة.

3 - التفصيل بين نقل اتفاق الفقهاء أجمعهم إذا حوى قول المعصوم علیه السلام في جميع العصور حدساً وبين نقل ذلك بقاعدة اللطف، فقال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ، بحجية الأول وعدم حجية الثاني.

القول الأول: أنه حجة مطلقاً

ذكر القائلون بحجية الإجماع المنقول عن طريق خبر الواحد سواء بواسطة واحدة أو وسائط مع خضوع خبر الواحد إلى شروط الغربلة الروائية الماضي ذكرها، وهي أقل ما يجب أن يتصف خبر الواحد به حتى مثل الضعيف إذا جبر بعمل الأصحاب إذا كان عند معتبريه مساوياً له، ما لم يكن مهجوراً أو معرضاً عنه لسبب من أسباب عدم الأخذ به مما مر ذكره من الكلام عن أصل حجية الخبر الواحد من بحوث السنة في الجزء الثاني من كتابنا (المساعي) إذا ما صح استقرار أصحاب هذا

ص: 50

القول الأول على الأدلة التي ذكروها من الكتاب والسنة على الاحتجاج به على النحو المطلق بدون مناقشة لما ذكروه.

بينما المناقشة واردة على ما تصدوا له من ادعاء القول بالإطلاق وهي:-

أنَّ الآية المعروفة بآية النّبأ إذا استدلوا بها لصالحهم مثلاً فإنها لا تنفعهم في مفهوم المخالفة وهو ما معناه «إن لم يجئكم فاسق» لمجهولية حال الراوي.

بل ولا مفهوم الموافقة الذي يدخل فيه العادل والمجهول.

فعلى فرض كون مخالف الفاسق هو العادل لو لم نأخذ بالمجهول فإن العادل المذكور في الفقه في موارد عديدة ومن كتب فقهية متعددة ولها أدلتها - لا تكمل البيئة الشرعية معه إلا بعادل مثله أو بيمين معه أو قرينة شرعية تعضده.

وبعدم التصريح بذكر لفظ (العادل) في آية النبأ مكان كلمة (الفاسق) لابد أن يكون من معانيه - تبعاً للحكمة الإلهية - تعطيل الأخذ به وبخبره وحده وبدون تبين لعد الته الذاتية من جهة، كونه معرضاً للغفلة والسهو والنسيان والنوم.

بينما الفاسق عند ذكره منطوقاً لابد أن يؤخذ بنقله بعد تبين وثاقته من أمر اختباره، وهو المطابق لأمر التعبد بالأخذ بنقله على ما حدد في الآية الكريمة، وإن كان من نحو الإجماع الكاشف من أمثال هذه الروايات عن الحكم الشرعي، أو كان ذا أثر شرعي أيضاً لتصحيح قصد القربة بتبين هذا النقل المخصوص دون بقية المنقولات الأخرى كالتأريخيات التي لا علاقة لها بالشرع، إلا في بعض المقامات الحساسة التي لم يقبل منها إلا الصحيح مصحوباً بالقربة لنصرة الحق ودحره للمنقول باطلاً من مقاماتها العقائدية ونحوها.

بل حتى الشرعيات المتعلقة بخصوص الفتاوى المحضة المنقولة التي لا تتصدى ولا يتصدى ناقلوها عن السلف المجتهدين لنقل الإجماع الذي يصاغ عن هذا الطريق الدقيق ليؤخذ به كحجة لبيَّة من الأدلة الأربعة المعلومة.

ص: 51

و هناك مناقشات أخرى تعرضنا لذكرها في الموضوع السابق للجزء الثاني تصلح لنفى الإطلاق فلتراجع.

القول الثاني: نفي الحجية مطلقاً

حيث قال أصحاب هذا القول بأنه ليس بحجة مطلقاً، لأنه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كون حجيته، أي مادامت شروط قبول الاعتماد عليه غير تامة.

وهو ما معناه صحة ادعاءهم نفي الحجية مطلقاً للإجماع عن طريق مثل هذا الخبر من جهة خاصة دون أخرى غيرها.

فلابد من أن نبدي المناقشة لقولهم مع شيء من التشقيق الموضح لها، وهو:-

أنه حسبما يتضح من قصدهم المذكور عند سبره أن الخبر الواحد على نحوين:-

أولهما ما لا يصلح أن يكون حجة بسبب عدم توفر شروط الحجية فيه عن طريق هذا الخبر الفاقد لها، وهو ما لا يصلح أن يتعبد به وفي نقله الإجماع، وهو ما أشرنا في الإجابة والمناقشة للقول الأول فيه.

ما وهو ما يعنون به في هذا القول الثاني بالذي لا حجة له مطلقاً، وهو الذي لا يمنع أن نوافقهم عليه بما تم من التحديد، سواء كان هذا النحو من الإجماع منقولاً بهذا الخبر، أو كان هذا الخبر منقولا وحده في عدم اعتباره.

ثانيهما: وهو الذي توفرت فيه شروط اعتباره والاحتجاج به له ولصحة الأخذ بالإجماع عن طريقه و ما أشرنا إليه أيضاً في المناقشة للقول الماضي عن ما هو المقبول مما دل عليه منطوق آية النبأ ، دون ما لم يقبل مفهومها.

وهو الرأي الذي رجحه الشيخ النائيني قدس سره كما سبق منا بيانه في الجزء الثاني من كتابنا هذا (المساعي)، فهو الخارج حتماً عن المنع المطلق عن إثبات الحجية حسب دعواهم التي ناقشناها.

ص: 52

القول الثالث: التفصيل بين الإجماع الحدسي والمنقول بقاعدة اللطف

بعد استثناء ما لم يكن من المحتملات العشرة الماضي ذكرها من الإجماعات المنقولة بأخبار الآحاد كالاجماعات المحصلة التجريبية والمرتبة عن طريق الحس والناشئة عن طريق الأخبار المتواترة والمستفيضة ونحوها.

وبعد التصميم على الخوض في خصوص ما يتعلق من تلك المحتملات بأخبار الآحاد المراد تشخيص الإجماع اللبي عن طريقها بمثل انحصار الأمر في نقل القولين الماضيين الأول والثاني عنها مع بيان مناقشتنا لكل منهما آنفاً بما يعطي محصل المناقشتين نفي الإطلاق الذي قاله الأول عن حجية الإجماع عن الخبر الواحد ونفي عدم حجيته مطلقاً مما قاله الثاني، وهو المنتج في القولين مع المناقشتين من البعض الموصوف بصفات ما یصح الأخذ يصح الاخذ به من هذا الخبر ثبوتاً وإثباتاً وإلى حد التعبد به ليكون الإجماع عن طريق حجة لبية كالإجماعات السابقة من الطرق الأخرى مع مرجح هذا النحو على تلك، لندرة تلك وقلة المتواترات وكثرة هذا النحو وازدياد الحاجة إليه وإن اشتدَّت شروط الأخذ به، لأن الأمر لابد أن يكون كما يقال:-

إذا لم يكن إلا الأسنة مركب *** فلا رأي للمحمول إلا ركوبها(1)

ولهذا مع انحصار الأمر في خصوص ربط الإجماع بخبر الواحد لا يبقى عندنا إلا التثليث بالقول الثالث المفصل بين نقل اتفاق الفقهاء أجمعهم إذا حوى قول المعصوم علیه السلام في جميع العصور حدساً عن هذا الخبر -

ص: 53


1- قيل هذا البيت للكميت بن زيد وهذه رواية ابن هشام والبيت من قصيدة عدد أبياتها ثمانية وثمانون بيتاً، ومطلعها: ألا لا أرى الأيام يقضي عجيبها ... بطول ولا الأحداث تفنى خطوبها

وبين نقل ذلك بقاعدة اللطف التي بنى عليها شيخ الطائفة الطوسي قدس سره.

وقال بالأول منها وهو الحدس الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره، وأعرض عن الثاني وهو الإجماع اللطفي.

أقول: من المحتمل أن يكون كلا القولين وهما الإجماع الحدسي والإجماع اللطفي مع جامعية اتصافهما بخبر الواحد من طوارئ ما يعرض على القول الأول وهو حجية الإجماع مطلقاً، وعلى القول الثاني وهو نفي الحجية مطلقاً .

و لهذا نسب إلى العلمين الطُّوسي قدس سره في كتبه(1) الالتزام بقاعدة اللطف والأنصاري قدس سره في فرائده (2) الالتزام بالحدس من التفصيل دون الأخذ بالقول الأول كلياً ودون الأخذ بالقول الثاني كلياً كذلك.

ونحن نضيف إلى ما بيناه في المناقشتين الماضيتين للقول الأول والثاني أنَّ الحدس إذا ما أردنا العمل به أن لا يكون إلا ملازماً للحس السابق عليه دون المرتبط بالمعنى التخرصي الذي لا ركن له كما مر في تفاصيل المحتملات العشرة.

لكن هذا المقدار من الحدس الذي تسرب إلى المنقول إليه إذا صار المنقول إليه المحصل لهذا الإجماع لا مما جاء من ذهن الناقل، لعدم حجيته بناءً على أن أدلة خبر الواحد لا تدل على تصديق الناقل في رأيه ونظره إذا صاحب نقله، عدم حجية رأيه على المنقول إليه.

وأما ما يتعلق من الكلام عن الإجماع المدركي فهو الذي لا يمكن الاستناد إليه في نفسه وإنما هو تابع لمداركه فإن كان مقبولا فهو المقبول وإلا فلا.

ص: 54


1- راجع كتابنا هذا ص 30
2- فرائد الأصول : ج 1 ص 95.

(الخاتمة حول مقدار حجية الإجماع اللبي)

لم يكن الإجماع الشرعي الإمامي بالمقدار الذي يمكن الاستفادة منه عند الحاجة إلى الاستدلال به بما يقابل الكتاب والسنة وتوابعهما من الأدلة اللفظية تقابلاً تاماً، لأقربية الأدلة اللفظية إلى مقام ما يحرز قبوله من حجيتها وضعف لبية الإجماع، لتوقف الإمامي منه على ما يثبت وجود رأي الإمام علیه السلام في المجمعين حتى لو لم يكن عدد المجمعين كثيراً.

و هو ما يستدعي تهيأ كل مطمئنات فعلية ارتباط آخر القديم - على الأقل كأيام الغيبة الصغرى بعد أيام الإمام العسكري علیه السلام وتواقيع الناحية المقدسة والسفير علي السمري "رضوان الله عليه" -

وأول الحديث كأيام المفيد وعلم الهدى والشيخ قدس سره و نحوهم ووصول أمثال هذه الإجماعات المحصلة أو المنقولة التي تكثر قرائنها عندنا.

وهي مع قلتها يتوقف تيسرها على أمور مر ذكر بعضها كالاتصالات الرّجالية المثبتة لصحتها تحققاً ونقلاً وما أثبته الفقهاء في موسوعاتهم مع ذكرهم لقرائن ما تحقق منها للاستدلال بها وما تم من الأدلة كتاباً وسنة ونحوهما وتطابقت آراء الإمامية عليه.

حتى عد ذلك من الضروريات المذهبية، بل الدينية عليه، لوجود ما يؤيد ذلك من نقول الآخرين، بحيث لا يمكن فيه نكران وجود هذه الإجماعات عليه، إذ لو كان شيء من ذلك لبان منه الخلاف.

أما ما لو شك في أمره من بعض الأمور لما أمكن تحقق شيء منه عليه.

ص: 55

(مناسبة ذكر الشهرة بعد الإجماع) الشهرة العملية

بما أنّ الشُّهرة عموماً قد اهتموا بها في الذكر- بعد الفراغ من الكلام عن الإجماع، لأنهم قد يكثرون من الاستناد إلى أحد أقسامها لتقوية بعض الأدلة الضعيفة مثل الروايات الضعيفة الناهضة بالشهرة العملية، كما أنَّ ترك عمل الأصحاب للخبر الصحيح أو هجرهم له موهن له -

لابد من تعقيب الكلام بعده بالبحث عن هذا العموم لها أولاً وذكر أقسامها وما يلزم من الكلام عنها ، ثم التثنية به عن خصوص العملية، للأهمية المذكورة، وبعده الجامع المشترك بينها وبين الإجماع المحتج به بالاحتجاج ولو في الجملة حينما كان أساس كل منها عبارة عن عمل الفقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى وبتواصل بين العهدين خلفاً عن سلف على نهج أساس رواية على وجه الاستدلال بها في الشهرة وعلى نهج أساس إجماعي في الإجماع وتسمية الشهرة في المقبول بلفظ الرواية وهي (المجمع عليه بين أصحابك).

فنقول: بعد اتخاذ قرار اللغويين للشهرة تضمنها عموماً معنى (ذيوع الشيء ووضوحه ومنه شهر فلان سيفه وسيف مشهور)، وسمي الشهر شهراً باشتهار هلاله بين الرائين له أو العادين لأيامه كاملة للقطع بثبوته شهراً، ومنه قضايا التأريخ العامة المشهورة لاشتهارها صحيحة وغير صحيحة ومنها الملفقة.

وبعد اتخاذ قرار الاصطلاحيين من أهل الحديث (الشهرة) لما يخص كل خبر خاص كثر راويه عن أهل العصمة علیهم السلام على وجه لا يبلغ حد التواتر، وبذلك يكون الخبر حينئذ (مشهوراً)، ويسمى أيضاً (مستفيضاً).

وبعد اتخاذ قرار الاصطلاحيين أيضاً من أهل الفقه المجتهدين (الشُّهرة) لما لم

ص: 56

يبلغ اتفاقهم القولي حد الإجماع اللبي ليعلم التفاوت الإيجابي بين العموم اللغوي والخصوصيين الاصطلاحيين عند المحدثين والمجتهدين لإمكان الجمع بينهما على موحد مسلكي شريف، كما سبق إيضاحه في الجزء الأول من كتابنا هذا (المساعي)، لثلاً يستغرب من خصوص الخاص بين عموم العام لعدم وجود المشاحة في الاصطلاح -

قد انقسمت الشُّهرة عموماً داخل الإطار الاصطلاحي الخاص لدى سعي الباحثين في الأصول قديماً وحديثاً إلى ثلاث أقسام، لا يمكن التخلّي عنها في الجملة فقهاً وأصولاً إن ثبت اعتبارها على ما سيتضح وهي روائية وعملية وفتوائية.

أقسام الشهرة

الأولى/ الشُّهرة الرّوائيّة

الشهرة الروائية هي عبارة عن اشتهار الرواية عن المعصومين علیهم السلام وذيوعها بين الرواة والمحدثين، بل بين عدة منهم، بحيث لم يصل ذلك إلى حد التواتر، لقطعية حالة التواتر وظنية الأقل منه.

ولذلك يتم إجراء البحث هنا، سواء كانت الرواية المدعى شهرتها شائعة على ألسنتهم قديماً وحديثاً، أو فيما دونه المدونون لتلك المشهورة في جوابهم من كثرة اهتمامهم بضبطها والاعتناء بها دون أن يشترط في تسمية خبرها بالمشهور أن يشتهر العمل به عند الفقهاء، لعدم وجود ملازمة ثابتة في ذلك، فقد يشتهر وقد لا يشتهر.

ولهذا كان بين الشُّهرة الروائية والشهرة العمليّة التّالي ذكرها عموم وخصوص من وجه لأنه (رب رواية مشهوره لم يعمل بها) لعدم توفر ما يصحح العمل بها لا في الذهن ولا في الخارج وكما قيل (رب مشهور لا أصل له) و (رَبِّ رواية غير

ص: 57

مشهورة كان قد عمل بها) لصحة الاعتماد عليها لمطابقتها لقواعد الاعتبار من أصول الحديث، بناءً على الوثوق، وإن عزّ ناصرها في أمور الإشاعة والإذاعة.

وهناك روايات كثيرة معمول بها تطابق كل منها بين رواية مشهورة روائياً ومشهورة في العمل بها وهما مورد الالتقاء في العموم والخصوص المذكور على ما سيتضح أمره في الشهرة العملية.

ولا أثر لهذه الشُّهرة الرّوائيّة في مجال الاعتبار أصلاً إلا بما يوجب الوثوق بها في الصدور ، ولذلك صارت مرشحة في حال حصوله للبناء عليها كما أشرنا آنفاً وكما سيأتي في وجوب تقديمها على الشَّاذ النادر من رواية أخرى وردت في مقابلها في باب تعارض الأدلة كما في مرفوعة زرارة.

الثانية / الشهرة العملية الإسنادية

بعد أن مرّ الكلام في تعداد أصل الأقسام الثلاثة، وأنَّ الشهرة الفتوائية هي الثالثة في تسلسل العدد والبحث الخاص لكل منها لما سيجيء ذكره -

إلا أننا نذكرها الآن لأن لها علاقة بما نحن فيه حول الشهرة العملية الإسنادية لعلاقتها بمعنى معين لم تتم قوتها إلا به، وهو استناد هذه الفتوى حين عمل فقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى إلى رواية على وجه الاستناد إليها والاستدلال بها في فتاواهم مما بين العهدين، فتلتقي بذلك الفتوى القديمة بالعمل القديم المستند إلى رواية معمول بها قديما بينهما.

فتظهر بذلك حال الثانية من الأقسام وهي الشُّهرة العملية الإسنادية، ويبقى المعنى الثَّاني غير المنسجم مع هذه العملية خالصاً للفتوائية الآتية في تسلسلها البحثي الخاص.

فالشهرة العملية الإسنادية مهمة جداً بين الأقسام الثلاثة، لكونها تجمع هذه

ص: 58

الأقسام وإن استفيد من كل من القسمين الآخرين كما وضح وكما سيتضح في الجملة، ولذلك مدحت الشهرات الثلاثة على رأي بعض الأجلاء في لسان بعض الروايات الشّريفة كالمقبولة ومرفوعة زرارة.

إلا أن هذه العملية الإسنادية هي المشخصة في أهميتها، حيث أنها كما أسلفنا جابرة لضعف سند الروايات الضعيفة، كما أنّ ترك عمل أولئك الفقهاء من الأصحاب موهن للرواية وإن كانت صحيحة كما مرت الإشارة إلى ذلك.

و من خواص ما عرفت به الإستنادية هذه بين أكابر الإصطلاحيين من الأعلام أنها لا أثر لها عملياً في غير الوجوب والحرمة إذا لم يستفد منها حسب إحصائياتهم ما كان من المستحبات والمكروهات وحتى المباحات لخفّة أمرها لعودها إلى أمور التسامح في أدلة السنن وإن كانت رواياتها ضعيفة، ولأهميته ولو بالاستناد إلى رواية ( من بلغه ثواب على عمل)(1) .

و كذلك يمكن القول بعدم ثبوت الاختصاص بشهرة الاستناد والاستفادة منه عند الحاجة والإعراض لتسبيب الوهن بخصوص مسائل الفقه، بل هي ثابته في جميع العلوم والفنون، بل والعرفيات المقبولة في تشخيص الموضوعات.

و لذلك نجد غير أهل الفقه من رواد بقية العلوم والفنون الأخرى قد ارتكز في أذهانهم متابعة المشهور فيما اختصوا به أو التزموا به عموماً وعدم متابعة ما أعرض عنه المشهور كما لا يخفى على كل من راجع العلوم والعرفيات.

ولكن نقول لابد من أن تتقيد هذه المعلومة الأخيرة بقواعد الدين الإسلامي العام ومداركه المعروفة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً وأنه دين الحياة في كل مجالاتها منها بقية العلوم والفنون والعرفيات وأن دستوره فيه (تبيان لكل شيء) وأن لابد أن

ص: 59


1- ثواب الأعمال - 160/1.

يرى رأيه المطابق على يد خبراءه المهمين.

فعند تصريح بعضهم بالمخالفة للشريعة من قرارات تلك العلوم والفنون و منها الطّب و الصيدلة و الهندسة والفلك ونحوها لابد أن يرفض فقهاؤنا حال الاختيار تصريحات أولئك الخبراء المخالفة للشريعة لدفع مفسدتها، أو لعدم المصلحة الغالبة لتلك المخالفة.

أما المصلحة الموافقة كما في حال الاضطرار بالعنوان الثانوي، و لو يجعل دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة لو لم يمكن توفر الأفضل، فلا مانع من ذلك بل هو المتعين كما في نصائح الطبيب الحاذق.

الثالث /الشهرة الفتوائية المجردة

لم تكن الشهرة الفتوائية بالأقل أهمية من الشهرة العملية الإسنادية وإن تجردت عما يقربها عند الباحثين من تلك الإسنادية، بل قد تزيد فيها من غير ناحية أهمية الإسنادية.

فأهمية الإسنادية ثابتة و واضحة الأدلة من جهة قوة وسرعة الاستفادة منها واللجوء إليها عند الحاجة لتقوية الضعاف من بعض الروايات بدون حاجة إلى نزاع كثير بينهم كالنزاع الكثير الدائر بينهم في خصوص الفتوائية مما قد تتشكل لأجله ضبابية أهمية البحث البالغة حولها، لكشفها في مقام محاولة التدليل على قبولها من عدمه مع مع التجرد المذكور.

و لعل من أهم ما يمكن منه في اقتضاء قبولها هو خصوص تمسك فقهاء ما بين العهدين بفتاوى من تقدمهم حينما كانت مطابقة للروايات المعمول بها وكأنها حرف بحرف لولا فواصل التدوين المتداولة بين المدونين المألوفين في مهارتهم الجافة لو حصل الاطمئنان بذلك دون ما هو غير.

ص: 60

أما مجرد اشتهار الفتوى بينهم من دون الاستناد إلى دليل أصلاً - سواء كان في البين دليل أو لا - فهو المشكل الذي يستدعي الكلام حوله مطولاً أو مختصراً وافياً.

ولعل من ذلك بادعاء البعض جاءت نسبة التزام الشهيد الأول قدس سره في لمعته على هذا النحو من الشهرة وكذلك المحقق الخونساوي وصاحب المعالم قدس سره و إن كان المشهور على خلافهم حسب قولهم.

ولكن يمكن أن نقول: بأن مقام هؤلاء الأعلام الثلاثة في الحوزات العلمية كيف يدعى عن التزامهم بهذا النحو من المستوى لو تجرد من كل مستند؟

وكيف يرمون بالمشهور المضاد لمشهورهم؟

و مقامهم المعلوم كيف تخفى عليه حقيقة أن لا يتقوم الشيء بما يخضع إلى أن يقوم هو من نفسه بما يضاده، مع العلم بالمجال الوافر للحمل على الصحة لأمثالهم بما أوضحناه أعلاه وهو ما توائم مع الأدلة، وبما لا يمنع من ذلك مانع.

إلا أن يكون كل من يدعي عنهم بل وعن أمثالهم من الفطاحل هذا الادعاء كان قد أثبت لنفسه أن جميع مبانيهم الفقهية المعروفة في كونها من مدوناتهم الخاصة لهم كانت من الفتاوى المشهورة المجردة من أي دليل.

وعلى كل حال إذا أردنا أن نقترب من أن تكون هذه المسألة للشهرة الفتوائية من حيث العمل بها فأما أن تكون تابعة لما تلتقي به مع ما جمعها مع الاستنادية الماضية، والاستنادية لم تخرج عن كونها مرتبطة بالروائية الأولى.

أو بما أوضحناه أعلاه من كون تلك الفتاوى كانت متون روايات شرعية وحصل الاطمئنان منها بعد التتبع كذلك.

ولهذا وأمثاله كما سيأتي التحقيق فيه ولو موجزاً كان الفقهاء قد أتقنوا في أصولهم الفقهية حرمة تقليد المجتهدين لمن كان مثلهم في الاجتهاد ممن سبقهم ما لم تكن المدارك عند الجميع هو الروايات المعمول بها لو صادف اتفاق نظرهم جميعاً

ص: 61

على المسألة الواحدة في نتيجة حكمها .

دون خصوص الرجوع إلى مجرد فتاواهم، لعدم وجود حجة ملزمة لمجتهد على مجتهد جامع للشرائط كان قد سبقه أو عاصره أو لحقه.

و قد نوهنا عن هذه الحالة في إحدى نبذنا الثّمانية عشر المدونة في رسالتنا العملية لطبعتها الثانية (المسائل المنتخبة من المقدّمات العامة) فلتراجع هناك.

ولأجل إكمال ما ينبغي إيجازه مما تعارف من الاستدلال على قبول هذه الشهرة بينهم وإبداء ما قد نصل إليه في الأخير إيجاباً أو سلباً نقول:-

أولاً: استدلوا على مقبوليّة الأخذ بها بما يطمئن على ذلك ويحقق الوثوق به من عدم وجود دليل أقوى من شهرة هذه الفتوى بما يخالفها، بينما الواقع على خلافه.

لكننا نثنّي فنقول: إن صحة هذا الدليل مرهونة بكون البناء على ما مر منها مقيداً لا على مجردها بل على الاطمئنان بكون فتاواها قد تضمنت حقا متون الروايات الشريفة المتبعة لدى المتلقين لا محض تلك الفتاوى، كي لا يكون التلقي منهم تقليد الفتاوى للسابقين لهم وهم أمثالهم في الاجتهاد.

وقد أشرنا إلى هذا المعنى سابقاً، وسيأتي ما يؤكده في آخر هذا الجزء الرابع.

ثانياً: استدلوا على مدعاهم بأنَّ الظَّن الحاصل من مجرد هذه الشهرة الفتوائية أقوى مما يحصل من الخبر الواحد فيشملها دليل اعتباره من باب أولى.

لكننا يمكننا أن نقول بأن الظن الحاصل من مجرد هذه الشهرة من دون استنادها إلى ما أسلفناه من المطمئن الأكيد - وهو احتواءها على متون الروايات المعتمدة ضعيف لا يبنى عليه، للأدلة المعلومة ومنها التجرد من نفس تلك الروايات.

وأن خبر الواحد لو لم يتصف بصفات ما يمكن التعبد به من منطوق آية النبأ لا مفهومها وغير ذلك، مع الاعتراف بأضعفيته في نفس عبارة المستدل -

فلن يكون هذا الاستدلال إلا مصداقاً من مصاديق قوله تعالى «ضَعُفَ الطَّالبُ

ص: 62

وَ الَمطلُوبُ»(1).

نعم لو توفّر ما قيدنا الأمر به في هذه الشهرة وفي الخبر الذي يصح التعبد به لا مجال للمنع من معنى هذا الاستدلال.

ثالثاً: استدلوا بإطلاق ما سبق ذكره من الرواية الشريفة وهي قول علیه السلام (خذ ما اجتمع عليه أصحابك واترك الشاذ الذي ليس بمشهور)(2)، أي على نحو ما مرّ تكراراً من أمثاله، وهذا في نظر ناقل الاستدلال قدس سره شيء لا بأس به.

لكننا نقدر أن نقول أيضاً : بأن الإطلاق وإن لم نقدر أن ننفيه من حيث مرور هذه الرواية وبعض شبيهاتها التي عليها طابع الإطلاق لا مما ينسجم إطلاقها مع كل الشهرات الثلاثة وهي الروائية والعلمية الإسنادية والفتوائية، لا بخصوص الفتوى المجردة.

فلا يمكن أن يكون تطبيق إطلاق هذه الرواية وشبيهتها لصالح إطلاق الشهرة الفتوائية حتى لو كانت مجردة مما علقنا أمرها العملي عليه فيطبق الإطلاق على الإطلاق، لعدم الدليل على هذا المعنى مع وجود ما ذكرناه من المعنى الآخر، وعليه فيكون الأمر بدون ما أضفناه من هذا التعليق غير خال من البأس على الأقل.

ثم إن مثل هذه الرواية ومثيلاتها الصالحة في إطلاقها لانطباقها على جميع الثلاثة المذكورة لا شك بسبب ما مر ذكره من القيود في كل منها كما لا يخفى في أن لا يكون اطلاق الرواية مؤثراً جواز الأخذ بإطلاق جميع الثلاثة حتى التي مرت المناقشة في أمرها من السلبيات وبالأخص كثيراً في الأولى وهذه الأخيرة.

ص: 63


1- سورة الحج / آية 73.
2- المعتبر - المحقق الحلي - ج 1 ص 62 عن أصول الكافي ج 1 كتاب فضل العلم ص86. ومجمع البحرين - الشيخ الطريحي - ج 1 ص399.

السيرة

لا يمكن البت أصلاً بمقبولية أية سيرة ليلتزم بالسِّير على نهجها في حياة التفاوت بين أهل الملل والنحل والديانات المختلفة والمذاهب المتعددة حتى إسلامياً في بعض ظواهر في الحلال والحرام القانونيين عند النبي الخاتم صلی الله علیه و اله وأهل بيته علیهم السلام وخلص الأصحاب وعمدة الحواري.

وعلى الأخص مع تفاوت ما جرى بعدهم أيضاً على الإنسانية والعرفية والعقلائية على المناهج الأخلاقية المعتمدة بين الجميع باطناً وظاهراً أو حتى ظاهراً فقط في صدر الإسلام المقدس الأول من خوارق الانحرافات ليلة الوفاة النبي صلی الله علیه و آله حتى كادت الجاهلية أن ترجع أو ما قد تزيد بسبب الفوضى المختلفة جديداً قديماً حتى حديثاً طولاً وعرضاً مع ضعف الاستقامة من ذلك كثيراً بين البشر المتفاوت كما أشرنا لو تيسرت عندهم بعض المشتركات الممدوحة.

بل حتى لو تكثرت في ذلك ليؤخذ بها بنحو الفرض الواجب مع التفاوت الفكري كمقياس أصولي مصحح عام للجميع إلا بما توصلت إليه ديانات السماء العظيمة في استقامتها بإسلامنا العزيز ودستوره القرآن الكريم وسيرة نبيه صلی الله علیه و آله الأخلاقي العظيم من سنته الشريفة بمسلكية أهل بيته الأطهار علیهم السلام و من حذا حذوهم من خلص الأصحاب والحواري قولاً وفعلاً وتقريراً معهم حتى استمرت سيرة المتشرعة كمصداق أول.

والعقلائية كمصداق ثان للسّيرة المذكورة في عنوان البحث من زمن أهل العصمة وحتى الغيبة الصغرى وما بعدها حتى يومنا هذا مما بقى محفوظا من تلك السلوكيات المتوارثة جيلاً بعد جيل ببركة ما أراد الله تعالى إسعادنا بسلامته في قوله

ص: 64

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1)وبركة ما أهتم بالتوصية بالاهتمام به النبي صلی الله علیه و اله لأمته في قوله أيضاً عن حديث الثقلين (وإنهما - الكتاب والعترة - لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(2) وهي السيرة التي أطلق عليها بين أهل الاصطلاح من الأصوليين أيضاً بعمل الأصحاب.

بل هي التي لأهميتها - عندما تضعف لدى بعض الفقهاء مدارك بعض الأحكام أو تقل بسبب ما قد يطرأ من الانسدادات المتعمدة من قبل بعض أعداء المذهب والمخفية من بعض البخلاء أو أهل التزلف طمعاً ونحوه للألداء أو ما حصل من بعض الكوارث الطبيعية من حوادث الابتلاء أو ما أحدثه المقلّصون أخيراً لبعض أو كثير الروايات التي يمكن قبولها بطريقة وأخرى والاستفادة منها بمعونة قرائن ما يحقق لها الاعتبار ممن سموا بأهل الحداثة والتجديد للتزلف أو الغباء أو الاشتباه -

لابد أن يستند إليها وحدها أو لتقوية الدليل معها، بل هي المدارك المهمة لبقاء بعض شكليات ومظاهر سلوكياتنا الإسلامية الواجبة، بل حتى واقعياتها ويؤديها العرف والعقلاء وأهل الإنسانية المتعاضدون على النهج الموحد مع المتشرعة دون ما يغاير ما قررناه في هذه المقدمة من حالات التطرف والشذوذ ، لئلا تتركب هذه السيرة المستمرة مما هو صالح وطالح، ولذلك قال تعالى في صورة الذم والاستنكار «و آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِم خَلَطُوا عَمَلاً صالحاً وَ آخَرَ سَيِئًا )(3) وعلى غرار القاعدة

ص: 65


1- سورة الحجر / آية 9.
2- ينابيع المودة - القندوزي الحنفي - ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرضا علیه السلام، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (14/3، 17، 26 ، 59) ، و أبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
3- سورة التوبة / آية 102.

الإيمانية المعروفة (لا يطاع الله من حيث يعصى).

وتُعد هذه السِّيرة لو تحققت - حتّى مع عمومها لكونها على أساس من المباني الظنية الخاصة - مفضلة حتى على الإجماع القولي الماضي ذكره، لأنها إجماع عملي، ولهذا نلزم أنفسنا أن نبحث عنها الآن.

ولأجل أن لا يبخس بحق العقل البشري المخلوق إلهياً بأنه أول الرسل للإنسان مطلقاً وإن كان رسولاً باطنياً له، لأن من مظاهره المفيدة له في كل زمان ومكان ولصالحه حتى مع أهم المبادئ التي خاتمها الإسلام العزيز - عقلائيات أبناءه الهادية له والمنسجمة تماماً مع الإسلام الخاتم -

عدت هذه العقلائيات مما يمكن أن يستفاد منها مع سيرة المتشرعة المذكورة صالحة لأن يدخلا معاً في البحث الحالي وتحت عنوان لفظة السيرة غير المقيدة بشيء. وإن ركزنا على الأولى ببعض العناية لما مر ذكره، لأن السيرة العامة المنضوي تحتها سيرة المتشرعة والسيرة العقلائية منوطة بشروط معينة آتية لو تحققت لتساوى الاثنان في الاعتبار.

بل إنّ هذه العقلائية العامة لو تكاملت عند إمكان الاستدلال بسيرتها لما اختصت في إفادته بخصوص الأصول وأبواب الإمارات، بل شاع ذلك في باب الفقهيات أيضاً من أبواب المعاملات التي يتحقق البت فيها بتشخيص بعضها عن طريق أهل السيرة العقلائية حال انسجامها مع الشرع والعرف.

بل احتيج إلى البحث عن أمورها كثيراً بعد قلة استعمال الإجماع المنقول بعد ما كان مألوفاً بكثرته في السابق، وهكذا الشهرة وإعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ولو كمعوض عن هذه الأمور.

ص: 66

انقسام السيرة إلى قسمين

بعد ذكر ما مضى من التقديم وبيان الحاجة إلى ما يحوجنا إلى البحث عما هو المفيد أو الضروري وترك غيره -

لابد بالتالي إلى ذكر انقسام السيرة إلى قسمين وهما:-

(السيرة العامة والخاصة)

والسيرة العامة هي التي أسلفنا الإشارة إلى ذكرها أعلاه في التقديم وهي لعمومها لا يراد منها من المصداق الأسمى سوى سيرة المتشرعة ومعها السيرة العقلائية داخلة فيها، أو ما قد يطلق عليها (العقلائية العامة) لتنضوي تحتها السيرتان، لما اتضح شيء أو بعضه من سر ذلك أعلاه للمعقولية التامة التي لابد أن تفرض نفسها في حالات أو كثير منها من جوامع الانسجام الكثيرة بين مقررات شرع الله مع أصوله والمقررات العقلائية، والله خالق العقول وسيدها.

السيرة العقلائية العامة

ونقدّم الكلام عن العقلائية العامة الآن للحاجة إلى شيء من التفصيل عن دليليتها المشتركة للسيرتين كما تعرضنا لهما في التقديم ومحاولة بيان ما يصحح ذلك ويبطل ما عداه ومن ثَمَّ العثور على حجيتها وإن كان خصوص العقلائية عن سيرة المتشرعة هی المتأخرة في الذكر في التقديم الآنف.

وتأخر الكلام أيضاً عن السيرة القطعية بين المستمرة بين المتشرعة حال استقلالها عن العقلائية الخاصة، وإن تقدم ذكرها في التقديم لسهولة الاستدلال عليها وحدها ووضوح أمر الحجية الناتجة عنه حين البحث المستقل بعد الفراغ عن العقلائية العامة المشتركة.

ص: 67

بل يمكن أن تكون هذه العقلائية بصفتها العامة شاملة للمتشرعة الداخلة فيها أيضاً في التقاء أمرهما معاً فيما يأتي من استفادتهما من بعض الأمثلة الصحيحة المطابقة للاثنين دون ضمان ذلك في موارد الاستقلال في البحث عن كل من الحالتين.

والسّيرة الخاصة هي التي يمكن أن نطلق عليها في أسلوبنا البياني هذا ونريد منها السيرة القطعية المستمرة بين المتشرعة التي ستأتي بعد العقلائية العامة كما أشرنا.

ويمكن أن نطلق عليها هذه العبارة ونريد منها العقلائية الخاصة التي لا ضمان من تعقلات ذويها في الاستقامة المنسجمة مع الشرع وأهله كما سيأتي قريباً بعض حالاتها.

وبعد الانتهاء من حالات التقسيم وما يناسب مع ما ينبغي تقديمه وما ينبغي تأخيره في الذكر وبعض الأسباب المرجحة للأول والثاني نقول:-

إن السيرة العقلائية العامة بعد أن أشرنا في المقدمة إلى أنها لم تكن بسهلة المنال إذا دخلت في عمومها المتشرعية إلا باحتوائها على الشروط المعينة لما يعتري كثيراً - بل غالباً - بعض العقول أو كثيرها وتصرفات أكثر العقلاء معترضات النفوس الإمارة والشيطانيات الماكرة ونحوها لتكون مؤهلة تماماً لتلاقيها الإيجابي في النتيجة مع ضبط أساسيات ذلك بالسيرة القطعية المستمرة بين المتشرعة الآتي بيانها والتي لابد أن يحسب الأمر بينهما من الوجهتين العلمية والعملية كحساب التوأمية بين فردي التوأم كالتوأمية الآتية التي يلزم أن تكون في بحث ونتيجة الدليل اللبي الثاني الآتي ذكر بحوثه بإذن الله في هذا الجزء الرابع من كتاب ( المساعي) وهو العقل بينه وبين الشرع في موارد تلاقيهما المهمة.

وعلى فرض تحقق شروط هذه السيرة العقلائية الشاملة المعينة لم تكن بخالية الوفاض في ميدان العمل الاستثماري الجاد جملة أو تفصيلاً حسبما يعطيه مجهود

ص: 68

الباحث الطموح المجتهد عن أحدهما المتوفّر -

تكون هذه السيرة أو ما أطلقوا عليها ببناء العقلاء العام قد استفادوا منها - أو عن طريق هذا البناء - حجية خبر الواحد الثّقة وحجية الظواهر.

وفي مجال آخر استفادوا حجية الاستصحاب وكل هذا الاستثمار في الميدان الأصولي بما هو مفصل في محله.

وكون هذه السِّيرة أو بناء العقلاء قد استفادوا بواسطتها حجية قول أهل الخبرة فقهيا في باب المعاملات كما في تقادير ما قد يتنازع فيه من المقدار الكافي المناسب من نفقات ما يجب بذله على ذوي القربى الخاصين -

فإنّ أهل الخبرة هم المقدمون على غيرهم في مورد كل ما يتنازع فيه حولها مما هو محرر في محله .

وقد لا تنجح عن هذا الطريق حجية قول اللغوي، لوجود تفاوت أذهان اللغویین مع تعدد لغاتهم ودياناتهم ومشاربهم، مما لا يمكن منه على ضوء مركبات اللغويين مع تعدد هذا التفاوت تشخيص دقائق الأمور.

وعلى الأخص لو أريد من ذلك تشخيص بعض الحقائق الشرعية، بل حتى المتشرعية إلا بما مر ذكره في الجزء الأول من كتابنا (المساعي) عن الأمور العربية التي للقرآن والسنة شأن قواعدي مهم فيهما، ومعهما كل سير عقلائي رشيد بعد إعواز الأدلة وتسلسلاتها للاستفادة العامة منها دون الخاصة من تلك الحاجة.

ولهذه الحالة السلبية في غير ما استثنيناه من الإنتاج تحسب هذه السيرة من الخاصة غير المنتجة لا العامة المشتركة، وسيتضح الأمر أكثر.

ولأجل محاولة تقريب هذه السيرة من أن تكون كالمتشرعية في الاعتبار وهي داخلة في عمومها لابد من دراسة الشروط المعينة، وهي وهي ثلاثة:

الشرط الأول: أن تكون هذه السيرة العقلائية - بعد أن كانت مما ينتظر فيها أن

ص: 69

يكون الشارع متحد المسلك العقلاء لتوفر قابلية ذلك فيها بسبب عدم وجود المانع من ذلك، وحيث لا ردع من هذا الشارع عن هذا الاتحاد معها - متحدّة المسلك معه قديماً وحديثاً وبمواصلة مطمئنة بين أصحاب الأئمة علیهم السلام في الغيبة الصغرى، مع ما كان قبلها وبين الغيبة الكبرى وهذه الأيام.

بل لابد من أن يعلم هذا الاتحاد من الشارع مع أولئك العقلاء في هذا المسلك، لأنه أحد العقلاء، بل رئيسهم .

فلو لم يرتض هذه السيرة ولم يتخذها مسلكاً له - وكما عرف من الأساليب المرضية ومن عدم اعتراض أي مانع مخل - لبين ذلك ولو في الظاهر الذي قد ينحصر الأمر به كسائر العقلاء، بل لأحرصيته منهم ولردعهم عنها وإعطاهم بدلها لا سيما في الإمارات المعمول بها عند العقلاء كخبر الواحد الثقة والظواهر.

وبهذا النحو يلتقي المسلكان على مستوى التوأمية المشار إليها في الماضي أساساً وإنتاجاً، لإمكان بل لوقوع ما به تيسير أمر الانتاج العلمي، وهو ما يحقق السيرة العقلائية العامة الشاملة للمتشرعية أيضاً من هذا التيسير.

الشَّرط الثَّاني: أن تكون السيرة العقلائية مؤثرة في قرارها بالاهتمام ببناءها على الاحتجاج بمثل الاستصحاب، لكون الكثير من أبناء هذه السيرة هم مسلمون - حتى لو لم ينظر من ذلك اتحاد الشارع مع العقلاء فيها بصراحة كافية أو ما جاء إلا مصادفة، لأنَّ المسلمين من العقلاء - بل متأثرة بكل من يتعاون معها في تشييد أركان الحياة حتى بمثل الاكتفاء من عدم الردع عن الأخذ بذلك من هذا الشارع إذا لم يأت منه مما هو أقوى من عدم الردع وإن سمّي عند المسلمين الخواص وهم أهل العلم من الأصوليين بمثل تقرير المعصوم علیه السلام المعد أحد ما يُحتج به لتأييد هذه السيرة العقلائية أو للتوحد معها.

وعليه فنفس عدم ثبوت ردع الشارع - ما شئت فعبر - كاف في استكشاف

ص: 70

موافقة العقلاء، لأن ذلك مما يعنيه ويهمه من باب أولى، فلو لم يرتض هذه السيرة منهم - وهي بمرأى ومسمع من الشارع - لمنعهم ولردعهم عنها، وعدم المنع والردع كاف في مشروعية ما يتحد عليه الاثنان من دون حاجة إلى لزوم إدراك الردع الواقعي إذا لم تظهر مؤهلاته، ولو كان لبان.

وبهذا تثبت حجية الاستصحاب ببناء العقلاء وبرضى من الشارع على ما سيتضح أمره في بابه.

أما مفهوم هذا الشرط مع كونه مما لم ينتظر منه اتحاد الشارع مع العقلاء فيه كذلك، لكن من جهة عدم العلم بجريان سيرة العقلاء في مثل العمل بلزوم الرجوع إلى أهل الخبرة في الأمور الشّرعيّة في إثبات اللغات لما بيناه سلفاً من السبب

فلم تثبت من أجله حجية سيرتهم إن أدعيت.

الشرط الثَّالث: إذا لم يعلم ثبوت السيرة في الأمور الشرعية خاصة لا يكفى حينئذ في استكشاف موافقة الشارع من مجرد عدم ثبوت الردع عنه، إذ لعله ردعهم عن إجرائها في الأمور الشرعية فلم يجروها ، أو لعلهم لم يجروها في الأمور الشرعية من عند أنفسهم فلم يكن من وظيفة الشارع عنها في غير الأمور الشرعية لو كان الشارع لم يرتضها في الشرعيات.

وعلى هذا الأساس واختلاف الحال في سعي المتتبع بين مصداقين - مصداق موافق وآخر مخالف - لابد لأجل استكشاف رضا الشارع وموافقته على إجرائها في الشَّرعيّات خاصة من إقامة دليل خاص قطعي على ذلك.

وفي حالة عدم وجود شيء من ذلك لن يستكشف من عدمه رضاه حينئذ.

و قد تبين بعد الفحص والتتبع حول هذا الشرط بأن بعض السير قد ثبت منها عن الشارع إمضاؤه لها، مثل الرجوع إلى أهل الخبرة عند النزاع في تقدير قيم الأشياء ومقاديرها نظير القيميات المضمونة بسب التعدي والتفريط ونحو ذلك،

ص: 71

وتقدير قدر الكفاية في نفقات الأقارب الخاصين كما سبق ذكر شيء من ذلك أيضاً.

فهو ما يؤخذ به لمطابقته للشرط.

وقد يتبين الخلاف لو لم يثبت حقاً مما مضى دليل خاص قطعي له كالسيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة أيضاً، لكن في اللغات لما بيناه في السابق من التوجيه لداعي المخالفة فلا عبرة بها وإن حصل الظن منها، لعدم إفادته في التقويم مادامت القطعية لم تثبت أمرها.

حجية سيرة المتشرعة خاصة

بما أنه لا يلزم دائماً بأن يختلط الكلام بين السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة ليعطيا معاً نتيجة موحدة مقبولة لديهما وباستمرار قديماً وحديثاً - وإن كثرت مصاديق الوفاق بينهما في مجالات عديدة في هذه الحياة بين الأنبياء والرسل ونبينا الخاتم صلی الله علیه و آله وأتباعهم لجامع التدين والعقلائية - لعدم إمكان أن يستمر بينهما هذا الديدن في خضوع الأولى إلى الثانية، حتى لو كان ذووا السيرة العقلائية من المسلمين أو حتّى بعض متدينيهم لجهة كثرة التفاوت بين طبقاتهم بين مطيع للشرع في سيرته وبين متطرف عنه حتى مع بقاء مظاهر الإسلام والتدين غير الكافي، أو حتى ما كان من الشرع من بعض الإمضاء لبعض حالات العقل الجامع بينهما تشويقاً منه لهم لغرض التعمق الإيماني لا للبقاء على السطحية المخيفة من البقاء على الإسلام أو الإيمان السطحي الخطير إلا بما يخضع العقلاء بتدينهم وإيمانهم الراسخ دوماً بالتقيد بالشرع مع جامع التعقل غير المحفوف بالمشاكل.

ولأجل أن يكون هذا المطلب مسلماً بينهما في ذلك كالتوأمية التي ذكرناها عند التصادق التام كنا قد اشترطنا كالآخرين الشروط الثلاثة لتصحيح هذا التلاقي أو لإبقائه.

ص: 72

أما في حال عدم إمكان توفير هذه الشروط فلابد من انفصال أمر سيرة المتشرعة خاصة عن تلك العقلائية المطلقة في عنانها لا لإدامة معاداة قد تدعى لبعض المعاني الموهونة، لما مر في التقديم الماضي وغيره ولبعض فوارق يأتي المرور عليها الآن بين السيرتين، ولتوفر ما يخص سيرة المتشرعة وحدها من مقوماتها الخاصة بها إذا تطرفت العقلائية أو زجت نفسها أو زجت في مطبات الخطورة، ومن واضحات الفوارق الأمور التالية:

أولاً : إذا ما أردنا أن نستدل يوماً على مشروعية السيرة المتشرعية بما تستحق من الأدلة لابد أن نثبت استقرار بناء المتشرعة على ذلك معه بدون تزعزع، ومن مهمات ذلك عمل أصحاب الأئمة عليهم السلام والأجيال المعاصرة لهم من الملتزمين، ولهذا جاءت بعض الأدلة كقوله تعالى «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا»(1)و قول النبي صلی الله علیه و آله (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(2) وغيرها.

وأما السيرة العقلائية فيكفينا منها أن نثبت أن انطباع العقلائية لو خليت ونفسها، حتى لو كان مسار هذا الانطباع غير منسجم مع الشرع بعض الشيء كالأطباء في نصائحهم الصحية وغيرهم من الأكاديميين، ولم يردع عنها في قراراتها من الشرع لكان مقتضاها أن تطبيقها عمل مقبول من الأعمال، وإن كان الأئمة وأصحابهم لم يسيروا دراسياً مسار هذه الطبقات اختيارياً، لعمومية وإطلاق قاعدة الاضطرار.

وقد يبرر لهذا العمل مع الفارق المذكور برد هذا القبول الشرعي بمثل الإمضاء لمثل قول الطبيب الحاذق عند الحاجة الماسة لدى المرضى حتى بمجرد تقرير المعصوم

ص: 73


1- سورة البقرة / آية 187
2- أصول من الكافي ج 1 ص 58 بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.

علیهم السلام

ثانياً: لا يعقل أن تكون سيرة المتشرعة يوماً - لو استكملت شروطها وأدلتها المبنائية الثابتة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً - أن يطرأ عليها الردع، لأنها بعد ما مر في كونها تكشف عن البيان الشرعي كشف المعلول عن علته، فهي وليدة البيان الشرعي على وفقها وبالأخص في المدركين اللفظيين (الكتاب والسنة).

فلا يعقل أبداً مثل هذا الردع البياني مع محفوظية القرآن الكريم عما يزعمه بعض المخالفين من نسخ التّلاوة مع السنة.

وأما سيرة العقلاء فإن انعقادها وإن كانت ليست معلولة للشارع من بداية خلق الله تعالى العقل وكرم به الإنسان بعد أن خلقه ليستقيم به لو خُلّي ونفسه، بل لقضية عقلائية لو تجاوز أصحابها في تحرّرياتهم غير المنضبطة ما تلائمت فيه السيرتان من الشروط الثَّلاثة الماضية وتجاوزوا أيضاً ما اختصت به المتشرعية في بحثنا الحالي.

حتى لو كان أولئك العقلاء من العلماء بعلوم الدقة الفلسفية ونحوها من المعارف الدقيقة الأخرى ولم تنسجم مع الدقيات العرفية الشرعية المليئة بالرفق والامتنان والتسامح .

إلا أنها تكون معرضاً محتملاً للردع في بعض أو كثير من مقرراتها من الشارع. ثالثاً ومما يمكن أن يلحق بالفارقين الماضيين كثالث بين السيرتين مما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في كتابه المكاسب من بحث المعاطاة من تفريقه بين سيرة المتشرعة الأصيلة الجارية من زمن المعصومين علیهم السلام، بل مع كون أحد المعصومين كان عاملاً بها أو مقرراً لها بنحو القطع والتعيين وبين السيرة الأخرى التي لا يعلم أبداً منها ذلك أو علم أنها صارت بعد زمن الأئمة علیهم السلام حيث قال مصرحاً برأيه عن السيرة الأخرى:

ص: 74

(وأما ثبوت السيرة واستمرارها على التوريث(1)، فهي كسائر سيرهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة في الدِّين مما لا يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، كما لا يخفى(2)

أقول بعد هذا القول هناك من أمثال هذا الشيخ الأعظم قدس سره في تتبعاته المليئة بكثرة مصاديق ما أدعي وما يُدعى له أو لغيره عن بعض السير التي لا أساس يُذكر لها في بعض أو كثير ما قد يلحق بالعبادات أو المعاملات وهي ليست كذلك.

فإن كل متتبع محسوب على أهل الورع والتقوى من فقهاء الأمة وأصولييهم إن مارس التدقيق عن كثب بنفسه أو معه أعوانه الحريصون للتعرف على ما يشاع ويذاع من عادات الناس وتقاليدهم وللبحث عن مستوى أساسياتها إذا كانت متوارثة أو موروثة من الأزمنة القديمة-

لابد أن يفرض على نفسه مسؤولية البحث عن أنها هل كانت بعضها أو جلها أو كلها غير أصيلة.

بل قد تكون من البدع والمختلقات على أكثر الاحتمالات إذا كان المجرون لها ومروجوها من فصيلة الهمج الرعاع والسذج الذين لم يعتنوا بكون هذه الأمور أنّ لها أساساً دينياً أو بعضاً منه، كأن صبغت بعض تلك البدع مؤخراً بالأطار الديني البعض المصادفات الدينية السطحية كالنوروز بتحويله من طقوس الجاهلية إلى السيرة الإسلامية، وهو وإن رجح في تحويله لخدمة الإسلام ورجاله وذكرياته الجليلة ولتعظيم الشعائر من الجهة المغايرة لجهة النوروز بين التأريخ الشمسي والقمري، إلا أنَّ الأهم هو محاربة طقوس الجاهلية التي لم يبرر لها الأئمة علیهم السلام مبرراتها تقدمت أو

ص: 75


1- يقصد توريث ما يباع معاطاة.
2- كتاب المكاسب - الشيخ الأنصاري ج 3 ص 42.

تاخرت

وتحويل أذهان العوام من السذج والبسطاء من العادات التي لا أصل لها إلى ما كان مشفوعاً بالأصالة ومن قبيل قضية النوروز المذكورة السانيات العشائرية وإن أصابت من بعض توارثها بعض الشيء من الإصلاحات الاجتماعية التي قد يرحب بها الإسلام إذا قارنت حلوله، إلا أنها وجداناً أصبحت أضرارها أكثر من نفعها، وكذا القيام لكل قادم دنا في اعتباره أم علا فيه دينياً مع أهمية توقير الثاني.

وكذلك توارث عادة تقبيل يد كل من هب ودب ونسيان من يستحق ذلك كالأب المؤمن والأستاذ المؤمن والمرجع الديني الجامع للشرائط نيابة عن تقبيل يد المعصوم المنيب علیه السلام.

وكذلك التصفيق في المحافل الدينية، وزخرفة المساجد والمقابر، إلى غير ذلك من الموروثات الاجتماعية الأخرى التي قد تحسب على الإسلام لبعض جوانب شبهات ما يدعى من مرجحاته بسبب تعود الناس عليه، والعادة مما يصعب تركها من الحالة النفسية المرضية لبعض الأشخاص أو خجلاً من الآخرين المعتادين أو إصراراً عنادياً من دافع حماقة لشخص يشجع على المنع.

ونصيحتي لكل مؤمن يُقلّد مرجعاً جامعاً للشرائط أن يراجعه حول كل العادات والتقاليد المشكلة.

وبعد الذي مر بنا وقد كنا من أهل النظر وحصل شك في سيرة مطلقة بأنها مما توفّرت فيها الشروط الثلاثة الماضية أم لا ؟ قبل وصولنا إلى مظان أدلة التحقيق منها -

لابد من الامتناع أولاً عن التسرع بالرضا عنها.

وثانياً بالفحص الدقيق عن المصدر ، ليكون اتخاذ القرار السلبي أو الإيجابي عن الخبرة الوافية جرياً على ما يريده منا الشيخ الأعظم قدس سره وأمثاله ومن قبلهم الأئمة علیهم السلام

ص: 76

وبعد أن انحصر الأمر في خصوص ما يتعلق بسيرة المتشرعة وحدها نقول عنها:-

أنها بعد أن كانت مثبتاتها من زمن المعصومين علیهم السلام وقد عملوا بها أو أمضوهاأو جمعوا بينهما واستمرت تلك متصلة بسلام إلينا -

فهي الحجة القطعية و التعيينية التي لا غبار عليها على موافقة الشرع لها.

فتكون بنفسها دليلاً على الحكم كالإجماع القولي الموجب للحدس القطعي برأي المعصوم علیه السلام.

وبهذا يحصل الاختلاف عن سيرة العقلاء، إلا بما ذكرناه من حالة عدم الردع الذي أمضاه الشارع لنا حولها.

وختاماً نقول: عن مدى دلالة السيرة المشروعة التي تكون حجة متبعة فأقصى ما تقتضيه أن تدل على مشروعية الفعل المسار عليه وعدم حرمته إذا كانت السيرة على الفعل، أو تدل على مشروعية الترك وعدم وجوب الفعل في صورة السيرة على الترك.

وهكذا الاستحباب في مقام الفعل والكراهية في مقام الترك، لكن لا موضوعية من نفس السيرة في الدلالة على ذلك، لأن العمل فيها مجمل لا دلالة فيه بأكثر من مشروعية الفعل أو الترك مما أشرنا إليه سابقاً وصرحنا به لاحقاً.

ص: 77

المبحث الثاني / (العقل)

وفيه فصول

الفصل الأول / (العقل في دلالته اللبيّة)

بعد انتهاء الكلام عن الدليل اللبي الأول وهو الإجماع وما الحقنا به من تابعيه وهما الشهرة والسيرة من هذا الجزء الأصولي وما بيناه عنه وعن التابعين ولو بإيجاز في بعض الحالات :-

جاء دور الكلام عن (العقل) أيضاً، لتنسيق بيان المطلبين اللازم في تعاقبه، ولو لسدّ حاجة طلاب النسق ولو تذكيراً به عن الدليل اللبي الثاني، وحول مستوى دلالته اللبية أيضاً في مقابل الدليلين اللفظيين السابقين مما ذكرناه في الجزء الماضي وما سبقه الخاص من أصولنا (المساعي) بمباحث الألفاظ من كلا قسميه (الأول والثاني).

والدليلان اللفظيان كما لا يخفى هما الكتاب والسنة وتوابعهما الأصولية.

ومقابل الدليل الثَّالث الذي مر علينا أيضاً التذكير به آنفاً وبالبحث عنه من الجزء الرابع وهو الإجماع مع تابعيه.

ليتم هذا الكلام عن تمام الأدلة الأربعة المتعارفة في الأصول بين أربابه والتي يلزمنا أيضاً استيفاء الكلام عنها بأجمعها مع ما يناط بها في أصولنا على ما حضرنا من التوفيق الإلهي له بالتدوين لها، وإن لم يكن بنحو الاستقصاء الكامل لبعضها رغبة في اختصاره إلى حين توسعته في مجال آخر لو لم يصدق عليه عنوان التلخيص الكثير لهذه الأدلة الأربعة وملحقاتها مما بين جزئي أصولنا الثاني والثالث وعن البحثين اللبيين (الإجماع والعقل) و عما يكمله من الكلام اللازم الآخر حسبما خططنا له في هذا الجزء الآخر من البحوث الباقية كبحوث الحجة ومراتبها وإلى آخر

ص: 78

ملحقاتها وكبحث التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة)، وكبحث الاجتهاد والتقليد ختماً لهذا الجزء.

ثم التهيؤ لبحوث باقيها في الجزء الخامس، وهو الأخير المرتبط بالاستصحاب والأصول العمليّة المقررة للشاك في مقام العمل.

ولذلك نقول عما نحن الآن بصدده من عنوان هذا البحث:

لم يكن العقل يوماً أو ساعة أو حتى لحظة بذلك المكون العادي، لكونه إلهياً عظيماً ممنوحاً من الخالق تعالى لكل من يعقل من الجن والإنس تكريماً لهم وليشعروا بالمسؤولية عن طريقه تجاهه.

وبالأخص في دار الابتلاء هذه مهما ابتعد صاحبه من بني البشر عنه ومعهم بقية من كلف بالشعور بالمسؤولية من الصنف الآخر من المكلفين حبا بالمغريات الدنيوية المشغلة لكافتهم عن تعقلاتهم الثمينة منه لو تأملوا جيداً إن لم يكتف بالأقل منذ بداية لحظات الحاجة إلى التأمل عن كمال وصافي طبائع هذا العقل الربانية التي ميزت هذا البشر ومن التحق به في العقل والتكليف عن كامل البهائم والعجماوات ممن لا يعقل، لكونها مسخرة لخدمة أبناءه ولما خلقهم الله تعالى لأجله -

فجميع ما ذكرناه عن نعمة إيجاد هذا العقل لم يكن ولو للحظة بالذي يعقل أن يكون مجهولاً في قدره التكويني، وكذا التشريعي على ما سيجيء اتضاح أمره قريباً، لو يتفرغ له وحده عن أن تحف به تلك المغريات إذا أريد استغلال منافعه القيمة سالمة غیر مشوهة بما يحذر ويخاف منه حتى في أشد الحالات الخانقة الدنيوية المتلهف لخيرها، لإمكان حلّ أمره وإنقاذه من مشاكله عن طريقه وإلى ما فيه رضا الله تعالى وإلى أفضل الهدايات البعيدة عن المعاصي المتكونة من المغريات إن ارتاض العاقل بالرياضة المحكمة بتنزهه عن كل ما كان به مخيفاً وخطراً، أو كان ذا ملكة محافظة على الاستفادة من خصوص عقله المجرد.

ص: 79

وللتوضيح نكرر ونقول بلسان قريب آخر:.

توضيح ما مضى بأسلوب آخر مع بعض الإضافات النافعة

إنَّ البشر لو تأمل - في أبناءه قبل أن يكون مسلماً أو مؤمناً أو ما هو أعمق، ككونه في عاطفة وألفة معتدلة بإنسانية مستقيمة تريد العيش بسلام دائم-تأمله في ذاته المتكاملة بتلك التحفة العقلية الممنوحة إيَّاه، تكريماً له ولكل من يعقل من خالق المكونات "جل وعلا" بشرية وغيرها، ليميز العقلاء بعقولهم، فيعيشوا بانتظام معقول شعور وحس طبيعي مقبول في دنياه وآخرته لإسعاده فيهما تجاه نفسه ومن حوله وتجاه خالقه المنعم تعالى.

فتفترق عن تلك العجماوات وغيرها من المخلوقات المسخرة لخدمته.

و هي نعم جمة أخرى لا تعيش إلا لصالحه ولصالح ما خلقها تعالى لأجله من الأسباب أو العلل، ولا تعيش إلا بمستوى هداها المحدود لذلك الصالح أكلاً وشرباً وتكاثراً ولما يقتضيه جمال الطبيعة الإلهية البديعة ما دام البشر موجوداً بحكم حكمة الباري تعالى -

لما أدرك من صفاء عقله هو وكل مكلّف عاقل إلا ما يوجب عليه الشعور بالمسؤولية الكاملة ووجوب شكر المنعم تعالى والشعور الاعتقادي من وحي هذا العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم والإقرار بحجية كل ما يعتقد به من الوجدانيات التي لا يختلف فيها اثنان من العقلاء ك- (الكل أعظم من الجزء) والأخذ بالبديهيات المسلمة الأخرى في ضرورتها والتي لا يجوز إنكارها كلما كانت تلك العقليات مستقلة في تصوراتها وتصديقاتها ولم يردع الشرع عنها.

حتى عرف من أقدم العصور أنَّ هذا العقل إذا كان صافياً منقحاً من کل الترسبيّات المشوشة في أذهان هذا وذاك وذلك -

ص: 80

يعد أول شيء أخضع البشر وبقية من شملهم قلم التكليف عقيدة وسلوكاً وعملاً من المخلوق الثاني وهو الجن - مهما تمرد من تمرد وعصى من عصى - لطاعة الخالق تعالى بعد توحيده في ذاته وبقية لوازم ما يجب من الإعتقاديات الحقة في حقه لعبادته، ولذا قال تعالى في قرآنه الكريم بعد نزول مثيلاته من نصوص الكتب السَّماويّة السّابقة «وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ»(1)

و لهذا ونحوه عرف بين الفلاسفة والحكماء والمتكلمين وبقية من ضبط تأريخهم المؤرخين قديماً وحديثاً ضبطاً بعيداً عن التشويه والتلفيق وادعاءات الزندقة -

أنَّ أرسطو طاليس وأمثاله - لو لم تثبت نبوته عن الله تعالى في توحيده المعلوم عن خصوص المعقول - كانوا على الأقل قد وحدوا الله عز وجل من وحي عقولهم السليمة وسلوكياتهم المستقيمة.

كما يظهر أيضاً من كلمات بعض أهل العرفان المعتدلين كذلك أن (العقل شرع داخلي والشرع عقل خارجي)(2)

ومن هنا ونحوه يمكن أن يتجلى لنا وبوضوح معنى اللبية المشار إليها في عنوان البحث لهذا العقل المجرد لو خلّي وطبيعة نفسه المطمئنة، بل واللوامة كذلك، لأنها قد تكون مقدمة للهداية.

بل لم يفرق شرعاً - بين العقل والشرع في حالات إمكان تداخل بعضهما بالبعض الآخر - بعض جهابذة علمائنا المحنكين في العرفان الشرعي حسب تتبعاته وفي حاق الواقع بقوله قدس سره (فلو تجسم العقل لكان بصورة النبي صلی الله علیه و آله كما لو تجرد النبي صلی الله علیه و آله لصادر العقل بعينه ، بلا فرق بينهما إلا باختلاف النشأة والعالم)(3).

ص: 81


1- سورة الذاريات / آية 056
2- تهذيب الأصول - السيد عبد الأعلى السبزواري - ج 1 ص 16.
3- نفس المصدر السابق

أقول: ومن استثناءه قدس سره في آخر عبارته هذه يمكن منه ادراك ما حقق أصولياً بين الأصوليين المهمين من الفرق بين العقل والشرع على ما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى

و لمتابعة هذا المعنى المذكور عن هذا العلم قدس سره ومن سبقه نقول أيضاً:-

بنحو من التأييد بل والتثبت المؤكد بالاعتقاد به حسبما اطلعنا عليه من بعض المرويات الشريفة ومنها ما عرف عن مشهورية الحديث القدسي في قوله تعالى - حينما خاطب العقل بعد أن خلقه قائلاً له (أقبل فأقبل) وبعد إقباله قال (أدبر فأدبر) مخاطباً له أيضاً بعد ذلك (وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أكرم علي منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي)(1)

لكون هذا العقل لو تجرد عن الإضافيات المخفية كما خلقه الله أوّل مرة وكما صح من بعض جهات أخرى أنه (فطره) لا يمنع من أن يكون أوّل الرسل الهادية للإنسان وبقية المكلفين من بني المخلوق العاقل الآخر في مصاحبته له وهو الجن عند دخوله معه في عالم التكليف وبداية معترك الحياة ومفاتنها الإبتلائية المريرة بين جنسي ما نوهت عنه الآية آنفة الذكر، ومضمون ما ذكرته آية شريفة أخرى «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(2)بواسطة هذا العقل العظيم في نعمته.

فلا غرو إذن بأن يكون هو الرسول الباطني لبني الجنسين.

ثم أعقب تعالى هذا الحال - من عظيم ألطافه وسابغ آلائه لما ازدادت المشاكل على المستضعفين وتراكمت معرقلات الاستقامة فيهم بسبب تمردهم - تحرر الجنسين وبما لا يمكنهما بعد من تحقيق تمامها إلا بإرسال الرسل وبعثة الأنبياء الظاهرين وإنزال

ص: 82


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 ص 97.
2- سورة الأنفال / آية 42.

الكتب السماوية والدساتير الربانية الحاسمة، لإنقاذ عموم هؤلاء المكلفين من آفات إغواءات إبليس وأعوانه حسداً منه للبشر الذي جعله تعالى خليفة من قبله في الأرض بأنبيائه الذين أولهم آدم علیه السلام وفيهم رسله وآخرهم نبينا الرسول محمد صلی الله علیه و آله ، وكما قال الشاعر العارف بمخاطر الإغواء والتضليل ومحذراً منها نفسه وغيره مما سبق ذكره:-

إني ابتليت بأربع ما سلطوا *** إلا بشدة شقوتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلهم أعدائي(1)

يجعل الله أبينا آدم علیه السلام المبلغ الظاهري مع الأنبياء والرسل الآخرين دعماً لهذا العقل الرسول الباطني، ليتطابق العقل بالنقل، وليصدق الفعل بالعقل.

ولأجله عرفت الملازمة الثابتة عند الأصوليين من خصوص الثاني للأول ولو تعبداً حتى في حال الاستقلال العقلي للأشياء في بعضها كما سيتضح أكثر كقولهم حولها ( كل ما حكم به الشرع حكم به العقل)(2)، لأن الشرع جاء وارداً على العقل المحاط بالمغريات لإنقاذ تشخيصاته من عبثها والعقل مورود عليه على ما سيتضح في باب الكلام عند الورود.

ولعله لذلك ونحوه جاء التركيز الكثير جدا في القرآن الكريم على ختم كثير من موارد آياته ومنها آيات الأحكام أصولاً وقواعد وفرعيات كلية وتعليلات للفقه الأكبر والفقه الأصغر -

بلفظة العقل على اختلاف صيغ هذا الختم في كل منها مع بقية العلوم والمعارف

ص: 83


1- قيل هذه الأبيات لحمد بن هادي بن حمد بن علي آل جابر المري الغيهبان، وقد ولد في أواخر القرن الثامن عشر.
2- مطارح الأنظار : ج 2 ص 335.

القرآنية الأخرى، ولو لإخضاع هذا العقل لشرع الله في آخر الأزمنة كزمن خاتم الأنبياء والمرسلين صلی الله علیه و آله مع كثرة الإغواء وقلة المهتدين، لأنَّ دين الإسلام كسب عناية الله تعالى إلى حد أن جعل دولته العظمى هي التي تسود أبناء العالم في مؤهلاتهم ولو في آخرها على حد آخر أسباط نبينا صلی الله علیه و آله وهو الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف و كما أشارت إلى هذا المعنى آية قوله تعالى «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(1)وغيره.

مما لابد أن يرجع الله تعالى سلطانه مطابقاً لما وعد به عباده بواسطة خيرة أولياءه المخلصين.

أقول: ومن هذا المعنى يمكن استفادة غلبة الشرع للعقل أيضاً لما مر ذكره.

ومن نمازج ما ختم الله به آياته مما يدل على إخضاع الشرع للعقل ومنها ما يرتبط بشرعية الفقه الأكبر العقائدي قوله تعالى «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(2)، أي تخضعون للإيمان بالخالق وقدراته العظمى جل وعلا للإيمان به ولعبادته وإن كثر المتخلّفون عن هذا التعقل بلفظ (لعلَّ) التقليلية، والمراد منها أيضاً الترجي لحاكمية المغريات المضلة غير الشرعية الموجبة للحذر من بطشها وإلى غيرها من الآيات المشابهة.

ومن تلك النماذج القرآنية ما يدل على حاكمية الشرع على العقل أو لا بدية وجوب تعقل ما يفرضه الله تعالى في كتابه من السلوكيات الأخلاقية المثلى والشَّرعيّات في الفقه الأصغر أو حتى ما يرتبط بالإيمانيات عن طريق بداهة ما لابد أن يتعقل من كل من ألقى السمع وهو شهيد كما في موارد دليل الأولوية الصحيحة

ص: 84


1- سورة القصص / آية 5
2- سورة البقرة / آية 73

مثل قوله تعالى «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(1) وغير ذلك من الآيات المتشابهة.

وأما مقولة ما لو نعكس الكلية الماضية المعروفة بين علماء الأصول فنقول (كلَّ ما حكم به العقل حكم به الشرع) فلم يساعده ما ذكرناه عما لو حف العقل - المجرد من علاقاته بالقوانين الإلهية الثابتة في الكتب السماوية وآخرها مضامين القرآن الكريم بأجمعها علمية وشرعية - بالمغريات المخيفة، بل المهلكة في كثير أو أكثر حالاتها.

وبالأخص لو تجرد بعض أهل العقول أو الكثيرين عن التقيد بالدين وكل قيمه دنيوية وأخروية، ومنهم من يطلق عليهم أو على بعضهم بأهل الحداثة والتجديد أو بالعلمانيين حتى الذين ربما يُدعى عن بعضهم حملهم بعض الجوانب الإنسانية كالأطباء الماهرين من أهل الكفر واللادين.

فلم يرتض شرعاً من بعض أهل تلك العقول الأخرى إلا ما أمضي من قبل الشرع ممن أحرزت إنسانيتهم وقراراتهم الصائبة مما يسمى عندنا من الأدلة المجوزة لذلك للإمضاء عن الإرشاديات دون ما عدا ما لم يجرد منه ذلك، لأهمية وجوب إحراز سلامة الدين والدنيا معاً، وإلا لما تم الدعم فيما تقرر أعلاه للعقل المجرد إذا تكالبت المغريات الأربع الماضية عليه بعد إنزال الكتب السماوية والألواح وبعثة الأنبياء وإرسال الرسل في عملية الإنقاذ المشار إليها.

إذن فالنتيجة التي لابد أن تكون بنحو الجملة دون التفصيل هي قولنا (بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع) أي دون البعض الآخر وهو المحتك بالمغريات، لمبدئية ان لا یطاع الله من حيث يعصى إلا بما صححنا استثناء بعض التقارير العلمية

أن لا يطاع

ص: 85


1- سورة البقرة / آية 44

الصائبة والبريئة بالإمضاء الشرعي لقبولها في موارد الاضطرار ونحوه.

وإن تشبث هؤلاء المتطرفون بأن العباد خلقوا في هذه الدنيا أحراراً ومخيرين غير مسيرين على ما تصوروه من سذاجتهم غير المستوعبة للأمور كلها من بعض المضامين القرآنية وبعض الأحاديث إلا سطحياً؟

فهو وإن كان في الجملة صحيحاً لكنه لا يعطيهم المجال الكامل ليتحرروا في تفكيراتهم كلما شاءوا وتعقلوا، وقد قال تعالى عن حال كل من المكلفين في الدنيا «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(1)وقال أيضاً «وَقِفُوهُمْ أنَّهم مسْئُولُونَ»(2)، وغيرها الكثير.

ومن الأحاديث الشريفة كقول الإمام الحسن المجتبى علیه السلام (واعلم أن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب )(3)

وقد رددنا المتورطين بشبهة التمسك بعقيدة التفويض من المسلمين للأشياء، وقد سبقهم في ذلك اليهود.

كما رددنا معهم المجبرة في الجزء الأول من أصولنا، وأخذنا بما قاله الإمام الصادق عليه السلام و هو (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(4) لتتطابق تعقلاتنا كلها بما قاله القرآن العظيم الجامع لكل عدل ووسطية في نصه «وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النّاس»(5)، أي بلا إفراط أو تفريط.

وبهذا وأمثاله يكون المراد الصحيح لكوننا وبقية المكلفين في هذه الدنيا مخيرين

ص: 86


1- سورة ق / آية 18.
2- سورة الصافات / آية 24.
3- بحار الأنوار ج 44 ص 138-139 / ح6.
4- بحار الأنوار 17:5ح 28
5- سورة البقرة / آية 143

غير مسيرين، ولكننا خاضعون للنظام الإلهي الداعي والراعي لتعقلات ذوي الفطرة السلمية لا غير.

ولأجل هذا المعنى والحفاظ عليه أكدت الروايات الشريفة عن أهل البيت علیهم السلام عن النبي صلى الله عليه و آله سلم ، ومن ذلك ما ورد عن وصية ولسان حال أمير المؤمنين علي علیه السلام في وصف الحرب الحقيقية دون ما وقع فيه المتوهمون (لا تكن عبد غيرك و قد جعلك الله حراً)(1) وجاء في عبارة أخرى (لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا) (2)وجاء أيضاً (من ترك الشهوات كان حراً )(3)إلى غير ذلك من الكثير .

و إن تشبثوا من حيثية أخرى بمثل تعدد العقول لو فُسِّر بمعنى إمكان أن يتعدد الحق وتختلف الحقائق للمعنى الواحد، كما عرف ذلك عن الفلاسفة لو لم يكن معنى آخر يقصدونه غير ذلك؟

فإنه عرف عن أمير المؤمنين علي علیه السلام أيضاً قوله (العلم نقطة كثرها الجاهلون)(4) وقوله علیه السلام في ردّ هذا المعنى من التعدد في نهج بلاغته (كم من عقل أسير تحت هوى أمير)(5).

أقول: يعنى بذلك" صلوات الله تعالى عليه" كان من أمراء الأهواء و الطواغيت، أو من وعاظ أروقة السلاطين و عبيد الوضع والتلفيق خوفاً و طمعاً دون رعاية أوامر

ص: 87


1- نهج البلاغة لمحمد عبده ج 51:3 الرسائل: 31 ومن وصية له علیه السلام للحسن بن علي علیه السلام كتبها إليه بحاضرين
2- غرر الحكم: 10317.
3- بحار الأنوار- العلامة المجلسي - ج 75 ص 91 ، عن كنز الفوائد - أبو الفتح الكراجكي - ص 163.
4- مصابيح الأنوار، ج 396/2، حدیث: 221، نقلا عن المجلي .
5- نهج البلاغة (الحكم) الحكمة .211.

النبي صلی الله علیه و آله و أمير المؤمنين علیه السلام.

ومن هنا عرفنا نحن الإمامية في أصولنا بالمخطئة تبعاً لذلك الحق الذي لابد أن يتوحد.

وعُرف غيرنا بالمصوبة مهما تعددت عندنا وعندهم الأقوال في المعنى الواحد حتى لو تشتت، وقد توسعنا حول هذا المعنى في مورد أخر بما يفي من الأصول.

و مما يزيد طالب العلم والمطالع الكريم إفادة إضافية في خضوع العقل لشرع الله وعلمه الخاص المرتبط بالفقه الأكبر والأصغر، بل ورضا الشرع بما حواه قرآنه العظيم من كافة معارفه الإسلامية الأخرى، بل وبقية علوم الحياة بما يمكن أن تحرز منها الفوائد بالإمضاء في مثل آيات منها قوله تعالى «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(1)

أقول: وهو الظاهر منه أن العقول لا وزن لها إلا بأن يمتثل أصحابها أوامره تعالى بتعلم ما يبديه قرآنه من المعارف الخاصة والعامة ولنهيه أيضاً في مقامات أخرى عن البقاء على الجهل كما لا يخفى ليبطل العكس الذي ذكرناه عن ادعاء حاكمية العقل المجرد على مقررات القرآن في كل ما حواه حتى عن خلفية الجهل والجاهلية.

لأن استعمال (لعلَّ) مع الختم ب- (تعقلون) الدال على الترجي وقلة استفادة صحة التعقل لا يفيد الاطمئنان بضمان كل مستوى من حالات امتثال أوامر التعلّم ودلائل الخضوع للإيمان بالله وآياته وشكر أنعمه وعبادته إلا بما يرسخ كل ذلك بالامتلاء منها خوفاً من الاشتراك بالمغريات.

إلى غير هذه من الآيات وغيرها من الأحاديث مع ما سبق من محددات مقدار ما يمكن أن يحتج به من لبية العقل.

ص: 88


1- سورة الحديد / آية 17.

تقييم ما يستحق من الكلام عن العقل على ضوء التحسين والتقبيح العقليين مع نزاع الموافقة والمعارضة وبعض التوضيح.

بعد أحكام السيطرة منا بجملة ما وفقنا له من سابق الكلام عن حقيقة تبعية العقل للشرع بنحو من الموجبة الكلية الصحيحة لدى جميع من استقر رأيه الطبيعي - على ما أشرنا إليه من الأدلة الماضية - من المتدينين وأتباعهم.

إلا من مكابر معاند لا يؤمن بالشرع وسلطانه وسوء الحساب، أو يريد أن يسخره مع أعظمية أبعاد معاني أوامره الجليلة لتصرفات عقله المتطرف والمستحوذ عليه من مغريات التضليل، أو أنه إن احتاج أن يحتج يوماً لصالح تعقلاته الضعيفة تلك بتعظيم بعض قيم هذا الشرع الواضحة والتي لا تتضح جواهرها إلا على أساس تجرد ذلك العقل عن المغريات ليحصل ذلك التلاقي مع هذا الشرع بانسجام.

إلا أن هذا ما كان من هذا السفسطائي إلا لإخضاع الشرع القوي المكين للعقل الضعيف مع تزعزع أفكاره.

وبعد حاجتنا أيضاً في بياننا الماضي إلى توضيح ما ذكرنا لعدم صحة الحالة العكسية التامة للكلية الماضية إلا بما مضى من القول بإمكان صحة هذا العكس، ولكن بنحو من الموجبة الجزئية لا غير، وتوضيح الإشارة إلى ما مر عن التدليلات على نفي كلية هذه العكسية ببعض التصريحات المفيدة منها.

ولغرض ذكر القضيتين الكلية والجزئية حول خصوص حجية العقل من جهة لبيته المذكورة.

نحن الآن بحاجة أيضاً إلى تقييم ما يستحقه هذا الموضوع من الكلام عنها، ولكن على ضوء ما ساد بين الأصوليين من أمر التحسين والتقبيح العقليين مع ذكر جوانب الموافقة والمعارضة وذكر استدلال كل من الطرفين في النزاع، للاستقرار بعد ذلك

ص: 89

على الدليل الأصوب لأصل حجية العقل ومقدارها في اللبية.

ولكن بما أننا بعد ذكرنا للحالتين لم تكن معاناة الحاجة إلى توسعة البحث حول الكلية الصحيحة الأولى عن المعارضة الاولی التي كانت آتية بعدها - كبيرة الأهمية بمثل المعاناة مما أوقعته تلك المعارضة حتى من تلك الموجبة الجزئية وحدها، وبالأخص حينما صح استناد محنكي الأصوليين - ومعهم بعض المعتدلين من مجتهدي غيرهم إماميين وحتى بعض من غيرهم - في الكلية الأولى مع سهولة أمرها، والجزئية المعاكسة - إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين وبما ذكروه عما يستحقانه من الكلام العادل عن كل منهما، وبالخصوص أكثر الموجبة الجزئية، وإن كان أمرها سهل يسير أيضاً على ما سيتضح من الرد إن شاء الله تعالى.

إلا أن هذا بما أنه لاقى مما ذكرناه عنه - من مبالغة العلمانيين ونحوهم في التّجاوز على العقل - ما لا يستحقه من المغالاة به وعن طريقهم وغيرهم جاءت القياسات والإستحسانات ونحوهما.

وكذلك من المتجاوزين عليه من الآخرين حتى فيما يستحقه من حاق ما یصح البناء عليه ملازماً للشرع وتابعاً له أو ما قد يمكن أن يمضيه الشرع له - معارضة شديدة حتى حصل من وراء هذا وذلك انشقاق أصولي، بل وبين المسلمين أنفسهم ممن أعدم عندهم العقل كلياً، وفي قبالهم من هذب استعماله - أي بين أولئك الأشاعرة وهؤلاء العدلية من المعتزلة والإمامية.

وقبل تحرير محل النزاع الأصولي الإسلامي لنذكر أمراً سبق وأن ذكرنا ما يشبهه في الجزء الأول من أصولنا بين نفس فريقي من سنذكرهم في النزاع الآتي، ولكنه كان حول كلام الله تعالى.

ومن جهة كلامية و عقائدية وهي ناحية قدم الكلام الكريم أو الحدوث له وما يستدعيه هذا الأمر بين الفريقين في النتيجة وما وصلت إليه الوسطية العادلة .

ص: 90

اوحول نفس كلام الله تعالى أيضاً ولكن الفرق بينهما من جهة أصولية وهي المتعلّقة بناحية الجبر والتفويض في تكاليف العباد وحول ما تتضمنه آيات الأحكام وغيرها، وما أوصلنا البحث فيه عن ذلك بالانتظار إلى النمطية الوسطى.

ووجه الشبه بما سيأتي ذكره في كونه الكثير جداً من كلام الله تعالى وآياته ومنها الآيات الأحكامية بمجيئها مختومة بذكر العقل ومحورية علاقته بما يريده الله تعالى من أمور العلوم والشَّرعيّات وما يمكن الاستفادة من تشخيصاته حتى لو كانت خارجة عن عالم الكتاب الكريم والسنة الشريفة مما لا يتنافى أمرها مع الشرع وثوابته، ومنه التحسين والتقبيح المنوط بالإرشاديات حتى من المصدرين المهمين فليغتنم الأمر بهذا المقدار لا أقل.

وبعد هذا كله علينا أن نقول:

استعراض رأيي الفريقين والبحث حولهما ثم الوصول بعده إلى الأصوب مما بينهما

قالت الأشاعرة حول ما دار بين طرفي نزاع أن الحاكم في حسن الأشياء وقبحها هو الشرع أم العقل؟

(لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائداً إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشارع، بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح، فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً و الحسن قبيحاً) .(1)

ص: 91


1- كما عن العضد الإيجي في كتابه (المواقف في علم الكلام) ص 323 ، وشرح المواقف -القاضي الجرجاني - ج 8 ص 182 وكذلك تصويره وبيانه عن كتاب القوشجي شارح كتاب تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي قدس سره.

ومثلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة.

أقول: وقبل التثنية بذكر رأي المعارضة وقبل التعليق على ما يستحقه كل من القولين أو الرد بعد ذلك حول نفس ذوي القول الأول بما قد ينفع بما يلي:-

أولاً: إنّ الأشاعرة هم الذين يشكلون غالبية إن لم نقل أغلبية العامة من المسلمين، وقد يطلق عليهم من حيث المبدأ أو في النتيجة أو في الاثنين معاً بالمجبرة، وإن ادعى تنصل بعضهم عن نسبة الظلم التشريعي إلى الله تعالى لوفرة ما لا يمكن إنكاره من آيات وروايات العدل الإلهي في كل شيء، فيرون:

بأنه تعالى له الحق أن يجبر عباده على الطاعة، بل حتى على المعصية، لأنهم خلقه يتصرف فيهم كيف يشاء ومعنى هذا الأمر فيما يأتي بصفة أكثر.

وقد يشتد بعض من محدثي الإمامية مع هؤلاء كثيراً على العقل، ولكنهم في خير مع القول بالعدل وعدم التجبير، إلا أن شدّتهم هذه على العقل يمكن توجيه بعضها أو ما قد يزيد لصالح نسبة معينة من تحجيمه لا إعدامه على ما سيتضح.

ثانياً : إن فكرة الأشاعرة في اشتدادهم المضاد للعقل حول مبدئية التحسين والتقبيح العقليين لم تكن إنصافاً فيما لا يمكن إنكاره لدى جميع العقلاء في معقولاتهم، وإن توسع بعضهم في هذا الاشتداد كما في حالتين:

أولاهما حالة إطلاق الحسن والقبح على الشيء من كل منهما وإرادة صرف الكمال لأولهما والنقص لثانيهما بوقوع كل منهما وصفاً للأفعال الاختيارية، أو لمتعلقات تلك الأفعال.

فالعلم وصف للأفعال الكمالية، والتعليم وصف لمعطيات تلك الأفعال الكمالية، وكلا الأمرين حسن ، لأن كليهما إيجابي من القضايا اليقينية غير القابلة للإنكار من

ص: 92

كل عاقل، لأن وراءها واقع خارجي.

وفي مقابل ذلك بالضد هو الجهل، فإنه وصف للحالات السلبية الدالة على النقص، لمضادته للعلم أو إهماله، فإنه وصف لما يتعلق بالجهل في سلبيته التامة أو دخوله في حالة النقص.

وكلا الأمرين حالة قبيحة لمضادتها لحالة الكمال وبالنحو اليقيني الذي لابد أن يكون وراءه واقع خارجي مشين.

ويتبع المثالين المذكورين لهذه الحالة وهما (العلم والجهل) أو (التعلم والإهمال له)، فيما لا يمكن إنكاره لكل عاقل بمصداقية التحسين والتقبيح العقليين المتعلقة باليقينيات الأخلاقية من محاسنها ومساوئها بلا فرق بين الأمرين كالشجاعة وضدها الجبن، والكرم وضده البخل، والحلم وضده الغضب، والعدالة وضدها الظلم، والإنصاف وضده الانحياز إلى ما يضاده ولو قليلاً.

إلى غير ذلك من بقية الأخلاقيات الإيجابية مع مضاداتها.

إضافة إلى أن جملة من هؤلاء الأشاعرة اعترفوا - أو لم ينكروا - بما يبدو بوضوح لهم ولغيرهم من يقينية ما تقول به العقول المستقلة قبل الشرع بمحاسن كل ما مضى التمثيل له ومساوئ ما يضاده لكن بمعنى أن يشعر هذا العقل بحسن هذا الكمال أو قبح ذلك النقص، بل حتى لو صدر من صاحب الحكم بهذا المعنى مع اغتباطه إن اتصف بصفة الكمال، وإبتئاسه إن اتصف بصفة النقص.

ثانيهما: قد يطلق الحسن والقبح العقليين للأشياء ولكن بما يتلاءم في الحقيقة مع رغبة النفس فتكون الملائمة، ومع عدمها فتكون المنافرة.

وهذه الثانية قد تجتمع مع العقل المستقيم تابعاً للشرع كلياً أو تابعاً أو متبوعاً له في الجملة مع استقلالية، فتكون النفس هنا مسمات أخلاقياً أو سلوكياً عاماً ب- (النفس المطمئنة).

ص: 93

وقد تسمى ب- (النفس اللوامة) إذا كان صاحبها العاقل قريباً من الهداية حتّى لو لم تضبطه أخلاقه الحسنة أو عموم سلوكياته غير المقبوحة إلا على الوزن العقلي دون الشرعي.

وقد تسمى تلك النفس ب- (الأمارة) لكنها لا تبتعد عن العقل المستقيم في خصوص ما يكره شرعاً دون ما يحرم ترفعاً عنه كما سيتضح سببه، و لا يبتعد ذلك العقل عنها لغرض إيصالها إلى بر الأمان العقلي المستقيم.

وعلى هذا يكون المعيار بالمباشرة على تشخيص النفوس في ملاءمتها أو منافرتها وإن كان بعض السطحيين للأشياء قد عبروا تسامحاً عن النفس ب- (العقل) وعن العقل ب- (النفس) ، ولكن لا نحمل هؤلاء المدققين لهذا الحمل إلا على نحو المجاز أو على معنى الربط بين اللازم والملزوم من كل منهما مما مر ذكره إذا قصدوا الصحيح ولو في الجملة.

وعلى هذا الأساس إن قيل عن بعض الأفعال ك- (نوم القيلولة حسن) أو (الأكل عند الجوع حسن) أو (شرب الماء بعد العطش حسن) ونحو ذلك، وإن قيل عن بعض المتعلقات من الأفعال ك- (إن نمت القيلولة زاد انتباهك ولما تحتاج من التفكير) و (إن أكلت عند جوعك زاد نشاطك على العمل ) و (إن شربت الماء بعد عطشك قدرت على ممارسة صعابك العادية) ونحو ذلك .

فكل هذه الأفعال ومتعلقاتها والأحكام التي ظهرت عنها موطنها النفس، وهي مورد الالتذاذ بها لتلائمها المباشر معها، وإن شاطرها العقل المستقل السليم لما ذكرنا، ولو لم يستدع ذلك حكماً من الشارع.

وبالضد مما مر ذكره أفعال ومتعلقات يظهر بسببها نفسياً الألم والاستقباح لو لم يصادف شيء من ذلك محرماً شرعاً في نظر الشرع لتجنيبه عن مورد تعقل الأشاعرة ومن شاطرهم للحالة النفسية في مثل حالات آلامها وما يستقبحه من الأفعال، و إن

ص: 94

احتيج إلى معرفة حكم بعد ذلك بالإمضاء في حال الكراهة والرفض في حالة الوصول إلى التحريم.

فلو قلت بأن (كثرة النوم قبيح)، وقلت عن متعلقه (لو زاد نومك عن حالته العادية راجع الطّبيب من محذور ضرره)، ولو قلت (الأكل عند الشبع قبيح)، وقلت عند متعلقه (من استمر على أكله عند كل شبع كان عرضة للأمراض)، ولو قلت (شرب الماء بعد الامتلاء منه قبيح)، وقلت في متعلقه (من استمر على شرب الماء بعد كل امتلاء لاقى ما يضره) وهكذا في الأمثلة الكثيرة التي تسبب للنفس عند التمادي تألماً أو اشمئزازاً -

فيرجع الأمر بعد ما مر كله في الحقيقة التي لا تخفى من معنى الحسن والقبح إلى معنی اللذة والألم، وإن ينفصل العقل عن النفس عند التدقيق للأشياء حتى بكل أنواعها تماماً لما مر عليك.

ويمكن بل يحسن أن يضاف إلى هذا الأمر شيء، وهو أنَّ اللذة النفسية والألم النفسي قد يتوسع معناهما ولو اعتباراً إلى ما يقبل هذا التوسع بصفة أكثر في القابلية الاعتبارية وهما (الملائمة وعدمها) و بما يتوافق مع التوسع في المصالح والمفاسد، أو لا شيء من أحدهما كمعنى الثَّالث على ما سيجي الثَّالث على ما سيجيء الآن، ولو من حيث النتيجة لا خصوص الفعل أو متعلقه على ما سيجيء.

فشرب الماء الحسن عند العطش ينتفي الحسن وينقلب إلى قبح مميت إذا استلقى محتضراً إلا أن يقطر له الماء تقطيرا إلى أن يتماثل شيئا فشئياً إلى اعتيادية العافية لتطبيق الملائمة ولو بالدواء المر إذا احتاج إليه المريض مع كونه غير ملائم لنفسه جداً، وبالأخص إذا غُرَّ في فمه عند حاجته الماسة، فإنه يكون مطابقا لمصلحته في النتيجة.

وهكذا الأكل اللذيذ المضر بالصحة، فإنَّ لذته الفعلية مستقبحة إذا زادت

ص: 95

كمياتها عن مقدارها المناسب من حيث النتيجة، وإن تجنبه لا محالة مبق لتاركه على عافيته.

ولم يستقر هذا الرأي على خصوص العدلية من مثل الإمامية من معنى التوسع الاعتباري، بل شمل من قال بذلك من العامة أيضاً كالشيخ القوشجي في شرحه للتجريد فليراجع.

والعقل في المقام لابد أن يساعد على صحة تعقل هذه الأمور لما مر ذكره، وهو مما ليس للأشاعرة فيه نزاع، فلابد من عزل هذا القول كالأول عما بين الفريقين.

وأما ثالث الأقوال:

فهو مورد النزاع دون القولين السابقين:-

فالأشاعرة أنكروا كما مر من ذكر قولهم أن يكون للعقل ادراك، وخالفهم العدلية كما سيجيء قريباً جداً عند ذكر قولهم، فأعطوا للعقل هذا الحق من المدارك، وهو (ادراك حسن كل حسن)، وبمعنى ما ينبغي فعله، و (ادراك قبح كل قبيح)، وبمعنى ما ينبغي تركه عند العقلاء، أو لا ينبغي ترك كل حسن، أو لا ينبغي فعل كل قبيح عندهم.

ولهذا القول الثالث المتنازع فيه بين الفريقين مجال للتوسع إلى ما قد يخالف بعض صفات ذاتيات الأشياء من الحسن والقبح لذي العقل إذا ما حشرنا بعض النفوس كالأمارة منها معه.

فإن بعض ما قد يستحسن في نظر العقل قد يستهجن في نظر تلك النفوس، كترك شرب التبغ في نظر العقل وشربه في نظر تلك النفوس، وكترك شرب الخمرة في نظر العقل وشربه في نظر تلك النفوس

وقد تؤيد بعض النفوس الأخرى كالمطمئنة واللوامة العقل المجرد المستقيم كما ذكرنا في هذا القرار.

ص: 96

وكل هذا قبل الوصول إلى معرفة نظر الشرع المقدس وإن لم يخف على المتشرعين، لعدم الحاجة إلى أمر تعقل هذا القول في خصوص نظر الشرع، لكون المراد الآن هو التعقل في نظر خصوص العقل، ولذلك ورد قول جعفر الطيار "رضوان الله عليه" عن وضعه في زمن الجاهلية (ما شربت الخمر قط لأني علمت إن شربتها أزالت عقلي وما كذبت قط لأنّي علمت أن الكذب ينقص المرؤة، وما زنيت قط لأني خفت إن عملت عمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع)(1).

وغير ذلك من دواعي ما ينبغي أن يترك من المكروهات في نظره.

بل قد يطرأ بعض توسع حتى على بعض الممادح من الصفات في نظره كذلك مع النفوس المطمئنة أو اللوامة، كما بين بعض حالات الإفراط والتفريط، فيكون الحسن منها شيئاً كالعلم المفيد إذا كان يورط متعلمه بالشبهات الضارة، ما لم يتعلم رده فيبقى كله مفيداً.

هذا ولو اعتذر بعض الأشاعرة - لصالح من يشتد منهم كثيراً على العقل وبمثل ما أشرنا إليه آنفا - من إمكان التوجيه عند اشتداد بعض محدثي الإمامية المحسوبين على الفريق الثاني من العدلية، وأطلق على بعضهم بعد ذلك بالأخبارية لصالحهم فيما بعد؟

لأمكن ردهم فيما يأتي أيضاً بما لا يشبه ذلك التوجيه، أو بما يصل إلى الرد الأكبر لهم إن صحح بعض الرد لأولئك.

وبعد تحرير ما عرف من قول الأشاعرة وبما هو أدق يلزمنا معرفة الطرف الثاني

ص: 97


1- موسوعة عبد الله بن عباس - السيد محمد مهدي الخرسان - ج 12 ص195، من لا يحضره الفقيه 347/1

للنزاع للوصول إلى ما تقتضيه من الحسم لحالته فنقول:-

قالت العدلية - في مقابل قول الأشاعرة :

(إنّ للأفعال قيماً ذاتية عند العقل مع قطع النظر عند حكم الشارع فمنها ما هو حسن في نفسه، ومنها ما هو قبيح في نفسه، ومنها ما ليس له هذان الوصفان والشارع لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح، فالصدق في نفسه حسن، ولحسنه أمر الله تعالى ،به لا أنه أمر الله تعالى به فصار حسناً، والكذب في نفسه قبيح، ولذلك نهى الله تعالى عنه، لا أنه نهى عنه فصار قبيحاً)(1)

أقول : هذا المقدار على حد ما عرضه شيخنا المظفر قدس سره عنهم.

وهؤلاء العدلية كما سبقت إليهم جماعة مكونة من المعتزلة من بقية فرق العامة، وهم جماعة واصل بن عطاء، وعرف عنهم القول بالتفويض مع تمسكهم بالعدل ضد تجبير الأشاعرة آنف الذكر.

و من العدلية هم الإمامية، الإمامية، ومنهم محدثوا أو أخباريوا الإمامية القائلون بالعدل الإلهي، دون من يشتد منهم ضد العقل على ما سيأتي توجيهه عند ردّ الأشاعرة.

وبعد سرد قولي فريقي النزاع حول حجية العقل لبياً مع بعض التعليق الآتي للنظر فيهما ، و فيما يستدعي منا حولهما ردًا أو مناقشة أو كليهما -

لابد من شروعنا حول كل منهما وعلى نحو التسلسل والحرص التام على الدفاع عن الوسطية العقائدية والشرعية جهد الإمكان فنقول:-

رد أو مناقشة قول الأشاعرة

أما عما قاله الأشاعرة حول الذي نُسب إليهم مما نختاره من مقطع قولهم الأول -

ص: 98


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 ص271.

بعد الذي أوجزناه في بداية الكلام حول البحث عن حجية العقل اللبي وعن تقييم حالة النزاع على ضوء التحسين والتقبيح.

وما وعدنا ببيانه بعده في النتيجة دفاعاً عن الحق والحقيقة - وهو (لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائداً إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشارع).

الظاهر منه بعد ثبوت بناءهم عليه هو نفي الجنس المطلق عند تعقلهم للأشياء في محاسنها ومقابحها ولأمورها الحقيقة الفعلية قبل ورود بيان الشارع.

والظاهر منه أيضاً خلطهم في كل بيانات الشارع بين ورودها بعد إمكانية التعقلات الذاتية للأشياء المسموح بها وبما لا يمكن الانفكاك عنه عند الجميع ومنهم الأشاعرة كأمثلة المعنيين - الأول والثاني - قبل الثالث المتنازع فيه، أو كونها متعقلة لدى الجميع طبيعياً حتى الثالث، ثم وردت البيانات من الشارع مثل ذلك لكونه سيد العقلاء وخالقهم أو جاءت تلك منه إمضاء لها أو لبعضها وجاء باقيها بنحو المشاركة التعقلية للوحدة العقلية مع التجرد المستقيم فيها - وبين ورود هذه البيانات قبل إمكانية تعقليات العقول ذاتياً، لتكون تلك العقول بأجمعها تابعة للبيانات.

الحاجة الماسة إلى التفريق بين الموردين للفهم بالدقة.

بينما حالة المورد الأخير منها لو بقي الخلط على حاله لا يمكن تحملها في نفي الجنس المطلق المتصوّر آنفاً إلا على ما قد يظهر من صحة ادعاءهم على فرض ثبوتها بكفاءة النصوص والظواهر ونحوهما من أمور الاستدلال اللفظي للمصدرين الأساسيين من الكتاب والسنة وبما يلحق بهما وبما قد يغني عن اعتبار بعض تلك العقول.

وهذا ما قد يثبت خلافه بعد التدقيق الجوابي الآتي.

ص: 99

وللفرق بين تخريجات المذاهب الأربعة وطرق استدلالات كل منهم إضافة إلى الدقة المهمة لدى الإمامية وإن أدعي تنازل تلك المذاهب عن نفي الجنس المذكور -

فإنه ينقض عليهم بما تعقلوه في استدلالهم على المقطع الأول مع ما سيأتي من بقية كلامهم الآتي.

بل ومن مضار نفي الجنس هذا حتى إن أدعي البناء منهم على سطحية عدم التفريق في تلك البيانات بورودها بين ما بعد إمكانية التعقلات الذاتية الجائزة المستثناة الماضية -

وبين ورودها قبل تلك الإمكانية مع الحاجة الماسة إلى بذل النظر الدقيق بين فريقي نزاع القضية نفسها، بل بين العامة بأجمعهم، حتى من كان بعضهم معنا في الإيمان بالعدل، وبين الخاصة وهم الإمامية، أو كنا نحن الإمامية في النتيجة مع الأشاعرة في الظاهر وفيما بنينا عليه سابقاً من الموجبة الكلية وهي (كل ما حكم به الشرع حكم به العقل) مع تفاوتنا عنهم في بعض أو كثير من المعاني -

ترك الحاجة الماسة للغربلة الحثيثة لأمور المصادر التشريعية التي لو دقق فيها بإنصاف وإخلاص لتقلصت بعض الأدلة اللفظية ولما أمكنت الغفلة عن الاحتجاج بالعقل اللبي فيما يخصه من أمور المعنى الثَّالث كما فيما ذكرناه من الموجية الجزئية وهي (بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع) تقريراً أو إمضاء.

فإن كتاب الله فيه الأوامر والنواهي وفيه النَّص والظاهر وفيه العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

وهو إن عرف صافيه مميزاً عند العلماء من غير المعصومين علیهم السلام كما عن طريقي تفسير القرآن بالقرآن أو بالاستعانة بصحاح السنة ومعتبراتها المعتمدة التي لا تتعارض مع كتاب الله، فلم يبق مما يستحق الإجتهاد إلا ما هو الأقل من مصدري الكتاب والسنة الأصيلة.

ص: 100

وقد اعترت السنة أمثال ما في كتاب الله كذلك، وهو ما يوجب على كل منصف مخلص السعي إلى الغربلة المشار إليها ومنها عرض ما لم يتضح منها على ما كان محكماً من الكتاب ومع كل ما أجهد أعلام الأمة الأصفياء قديماً و حديثاً أنفسهم على حفظ تراثنا المنقول - جزاهم الله خيراً - مع كون الكتاب قطعي السند ظنّي الدلالة، وكون السنة ظنيّة السند قطعية الدلالة كما نوهنا سابقاً.

و هو ما استدعى مؤكداً ما ذكرناه من أهمية النظر الدقيق للغربلة المطلوب الوصول إلى مصفاها.

ومع ذلك كله حدث ما حدث مع الأسف الشديد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله زمن المشايخ الثلاثة من فتنة ادعائهم (حسبنا كتاب الله)(1)، والقياس في مقابل النصوص، وحرق الأحاديث الصحيحة وحرق القرآن وإلتجاء القوم بعد اللتيا والتي إلى الرجوع إلى أمير المؤمنين علیه السلام بعد غرقهم في بحر الأخطاء والأشد ضده.

وكذلك إشغاله بالفتن العديدة، ثم توالت مشاكل الأمويين المنافقين من حكام الظلم والجور والنفاق ومن خَدَمتهم خوفاً وطمعاً ونفاقاً من وعاظ السلاطين من الوضع والتلفيق للروايات.

ومن بداياتها مهزلة روايات الصحابي المختلق(2) على الأكثر لبضعة أشهر وهو (أبو هريرة) عن التابعي المنافق واليهودي في أساسياته، ولم تظهر الإسرائيليات إلا عن طريقه وعن أمثاله وهو كعب الأحبار .

ومن هذه النماذج الكثير الغفير مما شوش على الكثير من رواياتنا الحقة.

ص: 101


1- صحيح البخاري :ج: 4 ص : 1612 ، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله و وفاته ح 4168 و ح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.
2- راجع كتاب خمسون ومائة صحابي مختلق - السيد مرتضى العسكري ، وكتاب شيخ المضيرة أبو هريرة لمحمود أبو رية.

وقد اعترف المنصفون من رجاليي العامة والباحثون من علماء أحاديثهم بظهور التناقضات وكثره ادّعاء ما ليس من الشرع في الشرع.

فكيف إذن يقبل هذا الخلط إن ادعي ؟ وبانت للمنصفين آثاره ولم تعط أية حصة للعقل بما أعطي له من الحصة الإلهية التي كرم بها كل مكلّف عاقل ولو في الموجية الجزئية إذا لم تكن حالة تعقلاته في كل أمر يقول به الشرع في الموجبة الكلية الماضي ذكره.

وإن ادعوا وفرة البيانات التي أغنتهم في نظرهم عن تعقلات العقول حتّى مع استثناء المعنيين الماضيين عند الجميع.

فكيف يتمسك البعض بل الكثير منهم مع الكثير من بقية مذاهبهم بالقياسات مع الفوارق والإستحسانات ونحوها مع الفرق بين تعقليات المعنى الثالث المذكور والمستنكر عندهم وبين القياسات مع الفوارق والإستحسانات المستنكرة عند أهل الاستقامة من العلماء العقلاء.

بينما المعنى الثَّالث له علاقة بتأكيدات مهمة من الإرشاديات القرآنية التي منها قوله تعالى«إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)، وغيره مما معناه الإرشاد إلى صحة كل تعقل يتطابق مع محورية حسن الإحسان وقبح الظلم، إلا أن يعترفوا بقلة أو ضعف رواياتهم المعتمدة حتى عندهم.

ولذا تمسكوا هم وغيرهم بما لا يقبل التمسك به علمياً وتركوا ما يشرع الأخذ مما له تمام الربط بالإرشاديات المعدة للأخذ بها في كل الأصول العملية المقررة للشَّاك في مقام العمل ولو إجمالاً.

ص: 102


1- سورة النحل / آية 90.

وإن ادعوا أنَّ من الإمامية جماعة يطلق عليهم ب- (المحدثين) - وكذا يسمون ب- (الأخباريين) يشتدون كثيراً على العقول، فالحكم بيننا وبين الإمامية أو بعضهم واحد حسب الفرض.

فجوابه: أن وضع بيانات الأشاعرة الشرعية التي يدعون وفرتها - بما يغنيهم عن الإحتجاج بالعقول وبما بولغ به - ليست كما هي عند الإمامية، إن حصل الإنصاف عند الباحث حتى عند القدامى من المحدثين إلا عند بعض الأخباريين غير القدامى أو المتأخرين منهم دون مجتهديهم كما سيتضح.

فإنَّ بيانات الأشاعرة سبق وأن بينا مشاكلها، ولعله لعدم كفاءتها عند المنصفين منهم لكثرة القياس والاستحسان ونحوهما وبما لا يصح اتخاذ ذلك كما ذكرنا.

وأما ما عند المحدثين القدامى منا فهم الطبقة الممدوحة من قبل الأئمة علیهم السلام لقربهم من زمنهم أو عاصروهم، ومنهم من ابتدأت معاشرتهم الشريفة للأئمة من زمن فترة الباقرين علیهما السلام فحرصوا على حفظ تراثنا النقي بأقصى المثابرات حتى صارت صحاحنا مع كثرة نقاحتها عندنا أكثر بكثير من صحاحهم عندهم مع التناقضات المعثور عليها كثيراً عند المنصفين من رجالهم في صحاحهم.

ومع ذلك أعطوا للعقل المسموح به حقه و لم يلتزموا بالقياس ونحوه.

ومن أقوال الأئمة علیهم السلام في حقهم قولهم (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1) وغيره.

وأما زج المحدثين في ربقة عوام الأخباريين بأولئك العوام.

فهو اتهام باطل يحتاج إلى دليل.

وتذرع الأشاعرة أو المدافعين في جفاءهم ضد محدثينا القدامى بحق العقل

ص: 103


1- كمال الدين ج 2 ص 483 ب 45 ح4 ، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 283.

المسموح به تشبيهاً بعمل بعض العوام وخلط المحدثين القدامى كذلك ومعهم مجتهدوا الأخباريين بأولئك العوام -

فهو اتهام باطل آخر أيضاً، مع ارتكابهم المستمر لخطأ القياس الباطل مع الفارق ونحوه.

دون أولئك المحدثين القدامى ومجتهدي الأخباريين المعتدلين، بل حتى عوام الأخباريين الذين وصل الكثير منهم في نهاية المطاف بالوعظ والإرشاد إلى بر الأمان والحمد لله تعالى.

إلا أن البعض الآخر من هؤلاء الأخيرين بافتقارهم إلى العلمية الأصولية الشَّريفة كما وفق له المحدثون القدامى وبقية المجتهدين وبالخصوص في المسائل المستحدثة -

لم يوفقوا أسفاً إلى قبول أو ادراك شيء مما سمح لهم به من معاني التعقليات حتى الثالث المتنازع فيه على ما سيجيء.

وإن ادعي القول بعدم نفي الجنس في خصوص هذا المقطع الأول.

فعليهم إثبات ذلك فيه وفيما بعده.

لأن المهم - بل الأهم - خضوعهم لتعقل المعنى الثالث وقبولهم الموجبة الجزئية المعاكس للكلية الماضية، والتي لولاه لما أمكنت السيطرة الشرعية الاستثنائية على كل حال في أمور المسائل المشكلة المستحدثة التي عدمت أو اختفت على مستفرغ الوسع من الفقهاء الجامعين لشرائط الأدلة الطبيعية بواسطة ما مر من الأدلة الإرشادية.

و لو خوفاً من الوقوع في محذور الجبر البادي صراحة في المقطع الثاني الآتي في عبارة القوم، وهو ما يساعدهم على تورطهم بادعاء الجبر ونفي الجنس.

وأما عما قاله هؤلاء الأشاعرة من مقطع قولهم الآخر والنظر فيه وفيما يستحقه من التتمة رداً ومناقشة:

ص: 104

و هو قولهم بعد الأول (بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح، فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً)(1)

ومثلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة –على ما بان من التعليق عليه بعد نقل الشارح القوشجي.

فإن كان قصدهم من مطلع هذا المقطع الثاني وهو قولهم (بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح) إتمام المقطع الأول به وبما قد يمكن أن يكون حول خصوص ما ذكرناه عن الموجبة الكلية التي تخضع كل عقل لشرع الله تعالى ومما يتفق عليه الفريقان -

فهو تأكيد لما مرّ في المقطع الأول من قولهم السابق إن لم يكن من قصدهم نفي صحة الحالة العكسية للموجبة الجزئية الماضي ذكرها وهي قول (بعض ما يحكم به العقل يحكم به الشرع) لتبقى المعارضة منهم للعدلية.

وعلى هذا لنا أن نقول:

أن مطلع هذا المقطع الثاني الذي استظهرنا منه بداية أنه كان بداية للمقطع الثاني أن الأصلح حينئذ أن يكون تتمة للمقطع الأول.

أما إذا كان إصرارهم على تبعية العقل للشرع أو كان عدم الاكتراث به حتى في الموجية الجزئية العكسية باقياً، لإكتفاءهم الكامل بالبيانات التي ناقشنا فيها وخصومة للعدلية فيما يصح وفيما لا يصح -

فلا ينسجم مع ما مر ذكره من حصول عقبات كؤود على تلك البيانات حتّى على بعض بياناتنا.

ص: 105


1- كما مر استعراض كلامهم في ص 91

و لذلك توصل العلماء من رجالينا والمنصفون من رجاليي غيرنا إلى لزوم وضع قانون التقسيم بين الروايات والتفريق فيما بين الصحيح وغيره باتباع الأول وترك الثاني، أو التدقيق الأكثر حديثياً وإن صح عندنا لسلامة طرقنا أكثر من طرق الآخرين الأخذ بالضعاف المجبورة بعمل الأصحاب.

فلابد من البقاء على العقل في الموجية الجزئية العكسية.

وأما ما يتعلق بباقي المقطع الثاني وهو قولهم (فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه و قبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحا).

فعلى فرض صحة ما استظهرناه عن كون بداية ما كان مستظهراً منه أنه أول المقطع الثاني فصار تتمة للمقطع الأول، لأجل زرع الأمل بما يمكن أن يجتمع فيه الفريقان ولو في الجملة.

فلابد أن تكون حالة من الاصطدام البياني بين ما صار آخراً و تتمة للمقطع الأول.

وبين أن تكون بداية للمقطع الثاني ليبقى داخلاً في حال إصرار القوم على جعل قولهم البادي ب- (فلو عكس الشارع .... إلخ) تفسيراً لحالة ما يصرون عليه تلك الخصومة من العدلية، ولو كما تنزّلنا مع القوم في الجملة، كما سيتضح عند

استعراض رأي العدلية والبحث عنده لعدم الانسجام بين التعبيرين.

ولأن تلبية رغبة المصرين على رأيهم ضد هذا العقل جملة وتفصيلاً يدخل المطلب الإلهي العادل في التكوين والشّرع في مطلب إمكان تعقل القول بالجبر، والعكس خلافه.

لأن العقل عقلان كما سبقت الإشارة إليه:-

والعقل الأول منهما هو العقل الذي يوصل صاحبه إلى ساحة الوهم والجهل،

ص: 106

وهو ما يسبب تعقل ظلم الله المستحيل.

والعقل الثاني وهو المرتبط بحكم الله العادل، سواء تبع الشرع في الموجبة الكلية الماضي ذكرها ولو تعبداً، أو استقل في التعقل فجاءه التقرير الإلهي أو الإمضاء الشَّرعي اختياراً أو اضطراراً لما دلت عليه الأدلة الإرشادية.

وإن قيل بأن الشارع له الحق في أن يعكس القضايا الشرعية تجاه المكلفين، فيحسن ما يقبح، ويُقبح ما يحسن، لأن الملك ملكه والعباد عبيده، وعليهم الخضوع لسلطانه.

وهو ما معناه أنّ له الحق في أن يُدخل عبده المطيع في جهنم والعاصي في الجنة، مستدلّين سطحياً على ذلك ببعض الأدلة كقوله تعالى «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(1) وقوله -«»قَالَ كَذَلكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء(2) وقوله «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ»(3)وغير ذلك.

فإنه يحق للحق "جل اسمه" في الجواب أن يدافع عن حقه ذاتياً بأن كل عبد ذائب في ذات الله وعاشق متفان في سبيله لابد أن يقبل منه نطق لسانه عن صميم قلبه قول (كل ما يأتي من المحبوب محبوب) رضاً بما سبه العبد لنفسه أو على نفسه ثواباً أو عقاباً.

على أساس تلك العدالة الإلهية الثابتة في نظام الحياة في هذه الدنيا قبل الآخرة التي لابد وأن يراد من آخر الآية الثالثة الماضية، وهي قوله «وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»حتى لو أدخل جهنم وعنده بعض الطاعة لأكثرية معاصيه، أو أدخل الجنة وعنده بعض المعاصي لأكثرية طاعاته، وإن استظهر منه بعض السذج انقلاباً في عنوان

ص: 107


1- سورة الملك / آية 1.
2- سورة آل عمران / آية 40.
3- سورة الرعد / آية 39.

الاستحقاق من عند الله بدون تدقيق في الحساب منه وهو صاحب العدالة المطلقة.

و لابد أن يفسر آخر الآية الكريمة هذا بآيات ويبرهن عليه ببينات منها قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1)ومنها قوله «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(2)ومنها قوله «وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(3)، وغير ذلك.

وأما مسألة أنَّ الله الحق أن يقلب بعض موازين القوى، فيدخل من يستحق الجنة النار لأجل ارتكابه بعض المعاصي، لتطهيره من جراثيمها ثم يخلد في الجنة بعد ذلك، أو يُدخل من يستحق النار الجنة بسبب شفاعة الشافعين المأذون لهم في ذلك وغير من حالات سعة رحمته في الآخرة، عدا من يدخل الجنة مخلداً فيها أو في غالبها بغير حساب أو يدخل بزجه من يستحق النار إليها وكبحه في سعيرها لشدة كفره وإفساده مما ورد في تفاصيل هذه الأمور فمن نصوص الآيات وخيار الروايات التي حوت مضامينها خفاء الاقتضاءات لهذه الاستحقاقات -

فلا يمكن أن ينكر شيء من ذلك، ولكنه لا ينفع الأشاعرة في شيء مما يتصورون من هذه الأوهام.

وأما أنّ له تعالى الحق في أن يقلب بعض موازين القوى ضد التحسين والتقبيح العقليين المذكورين في الصراع بينهم وبين العدلية فيجعل الحسن قبيحاً والقبيح حسناً فلا مانع من قبوله كذلك.

لكن لا بمعنى ما يتصوره الأشاعرة من نكران ذاتية التعقل العادل وبما لا تنافر فيه بين العقل المستقل لو لم يحط بالمغريات ويتأثر بها وبين الشرع كما مر مراراً.

ص: 108


1- سورة الزلزلة / آية 7-08
2- سورة الإسراء / آية 7.
3- سورة آل عمران - سورة 3 - آية 182.

وإنما صيرورة القبيح حسناً في العكس بأن قبح القبيح في بداية الأمر في نظره تعالى إذا كان كذلك فهو بالعنوان الأولي وانقلابه إلى الحسن لصالح العنوان الثاني.

وقد ذكرنا بعض مصاديق أمثال هذه الانقلابات ذات العناوين المتفاوتة التي فيها معنى من هذا البحث وفي الفقه تفاصيل كثيرة من هذه الأمور مع أدلتها.

وأما فيما نقل عن أنّ هؤلاء الأشاعرة أنهم كانوا يمثلون لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب، ومن الوجوب إلى الحرمة.

فإنَّه لابد أن يلاحظ عليهم أنَّ هذا منهم غاية في السطحية البعيدة عن المعنى المراد من المحو والإثبات الذي ذكرته الآية آنفة الذكر والتي آخرها الثوابت النظامية التي لا محو فيها ولا إثبات في الأحكام الخمسة التي لا تتغير ولا تتبدل ومنها الوجوب والحرمة إلا بما يتصوره هؤلاء الممثلون.

بينما كان توجيهنا الماضي المفرق بما بين العنوان الأولي الممكن والمعقول والشرعي وبين العنوان الثانوي، فلا يبقي لهم حجة تنقذهم من شرك ما قد أوقعوا أنفسهم فيه من ادّعاء الذاتية البيانية للأحكام المتفاوتة في تقلبها بين العنوان الأولي والثانوي

إضافة إلى أن من ادعاءهم النسخ إذا كانوا يريدون منه نسخ التلاوة فهو ممنوع عند الجميع لمحفوظية القرآن الكريم عند الكل في الكل وإن تفاوتت كيفية الجمع القرآني.

وإذا كان المراد هو نسخ المعنى دون التلاوة فلابد أن حاق الصواب يدنوا من المعنى المتعارف عند أهل التحقيق من أهل العدل وهو التخصص والتخصيص إن أعطي معنى من بقية معاني عموم الآية ثم نسخ وبقي الباقي منها.

فلو كان للمنسوخ معنى بعض الوجوب فلابد أن يبقى باقيه على ذاتية وجوبه، و انتقال وجوب ذلك البعض بعد النسخ إلى الحرمة هو من حالة العنوان الثانوي.

ص: 109

وهكذا أمر العكس بأن كان للمنسوخ معنى بعض الحرمة فلابد أن يبقى باقيه على ذاتية حرمته وانتقال حرمة ذلك البعض بعد النسخ إلى الوجوب هو من حالة العنوان الثانوي التي لها ظرفيتها في شرع الله.

وأما إذا ادعوا أن النسخ الذي أردناه هو نسخ المعنى الكامل وهو الذي يعطي معنی الذاتية المنسوخة بالمحو والمثبتة لحالة الإثبات الذاتي وجوباً أو حرمة -

فإنَّه مرفوض، لكون الآية المنسوخة أو القطعة المنسوخة منها ذاتياً وكلياً سوف تبقى خالية من كل معنى مع أن القرآن الكريم لم يكن له بطن واحد.

فلابد من اعترافهم بما يخالف ما عرف عنهم مما نسب إليهم من تلك الادعاءات، وإقرارهم بحجية العقل الوسطية التي لا تتنافر مع الشرع كما بينا مع الأدلة الماضية ولذلك ورد (العقل ما عبد به الرّحمن واكتسب به الجنان) (1)

قول العدلية وما يستحقه كلامهم مناقشة أو حتى في الجملة

و قالت العدلية - في مقابل قول الأشاعرة الماضي ذكرهم للرد والمناقشة - وهم الفرق المؤلّفة من معتزلة العامة (وهم جماعة واصل بن عطاء) ومن الإمامية حتى محدثيهم وأخبارييهم وشركاءهم في العدل، دون من يشتد منهم ضد العقل إلا بتفصيل كما لا يخفى

(أنَّ للأفعال قيماً ذاتية عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع فمنها ما هو حسن في نفسه ومنها ما هو قبيح في نفسه ومنها ما ليس له هذان الوصفان والشارع لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلاً عما هو قبيح فالصدق في نفسه حسن ولحسنه أمر الله تعالى به إلا أنه أمر الله تعالى به فصار حسناً والكذب في نفسه قبيح، ولذلك

ص: 110


1- الكافي ج 1 باب العقل والجهل ح 3.

نهى الله تعالى عنه لا أنه نهى عنه فصار قبيحاً) (1)

ولأجل نصرة الحق والحقيقة لابد أن نقول حتى لو كان هناك شيء أو بعض شيء ضد بعض العدلية، لتصحيح المسار وتصفية المعارضة.

لكي نتكاتف مع الأساس على النهج الموحد لردّ فكرة القول الأول بنجاح تام، حتى لو ألزمتنا نصرة الحق والحقيقة بترك بعض طريق العدلية لو حصل بعض التجاوز والعياذ بالله وإلى حد لزوم اتخاذ الحالة الوسطية للحل الأنجح كما هو كذلك، وإلى ما لا نقض فيه ولا إبرام على ما سبق التنويه على شيء منه، وعلى ما سيجيء جعلة مسلكاً للختام.

فإنَّ قول هذه المعارضة من العدلية للأشاعرة (أنَّ للأفعال قيماً عند ذاتية العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع ....إلخ) لم يكن في تقييمهم له بما قصدوه من التقييم للعقل والجنوح له في ادراك معاني ما أنعم الله تعالى به على العباد من المشتركات ومعها المعنى الثَّالث للذاتيات المدركة والمنوه عنها في توجيهاتنا الماضية أكثر من مرة عناداً منهم أو مكابرة بدون دليل جاهدوا كثيراً في سبيله.

ولا لإزاحة مقام الشرع الشريف عن تشريعاته الجدية للأحكام الخمسة التي مرت في كونها غير قابلة لأنَّ تتبدل عناوينها عن معنوناتها ومنها الوجوب والحرمة، مع تشريع هذا الشارع ما لا يتنافى مع هذه الحديات المريحة في أجواء عدالته المثلى.

و في مقابلها من مصاديقها التي تمنحها الطاقة العظيمة ذات العلاقة المريحة بالمرونة الأدائية للعباد عند تغير بعض أحوالهم وانتقالها إلى ما قد لا يتحمل من حالة اليسر إلى حالة العسر، ومن حالة الاختيار إلى حالة الاضطرار، ومن الحكم الأولي إلى الثانوي وغير ذلك من مصاديق حالات الشريعة السهلة السمحاء المعلومة.

ص: 111


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 ص 271.

وأن عقل الجميع كما لا يخفى لم يبتعد كثيراً عن إدراكه كما في المعنيين الأولين، وكما عند الخصم لو لم يصر أو يعاند العدلية على لزوم اجتناب قبول الثالث معهم، و لو ببقائه على ثبوت أمره في بقعة الإمكان دون حالة الإثبات، ولو لأجل المزيد من البحث الدقيق عنه عسى أن يتوصل الجميع إلى حقيقة المعنى الوسطي الآتي بلا إفراط أو تفريط.

و إنما كان ذلك طبقا لما أسلفنا ذكره عن نعمة خلق العقل أولاً وما تقتضيه حينما كانت مجردة عن أن تحف به المغريات الأربع والبقاء عليها.

و إن حصل ما حصل مما أبتلي به أبونا ونبي الله آدما علیه السلام من إبليس "لعنه الله" من ترك الأولى بالأكل من الشجرة، وتسبيب نزوله من الجنّة.

لينجز تعالى عليه تكليفه بالنبوة في هذه الدنيا لذاتيته الطاهرة مع بقية الأنبياء والمرسلين بما يتناسب والخلافة الإلهية في الأرض.

ولتبقى حجية أو مطلق فائدة نعمة العقل حتى بعد بعثة الأنبياء وإرسال الرسل لو التزم المكلف بتمام تنزهه عن التأثر بشيء من تلك المغريات.

ولتبقى تلك الحجية أيضاً مقواة بقوانين مبادئ السماء وتبقى مبادئها مقدسة غاية التقديس من تلك العقول السليمة والمستقيمة، لكون طبيعة العقل المجردة مع اشتراط هذا التجرد غير متنافر مع مبادئ الشرائع السماوية كلّها بما فيها خاتمها وهو المبدأ الإسلامي السامي لهذا العالم و نبيه الرسول الخاتم صلی الله علیه و آله

إلا أن بلوى النزاع بين الفريقين ما اشتدت إلا عند تجاوز بعض من قال بالعدل الإلهي - وهم المعتزلة - عن الحد الوسط المتاخم لوسطية العدل إفراطاً.

فقالوا بالتفويض للعقول بين الفريقين، كما قال اليهود قبل الإسلام مع تماديهم في الكفر وبقاء إسلام المفوضة بقولهم بالعدل مع السطحية فيه.

وقد عبر القرآن الكريم عن تمادي اليهود بقوله عنهم «وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ

ص: 112

مغْلُولَةٌ»(1) فأجابهم بقوله«غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ».

بعد ما قال الأشاعرة قبل ذلك بالتجبير إفراطاً ضد العقل كما سبقهم النصارى قبل الإسلام بتجبيرهم للعقول والتزامهم بالرهبنة وترك الزواج أو الإحجام عن كثيره

و قد استنكر القرآن منهم كذلك بقوله تعالى«وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها»(2)

فهؤلاء المفوضة للأسف تحرروا كثيراً في تصرفاتهم العقلية واستقلوا حتى عن تقيداتهم بأحكام الشرع الأصيلة، وكأن لسان حالهم يقول أن مما أنعم الله به علينا ببالغ عدالته أن خلق فينا العقل وأطلق لنا الحرية في التصرفات.

وعلى ضوء هذا التجاوز التحق بهم العلمانيون من أكثر من دين وملة.

وبسبب هذا وأمثاله كثر القياس والاستحسان والاجتهاد في مقابل النصوص.

ومن أجل هذا ورد عن العدلية الإمامية قولهم المأثور والمشهور على ألسنتهم في رد هؤلاء (ليس من مذهبنا القياس) استنادا على قول الإمام الصادق علیه السلام (السنة إذا قيست محق الدين)(3) و قوله أيضاً علیه السلام (إياك والقياس، فإن أبي حدثني عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: من قاس شيئاً من الدين برأيه، قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس في النار، فإنه أول من قاس حيث قال «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»، فدعوا الرأي والقياس فإنّ دين الله لم يوضع على القياس )(4)

وأما تمثيل مطلق العدلية في بيانهم المخالف لما بينه الأشاعرة من التمثيل بتمثيل

ص: 113


1- سورة المائدة / آية 64.
2- سورة الحديد / آية 27.
3- الكافي (ج 1 ص 58) وسائل الشيعة: 352/29
4- الاحتجاج ص 286

الأولى بالصدق والكذب بدل ما مثلت به الثانية وهو الوجوب والحرمة -

فسببه ما مرت الإشارة إليه من التفريق بين الأحكام التكليفية الخمسة الحدية، ومنها الوجوب والحرمة اللذان لا يقبلان التكيف العنواني بين الأولي والثانوي من حيث أصلهما-

وبين الصدق والكذب القابلين لهذا التكيف بين الأولي والثانوي في كل منهما، فالصدق في وجوبه عند الوجوب قد يكون جائز الترك للمصلحة أو في الحرب لما فيه من فائدة رجحان المخادعة.

بينما لو ترك الأشاعرة تمثيلهم المذكور وأبدلوه بمصاديق الوجوب والحرمة كالصلاة للأول وأكل الميتة للثاني مما يمكن فيهما التكيف بين العنوان الأول وبين الثانوي لكان أقرب إلى حالة الاشتراك المحتمل في التعقل.

فالصلاة قد تكون ثابتة حدياً ذاتياً على عنوان أصل الوجوب اختياراً، وقد تكون منقلبة عن المعنى الحدّي إلى ما يقابله وهو الحرمة كالصلاة في الدار المغصوبة.

وهكذا الحرمة الأصلية الحدية لمصداقية الميتة في الاختيار بأكلها وعند تبدل هذه المصداقية عند الاضطرار، وخوف الموت العقلاني بدون أكلها، فيصح التحول إلى العنوان الثانوي المجوز له ولسد الرمق فقط.

وبهذا التفصيل من سبب الفرق بين التمثيلين لدى فريقي النزاع يقترب أمل الانتصار لصالح النمط الأوسط الأمثل الآتي قريباً.

(المنزلة بين المنزلتين)

إنَّ نتيجة ما بحثناه ردّاً ومناقشة تصحيحية لما يراه الأشاعرة وما بحثناه قبل ذلك في التمهيد المساعد على وسطية التعقل لدى هؤلاء ومن كانوا في مقابلهم ولا بديته.

ص: 114

وما بحثناه بعد ذلك حول ما يراه بعض العدلية وهم المسمون ب- (المفوضة) من المعتزلة في التعديل والمناقشة التصحيحية لما حصل عندهم من التجاوز -

لابد وأن تكون بالاعتراف بالأخذ ب- (العقل) في دليليته وصحة الاستفادة منها في الصورتين الماضيتين الأولى والثانية عند الجميع.

وأما الصورة الثالثة: وهي المتنازع فيها بين الأشاعرة - تفريطاً في حقها - وبين المعتزلة من العدلية إفراطاً في حقها.

فلأجل الخلاص من محدوري الإفراط والتفريط، بل وخطرهما المحقق بإيصال كل من الطرفين اللجاجة في التطرف إلى ما به التجاوز على حق المولى المتعال بالكفر وانقلاب الموازين الإعتقادية الحقة إلى ما يخالفها، إذا كان ذلك في خصوص المستقلات العقلية المرتبطة بمعاني حسن الإحسان وقبح الظلم المناطين ببعض الأدلة الإرشادية كأية قوله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)وغيرها .

حيث فسح تعالى تمام المجال لكل عاقل رشيد مستقيم أن يستدل مستقلاً على صغريات قضاياه الوجدانية والمشهورات العقلائية بكبرياتها بعد حذف المتكرر.

وهو ما يدعو إلى اتخاذ الطريق الوسط الذي تشير إليه الآية الكريمة الأخرى وهي قوله تعالى «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ ألرّسول عَلَيْكُمْ شَهيداً»(2)

و وردت كذلك لتيسير مضمون معنى الوسطية الشريفة عن المعصومين علیهم السلام منها عن أمير المؤمنين علیه السلام (خير الأمور النمط الأوسط، إليه يرجع الغالي وبه يلحق

ص: 115


1- سورة النحل / آية 90 .
2- سورة البقرة / آية 143

التالی)(1)

وما ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام (خير الأمور أوسطها)(2) ليكون معناه محكماً عند الحرص على جعلها موافقاً لجعل الله تعالى الأمة وسطاً.

ولهذا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام- لرد المتجاوزين عن الحد الوسط إفراطاً وتفريطاً، لما مر من المخاطر قوله - (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(3).

وبهذه الحالة يصح الاستدلال المنطقي المعروف ببداهة إنتاجه إذا كان من الشكل الأول إذا تكون في قضاياه من إيجاب الصغرى وكلية الكبرى ثم حذف المتكرر، وبما لابد من الأخذ بنتيجته عند العقلاء، وهي تتوضح في أبواب:۔

1 - ففي باب ما ينفع في أمور الاعتقادات الحقة أو ما يقوله الفقه الأعظم ،وتوابعه، وبالأخص إذا أرشدت إلى أمر صحة تعقله والاكتفاء به مثل قوله تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَ يُريكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(4)أن تقول عما أشيع أمره من بين الأمثلة على كثرتها في المقام قضايا (العالم متغير) و(كل متغير حادث).

فإنه بعد حذف المتكرر لابد أن ينتج (العالم العالم) حادث، وهو ما معناه وجوب الاعتقاد بسبق هذا العالم الحادث بالعدم الذي لابد أن يلازمه وجوب تعقل كل العقلاء المستقيمين في عقولهم سبقه بالمحدث له تعالى ولما أرشدت إليه الآية الماضية

ص: 116


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 846 عن غرر الحكم للشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي : 4973 ، 5032 ، 5059.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 846 عن البحار:4/360/74 و 16/292/76
3- بحار الأنوار 17:5ح 28.
4- سورة البقرة آية 73.

و غیرها وتتبع ذلك بقية التعقلات الفرعية الأخرى.

2 - وفي باب ما ينفع في أمور الأخلاق والدعوة إلى التحلي بالحسنة منها والتخلي عن السيئة منها والاهتمام بما يتطابق مع الأهم من الأحكام الخمسة وهي الأربعة البارزة كالواجبة والمستحبة في الحسنة والمحرمة والمكروهة في السيئة.

وما هو الأوسع مما كان مدركه العقل المستقل كالتي أشارت إليها بعض الأدلة الفقهية كدعم إضافي إلى ما أرشدت إليه الآية السابقة وهي «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1) أن تقول (العدل يحسن فعله عقلاً لكونه صغرى القياس ومن المشهورات التي تطابقت عليها أراء العقلاء وتسمى ب- "الآراء المحمودة").

وأن تقول كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً لكونه كبرى هذا القياس و على أساس ما يضاف من المباني في الصغرى ).

وبعده وبعد حذف المكرّر لابد أن تقول في النتيجة أن (العدل يحسن فعله شرعاً).

وهكذا الأمر نفسه في الحال السلبية الأخلاقية بدون أي تفاوت في كيفية الاستدلال حول نفس هذا الشكل الأول والاستفادة منه دون أن تكون الحجية لنفس العقل اللبي فقط وإنما لطريقة الاستفادة من دليليته ونفوذها إلى القرار الشرعي.

3 - وفي باب ما ينفع في أمور الشرعيات الفرعية وما كان أوسع مما اختلفت فيه كلمة الفقهاء بعد انتهاء عهد الأئمة الأحد عشر علیهم السلام وانتهاء الغيبة الصغرى للنواب الأربعة للإمام الثاني عشر الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف

ووجوب رجوع العامة إلى الفقيه الجامع للشرائط وعلى المبنى العقلي الذي

ص: 117


1- سورة النحل / آية 90.

أرشدت إليه بعض الآيات كقوله تعالى«قُلْ هَلْ يستوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»(1) والمستفهم عنهم ممن (لا تخفى عليه خافية) هم العقلاء

وقوله «وَ فَوْقَ کُلِّ ذي عِلْمٍ عَليمٌ»(2)وغيرهما ، وهو وجوب تقليد الجاهل للعالم.

وصحة أن يستنتج هذا العامي هذا الوجوب مما مر ذكره من عملية الشكل الأول الماضي في الحالة الأولى والثانية، لتكون هذه الحالة هي ثالثتها وعلى المباني المذكورة فيقول (هذا ما أفتى به المفتي وهو الفقيه الجامع للشرائط) إذا شخصه و(كل ما أفتى به المفتي الجامع لها واجب في حقي).

فإنه لابد وإن ينتج على هذا العامي بعد حذف المتكرر (ما أفتى به هذا المفتي الجامع واجب في حقي).

وأما ما مر ذكره منا من تصحيحنا للموجبة الجزئية للحالة العكسية الماضية وهي قولنا (بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع) فهو وإن كان في بعض الأحوال الظاهرية لا يتلاءم مع كلية الكبرى لكل من الأشكال الماضية.

إلا أن الحقيقة متلائمة بعد أقل نسبة من التأمل، حيث أن الموجبة الجزئية هي التي نريد منها نفي التصرفات العقلية المحفوفة بالمغريات ونفي القياسات مع الفوارق والإستحسانات غير المرشد إليها بما مر وغيره.

وبهذا تكون هذه الجزئية من حيث واقعها المتلائم تماماً مع ما مر عن عقلانية التحسين والتقبيح العقليين لا يتفاوت تماماً حتى مع كل موجبة كلية من كل شكل أول يرتبط بما يصح أو يحتاج إلى التمثيل له مما يناسبه من عدم الحف بالمغريات وعدم

ص: 118


1- سورة الزمر / آية 9.
2- سورة يوسف / آية 76.

المقايسة مع الفوارق.

وعلى هذا كلّه لابد أن يكون المعنى اللبي المراد من الأخذ ب- (العقل) إضافة إلى ما مر من عدم صحة الاحتجاج به في نفسه في مقابل الكتاب والسنة وما يصح من الإجماع، وإنما ذلك في مرحلة ما مر من عملية الاستدلال عن طريقه -

هو أن يستفاد منه في المقام بمقدار ما اتفق الكل في الكل من العقلاء النزيهين عليه.

وأما بما لم يتفق منه عليه كالحالات المشكوك في أمورها فلا مجال للاحتجاج به عن طريقه.

(أسباب القياس التمثيلي وما يلحق به لمنعه)

قد دأب أغلب الماضين من العامة قديماً وحديثاً، بل نوعهم إلا ما قل وندر بناءً على الأخذ بالقاعدة الاجتماعية الظاهرية غير المحققة (الناس على دين ملوكها) - والأهم منهم في المخاطر الشديدة على الأمة إذا أريد حتماً أن تبقى النجاة دنيا وآخرة - من قبل بقية القلة والنوادر والمنصفين ومعهم الإمامية-

بعدم اتخاذ السيرة الاجتهادية في مقابل النصوص القرآنية الصريحة أو الظاهرية المطمئن بالاستقلال بها في الاحتجاج بها أو نحوهما مما یصح الأخذ به بعد ذلك كبعض الإمارات المقبولة ومن بعدها الإرشاديات مع كثرة ما عرض على آياتها الأخرى من الإجمال المتعدّد في حالاته البالغة التي مر ذكرها -

وهم سلفهم من المشايخ الثلاثة وأتباعهم حينما أطبقوا على جرأتهم بمخالفة رسول الله صلی الله علیه و آله بذريعة ادعاءهم تطبيق حقهم في اجتهادهم في الأمور ولو على علاتها تقديماً لمبنى الخط السياسي العقلي المستقل وإن وصل منهم إلى حد الخطأ الذي قد يعذرون أنفسهم فيه ولو تهوراً منهم حتى قبيل وفاته مع أنه المعصوم صلی الله علیه و آله

ص: 119

الذي نزل في حقه القرآن دوماً «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيَ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى »(1)، أي سواء قبيل وفاته أم بعدها.

كما جاهره الخليفة الثاني في تلك الجرأة لما سمع من النبي صلی الله علیه و آله قوله (آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) بقوله حينما خاف من النبی صلی الله علیه و آله أن يكتب ما يضيع عليه غاياته (دعوه إنه يهجر فقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله)(2)، وهو ما يعني منه فقدانه الوعي.

و كسبق مجاهرة الخلفاء الثلاثة له بمخالفتهم أوامره صلی الله علیه و آله يا بعودهم عن الالتحاق بجيش أسامة ابن زيد وإلى حد أن أغضبوه عليهم ثلاثاً بتذرعهم بطريقة وأخرى في المخالفة وضد ما عرف عنهم مسبقاً من مؤشرات عدم رغبتهم في تطبيق بيعة يوم الغدير وغير ذلك.

وكمواقفهم الواضحة بعد فاجعة وفاته العظمى صلی الله علیه و آله والتي بعيدها ما أغضب الزهراء علیها السلام علی الأولين منهم حتى التحاقها بأبيها "صلوات الله وسلامه عليهما وعلى بقية آله".

وكمحاربتهم جميعاً لما أراده صلی الله علیه و آله قبل وفاته وبعدها من تأكيداته على وجوب الاهتمام بحديث الثقلين وهما الحفاظ التام على ناموسي الكتاب ونصوص العترة المغنية للجميع بالتأليف الجامع بينهما - كمدرك مهم جداً للكتاب المجمل في كثير من أموره - عن كل التزام قام به أولئك بأمثال الاجتهاد في مقابل النصوص ونحوها.

وعما شاع بين العامة من أمثال المفوضة ومن سايرهم في التحرر العقلي بلا قيد

ص: 120


1- سورة النجم / آية 3-4-5.
2- مسند الإمام أحمد ، ج 1، ص 355 ، صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله وفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض (قوموا عني.)

أو شرط ومنه الالتزام بالقياس - مع الفارق - وبقية الإستحسانات الخارجية ونحوها مما لم نلتزم به.

و عما حاوله المنافقون قبلاً وبعداً من الوضع والتلفيق وتبديل أهل الفضل في مدح الأحاديث لهم بما يخص مقامات أرباب مدارك السنة الشريفة الداعمة للكتاب بغيرهم وتبديل بعض الصحاح بروايات إسرائيلية حتى وصل الأمر إلى اشتهار ضحالة الروايات المعتبرة عندهم أو عدم العناية بأكثرها كمبرر للمتحججين بعدم تلك العناية إلا بظواهر الكتاب، وإن شذت الاستقامة فيه من قبلهم كطريق آخر غير ما سبق من الاجتهاد في مقابل النصوص أو اعترف بعضهم بقلة تلك النصوص أو كانت ميسورة ولكنهم لم يفهموها أو تغاضوا عنها.

بينما حديث الثقلين في اشتهاره بين الفريقين لم يترك لهم عذراً بتغاضيهم عنه، إذ قد قرع أسماع أكثرهم مراراً وتكراراً إن لم نقل كلهم وإن أصم آذان من تآمر على طمسه بعدم الاعتناء به في التطبيق له وما قدر عليه.

فقام الخليفة الأول منهم بمنع تدوين الحديث وقال (حسبنا كتاب الله)(1) ومعه غيره في هذا أيضاً من أيده.

وقام الخليفة الثاني بحرق الأحاديث للغرض نفسه(2) ، ولخوف أن يكون فيها ما يعين على الحفاظ على حديث الثقلين أو ديمومة الأخذ به.

وقام الخليفة الثالث بإحراق المصاحف التي ظهر جمعها(3)، وإن كانت قد تطابقت مع المجموع المألوف بين الدفتين ومما بين أيدى المسلمين اليوم إلا بعض من

ص: 121


1- المصدر السابق، تذكرة الحفاظ 3/1رقم 1.
2- صحيح البخاري : ج 1 ص 20، طبقات ابن سعد مجلد 5ص 140.
3- البيان في تفسير القرآن: 277، تفسير القرطبي ، باب ذكر جمع القرآن، أضواء على مصحف عثمان - سحر عبد العزيز سالم - ص79.

التفاوت غير الضار مثل ما بين التقديم والتأخير من بعض الآيات الواردة على أساس تسلسليات مقتضيات طوارئ التنزيل من البداية التي أولها سورة العلق إلى النهاية التي كانت وهي «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً»(1)كحال الجمع القرآني الذي رتبه أمير المؤمنين علیه السلام والذي قد يرتفع به بعض حالات الإبهام الشائكة وإن كان ما بين الدفتين هو السائد اليوم والمعمول به على رأي الأئمة علیهم السلام جميعا ومنهم الإمام الصادق علیه السلام، والذي لم يمنع من صحة جمع جده أمير المؤمنين "سلام الله عليه" و من فوائده الخلاص من بعض الجمل المعترضة.

إلى أن ضاق الخناق على أصحاب السقيفة ومن لف لفهم من كثرة خوارقهم الفاضحة لهم ولما يكتمونه بعد ما قبض النبي صلی الله علیه و آله ومن خوفهم من أن يؤل الأمر إلى صاحبه الأصيل أمير المؤمنين علي علیه السلام وهو مشغول بتجهيز رسول الله صلی الله علیه و آله للمقدمات والدفن.

فما كان منهم بعد استحكام أمورهم بأيديهم مع عامة سوقتهم وعوامهم ومن عاضدهم من أهل النفاق والأطماع واشتداد ضغوطهم المتعدّد على بيت الرسالة وولى أمره بعد النبي صلی الله علیه و آله ، إلا أن عند ما صرحوا بعد حلول موارد الحاجة إليه علیه السلام تماماً من فتراتها باللوذ واللجوء إلى هذا الخليفة بحق والإمام بصدق وبسديد أجوبته وبساطع براهين براعته.

لا لكون تبرير أخذهم منه هو حل مشاكلهم بمجرد مطاوعتهم له في كونه منه تنازلاً عن أصيل خلافته لعلمهم التام في أنَّه من كان المصداق لآية الانقلاب على الأعقاب، ولأداء حق الواجب المقدس تجاه معارف الرسالة المحمدية التي كان يحيط

ص: 122


1- سورة المائدة / آية 3.

بها دون غيره، ولذا رجعوا إليه بعد مقتل عثمان، وإن كان ذلك الرجوع منه على مضض وعلى خوف من تمردات المنافقين، ولئلا يكون الباقون في التعاسة الأشد إن تركهم.

فحينما أصاب الخليفة الأول ما أصابه من التجاوزات وتورط فيها قال في حقه علیه السلام (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)، وكذا غيره وبتكرار.

بل قال الخليفة الثاني ضد صاحبه الخليفة الأول نتيجة لكثرة تجاوزاته الفاضحة کقضیته مع مالك ابن نويرة وغيرها (بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه)(2).

وحينما أصاب الخليفة الثاني أيضاً ما أصاب صاحبه مرات وكرات قال في حقه علیه السلام المقولة السابقة وقوله كذلك (لولا علي لهلك عمر )(3) حتى أحصي له رجوعه إليه "سلام الله عليه" في ثلاث وعشرين مسألة.

وغير ذلك من ممادح أخرى له تؤكد بالغ مظلوميته علیه السلام في تصرفهم المعاكس معه ببالغ صبره.

وحينما أصاب الخليفة الثَّالث منها ما أصابه وكسابقيه قال في حقه ال (لولا

ص: 123


1- الإستيعاب ج 4 ص 39 مناقب الخوارزمي ص 48 ، الرياض النضرة ج 2 ص194 ، فيض القدير: 356/4 للمناوي .
2- صحيح البخاري، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت 44/10«2080/8»، مسند أحمد 55/1 ، تأريخ الطبري 200/3-205 ، الصواعق المحرقة: 5 و 8، وقال: سند صحيح، تمام المتون للصفدي: 137 ، تاج العروس 568/1. وجاء في بعض المصادر: فلتة كفلتات الجاهلية فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه كما في التاريخ للطبري 210/3 ، وشرح ابن أبي الحديد 19/2 ، وغيرها، وقد أشار إلى كلتا العبارتين في الغدير370/5 و 79/7
3- المصادر السابقة.

علي لهلك عثمان)(1) وغير ذلك مما يشبهه مما ورد عن حال جميع المشايخ الثلاثة وما اعترفوا به تجاهه علیه السلام ومعهم آخرون من غيرهم ممن يدعون بالصحابة حينما مدحوه بعد حل مشاكلهم عند ابتلائهم بمثل ما مضى من المحرجات بل والمخجلات وأمام أعداء الجميع ومما سجله الفريقان لأمير المؤمنين وإمام المتقين أبي الأئمة أواصر حبل الله المتين في حديث الثقلين "سلام الله عليهم أجمعين" بأحرف من نور من مصادر العامة وبأكثر من مصادر الخاصة.

ومما يزيد في الطين بلة وفي الإشكالات أشكالاً متعدّدة من زحمات العلة وعلى ما عرف مشهوراً وعما تصدى له السلف الخاص من رجال العامة الأوائل مع وافر دلائل ما أوقعوا أنفسهم فيه مما مرت الإشارة إليه -

ما قد تورط به بعدهم من أولئك المنافقين الذين ما غفل عن ذمهم القرآن الكريم والسنة الصحيحة الشريفة من تصديهم الحاقد للوضع والتلفيق وبث الإسرائيليات مكان الإسلاميات ونحو ذلك، واختلاق صحابة لا أساس لهم في الصحبة ونسب إليهم ادّعاء ما لم يقله النبي صلی الله علیه و اله وبسبب زعمهم وفرة الروايات والأحاديث هذه مع خراب أسسها الاصطلاحية -

كان ترك الأشاعرة ومنهم أو معهم الحنابلة وأضرابهم من بقية المذاهب العامية والذي يتصورون منه وفرة الروايات والأحاديث في مصادرهم، ومنها أمثال ما أورده الوضاعون والمتسامحون في ضبط طرقها .

مما عليهم الأخذ به بدل ذلك من الطرق العقلية المسموح بها مما مر ذكره، إلا من استثنيناهم من خصومهم الأشد في أمر القول بالتفويض من المعتزلة.

وقد بينا ذلك كله مسبقاً مع ما حققه المنصفون من علماءهم في الرجال وشؤون

ص: 124


1- زين الفتى للعاصمي ج1 ص 318

الحديث لاستكشاف ما به التوازن المقبول عندهم إن كان ولو في الجملة من تلك المرويات.

و في النتيجة لم يظهر منها إلا زيف الكثير، بل الأكثر منها، مع الارتباك الواضح في البواقي وندرة الموثق جداً، وهو مما يمكن العمل به عند جميع المسلمين، أو عُدَّ من العوامل المساعدة أو المؤيدة عندنا نحن الخاصة والصحيحة المعمول بها عند العامة.

ولندرة تلك الموثقات البالغة لدى العامة لم تجد حتى المنصفين من علماءهم - بعد كونهم لم يلجؤا لسد فراغ ما أتبلوا به لسبب وآخر إلى روايات العترة الطاهرة من أئمة أهل البيت علیهم السلام عن النبي صلی الله علیه و آله مع تيسرها وضبط طرقها في مدرسة الباقرين علیهما السلام مع هذه الحاجة الماسة لإكمال مسيرتهم الطبيعية والعادية لو اجتنب التعصب المضاد، مع كون المهمين من رجال مذاهبهم بالمباشرة أو التسبيب كانوا من خريجي مدرستهما

من ترك العمل بالقياس الممنوع حتى في أوسع أبواب الاستدلال الوارد فيما یصح لما جاء دور الرحمة الإلهية المفاجئ لإنقاذ الأمة بعد ذلك الصبر الطويل ولو على مضض من الأمل الضئيل بصورة الحياة العلمية الفائقة لأهل البيت علیهم السلام الموصوف بقول الله الأصيل «في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ»(1)لأن أصحاب هذه البيوت أدرى بما فيها من غيرهم.

وذلك في دور الفترة مما بين آخر الدولة الأموية والمروانية شبه المنتهية بسبب مجونها وتعاستها وبين أوائل الدولة العباسية الفتية التي ما لاذت في البداية لأخذ الحكم إلا بحجة طلب الثأر ظاهراً لصالح مظلومية العلويين من أبناء عمومتهم والأخذ به وإن كانت النوايا الواقعية منهم عكس ذلك، وهو أخذ الحكم ضدهم

ص: 125


1- سورة النور / آية 36.

ولكن الأمر في جملته كما قال تعالى «عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»(1)

وهو ما سبب ثني الوسادة العلمية المقطوعة لأهل البيت علیهم السلام إلهيا لهم في البداية مما سبق و سبق ولخصوص مدرسة الإمامين الباقرين الصادقين علیهما السلام سابقاً ولاحقاً من التي حقق في زمانهما - وكما سبقه في السر الإلهي ووراء الحجب الشريفة - التمكن من تسجيل وحفظ كل ما حقق ويحقق هدف النبي صل الله علیه و آله والوصي علیه السلام وبقية الأئمة علیهم السلام من مضامين وصايا الرسول صل الله علیه و آله وإصراره على الحفاظ التام على حديث الثقلين الذين هما الكتاب والسنة الحاوية لما قاله النبي صلى الله عليه وآله و سلم و ما فعله وما قرره بواسطة بقية المعصومين وأئمة أهل البيت علیهم السلام وعن طريق خيار أتباعهم وخلص حواريهم ولو على مضض قساوة طواغيت أولئك العباسيين الأقسى على العلويين في كثير من الأمور مما سبق.

ولإفادة كل أبناء الأمة بلا تمييز أحد عن أحد أو مذهب على آخر وبما أغنى الجميع ويغنيهم عن استعمال العقول بأكثر مما يسمح به ،أصولياً، فضلاً عن القياسات والإستحسانات ونحوها من الممنوعات إلى يوم القيامة، شريطة التآلف والتوافق على الثّوابت المشتركة بين الجميع.

إلا بما أشرنا إليه وما سوف يأتي ذكره من بعض المبررات للاستفادة من العقول في الجزء الأخير من كتابنا (المساعي)، وحول الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل لو أعوزت النصوص وتوابعها اللفظية عن أن تؤدي المراد، واحتيج إلى الاستفادة من طرقها الخاصة التي تساعد عليها الأدلة الإرشادية وكما في مستحدثات المسائل الإبتلائية الكثيرة اليوم المناسبة لها.

أما الذين استثنيناهم ممن دعوا ب- (المفوضة) ومن يمكن أن يلحق بهم من بقية

ص: 126


1- سورة البقرة / آية 216

المذاهب العامية ممن حضروا في مدرسة الإمام الصادق علیه السلام واستفادوا منه ومن علومه بالمباشرة ك- (مالك ابن أنس) و (أبي حنيفة النعمان ابن ثابت)، أو التسبيب بقية المذاهب ومدحوه وأثنوا عليه وإن كان منهم من عد مع الأسف في اجتهاده من القياسيين.

فقد أوغل هؤلاء مع الأسف في تحررهم باتخاذهم العقول حتى المحفوفة منها بالمغريات فشرقوا وغربوا فيها حتى بما يرتضى بها العقل السليم والتزموا بالقياس حتى مع الفارق الواضح الفاضح، وخبراؤهم يعلمون سلفاً أن أول من قاس إبليس "لعنه الله".

حيث خاطب الجليل تعالى حسداً لآدم علیه السلام بعد أمره له بالسجود له مع الملائكة قائلاً له بعد تمرده عن السجود دون الملائكة «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»مع عدم الدلیل فی نظره التمردی علی افضلیة النار علی الطین

من الرجال السائرين على نهجه مع سبقه ومن التحق به أو صاحبه في حينه بعد ذلك (أبو حنيفة) ومناقضاً لما كان يقول في حق الإمام الصادق علیه السلام من المدح والثناء أيام حضوره على دروسه عليه في سنينه، إذ ادعى عنه أنه كان يكثر من استعمال القياس في أكثر فقهياته، حتى قيل أنه لم يطبق أموره الفقهية على نهج ما عرفه من الأحاديث النبوية على فرض صحتها إلا على ستة أحاديث.

و كان كل ما بقي من فقهياته من بدايتها إلى نهايتها قد بناه على ما أفرط فيه من مباني القياسات الخالية من كل الروابط الصحيحة مما بين العلة والمعلول المحصورين بين منصوص العلة ومعلولها دون مستنبطها غير المنقح بمقبولية ذات شرعية.

بل ألجأه وأمثاله الخوف والطمع ونحوهما لمسايرة سلاطين الجور ليكونوا وعاظهم أو المفتين في أروقتهم ليكونوا جهاراً على اختلاف ما يقوله الإمام الصادق

ص: 127

علیه السلام لما انتهت سياسة قساة الحكّام العباسيين الهادئة معه، بعد استتباب أمر الحكم لهم وبدأت القساوات الظالمة الأظلم لأهل البيت علیهم السلام مقتضية جهاراً مخالفة الحق وأهله حتى قيل أن أبا حنيفة قال يوماً (خالفت جعفر بن محمد في كل شيء من صلاته إلا في السجود فما كنت أدري أنه كان يغمض عينه أم يفتحهما فجعلت أغمض واحدة وأفتح أخرى)(1)

(استعمال أبي حنيفة القياس التمثيلي)

و من قياساته الفاضحة لمسلكه على ما نُسب إليه ومن أيده أنه كان يجوز الوضوء بنبيذ التمر المحرم شرباً واستعمالاً لإلحاقه بالخمر المسكر ، وحجته في ذلك ما قد روي عن النبي صلی الله علیه و آله أنه كان يتوضأ بالنبيذ (2) ، الذي فسره الإمام علیه السلام بأنه (هو ماء مالح قد نبذ به تميرات ليطيب طعمه وقد كان ماء صافياً فوقها)(3) فقاس اسماً على اسم مع

ص: 128


1- شرح نهج البلاغة للحائري - ج 2 ص 29 ، الكشكول - الشيخ البحراني - 46/3
2- ينظر: تفسير الرازي الكبير :375/3 ، وارشاد الساري:43/2، ووفيات الاعيان: 6/2 تهذيب الأحكام 219:1/ 628 ، الإستبصار 15:1 /28، وسائل الشيعة 202:1، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.
3- مجمع البحرين - الشيخ الطريحي - ج 4 ص 262 ، الكافي 416:6/ 3 ، الإستبصار 1: 29/16 ، وسائل الشيعة 203:1 كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف الباب 2، الحديث 2. فعن سماعة بن مهران عن الكلبي النسابة، أنه سأل أبا عبد الله علیه السلام عن النبيذ؟ فقال: حلال فقال: إنا ننبذه فنطرح فيه العكر، وما سوى ذلك فقال شه شه تلك الخمرة المنتنة، قلت : جعلت فداك فأي نبيذ تعني؟ فقال: إن أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله تغير الماء، وفساد طبائعهم، فأمرهم أن ينبذوا ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشن فمنه شربه، ومنه طهوره فقلت : وكم كان عدد التمر الذي في الكف؟ فقال: ما حمل الكف، فقلت: واحدة أو اثنتين؟ فقال: ربما كانت واحدة وربما كانت اثنتين، فقلت وكم كان يسع الشن ماء؟ فقال: ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك ، فقلت : بأي الأرطال ؟ فقال: أرطال مكيال العراق. وعن محمد بن علي بن الحسين علیه السلام قال لا بأس بالوضوء بالنبيذ، لأن النبي صلی الله علیه و اله قد توضأ به، وكان ذلك ماء قد نبذت فيه ،تميرات، وكان صافيا فوقها، فتوضأ به.

التفاوت بينهما.

إلى غير ذلك مما قد سبب الكثير من ضغوط العباسيين على العلويين وأئمتهم ومدارك شرع الله الأصيلة وبما لا يطاق من تجاوزات أرومتهم حتى قال الشاعر الغيور عن حال أهل البيت علیهم السلام وماجري عليهم من كلتا الدولتين

تالله ما فعلت علوج أمية *** معشار ما فعلت بنوا العباس

(عملية تنقيح المناط)

وأما ما عرف بين بعض المتسامحين أو سطحييهم في الاستنباط الفقهي وبما قد يقترب كثيراً من حال استخدام العقول المتحررة وبدون أقل نسبة من الارتباط بالشرع من المدارك أو في ادعاء شيء منها، وهو ما سمي بين مدوني الأصول قديماً وحديثاً حتى بين بعض الإمامية ب- ( عملية تنقيح المناط)، ولكن بدون تعمق فيه أو بإهماله النوعي في الجملة وإن اشتهر عنوانها في بعض الأوساط.

ولهذا وأمثاله فلا يمكن المساعدة عليه بالنّحو المطلق وخصوصاً عند المدققين منهم، إلا بما كان هناك من الجامع المشترك والمتساوي التام المنقح اصطلاحاً، لا بعموم وإطلاق ما تريده اللغة العامة وإن أدخلها بعض المتسامحين ورتب بعض الأثر

ص: 129

عليها شاملة ،له لحالة ما يجب أن يراد إلحاقه في الاصطلاح خاصة من المصداق الإضافي بالفرد الأصيل مما يؤهله للإلتقاء التام به، ليكون أصيلاً ثانياً قياساً صحيحاً عليه تحت مظلة ذلك المناط الشامل والمنقح الأقوى الواحد، بسبب قوة علاقته بتلك المدارك الشريفة ولو بنحو من الإشارة والإرشاد أو القرائن الكافية بما يثبت العلاقة بها من القديم لأخذ الحيطة من التورط بالوقوع في ابتداع التشريع المحرم عندنا نحن الإمامية، فضلاً عما عند الآخرين من المباني الأضعف وإلى العلاقة الرصينة بين منصوص العلة ومعلولها وحتّى ما ساوى هذا المعلول بنفس الانضواء تحت مظلة المنصوصيّة التّامّة، فضلاً عن حالة الأولوية والتقريبات العرفية في هذا الذي مال إليه سيدنا الأستاذ السيد السبزواري قدس سره (1)

وأما سيدنا الأستاذ الخوئي قدس سره فلم يظهر من تقريرات تلامذته لبحوثه الموافقة التامة على حالة السطحية في المقارنة بين حالة التنقيح بمطلقها وعموم القياس الذي ظاهره عدم موافقة المسلك الإمامي أيضاً عليه، مما يمكن أن يظهر منه خصوص عدم رضاه قدس سره بالسطحي أو ما نسميه بالمستنبط دون خصوص المنصوص(2)

وبهذا يمكن أن يتحد العلمان على المعنى الموحد وإن تفاوت مبنى كل منهما عن الآخر.

وهو كما نميل إليه في النتيجة وإن لم نعمل نحن إجمالاً بأخبار الآحاد مع عدم القرائن الموثقة.

وقد مال بعض المدققين من العامة كذلك إلى عدم اعتبار هذا التنقيح على أساس سطحيّة التعلق به دون التعمق في المنصوصية للعلة الذاتية.

ص: 130


1- مهذب الأحكام - السيد السبزواري - 190:12
2- مصباح الفقاهة - السيد الخوئي - 528:7مباني تكملة المنهاج 508:42 الموسوعة 173:6

كما وقد ذكر بعض فقهائنا المحنكين المتأخرين عنواناً وضعه مؤخراً يشبه ما مرَّ في وجوب إحراز ارتباطه بالقديم الشرعي من المحفوظات ، وهو ما سموه ب- (المصلحة السلوكية) للمتشرعة لو توفّرت قرائن عدم انعدام الاتصال الشرعي بالقديم للغيبة الصغرى، ليبقى إمكان عدم الحاجة إلى غلق بابه عقلائياً على الأقل بالمرة.

(عملية المصالح المرسلة)

ومما عرف عن أصولي مسلمي العامة وتطبيقاتهم الفقهية اعتمادهم في تخريجات بعض الفروع على مبرراتها من أصولهم والمباني عندهم لو لم يرد من لسان الشرع أو مؤشّرات مداركه عين أو شيء من أثر بوضوح واعتيادية بينة على ما سموه في مصطلحاتهم ب- (المصالح المرسلة).

وفي تعريفهم لها لغوياً على مضمون ما قالته بعض القواميس أنها جمع مصلحة، وهي المنفعة والمصلحة كالمنفعة وزنا ومعنى فالمراد بها لغة جلب المنفعة ودفع المفسدة، والمرسلة هي المفسرة بالمطلقة التي لم تتقيد حتى بخصوص المعنى الاصطلاحي الذي يأتي ذكره الآن واصطلاحيًا أن مرادهم منها أن لها معاني ثلاثة:-

الأول: مصلحة معتبرة شرعاً، وهي التي دلّت عليها الأدلة كاملة كالصلاة ونحوها من الثوابت.

الثاني: مصلحة ملغاة شرعاً، وهي التي دلّت عليها الأدلة كاملة كذلك على حرمتها أو مرجوحتيها كمصلحة الربا المحرم ومصلحة الخمرة المحرمة، ومصلحة الدواء المبغوض لدى المريض وفي الشرع للأصحاء ونحو ذلك.

أقول: وهذان المعنيان الأول والثاني لا كلام لنا حولهما إمامياً، وإن ناقشنا حول بعض أدلة كل منهما فنياً، لمحاولة زرع الوفاق المسلكي الاستدلالي بين الجميع.

بل إن هذين المعنيين مع ضبط أدلتهما على ما يتفق عليه الجميع أو على

ص: 131

خصوص المباني الإمامية على الأقل هما المعترف بهما عندهم أنهما على وزن القاعدة المتعارفة بينهم في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

الثالث: مصلحة مسكوت عنها، وهي مورد الحاجة إلى الاستشهاد بها في المقام، دون الأولين المذكورين، فهذا الثالث لهذه المصلحة يراد منها أنها التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من الكتاب والسنة والإجماع أو القياس.

لكنها لم تخل حسب تعبيرهم عن دليل عام كلّي يدل عليها، وهو الاستناد إلى ما سموه ب- (مقاصد الشريعة) وعموماتها ، وسميت ب- (المصلحة المرسلة)، وهي بهذا المعنى الثَّالث تكون مطلقة عن دليل خاص يفيد ذلك الوصف بالإعتبار أو الإهدار.

واحتج جمهورهم على القول بالجواز المطلق لهذا المعنى وأطلق على هذا الرأي برأي المشهور -

بأن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لم تتجدد مصالح النَّاس، ولو اقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط لعطلت كثير من مصالح الناس، وهذا لا يتفق مع مقصد التشريع من تحقيق مصالح الناس.

وقد أثبت بها الأحكام مالك وأحمد والجويني ، وأورد لصالح هذا الرأي ومن أيده أمثلة قام بتشريعها الخليفة الأول أيام خلافته كمحاربته لمالك بن نويرة الموالي لأمير المؤمنين "سلام الله علیه" بجيش زعم عليه خالد ابن الوليد لامتناعه دفع الزكاة له بدل أمير المؤمنين علیه السلام فقتله وقتل رجاله واستباح زوجته وزنا بها (1)

وإمضاء الخليفة الثاني أيام خلافته الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلّفة قلوبهم من الصدقات

ورفعه (حي على خير العمل) من الأذان والإقامة.

ص: 132


1- وهذه الواقعة أشهر من أن يذكر لها مصادر ، راجع كتب التاريخ للفريقين

وتشريعه (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر.

ورفعه متعة الحج ومتعة النساء عن المشروعية الأصيلة.

ونسب إلى آخرين تجويز الضرب لمجرد التهمة، وتجويز قتل الواحد بدل قتل جماعة إذا توقف قتلهم جميعاً عليه ببنائهم على أنّ (الغاية تبرر الواسطة)، مع أن الغايات التي تتمشى مع الشرع متعدّدة وغير متساوية في الأدلة المحدودة.

وغير ذلك مما عمله أولئك المشايخ والأصحاب مما سبق ذكره في بدايات كلامنا عن بعض أحوالهم من بعد أن غمضت عينا رسول الله صلی الله علیه و آله من المقترحات المبتنية على عنوان (المصالح المرسلة) أو ما يشبهها.

وستأتي الإضافة إلى أمثال هذه الأمور والإجابة السديدة عليها بتوفيق الله آخر البحث تحت عنوان (الإجابة عن أمثلة المصالح المرسلة) مع التسنيد الوافي من كتب العامة المتعارفة في الهوامش.

ثم أقول: بأن من رجال هؤلاء العامة المبرزين من قال بالمنع المطلق، عكس القول الأول وهم الشافعي والظاهرية.

ونسب هذا القول إلى فقهاء الشافعية والحنفية ومن الحنابلة ابن قدامة، وسبقهم في القول بالمنع المطلق وصاحبهم في ذلك أيضاً الإمامية، على أساس إحكامهم لقواعدهم الأصولية المعتمدة عند المحنكين من أتقياءهم الرافضة لكل ما لم يصرح به من الكتاب تفسيراً وتأويلاً ومن السنة كذلك.

وعلى أساس من تطبيق مضامين حديث الثقلين جميعاً المتواتر بين الفريقين و هی المحصورة في قلوب أئمة أهل البيت علیهم السلام وما يطابقها من مرويات الآخرين الموثوق بها ومن الإجماع الإمامي الذي في جمعه ثبوت رأي الإمام الأصل المقصود في مثل قوله تعالى «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا

ص: 133

يُوقِنُونَ (1) بالجعل الإلهي نصاً لا انتخاباً خاصاً عن مثل السقيفة وأمثالها حال كونها خالفت الله ورسوله صلی الله علیه و آله بالتالي في بيعة الغدير حينما جعلت أمير المؤمنين علياً علیه السلام جليس بيته خمساً وعشرين عاماً لم يخرج منه إلا حين حضوره عند من تقمص بخلافته لحل بعض ما ورطوا أنفسهم به من المشاكل وحسب ظلمهم وترك الباقي محسوباً على ذممهم مما تحت عملية (المصالح المرسلة) وأمثالها.

ومن القياس المقرر في أصولهم بما يتناسب والمعاني الثلاثة المذكورة في السابق، ومن غير القياس التمثيلي الذي أشرنا إلى مثاله وإلى شيء من رده، وغير القياس الإستحساني الذي لا ينسجم فيه أمر المقيس على المقيس عليه من المرتبط بالعلة التامة والمقيس لا تشده معه إلا ببعض شبه سطحي أو جزء من تلك العلة ومبانيها الإرشادية ، مع أن جزئها مثلا لا يساوي تلك العلة تماماً عند المقارنة العادلة.

ومع أن أولئك العامة لم يظهر من حجتهم على المنع المطلق إلا مجرد التقارب في النتيجة الوئامية بيننا وبينهم ، لعدم العلم بالدقة الأصولية عن مقاصدهم أنها إنما كانت هي نفس مبانينا ولو في بعضها على الأقل، أم لا؟

حيث ظهر من حجتهم أنّ المصلحة المرسلة ليست بحجة لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدّماء بكل طريق، ولذلك لم تشرع المثلة - وإن كانت أبلغ في الردع والزجر - ولم تشرع القتل في السرقة وشرب الخمر، فإذا أثبت حكماً لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعاً للشرع بالرأي وحكماً بالعقل)(2)

أقول أيضاً: إن هذا البيان مع عدم خلوه من الفائدة المذكورة اجتماعياً منا ومنهم لابد أن يظهر من تعبيرهم الأخير حرمة التشريع بالرأي وعن طريق العقل

ص: 134


1- سورة السجدة / آية 24.
2- المصالح المرسلة تعريفها أقسامها ضوابطها حكمها - أبو جابر الجزائري - ص 218.

المستقل غير المرشد إليه مع توفر النصوص والظواهر والإمارات الصريحة ونحوها كقوله تعالى «وَ مَن لَم يَحكُمَ بِمَا أنزَلَ اللهُ فأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ(1) وفي الآية التي بعدها وختامها «الظالمون» وفي الآية التي بعدها وختامها «الفاسقون»، وغير ذلك من عبارات الأحاديث الشريفة الكثيرة من كلا الطريقين.

إلا أن نجعل ملاك المصلحة الباقية داخل الإطار الشرعي وبنحو انضمام التصرف العقلي المسموح له شرعاً بسبب دخوله في بعض الأدلة الإرشادية في تصرفه التابع عند ندرة الأدلة الاعتيادية بمثل مشروعية حسن الإحسان وقبح الظلم وتسبيب نشر الأخلاقيات العامة والنظاميات التي لا يجوز مخالفتها لحفظ النفس أو ما يسبب إيذاء الآخرين، كوضع إشارات المرور الملزمة بعدمه عند ازدحام الشوارع بالحافلات إلا عند إقفالها ليصح المرور، شريطة أن يكون المسؤول الواضع لأمثال هذه الأمور إنساناً عاقلاً مستقيماً موصوفاً بإنسانية ترعى مصالح جميع الطبقات لجلب المنافع ودفع المفاسد، وهو ما لا يخلو من ارتباطه ببعض الإرشاديات كذلك.

وأما تشريع البعض لصالح (المصالح المرسلة) في مثل محاولة ترويج حالة الوجوب لغرض تطبيق السرعة في الامتثال مثلاً والحرمة لفرض عدمه إذا صدر ذلك من عموم ما يطلق عليه بالإمام الآمر والناهي حتى لو لم تعلم صلاحية إمامته إلهياً و كما مر شيء من ذلك -

فإنه لا توجد موضوعية لأي شخص تطلق عليه هذه الكلمة، لأن الإمام الحق عند الإمامية هو الحافظ لكل علوم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ووحيه، فلا يسأل عما يأمر و ينهي حتى لو لم يذكر السبب بعد تكامل الاعتقاد به والأئمة الاصطلاحيون أحصاهم النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم اسماً بعد آخر.

ص: 135


1- سورة المائدة / آية 44، 45 ، 46

ولا يخفى هذا الأمر على المتتبع الجاد المنصف من مصادر الحق المطلوب، ولو لم يمكن إلا الأخذ بشهادات الصحابة بأجمعهم في حالات الاضطرار إلى الاعتراف بأعلمية الإمام علي علیه السلام مثلاً والاختيار عليهم كذلك ومن كان بمستواه من أبناءه المعروفين دون غيرهم لكفانا الآن.

ولأجل محاولة التأمل في عبارات المجوزين للمصالح المرسلة كما شاءوا وللمقارنة المنصفة بينها وبين عبارات المانعين ولو في الجملة الممكنة لتفضيل التلخيص الممكن وعدم الإطالة المملة فيها، وقد ينسجم مع هذا التوجيه بعض الأشاعرة إن اهتدوا للسير على المنهج الإمامي، وهو ما قد يتلاءم مع قول المانعين ولو إجمالاً، المجوزين إن سلكوا نهجنا -

نقول عن قولهم بأن (مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لم تتجدد مصالح الناس، فلو اقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط لعطّلت كثير من مصالح الناس، وهذا لا يتفق مع مقصد التشريع من تحقيق مصالح الناس).

بأنه لابد أن يظهر منه لأول وهلة من الملاحظة أوسعية مصالح الناس من عبارات الكتاب والسنة وبقية الأدلة الأصولية المشار إليها مرات.

ومحاولة ترجيح لآراء أهل الحداثة والتجديد وأصحاب العلمانية والوضع القانوني وعلى نحو التصرف بالعقول بأكثر مما يلزم، وهو ما قد يُسبب ادعاء اختيار الشرع سد أبواب مداركه الشريفة على الأمة كما يجب أو كونه كان عاجزاً عن تلبية جميع مطالبها والواقع خلافه.

فأما أن تحمل المصادر اللفظية مثلاً على الأقل من قبلهم بناء على حسن الظن ببعض أو حتى الكثير منهم على أنَّ المصدرين الشريفين كتاباً وسنة قد وفيا بحق ما تستحقه الأمة والنّاس، وهذا ما سببته عراقيل إيصال تفاصيلها إلينا.

ص: 136

وهذا الأمر ما قد ذكرنا بعض أسبابه، وذكرنا بعد ذلك إمكانية ما يعالج أموره امامیا من التفسير والتأويل لكتاب الله، وكذلك السنّة على ضوء مضامين حديث الثقلین مع بقية ما يعالج باقي الأمور في الأصول المعتمدة دون بقية أساليب الآخرين التي قد لا يرضى بها حتى هؤلاء المجوزون.

وقد جاء في الكتاب الكريم من آيات ما يدل على استيعابه كل ما تحتاجه الأمة والناس كقولة تعالى «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمينَ»(1)وقوله «وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا فيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَ لا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً»(2)وغيرها .

وجاء في السنة المعتبرة والمتواترة بين الفريقين ما مر من حديث الثقلين المشار إليه مرات وهو قول النبي صلی الله علیه و آله (اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وإنهما - الكتاب والعترة - لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(3) وغيره.

مما يبرهن كذلك على كفاءة هذه الأدلة ونحوها من الأصول الشرعية على نهج طريقة الإمامية ومن ينهج منهجها دون غيرها.

إلا أن العقول المستقلة التي تريد أن تلبي كل مصالح الناس وهي محفوفة

ص: 137


1- سورة النحل / آية 89.
2- سورة الكهف / آية 49.
3- ينابيع المودة - القندوزي الحنفي - ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرضا علیه السلام ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786) ، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (14/3 ، 17 ، 26 ، 59 ) ، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598)

بالمغريات الماضي ذكرها كيف يرخصها الشرع في التشريع دون بقية مداركه، وهي بين حق وباطل.

وأما أن لا تحمل هذه المصادر في أساسها كل ما يحتاجونه، ولو لتبرير قول أبي بكر (حسبنا كتاب الله ) أنه قال ذلك لحكمة في ذهنه لا يدركها الآخرون.

وتبرير قيام عمر بإحراق الأحاديث وإصداره منع تدوينها.

وقيام عثمان بإحراق المصاحف الماضي ذكرها .

لأجل أن تحرر العقول للوصول إلى الاجتهاد في مقابل النصوص والظواهر ونحوهما من الأدلة وهذا ما أثبتته توصلاتنا الماضية.

وإن قيل بأن إحراقها منه كان غرضه السعي لتوحيدها في واحد؟

فإنه يجاب عنه: بما جمعه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام من المصحف الواحد، ولكن تركوه.

ولأن القول بالجواز المطلق يشجع على السطحية في التدين أو ما يوصل إلى حالة انتهاءه ولو بعد حين والعياذ بالله وممن يمكن إلحاقهم بهذا التوجيه المفوضة أن صححوا عمل الماضين في مصادر الشرع من سلفهم.

ولأجل الإنصاف في القضية أكثر ولتتضح الصورة التي نوردها عن براءة أهل الحق والحقيقة -

لا مانع من أن نلبي رغبة من يؤيد الملتزمين بالقول بالتفصيل واشتراط بعض الشروط ممن عرف عن جمع آخر لعملية (المصالح المرسلة) ميلاً للسير على نهج الوسطية مما بعد التوجيهين.

فقال الغزالي: بعدم المانع من العمل على ضوء هذه المصالح إذا تطابقت مع حالة ضرورية من الضروريات القطعية الكلية وهي (الدين والنفس والعقل والنَّسل والمال)، وإلا فلا.

ص: 138

فقال في شرح قوله: (نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة )(1).

وذهب ابن برهان إلى جواز العمل بها شرط (أن تكون المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا).(2)

ونسب هذا القول إلى الشافعي، ونسبه بعض آخر إلى معظم أصحاب أبي حنيفة.

كما اشترط الشاطبي (أن تكون معقولة في ذاتها، ملائمة لمقصود الشارع، حقيقية لا وهمية حاصل أمرها راجع إلى رفع الحرج عن المكلفين)(3)

فلابد أن نقول في جوابه: أن الاشتراط إن كان يقترب من أسلوب الإمامية مع قلة الأدلة وهو المتعارف كما في الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل -

فهو سير في سواء السبيل، وإلا فلا.

وفي حال تحققه على مستوى هذا النهج يتضح معنى الجمع الإجمالي بين المجوزين والمانعين دون الإطلاق في جواز (المصالح المرسلة) ودونه في حالة عدمه اقتران الشرط بالأصل الكلي والجزئي من الشرع، وهو نفس ما قرر إمامياً.

وتوجيه قول المجوزين مطلقاً: أنه من باب الضرورة.

فجوابه: ما جاء بعضه إلا من أمثال قوله تعالى «فَمَنِ اضطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَ لَا عَادِ فَلا

ص: 139


1- المستصفى - الغزالي - ص 174
2- أصول ابن برهان ج2 ص290.
3- الاعتصام ج 2 ص 377.

إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).(1)

الإجابة عن أمثلة المصالح المرسلة

وبعد أن ذكر سلفهم وغيرهم أمثلة للمصالح المرسلة لتبرير الأخذ بها عما جعلوه منها كقاعدة لهم، سواء في القول بالجواز المطلق، أو المشروط الذي لم يف بما وجهناه آنفاً إماميّاً وما قاربه في التأييد من الآخرين.

لابد لنا من الإجابة عن عدم مصداقيتها الثابتة لها في الواقع:-

فقول أبي بكر (حسبنا كتاب الله)(2) بعد التأكيد من النبي صلى الله عليه وآله و سلم على المحافظة على حديث الثقلين الماضي (3)ومنع بعض الأوائل أيضاً عن تدوين الأحاديث، ثمّ جاء التصدّي المخالف من عموم المسلمين في فترة الخضوع للحق الذي لابد أن يكون منتصراً يوماً من الأيام إما ندماً أو إهتداءاً أو نحوهما بعد ذلك بالجمع والتدوين لها مع همة الإمامية الغالية فيه، وإن تخلل ضمن ذلك عدائيات الوضع والتلفيق ونحوهما -

كان منه تصدياً خطيراً يعطي مبررات غير مشروعة لمحاربة سنة الله ورسوله صلی الله علیه و آله، ويجوز لهذا وذاك الاجتهاد في مقابل النصوص، كقيامه بإرسال خالد ابن الوليد على رأس جيش ليلاً بحجة أخذ الزكاة الواجبة من مالك ابن نويرة فقتله وقتل الجيش بأجمعه وزنا خالد بزوجة مالك في تلك الليلة، بينما الواقع أن مالك لم

ص: 140


1- سورة البقرة آية 173.
2- صحيح البخاري :ج: 4 ص : 1612 ، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله و وفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض (قوموا عنّي)، تذكرة الحفاظ 3/1رقم 1.
3- راجعه ص 137

يمتنع عن دفع الزكاة الواجبة لأمير المؤمنين علي علیه السلام صاحب بيعة يوم الغدير(1)

وهذا ما أغضب بعض الصحابة ومنهم الخليفة الثاني عمر حتى قام الإمام الحسن علیه السلام بجلد خالد حد الزنا بزوجة مالك.

ومن أقوال عمر في تجاوزات أبي بكر كما مر بيانه (بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه)(2).

وإمضاء الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أيام خلافته الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، بينما مشروعيته الثابتة كتاباً وسنة ونحوهما هي الطَّلقة الواحدة مع الشروط (3).

فقد ذكروا عزمه وإصراره على ذلك بكتابه (إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة و لكن أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزم كل نفس ما ألزم نفسه من قال لامرأته: أنت علي حرام، فهي حرام و من قال لامرأته أنت بائنة فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثاً، فهي ثلاث)(4)

ص: 141


1- هذه الواقعة أشهر من أن يذكر لها مصادر، راجع كتب التاريخ للفريقين
2- صحيح البخاري، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت 44/10(2080/8)، مسند أحمد 55/1، تأريخ الطبري200/3-205 ، الصواعق المحرقة: 5 و 8، وقال: سند صحيح، تمام المتون للصفدي: 137، تاج العروس568/1 وجاء في بعض المصادر: فلتة كفلتات الجاهلية فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، كما في التأريخ للطبري 210/3 ، وشرح ابن أبي الحديد 19/2، ،وغيرها، وقد أشار إلى كلتا العبارتين في الغدير 370/5و 79/7
3- صحیح مسلم : ج 4 باب الطلاق الثلاث ح 31 ، التتابع بمعنى الإكثار من الشر، سنن البيهقي : ج 7 ص 339 ، الدر المنثور - السيوطي - ج1 ص 279.
4- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 9 ص 676، برقم 27943

ولعدم مألوفيتها كانت هذه الثلاثة يُطلق عليها عند الإمامية وبعض آخر من غيرهم بالبدعة.

حتى قد أضرت بمن يجريها من العامة على زوجته عند ندامته مع حبه لها وعدم رضاه بأن تنكح زوجا غيرة حتى اهتدى بعضهم إلى التشيع.

وعن منعه عن إعطاء سهم المؤلفة قلوبهم(1) من أصناف الزكاة الثمانية إليهم، مع التصريح بأسمائهم في آية الزكاة مع عدم النسخ تلاوة وتخصيصاً.

وعن رفعه (حي على خير العمل) (2) في الأذان، وهي سنة ثابته عن النبي صلی الله علیه و آله عند كل المسلمين وإلى حد الآن لم يتركها الإمامية ومن تبعهم من الزيدية.

وعن تشريعه (الصلاة خير من النوم)(3) في أذان الفجر مع أن النبي صلی الله علیه و آله لم يتصد له يوماً، بل قال تعالى «وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعقاب»(4)

وعند رفعه مشروعية متعة الحج ومتعة النّساء مع أنهما ثابتتان كتاباً في قوله تعالى

ص: 142


1- تفسير المنارج 496/10، الدر المنثور للسيوطي ج 252/3، الجوهرة النيرة على مختصر القدورى في الفقه الحنفي ج1 ص 164 ، بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 45:2
2- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 218 عن سنن البيهقي ج524/1-525، السيرة الحلبية ج105/2ط 1382 ه- ،ميزان الاعتدال للذهبي ج 139/1، لسان الميزان ج268/1، نيل الأوطار للشوكاني ج32/2 ، الروض النضير ج542/1 و ج 42/2، منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد ج 276/3، كنز العمال ج 266/4
3- النّص والاجتهاد - شرف الدين - ص 238 عن الموطأ للإمام مالك ص 58 ح 151 ط بيروت، المصنف لابن أبى شيبة وأخرجه من حديث هشام بن عروة.
4- سورة الحشر / آية 7.

«فَمَن تَمَتّعَ بالعمرة إلىَ الحَجَّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ»(1) ، وقوله «فَمَا استَمتَعتُم بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً »(2)

و سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وأهل بيته المعصومين علیهم السلام باعتراف منه أمام كافة الملأ والصحابة في قوله (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء)(3) وقوله (و الله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلی الله علیه و آله يعنى العمرة في الحج)(4)، وقوله أيضاً : (قد علمت أن النبي صلی الله علیه و آله قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهنَّ في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم)(5)

ص: 143


1- سورة البقرة / آية 196 ، راجع تفسير القرطبي ج 388/2
2- سورة النساء / آية 24
3- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 218 عن تفسير الرازي ج 167/2وج 201/3و 202 ط 1، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 251/12و 252 وج 182/1، البيان والتبيان للجاحظ ج 223/2 ، تفسير القرطبي ج 270/2 وفى طبع آخر ج 39/2، المبسوط للسرخسي الحنفي باب القرآن من كتاب الحج وصححه ج، زاد المعاد لابن القيم ج 444/1فقال ثبت عن عمر وفى طبع آخر ج 205/2 فصل إباحة متعة النساء، كنز العمال ج 293/8و 294 ط 1، شرح معاني الاثار باب مناسك الحج للطحاوي ص 374. وفى رواية أخرى قال عمر: " متعتان كانتا على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و على عهد أبى بكر وأنا أنهى عنهما .. راجع وفيات الأعيان لابن خلكان ج 352/2ط إيران.
4- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 225 عن سنن النسائي ج 5 ص 153.
5- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 225 عن صحيح مسلم ك الحج ج 4 ص 46 ط العامرة وراجع بقية الروايات والمصادر في الغدير ج 6 ، مقدمة مرآة العقول ج 1 205-249.

بل إن عبد عبد الله بن عمر قال عن عن تصرف والده حول ما نسب إلى أبيه قوله لما سئل عن متعة الحج قال (هي حلال، فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلی الله علیه و آله ؟فقال الرجل بل أمر رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال لقد صنعها رسول الله صلی الله علیه و آله )(1).

ونسب إلى آخرين تجوزيهم الضرب لمجرد التهمة مع إمكان - بل صحة - ردّ ذلك شرعاً بالمدرك القضائي العادل المتعارف (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

وعن تجويز قتل الواحد بدل قتل جماعة إذا توقف قتل جميعهم عليه.

وهذا ما بحثنا عن حله الشرعي والدليل الأصولي دون الاقتراحي من هذا أو ذاك في بحث الأهم والمهم وعن البحث العام الآتي في آخر هذا الجزء وهو (بحث التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة) فليراجع أمره هناك.

إلى غير ذلك من أمور كثيره صيرها كثيرون من هواة البدع بدعا متبعة مع حرمة عدم التقيد بشرع الله بالمباشرة والتسبيب لا حاجة إلى سردها، لأن محلها الدقيق في قبولها أو عدمه هو الفقه الإسلامي وتطبيقات فروعه على الأدلة المناسبة.

(عملية سد الذرائع وإبطال الحيل)

و مما استبد به بعض الأخوة العامة في أصولهم ما سمى عندهم بقاعدة (سد الذرائع وإبطال الحيل).

ولأجل التعرف على هذا الأمر أكثر، ولمعرفة مدى علاقة بقية المذاهب الأخرى

ص: 144


1- النص والاجتهاد - شرف الدين - ص 225 عن صحيح الترمذي ج 1 ص 157 وفى طبع آخر ج 4 ص 38 ، تفسير القرطبي ج 2 ص 365 وفى طبع 2 ببيروت ج 2 ص 388، زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 194 ، وفى هامش شرح المواهب للزرقاني ج 2 ص 252.

إمامياً وغيره إيجابياً أو سلبياً ، أو ما قد يبنى على بعض التوجيهات في الأصول المتقنة للأخرين -

لابد من أن نسلك حول مسلك ما اعتيد على مثل هذا الأمر ونحوه من التّعرف أولاً على المعنى اللغوي، وثانياً على المعنى الاصطلاحي عنهم.

فنقول عن كل من (الذرائع والحيل).

أنَّ الذرائع في اللغة جمع ذريعة وهي الوسيلة إلى الشيء، وبهذا يكون المراد من جمع الوسيلة المطابق للذرائع هو الوسائل.

وأنَّ الحيل أيضاً في اللغة جمع حيلة ومثلها حيلات وحول.

وبعد هذا عبروا عن مقصدهم من الذرائع في عنوان البحث في اصطلاحات فقهاء هم وأصولييهم ما كان ظاهره الإباحة، لكنه يفضي ويؤول عندهم إلى المفسدة أو الوقوع في الحرمة.

وبتعبير آخر لهم ( لقد جاءت هذه الشريعة بسد الذرائع وهو تحريم ما يتذرع ويتوصل بواسطة إلى الحرام)(1)

كما جاءت هذه الشريعة في اصطلاحهم الآخر حول الحيل وإبطالها في العنوان بأنها التي تفتح باب الحرام حتى قال قائلهم.

(فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم التناقض.

والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضاءها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه يعني بذلك الحيل)(2)

ص: 145


1- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني ص 240
2- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني -ص 241 عن "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (361/1).

وقد بالغ بعض منهم بأهمية هذا الموضوع لتبرير تصرفاتهم أو التوسع بها من المعقولات الخارجية، وهو ابن القيم الجوزي الحنبلي حيث قال عن (سد الذرائع) أنها (ربع الدين) حيث قال:-

(باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة به فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين)(1)

وقبله ابن تيمية حيث قال:

("الوجه الرابع العشرون": أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها.

والذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة)(2)

يل اعترف بعضهم وأرجع أصولها إلى الخليفة الثاني، وقال أن:

(هذا الأصل أيضًا من الأصول العُمرية الواضحة، فقد عرف عمر بسياسته الوقائية وإجراءاته الردعية)(3)

وقال أيضاً بعدها:

ص: 146


1- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني - ص241 عن إعلام الموقعين - ابن القيم - ج 3 ص 126-135.
2- الفتاوى الكبرى ج 3 ص 256-295.
3- كتاب نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي - أحمد الريسوني - ص 73-075

(وعلى هذا الأساس سار الفقه المالكي، مثلما سار قبله فقه عمر وسياسته الراشدة، فبالغ في سد ذرائع الفساد وتضييق مسالك الانحراف، وفي قمع المقاصد).

و مع ذلك ففي محاولة بعضهم التدقيق في أمره بين الثبوت الذهني والإثبات التطبيقي الخارجي على ما يظهر منه مضموناً وإن لم يتضح من بعض تعابيرهم، وسيتضح جملة أو تفصيلاً مما عرضوه من أمثلتهم الآتي بعض اللازم منها.

وعلى أساس ما أشرنا إليه عن بعض تعابيرهم حول ما مر من العنوان بين وقوع الخلاف فيما بين فقهائهم حوله أو عدم التطابق الكامل على المشروعية عند جميعهم.

فأوجب مالك العمل ب- (سد الذرائع) وطبقها في أكثر مسائله، وتبعه علماء المالكية.

وهكذا أحمد ابن حنبل أخذ بهذه القاعدة مع بقية أتباعه، وبرزت هذه القاعدة جلية في الفقه الحنبلي.

ولكن الشافعي خالفهم فناقش في نفس الذرائع وأبطل العمل بها، (بناء على إبطال العمل بالإمارات والدلالات والقرائن في القضاء، وحرم على الحكماء والولاة الحكم على الناس بغير ما أظهروا فلا يحكم على النّاس بدلالة أو إمارة أو قرينة بدعوى أن هذا ذريعة ووسيلة إلى ارتكاب الحرام)(1) .

أقول وهذا في ظاهره ما نتيجته على رأي من سبق الشافعي فيما بينا عنهم، وإن كان منهم القول بما سبق حسب قول بعضهم أنه كان في الجملة، دون الأخذ بالتفصيل رغبتهم بالتحرر للتصرفات العقلية ولو في بعض الأمور الخارجية عن مفاد

ص: 147


1- سد الذرائع إعداد الدكتور أحمد محمد المقري من كتاب مجلة مجمع الفقه الإسلامي ج 9 ص 666 ، موقف الإمام الشافعي من سد الذرائع مع الاستدلال للدكتور حارث محمد العيسى/ جامعة آل البيت والدكتور أحمد غالب الخطيب / مفتي محافظة المفرق.

النصوص أو الأدلة المتعارفة حالة الاجتهاد الاستنباطي في الشرع، وإن بدا النص أو الدليل مرتبطاً بحالة ذات علاقة بأحد فردي العنوان بما يسمى في العنوان المنصوص أو المستدل عليه بالعنوان الأولي.

في حين أن الأمور الأخرى الخارجة عن المفاد كانت علاقتها في نظرهم بالعنوان الثانوي ولو بوجه شبه بسيط جداً، وهو ما قد يشبه بعض الشيء بحث (المصالح المرسلة) الماضي.

أما تدقيق الشافعي المخالف فهو من جهة في محلّه وهو تحريمه على الحكام والولاة الحكم على الناس بغير ما أظهروا، لأنه بحث عن حقيقة ذوات متهمة لم يثبت واقعها في النتيجة الخارجية، وكما عرف في السابق (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

وكيف تدان ذات المتهم قبل مثبتات الإدانة بالنتيجة، والله هو (خير الساترين).

وبالأخص إذا صدرت أحكامهم على الأبرياء منهم على أساس دلالة أو إمارة أو قرينة يعتز بها الظلمة لإدانة من لم يرغبوا بهم من الأبرياء، بدعوى أن أحد هذه الأمور ذريعة ووسيلة إلى ارتكاب الحرام، وهي التي قد تكون مبنية على التخرص والوهم والظن الذي في مقابله إن لم يكن أقوى منه فهو مساوي له.

وحيث لم يثبت في النتيجة الخارجية أي مصداقية مطابقة للاتهام وإن حصل مورد قصد من المتهم بارتكاب الحرام -

فإن هذا السوء من هذا القصد له معنيان متشابهان يسمى كل منهما ب(التجري)، أولهما خفيف وهو المعد فقهياً من المكروهات.

وثانيهما: شديد يصاحب قاصده اثم ،ومعصية فيحتاجان إلى استغفار وتوبة، حتى الوصول إلى المصداقية الخارجية عند من لم يتنجز شيء من تطبيقه على الفرض المذكور ك- (نية شرب الخمر) ولم تكن النتيجة إلا (شرب الماء).

أما إذا كانت الدّلالة والإمارة والقرينة مما يعتمد عليها في فقه الإمامية بدقة

ص: 148

أوصافها التي لا تكذب لضبط أساسيات العدالة الإسلامية والتي لأجل هجران الالتزام بها - كما عرف ذلك عن عدالة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بلا مجال لأي إنكار ازداد فيه الظلم أكثر وهجر العدل وكما قال تعالى في محكم كتابه العزيز «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ)(1)

فلم يقبل من الشافعي عدم رضاه المطلق بهذه الثلاثة حتى لو تطابق مع الفقه الإمامي وعلى نهج التفسير الأصولي ،للإمامية، وهو الذي لابد أن يتفاوت عما مضى مع بعض الأمثلة التي ستأتي.

وأما ما نقله ابن القيم الحنبلي عن تمسك الشافعي بقاعدة تخصه وتخص من سبقه في حملته على حكام الجور لحمل قضاتهم الأشياء ضد المتهمين بناءً على ما لم يظهر من مقاصدهم التي اتهموا بها وهي أن (القصود غير معتبره في العقود) -

فهي صحيحة في جملة ما كان منها صالحاً لردّ ما قاله ضد من يقول بصحة (سد الذرائع )مطلقاً، وبناءً على مجرد اضمار سوء النية وإن لم يصل إلى أي تطبيق في الخارج.

وأما فيما إذا تحقق في الخارج ما ينجز شيئاً مما أضمر من السوء كمن باع أو اشترى سلعة محرمة وإلى النهاية.

فلابد أن يقال ولو في جملة هذا المعنى لا غير بأن (العقود تابعة للقصود) وهو ما يراه الإمامية في فقههم وأصولهم بحمل المتعاملين على الحرام قصداً أو استمراراً إلى ما يساعد على نشر الحرام بين الأمة.

وإذا لم يصل بالنتيجة إليه فما هو إلا بمستوى التّجري المكروه إذا كان خفيفاً أو

ص: 149


1- سورة الروم / آية 41.

التجرى المحرم إذا كان شديداً كما مر بحاجته إلى الاستغفار والتوبة بدون تجريم آخر.

وعلى هذا النحو من التفصيل ولو في مثالنا هذا لو أذعن الشافعي إلى قبوله من الإمامية لا يحق لمن يتقول عليه من الآخرين بأنه (لم يسد الذرائع) على الإطلاق.

وهناك أمثلة وشواهد أخرى ضربوها للمقام جعلوا بعضها مما يؤدي إلى مفسدة مقطوع بها منها قوله تعالى من كتاب الله عن سد الذرائع «وَ لَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدوَا بِغَيرِ عِلمِ»(1)

بمثل سب آلهة المشركين مع كون ذلك أمراً واجباً ومن مقتضيات الإيمان بألوهية الله سبحانه، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة الظالمة.

فقالوا عن تعليله بإضافة منا : حيث نهى الله عن سب ألهة المشركين مع كون ذلك في نفسه أمراً واجباً كما مر من مقتضيات الإيمان الصادق بألوهيته(2) تولّياً وتبريا.

وذلك لكون هذا السب صار ذريعة مع حليته على الأقل إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة بما كان أقسى من ألسنة أهل الكفر على أقدسية مقامه تعالى ما دام الإيمان مستقراً في قلوب المؤمنين لحلول أحد دواعي التقية الظاهرية.

فيكون السب الجائز على الأقل للمشركين في نفسه بالعنوان الأولي معطلاً لهذا السبب والحرام بالعنوان الثانوي منجزاً بتركه.

ولا يجوز التجاوز عن سبب نزول هذه الآية إلا بحجة شرعية أو عقلية مسموح

ص: 150


1- سورة الأنعام / آية 108.
2- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني - ص241 عن "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (361/1).

بها شرعاً كما مر.

ثم أقول: وهذا ما تساعد عليه أدلة أخرى في فقه الإمامية كأدلة التقية من الكتاب والسنّة والسيرة التي لا يؤمن بها القوم أو بعضهم إلا ضد الإمامية، للتشهير بهم مع الحق الذي هم عليه.

وكذلك أدلة تقديم الأهم على المهم وإن كان الأهم محسوباً من ذوى العنوان الثانوي كما يأتي تفصيله في بحث (التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة) من أواخر هذا الجزء الرابع، وعلى أنه لا يتصدى إلى تشخيص هذا التكليف أصحاب الأذواق الخارجية عند مشاركة القواعد الشرعية تفاديا لخطر الإفتاء بغير علم.

ومنها قول الله عن إبطال الحيل المحرمة والتي يتوصل بها إلى فعل الحرام «وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَ يَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ»(1)

فقالوا عن تعليله بإضافة منا حيث فعل بنوا إسرائيل لما حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت، إذ نصبوا البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل فلما انقضى السبت أخذوها فمسخهم الله إلى صورة القردة(2) والخنازير.

كعقوبة لما لم يقوموا بإبطال ما فعلوه من هذه الحيل بإطلاق سراح الحيتان في البحر، كي يجوز لهم اصطيادها طبيعياً يوم الأحد، لكون محاصرتها إلى ما بعد السبت كالاصطياد يوم السبت.

ص: 151


1- سورة الأعراف / آية 163
2- كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - محمد حسين الجيزاني - ص241 عن "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (361/1).

ثم أقول على هذا يجب مراعاة سبب نزول هذه الآية والاقتصار على محل الشاهد المذكور في محاولة الاستفادة منها مرة ثانية أو ثالثة بنحو أكثر .

فلابد من مطابقة مصداق محل شاهدها لنفس العلة والسبب فيها عند تجدد المخالفة من أولئك اليهود إذا كان هذا الأمر تحت ظل الإسلام وإن لم يحصل العذاب على المخالفين.

لأن نبينا صلی الله علیه و اله خُلق رحمة لهذه الأمة ونعمة لكل الأمم، وبقي على مخالفيهم مجرد التحريم التعبدي لو لم يتبدل بالحكم الإسلامي الأخص وهو الخاص بالمسلمين ومن يتبعهم بما حدده الوحي لهم بأحكام الصيد الخاص من فقههم.

وأما بمحاولة اجتهاد إضافي لهم من بعض مرجّحات عقلية لم يرخص بها في أصولنا الفقهية فلا يمكن المساعدة عليها، إلا إذا أسلموا أو آمنوا أو انقادوا تبعاً للنظام الحالي للبلد الإسلامي.

فلابد أن يشملهم حكمنا الإسلامي في الأطعمة والأشربة والصيد والذباحة ونحو ذلك دون أي اجتهاد من أحد في مقابل النصوص وغيرها.

ومنها قوله تعالى من المقام، وهو ما ذكروه حوله ولما يصلح أن يكون محمولاً على العنوان الأولي من الأحكام وعلى العنوان الثانوي منها كذلك «وَ لَا يَضْرِبْنَ بأرجلهنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ»(1)

حيث أن الأمر في الآية وإن صدر بصيغة النهي الدالة على الحرمة في الظاهر وهو وجوب الانتهاء عن ضرب الأرجل إن كان محل اجتماعهن مجاوراً للرّجال الأجانب الذين يسمعون ما يظهر من خلاخيلهن عند ضرب أرجلهن فتبدوا نزواتهم.

ص: 152


1- سورة النور / آية 31.

إلا أن مجاورتهن إن كانت لمن لم يُعلم منه حصول شيء من ذلك يخاف عليهنَّ منه كبعض المحارم من الرجال، وإن كان عملاً مرجوحاً أخلاقياً أيضاً، ولكن على مستوى الكراهة.

فلابد من أن يكون المصداق الأولي لهذه الآية هو المحرم بالعنوان الأولى تبعاً للموقع والمقام والمصداق الثانوي لها هو الجائز، وإن صح إلحاقه بالمكروهات بالعنوان الثانوي تبعاً للموقع والمقام الخاص به أيضاً.

فالذريعة المحللة في أصل مبانيها هي - وإن جعلناها بعنوانها الثانوي فيما سبق أمام المحارم لأجل رجحان سدها في نظر القوم إذا خيف على عفة العوائل الشّريفة لئلاً تنهتك أو تعتاد المجون - إذا احتمل سماع الأجانب لضربهن يكون النهي في الآية واعظاً باجتناب المكروه.

ولكن إذا تأكد ذلك يكون النهي محرماً للضرب.

وهذا المحرم المؤكد في الآية لوجوب الخلاص منه بإبطال حيلته لابد فيه من تهيئة مقدمات التحفظ وأخذ الحيطة وغلق الأبواب حتى تبطل الحيلة.

وأقول أيضاً: لابد من التعمق العلمي الأصولي الفقهي بعدم التطرف في التخريجات العقلية الجانبية غير المسموح بها في إلحاق بعض الجزئيات بالمسألة الكلية.

فإذا تنوع الحكم بين المكروه الاصطلاحي والمحرّم الاصطلاحي لا يحق جعلهما حكماً واحداً بنحو الحرمة إذا غلبت دلائل الكراهة والحرمة بنحو الاشتراك المعنوي المتساوي المحتاج إفراز كل منهما إلى القرينة المفهمة.

وكذلك بعدم قبول من يقول ب- (سد الذرائع) بعد معارضة الشافعي لهم، لكن على نحو التوجيه الإمامي دون ما يزيد.

وأما التطبيق على إبطال الحيلة فإنّها في الفقه الإمامي قد تتوسع ويسمى المقبول منها بالحيلة الشرعية الناقلة من الحرام مثلاً - أو الشبهة - إلى الحلال، ولها مبرراتها

ص: 153

على ما سيتضح من الأمثلة الآتية.

ومنها قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرينَ عَذابٌ أَليمٌ»(1) حيث أن المسلمين - في استدلال من يستشهد بهذه الآية للمقام - كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، والتي هي في اللغة من (المراعاة) وهي معناها التفقد للشَّيء في نفسه أو أحواله وعبارة المراعاة وعبارتا المحافظة والمراقبة نظائر(2)

أي (أعرنا سمعك وفرغ سمعك لكلامنا لنفهمك)، أو كانوا (يريدون أمهلنا وانظرنا حتى نفهم ما تقول)، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود أي معنى السب والسخرية ك- (الرعونة) حاشاه صلی الله علیه و آله، وقيل كان معناها عندهم (اسمع لا سمعت)(3)

فنهى تعالى - في نظر هؤلاء المستدلين - المسلمين عن قول هذه العبارة، وأمر تبديلها بكلمة (انظرنا) سداً لذريعة المشابهة، ولئلاً يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي تشبهاً بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسداً.

ثم أقول: و هذا المعنى يمكن أن يكون صحيحاً إذا كان سبب نزول هذه الآية مبنياً على دلالة صحيحة في ورودها عن النبي صلی الله علیه و اله وأهل بيته علیهم السلام ومن يوثق بنقله من الآخرين من مورد المشابهة المذكورة، دون قبول أي شيء آخر يسمى (ذريعة) ليتجاوز مفاد الآية إلى مصاديق أخرى مبنية على دلالات وهمية واهية.

ص: 154


1- سورة البقرة / آية 104
2- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 1 ص 335 ، الميزان في تفسير القرآن تفسير سورة البقرة آية 104
3- تفسير الطبري - تفسير سورة البقرة آية 104.

لأنَّ مثل هذه الدلالات إذا كانت لا تقدر أن تسبب سبباً مشابهاً آخر لمصداق آخر لهذه الآية عن اليهود أو غيرهم من الأعداء -

فإنَّ الذريعة تكون وهميّة وواهية من باب أولى، وعلى هذا لا قيمة لسدّها.

يبقى شيء آخر وهو أن الشافعي المانع ل- (سد الذرائع) عن الأسس الوهمية والواهية، هل كان نهجه ولو مصادفة يساوي نهج الإمامية أم لا؟

فإن ذلك لو وقع في الجملة من الوفاقيات فهو ليس بغريب، بل قريب وجد قريب، حتى مع عدم المانع من حمله على الصحة لوجود بعض التقاربات بيننا وبين بعض العامة في بعض المباني.

وعلى هذا النهج يجب أن يكون السلوك في إبطال الحيل.

وقد ذكروا لصالح ما يريدون حسب رأيهم أمثلة بعضها مضامين روايات أو يدعونها أنها لسان روايات للسنة النبوية.

وبعضها أمثلة يرون أنها ذات علاقة بمباني أصولية خاصة لصالح (سد الذرائع) و (إبطال الحيل).

منها: أمر النبي صلی الله علیه و اله أن يأمروا أولادهم بالصلاة من السبع، وإذا بلغوا العشر ضربوهم.

وكذلك أمره أن يفرق بين الأولاد في المضاجع لئلا يكون اجتماعهم في المضاجع ذريعة للفساد مستقبلا فيما بينهم.

وكذلك إبطال حيلة إسقاط الزكاة ببيع ما في اليد من النصاب قبل حلول الحول ثم استرداده بعد ذلك.

وكذلك تحريم الشارع الطيب على المحرم في الحج لكونه من أسباب دواعي الوطيء، فحرموه من باب (سد الذرائع).

وكذلك نهى الشارع المرأة عن السفر بغير محرم قطعاً لذريعة الطّمع فيها والفجور

ص: 155

بها

وكذلك القول بمنع زراعة العنب خشية الخمر.

وكذلك المنع من المجاورة في البيوت الخاصة بسكن العوامل كالأرضية وشقق العمارات العمودية السكنية ومسلك الصعود والنزول واحد خشية ارتياد الزنا ومقدماته.

وكذلك المنع من بيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمس قبل الشهر.

وكذلك منعهم عن تضمين الصناع إذا توازنت السلع، لأنهم قد يأثرون في السلع بصنعتهم فتتغير، ومن ذلك ما لو يكون أصل عمل العامل مشروعاً، لكنه يصير جاريا مجرى البدعة.

وكون المكلف له طريقان في سلوكه للآخر أحدهما أسهل والآخر صعب، فيأخذ بالصعب ويترك الأسهل، بناءً على التشديد على النفس كالذي يجد للطَّهارة مائين ساخناً وبارداً، فيتحرى البارد الشاق بدليل إسباغ الوضوء على المكاره، مع أن فاعل هذا الفعل لم يعط النفس حقها، وخالف دليل رفع الحرج.

ومن ذلك الاقتصار على الجشب في المأكل والخشن في الملبس من غير ضرورة.

ومن ذلك أن عمر في خلافته أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلی الله علیه و اله، لأن الناس كانوا يذهبون إليها فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنه

إلى غير ذلك مما ذكره أصحاب عنوان هذا البحث من روايات يدعون روايتها أو مضامين منها أو أمثلة يعتبرونها حاكية عن تلك المرويات.

ومن تعابير بعضهم بعد ذكر هذه الأمور قولهم أن:-

(هذه الأمور جائزة أو مندوب إليها، ولكن العلماء كرهوا فعلها خوفاً من البدعة، لأنَّ اتَّخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن

ص: 156

السنة وإذا جرت بجري السنن صارت من البدع بلا شك)(1)

لكننا نقول : بعد أن كان النزاع بداية بين من يقول ب- (سد الذرائع وإبطال الحيل) مثل مالك ومن سلك نهجه - سواء جعل هؤلاء القوم هذه المضامين تحكى عن نصوص أو روايات في زعمهم أو كانت في نظرهم ألفاظ روايات، لا خصوص مضامين عن السنة النبوية في بعض منها وفي بعضها الآخر أمثلة يرون أنها ذات علاقة بمباني أصولية لهم كحجج لما يريدون -

وبين الشافعي المخالف لمالك ومن شاطره الرأي سابقاً ولاحقاً، وإن كان قد يظهر من الشافعي في بعض كتبه ميله إلى بعض الإستحسانات أو القياسات العقلية التي يشتد عليها الإمامية في معقولاتهم، إلا بالمسموح به بين الجميع مما مضى ذكره من مثل الآراء المحمودة.

فإننا نحن الإمامية نصنف توجيهاتنا لما يكون الأصح مما تعرض له المتنازعان جهد الإمكان خدمة لصميم ما يريده الشرع وجواهر مداركه وما قد يؤيد ما نقول به من أقوال الشافعي حول ما أورده القوم.

ولأجل الإجابة على ما ورد منهم نقول أيضاً:-

1 - فإنَّ ما قيل وروي عن أمر النبي صلی الله علیه و اله للمسلمين بأن (يأمروا أولادهم على الصَّلاة من السبع وإذا بلغوا العشر ضربوهم)(2) .

فإنه بناء على صحة هذه الرواية عند الجميع ولو مضموناً أو ما يقاربها عند الإمامية مع بعض التفاوت ولم يطبقوا ضروبهم، ولو على مبناهم الأصولي من

ص: 157


1- الاعتصام - الشاطبي - ج 1 ص 144.
2- مسند أحمد 2: 180 و 187، سنن الدارقطني 1: 230 / 2 و 3 ، سنن البيهقي 2: ،229 ، الكافي 3: 409 / 1 ، الفقيه 1: 182 / 861 ، التهذيب 2: 380 / 1584 ، الإستبصار 1: 409 / 1564 بتفاوت واختصار فيها .

الالتزام بقاعدة التسامح في أدلة السنن -

فلم تعط أكثر مما تعطيه من أهمية مفادها الأمر الإستحبابي الذي لا حرمة قطعاً على مخالفته، ولم يواجه به شرعاً إلا أولياء أمور الأولاد على حسن تربيتهم لهم بمزيد الأجر والمثوبة والتوقيفات المستقبلية لمن ولُّوا عليهم إن طبقوا الأدبيات على ما يرام.

بل ولأصل الإباحة عند الشك في شأن الصبيان بين بلوغهم وبين عدمه، فضلاً عن تأكيد عدمه.

ومن ذلك حالة عدم إنصافهم بصفة التمييز أو لو لم تبد فيهم قرائن عدم البلوغ المعلومة.

وأما الأمر بضربهم عند التخلف - كما أوضحنا أو صححنا - فما كان إلا للتأديب لا لإجراء العقوبة، لقرب أبناء التسع أو العشر من التمييز الخطر لينصاعوا متأدبين على نهج الكبار.

دون حقيقة العقوبة الشرعية التي محلها خصوص وقت البلوغ للرجال والنساء لو تمردوا ولو لمرة واحدة.

وفي هذا لا مجال مع ما يخص الأولاد إلا للتشجيع على معنى الاستحباب لمن يقوم بالتربية والتوفيقات المستقبلية للأولاد.

نعم قد يزداد معناه في حالة التمييز والمراهقة إن حصل التمرد شبه الذاتي من أحدهما، مما قد يشرع فيه ما يناسب المقام من الضرب التأديبي نفسه كذلك دون الأكثر.

ولكن قد يصل الأمر إلى ما قد يشبه الوجوب ولو تدرجاً، إن لم نقل الوجوب ذاته على نفس المربي لا المميز أو المراهق، لئلاً تكون مسؤولية شديدة عليه تجاه أحدهما إذا كان سبباً في تمرد من ولي عليه، فتكون العقوبة المناسبة موجهة عليه،

ص: 158

والتي أقلها التوبيخ وأعلاها التعزيز.

بل قد يشرع التعزير المذكور في الروايات حتى على المميز والمراهق بالمعنى التأديبي في بعض المقامات الأزيد مما مضى.

وبهذا لو تخلف الطّفل عما يستحب لولّيه أن يرشده إليه أو يمرنه عليه لم ينل - مهما زاد عمر الولد قبل البلوغ - إلا معنى الكراهية دون الحرمة، التي سميت عند القوم ب- (سد الذرائع)، إلا على المربي المسبب بإهماله ونحوه مما مر

فيعاقب الاثنان المربي المسبب والولد الذي بلغ وتخلف.

لكن هذا المورد يختلف عن مفاد الرواية.

2 - وأما ما ذكروه عن أمر النبي صلی الله علیه و اله في نفس الرواية السابقة بوجوب (التفريق بين الأولاد في المضاجع)(1) واستفادتهم من ذلك حرمة التقارب حذراً من الوقوع في الفساد وسداً للذرائع ولو مستقبلاً من أيام الصبا القريبة من سني المراهقة.

فقد ردَّ الشَّافعي عنه: بأن هذا التبديل العنواني - من قبل خصوصه - من أصل الإباحة، أو فقل من مطلق ما فيه المرجوحية الضعيفة، وهي المسماة عند الجميع بالكراهية التي لا ذنب فيها على الأطفال قطعاً لو لم يقع شيء بينهم يخزي أولياءهم والأولاد إذا بلغوا ولا على أولياء أمورهم حتى في طفولة غير المميزين -

إلى الحرمة الصريحة مع نقل الرواية مطلقة بين الصبا غير التمييزي، والتمييزي وصبا المراهقة.

وأنَّ الحرمة لأي جهة موجهة هل على الصبيان أم على أولياءهم، وحال المولى عليهم متفاوت؟

ص: 159


1- مسند أحمد 2: 180 و 187، سنن الدارقطني :1 230 / 2 و 3، سنن البيهقي 2: 229.

كيف وتشخيص القوم إذا كان على أساس من الأوهام والتخرصات الواهية كما سبق.

وإن أورد عليهم الشافعي مثل هذا عن تشخيصاتهم الحرمة تشخيصاتهم الحرمة مع هذا الإطلاق، فهو الذي لا يمكن المساعدة عليه، لأهمية اللجوء إلى المدرك الأصلي والفحص عنه وعن تفاصيله إن كانت.

وعند الشك فيه إمامياً يجب الفحص عنه أيضاً والتركيز على بقاء وجود الكراهة التي لا حرمة فيها مع وجود حالة التمييز عند الأطفال.

ومع اطلاق الرواية وصحتها ولو إجمالاً لم يكن في النتيجة قبل سن التمييز إلا أصل الإباحة، وهي لا تمنع من أرجحية التفريق بين غير المميزين الإستحبابية كما يستفاد من بعض روايات شريفة أخرى.

3 - وأما ما ذكروه عن حالة إبطال حيلة إسقاط الزكاة بعد قرب وجوبها عند حلول الحول وبلوغ النصاب، ببيع ما في اليد من نصابها قبل حلول الحول ثمّ استرداده بعد ذلك بنية التهرب من أداء الواجب الزكوي - والعلم بمصادفة كمال النصاب وحلول الحول بين التعاملين الذين أضمر في نية البيع والشراء بينهما بما لا واقعية لهما إلا هذا التهرب-

لا مجال له أيضاً من إبطال هذا التحريم عن وجوب دفع هذه الزكاة الواجب بانكشاف كون الواقع هو بقاء من عليه هذه الزكاة، وهو البائع المتهرب غير القاصد إلا مجرد العقد الشكلي لفساده وعدم صحة النقل إلى المشتري لما أضمر.

وقد مر منا البناء على قاعدة أن (العقود تابعة للقصود)، وهي التي لابد أن لا یراد منها سوى القصود الصحيحة بواقعيتها المرتبطة بكلامي الإيجاب والقبول، إلا إذا كان هناك مدرك شرعي يدعم هذه الشكلية، وهي لا وجود لها.

وبهذا تكون النتيجة أن (ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع)، وأن التصرفات

ص: 160

العقلية غير المحدودة الخارجة عما لم يسمح به مما مر ذكره لا تقدر عليها أن تحرك ساكناً محسوباً على الشرع من الشكليات.

ولذلك لم تلحق تلك التصرفات علمانياً إلا بالأوهام والتخرصات الباطلة.

4 - وأما تحريم الطّيب على المحرم في الحج والعمرة في تعليلهم لكونه على النساء والرجال من أسباب دواعي الوطيء بينهما فحرموه من باب (سد الذرائع) أثناء الإحرام لا لغير ذلك -

فإنه بعد النظر اليسير لابد أن يظهر من تعميمهم لهذا التعليل في أنه إن كان منهم دون التصريح به في الأدلة ليحصروا حرمة استعمال الطّيب في جميع حالاته لخصوص دواعي الوطيء دون غيره -

فهو تصرف فضولي من عندهم - وبه تدخل الأسباب المتعددة للتطيب الذي لا يمكن ضبط أغراضه للمحرم ، كما كان لغيره ومنها غير نية الوطيء استثناساً بحالة التطيب المستحب في أساسه للرجال والنساء متزوجين وغير متزوجين ومن الموطوات المحللات في الزواج السابق على الإحرام ثم حصل الإحرام ومنها لرفع كراهية روائح الجسم بسبب الحر ونحوه، مع أن الكل حرام وطأ أو نية وطىء وغيره، احتراماً لكل محرّمات الإحرام ولو تعبداً للأدلة.

وإن كان من الروايات نفسها فلا دخل إذن لجعل هذا المورد وهو الطّيب في حرمته من أمثلة (سد الذرائع).

وإن هذا التعليل منهم إن كان من نفس الروايات فلابد من أن تكون ألفاظها نصوصاً حتى يتمسك بها في خصوص المورد وعند الجميع في السلب والإيجاب، لتحقيق الوفاق على العلة الواحدة بعد تثبيت صحة ذلك النص ليجوز غيره أو يبحث عن حكمة، وهو لم يكن قطعاً إلا ما ، حرمة استعمال جميع حالاته.

وإن لم تكن تلك الروايات إلا من نسخ الظواهر فلا عليَّة إلا بما يسمى (حكمة)

ص: 161

للتشريع في خصوص داعي الوطيء وبما لا يمنع من تحريم التطيب في الإحرام للدواعي الأخرى.

ولم يستثن من ذلك شرعاً إلا ما يسمى ب- (الأذخر) الَّذي يُطيِّب به ستار الكعبة أو جدرانها، فلم يمنع المحرم من أن يشم أنفه عطر هذا الطيب أثناء الطواف.

وتفصيل هذه الأمور في الفقهيات الخاصة ورواياتها ذات العلاقة ب- (حكمة التشريع)

5- وأما تعليلهم عن نهي الشارع المرأة عن أن تسافر من محل استقرارها بدون محرم كان قطعاً لذريعة الطمع فيها أو الفجور بها -

فلا يُقبل كالسوابق إلا بصحة النّص الناهي المعلّل لما ذكروه، وصراحته عند الجميع وروداً لفظياً أو معنوياً مدلولاً عليه بقرينة أصولية يقر بها جميع المذاهب).

على أن هذه الحرمة عليها كانت لخصوص الطمع فيها أو الفجور بها دون أسباب أخرى، أو تعبداً دون أي سبب ولو لمرجحات خارجية تبعاً لأوامر إلهية عامة ومطلقة تحث أولياء النّساء اللواتي يُخاف عليهنَّ، لكونهن ممن يطمع فيهنَّ لشبابهنَّ وجمالهن المغري حالة قطع المسافات البعيدة أو الموحشة كالليل أو قليلة المارة المؤنسة، ولو على اللواتي لا يخشى عليهن مثل ما مر كالكبيرات القويات ولو من الحيوانات المفترسة.

أو لما هو الأعم من حالة التحريم كحالة الكراهة إلا برجحان المصاحبة لهن لورود عموم النهي الجامع بين التحريم والكراهية المحتاج كل منهما إلى القرينة المعينة للمراد من خصوص أحدهما دون الآخر إذا اشتركا لفظاً، لوجود المقتضي وعدم المانع ولو ظاهراً.

شريطة عدم تفاوت حالات المرأة بين الكبيرة والصغيرة والخشنة والمترفة والتي يغلب على أمرها وغيرها والتي معها رفقاء حماة ولو من النسوة المشاكسات مع عدم

ص: 162

وجود المحرم أو كان المحرم لكن بدون كفاءة فيه في مثل هذه الأمور.

فلابد من تفريق مورد الحرمة عن مورد الكراهة.

أو لم يكن من الأدلة إلا الظواهر التي لم تبرز منها إلا حكم التشريع دون العلل المدعاة، وهي التي لا تساعدهم على قبول ما تحدّده أفكارهم من الخصوصيات لتعزى إلى أنها من أسرار ما ينهى عنه الشارع.

لتفاوت حالات ما يقع في مسالك السفر، ومنها المسالك المحمية التي لا تحتاج إلا إلى الرفيق الاحتياطي استحباباً لا وجوباً فلم يقبل إذن من القوم سداً للذرائع بهذا النحو من التعليل العليل.

6 - وأما قولهم بمنع زراعة العنب خشية عمله خمراً - بناء على أن نسبته كانت ابتداءً لبعضهم سداً للذرائع، وإن أدعي الإجماع من بعضهم الآخر أو الكثيرين منهم على ما يخالف هذا المنع على حد قولهم (مع أنه لم يقل به أحد) أي بالمنع، وإن كانت إجماعاتهم كثيراً ما يتخللها بعض آراء مخالفة لها، مع أن هذا الإجماع كان لصالح القول بعدم المنع -

فإنَّ ذلك كله لا يساعد على مطلق منع زراعة العنب.

لأن مجرد هذه الخشية لم تدخل في المقاصد الأصيلة المشروعة في الكتاب والسنة ونحوهما والمصالح المعتبرة المرادة من الله تعالى لعباده.

بل ليستفيدوا من ثمارها المحللة في الدنيا وجنان الآخرة من الفواكه والتمور والأعناب ونحوهما دون المصالح الملغاة شرعاً كتسبيب صيرورة الأعناب والتمور خموراً واقعية محرمة، وإن كان الذي يشربها لجهله - وقصوره الوهمي المحدود يتصورها منعشة - فلأجل ذلك هي مذهبة لعقله الكامل وتعمده، ونحو ذلك من الأضرار الدنيوية والأخروية والمصرح بحرمتها في المدارك الشرعية أيضاً.

ولأن من حالات الخشية أوهام وخيالات وسوء ظنون كثيراً ما يخالفها الواقع

ص: 163

الطبيعي الذي منه إمكان ترك زرع مثل ثمرة العنب إلى أن ينضح بجعله فاكهة لأكلها، أو عصرها لتشرب شراباً سائغاً شرابه قبل الخمرية، أو إهداءها لأكلها ونحوه بين المؤمنين، أو أن تترك بعد صيرورتها خمراً لتكون خلاً مفيداً في الأطعمة، أو تجفف لتكون زبيباً نافعاً مع الأطعمة.

وعند الشك في أمر هذا الزرع حتى في مثل هذه الخشية لابد من الوصول إلى أصالة الإباحة.

نعم في المصلحة التي يسمونها بالمسكوت عنها وهي التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من الكتاب أو السنة أو نحوهما عند جميع المذاهب والمدارس المعتدلة في جملة تقارب بعضها مع بعض مع التوحد في الثوابت الرئيسية أصولياً وفقهيًاً ومنها المسلك الإمامي -

فلم يشرع حكم على مثل ما نحن فيه إلا بعد الانضواء تحت شعار الأدلة الإرشادية المناسبة له من أمثال آيات أو روايات حسن الإحسان وقبح الظلم لحل مثل مصداقية الخشية المذكورة في العبارة الماضية التي لم يثبت كونها علة تامة ولا حكمة تشريعية من جزء علَة، لمنع زراعة العنب أو نحوه إلا بنحو التورع الاحتياطي الإستحبابي أو حتى الوجوبي إذا كان زراع هذه الفواكه ضعفاء في دينهم وذوي نفوس أمارة يكثر فيهم التخلّف عن شرع الله بمثل صناعة هذه المادة بعد زرعها وشربها وبيعها ونحو ذلك لولا المراقبة والاحتياط بنشر مثل ما يشبه فتاوى تحريم هذه الزراعات على أساس هذه المباني الإرشادية ومؤشّراتها، كي لا تتصرف العقول المستقلة لوحدها تماماً.

مع وجوب الاهتمام في مقابل هذا كلّه بغض النظر في الحالات الاعتيادية ضرورية وغير ضرورية لو لم تثبت مؤشرات الترجيح المنع.

وبالأخص في مورد الحاجة إلى الأعناب في صورها المحللة والاعتيادية حتى تلك

ص: 164

الخشية الناشئة عن التوهمات وسوء الظَّن المنقوض بعكسه وكثرة حسن ظواهر الناس.

ومما يؤيد ما نقول به في ردّ هذه التجاوزات من أقوال رجال هؤلاء القوم ما قاله الحافظ بن رجب الحنبلي في تحديد البدعة بتعريف جامع بقوله:-

(فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء من ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة)(1)، استناداً إلى ما رووه عن رسول الله صلی الله علیه و اله (مَنْ أَحْدَثَ فِی أَمْرِنَا هَذَا مَا لَیْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (2)

وألحق بهذا الأمر المنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فالمنع عن المجاورة ممنوع، لأن مفسدته نادرة إلا على نحو ما ذكرناه آنفاً من حدوث المأشّرات الداعية للاحتياط بسبب ضعف المتجاورين في دينهم والتزامهم الشرعي.

7 - وأما قولهم بالمنع عن بيوع الآجال أو عدمه، فهو مما عد نوعاً بينهم كونه مما اختلف فيه بأنه من حالات (سد الذرائع) أو عدمه.

فعند مالك أطلق اسم بيوع الآجال، وعند الشافعي أطلق اسم العينة كشيء، يباع بعشرة دراهم إلى شهر نسيئة، وبخمسة دراهم إلى الأقل كعشرة أيام سلفاً أو نقدا الآن.

فمنعه مالك حينما (يبيع زيد الكتاب بالدراهم العشر إلى الشهر لعمرو ثمّ يشتري نفس زيد ذلك الكتاب بذاته من نفس عمر وبخمس دراهم إلى الأيام العشر، لظهور معنى الحالة الربوية بناءً على معنى تسليف الخمس من الدراهم العشر في المدة

ص: 165


1- البدعة - تعريفها - أنواعها - أحكامها لصالح الفوزان 8 جامع العلوم والحكم ص 336
2- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 4: 252.

الأقل عند زيد أو نقداً الآن وإن بقى الكتاب عند عمر وبغير تسلم إلى آخر الشهر).

وقال مالك معلّلاً ( أنه - أي زيد مثلاً - أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر).

وخالفه الشافعي بقوله (ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره ويجوز ذلك)(1)

إلا أن الفقه الإمامي لم تعد فيه حالة الحرمة الربوية في مثل هذه التعاملات، كحالات النقد والنسيئة والسلف والسلم مما ذكر في المثال، إلا عند توفر الشرط اللازم، وهو اشتراط البائع الأول وهو (زيد) على الثاني وهو (عمرو) أن يبيعه ما اشتراه منه.

ومع عدم حصول ذلك لم يظهر إلا أصل الجواز ، مع لزوم انطباق هذا المثال على ما يساوي ما يدل عليه قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا »(2) ولو بضم بعض الروايات الشريفة الموضحة لمقاصده إذا اختفت بعض الدقائق الربوية على أهل الأعراف السوقية-

فلا يمكن البت بشيء من الاحتمالات والتخرصات العقلية، ليسير الناس على ظنون هذا وذلك، وإن نالوا بعضاً من العلم والفضيلة.

وعند الشك فلا مانع من التورع الاحتياطي بالاجتناب عن بعض التعاملات، بل هي حسنة، وكما ورد عنه علیه السلام (أخوك دينك فاحتط لدينك)(3) وأيضاً عنه علیه السلام (خد بالحائطة لدينك)(4)

ص: 166


1- الفروق - القرافي - ج 2، ص 32 تبصرة الحكام - ابن فرحون - ج2، ص 267.
2- سورة البقرة / آية 275
3- الوسائل :27 167 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 46 (في الطبعة القديمة ح 41).
4- المصدر السابق

دون التمسك بما اختلف فيه ما يسمى بسد الذرائع أو ترك سدها ممن تعارف عندهم ذلك.

وبهذا يكون الشافعي موافقا لهم في النتيجة إذا وافقت مداركهم على ما سيتضح.

قال العلامة الحلي قدس سره في قواعده (ولو باع نسيئة ثم اشتراه قبل الأجل بزيادة أو نقيصة حالاً أو مؤجّلاً جاز إن لم يكن شرطه في العقد)(1)

وقد ذكر السيد العاملي قدس سره في شرحه للقواعد عند مدارك هذه المسألة أن:-

(جواز ذلك كله إن لم يكن شرط البيع في نفس العقد مما لا خلاف فيه، وكأن دليله الإجماع كما في "مجمع البرهان" ومما لا خلاف فيه فتوى ونصاً عموماً وخصوصاً كما في "الرياض" والأمر كما قالا ...... إلخ)(2)

ويدل عليه ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى علیه السلام قال سألته عن (رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثم اشتراها بخمسة دراهم أيحل؟ قال: "إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس")(3)

ثم قال السيد العاملي قدس سره (ومثله وأظهر منه عنوان المسألة ما رواه علي بن جعفر في كتابه(4) إلا أنه قال بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة نقداً، وخبر الحسين بن المنذر إيماء إلى ذلك)(5)

ص: 167


1- قواعد الأحكام - العلامة الحلي - ج 2 ص 43.
2- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة - السيد العاملي - ج 13 ص 649.
3- قرب الإسناد في البيوع ح 1062 ص 267.
4- مسائل علي بن جعفر: ح 100 ص 127.
5- خبر الحسين بن المنذر ما رواه عن أبي عبد الله علیه السلام في بيع العينة، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام يجيئني الرجل فيطلب العينة ، فاشترى له المتاع مرابحة، ثم أبيعه إياه، ثم أشتريه منه مكاني؟ قال: "إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع، و كنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر، فلا بأس" فقلت: إن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد، ويقولون إن جاء به بعد أشهر صلح؟ قال: "إِنَّمَا هَذَا تَقْدِيمٌ وَ تَأْخِيرٌ فَلاَ بَأْسَ". راجع كتاب مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة - السيد العاملي - ج 13 ص 651 .

ويقوى دليل القول بالجواز بمطابقته للأصل عند الشك.

ومطابقته إطلاق قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا»(1)، وقوله تعالى «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ»(2)

وهو أيضاً ما يطابق قاعدة ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام (كُلُّ شَيْءٍ هُوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ)(3)

وكذلك إطلاق صحيح بن يسار(4)، وإطلاق صحيح بن حازم(5)

ص: 168


1- سورة البقرة آية .275
2- سورة النساء / آية 29.
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 ص 313.
4- عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (قلت لأبي عبد الله علیه السلام أنا نخالط أناساً من أهل السواد وغيرهم فنبيعهم ونربح عليهم للعشرة اثني عشرة، والعشرة ثلاثة عشر ونؤخر ذلك فيما بيننا وبين السنة ونحوها، ويكتب لنا الرجل على داره أو على أرضه بذلك المال الذي فيه الفضل الذي أخذ منا شراء بأنه قد باعه وقبض الثّمن منه فنعده إن هو جاء بالمال إلى وقت بيننا وبينه أن نرد عليه الشراء فإن جاء الوقت ولم يأتنا بالدراهم فهو لنا فما ترى في الشراء؟ فقال علیه السلام: أرى أنه لك إن لم يفعل، وإن جاء بالمال للوقت فرد عليه). الكافي ج 5 ص 172 الفقيه ج 3 ص 128
5- (قلت لأبي عبد الله علیه السلام: رجل كان له على رجل دراهم من ثمن غنم اشتراها منه فأتى الطالب المطلوب يتقاضاه فقال له المطلوب : أبيعك هذا الغنم بدراهمك التي ذلك عندي فرضي قال علیه السلام: لا بأس بذلك). الوسائل باب 12 من أبواب السلف: 3 و 5 .

وأما ما أورد على هذا الجواز استناداً على روايتي خبر بن الحجاج(1)وخبر عبد الصمد بن بشير(2) فإنهما محمولان على ما يطابق الكراهية.

للفرق الكثير بين أدلة القول بالجواز والقول بعدمه الضعيف، وهو كذلك.

فلا وجه إذن للقول بسد الذرائع.

8- وأما منعهم عن تضمين الصناع مما وقع بينهم وبين مخالفيهم من الآخرين إذا توازنت السلع حقيقة أو اعتباراً مادياً أو معنويا كمياً أو كيفيا أو محلياً، أو ما اختلف موضع عرضها، أو مع قلة العرض وكثرة الطلب، أو بالعكس، أو اختلفت هذه السلع بما ليس على إطلاقه أو إطلاق عدمه.

فإنه لا يمكن أن يصدر الحكم بالتضمين أو عدمه عن طريق (سد الذرائع) أو تركه كيفما يكون الأمر من التخرصات والظنون المنهي عن الإعتداد بها ما دامت

ص: 169


1- قال: (سألت أبا عبد الله علیه السلام: عن رجل بعته طعاماً بتأخير إلى أجل مسمى فلما حل الأجل أخذته بدراهمي فقال : ليس عندي دراهم و لكن عندي طعام فاشتره مني قال علیه السلام لا تشتره منه فإنه لا خير فيه). الوسائل باب 12 من أبواب السلف: 3 و 5.
2- قال: (سأله محمد بن القاسم الحناط فقال أصلحك الله أبيع الطعام من الرجل: إلى أجل فأجيء و قد تغير الطعام من سعره فيقول: ليس عندي دراهم قال خذ منه بسعر يوم قال: أفهم أصلحك الله إنه طعامي الذي اشتراه مني قال علیه السلام: تأخذ منه حتى يبيعه ويعطيك قال: أرغم الله أنفي رخص لي فرددت عليه فشدد علي). الوسائل باب 12 من أبواب السلف: 5.

أبواب شرع الله مشرعة لكل وارد يروي ضمأه من عذب ماءه.

بشرط أن لا تكون تلك السلع المصنوعة مزورة أو مغشوشة أو خاضعة لخيار الغبن ونحوه، أو مما يلحق بالاحتكاريات - المبالغ في علو أسعارها - مع الحاجة إليها كالأدوية الملحقة عرفاً اجتماعياً في الحاجة الماسة إلى تسهيل أمرها بالسلع الغذائية المخصوصة.

وإن استعان الشرع ببعض أهل العرف السوقيين المحنكين إن قبل تشخيصهم ولو بالتخمين الأعدل من غيره، أو الأقل ضرراً إن تسومح فيه عرفاً مع الحاجة الماسة إليه .

ومادامت تصرفات بعض أهل الإفتاءات العقلية المحفوفة ببعض المغريات متطرفة عن مباني الشرع.

فالعدالة الأقوم - أو ما يقرب منها في الأسعار والقيم أو ذوات المصنوعات التي تخضع لتضمين الصناع إذا كان سببها أدوات الصناعة دون الصناع أو سهوهم المتسامح فيه عرفاً أو ما يسببه المناخ لفصول السنة -

هي المختلفة عن تعمد التزوير والغش ونحوهما تبعاً لنصوص الكتاب والسنة وظواهرهما وسيرة المتشرعة المستمرة والإجماعات والآراء المحمودة والعقل المستقل المرتبط بالأدلة الإرشادية.

ولو قدر الذين يتمسكون لحل هذه المسألة ب- (سد الذرائع) لما جاهرهم المخالفون لهم في ذلك، وباب الشرع لم توصد بعد يوماً في عموم وإطلاق وخصوص وقيود مبانيها.

فإِنَّ التوازن الذي يمنع عن تضمين الصناع أو عدمه لم يقبل ممن يفترضه في المقام، كي يمنع التضمين جماعة كما يهوون، ولو بالتوازن الشكلي في المكيال والميزان والعدد المصنوع والقيم، وإن كانت مزورة أو مغشوشة أو خاضعة لأحد

ص: 170

الخيارات ونحو ذلك ، فلم يقبل منع التضمين.

بينما لو لم تتوازن في بعض الحالات مع سلامتها ذاتياً في صناعتها مع التراضي بين طرفي التعاقد عليها فالضمان حاصل من قبل الصناع مع التعدي والتفريط ولو في الشكليات الزائدة على ذات المادة بما لم يرتض.

9 - وأما قولهم بكون أصل عمل العامل لو كان مشروعاً في ذاته لكنه يصير جارياً مجرى البدعة في نظرهم -

فلا يمكن مساعدتهم على مجرد هذا الإدعاء، بل الإتهام، ما لم يدعم ذلك بدليل معتبر، لوجوب حمل عمل كل مسلم ولو ظاهراً في موارد الشك على الصحة، ما دام أن أصل عمله كان مشروعاً، وأن مقاصد المسلمين في أعمالهم ليست بمسخّرة لألسنة كل من هب ودب من تقولات من يتهمهم من الأعداء.

ومن أقل مصاديق هذه الأمور مشروعية زيارة قبور النبي صلی الله علیه و آله والأولياء المعصومين علیهم السلام وبقية الأولياء والصالحين شهداء ومؤمنين، بل ومسلمين دون المنافقين، وعلى الأخص مع جلالة قدر كل مزور منهم، وقد قال النبي صلی الله علیه و آله بعد نزول قوله تعالى «ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرتُمُ الْمَقَابِرَ»(1) قوله المشهور بين الجميع (كُنتُ نَهيتكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ - أي أيام الجاهلية - فَزُورُهَا فَإِنَّهَا تُزَهد في الدُّنْيَا و تذكر؟؟؟ الآخرة)(2)

ص: 171


1- سورة التكاثر / آية 1 و 2.
2- رواه مسلم إلى قوله فزورها ج 4 ص 225 بهامش إرشاد الساري، وهناك أخبار أخرى راجع نفس المصدر. وسنن ابن ماجة ج 245/1 ، وسنن النسائي 286/1 وفي كتاب وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للعلامة السمهودي الشافعي ذكر ستة عشر حديثاً مسنداً، قد حقق أسانيدها العلامة السبكي الشافعي من كتب أهل السنة في خصوص زيارة النبي صلی الله علیه و اله وقد ورد في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في كتابه قسم العبادات ص424 ط دار الكتب المصرية سنة 1358ه فتاوى المذاهب الأربعة وتجويزهم لزيارة القبور فليراجع هناك.

فبأي وجه من وجوه (سد الذرائع) تقلب نوايا المسلمين - بل المؤمنين - فوراً إلى كون زياراتهم للمراقد الشّريفة المنصوص على رجحانها بل استحبابها أو تأكده، بل عد ترك زيارة المعصومين كالنبي صلی الله علیه و آله من الجفاء -

عبادة لتلك القبور دون الله تعالى، وإنها عندهم من أهم مصاديق البدع المحققة للشرك، مع ملاحظة تقديسهم لقبورهم الخاصة والمشيدة لرجالهم المخصوصين، وهي كثيرة نحيد عن ذكرها أو بعضها دفعاً لإثارة الفتن.

بل إن كراهة بعض علماءهم للأمور المشروعة خوف أن تكون بدعاً من مجرد الاحتمال لن تقلب أصل الزيارة إلى التحريم، وإنما هو منهم إفتاء بغير علم، وهو غاية الحرمة كما مر التنويه عليه.

10 - وأما قولهم بكون المكلف له طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما أسهل والآخر صعب، فيأخذ بالصعب ويترك الأسهل بناءً على التشديد على النفس، كالذي يجد للطَّهارة مائين ساخناً وبارداً، فيتحرى البارد الشاق بدليل إسباغ الوضوء على المكاره، مع أن فاعل هذا الفعل لم يعط النفس حقها، وخالف دليل رفع الحرج.

ومثل هذا القول الاقتصار على ما يُقال عنه (البشع) في المأكل أو ما يُسمّى ب(الجشب) أيضاً ، والخشن في الملبس من غير ضرورة.

فإنّ ظاهر عملهم الذي يرجحونه على نهج هذين القولين في باب (سد الذرائع) أو (إبطال الحيل) -

إما بترجيح العمل للآخرة والزهد في الدنيا ومحاربة النفس الأمارة، لأنها الجهاد

ص: 172

الأكبر وترويضها على ترك الترف الزائد للإقبال التام قلبا وقالباً على الله مع عدم التقصير في حق أقل ما يجب من الدنيويات المحللة، وبما لا ضرورة فيه إلى ما يخالفه أو المستحبة أو الأزيد من الأشياء المنسجمة مع ما يقتضيه الإقبال على الآخرة -

فهو الذي أكدت عليه الأدلة الوعظية كتاباً وسنة شريفة وغيرهما جمعاً بين حقي الدنيا والآخرة.

وإما بترجيح العمل للدنيا حباً للتّرف مع الضعف في الميل إلى الآخرة، وإهمال جزئي للنفس الأمارة لتأخذ حقها مع أي ضرورة مبرّرة شرعاً لتمتاز الدنيا على الآخرة بدون الوسطية المشار إليها.

فإنه لا وزن لأي عقلية ترجح الترجيح الثاني على الأول.

11 - وأما قولهم عن أمر عمر بن الخطاب في خلافته بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلی الله علیه و اله، لأن الناس كانوا يذهبون إليها فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة إلى غير ذلك.

بادعاءهم في تبريرهم العمل بقاعدة (سد الذرائع) من مجرد خوفه من وقوع الفتنة، كي يفتي بأن بقاء الشجرة - والصلاة عندها إلى القبلة لله تعالى اعتزازاً ببيعتهم المخلصة للنبي صلی الله علیه و آله- بأنه بدعة.

مع أن وجود أمير المؤمنين علي علیه السلام وهو مرجع الجميع في كل معضلة له ولغيره کما مرَّ من كثير الشواهد بين الخاصة والعامة من حيث تشخيص طول الأبعاد النظرية للأشياء المميزة عن قصرها.

وكذلك لماذا لم تهدم أسطوانة أبي لبابة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروضة الشريفة، وهي التي يصلى عندها كل زائر ووارد بركعتين بين يدي الله توبة وإنابة.

والخلاصة عن كل ما مضى:-

أنه لا داعي لتضخيم الاعتماد على (سد الذرائع) و (إبطال الحيل).

ص: 173

بل لو يعلم ما على المفتي بإفتاءه بغير علم من الذنوب أخروياً ما تجرأ بأمثال هذه الأمور أحد مخلص الله تعالى في نواياه.

إلى غير هذا مما أوردوه لصالحهم حذراً من الإطالة مع الإجابة التصحيحية له لئلا نخرج عن طور المسألة العقلية المقصودة.

خلاصة الكلام عن حجية العقل اللبي

قد بينا في ما مضى أنه لا شك أن العقل له شأنية النعمة الإلهية العظمى أنَّ غير المنتهية على العباد وبالمعاني الثلاثة الماضي ذكرها، بحيث أن (كل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل).

أما أن (كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع) فليست دليليته لبياً بمستوى ما يقابل الكتاب وبمستوى ما يقابل السنة من مباحث الألفاظ نصوصاً وظواهر ونحوهما مقابلة الند للند

بل بمستوى خصوص ما تأكد من تقبيح العقل مثلاً (تناول الطعام المضر) تقبيحاً شديداً حتى من دون تبعيته للشرع، وإن شابه حكمه في ذلك، ولولا ذلك لم يكن هذا الحكم منه من المستقلات العقلية ،المقبولة، أو أرشدت إلى قبول تعقلاته المستقلة بعض أدلته الإرشادية.

لكن يمكن أن نقول بأن هذا الحكم من العقل ليس على إطلاقه، حيث لا يحكم العقل بقبح (كل طعام مضر)، حتى الذي في ضرره منفعة أهم، إذ لو كان في تحمل الضرر منفعة عقلائية أهم لم يستقل العقل بقبحه، لأن في ذلك مصلحة تزيحه كبعض الأدوية المكروهة مذاقاً والنافعة بالنتيجة أو فيها سم غير قتال.

كما وأنَّ الشَّرع يمضى له ذلك، ومن جهة خصوص لبيته، فلا يجوز عقلاً قبول التضرر، إذا كان من قبيل القدر المتيقن منه الموت أو تعطيل عضو، عدا ما يقتضيه

ص: 174

من الغرض العقلائي كالجهاد.

لا حجيّة في قول المؤرخ إلا في الجملة من حيث المنقول والمعقول

لا يخفى أنه بعد إثبات وجود المنافقين ممن دخلوا في الدين الإسلامي لأجل محاربته بحجة واهية، وأخرى تحججية دون الإيمان به، ومنهم الملفقين للأحداث ومضامينها المعنوية عقيدة وعملاً، وزج الإسرائيليات في البين، أو نقل الفضائل لصالح الأعداء كالأمويين لقاء الأموال الطائلة، أو نسبة الذم المنقول إلى حضرة النبي صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام وأتباعهم.

وبعد منع تدوين الحديث من قبل الخلفاء (الأول والثاني والثالث) بحجة الخوف من ترتيب آثار مساواته بالقرآن وآياته الشريفة.

وخطورة هذا الأمر حينما كانت هناك صلة خاصة ل- (كعب الأحبار) التابعي المعروف بنقل الكثير من الأحاديث مع المروج له الصحابي (أبو هريرة) في النقل عنه.

وبعد تجاوز الخليفة الثاني على عقل النبي صلی الله علیه و آله بعبارة (دعوه إنه يهجر فقد غلبه الوجع)(1) ۔

لا يمكن تصديق كل ما يقوله المؤرخون في كل المجالات ومن مكدسات الكتب الحديثية كالبخاري وأمثاله، وأخذت للأسف بعض الأحداث التأريخية حتى في بعض موسوعاتنا الشيعية من هذه المصادر وأضرابها بحجة شهرتها، وأن عالمهم لا

ص: 175


1- مسند الإمام أحمد، ج 1، ص 355 ، صحيح البخاري ج: 4 ص : 1612، باب 78 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله وفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض (قوموا عني).

يخفى عليه القاعدة المعروفة (رب مشهور لا أصل له).

وإن كان من غرض نقل الكثير أو الأكثر منها ليس للإعتزاز بنقل هذه المنقولات المشهورة والمستضعفة من موسوعاتنا، بل لإطلاع أهل العلم من المنصفين جميعاً أن يتأملوا في اطلاعهم على التناقضات والدس والزيف المفضوح في النقول ويرتبوا الأثر المكافح لما يجري على المسلمين.

إذ لابد أن يتوصل إلى القواعد الرجالية المعتبرة عند الجميع، وكذا قواعد الحديث وعلى نهج الأصول الفقهيّة، ليعزل الحق عن الباطل.

ولذا لا حجية في قضايا المنقول المخلوط بين التأريخ والسيرة النبوية المحتاجة إلى الاعتبار بها عقيدة وعملاً بعد التصفية المنصفة أو القبول في بعض الأحوال إلا في الجملة.

ص: 176

الباب السابع : بحوث الحجة

الحجة الأصولية بين آيات الله وسنة النبي والعترة الأطياب وبين الإجماع وعقول ذوي المعقول من أولي الألباب

لا شك أن الحقيقة التي يجب أو يلزم التمسك بها في حياة المكلفين من بني البشر بعد التعرف عليها - في أمورهم التصورية والتصديقية والضرورية والنظرية بين أهل اللسان ومن استقر لديهم ما قد حمله الجنان باطمئنان، سواء في الأمور الواقعية أو الظّاهرية بما لا يختلف فيه اثنان.

ولما منحه الله في البشر من التكريم دون بقية المخلوقات بالعقل السليم، حتى لو ابتعدوا عن مبادى شرائع السماء فردياً أو اجتماعياً في بعض الأحوال ببغض أو كراهية، ومن ذلك ما أخذ من المنقول أو تمسك به من المعقول بعفوية -

هي التي تسمى في علم المنطق ب- (البرهان).

وقد عاش الناس قبل إرسال الرسل وبعثة الأنبياء في جملة منهم حينما خلوا وطباعهم بدون المغريات الشيطانية ونحوها على ما يرام لو طبقت قواعد هذا العلم على أحسن وجه.

إلا أن قرناء السوء من (إبليس والدنيا والنفس والهوى) لم يمهلوا بني البشر وطبيعي طباعهم فضلاً عن تطبعاتهم.

مما قد أحوجهم إلى التسديد الإلهي بأرسال الرسل وبعثة الأنبياء من حملة خير

ص: 177

المعقول والمنقول بدون أن يكون للعلمانيين وأهل الشذوذ السلوكي المنفلت أي مجال للتمسك بأية شبهة أو سفسطائية قد تشبه بعض تلك القواعد ببعض الشبهات بلا حجة تامة مقبولة.

مما دعي إلى تسديد هذا العلم بإضافات أو تعديلات لتكون صالحة لاصطلاحات خاصة أو أخص، سميت بعلم (الأصول الفقهية).

وقد أطّرت الحجة لها بأطرها الخاصة فيما بين مباحث الألفاظ القرآنية وألفاظ السنة وروايات العترة الطاهرة علیهم السلام ومباحث الأمور اللبية من الإجماع والعقل والأصول العمليّة المقرّرة للشاك في مقام العمل.

ولأجل الخوض في المقام حيث مورد الحاجة ومن أجل الابتلاء بتعدد المذاهب الإسلامية وتشتت الآراء الأصولية بين المدونين لها من تلك المذاهب كل بحسبه وتطرف بعضها في المنقول والمعقول لابد من أن نقول:-

مواطن الحاجة إلى ما يستحق من الاحتجاج به من الموارد اللفظية

تقديم:

لم يستغن الأصوليون المدققون الحريصون يوماً في شتى بحوثهم النافعة المختلفة قديماً وحديثاً عن شيء علمي أو على الأخص العلمي العملي إذا بدت لهم بوادر الوصول إليه بمثل ما احتاجوا أو يحتاجون إليه في طول أزمنة التكاليف الشرعية وأدلتها لهم وللآخرين حتى لخصوص تلك النظرية اللفظية منها إن انغلقت عن بعضهم في البداية بعض الأبواب، ولو ليستثمر من يتلوهم من الباحثين الآخرين ممن تؤتى تلك الأدلة - لهم من بركات مساعيهم المخلصة - أكلها عملياً، ولو بعد حين بإذن الله من الأمور المحتاجة إلى تثبيت أو تثبت وإثبات الحجية لها ولو تبركاً بمضمون

ص: 178

قوله تعالى «وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا ۚ وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ»(1)

وعلى الأخص لو ركزنا على بحور مضامين قوله أيضاً معه «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ».

سواء في الأمور النصية - حسب مستواها الخاص بها عند توفرها وبما لا يمكن أن يقاومها من ظواهر الأدلة المخالفة مقاوم، لأن مقامها مقام الحجة الأقوم لو بدت غير مأيدة -

أو الظاهرية حسب مستواها الخاص بها عند عدم توفر النصية المخالفة لهذه الظَّاهرية، لضعف الظاهرية أمامها لو توفّرت أو تعين الظاهرية لو قلت أو انعدمت النصية.

أو كانت النصية مع الظاهرية لو لم تبتعد عنها كلياً في توافق تفصيلي أو حتّى إجمالي ولو كأساس مهم، ليكون معه عاملاً مساعداً أو الأقل لتوحده في المقام كأخبار الآحاد وبعض توابع مباحث الألفاظ وما تضمنته الروايات التعليمية التي بينها الأئمة علیهم السلام لحواريهم حتى تجاه أضعف الطرق الصحيحة لو توحدت في الميدان بالبقاء عليها، تجنباً عن الوقوع في مخاطر التشريعات التي لا مدرك شرعي لها مما في مقبولة عمر بن حنظلة(2) وغيرها مما ستأتي وكما سبق من بعض التفاصيل الموضحة

ص: 179


1- سورة العنكبوت / آية 69.
2- عن عمرو بن حنظلة قال: (سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة؛ أيحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطَّاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: «يُريدونَ أَن يَتَحاكَموا إِلَى الطّاغوتِ وَ قَد أُمِروا أَن يَكفُروا بِهِ» قلت فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله). الوسائل 18 / 98 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

أكثر.

مناشئ القوة والضعف في الإستدلال للحجية

اشارة

اهتم المنطقيون قبل الأصوليين من أصحاب الخدمات الجلى لكل العلوم وعلى أساس من براءة للمستقيمين من مسلميهم في عقولهم والمعتدلين من عقلاء الآخرين و من تلك العلوم التدقيقات الفلسفية النافعة في باب توحيد الله تعالى المعبود جل وعلا سعياً منهم لتكوين شيء حتى لو كان أقل ما يمكن أن يحقق به الاعتذار الفردي والجماعي من أنواع أثقال المسؤولية الشرعية على المكلفين بعد دقائق الاعتقاد الحقة قاطبة مما حملته أو تحمله المدارك اللفظية التي لابد أن يحاسبوا عليها وبمستوى ما قد ينسجم معه وعليه ذوق العقل المنطقي والأدبي والأصولي والشرعي في مباحث ألفاظ الجميع مادامت قاعدة الإمكان هي السائدة في الميدان مع الارتباط المستمر بما قاله تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»(1)

ولكن لما كان الشرع المستقل - في لوازمه الأصولية الخاصة كمنطق خاص له لا كالمنطق العام - قد يختلف عن العقل المستقل في تقيد الأول وهو الشَّرع أو فقل العقل الشرعي بتدقيقاته الإرفاقية وملاحظاته الإمتنانية عن طريق أهل العرف.

وتقيد الثاني بتدقيقاته الفلسفية على ما يحدّده علم المنطق الحر وغيره المقيد بشيء، وإن نجحت طرق المسلمين المنطقية الاعتقادية الصحيحة مع من أيدهم أو

ص: 180


1- سورة النجم / آية 39.

اهتدى معهم وبما وافق عليه الشرع قلباً ولساناً، وهو ما لا تتحمله تلك الإرفاقيات الإلهية وفقهها الشرعي الإمتناني العظيم على العباد والمختلف في طرقه عن طرق الإعتقاديات بما لا حرج فيه ولا عسر غير متحمل يعتريه، على ما أوضحته أدلة نفي العسر والحرج كثيراً في مواقعها من التفاصيل -

فقد أوكل الشرع الشريف - كما أشرنا - أمور التشخيصات هذه إلى العقل الأصولي العرفي في الأمور الكلية عند التعامل مع الأدلة المناسبة للإستنباط، وعند تطبيق قواعدها المناسبة له وفي الأمور الجزئية كذلك في مرحلة اليأس عن التشخيص الاجتهادي الجامع لها عن بعض الأدلة -

باللجوء إلى أهل العرف قبل مراجعة معاني الألفاظ من قواميسها بدل تلك الدقة الفلسفية التي كثيراً ما لا تطاق في أثقالها العملية إلا بما يمضيه الشرع لقرارات ذوي عقولها الدقيّة العائدة لأرباب صنوف علومها الأخرى النافعة عند الحاجة إلى بعض قراراتهم كالطبية في مواردها وغيرها مما يصح أو ينجح الإمضاء له من التدقيقات.

فذكر الأصوليون ما يحدّد جوانب المسؤوليات الخاصة بما حضوا أنفسهم به، بل بما قيدتهم تعليمات الأئمة علیهم السلام به ، ثم توسعت إلى ما قد نجح بأيديهم من ذلك ما نجح من أدناها، وهي الأمور التي لم يصرح يوماً بالردع الشرعي عنها في المظان المألوفة من الجوامع والمجامع إلى أعلاها مع استفراغ المستفرغين لوسعهم من الأساطين في هذا المجال عموماً وخصوصاً، وبما يحقق الاعتذار عن المزيد من التكلف بها وإلى ما لابد أن تبرء بسببه الذمة.

بل وحتى وصول العباد إلى ما به تمام الطاعة والتسليم لله تعالى وشرعه ولو ظاهراً حسبما عرفناه من مجمل نفي العسر والحرج الثابتين وحرمة التكليف بما لا يطاق مع بيان الشرع بما يكفي حتى نزل في يوم الغدير قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ

ص: 181

لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1).

حتى ظهرت الآثار الشريفة عن الأئمة علیهم السلام مما لابد أن يكفي في هذه الغيبة الكبرى قبل بزوغ شمس آل محمد صلی الله علیه و آله من الاجتهادات الصحيحة حتى صح أن يقال عقيدة وعملاً ب- (قبح العقاب بلا بيان) للعدل الإلهي الثابت بتوفير كافة وسائل البيان الوافي والمعذر.

فذكروا محددات المسؤولية بأنها (العلم) و (القطع) و (العلمي) و(الظَّن) و (الشَّك)، وما يناط ببعض حالاته من المسؤوليات، وكذا ( الجهل)، ومنه ما فسر ب- (الوهم) وأجمعها التي تحوجنا إلى شيء من التفصيل تباعاً.

الأول(العلم)

قد يطلق العلم في الأصول ويراد منه (اليقين)، وهو ما لا يحتمل فيه الخلاف كالتصديقي المراد به الإذعان للنسبة إذا ثبت عمليا، والتصوري البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان، سواء في الآيات أو الروايات في نصوصها، بل وظواهرها وجملها ومفرداتها إذا تحقق عن طريق هذا النوع الاستدلالي من العلم ما تثبت به الحجية الكاملة على التكليف سلباً أو إيجاباً.

وقد يطلق ويراد منه (اليقين) بمعناه غير الاصطلاحي، وهو الذي التزم به الفقهاء الأصوليون في باب تطبيقات الاستصحاب، ومنه ما بني منه على أساس روايات (لا تنقض اليقين بالشك)(2) وغيرها في بابه، وغيره في العلم والعلمي

ص: 182


1- سورة المائدة / آية 3.
2- الكافي 3 : 351، باب السهو في الثلاث والأربع ح 3 ، وسائل الشيعة 8 : 216، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 10ح 3 .

وغيرهما من كل ما يثبت من الأدلة للظن أي اعتبار عملي راجح على الشك، ومن الشك بعد الفراغ وقاعدة التجاوز.

وإن افترض أن هذا النوع أيضاً مما قد يتبدل فيه رأي المجتهد من جهة معنى اليقين الذي لا تتبدل حقيقته كما حددناه في الاصطلاح - وعلى الأخص إذا كانت الأدلة المتوفّرة من النصوص المتعارف في كونها واضحة الدلالة لا تحتاج فنياً في العادة إلى أي تكليف أو تكلف اجتهادي -

فإنما هو من جهة بعض المباني الأصولية الخاضعة للتغير الصناعي في بعض الحالات من قبل بعض أهل الحداثة وإن حسن قصد بعضهم.

ولكنا كنا قد قلنا في الجزء الأول بما يصلح أن يكون جواباً مفصلاً على هذا الاقتراض، وهو أنَّ الفقاهة الحقيقية في واقعها قد تغلب بعض الصناعيات الأصولية المستحدثة والتي لا طائل تحتها أو تحت بعضها، لأهمية الثوابت العائدة لتلك الفقاهة وبما لا يمكن المناقشة فيها.

ومع ذلك إن ظهر شيء من بعض التغيرات الفتوائية - بين ما يظهر من المباني الأصولية الغريبة وبين مباني الثوابت الفقهية المعلومة - وأمكن الاحتياط النوعي وبما لا يخل بأساسيات تلك الثوابت المعتز بها -

فعليه أن يبنى مع الإمكان على أحوط الاستنتاجين، وبالأخص في الأدلة التطابقية مع الفقهيات وكان المبنى الأصولي غير صريح في تطرفه.

الثَّاني: العلم مع القطع ، أم القطع العلمي، أم الأقل أيضاً؟

وقد يطلق هذا اللفظ وهو العلم بمعنى العلم الخاص الذي ذكرناه وهو ينقسم إلى تفصيلي وإجمالي:-

والإجمالي هو الذي مجاريه الأصولية الأربعة المعروفة وأمور أخرى، وموقعه في

ص: 183

أمور سبقت، والجزء الأخير لدورة كتابنا هذا (مساعي الوصول).

والتفصيلي موقع بحوثه هذه البحوث الحالية.

والعلم العام: الذي يدخل فيه (العلمي) الآتي وحتى ما هو الأدنى مما استقر عليه الأصوليون على الأخذ به في الشرعيات التي وافقت عليها أدلتها عند وصول الاجتهاد فيها إلى الدرجة الفتوائية المأكّدة حين حصول بعض الانسدادات.

ولكن قد يراد منه عندهم حتى ما اصطلح عليه عند العقلاء بما يأدي إلى معنى (القطع) الآتي ما يخصه بصورة أكثر في الخلاصة تحت عنوان (زبدة مخض ما مضى).

ولكن هذا المعنى مع هذا التفاوت بين النظر الأصولي وبين العقلائي والتدرك (القطعي) في أصول المتشرعة نحو النزول عند المقارنة لكل المراتب وإن وصلت درجة الاجتهاد الفقهي الأصولي إلى مرتبة (القطع) الذي ينزل حتى إلى ما دون مرتبة (العلمي) من المعتبرات الظنية المحكمة الآتية بقرائنها .

وهذا ما قد لا يتناسب مع ما يقع من (القطع) الموحد في معناه بين العقلاء، وإن بولغ في معناه عندهم بأنه الجازم، وهو ما يختلف عند التفاوت التدركي المذكور نحو أريحيات المتشرعة المسايرين تعبداً بأدلتهم الإرفاقية الشريفة.

بينما العقلاء لو يسايرون دائماً فيما يستقرون عليه من المعنى الخاص عندهم وباستقلال عن المتشرعة ومداركها -

لغير المتتبعون الحاذقون الكثير من إخفاقاتهم المستقلة في قراراتهم التي نتيجتها أنها غير جازمة.

ولأجل ردء الصدع بل جمع الشمل جهد الإمكان بين ما صح أو يصح من قرارات العقلاء عن مصاديق (القطع الجازم) -

وبين ما يقوله أصوليوا المتشرعة واحتراماً لموارد التلافي بين الجانبين -

يلزم تطبيق ما قرّر في الأصول من أمور يحرز منها الأخذ بالقطع وأنه الجازم

ص: 184

الذي يحتج به وهي:-

1 - اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع المقدس، وقد ورد الردع عنه كما عنه كما عن أبي مريم قال (قال : أبو جعفر علیه السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: "شرقا وغربا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت")(1)، وقولهم علیه السلام ضد بعض الآخرين (دَعُوا مَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِم)(2) ونحوهما مما لابد أن يصح القطع التابع لهما إن صح اطلاق القطع على العلم.

2 - تقيد الأحكام الشرعية بقيود خاصة بها ولو مع التقاءها بالقطع الحاصل بها بنتيجة التقييد، وإن حصل من مبادئ خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله، لاختلاف مبادئ القطع الخاصة عند موردي الإلتقاء بالنتيجة بينه وبين تقيدات الأحكام، وهذا كالسابق.

3 - إن المراد بالقطع في كلماتهم مطلق الاطمئنان لا القطع الاصطلاحي، وهذا الاطمئنان الذي التزموا به لابد أن يكون هو معنى القطع الجازم الذي لا يتزلزل في نفس القاطع، ولكن على ما يتلاءم مع مذاق الشرع، لا كل ما تطمئن به النفس العقلائية من هنا وهناك ويجزم قد ينقطع، حيث قد يكون قطع بوجود مقتضي لكن لم يُعضد بعدم المانع إلا مع عدم الردع.

4 - إن مرادهم من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات هو عدم اعتبار قاعدة الملازمة بين العقل والشرع والرد عليها مع وجود التفاوت بين العقل المستقل - ومطلق مشاربه المختلفة - وغير المستقل الأقرب إلى المذاق الشرعي، وإن كان

ص: 185


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 399.
2- أصول الكافي "خطبة الكتاب " ص 8 ، الوسائل ج8 ص 18.

المستقل منه ما يمضيه له الشرع من أفكاره ولو في النتيجة، لكن ليس كل بواقيه، للفرق بين العرفيات الشرعية والدقيات العقلية الفلسفية -

فلابد أن يقال في الملازمة للتصحيح (كل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل ولو تعبداً) و(بعض ما يحكم به العقل يحكم به الشرع) لا غير ذلك، على ما أوضحناه في هذه الوجوه الاشتراطية للقطع المأخوذ به، وإن كان بعض هذه الوجوه قابلة للنقاش فيها ولو في الجملة كالأول.

وعليه فلا يمكن الأخذ بكل حالات القطع على نحو الإطلاق بدون ما ذكرنا، فضلا عن الأخذ بقطع القطاع وبهذه السهولة، لأن حالته التي هي في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء من الأسباب المألوفة لحصول القطع عند متعارف الناس

وهو أيضاً ملوم عندهم بل شرعاً كذلك لما في صحيحة ابن سنان قال (ذكرت لأبي عبد الله علیه السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل، فقال: أبو عبد الله علیه السلام وأي عقل له وهو يطيع الشيطان، فقلت له وكيف يطيع الشيطان فقال علیه السلام سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو فإنه يقول لك من عمل الشيطان)(1).

فلابد من التّحفظ عن الاستعجال وباتِّباع ما يلزم من الشرائط لصالح الشرع.

نعم إذا كان القاطع الجازم بشيء في أمر بلا مبالغة منه في قطعه العادي والخالي من الموانع الماضية ومن القطاعية المردودة ظاهراً، لوجود بعض المناقشات في بعضها، وإنما جازميته في قطعه كانت بسبب عدم انحصار علمه في تشخيص الحكم بمجرد هذا القطع العقلائي حتى مع اعتياديّته وإنما بإضافة الجازمية التي جاءت من جوانب أخرى من المقويات الإستدلالية الأخرى وإن تعددت مع تداركها بمصاحبته

ص: 186


1- الوسائل الجزء ،1، باب 10 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 1.

ولو صدفة.

وإن كانت تلك الأخرى مما لا يستهان ببعضها في وضوحها المريح ظاهراً فلا منع من المطاوعة ولو في الطريق، لأهمية التلاقي بين العقل والشرع إلا أن هذا قد لا يتناسب مع الواضحات من النصوص التي لم يصطلح عليها أنها لوضوح معانيها وقوة مصادرها مما يمكن أن يجتهد فيها، لتوقف صحة الاجتهاد على لزوم سبق التفاوت النظري ولو بما يزيد على الاحتمال الواحد بين المجتهدين.

ولذلك لم يؤلف هذا الاصطلاح في أمور الواضحات النصية مما قد يتصوره البعض غفلة عن الحقيقة البينة إلا عن كثرة اشتباه القطاعين - إن أدخلناهم في البين أو حتّى القاطعين الجازمين في قطعهم بالنصوص اجتهادا إذا تفاوت بعضهم عن بعض كذلك لو لم تحرز الوجوه الماضية منقحة معهم، لأنه لا ينتظر من هؤلاء سوى صرف المطاوعة لكفاءة النّص وحده في الدلالة واختلافه عن الظاهر وحالاته التي قد تكون بطيئة في الدلالة إلا أن تحصر كثرة تفاوتات هؤلاء من ذوي القطع الطبيعي الجازم للتأمل في ضوابط مبانيها بكونها تامة الطبيعة أم لا؟ -

ورضينا قواعدياً بما ضبطت أمورهم فيه من تلك الاجتهادات لكن في خصوص أدلة الظواهر مما دون النصوص الواضحة ولو ليفسر القطع بما يلائم حالاته مع (العلمي) الذي سبق أن أشرنا إلى شيء عنه مع القطع الطبيعي وكما سيأتي الكلام عنه قريباً.

بل لم ينحصر أمر هذا القطع في اتساع معناه حتى بما دون (العلمي) من بقية معاني الظواهر التي يجتهد فيها لفظياً وفي توابع الألفاظ أيضاً ولو عن طريق التصرف الفعلي المقبول شرعاً.

وعلى فرض إيجاد الأصوليين الصناعيين بعض طرق اعتيادية إضافية، للحاجة إليها باللجوء إليها عند التفاوت النظري والعملي بين بعض المجتهدين في بعض

ص: 187

النصوص التي لم تتضح عند غيرنا من السائرين على غير خط أهل البيت علیهم السلام-

فهو غير مقبول قطعاً وبأكثر من حالة الافتراض السابق عند الكلام عن (العلم) وهو أول المحددات إلا بالتنزل دون التنازل لغرض العلاج الجهادي لتصحيح أخطاء الآخرين ممن فيهم سلامة الذات من غيرنا هداهم الله إلى المزيد في بعض التفاوتات بيننا نحن الإمامية ومعنا من عاضدنا من الآخرين -

وبين من يتفاوت معنا منهم في مسائل تأويلات بعض النصوص الأحكامية أو تفسيرها من الآيات التي لا تصح في ثوابتنا إلا عن تأويل أئمتنا علیه السلام وتفسيرهم عن طرقهم السليمة من الوضع والتلفيق.

وكذا النصوص الحديثية التي لم يقبل منها بعد ضبط أسانيدها بخيار الرجال من ثقاة الوسائل الرواة وخيار مضامين الروايات بأعالي الدرايات، إلا بما يتم توجيهه عند الحاجة إلى التوجيه عن أئمتنا علیهم السلام البادية من حواريهم وإن كانت تلك المرويات النصية قد جاءت من المتواترات بيننا وبين ثقات الآخرين أو من معتبرات خصوص الآخرين، وقد تلاقت وبوئام تام مع رواياتنا الخاصة وبما يعادل مستوى النصوص وكذا مستوى الظواهر مما كان الأدنى مما يحتاج إلى أئمتنا علیهم السلام من التفسير وهو ما سبب هداية الكثيرين من طول الزمان وعرضه للإستبصار.

فالقطع الجازم في بعض النصوص من الآيات والروايات مع وضوح نصوصها يبقى خالياً من الاجتهاد فيها مع الحفاظ على هذا الوضوح، لأنه وحده حجة على القاطع ما دام مأخوذاً من خيرة طرقه، بحيث لا تأثير على أحقية جانب النصية البارزة في المصدرين الشريفين ومدى فعاليتهما المأثرة عن العترة المطهرة ومما أودع من أنباءه المفصلة وبإسهاب في الأصول الصناعية التي من أهمها ما أتقن من بحوث العلاجات الناصرة لمسلك الحق وأئمة أهل البيت علیهم السلام ، دون أن يتزلزل ويتفاوت قطع عن قطع، حتى لو كان مشوباً ببعض الخلافات المذهبية العنادية غير المخضوع

ص: 188

لها شرعاً حولها إن أنصف صاحبه نفسه وبما لا طائل تحتها، بل لن تجلب للأمة الواحدة إلا الافتراق الضار طول الحياة والبقاء عليه مع القدرة على السعي لمعالجة مشاكله ومكافحتها حرام دائم.

وهذا الإتقان لصالح النصوص هو المراد منه حقيقة التصويب عند الإمامية لا التصويب الذي يقول به الآخرون وبما يتعلق بالأدلة الظاهرية من المصدرين والتي تتفاوت فيها النظريات والاجتهادات حتى عندنا نحن الإمامية وبما يستحق علمياً، وهو المعنى الذي نختلف فيه عن المصوبة من الآخرين.

فإننا في الأدلة الظاهرية نقول بالتخطئة دون التصويب، وهذا بحث نأتي عليه في محله المناسب إن شاء الله .

وقد روى العامة من المصوبة ومنهم البخاري عن النبي صلی الله علیه و اله قوله (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(1).

أقول: كيف يقبل معنى الإصابة عند من تتساوى عنده الآراء المتعددة، وبالأخص عند الذين أغلقوا على أنفسهم وعلى غيرهم باب الاجتهاد وتمسكوا بمثل قول النبي صلی الله علیه و اله (اختلاف أمتي رحمة)(2) والمناقش فيها وفي سندها، ورواية (اَصْحابِی کَالنُّجُومِ بِاَیِّهِمْ اِقْتَدَیْتُمْ اهْتَدیْتُمْ)(3)، وهي كالأولى.

ص: 189


1- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 140 ، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي) ج 4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسخاوي ص 26 .
3- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص 144 و 145) : موضوع ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91) قال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول.

الثالث:(العلمي)

وقد يطلق لفظ العلم أيضاً ويراد به ( العلمي)، لكونه مصطلحاً أصولياً نسب إلى العلم حتى الكامل منه لقربه من معناه المقبول اصطلاحياً في الفقه أيضاً ولو بالاعتبار الشرعي بإضافته إلى ياء النسبة لما سوف يتبين للباحث الأصولي الفقيه عاجلاً أم آجلاً كما عرفت ممن سبق من الأساطين عند التطبيق المصداقي في الأمثلة المترابطة في العلمين المهمين - الفقه والأصول - من مداركهما القرآنية وأحاديث السنة الشريفة بواسطة العترة الطاهرة وما تعاطا معها إيجابياً مما أسداه ثقاة الآخرين عند

ورواه ابن حزم في (الأحكام) (6 / 82) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا : الحارث بن غصين عن الأعمش، عن أبي سفيان عن (جابر) مرفوعاً ،به، وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة.

فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، ومالم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم، بأيها أخذ اهتدي وبأى أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

قيل : يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي.

(رواه الصدوق رضی الله عنه في معاني الأخبار ص 156 ، قال: حدثني محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن غياث ابن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد عن آبائه علیهم السلام، قال : قال الرسول الله صلی الله علیه و آله ما وجدتم...، ورواه الصفار رحمه الله في بصائر الدرجات 11/1. ونقله في بحار الأنوار 220/2 والاحتجاج، 2، 259).

ص: 190

متابعة هذه الآثار وبالدقة المحكمة المألوفة -

فما وجدوا بل ولن يجد كل باحث متتبع غير ما يقرب من (العلم) ولو بالاعتبار الشرعي لو لم يعثر على شيء من مساعيه عن النصوص المقوية أو المساعدة على صدق المعنى المتاخم لهذا اللفظ إلا بما أعطته تلك الأدلة من مستنبطات ما هو الأخفض من النّص وهو (العلم) الحقيقي أو حتى الأخفض مما يسمى بالمتاخم للعلم أيضاً، وهي بقايا الألفاظ التي يطلق عليها بالظواهر من المدركين أو توابعهما كما مر، وإن كانت رتبتها أقل من ظواهر بعض المتواترات غير النصية إن ارتبطت بعض تكاليفها بها كمعاني ظواهر أخبار الآحاد المحفوفة ببعض القرائن أو كانت تلك الأخبار مستفيضة أو الأخبار الضفاف المجبورة بعمل الأصحاب.

على أنَّ هذا النوع وهو (العلمي) والمستل من عموم واطلاق (العلم) في دقته الحدية النازلة حتى كثيراً عن مستوى (العلم) الكامل حتى مع ضمان اعتباره الشرعي العملي له من المقبولية المذكورة التي له بمستواها في فقهنا وأصولنا داخلياً ونصرنا من نصرنا من ثقاة الآخرين.

بل رضينا بكل حليف منهم لزراعة بذور ما يجمع الشمل مهما أمكن حتّى اتهم الكثير ممن التحق بنا بالتشيع، وإن كان هذا في نفسه من الخير الفائق.

إلا أن حاجتنا الآن وبعد الآن إلى التوسع العملي وبما يزيد على هذا المستوى لتوسعة رقعة الهدايات ولو للرضا بالبحث المشترك عن دقة وسلامة ذات.

فإنَّ بعد هذا النوع من مصاديق (العلمي) في حقيقته من فصيلة الظنون القابلة للتوسع فيها وبما قد ينفع أيضاً في جمع الشمل والتي سيأتي الكلام عنها قريبا جداً.

إلا أنه هنا وبمستواه الخاص تحت ظل عنوان (العلمي) ومما مر غير مقيس على ضعاف الظنون، ولذا أطلق على هذا عنوان (العلمي) وجميع مصاديقه بالظن المعتبر والظَّن المتاخم للعلم والظَّن الخاص تمييزاً له عن تلك الضعاف المجردة للأدلة

ص: 191

المشجعة على الأخذ بها، بل الآمرة بالأخذ بهذه الظنون المعتبرة وبما يفيد النهي عن تركها رغبة تامة بسعة مظانّ الأدلة المتعددة في جوانبها.

إذ لولا هذا النوع من الظَّنون لضاق علماء المسلمين وفقهاءهم ذرعاً لو اقتصروا على خصوص النصوص والمتواترات الواضحة، أو ما كان من الأدلة من خصوص المرتبة الأولى لقلتها والفقه في ابتلاءاته هو كل شؤون الحياة الدنيوية والأخروية، وهو ما دعا الحريصون على توسعة الأصول بما يتلاءم كثيراً جداً مع حاجة الشرع الواسع وسعة حاجات العباد لتلبيتها وإظهار كل المآخذ الميسورة في كل مجال استدلالي صحيح لئلاً يتوهم يوماً بالانسداد العلمي حتى الصغير منه مع الإمكان وإن كثرت الكوارث الطبيعية والمعادية على بعض التراثيات بعد ما أمكن حل بعض أمورها أو كثير منها ببركة مساعي الحريصين.

نعم هناك نواهي وبشدة عن الأخذ بالضعاف التي لم يحقق أمرها.

وإن كان الأمل - مع تيسير ظروفه - ينبغي السعي للتوسعة فيما فيه المجال للحصول عليه تخلصاً من الاجتهاد المتحرّر في مقابل الأدلة الصحيحة.

وسوف نشير الآن إلى بعض ما ينبغي الكلام حول ضعاف الأدلة تحت عنوانها الخاص بها، وهو:-

الرابع:(الظَّن العام أو المطلق)

فبعموم هذا الظَّن وإطلاقه وغيرهما لا شك في أن ينفتح ذهن الباحث الحريص في تتبعه لأول وهلة وبلا استغراب من أن يستدعي أمر كل تفصيل قابل عن ذلك لأن يحتاج إليه في طرق الحياة الشائكة بين الأوراد والأشواك ولو عن شيء من المعنيين وهما القوي والضعيف من العموم والإطلاق في الظن ما دامت صبابة أمل هذا البحث مرجوه جداً مع حسن قصد الباحث الإلهي وإلى حيث النتيجة ولو

ص: 192

بداية بمقدار مختصر عن مظان مدارك كليهما، لمعرفة مدى ما تدلان عليه من السلب أو الإيجاب أو حتى الإيجاب الإجمالي ولو بالمرتبة الأدنى مما سميناه سلفاً ب(العلمي) بعد مرتبة (العلم) الأولى الملحقة به ولو بالاعتبار الخاص.

وهو في مقامه غاية المنى حتى مع قلته لمدى شدة الحاجة إلى هذا المشروع التوسعي المقصود ما دمنا في أمل الثّقة الإيمانية الراسخة ببركات أمثال قوله تعالى «وَالَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهدِیَنَّهُم سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(1).

وعلى الأخص لمألوفية أكثرية النجاحات تجربياً عند محاولات الاجتهادات المتعارفة عن طرقها المراد والمتمنى أن تكون صحيحة بالقصد إليها من البداية، وبالأخص عند مصادفة صيرورة هذا البعض من الكثير أو الأكثر معطياً هذه الصحة المقصودة بالنتيجة وعلى النحو التجريبي المضمون في نجاحه كذلك ومن نفس طرق (الظَّن العام أو المطلق) في المألوفة العملية والتجريبية في نفس الوقت وعلى ضوء المقاصد السليمة، وإن كانت في النظريات البحثية قبل الإعداد الاجتهادي العملي لها ولو تجريبياً في عدم التعود عليها كأنها خارجة موضوعا عن هذا (الظَّن العام أو المطلق) وهي داخلة واقعيا في النتيجة، لأجل عدم البخس في حق الحاجة الواقعية إلى المصداق الناتج من كل منهما إن أمكنت الاستفادة منها بحثيا نظرياً وعمليًا كما ذكرنا بعد الانفتاح الباقي للباحثين في مستقبل أيامهم ولو كان جزئياً بسبب تلك العقبات الكؤود في الطريق ولو كمرتبة ثالثة في عقد الأمل الشرعي الاستدلالي عليها، وبناءً على مستواها من الشرعية للخروج عن الابتداع والتشريع المحرم، ولهذا وغيره قال تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى»(2)

ص: 193


1- سورة العنكبوت / آية 69
2- سورة النجم / آية 39 - 40

بل لقواعد منها قاعدة الميسور ونحوها، بل قد يدنو طموح الباحث المضطر حتى بناءً على قاعدة الإمكان على الأقل مع التحفظ المذكور عن التجاوزات الممنوعة إذا عثر على أثر مناسب لما يحتاجه بين الأسفاط ما لم يقدر أن يجده فيما بين الأسقاط حتى إلى الأخذ بما يصح من بعض حالات المرتبة الرابعة من (عموم وإطلاق هذا الظَّن) ولو في القضايا التي استقر عليها العقلاء في مرتكزاتهم من مثل الأخذ بما تعارف لديهم من مصاديق ما يخص الإقتضاءيات المقبولة كدلالة البينة، والعدل الواحد مع اليمين، وخبر الثقة، وقول ذي اليد، وتصرف الوكيل في الاستلام والتسليم وإن كان صبياً مميزاً، ودلالة أذان مأذن الراتب على بعض التوقيتات الصلاتية، وما صح أو يصح الأخذ به من بعض حالات المفاهيم الستة، وكل ما يقطع به من تلك المرتكزات المطمئن بها بعد تأكد عدم الردع الشرعي عن أمورها وما يرتبط بأمور الترتب وغير ذلك.

وإن أشير في بعض المرويات عن الأئمة علیهم السلام إلى الإشادة بشأن بعض ما ذكرناه عند من يعتمد عليها في العمل به إلا أن تركيزنا في المقام الرابع على ما يسمح به في باب الاقتضاء وعلى ضوء منهجية العقل غير المستقل، ولو من مضامين ما أصطيد علمائياً من بعض عمومات وإطلاقات بعض الأدلة غير الصريحة.

إذ بمقدار ما دلّ من الكتاب الكريم والسنة الشريفة من النهي الكثير والتشديد فيه عن عموم وإطلاق العمل بالظَّن وعن التفاعل مع ما دون العلم والعلمي إذا ألحق به من الظنيات العامة أو المطلقة، لعدم الفرق بينهما فيه إذا اجتمعا على موحد بالنسبة إلى عموم وإطلاق نواحي المدركين كقوله تعالى «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1) الذي ظاهره التشديد المعنوي - إذا لم يرد منه خصوص علم العقائد - على

ص: 194


1- سورة الإسراء / آية 36

الأخذ بكل ما هو دون العلم حتى عن العلمي.

وكذا القطع المناسب له لو لم يصاحبه الشرط المانع المتوقف حجيته عليه مما ذكر.

وكذا قوله الشبيه بما مر من الآية من عدم الاعتراف المؤكد فيه بغير العلم المأذون فيه وهو قوله تعالى «قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ»(1) وللشك بما دون العلم ولو ظاهراً.

وكذا قوله المسلم فيه خصوص ما نزل على النبي صلی الل علیه و اله من العلم الثابت ولو بلسان التهديد أمام الآخرين مع علمهم بأنه الصادق الأمين حتى يمضون في إيمانهم بما يخبرهم به عن الله تعالى أو لتكبر ثقتهم به لا لإشعارهم بوجود احتمال أن يحصل منه خلاف ذلك كي يحذروا منه، لعصمته المسلمة بآية التطهير وغيرها.

وقد حصل الكثير من هذه الأساليب فقال تعالى «وَ لَوْ تَقُولَ عَلَيْنَا بَعض الأقاويل لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِینَ»(2)

وبهذا وجب تصديق النبي صلی الله علیه و آله حينما أكد تعالى صدقه عنه بقوله الآخر «و ما يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وحي يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(3)

ولذلك حرم على الجميع الإفتاء أو التصرف بأي نحو لا يناسب مقام النبي صلی الله علیه و اله بقوله تعالى الآخر «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(4)، أي في خصوص العلم الذي يأتي من وحي الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله

ص: 195


1- سورة يونس / آية 59
2- سورة الحاقة / آية 44.
3- سورة النجم / آية 3.
4- سورة الحجرات / آية 1

وكذا قوله تعالى «إن نَظُنُّ إِلا ظَنّا»(1) وهو الذي لم يظهر عنه سوى الاستخفاف بكل ظن للأدميين، سوى ما يحدده الشرع لهم من العلم.

وكذا قوله «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»(2) أي إذا أريد منه عموم الظن وإطلاقه، وأن (من) فيه بمعنى عن أي اتجاه الحق الثابت ما لم يكن مخصصاً بالمتاخم للعلم وكل ما دعم بالدليل المقبول مما دونه.

وقول النبي صلی الله علیه و آله في الحديث المشهور (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)(3)، أي بعدم الاعتراف بغير العلم في الإفتاء وإلى ما يوصل إلى تعاسات المصير.

وقوله صلی الله علیه و اله (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، والحسد والطّيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلوة ما لم ينطقوا بشفة)(4)، أي إذا أريد الاجتهاد في الفقه عن طريق الظنون فرفع تحذيراً من التشريع غير الشرعي.

وللحديث مجال للتفصيل أكثر ليس هذا محله .

وما ورد في مرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد الله علیه السلام قوله قال: القضاة أربعة ثلاثة في النار، وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة)(5)

ص: 196


1- سورة الجاثية / آية 32.
2- سورة يونس / آية 36
3- الوسائل - باب -4 - من أبواب صفات القاضي - ح1
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 ص 369 .
5- وسائل الشّيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 27 باب4 ح 6.

ثم أقول: إن هذه المرفوعة وإن كانت ضعيفة بالرفع إلا أنها بجبرها بعمل الأصحاب هي كبقية أخواتها التي سبقتها.

وغيرها مما يثبت الحجية للعلم دون الأقل منه -

ولكن دلّت الأدلة الإرفاقية والإمتنانية العامة في المقابل تسهيلاً على العباد فيها لو أغلقت على العلماء - أبان هذه الغيبة الكبرى وما سبقها من الأزمات على الأئمة علیهم السلام من الأعداء - بعض دقائق أبواب العلم صغيراً أو ما قد يزيد.

ومن تلك الأدلة قوله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(1) وقوله «وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(2) وقوله «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(3) وقوله «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»(4).

وقوله صلی الله علیه و اله في الحديث المعروف (لا ضرر ولا ضرار [على مؤمن] [في الإسلام])(5)، وغيره.

وهو ما قد سهل لنا أمر انفتاح مجال الاستفادة من بعض حالات الظنون لو ضممناها إلى ما سبق من بعض الأدلة المناسبة الأخرى كقولة تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنْ بَعضَ الظَّنِّ إِثْم»(6) وقوله الآخر «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا

ص: 197


1- سورة البقرة/ آية 286
2- سورة الحج / آية 78.
3- سورة البقرة / آية 185.
4- سورة البقرة / آية 173.
5- وسائل الشيعة : ج 17 ص 341 ، ب 12 من أبواب إحياء الموات ح3 و 5، و ص319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
6- سورة الحجرات / آية 12.

استَطَعتُم»(1) وقوله الماضي «إنّ الظَّنّ لا يُغني من الْحَقِّ شَيْئًا»(2)، بناءً على كون (من) فيه تبعيضية، أي بعضه لا يغني من الحق شيئاً وبعضه الآخر يكون مغنياً.

وإن كان الرأي الأول في هذه الآية أوضح أدبياً، ولكن يبقى أن نتيجة ما مضى من الاستدراك قد تصل إلى ما يمكن قبوله من معنى الانسداد الصغير بمعونة استفراغ الوسع ونحوه من العلماء وعلى ما سيتضح ما قد يزيد عليه.

وقوله صلی الله علیه و آله في حديث الرفع الماضي إذا صحت دلالته على رفع حرمة الإجتهاد عن طرق العلم التي لم يقدر على تحصيله تاماً منها كبعض حالات الانسداد التي أشرنا إليها ، ولكن لو حصل شيء منه لا فائدة فيه إلا فيما ندر على ما سيتضح.

ذلك.

وهكذا قوله صلی الله علیه و آله من نفس هذا الحديث وهو (و ما اضطروا إليه) وغيره.

وكذا من بعض ما مضى من الإرفاقيات المناسبة للتسهيل والأخذ من الظنيات المقبولة شرعاً سوى ما لم يحتج إليه من ذلک

فإنَّ هذه المجموعة وتلك لابد وأن تمكّن الفقهاء من إظهار الشرعيات الإلهية عن اجتهاداتهم الصحيحة، ومن كل ما يمكن من المراتب النازلة وإلى حد الأصول العملية وإلى حد ما يأتي من مرحلة الشك والجهل وحتّى الوهم من بعض التكاليف المعقولة شرعاً التي ستأتي بعض نماذج من تفاصيلها.

الخامس: خصوص (الظن الضعيف)

اشارة

بعد أن كان الظَّن الضعيف غير مرغوب فيه عند كثير من الفقهاء والأصوليين المتورعين ما دامت أبواب العلم الأخرى مفتوحة لهم من بعض الظنيات المعروفة

ص: 198


1- سورة التغابن / آية 16.
2- سورة يونس / آية 36

بالقوة في مجالها النسبي.

ومع ذلك لا ينبغي لهم - كما لغيرهم - ترك المجاهدة في تحقيق ما يمكن الوصول إليه من بقايا ما يتوقع من هذا الضعيف من الفوائد ما دامت زوايا وخبايا ما لم يتوصل إلى كل أعماقه من مدارك الشريعة الإسلامية حوله مع الحاجة إلى المزيد من البحث.

لعدم انحصار الطاقة الجهادية في خصوص مجاهدات من أشرنا إليهم من علماء الفقه والأصول وأوسعيّة هذه المدارك من أفكارهم قدس سره حتى لو قلت فوائدها لأنه (لا يترك الميسور بالمعسور)(1)، ولكون هذا الظن أقوى من صرف التردد الآتي شرحه.

ثم أننا لم نقصد من هذا الضعيف أنه الخبر القابل لأن يقوى بالجبر أو قوة جبره بعمل الأصحاب أو ما كان خبراً مشاعاً أو مستفيضاً أو كان خبراً مع صحته يحتاج إلى حفّه ببعض القرائن لكونها مرتبطة بما ناسبها سابقاً من الظنون الأقوى وهي أو بعضها ميسورة.

وإنما نقصد به هنا الضعيف صحة سنده لو تجرد كلياً من القرائن وبقي وحيداً في ميدان الحاجة الماسة إليه عملياً، وإن كان طبيعياً في التزام بعض الإمامية على نهجه من دون تقية يضطرون إليها أمام الآخرين، ولا كان مهجوراً أو معرضاً عنه لحكمة مبررة.

وهكذا خبر الواحد الصحيح المجرد من تلك القرائن الطبيعية الإختيارية، ولكن وجوب العمل به على وجه التقية لكون التقية وحدها قرينة مقوية لضعفه المذكور بسبب الاحتكاك المضطر إليه مع الآخرين في مواردها.

فهل من مجال للأخذ بها مع هذا التجرد؟، وهل يجوز التعبد بها أم لا؟

ص: 199


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 58.

ويدخل في مقصودنا كذلك حالة معنى الظَّن الذي يختلج في بال المكلف، وإن لم يكن بمستوى الخبر المجرد الوارد، سواء المجتهد أم العامي القادر على تشخيص تكليفه نقلا عن مرجعه مثلاً، إذا ترجح ظنّه زائداً على نصف النسبة المئوية العدمية أو ناقصاً شيئاً عنها كما في الشكوك التسعة الصحيحة أو الباطلة.

فإن جميع الفقهاء - نتيجة لتركيز الأدلة الشريفة على ذلك والتي كان منها أخبار آحاد مجردة من القرائن -

أفتوا بأن حل المشكلة لم يكن إلا بالبناء على ما يحصل من الظن الاعتيادي، لعدم الفائدة من إبقاء النفس على خصوص حالة الشك وهتاك رجحان زائد على الجانب الآخر، وإن كان نوع الشك من الشكوك التّسعة الصحيحة، لورود الظَّن على هذا الشَّك، وهو الأقوى من المناصفة المئوية المحيرة الكاملة.

ولو لم يكن الظن وارداً فيما مضى لوجب الإبقاء على هذه الشكوك الصحيحة، وما اتفقوا عليه من العلاجات لها وعلى بطلان الباطلة من غيرها.

فخلاصة المطلب المراد في البحث عن هذا الظن أمران:-

أولهما: حول خبر الواحد، وإن كان صحيحاً في سنده لو لم يكن مهجوراً بين الأصحاب وغير ذلك من حالات التقية التي لا محل لها إلا عند الاحتكاك مع العامة الخاصين.

وثانيهما: حول معنى الظن المختلج في ذهن المكلف زائداً أو ناقصاً برجحان الأول والثاني على نصف النسبة المئوية الكاملة ومرجّحات الأخذ به دون البقاء على التحير وكان لهذا الثّاني أثر من خبر مروي مثلاً عند بعض من يتلبس بهذا الثاني.

فلنفرض لكل من الحالتين شيئاً غير خال من التفصيل ولو باختصار:-

وقبل البدء ببيان كل منهما لنذكر مقدّمة مختصرة لهما تحت عنوان

ص: 200

(التدرج والتدرك في أمور العلم والعلمي والقطع المصاحب له وما دون ذلك)

بذكرهما كاصطلاحين خاصين لتسهيل فهم المطلب الآني.

فالتدرج لمن يقتصر على الأخذ بالعلم وأعالي الظُّنون بسبب الانسداد المتوسط أو ما يزيد شيئاً.

والتدرك لمن يحتاج إلى ضعافها بسبب الانسداد الكبير أو الأكثر ومنها خبر الواحد المجرد.

وبعد هذه المقدمة نقول:-

أما أولهما : وهو (خبر الواحد الضعيف وإن صح سنده)

فإنّ ما ذكرناه من بعض الأدلة الناهية عن الأخذ تشديداً بغير العلم أو العلمي - وكذا القطع المقبول في الأمر الرابع السابق إن حاولنا تطبيقها أيضاً للاستفادة منها في الأمر الخامس - مع صراحة ما مضى من ذلك البعض الناهي الماضي، بناءً على رأي من يعمل بأخبار الآحاد إذا كانت صحيحة السند، وإن جعلت ضعيفة في نظر من لم يعمل بها إلا بما يحفها من بعض القرائن، مع شمول كلامنا الآتي حتى للضعيف من غير صحيح السند، وهو رابع أصول الحديث المعروفة حتى في المجرد من كل قرينة للتّعرف على وزنه ومثابة العمل به من عدمه.

فإنَّ ما مضى من النواهي الصريحة إن دلت على حصر المقبول من العلم دون ما كان مما هو أخفض منه في خصوص أمور العقائديات دون غيرها -

فهي وأمثالها لا تقع حجر عثرة في مجال الحاجة الماسة إلى العمل بأخبار الآحاد الصحيحة في سندها أيضاً لو توحدت في مجالها التكليفي بين آثار أهل البيت علیهم السلام

ص: 201

والعترة الطاهرة حتى لو خلت من ذلك البعض من القرائن المقوية.

إذ توحدها بين مختلف الأدلة مع الحاجة إليها هما الجاعلان لها قرنية ملحة للعمل بها، لكن بمعنى أنه لم يقابلها مثيلها في الدليلية المضادة كي يتساقطا علمياً فضلاً عن الأقوى.

وبهذا قد يلتقي العامل بأخبار الآحاد لو صح سندها في جميع أموره الاختيارية بسبب بعض الإنسدادات التي أشرنا إليها، وغير العامل بها كذلك مع صحة سندها، وإن انعدمت القرائن الاعتيادية عنها لما ذكرناه من سبب توحدها والحاجة الماسة إليها لئلاً تنعدم نضم الحياة الشرعية حتى مع هذا الأثر الضعيف في بابه، لأنه خير من العدم وكما روي (لا تستحي من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه)(1)، وعلى الأخص دعم الأدلة الإرفاقية الإمتنانية في الأمر الرابع لما نقوله مع ما ذكرناه من الأدلة أخيراً من الدالة على قبول بعض الظنون دون الجميع.

لكن لا على نحو التساوي في الإلتقاء العملي، إذ كل في مورده.

وأما بناءً على ما قد بنى عليه من كون الأدلة الناهية وبتشديد أنه لا يراد من التركيز على خصوص العلم إلا من جهة كون المراد عنه خصوص القرائن المقوية لضعف كل ضعيف -

فهذا أمر تابع لما يمكن تيسيره عن السعي واستفراغ الوسع، لا خصوص ما يرتبط بمقام الأمر الخامس.

وأما الصحاح المهجورة فهي التي رفضت حتى عند جميع من اعتبرها كذلك، وإن تفاوت بعضهم عن بعض فيما سلف بيانه على عكس من استقر على العمل به من الجميع من بعض الضعاف جبراً لضعفها.

ص: 202


1- بحار الأنوار - المجلسي - ج 93 ص 172 نهج البلاغة رقم 67 من قسم الحكم.

وأما الصحاح المعمول بها على نحو التقية - وكذا الأقل منها في الضعف - فإنّها التي لا وزن لها عند الإمامية في أجوائهم الاختيارية حتى الصحيحة منها أو التي وثقتها أو وثقت الأضعف منها إلا في الأجواء التي شحنت بمعادات بعض المخالفين لهم كأجواءهم الخاصة والتي تطابقت تشديدات الأئمة علیهم السلام إنكاراً على كل من لم يطبق أمور التقية في أجواءهم الخاصة، دون أجواء الخفّة، أو حالات السالبة بانتفاء الموضوع، أو من اجتهادات المتملّقين أو أهل الحداثة والتجديد غير المعالجين، أو من لا يرغب به من بعض المتزلّفين أن يطبق تعاليم الأئمة علیهم السلام المعاكسة في أجواء الحالة العكسية التي منها قولهم علیهم السلام (دعوا ما وافق القوم، فإنَّ الرشد في خلافهم)(1)وغيره.

وأما الضعاف التي هي دون الصحاح في سندها مما مر فهي على رأي من لم يعتبر خصوص صحة السند مقوماً للاعتبار لو كان الاعتبار في كلا الحالتين مبنياً على تقوية الضعف العام بالجبر والقرائن والمطمئنات الأخرى.

فعند تساوي الصحاح والأدون منها في الضعف وعند توحدهما في الحاجة الماسة إليهما أو إلى كل منهما عند اختصاص كل منهما في مجاله، فجاء المقتضي وانتفى المانع ووصل المقام مناسباً لهذا الأمر الخامس لو لم يحصل الردع من الشارع -

فما المانع من عدم العمل به إذا اختص بتكليفي الواجب والحرام.

وأما أمور ما هو الأقل فإن قاعدة (التسامح في أدلة السنن) تسهل لنا ما كان من بعض الأمور.

وأما إذا كان الضعيفان كلاهما يصبان في حوض تكليفي واحد كالواجب وحده أو الحرام وحده فلابد من أن يعود أمرهما إلى ما يخص المقام الرابع مما يشترط فيه

ص: 203


1- أصول الكافي "خطبة الكتاب " ص 8 ، الوسائل ج 8 ص 18.

جبر أحدهما الضعيف، ولو بالآخر منهما حينما يُعد جابراً أو قرينة مقوية بين عرف الفقهاء والأصوليين المحصلين.

لكن يبقى العمل بالخبر المجرد والموحد مشروطاً بأن لا يعارضه خبر مثله، فضلاً عن الأكثر.

وأما ثانيهما: وهو ما حول معنى الظَّن الاختلاجي المجرد من القرينة

لابد أن يرجح اقتضاءيًاً بين العقلاء من مرتكزاتهم كل ما يختلج في أذهانهم من الظَّنون المصاحبة للاطمئنان النفسي وبما يسمى بالاحتمال العقلائي في مجال الزيادة أو النقيصة على كلّ ما لم يثبت من التردد النّصفي الصرف للمائة مساوياً لتلك الظُّنون الراجحة زيادة أو نقيصة.

وهذا الترجيح المستقر بينهم لم يكن مبنياً على أساس الصدق من كلّ منهم وبالنحو الثابت لا غيره من المقاصد المخالفة أخلاقياً، بناءً على كون كل عقل فيهم غير مستقل أو المستقل الذي يمضيه الشارع على ما مر من الكلام عن التحسين والتقبيح العقليين.

فإن كان هذا التعامل تعاملاً عبادياً بين العبد وبين ربه جل وعلا فعلى العبد أن يثبت صدقة وإخلاصه في قراره الظَّنّي الذي رجحه على نسبة الخمسين بالمائة ولو بنسبة ضئيلة من الترجيح فضلاً عن النسبة الأكثر ، لأن وراءه حساب ومسؤولية في عالم التدين والإلتزام الشرعي العبادي.

ولعله إن ثبت التمرد والمراوغة من هذا العبد في هذا القرار ليصل الأمر بعد الانكشاف إلى العقاب الأخروي أو عقوبة الدارين حالة دقة الحساب يوم المآب.

ومن صغريات أمثلة هذا ما سبق ذكره من أمور الشكوك الصحيحة التّسعة والباطلة التي لا تخفي أحكام كل منها على المتفقه في دينة، فضلاً عن المتتبع الوارد

ص: 204

إذا استقر الشَّك في كل منهما في ذهن المكلّف، سواء المقلّد أو المجتهد.

لكن إذا حصل هذا المرجح الظنّي المذكور في مثل الزيادة أو النقيصة وسبب تزلزلاً في الشك السابق منها وجب تقديم هذا المرجّح الوارد وانتفت العلاجيات التي استنبطها الفقهاء من الأدلة التي بوب أمورها أصوليوهم للشكوك التسعة الصحيحة وسقطت الإعادة أو القضاء لبقية الشكوك غير الصحيحة، وتحول الحكم الشرعي لصالح ما يعطيه هذا الترجح من إكمال الزيادة أو إضافة الباقي لما نقص واعتماداً على الإقرار به أيضاً إن حصل ولو ظاهراً بناءً على قاعدة (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز)(1)

وهذه القاعدة مع سبق ادعاء المرجح المذكور من كون المكلف یرید أن يعرف حكمه الشرعي وبالأخص لو كان مرجّحه الظَّن من الضعيف المجرد من القرينة وإن اطمئن بكونه أقوى من الشك.

وقد تنفع الفقيه ليعرف مقلده بحكم المسألة أو ليحرج نفسه ليخوض غمار عملياته الاستنباطية بدقة أكثر أن كانت هناك مسببات للتدقيق موضوعاً وحكماً، وبالأخص لو انكشف ما يخالف الجد الادعائي الذي يحوج إلى الإعادة أو القضاء.

ومع هذا وذلك في الظاهر والواقع لابد أن يقدم المرجح الظنّي على حالة كل شك مضاد غير مستقر وإن كان هذا التعامل تعاملاً بين العباد أنفسهم كالدائن والمدين تحت ظل شرع الله تعالى، ومن ذلك أمور الحقوق والواجبات إذا ادعى المرجح الظنّي على الشك.

فلابد أن يتفاوت أمر وجوب التصديق من عدمه تفاوت مراتب الظَّن المتعددة

ص: 205


1- غوالي اللئالي ج 1، ص 223 ، 104 ، وج 2، ص 257، ح ،5، وج3، ص 442، ح5، وسائل الشيعة ج ،16، ص 110 ، أبواب الاقرار باب ،3، ح ،2، مستدرك الوسائل ج 16 ص31، كتاب الإقرار.

وأهمها التي تلتصق بالعلم متاخمة، وهي التي لابد أن تعتمد على الإمارات المثبتة لكل حق مغتصب وعلى ضوء القضاء الشرعي مع الخصومة.

وإن أصر مدعي المرجح الظنّي الضعيف على التعرف على حكمه عنه للنظر فيه فلابد من أن يكون حل المسألة أيضاً عن طريق القضاء الشرعي إن حالف قضيته الحظ في أن تكون البينة الشرعية مثلاً تامة له ومن صالحه كمدعي.

وقد دلّت أدلة كثيرة تبين الفرق بين حق الله العبادي وحق الناس، ومن ذلك الرواية الشريفة المذكورة في مناسبة سابقة (الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر، فالشرك بالله، قال الله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(1)، وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً) (2).

أقول: فإنَّ الشَّاهد المناسب في الرواية حول التعامل العبادي بين العبد وبين الله هو الفقرة الوسطى من الرواية، وهي (ظلم العبد لنفسه)، ويظهر التكليف الشرعي فيها نفس ادّعاء مدعي الترجيح ونفس إقرار العقلاء.

وما يظهره الفقيه من الإفتاء المناسب للمقام مع عدم بعض التشديدات لتسهيل هداية الناس ولم تكن من عقوبة إلا بعد الاعتراف بالذنب والمعصية مع بسط اليد الشرعية في استتباب النظام الإسلامي الشرعي في الدنيا.

وأما في الآخرة فقد يسهل الأمر أيضاً وكما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»(3) وختمت دنيا المكلّف عن الاستغفار والتوبة والأمانة.

وأما التعامل بين الناس أنفسهم فتعود إليه الفقرة الأخيرة، وهي مورد الحاجات

ص: 206


1- سورة النساء / آية 48.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 10 ص 33.
3- سورة هود / آية 114.

إلى التدقيقات إذا وصلت الأمور إلى القضاءيات حتى لو نجح جانب الترجيح الظني الإدعائي المجرد بكون القضية من صالحه بمثل إقامته البينة لكون البينة هي المقوية للضعف.

وكذا لو نجح جانب الترجيح الإنكاري عن مثل هذا المستوى من الظَّن الضعيف بسبب تجرده بكون القضية من صالحه لعدم وجود نية المدعي أو صحتها بسبب اليمين الشرعي المقابل، لكون المرجح الإنكاري إذا كان ضعيفا لابد أن يكون ذلك اليمين مقويا له.

بل لابد أن يخضع كل مرجّح ظنّي ضعيفاً كان أم قوياً - وحتى العلم الثابت للادعاء أو الإنكار دفاعاً عن الحق بين الاثنين - إلى اللوازم القضائية الشرعية عند الحاجة إليها.

فالخلاصة: لا مانع من أن يبنى من حيث المبدأ افتراضاً أو حقيقة على كل مرجّح ظنّي إذا كان من فصيلة الأمر الخامس في التعامل العبادي والتعامل بين العباد أنفسهم في قضاياهم في باب الزيادة أو النقيصة أو الوجود والعدم حتى لو كان الشَّك في أصل التكليف ثم جاء المرجح وازداد عليه، لمحاولة إثبات كون الشك قبيل أنه في المكلف به.

أو كان الشك في نفس المكلف به ثم جاء المرجح الذاتي محاولاً إثبات ما يخالف اعتماداً على الفتوى في الحالة الأولى بعد التثبت موضوعاً وحكماً عن الدليل المناسب واعتماداً على كل ما يحقق الحق في الحالة الثانية، ومن أهم ما يوصل إليه هو الحل عن الطريق القضائي العادل، وسيأتي بعض ما ينفع من الكلام عن حالة الشَّك في أصل التكليف، والشك في المكلف به قريباً جداً في الأمر السادس حول خصوص (الشك).

ص: 207

السادس: حالة (الشَّك)

اشارة

لا شك بين العقلاء أنّ التّردد الصرف في كل شيء بين الوجود والعدم أو الزيادة والنقيصة وبتساوِ كامل عندهم دون أي ميل ولو قليلاً إلى أي جهة مما لا وزن له .

ولذلك فضلوا أو يفضّلون أي مرجّح، سواء كان الترجح للزيادة أو النقيصة، أو كان للوجود أو للعدم وإن فرقوا بين الراجح (ترجيح القلة) عن الراجح (ترجيح القوة)، وجعلوا كلاً منهما إذا كان مصداقه مما دون العلم الحقيقي ظناً.

إلا أن الأصوليين منهم ومعهم فقهاءهم وعلى لسان الأئمة علیهم السلام في باب الاستصحاب بمثل قولهم (لا تنقض اليقين بالشك)(1)، وقول أمير المؤمنين "سلام الله عليه" (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فإنَّ الشَّك لا ينقض اليقين)(2).

وغيرهما، حينما أدخلوا العلم اليقيني في مقامه وجعلوه مقياساً لعدم اعتبار أي شك في قباله، ومن ذلك باب قاعدة اليقين إذا تقدم الشك ثم تلاه اليقين بما دلّت عليه رواياته.

ومن ذلك ما تدل عليه رواية (وَ لَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وَ إِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر)(3)، وهو ما معناها عدم الرضا بما لم يلحق بالعلم واليقين من الظُّنون المعتبرة، وإن شدد بسببها بعض على بعض المعتبرات فأغلقوا على أنفسهم ما فتحه الشرع للجميع من الإرفاقيات، وإن ثبت الانسداد بنحوه الإجمالي، ولولاها لما شاع بين

ص: 208


1- الكافي 3 : 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ح 3 ، وسائل الشيعة 8 : 216، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 10 3
2- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 619 ، الوسائل: ج 1 ص 175، باب1 ح 6.
3- وسائل الشيعة - طبعة آل البيت - ج1، باب من نواقض الوضوء، ح1 ص 245.

الفقهاء (ما خفي على فقيه طريق).

بل شرك عقلاء المتشرعة وفقهاء القضية وأصوليوهم - رعاية للإنصاف العلمي والعملي الشرعي العادل - ما دون العلم اليقيني به من الظنيات القوية الأخرى، حسب متابعاتهم الإرفاقية لأمور القرائن المقوية للظنيات حتى الضعيفة منها، مما لا ينبغي البخس بحقه منها على ما أثبتته أدلة ذلك المتعدّدة في مجالاتها المختلفة التي سيأتي شيء ولو مختصراً منها عند استعراض بعض مصاديقها حتى مما انطبقت عليه الروايتان الشريفتان السابقتان ونحوهما عندما يتّسع معنى العلم واليقين بضم الأدلة الآتية إليها إلى كل ظن قوى ولو كان صناعياً معتبراً شرعاً، لغلبته على أي شك من الشكوك.

ومما يأكد ما قالوه من المقولة المشهورة بلسان العموم والإطلاق وهي المشابهة لما مضى ونتيجة للقاعدة الاستصحابية (أبق ما كان على ما كان) لكون الشك لا يقاوم أي نسبة من الظنون المعتبرة، بل حتى ما ذكرناه قريباً من الكلام عن الخامس وهو حول خصوص الظَّن الضعيف ومنه خبر الواحد الضعيف وإن صح سنده وحول معنى الظَّن الاختلاجي المجرد من القرينة في مثل أمور الشكوك التسعة الصحيحة وغيرها مما يغاير أحكام الصحيحة بما يتحقق به البطلان وما يتعلق بأشواط الطَّواف والسعي الصحيحة منها والباطلة من أمور الحج والعمرة لو لم تثبت الشكوك وحدها فغلبها الظَّن من كل ما يتعلق بحقوق ما بين العبد وربه تعالى.

وكذا بما يتعلق بحقوق الناس فيما بينهم لارتباطها ببعض الأدلة والقرائن ولو من جهات أخرى غير حالة الظَّن المجرد في نفسه على ما أوضحنا شيئاً منه هناك، حتّى جعل الشك الصرف غير فعال لوحده على ما سيجيء توضيحه في ثبوت وإثبات أي تكليف إذا كان الشاك شاكاً في أصل التكليف دون غير ذلك، لكون غير المكلف يرجح أن يتبع المكلف في أحكامه لتربيته وتعليمه.

ص: 209

ولذلك صار مدعاة للقول بالبراءة عند الاستصحابيين ومن أمضى لهم ذلك من ذوي السيرة العقلائية لو لم يكن مرجّح مقبول على أحد طرفيه لسبب مثل ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك)(1)، وما ورد عنه أيضاً علیه السلام في حديث قال: (كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك)(2)، وما ورد عنه أيضاً علیه السلام أنه قال: (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر)(3) وغيره من بعض أخبار تفيد أصالة الحليّة والطَّهارة، دون أن تكون مستفادة من خصوص العلم اليقيني.

ولذلك يُعد إدّعاء التكليف عن مثل هذه الشكوك بلا مبرر بمنزلة الإفتاء بغير علم أو ما يقوم مقامه ومصير صاحبه إلى جهنم وبئس المصير، لأهمية العلم الحقيقي والعلم الاعتباري الشرعي لو لم يتيسر الأول في قبال الشكوك على ما أشرنا وما سيتضح من الذكر لبعض المدارك في سبيله، وليتبع المكلف في حرمة هذا الإدعاء كل من بلغ مكلفا بعد ذلك أيضاً.

بل قد يشارك حالة السُّك هذه حالة الظَّن الضعيف كذلك في وجوب إخضاعهما للعلم وبقية المعتبرات الظَّنية بمثل أهلة شهر الصوم لقول الإمام علیه السلام (اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية)(4) لعدم الداعي لاعتبار مثل هذا الظَّن المفقود منه جانب ما يطمئن به في تثبيت أول الشهر وأخره لفريضة الصّيام بها إلهيّاً.

إلا أن يراد من الرواية الشريفة الأولى والثانية ما خالف علم الحرمة والقذارة

ص: 210


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 ص 313.
2- الوسائل ج 2 أبواب النجاسات الباب 37 الحديث 4.
3- الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق الحديث 5.
4- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 10 ص 256 باب 3 ح 13 و 19.

اللتين فيها، وهما الحليّة والطَّهارة.

فإنَّ المستصحبين وذوي السيرة العقلائية لا يبعد عندهم إمكانية تقبل ما يوافق طبيعة أساسيات التكوين والتشريع حتى إذا جاءا من حالة الشك الصرف، مع كون الحلية والطَّهارة من توابع أحكام الشرع المرتبطة ببعض التكاليف الأخرى.

ومن النصف الآخر المطابق الباقي ما يراد من الرواية والشك الصرف هو عدم العلم و (قول لا أدري نصف العلم) فلا خير إذن لأن يكون جزء السبب للفيض الإلهي بالحلية والطَّهارة للأشياء تسهيلاً والجزء الآخر هو المقتضي والكاشف وهو الرواية.

وهذا المعنى الذي نذكره يصلح أن يكون في مقابل ما ذكرناه في طليعة المبحث وعن أنَّ الشَّك الصرف مما لا وزن له في مقابل اليقين وملحقاته وقد مرت بعض مصاديقه، وهذا الآخر أيضاً مما له مصاديقه التي يأتي بعضها.

وأما حال الشك في المكلف به إذا أدت إلى لزوم تطبيق قاعدة الاشتغال أو الأصل العملي المقرر للشَّاك في مقام العمل الذي أطلق على الشك لأجل العمل بالعلم الإجمالي إذا كان المبتلى عند وقوع الشَّك للتعرف على حكمه بالغاً عاقلاً، ويتبعه في ذلك كل صبي متعلم ربّي على سلوك المكلفين أو يُراد أن يُربِّى على هذا من قبل أولياءه.

فإنها الأقرب إلى معقولية ما يراد من الرواية الشريفة من معنيي الحليّة والطَّهارة المرتبطتين بأحكام الشرع عن طريق الشك الصرف الباقي على حاله، ولو أن يراد منه معنى كونه نصف العلم لتكون الرواية الشريفة حاوية للنصف الباقي.

فأمثلة ما قد مر ذكره - من أمور الشكوك التسعة الصحيحة في الصلاة وما عدا الصحيحة فيها من الباطلة وشكوك طواف الحج والعمرة وطواف النساء وأشواط السعي الصحيحة منها والباطلة عند استقرار الشكوك ولم يداخل كلاً منها أي ظن

ص: 211

اختلاجي بناء على كونها جزء السبب، وعلى كونه كاشف سرها وهو عموم وإطلاق العلم الحقيقي وما يدخل فيهما من ملحقاته من باقي المعتبرات الظنية المراعية لشؤون الشكوك المستقرة التي منها ما يتناسب مع الصحة، ومنها غير ذلك، وإن كانت بعض تلك المعتبرات ظنية اقتضاءية - هو الجزء المكمّل.

وعليه لابد أن تتبع هذه الأمور مداركها، ففي الصحة عند اقتضاءها، وفي البطلان عنده اقتضاءه.

ويلحق بذلك أمور لم نتعرض لها وهي مستحقة للذكر، كالتردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وكل شك بعد الفراغ، وما تأدي إليه قاعدة التجاوز في مثل الصَّلاة دون الوضوء، وكثرة الشك المأديّة إلى البناء على الأكثر، وقاعدة الصحة.

وللسعي في أداء البحث حقه ولو مختصراً عن الأمثلة الإضافية ليكون التفصيل في مباحثنا الفقهية نقول:-

(محاولة الاحتجاج والتعبد بما دون العلم مما مضى ولو بالتسنيد الإجمالي له)

مما يعين في الأخذ بما دون العلم من العلمي وبقية المعتبرات الظنية - ومنها أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن والضعيفة المأخوذ بها عن الوثوق والمجبورة بعمل الأصحاب، وحتى الأقل لو توحدت في الميدان المحتاج إلى الاستدلال به عند بعض حالات الانسداد بسبب بعض الكوارث وما أحدثه الإعداء من المحو والدس والتلفيق - ما ذكروه من البواقي.

فلنبين ما يستحق الذكر الآن منه مختصراً، على أمل التفصيل له فيما بعد ومن الأدلة الأربعة عن حجية خبر الواحد ،وغيره عند الكلام الآتي عن المدرك اللفظي الثاني من من السنة الشريفة من هذا القسم الثاني للجزء الثاني من كتابنا هذا

ص: 212

(المساعي).

على أن يكون هذا الاختصار لما يراد من الأدلة الأربعة بشيء أو حتى بعض شيء من تسنيدات ما لم نذكره من القضايا المألوفة التي عرضناها سابقاً كالاختلاجات الظنية الواقعة في أمور العبادات والواقعة في قضايا الناس في مقابل الشكوك الواقعية فيها لو لم تثبت وما يتعلق بما فرقنا فيه بين الشك في أصل التكليف وبين ما هو مكلف به.

فأول الأدلة الأربعة هو ما تعارفوا على الاستدلال به من أتقن الآراء ولو ظاهراً، لجواز الأخذ بخبر الواحد المحفوف بالقرينة الموثقة، سواء كان الواحد عدلاً أو غيره، ولو كقدر متيقن به لدى أغلب الأصوليين لو لم يتيسر الأقوى المعارض، وهو قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ» (1) ، وهو كذلك لو لم يكن الأقوى موافقاً ، والأقل مأيداً كذلك، لأن ذلك قد يحصل، ولو حصل لكان في غاية ما يتقن من الأدلة.

وثاني الأدلة، وهي أقوال الأئمة المعصومين علیهم السلام مع سيدة النساء علیهاالسلام الناطقين عن كل ما يريده الله جل وعلا ونبيه صلی الله علیه و اله من الأمة أن تطيعه به بواسطة هؤلاء الخلفاء العظماء من السنّة قولاً و فعلاً و تقريراً.

حيث أرشدوا بها حواريهم في مختلف ظروفهم - وعن الكتب المتعارفة الأربعة الأولى، وكذاك الأربعة التي بعدها، ومعها بعض النبويات الموافقة أو المشهورة بين جميع المسلمين - لأن يرجعوا الناس إلى الثّقاة من الرواة وبألسنة شتّى كالسؤال منهم كعن أن (فلاناً ثقة) حتّى تؤخذ عنه معالم الدِّين، أم لا؟ وغير ذلك من الأساليب.

ص: 213


1- سورة الحجرات / آية 6.

لكون المقياس بيد الأئمة علیهم السلام وبيد خواص الخواص من حواريهم بعدهم مع تنقيح الطرق ببعض ما اتفق عليه من قواعد الرجال والدراية بين الجميع.

والروايات التوجيهية في هذا الباب عديدة تعرف عن كل ما يراد من الآية الكريمة الماضية من الإجابة على الأسئلة والبيان المباشر من العطاء تدريساً وغيره.

وثالث الأدلة: وهو المسبب بأن البحث لابد أن يكون من مسائل علم الأصول مطلقاً، بل من أهمها على أي اعتبار مر الكلام فيه في الجزء الأول عن طريق العقل تصوراً وتصديقاً من غير المستقل، بل حتى المستقل لو لم يردع الشرع عنه، وإن قدمنا العقل على الإجماع الآتي في الذكر.

سواء قلنا بأنه ليس له موضوع أبداً كما هو الواضح الذي لا يخفى على أهل التدقيق.

أو أنَّ موضوعه كل ما يصح أن يقع في طريق الاعتذار، وهو كذلك، لأن الخبر الواحد الموثوق به من أهم ما يقع في طريق الاعتذار.

أو أنَّ موضوعه ذوات الأدلة الأربعة، لكون هذا الخبر متحداً مع أهل السنة عند المتشرعة أو بوصف الدليلية، بناءً على أنَّ من أخذها بوصف الحجية أراد بها الاقتضاء به لا الفعلية، فيكون من العوارض لا محالة، والتصرف الأصولي عقلائي.

ورابع الأدلة أنه ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة الأولى من الأخبار في الجملة وهي الموصوفة بما يوثق ويطمئن به منها من حيث المبدأ، لا بخصوص أعالي السند منها، وإن كانت هي الأهم من غيرها، أو أنها قليلة في بابها كما في المتواترات، ولا بأدانيها المهجورة وإن صحت أسانيدها، أو كانت كذلك للتقية، لكونها مقيدة بقيودها الخاصة بها.

وبهذا التحديد الذي عرضناه وبالإضافة منا يمكن الأخذ بفحوى هذا الادعاء، وبالأخص لو كان نفس الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف هو التحفة في المدعى بعد النبي صلی الله علیه و اله، أو أن

ص: 214

المحتج به من ذلک هو ما أحرز الاتفاق عليه لدى الجميع مما مر وما طابق قواعد الرّجال والدراية بما مر تحديده.

فهذا الخبر المعروف بخبر الواحد - سواء كان متواتراً أو مستفيضاً أو محفوفاً ببعض القرائن المسببة للقطع المقبول به أو حتى الضعيف المجبور بعمل الأصحاب أو ما تواتر معنويًا لا لفظياً مع غيره من المعتبرات الواردة عن الأئمة علیهم السلام-

يُعد مما دون العلم والعلمي بهذه الأدلة الأربعة من الظنون المعتبرة، ومعه كل ما ساواه أو يساويه من الظنون المعتبرة على ما يجيء الآن من التسنيدات التي وعدنا بذكرها عما مضى ذكره في عنوان البحث الرئيسي.

بل حتى الأقل من غير المحفوف إن أتيح إليه بتوحده مع الحاجة إليه عند بعض الانسدادات الشديدة حتى لو أخذت من الكتب الأربعة الأخيرة وتوابعها لكون المنبع متقارب جداً بينها وبين الأربعة الأولى.

لكن لا بمجال تزامنها مع ما يساويها تماماً في المعارضة الضدية، لئلا يتساقط الإثنان، فضلاً عما لو وجد الأقوى من هذا الخبر لسقوط الأضعف عن الاحتجاج به مما أسلفنا بيانه.

ثمّ إنَّ الموجز الذي ذكرناه عن الأدلة الأربعة لم نأت به في المقام ليوضح كلَّ الأمور، بل لفتح باب لبداية التسنيد الموعود به في مثل الظَّن الاختلاجي الواقع أثناء الشُّكوك التسعة غير المستقرة وأمثالها من أمور ما بين العبد وربه، وكذا غيرها من الشُّكوك الباطلة غير المستقرة، ولو بذكر دليل ظني معتبر واحد جامع عن جميعها لتحويل التفصيل عن الباقي إلى بحوثنا الفقهية المفصلة.

فللاختصار نقول:

لو حصل تردد بين الزيادة والنقصان من غير تركيز، حيث ظن الشاك لصالح زيادة الركعة أو لصالح نقصانها فإنَّ الظَّن لو ركز فيه على الرجحان الذي لأحد

ص: 215

الجانبين دون الآخر فإنه يأخذ مكان اليقين (العلم) ، وإن كان هذا الظَّن المختلج في نفسه أضعف حتى من العلمي لو لم يكن اليقين آخذاً محلاً من الاثنين معاً، وهو ما يرجع الأمر إلى اعتراء نفس الشك السابق.

حيث عرف عن جماعة عدم الخلاف في ذلك، وعن بعض المصادر نسبة عدم هذا الخلاف بين الأصحاب، وعن ظاهر كتاب الخلاف أو صريحه الإجماع عليه، بل في كتاب الرياض حكاية الإجماع عن جماعة.

ويشهد به جملة من الروايات كصحيح عبد الرحمن بن سيابة والبقباق عن أبي عبد الله علیه السلام "إذا لم تدر ثلاثاً صليت أو أربعاً، ووقع رأيك على الثلاث، فابن على الثلاث، وإن وقع رأيك على الأربع، فسلّم وانصرف، وإن اعتدل وهمك، ،فانصرف وصل ركعتين وأنت جالس)(1)

وأقول : إن لفظة (رأيك) المكرر في عبارة الإمام علیه السلام في ظاهرها بين أهل المحاورة الكلامية وفي تعارفهم لم تختص بالعلم أو اليقين أو حتى القطع المأخوذ به، بل تشمل العلمي الاجتهادي المفسر بحالة التأمل في الحالة المبتلى بها والعلمي الداخل في الظن المعتبر أو الظن الاختلاجي الذي نوهنا عنه في مصطلحنا الخاص له إذا ناسبه الدليل المقبول ولو بعدم ردع الشرع عنه.

وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله علیه السلام (إذا لم تدر اثنتين صليت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فتشهد وسلّم ثم صل ركعتين وأربع سجدات تقرأ فيهما بأم القرآن ثم تشهد وسلّم فإن كنت إنما صليت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع وإن كنت صليت أربعاً كانتا هاتان نافلة.

ص: 216


1- الكافي 3: 353 الصلاة ب 40 ح 7 التهذيب :2 184 / 733، الوسائل 8: 211 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 7 ح1.

وإن كنت لا تدري ثلاثاً صليت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فسلّم ثمّ صل ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأم الكتاب، وإن ذهب وهمك إلى الثلاث فقم فصل الركعة الرابعة ولا تسجد سجدتي السهو فإن ذهب وهمك إلى الأربع فتشهد وسلّم ثم اسجد سجدتي السهو)(1)

و أقول: قوله علیه السلام (وهمك) المكرر في الصحيح قرينة دالة على أن الوهم بمثابة الظَّن القاضي لاعتباره بتقدمه على الشك غير الثابت وهو ما يوضح أن لفظ (رأيك) في الصحيح الماضي مطابق لما بيناه كذلك.

وقد يكون هذا المعنى مطابقاً لقول بعض الصادقين علیهم السلام في تقسيم الناس (أن النَّاس أربعة: رجل يعلم ويعلم أنه يعلم فذاك مرشد عالم فاتبعوه، ورجل يعلم ولا يعلم أنه يعلم فذاك غافل فأيقظوه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم فذاك أحمق فاجتنبوه)(2)، في القسم الثاني منهم.

إلا أنَّ الوهم عند المنطقيين يعتبر أدنى من مستوى الشك المفسر بالجهل وهو ما يطابق المرجوح لا الراجح.

ولكن المنطق في الدقيات الفلسفية يختلف عن العرفيات الشرعية المطابقة للتسهيل والإرفاق، وإن صح عند كل من العلمين بما يتفاوت من الوجهين، كتطابق المنطق مع الشرع إذا انسجم مع الأصول المعدة كمنطق للفقه والشريعة.

فلا مشاحة في الاصطلاح عندهما بما يقبل من انطباق المشترك اللفظي على الوهم الخاضع إفراز كل من معنييهما عن الآخر إلى القرينة المعينة المراد الخاصة به

ص: 217


1- الكافي 3: 353 الصلاة ب 40 ح 7 ، التهذيب :2 184 / 733، الوسائل 8: 211 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 7 ح1.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 ص 195 عن غوالي اللئالي ج 4 ص 74 - 79

دون الآخر، وقرائن مداركنا الإرفاقية الشرعية هي التي نرجع إليها في بحوثنا الخاصة دون المعنى الآخر.

وقد يقترب القسم الثالث من الرواية أيضاً من معنى (الوهم) المأدي إلى المعنى الراجح، لمشابهته لمعنى (الجهل البسيط) الداعي إلى حاجة الجاهل إلى تنبيهه لأن يتعلم رأفة به، لأن بقاءه على جهله غفلة بالغة منه في بابها، وقد يصل بعض حالاته إلى الحرمة لو كان جهله مضراً به لو كانت إزالته مقدوراً عليها، إلا أن الوهم فی صحيح الحلبي ظاهر فيمن يدري

والدراية قد تصل إلى أكثر من معنى، ومنه ما قد يستوجب التصحيح للأخطاء، ولذلك جعلت المقولة الأخلاقية في بعض الأخبار (رحم الله من أهدى إلي عيوبي) نافعة في أهمية تنبيه الغافلين لتصحيح أخطائهم ومثبتة لتوسعة رقعة مصاديق الأحكام الشرعية المخفية.

وبهذا النحو من المقرب يحصل نوع آخر من الاشتراك، وبالأخص إن صح أن يقال للجاهل البسيط أنه المتمادي في عدم تعلمه، إذ قد يكون معذوراً بعدم قدرته لو لم يكن عن حماقة.

وبذلك يصح القسمان الأوسطان شاهدين على مصداقية الوهمية الصحيحة المذكورة في صحيح الحلبي

وأما الوهم بمعناه المرجوح عند المنطقيين وكذا الجهل المركب في رواية التقسيم الأخيرة فسيأتي الكلام عنهما تحت العنوان الأخير وهو السابع في كلام خاص عنهما بعد الفراغ من الكلام عن التسنيدات الباقية بإذن الله تعالى.

ونقول أيضاً: للاستدلال على ما يبنى عليه من الزيادة أو النقيصة بسبب الظَّن الذي سميناه بالاختلاجي الواقع في مواضع الشكوك الثمانية الباطلة المعروفة فقهياً وأولها الثنائيات، ونقتصر عليها للاختصار ليكون تفصيل الباقي في الفقهيات

ص: 218

المفصلة.

فإن من أدلة وقوعه في مثل صلاة الصبح والقصر ونحوهما في إحدى ركعتيهما لو لم يكن الشك مستقراً في كل منها بعد الاعتبارات المهمة المتعدّدة على الأخذ به عند فقهاءنا علیهم السلام

وقولهم بوجوب الإعادة عند استقرار الشك شهادة مثل موثق سماعة عن السهو في صلاة الغداة فقال علیه السلام (إذا لم تدر واحدة صليت أم ثنتين فأعد الصلاة من أولها ، والجمعة أيضاً إذا سها فيها الإمام فعليه أن يعيد الصلاة، لأنها ركعتان، والمغرب إذا سها فيها، فلم يدر كم ركعة صلى فعليه أن يعيد الصلاة)(1)، وغيره.

أقول: علماً بأنَّ هذه الرواية جمعت بين الظَّن وأثره والبطلان وأثره، إذ كل له حکمه، لعدم تصريحه بخصوص كلمة (الشك) لو تصرفنا بمفهوم الرواية المخالف، لأنتجت حالة الدّراية الظنية بالزيادة أو النقيصة والبقاء على المظنون، بناء على أن الدراية بالركعة أو الركعتين هو بمعنى العلم أو العلمي أو ما دونهما من المعتبرات الظنية المتغلبة ومنها الاختلاجي علی حالات الشك الصرف الباطلة، ففي الشك لابد من البطلان و في الظَّن لابد من الصحة.

وأما النموذج المختصر لما يسند ولو بعضاً من الشكوك التسعة الصحيحة المشار إليها عند استقرارها كالأول وهو الشَّك بين الاثنين والثلاث بعد إكمال السجدتين -

فالمشهور البناء على الأكثر ثم يؤتي بالرابعة، وبعد إنهاءها يؤتى بركعة من قيام أو ركعتين من جلوس احتياطاً مع أحوطية القيام على الجلوس.

واستدل على هذا بالإجماع واعتبرت قرائن مطمئنة على هذا بين فقهاءنا مع

ص: 219


1- التهذيب :2 179 / 720 ، الإستبصار 1 366 / 1394 ، الوسائل 8: 195 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 2 ح8.

الجمع بين موثق عمار المنادي بالبناء على الأكثر وهو قول الإمام علیه السلام (يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين متى شككت فخذ بالأكثر فإذا سلمت فأتم ما ظننت أنك نقصت)(1)، وموثقته الأخرى (كل ما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر قال: فإذا انصرفت فأتم ما ظننت أنك نقصت)(2)

وبين مصحح زرارة عن أحدهما علیهماالسلام قلت له (رجل لا يدري اثنين صلى أم ثلاثا ؟ قال علیه السلام "إذا دخل الشَّك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الأخرى - ولا شيء عليه - ويسلّم")(3)

وبين رواية العلاء قلت لأبي عبد الله علیه السلام (رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة قال علیه السلام يبني على اليقين فإذا فرغ تشهد وقام قائماً فصلى بركعة بفاتحة الكتاب)(4).

أقول: لقرينة موثق عمار وقرينة إضافة صلاة الركعة من قيام في هذه الرواية يكون (اليقين) مرتبطاً بالثالثة بعد التشهد للثانية، وتكون الصلاة من قيام بعد إتمام الركعة الرابعة حسب المفترض للشكوك الصحيحة التسعة بكونها خاصة في الرباعيات أساساً لا غير.

ولأجل وجود ما قد يستدعي شيئاً - أو بعض شيء من التأمل بين سلفنا الصالح علیه السلام- قالوا بعد تفضيل ركعة الاحتياط القيامية على الركعتين من جلوس بأحوطية الجمع بينهما، بل حتى باستحباب الإعادة لأصل هذه الصلاة المشكوك فيها وهو في محله لحسنه على كل حال.

ص: 220


1- الوسائل ج8 ص 212 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 8ح 1.
2- الوسائل ج8 ص 212 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 8 ح4.
3- الوسائل ج8 ص 214 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب9 ح1.
4- الوسائل ج 8 ص 215 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 9 ح2، قرب الإسناد: 16 وفيه (بفاتحة القرآن).

ولنكتف بهذا الشك الأول وإرجاء الباقي إلى المفصلات الفقهية، وحتّى أمور ما يتعلق بالشكوك الصحيحة والباطلة من طوافات الحج والعمرة والسعي والنساء لو جاء ظن عادي إلى طرف من أطراف ما يبقي الصحيح على صحته أو بقي الشك الصحيح مستقراً على حالته من دون ظن أو الباطل أيضاً مستقراً على حالته من دون ذلك الظن.

فإن داعي الاختصار لصالح مقام الأصول يدعونا إلى أن محل الإشباع والاستيفاء لهذه الأمور هو الفقهيات المفصلة فقط لكون الإشارات التي مرت قبل ذلك كافية.

و أما ما يتعلق في حاجة ما سبق عما بين الناس أنفسهم من الحقوق والواجبات عند وقوع الظنون والشكوك وإلى حد ما قد يقع من المشاكل -

فلم نجد حاجة إلى التوسع بتسنيدات إضافية على ما أوردناه وما نضيفه إلى الفقهيات المفصلة في باب الإجتهاد الآتي أو رجوع العامي إلى مقلده أو الدخول في قضايا محكمة القضاء العادل بما لا داعي إلى الإطالة فيه أكثر مما يناسب المقام مع العناية بالفرق بين الشك في أصل التكليف وبين المكلّف به.

وأما بتسنيد ما وعدنا بشيء ولو مختصراً عنه وهو دوران الأمر بين الأقل أو الأكثر الارتباطين.

فإنه عن طريق العقل الاقتضائي والفطرة السليمة يمكن الاستنتاج من حالة الشَّك في المكلف به عن طريق الشكل الأول البديهي الإنتاج بثبوت حكم البقاء على الأقل دون الأكثر ، بل و البراءة عما زاد.

وصورة الشكل هكذا أن (الحجة لم تتم بالنسبة إلى الأكثر، وكلما لم تتم الحجة بالنّسبة إليه يكون من مجاري البراءة) فيكون الأكثر بالنتيجة - بعد حذف المتكرر - من مجاري البراءة).

ص: 221

ورضا الشَّرع بهذا القرار الموافق للأصول العملية المقررة للشَّاك في مقام العمل الذي من حالاتها ما يناسب الإرفاق بحال الأمة بعد التشديد عليها بالتكاليف التي قد تكون زائدة وإن استحبّت إضافتها احتياطاً ترجيحاً لقاعدة حسن الإحسان وقبح الظلم تمسكاً بآياتهما الإرشادية لاقتضاء حصر الإشتغال الواجب في الأقل وعدم المانع عن القول بعدم الوجوب له في الأكثر بسبب الشك.

وإن قيل بترجيح جانب الاحتياط على أساس الوجوب دون الاستحباب ترجيحاً لجانب الإشتغال، والإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ومنه الأكثر ؟

فإنه يجاب: بأن الإشتغال اليقيني بالنسبة إلى الأقل مسلم، وبالنسبة إلى الأكثر مشكوك به، فيرجع فيه إلى البراءة، والاحتياط الوجوبي الإجتهادي مشكل.

وإن قيل أيضاً بأنَّ الأقل والأكثر إن لوحظا بحد الأقلية والأكثرية يكونان من المتباينين، وقد علم وجوب الاحتياط فيهما في محل ذلك المجال؟

فإنه يجاب بأنه لا وجه لملاحظتهما كذلك، بل تكون خلاف المتعارف، لأنَّ الأقل بحسب الأنظار العرفية ملحوظ باللا شرطية فيجتمع مع الأكثر.

لا أن يلحظ بحد الأقلية حتى يباينها، ولا يجتمع ذلك الأكثر معها وبارتباط الأقل بالأكثر بمقدار الأقل يبقى الزائد وهو المشكوك المشكل.

وأما حالة تسنيد كل شك بعد الفراغ مما علمت مصاديقه في الفقهيات وكونها في بابها كقاعدة لها أدلتها بين الفقهاء والأصوليين وشبيهها قاعدة التجاوز -

فقد اختلف العلماء حولهما، فقال بعض عنهما بأنهما من القواعد التعبدية المحضة.

وقال آخرون بأنهما من القواعد العقلائية التي كشف عنها الشارع المقدس برضاه بها عن آياته أو رواياته الإرشادية ولو للعلقة الإجمالية الثابتة بين العقل والشرع، كما لبعض قواعد أخرى لها هذه العلاقة.

ص: 222

والرأي الأخير هو المفضل على سابقه على ما سيأتي تفصيله عند الكلام عن القواعد آخر أجزاء هذا الكتاب.

ومجمله كون الاثنين من صغريات أصالة عدم السهو والخطأ والغفلة والبقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج الوجود، وذلك كله مما استقر عليه بناء العقلاء.

وعليه يكون كل ما ورد من الشرع تقريراً لذلك دون أن يكون تعبداً محضاً، على ما سيجيء قريباً، بل بعض الأدلة الكاشفة وإن أمكن تصحيح التعبد المحض بسببها بناء عليه من جهة إطلاق بعضها لكن لا دائماً .

ثم أنهم اختلفوا فيهما بكونهما قاعدتين مختلفتين؟ أم هما من صغريات كبرى واحدة؟

والاختلاف بحيثية لحاظ أثناء العمل لصالح جانب قاعدة التجاوز؟ أو حيثية لحاظ ما بعد الفراغ لصالح قاعدة الفراغ والمقبول به هو الأخير؟

لإطلاق ما يبرهن على القاعدة الواحدة الكبرى الجامعة للحيثيتين معاً من مثل قول أبي جعفر علیه السلام (كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو)(1) وقول أبي عبد الله علیه السلام (كل ما مضى من صلاتك وطهورك وذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه)(2)، وهو الشامل للقاعدتين معاً، سواء من جهة أصالة عدم السهو والغفلة والخطأ الواضح بما مر التعليل له، أو بناءً على كونهما واحداً كبروياً تعبدياً محضاً، ولو بمساعدة قاعدة الصحة الآتية الشاملة لهما ولغيرهما وصحة دخولهما في عموم وإطلاق قوله تعالى «وَ لا تَبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»(3)

ص: 223


1- الوسائل ج 8 ص 237/ أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 23ح 3.
2- الوسائل ج 1 ص 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 6
3- سورة محمد / آية 33

وأما قوله علیه السلام (إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره وشككت فشكك ليس بشيء)(1) فإنما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضاً كجريانها بعد الفراغ منه وليس في مقام بيان تشريع قاعدتين مختلفتين.

وهناك تفصيلات لا داعي إلى الإطالة فيها لمجالاتها الخاصة بها.

وبهذا يكون الشَّك له حظ في الاقتضاء فإن كانت الأدلة مقتضياً فالشَّك من حظه عدم المانع.

وأما تسنيد كثير الشك ووجد من تحصل عنده الكثرة بغير مألوفية أن يبني على الأكثر أنه مما تنطبق عليه أدلة إطلاقات بعض القواعد المعمول بها كالفراغ والتجاوز وقاعدة الصحة.

وهي التي قد لا تمنع من أن تكون كاشفة عن رضا الشرع باتخاذ قرار العقلاء الإرتكازي ببنائهم حالة هذه الكثرة على المضي بمثل الصلاة والبناء على الكثرة.

ومع ذلك وردت روايات تخص المورد نقتصر للاختصار على شيء منها كمصحح زرارة وأبي بصير الوارد في كثير الشك قالا: قلنا له علیه السلام:-

(الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟

قال: يعيد

قلنا له: فإنه يكثر عليه ذلك كلّما أعاد شك؟

قال: يمضي في شكه، ثم قال: "لا تعودوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإنَّ الشَّيطان خبيث يعتاد لما عود، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك.

قال زرارة ثم قال: إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلى

ص: 224


1- الوسائل ج8 ص 237 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب23 ح1.

أحدكم)(1)

ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال: (إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك، فإنه يوشك أن يدعك إنما هو من الشيطان)(2).

ومن مجموع هذه الروايات وغيرها تولدت قاعدة (لا شك لكثير الشك) في بعض الحالات.

وأما بالنسبة إلى قوله علیه السلام (إذا شككت فابن على الأكثر فإذا فرغت وسلمت فأتم ما ظننت إنك نقصت فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذا شيء وإن ذكرت إنك قد نقصت كان ما صليت تمام صلاتك)(3) حيث يضيقه بالنسبة إلى خوض الشكوك المتعارفة، وهي الصحيحة المحددة، دون الكثيرة المرادة من رواية (الكثرة) وغيرهما.

فعلى كلا التقديرين من الأخذ ببناء العقلاء وأدلة ما ورد من الروايات- لا منافات من صدق المقتضي وعدم المانع المرتبط بمن يكثر عنده الشك رفقا به من لدن الشريعة السهلة السمحة.

وأما تسنيد قاعدة الصحة المشيّدة أركانها بأمور منها قوله تعالى «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم»(4) أي الذي منه إساءة الظن بأعمال المؤمنين أو حتى عموم المسلمين الذين لم يحرز منهم المعاداة المسبب لبطلان أعمالهم

ص: 225


1- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 188 ، الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 ص 358 .
2- الوسائل: ج 5 ص 329 باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصَّلاة، ح2
3- الوسائل: ج 8 : ص 213 باب 3 (7910453).
4- سورة الحجرات / آية 12.

ومنها قوله تعالى «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليسر ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسر»(1) ولدعم الشك المصحوب بالتعود على حمل المسلمين فيما بينهم على الصحة، للتشجيع على جمع شملهم وتماسكهم وتراحمهم أمام عدو الجميع.

ومنها أخلاقيات الأخبار المستفيضة الجامعة للشمل على نسق الهدي الواحد كما عن أمير المؤمنين علیه السلام (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً)(2).

وغيره من كل ما له وفيه من النصائح الوافرة كثيراً في تحسين أمور المعاشرات الاجتماعية التي كادت أن لا تكون على ما يرام بسبب الأعداء خارجاً وداخلاً لولا هذه النصائح الشريفة.

ومنها الإجماع: ومنه إجماع المسلمين في الجملة وسيرة النبي صلی الله علیه و اله وخلفائه الأئمة المعصومين علیهم السلام مع الخلق مطلقاً وهو ما سبب توسع ارتباط المسلمين بأهل الإيمان كثيراً حتى آمن الكثير منهم في طول التأريخ وعرضه بعد صبر النبي صلی الله علیه و اله وآله علیهم السلام من شدائد الأعداء عليهم بالولاية والبراءة.

ومنها العقل ومنه بناء العقلاء على عدم المبادرة إلى أي حكم بالفساد عند الشك فيه، بل لا يقيدون بهذا الشك مطلقاً، بل صارت للشك توأمية مع الصحة في سيرة دائمة بين المسلمين إلا ما استشنته الرواية الشريفة الماضية.

وعلى هذا الأساس عرفت القاعدة في أمور القضاء والدعاوي (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

ومن هنا بدأت معقولية كون قاعدة الصحة أن لها مساساً بإمكان انسجامها مع

ص: 226


1- سورة البقرة / آية 185
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 362.

المقتضي - وهي الأركان الأربعة المذكورة - وعدم المانع، وهو توأمة الشك الإلتزامي المستمر للصحة بين المسلمين غير الخارجين عن قاعدة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

إلا أن هناك أمور قابلة للتوسع يأتي تفصيلها عند الكلام عن القواعد المفصلة.

وهناك أمور قد يكون فيها لبعض الشكوك حظاً تسهيلينياً من جانب العقل والشَّرع، ليكون لها شأنية عدم المانع لما يقتضيه مقتضى التسهيل كأمورنا التي مرت، أمسكنا عن التفكير فيها ترجيحاً للاختصار.

السابع: (الوهم المرجوح وجهل الحماقة وما دونها)

مر كلامنا عن الشك المنسجم مع قرار الشرع الشرعي أو الاقتضائي الإمضائي من قبله والذي مثابته ما يناسب كونه نصف العلم أيضاً، وهو ما يتناسب مع قول (لا أدري)، وبما قد لا يمنع من أن يكون للاقتضاء بمقدار عدم المانع كالذي مرت مصاديقه من مثل الشكوك التسعة الصحيحة والباطلة الثمانية أيضاً إذا التزم بتصحيحها عن طريق الإعادة على طبق مداركها وبعض القواعد التي ذكرنا شيئاً عن مختصراتها، وعلى أمل التفصيل لها أو لبعضها فيما بعد.

وذكرنا أيضاً شيئاً عن الشك الصرف وبنحو الإشارة أو الاختصار الكثير المغاير للشك الماضي، وهو الذي مستواه أن يتطابق مع عدم العلم مطلقاً على ما يراه المنطقيون، والذي يشبهه أو ما يكون الأدون منه على الأكثر عندهم فيما يعدونه في طبقات المدركات (الوهم المرجوح ) المعاكس ل- (الوهم الراجح) سابق الذكر الذي مرت بعض مصاديقه المعتد بها شرعيا في الروايات تعبداً ، أو الكاشفة عن رضا الشرع في باب الاقتضاء.

و مصاديق هذا النوع الثاني من الشك أو الإيهام الشكي الذي قد يوقع كثيراً

ص: 227

بعض المغفلين أو من يراد إيذاءهم من سوء قصد أو تصرفات بعض أعدائهم ضدهم في شراك الإيهامات الشيطانية -

نريد أن نخص بالذكر بعض الشيء منها حول هذا النوع الإيهامي لا عن أساس هذا الشك بمعناه الثاني، وإن كان في تشابه بينهما، لإكتفاءنا سابقاً بما مر ولو مختصراً.

ومنها ما مرَّ من الشكوك الماضية الثّمانية إذا أصرّ الشَّاك على عدم الإعادة توهماً أو كان بإغراء إيهامي من دعاة السوء.

ومنها الوسواسيات المنهي عن الإصرار على البقاء عليها، وإن حاول العقل والشرع علاجهما بعدم الاكتراث بها كبعض مصاديق قطع القطاع.

ومنها محاولة أبي بكر إيهام مولاتنا سيدة النساء المعصومة فاطمة الزهراء علیهاالسلام التي لا تخفى عليها - بل حتى على الأقل منها من خيار الصحابة - حقائق الفقهيات وطرقها في قضية فدك والعوالي وكونهما ميراثاً أو نحلة وحال كونها صاحبة يد عليهما في حياة أبيها النبي صلی الله علیه و اله بما لا يخفى، وهي خير من كانت مدعومة ب- (قاعدة اليد)، ثم أغتصبا منها بعد وفاته صلی الله علیه و آله كما اغتصبت الخلافة المباشرة لأمير المؤمنين علیه السلام عند مؤامرة السقيفة.

حيث ادعى الخليفة الأول في إيهامه الشكّي - المرجوح لا محالة - بأن النبي صلی الله علیه و اله قال عند مطالبتها أمام المسلمين بحقوقها الثابتة (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)(1)

لأنَّ من الموهمات الموقعة في المغالطة المفضوحة - لأمثال بعض غير أهل العصمة كالزهراء علیهاالسلام العالمة بكل ما يخصها ويخص غيرها وعرفه المؤمنون من خيار الصحابة - أن كل ما تركه والدها النبي صلی الله علیه و آله بعد وفاته ومنها ما بيد ابنته الوحيدة، سواء

ص: 228


1- مسند أحمد بن حنبل 463/2

الميراث المعلومة آياته ومنها ما ورثه الأنبياء لأبناءهم أو النحلة المعلومة رواياتها - قد كانت صدقات

بينما الصدقات - إن صحت الرواية ولم تكن ملفقة بإضافة (ما تركناه صدقة) وقبل أن يكون مدعيها شاهداً عادلاً وانضم إليه فيها عادل آخر - هي المخزونة في بيت المال وليس بيد الزهراء علیهاالسلام شيء منها ، وليس لها علاقة به كما كان مفصلاً عند أبيها صلی الله علیه و آله وعند الهاشميين.

إضافة إلى أن الخليفة الأول أراد أن يجعل من هذه الرواية مجالاً لدعوى أنَّ الذي كان بيدها بعد اغتصابه منها وإن كان من مختصاتها هي وأبناءها يُعد وأبناءها يُعد من الصدقات.

وهذه دعوى ثانية عليه إثباتها.

ولو قبلنا هذه الرواية مع ما فيها من النواقص والنواقض بانتظار أن يحكم أمرها من قبل الخصم من خصوص جهتها النحوية بمثل (ما تركناه صدقة) مفعولاً به لعبارة (لا نورث).

فإنه لا يضر الزهراء علیهاالسلام- فيما كان بيدها وما كان لها من الحق الثابت في المواريث الشرعية - إضافة معصيته اغتصاب ما كان لها وبيدها من ذلك.

ولأن النبي صلی الله علیه و اله كيف ينفي توريثه لما لا يملكه كما أشرنا آنفاً عنه وعن الهاشميين، لكون الصدقات في أساسها لخصوص عوام الفقراء والمساكين، وهو ما لا يمكن أن ينفي الاستحقاقات الأخرى.

وبناء على دعوى مشروعية الاغتصاب من صاحبة اليد المقواة بقاعدتها الثابتة على أساس ولاية من نُصب من قبل السقيفة فإنها منفية بعدم المشروعية بالولاية العظمى الثابتة يوم الغدير ومن مضامينها العادلة (قاعدة اليد).

وإن زعزعت ولاية السقيفة عملياً قرار التوريث الإلهي العام والخاص لا عقائدياً وشرعيّاً وحرمت الزهراء علیهاالسلام من التوريث الذي هو بعض حقوقها بما قد

ص: 229

جرأ ابنة الخليفة الأول أن تستعمل فوضى ولاية أبيها الموضوعة بالتدبير الليلي بما جعلت نفسها هي صاحبه اليد على الكل في الميراث، في حين أنها ليس لها منه إلا التسع من الثمن ومن السقوف والعروش دون الأرض، ولعدم إنجاب الذرية من قبلها لتتصرف أو بقاءها في الأرض بسببها بين زوجات النبي التسعة، وكل الباقي لابد أن لا يكون إلا للزهراء علیهاالسلام الوحيدة.

حتى تجاوزت في هذه الفوضى على بقية ضرائرها، وقد تصرفت بما يتنافى ورواية أبيها الخليفة الأول المضادة لحق الزهراء علیهاالسلام الثابت في كل الباقي أرضاً وغيرها.

فأمرت بدفن أبيها وفسحت المجال لدفن الخليفة الثاني في بيت رسول الله صلی الله علیه و اله

ولهذا قال عبد الله بن العباس المعروف بحبر الأمة مخاطباً إياها :

تجملت تبغلت *** ولو عشت تفيلت

لك التّسع من الثَّمن *** وبالكل تملكت(1)

وأما الشَّك الخالي من الإبهام وإن كان صرفاً لو حصل عند المؤمنين من أهل الاعتقاد والتقيد الشرعي بالموالاة لأهل بيت العصمة علیهم السلام المظلومين والبراءة من أعدائهم مع أتباعهم من كل متعلّم على سبيل نجاة -

فلابد من أن يكون تقيدهم ب- (قاعدة اليد) وتطبيقها على أساس كونها مرتبطة بالاقتضاء المنكشف موافقته للشرع، وكون الشك العالق بذهن الشاك الموالي والمتعلّم على سبيل نجاة لابد أن يكون شكه منقلباً إلى ما ذكرناه من حال اتصافه بعدم المانع المكمّل للاقتضاء.

ص: 230


1- الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 ص 19، دلائل الصدق ج 4 ص 131، بحار الأنوار - المجلسي - ج 44 ص 154.

(جهل الحماقة)

وأما عن (جهل الحماقة) في سابع المدركات الذهنية من بحثنا عن موارد الحجة فلم تذهب تلك الحجّة البالغة في قيامها على صاحبها كبقية دركات المدركات من ذوي الشُّعور بمسؤولية التكليف لهم وعليهم بينهم وبين الله، وبينهم وبين الناس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، سواء بمستوى الدلائل الصريحة الشرعية نصوصاً وظواهر أو مقتضيات مختومة بعدم الموانع.

لكنها في هذا المقام السابع قد تظهر جلية لصاحبها في عافية إن ذهبت كدورتها عن نفسه بسبب المهذبات النفسية الأخلاقية القاسية، أو حتّى لو كانت ظاهراً مستحيلة ،الإنقلاع، فبمثل الهداية الإلهية الصانعة للمعجزات وكما قال تعالى «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(1)

أو أذهبت تلك الحماقة بمختلف أساليب وعظ الواعظين وكانت لوثتها منحصرة في زاوية خاصة عرفها أذكياؤهم فتجنبوها وهيمنوا على بقية الزوايا في وعظهم للمبتلى بها ولو بنحو من التخفيف فحصلت الهداية ولو نسبياً ولو في خصوص البواقي، وهو حتماً خير من العدم.

بل حتى لو لم يسيطر على أهل الحماقة على عادة الحمقى في انغلاقهم على ما هم عليه

فإنهم لم يخرجوا عن طور مجمل مسئولياتهم والشعور بها على الأقل، ولو بتحملهم مرارة عقوبات المعاصي، إلا أن ينصاعوا، ولعلها مشتركة مع الآخرين في هذا الإجمال على اختلاف القرائن وتبقى التفاصيل أو بعضها مما لا تنسجم معها الحماقة ولها علاقة بحق الله المضيع أو حق الناس المغتصب.

ص: 231


1- سورة القصص / آية 56

فيمكن تحقيقه عن طريق سلطان الشرع المبسوط اليد فتوائياً أو ولائياً خاصاً أو شبه عام أو قضائياً.

وبتبين أنه من أهل العلم بمسؤوليته بطريقة وأخرى في أداء ماله أو ما عليه من حق الله تعالى والناس أو كونه من أهل الجهل المفروض عليه أن يتعلم أمور ما هو مكلف به وإن لم تذهب الحماقة عنه إجمالاً أو تفصيلاً كما أشرنا أو لم يقتدر على إذهابها من قبل أحد المبتلون بها فالمسؤولية ،واحدة إلا أن الاختلاف بين الإجمال والتفصيل المفسرين بقوانين عدالة الشريعة.

والنصائح الكثيرة التي تدعو إلى رجحان الابتعاد عن أصحابها كالرواية الماضية الواردة عن أمير المؤمنين علي علیه السلام في القسم الأخير من أقسامها الأربعة للناس وهو قوله (و رَجُلٌ لا یَعلَمُ ولا یَعلَمُ أنَّهُ لا یَعلَمُ فَذاکَ أحمَقٌ فَاجتَنِبوهُ)(1).

ولا يخلو من أن يكون بعض مضامين رواية أخرى شريفة له علیه السلام وهو قوله (قصم ظهري إثنان: عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، و جاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ ، فالجاهِلُ يَغُشُّ النّاسَ بِتَنَسُّكِهِ ، و العالِمُ يُغّرُهُم بتهتكه)(2) إذا كانت الحماقة في كليهما، أو منتزعة من كليهما لا في خصوص اطلاق كل من المعنيين.

وأصرح منه وصية أمير المؤمنين علیه السلام لولده الإمام الحسن علیه السلام (یَا بُنَیَّ إِیَّاکَ وَ مُصَادَقَهَ اَلْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ یُرِیدُ أَنْ یَنْفَعَکَ فَیَضُرَّکَ)(3)

وقال أبو الطيب المتنبي المستقي معلوماته من هذه الأقوال المأثورة:-

لكل داء دواء يستطب به *** إلا الحماقة أعيت من يداويها

وغير ذلك من الكثير

ص: 232


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 ص 195 عن غوالي اللئالي ج4 ص 74 - 79 .
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 ، ص 111 ، ح 25 .
3- نهج البلاغة - خطب الإمام علي علیه السلام- ج 4 ص11.

فإنها ليس معناها على تقدير اتصاف صاحبها بالعلم أو الجهل أن تكون المسؤولية مرفوعة عنهما ولو بالعلم الإجمالي المشترك بينه وبين الاعتياديين، لقيام تمام الحجة البالغة للعالم الملوث بالحماقة أو الجاهل كذلك أو عليه، ولو كان في واقعها شيء من هذا الإجمال، لاحتمال أن يكون نوع جهل الجاهل في واقعه من المرفوع عنه بعض حالاته بمثل الحديث النبوي المعروف بحديث الرفع في إحدى فقراته وهي قوله صلی الله علیه و آله (رفع عن أمتي........ ما لا يعلمون)(1)، أي ثقل التكليف الأولي الذي لم يقدر عليه، أو الثانوي إذا اقتدر على الأول دون رفع الحالتين معاً.

فلم تسقط عن الذين لم يعلموا - حسب الحديث - مسؤولية التعلم بمستوى حالة المكلفين جميعاً، سواء خضعوا للتعلم أو لم يخضعوا، أو اجتنب عنهم المعلّمون لحماقتهم، أو لم يجتنبوا لطيب ذواتهم الأخلاقية على ما بينا.

ولعل الوعظ بالتجنَّب عن الحمقى أنه كان لغرض أن لا يكون الحمقى معلمين - وإن اقتدروا مع سوء سلوكهم - لا كتعلمين كما أوضحته الرواية الأخيرة وكما وجهنا بما يمكن منا بيانه.

وأما فيما دون الحماقة من الجهل ومنه ما مر الكلام حوله من دركات المدركات السابقة وهو الجهل البسيط في قول الشاعر الآخر:-

قال حمار الحكيم توما *** لو أنصفوني لكنت أركب

لأني جاهل بسيط *** وصاحبي جاهل مركب

و هو الثالث في أقسام النَّاس الأربع والذي يصح أن يسمّى بحد تعبير الإمام الحسين علیه السلام أيضاً عن أقسام ثلاث للناس متضمنة للأقسام الأربعة الماضية بعد التأمل بقوله ( أو مُتَعَلِّمٌ عَلي سَبيلِ نَجاةٍ ) فهو الباقي مع جهله على مسئووليته المجملة

ص: 233


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 ص 369

المقرونة بالحجة الثابتة والمفصلة بالأدلة التي مرت الإشارة إليها حول كل المدركات له وعليه، وإن لم يفهم تفاصيلها وإلا لما كان باقياً على شعوره بها بسبب العلم الإجمالي الذي في ذهنه لتوسعته التفصيلية المفروضة عليه وخضوعه لتعلم ما هو الأوسع مهما كانت نسبة الحاجة إليه.

(الجاهل المقصر)

والقسم الباقي منه هنا هو الموصوف الشبيه بما سبق من معنى الحماقة بسبب الحالة الخاصة من التقصير لكنها مع خضوع صاحبها للتعلم أو الازدياد فيه - دون أن تكون ملوثة بداء الحماقة - سواء كان التقصير شديداً كالتقصير مع الالتفات بالتساهل في تطبيق بعض العبادات والمعاملات عن علم والتفات وبما يحوج إلى المزيد من الطاعات التدركية أداء أو قضاء مع حبه الكثير للعلم تعلماً وتعليماً ونحوهما بالعمل المكافح للمعصية إن كانت ثابتة.

أو كان خفيفاً كالتقصير مع عدم الالتفات كالتأهيليات فيما يجب أو بعضه بما هو الأقل مما سبق، وهذا الباقي وإن قلت المعصية عنده بسبب الغفلات أو بعضها عنده على أن لا تكون حالة عدم الالتفات بمعنى عدم المبالاة.

فلم يخرج كسابقه عن واجب تقييده بواجب مسؤوليته الثابتة من العدم إلى الوجود ومن الإجمال إلى التفصيل لاستمرار عدم المعذورية بعد اتضاح كل ما مضى ولو بنحو الإجمال في بعض الأمور، ليكون المطيع بتمام الإطاعة قابلاً يوماً لأن يتمسك به شوقاً إليه كيوم القيامة باعتذاره وندامته عن عدم تفكيره بثقل مسؤوليته التكليفية ،والتكلفية، إما بانتفاء موضوعها المحتمل عنه من عدمه، أو كون موضوع هذا الانتفاء مبنياً على عدم البلوغ والعقل أو عدم وصول الرسالة إليه إن كان بالغاً عاقلاً وغير ذلك، وهذا غير متحقق غالباً.

ص: 234

أو تقصيراً ثقيلاً أو خفيفاً مع الالتفات وإن لم يصاحب بعض الأوقات حالة العمل حتى النتيجة بالنحو الجدي كحالتي التّجري ذات النسبة المكروهة أو المحرمة كشرب ما في الكأس إذا كان خمرة بوجود سائل فيه.

إلا أن الحالة الأولى قابلة لاحتمال الخلاف مع التصميم على الخمرة، والثانية غير قابلة لهذا الاحتمال مع نفس التصميم وإلى حد مطابقة الواقع، ولكن لم تكن تلك المصادفة موجودة لا في الأولى ولا الثانية، ومع ذلك يجب الاستغفار للحالة الثانية، دون لزومه في الأولى إلا عرفانياً، وأدلة الحالتين متوفّرة في الفقه.

(الجاهل القاصر)

وأما ما دون هذا من الجهل فهو الأدنى في المسؤولية الذاتية عند المتابعة الدقيقة لشؤون صاحبها المسمى ب- (الجاهل القاصر) الشَّخصيَّة دون بعض تفاصيل قد تظهر بعض مسؤوليات أخرى تفرضها الأدلة الباحثة عن كل أحوال العباد، ومنها ما يخص الجاهل القاصر من المهد إلى اللحد على ما نحاوله من عرض مجملاته الآن.

فبداية قصور القاصر تظهر عادة منذ نعومة الأظفار، وإن كان الأطفال فطرياً إلهياً منذ أن يولدوا تُولد على شفاههم أيضاً أسئلة حائرة، للتعرف على كل أسرار الحياة عند عدم تنشئتهم تربوياً وبما ينسجم وقابلية الصبيان القابلة للنمو من جهة الذكاء الفطري بالقوة الكامنة فيهم، وإلى ما قد يفوق قابليات الكثير من العقلاء والبالغين الكمل عقلاً وذكاء وحافظة وفطنة ونحوها.

سواء صادفت بعد ذلك تربيتهم باعتناء ناجح تربية صالحة، أو حصل فيهم نبوغ ذاتي مفاجئ ومبكر على مستوى ذوى الفطرة السليمة والمواهب الإلهية التي قد تعين المسؤولين في التربية حتى على تحسين تربيه أنفسهم قبل أن يكونوا ناجحين بتربية أبناءهم والآخرين بما منح الله سبحانه الموهوبين من الأطفال ومنهم المميزين

ص: 235

من مختلف عطاءاته .

لأن هذا القصور الناتج من عدم التنشئة المذكورة كان من عدم تيسر مأهلات إزاحته مباشرة أو تسبيباً بواسطة عدم التربية قصوراً أيضاً أو تقصيراً، أو من ضعف المأهلات للنبوغ الذاتي على ما ستجيء الإشارة إلى شيء من أسبابه، أو من تعكر بل تلوث أجواء البيئة الاجتماعية، لو لم يصادف هذا عارض التخلف العقلي أو الجمود الإضافي الناشئ من بعض الأمراض المتولدة من سوء التغذية صحياً أو شرعياً أو عدم شرعية العلاقة الزوجية أو غيرها من أسباب الوراثيات.

وإن كان بعضها من نوع جمود وقتي قابل للحل، بل ولما هو فوق الحل الاعتيادي مما تظهره الإبداعات الإلهية الكامنة في ذوات بعض خيرة المخلوقات البشرية إن أحسنت وسيلتها المظهرة لخير النعم بما يحتسب أو بما لم يحتسب كما أشرنا.

ولقوله تعالى الصادر في حق عموم واطلاق البشر مبتدياً بذوي الفطرة السليمة من الأطفال بعد نبي الله آدم وزوجه وحتى غير السليمة التي تلت الأجيال السّليمة السابقة ممن أمكن من مقتضيات الحكمة الإلهية - بواسطة النبوات والرسالات وأعوانهم - السعي لإصلاح أمورهم ولو بالأقل من موارد الرضا والقبول، لتحصيل عجائب المأمول وهو قوله في باب التكوين «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1) وفي الأوسع كقوله «وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»(2) أي بتمام الخلقة السوية والمكرمة أيضاً بالعقل والدين.

بل إن في البقاء على الجهل إلى هذا الجمود خطورة بالغة لا يعلم مداها إلا الله

ص: 236


1- سورة التين / آية 4.
2- سورة الإسراء / آية 70

الذي اختار إيجاد خير المخلوقات من كتم الظُّلمة والعدم إلى حيز النور والوجود، فيخشى على الأبناء وسلالاتهم من إهمال آباءهم العقلاء والمتدينين لهم، ولئلاً يستمر إلى ما بعد البلوغ فبتفاقم الأخطار وبتضخم الشَّذوذ وينمو التوحش البهيمي بما لا يطاق والذي كان سابقاً في بقاع العالم غير المكتشفة وغير المزدانة بالحضارات الإلهية المعتدلة وغير المتميزة بحيث لا يختلف البشر عن غيره من البهائم عيشاً وسلوكاً.

ولعزة الله سبحانه ونعمة العقل والرسالات والإسلام ومعه الكمالات لابد أن يهتم الوعاة والدعاة وأولياء الأمور صغاراً وكباراً لإنقاذ أصحاب الجهل القصوري ما دام هذا الجهل محسوباً أنه أقل المستويات المكرّمة عند الله تعالى من حضيض أساس الجهل إلى أوج العلم والمعرفة العالية بالتكريم.

ولا يكون المهمل الذي لم يبتدئ أيام نمو الحضارات بتنمية قدرات الصغار وتوجيه الكبار بما يستحقون مسبباً جعل قصور الجميع كمستوى البهائم التي ما همها إلا علفها وتناسلها بينما البهائم ما أوجدت إلا لخدمة هذه الأنماط من البشر.

وبإهمال أهل العقول خدمة أنفسهم بما يميزهم عن غيرهم تكويناً وتشريعاً ببالغ الأسف بدأت التوحشات والتجاوزات من جديد على النواميس والقيم وبما قد يزيد حتى على توحشات الوحوش من البهائم في العهود الماضية بأضعاف مضاعفة.

و من أقلها الغزو والاستعباد وغيرهما على نحو التمييز الطبقي والعرفي واللوني والقومي وغيرها مع توسيط العقل الذكي الخاص في البشر والذي لابد أن يغمره العجب والغرابة زائداً على الوهم المشترك بين البشر والبهائم، مع إضافة شيطنة وحوش البشر المتزعمين على مستضعفيهم.

ولأجل أهمية تحرير فطرة الإسلام العزيز حينما اقتضت الحاجة الماسة إليها إلى إصلاح ما أفسده الجاهليون حتى باسترقاق قصرهم والقاصرين أو المستضعفين من

ص: 237

كبارهم وأساراهم عندما اضطر النبي صلی الله علیه و اله ورجاله وكذلك أمير المؤمنين علیه السلام إلى الدفاع الكفاحي عن بيضته أو الهجوم الدفاعي ونحوه، للخلاص من اعتداءات الجاهليين وآثار ترسبات الجاهلية المتراكمة القديمة المزروعة ضد الرسل الماضين -

من أن تختلط بنظرة - أهل الكفر القائمة على حماقة استعباد نظرائهم البشر- اللا إنسانية - للاستعباد نفسه من جديد أو الإبقاء عليه وزيادة ما دام كبار الكفار قادرين على تسلطهم على مستضعفيهم صغاراً وكباراً ولو بمجرد خضوعهم لهم وإن نشأ من خوف البطش بهم -

ظهر - من تراثيات الإسلام والإيمان العزيزين - ما تثلج به الصدور الكاشفة للإجابة عما قد يثار - من شبهات الأعداء الموهمة - بأن استرقاق العبيد ما كان في ظلّهما إلا لتحريرهم من ذل عبودية الجاهلية وبالتقيد بثقافة الإسلام والإيمان عقيدة وعملاً وتفقها في الدين، لا ما مر ذكره عن ظلاميات الجاهليين المطبقة.

كما عرف عن التزام الإمام زين العابدين علیه السلام المشهور بتحرير العبيد، لكونه حين اقتداره كان أول من التزم بتحرير أمثال هؤلاء بعد شراءهم وتثقيفهم واعتاقهم ليالي عيد الفطر تطوعاً وغيرها من المناسبات.

إضافة إلى أصل التشريع الإسلامي في جعل عتق الرقبة المؤمنة كفّارة واجبة لأمور عديدة منها على من أفطر يوماً عمداً من شهر رمضان، وعلى ما هو مفصل عن الباقي في محله الفقهي.

ولأجل تكريم الله سبحانه الإنسان بالعقل والدين ونحوهما كانت نظرة أمير المؤمنين علیه السلام المتحفة بالإنسانية الجامعة للترحاب الإنساني باحتضان كل إنسان وإن كان كافراً غير محارب.

لئلاً يبقى في عزلة الانطواء على جاهليته ومنها المشوبة بالقصور، ولتقريبه من أجواء الهداية ثم إليها بمثل قوله علیه السلام حول الرعية (إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ و إما نَظيرٌ لَكَ

ص: 238

في الخلق)(1)، ولو إلى بدايات شعوره بالمسؤولية مع ما عليه من التكامل بمشاطرته للآخرين.

وعليه إن بقي الجاهل القاصر لأي سبب على قصوره مع كونه مكلفاً وبقصوره إن لم يقدر على تعليم نفسه بنفسه حتى مع قربه من أهل العلم لإزاحته وإن كان هو في نفسه عالما بمستوى القوة دون الفعل كما مر لجموده.

فإنَّ المطلوب منه رفع قصوره بالفعل ليكون عالماً بالفعل فإن وافته المنية فهو بريء إن كان في طريق سعيه للترقي وكما قال تعالى «و ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»(2) وقال أيضاً «وَ مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبهم وَ أَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَ مَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(3) ولهذه المأشرات وغيرها عرف التمسك أصولياً ب- (قبح العقاب بلا بیان) لأنَّ كمال العقيدة الثَّابت هو عدم تقصير الوحي والسنة في البيان.

ولذلك أنه بنزول قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(4) أكثر من مرة - بعد التبليغ ببيعة يوم الغدير لأمير المؤمنين علیه السلام بتولي الأمور بعد النبي صلی الله علیه و آله و كذلك كل ما سبقه من النصوص الأخرى -

لم يعط أي مجال للتقصير في حق أي قاصر ملتفت أو غيره ممن بدت نحوه المأشّرات، ولو كان المقصر عن غير التفات لوجوب سهر الليالي للبقاء على الانتباه إلى موارد الحاجات المهمة ليأدي واجبه تجاه القصر إن بقوا أحياء لأنّ (ما لا يدرك كله لا يترك بعضه).

إذ على الدعاة - إن لم يقدر القاصر على نفع نفسه بنفسه - أداء كامل ما

ص: 239


1- نهج البلاغة - خطب الإمام علي علیه السلام - ج 3 ص 84 عهده علیه السلام لمالك الأشتر.
2- سورة الإسراء / آية 15
3- سورة الأنفال / آية 33
4- سورة المائدة / آية 3.

يقدرون عليه تجاهه، ولو كان وجوب هذا بنحو الواجب الكفائي، ولو بإزاحة بعض ما يقدرون عليه من قصوره خوفاً من خطورة كامل الترك - ولو ليكون القاصر مهتدياً من دعاته - ولو إلى مستوى درجة الجاهل المقصر.

الذي إذا علم وتمرد فإن عليه أن يتولى مهمات نفسه بالدنو من أهل العلم والفضيلة، لكسب رضا الله تعالى ودفع سخطه ولو في الجملة إن لم يتيسر لديه كل ما يحب أو ينبغي، كأن تدركه سعة رحمته لتخليص الإنسان المكرم من أن يشبه البهائم كما مرّ.

ثم السعي للأفضل شيئاً فشيئاً وإلى إحراز الفوز الاجتماعي بازدهار الأمم والتوفيق، لكامل النّعم وديمومتها لسعادة الدارين، كالأمة المتأخية الواحدة.

وعند ذلك وعن العقل والنقل يقدر المكلفون أن يثقفوا أنفسهم بأنفسهم إن أطاعوا الله سبحانه وشكروه كما أراد تحت ظل النبوة والولاية والبراءة بتقديم ما يقبل بين يديه من الاعتذار ولو في الجملة عن قاعدة الميسور وغيرها عن القصور والتقصير بلا التفات ومع الالتفات إضافة إلى ما قرر تجاه حق الله وحق الناس مع عقد الآمال على سعة رحمة المعبود جل وعلا.

(زبدة مخض ما مضى)

بعد أن دأب الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله وغيره من الأعلام قدس سره على ذكر القطع والظَّن والشك لتقييم الحجة في الأشياء المدركية شرعاً أو عقلاً أو كلاهما بما لا يحقق أو يصحح الاعتذار عند اتباع أحكامها عن العدم وما جرى بينهم من النقاش حول الثلاثة المذكورة ببقائها عليها أم تخليصها إلى اثنين وهما (القطع والشك).

لكون الظَّن إن كان معتبراً فهو تابع للأول، وإن كان غير ذلك فهو تابع للثاني.

ص: 240

وببقاءنا على الثلاثة - حينما ميزنا العلم عن القطع للمناقشة في الثاني - وبعد ذكرنا بعضاً من أسباب ذلك بنحو من الاختصار مع إضافتنا شيئاً آخر.

بل وأكثر مما يقترب من واقع مراد الشرع وما ينسجم معه من توصيلات العقل، ابتداءً من العلم المفسر ،باليقين، وحتى إلى ما دون الشَّك الممثل فيما سبق بحالة البناء على الأكثر في الشكوك التسعة المعروفة مع أدلتها فقهياً بصحتها.

وكذا حالة الكثرة في الشك المعروفة في أدلتها الفقهية من الوهم المحسوب له حسابه الإيجابي في بقاء التكليف على صاحبه مع بقاء الحجية له ما دامت الأدلة له مبقية لرجحان تنبيهه أو إلزامه بترك غفلته عن واقع أمره كما نصت عليه بعض الروايات.

والجهل العام ومنه البسيط المحتاج صاحبه إلى تعليم نفسه لتكاليفه مع أدلتها تفصيلاً أو إجمالاً لأداءها والالتزام بها.

ومنه التقصيري الذي تتعقبه التوبة والإنابة المرجعة صاحبه إلى واقع تكاليفه الثابتة بأدلتها.

وكذا القصوري وما يترتب عليه من إمكان تدارك أموره شخصياً إذا اهتدى إلى جادة صوابه أو إلى ما لا يأباه الباحث المتتبع الطموح في مساعيه الجدية لخدمة الآخرين عن طريق بعض الآثار العائدة لأجل العثور على الحجية بما مضى وما سيأتي بما قد يكون الأيسر للاعتذار من بعض أمور القطع المفيدة بالشروط الماضية وارتباط القطع كذلك بما يختلف عن المسألة الأصولية وقوانينها التي يفضلها الفقهاء المدققون لتعامله مع البت النفسي بما يستقر في ذهن القاطع، وبما قد لا يؤمن اعتيادياً من عدم الوقوع في الاشتباه، وعدم الضبط الارتجالي.

ولذلك قيدوه بأمور منها عدم ردع الشارع عن قراره.

ومع ذلك نقول - مماشاة لبعض ما تفضل به بعض الأعلام الأجلاء قدس سره ولما

ص: 241

نطمح أيضاً مع بعض الطامحين في التوسع المشار إليه لتلخيص ما مضى جمعاً بين الحقين -

أن القطع بعد تحقق ما يشترط في أمر مقبوليته الشرعية أعني خصوص ما يصح الاعتذار به بسبب عدم الردع المومى إليه أكثر من مرة، بل هو الأصل فيه أنه عدم عند العقلاء والذي أعلاه ما كان موافقاً للاطمئنان النفسي بين المجتهدين، سواء كان القطع حاصلاً في الحكم كقول القاطع (هذا واجب)، أو حاصلا في الموضوع كقوله (هذا ادعاء)، وإن لم يكن داخلا في المسائل الأصولية كما أشرنا، كما يصح الاعتذار أيضاً.

بلا فرق بينه وبين أن يتصور القاطع أن قطعه هذا يساوي العلم واليقين، كما فيما لو تحققت الشروط لا مطلقاً.

وبين الإمارات والأصول العملية الأربعة المقررة للشاك في مقام العمل من جهة هذا الاعتذار في الوظائف العملية والتي هي المناط في المسألة الأصولية بسبب الأدلة الإرشادية.

وكذا القواعد الفقهية المتبعة وإن كان بعض ما مضى - أو كثير منه أو حتى الأكثر كما في بعض حالات الانسداد المتفرقة وغيرها - مبنياً على ظنيات معتبره مما دون العلم واليقين.

وكذا العلمي وبمختلف المستويات الظنية المقبولة وكما مر توضحيه وإلى المرتبة السابعة الماضية إن حظي ببعضها بالقبول من الباحثين.

ولذلك جاء على نهجها الأمر في القطع حكماً وموضوعاً، إذ دليل الحكم المنطقي البديهي (هذا الشيء واجب للقطع به، وكلما وجب للقطع به يصح الاعتذار به فهذا يصح الاعتذار به).

فتصفو النتيجة كما مر بعد حذف المتكرر، وكذلك نظيره القياسي دليل

ص: 242

الموضوع الذي مثلنا له (بالماءية)(1)

وعليه يمكن جعل الحجية للقطع بشروطه المذكورة وإن كان عقلياً من الشارع بسبب عدم الردع من قبله موضحة بالملازمة العقلية البديهيّة في شكلها الأول.

كما يمكن سلبها الحاصل من الشرع في مقابله على خلاف القطع واليقين والعلمي وما دونه من بقية المعتبرات، سواء كان القطع قطعياً طريقياً أو موضوعياً إن بان الكشف للباحث.

وبهذا يتبين عدم الفرق بينه وبين الإمارات والأصول العملية والقواعد إذا إلتقت القرارات في النتيجة على شرط القيود لا مطلقا.

(هل مقومات الحجية المعتمدة خصوص العصمة أم الأقل كذلك بالاعتبار ومشكلة التخطئة والتصويب)

بناء على ما مر في موضوع (زبدة مخض ما مضى) وما سبقه من بعض التفاصيل الأخرى - ولمزيد من التأكيدات على أهمية ذكر مقام الحجة في الأصول والتوسع فيها لخدمة الاستدلالات الفقهية المتنوعة الراكنة إليها كذلك -

أنَّ مُما لا شك بأن لعصمة كل معصوم تكويناً وتشريعاً ذاتياً حقيقياً وبالنحو الذي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ»(2) على ما أثبته النص القرآني الكريم عن الوحي الإلهي المتعدد الجوانب فيما ذكرنا.

وغيره من آياته بتمام التأثيرات في إيجاد الحجيات التي يركن إليها لصالح العيش الرغيد إسلامياً وإيمانياً وإنسانياً ابتداءً من دنيا هذه الحياة، وانتهاء لصالح السعادة في

ص: 243


1- راجع ص 148
2- سورة فصلت / آية 42.

أخراها تحت ظل معاني الوحي العظمى.

وكذلك لصالح تطبيق رسالة النبي الخاتم صلی الله علیه و اله، وعن هذا الوحي المتمثل بكل

أنواع القدسيّة في السيرة النبوية الشريفة والمحفوظة بسيرة الأئمة والمعصومين الأطهار علیهم السلام و المسعدة في كلا الدارين للجن والإنس معاً لو استنير بها كما يرام «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٖۗ»(1)

كيف وقد عصم كل معصوم لتعتبر الحجة مقبولة عنه بعصمة صاحب الكمال المطلق تبارك وتعالى الذي هو نفسه الحجة البالغة التي لا يجوز التخلف عن الاعتقاد بها وبما يناسبها من صفات الجمال والجلال ضرورة.

ومنه سبحانه ومن إعجازاته هذه الأنوار المعجزة المنزلة عن عظيم معانيها بتحفة الألفاظ العربية التي أخبر عنها تعالى بقوله من بعض تحدياته العالية للمتطاولين الحمقى عليه «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»(2) مما هو الأكثر تحدياً كالآية الواحدة وغيره.

وقد سبق أن ذكرنا بعض الشيء مما يوضح هذه التحديات من الروايات التأريخية المتحدثة عن قيام بعض الأعداء الزنادقة أيام عهد أواسط الأئمة علیهم السلام بتصدياتهم المتحدّية لقرآننا المعجز الخالد بالمقابل للتحديات المذكورة في هذه الآية وغيرها في أحد بحوث الجزء الأول من الأصول مع إلماماتهم الشيطانية في كثير من أدبيات اللغة العربية القرشية والقادرة في نظرهم البائس على التشويش على صفاء أجواء معانيه الخالدة بنسق صياغات ألفاظها المعجزة مما كان من ذلك إلا إعرابهم

ص: 244


1- سورة الأنفال / آية 42
2- سورة الإسراء / آية 88

عن فشلهم المخزي.

كيف لا وقد شهد بحق عظمة نظم وأداء هذا الوحي في بدء الدعوة إلى الإسلام الأخصائيون بأدبيات ذلك الزمان الراقي حتّى من الأعداء المخضرمين ك (الوليد الجاهلي) بمفاجئته عند استماعه لبعض ،آياته بانبهاره الكثير بكمالاتها وغيره.

إضافة إلى من عرف تلك الكمالات من نفسه أو بواسطة من يعتمد عليه فيها، فخضع للإسلام أو تعمق في المعرفة فآمن.

إلى غير من كان باقياً على سطحيّته في إسلامه فتذكّر بقايا ما تخلف في ذاته من جاهلياته رعاية لمصالحة الكامنة في نفسه الأمارة فانقلب مع أمثاله على الأعقاب.

أو كان جاهليّاً معانداً - إلا أنه كان مطوقاً بسطوة الإسلام والإيمان المنتصرين والعطوفين الرؤوفين بكل مستضعف - لم يفهم حتى مصالح نفسه الدنيوية والأخروية على ما أظهرته آيات هذا الدستور الكريم.

فخضع من كان مطوقا بعز هذا الدين عندما انكشفت بعض الحقائق من التوعيات الهدّامة لكفره، والبناءة حتى لمجرد إسلامه.

وخضع من بقي معانداً فأسلم منافقاً خوف أن يقتل، وهذا الأخير وأمثاله المنقلبين على الأعقاب -

فرضي الإسلام العزيز - والمؤمن البريء وأهل الإيمان الكبير بالسكوت بعد اليأس من التأثيرات فيهم بإرجاعهم إلى دين الفطرة، وبما هو الأقرب إليها - عنهم ولو بتكثير السواد بهم.

لكن المعاناة العظمى منهم بقيت قائمة منذ وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله مع محاولاته الكثيرة منه أيام حياته الزاهرة، لتسليط أهل الإيمان الصادق كعلي علیه السلام والصفوة من أبناءه علیهم السلام والمؤمنين من حواريهم.

والتأكيد على وجوب الخضوع لهم من المؤمنين والمسلمين دوماً من بعدها

ص: 245

بصريح تلك الآيات وواضح الروايات وإلى يومنا هذا.

مع ما أوجبه الشرع علينا من الجهاديات لكل ما يحاط بنا من أشكال الابتلاءات وواجب الانتظار للإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف في موعده الحتمي والمثول بين يديه بتوخي رضاه عنا في دولته العظمى الآتية والأخذ بالثأر عن كل جريرة اقترفها الأعداء.

وأهم الحجج الخاصة بعد الآيات القرآنية الماضية المعصومة بما أشرنا إليها هو المعصوم والمصطفى المختار صلی الله علیه و اله صاحب هذه الرسالة المبعوث رحمة بالغة لهذه الأمة وقرآنها الناطق كما قال تعالى «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(1) وغيره.

ومن الحجج الخاصة والمعصومة أيضاً من بعد النبي صلی الله علیه و اله في الاستناد إليها خليفته بالحق وحافظ أسراره الإلهية وجامع القرآن على التنزيل والتأويل والقرآن الناطق بدلالة آية المباهلة مع نصارى نجران لكونه نفس رسول الله صلی الله علیه و اله بصريحها وهو أمير المؤمنين علي علیه السلام وكما مر، بما يفي ويكفي بالغرض نفسه وكما أثنى عليه النبي صلی الله علیه و اله في روايات كثيرة من جملتها قوله (عَلِیٌّ مَعَ القُرآنِ وَ القُرآنُ مَعَه)(2)، كيف وقد نزل ثلث القرآن في حقه علیه السلام

ومن الحجج المعصومة الخاصة التي يجب تصديقها والأخذ عنها المثال المعصوم علیه السلام لنصف المجتمع النسوي بالكلية، لزرع روح الإسلام والإيمان والإنسانية، أو ترسيخ هذه الأمور بعد أن كانت أو كان بعضها لتكون على النحو الكامل والعادل فاطمة الزهراء علیهاالسلام وأبناءها الأئمة الأحد عشر علیهم السلام مثل العصمة الربانية بعد أبيهم الوصي علیه السلام، لكونهم مع من سبق من رجال العصمة الذين هم النور الواحد في

ص: 246


1- سورة النجم / آية 3 -4 -5.
2- الصواعق المحرقة ص 76

الحديث الشريف الوارد (أَوَّلُنَا مُحَمَّدٌ وَ آخِرُنَا مُحَمَّدٌ وَأَوْسَطُنَا مُحَمَّدٌ بل كُلُنَا مُحَمَّد، فَلاَ تَفَرَّقُوا بَيْنَنَا)(1)

ووجه أهمية هذه الأمور الخاصة - في عصمتها لكونها المصاديق الأصيلة تحت ظل الإسلام وجميع تعاليمه -

هو كون جميع العباد على هذه المعمورة بجنهم وإنسهم لولاها - وفي جميع مجالات حياتهم عقيدة وعملاً أصولاً وفروعاً ركوناً واستناداً إليها في مجالات الاستدلال كلّها لحل مشكلاتها وتذليل صعاب معضلاتها ضرورية عقائدية وضرورية شرعية كبروية وفرعية صغروية -

لساخت بأهلها ولتسلط الباطل منها على الحق الواضح بأتفه شبهاته كي لا تكون النتيجة إلا الدمار دنيا وآخره.

ابتداءً في هذه الأهمية من عهد رسالة النبي محمد صلی الله علیه و اله وإلى نهاية عهد رسالته الطويلة المختومة بدولة الإمام الموعود من ذرية ابنته الزهراء علیهاالسلام.

فالكتاب الكريم الذي أفيضت عليه العصمة في جميع قراراته الدستورية بعد العصمة العظمى الله تعالى منه سبحانه مع إعجازاته المتنوعة المودعة فيه وحوله مع أميته في إنزاله وتنزيله داخلاً وخارجاً مع تواتره، سواء في الجمع الموجود أو جمع أمير المؤمنين علیه السلام ونزاهته من كل خلل أدبي في مسبوكاته ومتفرقاته ومحفوظيته إلى الآن وبعده، وكما أوضحنا ذلك ومما تيسر منه في الجزء الأول من أصولنا (المساعي).

ولضرورة الحاجة إليه في جميع المجالات بسبب مقطوعية أسانيده في نصوصه ومحكماته وكذلك غيرهما مما توضح منها من غيرها من بقية الآيات المرتبطة فيها أو من السنة معها بواسطة العترة علیهم السلام وكما أشارت له الآية الكريمة.

ص: 247


1- بحار الأنوار ج 25 ص 363 ح23

مع الحث الواجب على ملازمة مجموعه الشريف بكل ما في الكلمة من معنى من آية الاعتصام، سواء بوحده مع فهم مضامينه من قبل من خوطب بها كالنبي صلی الله علیه و آله وحفظها لفظا ومعنى من الأئمة علیهم السلام مع الزهراء علیهاالسلام، أو بالاستفادة من آثار هؤلاء الصفوة مع عدم فهم الآخرين من غير الصفوة منه وحده إلا بمعونتهم تفسيراً أو تأويلاً.

وكذا التمسك به مع خطورة التفرق عنه ولو بأدنى حالة من معاني ذلك، لئلاً يرجع إلى مصدر آخر غيره فقال تعالى «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَ لَا تَفَرَّقُوا»(1) بناءً على أنّ المراد من حبل الله تعالى الوارد في الآية هو كون الكتاب الوسيط بسماويّته اللفظية والمعنوية بينه وبين عباده بتكليف النبي المعصوم علیه السلام في كافة أموره بياناً وتبياناً تفسيراً وتأويلاً له بسنته مع بيان واقعيات آياته الإنزالية والتّنزيليّة المطابقة لأسباب النزول.

وكذلك بتوجيه خليفته ووصيه الإمام المعصوم علیه السلام الأول مع تصديات حليلته المعصومة المعربة عن فقاهتها العظمى وبعض من خزانة أسرارها الكبرى، وهي (الزهراء علیه السلام) في دفاعها - عن حقوقها التي اغتصبت - عن نفسها وعن أمثالها من نصف مجتمعنا أمام الخليفتين الأول والثاني وبمحضر جموع الأصحاب بخطبتها الشهيرة خلف الملائة من المسجد النبوي.

وتوظيف بقية الأئمة الهداة المعصومين علیهم السلام إلهيّاً خلفاً عن سلف، بمثل قيامهم وعلى أفضل وجه الحوارييهم وتلامذتهم ،وغيرهم بكشف غوامضه وبيان حقائقه الأخرى تفسيراً أو تأويلاً، للحجية المهمة الخاصة به مباشرة والمستحقة كاملة بإيضاحاتهم لأموره، لكونهم الصفوة المختارة لحمايته والذود عنه والتي نزل في

ص: 248


1- سورة آل عمران / آية 103.

حقها وحق عصمتها أيضاً بعد قوله تعالى «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ»(1) قوله تعالى «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(2)

فإنّ هذا الكتاب العظيم النازل وحياً لفظياً بمعانيه العظام في دنيا التكليف مع أعداء هؤلاء الصفوة بملازمته لتدبير أموره

بحيث لولاهم لما عرفت مقاصده بتشخيص السعادة أو الشقاوة دنيا وآخرة ومعهم كل من استفاد منهم وتأثر بهم حقاً - لا كل من هب ودب -

لابد أن يمثل حجية الكتاب معهم وبهم في آن واحد في نفسه وحجية السنة المعروفة في الأصول بكونهما الأهمين من مدارك التشريع الرئيسية الأربعة الشهيرة، لكونهم الصفوة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله في سنته - كما مر - وحلّهم لمعضلاتها إن وجدت قولا وفعلا وتقريرا

وأما الحجية الأصيلة للمدرك الثالث - من مدارك التشريع الأربعة المعروفة وهو الإجماع الإمامي اللبي الأول - فلن يكون حاوياً للأصالة المدركية إلا بانضمام الإمام المعصوم علیه السلام إلى المجمعين على ما بيناه في الكلام عنه في بداية هذا الجزء كما سبق.

وأما الحجية الأصيلة للمدرك الرابع من الأربعة المشهورة كذلك - وهو اللبي الثاني من مدركي اللبين المعروفين للمدارك - وهو العقل فلم تكن الأصالة فيها إلا مما تظهره نصوص الوحي والسنة ومحكمتاهما القطعية المبينة للعقل المستند إليه بأنه العقل الذي كان في مصاف عقول أهل العصمة علیهم السلام الذاتية - دون الاكتسابي-، من مثل النبي صلی الله علیه و اله وعقول بقية المعصومين الأربعة عشر علیهم السلام، التي هي الميزان الأبهر

ص: 249


1- سورة فصلت / آية 42.
2- سورة الأحزاب / آية 33

لأمور التحسين والتقبيح العقليين، دون ما يتفاوت منهما بحسب مدركات ذوي العقول الأدنى ببعض التفاوتات التي عند بعض المجتهدين، وإن كان فيهم من كان معصوماً بالعصمة الإكتسابية كما يظهر من لسان بعض الأئمة علیهم السلام عند توجيه بعض حواريهم لحل مشكلاتهم ومشكلات الآخرين على نهج المقاييس العقلائية المتبعة عندهم وبما يرضى الأئمة علیهم السلام عنهم بمضمون مثل تعبيرهم لهم في بعض الروايات من قولهم علیهم السلام (ما كان مألوفاً أو معروفاً عندكم) أو ما حوى منها الآراء المحمودة توجيهاً لذلك.

فإنّ الحالة الأخيرة وإن اعتبرت اجتهادياً على ما سيجيء الآن ذكرها إلا أن الحجية فيها ليست بالأصيلة، وإنما كانت اعتبارية بما قد يمضيه الإمام علیه السلام للخلص من مأموميه للاعتبار الذي يبرره له في الإمضاء.

وبهذا تكون حالة إفراز المعنى الأول عن هذا الثاني بواسطة القرينة المشخّصة له، وهو ما قد يدركه الفضلاء من المقامات المناسبة عما هو الأنسب من موارد الحاجة الوقتية.

ومن الحجج بالمرتبة الأدنى والمقواة بالاعتبار أيضاً بمزيد الحاجة إليها مع مساعدة الأدلة المتقنة عليها وبما يناسب مع هذه المرتبة عند البعد عن الإمام المعصوم علیه السلام مكاناً أو زماناً أو كلاهما للتعرف على الأحكام الإبتلائية كالاجتهاد أو التقليد إذا احتيج إلى أحدهما عند توفر المجتهد لنفسه، أو لنفسه وغيره من العوام المحتاجين، إذا ضمنت حجية هذا الاجتهاد بإجازة الإمام علیه السلام الخاصة والعامة كبعض الحواري المرموقين في علاقتهم المهمة مع الإمام علیه السلام، أو المجازين منه في حياتهم معه، أو في الغيبة الصغرى حينما توفر النواب الأربعة عند التشرف بالملاقات الخاصة الممكنة بالإمام علیه السلام، أو بنقلهم الأجوبة المشفّعة بالتواقيع المقدسة أو بالغيبة الكبرى عند توفر الفقهاء المجتهدين عند ديمومة الحاجة إليهم نصاً واقتضاء ملزماً من الَّذين حسم

ص: 250

أمرهم شرعاً في جواز الرجوع إليهم أو وجوبه في بعض المقامات.

فإن حجية هذا النمط تكون معتبرة أيضاً، لكن بالمرتبة الثانية فقط كما أشرنا ما دامت الحاجة ماسة إليها، وبما يمكن للمكلف حتى المقلد - بكسر اللام - في أعماله للمجتهد إذا كان عاميا مدركاً منهجه أن يستدل بنفسه لنفسه على حجية مشروعية المطاوعة للشرع بواسطة الفقيه إذا كان جامعاً للشرائط على ضوء الشكل المنطقي الأول البديهي في إنتاجه مع تسليم إحدى المقدمتين بعد حذف المتكرر مما مر شبيهه مكرّراً، كأن يقول في استدلاله (هذا ما أفتى به المفتي المجتهد، وكل ما أفتى به هذا المفتي هو واجب في حقي، فهذا الحكم واجب في حقي).

ومن الحجج بالمرتبة الأدنى وهي الاعتبارية كذلك - إضافة إلى ما مضى من استفادة المجتهدين المخولين من كل ما مضى عموماً وخصوصاً بعد اطلاعهم على کل مقدمات الاجتهاد إن أمكن أخذهم المباشر من الصفوة المعصومة علیهم السلام المذكورة أعلاه، عدا ما لو يقلّد المجتهد الكامل مجتهداً مثله في نفس ما اجتهد فيه أو بالوسائط المطمئن بها في الصدق والوثوق -

هو نقل روايات الاجتهاد عن أولئك الصفوة علیهم السلام، سواء الروايات العائدة إلى تفسير غوامض الآيات أو تأويل مجملاتها من ذوات الفقه العام والخاص أو الروايات المستقلة عن أمور السنة الشريفة الأخرى.

حيث أن تلك الروايات بعد الاطمئنان بصحة ورودها وصحة ما يراد منها - من مطابقة الأحكام منها لموضوعاتها -

تعد من حجج الاعتبار في نفسها، وفيها تم اجتهاد المجتهدين نوعاً به عنها إذا اجتمعت شرائط اجتهادهم في الأخذ من آرائهم، سواء كان نقل تلك الروايات عن رواة متعدّدين كالمتواترات اللفظية أو المعنوية فضلاً عن كليهما، وكذا المستفيضة التي تحقق جواز الأخذ بها، وكذا الآحاد المقرونة أو الضعيفة المجبورة بعمل الأصحاب.

ص: 251

ومن تلك الحجج البينة الشرعية أو الشاهد واليمين في باب الادعاء للبت بمشروعية حكم الحاكم الشرعي القضائي إذا لم يصطدم معه وبين يديه ما يوجب التأمل فيه، أو مجرد اليمين في باب الإنكار إن لم تتم وظيفة المدعي في ادعاءه لحسم النّزاعات اعتماداً على الأدلة.

ومن تلك ومن الحجج الشهادات الأربع بها في كتاب الله تعالى في باب اللعان بين الزوجين عند حصول ما يقتضيه شرعاً والمختوم بالخامسة باللعن للتفريق الشرعي الدائم بينهما كما قال تعالى «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَة اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ»(1)

ومن تلك الحجج إقامة الشهود العدول الأربع على المشاهدة التامة في المواقع المتفاوتة على حصول الزّنا بين الأجنبي والأجنبية بلا شبهة طرأت على ذلك، لإقامة الحد على كل منهما أو الرّجم على المتزوج منهما وحال نقصان الأربع، ولو يفرد من كل من شهد من الباقين اعتماداً على الأدلة القائمة على ذلك يحد من شهد بنقصان بحد الفرية.

ومن تلك الحجج قيام الفقيه الحاكم بنفسه على إجراء العقوبة الشرعية على مقترف الجريمة الخاصة إن شاهدها بنفسه حدا أو تعزيرا اعتمادا على قانون اللوث مع تمامية اعتباره شرعاً، لئلا يتسع الخرق النظامي العام الإسلامي على راقعه.

ومن تلك الحجج الظُّنون الخاصة التي نوهنا عن مصاديقها فيما سبق، وهي

ص: 252


1- سورة النور / آية 6 - 10

المعبر عنها بالعلميات.

ومن تلك الحجج إقرار العقلاء على أنفسهم بلا هزل أو سفه أو كذب أو مع وجود شبهة تدل عليه، فهو حجة عليه بسبب إقراره الجاد على ما دلت عليه أدلة ذلك.

ومن تلك الحجج جميع القواعد الشرعية المتفق على الأخذ بها والاستناد إليها بسبب متانة أدلتها.

إلى غير هذا من الأمور التي حققت فقهياً وأصولياً لأن يبنى عليها أن تكون حججاً يركن إليها في مقام الاستدلال على تثبيت كل شيء نحتاج إليه.

(قضية التخطئة والتصويب بين الإمامية وغيرهم)

فبعد أن ذكرنا فيما مضى من هذا البحث أكثر من مرة دعت إليه أنه يمكن الاحتجاج بنتيجة ما يصل إليه المجتهد الاصطلاحي من الأشياء عن الأدلة الصحيحة.

بل يصح البناء عليها سلباً أو إيجاباً لنفسه أو لنفسه ،وغيره ولو كانت بالمرتبة الأدنى من الحجّة الأصيلة التي في المعصومين علیهم السلام.

لأنهم علیهم السلام لا يعتري أقوالهم وأفعالهم وتقاريرهم خطأ أو اشتباه، حتى لو نطق الإمام الباقر علیه السلام ومن بعده الصادق علیه السلام مثلاً وهما متقاربان في عصرهما الشامل لهما بحكمين في أحدهما تفاوت عن الآخر، كما بين الواقعي والظاهري لمطابقة كل من حكميهما لحكمة الشرع كالتقية في ثانيهما أو الاضطرار المغاير للاختيار فيه، وما عداهما فإن الصواب في قولهما حاصل لا محالة.

أما اجتهاد هذا المجتهد المنتج للحجية فهو اعتباري، وبالأخص في أزمنتنا هذه التي تقل فيها الواقعيات وتكثر الظاهريات، وإن صادف في بعض هذه الظاهريات إن كان حاملاً بعض تلك الواقعيات بالنتيجة في علم الله، والتي قد تكثر أيضاً عن

ص: 253

طريقها التفاوتات النظرية بين شخص وآخر، وفي الأغلب الذين لم يكونوا من مستوى أهل العصمة، وعلى الأخص كثيراً الذين كانوا من المذاهب الأخرى.

ومع ذلك قال غير الإمامية - بل بعض غيرهم - بالتصويب.

بينما الإمامية - وتقديراً لما مضى ذكره عنهم أيضاً ولبحث موسع في بعض مألفاتنا - التزموا بالقول بالتخطئة.

وبما أنّ المعلومات الظاهرية والواقعيات - ومنها الفقهيات وهي عمدتنا في الأصول - بينهما عموم وخصوص من وجه.

إذ رب معلوم ظاهري مخالف للواقع، ورب واقع غير معلوم، وربما يتصادق الإثنان، كحكم واحد لدى المجتهد.

أما الصورة الأولى فلا يمكن البناء على طرفيها كمتساوين في حكميهما وهما مختلفان في نظر المجتهد.

وأما الثانية فكذلك.

وأما في صورة التصادق فلا معنى للتصويب، لعدم الإثنينية في البين، وإن بررّ العمل بالاثنين ،المتفاوتين كما مثلنا لذلك على فرض ورود مثل هذا بين الباقرين علیهماالسلام

فإنَّ ذلك التفاوت لو حصل من مثل مقامي الإمامين علیهم السلام فإنه لا مانع من العمل على طبق كل من الحكمين، لأن كل زمان ومكان وجهة له حكمهما الخاص بها، مع أن كلاً من الإمامين علیهم السلام حجة خاصة معصومة، كما أشرنا إلى أن من حكم التفاوت افتراق الأحكام الأولية عن الأحكام الثانوية كالتقية والاضطرار.

ومن أسباب القول بالتصويب كثرة الأدلة الظاهرية وعدم الانضباط الدقي في مجال تطبيق القواعد الأصولية أو السطحية في أسس بعضها أو الإنجرار إلى تيارات أهل الحداثة والتجديد بمثل التكثير من الاستدلال عن طريق القياسات

ص: 254

والإستحسانات المرفوضة والأخذ بالروايات المرفوضة، كاستناد المصوبة إلى رواية الأصحاب ك- (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)(1).

لعدم ثبوت هذا الحديث أو لعدم إمكان انتفاعهم منه على افتراض الأخذ به بناءً على صحته عندهم لأن حالة الأخذ به إن كانت فلن تكون إلا في مقام الصلاة جماعة، وصلاة الجماعة لن تصح عند الجميع في آن واحد خلف إمامين، فضلا عن الأكثر ، لقرينة ما لا تعطيه لفظة (أي) التي لا يراد منها في الحديث إلا الإمام الواحد.

ص: 255


1- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص 144 و 145): موضوع. ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91) قال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول. ورواه ابن حزم في (الأحكام) (6 / 82) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا : الحارث بن غصين عن الأعمش، عن أبي سفيان عن (جابر) مرفوعاً به، وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، ومالم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النّجوم ، بأيها أخذ اهتدي وبأى أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. قيل يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي. (رواه الصدوق رحمة الله في معاني الأخبار ص 156، قال: حدثني محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن غياث ابن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد عن آبائه علیهم السلام، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله ما وجدتم .... ورواه الصفار رحمه الله في بصائر الدرجات 11/1. ونقله في بحار الأنوار 220/2 والاحتجاج، 2، 259).

وصلاة الجماعة أجنبية عن مقام تجويزهم الأخذ بفتويين أو الأكثر مع اختلافهما أو الأكثر، ليجوز المكلّف لنفسة الأخذ بأي فتوى يريد مع اعتراف بعض علماءهم بتمسكهم بما يعمل به الجميع بمثل رواية (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ ، و خيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ)(1) ورواية (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَ إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)(2)، بناء على صحة اجتهاداتهم عندهم في مثل قياساتهم المعروفة تمثيلياً والتزامهم بالإستحسانات إن بقيت تلك الاجتهادات من دون غلق تحزباً ضد مسلك أهل البيت النبوي علیهم السلام

نعم إن صحت اجتهادات المجتهد على المباني الصحيحة وتعددت فتاواه بين ذات الحكم الأولي والثانوي الترخيصي فلا مانع بالعمل من الفتويين بمورد الابتلاء التكليفي دون الاثنين معاً، والمورد مختلف اتباعاً لدليل الحالة الخاصة.

إضافة إلى أن من حالات رفض رواية (أصحابي كالنجوم الخ) من كل وجه إذا كان المراد منه صحة اقتداءكم في صلواتكم خلف كل بر وفاجر، للفرق الواضح بين الصحابة في التأريخ لكون أنَّ منهم المؤمن العادل، ومنهم الفاسق والظالم والمنافق والمنقلب على الأعقاب، فلا توازن فلا تصح إلا خلف المؤمن العادل لا غير.

ص: 256


1- رواه الترمذى (2499) ، وابن ماجه (4251) ، وأحمد (198/3) (13072)، والدارمی (392/2) (2727)، والحاكم (272/4).
2- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص

الباب الثامن : التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة

اشارة

وفيه بحوث:-

المبحث الأول

وفيه تمهيدان:-

التمهيد الأول: حول سبب عدم تأخير الكلام الأول إلى هذا البحث

فنقول:-

قد مر منا في أواخر الجزء الأول من هذه الأصول بحث أطلقنا عليه بحث (تعارض الأحوال)، وهو الذي كنا قد أدخلناه هناك في مطالب مقدمات مباحث الألفاظ، دون أن يكون في واقعه أنه من صميم هذه المباحث اللفظية نفسها لما مرَّ حين بيانه من بعض الإشارات من الأسباب آنذاك، وكما سيجيء قريباً ما يوضحها أكثر.

إلا إن ذكر ذلك هنالك أقرب ما يكون فيه إلى خصوص المقدمات كما أشرنا دون ذيها، وإن لاح من ذكر البعض له في الظاهر وعلى الأخص من بعض أمثلته الدالة على أنه قد يشبه الكلام عن بحث (التعارض بين الأدلة) الآتي بيانه الآن في هذا الجزء الرابع مما تحت عنوان البحث العام أعلاء من أواخر هذا الجزء مما يعم

ص: 257

مباحث الألفاظ وما بعدها من عموم الأدلة المعتبرة الأخرى من البحوث الأصولية.

ولعل تعرض بعض أولئك الأجلة لما تحت عنوان (تعارض الأحوال) نفسه وإن لم يدخل فيه لفظ ( الأدلة) في مجملات ما ذكروه هناك أنه كان لما يخص نفس المباحث اللفظية لكن بالصيغة الأعم من الأدلة اللفظية الشرعية وما يؤول إليها من غيرها، دون ما يتعلق بشيء من المقدّمات بناءً على صحة التدوين الأصولي، حتى مع الخلط من قبلهم بين الأدلة الشرعية الخاصة وما تقول به اللفظيات العلمية الأخرى للكتاب والسنّة من العلوم الأخرى وما يقول به العقل الأصولي أيضاً لو تعارضت هذه الأمور فيما بينها تعارض النسب المنطقية الأربعة المشهورة مما له علاقة فيها عموماً من محل ما يشكل أمره من حالة التعارض العام.

وهو سبب جعلنا البحث الماضي في المقدمات لما هو زائد على خصوص مباحث الألفاظ الشرعية التي عبرنا عنها بذي المقدمات، لكن خصوص ما نريده هنا نحن حول ذي المقدمة دون ما يضيفه الأجلة من الزوائد هو كالتعارض بين الدليلين بمقابلة الحلال والحرام أو الصحيح للفاسد والموضوع واحد، وهو ما قد يسمى ب- (التناقض الحكمي) الذي لا يجتمع طرفاه إذا كان بعد الاستقرار، أو العام والخاص من وجه وإن أمكن اجتماعها بين الأمر والنهي ك- (أكرم العالم ولا تكرم الفاسق وإن كان عالماً) بدخول العلم بين المتعارضين.

لامتناع اجتماع العدالة والفسق حالة تعارضهما إن برر اللفظ والعقل الأصولي العام هذه التصديات بالنتيجة شرعاً من قريب أو من بعيد مقبول حتى الأمثلة العرفية التي تعرض لها علماء الأدب العام القريب من معاني النصين الشريفين على اختلاف أنواعها في مثل علمي المعاني والبيان وغير ذلك مما يعود إلى ذلك الأعم من مباني الألفاظ الواسعة وغيرها لأولئك الأصوليين الذين أدخلوا في أصولهم بعض الفلسفيّات وأمور الدقة العقلية.

ص: 258

بناءً على حجية العقل عندهم بما قد يكون أوسع مما كان أو يكون عند الاعتياديين من الآخرين من علماء الأصول كفتاواهم المتعارضة، لكون حجيته عند الآخرين لم تثبت إلا في الجملة وهي ديمومة مطابقته للشرع ولو بإمضاء الشرع له لما استقل العقل به كما في المستقلات العقلية لو ارتبطت بتعقل حسن الإحسان وقبح الظلم من الذين أرشدت إليهما بعض الأدلة الإرشادية من الكتاب والسنة كما في الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل، أو ما هو الأكثر مما قد بُرر أو يبرر لبعض حالاته من إمضاء الشرع من المبررات التي لا تتنافى ومقررات الشرع كبعض القطعيات العلمية الواضحة أو الضروريات مما تحت العناوين الثانوية.

لكن لا كما يتصوره بعض أهل الحداثة والتجديد من العلمانيين أو الأقرب لهم ممن مر التعرض لأمرهم في الجزء الأول لخطورته، للخشية من جعل مقرراتهم قاعدة تامة في الأصول إلا للتمرن العام الوقتي في تلك المعاني العمومية المتخذة من قبلهم مما أعددناه هناك بنحو المقدمات دون الأزيد، ليكون إتمام الإفادة في هذا الجزء (الأصولي) الرابع من بحث (تعارض الأدلة) بالنحو المباشر هو الأنجح في تنجز عملية الاستنباط.

ولذا حبذنا أن نعزل ذلك البحث وهو (تعارض الأحوال) مع بعض الإشارات المناسبة لما يمكن أن ينبه على معنى التقديم للمقدّمة هناك، لا على ما يتناسب مع ذوات التقديم، وهو البحث عن (تعارض الأدلة) الخاص في هذا الجزء الرابع، مع تفاوت لفظ (الأحوال) عن لفظة ( الأدلة) من جهة حقيقة الفرق بين معنى العمومية المصطلح عليها عند أهل الصناعة من الأصوليين مقدمات وذي مقدّمات.

وبين ما هو الأخص عند من هم أقرب إلى رضا أهل الشريعة من علماء الأصول الآخرين من أتباع معاني خصوص لفظة ( الأدلة)، وإن توسعت إلى ما هو الأكثر من الأدلة اللفظية الخاصة المسموح بها ، خوف الوقوع في مطاب ما قد يحاوله

ص: 259

بعض أهل الحداثة والتجديد من المخاطر الأقرب إلى حالة الوضع والابتداع كبعض ما يصفون من القطعيات التي يعتبرونها مما يمضى أمرها الشارع.

إلا أن الواقع يختلف عن بعض ما يقطع به في نظرهم في بعض العلوم صناعياً، لاحتمال الاشتباه فيما يجزم به عند هؤلاء بتبدل القرار وحكومة الشرع الصريحة عليه.

وكذا بعض ما قد يتصورونه من الضروريات التي تلزم الشرع بالموافقة عليها من دون مآخذة عليها، لكن من دون واقعية لنظر هؤلاء كذلك، بتفاوت الضروريات بعضها عن بعض عندهم، ولأنها في الشرع تقدر بقدرها، كما لو كان الاضطرار ناشئاً من حالة نفسية وهمية، لا من حالة عقلية مقبولة يقربها العقل الرشيد.

وتتفاوت الحالة أيضاً في تحدّياتهم المخيفة من تطبيقاتهم العشواء لحالة تنقيح المناط المطلق.

بينما صحة هذا التطبيق لن تكون إلا بما كان مسدّداً ولو في الجملة الإسنادية من الجانب الشرعي، بل حتى ينبغي الخوف من تصدي المتساهلين في باب الأدلة اللفظية الشرعية مع وضوح أمرها عند الأدباء منهم في نواحي إفراز المقبول فيها عن غير المقبول، حتى من بعض من يحسب على الإمامية من المتأخرين، كمن يدعي أو يدعى له تبجحاً بأنه من أهل الفتاوى الشاذة المقبولة إكباراً أو تشجيعاً له وإن لم يكن في واقعه لائقاً له.

وكذا من حاول تقليص بعض الجوامع الخبرية الشريفة والمجامع الأخيرة بعد ما كانت مجلدات ضخام، فجعل حاصل ذلك أعداداً مختصره قليلة ليحصر فيها الصحيح في نظره من أخبار الآحاد لكي يهجر الباقي، وإن صح العمل بالباقي بعمل الأصحاب والجبر بالشُّهرة العملية أو بعض القرائن المساندة لمن يدعي أن الباقي ضعاف.

ص: 260

بينما المؤسف أن المقلّص لهذه الأخبار ممن ينبغي أن يعلم إن كان منصفاً أن مقام أخبار الآحاد لو يعتز بالسعي بتصحيحها مهما أمكن بتوفير مأهلاته بأكثر من مجرد هذا التقليص وإضاعة الباقي إن كان مما يستحق الإضاعة.

وقد نوقش بكثير منها إذا كانت خالية من قرائن التصديق والتي من أولها ادعاء الخليفة الأوّل عند العامة أمام الزهراء علیهاالسلام بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و اله وبعد أخذ الخلافة من صاحبها أمير المؤمنين علي علیه السلام وأمام القوم مع فاصل الملائة بينها وبينه مع جماعته والآخرين، قائلاً لها إن أباك قال (نَحْنُ مَعاشِرَ الْأَنْبِیاءِ لا نُوَرِّثُ ما تَرَکْناهُ صَدَقَةٌ)(1)، وهي تحتج عليه بآيات المواريث الخاصة بما بين الأنبياء وأبنائهم وبآياتها العامة المطلقة بما بينهم وبين الآخرين جميعاً على حد سواء.

ومن هذه المخاطر المخيفة في التطبيق الأصولي عند حصول التعارضات من قبل المتساهلين أو السطحيين من ذوى الحداثة والتجديد، فضلاً عمن يتعبد بأصول العامة على علاتها

فلابد من أن تكون السلوكية العامة المطلقة فيهم - إذا كانت من تخريجات العقل الأصولي الصناعي البعيد ولو في الجملة عن التقيد الشرعي - غير صالحة للقبول إلا بذكرها دون التمسك بها في باب المقدمات المعد للاطلاع العام التمهيدي والتّمرني الابتدائي وعند انكشاف الحق يرتضى بالمقبول ويرفض المرفوض.

ص: 261


1- مسند أحمد بن حنبل 463/2

التمهيد الثاني: سبب اختيارنا لعنوان البحث أعلاه وترك ما عبر به القدامى من عبارة (التعادل والترجيح)

وأما ما عنونا به البحث الآن من اختيارنا لعبارة (التعادل والترجيح أو التعارض بين الأدلة) دون أن نختار ما عبر به القدامى من الأصوليين وهو (التعادل والترجيح) بإضافة (الألف) في كلمة (الترجيح) لتتحقق عندهم صيغة الجمع لها يجمع التكسير.

فقبل الخوض في غمار هذا المضمار وبعد البدء السابق بالكلام عن الأوامر والنواهي وقضايا إمكان الجمع بينهما من عدمه لانشقاق هذا البحث من تلك المطالب إلى الحالتين.

ينبغي لنا لزوماً أن نتطرق إلى معنى هذا العنوان:-

فأولاً: ما معنى ما اصطلح عليه عندهم من لفظة (التعادل)؟

ولماذا جئنا به نحن كذلك كما جاء به القدامى؟

وثانياً: هل أنّ (تعارض الأدلة) الذي جئنا به نحن الآن في عنواننا بنحو الإضافة كما عبر به آخرون ممن سبقنا يمكن أن يعوض عن العبارة الأولى للعنوان وبما يستغنى به عنها؟

أو أنها الأفضل منها في مورد الجمع بينها في هذا العنوان بفاصل (أو) العاطفة التي قد تكون بمعنى التخيير أو الإضراب حينما يكون الاصطلاح الأول أشكل والثاني أفضل؟

وثالثاً: ما الفرق بين ما اخترناه لبحثنا هذا من لفظة (الترجيح) وهو المفرد

ص: 262

والمصدر، وما اختاره القدامى عن (التراجيح) المصاغ مع الألف كما مر للجمع؟

فنقول عن:

المبحث الثاني: (جواب المقارنة بين ما جاء به القدامى من "التّعادل" وبين ما جئنا به نحن أيضاً مثلهم)

إن الإجابة عن هذه الناحية الأولى ليس فيها ما يمنع من أخذنا بنفس ما أخذ به القدامى من الاصطلاح للتعادل ما دام (التعادل)، وهو نفسه المصدر الموازن للفظ (التفاعل) القائم بين شيئين متقابلين، تقابل عدم إمكان الجمع بينهما في لسان المعصوم علیهم السلام كالتعارض السابق في ذكره والآتي في تفاصيله ليعبر كل منهما عن واحد.

لكون المعصوم علیه السلام لن ينطق إلا بحكم واحد لا يعارضه حكم مخالف منه في نفس الموضوع، إذا لم يصل إلى معنى التزاحم بين حكمين لموضوعين، على ما سيتضح في التفصيل بين المعنيين تفصيلاً أو تمثيلاً بالنحو الأكثر في الأحكام الله تعالى.

لكون (التعادل) المذكور إذا حمل معنى التزاحم مع معنى (التعارض) المشابه يخضع للاشتراك اللفظي المحوج إلى القرينة المعينة لحمل خصوص معنى (التّعارض) دون معنى التزاحم.

ولعلَّ هذا (التَّعادل) المساوي لمعنى (التعارض) المزبور صرفياً مصدريًاً من دون الاشتراك، حينما كان في زمن أولئك القدامى مألوفاً ومدركاً بنحو من التبادر إلى كون أحد الشَّيئين معادلاً للآخر في المعارضة الاصطلاحية الكاملة، بحيث أن كلاً منهما تام الحجية ضد الأمر وبنحو مقطوع به كالنصين المقطوع بمعناهما في كل

ص: 263

منهما ، أو المظنون المعتبر في كل منهما أيضاً إذا اختفت حالة النصين المتعارضين بنحو من القطع بهما، إذا لم يكن مشابها له كما يفترض، لئلا يكون كل من فردي التعارض معرباً عن نفس الفرد الواحد.

وهكذا في كل حالات (التعادل) الاستدلالي بين أي اثنين متعارضين تامين مقبولين بالدرجة الأدنى، أي من الظن المعتبر، لعدم صحة أن يقال (عادل الشيء ذاته)، ولعدم صحة أن يقال أيضاً (عارض الشيء نفسه عرضاً لا طولاً).

لعدم معقولية غير معنى الاثنينية، ما دامت تلك الأدلة المتقابلة بهذا النحو مما يستحيل أن ينطق بهما معاً بمثل الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة في آن واحد مشرع الإسلام ويقر به العقل العادل.

وأما من جهة الطول فقد يتغير الحال إلى إمكان ما به صحة الجمع بما تحت العناوين الثانوية الآتية في حينها.

ففي التمثيل للأول وهو الذي بمعنى التزاحم وإن كان يصدق عليه لفظة (التعادل) قبل مجيء القرينة المعينة لخصوص مساواته ل- (التعارض) فهو كفريقين في النهر لا يقدر ثالثهما السالم من الغرق إلا على إنقاذ أحدهما دون الآخر لا على التعيين بالنحو المقطوع به المساوي للتعيين بحسب العادة.

وفي التمثيل له أيضاً بمعنى التزاحم لكن بمستوى الاستدلال الظنّي المعتبر عند فقدان حالة القطع، كما في الترديد بين التكليف الشرعي عند الزوال يوم الجمعة على كل مكلف اجتهاداً أو تقليداً بين أن تجب صلاة الظهر وبين أن تجب صلاة الجمعة، لو تعادل التكليفان بين ظهور دليل كل منهما للمجتهد بالنحو الظنّي المعتبر أو لمن قلده، ولم يُحكم أحد د ليلي التكليفين الآخر ضد ما سبقه مثلاً، بسبب إجمال قوله تعالى من سورة الجمعة وهو «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ

ص: 264

يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ»(1) من كلمة (نودي) المصاغة بالفعل الماضي المبني للمجهول، الذي لم يشخص فيه من هو المنادي في الغيبة الكبرى هذه حتى يجب اتباعه أنه هل هو الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف وهو غائب منتظر؟

وتعين التكليف بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة في حال الغيبة هذه لم يعلم إلا بين المجتهدين غير الإمام الغائب عجل الله تعالی فرجه الشریف ممن يخطأ ويصيب، وإن كان البناء عند الحيرة التامة يرجع ظاهراً إلى الأصل وهو البناء على خصوص صلاة الظهر على أحد الآراء.

وعلى فرض الاجتهاد وصحته والوصول إلى تساوي الدليلين يأتي (التعادل) التزاحمي بما لا يمكن إلا باختيار أحد الواجبين مع توفر الشروط اللازمة.

ومن هنا يتبين سر معنى (التعادل) المفسر ب- (التعارض) العنواني، ولو بمقدار ما تعارف لدى أولئك القدامى من التطابق المناسب للموضوع، وهو كون التكليف لابد أن يكون واحداً أو دون الاثنين عن الله تعالى في الموضوع الواحد كما سبق وكما سيجيء.

وللتمثيل للمقام يمكننا أن نتكيف في نفس ما مثلنا به للتزاحم، فنجعل الترديد بين وجوب إنقاذ أحد الفريقين وبين حرمته، وكذا الفريق الثاني بين الوجوب وبين الحرمة، فيكون مصداق التعارض في كل من الفريقين.

وكذا نجعل الترديد في صلاة الظهرين بين وجوبها وبين حرمتها.

وكذلك في صلاة الجمعة بين وجوبها وبين حرمتها.

وبهذا يحرم ترك إنقاذ الفريق الأول مثلاً إذا صمّم المكلف بذلك على ترك إنقاذ الثاني لحرمة ترك إنقاذ الاثنين معاً لو انحصر أمر الإنقاذ بهذا المكلف المقتدر، بل

ص: 265


1- سورة الجمعة / آية 9

يحب عليه إنقاذ ذلك الأول بناء على وجوب إنقاذ أحد الاثنين لا على التعيين كالأول.

وكذا يحرم ترك إنقاذ الفريق الثاني إذا صمّم المكلف على ترك إنقاذ ذلك الأول، بناءً على وجوب إنقاذ أحد الاثنين معاً، بل يجب عليه إنقاذ ذلك الثاني بناءً على وجوب إنقاذ أحد الاثنين لا على التعيين.

وكذلك الأمر في صلاة الظهر يحرم تركها إذا صمّم المكلف على ترك صلاة الظهر، لحرمة ترك الصلاتين معاً، حتى صلاة الجمعة بعد أن كانت داخلة بين الأمرين المردّد بينهما في التكليف بل تجب صلاة الجمعة أيضاً بناءً على وجوب إحدى الصلاتين لا على التعيين.

وبهذا الذي ذكرناه عن التمثيل لحالتي التعارض من مثال الحالة القطعية ومثال الحالة الظنية المعتبرة يكون مطابقا لما يقتضيه مما ينسجم مع (التعادل) عند القدماء في حال التكوين المقطوع به والمتطابق لزوماً مع التشريع كمثال أحد الفريقين الموافق لقوله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(1)، ولذا ما تم التكلف إلا بإنقاذ الواحد.

وفي حال التكوين والتشريع كمثال إحدى الصلاتين المحتمل كل منهما باتصافها بالوجوب أو الحرمة بما لا مجال فيه إلى حالة التخيير المرتبطة بحالتي التعارض غير المستقر مع إمكانه، بل بتعين الحكم الواحد مع استقراره.

ولذا لا يمكن أن يصدق أي تناقض في لسان من يمثل الله في شرعه من النبي صلی الله علیه و اله والإمام علیه السلام حتى يصح منه أن يقول حكمين متعارضين أو يقر بهما، وهو لا يقدر إلا على تطبيق واحد منهما لا غير، إما الواجب بحق فيلتزم به أو المحرم كذلك

ص: 266


1- سورة البقرة آية 286

فيجتنب .

ونحن لسنا بأولئك المصوبة، ولا أن يتردّد معصومونا علیهم السلام بين الحكمين المختلفين بدون علم، ليتساويا عندهم بحسب الظاهر، لأنَّ كلاً منهم حفظة في الحقيقة للحكم الإلهي الواحد الواقعي في مثل هذه الموارد وليس هم كالمجتهدين الذين يطرأ عليهما الخطأ والصواب.

وليس الأمر أيضاً مما يثبت في بعض النصوص الخاصة بصراحة تخييرية على بعض الأمور كما في خصال الكفارات المرددة بين أفرادها المتساوية في السماح بها في التكليف بأحدها دون الأكثر أو ما يثبت فيه ذلك بسبب العلم الإجمالي من الأمور المرتبطة بالأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل، إذا لم يدرك ما هو غیر ذلك.

ومن نتائج ذلك التخيير الحاكم به المجتهد المخول لا غير، فإن هذه أمور تابعة لأدلتها الخاصة دون حالات التعادل أو التعارض بالمقارنة ما بين كل منهما أو في التعارض الجاري بين كل من التعارضين الماضيين.

المبحث الثالث: (جواب المقارنة بين تعبير القدامى ب- (التعادل) وما قلنا نحن به أيضاً معهم وتعبيرنا الخاص بالتعارض واحتمال معنى الإضراب فيه بسبب التزاحم بينه وبين التعادل)

فنقول: وأما الجواب على السؤال الثاني فهي:-

إن كان هذا (التعادل) الذي في عنوان بحثنا وعنوان القدامى قد يشمله بعض معاني التزاحم الذي سيجيء التعرض لبعض أمورها في البحث المستثنى المستقل

ص: 267

الخاص عن معنى الاشتراك الذي فيه إذا كان العدل من المتعادلين منهما مفسراً بمعنى البديل المعوض كما سيتضح أكثر في مثل أمثلة الكفّارة التخيرية، فإنَّ بين (التعادل) وبين التعارض المراد في واقعه كونه الخالي من التزاحم، وهو الاحتياج إلى القرينة المعينة لو لم يعلق إلا بالتعادل كما سبق.

فبناءً على صحة ما عرف من ذلك التزاحم الإجمالي في التعادل إذا حصل فيما بين فرديه مجال شرعي للخلاص من التقيد الكامل بالتزاحم فلم يتساو التعادل مع تعارض الأدلة، إلا بحصول مجال، لعدم التزاحم الكامل أيضاً بمثل إمكان الجمع بينها ولو الجملة.

وبهذا يمكن القول برجحان معنى التخيير بحرف (أو) الذي ذكرناه في عنواننا، وإن لم يصح هذا المعنى من التزاحم إذا كان كاملاً ، أو جاءت القرائن المساعدة على عدم الإجمالي.

فلابد من حصول عدم التساوي الإجمالي بين عبارة (التعادل) وعبارة (تعارض الأدلة) في عنواننا، وهو مما يتأتى أيضاً بحرف (أو) الإضرابية، لوجود بعض التفاوت بين الحالتين على ما سيتضح.

ولا ضير في الأمر بناءً على كونها عاطفة تخييرية، حتى لو ركزنا في باقي هذا البحث لبعض المقتضيات على خصوص (التعارض في الأدلة)، لأنَّه لابد أن يتحقق به الهدف المنشود كالخلاصة الأجمع لو دخلت كلمة (التعادل) في ناتج الجمع بين الخبرين المتعارضين.

ص: 268

المبحث الرابع (جواب المقارنة بين مختارنا مع بعض السابقين من لفظ "الترجيح" بدون الألف وبين اختيار القدامى للتراجيح معها)

وهي إن من قدامى القوم بعد أن عبروا في الباب - بعد كلمة (التعادل) المذكورة-بعبارة (الترجيح) المزيدة بالألف وبالواو العاطفة لجعلها به جمع تكسير، وهو على خلاف القياس الصرفي، وإن كان هذا الجمع يتناسب مع تعدد التفاوتات المختلف، لكونه عند الصرفيين ينبغي أن يكون جمع تصحيح، وهو المسمى عندهم أيضاً بجمع المؤنث السالم، حينما كان مفرده ومصدره على لفظ (ترجيح)، وهو المأدي إلى معنى اسم الفاعل لو يجيء على كلمة (مرجح) - بكسر وتشديد الجيم - ليكون جمعه على الأصح بالألف والتاء المزيدتين بصيغة (الترجيحات) دون (التراجيح) التي قالوها.

ولعل سر تعبيرهم - والله العالم - بكلمة الجمع التكسيري هذه دون التصحيحي هو أنَّ (التعادل) الذي ذكروه في بداية عنوانهم قديماً لهذا البحث في أحد معنييه- وهما التساوي بما يأدي إلى التزاحم القابل للعلاج، وهو ما به إمكان الجمع في الجملة مثلاً أو التساوي بمعنى التضاد الذي لا يمكن فيه الجمع جملة وتفصيلاً إلا بالتّخيير بين أحد الفردين دون أن يكون معه الآخر -

لما تخفُ فيه وطأة قوة التساوي بين طرفي التعادل الدلالي من النسب المنطقية الأربعة المشار إليها سابقاً فيه، كما في المعنى الثاني إذا حصل بينهما شيء من التفاوت من تلك النسب وإلى حد قوة أحدهما على الآخر.

فإن حالات التفاوت تلك لما ظهرت عندهم - في أمور العلاجات الأصولية

ص: 269

المتفاوتة دون المتشابهة بتتبع أهل الحذاقة الاستنباطية منهم -

عديدة، من حيث الأسانيد ومن حيث الدلالات ومن حيث الاعتبار القطعي أو الظنّي المعتبر، ومن الوجهة اللفظية والوجهة غير اللفظية كاللبيات المعتبرة لو قويت على بعض اللفظية أو ضعفت عن اللفظية على ما سيتضح كثيراً في جميع مجالات أن لا يحكم الشرع الشريف دوماً إلا بحكم واحد لا ثاني في مقابله.

وإن عرف بين الأعلام كالشيخ الأعظم قدس سره من مقولة (الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح) وتعيين معناها عندهم للجمع العرفي دون التبعي، لما سيأتي، فلن يكون إلا بالمعنى الأول المرتبط ب- (التعادل)، وهو ما يمكن فيه الجمع ولو في الجملة.

وهو ما قد يأدي إلى معنى مطلق الالتقاء بين المتعادلين، وإن تفاوتا في نسبة التساوي بين مصداقي القليل والكثير بسبب خضوع (التعادل) إلى مأديات ما يظهر للمتتبع الفقيه من نسب التلاقي بين الأدلة الشرعية المحورية في الاستدلال حتى لو جاء بمعنى التزاحم، وإن قلت أمثلته كالصلاة التي ضاق وقتها في الدار المغصوبة أثناء الخروج كما سيتضح أكثر ، ولو بإدراك ركعة واحدة من الوقت الأدائي.

أو بحمل معنى ما ظاهره التعارض قبل استقراره في الجمع بينهما في مثل الوجوب بالعنوان الأولي والحرمة بالعنوان الثانوي كبعض حالات التقية، أو الحرمة بالعنوان الأولي كأكل الميتة، والوجوب بالعنوان الثانوي عند الضرورة في صحراء المجاعة المميتة، بمثل أكل مجرد ما به سد الرمق دون الأكثر.

أو حكم الفقيه المجتهد بالتخيير التعادلي في بعض موارد العلم الإجمالي للأصول العملية لو قلده العامي في الغيبة الكبرى هذه للمعصوم عجل الله تعالی فرجه الشریف

وقد يكون هذا السر المشار إليه صحيحاً فيما لو كان هذا التفاوت المذكور متناسباً بتمام وكمال حتى مع خصوص جمع التكسير، لكنّي لا أظن أن يكون هذا ممتنعا مع جمع التصحيح أيضاً، لأنه لا مشاحة في الاصطلاح لو لم يتغير المعنى

ص: 270

بذلك، بسبب ما تعطيه متغيرات مباحث الألفاظ المتفاوتة بسبب تأثرها بما يتناوله يد الفقيه المتتبع من مختلف طرق الاستدلال الشَّرعيّة .

لكن ما يهون الخطب كثيراً أنا لسنا بحاجة ماسة إلى كلمة الجمع هذه، أو حتّى جمع التصحيح مع الألف والتاء المزيدتين، وإن كان قابلاً لأن يجمع عن طريقه بين كل دليلين متعاندين في التقابل بما وجهناه من التوجيهات الخاصة وبما لا يصح الجمع فيه إلا بالأخذ بأحدهما من الأحكام المشروعة دون الآخر لناحية التعاند في الحال الظاهرية الأخرى، مادام المصدر المفرد - وهو الخالي من ألف جمعي التكسير والتصحيح - قابلاً لأن يستفاد منه عموم وإطلاق ما يصح أن يعبر به عن كل حالات ما يحتاج إلى حل مشاكله من التفاوتات اللفظية المروية لفظا ودلالة.

ولذا تم اختيارنا لعنوان بحثنا أعلاه (التعادل والترجيح أو التعارض بين الأدلة) بديلاً عما استعمله القدامى من لفظ الجمع وهو (التراجيح) المصحوبة بالألف.

وعليه فبناءً على بقاء اختيارنا للفقرة الأولى وما صححنها من الفقرة الثانية من هذا العنوان الكبير لبحثنا هذا وهو (التعادل والترجيح) فهو مع إضافتنا الثانية، لكونه الأنسب مما ذكره أولئك القدامى "قدس سرهم" من لفظ (التعادل) نفسه، ما جمعوه مع لفظ جمعهم وهو (التراجيح)، لما أشرنا إليه من السبب.

ولكون مختارنا الخالي من ألف الجمع مع ما سبق من (التعادل) ينسجمان مع مصدرية الإفرادية مما أشرنا إليه من السبب أيضاً، وهي المغنية عن استعمال أي من الجمعين السالفين في الذكر تكسيراً أو تصحيحاً بجعل مصدري الإفراد في كل منهما قابلاً لأن يجتمعا على معنى.

ولفظ الترجح بدون الياء إذا كان هذا هو المصدر والذي مع الياء إذا عُدَّ اسم المصدر وهو نتيجة الحدث أو العكس قد يعطيان نفس ما به إمكان الجمع.

وبناء على ترجيحنا التركيز بالنحو الأكثر على اختيارنا في العنوان الكبير بإضافة

ص: 271

(أو التعارض بين الأدلة) الماضي ذكره كما هو المألوف لدى بعض الأعلام الأجلاء مأخراً أيضاً لو لم نجعله مساوياً لما سبقه من الفقرة الأولى تماماً، أي بمعنى أن لا تحمل كلمة (التعادل) مع كلمة (الترجيح) معنى التعارض في حديها.

فلأجل احتمال تساوي هذه الفقرة الثانية الإضافية وهي (أو التعارض بين الأدلة) مع خصوص ما يراد من معنى (التَّعادل) مع ضم (الترجيح) إليها لو يفسر بمعنى المقابلة الضدية في حديه المحوجين إلى العلاج، بسبب عدم إمكان التلاقي بينهما ظاهراً لا غير لولاه بما سيأتي تفصيله من مثل التتبعات الناجحة وغير المستحيلة.

نقول: بأنَّ الفقرة الثانية وحدها قد تعوّض عن كلا كلمتي الفقرة الأولى بدون أي تكلف إن أمكن كما عرف مما نقله الشيخ الأعظم قدس سره من المقولة الماضية إذا كانت قابلة للتطبيق، بل ظهر من لدن كثير من المحققين العثور على مصاديق كثير من ذلك.

بينما لو جعلنا التعادل متساوياً في حديه وحده وبما لا معارضة تامة بينهما وناسب أن يحملا في الحدين معنى التزاحم فلا علاقة ل- (التعارض) مع طرفي (التعادل) إلا بحمل القرينة المعينة بسبب الاشتراك مما سلف بيانه، وهو أمر غير عادي، بسبب عدم إمكان التلاقي.

فلا بأس بالتخلص إذن - مع إمكانه وتيسر موارد الجمع لو فضلت لدى المجتهد المتتبع على معنى التزاحم غير المنتج - إلى الكلام اعتياديا وبدون تكلف عما هو الوافي والكافي باتخاذ جميع العلاجيّات المحتاج إليها في حال أي تعارض يجري وعلى أي حال مما سنفصله للوصول إلى الحكم الإلهي الواحد بسبب اللفظيات الشرعية المتعارضة في أغلب الموارد الإبتلائية، مع إضافة بواقي أخرى أصولية وآخرها اللبيات على ما سيتضح في الأمثلة والشواهد.

فنقول في صميم البحث الآتي البحث الآتي موضحين:-

ص: 272

المبحث الخامس: (التعارض في الأدلة وخواصه المميزة له عن التزاحم)

بعد ما أشرنا سلفاً إلى أن (التعارض) قد يلتقي ب- (التعادل) مع (التزاحم) إذا كان التعادل بمعنى تساوي الطرفين في التضاد، مادام الترجيح هو الذي يحل المشكلة بواسطة العلاجيات، مع أنَّ التعارض أيضاً هو الذي يحل المشكل، بل وأيضاً هو الذي يحل مشكله بنفسه وإن تعددت جوانبه بتوسط تلك العلاجيات العائدة إليها.

وقد لا يلتقي هذا التعارض بالتعادل في التزاحم - إلا في بعض الحالات من تخرجيات الفقهاء الاجتهادية الموافقة لمنهجية ما تقتضيه مضامين أو ظواهر بعض تلك العلاجات مما مر ذكره وما سيجيء بصوره أوضح - كأمر حمل التعادل لحالة الاشتراك اللفظي، وعلى ما مر وما سيجيء التثميل له من جهة بعض النصوص الصريحة والواردة في باب التزاحم أو الظواهر المفيدة لذلك بالمرتبة الثانية بعد تلك النصوص، أو المفاهيم القابلة لأن يحتج بها في هذا الأمر بالمرتبة الأولى، أو الإرشاديات إلى صحة التمسك بالأصول العملية من أبواب العلم الإجمالي إن احتيج إليها وأمكن علاج الأمر في مورد التزاحم المشكل كما في الوجوب بالحكم الأولي والحرمة بالحكم الثانوي مما مضى ذكره وما سيجيء والشي المعالج واحد أو الميسورة أمثلته.

وأما في أمر عدم إمكان الإلتقاء فلابد من لزوم التعرض إلى ما يخص حالات التعارض بدون أن يشترك شيء منها مع غيرها، بل لإبعاد معنى التزاحم عنه بذكر شروطه وخواصه.

فأول مميز للتّعارض عن غيره وهو التزاحم لو يجتمع بالتعادل المومى إليه في أحد التمهيدين الماضيين هو المعنى اللغوي، ولو من حيث منشأ استعمال اللفظين إذا

ص: 273

حصل شيء من التفاوتات بينهما بالنتيجة الأدائية.

ومن بعد اللغوي المعنى الاصطلاحي للأصوليين لو اختلف عن اللغوي.

ثم من بعده ما يناط به ذاتياً من الشروط الخاصة بالتعارض المطلوب أمره مع الأمثلة المشخّصة له أكثر أو التي توضحه عن غيره بنحو أزيد.

ثم الكلام عن الحكومة والورود.

وإن كنا سنذكر الأخيرين في تعداد الشروط الخاصة بالتعارض قبل ذلك، وثم ما يتناسب ونهاية المطاف عن هذا التعارض.

وهي ما يكفى من بعض القواعد العامة لبابه ، ثم عمّا يحتاجه التزاحم.

ولذا نقول:-

1 - عن المعنى اللغوي، فقد جاء فيه عن اللغويين كما في لسان العرب لابن منظور مع شيء من التصرف غير المخل (التعارض لغة على وزن تفاعل مأخوذ من العرض بفتح أوله وسكون ثانيه بمعنى المنع ومنه ""سرت فعرض لي في الطريق عارض "" أي مانع من السير ومنه ""عارضه في كلامه "" أي منعه منه، ومنه سمي الرد على الدليل بالاعتراض عليه)(1).

وكما في مجمع البحرين للمحدث فخر الدين الطريحي قدس سره مع شيء من التصرف غير المخل أيضاً في قوله تعالى «وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ»(2) (العرضة فعلة بمعنى المفعول، أطلق على ما يعرض دون الشيء وعلى المعرض للأمر، فمعنى الآية على الأول أي لا تجعلوا الله حاجزاً لما حلفتم عليه من أنواع الخير، بل مخالفته ....إلخ)(3)

ص: 274


1- لسان العرب - ابن منظور - ج 7 ص 165 - 186، باب عرض.
2- سورة البقرة / آية 224
3- مجمع البحرين - الشيخ فخر الدين الطريحي - ج 4 ص 212 ، باب عرض

إلى غير هذين المصدرين من مصادر اللُّغة الشَّبيهة بما ذكرنا، وبه الكفاية عن المعنى اللغوي.

أقول: إن هذه المصادر اللغوية في نوعها التطابقي عن التعارض لم تحفظ لنا أكثر مما عايشوه في عهودهم السابقة من الاستعمالات، وهي المتعارف عليها في كونها ظاهراً لابد أن تحمل ما هو الأعم من الأوضاع الحقيقية للمعاني الأدائية الخاصة للأشياء ليدخل معها غيرها، إلا مع ثبوت الكثرة المقصودة في تلك الاستعمالات أو بعضها مما يشخص ذلك المستعمل الخاص في كثرته ويسبب هجر بقية الألفاظ المشتركة عن معانيها الأخرى.

وهو ما يحوج إلى التوغل المباشر في أوساط أنباء اللغة الأساسيين، لمحاولة التعرف على دقة ما قد يتطابق ولو مع بعض حالات نموذجية من ذوات التطابق الكافي مع المصطلح الخاص الآتي.

وهو أمر ليس بالميسور الاعتيادي في تحقيقه للتفاوت الزماني بين القديم والحديث في وضوحه لدى سعاة التحقيق، للضبط الدقيق في مظان كل مصادر التصديق، ولأننا لسنا كسيبويه وفي زمانه الذي كان قد شافه كلام العرب الأقحاح وعايش صفاء فطرتهم.

وإن ألمح بعض الأصوليين إلى أن ما ذكرته قد يكون عند استعراض معنى التضاد والتنافي والتقابل بين الدليلين، لتكون مأدية إلى معنى التعارض بالملاك، وكذا كان ما ذكره الطريحي قدس سره عند ذكر الآية الكريمة، وكذا من سبقه في الذكر قد يستشم منه هذا المعنى أو بعضه.

إلا أن الحق لغوياً باق على إجماله الثابت ما لم يكن موصلاً إلى اختيار اصطلاح جديد، وهو ما يحوجنا إلى إظهار اصطلاح جديد وهو مفتقر إلى الأمر المثبت وهو غير ميسور بكل بساطة، إذ إلى حد الآن لم يتعد في تشخيصاته في

ص: 275

القواميس الميسورة عن تلك العمومية السائدة فيها قبل مباشرة التحقيق غير الميسور للتّعرف على خصوص تلك الأوضاع الحقيقية المفرزة عن خلطها بغيرها على نحو من الصدق التطابقي، كيف بما قالوه على نحو من التلازم المذكور، ولا أقل من علاقة النقض إن أمكن منه.

2 - وأما عن المعنى الاصطلاحي للتعارض فهو في اللغة مصدر من باب (التفاعل) المأدي إلى حمل فاعلين بحيث لا يقع الفعل إلا من جانب الفاعلين، ولذا لا يقال فيه إلا تعارض الدليلان، أي كل فاعل معارض للأخر بسبب دليله، وهو ما يؤول إلى معنى التكاذب، بحيث لا يجتمعان معاً على الصدق، كما مرت الإشارة إلى هذا المعنى من وجوب الاعتقاد بوحدة حكم الله تعالى في المقامين، لو أتي به منقّحاً بينهما ليبطل الآخر حتماً، سواء جاء ذلك في جميع مدلولات المقامين من مستوى الدرجة الأولى حين توفرها أو في بعض النواحي المعتبرة كالدليلين المعتبرين من الدرجة الأدنى في الاعتبار، إن لم يتيسر الأول كما أشرنا سابقاً ما بين النصيين المتقابلين أو الظاهرين في مقبوليتهما بتشابههما في التنافي مع كون الموضوع في الاثنين المتنافيين واحداً مع بقية حالة انطباق الوحدات المنطقية الثّمان للتناقض، لتشبيهه بالتعارض على خلاف ما سيأتي تفصيله من التزاحم المشار إليه سابقاً، لأن اثنينية جانبي كل من فردية ذات موضوع مستقل عن صاحبه بلا خصوصية في طرفي كل تزاحم من إمكان التلاقي بين طرفيه من عدمه.

وهذا التحديد الأصولي لمصطلحهم جاء مضمونه موافقا لما عرف بين قدمائهم، لمألوفية التعارض السائد عنهم غالباً في تطبيقات أموره الترجيحية في الأخبار الخاصة بها، وإن توسعوا في أمر الاستدلال إلى ما يتجاوز عن منطوق ألفاظها الشريفة إلى الأدلة اللبية لو تعارضت فيها فيما بينها، أو بينها وبين تلك اللفظية واحتاجت إلى الترجيح لو حصل مقتض أو موجب له من إحدى الجهتين.

ص: 276

ولذا أمكننا أن نقول: أن هذا هو سر اختيارنا ومن سبقنا أو عاصرنا في عنوان البحث الطويل مما بعد (أو) العاطفة فيه، مما يفيد عطف التفسير أو التخيير أو الإضراب مما سبق ذكره ل- (تعارض الأدلة).

أقول أيضاً: ومن هذا الاستعراض للمعنيين - اللُّغوي والاصطلاحي - يتبين أن بعد الذي ذكرناه من عمومية الأول وخصوصية الثاني، وهو إن كان يبدو منه عدم ابتعاد المعنى الاصطلاحي عن اللغوي كثيراً، لوجود بعض المصادفات المتطابقة أو الداخلة في علاقتها التضمنية، لما عرف من حالات التشابه المبعثرة بين شرعيات إسلامنا العزيز وبين ما بقي محفوظاً عن التحريف من بعض الشرعيات السماوية السابقة عليه مما عثر عليه في التوراة والإنجيل وغيرهما، وقد صرح به قرآننا الكريم.

إلا أنَّ اللغوي الذي يصعب كثيراً عليه - حينما همه جمع كل شارد ووارد من ألفاظ اللغة العامة والخاصة في قواميسه لئلا تختفي - ضبط وانضباط حالات التطابق الكافية، لو أريدت في أغلبية - أو غالبية أو حتى الأقل من عمومياتها - أن تكون داخلة في عالم ما يصلح للاصطلاحيات الخاصة الأخص التي نريدها مع السماوية السابقة المحفوظة - لبضع قواعد خاصة لها توصلها إلى الاصطلاح المراد.

لاحتاج هذا اللغوي - بل كل لغوي - إلى أن يثبت عندهم وجود قرائن تصرف تلك العمومات عن عمومياتها لصالح تلك السَّماويات المحفوظة في جملتها المشابهة لما في شرعنا إن تطابقت معها من جميع الجهات.

لذا لم تثبت تلك القاعدة الكلية للاصطلاح تامة وإن حوت القواميس بعض العبائر المبعثرة مما يدخل في الاصطلاح، ومنه معنى (التعارض) في العرف الأصولي.

فلم يكف إذن مجرد التعريف اللغوي له.

ص: 277

المبحث السادس: شروط التعارض الخاصة

وأما شروط التعارض فنقول:-

لأجل بث المزيد من الضبط والتحديد للتّعارض أكثر ليمتاز عن غيره من المشابهات في بعض الظواهر والمخالفة له في الواقع.

ذكر الأصوليون له شروطاً تخصه دون أن تكون لغيره، للتخلص في طريقه من بعض تلك الأشباه والنظائر الموهمة أو المربكة في أمره الاصطلاح

وتعدادها هي:-

الشرط الأول: أن لا يكون أحد الدليلين أو كل منهما قطعياً، أي غير مشوب بشيء من الشك أو احتمال الخلاف، ولو كان في شيء من الضعف، للتخلص من مشكلة التكاذب ولو من أحد الجانبين، لأنه لو كان أحدهما قطعياً فإنه لابد أن يعلم منه كذب الآخر، لوحدة الحكم اللازمة والمعلوم كذبه لا يعارض غيره.

والمعارضة - كما لا يخفى وكما مر - على وزن مفاعلة ومن ذات الموضوع الواحد.

كيف والقطع بالمتنافيين لو حصل منهما معاً مع لا بدية ثبوت كذب أحدهما عند القطع بالآخر، فإنه في نفسه أمر مستحيل حتماً وغير واقع ، إذن، لوحدة حكم الله تعالى كما مر لو انحصر الحكم الشرعي بين اثنين مثلاً كالسورة في دليلي وجوبها وحرمتها بعد الفاتحة ومن ذلك ما في حال ضيق وقت الفريضة.

ومن أمثلة ما قد يصور المطلب المشكل عند مواجهته للتوصل إلى حلّه وكشفه بالترجيح المقبول عند صدق المعارضة - لو لم نقل بتساوي دليلي الوجوب التخييري

ص: 278

بين صلاتي الظهر والجمعة في ظهيرة يوم الجمعة، مما مر التمثيل له لإيضاح التزاحم أو التعارض غير المستقر، ولمقارنتها بالتعادل كما عليه الرأي المتعارف اليوم بين بعض مشاهير فقهائه -

هو ما وقع من حاله التكاذب ولو من أحد الجهتين، كما في خصوص صلاة الجمعة بين القول بوجوبها وحرمتها، مما دار عند بعض العلماء في زمن الغيبة الكبرى هذه للمعصوم الغائب عجل الله تعالی فرجه الشریف الظاهر لهم من الاستدلال الذي يكاد أن يكون سطحياً لدى آخرين منهم على مثل وجوب صلاة الجمعة بسبب قوله تعالى «يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْم الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيع»(1) من التقيد بكلمة «نودي»، وهي الفعل الماضي المعروف نحوياً بالمبني للمجهول، الذي لم يتشخص منه المنادي بوضوح بالأمر الندائي ب- (صلاة الجمعة) الخاصة ممن تجب إجابته في هذه الغيبة مما مرَّ ذكره في السابق مع عدم ضمان بسط يد خطيب الخطبتين البديلتين عن الركعتين الأخيرتين لهذه الصلاة، مع وجوب بسط لسانه ويده في الجماهير لتبين موضوعية القوة النافذة عليه، ومدى خضوعهم الشرعي له عن أحداث الأسبوع الماضي التي يجب تصحيحها إذا كانت مخالفة، كما كانت أيام المعصوم علیه السلام القائم بها بدون تقية.

وعلى مثل القول بحرمة هذه الصلاة من شبهة القول المرفوض أصولياً بأصالة التحريم للأشياء عند الشك على رأي بعض المحدثين ، لعدم إمكان العلاج من داخل جانبي ما يشبه التّعارض، في حين لم يكن تاماً بسبب هذا التكاذب المقتضي للتساقط.

ولإمكان المعالجة من خارج الجانبين وهما الوجوب والحرمة غير الكافيين في

ص: 279


1- سورة الجمعة / آية 9

نظر الآخرين.

وإن قطع بكليهما من قال بهما لابد من القول حينئذ بالرجوع إلى أصل وجوب صلاة الظهر ليوم الجمعة الثابت في أصالته التشريعية قبل تبين وجوب صلاة الجمعة الطَّارئ، إن كشف عدمه في هذه الغيبة بترجيح العود إلى هذا الواجب الأصلي عند التكاذب.

ولذا لا يعد هذا من التعارض المصطلح مع هذا الأصل الثابت عند الشَّك بحكم صلاة الجمعة.

الشرط الثاني: وبنحو من الدليل الأخفض في الاعتبار الأصولي من دليل الشرط الماضي، وهو أن لا يكون الظن الفعلي معتبراً في حجتي طرفي التعارض معاً.

ولكن هذا الاعتبار للظَّن لا يُعتد به حتى بعد كونه الظَّن الخاص في أمر شرطيّته الثانية إلا بعد فقد تلك الدرجة القطعية السابقة في الاعتبار مع الحاجة إلى هذه الدرجة الأدنى من الحجية للخوف من الانسداد الذي في مستواه مع انفتاح بابه كما مرت الإشارة إليه آنفاً مع تساوي الدليلين في السند والدلالة في المضادة، لاستحالة حصول الظن الفعلي الخاص بالمتكاذبين، كاستحالة القطع بهما، لوجوب طرح المتكاذبين أو الرجوع إلى أحد الدليلين بالبحث عنه بدقة أكثر ولو من خارج شرعي آخر مع إمكان سعته أو الرجوع إلى ثالث مع عدم إمكان ذلك الآخر.

نعم يجوز أن يعتبر في أحدهما المعين الظن الفعلي دون الآخر، لإمكان العلاج في هذا المقام من الداخل بعد الاطمئنان بتمام الحجية له دون الآخر، للا بدية أضعفية الآخر في قبال سالفه لوحدة حكم الله المعلومة كما لا يخفى.

والتمثيل لهذا مع سابقه لا يختلف أمره بين الاستدلال اللفظي واللبي إن عرضت أموره كالمثال الماضي للشرط السابق ،وغيره مما ينطبق على هذا الحالي ومن مستواه.

ص: 280

وقد يجتمع في بعض الأمثلة الاثنان على اختلافهما الحكمي مع التكاذب.

والأمثلة للمقام على أطوار.

1 - ومن أقربها حول المقام أن يدل النّص اللفظي على أن الجاهل بأحكام الزكاة ليس معذوراً لمصداقية الجهل التقصيري على أغلب النّاس، وعلى أكثرهم مع الالتفات.

وأجري هذا الأمر حتى على الكفَّار لما عليه المشهور، لما حققناه في محلّه فقهياً.

وفي مقابل هذا الدليل اللفظي دلالة الاستقراء غير القطعي وغير اللفظي الذي نقل عن أحد أعلام القضيَّة الشَّرعيّة من فقهاء المحدثين لبنائه على القاعدة العامة عند مطبقيها ، لقولهم بمعذورية الجاهل في جميع الأحوال.

وتفصيل هذا في الفقه أكثر .

2 - ومن تلك الأطوار إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلاً عقليًا برهانياً أو استقراءياً تاماً وقدّم العقلي، لمطابقته لحسن الإحسان وقبح الظلم، وكذا الاستقرائي التام على اللفظي المذكور ، لأن العقلي وما بمثابته يأدي إلى العلم بالحكم الشرعي ولو عن طريق الأدلة الإرشادية.

وأما الدليل اللفظي في مثل عدم صراحته فهو إنما يدل بالظهور، والظهور إنما يكون حجة بحكم الشارع، إذا لم نعلم ببطلانه، وقد علمنا بعدم صراحته فلا ظهور له .

ولذا مع قوة الدليل المذكور - عن طريق العقل البرهاني أو الاستقراء التام وعدم إرادة المعصوم علیه السلام من ذلك الظهور اللفظي ما به المعارضة التامة للدليل العقلي وما بمثابته بما ينهضه من الإمارات الكافية - يتبين من هذا الظهور عدم بقاء صراحته الكافية - فلا مجال للأخذ بهذا الظهور.

3 - ومن تلك الأطوار الدليل اللفظي القطعي الذي لا يمكن أن يعارضه حتى

ص: 281

الدليل البرهاني التّام أو الاستقرائي التام لأن دليلاً من هذا القبيل إذا عارض نصاً صريحاً ، من المعصوم علیه السلام أدى ذلك إلى تكذيب المعصوم علیه السلام أو تخطئته وهما مستحيلان

لأنّ الدليل المقابل له مادام عقلياً لابد أن يكون مغلوباً بالشرع الثابت، وكما عرف في النصوص عن الإمام السجاد علیه السلام أنه قال (إِنَّ دِينَ اَللَّهِ لاَ يُصَابُ بِالْعُقُولِ اَلنَّاقِصَةِ)(1) وعن الإمام الصادق علیه السلام أيضاً (اَلسُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ اَلدِّينُ)(2) وغيرهما.

4 - ومن تلك الأطوار الدليلان اللفظيان الظنيان المعتبران سنداً ودلالة لو تعارضا فمع تعارضهما واستقرارهما على ذلك لابد أن يتكاذبا فيتساقطان، والبحث من جديد عن ثالث

وفي حال عدم استقرارهما فإما بالتخيير بينهما بما مر وبما يأتي للموضوع الواحد والحكم الواحد، أو أن يخضعا للمرجّحات العلاجية الواردة على ما سيأتي من التّعليمات الثابتة عن المعصومين علیهم السلام من رواياتهم المعتبرة.

الشرط الثَّالث: أننا بعد أن تعرضنا والآخرين لتحديد الشيخ الآخوند قدس سره للتّعارض بأنه هو (تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضاً)(3) أي بمثل حصره له داخل إطار الدليلين على الأقل في خصوص مقام الإثبات ومرحلة الدلالة المتحققة في الخارج، وهو ما يعلم منه عدم لزوم تنافي الدليلين مثلاً في خصوص عالم الثبوت ومجرد التعقل، كي يعمل

ص: 282


1- بحار الأنوار 303/2.
2- الكافي ج 1 ص 58 وسائل الشيعة: 352/29.
3- كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ص 437.

على ضوء ما يقتضيه أمر التعارض إن أمكن إثباتاً.

لذا يمكن أن يعلم منه بأن التعارض ليس وصفاً للمدلولين كما قيل، ما داما لم يوجد لهما مصداق مطبق خارجي، لعدم انطباق حالة الإثبات عليهما.

بل إن المدلولين يوصفان بأنهما متنافيان لا متعارضان لأعمية كون التنافي وحده بين الأشياء، لإمكان التفريق بين حال الثبوت وحده حتماً وبين حال الإثبات مع قيديته المعلومة.

ولذا عرف بينهم - وإن لم نكن نحن بحاجة ماسة إلى ما يخصنا الآن به - أن (فرض المحال ليس بمحال)، أي لإمكان الثبوت فقط وإن لم ينتج خارجاً، بخلاف الحالة الإثباتية للتعارض المصطلح فيها .

ولذا يكون هو المحتاج إلى العلاج بشيء من الترجح الممكن فيه كونه وصفاً للدليلين بما هما دليلان على أمرين متنافيين مع قيدية أنهما لا يجتمعان، لأن امتناع صدق الدليلين فيما بينهما معاً وتكاذبهما إنما ينشأ من تكافؤ المدلولين.

ولذا يمكن ضبط هذا التّعارض علمياً بأنه (تكاذب الدليلين على وجه يمتنع منه اجتماع صدق أحدهما صدق ،الآخر)، وبلا أي فرق بين امتناع الحالة التكوينية والحالة التشريعية في التطبيق، وبدون فرق كذلك في تنافي المدلولين ذاتيا أو عرضيا ومن جميع النواحي أو بعضها في تشخيص التكاذب بينمها من حيث النتيجة وبالنحو المطابقي أو التضمني أو الإلتزامي.

ولأجل تقريب المعنى إلى الذهن أكثر ولو من بعض النواحي إلى الذهن نرجح ضرب مثل عملي مهم في المقام وإن كان لا تخلو منه مجالات للمناقشات الفقهية السائدة حول مداركهما ، وإن مر ما يشبهه في موقع متفاوت.

وهو تعارض دليل وجوب صلاة الجمعة مع دليل وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة، وإن لم يكن من التعارض المصطلح الذي أثبتته شروطه، ولو لشبهة

ص: 283

موضوعية الدليلية الواحدة، فإنَّ الدليلين في نفسيهما قد يكونان لا تكاذب بينهما فيما يبدو لمجتهد عن مجتهد آخر.

إذ لا يمتنع - في عالم الثبوت وإمكان التعقل ولو من تزاحم الفكرة الاستدلالية في ذهن المستنبط بالنحو المتساوي عنده إذا تحير في كيفية أدائهما معاً - اجتماع وجوب صلاتين مثل هذين الواجبين بسبب التكافؤ الاستدلالي غير المخل، وبما يمكن حله في آن واحد في عالم التصور والثبوت، وإن امتنع الأداء لهما معاً تكويناً و تشريعاً في ذلك الآن من حيث الإثبات والخارج من حيث ما مضى وما سيأتي من التزاحم الأدائي.

ولكن لما علم من دليل خارج أنه لا تجب إلا صلاة واحدة في الوقت الخاص الأدائي وفي عالم الإثبات فإنهما لابد أن يتكاذبا حينئذ بضميمة هذا الدليل الثالث والمطابق للعدل الإلهي في كل من هذه المقامات، بمثل إنتاجه إما تعين صلاة الجمعة مع ترجيح دليلها على دليل صلاة الظهر أو العكس كذلك، مع أقوائية دليل صلاة الظهر في أسبقيتها التشريعية على صلاة الجمعة وإن تخير الفقيه بينهما بعد اشتراكهما التشريعي بعد ذلك في باب صدق التعارض المذكور سببه آنفا، للزوم أن يكون الموضوع واحداً كما سبق.

أو القول بالوجوب التخييري إن أنتج الاستنباط الاجتهادي القول بالوجوب التخييري بسبب تساوي دليلي الصلاتين في الذهن الإجتهادي وإن لم يصح الجمع عند التزاحم الأدائي، لأننا لا نريد في المقام أكثر من هذا الذي ساعدت عليه الأدلة إلا بنحو الجمع الآخر غير المخل، كالابتداء بالجمعة ثم الظهر بعدها في وقتها الموسع، وعلى ما سيأتي من أمثلته.

ومما يمكن التمثيل للتّعارض فيه بين أدلة ثلاثة هو روايات مقادير الكر وأمور أخرى كثيرة، منها صحة قول (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ولا تكرم الحمقى).

ص: 284

الشرط الرابع: أن لا تعارض اصطلاحي بين فاقدي الحجتين، بل لا تعارض بين الموصوف بما فيه الحجة ،وبين فاقدها لفقد التكاذب اللازم بين حالة فاقدها للتّعارض الذي يقتضي التكاذب وهو غير موجود، ولو من الجانب الواحد، لوجوب اتباع ذي الحجة وترك الآخر.

فلابد إذن من أن يكون في التعارض المصطلح والمراد خضوعه للعلاجات الترجيحية الآتية، إذا كان كل من الدليلين مرتبطاً بحجته واجداً لها بمساواة ضد الآخر، بحيث لو خلّي كل منهما وحالته من دون أن يعارضه معارض أخر للاصطلاح، لكان بنفسه وحيداً ذا حجة يجب العمل به لأجلها.

ونظيره ما إذا كان أحدهما لا على التعيين أنه بمجرد ما يحتمل فيه من التّعارض - ساقطاً عن الحجية الكاملة أيضاً فعلاً أمام مقابلها الكاملة كما مر، ولما قلنا من أن التعارض وصف للدالين بما هما دالان - في مقام الإثبات كما قرره الشيخ الآخوند قدس سره

وبعد عدم المصداقية للإثبات الكامل لفاقد الحجية، فلا تكذيب للذي فيه مصداقية الكامل.

وعلية لابد من القول حينئذ بعدم تطابق الحجة مع اللا حجة على ما نريد أن نسميه ب- (التعارض المصطلح)، كما لا تعارض بين اللا حجتين في عموم بابي الأوامر والنواهي الأصوليين من نصوصهما الصريحة لو توفّرت حالة التعارض الكاملة بالدرجة الأعلى.

وكذا ظواهر الأدلة المماثلة بدرجتها الأدنى المعتبرة من تلك الأوامر والنواهي لو تعارضت فيما لو لم تتوفّر عندها تلك الصريحة ونحو ذلك من عوارض الاستدلال التعارضي الأخرى الواقعة في ذهن المستدل من باقي مباحث الألفاظ الأصولية الأخرى.

ص: 285

و من هنا يفهم بوضوح أكثر أنه لو عثر على خبر غير واجد لشرائط الحجية في موضوع معين واشتبه بآخر قد توفّرت تلك فيه، فإن كلا الخبرين لا علاقة لهما بأي نحو من التعارض المصطلح، لفقدان قواعده وشروطه.

وإن كان العلم بكذب أحدهما وهو الأول حاله كحال المتعارضين في وجوب الإعراض عنه كما سبق بيانه وهو واضح، إلا أن الآخر مع سابقه يخضع لإجراء قواعد العلم الإجمالي عليه من الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل مما لابد فيه من إحراز تكامل الشروط والقواعد للمتعارضين بوضوح ، وهو غير متوفر ولأن العلم الإجمالي في المقام الخاص لا ينتج عند الشك البراءة ولا الاشتغال.

الشرط الخامس : أن لا يرتبط طرقا التعارض مثلاً بنفس طرفي المتزاحمين، وإن أمكن تشابههما من بعض النواحي مما مرَّ بنحو من الاستطراد والإشارة، لما سيأتي من الفرق الثابت بينهما، وهو أنَّ موضوعي المتزاحمين متعدد والتعارض ذو موضوع واحد مع اشتراك التزاحم والتعارض في ناحية امتناع تحقق حكمهما لكل منهما، لكن الامتناع للتعارض من ناحية التشريع، لتكاذب الدليلين في تعددهما، لأجل الحكم الإلهي الواحد والامتناع في التزاحم مع الموضوع المتعدد من جهة الامتثال، فلا تكاذب بينهما مما يلزم تكويناً الاقتصار على تطبيق أحدهما لا على التعيين كما سيجيء.

الشرط السادس: أنهم ذكروا من الشروط الخاصة للمقام (التعارض) أن لا يكون أحد الدليلين حاكماً على الآخر لاشتراط التعادل بين المتعارضين من البداية ولو من جهة ظاهرية متعادلة بين دليليتها، ثم اللجوء للترجيحات العلاجية وإن كانت الحكومة من حيث الدقة بالنتيجة قابلة لرفع موضوع التعارض من أساسه بقوة الحاكم على المحكوم فلا تكاذب بين دليلي الحكومة بسبب وجود القوة الحاكمة والضعف المحكوم بينهما، بخلاف التعارض بين جانبيه، فلا مجال لتوهم أن الحكومة

ص: 286

من جملة علاجات المتعارضين لفقدان تعادل طرفيها من توجه أول نظرة للأذكياء، وسياتي التمثيل لها بما يخصها.

الشرط السابع أنهم ذكروا من الشروط الخاصة بالتعارض أيضاً أن لا يكون أحد دليليه وارداً على الآخر، لاشتراط التعادل بينهما فيه، ولو من الجهة الظاهرية كما ورد في الحكومة، وسيأتي ما به التوضيح أكثر فيما يخص الورود مع سابقه، فرقاً بينهما وبين التعارض.

هذه نهاية ما يُعد من الشروط اللازمة في التعارض، للتفريق بينه وبين التزاحم الآتي ذكره قريباً، وهي سبعة كما أثبتناه.

المبحث السابع: الفرق بين التعارض والتزاحم

ووفاء بما وعدنا به من تخصيص بحث مستقل بالكلام عن التزاحم بعد الذي بيناه في البداية عن خصوص التعارض ومعه شيء من التزاحم مختصراً، لغرض المقارنة الموجزة بينهما، وللمزيد من التشخيص للتزاحم أكثر، وبالأخص من حالة اشتراك الاثنين - في جهتي امتناع حكمي كل منهما ، لئلا يختلط ظاهر أمرهما في ذهن بعض السطحيين - المحتاجة إلى المزيد من التفرقة بينهما مع ما مر سابقاً بين أولهما وهو التعارض بكونه ذا موضوع واحد، وثانيهما الحالي بتعدد موضوع طرفيه.

وقد يتبين هذا بمحاولتنا تعداد الأمثلة لما يتناسب وتعدد موضوع هذا الثاني لإشباع ذهنهم وبما قد يكفى عن ما مر من أمثلة التعارض، ولإثبات كون الامتناع في التعارض من جهة أصل التشريع وفي التزاحم في خصوص الامتثال دون التشريع، لتكامل دليلي طرفي التزاحم من البداية.

ص: 287

وإن كنا قد نذكر بعض الاستدلال الآتي، ثم العود بعد ذلك إلى محور الحديث العام للمقام وهو التّعارض للتوغل في بقية أموره.

ثم أنه قد يدخل على الخط البياني حول المقامين مناسبة ذكر ما أشرنا إليه عند البدء بالدخول في البحث عن الموضوع العام وهو (التعادل والترجيح أو التعارض بين الأدلة) بأنَّ من دواعي الدخول فيه الآن هو أهمية أسبقية محاولة الشروع في تحقيق إمكان الجمع بين الأمر والنهي من عدمه والبت فيه وفي تفاصيله إيجاباً أو سلباً من كل ما ورد من الروايات الشريفة المتضاربة مع التكافؤ السندي والاعتباري والدلالي، ولو لناحية خصوص العامين من وجه من النسب المنطقية الأربعة إذا أمكن دخول مقامي التعارض غير المستقر والتزاحم أيضاً في معترك تضارب ما ورد من هذه الروايات بسبب شبهة اشتراكهما في الحاجة إلى طلب الحل، ولمعرفة الفارق بين المقامين ولو لقضية موضوعية الدليلية الواحدة في التعارض والاثنين في التزاحم، وهذا ما ستوضحه التطبيقات العلاجية بعد الذي مضى ذكره.

وثم لمعرفة ما بينها وبين خصوص باب اجتماع الأمر والنهي من الفرق وهو الثالث.

لكون اجتماع الأمر والنهي هذا عند إمكانه في الدلالة الإلتزامية قد يعتريه ما يعود منه لمقام الجعل والتشريع، وهو ما يحصل بسببه معنى التكاذب التعارضي.

وقد يعتريه ما يعود لمقام الامتثال التزاحمي في الدلالة الإلتزامية الإلزامية، وهو ما يحصل بسببه تكاذب ما يعود إلى ما يشبه التزاحم، وبذلك يدخل في الأمر والنهي الأمران.

وقد لا يعتريه لا أمر الأول - وهو التعارض في العامين من وجه مثل هذه الدلالة الإلتزامية فلا تعارض بين دليليه لعدم التكاذب في موردي الالتقاء - ولا أمر الثاني وهو التزاحم في العامين من وجه عند فقدان الدلالة الإلتزامية لو امتنع على المكلف

ص: 288

أن يجمع بين الاثنين في الامتثال لأي سبب من الأسباب كامتثاله لأحد الجانبين دون الآخر، وإن كان التزاحم موجوداً بانتقاء موضوع الابتلاء به.

ومن هنا تحصل أعمية الكلام عن اجتماع الأمر والنهي بإمكان الجمع بينهما مع ضبط السند والاعتبار والدلالة في موارد أخرى، وقد مر بعضها وسيأتي آخر.

المبحث الثامن مشخصات التزاحم بخواصه الأكثر وقواعد الترجيح عليه

بعد ما مر من مميزات التزاحم عن التعارض - بعد اشتراكهما في التنافي - وهو ما سبب فصله عن التّعارض بوقوع تفاوت أولها عن الثاني بحيثيَّة الامتثال التي اختص بها.

وتفاوت الثاني عن الأول بحيثية التشريع وانحصار علائم التعارض الخاصة بشروطه السبعة وضبط قواعده العلاجية حول دليلي تعارضه بحالات أمور السند والاعتبار والدلالة المختلفة واختصاص قواعد التزاحم بما لا علاقة له بشيء مما اختص التعارض به من ذلك، وإنما هو بتكافؤ المتزاحمين في جميع جهات الترجيح التي لا شك في أنهما لو حصل شيء من التعادل الخطابي - في كلا حالتي التضاد المعروفة عن المتزاحمين - لأدى إلى حل مشاكله بالتخيير، وهو محل وفاق تام عن الاتفاق العقلائي الكامل والناشئ من صميم العقل العملي المرتبط بالمستقلات العقلية والقطعية المحضة التي لابد أن يستكشف عن طريقها الحكم الشرعي المراد في مثل حسن الإحسان وقبح الظلم ونحو ذلك.

وإن قيل أنه وقع خلاف بين فردي التعادل المتعارضين من باب التعارض حول أنه هل يقتضي التّساقط أو التخيير كي يعود التشبيه للتعارض فيه ولو في الجملة؟

ص: 289

فإنه يقال: هذا وإن كان ليس هو من محل كلامنا الآن عن التّعارض ولكن نكتفي بقولنا عنه بأن وجه الشبه الجزئي مع كونه غير مأكد مما بينه وبين التزاحم .

فإنّ هذا الاختلاف حوله كان قبل أن يكون تعارضا مستقرا، وهو موضح في محله مما يأتي وبعد الاستقرار لامجال فيه للتخيير.

وأما في محل كلامنا فبعد فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين المتزاحمين وعدم جواز تركهما معاً كالذي مر ذكره من مثال الغريقين، بحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر حسب الفرض - مع استحالة الترجيح بلا مرجّح وعدم إمكان الجمع بين إنقاذ الاثنين معاً ولا أي شخص آخر يقوم بهما معاً مكان غير ذلك القادر أو بأحدهما لا على التّعيين لاستحالة التكليف بما لا يطاق عقلاً وشرعاً -

فلا مجال إذن إلا أن يترك الأمر إلى اختيار ذلك المكلف المبتلى نفسه إنقاذ أحدهما لا على التعيين دون الآخر، مع ما مر ذكره من التساوي الامتثالي المفترض في الغريقين وبما لا يمكن اشتراك التعارض المستقر معه .

وهكذا الأمر نفسه بما يرتبط من الوجوب التخييري بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر يوم الجمعة لو أدى اجتهاد المجتهد إلى ذلك في هذه الغيبة الكبرى بتساوي أدلة كل منهما في نظره وعلى طبق رأيه يتم التزام مقلديه باختيار أي من الصلاتين.

وكذا ما لو دلت الأدلة التخييرية لوحدها على وجوب إحدى الكفارات الثلاثة تخييرياً من العتق والصيام والإطعام على كل من أفطر عمداً يوماً من شهر رمضان المبارك مع القدرة على كل منها بنحو التساوي التكليفي مما يشبه التزاحم ، لعدم وجوب أكثر من واحد منها، أو عند تعذر أحدها كعتق الرقبة وبقاء اثنين منها مكان الثلاثة فيحصل بسبب تزاحمهما عليه كلفة وأداءً لاختيار أحدهما لا على التعيين، وغير ذلك من الأشباه والنظائر .

ص: 290

وأما ما يتعلق بحالات ما يمكن فيه من الترجيح على بعض حالات التزاحم فهو وإن كان في مثل بعض هذه الأمثلة كما في الأول وهو مثال الفريقين لم يخرج عن حالة التخيير التام الإجباري، للتساوي المفروض عقلاً وشرعاً، بحيث يمنع عدمه بمثل الجمع بإنقاذ الاثنين معاً لما مر ذكره.

بل يلزم ويجب ترك المغامرة الخطيرة جدا بمحاولة إنقاذهما معا، لعدم قدرة المنقذ المحدودة نفسه خوف هلاكه والخوف على حياة الفريقين معاً أيضاً بالاقتصار على إنقاذ أحدهما المقدور عليه لا غير، وعدم جواز ترك إنقاذه من جهة إنسانية، ولحرمة فعل ما يخالف المروءة فصار التخيير التزاحمي المستمر لازماً واجباً، إلا أنه قد يختلف الأمر مع بعض الأمثلة الأخرى المشابهة من بعض الجهات والمغايرة من جهات أخرى عرفنا الشرع بها حيث ركّز على أمورها في نظره بأن لها مرجحات لا مجال لتعديها في باب التنازع ، مادام هناك في نظره الشريف مصداقية الأهم والمهم وأهمية تقدم الأهم على المهم من حالاته، وهي متعددة لا تخفى على المتتبع الحريص حين علمه بمختلف مناشئ الأهمية وجهاتها والتي منها ما يعود إلى القواعد المرجحة على التزاحم.

ولهذا علينا أن نستعرض ما يمكننا استكشافه منها في أمور تعد قواعد للترجيح في أمره.

المبحث التاسع: قواعد الترجيح في بعض حالات التزاحم

قواعد هذا النوع من الترجيح في أمور:-

أحدها: حالة الأهم والمهم المستكشفة من خلال مواصلة التتبع الشرعي السائدة

ص: 291

بين ما لا بدل له وبين ما له بدل من الشرعيات كخصال كفارة خلف اليمين وهي العتق الواجب بدون بديل معوّض، فإن لم يجد المكلف أطعم عشراً أو أكسى عشراً من المساكين على نحو البدل، فالذي لا بدل له وهو العتق مقدم على الذي له بدل، وإن كان الثاني وهو إطعام العشرة أو كسوة العشرة من المساكين مزاحماً للأول في أصل الوجوب، وإن كان الذي له بدل اختيارياً في حالتيه المتساوية أو اضطرارياً كالتيمم بالنسبة للوضوء مع تساويهما في أصل الوجوب وبراءة الذمة عند التيمم في الاضطرار وكالجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة لمساواته للقيام في أصل الوجوب وبراءة ذمة الجالس عند الاضطرار، إلا أنَّ الوضوء والقيام لابد أن يتقدما في حالتي عدم الاضطرار ، لرعاية الأهمية الواجبة عند الاختيار كما لو كانت الأهمية حالة العكس وهي موجودة عند الاضطرار.

ثانيها : أي ثاني حالات تقدم الأهم على المهم ما اتفق فقهياً عليه من كون أحد الواجبين في ضيق وقته أو كان فورياً في الأمر به وأدائه مع سعة وقت الواجب الآخر المزاحم باشتراك الواجبين المزاحمين في أصل الوجوب ففي ذلك:

لابد أن يتقدم فيها الفوري أو المضيق على الموسع، وإن كان الموسع ذا بدل بسبب المزاحمة في الوجوب كما ذكرنا من الأهمية، إلا أن هذا البدل بدل طولي اختياري مادامت السعة في الواجبين ومتى ما ضاق الأمر في المضيق أو الفوري يتقدم كل منهما قطعاً، لأن تقديمهما جمع بين التكليفين وهو الإسراع في أداء المضيق أو الفوري فيما عين لهما مع الأداء التزاحمي في الوقت الواسع للموسع إن لم تصاحبه معصية في الترك أو نحوه في تلك السعة، دون تقديم الموسع عليهما حالة ما اتصفا به لأن فيه تفويتاً للتكليف بهما في تلك الحال بلا أي تدارك مع الضيق أو الفورية.

ومن الأمثلة المعلومة في المقام - والذي به استكشاف بعض ما ذكرناه - دوران

ص: 292

الأمر بين تعين إزالة النجاسة الفورية في وجوبها عن المسجد مع عدم وجود بديل يعوض عن من وجبت عليه هذه الإزالة مع وجوب إقامة الصلاة عليه صحيحة فيه مع سعة وقتها عليه في حال كون المكان الكافي للصلاة صحيحة من ذلك المسجد، بحيث لم يتوفّر إلا بعد تلك الإزالة.

ومن تلك الأمثلة دوران الأمر بين الصلاة في آخر وقتها وبين إزالة النجاسة عن المسجد، فإنَّ الصَّلاة مقدّمة على الإزالة، لأنَّ (الصَّلاة - في ثابت الأدلة - لا تترك بحال)، وبالأخص مع ضيق وقتها، لكن مع وجوب أداءها صحيحة من جهة طهارة المكان ولو في زوايا المسجد الطاهرة أو حتى خارج المسجد.

ثالثها: القاعدة المستكشف عن طريقها تقدم ما هو الأهم أيضاً، لكن بين واجبين تزاحما على المكلف في نظر أهل التحقيق الفقهي الذين لم يخف عليهم طريق على أصل الوجوب، مع كون كل من الواجبين في ضيق من الأمر الأدائي، إلا أن الفرق المثبت لحاله أهمية تقديم أحدهما على الآخر.

هو أنّ الأهم في التقديم هو أداء الواجب في وقته الخاص - الذي لا يحلّل جعل أي شريك واجب مزاحم له فيه - على الذي لا وقت خاص له في التشريع، وإن كان في ضيق من أمره كذلك وحصل التزاحم له مع سابقيه المذكور، وإنما اتفق حصول سببه في ذلك الوقت وتضيق وقت أداءه.

والمثال الذي ألفوه في مقام التطبيق المناسب فقهياً عملياً بعد الماضي النظري مع العلاج الترجيحى فيه.

هو دوران الأمر بين الصَّلاة اليومية في آخر وقتها وهو الخاص الأخص لها وبين صلاة الآيات بمصادفة ضيق وقتها كالنَّهارية في مثل كسوف الشمس أو الليلية في مثل خسوف القمر فقدموا اليومية على الآيات للإجماع المتفق عليه، وأهمية ذات الأخص وتقدمها عند المزاحمة تم فهمه من الروايات.

ص: 293

رابعها: القاعدة المستكشف عن طريقها تقدم الأهم على المهم بين الواجبين المتزاحمين على المكلف في نظر أهل الشرع على أصل الوجوب أيضاً، إلا أن أحد الواجبين منجز في وجوبه بحسب الأدلة الشرعية بلا أي شرط يتوقف عليه فيها والآخر مشروط بما يتعلق ذلك الوجوب عليه حسب لسان تلك الأدلة الشريفة کشرط الاستطاعة المالية والبدنية المفروض في الحج الواجب على ما في النص الشريف الخاص فيه، مع عدم ثبوت التعين في ثبوت الاستطاعة على المكلف بما يكشف عن القدرة على الحج الواجب والصحيح.

فلابد إذن من تقدم ما كان منجزاً من الواجبين على صاحبه المشروط مع سبق القدرة عليه كأي واجب آخر تنجز وجوبه عليه، سواء كان مطلقاً في وجوبه المزاحم كالصَّلاة، أو مشروطاً توفر شرط وجوبه دون توفر شرط سابقه أداء في المقابل، فهو مقدم على ذلك الواجب الآخر، لعدم إحراز أمره.

ولقائل أن يقول: قد يتساوى اشتراط القدرة العقلية في المنجزات والمعلقات الشَّرعيّة معاً ، فما هو الفارق بين الاثنين مع التزاحم على حاله؟

فإنه يقال بعد التسليم باشتراط كل واجب بالقدرة عقلاً كما لا يخفى، إلا أنه لم تؤخذ تلك القدرة في الواجب في لسان الدليل، فهو من ناحية الدلالة اللفظية مطلق، والعقل في المقام هو الذي يحكم بلزوم القدرة مع تمكن نفس المكلف من الفعل لمثل الصَّلاة في تنجزها ولو مع فرض المزاحمة غير المعرقلة لأداء الحج غير المنجز إن عصى المكلف وتهاون في صلاته

خامسها قاعدة ما كان مردداً من الأعمال الشَّرعيّة، كما بين واجبين تزاحما في أدائهما الاختياري في مثل عمرة التمتع وحج التمتع الذي يليها، حيث أن في كل منهما ركعتي طواف، وكان المكلف عاجزاً عن الإتيان بهما معاً عند مجيء وقت كل منهما عن القيام، لكنه غير عاجز عن الإتيان بواحد عن القيام فقط لا على التعيين.

ص: 294

فإنه لابد أن يأتي بأولهما عن القيام مادام هو المقدور المطابق للأمر الإلهي الأولي، دون أن يبرر له تركه مع ذلك التنجز الحاصل فيه على الطبيعة مادامت القدرة عليه في ثانيهما لم تثبت، حتى لو صح احتمال كونه وقت العمل الآخر أيام الحج، إذ لعله يتبدل عجزه المقرر عن ذلك القيام إلى القدرة الإلهية غير المتوقعة على القيام الطبيعي ولو بالارتباط في الواجب الأول بقاعدة الميسور، وفي الثاني بعدم جواز الحكم فيه بما يخالف حكمه الثانوي، بسبب انحصار الأمر به قبل مجيء وقته.

ومثل هذا ما في دواخل بعض العبادات كالصلاة اليومية.

ولنفترضها كونها من الثنائية بتركبها من قيامين لركعتيها لو تزاحما في أدائهما الطبيعي الواجب في أساسه إذا كان المكلف مثلاً عاجزاً عن القيام في الركعتين معاً، غير عاجز عن أحدهما لا على التعيين كما في الافتراض السابق.

إذ أن هذه الفريضة اليومية لا تختلف عن صلاة الطواف الماضية، فإن الأمر العلاجي العملي - حسب المستفاد استدلاليا لما يدور في مثل حالة عدم عموم کل ركعتين واجبتين -

قاض بترجيح كون المتقدم من قياميهما أنه هو مستقر الوجوب على النحو الطبيعي دون المتأخّر، لحصول القدرة الفعلية بالنسبة إليه تبعاً لأساس عنوانه الأولي المنظور في التشريع، ما دام مقدوراً عليه فعلاً بحيث إذا أتى به على طبيعته انتفت القدرة الفعلية الطبيعية على القيام الثاني حسبما أبتلي به المكلف من العلم تجاه المتأخّر منها.

فلا يبقى له مجال إلا بتطبيق حالة العنوان الثانوي وهو الاضطراري بالجلوس في تعينه حسب الفرض إلا إذا فاجئته العافية الإلهية كما أشرنا في المثال الأول

ولا فرق في هذا الأمر بين ما إذا كانا معاً مشروطين بالقدرة الشرعية كالمثال الأول في المقام، أو مطلقين كالمثال الثاني فيه مثل الواجبات اليومية من الصلوات.

ص: 295

أما لو اختلفا مع التزاحم ، فإنَّ المطلق مقدم على المشروط بقدرته الشرعية وإن كان زمان فعله متأخراً، كما لو تردد الأمر بين واجبين أولهما مشروط وهو الحج، وثانيهما مطلق منجز، وهو دين حلّ وقت وفاءه و المال الموجود عند المكلّف بهما واحد لا يكفي إلا لأحدهما حسب.

فإن المتعين هو وفاء الدين حتى مع تأخره لناحية ما يعود لحقوق الناس، والحج يتأخر إلى حين القدرة الجديدة من المال الجديد لناحية ما يتمحض لحقوق الله.

سادسها قاعدة كون أحد الواجبين المتزاحمين أولى في التقديم من غير ما مضى ذكره عند الشارع المقدس مثل أولوية القضايا النوعية في مقابل القضايا الشخصية، وجعلت من أهم مصاديقها أهمية الحفاظ على بيضة الإسلام، وإن كان هو الأدون منها واجباً وله أهميته من حيث نفسه كبعض القضايا الشخصية.

وقد بنيت هذه القاعدة على أدلة مهمة مفصلة في الفقه.

ومن مظاهر ما يقرب هذه الأهمية إلى ذهن المؤمن الغيور والتصديق بها أنَّ مقدسات الأمة ومقدراتها الإسلامية النوعية لو تركت بتساهل في أمورها تنتابها النوائب تلو النوائب وبأشد المحن من أعداء الخارج وخونة الداخل من دون أي صدع وردع كافيين ممن يرجعها إلى عالم سلامتها التامة مع ديمومة الدفاع المناسب لمقامها الرفيع من المخلصين المجاهدين وانشغلوا ببعض قضاياهم الشخصية عنها، فضلا عما لو انشغلوا في كل أمور حياتهم عنها.

ومثلهم من كان عليهم المعول في استقرار وحماية هذه الأمة، بل ازدهارها.

بل أدركوا ويدركون تبعاً لفقهاءهم وأئمتهم علیهم السلام أن الانشغال بالقضايا الشخصية مهما عزّت تهون تجاه بيضة الإسلام والأمة والسعي لرقيها، لتسبب من خلال أي ترك أو تماهل عن الواجب النوعي المطلوب انهيار كل شيء يعول عليه.

والضاعت أتعاب النبي صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام هي والمجاهدين والتضحيات بالملايين لدنيا

ص: 296

السعادة المثلى في الدارين.

وأي عاقل معتدل لابد أن يدرك وبتصديق أن الأمة وبيضتها وإن قلت حروفها شأنها شأن الكل، وبقية القضايا الشخصية وإن عظم شأنها مثل الجزء، وعمار الجزء بعمار الكل، وبما أن الكل أعظم من الجزء وهي قضية منطقية عقلية وعقلائية أيضاً يقر بها الجميع - ومنهم الإنسانيون أتباع النظام المعتدل والدولة الفاضلة، وبالأخص المسلمين والمؤمنين وكل من يتقيد بهم من أنصار النظام الإسلامي العادل لطلب العيش الرغيد فيه - لابد من الإذعان به على كل المعايير.

وعلى كل فباتباع قانون هذه القاعدة لابد أن يصبح - الاستناد والتمسك بالأولوية المذكورة فيه - في مثل التقديم بين ما مر من كل متزاحمين من روايات حق النوع وحق الشخص من أسهل ما يمكن تحقيقه.

إضافة إلى بعض أدلة أخرى تتكثر بها المصاديق غير خفية على الفقيه الجامع، أو ما يتناسب مع ملائمة الحكم للموضوع اجتهاداً، إذا تناسب المتزاحمان تناسباً صحيحاً، كما بين العلة والمعلول من منصوص العلة، أو من معرفة ملاكات الأحكام الأخرى بتوسط جوانب الأدلة الشرعية المناسبة من الكتاب والسنة وتوابعهما الأصولية، لما ذكرناه من المثال الماضي وما سيجيء من الأمثلة المناسبة الأخرى.

ومما يضرب في المقام من الأمثلة عند التزاحم لإدراجه في أولويات ما يستحق من الترجيح العلاجي الشرعي هو ما يتعلق بحقوق الناس كما أشرنا.

فإنَّه أولى من غيره من التكاليف الشرعية المحضة العائدة لله تعالى وعبادته كالصلاة لا بخساً بها من حيث هي للتفريط بها وقت الرجاء للوفاء بحق المولى من واجب حق شكر المنعم والعياذ بالله، وإنما لأداء حق يقابله قد قدم عليه في النصوص الحاوية للإذن الإلهي في التقدم، ولتوقف مقبولية وصحة تلك الصلاة مثلاً التكاليف على دفع هذا الحق وإلا تكون الصلاة منقوصة لقوله تعالى «وأقم

ص: 297

الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر»(1) وغير ذلك كما في الدين الذي على الذمة وقد حلّ أجل وفاءه لصاحبه الدائن وإرادة صاحبه وكان المكلف المدين في المقابل أراد أن يصرفه على عياله حتى لحاجتهم إليه وإن فوض له في البداية من قبل صاحبه في صرفه عليهم لولا حلول أجل وجوب الوفاء المانع مع القدرة على الإرجاع وإن كان سد حاجة العيال من الواجبات كالصَّلاة، سواء كان هذا المال هو عين المملوك للدائن أو أنه بدله الذي حصله المدين من كد يده أو استدانة من آخر لغرض الوفاء به أو نحو ذلك، وقد ورد في النص الشريف الشامل لكل حالات ما يشابه المقام وهو (الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به»(2)، وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً)(3).

أقول: إنَّ الفقرة المتوسطة في هذا الحديث الشريف هي الدليل الكافي والشاهد الوافي على تقدّم حق كل من ظلم من الناس على كل نفس ظالمة أو مدينة في ديوان العدل الإلهي باستيفاء ذلك الحق له أو أخذ القصاص العادل له من ظالمه بواسطة الحاكم الشرعي أو في الآخرة كما لا يخفى إن لم يقدر عليه في الدنيا.

ومن تلك الأمثلة في تشخيص مصاديق الأولوية المتزاحمة هو ورود الاحتياط التعبدي وبما قد يفوق كافة أنواع الاحتياط التحفظية الأخرى بسبب ورود الاهتمام به أكثر منها ، كما في أمور الدماء، لورود الأخبار في التوصية كثيراً بحقها لئلا تسفك كثيراً عند أتفه الشبهات وأمور الفروج لورود الأخبار المشددة على صيانتها، حماية

ص: 298


1- سورة العنكبوت / آية 45.
2- سورة النساء / آية 48
3- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 10 ص 33.

للشرف والكرامة فيمن ظواهرهم الشرف والكرامة كذلك.

ومن أهم مصاديق الاهتمامات بالدماء والفروج هي ساحات الحروب وميادين الغزوات الهوجاء، واذا اختلط الحابل بالنابل وما قد يعلّق كثيراً في أمورهما من الشُّبهات لدحضها أو عدم البناء عليها في باب العدالة عند المرافعات جهد الإمكان كما قال رسول الله صلی الله علیه و اله (أدرأوا الحدود بالشبهات)(1)

وأضيفت إليهما في مجالات الأطعمة والأشربة للتّورع في أمر هذين الأخيرين كذلك كما في سابقيهما خوف التورط بالشبهات تنزهاً، فضلاً عن الحرام كاللحوم وما يؤول إليها طعاماً وشراباً.

وبناء على ما مضى من الأمثلة والشواهد الماضية لو دار الأمر بين نفس المؤمن وبين ماله مثلا ، وإن عز كثيرا ذلك المال فإن حفظ نفسه يتقدم على ماله وهكذا الفروج والأعراض فإنّ حفظها عن الانتهاك مقدم على أعزّ الأموال، وكذا اللحوم المحللة هي المقدّمة على ما اشتبه أمره منها ، فضلاً عن المحرمة حتى لو ازدادت قيمتها المالية إلا أنّ الأموال المحللة فهي التي ينبغي الحرص عليها احتياطاً بأكثر على توافه الأمور.

ومن تلك الأمثلة أيضاً ما يدور من المتزاحمين في الواجبات العبادية كالصلاة بين ما كان ركناً من أركانها وبين غيره من الواجبات غير الركنية كالدوران بين القراءة والركوع عند ذلك التزاحم في مثل ضيق الوقت المقتضي للحرص على أداء الركن ولو بحصول ذلك الركوع من الركعة الأولى للصَّلاة داخل الوقت الأدائي من آخره وإن حصل الباقي قضاءً حتى لو كان هذا الركن متأخراً في رتبته عن القراءة

ص: 299


1- الوسائل: ج 18 ص 336 باب 24 من أبواب مقدمات الحدود ح 4 وص 399 باب 27 من أبواب حد الزنا ح 11.

لأهمية الركن المحقق للفوز بالأداء كما لو نسيت القراءة، ولتدارك القراءة المتروكة بعد الفراغ من الصلاة لاكتفاءه بالركوع عند الحرج الحاصل وسط الماء.

وكذا تسقط القراءة عن حال الفريق إذا لم يقدر على أن يسبق ركوع صلاته بالقراءة.

وكذا لو وجبت صلاة الجماعة على المكلّف خلف أمام عادل بوجه من الوجوه عند إرادة التحاقه بالإمام الذي انتهت قراءته لتقدم الواجب الركني وهو الركوع في كفاءته للالتحاق بالجماعة وإن لم يسمع القراءة.

ومن تلك الأمثلة في تقديم الأهم على المهم اقتضاء أمر نجاح الصلح المتعارف في كونه سيد الأحكام بين المؤمنين عند وقوع الفتن والخصومات، إذا كان نجاح الصلح متوقفاً على الكذب، وإلا سوف يحصل ما لا يحمد كسفك الدماء أو دوام الخصومة المسببة للخسارات الضخمة.

فإنه لا مانع منه حينئذ وإن كان الكذب معصية كبيرة في غير مقام الصلح وإحراز نجاحه، وإن الصدق هو الذي يلزم الالتزام به في كونه المنجي في غير ذلك لغاية إنجاح الصلح أيضاً مع عدم الحاجة إلى الكذب.

وعلى كل حال فإنَّ إنجاح الصلح مقدّم على عدمه مع بقاء الفتنة، للتوصل إلى محوها وإنجاح الصلح بالكذب، وكونه العلاج الوحيد إن لم يمكن التعويض عنه بالتورية.

وكذا مخادعة الأعداء في الحرب للغلبة عليهم حتّى بالكذب إن توقفت الغلبة المعانقة للحق تحت ظل الإمام الشرعي أو من ينوب عنه بحق عليه، أو توقفت مكافحة شر الأعداء عن المؤمنين عليه أيضاً.

فالمخادعة الشّرعيّة في هذا المقام مقدّمة على كل شيء، لتحقيق هذه الغلبة أو مكافحة أهل الشر بردعهم على الأقل، إذا كان يسهل أمرهما ارتكاب هذه المعصية

ص: 300

المذكورة، لأنَّ الحرب خدعة إن لم يقتدر في هذا المورد على إنجاح الصلح الخالي منها أو المصحوب بالتورية المحللة المعوضة عنها.

ومما يلحق بهذه الأمثلة ما لو دار الأمر حول شيء بين شيئين متزاحمين إذا احتمل في كل منهما التعيين والتخيير حسبما لوحظ من أدلتهما مما بين بعض الواجبات وظهر من أحد المتزاحمين ودليله لسبب من الأسباب المعقولة والمقبولة أمام كلا الدليلين ما فيه احتمال ،الأهمية، ولو مما لا ردع فيه من الشرع.

فإن الاحتياط ورجحانه يقضي بتقدم محتمل الأهمية كحالة اليقين المحتملة في أحدهما، ولو كانت تحت عنوان أولوية دفع المفسدة على جلب المنفعة.

وهكذا فإنَّ هذا السادس الأخير - المتضمن لقاعدة تقدم الأولى على ما دونه من الأمور الشَّرعيّة التي تعددت أمثلتها وجوانبها - تعد قاعدته سيالة فيما لا حصر له من الأمثال القابلة لأن يقاس على محوريتها من مرجحاتها التي مضت.

المبحث العاشر خلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستة للتزاحم

وخلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستة للتزاحم من الحكم بالتخيير واختيار أحد طرفيه بدون تعيين حسب.

وأما فيما عدا ذلك من حالات التزاحم فقد تبرز في القواعد الستة وبأجمعها أيضاً معاني ما تقتضيه حالة الأهم والمهم وبالنحو الجامع المميز للأهم في تقديمه على المهم والخارج منه التخيير المستثنى، ولو كان وحده في خصوص ما بين المتساويين، ولو بنحو السطحية الجامعة المتناسبة مع هذا المقام الإضافي مع اختلاف أو تفاوت بعض معاني كل منها.

ص: 301

وكذا مقامات الأدلة العائدة لكل مثال من أمثلتها بنحو الدقة في التزاحم بين طرفي كل منهما ، إلا أن الخمسة الأولى تمتاز عن السادس وهو الأخير في قيود كلِّ منها التي ذكرت في دواخلها من مشخصاتها الخاصة بها.

وأما ذلك السادس منها فهو وإن شارك الخمسة السابقة في عمومية رجحان الأهم على المهم كما مر إلا أن الغالب عليه هو طابع الأولوية التي مر ذكر معانيها من الأمثلة المتعددة العائدة لهذا السادس وبما قد ينخفض معناها نسبيا عن معاني الأهمية الصريح في ترجيحه ولو على حد تعبير أحد أعلام القضية مع إجماله من قوله عند محاولة التحديد له (من غير تلك الجهات المتقدمة).

أقول وطابع الأولوية هذا وإن لم يكن معناه أنه - ذا حكم فتوائي كحالة (الاحتياط الأولى) المعروف ب- (الاستحبابي) - بنحو ينبغي لهذا الاستحبابي أن يكون مكان الوجوبي الآتي وأن الآتي يكون مكان الاستحبابي.

بل وإن كان كالفتوى مثل (الاحتياط الوجوبي) مما مر أيضاً، لأهمية أولويته.

وهكذا ما تلا ذلك مما هو أخف، ومن ذلك حالة الاحتياط الأخير الذي مرَّ في ترجيح محتمل الأهمية، لا خصوص ثوابتها التي مرت فإنها ملحقة بتلك الثوابت أصولياً ولو للتركيز العقلي المستقل المشهود له إرشادياً إلى ما به براءة الذمة مما قد يكون الأشد على المكلف من المشغولية إذا التزم بغير محتمل الأهمية.

المبحث الحادي عشر ماذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عن الحكومة والورود والمناسبة للمقام

بعد أن مرّ الكلام عن كون الحكومة والورود في أنهما مستثنيان في الذكر والانطباق بهما في الشرط السادس للأول والسابع للثاني من شروط التعارض

ص: 302

السبعة وما سيتلوه من الكلام الآخر عن بواقيه الآتية عوداً على بدء لذكر مهماته العلاجية ،الترجيحية، لئلاً تكون مفردات الحكومة والورود من أوصافه، ولكون التعارض في طرفيه ألا يرتبط لا بالموضوع الواحد وعدم إمكان الجمع بتا بين طرفيه من الداخل، لغرض وجوب حمله الحكم الإلهي الواحد للتنافي الكامل الذي بينهما وإن حصلت بعض مشابهة للحكومة والورود من طرفي كل منهما أيضاً على ما سيجيء التمثيل له بموضوع التعارض الواحد الذي ذكرناه في الأساس وانشقاق طرفي كل منهما من هذا الموضوع الواحد الذي للتّعارض، لانتهاء كل من الحكومة والورود بالتالي إلى النتيجة الواحدة في هذه المشابهة.

ولأقريبة دخول حالتي الحكومة والورود في باب ما يشبه الكلام عن التزاحم المذكور آنفاً كوجود معنى التنافي الموضوعي المتعدّد بين طرفي أمثلته والآتي كل منهما بإذن الله تعالى في الإيضاح عنها بالأكثر قريباً، لكن في التزاحم من حيث الامتثال والأداء في الحكومة والورود لا بالتنافي المطلق.

لإمكان أن يشبها حالة التعارض قبل الاستقرار في أمر الترجيح وإمكانه عند الابتلاء بأحوالهما بمثل تقدم الحاكم على المحكوم في الأول وتقدم الوارد على المورود عليه في الثاني، وإن لم يدخلا في قواعد التعارض الخاصة به مما سبق ذكره إذا كان مستقرا

لأن لسان طرفي كل منهما لا يكذب الآخر ولا يبطله وإن دخل أحد الطرفين في الأخير دخول الخاص في العام، لكنه بالنحو التنزيلي وفي الجملة دون الأصلي.

لأن مقام العام والخاص مجالهما أوسع مما نحن فيه، لأن مقام ما تقتضيه حالة الأمثلة المرادة محدودة لتبين محدوديتها في المطالب الترجيحية الآتية.

نعم يمكن أن تدخل في المقام حالة العموم والخصوص من وجه - كما سيجيء مع عدم التضرر منه -

ص: 303

فلابد أن نعرف بعد ما مر من التقديم لذكر الموقع المناسب الأنسب للكلام عن الحكومة والورود مما بين التعارض المهم وما يتبعه من التزاحم وما بعدهما لبث شيء من اصطلاحاتهما - عن الشيخ الأعظم قدس سره- مما به الزيادة المحترمة في شأنهما ، - وهي أنه عند تعرضه الشريف إليهما كان معروفاً عنه أنه أهم من تعرض لهما في أبحاثه الأصولية من الآخرين.

لكن مع فضله الفائق والمشهود له في هذا الأمر الرائق وغيره لم تخف منه الإشادة الوجدانية العادلة بحق ما أسداه المتقدمون عليه من الأساطين حول ذلك وأسبقيتهم في الكلام عنهما، ولو على حد تعبيره عن جهودهم تجاههما (بعدم غفلتهم عن ذكرهما).

وإن كان هذا منه قدس سره قد يشعر بكون ذكرهم لذلك أن فيه نوعاً من الإجمال، أو ما يؤول إليه من التبعثر غير المقترب كثيراً من التفصيل حول ما لم يجتمع تحت محور جامع حولهما ليس كمثل ما اعتنى به الشيخ نفسه قدس سره حولهما والله العالم بالحقيقة.

كما وصرح أيضاً بما تعرض له معاصره الأقدم وأستاذه صاحب الجواهر قدس سره إليهما، وبالأخص إلى الورود(1)، ولو على ذلك النحو من الإجمال المحتمل منهم ومن غيرهم بحسب الظاهر وغيره.

ولكن لعلَّ تعرضه إلى هذه الإشارة عن السابقين جميعاً كان لتبرير موقفه التوسعي حولهما، ولئلاً يقال عنه أنه استحدث لوحده أموراً لم تكن مألوفة من قبل

ولأجل أن الحق لابد أن يقال في حقه قدس سره كما هو أهله مهما كان مستواه المحترم بين رعيله وبين الأساطين العارفين به.

ص: 304


1- جواهر الكلام كتاب القضاء ج 40 ص 455 ، و كتاب الضمان ج 41 ص 662.

فنقول: وكما قال الأسبقون من أسلافنا التالين لمعاصريه عن تعرضاته البحثية عنهما وكما عن غيرهما أنَّه برع فيما تصدى له، كما هو أهله في تلك التوسعات عنهما ونوعية تأسيسه لاصطلاحاتهما الخاصة بهما.

بل نسب إليه حول تضلعه التوسعي في أمرهما قوله - على ما قيل وهو العارف بمقام نفسه المحترمة - لميرزا حبيب الله الرشتي قدس سره عند مصاحبته له في طريق ذهابهما معاً إلى مجلس بحث الشيخ صاحب الجواهر قدس سره حينما سأله الميرزا الرشتي قدس سره (سؤال امتحان واختبار عن سر تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور، فقال له: إنه حاكم عليه قال وما الحكومة؟ فقال له: يحتاج إلى أن تحضر درسي ستة أشهر على الأقل لتفهم معنى الحكومة)(1)

مع ما أدركه بعض الفطاحل من حالات الغموض التي لم تتضح أمورهما تامة حتى الآن.

وهذا ما يفرض علينا الاكتفاء الآن بما سنوجزه عنهما في هذا المختصر ما دام بالإمكان العثور على أمور علاجية في الروايات الترجيحية ولو بالمقدار الميسور للباحث جهد إمكانه مع حرصه واستفراغ وسعه في تلك الروايات وغيرها من الأدلة الشرعية للعثور ولو على أقل ضالة تجاههما، وعلى ما سيتضح أمر كل منهما من التمثيل له .

ص: 305


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 222.

المبحث الثاني عشر ماذا قال المتعرضون كالشيخ قدس سره ومن سبقه لخصوص الحكومة

لم نلتزم نحن بإبداء نصوص ما ذكروه قدس سره حول ذلك عن الحكومة بالحذافير لتفاوت تعابيرهم.

وإنما نقتصر على المضامين المستفادة من مجموعها، والتي لا لبس فيها علينا وعلى الآخرين بإذن الله ولو بالاقتصار على ما يمكن الاستقرار عليه من مختصرات ذلك المسلّمة، مع إضافات ما قد يتجلى لنا توضيحا أو ترجيحا منه.

فنقول: بما أن الحكومة هي أول المطلبين المهمين في الذكر من قبل الأساطين للاستفادة التدقيقية مما تصدى ويتصدى له المتشرعة في أعرافهم وسار تحت ظلّهم أهل الآراء المحمودة من العقلاء في تصرفاتهم الاجتماعية مما بينهم، ومحاوله تطبيق ذلك بالدقة الممكنة على الواقع الشرعي المرتبط بالأدلة المحكمة والملاكات المهمة للأمثلة الصحيحة غير البعيدة عن العلاجيّات الحاوية لموارد الترجيحات الملائمة أو المستفادة خارجاً من لوازم الأصول المعتمدة المقومة للحجة التي لا تعود إلا للشرع في المجالات المشكلة من تلك التصرفات.

فلابد إذن من أن نحيط أولاً ولو بالميسور الفعلي مما يسد الحاجة من محددات هذه الحكومة القابلة للتطبيق والتي يكثر الابتلاء بها في الفقه عادة.

وثانياً: في الخضوع في موارد التطبيقات للتمثيل التوضيحي بعيد كل من فارق الحكومة عن التخصيص وفارق الحكومة عن الورود.

فهي عبارة عن أن يكون أحد الدليلين صالحاً لتضييق جانب الدليل الآخر أو توسعة مورده أو يصلح لهما معاً، وهذه ستتضح كلها قريباً بالأمثلة.

ص: 306

وهذا التضييق أو هذه التوسعة أو ما في الاثنين معاً بمعنى التقدم على الدليل الآخر تقدم سيطرة شبه قهرية من الناحية الأدائية فقط، ولهذا أطلق على عنوان هذه الحالة اصطلاحاً بالحكومة.

فالمقدم هو الحاكم والمستولى عليه هو المحكوم، دون أن يكون التقدم والتأخر بين الدليلين قد تسببا من الإسناد الروائي وحالاته أو الحجة وتفاوتاتها، بل إنهما على ما هما عليه من الحجية بعد ذلك التقديم، لعدم التكاذب بين دليليهما وعدم التعارض كذلك.

لكن شريطة أن لا يكون أمرهما من قبيل التخصص الحقيقي للعام مما سبقت الإشارة إليه وإن أشبهه بعض الشيء بما سيأتي توضيحه من التمثيل له أو من قبيل ما سيأتي بيانه قريباً من ثاني المطلبين، وهو الورود، لافتراق الحكومة عنهما.

أما فرق الحكومة عن التخصيص فإنّها وإن أشبهت بالنتيجة الأدائية من جهة خروج مدلول أحد الدليلين عن عموم مدلول الآخر، لكنها لا تشبهه في الإخراج عن عموم العام من حيث الذات والنتيجة معاً على ما هو الثابت عنه حقيقة بين أهل المحاورات في حاكمية الخاص على العام من ناحية غلبة الأظهر على الظاهر بحكم العقل السليم بقبح العكس على الحكيم جل وعلا.

وإنما أشبهته بتلك النتيجة تنزيلاً وادّعاءً فقط كما أشرنا، ولتفاوت دقيق اصطلاحها عن اصطلاحه الخاص به، مع لا بدية أن يفرض فيه الدليل الخاص منافياً في مدلوله للعام، لتحقيق أمر التعارض والتكاذب بين جانبي العام والخاص بحسب لسانهما بالنسبة إلى موضوع الخاص دون أن يحصل شيء من هذا التنافي في طرفي الحكومة كما مر.

ولأجل توضيح المطلب أكثر ينبغي لنا الاستعانة أولاً بأمثلة المحاورات العقلائية والتي تقترب عادة من سيرة المتشرعة، أو أنها تحت ظل الشريعة من البداية في

ص: 307

مقاصدها الأصولية، ثمّ ببعض نماذج من المدارك الشرعية الواضحة.

أما الحالة الأولى فهي ما إذا أمر السيد عبده أو الأب ولده أو المستأجر أجيره ليصرف شيئاً من ماله قائلاً له (أكرم العلماء) ثم قال له بعد ذلك (لا تكرم الفساق).

فإن القول الثاني الذي في مقام التخصيص كما لا يخفى يكون مخصصاً للقول الأول، لأنَّ مفاده حينئذ ليس إلا عدم وجوب إكرام الفساق، لو لم نقل بحرمته ارتباطاً بصيغة النهي، حتى مع بقاء صفة العلماء فيهم، لناحية التخصيص الذاتي بسبب الفسق في جميع حالاته.

أما لو قال عقيب أمره الأول (الفساق ليسوا بعلماء).

فإن مصداق التمثيل هنا يخرج من حالة التخصيص العام ويدخل في باب الحكومة.

وبذلك يكون القول الثاني حاكماً على الأوّل، لكون الآمر به أنزل رتبة العلماء الفساق إلى منزلة الجهلة، أو عدم كونهم من أهل العلم، لأنه تصرف في هذا الأمر تصرف عقد الوضع بهذا التخفيض الاعتباري بسبب لوثة الفسق المأدية إلى ترك عطاءهم وإكرامهم ، ليكون البر في محلّه ولأهله العدول.

وبهذا يظهر الفرق بين التخصيص والحكومة على أن تكون الحكومة في موقع التضييق لمحكومها.

وأما الحالة الثانية: وفيها بعض النماذج مما يثبت الضيق كذلك كالسابق، لكن من أنماط ما تعطيه أمثلة المدارك الشرعية الصريحة للمقام المناسب مثل قاعدة (لا شك لكثير الشك) بناءً على مصحح زرارة وأبي بصير الوارد في كثير الشك قالا: قلنا له علیه السلام

(الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلى ولا ما بقي عليه؟

قال يعيد

ص: 308

قلنا له: فإنه يكثر عليه ذلك كلما أعاد شك؟

قال: يمضي في شكّه، ثم قال: "لا تعودوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث يعتاد لما عود، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك.

قال زرارة ثم قال: إنما يريد الخبيث أن يُطاع، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم)(1)

وذلك بالنسبة إلى قوله علیه السلام أيضاً (إذا شككت فابن على الأكثر فإذا فرغت وسلَّمت فأتم ما ظننت إنك نقصت فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذا شيء وإن ذكرت إنك قد نقصت كان ما صليت تمام صلاتك)(2).

حيث يضيفه علیه السلام عائداً إلى خصوص الشكوك التسعة للصلوات الرباعية المتعارفة والمرتبطة بالبناء على الأكثر، ليبقى الباقي منها محولاً إلى الأدلة الأخرى من مواقعها، دون الشكوك الكثيرة المذكورة التي لا يعتنى بها في القاعدة المذكورة والنَّص الأول.

وبهذا يكون الأول حاكماً على النص الثاني ومضيقا له.

وأما لو كان الآمر لمأموره بعد أمره إياه ب- (إكرام العلماء) في مثال الحكومة الماضي أضاف كلمة (المتقي عالم) بتنزيل التقوى منزلة العلم.

فإن هذا القول الثاني حاكم على الأول، لكن لم يفهم منه إلا ما يكون معناه على نحو من التوسعة المشار إليها آنفاً دون التضييق المعاكس في المثال السابق للحكومة أيضاً.

ص: 309


1- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 188 ، الكافي - الشيخ الكليني - ج3 ص 358 .
2- الوسائل: ج 8: ص 213 باب 3 (7910453).

ومثله في التوسعة من الشَّرعيّات الصريحة أيضاً قولهم علیم السلام ( الطُّواف في البيت صلاة )(1) في مقابل حالات نفس الصلاة، ليكون مفاده حاكماً على أن لا تنفرد الصَّلاة الواجبة الرباعية في أمور الشكوك الصحيحة وأحكامها في ركعاتها.

بل يتوسع الأمر أيضاً في أشواط الطُّواف كذلك لو اعترى الطائف بعض الشكوك.

ومثله في التوسعة من الشَّرعيّات قاعدة (لحمة الرّضاع كلحمة النسب) استناداً إلى قول رسول الله صلی الله علیه و اله (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)(2).

فإنَّ هذا النص حاكم على أن لا ينفرد النسب الشرعي الولادي وأتباعه من حالات المحرمية الأخرى كالعمومة والخؤولة ونحوهما في بعض الأحكام الخاصة، بمثل حرمة الزواج من الأم والبنت والأخت وما يلحق بهنّ، وبالعمة والخالة وعدم وجوب حجابهن من أبناءهن وإخوانهن وآبائهن وأبناء إخوانهن وأعمامهن وأبناء أخواتهن حتى في الرضاعة، لما لا يخفى من التوسع الشرعي الاعتباري في موضوع النسب.

ومثله في التوسعة من الشَّرعيّات أيضاً حديث السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام أن النبي صلی الله علیه و اله قال : (یَا أَبَا ذَرٍّ یَکْفِیکَ اَلصَّعِیدُ عَشْرَ سِنِینَ)(3) وقول أبي جعفر علیه السلام (اَلتَّیَمُّمَ أَحَدُ اَلطَّهُورَیْنِ)(4)

ص: 310


1- الوسائل: ج 13 ص 376 ب 38 أبواب الطواف ح6 ، عوالي اللئالي ج 2 ص 163 ح 3
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 20 ص 388.
3- الوسائل 3: 386 ، أبواب التيمم، ب23 ، ح4.
4- المصدر السابق ح 5

وذلك بالإشارة إلى قوله علیه السلام الآخر (لاَ صَلاَهَ إِلاَّ بِطَهُورٍ)(1)، حيث أنَّ النَّص الأول يوسع الطهور شرعاً بالطهارة الترابية أيضاً، لكن بالنحو الطولي دون العرضي، فتكون حالة خصوص الماء محكومة لما هو الأعم من الماء والتّراب.

وأما فيما يرتبط من الشَّرعيّات بما يشمل التوسعة والتضييق معاً دون ما قد يتوهم من خصوص التضييق فقط، والتوسعة كذلك للحكومة فلنكتف بضرب مثال واحد، إذ به يتم التوضيح فهو في مثل قول الإمام علیه السلام (العمري وابنه ،ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعنّي يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثّقتان المأمونان)(2)

فإنه في حكومته يوسع نطاق العلم المتبع في قوله تعالى «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(3) المشدّد في التضييق بالإشارة إلى موارد الإمارات المعتبرة أيضاً مما هو أقوى منهما ، كقول الثّقة في الرواية، وكذا البينة واليد ونحوهما.

كما يضيق أيضاً موارد اعتبار الأصول العملية مطلقاً إلى غير موارد الإمارات المعتبرة، فيقدم مثل قول الثّقة والبينة واليد على مثل التخيير ونحوه من تلك الأصول.

وبعد هذا كلّه في المقارنة بين الحكومة والتخصيص وتبين الفرق بينهما بما مضى يمكن أن يبدو إشكال من بعضهم بادعاء:-

أن التخصيص وضع على نحو التضييق فقط، ليزداد الفرق بينه وبين الحكومة أكثر، وأن الحكومة تتصف بالتضييق وتتصف بالتوسعة وتتصف بهما معاً كما مر.

لكن يمكن الإجابة عن هذا:

بأنَّ الفرق بين الحكومة والتخصيص لا يضر به بعض شبه آخر بينهما، كالتوسعة

ص: 311


1- الوسائل ب9 من أبواب أحكام الخلوة ح1.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص330.
3- سورة الإسراء / آية 36

أيضاً، فإنها قد تستفاد من حالة التخصيص كذلك.

لأنَّ قول الآمر في مثاله الماضي من الحالة الأولى (لا تكرم الفساق) يضيق دائرة (أكرم العلماء) تارة إذا كان بعض أهل العلم من الفساق المنهي عن إكرام مطلقهم.

ويوسع دائرة الفساق بشموله الفساق العلماء أيضاً تارة ثانية، بشمول عدم إكرام حتى العلماء لو كانوا فساقاً، إلا إذا خرج هؤلاء العلماء موضوعياً عن يشملهم الفسق بمثل حملهم العلم لبعض الاعتبارات.

فلا فرق إذن بين الحكومة والتخصيص من هذه الناحية.

فيبقى الإقتصار على الفوارق الباقية بينها مما مر ذكره وبها كفاية التمييز.

وأما فرق الحكومة عن الورود الآتي بيانه قريبا جداً.

فنلخصه:-

بأن الحكومة إذا كانت عبارة عن أن يكون أحد دليليها صالحاً لتضييق مورد الدليل الآخر أو توسعته أو كليهما معاً بنحو مشابهته للتخصيص التنزيلي.

فإنَّ الورود يكون عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعاً بعناية الجعل لكن في خصوص مشابهته للتخصص، دون التخصيص في الخروج الموضوعي.

إلا أن صفة هذا التّخصص في حالته التكوينية، وفي الورود تكون بعناية الجعل أو التشريع، أي سواء كان المتصرف شارعاً أولاً، كخروج مورد الأصول العقلية العملية المقررة للشَّاك في مقام العمل عند فقد الأدلة الاعتيادية عليها أو تعطلها عن مورد الإمارات الشرعية المعتبرة لو توفّرت على ما سيتضح أمره أكثر.

ص: 312

المبحث الثالث عشر: ماذا قال السابقون عند تعرضهم لخصوص أمر الورود

بعد الذي ذكرناه من محدودية الورود سابقاً وعن موقع ذكره مع الحكومة بعد ذلك من محل ذكرهما الأنسب في المقارنة مع التعارض والتزاحم قبل ذلك نقول:-

إن كلام السابقين قدس سِرهم حول أمر الورود إذ جعلوا فيه العلاج التدركي لما قد يقع من حالاته عند عدم العثور على النصوص والأدلة الشافية والكافية من أمور العلم الإجمالي، هي:-

1 - إن توفّر شيء من الإمارات ذات المرتبة المتأخرة عن النصوص والأدلة الاعتيادية - كقول الثّقة المعتبرة والبيئة الشرعية وذي اليد ونحوها - فإنها مقدمة على ما قرروه في البداية من الرجوع إلى الأصول العملية الفعلية المقررة للشاك في مقام العمل، مثل حكمهم ابتداء بالبراءة العقلية مادام موضوعها تلك البراءة اعتماداً منهم على عقيدتهم وعقيدتنا معهم ب- (قبح العقاب بلا بيان).

في حين أن لا بيان في المقام من النصوص إن ظهرت بعض هذه الإمارات عندهم أيضاً، لا بتصد من قبل الشارع المقدس الذي قد وفّرها في الواقع وبما قد يكفي كما مر ذكره ،مرات، لكونها وإن تأخرت عن رتبة النصوص والأدلة الاعتيادية لو لم تبد للفقيه عند الحاجة هي الصالحة لأن تكون بياناً نقوم به الحجة المعوضة على كل مكلف، وإن لم يكن بيانا حقيقيا

بل هو بيان تعبدي جاء بالعناية الشَّرعيّة ومريحاً لتلك البراءة، وإن جاءت مبررة من بعض الأدلة الإرشادية المرتبطة ب- (حسن الإحسان وقبح الظلم) والناهية عن التكليف بما لا يطاق حينما لم تكن تلك الإمارات واردة حينما لم يعثر عليها أو على

ص: 313

غيرها.

2 - وحكمهم عند عدم تلك النصوص والأدلة الاعتيادية بالبناء على أصل الاحتياط العقلي وهو وجوب دفع الضرر المحتمل الذي موضوعه عدم المأمن من الضرر لولا هذا الاحتياط التحفظي عند وقوع الشك لو لم تكن الإمارة المناسبة واضحة في المقام.

لكن لا قيمة لهذا الاحتياط الملتجأ إليه عندهم أيضاً مادامت الإمارة وافية في المقام كما سبق، لأن الوضع الشرعي هو الداعم الأهم لها وبما يفوق الاحتياط العقلي وإن كان مدعوماً ببعض الأدلة الإرشادية كما أسلفنا.

3 - وحكمهم كذلك بأن أصالة التخيير بين ما يأدي إلى ما هو الوجوب أو الحرمة مثلاً من حاليتهما إذا تساويا في اعتبار الحجتين ولم يكن من مرجح لأحدهما على الآخر كي يتقدم على ما يقابله، فإن كل إمارة معتبرة لو توفّرت في مقابل هذا الحكم التخييري تعد عندهم أيضاً واردة وأصالة التخيير مورود عليها ذلك الوارد.

4 - وهكذا كل أصل شرعي حتى هذه الإمارات في مقام المقارنة بالأصل العقلي مثل الثلاثة التي استعرضنا ذكرها تجاه الشرعي الأصرح في كونه الوارد على ما هو الأضعف منه، وإن قلت حالات الاستثمار من أمثال حالة الورود هذه.

أو أنها لم تكن بمثل كثرة الإستفادة الإستنباطية من موارد الحكومة التي مر ذكرها، ولهذا ما أسهبنا في الكلام عن الورود كسابقه.

المبحث الرابع عشر ما هي القاعدة في التعارض المستقر هل هي التساقط أم التخيير؟

بعد لزوم العود إلى الكلام عن التعارض لإتمام مطالبه - عند الإنتهاء من

ص: 314

الحكومة والورود وما سبقهما من بعض المقارنات بين العناوين العارضة على بحث التّعارض - ومما يخص التعارض أيضاً هو اتصافه بحالتين:-

أولاهما: حالة عدم الاستقرار، وهي التي تشترك مع حالات الحكومة التي تخضع للعلاج بالترجيح كما مر وسوف يتضح في أمور العلاجات الترجيحية الآتية.

وثانيهما حالة الاستقرار وهي مورد كلامنا الآن عنه.

فإنه عند خلوه من كافة المرجحات الماضي ذكرها بين طرفيه لأحدهما على الآخر - وصح اطلاق التعادل الكامل بينهما بما مضى تفسيره، وأنه بتقابل تكاذبي لحجتي كل منهما، أو جاء الطَّرف المعارض لمعارضه الآخر بهذا النحو من التقابل، حتى بعد تقدم الخاص على العام أو المقيد على المطلق، أو النص على الأظهر، أو الأظهر على الظاهر، أو الظاهر على خلافه مع احتمال خلافه في كل من جانبي المعارضة، لو تمت دلائل من حالات ما استقروا عليه في محاوراتهم المسلم قبولها بين العقلاء وأهل العلم -

هل يمكن القول بعد هذا التحديد له بالحكم على طرفية بالتساقط والبحث عن ضالة أخرى أم بالتخيير؟

فإن المشهور عندهم وبنحو القاعدة الأولية هو التساقط، ولعلهم لم ينفكوا - لحسن الظن بمقاماتهم المهمة - عن السعي الدؤوب لهذا المشكل، وبناء على صحة قاعدة ( ما خفي على فقيه طريق) بالسعي إلى اللجوء إلى طريق ثالث شرعي، إن كانت مظنة الحصول عليه عن استفراغ الوسع الإجتهادي ممكنه حسب اعتيادية أصحابه، ما دامت الشُّبهة الحكمية لم يغلق باب إمكان حلّها، لو لم تنكشف واقعية أحد طرفي التعارض بالحكم المقبول من كذب الآخر، ولو بعد حين قليل من قوام الحجتين بحسب الظاهر.

وعلى هذا الحكم التّساقطي عندهم في حالة التعارض المستقر معول أساتذتهم

ص: 315

المهمين ممن لا ينبغي مخالفتهم في مستوى القاعدة الأولية المذكورة.

ولكن تظافرت الروايات المهمة ألفاظاً ومضامين بالنحو الذي لابد أن لا يبخس بحق الرجوع - عند بعض حالات الحيرة عند حلول اليسرة - إلى محكمات الآيات وواضحاتها، أو ما أخذه وضح عن الرسول صلی الله علیه و اله من النص القرآني أيضاً، أو عن أولي الأمر علیهم السلام من ذلك النّص أيضاً، أو حتى مجملات تلك الآيات المفسرة والمأولة بمعتبرات الروايات عن النبي صلی الله علیه و اله و عن خصوص أهل بيته من العترة الطاهرة علیهم السلام ولو بالنحو الأولي العمومي من مرجعية الكتاب والسنة في هذا الأمر، إلى أن يأتي دور التفصيل الأكثر فيما بعد، ولو لكي لا يقطع منه أمل الحل، حتى لو أدى شيء ذلك إلى حالة من التخيير.

لكن بنحو من القاعدة الثانوية الثانية دون الأولي، ولو بمثل عدم منع التخيير المطلق لو جاءت أسبابه المجملة من الكتاب والسنة بين المتعارضين، وبنحو ما قد يغاير ما حددناه في تلك الأولي للتساقط، سواء وضح المرجح أم لا، تحت ما قد تسمى بهذا العنوان الثانوي، كما في مرجحات حالات التقية أمام من يقول بالحرمة وأمام من يقول بالحلية من بعض الفرق الإسلامية المتعصبة في كلا الحكمين من حالات التّعارض ، إذا كان المحرجون لنا منهم قد يحلّلون ما حرم أو يحرمون ما حلَّل، ، حسب مذهب كل منهم، لو لم يمكن الخلاص ، وإن كان الواقع الشرعي على خلاف ذلك الإحراج.

ومن أمثلة ذلك اختيار صلاة الجمعة إضطرارا عند من يقول بحرمتها خشية ممن يقول بوجوبها.

وإضطرار الإختيار لصلاة الظهر عند من يقول بوجوب صلاة الجمعة أيضاً إن أبتلي المكلف بهذا الأمر إما اجتهاداً أو تقليداً أو احتياطاً ولو تقية.

وإن تزاحم المتعارضان لابد من الاكتفاء باختيار أحدهما له أو عليه، ما لم يكن

ص: 316

تكليفه الواقعي صلاة الظهر، فإنه يصليها في فسحتها الزمنية إن اضطر إلى اختيار صلاة الجمعة، وقد سبقت الإشارة إلى ما يشبه هذا المثال.

وقد يأتي لكن لا في حالة الاختيار الإضطراري لكل من حالتي الوجوب والحرمة، وإنما في حالة حصول الواجب التخييري عند المجتهد الواحد المختار والمكلَّف الآخر غير محرج لو قلده.

فلا ينبغي خلط أمره بمطلبنا .

هذا وأمثلة مطلبنا كثيرة أمام أهل النباهة ودلّت عليه آيات وروايات التقية.

وقد يصل الأمر إلى القول بالتوقف أو الاحتياط في غير مورد التقية أيضاً مما قد يأتي ذكره في مناسبة ذكره.

كما ودلت على صحة الأخذ بأحد المرجحات حتى الإختيارية منها إن أمكن الخلاص من إحراج المحرج المخالفة بمثل إقناعه حتى بما ورد عن أئمتنا الأطهار علیهم السلام.

وبالأخص كثيراً إذا كان ثقاة العامة - بل وحتى غيرهم ولو صدفة - يروون عن النبي صلی الله علیه و اله من طرقهم ما يتلائم ورواياتنا الشريفة المفضية إلى صحة الرجوع إلى الكتاب والسنة المعتبرة عند الجميع، ولو على نحو التقريب المذهبي في حالة الحيرة، إن ساعد هذا على إمكان التدقيق المتلائم في المرجحات.

وإن قلت عن مستوى مرجّحات ما قبل الاستقرار التعارضي للقاعدة الأولى، من مثل كون أحد دليلي حالة هذا التعارض - وإن تكافئا في حجتيهما صناعيا - أقرب إلى واقع النصوص، أو أحدث تأريخاً مع ضبط ذلك، أو أشهريته تداولاً، أو كان موافقا للكتاب والسنة المعتبرة بحق، لو خالفتهما العامة في مثل موارد اختيارنا دون اضطرارات حالات التقية، وبالبناء على تطبيق مفاد ما ورد من الحديث الوارد عن الإمام أبي عبد الله الصادق علیه السلام وهو (دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في

ص: 317

خلافهم)(1)، أي عند بروز حالة الإختيار فينا وإصرار المخالفين على المخالفة دون موارد التقية.

ومن تلك الروايات بعد الآيات المناسبة المشار إليها آنفاً مقبولة عمر بن حنظلة فهي واسعة المضامين وتشمل في إفادتهما للمقام ما قلناه وغيره، وستأتي مع المناقشة حولها من البعض وردها.

ومنها ما عن عدة من أصحابنا عن حمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن أيوب بن الحر قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول (كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(2).

ومنها ما عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله علیه السلام قال (خطب النبي صلی الله علیه و اله ، بمنى ، فقال : أيها الناس ! ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(3)

أقول: وهاتان الروايتان بعد المقبولة من عمومهما وإطلاقهما ما قد يفيد من حالات التعارض مع المقبولة وغيرها من الروايات المشابهة مما قبل الاستقرار وما في حالاته وما بعده من موارد القاعدة المناسبة كل بحسب موقعه من حالات العلاج المحتاج إليها في تلك الأدلة.

وأقول أيضاً إضافة إلى ما يمكن استفادته منها في مقام إمكان الرجوع إلى المرجحات من مقامات الإحراج المشار إليها آنفاً لابد أن تفيدنا كذلك في حالات

ص: 318


1- وسائل الشيعة : ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح19، وفي رواية أخرى (ما خالف العامة ففيه الرشاد) نفس المصدر ح1
2- المصدر السابق ح14.
3- المصدر السابق ح15.

التّعارض الظَّاهري، لو لم تبد مقومات التعارض الواقعي مما قبل حالة استقراره إن أمكن استكشافه بها عند المقارنة التطبيقية للروايات المعنية بهذه الأمور.

إضافة إلى ما مضى في السابق من أهمية الاستفادة بالاستعانة بتطبيق القواعد الأدبية وقواعد مباحث الألفاظ الأصولية المعتمدة عند الجميع.

لا كما قد يتصوره بعض السطحيين من حصر فائدة المرجحات - لو تيسرت - في خصوص ما تحت القاعدة الثانية، أو ما يرتبط بخصوص العناوين الثانوية، أي حتّى لو لم تأدِ تلك الترجيحات إلى شيء من التخيير الممنوع حسبما مضى بيانه.

المبحث الخامس عشر: ما المقصود عندهم من كون (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح؟ وما هي وظيفتنا؟

قد تعارف التطرق إلى هذا الأمر بين الأصوليين لا ليبتوا فيه مطلقاً، بل ليبحثوا في أساس ما يبرر الأولوية المفيدة لجمع ما كان مبعثراً من حالتي أو حالات التعارض التي قد توصل إلى معنى مقبول شرعا مع إمكانه، كي تطرح حالة التساقط.

ولعل ذهن العاقل الحريص فضلاً عن هؤلاء الأعلام لا يأبى عن أمر تعقل التوسع الممكن بإدخال ما يزيد من خلال ممارسة هذا البحث على حالات التعارض المحتملة.

لكن بمجرد العقل لا يمكنه أن يتحكّم في هذه الأمور لوحده ما دامت مقبولية القواعد الأصولية والروايات العلاجية المهمة وإمكان مصاحبتها للعقل مرهونة بعدم ردع الشارع المقدس عن تصرفاته التي أمكن منها حالة إدخال التوقف على رأي البعض أو الاحتياط كذلك.

ص: 319

لذا فإن ما تطمئن به النفس لدى المتشرعة في مثل التعارض إن أمكن جمع جانبيه و عما هو الأمثل ما أشرنا إليه سابقاً من حالة الجمع الممكن شرعاً بين دليليه ولو في الظاهر إن عثر على ما بينهما من حالة العموم والخصوص من وجه إذا يحصل بينهما التلائم الإجتماعي في جملته الشرعية أو العقلية الممضاة لدى الشرع لا في كل حالة، أي حتى بما يعطيه العنوان العام أو المطلق أعلاه من عبارة قولهم (مهما أمكن)، لاستفادة ثمرة تلك الأولوية المأدية إلى طرح التعارض ومنه المستقر.

لأن أولوية ما يعطيه عموم واطلاق العقل العام - الذي كثيراً ما يخرج عن موافقة الشرع له قولاً وعملاً وتقريراً لو خلّي محاطاً بالمغريات ولو بمثل توهم عدم الردع الشرعي عن تلك الأولوية -

لا يمكن اعتبار ظنون تلك العقلية منفردة في باب الحجج المعتبرة في المقام بنحو الظَّنون المعتبرة إلا إذا أمضي اعتبارها من قبل الشارع ولو من إشارات الأدلة الإرشادية، أو من اتضاح أدلته غير المتوقعة من زواياها.

وعلى الأخص كثيراً لو كان ذلك الجمع تبرعياً، لابتعاد التبرعي بسبب التصرف غير المسؤول في الدليلين عما يأيده الشرع بتحكم وسيطرة العواطف الهوجاء الجوفاء غالباً، وهو ما يمثل له دعاته إلى اتخاذ مصاديق التأويل الكيفي ويرفع التكاذب الاصطلاحي المفترض حصوله في التعارض إذا كان مستقراً.

وعليه فهذا الجمع المقترح تبرعياً من البعض لا يبرره أي عقل لا ينسجم مع شرع الله تعالى ولو بأدنى نسبة تأييد منه.

نعم يمكن اختيار فحوائية أولوية أخرى بعيدة عن التصرف العقلي الهوائي في دليلي التعارض كيفما كان بل تقترب من مرامي الإصطلاحات الأصولية المرتبطة بالشرع بالمباشرة أو التسبب.

إضافة إلى صحة ما مر ذكره من حالة ما تطمئن به النفس لدى المتشرعة،

ص: 320

كأولوية جمع ما يمكن جمعه من ألفاظ ومضامين الآيات الأحكامية المترابطة في مثل قبولها لأن يفسر بعضها بعضاً، ولو بالمعونة الإضافية المهمة من الروايات المعصومية تفسيراً أو تأويلاً وطرح حالات التشتت المضيعة للحكم في البين.

وكذا أولوية ما يمكن جمعه من ألفاظ ومضامين الروايات المترابطة الخاصة بمدارك الأحكام القابلة لأن يدعم بعضها بعضاً تفسيراً أو تأويلاً إذا لم يتضح شيء معارض من كتاب الله العزيز أحكامياً، وطرح حالات ما يشتتها مما يسبب ضعف انفتاح العلم المدركي المفيد والذي قد تزدهر منه بعض حالات التواتر اللفظي أو المعنوي الذي كاد أن يضعف في الآونة الأخيرة من تقاعس من يقدر أن يجهد نفسه ويحقق فعلاً ولو بعضاً من ذلك من أهل الفضيلة.

وعلى الأخص كثيراً لو بنينا على حال الوثوق في أسانيد هذه الروايات الشريفة، لا خصوص وثاقة الراوي، لأن ضعف بعض الرواة قد يقويه عمل الأصحاب والشُّهرة العملية وغيرهما مما هو محرر في محلّه.

مع صحة احتمال بل ثبوت أن يراد من أولويات هذا العنوان أهمية جمع الشمل الإسلامي والإيماني والأخلاقي والإنساني.

ولأجله تكاتفت كل الأدلة السماوية والإسلامية ولكن بألسنة ما يزيد على المصطلحات الأصولية والفقهية الخاصة من أمور العلاجات، لعدم وجود المخالفة في ذلك.

بل هو ما يريده أهل العقل والشرع والعرف بل ويقترب من ذوق كل الأذواق السّليمة والسلوكيات المستقيمة لو خلوا وطباعهم، بل ويصرون عليه.

كيف وبه يتم نبذ وطرح معادات أعداء الإسلام والإيمان والأخلاق الحميدة والإنسانية من أهل التوحش والتطرف جانباً، اعتزازاً بقوة هذا الجمع العظيم لو تحقق اجتماعه على ما يرام.

ص: 321

وتبدأ هذه الأولوية بمعنى اللزوم من القرآن الكريم بمثل قوله تعالى «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»،(1) أي أن في عمومها وإطلاقها القرآني يلزم أن يلاحظ فيها بادئ ذي بدء أولوية الأقرب فالأقرب نسباً، لو لم يعكر الكفر والتوحش الأحمق صفو العلاقات وبما لا علاج له.

ويوضح ذلك أكثر مثل القول المستنبط المشهور (الأقربون أولى بالمعروف) أي بمثل أن يعطوا حقوقهم كاملة مع الإمكان حتى لو كانوا في كفر ونحوه بإبداء النصح لهم وإصلاح أمورهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما صنع نبي الله نوح علیه السلام بنصحه لابنه لأن يركب في السفينة لكي ينجو من الغرق، وإن لم ينفع معه ذلك.

وكما صنع النبي إبراهيم الخليل علیه السلام مع أبيه آزر (وهو عمه) في نصحه له بأن لا يكفر، وإن لم ينفع معه ذلك النصح.

إلى غير هذا مما أبداه النبي الخاتم صلی الله علیه و آله وبقية الأئمة علیه السلام تجاه أعدائهم من أقاربهم لأداء واجب ،وعظهم ، وإن لم ينفع ذلك في الكثير منهم كما قال تعالى «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ»(2).

وأهمية هذه الأولوية سائدة في الفقه كثيراً وبتركيز فائق عليهما من خلال الأدلة الأربعة، حتى صار ملزماً لذكره بما ينبغي ذكره في الأصول، بل في بقية العلوم، بلا أن تكون أي حاجة إلى أي مزيد من الاستدلال عليه، وهو ما يصح أن يطلق عليه في هذا المعنى الأخير ب- (الجمع (العرفي) كما صرحت الإشارة في الآية الماضية.

وقد يكون الأقرب هو الأولى من الأبعد، بمعنى كون الأقرب طاعة لله ورسوله صلی الله علیه و اله ولبقية المعصومين من أولي الأمر من العترة من بعده علیهم السلام عقيدة وعملاً، وإن

ص: 322


1- سورة الأنفال / آية 75.
2- سورة الزخرف / آية 78.

بعد في النسب لو كان الأقرب نسباً بعيداً عن هذه الطاعة المضمونة لأصحابها بالنجاة.

ولذا تم التركيز الإلهي على أن تكون الأولوية ثابتة أيضاً على الجامع الإيماني، وبما هو أشد وأنفع لو كان الأقربون في الأنساب داخلين في هذا الجامع لقولة تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(1)

و يأكده قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(2).

وقال تعالى في مقابل الجامع الإيماني الشامل لبعض أهل الأنساب ضد من يتخلف من بعضهم من بعضهم الآخر عن الآخر عن هذا الجامع الجامع «إِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَ لَا يَتَسَآءَلُونَ»(3)، أي لعظم مسؤولية المتخلفين نوعاً إلا ما قل وندر عن التلاقي والتوحد على كلمة سواء.

وقال أيضاً بما يوضحه بوضع الميزان العادل له «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أتْقَاكُمْ»(4).

ولذا أراد تعالى نصح الجميع لجمع الشمل الأكبر، وبما يتفاوت فيه حتى أهل الإيمان في درجات إيمانهم ومن كان من الأرحام وغيرهم ومن بقية المسلمين الأبرياء بقوله تعالى «وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَهِ جَمیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا»(5)، أي تحت ظل النبي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام وآخرهم الحجة المنتظر عجل الله تعال فرجه الشریف

ص: 323


1- سورة التوبة / آية 71.
2- سورة الحجرات / آية 10.
3- سورة المؤمنون / آية 101.
4- سورة الحجرات / آية 13.
5- سورة آل عمران / آية 103

وبهذا النحو من الإطاعة لابد أن يحسب للأولى بالفوز بقصب السبق هو الساعي الجاد بإيمانه وتقواه وإخلاصه في جمعه للشمل، ولو بما يتيسر له من شأنه، وإن كان بعيداً في أساسه عن النسب والحسب عما دون مقامه العالي الفعلي عند الله.

وقد كثرت الروايات الشريفة عن النبي صلی الله علیه و اله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام بما لا يزيد عما أوضحته الآيات الكافية الماضية، ولأجل الإستفادة العرفية عما أفادته تلك الآيات وما أوضحته الروايات ينبغي الأخذ بما جمع مفاد النصين الشريفين من قول ما نُسب إلى أمير المؤمنين علیه السلام:

لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه *** فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

فقد رفع الإسلام سلمان فارس *** وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب

المبحث السادس عشر انحصار كون القاعدة السابقة في العرف الدلالي دون التبرعي

اعتبر الشيخ الأعظم قدس سره (الجمع العرفي) والمسمّى ب- (الدلالي) أيضاً أنه هو المستحق لانطباق العنون الماضي عليه دون إرادة التبرعي منه لكون التبرعي هذا يتصرف صاحبه بحالتي التعارض، حتى لو تسبب من وراءه إزالة التكاذب الثابت فيه عنهما لو كان مستقرا في المعارضة.

بينما العرفي الدلالي - إذا ينال به الجمع المقبول شرعاً - لابد أن لا يلازمه التّكاذب المفترض ، لعدم وجود التعارض المستقر، وفي موارد التعارض المستقر لا مجال لمثل هذا الجمع الدلالي، وإن كان ذلك كذلك فلا مجال لذلك التبرعي قطعاً من باب أولى.

ص: 324

1 - وقد مرت بعض أمثلة ل- (الجمع العرفي) وللإيضاح بأكثر يمكن الجمع بالمقبول عرفاً أيضاً، لو ساعد عليه التوجيه الصحيح، حتى إذا كان الظاهر المغري يأدي سطحياً إلى نسبة من التعارض كروايتين إحداهما عن أبي عبد الله علیه السلام تقول (ثمن العذرة من السحت)(1) والأخرى تقول (لابأس ببيع العذرة)(2).

لصحة حمل العذرة في الرواية الأولى على عذرة الإنسان، والعذرة في الرواية الثانية على عذرة مأكول اللحم من بقية الحيوانات ، كقدر متيقن من كل من الروايتين من الجهة الخارجية بما لا تعارض اصطلاحي بينهما.

ولذا صح الجمع وإن تعارضت العذرتان في خصوص الجهة اللفظية سطحياً، بتفاوت الروايتين في الحكم.

اذا لم يتسع ذهن الفقيه الجامع إلى عدم صدق السحتيَّة للرّواية الأولى في نظره الشرعي الآخر إذا أدى إلى تجويز أخذ حق اختصاص جمع العذرات البشرية لمثل جعلها سماداً لزراعة ثمرة الخس وأمثاله فلا سحتية حينئذ، ولو لاحتمال بقاء الكراهة بعدها بمجرد أخذ الحق وفسح مجال أخذ تلك العذرات إن كان، وفي حال عدمه فلا كراهية إذا افتقر إليها للحاجة إلى تلك الأنواع من المزروعات.

كما لا سحت مع مطلق الجواز في الرواية الثانية من مأكول اللحم لتسميد بقية الزروع، فيتقارب معنى الجمع بين الروايتين عرفاً بإمكان الاستفادة لمطلق الزروع من العذرتين بصفة أكثر.

2 - ويمكن إلحاق ما قد يرتبط بالتعارض الموصوف بعدم الاستقرار الكامل أيضاً قبل تقدم الخاص على العام عملياً، أو المقيد على المطلق كذلك، أو النص على

ص: 325


1- الوسائل 17 : 175 / أبواب ما يكتسب به ب40 ح1 . والتهذيب 6 : 372 / 1080 . والاستبصار 3 : 56 / 182 . والوافي 17 : 283 / 22.
2- الوسائل 12: 126 ، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به الحديث 3.

الأظهر من الظاهر، أو الظاهر على ما يحتمل منه الخلاف، مما مر ذكره من مضمره حول طرفي التعارض، إذا أمكن استفادة هذا الجمع العرفي حسبما تعطيه الأدلة.

كما لو دار الأمر بين العام ك- (أكرم كل عالم) والخاص ك- (لا تكرم الفساق منهم) في التعارض العرفي لمثل الحالة الأولى قبل تقدم العام على الخاص، كما في المردّد فيه من العلماء أنه فاسق أم لا ؟ بإمكان استصحاب شمول عموم إكرام العلماء له بين أهل العرف ربطاً له بحالة دخوله في مجال العدم الأزلي، لعدم التأكد من دخوله في ربقة الفساق بناءً على أن (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

3 - بل يمكن أيضاً أن يستفاد من هذا الجمع بما هو مقبول مما ذكره كذلك من حالتي الحكومة والورود وإن لم يدخلا في باب التعارض الإصطلاحي التام، إلا أن صحة تطبيق أمرهما على نحو هذا الجمع بما يتناسب مع حالة كل منهما، حتّى يتحقق هذا الجمع كالتعارض في النتيجة كما في الأمثلة التي استعرضنا بعضها حين البحث عنهما كمثل الذي مر للحكومة من رواية عن أبي جعفر علیه السلام قال: (لَیْسَ بَیْنَ اَلرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ وَ بَیْنَهُ وَ بَیْنَ عَبْدِهِ وَ لاَ بَیْنَ أَهْلِهِ)(1) التي جاءت في مقابل دليل حرمة الربا في قوله تعالى «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا»(2) وغيره من الآيات بحمل الرواية السابقة على معنى نفي الرواية التي بمعنى الرّبا المعفو عنه لا نفيه موضوعاً ، لبقاء حرمته وعدم العفو فيه بين المكلف وبين غير المذكورين في الرواية.

ولذا قلت نسبة الذي خلاصته الحرمة من الدليل المقابل بما بين (الوالد وولده)،

ص: 326


1- وسائل الشیعة-الحر العاملة- ج12 ص 436
2- سورة البقرة / آية 275

لصالح تحقيق هذا النحو من الجمع، وإن أدى الجمع الإجمالي بما ربما يُتوهم غفلة.

ومثل الذي مر للورود بعلاج أمره في وقوعه في موضع ما يشبه التعارض قبل استقراره وجمعه العرفي بتقديم الإمارات على الأصول العملية كتقديم إمارة اليد على أصل البراءة ونحو ذلك مما مر.

4 - بل يمكن استفادة معنى هذا الجمع حتى من المتزاحمين - وإن لم يمكن الجمع بينهما في كثير الحالات إن لم نقل الأكثر - إلا في مثل ما ذكرناه سابقاً في التزاحم بين وجوب الخروج الفوري من الدار أو المزرعة المغصوبة والأداء الفوري للصلاة المكتوبة التي لا تسقط بحال في ضيق وقتها لو أمكن الخروج الفوري بمصاحبة الأداء الفوري للصلاة هذه أثناء هذا الخروج، حتى لو أدت صحة أداءها حالة المسير ولو بخصوص الواجبات وحدها، بل حتى بأداء ركعة منها داخل الوقت إن لم يسع الوقت وقضاء البقية في خارجه وخارج المكان المغصوب.

بل يخرج هذا من حالة مطلق جواز الجمع العرفي بين المغصوب والواجب المكتوب حتى إلى حال وجوبه مع ذلك الإمكان، لعموم وإطلاق قاعدة الميسور.

5 - ثمّ أيضاً من هذا النحو العرفي المقبول من الجمع إن صدق عليه ما يمكن تفسيره بالجمع بين صلاة الجمعة وفريضة الظهر يوم الجمعة أيضاً بعد ذلك في سعة وقتها في مورد التقية حتى في أوساطنا الفقهية نحن الإمامية ولو لكم أفواه المعترضين المحرجين إن كان المكلف المبتلى في المقام يرى اجتهاداً أو تقليداً أحد الأمرين دون الآخر كالظهر مثلاً ، فهو الداخل في هذا الباب أيضاً.

لأن أحد التكليفين معين عليه لا محالة من مثال تعدد القول في صلاة الجمعة من يومها بين الوجوب والحرمة وفي صلاة الظهر من يومها أيضاً بين وجوبها وبين حرمتها بالجمع عند الإحراج بين صلاة الجمعة وقت الزوال وبين صلاة الظهر بعد ذلك في سعة ،وقتها إذا كان ترك كليهما على إجماله لبعض الاعتبارات موقعاً في

ص: 327

شبهة التحريم.

6 - بل قد يقرب من معنى هذا الجمع ما عرف وبالأخص أكثر بين فقهاءنا المتأخرين من تساوي دليلي الجمعة والظهر في نظرهم، وهو ما أدى إلى القول الصريح بالوجوب التخييري بين كل منهما، وهو ما لا يمنع من أداء صلاة الجمعة عند الزوال ومن أداء ظهرها بعد ذلك في سعة وقتها ولو احتياطاً أو بالعكس، وهو نوع من الجمع الجائز على الأقل من الوجوب الثابت لأحدهما لا على التعيين.

7 - ويمكن أن يدخل في باب ما تبرء به الذمة من حالة الجمع كصلاة الجمعة المختلف فيها اجتهاداً أو تقليداً بين الوجوب ،وعدمه لا مع الحرمة التي مرّ ذكرها في المثال السابق، ليدخل مع الوجوب غير الحرمة من حالات موارد الاختلاف الأخرى، فيأتي المكلف بها وقت الزوال إما احتياطاً أو بناء على الوجوب إن كملت المقتضيات والشروط أو استحباباً جامعاً بينها وبين الظهر في سعة وقتها من ذلك اليوم كما مر حينما يختلف حكم الظهر كذلك بين وجوبها وعدمه دون حالة التحريم اجتهاداً أو تقليداً كصلاة الجمعة لإبراء تلك الذمة المشغولة إما بالاحتياط بهذا الجمع أو على نحو الوجوب أو الاستحباب الذي في ضمن إحدى صلاتيه ثابتة الوجوب.

8 - ومما يدخل في الباب أيضاً لو جاء العام للعمل به وتلاه الخاص فإنه يكون مخصصاً لذلك العام ولو من الجهة الظاهرية، لأن الجدية حاصلة حتى في الظاهرية کما هی في الواقعية، بلا أي داع لأن يكون ناسخاً تاماً.

إما لأنّ النسخ لا يكون قبل وقت العمل، أو لأولوية العمل على التخصيص دون النسخ، لبيان الحكم الظاهري الصوري التدرجي في أمور الأمة، لمصلحة اقتضت هذا السلوك، كما كان يفعله النبي صلی الله علیه و آله في بدء الدعوة إلى الإسلام ومعه أمير المؤمنين علیه السلام في اقتفاء آثاره أو عموم ما يقتضى ذلك، حتى لو بوشر بذلك العام ثم

ص: 328

جاء الخاص دون أن يأتي محذور قبح العقاب بلا بيان لأنَّ الخاص حتى لو جاء مع الواقعية فإنه يكون كاشفاً عن الواقعية لذلك العام حتى لو سبق أمره في الحالة الصورية.

9 - ومما يدخل في الباب أيضاً ما إذا كان أحد العامين من وجه وارداً في أمور التحديدات كالأوزان التي قد تتفاوت اليوم وإن ضبطت في روايات ما يقدرها في السابق ب- (المد والصاع) التي كان أمر ضبطها في السابق مبنياً على مثاقيل (الدينار والدرهم الشرعيين) لعلاقة ذلك بالزكوات وغلاتها والكفارات والفديات الإطعامية وأوزانها، وكذا أمور النقدين المسكوكين في أبواب الزكوات والأخماس وما يناط بهما أيضاً في أمور الديات، مما قد يخضع أمر ضبطه في القديم عند تفاوت الروايات إلى حالة الجمع العرفي وبما تبرء به الذمم إذا كان بين بعضها والبعض الآخر عموم وخصوص من وجه.

وهكذا المقادير بمثل أشبار تقدير الكر أو أوزانه في الشبهات المفهومية، أو ما يلزم منه نزح البئر من الدلاء عند وقوع ما يسببه فيه.

وهكذا المسافات المعينة لمثل ما يوجب القصر عند السفر لأمور الصَّلاة والصوم من الفراسخ التي لا تضبطها إلا رواياتها، والتي قد يتفاوت بعضها عن البعض الآخر، إن اعتبرت تلك المتفاوتات ولو إجمالاً من وزن معتبر واحد إذا أمكن الضبط الدقي الشرعي للتّكاليف الشرعية عن طريق الجمع العرفي بين العام والخاص من وجه منها.

فإن مثل هذا لو حصل في اليد يكون موجباً لقوة الظهور على وجه يلحق بالنص، إذا يكون ذلك العام أيضاً مما يقال أنه يأبى عن التحصيص . وقد نقل المضمون عن فوائد الأصول للشيخ محمد على الكاظمي قدس سره، كما ذكره السيد الخميني قدس سره في رسائله.

ص: 329

لكنا يمكن أن نقول: بأنَّ هذا كله لا يتنافى مع إمكان هذا الجمع بين روايات كل من الأوزان والمقادير والمسافات في جملته لو كان بين روايات كل فريق منها العموم والخصوص من وجه، بل هو صحيح في إنتاج ما يحمله كل فريق عند كل جمع منها وبما لا يختلف عن التشخيصات الموضوعية لبعض ما قد اختلف فيه مؤخراً في مثل هذه الأزمنة، حيث عثر على جملة من المسكوكات النقدية من الدراهم والدنانير المتفاوتة أيام الأئمة علیه السلام- في بعض المتاحف القديمة المعتنى بها في بلداننا الإسلامية بواسطة اليونسكو وأمثالها - بين الحجم المعمول به كمقياس لبعض ما مرت الإشارة إليه .

وبين ما هو أوفى وأبرء للذمة أكثر ولو احتياطاً كما في أمور ضبط غلات الزكاة ونصب الخمس والكفارات وما يناط بتقديرات الديات وأنواعها وغير ذلك مما مضى ذكره.

ولذلك ولكون خيره أمره تشخيص الموضوعات لم تنحصر بخصوص الفقهاء وأهل الإفتاء - بل قد يكون من أمناء ومتشرعي غيرهم ممن قد يفوق البعض منهم - لابد من الحاجة إلى ترتيب الأثر على هذا المثال التاسع في الأخذ به إجمالاً لا تفصيلا.

إلى غير هذا العدد من الأمثلة العائدة إلى حالات القول بصحة الجمع العرفي الدلالي، والذي منه معنى (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) والذي يطول بما لا داعي له، وأمامنا بعض العناوين الأخيرة التي تحتوي على ما يسد حاجة الراغب لأمثال ذلك وغيره.

ص: 330

المبحث السابع عشر عود الكلام عن التعارض قبل الاستقرار مع العلاجات بما هو أدق

تقدم أنّ التعادل بين المتعارضين يكون بحسب الأدلة العامة داعياً بحكم العقل البشري إلى التّساقط فقط كما عليه المشهور، وهو الموافق للقاعدة الأولية أيضاً إذا كان هذا التعادل التعارضي بعد الاستقرار دون ما يكون قبله، لعدم معقولية الجمع بين المتعارضين إذا كان منهما مستدلاً عليه بخبر الثّقة يناقض عديله بما استدل هو عليه أيضاً في المناقضة.

وبهذا التعادل لا يسمح العقل الفطري بترجيح طرف على طرف كهذا التعارض من داخل ما بينها من التوازن التّعاكسي.

ولا أن يسمح كذلك في قواعده الأصولية مادامت هاتان الإمارتان المتعادلتان في التناقض بالخضوع إلى مثل أصل البراءة أو الاشتغال، لعدم إمكان القول بالتخلي عنهما ولو إجمالاً ما دامت الأدلة المتراكمة وافرة.

لأنَّ الإمارة أقوى من الأصل العملي، ولعدم إمكان الترجيح بدون مرجح في حالتي هذا التعادل لا على التعيين، ولعدم إمكان القول بالتخيير بين الاثنين من باب أولى خوف الوقوع في ورطة ارتكاب ما يحرم فعله لا على التعيين كذلك، لإحراز حكم الله الواحد بينها، دون الأكثر مما يناقضه حسب الفرض وعدم احتمال حكم ثالث حسب الفرض كذلك من هذا الداخل، مما قد يرتجى منه التفوق المتعارض وبلا أي داع كذلك للتورط بالحالة الاحتياطية التي قد توقع المكلف بما لا يحمد لما مر ذكره من فقدان الترجيح بدون مرجح.

لكن قد يستغرب في قبال هذا المعقول ونتائجه من استفاضة روايات المنقول - بل

ص: 331

تواترها ولو معنوياً - في القول بعدم التساقط الماضي.

إلا أن أعلام الفقه والأصول لا يدرى منهم من حيث المبدأ أن هذا الانفراج وحلّ هذا المعضل الوارد من آثار أهل البيت علیهم السلام كان قد جاء لنا حول هذا التعارض بما بعد استقراره أم بما قبله؟

وحقيقة الأمر أن المعقول الماضي ما قد بينا حدوده الواضحة.

وأما المنقول وآثاره فبما أن شرع الله تعالى وأصوله الثابتة وبتماس منها معه وفوق كل معقول مستبد به، فقد جاء منه - لكن ن خارج الإطار الماضي الداخلي وبالجعل الجديد - ما هو المهم والمفيد على ضوء تلك الروايات الواردة في المقام.

وبما أوضحه العلماء المدققون بأنه لابد أن يكون العلاج منها ناجحاً قبل حالة استقرار التعارض.

وأما فيما بعده فلن يضمن نجاحه إلا على نحو القاعدة الثانوية، وأن يكون تعارضه حاصلاً بين خبرين لا غير ذلك من التعارضات الأخرى مما سيتضح.

وقد ظهر من إحصائيات العلماء للروايات العلاجية أنها استفيد منها أمور ثلاثة :-

أولها التخيير وبه جاء المشهور، بل نقل الإجماع عليه.

وثانيها التّوقَّف، الذي يمكن أن يتوصل به صاحبه إلى الاحتياط العملي، وإن كان يأدي إلى ما لم يقل به أحد الخبرين المتعارضين، كالجمع بين القصر والتمام.

وثالها وجوب الأخذ بما طابق منها الاحتياط، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط تخير بينهما كالأمر الأول.

وقد حاولنا في الموضوع السابق أن نبسط هذه الأمور بإيضاحها بالأمثلة التقريبية الإبتدائية، على أن نعيد الكرة الآن بالبيان الأدق على أساس من الاستشهاد بما أدته أو تأديه الروايات المناسبة العلاجية، مع ما طرأها أو يطرأها بعض الإشكالات

ص: 332

والإجابة عليها أو على بعضها.

ولربما قد يتوهم عدم انحصار أمر هذا التعارض بخصوص ما بين الخبرين في الحاجة إلى علاجه بالروايات العلاجية لاحتمال التجاوز إلى غير ذلك.

فجوابه: أن الغير تابع لحالة الاستقرار الذي لابد أن يتساقط ونحو ذلك من الأجوبة الخارجية عن موضوعنا الآن.

وهذه الأمور التابعة المستثناة هي استثناء التعارض بين الفتويين وبين البينتين المتعارضتين، واليدين المتعارضتين والقراءتين المتعارضتين.

بل وكذا اختلاف النسخ في الروايات بمثل ما يدعو إلى التعارض في أمر تحديد المغرب الشرعي، كما في نسخة كتاب الوسائل حيث ورد في مكاتبة ابن وضاح عبارة (فوق الجبل) حيث قال: (كتبت إلى العبد الصالح علیه السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً وتستر عنا الشمس وترتفع فوق الليل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون أفأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً؟ أو انتظر حتى يذهب الحمرة فوق الجبل؟ فكتب إلي أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك)(1).

أقول: في حين أن في كتاب التهذيب على ضبط الشيخ قدس سره فيها عبارة (فوق الجبل)(2).

ففي ما عدا هذا الأخير لأنه محل نظر حسب بيان مقرر أبحاث الآية العظمى الشاهرودي قدس سره المسمى ب- (نتائج الأفكار) للسيد المروج قدس سره عند تعداده للأمور التي لا تخضع لها الروايات العلاجية وهي المستثنيات الأربع وتوقف في الخامس والأخير لكونه محل نظر .

ص: 333


1- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 10 ص 124.
2- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 259

أقول: حول هذا النظر لعله من جهة ما في نسخ الوسائل، حيث أنه لا يحمل إلا بيان حالة التقية، وإن كانت الرواية نطق بها بنفس الإمام الناطق نفس رواية التهذيب للحاجة إلى التقية، لأن فقه العامة يُبقي مجالاً للقرص الشمسي خلف الجبل، وإن كان لا يتناسب مع نقل التهذيب الموافق للفقه الإمامي مع إمكان تعدد السامع، ونقل التهذيب يحرز منه بدو الليل بذهاب الحمرة المشرقية.

نعم إن كان ما في نسخ الوسائل لم يرد منه إلا ذهاب القرص بالكامل خلف الجبل ولو بحسب ما قد يستظهر، وهو ما يدعو إلى معنى التقارب بين المصدرين وكما في التهذيب من حيث النتيجة، فلا تعارض إذن.

وعليه يكون هذا الخامس معلقا عن ترتيب علاجات الروايات ومنعها عنه في نفسه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، بانتفاء التّعارض الخبري فيه وتوحد خبر واحد إمامي مع بعض المأيدات إذا كان ما في نسخ الوسائل يتناسب مع فقه العامة أيضاً و مع الأربعة السابقة عليه.

وأما عن بعد العلاجيّات عن الأربعة السابقة كالفتويين المتعارضتين فإن مرجعي كلِّ منهما إذا كان جامعاً لشرائط صحة تقليده وبالنحو المتساوي، وإن كانت فتواه المتعارضة مع الثابتة ناتجة عن الدليل العملي العقلي، كوجوب رجوع الجاهل إلى العالم في طبيعة معنى أصل التقليد والذي لم يحرز منه علمياً عملياً إلا لذلك المجتهد الجامع للشرائط.

والنقلي الذي في مثل كتاب الاحتجاج المشهود بحقه الحجية الذي في فيه تم التعريف بمن يستحق الرجوع إليه في الغيبة الكبرى من لسان الإمام علیه السلام وغيره.

لكن لما حصل ما حصل من التعارض في الفتويين مع تساوي كل من مرجعهما وحاجة المكلف المحتاج إلى تقليد أحدهما لا على التعيين ما كان عليه أكثر من اختيار أي من فتوى كل منهما وإن كانت معارضة للأخرى ، ولا دخل لتدخل العلاجيات

ص: 334

في أمر التعارض حتى في القاعدة الثانوية بترجيح أو طرح أحدهما والاستفادة من الآخر أو نحوهما.

وكالبينتين المتعارضتين للاحتجاج بالواحدة منهما لو لم تعارضها أخرى في قبالها، وإلا فلا حجية في المتعارضتين، سواء في المرافعات القضائية أو حكم الحاكم الشَّرعي في الأهلة أو تثبيت الديون عند كاتب العدل أو الوصايا ونحو ذلك، دون وجود أي مجال للعلاج عند التعارض.

وكأمارتي اليدين المتعارضتين في بعد العلاجات عن حالة تعارضهما، مما تسبب سقوط الإمارية حالة هذه الجهة لتبرر اللجوء إلى الأصلي العملي.

وكذا في بعد العلاجيّات عن أمر القراءتين المتعارضتين في أي مطلب قرآني إذا كان نفي اختلاف القراءات يرجع إلى قول الإمام علیه السلام على ما في الوسائل (اقروا كما يقرأ الناس) إن لم يكن مجملاً لاحتمال إرادة قراءة الكلمات الساقطة من القرآن بقرينة قوله علیه السلام في تلك الرواية ردعاً لقراءة تلك الكلمات (كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي علیه السلام... إلخ)(1)

أقول: وعلى هذا فلا تعارض حتى يستفاد من التخيير أو شيء آخر.

وبعد تبين أنّ التّعارض المحتاج إلى العلاجيات منحصر بما بين خصوص الخبرين إذا تعارضا لا غير.

فقد حصر الشيخ النائيني قدس سره هذه الأمور بين حالتين، إما في زمن حضور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف فتكون مدعاة للتوقف حتى يمثل المكلف بين يديه علیه السلام فيسأل منه عن حقيقة الأمر.

ص: 335


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 633.

وإما في زمان الغيبة فتكون مدعاة للتخيير.

وسر ذلك عنده على ما أبداه المترجمون لكلامه أنه بعد جمعه الأخبار العلاجية وتبين أنَّ النسبة بين ما يدل بالنظرة المبدأية منها على كل من التوقف والتخيير هو التباين حالة إطلاقها.

إلا أنَّ ما دلّ على التوقف في زمان الحضور - لأخصيته في ذلك الإطلاق، مما دل على التخيير مطلقاً - يخصص إطلاق التخيير فتنقلب النسبة التباينية بين إطلاقات التخيير والتوقف إلى العموم والخصوص.

لما عرف مسبقاً من أخصيَّة ما دل على التخيير المطلق بعد تخصيصه بما دلّ على التوقف في زمان الحضور، فيكون المتحصل من هذا الجمع عنده قدس سره وجوب التوقف في حالة الحضور.

ولكن السيد الشاهر ودي قدس سره ناقش في هذه التخريجة بعد الجمع الذي ذكره بقوله بعدم تما ميته لضرورة أن ما دلّ على التوقف في زمان الحضور وإن كان أخص مطلقاً مما دل على التخيير مطلقاً في زمن الغيبة، لكنه لا يصلح للتخصص، لا بتلائه بالمعارض، وهو ما دل على التخيير في زمان الحضور والخاص المبتلى بالمعارض لا يكون صالحاً للتخصيص.

فعلى هذا يبقى التّعارض على حاله فكل من الإطلاقين يعارض الآخر، كما يعارض كل من المقيدين كذلك، فتسقط الأخبار العلاجية جميعاً عن الاعتبار والمفروض أنَّ القاعدة الأولية في تعارض الخبرين هو تساقطها على الطريقة المألوفة.

وعلى هذا فالأخبار المتعارضة ساقطة عن الاعتبار هذا من جهة.

وهناك جهة أخرى للردّ منه قدس سره وهو أنَّ أخبار الترجيح أيضاً لا تخلو في نفسها عن تعارض آخر، إذ مقتضى بعضها الترجيح بالأحدثية وإن كان الصادر أخيراً موافقاً للعامة وبعضها الآخر كون المرجح فيه مخالفة العامة مطلقاً، سواء كان أحدث

ص: 336

أم لا؟

فإذا كان الأحدث موافقاً للعامة يقع التعارض بين ما يدل على الترجيح بالأحدثية وبين ما يدل على الترجيح بمخالفة العامة تعارض العموم من وجه.

وكذا يقع التعارض بين بعض الأخبار العلاجية من حيث تقديم بعض المرجحات على بعض وتأخيره كالمقبولة والمرفوعة بالنسبة إلى الشهرة، فإنها في المقبولة مأخرة عن صفات الراوي وفي المرفوعة بالعكس.

وكذا يقع التعارض بين بعض تلك الأخبار من حيث عدد المرجحات فإنَّ في بعضها لم يذكر إلا مخالفة العامة، وفي بعضها أضيف إليها موافقة الكتاب.

وبالجملة فنفس أخبار الترجيح متعارضة ولابد من علاجه.

أقول: وعليه فلا مجال للأخذ بكل ما تفضل به الشيخ قدس سره بعد المناقشات المتعدّدة، سواء في العلاجية أو الترجيحية، خصوصاً إذا ابتعد بعض حواري الأئمة علیهم السلام عن أئمتهم مدة طويلة في زمانهم.

ولكن بعد رفع التّعارض والجمع بينهما تصل النوبة إلى أهمية النظر من جديد بملاحظة أخبار التّوقف والتخيير، وأنه هل يمكن تقييدهما بأخبار الترجيح أم لا؟

وهو قدس سره يفضل لأجله تقديم الكلام عن أخبار الترجيح.

ولكن النهج على سيرة القوم من المدونين بالابتداء عن الكلام عن أخبار التوقف والتخيير، ثم الانتهاء عن أخبار الترجيح لعلنا نجد بعد ذلك ضالتنا من هذه المناقشات في المقام بما هو أسد وأفضل.

ويرجح الكلام عن أخبار الوقف والتخيير تلك.

وقد اهتم بها أكثر من مدوّن ومدوّن، وذكروا مناقشاتهم ومنها التي لا تتناسب وقرار الشيخ النائيني قدس سره، وإن وصلوا معه إلى التوقف والتخيير بالنتيجة كالشيخ المظفر قدس سره من المتأخرين في أصوله.

ص: 337

وأول ما تعارف ذكره من تلك الروايات في البداية استعراضاً وخوضاً في المناقشة وبأكثر من مصدر من كتب التدوين الأصولي هو:-

1 - ما رواه الحسن بن الجهم عن مولانا الرضا علیه السلام في حديث قال:

(قلت للرضا علیه السلام تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة.

قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منا وإن لم يشبههما فليس منا.

قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيهما الحق؟

قال علیه السلام: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت)(1)

أقول: وهو ما مقتضاه في ظاهره الواضح التخيير في الأخذ بأيهما شاء، ومن أكثر من مصادر العرض والاستفادة من المناقشة حال الإطلاق وهو ما يناقض قرار النائيني قدس سره في مبناه.

ولكن لو راجعنا بداية الرواية فهي مقيدة بالعرض على الكتاب والسنة، فهو مما يدل على أن التخيير المذكور إنما هو بعد فقدان المرجح ولو في الجملة، وهو مما قد يأدي إلى حالة من الوقف وإن لم يكن بالنحو المطلق.

لكن هذا الموقف لا يدرى أنه كان كما يريده الشيخ قدس سره؟ أم كان هناك حالة عدم فرق بين حضور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف وبين غيبته؟

وعند دراسة هذه الرواية من كافة جوانبها لن يتبين منها غير العموم والإطلاق بما في حالة الحضور وحالة الغيبة على حد سواء.

بل إن جميع تلك المرويات الشريفة أصبحت خاضعة لما أبتلي به المؤمنون لخصوص ما لابد أن يستفاد منها عملياً بما بعد غيبة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف توقيفاً وتخييرا، وبما لا

ص: 338


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 40.

داعي لأن يعطى الشيخ قدس سره حقه في شيء من ذلك، على فرض ادعاءه قدس سره ولو جدلاً أنَّ هناك بعض روايات يُراد منها الوقف عند الحضور، بسبب قرائن مصاحبة لها، وعند الغيبة تكون ساقطة عن الاعتبار.

وهذا ما لم يقل به محصل متتبع فكيف بمقامه قدس سره، وقد أبدى السيد الشاهرودي قدس سره في مناقشته لما قال بما به الكفاية.

2 - وعن على بن مهزيار أنه قال قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام- وبنقل مصدر آخر بعبارة مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام- قال:- (اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله علیه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم "صلها في المحمل" وروى بعضهم "لا تصلها إلا على الأرض"

[فَأَعْلِمْنِی کَیْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ لِأَقْتَدِیَ بِکَ فِی ذَلِکَ]

فوقع علیه السلام"مُوَسَّعٌ عَلَيْكَ بِأَيَّةٍ عَمِلْتَ")(1).

أقول: هذه الرواية أيضاً قد استظهروا منها القول بالتخيير المطلق، وإن كانت قابلة لإحتمال كونها قابلة لتقييدها ببعض المقيدات.

ولذا كانت خاضعة لأن يستفصل عن حالها الراوي من الإمام علیه السلام، لعدم حمل ذلك على معنى التوقف المراد الاهتمام به حال الحضور.

ولذا جاء جواب الإمام علیه السلام بما يرفع التوقف.

بل وكذلك التخيير المدعى في المقام فإنه لم يكن معناه - كما بين الخبرين المتعارضين - ليكذب أحدهما الآخر، إذا أريدت استفادة التخيير مما بينهما بما تحت القاعدة الثانوية.

ص: 339


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122، 123 ح 44، وبين القوسين في داخل الرواية حسب كتاب تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 ص 228.

بل إن صحة التخيير بصلاة ركعتي الفجر في السفر لم تختلف بين أن تكون في المحمل أو على الأرض ما دام منها خصوص النافلة دون الفريضة.

دون التخيير الآخر، بناءً على صحة التسامح في أدلة السنن في حالات الأداء للنوافل كذلك.

3 - ورواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله علیه السلام قال (إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فترد عليه)(1).

أقول: ويمكن أن يستفاد من هذا الخبر أيضاً التخيير بحسب الظاهر من قرينة تعبير الإمام علیه السلام ( فموسع عليك) وبالنحو المطلق في زمان التمكن من إزالة الشبهة بواسطة هذه القرينة وبعد رؤية الإمام علیه السلام ليس له العمل حتى يسأل عن حال الحديث من حيث الصدق والكذب.

ولذا لابد أن يقيد هذا الإطلاق بالروايات الدالة على الترجيح الآتية.

مع احتمال أن لا يراد من هذا النوع من التخيير ما كان دائراً بين المتعارضين، لتمام حجية المأخوذ من الثّقتين من الأصحاب.

وبهذا يخرج هذا الخبر والرواية عما نحن بصدد ما نحتاج إليه في المقام.

4 - وجواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى مولانا صاحب الزمان عجل اله تعالی فرجه الشریف (... إلى أن قال علیه السلام في الجواب عن ذلك حديثان، أما أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.

وأما الآخر - أي الحديث - فإنه روي أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري

ص: 340


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 41.

هذا المجرى وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً)(1)

أقول: بعد هذا بمقالة بعض المناقشين من أهل الدقة العلمية والإنصاف مع شيء من التصرف المأيد لهم بأن الظاهر من استعراض هذا الوارد للمقام كونه أجنبياً عن أخبار الباب لوجود الجمع العرفي بينهما، وهو حمل المطلق - وهو ما دل على التكبير - من حالة إلى أخرى على المقيد، وهو عدم التكبير إذا قام بعد الجلوس بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية.

ويضاف إلى هذا بأن هذا المنقول وإن استظهر منه بعضهم التخيير المطلق وأنه يحمل على المقيدات ولكن للمناقشة فيه مجال ولو من جهة أخرى، كمثل أنَّه من المحتمل قريباً أن يكون المراد هو التخيير في التكبير، لبيان عدم وجوبه، لا التخيير بين المتعارضين، ويشهد لذلك التعبير بقوله عجل الله تعالی فرجه الشریف (كان صواباً).

ثم لا معنى لجواب الإمام علیه السلام عن السؤال عن الحكم الواقعي بذكر روايتين متعارضتين كهذا المنقول ثم العلاج بينهم حولهما ، إلا لبيان خطأ الروايتين، وأن الحكم الواقعي على خلافهما حينما كان التعارض مستقراً.

5- وخبر سماعة عن أبي عبد الله علیه السلام قال (سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع ؟ قال علیه السلام: يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتّى يلقاه)(2).

أقول: إنَّ هذه الرواية وإن كانت ليست ببعيدة عن السابقة لكونها في صحة من السند إلا أنها يظهر منها عبارتان.

أولاهما كلمة (يرجئه) الدالة على التوقف إلى حين لقاء الإمام الأصل علیه السلام أو

ص: 341


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 39.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 108 ح 5.

نائبه الخاص أو العام في الغيبة الكبرى حسب المستفاد من الأدلة المستفادة من إمام هذه الرواية وغيرها عنه هل أنه كان من نوع الإمام المصطلح عند الإمامية علیه السلام ام أنه داخل في المعنى اللغوي.

وثانيهما: كلمة (فهو في سعة) الدالة على التخيير بسبب التردد الحاصل من الاختلاف في بداية الرواية في الفتوى المطلوبة إلى نهاية ارتفاع الشبهة بالفوز بلقاء الإمام الأصل علیه السلام أو من ينوب عنه خصوصاً أو عموماً .

وظاهر هذا الأمر في عدم الفرق بين طول الفترة وبين عدمها، دون أن يكون التخيير بين الروايتين المتعارضتين لما مر ، وبعد عدم إتضاح كون التخيير بين الروايتين المتعارضتين مما يبرز منه معنى كون هذه الرواية أو غيرها من روايات التوقف دون خصوص حالة حضور الإمام علیه السلام أو غيبته.

6 - ورواية أحمد بن الحسن الميثمي المروية في العيون عن مولانا الرضا علیه السلام الموصوفة بالصحة (1)، مضافاً إلى ذكرها في كتاب العيون الذي هو من الكتب الموصوفة بالاعتبار، حسب تشخيصات السيد الشاهرودي علیه السلام نقلاً عن تقرير نتائج الأفكار، وغيره أيضاً.

وللفائدة ننقل نص الرواية وإن كانت طويلة فعن الشيخ الصدوق قدس سره عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعاً، بن الوليد جميعاً، عن سعد بن عبد الله، عبد الله المسمعي، عن أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الرضا علیه السلام يوماً وقد اجتمع

ص: 342


1- هي ضعيفة في أساسها لعدم وثاقة محمد بن عبد الله المسمعي كما قال الشيخ الصدوق نفسه قدس سره في العيون بعد نقل هذه الرواية (كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضی الله عنه سيء الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث) ثم أعقب وقال (وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة، وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي) وكتاب الرحمة هو لسعد بن عبد الله.

عنده قوم من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلی الله علیه و آله في الشيء الواحد فقال علیه السلام: (إن الله حرم حراماً، وأحل حلالاً، وفرض فرائض فما جاء في تحليل ما حرم الله، أو في تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك ما لا الأخذ ،به لأن رسول الله صلی الله علیه و اله لم يكن ليحرم ما أحل الله، ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله وأحكامه كان في ذلك كله متبعاً مسلّماً مؤديا عن الله، وذلك قول الله: «إن أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ»(1) فكان علیه السلام متبعاً لله، مؤدياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة.

قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلی الله علیه و آله مما ليس في الكتاب، وهو في السنة، ثم يرد خلافه.

فقال: كذلك قد نهى رسول الله صلی الله علیه و آله عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهي الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرائض الله، فوافق في ذلك أمره أمر الله فما جاء في النهي عن رسول الله صلی الله علیه و آله نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسغ استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلی الله علیه و آله ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلی الله علیه و آله إلا لعلة خوف ضرورة.

فأما أن نستحل ما حرم رسول الله صلی الله علیه و آله أو نحرم ما استحل رسول الله صلی الله علیه و آله فلا يكون ذلك أبداً، لأنا تابعون لرسول الله صلی الله علیه و آله مسلمون ، له كما كان رسول الله صلی الله علیه و آله تابعاً لأمر ربه، مسلّماً له، وقال الله عز وجل: «وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»(2)

ص: 343


1- سورة الأنعام / آية 50.
2- سورة الحشر / آية 7.

وإنَّ الله نهى عن أشياء ليس نهي حرام، بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدِّين، ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله صلی الله علیه و اله نهي إعافة، أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه.

إذا ورد عليكم عنا الخبر فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره، وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما، يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعاً أو بأيهما شئت وأحببت موسع ذلك لك من باب التسليم الرسول الله صلی الله علیه و آله والرد إليه وإلينا، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلی الله علیه و آله مشركاً بالله العظيم، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام، ومأموراً به عن رسول الله صلی الله علیه و آله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله صلی الله علیه و آله، وأمره ، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة.

ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلی الله علیه و آله كرهه ولم يحرمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتباع والرد إلى رسول الله صلی الله علیه و آله، وما لم تجدوه في شيء من هذا الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا)(1).

ثم قال السيد الشاهرودي علیه السلام من نفس المصدر (وتلك الرواية تدل على

ص: 344


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 113 - 115 ح 21 ، عن عيون أخبار الرضا علیه السلام- الشيخ الصدوق - ج 1 ص 22.

التوقف والفحص في زمان التمكن من إزالة الشبهة إذا لم يمكن الجمع بين المتعارضين بالوجوه المذكورة في تلك الرواية.

كما قال الشيخ المظفر قدس سره بعد نقله الرواية في أصوله:-

(الظاهر من هذه الرواية هو التخيير بين المتعارضين إلا أن بملاحظة صدرها وذيلها يمكن أن يستظهر منها إرادة التخيير في العمل بالنسبة إلى ما أخبر عن حكمه أنَّه على نحو الكراهة ولذا أنّها فيما يتعلق بالإخبار عن الحكم الإلزامي صرحت بلزوم العرض على الكتاب والسنة، لا سيما وقد أعقب تلك الفقرة التي نقلناها قوله علیه السلام: "وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا").

ثم قال الشيخ قدس سره (وهذه الفقرات صريحة في وجوب التوقف والتريث وعليه فالأجدر بهذه الرواية أن تجعل من أدلة التوقف لا التخيير)(1)

أقول: إذا كان اعتبار لهذه الرواية كما تفضل به السيد قدس سره- وكان التعارض فيها مستقراً لا علاج له بأي حالة من حالات الجمع بين المتعارضين فلابد من التوقف في أمرها حتى ملاقاة من تزاح بحضوره الشبهة.

وعليه فإن انحصرت القضية بالإمام علیه السلام فالأمر مرتبط بخصوص حالة الحضور وهو ممكن، بل متحقق بحالة حضوره ووارد أيضاً إذا كانت الإزاحة بسرعة، وهي تناسب ما قاله الشيخ النائيني قدس سره.

أما إذا تخضع القضية حتى إلى المدة الطويلة كما فيما لو وردتنا هذه الرواية التوجيهية في أزمنتا هذه للغائب المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف وبني الحصر به فهو مما قد يسبب تعطيل

ص: 345


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 243.

بعض الأحكام أو كثيرها إلى حين ظهوره علیه السلام، وهو مناف لما عرفت به الشريعة المقدسة من مباني التسهيل والتيسير و ونفي أمور العسر والحرج حتى قالوا (ما خفي على فقيه طريق).

كيف وهناك روايات جليلة تثبت قوة اعتماد الأئمة علیهم السلام على رهط من خيار حواريهم ليتبنوا حل مشاكل الرعيّة في حال الغيبة والحضور حتى دلّت الأدلة الكاملة عقلاً ونقلاً على تمام إنابة الفقهاء قدس سره في الغيبة الكبرى بعد الإنابة الخاصة للأربعة الماضين إلى حد أن لا يبقى مجال للشك في كون وجوب التوقف في هذه الرواية الشريفة منحصراً في خصوص حضور الإمام علیه السلام للالتقاء به فقط، فضلاً عن إمكان انتظاره علیه السلام بعد غيبته في هذه المدة الطويلة.

وبهذا لابد أن يعم ويطلق هذا التوقف بما كان حين الحضور وحين الغيبة وبدون حصر بخصوص الإمام علیه السلام أو نائبه الخاص أو العام الجامع للشرائط.

وبهذا لن تكون هذه الرواية مما ينتفع به الشيخ النائيني قدس سره بالنحو التفصيلي.

كما أقول: أن عبارة الشيخ المظفر قدس سره الأخيرة في نفي معنى التخيير في الرواية الشريفة وهو ما يخالف ما استظهره حولها في البداية والذي قد يكون منه ما كان حتى بمعنى الجمع المستفاد من لفظ أواخر الرواية وهو (الَّذِي يَسَعُ الْأَخْذُ بِهِمَا جَمِيعاً) من التي تحمل معنى الكراهية غير المانعة عن معنى الجمع فضلاً عن معنى التخيير العملي.

وعليه فلم يبق إلا صحة ما تفضل به من المناقشة لإخراج القول بالتخيير عن هذه الرواية بخصوص المعنى الإلزامي لا غير.

بل إن التوقف والتريث الذي استفاده لم يرتبط بخصوص أيام الحضور أو الغيبة هذه.

وإلا كيف أبتلي المؤمنون في هذه الأزمنة بمثل هذه الروايات مما قد مضى نظير

ص: 346

هذا الأمر فيما سبق من المناقشات.

7 - ومرفوعة زرارة المروية عن غوالي اللئالي قال:-

(سألت الباقر علیه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟

فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشَّاذ النادر.

فقلت: يا سيدي إنهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم.

فقال علیه السلام: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثقان.

فقال: انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه، وخذ بما خالفهم فإنَّ الحق فيما خالفهم.

قلت: ربما كانا معاً موافقين لهما أو مخالفين فكيف أصنع؟

فقال: إذا فخذ فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟

فقال: إذا فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر)(1)

قال الشيخ قدس سره بعد عرض هذه الفقرة الأخيرة :-

(ولا شك في ظهور هذه الفقرة منها في وجوب التخيير بين المتعارضين في أنه بعد فرض التعادل لأنها جاءت بعد ذكر المرجحات وفرض انعدامها، ولكن الشأن في صحة ،سندها، وسيأتي التعرض له - حسب مقصوده في أصوله - وهي من أهم أخبار الباب من جهة مضمونها).

وأقول: إن صحت هذه الرواية من حيث المضمون مع بعض المأيدات الأخرى،

ص: 347


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 133.

وكما اعتبر بعض الأعلام المهمين مثلها على قاعدة قولهم (كثيراً ما صححنا الأسانيد بالمتون)(1)

فلابد من وجوب التخيير بين المتعارضين إذا تعادلا وعلى نحو من القاعدة الثانوية وكما سبق من نظائر الباب، إلا أنه لم يثبت كون هذا التخيير هو في خصوص الغيبة الكبرى هذه كما جاء في مورد مناقشة السيد الشاهرودي قدس سره للشيخ النائيني قدس سره.

9 - وما في مقبولة عمر بن حنظلة قال:

سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيهما حكماً وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟

قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشَّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، إلى أن قال:-

فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.

ص: 348


1- الفردوس الأعلى ص 51.

قلت: جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟

فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟

قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟

قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(1)

أقول: وسيأتي بيان هذه المقبولة في بحث المرجحات الأخيرة لعنوان البحث الكلّي وهو (التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة).

ومحل الشاهد فيها هنا هو في آخرها (إذا كان ذلك - أي فقدت المرجحات - فأرجئه حتى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات).

قال الشيخ المظفر قدس سره في أصوله (وهذه ظاهرة في وجوب التوقف عند التعادل)(2)

و أقول: إنَّ هذا الاستظهار منه قدس سره لوجوب التوقف عند التعادل الملزم لا غبار عليه إذا تمت ،عوامله ، لكن لا على أن يحدد بالتعليل المذكور في الفقرة الأخيرة، وهي ما مضى من عبارة (فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات).

فإن معنى الشُّبهة هي التي قد تشبه الحق ولكن ليست منه، إلا أن المتلبس بها قد

ص: 349


1- وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج 18 ص 75، 76.
2- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 244.

يصل إلى الحق إذا صحح مساره.

ومعنى عموم وإطلاق الخبر الذي كثيراً ما لم يثبت حرمة تركه، وإن بعض الاقتحام في مداخل المهلكات وإن كان فيه شيء من الخطورة لم يحرز منه إيقاع النَّفس دوماً في التهلكة، حيث أن من مجموع ما أوضحناه من فقرات هذا التعليل لم يثبت منه العليَّة التّامة الموجبة لما استظهره من وجوب التوقف من هذا التعليل غير التام.

وإنما المستفاد من خصوص هذا التعليل ما هو إلا للتحفظ الاحتياطي لا غير.

10 - وخبر سماعة عن أبي عبد الله قدس سره :قلت يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل ،به والآخر ينهانا عن العمل به؟

قال: (لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي صاحبك، فتسأل عنه).

قلت: لابد أن يعمل بأحدهما.

قال: (اعمل بما فيه خلاف العامة)(1)

أقول: بعد التأمل في العبارة يعطي هذا معنى أنها لا تنافي أدلّة تقديم الترجيح، ولذا لما قال السائل - لابد أن يعمل بأحدهما - رجّح له الإمام علیه السلام أن يعمل بما فيه خلاف العام.

بينما الظاهر هو الأبرز لو لم يبد السائل سؤاله بما يحرج بعمل أحد الأمرين، وهو أنَّ المراد منها ترك العمل رأسا انتظاراً لملاقاة الإمام علیه السلام، لا التوقف والعمل بالاحتياط ، وصاحبك وهو الأعم من الإمام أو نائبه المخول.

11 - ومرسلة صاحب غوالي اللئالي - على ما نقل عنه - فإنه بعد روايته المرفوعة المتقدمة – وهي مرفوعة زرارة المروية عن غوالي اللئالي - التي جعلناها السابعة

ص: 350


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 122 ح 42.

قال:-

وفيه رواية أنه قال علیه السلام (إِذَنْ فَأَرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَتَسْأَلَهُ)(1).

أقول: هذه الرواية وإن اعتبرت كسابقتها في الضعف إلا أنها مقواة عند بعض الأكابر كصاحب الغوالي كالرواية السابعة لقوتها.

وإن كان بعض المرسلات لا يمكن الاعتماد عليها إذا كانت هذه المرسلة منها لفظاً أو من المضمون الذي يمكن الاستفادة منه وبما تتلاءم منه بعض المضامين الموحدة أو على الأقل من التي تبعد عن أن تتكاذب إذا كان بعض رواياتها يقوي البعض الآخر من هذا الضعف من روايات العلاج وغيره، وسواء روايات المعصوم علیهم السلام المنقولة نصاً أو المنقولة بالمعنى المعتبر وإلى حد ما لم يقبل.

وقد أشرنا في مناقشتنا الماضية بعد استعراض مرفوعة زرارة السابعة ما ينفع في المقامين.

وثم على أساس الاعتزاز بهذه القطعة من الرواية - ولو في الجملة وكون دلالتها قريبة من التوقف الذي يأدي إلى الإرجاء والتأجيل حتى ملاقاة الإمام علیه السلام، لإيصال السائل إلى بغيته المنشودة أو ما يعوض عنها -

لا يمكننا البت بكون هذا الوقف أو الإرجاء لخصوص زمان الأئمة الأحد عشر علیهم السلام، بل يشمل زمان الثاني عشر علیه السلام في غيبته الصغرى وما يتبعه من الغيبة الكبرى حتى الأزمنة التي خول فيها الفقهاء الجامعون للشرائط، بما يمكن أن تحل عن طريقهم بعض المشاكل حال القدرة على حلها، لأن الوكالة كالأصالة في أكثر القضايا الممكنة و (لا يترك الميسور بالمعسور) ، وبالأخص في أوائل أيام ما بعد الغيبة الكبرى.

ص: 351


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 133.

12- وقال الشيخ الكلينيقدس سره في كتابه الكافي بعد نفله الرواية الخامسة الماضية عن سماعة فال:-

وفي رواية أخرى (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)(1)

أقول: بأنّ الظّاهر من نقله أن هذه رواية مختلفة عن سابقتها، لأن ضمير الأولى للغائب وضمير الثانية للمخاطب.

ولكن الأولى وإن استظهروا منها القول بالتخيير إلا أنَّ المستفاد بالنتيجة القول بالتوقف كما في الرواية الحادية عشر.

وأما هذه الثانية فمأداها القول بالتخيير فقط إذا تساوى مفاد الخبر ين في تناقضهما بعد حملهما على المقيدات.

إلا أنه لا يمكن المساعدة على ذلك إن صح ما ذكره بعض العلماء قدس سره بأن هذه الفقرة من مستنبطات الشيخ الكليني قدس سره إلا أن بعض ما نقله أعاظم القدامى بعد تجريدهم الأسانيد من الروايات قد يظن منها أنها فتاوى منهم، وهي ليست كذلك، فيبقى أثر كون هذه الفقرة على حاله من الروايات محتملاً.

وعلى كل فهذه مجموعة روايات افترضناها على أنفسنا على علاتها، مما قد يربك ذهن البعض من بعض فقراتها للتداول في أمرها واخترناها من أكثر من مصدر ومصدر أصولي كعلاجيّات قبل طرح المرجحات لما بين كل خبرين تعارضا متعادلين يكذب أحدهما الآخر إن تم إحكام السيطرة من هذه العلاجيات بدون أي ارتباك من ذهن أحد بسبب صحة أسانيدها واعتبار العمل العلاجي بمداليلها على كل خبر ين تعارضا على أمور انطباقها على ما سبق ذكره من حالة التخيير وحالة الوقف وحالة الاحتياط التي لو لم يلتزم به ليتحول أمره إلى التخيير أيضاً إن لم

ص: 352


1- لكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 66

نجعله واجبا.

وخلاصة ما مضى ذكره عن العلاجيات الاثنى عشر والمناقشات التي أوردناها أنه لا وجود فيها لما يساعد على التخيير المطلق إلا بما يصل إلى التوقف من الإتخاذات، لكن لم تنحصر في خصوص زمن الأئمة علیهم السلام، بل في زمن الغيبتين كما مر تفصيله.

ولذا فلابد من التحول بعد هذا إلى روايات الترجيح مع عدم مخالفة ثوابت الشريعة.

المبحث الثامن عشر: أخبار الترجيح في أمور

الأمر الأوّل: مورد الحاجة إلى المرجحات في الخبرين المتعارضين

لما كان التعارض المستقر فيما سبق ذكره لا يمكن أن تجتمع في حالاته حجتان متعارضتان في أي تعادل كامل للا بدية وحدة حكم الله تعالى فيها وانطباقها على خصوص المصداق المسمّى بالحجة واقعاً أو ظاهراً كلاً بحسب وضعه واندراج المصداق المعارض له كذلك في مستوى حضيض الباطل العاطل لا غير.

فلابد إذن من أن يكون محل الحاجة واصلاً إلى إمكان الاستفادة من المرجحات وأخبارها المعتمدة منحصراً في خصوص الخبرين المتعارضين بين ما يصلح أن يكون كل منهما في مثل نسبة معينة متفاوتة من الحجية لو خليت ووضعها العلمي الاصطلاحي بينهما وبدون أي تساو محير ما بينهما، فضلاً عن مقام الإمام علیه السلام عند رجوع الأمرين إليه في عهده بل بتفاوت الغالب عن المغلوب، سواء كان الأول منهما أو الثاني بدون تعيين حالة الانكشاف ليكون مورد الحاجة إلى تفعيل أخبار

ص: 353

الترجيح متطابقاً بحق عند تحقق تلك الاستفادة.

الأمر الثاني: العمدة من تلك الأخبار في هذا المورد

وبما أنّ العمدة في هذا المقام بعد كتاب الله تعالى من آيات الأحكام الأصولية والقواعد الفقهية والفرعيات منهما - بسبب التصريح بوجوب الرجوع إليها في بداية كل حيره إن أمكن تحصيل الضالة ولو في الجملة منها لإجماله -

هو الأخبار ، ومن أهمها - إن لم نطلق عليها أنها الأهم - مقبولة - عمر بن حنظلة العجلي البكري الكوفي.

لكن ناقش الشيخ الآخوند قدس سره في كفايته في أساسيتها، لصالح هذا المورد، حيث جعلها أجنبية عن أخبار الترجيح بين الخبرين المتعارضين كما ينبغي مما ذكرنا، لكونها في نظره واردة في ترجيح الحكمين المتعارضين دون أصل الخبرين فلا وجه لعدها من روايات الخبرين المتعارضين.

لكن أورد عليه بأن هذه الرواية وإن وردت في الحكمين المتعارضين داخل الخبر والمجيب هو الإمام علیه السلام

لكنها تدل بالملازمة على الترجيح في الخبرين أيضاً، حيث أن المرجحية فرع الحجية، إذ لا معنى للترجيح بغير الحجة، فإذا كانت شهرة الرواية مثلاً مرجحة لأحد الحكمين المستند إلى الخبر المشهور، فهي واصلة بالملازمة إلى الخبرين لا محالة.

أقول: وهو الحق و من أهله وفي محله مع مقام الشيخ قدس سره العالي كذلك من حيثياته الخاصة به.

ونضيف إليه كما أضاف المضيفون أن هذه المقبولة - وإن لم تترك وحدها - قد قبلها العلماء في سندها وبما أفادته كما مر في الإيراد لأن راويها صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم

ص: 354

كما رواها المشايخ الثلاثة قدس سره في كتبهم ، وقول الصادق علیه السلام فيما ورد في الأوقات عن يونس بن يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام (أن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله علیه السلام: إذا لا يكذب علينا)(1) إلى غير ذلك.

وثم أقول: وأما الروايات الأخرى المشابهة لها وإن نوقش في بعضها إذا كانت متفقة معها مضموناً، فضلاً عن مقارنة ألفاظها بألفاظ المقبولة، وبما قد يحقق التشابه المقبول، بناء على الوثوق لا خصوص وثاقة الراوي، فلا مانع من التشبث بالقوة الإضافية لصالح أمور عموم قواعد الترجيح للمقبولة وللإضافيات المايدة لها وليرفض المخالفة سنداً أو لفظاً ومعنى

الأمر الثالث: ملحقات المقبولة

من ملحقات المقبولة في النتيجة الآتية ما أدعي عنها أنها معارضة للمقبولة، وهي مرفوعة زرارة السابقة(2)

ووجه معارضتها للمقبولة حسب ادعاء صاحب المعارضة أن المرفوعة ذكرت الشُّهرة أول ،المرجحات بخلاف المقبولة، حيث ذكرت فيها بعد صفات الراوي، مع أن سيرة العلماء على تقديم الترجيح بالشهرة على سائر المرجحات مطلقاً.

لكن معارضة المرفوعة حسب ادعاء مدعيها ردت:-

بأن أول المرجحات الخبرية الشهرة نصاً وفتوى.

وفي المقبولة ذكرت أول المرجحات الخبرية أيضاً، وإنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم، لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة، لا للخبر المتعارض من

ص: 355


1- الكافي : باب وقت الظهر والعصر من كتاب الصلاة ب 5 ح1.
2- مرت في ص 347 - 348.

حيث أنه خبر متعارض.

بل ظاهر قوله علیه السلام (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ...إلخ) ذلك، وكذلك ظاهر قوله علیه السلام (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك... إلخ).

وبهذا يتبين أنَّ الشُّهرة أوّل المرجحات الخبرية في الروايتين المقبولة والمرفوعة معاً.

وأن ما استقر عليه عمل المشهور هو من تقديم الشهرة على جميع المرجحات، فلا داعي للتّوهم، كما قد صرح بهذا الأمر صاحب الجواهر قدس سره في كتاب الكفارات.

الأمر الرابع: دفاعيات أخرى عن بعض ما قيل من المناقشات لبعض مضامين المقبولة الرئيسية في المقام.

وقبل البدء بمواصلة الإتيان بثالث أخبار الترجيح - وما يناسبهما بعده من الأخبار الترجيحية الأخرى - ينبغي لنا إضافة بعض آخر، مما يمكن أن يدخل في تسديد مضامين المقبولة المعتمدة في الباب.

ومن ذلك ما عرضه أحد المدافعين الأكابر وهو الأستاذ السيد السبزواري قدس سره، حيث عرض ما ناقش في شيء من مضمونها البعض الآخر بقوله عنه:-

إن المقبولة جاءت في مورد الحكومة فلا تشمل غيرها.

وأجاب مدافعاً عن المقصود من ذكر الحكومة في المقبولة وفي ذكر دفاعه الآتي إيضاح أكثر لما مر من ردّ الشَّبهة على مرفوعة زرارة، وذكر الحكومة ومعناها في صدر المقبولة بقوله:-

(وفيه: أنها ظاهرة، بل ناصة في أنَّ المدار على منشأ الحكم ودليله، لا أن يكون

ص: 356

لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة، ولا فرق حينئذ بين كون الدليل دليلاً للحكم أو للفتوى، فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقاً)(1).

أقول: وهذا منه قدس سره ما يجعل للمقبولة- بعد الدفاع الماضي والحالي من التصحيح - محورية للوفاق بينها وبين ما يتلائم معها من الروايات الأخرى.

و من تلك المناقشات التي قيلت عن بعض مضامين المقبولة ما ذكروه من ان اختصاص المقبولة كان بزمان الحضور لما ذكر في ذيلها (فأرجئه حتى تلقى إمامك).

ولكن أجيب عن هذا:-

بأنّ التّعبيرات - في الروايات المنسوبة إلى العترة الطاهرة - مختلفة.

فقي المقبولة (حتى تلقى إمامك)، وفي موثق سماعة (حتى يلقى من يخبره)، وفي خبر آخر (حتى يأتيكم البيان من عندنا)، وفي خبر آخر (حتى ترى القائم فترد إليه).

ثم علينا أن نقول: بأن زبدة حالة الاختلاف في الروايات التي منها بعض ما ذكرناه.

فإنّ الروايات العلاجية التي تيسرت لدينا ومنها ما سيأتي وبما يمكن أن لا يتباعد بعضها عن بعضها الآخر كثيراً، بل بما قد يستفاد من الكل بعد التأمل في عموم وإطلاق ما يبغيه الأئمة علیهم السلام في إجاباتهم على أسئلة حواريهم وبما ملؤه الرحمة والشفقة بما يتناسب مع سهولة الشرعة السمحاء التي لم تغلق الباب على تلامذة الأئمة علیهم السلام في الإرجاء أو التوقف إلا بالتقاء بخصوص الأئمة أو خصوص الإمام الغائب قدس سره في هذه الغيبة، وهو لا يمنع من الالتقاء بالوكلاء العامين في غيبته.

لأن ملاقاة الأئمة علیهم السلام والإمام القائم علیه السلام ليس لها موضوعية خاصة بها، ليبقى المؤمنون في حيرة من أمورهم المستعصية لديهم لإمكان حصول الحلول عن طريق

ص: 357


1- تهذيب الأصول - السيد عبد الأعلى السبزواري - ج1 ص 179.

فسح المجال من الطرق الأخرى مما ورد في نفس الروايات.

ولذلك أجاز الأئمة علیهم السلام إلى بعض حواريهم الفقهاء أن يتبنوا أمور الإفتاء بما رسموا لهم من القواعد عوضاً عنهم في القرب والبعد عنهم زماناً ومكاناً.

وهكذا إناباتهم الفقهاء في الغيبة الكبرى بعد عهد النواب الأربعة الخاصين بروايات مهمة بعد آية النفر ونحوها.

لكون عمدة المناط كلّه الوصول إلى الحجّة المعتبرة الصادرة عن المعصوم علیه السلام مباشرة أو تسبيباً مطمئناً به كما مر منا مثل هذا المعنى أكثر من مرة ومرة.

ومما قد يثار من النقاشات - لبعض فقرات المقبولة ليتلوها الرد المدافع أو المصحح -

هو أنه قد ذكر في مرجّحات المقبولة بكلمة (الأصدقية)، وهي لا وجه لها بالنسبة إلى نفس ما يطابق الواقع، لأنها تتصف بالوجود والعدم، ولا تقبل الشدة والضعف حتى يتحقق فيها التفضيل ، أي إما أصل الصدق أو الكذب.

لعدم صلاحية أن يكون المقياس المعتبر بالفرق بين الصدق والأصدقية ليلتزم بالثاني ويترك الأول بتكذيبه إن عارضه في الجملة، وإن كان في معنى أفعل التفضيل المذكور إضافة الأحسنية، لعدم وجود معنى الكذب في صادق القول مع إجماله، بسبب فارق المعارضة وإن كانت جزئية.

إلا بأن يجاب عن وجودها في هذه المقبولة:-

بلا بدية كون قصد الإمام علیه السلام من ذكرها كمقياس ليتمسك به عند المرور على الأصدقية إن توفّرت في سؤال السائل، لتجتنب حالة مجرد صدق الصادق بدون إضافة معنى الأصدقية إذا كان التفضيل حاصلاً بالنسبة إلى جهة أخرى.

وهي أن يكون أحد الرّاويين في مجرد صدقه وبدون أصدقية يصدر منه الكذب الجائز شرعاً أحياناً، والأصدق لا يصدر منه حتى ذلك إذا تبرز خطورة ما بين

ص: 358

الأمرين بسبب حصول بعض التساهلات باسم الحلال في الأول.

والكذب الحلال محدود بحدود قد لا يتعدى إلى ما يشبه المقام.

وبمثل هذا الجواب تبرز رجاجة اهتمام عناية الإمام علیه السلام بذكر الأصدقية بمعنى أكثر ، فذكرها إذن مهم جدا في المقام.

وأما بقية ما ورد في المقبولة من صفة الأعدلية والأورعية وعلى الأخص كثيراً الأفقهية، وتصور البعض عنها بأنها ذكرت فيها لناحية ارتباطها بحاكمية الحاكم لنفوذ حكمه لا لقبول روايته.

فالجواب عنها هو نفس ما مر من توجيه الأستاذ السيد السبزواري قدس سره آنف الذكر التصحيحي لشبهة حصر المراد من الحكومة في المقبولة أنه لنفس الحكم من حيث هو الموضوعية خاصة بكون المدار فيها خصوص التركيز على منشأ الحكم ودليله فقط دون الحيثية الموضوعية المزعومة.

وهو الحق الذي لاريب فيه.

ومما قد يثار عما بقي في المقبولة أخيراً - من مثل الشهرة الجابرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة التي لا تعترض السنة المعتبرة من الإشكال -

أنها لا يمكن أن يلتزم بها إلا أن تكون لتتميز الحجة عن غيرها، لأنَّ الشَّاذ ومخالف الكتاب وموافق العامة من موارد المنع ساقط عن الاعتبار بالمرة، فلا وجه لعدّها من المرجحات الخبرية على ما يخالفها لعدم بقاء أي مفهوم لتلك الأوصاف كي يُقال لها أنها مرجّحات ولو في الجملة المخالفة.

فالجواب عليه: أن الترجيح هنا هو إبداء المانع عن الحجية فعلاً عند المخالفة، لما ورد في المقبولة من باقي الأوصاف، لا إسقاط المقتضي لها عند الموافقة لو تصورنا المخالفة من كل ناحية لإمكان عدم سقوط بعض ما يخالف عن الاعتبار لبعض الشّواذ لو تمكن الفقيه بعد استفراغ وسعه من جديد من أن يعثر على الحكم الواقعي

ص: 359

إذا كانت الشهرة الجابرة قد حملت الحكم الظاهري دون الواقعي.

وكذا لو تمكن من العثور على العكس لو اعتقد الفقيه أن تلك الشهرة الجابرة كانت في حالة اشتباه، وكما قيل (قد يوجد في الأسقاط ما لم يوجد في الأسفاط).

ولإمكان أن يكون بعض ما يخالف الكتاب متماشياً مع ما لم ما لم يحاسب عليه المكلّف على معصية مرتكبة من قبله وفي نفس النص القرآني حيث يقول عز من قائل «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) وغيره.

ولإمكان أن يكون بعض ما يوافق العامة من حالاتهم العكسية في بعض الأجواء والظروف لم تصطدم بمقررات السنة المعتبرة بانتفاء مقتضيات التقية الواجبة أو في مثل بعض فقهيات العامة المتلائمة مع فقهيات الإمامية، كما في حرمة التكفير (التكتف) في الصَّلاة عند الإمامية، وعند بقية المذاهب الأخرى أنها من السنن في الصلاة.

وبهذا الإمكان الذي ذكرناه في حالات المخالفة لبقية أوصاف المقبولة تتجلى لنا حالة بطلان الإشكال على صحة عد باقي هذه الأوصاف من المرجحات.

وأما ما يمكن أن يأتي من النصوص الشريفة العديدة مقوياً لعزيمة البناء في المقبولة على الوصف الثالث وهو (مخالفة العامة) من المرجحات، وكأنه فيها تعد الأمة الإسلامية من الإمامية في تمام الرخاء في جميع ظروفها الماضية والحالية كقول الأئمة علیهم السلام (دَعُوا مَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِم)(2) وغيره.

بينما ظروف غير المقبولة ومأيداتها من روايات شريفة أخرى جاءت عن الأئمة علیهم السلام كذلك تحمل ما يتناسب وأحكام الشدة وقساوة الأعداء من حالات التقية

ص: 360


1- سورة البقرة/ آية 173.
2- أصول الكافي "خطبة الكتاب " ص 8، الوسائل ج8 ص 18.

والدعوة إليها عموماً كمطابقة قول الله تعالى «إلا أن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً»(1) في الحالات الاستثنائية، وكقولهم علیهم السلام في الموارد الخاصة بها (التقية من ديني وَ دِينِ آبَائِي، ولا إيمان لِمَنْ لاَ تَقِيَّةَ لَهُ)(2) وقولهم علیهم السلام أيضاً (لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ وَرَعَ لَهُ وَ لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ وَرَعَ لَهُ)(3) وغيرهما، خوف وقوع الفتن التي من وراءها وقوع ما لا يحمد.

وأما ما يشمل ما يخالف هذا الوصف الثَّالث من المقبولة ومأيداتها الكثيرة.

فإنه لابد أن يجاب عنه بأن أدلة وجوب إتباع ما يخالف العامة لها ظروفها الخاصة بها، وأدلة وجوب النهج على نحو التقية لها ظروفها الخاصة بها، فلا مجال للتقليل من شأن المقبولة ومأيداتها الكثيرة في هذا الوصف للترجيح.

الأمر الخامس: المرجحات الخمس

اشارة

قد عرف بين الأصوليين استعراض ما يسمونه بالمرجحات الخمس، وهي الترجيح ب- (الأحدث وبالصفات وبالشهرة وبموافقة الكتاب وبمخالفة العامة).

وبما أننا ركّزنا على أن عمدة ما في الباب من مصادرها هو مقبولة عمر بن حنظلة وما يتبعها من الأخبار.

فلابد من الابتداء بالحديث عما يخصها وهو الترجيح بالصفات وإن كانت هذه الخمس هي نفس صفات المقبولة بالنحو العام والخاص.

فلنبدأ بالحديث عنها في البداية عموماً، وخلاصة دفاعنا عنها وعن مرفوعة زرارة باشتراك وعلى منهجية خمس من الحروف الأبجدية.

ص: 361


1- سورة آل عمران / آية 28.
2- أصول الكافي 2: 12/219، باب التقية.
3- صفات الشيعة / الشيخ الصدوق : 3/3.

أ-الترجيح بالصفات

وهي ثاني الخمس، ومثال لكل من الخمس بالوصف العام، والذي لم يخرج كلاً من الأربعة الباقية عما تختص به حين كل منها فيما يأتي.

وقدمنا ذكرها على الأحدث لما حازته الصفات من المعنيين الخاص والعام.

وأخرنا الأحدث إلى نهاية مجموع الخمس، ليبقى نائلاً وصفه الخاص به، وتبقى الثلاثة الباقية مرتبطة بمواقعها الخاصة بها بلا داع لأية منافسة.

قد مر ذكر مقبولة عمر بن حنظلة وأسئلته للإمام علیه السلام وأجوبة الإمام علیه السلام والأوصاف التي تصلح للترجيحات عند تعارض الأدلة وإجاباتنا على ما جاء من المناقشات لسند المقبولة والنواحي المهمة مما يتعلق بمضامينها، وعن ما يتعلق بسند ومضمون مرفوعة زرارة غير المنافية، بل المشاركة لها في أمر أهمية الشهرة في باب الترجيح فلا داعي للإطالة بما هو أكثر.

ب-الترجيح بالشهرة.

وهي الشُّهرة العملية والقديمة التي كانت في زمن الأئمة علیهم السلام وما يقارب أزمنتهم أيام تدوين الروايات الشريفة محفوظة عن الأئمة علیهم السلام، وهي التي لقدمها المصان بما ذكرنا لها قيمتها المحترمة في دعم وتقوية بعض الروايات التي قد تبدو لبعض المحتملين أنَّ فيها ضعفاً، لكن دون الشُّهرة الروائية والفتوائية، وقد اشتركت المقبولة والمرفوعة بالترجيح بها، وقد اعتبرها صاحب الجواهر قدس سره أول المرجحات بين الخبرين.

وازدادت المرفوعة بإضافة الأوثقية التي لا تنافي بأقل تأمل لها مع المقبولة ومضامينها.

ح-الترجيح بما يوافق الكتاب

إن الترجيح بما يوافق الكتاب مما يقع ما بين الخبرين أوّل ما يحققه مرجعية

ص: 362

العرض على الكتاب للاطمئنان بما يصل إلى مطابقة أحد المتعارضين من الخبرين.

ومن بعد هذا ما بيناه سابقاً بإسهاب وافر عن أهمية مرجعية كلام النبي صلی الله علیه و اله والعترة علیهم السلام، كما نص على هذا القرآن أيضاً ومن بعده ما بينته الروايات التي أهمها المقبولة.

ومن بعدها ما جاء من مأيداتها في ذلك كرواية الحسن بن الجهم المتقدمة(1)، فقد جاء في صدرها (قلت تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عزّ وجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منا وإن لم يشبههما فليس منا) إلى غير هذا من الروايات الكثيرة المشابهة على ما نقل في نتائج الأفكار من بحوث السيد الشاهرودي قدس سره.

ولكن لا يخفى على المراجع لها بعد التأمل أن فيها تهافتاً، وهو في القضية التي كانت محسوبة - بين أهل العلم في عامة ما فيها - على روايات الترجيح بما بين كل خبرين متعارضين من غير المقبولة وخاصة ما معها لاقتصار بعضها على مخالفة العامة والآخر عليها وعلى موافقة الكتاب والثَّالث عليهما معاً.

ومقتضى إطلاقها نفي الترجيح بغير المرجحات المذكورة كالشهرة.

بينما المقبولة وما يقرب منها كثيراً لما كانت أخص من جميع روايات الترجيح وكونها العمدة بين الروايات فلابد من تخصيصها بالمقبولة، لعلاقتها المأثرة بما يقرب منها.

ومقتضى التخصيص هو كون مخالفة العامة مرجّحة بعد عدم الترجيح بالشهرة وموافقة الكتاب، وكون موافقة الكتاب مرجحة بعد فقد الترجيح بالشهرة.

فالمقبولة إذن تتعرض لترتيب المرجحات ومواردها

ص: 363


1- ص 338.

إضافة إلى كونها - مع بعض مأيداتها الخاصة - العمدة في كل ما عرفت به من مرجحاتها، وهو الحق فيما أورده قدس سره من التدقيق المفيد.

هذا ولصاحب الكفاية قدس سره رأي يقول فيه حول عامة روايات هذا الباب ومن بينهما أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة العامة (أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة، بشهادة ما ورد في أنه زخرف(1)، وباطل، وليس بشيء، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار)(2)

فعقب عليه الشيخ المظفر قدس سره في تعليقه بما مضمونه مع شيء من التصرف منا، بأنه توجد في مسألة موافقة الكتاب ومخالفته طائفتان الأخبار(3)

(أولاهما: في بيان مقياس أصل حجية الخبر لا في مقام المعارضة بغيره.

وهي التي ورد فيها التعبيرات المذكورة في الكفاية - من قطع ما ورد في الكتاب والسنة وعبارات النبي صلی الله علیه و اله والأئمة علیهم السلام عنها- أنه زخرف وباطل إلى آخره .

فلابد أن تحمل هذه الطائفة على المخالفة لصريح الكتاب، لأنه هو الذي يصح وصفه بأنه زخرف وباطل ونحوهما).

لدحض الحجية فيهما وفي أمثالهما مما ورد، وإن حصل بعض شبه فيها لشيء مما في الطَّائفة الآتية، مع فارق الصراحة في التعبير وعدم وجود أي معارضة كما في الثانية الأتية.

ولذا لن تكون هذه الطائفة الأولى إلا مقياساً لخصوص أصل حجية الخبر دون

ص: 364


1- إشارة إلى ما عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : (مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ اَلْحَدِيثِ اَلْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ)، وسائل الشيعة (الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 18 ص 78.
2- كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ص 444.
3- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 254.

شيء آخر، وعليه فلن تصلح أن تكون مصداقاً لشيء من حالات التعارض لحاكمية الحق الصريح على الباطل فقط، وبدون أي مجال لترجيح شيء على شيء ء تعبداً.

أقول: وهذا المعروض الأول إن كان مما يرضي الشيخ الآخوند قدس سره أو المعلق قدس سره - في نفسه أو كليهما - فهو مما لا مانع منه، بل قد ثبتناه في السابق أو ذكرنا ما يآيده.

(وثانيهما(1): في بيان ترجيح أحد المتعارضين على الآخر.

وهذه - المجموعة من الأخبار عند حصول التعارض ومنها المخالفة للكتاب إن حصلت عند العمل على نحو التقية - لم يرد فيها تلك التعبيرات - من مقام الطَّائفة الأولى-

وقد قرأت بعضها، وينبغي أن تحمل - هذه الثانية - على المخالفة لظاهر الكتاب لا لنصه - ليصح أن يكون عمل التقية الموافقة لخصوص ظاهر الكتاب إن احتيح إليها دون نصه، لئلا يقال أنها زخرف وباطل حال الاختيار، وإنما كان عند الترجيح الاضطراري -

لاسيما أن مورد بعضها مثل المقبولة في الخبر الذي لو كان وحده لأخذ به، وإنما المانع من الأخذ به وجود المعارض.

إذ الأمر بالأخذ بالموافق وترك المخالف وقع في المقبولة بعد فرض كونهما مشهورين قد رواهما الثقات، ثم فرض السائل موافقتهما معاً للكتاب بعد ذلك.

إذ قال: "فإن كان الفقيهان عرفا حكمهما من الكتاب والسنة".

ولا يكون ذلك إلا الموافقة لظاهره - دون دلالة النصوص ومنه ما يوافق التقية المحتاج إليها - وإلا لزم وجود نصين متباينين في الكتاب - عند إرادة الواقعيات - كل ذلك يدل على أنَّ المراد من "مخالفة الكتاب" في المقبولة مخالفة الظاهر - عند الترجيح -

ص: 365


1- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 255.

لا النص)

ويشهد لما قلناه أيضاً ما جاء في خبر الحسن المتقدم - حيث قال - "فإن كان يشبههما فهو منا - فإنّ التعبير بكلمة (يشبههما) يشير إلى أن المراد - هو - الموافقة والمخالفة للظاهر - على خلاف ما يتعلق بأمور الطائفة الأولى الحدية.

ثم أقول أيضاً: إن ما تفضل به المعلّق قدس سره عن الطائفة الثانية هذه على ما يبدو أو من تعبير أته هو ما لم يحرز منه اعتبار حالات التعارض بين الخبرين والأكثر وترجيحاتها في الحالة الظاهرية على النحو التّعبدي، لعدم انسجام حالة التعبد مع الحكم الظاهري الذي بينا سبيه.

بل الأمر على العكس وعلى خلاف مذاق الشيخ الآخوند قدس سره حيث تعبد فيها، وقد خالفه الشيخ النائيني قدس سره والسيد الشاهرودي أيضاً، وقد ذكرنا بعض تفاصيل هذا الأمر فيما سبق.

د-الترجيح بما يخالف العامة

قد ذكرنا فيما سبق في أكثر من مورد بأن مخالفة العامة قد تكون من مرجحات ما بين الخبرين المتعارضين بحسب الدلالة الظاهرية دون النص والواقع، لما اتضح سببه أكثر من مرة عند تحقق المقتضى الظاهري وانتفاء المانع منه، وعلى ميزانية ما أعطته المقبولة وما حظيت به من لزوم تبني أمور الترجيح على ضوء منهجية الترتيب فيها، وما نهج على منوالها من بعض الروايات كرواية الحسن بن الجهم المتقدمة، إذا لم تكن في الموافقة للعامة في بعض مذاهبهم أو في نوعها بعض حالات انسجام مع ظاهر كتاب الله والسنة المطهرة المأثورة عن العترة، ولو بنحو غض النظر من بعض العامة أو حصول بعض معافات في أجوائنا معهم.

وإلا لم تكن هذه المخالفة للعامة يوماً مرجّحة على ظاهر الكتاب لأن قولهم

ص: 366

علیهم السلام (دَعُوا مَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِم)(1) وغيره من المنقولات هي في أيام ازدهار أجواءنا وكافة مراحل اختياراتنا.

لكن حاول الشيخ المظفر قدس سره أن يسعى إلى تبني جعل بعض العقبات في هذا الطريق حيث قال(2) (إنّ الأخبار المطلقة الآمرة بالأخذ بما خالف العامة وترك ما وافقها كلها منقولة عن رسالة للقطب الراوندي قدس سره.

وقد نقل عن الفاضل النراقي قدس سره أنه قال غير ثابتة عن القطب ثبوتاً شائعاً فلا حجة فيما نقل عنه)(3).

لكننا نقول: إنَّ هذه العقبة في طريق ما نقله القطب قدس سره وإن أمكن أن يجاب عنها أو عن بعض ما صح عن القطب قدس سره وعن نفس رسالته المشار إليها بواسطة ما نقله صاحب الوسائل، حيث نسب إليه إضافة إليه بسنده عن الصادق علیه السلام قال:-

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله ،فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم ،فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه)(4).

وغير هذه الرواية إن لم تدخل في سلك ما تعطيه المقبولة من منهجية ما تعطيه من الترتيب في الترجيحات ولو في الجملة بسبب الحاجة إلى الابتعاد عن تهافت بقية الأخبار الأخرى الواردة في المقام، فهي لم تترك للود قضية ببقاء ارتباطنا بالمقبولة وما ناسبها مما لم يخرج من حالات التهافت.

ص: 367


1- أصول الكافي "خطبة الكتاب" ،ص8، الوسائل ج8 ص 18.
2- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 3 ص 255.
3- مناهج الأحكام والأصول: تعارض الأدلة المقدمة الثالثة من مقدمات المرجحات.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 118.

ه-:الترجيح بالأحدث

إن الترجيح بالأحدث قد يظهر من بعض الروايات التي توجه حواري الأئمة علیهم السلام إلى العمل به فيما بين الخبرين المتعارضين مقدّماً على سابقه، لكن لا على أن يكون هو الحل الأمثل أو القاعدة الكلية في كل زمان ومكان، لأن مقتضيات ابتلاءات المكلفين في تلك الأحوال قد لا تكون إلا محتاجة إلى ما يطابق الواقع في بعضها، وفي البعض الآخر قد لا تتناسب إلا مع الحكم الظاهري.

فلنأخذ رواية من بين تلك الروايات ونكتفي بها بترسيخ أصل الفكرة، وهي ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام (قال علیه السلام: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام، ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله)(1)

فأقول: بناءً على اعتبار هذه الرواية أو هي مع مثيلاتها ووضوحها ولو مضموناً وقد عدت أربعاً في اختيار ما هو الأحدث مميزاً عن سابقه المتقدم ولو في خصوص ما ذكره الإمام علیه السلام لمن كان قد حظر بين يديه من حواريه وكأنه قد سأله هذا الحاضر على افتراض كون هذا الذكر من الإمام علیه السلام جواباً لسؤال هذا السائل في زمانهما دون ضمان أن يكون اعتبارها ثابتاً أيضاً بتطابق كامل مع زمان الفقيه العام المحدود في إجازاته وصلاحيته في هذه الغيبة الكبرى.

لا بمعنى ما لا يتناسب من توجيه هذه الرواية إلا مع مستواه دون مستوى مقام الإمام علیه السلام حتما في صلاحيته المطلقة باتخاذ القرار في حتميته المناسبة لذلك الزمان وبركة وجوده مع علمه اللدني الخاص كالقاعدة المستمرة، ولتبدل زمن الاستفادة منها، وإن حوت ما حوت من الخير الكثير في ذهن ذلك الإمام علیه السلام، لكنها وردت

ص: 368


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 67

وحلّت بين يدي الفقيه العام المحدود كما أشرنا في البداية في صلاحيته مميزاً بها عما يتناسب مع وجود المعصوم المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف

وعلى هذا الأساس لابد أن يكون كلام الإمام علیه السلام هذا مع من واجهه من حواريه شرعاً هو إمام الكلام بعد كلام الله ورسوله، بحيث يجب على المأموم - الذي بين يديه وغيره ممن عاصره وعرف مقصده - إطاعته، بدون أي تخلف عنه في هذه المواجهة وغيرها، سواء كان الذي ظهر من إمضاء الإمام علیه السلام للذي اهتدى له السائل هو الأخير، بقرينة إمضاءه علیه السلام له بكلمة (رحمك الله).

أم الأول إن ظهرت من الإمام علیه السلام الإشارة مع ما يتناسب من ذلك الحكم الإلهي.

وسواء كان حكمه الذي أثبته له على نحو الحكم الواقعي أو الظاهري في الخبر الأخير، أو كان كل من الخبرين واقعيين أو ظاهريين، فيتعين الأخير تبعاً لما تقتضيه المصلحة أو لدفع المفسدة، حتى لو كان هذا الأسلوب من الإمام علیه السلام لاختبار مأمومه الحاضر، فيصادف الهدف باهتداء المأموم إلى الجواب عن الأخير المذكور.

بينما قد يكون في ذهن الإمام علیه السلام عن تكليفه الخاص في اختلاف ظرفه وحاله لو تفاوت أنه هو الواقع أو الظاهر، سواء كان الأحدث أو ما قد سبقه مما قد يختلف عن مفاد الرواية هذه.

بل يجب على بقية المكلفين السير على منوال هذه الرواية حتى الذين وردتهم محفوظة في ألفاظها ومعاينها واعتبارها مع مثيلاتها من مكلّفي زمن الغيبة الكبرى إن تطابقت ظروفهم الحديثة مع القديمة مع تمام ما تطابقت فيه ظروف هذه الرواية وما عنته بدون أي تفاوت وهذا ما يمكن قبوله ثبوتاً.

وأما الوصول إلى ما يحقق الإثبات أيضاً، فنقول:-

إنَّ الأهم في مثل هذه الروايات التي قد تكون توجيهية للجميع، أو لم تنعدم

ص: 369

عن إفادتها الأوسع من الزمان السابق حينما وصلت إلينا من جوامعها ومجامعها ،الحديثية، كما كانت في الأزمنة السابقة لمن سبق من الحوارى المجتهدين - وإن اختلفت أساليب استنتاجات فقهاء اليوم عن استنتاجات السابقين بعض الشيء لفارق الزمان ونحوه وتوسع القواعد الأصولية المثمرة -

فهي أيضاً كذلك، ولو في الجملة حينما صارت بين فقهاء الأمة في الغيبة الكبرى وتحت بركة ورعاية الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف لو اعترتنا مثل تلك المشاكل أو ما يشبهها من محيرات باب التعارض بين الأخبار من إضافيات هذا الزمان إذا انعدم التعرف أو ما يقرب منه على إدراك الأحكام الواقعية، أو ما تيسر إلا القليل منها مع تيسر الكثير، أو خصوص الأحكام الظاهرية ومنها وجوب الترجيح بما يخالف العامة أيام سلامة أجواء الإمامية من هذه الغيبة إن احتيج إلى تقدمها على غيرها من المرجحات عند التّعارض، للتعرف على فارق زمان الغيبة عن زمان الحضور.

لأن فقيه اليوم مهما تضلّع في الأمور فلم يكن كالإمام المعصوم علیه السلام، لعدم عصمته، بل حتى كبعض حواريه المجتهدين في قولهم عنه عند الحاجة وغيبة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف عن فقيه اليوم كي يحق له الرضا أو يحق له أن يكون له حق البناء على ما هو الأحدث بين الخبرين، كما في الرواية الماضية على أي حال، ولئلاً يكون له الجو جو البناء دوماً على التقية لو حلت فينا أزمنة الرخاء ولو من طريق آخر يختلف عن مفاد هذه الرواية إن تعسر البناء عليها، أو لأن مفهوم هذه الرواية قد يتغير بتغير ما بين الزمانين عند فقيه اليوم.

إذ قد لا يبدو في نظره الاجتهادي الذي كثيراً ما يتجدد في الموضوع الواحد في ترتيب الحكم الشرعي عليه بسبب تفاوت المباني المتعددة عنده، سوى البناء على مفاد الخبر القديم دون خصوص ما هو الأحدث بين الخبرين لو لم ينشأ عنده مانع حتمي من البناء على القديم فيما ورد في الرواية المذكورة، أو ما يبدو في نظره حتّى

ص: 370

القول بالتخيير حينما لم يظهر له بين أحد الخبرين ما هو الحرام الصريح، كي لا يرتكب أو ما فيه الغفلة عن واجب صريح كي لا يتساهل فيه مثل ما مر التعرض له سابقاً مما تحت العنوان الثانوي

ومن أسباب ما يبرر لفقيه اليوم بعض التغيرات في التخريجات الفقهية أن زمنه لم يكن زمن التشرف بحضور الإمام علیه السلام لو لم يتيسر كما في عصر صدور هذه الرواية، حتى يتوقف في أمرها لو فرض عليه إجمالها المثول بين يديه، لفهم ما أفادته آنذاك، وفهم ما يمكن أن تفيده في التفكير الحديث وقت الابتلاء، ولعدم تأكد القول بإثبات ولاية الفقيه العامة المطلقة وإن أمكن القول بمجرد هذا الأمر ثبوتاً حتّى يكون الأمر كالسابق.

ولذا لابد من القول بخصوص صحة تصرف الفقيه بما يناسب قابليته الاجتهادية وبمستوى محدودية ما أجيز له من الأئمة علیهم السلام من التصرفات التي قد يكون من حالاتها ما مر ذكره من التخيير على الشرط المذكور أو ترجيح القول المناسب حتى للخبر القديم لو جهل تأريخ قدمه، أو حتى عدم ترجيح ما هو الأحدث لو جهل تأريخ أحدثيته أو حتى مع العلم بتأريخ أي منهما لو استقر رأيه على مستوى القوة الاستدلالية المهمة التي بانت له البصيرة التامة فيها سواء كان الحكم الواقعي أو الظَّاهري بين كل من القديم والأحدث عند وضوح الإلتزام بما يجب، ووضوح ترك ما يحرم وغيرهما من الأحكام.

مع ديمومة البقاء على أهمية تجديد النظر الممكن لو احتمل عقلائياً وعملياً الوصول إلى ما هو الأدق فقهياً في أي مسألة تعرض في هذا الباب، وإن سبق منه التّعرض لها أكثر من مرة، لغرض إحراز براءة الذمة أكثر.

بل قد اعتبره أكثر الفقهاء الأتقياء المخضرمين في عمق تجاربهم أنهم - بينهم وبين الله هم - في أتم الحاجة إلى تجديد النظر، بل صرح كثير منهم بتواضعهم للفقاهة

ص: 371

المثلى، حيث عبروا عن حالهم المتصاغر أمام بحر الفقه الإلهي مهما ارتقوا بين ملايين الأمة المرحومة أو جل قدرهم عندها بأنهم من صغار طلابه، طمعاً منهم بإصابتهم في تجديداتهم المتواصلة هدف الوصول إلى الحكم السديد، ومن ثم إلى رضا المولى تعالى وقبول رسول صلی الله علیه و اله والأئمة الأطهار علیهم السلام عنهم مع براءة الذمة لهم ولمقلديهم من الأعلام.

كي يتعادل تصرف الإمام علیه السلام مع المأموم أيام الحضور بما قرره الإمام علیه السلام له آنذاك، وكذلك الفقيه الشرعي المجاز مع المنتمين إليه في هذه الغيبة حول مفاد ما تتضمنه هذه الرواية مع مثيلاتها تجاه التعارض بين كل روايتين أو أكثر في اكتساب ما مر ذكره من براءة ذمة الجميع من المكلفين بين عهدي الحضور والغيبة مهما تفاوتت تصرفات ما اختص به زمن الحضور وما حدد منها لفقهاء أيام الغيبة.

والخلاصة في كل ما مر مع بسط شيء من الكلام - لإظهار ما يمكن إظهاره مما لم يختف من فوائد هذه الرواية ومثيلاتها العامة والإضافية التي لا ينبغي أن تهجر بالمرة -

أنّ هذه الرواية ومثيلاتها بعد ما أفادت السائل عن خصوص ما سأل عنه بما أنّها لم يحرز منها النموذجية النافعة لكل عصر ومصر ومن ذلك زمن الحضور والغيبة وبمستوى واحد وبدون حصول قاعدة تظهر لنا كون الأحدث هو الحكم الواقعي العهدين وعلى الأخص في زمن ابتلاءات الفقهاء اليوم وبما مر تفصيله فلابد من عدم كفاءتها التامة في هذا والحمد لله.

ص: 372

المبحث التاسع عشر

التفاضل العلمي العملي في مرجّحات ما بين الأدلة/المقدمة:

إن من أهم ما يجب معرفته للباحث الراغب بنيل ملكة الاجتهاد أو النجاح في سيره في طرقها علمياً عملياً إذا اعترضت في طريق تفكره في الأشياء الإبتلائية بعض حالات التعارض بين الأدلة اللفظية المختلفة مثلاً مما لم يستقر في تعارضه، والتي منها ما قد يوجب التحير في حل أمره إلا بما يمكن منه شرعاً ترجح أحد طرفيه في النجاح على الطرف الآخر، فيكون ذلك الآخر مرجوحاً وأقل وزناً أو تفوق الناجح في ترجحه على الطرف المقابل له، فصار الناجح أنجحاً، وإن كان ذلك الأقل فيه نسبة من النجاح سابقاً.

أو كان التحير حاصلاً عند المكلّف في زمن غيبة المعصوم علیه السلام، وإن كان ذلك المكلف فاضلاً مما لم يبد عنده تفاضل في الترجيح بين الخبرين أو الأخبار من الناحية الظاهرية، كما لو كان في زمان حضور الإمام علیه السلام، ليحظى بحل مشكله عنده مثل بعض حواريه آنذاك.

أو كان تحيره في زمانه علیه السلام أو حتى في الغيبة الصغرى، ليتوقف في أمر حل مشكله كما بينته الأخبار الشريفة إلى حين الملاقاة المنيفة، أو أخذ الحل من مثل النائب الخاص، أو من توقيع الناحية المقدسة، أو في البناء في حالة التحير على التخيير في زمن الغيبة الكبرى بين المتعارضات إذا تساوت نظرة الفقيه المجتهد المجاز فيما بينها في ظاهر الحال أيضاً، كما بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر من يومها وتزامن ظهوره مع وجوب كل منهما من دليلهما في النتيجة.

ص: 373

أو ما قد اطلعنا عليه في السابق من بعض الحالات الأخرى بالتخيير في إطار العنوان الثانوي تبعاً لتساوي دليلي الطرفين من هذه الغيبة، وغير ذلك مما قد يصرح به في أخبار الترجيح، ومما كانت الإستفادات الواقعية قد تنتفي كثيراً في هذه الغيبة.

ذوالمقدمة

وبعد تقديم هذه المقدّمة وما قدمناه من ملخص ما في البحوث الماضية وما أشرنا به في آخرها بذكر بعض تفصيل في هذا الحين عن الأخبار الواردة في بيان المرجحات ذات النسبة غير القليلة - التي قلنا عنها سلفاً - أنها كانت متهافتة في كل منهما، مما سبب حصول خلاف بين بعض الأعلام الأعاظم.

حيث كان كل منهم يرى لنفسه رأياً خاصاً به حول أسلوب عملية الترجيح، وأهمها أقوال أربعة نذكرها بعد ذكر عناوين من تلك الأخبار، وسبب ما يبدو من تهافتها والوصول إلى الجواب النهائي الواصل إلى الأخذ بالمقبولة، وما يرجع إليها من تلك الأخبار، ثم الوصول إلى ما يحقق التفاضل المفيد في عنوان البحث عن طريقها، بما يأتي ذكره بعد تقديم شيء عن خلاصة المرجحات.

خلاصة الكلام عن المرجحات

ذكروا أنَّ المرجحات فيما بين الخبرين المتعارضين أو الأكثر ثلاثة لا أكثر وهي:- الأول: المرجح الصدوري

ومعنى ذلك أن هذا المرجح يجعل صدور أحد الخبرين أو الأكثر أقرب من صدور غيره، وذلك مثل موافقة المشهور وصفات الراوي، في مقابل ما هو الأقل منهما كالشاذ النادر أو الأضعف من صفات الرواة الأقوى في الاعتبار ومن المرجحات الأعدلية والأصدقية.

ص: 374

الثاني: المرجح المضموني

وذلك مثل موافقة الكتاب والسنة حتى لو وافقت العامة مما يسمى بضروريات الدين، لا خصوص ضروريات المذهب.

الثالث: المرجح الجهتي

وهو ما أطلق عليه بمرجح جهة الصدور ، فإن صدور الخبر - المعلوم الصدور حقيقة أو تعبداً - قد يكون لجهة الحكم الواقعي.

وقد يكون لبيان خلافه لتقية وغيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع كالكذب لإصلاح ذات البين، ونحو ذلك من أمثال الواقعي كمخالفة العامة من موارد اختيارنا دون اضطرارنا.

ومقتضى ذكر هذه المخالفة - في مثل المقبولة ومأيداتها على ما سبق وما سيجيء في سياق موافقة الكتاب - كونها من عناوين روايات الترجيح.

وبعد تلخيص ما مر عن معاني المرجحات الثلاثة لنذكر ما يتيسر لنا من عناوين هذه الروايات وسبب ما أوردته مما عرف عن ألفاظ تهافتها حول ما حوته من أمور الترجيح في كل تعارض.

فمن تلك الروايات:-

1 - ما مر من رواية الاحتجاج عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله علیه السلام(1)

و مورد مقابلتها أنّ المقبولة أمرت بالتوقف بعد فقد المرجحات، ورواية الاحتجاج أمرت به من دون ملاحظة المرجحات

2 - ما مر من المرفوعة المروية عن غوالي اللئالي(2)

ص: 375


1- راجع ص350.
2- راجع ص 347.

وقد استضعفت، لكن أنكر استضعافها المحقق الثاني قدس سره وفخر المحققين قدس سره بضبط أمورها.

ومورد مقابلتها للمقبولة بناء على عناية العلمين قدس سره وغيرهم بقوتها في أمور ثلاثة، وهي:-

أولها: اشتمالها على الترجيح بصفات الراوي، على عكس ما في المقبولة.

وثانيها: في اشتمالها على الترجيح بالاحتياط بخلاف المقبولة.

وثالثها: في اشتمالها على الحكم بالتخيير بعد فقد المرجحات مع منافات هذا للمقبولة الآمرة بالتوقف.

3 - ما مر ذكره من رواية الصدوق قدس سره عن مولانا أبي الحسن الرضا علیه السلام(1)

حيث من خصوصيات هذه الرواية أنّ أوّل المرجّحات فيها هو موافقة الكتاب، ثم موافقة السنة، ولم يتعرض لغيرها بعد ذلك، وهو ما مقتضاه تقدم الخبر الموافق للكتاب وإن كان شاذاً على خلاف المقبولة المرتبطة بالشهرة وترك الشَّاذ النادر.

4 - ما مر ذكره عن رسالة القطب الراوندي بسنده عن الصادق علیه السلام (2)

وهذه الرواية تعرضت أولاً للترجيح بموافقة الكتاب ومع عدمه بمخالفة أخبار العامة ولم تتعرض لباقي المرجحات المرتبطة بالمقبولة.

5- ما ورد عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسين بن السري قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَخُذُوا بِمَا خَالَفَ الْقَوْمَ)(3).

وهذه الرواية قد اكتفي فيها بالترجيح بمخالفة العامة، وإطلاقها ينفي مرجحية

ص: 376


1- راجع ص 342 - 344
2- راجع ص 367.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 118.

غيرها، وهو ما ليس في المقبولة كما لا يخفى.

6- ما روي عن الحسن بن الجهم قال:-

(قلت للعبد الصالح علیه السلام: هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا .

فقلت: فيروى عن أبي عبد الله علیه السلام الشيء، ويروى عنه خلافه، فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه)(1)

وهذه الرواية كسابقتها الخامسة.

7 - ما رواه أيضاً بسنده عن محمد بن عبد الله قال:-

(قلت للرضا علیه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟

فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه)(2)

وهذه الرواية كسابقتها، ومنها يتفاوت جميعها عما في المقبولة.

8 - ما روي عن المعلى بن خنيس قال:-

(قلت: لأبي عبد الله علیه السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ ؟

فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله.

قال: ثم قال أبو عبد الله علیه السلام إنا - والله - لا ندخلكم إلا فيما يسعكم)(3).

وظاهر هذه الرواية الترجيح بتأخر الصدور لبعض الروايات الآخر، كقرائن مما مضى ذكر شيء منها وإن كان قد توفّي، وهو ما يتفاوت أيضاً عن المقبولة.

ص: 377


1- نغس المصدر السابق
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص119.
3- نفس المصدر السابق

9 - ما مر ذكره من رواية الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام(1)

وهذه الرواية جعلت الترجيح أيضاً كسابقتها في تأخر الصدور، أي سواء كان المتأخر صدوره مخالفاً للعامة أو موافقاً لهم وهو ما يعطي معنى التعارض في الترجيح بمخالفة العامة، تعارض العموم من وجه كما لا يخفى.

10 - ما روي عن أبي عمرو الكناني قال:-

قال لي أبو عبد الله علیه السلام يا أبا عمرو! أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟

قلت: بأحدثهما وأدع الآخر فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلا أن يعبد سراً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم أبى الله عزّ وجل لنا في دينه إلا التقية)(2)

وهذه الرواية فيها زيادة الإفتاء وعطفه على الأخبار، وهو ما يتفاوت عن باقي الأخبار، وأهمها المقبولة كما مضى وكما سيأتي.

11 - ما روي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: -

(قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتهمون بالكذب، فيجئ منكم خلافه؟ فقال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن)(3).

و هذه الرواية توجب مخالفة العامة ومما يظهر الفرق بينها وبين المقبولة ومن ضمن معنی نسخ خبر فلان وفلان حالات الكذب ولذا ورد استضعاف بعض النبويات.

ص: 378


1- راجع ص 368
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 112.
3- نفس المصدر السابق ص 208.

12 - ما روي عن أبي حيون مولى الرضا علیه السلام، عنه علیه السلام قال:-

(من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثم قال علیه السلام:

إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)(1)

وهذه الرواية مما لم تجوز عدم رد متشابهات أخبارنا إلى محكماتها.

وأقول: هذه جملة ما تيسر بأيدينا مما أطلق عليه علماؤنا قدس سره بروايات الترجيح بين كل خبرين متعارضين أو أكثر مع ما مر ذكره عن المقبولة.

وقد مر ذكر بعض هذه الروايات في غضون بحوثنا الماضية متفرقة بين عناوينها کشواهد ناسب ذكرها.

وقد تبين من تلخيص مجموعة عددها الاثنا عشر الماضي - بعد ما نوهنا عن تهافتها بسبب ما أوجزناه عن الأسباب في كل منها بعد النظر الإضافي -

أنَّ هناك تفاوتاً في نظر بعض الأعلام الأعاظم قدس سره حول نموذجية ما يجب القيام به عند كل منهم من الترجيح إليه من هذه الأخبار مع ضم المقبولة التي شيدنا أركانها سابقاً إليها.

وهذا الاختلاف ونماذجه عند كل منهم نحصره الآن كما وعدنا بذكره سابقاً في أربع قرارات أو أقوال، هي:-

الأول: أن هذه المرجحات عند الشيخ الآخوند قدس سره في عرض واحد، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين واجداً لبعضها والخبر الآخر مثلاً واجداً لبعض آخر منها بما أوقع التزاحم بين الخبرين، فيقدم الأقوى مناطاً عنده، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطاً وتساويا تخير بينهما .

ص: 379


1- نفس المصدر السابق ص 115.

الثَّاني: أنهما مترتبة عند الوحيد البهبهاني قدس سره على ما نسب إليه من المقررات وبنحو تقدم المرجح الجهتي على غيره بما يعني أن المخالف للعامة عنده أولى بالتقديم على الموافق لهم وإن كان مشهوراً.

الثالث: أنها مترتبة كذلك على ما ذهب إليه الشيخ النائيني قدس سره، لكن على عكس الحالة السابقة، أي أنه يتقدم المرجح الصدوري عنده في مثل الشهرة على غيره فيقدم المشهور الموافق للعامة على الشاذ المخالف لها، ولعله إذا لم يصل إلى حدّ التّملَّق الزائد على الحد المطلوب.

الرابع: أنها مترتبة أيضاً، لكن حسبما جاء في المقبولة أو في الروايات الأخرى التي لم تخرج عن نموذجيتها، أو كانت معها في ترتيب ما حوته من حالات الترجيح ولو في التأييد الإجمالي لها أو لبعضها، مما قد يلوح منه بعض التفاوت، على ما أسهبنا في الكلام سابقاً عنها تحت العناوين الماضية.

فما في المقبولة مثلاً عند المراجعة لها أيضاً يظهر أولاً تقديم المشهور الخبري الموافق للعملي أيضاً في قدمه على الشَّاذ النادر.

فإن تساويا في هذه الشهرة قدم الموافق للكتاب والسنة.

ومن ذلك ما قد تقبله العامة من سيرتنا الشرعية الاختيارية إما بنحو الوفاق المذهبي بيننا وبين العامة في بعض الفروع الفقهية التي لا خلاف بيننا وبينهم في الدليل حولها - وإن لم نرتض بعض أدلتهم وتوجيهاتنا - لوحدة النتيجة، أو في التقية التي تحت العنوان الثانوي مما مر ذكره.

فإن تساويا في ذلك قدم ما يخالف العامة، وهذا ما مال إليه السيد الشاهرودي قدس سره

وهذا الرأي تقريباً هو الذي يمكن أن يتناسب مع المسلك العملي المستقيم.

وعلى أساس ما قدمناه من الاعتماد على المقبولة - أكثر من بقية تلك الروايات -

ص: 380

يضاف إلى هذا أن تلك الروايات المتأخرة عن المقبولة - بسبب ما تقدم عن تهافتها، لاقتصار بعضها على مخالفة العامة والآخر عليها وعلى موافقة الكتاب، وكانت مخالفة العامة هي وحدها التي تمثل السنة، بينما يوجد في السنة الكثير مما يدعو إلى التقية وباقيها ما يدعوا إلى تلك المخالفة المهمة والثالث عليهما معاً -

تفيد بأن مقتضى إطلاق تلك الروايات إذا بنينا على اعتبارها هو نفي الترجيح بغير المرجحات المذكورة فيها كالشهرة المهمة التي تكلمنا عنها فيما سبق.

فإن المقبولة التي حوتها وجعلت الأولى في مرجحات المرتبة - مع ما أيدها من بعض الروايات الآخر في هذا مع ما مر من القرار الرابع حول مقام المقبولة -

لما كانت أخص من جميع روايات الترجيح تلك.

فلابد من تخصيصها لصالح نموذجية الترتيب المعتبر في هذه المقبولة.

وبعد ترجيح القول الأخير كقرار أصولي للإتباع فلا داعي لذكر أقوال أخرى لا فائدة فيها غير ما في الأربعة المعتنى بها بين أهل العلم، إلا في بعض المفضلات العلمية الأخرى، لغرض النقض والإبرام وغيره وإن لم تكن منتجة لشيء من الاستثمار في جملتها إثباتاً.

ولمزيد العناية بالمقبولة من الجهة العملية - إضافة إلى ما مر من الجهة العلمية - أنها تحتوي في إفادتها الترجيحية المرتبة عند التعارضات على أكثر مما قد يبدو للبعض سطحياً مما ذكره عن (خلاصة الكلام عن المرجحات الثلاثة وهي المرجح الصدوري والمضموني والجهتي).

وهي أفراد ثمانية وإن سبق تنسيقها على نهج تلك الخلاصة، وهي:-

(الأعدليّة والأفقهية والأصدقية والأورعية والشهرة وموافقة الكتاب وموافقة السنة ومخالفة العامة).

وأضيفت إليها من بعض الروايات المايدة لها مما مر ذكره مرجح الأوثقية على

ص: 381

نفس النسق المذكور فيها، وهكذا الأحدثية في رواية أخرى سبقت.

ولكن على أساس ما فصلناه عن توجيه ما يمكن قبوله من معانيها فيما سبق.

وبهذا تكون الأفراد المرجحة عشرة.

ص: 382

الأول: المقدمة:الباب التاسع الاجتهاد والتقليد في علم الأصول

وهي أمور:-

الاول:المقدمة:-

وهي حول الكلام عن مفردات ألفاظ عنوان هذا البحث ومعانيها عموماً في اللغة العربية، أو ما يترجمها بحق إن قبل بالنحو الدقي العرفي في اللغات الأخرى، أو كان من نفس اللغة العربية الشبيهة، كما في حالات نقل روايات بعض محددات التعاريف العامة بالمعنى، حينما لم يتمكن من حفظ النص المسموع قبل الدخول في الاصطلاحيات الخاصة، ابتداءً لعلم من العلوم، دون تعيين أي علم منها مقدماً على آخر، وإن كان منها في الحاضر العملي - من حيث النتيجة الآتية له على الأكثر - أنها الدينية كالكلامية العقائدية والفقهية الخاصة التي يجمعها مع سابقتها جزئيات العقائد غير البديهية، أو ما اختلف فيها منها الأصول من قواعدها المعدة معهما منطقاً خاصاً للفقه وما يتبعه من فرعيات تلك العقائد ومما يجمعها مع سابقتيها في حالة إمكان بل حصول استخدامها للقواعد الفقهية إلحاقاً لها في الأصول بقواعدها الخاصة من أبواب الاجتهاد والتقليد - فردي عنوان البحث - والاحتياط - الملحق بهما - حين الدخول في الاصطلاحيات لكل منهما بحسبه.

الثاني: موارد ذكر هذه العلوم الثلاثة

وهي في العلوم الثلاثة على الأقل ولو للاشتراك الجزئي فيما بينها، وهي (الكلام

ص: 383

والفقه والأصول)، وعدم ضمان ذلك بدقة في بقية العلوم.

فإذا لم تكن العناية اللغوية العامة - في فوائدها العمومية الشاملة لجميع العلوم والمعارف الأخرى في البداية دينياً وإنسانياً عادلاً وسلوكياً أو نحوها في هذه الحياة التي هي أم الاختراعات والابتكارات ونحوهما -

حكرا لعلم على علم وحرفة على حرفة ونحو ذلك، لأجل الاستفادة ولو بعض الشيء من موارد الاشتراك فيما بينها قلت أو كثرت، لأن (العلم بالشيء خير من الجهل به).

وإن خصصنا البحث في الثلاثة المشار إليها، لأجل الوصول إلى الغاية الاصطلاحية المتقاربة في كل منها، لصالح عنواني البحث، وإن تفاوتت دقياً بعض الشيء بين كل منها كذلك وبما لم يضمن ذلك دقيقاً إمكان تلاقي بقية العلوم والمعارف والحرف الأخرى على موحد مع الثلاثة الخاصة المشار إليها.

لذلك كتب الفقهاء في بدايات فقههم هذا البحث للناحية الخاصة بها في ذات هذا الفقه، وقد كتبنا وحاضرنا خارجاً ما أدى إليه نظرنا القاصر في تعاليقنا المبسوطة على كتاب العروة الوثقى معهم وعن عنواني هذا البحث مع الاحتياط على ما فصلناه هناك.

كما كتبنا وكتب المتكلّمون هذا الأمر في أواخر البحوث العقائدية لما يناسبها.

وهكذا نحن الآن نعيد الكرة منا معهم في البحث الخاص عن الموضوع نفسه، وعلى الأخص أيضا معهم عن علم الأصول وبما لم يعهد شيء من ذلك عن البواقي بالنحو المقارب أو المتقارب الذي ذكره علماءنا قدس سره ومن سار معهم أو خالفهم في بعض النواحي من الآخرين، إلا عن بعد عن المألوف من اصطلاحياتنا الخاصة من تلك العلوم الثلاثة

فالاجتهاد والتقليد والاحتياط التابع الذي محله في الجزء الأخير من دورة أصولنا

ص: 384

هذه، وفي قسم الأصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل، وإن جاء ذكره السريع الآن لبعض من الاقتضاء

نقول عنها للتوضيح بأن كلاً منها له علاقة تجاه جميع العلوم والمعارف والحرف بالنظرة العامة لكل منها لغة مع العلوم الثلاثة الخاصة المشار إليها.

لكن إذا خصصنا هذه الأخيرة بارتباطها بأمور الاتجاه الديني - مع التفاوت البسيط المذكور فيه بالمباشرة أو التسبيب دون غيرها، وإن اختار كل من أصحاب كل من مفردات ذلك الغير، لغرض خاص في نفسه، سواء تقاربت معاني مفرداته أم تباعدت عن بعض كل منها كلياً أم جزئياً في معاني ما بينها لنفسه أو مع بعض ما يشابهه في القرب أو البعد، طلباً للمصطلح الخاص خروجاً عن الشمول اللغوي بلا تميز -

لابد أن تتفاوت تلك الدينية الثلاثة في كلّها أو بعضها كلياً أو جزئياً عما لم يتقيد معها من تلك العلوم والمعارف والحرف الأخرى، من حيث قوة علاقة تلك الثلاثة بالاصطلاحات الدينية الخاصة بها مع بعض القيود المسببة للاشتراك فيما بينها ولو يسيراً أو بالواسطة، دون ما كان من أفراد ذلك الغير من تلك الأحوال ما هو بالنحو الأخف أو حتى ما كان قد تحرر عنها وعن قيودها كثيرا جدا.

الثَّالث: الاجتهاد والتقليد والاحتياط في اللغة مع موارد الاشتراك العام فيما بينها كذلك

فالاجتهاد المأخوذ لغويًا عاماً في قواميس اللغة إذا حصل من (عموم بذل الجهد) مع دخول جميع مصاديق الأشياء مهما تفاوت بعضها عن بعضها الآخر، قبل تشخيصها بمشخصاتها الاصطلاحية من كل العلوم والمعارف والحرف وغيرها.

والتقليد المأخوذ كذلك فيها أخذه ب- (مطلق الإتباع والمحاكاة في كل شيء لفظي

ص: 385

وعملي)، مما مضى ذكره ممن يعقل أو لم يعقل، وعن قصد أو غير قصد، كحصول بعض من ذلك حتّى من الببغاء أو الطيور الناقلة والقردة المتعودة والكلاب المعودة حتّى عن طريق الاكتشاف بالشامة الذكية والخيول المعلمة على العودة إلى إصطبلاتها ونحو ذلك، من غير ما بين أهل العقول في عمومياتهم الاعتيادية قبل اتخاذ الاصطلاحات الخاصة لدى جمل جماعاتهم فيما مر ذكره لصالح العلوم.

والاحتياط المأخوذ كذلك - في عموم ما مر ذكره زيادة أو نقيصة أو توقفاً عن اتخاذ أي قرار من التعقل الابتدائي المستقل أو غير المستقل - من (مطلق التحفظ)، ومنه المحاكاتي الإضافي لما يصنعه الغير ولو تنسكاً أو تزهداً ،زائدين، أضراً أم نفعاً، لعموم التجربيات المستكشفة للأشياء التي قد يراد معرفة حقيقة ما يصح اتباعه عموماً، عما لا يصح قبل الاصطلاحات، ولو لما في خصوص العلوم الثلاثة المذكورة، فضلاً عما يخص علم الأصول من بحثنا إن كان يناسبه دخول معنى الاحتياط فيه مع خطورته في طرف التطرف الصناعي المبالغ في دخوله في عالم الإثبات، مع أن العكس هو الأضمن.

الرابع:موارد الحاجة الملحة

وهي الابتداء عند تعريف الأشياء من كل شيء مما مضى قبل الاصطلاح الخاص له من الناحية اللغوية العامة إلى الاجتهاد والتقليد وحتى الاحتياط في مقامات ورود تعقله ما عدا علم الله ورسوله صلی الله علیه و اله والأئمة علیهم السلام في كثير من القضايا، وبالأخص دائماً أو غالباً عند إدخالها في مقاماتها الاصطلاحية.

فمن الحجج المعتبرة عند كل العقلاء - حول جميع الأشياء المشار إليها، سواء في عموميات المعاني اللغوية لها في كثير منها ما عدا الشفهيات غير المحرزة، وكما فيما تعمله البهائم أو خصوصيات جميع المعاني المصطلحة الآتية -

ص: 386

هی الاجتهاد والتقليد في موارد التعقل لأمورها ، للكشف عن المعنى الصحيح منها، لمفارقة غيره من موارد اللغة العامة والخاصة الآتية، ومنها ما يتعلق بالعلوم الثلاثة المذكورة (الكلام والفقه والأصول).

بل وحتى الاحتياط في مقامات ما يمكن قبوله منه إلا بما يختص به الله تعالى من العلم، لأنَّ علمه عين ذاته لعدم معقولية الاجتهاد والتقليد بالنسبة إليه.

وكذا الاحتياط الذي يلازم تعقله من عدمه عنده أنه هو التردد المستحيل عليه.

وكذا النّبي والرسول الخاتم صلی الله علیه و اله، لأن علمه من وحي يوحى وليس من عنده، وإن لم يكن متردداً ساعة من الساعات في أموره الخاصة بسبب عصمته الذاتية، كما قال تعالى «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(1)، لنبوته ورسالته اللتين نالهما بسبب كماله.

وكذا الإمام علیه السلام الحافظ لما علمه النبي صلی الله علیه و آله من أمور المنايا والبلايا وكل شيء بنحو العلم الإفاضي الإلهامي الذي لا اجتهاد فيه ولا تقليد لأحد يعتريه، لمصالح الأمة، لوضوحهما التّامين بالنسبة إليه لعصمته كذلك، وإن علم الأمة كيف يحتاطون ومتى يحتاطون ونحوهما عند الحاجة إلى شيء من ذلك ممن هم دون أهل هذه العصمة.

حيث لا تردد في ذهن النبي صلی الله علیه و آله الإمام علیه السلام حتى يصح منهما الاحتياط المبنى عليه عادة، فلن يكون الحديث عنهما، وعن ما يلحق بهما من الاحتياط إلا في الذين لم يعصموا عن الخطأ كما مرّ، وإن أصابوا كثيراً في اللغويات والاصطلاحيات المقاربة لها كلما أتقنوا معارفهم.

ومن أدلة ذلك - وفي مثل خصوص العلوم الثلاثة الدينية - أنَّه لم يرد لفظ الاجتهاد ولا التقليد ولا ما به بعض معانيهما من معلومات النبي صلی الله علیه و اله والإمام علیه السلام،

ص: 387


1- سورة النجم / آية 4.

لعصمتهما الذاتية التي منها عدم ذلك التردد الداعي للاحتياط لشخصيهما الهامين على ما أفادته آية التطهير وغيرها، بما لا يتناسب مع الاجتهاد أو التقليد إلا بتوجيهاتهما الأمة المحتاجة لأمور من ذلك هي كيفيات لسد تلك الحاجة بالأخذ بأحدهما اجتهاداً أو تقليداً لغير أولئك المعصومين علیهم السلام منها لتردداتهم وأحوالهم الفكرية غير المستقرة، وإن وفق البعض غير المحدود منهم إلى شيء من العصمة الإكتسابية.

الخامس:معنى الاجتهاد الاصطلاحي

والفرد الأول من فردي عنوان البحث مع ثالثيها الإضافي أعلاه وهو (الاجتهاد) لو اصطلح عليه بما يخصه من الأمور الدينية الثلاثة المذكورة مثلاً، وهي القابلة للاشتراك فيما بين كل منها ولو في الجملة البسيطة لأن لكل منهما اصطلاحه الخاص به، كما في الأمور العقائدية الفرعية غير البديهية وغير الفطرية في ضرورية الاعتقاد بها وكما في الفقهية المحضة ومعها القواعد الفقهية المتعارفة، وكما الذي يلحق بهما وهو العلم الذي يسمى بمنطق الفقهيات من علم الأصول، الجامع لكبرويات علم المنطق العام إذا تطابقت مع تلك الأصول أو بعضها من قواعدها الصغروية الخاصة التي هي ككبرويات لها في نفسها.

وهي المعدة كذلك لتطبيق تلك القواعد الفقهية إلحاقاً لها في الخدمة بالقواعد الأصولية الخاصة من اللتين يمارسهما عادة معاً الفقيه المجتهد، المراد من اجتهاده الاصطلاحي خصوص معنى بذل الجهد المخصوص، والمتعين بالنموذج الاستنباطي المتعارف - عند أهل العلوم الثلاثة المتداخلة دينياً - بما ذكرناه من الإيجاز للمعنى المشترك خاصة من تلاقي مواردها بالمباشرة والتسبيب بالواسطة للمعنى الذي يقوم به الفقيه الجامع للشرائط والمأهلات ممن لا يصح منه - إن كان قادراً على القيام بهذا

ص: 388

الدور قوة وفعلاً بنجاح مثمر - الرجوع إلى غيره من المجتهدين الكفوئين والتقليد له، كما هو المحدد في مثل البديهيات والفطريات الضرورية، كالعقائد مثل التوحيد والنبوة والمعاد.

وكذا النصوص الرئيسية ومحكماتها التي لا اجتهاد اصطلاحي دقيق فيها، كوجوب أصل الصلاة وأصل الصوم ونحوهما.

ويلحق بها وبما سبقها من ضروريات العقائد كالعدل والإمامة والأخلاقيات التي لم تخرج يوماً عن حالة توسط ما بين المعقول والمنقول من الإرشاديات والمتواترات عند أهل الحل والعقد من العقلاء، لوضوح أمر فهمها عند كل فرد من المتعلّمين المنصفين.

وإنما الاجتهاد الفقهي الاصطلاحي الدقيق - سواء اشترك إجمالاً مع غيره أو انفرد - فعن فروع أساسياته ومستحدثاته الجديدة، وما استحدث لتلك الفروع وفيها من كل حين بانحصارها في ظواهر الألفاظ من آيات أحكام الكتاب وروايات السنة الشريفة، وبعمليات إرجاع المتشابهات من تلك الآيات إلى محكماتها، وبعد قبول محکمات آياته عما تردّد أمره في صحة بعض الأحاديث بعد عرض حالاتها على تلك المحكمات وبعد تدقيقات جانبية أخرى ليس إلا.

إضافة إلى فرعيات العقائد المذكورة آنفاً ومعهما مضامين القواعد الفقهية والأصولية المعتمدة التي يتصدى لها عادة - ولإدراك حاق نتائجها - المجتهد المتمرس عند التطبيق اللازم، سواء في المساعي القديمة أو الحديثة، وإن كان الاجتهاد - في القديم وفي حالات قرب الإسناد وتوفر الروايات قبل اندثار ما اندثر منها - أخف مؤنه

وبعد ذلك تكون البديهيات من ضروريات العقائد ونصوص الفقهيات التي تخف فيها النظرة الاجتهادية المذكورة، أو لا تكون حينما لا يختلف في أمرهما من

ص: 389

العقلاء اثنان، أو كما عرف بينهم أن (توضيح الواضحات من أشكل المشكلات).

وكذا مفاهيم بقية العلوم والمعارف والحرف الأخرى إذا تقبلنا التفكير في القرب من احتمال تعقلها لو أمكن، إما لغير المتدينين وإما للبعيدة عن عالم التدين في أساس أمورها - وإن كان أصحابها من أهله، أو من خلصهم بالنحو الأكثر أو في كثير من أمورها -

فإنها لن تنسجم ولو من حيث النظرة الأولى إلا من عموم وإطلاق مفاهيمها اللغوية التي لا ينعدم بالكلية ما بينها وبين الاصطلاح حتى من بعض الجوانب الجزئية، كما لا يخفى على بعض المتتبعين، ولو كما لو أضيف إليها شيء من التدقيق الاصطلاحي الأخف مما يشترطه المتدينون والماهرون في الأدبيات المقارنة بين اللغة والاصطلاح، كحالات الإخلاص والصدق ونحوهما في التعامل من مصاديق الأمور الإنسانية حتى لو كانت صادرة وبنحو مألوف من غير المسلمين، وبنحو من الدقة الفلسفية التي لا يطيقها المتدينون في عرفياتهم التسهيلية في شرع الله تعالى.

بل قد عرف في الفقه وملحقاته بأن من مظاهر ذلك عند التطبيق - ولإبراء الذمة التامة - أنّ الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع عند متابعة الأدلة وانطباقها على مدلولاتها المعينة التامة، لتحصيل الظن بالحكم.

وهو نوع من التدقيق المشابه لما يمارسه بعض الفلاسفة.

ولكن وإن صح أو شيء منه في الإجمال لو ضبطت مقدماته وكان الناتج على أساس من الظَّن المتاخم للعلم دون مطلقه مع البعد الدقي عن الفلسفة ومراميها الزائدة، حينما كان المراد هو إبراء الذمة وكما عرف أن (اشتغال الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) بنحو المطابقة للعرفيات الشرعية.

إلا أنه أورد على مطلقه أنه لم يرد لفظه على حد معروفيته بين الأصوليين والفقهاء في الكتاب والسنة، ولم يكن مألوفاً في تعابير قدامى أعلامنا، ليتداول أمر

ص: 390

استعماله في كل مورد حتى مع الظن المطلق.

وإنما عرف ذكره بينهم مأخراً على نحو الغالب، ولوجود اليقينيات والمسلمات في مقابل الظن حتى الخاص منه إن توفّر الأقوى، مما سبب عدم الطائل في النقض والإبرام في تعريفه والاهتمام به بهذا المستوى، لأنه لا يزيد على كون الاجتهاد بمعناه الشرح الاسم لا غير.

ولذا كان الرد منا ومن الآخرين في خلاصته بأنه لا مانع من تطبيق الاستفراغ إذا أريد منه تحققه في الغالب على النحو العرفي لا الفلسفي، ودون ما نتيجته الإيصال إلى خصوص مطلق الظَّن، وإلا فلا انحصار فيه بذلك الظن مع توفر الظُّنون الخاصة في إنتاجاته، ولما مر عن تيسر اليقينيات والمسلمات في الطريق.

ففضل بالتالي تعريفه بدل التعريف الماضي جمعاً للإفراد ومنعاً للأغيار بأنه (استفراغ الوسع لتحصيل الحجة على الحكم) على ما مضى ذكره من التدقيق في بحوث الحجة، مما يكفي لعدم شمول موارد المعذورية في التعريف الماضي في درك الواقع، لوقوع بعض الأخطاء عند المستفرغين.

وبعبارة أخرى بأنه (بذل الطاقة في تحصيل المسؤوليات الشرعية من الأخبار المعتمدة الشَّارحة للغامض من آيات الأحكام).

وما نسب لبعض العلماء من تحريم الاجتهاد أو مطلقه - ولعله بعيداً عن بعض الفئات الأخرى المتعصبة لصالح ترك الاجتهاد في عموم الأخبار ولاستمرار إبداء حسن الظَّن في صفوة العلماء - فما هو إلا للابتعاد عن القياسات الممنوعة وملحقاتها.

وأمّا الاجتهاد في الأصول فاكتفوا منه بالإحاطة بالمسلّمات والمشهورات المعتمدة عمليا بين بين العقلاء ء من علماء الاختصاص، وما اعتبر كذلك بين أهل الأذهان المستقيمة ومن الأقرب دينياً وفقهياً من دقة عرفياتهم التورعية دون الدقيات الفلسفية

ص: 391

وغير البعيدة عما مر من التحقيق في جزئنا الأول من كتابنا (مساعي الوصول) حول كون القدرات التبحرية الفقهية للمخضرمين الورعين من فقهاءنا يكون أرجى قبولاً مما يسعى الصناعيون له من الأصوليين الذين وصل مجهود بعضهم إلى مستوى تفسير الاجتهاد بالأعمق من معنى شرح الاسم، حتى أوصلهم بالنتيجة الفعلية إلى ما وصل إليه القياسيون حتى مع وجود بعض الفوارق وما أكثر من وصل منهم إلى مخاطر الحافة المرفوضة من ذلك.

وعليه ففي أمور التشكيك من أمور ما عدا المسلمات والمشهورات المعتمدة في إنجاحها عملياً لا يعبأ بها .

السادس:التجزي والإطلاق في الاجتهاد

لابد من كون الاجتهاد عند التجربة والتمهيد للتّدرب عليه أو عند الابتلاء الجدي للمكلف ببعض مسائل الفقه الشائكة عنده طالباً حلّها مع تمكنه العلمي منه - كما في بدايات نشاطاته التطبيقية عند المراهقين من طلاب الحوزة، أو من كان مجتهداً بالقوة غير مستنبط فعلاً سابقاً لحكم من الأحكام مع احتمال فوزه بالنتيجة التي يمضيها له بعض الاصطلاحيين -

لا يصدق عليه حسب العادة الابتدائية إلا متجزئاً، لمثل مسألة أو مسألتين أو أكثر، دون أن يكون مستوعباً لجميعها حتى كإلهام الملهمين الموصوف علمهم طبيعياً إلهياً بخصوص علم الأئمة علیهم السلام، وإن علموا حواري أسلافنا طرق الاجتهاد وقواعده، حتى نبغ بعض منهم ومن غيرهم في الوزن الأدنى بالذكاء المفرط، كأهل القفزات العلمية، حتى كاد أن يكون قريباً من إلهام الأئمة علیهم السلام.

فكانت المسئلة والمسألتان والثلاثة تتوسع أفق معالمها في أذهانهم، بسبب ما عرفوه من القواعد، فتتولد عنها عن طاقاتهم استنتاجات مسائل كثيرة وجمة غفيرة.

ص: 392

إلا أن هذا نادر جداً لا يعول عليه بين الأعم الأغلب، ممن لم يكن فيهم ظاهراً ووجدانياً، إلا أنهم من ذوي الذكاء التعليمي.

ومع ذلك ليس هو بالحجة المألوفة.

فالمهم حينئذ هل يكون التّجزي وحده في مطلق الأمور كافياً للمكلف نفسه إذا صدق عليه الاجتهاد؟

لتيسير الأمور لنفسه أو نفسه وغيره ومن خصوص ذوي الذكاء التعليمي دون الإلهامي الذي قبلت حجيته قائمة في الأئمة علیهم السلام مع الذين كانوا يوحى إليهم سابقاً كالأنبياء والرسل علیهم السلام وفي الكيفية والكمية التي لا تتوازن كثيراً مجرداً في الفرد الواحد عادة أمورهما الفكرية بين الشدة والضعف والقوة والخفة ما دام من أهل الذكاء التعليمي.

لكثرة الخطأ والاشتباه في بني البشر، فضلاً عن جميع الناس من غير المعصومين ذاتياً علیهم السلام وفي جميع العلوم والفنون والصنائع، فضلاً عن الأكثر منها حساسية من أمور المؤمنين من التكاليف الخاصة بين الحلال والحرم - مما بين براءة الذمة وانشغالها - وهو الفقه العام والخاص مع مبانيهما الأصولية بمبادئ التجزي عن كل الفقه.

فلم يكن معوضاً في المسئلة والمسئلتين والثلاثة مع محدوديتها وعدم اتساع أفق مبانيها إلى ما يرتبط بالمسائل الكثيرة ويسد حاجة أكبر عدد من المكلفين.

كيف وقد يكون المجتهد المتجزي الواحد متردداً في بعض مسائله بين السلب والإيجاب، أو من تثار ضد فكره من زملائه الطلاب عند المناقشة بعض الشبهات، ولم يثبت على فتوى واحدة دون الركون إلى تعاليم قواعد الأئمة علیهم السلام الموسعة للأفق الفكرية، ولما يفيد أكبر عدد من المسائل المختلفة وللأبواب المتعدّدة، فضلا عن اختلافات بقية الآخرين من ذوي الأفكار المشتتة.

فلا استحضار للجميع عن خصوص المحدود من التجزي، ولا تعويض به عن

ص: 393

الجميع، إلا إذا كانت قابلية القوة الماهرة والفعل الناجح في أداءه عند المجتهد تتشكل في تشعبها في نفس المسئلة والمسئلتين والثلاثة بالنحو الذي يتبعه الفقيه المطلق بحدة ذكائه وبحسن ،تصرفه، كمثل مطابقة العلة مع معلولها، أو تطبيق القواعد المقررة للمقام، ليطمئن بقول عمله، فضلاً عن عمل غيره مع نفي الحجية للإلهامات إلا من أهلها المعصومين علیهم السلام، وإن ندرت جدا بعض المصاديق من غيرهم.

وعلى فرض الرضا بما قد يستغرب من صدق بعض ما لم يكن عن القواعد المألوفة، أو أدعي حفظ كل الفقه مع أدلته مع ندرته البالغة لكونها غير مضمونة النجاح إذا لم يكن ذلك عن الإلهام لصالح ما يبتغيه الفقيه المطلق.

فلابد من تقدمها على الحالة الأولى لو لم يتيسر الأقوى، سواء استحضرت نتائج هذه الاستنباطات في الذهن أم كان المهم تيسرها حتى مع تحضير مصادر ذلك المتعارفة الخاصة للتسنيد والتحقيق.

وإن تيسر الأقوى والأوسع فهل المراد من ذلك مع مصادره أنه مصادره أنه هو كل الفقه من أوله إلى آخره حتى غير المسائل الإبتلائية في مثل الغيبة الكبرى للإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف؟.

علماً بأن غير الإبتلائية حسب العادة هي المجمدة، لتوقف البت بأحكامها، أو جهلاً بمداركها لحين ظهور الإمام المفدى عجل الله تعالی فرجه الشریف للكوارث الطبيعية وغيرها المأثرة على بعض المصادر الإسنادية للاستعانة بأجوبته الشريفة الشافية على مغلقاتها بعد ظهوره بفارغ الصبر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

فهذا لا فائدة فيه، إلا بلزوم السعي الحثيث لتحصيل خصوص الإبتلائيات الأوسع مما مضى.

وعلى فرض كونها لو أمكن تحصيلها وتحقيق شيء منه فعلاً فسوف يشكل الأمل به تقوية لفعلية الاجتهاد المطلق الذي يحرز منه تقدم صاحبه في المرجعية على سابقه، سواء استحضر جميع الأمور مع الأدلة، لأنه قوي الحافظة، أم كان مأهلاً للإحاطة

ص: 394

بها مع تيسر مقدمات ذلك المعتادة من المصادر، لندرة استحضار كل النتائج مع الأدلة لو ضعفت الحافظة، أو قلّت العناية بذلك، للاكتفاء بخصوص الأمور الإبتلائية المشهورة مثلا.

وإن كان هذا النوع من التهيؤ غير خارج في ظاهره عن مجرد القوة دون الفعل، لكن مع ضمان نجاح الفعلية مع تيسر المقدّمات والمصادر بسرعة الانتقال من الثبوت إلى الإثبات، لا دون ذلك، وهي المسماة عندهم ب- (الملكة الاجتهادية) متى ما حصل موضوع المسائل الإبتلائية.

وعلى هذا ففي كل المسائل المقبولة في موضوعها والقدرة الذاتية للمجتهد المتجزي والأوسع إذا نجح في استنباطه للحكم الشرعي - وإن لم يكن تجزيه بالكثرة البالغة، مادامت القلة منه لم تصل إلى خصوص مسئلة أو مسئلتين -

لا يبرر له فيها بين أهل الاصطلاح الرَّجوع إلى غيره، إلا إذا أمضى له الأعلم قبول ناتج المسألة والمسألتين، ليعمل هو بما علم.

أما رجوع الغير من العوام إليه فلا يجوز حتماً مع وجود الأعلم الحي الأوسع.

السابع:التخطئة والتصويب

مر الكلام عن حديث التَّخطئة والتصويب - وبما يدور بين الإمامية وبين غيرهم من العامة عند الاجتهاد الذي قد يصح في خصوص ظواهر النصوص مما تتفاوت فيه أذهان غير المعصومين علیهم السلام عند الاجتهاد لا ما تستقر فيه أذهانهم من حقائق تلك النصوص التي لا يصح الاجتهاد فيها ، لوضوحها عندهم، فضلاً عما عند المعصومين علیهم السلام إذا كانت اجتهاداتهم متطابقة مع ما يصح أو يلزم العمل به بين محققي الأصوليين، أو عن شيء لازم من الحديث عنهما -

في الجزء الأول من بحوثنا الخارجية الفقهية، وما مر من تعا ليقنا المبسوطة على

ص: 395

العروة الوثقى تحت عنوان (الاجتهاد والتقليد والاحتياط) وباللسان الفقهي.

كما مر شيء منه عن ذلك أيضاً ومما لا يخلو من الفوائد في أواخر الجزء الثالث الماضي من كتابنا (المساعي).

وعلينا الآن أن نخوض في نفس المقام ومما لا ينبغي منا تركه، وبما قد يقرب من الأسلوب الأصولي، أو بما يجمع شمل الفقه والأصول وفرعيات العقائد والأخلاقيات من التوابع عند الاجتهاد فيها.

فنقول:-

بعد قول الله تعالى في كتابه العزيز «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(1) وأمثاله من الآيات المناسبة الأخرى -

وفي ضمن مقبولة عمر ابن حنظلة المروية في كتاب الكافي أيضاً، وهو (وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلی الله علیه و اله:

حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)(2).

أي وهو ما يثبت منه أن حكم الله تعالى بين فعل الحلال وترك الحرام علم واحد لا تعدد ،فيه والشبهات الباقية التي إن حقق في أمرها وكشف عن واقعها والتحقت بأحد الاثنين الماضيين من الحديث لما كانت إلا من ذلك العلم الواحد.

وفي حديث الرفع المشهور عن النبي قوله صلی الله علیه و اله (رفع عن أمتي......... ما لا يعلمون)(3)، أي لو لم يتعمدوا ترك ذلك العلم الواجب أو اللازم اعتزازاً بجاهليتهم

ص: 396


1- سورة الزمر / آية 9.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 68
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 ص 369 .

لطفاً بهم بعدم تركه.

وما نسب مشهوراً إلى أمير المؤمنين علیه السلام من قوله (العلم نقطة كثرها الجاهلون)(1).

وغير ذلك من آثار باب مدينة علم رسول الله صلی الله علیه و اله، وما حفظ حول ذلك صحيحاً من توجيهات أئمتنا الباقين علیهم السلام الحواريهم صلی الله علیه و آله ليعلموا على أي نهج هم مكلفون به في نقل الروايات عنهم ، لو ترددوا فيما بينها أو اختلفت بين راويين مثلاً بالإجابة منهم بمثل الأخذ بنقل أعلمهما أو أوثقهما أو أشهر الروايتين أو العمل بأحوط المنقولين وهكذا.

ويضاف إلى مروياتنا التي لا غبار عليها ما رواه أحمد ابن حنبل وغيره اعترافاً من شديدي العامة من حديث النبي صلی الله علیه و آله قوله (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر )(2)-

لابد من نهج الجميع من الخاصة - وهم المخطئة - والعامة - ومنهم المصوبة- رضوا بالتخطئة أم أبوا على كون كل فكرة علمية نظرية أو حقيقية واقعية يراد فهمها اجتهاديًاً أنّها في النتيجة هل هي الحق أم الباطل؟

بالإجابة عليه: بما لابد أن لا يكون الحق بين جميعهم من ذلك العلم الواحد إلا واحداً لا ثاني له ولن يكون حقاً إضافياً زائداً على نقيضه، إلا بالمعنى الفقهي الإمتناني والتسهيلي التابع للتقلبات الفكرية الاجتهادية المقبولة المرتبطة بالأمور اللفظية الظاهرية الآتي توضيحها قريباً جداً، تفريقاً بينها وبين الأدلة النصية المحدودة بحدود ما نتيجته عقيدة وعملاً إلا ذلك العلم الواحد والحق الواحد، الذي لا يتعدد

ص: 397


1- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 129.
2- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص.

مع بقية العلوم الأخرى من تلك المفارقة، لكونها الميالة في طبيعة تكونها عند أربابها تصوراً أو تصديقاً إلى التدقيق الفلسفي، وإن كانت حالة الشك المشروطة بغير المتعمدة بتسبيب أسبابها من تلك الأدلة الظاهرية.

فما قد يعذر أصحابه منه في عدم إصابة الواقع - لا إرادياً فيها ودون أي ذنب اقترفوه بسبب الغفلة أو الاشتباه - بناءً على حقيقة كون البشر في أغلبهم خطائين.

إلا أن ذلك الحق المتناول اجتهادياً على المباني المتفق على صحتها ومألوفية سلامة الناتج من ذلك الاجتهاد الاصطلاحي هو الحق، الذي لا يتكرر ودون أن يتقابل كل منهما مع الآخر بنحو التضاد ، ليعمل بكل منهما اختياريا بنحو التساوي وإن تناقضا حتى في مجالنا الفقهي التابع للأدلة الظاهرية.

إلا إذا جملنا التكرار المستنتج - حتى لو زاد على اثنين من المصاديق وغير المتساوية اختيارياً في مجال العمل ودون التكليف أو التكلف بها - تحت العنوان الواحد، بل تحت العناوين المتعدّدة غير المتزاحمة زماناً ومكاناً ونحوهما كما وعدنا بتوضيحه آنفا جداً، كاختلاف كيفيات العبادة المتعدّدة بين الاختيارية وغيرها، وبين الميسورة والمعسورة، والتفريق بين الاختيار وبين التقية وتبدل الحال من الحلال إلى الحرام.

وهذا المسلك هو الحق المتبع عندنا نحن الإمامية، وبعض غير الإمامية وهم كما نحن من المخطئة والباقون منهم هم الذين يُطلق عليهم بالمصوبة، ولكن لا تدرى دقة بانتمائهم إلى القول بالتصويب في مثل الفقهيات المتنوعة في عناوينها كما مر كيف كانت؟

ولعل قول العامة المصوبة - وخصوصاً في مثل جعلهم تعدد الصواب الممنوع مشروعاً، حتى لو تعددت ادعاءاته فيما ظاهره حتى في حكم متعدد في آن واحد من فقيه لهم متحداً ومتعدداً، فيكلف به المكلفون -

ص: 398

كان بسبب غلقهم باب الاجتهاد بسبب الأزمات الشديدة التي وقعت بين المذاهب الأربعة نفسها أو الأكثر من النسفية والأوازعية أو غيرهما، وإن كان زعيم الحوزة العلمية آنذاك لكل المذاهب مباشرة أو تسبيباً هو الإمام جعفر الصادق بعد أبيه محمد الباقر علیهماالسلام الجمع الشمل ولو للتقريب.

أو كان من ضعف مسالك أولئك الاجتهادية بسبب تمسكهم بالروايات الموضوعة والملفقة، ونحوهما من تماديهم بممارسة القياسات الممنوعة ونحوها،

أو لكون أصحاب المذاهب الأربعة على الأكثر كانوا خاضعين لدين سلاطينهم.

فلابد أن يستعينوا في تصويباتهم البائدة بمثل رواية (اَصْحابِی کَالنُّجُومِ بِاَیِّهِمْ اِقْتَدَیْتُمْ اهْتَدیْتُمْ)(1) ونحوه مما مرردُه في أواخر الجزء الثالث.

ومما يؤسف كثيراً أن عودة الاجتهاد في أزمنتنا الحالية لهم - عند من التزم به أو ببعضه منهم وعلى نهجهم بالتمثيل - ما كان بالمقدار المرتجى بعد هداية الكثيرين إلى الاستبصار إلا بما أثبت في جامعة الأزهر مشروعية الانتماء إلى الفقه الإمامي، ولو من حيث النتيجة حسب ودون تهذيب المقدمات.

مع محاولة بذل الجهود حتى الخفيفة جداً للتكاتف المكافح للتفريق بين المذاهب الخمسة، وفي مقابلها مواجهة الوهابية ونحوها بما كان أقوى.

وعلى كل فالحق الذي لابد وأن ينتصر في وحدويته الواقعية بين جميع الفرق الإسلامية، حتى في مجال استغلال الأدلة الظاهرية للفقه المعروف بامتنانياته وتسهيلياته، وبما وجهناه وما دامت تلك الفرق خطائة ولم تتعمد الخطأ والنسيان أو تسبيب الجهالة لنفسها وللأخرين.

ومما أشار إلى خطورة القول بالتصويب على هذا المبنى الباطل قوله تعالى «إن

ص: 399


1- راجع مصادر الرواية في ص 255.

أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِکمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(1) وقوله الآخر «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ»(2) ونحوهما .

وعلى هذا الذي فصلناه يكون الفرق - بين المعلومات المتفاوتة بالتفاوت النظري الاعتيادي وبين الأمور الواقعية التي لها حقيقة واحدة لا تتغير مطلقاً من النسب المنطقية المعروفة الأربعة - هو العموم والخصوص من وجه.

إذ قد تكون معلومات اعتيادية متعددة مخالفة للحقيقة الواقعية الواحدة، وقد يكون واقع غير معلوم، وقد يتصادقان مع التفاوت الاعتباري، حتى دون أن يكون مختصاً بعلم دون علم، وكما قررناه.

ومن الخلط بين عنواني العلم النظري والواقع العملي كان توهم القائلين بالتصويب، حينما تتعدد مصاديق العلم بالاعتبار العنواني فقهياً، مع أن الحكم الإلهي في حقيقته واحد ، والواقع باق على وحدته كما مر.

الثَّامن: الكلام حول التقليد الاصطلاحي

وهو المفرد الثاني من مفردي العنوان الكامل الكبير لبحثي (الاجتهاد والتقليد) الماضيين، وهو الكلام عن خصوص (التقليد) الاصطلاحي

وقد مر اللغوي عنه سابقاً عنه سابقاً في الأمور الدينية من الفقه العام، كالعقائديات الفرعية مع الفقهيات الخاصة ،والمحضة وملحقاتها التي يمارسها الفقيه الجامع للشَّرائط من القواعد الأصولية والفقهية الموصلة للمكلف الجاري على تطبيق نتائجها المستنبطة اصطلاحياً إلى حد براءة الذمة وتمام المعذورية من كل زائد قد يبديه، وهو

ص: 400


1- سورة الإسراء / آية 7
2- سورة الزلزلة / آية .8،7

في الحقيقة بعد الإفهام والتفهم داخل في عموم وإطلاق المسؤولية عند العقلاء، أو ما بقي مما تضمنته دلالات منطوقات ومفاهيم المباني اللفظية وغيرها، مما تشابه بين العلوم الثلاثة وملحقاتها الأخلاقية من تلك المباني، التي لا يحق لأي علم منهم أن يرجع صاحبه إلى غيره في مبانيه، ولو ليطبقها لنفسه، فضلاً عن غيره من المجتهدين وغيرهم إلا في الذي يعمل على ضوء مباني غيره، ليتمرن في النتيجة لينجح في اجتهاده، دون أن يبنى على ذلك لنفسه أو نفسه وغيره دون نية اجتهاد نهائي منه فيها، وليستقل في المباني واستنتاجاتها لنفسه وغيره بعد ذلك عند بدو التوفيق له منه.

وإن كان مقصودنا في الحديث الرئيسي في البداية عن التقليد الاصطلاحي هو ما يدخل الأعم حتى من الأخلاقيات التي ألحقناها آنفاً، للتشابه في المبنائي في الغالب.

إلا أن بقية العلوم والمعارف والحرف قد تتميز مبانيها بالدقة الفلسفية موضوعاً وحكماً كما أشرنا، ويقل بين أربابها التفاوت النظري ولم يشترط فيهم توفر الشروط الثمانية لمرجع التقليد الاصطلاحي لدخول غير المسلمين، ما دام المهم عندهم هو جودة العمل والحذاقة في الأداء، بحيث تندر الفوارق بين صنيع وصنيع من علم واحد ومن أكثر من عالمين ، لو لم يدخل الغش في البين.

فلا تقليد اصطلاحي فيما زاد على العلوم الثلاثة، وما ألحق بها من الأخلاقيات، وإنما هو اتباع وتأييد لما تدل عليه وفي سبيله الطاقة الناجحة التي تتم بأكثر من يد ويد بالنحو المتساوي، وإن استقلت عن الأخرى.

وقد يكون العالم اتكالياً على صنيع مثيله وبما لا مانع منه في مثل هذا التقليد غير الاصطلاحي.

بينما خصوص مباني العلوم الثلاثة - وتوابعها يظهر منها في الغالب بعد النصوص المتوفرة - سوى ظواهر الأدلة التي تتفاوت فيها نظريات مفكري أصحابها وبما قد يرتضي أو لا يمنع.

ص: 401

بل إن فكر العالم الواحد قد لا يستقر على رأي واحد بين حين وآخر.

إضافة إلى لزوم اقتراب المكلفين بهذه العلوم بأنهم بين مجتهدين ومقلدين في ذات الله صاحب الشرع لكسب طاعته ودفع سخطه والثواب الأخروي بعد الدنيوي المترتب على لزوم ذلك الاقتراب أو الارتباط الكامل، بل وجوبه التعبدي المرتبط بالأحكام التكليفية الخمسة، ولذلك اشترطت الشَّروط اللازمة والواجبة الآتية قريباً جداً في المرجع تخلصاً من حرمة التشريع والابتداع.

نعم يمكن أن يقال بإمكان أن يتدنّى أصحاب العلوم الأخرى والصنايع والحرف لما به کسب رضا الله تعالى ودفع سخطه، بل يرجع كثيراً لما ينال به التوفيق الكثير دنيويا لمن لم يؤمن بالآخرة أو الأخروي مع الدنيوي المحرز لمن آمن بالآخرة ولو في الجملة وبمقدار ما آمن به منها فضلاً عما لو كان مسلماً أو مؤمناً وبما تعطيه عدالة المشرع المحرزة ولو بواسطة الأخلاقيات والإنسانيات المقربة بين القبيلين وإن لم يسمّ التقليد بين سائر الزبائن وعلماء هذه العلوم أو التأييد لمعناه كما في المصطلح الشرعي، كقرار الطبيب الذي يمضيه الشارع لعلاج المريض لحذافته وإن كان كافراً موثوقاً به، سواء كان من سائر المرضى أو من نفس الأطباء المحتاج إليهم.

وعليه فالتقليد الاصطلاحي هو جعل العامي وظائفه الدينية والشرعية من فرعيات العقائد ومحض الفقهيات قواعد وفرعيات من العبادات والمعاملات وفرائض وحدود وتعزيرات بعد التأكد من تشخيص المجتهد الجامع للشرائط بالمباشرة في دقة المعاشرة ودقة التسبيب في عنق ذلك المجتهد، ولو ليحتج أمام أهل الحل والعقد من الأتقياء في هذه الدنيا وبين يدى الله في يوم القيامة والحساب بما قادته إليه فتاواه أو إنقاد هو إليها بما توسط له من الوسائط على صحتها عند المطابقة وعلى ما يرام أو فسادها عند عدمها أو كان المجتهد قد جعل تلك الأمور في عنق العامي ليعمل بها أو بتعاون من كل منهما في كل من ذلك أو بعضه.

ص: 402

ويمكن أن يلحق بذلك في النتيجة بنحو الكشف إذا طابق عمل العامي غير المتعمد على المخالفة من البداية بنية الابتداع مع تعليم مربيه ومدربه قصد القربة ولم يقصر مع الالتفات في الفحص عن المرجع الكفوء من موارد الحاجة إليها.

وهو من يصح الاعتماد عليه من المجتهدين الكفوئين وعلى الأخص إن أمضى له المجتهد الكفوء الآخر ذلك حتّى على هذا المعنى وأمثاله في ميدان المعقولات المتفق عليها بمثل لزوم بل وجوب رجوع الجاهل إلى العالم في غير التجربيات المنكشفة معقوليتها بدون معلم، لاختصاص الأمر في المهمات والغوامض من مثل ما حوته بعض عمومات وإطلاقات بعض النصوص، إما مصادفة أو بما لم يخرج عن بعض الأسرار الإلهية في لسان الملهمين في مثل وحي النبي صلی الله علیه و اله و علم الإمام علیه السلام أو من تعلم من الأئمة علیهم السلام من بعض حواريهم فنقل علمهم إلينا كما جاء في قوله تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(1)

ويوضح هذا قول الأئمة علیهم السلام في أهمية الرجوع إلى رواة ما عن الأئمة من الحواري والتلامذة المحتكين بهم، ثم عنهم بالأخذ من فقهاءنا الأعاظم وهلم جرا (و اَمَّا الْحَوادِثُ الْواقِعَةُ فَارْجِعوُا فیها اِلی رُواةِ حَدیثِنا، فَاِنَّهُمْ حُجَّتی عَلَیْکُمْ وَ اَنَا حُجَّةُ اللّهِ عَلَیْهِمْ)(2) .

وهكذا ما ورد عن الإمام العسكري علیه السلام من تشخيص واجب الرجوع في اختيار من تعدد من الفقهاء الجامعين للشَّرائط (فاَمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صَائِنا لِنَفْسِهِ حافِظاً لِدینِهِ مُخالِفاً علی هَواهُ مُطیعاً لِاَمرِ مَولاهُ فَلِلْعَوامِ اَنْ یُقَلِّدُوهُ)(3).

أقول: بجعل اللام في قوله (فللعوام) للاختصاص لاختيار أحدهم وفي انحصار

ص: 403


1- سورة النحل / آية 43
2- كمال الدين ج 2 ص 483 ب 45 ح4 ، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 283
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 131.

الكفاءة أو الأكفئية بناءً عليها تكون اللام بمعنى على.

وللتوسع في المقام مجال أنسب أن ننقله باللسان الفقهي إلى بداية ما كتبناه وقرر لنا من بعض طلبتنا بعض بحوثه العلمية الاستدلالية الفقهية خارج فقه العروة من بحث الاجتهاد والتقليد والاحتياط.

التاسع: شرائط مرجع التقليد الثمانية أو التسعة مع اجتهاده

مقدمة:حول شيء من مرجعية التقليد الاجتهادي

لم تكن مرجعية التقليد الاجتهادي - وشروطها الفقهية المتعارفة بين فقهاء الفقه الخاص أو الفقه العام من فرعيات العقائد أو الأعم - مما يجب الاهتمام بضبط وجودها، وتوفّر العلم بها في أذهان العوام من المكلفين، تجاه من يجب تقليده أو يلزم أو يجوز في خصوص أحكام الإسلام ،ومداركه وفي علم الأصول الذي وضعت قواعده خالصة في تقديم الخدمات الجلى، إسناداً للفقه الخاص والعام.

بل وحتى الأعم الذي لم تتقيد ضوابط تعاليمه لصالح خصوص المسلمين والمؤمنين في علومهم ومعارفهم الإضافية التي لم تخرج يوماً وبدقة في الحقيقة عن فلك الإسلام والمسلمين، أنه قصد منهم هذا التقسد؟

أم لم يقصد في جودتهم المهمة في مهاراتهم العلمية والإخلاص فيها قصداً وأداء.

أم سواء كان علماء تلك العلوم والمعارف من المسلمين، أو من غيرهم لو تحلوا بالجوانب الإنسانية وصفات ما يوافق العدل والإنصاف والصفات الجليلة التي يقر بها الإسلام السماوي العام كالمقررات الطبية والهندسية والفلكية الناجحة والمحتاج إليها من أربابها، والمعمرة لنواميس الوجود البشري المنسجم في الدنيا وغير المنعزل

ص: 404

عدائياً عن مصالح الآخرة.

إلا أن شروط الرجوع من قبل المسلم المحتاج - أو المضطر إذا كان عامياً، أو غير مجتهد إلى غير المسلم العالم أو الأعم كالأطباء والمهندسين والفلكيين ونحوهم.

لم يحتج فيها هذا المسلم العامي أو غير المجتهد في هذه الأمور لتصحيح انتماءه إلى النوع من العلماء وأرباب الصنائع في جودة ما ينتجونه بأكثر من وثاقته بهم وصدق قراراتهم ونجاحها المتعارف غالباً له، ولو بأن يكتفي تأييد مرجعه الشرعي العام إذا عرف تلك الوثاقة وصدق القرار ومورد الحاجة الماسة ليعود التقيد إلى تمام التواصل مع النظرة الإسلامية وطبيعها في توسط المرجع الشرعي المرتبط بالعدالة، ليتكفّل الخدمة للجميع.

لأنَّ تلك العدالة المشروطة مثلاً بتوفرها - في عرف المسلمين وبين خصوص تعاليم فقههم الخاص والعام حتى دون الأعم - لها معنى ادق بینهم كما يأتي، دون أهل العلوم من غير المتدينين بتلك الأدقية، وبالأخص إذا كانوا من غير المسلمين مع إيجابياتهم المتوفّرة الأخرى التي أشرنا إليها فيهم.

ومع ذلك لم تذهب أرجحية تأييد المرجع الشرعي للمسلمين، وإن كان العلماء الآخرون من غيرهم لذلك العامي المسلم المحتاج إليهم ارتباطاً بذلك الإسلام السَّماوي الأعم، وإن كانت العدالة في ديننا الخاتم بنحوها الأدق، لتطمئن قلوب المسلمين والمؤمنين بالنَّحو الأكثر، لأكثرية الأعداء من غيرهم، وبالأخص في هذه الأزمنة الأخيرة.

ولكن بما أنّ الأعم الأغلب في علم الأصول لا يراد غير ما جعل فيها صالحاً للخدمة السائدة بين الأصوليين، وغير ذلك من خصوص ما يتصل بالفقه الإسلامي ولديننا الخاتم والذي يعود بمنافعه لكل شؤون الحياة وتدخل فيها بقية منافع العلوم الإنسانية الأخرى.

ص: 405

فلابد من أن يتسع المراد إلى نفس ما رجحنا البناء عليه آنفاً بنحو التأكيد، لكسب الاطمئنان أكثر ، خوفاً من كثرة مؤامرات أهل الكفر، وبالأخص لو احتيج إليهم، بل حتى من خونة الداخل الإسلامي بمثل التقيد في كل هذه الأمور، بما لو سمحت به من تلك القرارات آراء خيار مجتهدي شريعتنا الإسلامية لا غير.

(ذي المقدمة)

فنقول: قد اشترط الفقهاء للمقام أموراً دلّت عليها أدلتها بالمتابعة والتدقيق الميداني، أو عما تظافروا عليه عن المباني الأصولية، وسنمر على المتعارف منها حدياً بينهم بإذن الله تعالى تباعاً.

وإلى حين ما يتحقق به الإكتفاء الذاتي في شخص المرجعية الدينية والاطمئنان المبرئ للذمة حين العمل الشرعي، على ضوء ما يصح عنها كل منسوب إليها ولو عن طريق معاشرته الكافية الكاشفة عن جميع اتقانياته لجميع مراحل دراساته المطلوبة منه عموما وخصوصاً، ومن كافة عوامل الرقي الكامل الذاتي فقهيا فيها.

مع إلحاق كافة ما يخص ذلك من الأصول المثمرة إلى فترة إنهائيات التدرب المنتج اجتهاديًا وفقاهتياً عن طريق خدمات تلك الأصول للفقه بعد التفوق العلمي الكامل والمستقل بها.

لأنه من الاستقلال فيها وعدم الخضوع فيها لأحد قد تُبتنى مبانيها في استنباط الفقهيات دون أي تقليد للآخرين في كل ما اختصوا بالاجتهاد فيه فقهياً وأصولياً دون ما يزيد

بل بعد تلك الكفائة يحرم التقليد في كلا العلمين للعلاقة مباشرة أو تسبيباً بخصوص أفعال المكلفين شرعياً، مما لم يخل كل منها عن أمور الحلال والحرام، الموقوف أمرها على خصوص إذن الشارع المقدس.

ص: 406

والتجاوز على الأمور المحدودة الخمسة من أفعال المكلفين يكون من التخبط في عالم التشريع والابتداع.

وأما في الاجتهاد في باقي العلوم والصنائع فقد تتفاوت في كل منها أو بعضها بعض الشروط الآتية شدة وضعفاً، كما أشرنا وكما سيأتي الإشارة إلى بعض منها، وهي:-

الشَّرط الأول:العلم الاجتهادي الكامل

وكما مر من التعريف الاجتهادي اللغوي والاصطلاحي عند المقارنة بينهما، لمعرفة ما يجب الأخذ به من المقدار الكامل من علمي الفقه والأصول المتلازمين، لصالح الفقه الخاص من الطَّهارة إلى الدّيات وتوابعه من إضافيات الفقه العام من فرعيات العقائد والأخلاقيات المشمولة بما يحل ويحرم.

لأنَّ غير الكامل فضلاً عن المحض من حالة عدم التوفيق لكامله لا يصلح أن يكون شرطاً لمن يرجع إليه كل من لم يصل إلى الكمال فيه، وبما منه الأشد، وهو صاحب الجهل المحض - و (فاقد الشيء لا يعطيه) - ومعها الأصول المناسبة لتحصيل الاستثمار.

وأما بقية العلوم والمعارف ويتبعها التفنن الاجتهادي في الصنائع والحرف التي قد لا يلزم في بعضها نفس ما يلزم في الفقه الخاص، وما يلحق به مما مر ذكر سبب اللزوم فيه.

وكذلك في الأصول لعلاقتها بالفقه خصوصاً وعموماً، كفسح المجال باختيارية التقليد من قبل المجتهد المتفنن في علومه ومعارفه وصنائعه وحرفه نفسه لمن يساويه أو يقاربه في إنتاج الصحيح، وإن كان أقل اجتهاداً من مقلده فيما اجتهد فيه ولو استحساناً، لما أداه أو تقاعساً عن إنتاج المقدور عليه أو الأفضل أو الأقل من المصنوع المجزي ما دام لم يكن من التكاليف الشرعية المحدودة بحدود كون التجاوز عنها

ص: 407

تشريع وابتداع كما مر.

إلا في بعض ما قد يتوقف عليه من الأمور الطارئة الضرورية ولو بالضرورة الإجمالية المسماة في مرحلتها العنوانية ثانوياً بالواجب الكفائي.

کما في طوارئ الحاجة إلى الطّب وتابعه الصيدلة والهندسة والفلكيات ونحو ذلك، واحتيج إلى خصوص أهل الحذاقة الخاصة دون غيرهم، لندرتهم، ولازم ذلك أن لا يختار إلا الأجدر ، وهو العالم الكامل ولو بحث إمضائي من الفقيه الخارج في مرجعيته عن صلاحيات أهل هؤلاء العلماء الآخرين، ولو من الدافع الإنساني ونحوه.

بل قد تدعو الحاجة الماسة إلى بعض أصحاب العلوم الجديدة الأخرى إلى حد الوجوب العيني إنسانيا بل إسلاميا أو إيمانيا، مما لا علاقة لأمورها في الاستفادة من خبرائها بالتقليد الاصطلاحي، فيجوز لكل خبير أن يتكأ على قدرات مثيله إذا تساوت مبانيها.

ولكن خضوع المرجع الخاص الملزم بالتقيد - في اتباع حنكة أي من الخبيرين سواء اتكأ أحدهما على الآخر إذا تساويا في المعاني أو اجتهدا باستقلال لإنقاذ المحتاج من مشكلته للبناء على رأيه الخاص في هذا الإلزام - لا يعنى جواز رجوعه إلى مرجع ديني آخر، حتى لو ساواه في الإلزام، وإن خالفه في المبنى وإن حصل استئناس من أحدهما بما ساوت فكرته في النتيجة فكرة الأخر.

الشرط الثاني:الرجولة والحرية وطهارة المولد

بما بنوه من الإجماع على كل من هؤلاء على خلاف ما لو لم يتوفّر هذا الوصف الخاص في كل من المذكورين، كما في أنوثة المرجع وعبوديته للمالكين له وكونه ابن زنا، وغيرها من الأوصاف المخالفة للشروط الماضية المجمع على جميعها

ص: 408

بالتساوي، لكون خلافها حتماً لم يحرز منه سلامة المجتمع الإسلامي في ماضيه وحاضره ومستقبله، وبما تعم فيه مصالح فرادى هذا المجتمع.

إضافة إلى نفس كتله وجماعاته ومعها مصالح غيره من كل من يقبل الهداية من الوجهة الدينية السماوية العامة والإنسانية من الآخرين - فعلاً أو قوة - بتمامها إلا مع توفر هذه الشروط.

لأنّ علوم الأئمة علیهم السلام المتعارف وجودها عند الإمامية - في مثل إجماعاتهم المحتج بها في مثل المقام، لكون إضمار الإمام علیه السلام الموجود في أفراد هذا الإجماع والحامل بعلمه الخاص الإلهي، وهو غير ما يحمله الآخرون في عمقه وإصاباته التامة في نجاحاتها دنيا وآخرة ممن معه فيه من العلوم الفقهية الإكتسابية -

تعد أسباب مشروعية وضع هذه الشروط، بالاقتصار على ذكرها كلها كشرط ثاني تشابهت أفراده قبل الشروط الأخرى الآتية، لأن كثيراً ما قد يحظى المتتبعون لأخبار أهل البيت علیهم السلام الخاصة في المقام من علل الأحكام أو حكمها بالعثور على معاني لزوم اشتراطها في المقام، وبالخصوص أو الأخص في تضاعيف الفقهيات والأصوليات المتلازمة معها.

وكذلك القواعد الفقهية المرتبطة بهما في ميدان التطبيق الاجتهادي الاستنباطي وإلى حد التفريعات المحنكة تماماً بكل الحساسيات الاجتماعية الخاصة والعامة للفرد والمجتمع الصغير والكبير والأكبر الإسلامي والسماوي العام وغيرهما إنسانياً كما أشرنا.

فعرف من خلال المتابعة للآثار المعصومية عن حكمة اشتراط الرجولة - لقيادة الأمور العامة الشرعية وللمرجعية - على الأقل، إن لم نقل العلة، وهي كونها في الرّجال دون النساء، وإن اجتهدن مع توفر بقية الشروط فيهن، ولو بنسبة لا بأس بها من حسن الإدارة الأقل مما في نوع الرجال.

ص: 409

وذلك لحماية الدين ومجتمعه الخاص والعام والأعم بكل حذافير حاجة الأمة والأمم إليه عن طريق من كان أسلط الرجال على الإداريات الجامعة والمانعة حتى الفرد الواحد في أمور تعاليم الدين التطبيقية، سواء المفرحة من مقاماتها أو المحزنة لبعض النفوس، وإن أدت إلى شيء من القساوة.

بما لم يقو عليه نوع المرأة العاطفي، بمثل إقامة الحدود والتعزيرات ونحوهما من باب العقوبات المحكمة في الشريعة لإرساء النظام التام.

وما قد تقتضيه المصلحة الدينية - أو دفع المفسدة الأكثر من الحرب، وما يقتضيه دفاعاً وهجوماً دفاعياً أو نحوهما من مثل الصلح أو السلم أو المهادنة.

والقساوة الحكيمة بالمنظور العادل المشار إليها في الرجال، إلى أقل ما فيها في الإداريات -

هي الخشونة وتوفر مصاديقها مما مر، وفي بقية الأعمال الشاقة النظامية الأخرى تتنافى مع ما يتصف به نوع النساء الطبيعيات من الرخاوات والنعومات الأنثوية العاطفية والتي قد تزيد إلى حد كونها الجياشة.

وقد يطلق على دفاعهن عن بعض حقوقهن - في تأهلهن لبعض وظائف الرجال من قبلهن أو من يحميهن من بعض الرجال ومنهم بعض الطامعين بالتحاقهن بهذا الركب للخلط الماجن أو غير الشريف - على أنها وظائف تدعو لها حقوق النساء المهدورة كذباً.

إلا أنه في تصديات الكثير من تصرفاتهن العاطفية وتصرفات أنصارهن فيما يُسمّى ب- (جمعية حقوق الإنسان) أو (جمعية حقوق المرأة) المشهورة اليوم للخروج عن وعلى المسلمات من أحكام الشريعة، وإن كن قد يتحملن مع صفاتهنَّ النوعية الخاصة بعض الصفات الحديدية النادرة أو غير الكفوءة في مقابل الضخامة البشرية للرجال أو حتّى للنّسوة غير الراغبات بهذا الانتماء إلا بمثل الحالة التهورية، أو التي

ص: 410

قد يطلق عليها فيهن معنى الشجاعة المزعومة مبالغة.

وعن حكمة اشتراط الحرية للمرجع المجتهد - إن لم نقل العلة في تشريعه - هو أصالة وجوب احترام علاقة المالك الشرعي بمملوكه كما قال تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ»(1) لأنه كالأبكم أو الاتكالي كما قال تعالى أيضاً «وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ»(2) وكما ورد أيضاً (اَلنَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ و اَنفُسَهُم)(3) إلا إذا أطلق مالكه الشرعي سراحه لصالح هذه الوظيفة الشرعية العامة المطلقة في تصرفات مرجعها غير المحدود بسعة الأمة وكل ما تحتاجه منه من عموم ومطلق التصديات.

وعن حكمة اشتراط طهارة المولد إن لم نتعبد بخصوص قول العلة - هو أنَّ عدمها بمثل ابن الزنا أو النابت من السحت ولقم الحرام، أو كون المولود نبت أثناء الحيضة مع التحركات الهوجاء أو غير الطبيعية، إلا أن يركز على حسن تربيته تربية ضابطة وعلى ما اكتشف مما يلزم أمرها من أسرار الحكم الطبية المهمة المحوجة إلى المحاذير من إهمالها تخلصاً من الشذوذات -

فإن مثل هؤلاء حتى إن نشأوا كمراجع مجتهدين وإن اجتهد كثيراً في تربيتهم بتربية إضافية جيدة، فهم مما قد لا يظهر النفع الجيد دنيا وآخرة إلا لخصوص أنفسهم وأهليهم من المنافع الخاصة.

إلا أنّ الخشية على مصير الأمة وما حولها كما مرّ، فإنها تبقى غير مضمونة النجاة، بسبب عدم استقرار منابتهم الذاتية أو شبهها، ولا أقل من كونها مخيفة في

ص: 411


1- سورة النحل / آية 75.
2- سورة النحل / آية 76.
3- سنن الكبرى ج 6 ص 100 ، سنن الدارقطني ج 3 ص 26 ح 91 ، تذكرة الفقهاء ج 1 ص 489 ، غوالي اللئالي ج 3 ص 208 ح49 ، بحار الأنوار: ج 2 ص 272 طبع الحديث.

مثل صعاب الأمور الدنيوية، وما أكثرها لو أريد ربطها من قبل مرجعها المرشح غير النزيه، بما يوصل الأمة والأكثر إلى سعادة الدارين بما تطمئن به القلوب، وهو مما قد سببه الأبوان وكما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله (اَلشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَ اَلسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)(1)، وعلى الأخص لو أردفنا إلى هذا الوارد الوارد الآتي ما يلحق لما يحويانه لو اجتمعا من الفائدة المهمة لأجيالنا المستقبلية الصاعدة وربطنا بينهما، وهو ما روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله (كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(2)، وغير ذلك من الأخبار.

الشَّرط الثالث:البلوغ والعقل

للإجماع على اعتبارهما، بل ببناء العقلاء على اعتبار الثاني أيضاً، لعدم ضمان سلامة استقامة الأمور الشرعية إذا كان فاقداً لشيء من حالات كماله، فضلاً عن جميعها، وإن كان ذلك الفقدان خفيفا فيه، وبالأخص في النقاط الاجتهادية كثيرة التفاوت النظري بين رعيل أولئك المجتهدين من كاملي أولئك العقلاء.

وإن استأنس بعضهم فكرياً لا تقليدياً ببعض إبداعات أفكار بعض الصبية الموهوبين في اجتهاداتهم، كما عرف في تأريخ الإمامية الحافل ببعض أفاضل أبناءهم المجتهدين في صباهم كالعلامة الحلّي قدس سره وفخر المحققين قدس سره والفاضل الهندي قدس سره والنابغة الغريفي قدس سره وأضرابهم، لعدم تكامل أدلة أخذ العوام منهم الأحكام بنحو

ص: 412


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 356 ، بحار الأنوار ج 5 ص 157.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 64 ص 133 ، ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 781.

التقليد.

كل هذا ليعد هذين الشرطين بالإجماع المشترك - وبمعونة بناء العقلاء لخصوص الثاني من جهة خطورة أمره - لصالح مجموع الأمة، بل الأمم إذا انقادت تلك الأمور يوماً إلى مثل هذا المجنون الذي اختل عقله، ولو في خفة بالغة من جنونه حتى في بعض أمور قد يأتي التذرع لها، من جهة بعض ما قد ينسب إلى ما يسمونه سطحياً بالدوافع الضرورية.

وبالأخص لو اشترك كل مرجع ممن كان في متناول اليد التعرف عليه في تأييد قرار هؤلاء العقلاء وبناءهم، ولم يتخلف أحد عن اشتراط هذا الثاني، وهو العقل، ولذا جاء في خواتيم كثير من آيات القرآن بمثل قوله «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ونحوه وغير تلك الخواتيم.

فلابد من عد هذين الشرطين في كل مرجع، أو عاقل قد يعتز بمن تخلف ولو بشيء من ،وصفهما كالمجتهد المراهق المتاخم للبلوغ، أو المجنون الخفيف الحامل البعض المواهب كصاحب الجنون الإدواري الذي لو زال منه جنونه ورجع له صوابه لبقي فيه شيء خفيف منه في بعض الحالات أو ما قد يخيف من حالة الرجوع إليه -

عن أن يتورطوا بتسبيب ما قد يخل باستقامة الشريعة الطبيعية.

نعم لو كان الفقيه المجتهد عاقلاً فجن فمقتضى الاستصحاب - في أمور البقاء على تقليد الميت الطبيعي - صحة البقاء على تقليده في الصحوة الإدوارية، لولا الإجماع على الخلاف.

وهذا الإجماع لم يفرق في صحة التمسك به بين حالة جنونية وأخرى على ما عرف بينهم.

وعن صاحب الجواهر قدس سره إرسال اعتبار جميع شرائط التقليد حدوثاً وبقاءً

ص: 413

إرسال المسلمات(1)

بل ادعى شيخنا الأنصاري قدس سره الإجماع على أن الشرائط المذكورة كما أنها معتبرة بحسب الحدوث كذلك تعتبر في حجية الفتوى بقاء(2)

أقول: وعلى الأخص لو كانت حالة الجنون التي بعد تلك الصحوة الطبيعية الأولى هي حالة الحاجة الملحة للتفكير فيما يصلح للعالم عما لا يصلح، وإن كان أثناء جنونه بعض المواهب المفيدة، كصاحب الصحوة الخفيفة في الإدواري وكان وضع المجتهدين العلماء العقلاء غير مستقر فكرياً.

فلابد إذن من القول ولو احتياطاً بعدم تبني ترشيحه.

إلا إذا كانت الحالة الإدوارية أثناء الصحوة منها تامة العافية، وبدون أن ترتبط بأقل نسبة من الجنون السابق وشهد بذلك العرف الطبي، مع استحضار تمام الخلفيات العلمية المرادة لتلك المرجعية، وبما يضمن جلب المنافع ودفع الأضرار، وبما يشهد به أيضاً عرف العقلاء وذووا الاجتهاد الآخرون معهم، وبما يزيح اعتراض الإجماع المانع، ولو لحل خصوص المشاكل المهمة الطارئة إذا شك في طول قدرات صاحبها الآخر.

وعليه فلا مانع من التعجيل بالاستفادة من تلك القدرات.

وعلى المجتهد المراهق وهو القريب من سن التكليف وهو فيه - لو شك في ذلك وهو يعرف من اجتهاده مانعية الإجماع المذكور بين أصل التكليف مشتركاً بينه وبين ما هو مكلّف به من أمور الحلال والحرام تجاه نفسه ليعمل برأيه أو لا يعمل وتجاه الآخرين ليعرف مدى صلاحيته لهم في رجوعهم في التقليد إليه أو عدمها -

ص: 414


1- تهذيب الأصول - السيد عبد الأعلى السبزواري - ج 2 ص 126.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى - السيد الخوئي - تقريرات الشيخ الغروي ج1 ص 200 عن رسالة في الإجتهاد والتقليد: ص68.

أن يتورع في الإفتاء للآخرين، إما ببث الاحتياطات النافعة أو الإرشاد إلى من يرجح الرجوع إليه منهم وبالاحتياط لنفسه وإن اعتبره المنتمون إليه بالغاً مع عقله مع بقية الشروط لقوله تعالى «بَل الإِنسَانُ عَلَى نَفْسه بصيرة * وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(1)

أما الاستئناس بآرائه المقبولة علمياً ودراسياً لتوليد الفضيلة في أذهان الطلاب والمحصلين فهو جيد وحسن لا ضير فيه ، لابتعاد هذه الحالة عن مستوى حالة التقليد له .

الشرط الرابع:الإيمان

وهو الإقرار بالشهادتين لساناً واستقرار الاعتقاد الجازم بالقلب جناناً والمواظبة على العمل بأركان الدين العشرة وآخرها التاسع والعاشر وهما (موالاة أهل البيت الطَّاهر علیهم السلام ومعاداة أعدائهم).

وهو ما يعنى عدم صحة تقليد من اجتهد من المخالفين الذين لم يجعلوا عليا علیه السلام وأولاده الأئمة الباقين علیهم السلام الخلفاء المباشرين بعد رسول الله صلی الله علیه و آله مباشرة، بل هو من كان قد أنصف عادلاً في اجتهاده على نهج مقررات أصول الإمامية مبتعداً عن مسلك القياسيين، أو من لهم آراء فقهية أو عقائدية شاذة يمكن أن تؤول ولم يطعن أحد في ولائهم ووثاقتهم كبعض أعلامنا وفقهائنا القدامى قدس سره ك- (سلار(2) وابن الجنيد

ص: 415


1- سورة القيامة / آية 14 - 15.
2- الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني المعروف بسالار أو بسلّار، من علماء القرن الخامس الهجري، توفي قدس سره في عام 463ه-، ودفن بقرية خسرو شاهي من قرى تبريز في إيران، وقبره معروف يُزار.

الأسكافي)(1)، أو استبصر وسار على نهجهم وطابق استنتاجه ما يقول به الإمامية دليلاً ومدلولاً.

وعد هذا الشرط واجباً أو لازماً لمرجع التقليد بهذا النحو من المواصفات، لضمان سلامة ما يعطي وما يأخذ لنفسه وللأمة، وما كان أكبر على خلاف من كان يحمل إيماناً مستودعاً يأتي فترة ويزول، للمطامع الدنيوية الزائلة.

وهذه حاله خطيرة جداً في مثل من يجب أن يكون ممن (لا تأخذه في الله لومة لائم) ضد نفسه قبل غيره.

وعلى خلاف من لم يحمل الإيمان مع حمله مجرد الإسلام أيضاً وإن لم يكن من أهل النفاق حالته لخطورة التوظف الشرعي بمجرد هذا المستوى، أو حتى لو كان معروفاً بالإنسانيات والأخلاقيات المقبولة، لعدم تأكد ضمان نفس ما يبدو من المؤمن حقيقة، لاختلاف ما يعرف به المسلم فقط وهو (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد حقن ماله ودمه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل)(2).

إذ مجرد هذا التعريف لا يفي بغرض ما يحوج إلى تحقق ضمان سلامة الأمة والأكبر عن هذه الوظيفة الخطيرة للفرد وللمجتمع أخذاً وعطاء، وإن ضمن المسلم السلامة بهاتين الشهادتين لماله ودمه وعرضه وكل ما تجرى عليه المناكح والسنن ،أخذاً، لكن لا ضمان للعطاء في مثل هذه الوظيفة منه، وعلى الأخص إذا كان في مئزق ومزلق النّفاق وكما قال تعالى «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِن قُولُوا

ص: 416


1- أبو علي محمد بن أحمد بن جنيد الكاتب الاسكافي المعروف بابن الجنيد من علماء القرن الرابع الهجري. حيث كان من آرائه العمل بالقياس والاستحسانات وغيرها
2- كمال الدين ص 410 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 23 ص 96 .

أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1)

الشرط الخامس: العدالة

وهي التي فسرت بين بعض اصطلاحيينا ب- (الاستقامة على جادة الشرع).

وهي ما لابد أن تكون لصالح ظواهر أحوال الموصوفين بهذا المعنى من مراجع الأمة مستمرة على هذا الدِّيدن، وبنحو كاشف أيضاً حتّى عن أي تخلف عمدي نفسي باطني عنها، من خلال مراقبة النفس الأمارة، كي لا تشطح عن سيرة تلك الاستقامة، بسبب كثرة العوارض المغرية، أو من خلال التعود المفيد على بركات تلك الممارسات الإيجابية الأسمى لصالح ما يرضي الشرع ويدفع سخطه.

لكون التعود على ممارسة الاتصاف بحاله -حتى لو كانت ثقيلة يوماً على النفوس في بدايات الأمور - لابد أن يكون تركه ذا صعوبة بالغة ولو بعض الشيء عليها .

لكن خطورة هذا النحو من الاتصاف قد لا يخلو عن شيء من السطحية، لحاجة المرجع أن يترفع بابتعاده عن مخاطرها لصالح دينه ودين الأمة وسلامتهما دنيا وآخرة إلى المرتبة أو المراتب الأسمى والأسلم ولو إلى شيء محرز من معاني العصمة الإكتسابية بما يلزمه الاتصاف بملكتها غير القابلة عادة على احتمال الخلاف، بل عُدت في أصحابها كأصالة يرجع إلى البقاء عليها عند الشك.

وقد دلّ على اشتراط أصلها للمقام الإجماع، ولعل من أسباب الاحتجاج به عليه عدم كفاية اشتراط الإيمان الماضي معناه وحده لإمكان أن يتصف بعض المؤمنين ببعض الأوصاف المذمومة وتبقى صفة الإيمان فيهم على حالها كما دلت

ص: 417


1- سورة الحجرات / آية 14

على ذلك بعض الأخبار.

بينما المرجع يجب كون وضعه منقحاً دائماً، إلا أن أهل الإيمان والعدالة لا يكذبون والمرجع هو الأجدر في الصدق من حيث وظيفته، للأمانات المودعة عنده للأمة.

ولیت مصاديق هذه المواصفات الجليلة الماضية والآتية وبأفضل تدقيقاتها متوفّرة في أرباب بقية العلوم والمعارف والصنائع الأخرى.

وإن أكتفي فيهم بالوثاقة والصدق والإنسانية، لعدم التمكن دوماً من السيطرة على أفكارهم، لكون بعضهم من أهل الملل والنحل الأخرى، وإن كان التأكيد ثابتاً في تحلّي المرجع بما ذكرنا وبما لا يمكن الانفكاك عنها على الأقل، فضلاً عن رجحان رغبته في الترقي لما هو الأرقى

الشَّرط السادس:مخالفة الهوى

لأن مطابقته في بعض الحالات قد تكون مباحة للفقيه المرشح، لأن نفسه قد ترغب بنفس ما يهواه الغير بلا فرق بينهما من المباحات، ومما قد يخص كلاً منهما كالامرأة المختارة لزواج الغير مثلاً لمواصفات الكمال والجمال ونحوهما، فتمنى الفقيه أن تكون له زوجة نظيرة لها بنحو من الغبطة، فهي مباحة كذلك.

فلا داعي لاشتراط مخالفته لهذا النوع من الهوى.

لكن المخالفة لنفسه على مطلق هواها أزكى لهذا الفقيه، ليمتاز على بعض العوام حتى على مباحاتهم، كما أثبتته إطلاقات الأخبار الخاصة ولو بنحو التمسك بمقولة (حَسَنَاتُ اَلْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ اَلْمُقَرَّبِينَ)(1) عرفانياً.

ص: 418


1- هذه المقولة مشهورة على ألسن الأخلاقيين، ولم ترد في حديث أو رواية إلا ما نسبها بعض العامة إلى أبي سعيد الخراز ، إلا أنها لا تتنافى مع ما يلتزم به أهل العرفان الشرعي. راجع تذكرة الموضوعات - الفتني - ص188 ، كشف الخفاء - العجلوني - ج 1 ص 357.

ولتسهيل كثرة مطاوعة العوام لعلماءهم حتى في التنزه عن بعض المباحات التي قد تكون مكروهة بالعناوين الثانوية، وقد تصل هذه السيرة مشينة عنوانياً بشأن الفقيه إذا تخالف المروءة.

كيف بما لو انتقل هذا التمني من الفقيه إلى الحسد، وهو الصريح في الحرمة، ويلحق به في اشتراط المخالفة لمثل هذا الهوى حسب إطلاق الرواية الشريفة الآتية حتى مجرد تمني زوال نعمة المحسود في زواجه حينما وجد الفقيه نظيرها ولم يتزوجها.

وبهذا المعنى الثاني يكون الحسد وتابعه مخلاً صريحاً بشرف العدالة بكلا معنييها الماضيين إذا فسر التابع بمعنى التجريء المحسوب من المعاصي في نوعه الخاص.

وقد ارتكز بين المتشرعة اعتبار هذا الشرط كثيراً ، إذا كان لأجل توليد العصمة الإكتسابية، وبمثل معنى الملكة المرادة - المفضلة في الفقيه العادل - على معنى الاستقامة على جادة الشرع لشرط العدالة الماضية، ولو عن طريق بعض المكروهات المتزاحمة مع رغبات الآخرين، الذين لا يضرهم فعل بعضها إذا لم يقسوا على أنفسهم بالإكثار منها خوف الانتقال بذلك إلى بعض عناوين الحرمة الأخرى في مثل القضية الواحدة تعمدا مع خبر الاحتجاج المشترط لذلك بقول الإمام العسكري علیه السلام (فاَمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صَائِنا لِنَفْسِهِ حافِظاً لِدینِهِ مُخالِفاً علی ِهَواهُ مُطیعاً لِاَمرِ مَولاهُ فَلِلْعَوامِ اَنْ یُقَلِّدُوهُ.)(1)

إضافة إلى ما قد أرشد بل أمكن الاستشهاد به بقوة من قوله تعالى على لسان صاحب الوظيفة العظيمة، وهو نبي الله ورسوله داوود علیه السلام «يَا دَاوُودُ إِنَّا

ص: 419


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 131

جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحساب»(1).

أي وإن حصل اللطف الترخيصي نسبياً لبعض الجماهير آنذاك.

وهذه الامتدادية هي التي أعطت التوظيف الأكمل لنبينا الخاتم صلی الله علیه و اله بمخاطبته بأكثر من آية وهي قوله تعالى «فلذلك فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبع أهْوَاءهُمْ»(2)، وقوله الآخر من سورة هود «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَن تابَ مَعَكَ وَ لا تَطغَوا»(3) حتى ورد عن النبي صلی الله علیه و آله قوله (شَيّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالمُرْسَلاَتُ و عَمّ يَتَسَاءَلُونَ)(4) بعدما تسارع الشيب الرأسه صلی الله علیه و اله الشريف وسأله بعض أصحابه عن ذلك، وذلك لما تعكس هذه السور من أحوال القيامة والمسائل المهولة، فتركت أثراً بالغاً في نفس وروح النبي صلی الله علیه و اله المقدسة.

وكما لا يخفى أن عهد ديننا لنبينا الخاتم صلی الله علیه و آله كدين إرفاق بالأمة كالسابق في بعض الأمور مهما اشتدت المراقبة على أكابرها.

بينما تلك القضية الواحدة التي يمارسها الفقيه المرشح في مقابل أفعال الآخرين ما سمح لهم فيه كفعله للمكروهات، كهجره القاسي لصلاة الليل أو هجره القاسي لزيارة قبر النبي صلی اللهعلیه و اله عند كل مرور للحج والعمرة وهجره القاسي لمثل زيارة الحسين علیه السلام عاشوراء، ونحو ذلك مما ينقلب بالعنوان الثانوي إن لم يكن الأولى بمثل معنى القساوة له وللآخرين أيضاً إلى المعصية المشهودة بين المؤمنين.

ص: 420


1- سورة ص / آية 26.
2- سورة الشورى / آية 15
3- سورة هود / آية 112
4- الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة ح10.

وعليه فنبينا صلی الله علیه و اله ومن سبقه من الأنبياء كداوود علیه السلام والأئمة من بعد نبينا علیهم السلام ويتلوهم فقهاء الأمة الذين يجب أن يطاعوا لتحليهم بما مر وما يأتي من بقية الصفات - وإن لم يتحلوا بهما، بل وبأعلاهما - لضعفت قيادتهم التامة لها، ولهذا عُرف (إذا فَسَدَ الْعالِمُ فَسَدَ الْعالَمُ) استناداً لما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام (زَلَّةُ العالِمِ تُفسِدُ عَوالِمَ)، وعنه علیه السلام (زَلَّةُ العالِمِ كَبيرَةُ الجِنايَةِ)، وعنه علیه السلام(لا زَلَّةَ أشَدُّ مِن زَلَّةِ عالِمٍ)، وعنه علیه السلام - فيما نسب إليه - (مَعصِيَةُ العالِمِ إذا خَفِيَت لَم تَضُرَّ إلاّ بِصاحِبِها ، و إذا ظَهَرَت ضَرَّت صاحِبَها والعامَّةَ)(1)، ولو بمعنى الممارسات للمكروهات غير المحرمة.

ولو أرفق بالأمة ببعض التسهيلات في بدايات طرق هداياتهم ولم يتحل القادة بمعنى الفرض والاشتراط بأعلى المعاني.

فمن ذا الذي سيوفق أو يوكل إليه أمر هدايتها إلى مراتب المجزي على الأقل من الكمال ؟

الشرط السابع:الحياة

فقد عدت للفقيه المجتهد شرطاً لجواز تقليده من حيث المبدأ ظاهراً في لسان الأدلة كتاباً وسنة وسيرة من حيث الإطلاق والعموم الخطابيين ومن أقل ما يعرف الخضوع لهذه الحقيقة غير الخفية بين المتخاطبين ما قد ورد قديماً (خُذُوا اَلْعِلْمَ مِنْ أَفْوَاهِ اَلرِّجَالِ)(2)

ص: 421


1- راجع العلم والحكمة في الكتاب والسنة - محمد الريشهري - ص 453، عن كتاب غرر الحكم - الآمدي - 5472 ، 5483، 10674 ، شرح نهج البلاغة: 20 / 322 / .689
2- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 78.

بل بما لا مساواة في هذا بين المأخوذ المباشر من أفواه العلماء الأحياء وبين المنقول من تلك الأفواه عن عمليات الأموات عن طريقها، وإن استؤنس علمياً ببعض آرائهم، فضلاً عما لو تم التقليد الابتدائي لأولئك الموتى حتى ادعى الإجماع على بطلان هذا التقليد الابتدائي.

فإن تم هذا الإجماع فلا شك في بطلان هذا التقليد.

وبالأخص مع تيسر المجتهدين الأكفاء من الأحياء، فضلاً عما لو تيسرت شيء الأعلمية فيهم، بناءً على لزوم إحرازها في المجتهد على ما سيتضح قريباً جداً شيء من ذلك، ولم تتيسر أو لم تعلم في الأموات وإن احتمل وجودها في بعضهم، كالذي يراد الرجوع إليه في المقام، لفارق القوة والفعلية الاجتهادية في الأحياء عما لم يكن إلا الجمود الفتوائي في آراء الأموات، وإن استؤنس ببعض آرائهم العلمية القديمة.

خصوصاً إذا حلت مشكلة ذات خلفية علمية استدلالية لا يحل معضلها إلا وجدان المجتهدين الأحياء دون الموتى.

وبناءً على القول بعدم توفر هذا الإجماع - أو لم يتوفّر ما يؤكد كماله - فيمكن أن يشمل المقام - بدل المنع المطلق لتقليد الموتى - بقاء ما يدل على صحة التقليد الاستمراري لمن كان مقلّداً لميت ثم مات وبقى مستمراً على تقليده، كما لو لم يتوفّر المجتهد من الأحياء ومارس ما كان مألوفاً له أن يمارسه من الأعمال، أو كان بعض الأحياء ظهر اجتهاده وتعين عليه تقليده، وقال بجواز البقاء على تقليد ذلك الميت في أعماله التي يمارسها، على أن يرجع إلى ذلك الحي في الأمور التي لم يعتد عليها من آراء الميت أو التي يخالفه الحي فيها على الأخص إلا إذا كانت فتاوى الميت عن أعلميته في نظر ذلك الحي على ما سيتضح أكثر في بيان الأعلمية.

وأخيراً لا ينبغي في هذا الكلام عن سائر المجتهدين - في اشتراط حياتهم وجواز

ص: 422

الأخذ من موتاهم في الجملة من الخطائين - أن يقاس عليها ما يخص اقتدائاتنا بنبينا صلی الله علیه و اله و سلم وآله الأئمة علیهم السلام ومعهم الزهراء علیهاالسلام من المعصومين بأمورهم، لما مر أكثر من مرة من الإيضاحات المفرقة بين القبيلين في تضاعيف أصولنا وفي كتب العقائد

الشرط الثامن:حسن السليقة

فهو على نحو ما تنضبط منه أمور الفقيه الاصطلاحي من كل ما يقوم به علمياً وعملياً لنفسه، ولغيره ممن هم حوله والأوسع بما يتحقق به النظام الإداري الإسلامي ،والإيماني ،الشرعيين مع مراعات حقوق وواجبات الأقليات لشعب أو شعوب المنطقة المتقيدة بفتاوى الفقيه أو الفقهاء معه الناجح في عدم فسحه المجال لأن يخل هو بشيء ولا من يحتاج إليه من مجتمعه، مما يخالف شرع الله بعد استنباط الأحكام الشرعية المبتلى بها، لموضوعاتها الثابتة عن الأدلة المتعارفة بينه وبين قرنائه المجتهدين والحوزويين الإمامية وبالتعميم المستقل الثابت على ما أنتجه استنباطه لهذا الحكم أو ذاك.

سواء ائتلف مع القرناء أو اختلف وبدون تزعزع أو تردد، أو أي انفلات عن الضوابط المتوازنة المطلوبة، ما دامت المباني الأصولية من المتسالم عليها بينهم، مع التطبيقات الفقهية العملية والمثمرة عنها في ميدان العمل، وهو أحدهم في الحرص والمبادرة به على ضبط تلك الموازين.

بل وعلى نحو التسالم التام على الانضباط المسيطر على من أرتجي تسامحاً مسموحاً به أو محتاجاً إليه في أدلة الشرع بكل ما تذوقه أهل الفقاهة الأتقياء والمتساوية جهد الإمكان بين القديم والحديث.

لتتبين بين يدي الإمام المنتظر صلی الله علیه و آله من الجميع آثار حسن تلك السليقة الموحدة في معناها، والموحدة للأمة بنظامياتها الروحية بالطاقة المقبولة والمثاب عليها، وبما لا حد

ص: 423

له دون أي خارج في شذوذه - عن مستواها وبنحو ما حاول أو يحاول أن يوحده الآخرون، وإن كان مخلوطاً بين الطبيعي والشاذ ممن سموا أخيراً ب- (أهل الحداثة والتجديد) - بمبان خاصة لهم وشق طرق حديثة أيضاً وإنتاجات جديدة ما أنزل الله بها أو من بعضها من سلطان في كثير منها، ولم تنفصل غالباً عن الإستحسانات والقياسات مع الفوارق أو العلل الناقصة بمثل وصفها أنها كاملة، إذا كان من واجب عقلاء ومتديني أبناء هذا النوع من الجيل الجديد في باقي ما حفظوه لأنفسهم من انضباطهم وإمعانهم في الأمور عن كثب مع ما يبتدعه المجددون.

لوجدوا حقاً أن هؤلاء أو المروجين لهم ممن لم تنضبط فيهم حمية الدين الحنيف مظهرا ومخبرا هم سبب التقاعس عن التحبُّك والتضلع الدقي المعرف للواحد المشخّص لما يلزم مظاهر من حسن السليقة ومخابرها الموصل إلى براءة الذمة المرجوة في الدارين.

وأما النسيان المخل بذلك الحسن وعدم الضبط أو حتى قلته وبالنحو الملفت للنظر، وبدون تصدّي من مثل موظف خاص بواجب التنبيه، لو لم يكن لهذا الفقيه أو ذاك واعز أو واعظ من نفسه ينشط بعضه بعضاً ، ليكون مكتفياً بتنبيه نفسه لنفسه في جميع طبقات مرجعيته العليا العامة إن كانت أو الوسطى كذلك، أو الأقل في مقامه، لو لم يكن النسيان فيه ناشئاً من عاهة لا علاج له منها أو كان مهملاً، وان لم يكن من عدم وجوب اشتراط هذا الشرط ليكون وارداً طبيعيًا في اعتيادية إنتباهاته وغير مبعثر فيما يلزمه من كونه منتظما في بقية توازناته.

إلا إذا جاء عرف آخر محترم يجوز معنى الانضباط المراد أو اللازم إلى ما به الشدّة أو الخفة، وهكذا النسيان.

فهما حينئذ - النسيان وعدم الضبط - أو الأقل مانعان لا محالة عن صحة التقليد، إضافة إلى ما مر من عدم الجواز.

ص: 424

كما وقد ينشأ هذان الحالان من قلة الانكباب على مواصلة التوغل في أعماق المضامين الفقهية التحقيقية مع الحاجة الماسة إلى مواصلته والحاجة إلى نتيجة ذلك، فضلاً عن مذموميّة أهل التقاعس عن السلوكيات المقبولة ولو اتكالاً على مألوفية ما قد يشاع والعياذ بالله عن أنَّ مثل هذا الفقيه الذي من بعض مظاهره ما قد يعطي معنى التقاعس، في حين أنه قد يشاع عنه أنه من أفقه المعاصرين له هو ومدارك مسائله الابتدائية والواقع هو الخلاف-

فلابد إذن من تدارك كل ما يسبب كثرة النسيان وعدم الانضباط مع الإمكان بأي نحو كان.

هذه جملة ما يستحق من الكلام الإجمالي عن مهمات شرائط مرجع التقليد مع استغناءنا عن ذكر بعض التفاصيل من بعض حالات النقض والإبرام بالإسهاب بذكر المهم منها في الجزء الأول من بحوثنا عن الاجتهاد والتقليد والاحتياط علمياً خارجياً عن (العروة الوثقى) باللسان الفقهي.

الشرط التاسع إلحاقاً: هل للأعلمية علمياً لا موضوعياً لازمة في شأن مرجع التقليد

بعد أن ثبت مؤكّداً - في مثل قول الله تعالى من قرآنه الكريم بعد علم الله الذي هو عين ذاته ولم يطلع على حرف من حروفه أحداً من ملائكته وأنبياءه ورسله وخلفاءهم، لاختصاصه بما يحويه دونهم عن الماضي والحاضر والمستقبل -

عن علم عموم العلماء ومطلقهم واقعاً وظاهراً في مقام التشجيع على طلب العلم والرقي فيه ونحوه من التفاوت الملحوظ وجداناً لكل أحد مثوبة بين طبقاتهم الدنيا وإلى ما هو الأعلى من المراتب دحراً للجهل بكل نسبة، سواءاً في التحصيل

ص: 425

العلمي اللدني والإلهامي الحضوري ومأهلاتها مما صنعته الفطرة الإلهية وإن اتصف ببعضها غير المعصومين علیهم السلام من ذوي الحواس الإضافية، ومع المعصومين علیهم السلام من أوحى إليهم من الأنبياء والمرسلين كنبينا الخاتم صلی الله علیه و اله، أو جاء لهم عن التحصيل الاكتسابي ومن الحفظ والذكاء التعليميين -

حيث يقول تعالى «قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ»(1)، ويقول «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ»(2) وغيره من الآيات المشابهة جملة أو تفصيلاً وغير الآيات من الروايات الشريفة، ومن مقولات المجربين المشهورة (أعط العلم كلك يعطك بعضه)(3)

ويدخل في قدرات الاكتسابيين منهم - وتنوعها تلك جميع من حمل كل العلوم، أو جلها ، أو كثيراً منها ، أو بعضها من أصل كافة طبقاتها المتفاوتة.

وكذلك من حمل في معالمه الدقة وإلى الأعماق تخصيصاً، ولو للعلم الواحد أو العلمين.

إلا أن أهل العلوم المتعدّدة حسب عاداتهم الغالبة في عرفهم - كما لا يخفى - أنهم يمتازون بالسطحية في أمور تحصيلها الاكتسابي غالباً، إلا ما قل وندر في بعض الأمور الدقيقة، حتى لو تعددت من مثل بعض الفطريين في حفظهم وذكائهم، ولذا عرف عما ينقل عن الشيخ البهائي قدس سره قوله (سبقت كل ذي فنون وسبقني كل ذي فن).

كما ودخل حتماً في مضمون الآية الكريمة الماضية الثانية - في نيل درجات الفائزين بأعالي خيار ما يقصده مضمونها - وهم من أوحي إليهم ومن حفظ العلوم لدنياً وإلهامياً حضورياً من الأنبياء والرسل وخلفائهم الأئمة وسيدة النساء بالسِّر

ص: 426


1- سورة البقرة / آية 30.
2- سورة يوسف / آية 76.
3- منية المريد - الشهيد الثاني - ص 169.

المستودع فيها "صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين"، وهم مصادر مداركنا بدون تقليد.

ما قد يظهر سطحيًا لنا لأول وهلة وبوضوح بعض ملامح معنى الأعلمية فيهم كافية وبالأخص إذا قارنا بين الآية الماضية وقوله تعالى الآخر وهو «وَ مَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْم إلا قليلاً»(1)، إعظاماً لعلم الله الأعلى واعتقاداً بعلمية من وصفنا علمهم بما هو الأدنى.

حتى مع شيء من ظهور معنى الخلط بين قبيلي من يمكن أن يطلق على كلِّ منهما من فريقي المعصومين علیهم السلام وسائر الاكتسابيين كلمة (الاجتهاد والأعلمية) فيه، على ما مر توجيهه في الكلام عن التقليد.

مع التفاوت البين بين طبقات كل من الفريقين برسوخ أعلميته من الموحى إليهم كالنبي صلی الله علیه و اله والمعصومين كالأئمة والزهراء علیهم السلام، واستقرارها في أذهانهم بدون أيّ تزعزع، ولطرو ما يزعزع أفكار الفريق الثاني لخطأهم ونسيانهم ونحوهما وتغير معنى الاجتهاد بين الاثنين

إلا أن يقبل خصوص معنى التساوي بين المجتهدين، إذا ما تعددوا من الفريق الثاني إذا تشابهت قدراتهم وفعالياتهم الاجتهادية الاصطلاحية، وإلى حد الملكة في كل منهم.

ومما قد يستفاد من حالة المقارنة بين الآيتين معنى النصح والتنبيه الوعظي لذوي الفريق الثاني بنسبة أكثر من كلا الاثنين بالخضوع، وضرورة التواضع للعلم والعلماء، للنقد عن الجهل وأهمية تجنب الإعجاب بالنفس، وخطورة التسرع بالإفتاء، إذا عرف من نفسه- ومن قرائن ذلك - أنه صار مجتهداً، وبالاحتياط في

ص: 427


1- سورة الإسراء / آية 85

مواطن الشبهات، وبالإكثار من التمسك بوصايا النبي صلی الله علیه و اله و سلم وآله المعصومين علیهم السلام.

ولذلك حقق في أصول الإمامية عدم جواز أن يقلد مجتهد من الفريق الثاني مثيلاً له من نفس الفريق، لطوارئ التزعزع، بسبب بعض الأخطاء.

بينما الفريق الأول هم قدوة مجتهدينا في جميع المجالات بدون أي تقليد منا لهم كما مر وعلى ما سيتضح قريباً بأعلميتهم الراسخة فيهم، لكونه إتباعاً عقائدياً وإطاعة.

ولكن لم يفهم حتى اللحظة العلمية هذه أن إدراك الأعلمية دقيا هل يمكن إحرازه في اجتهاد فقيه نال علومه بالسطحيّات لو حاز علوماً عديدة؟

أم بالدقيات كمثل التخصص بالفقه والأصول فقط؟ وكانت جميع تحصيلاته في معرض أن يصيبها خطأ ونحوه.

أم عن خصوص طريق أهل الوحي والإلمام من المعصومين علیهم السلام المذكورين؟

فإن من ألقى نظرة إضافية تأكيدا لما مضى في شأن علم النبي صلی الله علیه و آله من الآيات على مثل قوله تعالى «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(1).

وفي شأن مثل علم الإمام أمير المؤمنين علي الوصي أبي الأئمة علیهم السلام على مثل قوله تعالى الخاص «قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(2) لمدحه علیه السلام دون أعدائه على ما حقق في المصادر المتعدّدة(3)

وفي شأن أصحاب الكساء الخمسة على آية التطهير المعروفة في كونها لهم من

ص: 428


1- سورة النجم / آية 3 - 4 - 5.
2- سورة الرعد / آية 43
3- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 11 ص 383 ، تفسير القرطبي ج9 ص336، البحر المحيط لأبي حيان ج 5 ص 401، شواهد التنزيل ج1 ص 400.

شواهد العصمة والكمال والمنزهة لهم - من كل درن جاهلي كما وكيفاً - وأهلهم ليكونوا قاده الأمم.

وعلى قوله النبي صلی الله علیه و آله في حق أمير المؤمنين علیه السلام المشهور (أعلَمُ اُمَّتي مِن بَعدي عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ)(1)، وقوله صلی الله علیه و اله (عليٌّ بابُ عِلمي و مُبَيِّنٌ لِأُمَّتِي مَا أُرْسِلْتُ بِهِ مِنْ بَعْدِي)(2)، وقوله صلی الله علیه و اله (علي أعلم الأمة وأقضاها)(3) وغيرهما الكثير في حقه "سلام الله عليه".

وقول الإمام الصديق علیه السلام مصدقاً ما قاله النبي صلی الله علیه و آله في حقه من النقل (عَلَّمَني رَسُولُ الله ألْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ يَفْتَحُ لی مِنْ کُلِّ بَابٍ ألْفَ بَابٍ)(4).

وقوله ناصحاً من تحت منبره مرات وبعبارات شتّى متقاربة (سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی)(5)

ص: 429


1- المناقب للخوارزمي ص: 82 ، وكنز العمال ج :11 ص 614 ح23977.
2- الجامع الصحيح للتّرمذي ج ص 212 وحلية الأولياء لأبي نعيم ج:1 ص64 ، ومصباح السنة للبغوي ج 2 ص 275 ، والطبري في ذخائر العقبي ص: 77، والغزالي في الرسالة العقلية، والعجلوني في كشف الخفاء ج:1 ص 204 ، وكنز العمال ج : 6 ص 156.
3- الفصول المهمة في معرفة الأئمة - ابن الصباغ - ج 1 ص 195، عن كفاية الطالب - للكنجي - 332 ط الغري.
4- بصائر الدرجات ،192 ، الكافي 1: 239 ، الخصال: 572 ، تفسير فخر الرازي 8: 23، مناقب آل أبي طالب 2 / 36 ، كنز العمال 13 / 114.
5- نهج البلاغة تصحيح صبحي صالح الخطبة ،189 ص 280، المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري - ج 2 ص 383 ، المناقب - الخوارزمي - ص92، فرائد ج2 السمطين - الجويني - ج 1 ص 340 - 341 ، شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج2 ص 286، ج 6 ص 136 ، ج 7 ص 57 ، ج 10 ص 14، ج 13 ص 101.

وعلى ما أثر عن الأئمة علیهم السلام قولهم عن شأنهم الجامع العائد إلى شأن النبي صلی الله علیه و آله الذي لم يستثن مقام الزهراء علیهاالسلام والسر المستودع فيها، والحاكي عن شأن مثاباتهم العلمية الراسخة قول أمير المؤمنين علیه السلام لسلمان وأبي ذر رضی الله عنها (أولنا محمد وآخرنا محمد وأوسطنا محمد بل كلنا محمد فلا تفرقوا بيننا، ونحن إذا شئنا شاء الله وإذا كرهنا كره الله ... إلخ)(1).

وقد أفردنا لها في كتبنا العقائدية باباً خاصاً للتحدث حولها تحت عنوان (علم الإمام علیه السلام)، وهو ما يغنينا الأن هنا عن الإطالة فيه بأكثر مما قد ألزمنا أن نلخصه.

وبالتالي فلم نجد مجالاً لأحد من عدو وصديق بعد ما عرف واشتهر عن قول أمير الفصاحة والبلاغة علیه السلام (اَلْعِلْمُ نُقْطَهٌ کَثَّرَهَا اَلْجَاهِلُونَ)(2)، بسبب ما أحدثه المجتهدون السطحيون بتصرفاتهم في مقابل نصوص وحي الله وما حفظه المعصومون علیهم السلام وحووه في بيوتهم الشريفة وهي «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ»(3)

إلا بالإقرار بحصر الأعلمية الثابتة بغير الخطائين من أهل العصمة كما مر، وإن أبرئت فتاوى مجتهدي الخطائين في إصاباتهم الاصطلاحية ذمم كل من رجع إليهم، حتى لو صادفت أعمالهم بعض أخطاء مراجعهم غير المسبوقة بالعمل مثلاً، أو التسبيب على ما سيتضح الأمر فيه في حفل التقليد الآتي قريباً.

وبهذا يمكن القول بضعف تشخيص معنى الموضوعية الثابتة واللائقة للبحث العلمي المنتج لمعنى الأعلمية المأثرة بتقدم أصحابها على من دونهم في الرتبة من غير المعصومين علیهم السلام في غيبة الإمام المنتظر الكبرى عجل الله تعالی فرجه الشریف

ص: 430


1- بحار الأنوار ج 25 ص 363 ح 23، مشارق الأنوار 160.
2- غوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 ص 129.
3- سورة النور / آية 36.

إلا بالمعنى الذي لا علاقة له باشتراطه كأساس لا يتم الترشيح لهذا المرجع أو ذاك إلا به وهو حسن الإدارة لمن له أهلية المرجعية العامة التي لا تنفي صلاحية المرجعية لمن تليق للأخفض، وهي الوسطى مثلاً.

وكذلك الوسطى لا تنفي تلك الصلاحية لمن يليق للصغرى مع التساوي التام في توفر الشرائط الثمانية الماضية في جميع أصحاب المراتب الثلاثة.

فإن الذي قلد ذا الإدارة العامة من إتباع حملة الجماعة الصغرى لم يتضرر عمله، وكذا العكس وكذا ما بين الصغرى والوسطى مع العكس، وإن لزمت كلا من تلك الإدارات الثلاث في كل من مقاماتها الخارجية الخاصة بها وبما لا مماسة مضرة في التبادل المذكور بين بعض أفراد كل منها.

نعم يمكن تشخيص معنى الأعلمية في بعض المجتهدين المتساوين في أصل أهل الملكة من الخطائين في القوة والفعل ممن تزيد عنده الحافظة.

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الأمر الذي تتيسر بين يديه المصادر اللازمة والمذكّرة له بما يمكنه من سرعة الإجابة إن ضعفت عنه الحافظة، وبدون حاجة في الإجابة إلى الاستعجال الأكثر.

وكذلك يمكن حصول شيء من الامتياز على الآخرين بمن يحوى الإبتلائيات وغيرها مع بعض أدلتها.

إلا أنه يمكن أن يجاب بعدم الحاجة العملية إلى ما يزيد، لأهمية انتظار صاحب الامر عجل الله تعالی فرجه الشریف

بل لو تأمل المستحضر بالدقة الأكثر لوجد الباب موصدة أمامه ولوفي الجملة.

نعم يمكن أن يتوفّر في الحوزة من يحوي كل الإبتلائيات مع أدلتها استحضاراً، وهي حالة بينة في الأعلمية مع قلة مصاديقها لو توفّر المصداق، للفرق الواضح بين حالة الاستحضار والجاهزية هذه للإجابة السريعة للمحتاجين وبين البطؤ في الجواب

ص: 431

حين مراجعة المصادر إن احتيج إلى خصوص هذا النحو من الاستعجال وكان للتأخير آفات.

وبهذا يتقدم المستحضر على غيره.

وإن كانت موضوعية البحث باقية على كونها ضعيفة في أن تنتج ما يفيد في موارد عديدة ولو بما يحصل من الفرق بين الدقة والأدق حتى بتقليد علمين أحدهما في العبادات والآخر في المعاملات، ولو بالتفريق بين فكر كل منهما حتى في كون أحدهما مفصلاً والآخر مجملاً.

الخاتمة حول شيء من التعقيب على الشروط الثمانية غير خال من النفع المهم

اعلم أن أصل التقليد بين البشر في الأشياء وكما مر ، وحتى الحركات والسكنات أمر فطري، يقر به في مشاهداته كل عاقل، ويشعر به العقلاء في تصرفاتهم نوعاً، ودون أن يتخلّفوا عن الاعتراف بمضامين معانيه السطحية واللغوية العامة على الأقل في أحاسيسهم وفي الألسنة، كلِّ بحسبه من حيث اللغات واللهجات ونوع مداليلها، في مختلف البقاع من المناطق الجغرافية للمعمورة من حيث الأفعال والحركات، مما هو معقول وما لم تدرك معقوليته، ونحو ذلك مما بين سائر الأمم في نوع أهل القارات الأرضية.

فتعارف بنحو الألفة - غير المستنكرة من حيث المبدأ - أن يأخذ بعضهم من بعض ما لم يضر هذا السطحي من الأخذ إذا تأطر بحساسية مضرة بالمبتدئ، وسر ابتكاره إذا أراد منه صاحبه شهرة منه لنفسه دون غيره من المصالح الخاصة من هذا التقليد.

ص: 432

وهذا النوع في فطريته أقرب إلى ما مر ذكره وما أشرنا إليه من المفاد اللغوي العام، بابتعاده عن المعنى الاصطلاحي الخاص والمرتبط بالفرعيات المحضة الخاضعة، للتّفاوتات النظرية بين فكر وفكر مواضيعاً وأحكاماً، بسبب جوانب الأدلة المتعدّدة و دروبها المختلفة، وبسبب عدم القدرة دوماً على التركيز في الفقهيات على موضوع لم تتوحد مطارح النظر المتحورة في أمره بواحد.

على خلاف ما لو تسالموا على الشيء الواحد والحكم الواحد المرتب عليه، لعدم المشاحة بين الصناع والمبتكرين مهما تعددوا ، لوضوح أجزاء المصنوع والمبتكر بينهم بلا أية سرية مسروقة مضرة.

ويشبه هذا النحو من التقليد اللغوي المسموح به لفطريته ما يمكن إدخاله فيه من الفقهيات الاستدلالية الواضحة في أدلتها وسهولة الإنتاج منها، لأن تلك الأدلة النّصوص دون الظواهر.

بل لا يسمى الاستنتاج منها مع اتضاحه اجتهادا يختص به هذا الفرد أو ذاك كأصل وجوب من الأمر بالإتيان بها، وهكذا الصوم والحج والزَّكاة والخمس وغيرها من العباديات الضرورية التي تعد من الواجبات المأتي بها امتثالاً لوجه الله تعالى لذلك الوضوح عن كل فقيه دون الإتيان بها على نهج ذلك التقليد الفقهي الاصطلاحي، بل بما يشبه التقليد الفطري اللغوي العام.

وليلتزم بها الجميع وإن لزم أن يتعلم أساسياتها الواضحة والضرورية بعضهم من بعض.

على خلاف ما تنتجه الظواهر من الاجتهادات للفروع التي لم تخضع إلا للمعاني الاصطلاحية.

ويشبه فطرية أصل التقليد المذكورة أيضاً شرائط صحته الثمانية المرادة في الاصطلاح واللازم توفرها في الفقيه الجامع لكل الثمانية.

ص: 433

ولذلك لو افتى من فقد من الفقهاء العدالة بعدم اعتبار ما فقده لا يصح تقليده للشَّك في حجية قوله، وعلى الأقل أنه خالف فطرته بين الفطريين، ولأنَّ الأمور الفطرية الموحى بها إلى ذويها مع ضم دليل اشتراط العدالة الفقهي مثلاً أقوى بالبداهة من الاجتهاديات القابلة للوقوع في بعض الأخطاء في بعض الأوقات.

ولا يجوز محاولة إثبات حجية قوله بقوله لأنه مردود عليه بعد تقديم عدم اعتباره، إذ هو باطل كبطلان الدور الظاهر الصريح.

بل لو أفتى الواحد لبعض تلك الشروط - كالعدالة التي ذكرناها في الفرض الماضي بعدم الاعتبار أيضاً - فيشكل اعتبار قوله كذلك إن تسبب من ذلك تشكيك العامي في هذا الاعتبار.

بينما العامي مقيد بلزوم أو وجوب اتصاف الفقيه ببقاءه على كل الشروط الثّمانية وأحدها العدالة بغير تشكيك في الفقهيات المحضة مع الفطريات المسلمة، لاحتمال أن تكون عدالته الموجودة في هذا الفقيه سطحية لا واقعية فيها .

كيف والعامي ممن لا يرتفع شكه إلا باعتقاده بواقعيات هذه المواصفات الثمانية في الفقيه، مع تفقهه بدينه، دون أن يتبدل له رأي في أي منها حسب الفرض.

إضافة إلى أنّ العامي ممن لا تخفى عن نوع فطرته تقيداته بالفطريات إذا اندمجت شروط الفقهيات المحضة مع بعضها.

وسبب ذلك تولد المعنى الاصطلاحي للتقليد حالة اعتبار الشروط كالأصل والأساس للفروع بلا قيمة للشك والتردد في مقابلهما.

أما مع حصول اليقين في نظر الفقيه عن المبنى الثابت الموصل إليه، رفعاً لتفاوت بعض المصاديق الفرعية عنه إذا شذ عرف مخالف للتشخيص بما لا وزن له، فهو المتبع دون غيره لا محالة.

ص: 434

دفع وهم

قد يتوهم - عن براءة أو حسن قصد أو من شبهة بدفع من جهة حزبية مثيرة للفتن المرفوضة ولو عن بعض المغفلين لإشاعة ما يراد الترويج له -

من لزوم كون المرجعية أن تتحلى بنفسها مباشرة بكثرة الكلام الواجب أمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر، أو مطلق النافع منه عند الحاجة إليه، ولو تلبية لرغبة من هب ودب من بعض الغوغائيين، وإن استغل ذلك منه بعض الإعلاميين المشبوهين - وسيلة للتشهير بمقام هذه المرجعية أو تلك - أنها تكلمت بما لا طائل له أو قلصت الكلام لصالح جهة سياسية في البلد الإسلامي المهم، أو للإضرار بجهة سياسية أخرى في نفس ذلك البلد، ولو لكي لا تتحدا فيه، وكلا الجهتين يكنّان الاحترام ويظهرانه لتلك المرجعية.

وإن قل ذلك الكلام منها وبما يكتفي به بلاغياً مع تمام الحكمة إلا أنه كان توصيف من يقلّله من رجالها إن خالف رغبة المروّجين لتلك الفتن بأنَّ حوزتهم صامتة أو غير ناطقة تمشية لما يخططون له، ولو لكي تكون مرجعيتهم غير صالحة للانتماء إليها، أو حتى لو أوقع المشبوهون تلك الناطقة المروج لها في خدمة سياسات .الأعداء

مع أنّ ذلك المرجع المهذب في كلامه إن طابق كلامه معنى (خير الكلام ما قل ودل)، ولم يُلزم نفسه بالأكثر حسب ما يقتضيه تكليفه الشرعي ولم تقتض الحكمة بما يزيد كما قال تعالى «بَلِ اَلْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذيره»(1).

فإن وراءه تلامذته الدعاة ووكلاءه ومعتمدوه الواعظون مع خطباء المنبر الحسيني

ص: 435


1- سورة القيامة / آية 14 - 15.

في عطائه الشافي، إضافة إلى إرشاديات صلاة الجمعة والجماعة وما يدعو إليه ذلك المرجع دوماً بحسب المناسبات الخاصة وبلا هوادة جملة أو تفصيلاً، علم عموم النّاس - أم لم يعلموا - بأهمية التثقيف والتوعيات المتنوعة الحوزوية الداخلة المستمرة بين مختلف طبقات الطلاب والتلامذة.

مع استمرارية عقد الاحتفالات الدينية في الأفراح والأتراح وفي ضمنهما لا بدية عدم التقصير منه أو من غيره في واجبي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء الكفائي منهما أو العيني.

بينما الشروط الثمانية محدودة بحدود ما سعى لضبطها بما مضى ذكره

وإن نوقش في بعض جزئيات أفرادها كالأخير إذا اختلف عرف عن عرف في تشخيص مصداق أصوب عند أحدهما من الخبراء غير أصوب عند الآخر.

وليعلم المتوهم ومن غرر به ودفعه بما أجراه التاريخ المصحح لما بعد اختلاطه قديماً وحديثاً بالتشويه والتشويش المعاديين، كالذي أراده الأمويون المنافقون فينا من الإحراجات لمقام الإمام الحسن السبط علیه السلام و من عاونهم من بعض الخونة الطامعين من أرحامه ضده إلى الصلح، وهو عبيد الله بن العباس "لعنه الله".

حتى أنتج ذلك اختصار كلامه ورضاه بالصلح وجلوسه عن باقي النهوض المقاوم لمعاوية "لعنه الله" مع إحراجه أيضاً له في المقابل بشروط الرضا بالصلح، كما في صلح الحديبية، إن بقي وفيا غير خائن ضد الإمام علیه السلام

بينما الواقع هو العكس تماماً كما عرفه الإمام علیه السلام مسبقاً، حيث بيت له بإحراجه بتلك الشروط حتى أوقعه في فضيحته النّفاقية غير الخفية على المنصفين من مأرخي جماعة معاوية.

وهكذا تتجلى المفارقة بين قضيتي الإمامين العظيمين السبطين المظلومين عليهماالسلام.

حيث جرى مع نفس الجماعة والأكثر من الإحراجات الأموية لأخيه الإمام

ص: 436

الحسين علیه السلام وقيامه بما يلزم في البداية من الأمر مع كثرة الأعداء والخونة وقلة الناصر.

لكن بصفوة الأشاوس وإن قلوا - وإن صالح الإمام الحسن علیه السلام بعد قلة كلامه - فلم يقصر الحسين علیه السلام في كلامه ومقاومته بسيفه وكما قال الشاعر الحسيني الحاج هاشم الكعبي رضی الله عنه(1):-

خلط البراعة الشجا *** عة فالصليل عن الدليل

للسانه وسنانه صد *** قان من طعن وقيل

وقد ثبتت عظمة شأن الإمامين الهمامين علیهماالسلام وما تصديا له فيما أبتليا به من أعداء الإسلام بين قلة الكلام وترك الحرب وبين كثرة الكلام والتصميم على الحرب الدفاعي عن مقولة جدهما صلی الله علیه و اله في حقهما (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(2)

وعليه فلا داعي لتوهم ما يروج له من شعار الحوزة الصامتة ضد الناطقة أو العكس.

ص: 437


1- أدب الطف ج 6 ص 215.
2- حديث متفق عليه بين المسلمين

نهاية المطاف

وإلى هنا ينبغي لنا أن نكتفي بهذا القدر من الكلام عمّا سمّيناه في هذا الجزء في الباب السادس المتعلّق بالمباحث اللبية وبعده مبحث الحجة وطبقاتها وبعدهما مبحث التعادل والترجيح إلى الباب التاسع وهو الاجتهاد والتقليد في الأصول.

حسبما تيسر لي مع تشتّت البال وكثرة الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السابق تقرباً إليه، ولو لأداء أن لا أكون مقصراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النجفية المطهرة لواجب العمل الدؤوب على كلِّ محصل قل أو كثر .

رجاء أن يكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظم صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف للتأييد والتسديد إلى إكمال بقية الأجزاء، ولو كمقدمات يؤمل أن تطرح فيها أو بعدها لطلابها بمقدارها البركات، والله ولي التوفيق.

ليلة الرابع من شهر ذي القعدة الحرام لسنة 1442ه- علاالدين الموسوي الغريفي

ص: 438

المصادر

1. القرآن الكريم

2. الاحتجاج / الطبرسي

3.الأحكام / ابن حزم

4.الأسرار المرفوعة / نور الدين علي القاري

5. الاستبصار / الطوسي

6. الاستيعاب / ابن عبد البر

7.الاعتصام / الشاطبي

8. الإرشاد / الشيخ المفيد

9.البدعة - تعريفها - أنواعها - أحكامها / صالح الفوزان

10.البحر المحيط / أبي حيان

11. البيان والتبيان / الجاحظ

12. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي

13. الدر المنثور / السيوطي

14. الجامع الصحيح / الترمذي

15. الجامع الصغير / السيوطي

16. الجوهرة النيرة على مختصر القدورى في الفقه الحنفي / أبو بكر العبادي الزبيدي

17. الوافي / الفيض الكاشاني

18. الكافي / الشيخ الكليني

19. الكشكول / البحراني

20. المبسوط / السرخسي الحنفي

ص: 439

21. المواقف في علم الكلام العضد الإيجي

22. الموطأ / الإمام مالك

23. الميزان في تفسير القرآن / الطباطبائي

24. المكاسب/ الشيخ الأنصاري

25.المناقب / ابن شهر آشوب

26. المناقب / الخوارزمي

27. المستدرك / للحاكم النيسابوري

28. المستصفى / الغزالي

29.المعجم الكبير للطبراني

30. المعتبر / المحقق الحلي

31.المصالح المرسلة / أبو جابر الجزائري

32. المصنف / ابن أبي شيبة

33. المقاصد الحسنة / السخاوي

34.النّص والاجتهاد / شرف الدين

35. السنة / ابن أبي عاصم

36.السيرة الحلبية / علي برهان الدين الحلبي الشافعي

37.العلم والحكمة في الكتاب والسنة / محمد الريشهري

38.الفقه على المذاهب الأربعة / الجزيري

39. الفروق / القرافي

40.الفتاوى الكبرى / ابن تيمية

41. الفصول المهمة في معرفة الأئمة / ابن الصباغ

42.الفردوس الأعلى / كاشف الغطاء

43. الصواعق المحرقة / ابن حجر

ص: 440

44. الروض النضير / محمد بن أحمد بن عبدالله المتولي

45. الرياض النضرة / الطبري

46. الرحمة / سعد بن عبد الله

47. الرسالة العقلية / الغزالي

48. التهذيب / الطوسي

49. التوحيد / الصدوق

50. التنقيح في شرح العروة الوثقى / تقريرات الشيخ الغروي

51. الخصال / الصدوق

52. الذريعة في أصول الشريعة / السيد المرتضى

53. الغدير / الأميني

54. أصول / ابن برهان

55. أصول الكافي / الكليني

56.أصول الفقه / الشيخ المظفر

57. إرشاد الساري / القسطلاني

58. أضواء على مصحف عثمان / سحر عبد العزيز سالم

59.بدائع الصنائع / أبي بكر الكاشاني

60.بحار الأنوار / المجلسي

61. بصائر الدرجات / لمحمد بن الحسن الصفار

62. جامع العلوم والحكم / الحافظ ابن رجب الحنبلي

63. جامع العلم / ابن عبد البر

64. جواهر الكلام / الجواهري

65. دلائل الصدق / الشيخ محمد حسن المظفر

66 وسائل الشيعة / الحر العاملي

ص: 441

67. وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى / العلامة السمهودي الشافعي

68. وفيات الأعيان / ابن خلكان

69. زاد المعاد / ابن القيم

70. زين الفتى / العاصمي

71. حلية الأولياء / أبي نعيم

72. طبقات ابن سعد

73. ينابيع المودة / القندوزي الحنفي

74. كمال الدين وتمام النعمة / الشيخ الصدوق

75.كنز العمال / المتقى بن حسام الدين الهندي

76.كنز الفوائد / أبو الفتح الكراجكي

77. كفاية الطالب / الكنجي

78. کشف الخفاء / العجلوني

79. لسان الميزان / الحافظ ابن حجر العسقلاني

80. لسان العرب / ابن منظور الأنصاري

81. مباني تكملة المنهاج / السيد الخوئي

82. مجمع البيان / الطبرسي

83.مجمع البحرين / الطريحي

84. مهذب الأحكام / السيد السبزواري

85. موقف الإمام الشافعي من سد الذرائع / حارث محمد العيسى والدكتور أحمد غالب

86.موسوعة عبد الله بن عباس / السيد محمد مهدي الخرسان

87. مطارح الأنظار / الشيخ الأنصاري

88.میزان الاعتدال / الذهبي

89.ميزان الحكمة / الريشهري

ص: 442

90. مناهج الأحكام والأصول / الفاضل النراقي

91. منية المريد / الشهيد الثاني

92. من لا يحضره الفقيه / الصدوق

93. منتخب كنز العمال / المتقي الهندي

94. مسائل علي بن جعفر

95. مسند أحمد ابن حنبل

96. مستدرك الوسائل / النوري

97. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة / محمد حسين الجيزاني

98. معاني الأخبار / الصدوق

99. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة / السيد العاملي

100. مصابيح الأنوار / السيد عبد الله شبر

101. مصباح السنة / البغوي

102. مصباح الفقاهة / السيد الخوئي

103. مقدمة مرآة العقول / مرتضى العسكري

104. مشارق أنوار اليقين / الحافظ البرسي

105. نهج البلاغة

106. نيل الأوطار / الشوكاني

107. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي / أحمد الريسوني

108. سد الذرائع / أحمد محمد المقري

109. سلسلة الأحاديث الضعيفة / للمحدث الألباني

110. سنن الإمام أحمد

111. سنن أبي يعلى

112 سنن ابن ماجه

ص: 443

113. سنن الدارمي

114. سنن الدارقطني

115. سنن الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي

116. سنن النسائي

117. سنن الترمذي

118. عدة الأصول / الشيخ الطوسي

119. عيون أخبار الرضا / الصدوق

120. فوائد الأصول / الشيخ محمد على الكاظمي

121. فيض القدير / محمد عبد الرؤوف المناوي

122. فرائد الأصول/ الأنصاري

123. فرائد السمطين / الجويني

124. فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني

125. صحيح البخاري

126. صحيح الترمذي

127. صحیح مسلم

128 صفات الشيعة / الشيخ الصدوق

129. قواعد الأحكام / العلامة الحلي

130. قرب الإسناد / الحميري القمي

131. رسائل السيد الخميني

132. شواهد التنزيل / الحسكاني

133. شرح أصول الكافي / مولي محمد صالح المازندراني

134. شرح المواهب / الزرقاني

135. شرح المواقف / القاضي الجرجاني

ص: 444

136 . شرح التجريد / القوشجي

137. شرح معاني الآثار / الطحاوي

138. شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد

139. شرح نهج البلاغة / الحائري

140. تاج العروس / مرتضى الزبيدي

141. تبصرة الحكام / ابن فرحون

142. تهذيب الأحكام / الطوسي

143. تهذيب الأصول / السيد السبزواري

144. تلخيص الشافي / الطُّوس

145. تمام المتون / الصفدي

146. تفسير الطبري

147. تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا

148. تفسير الفخر الرازي الكبير

149. تفسير القرطبي

150. تذكرة الحفاظ / الذهبي

151. تذكرة الموضوعات / الفتني

152. ثواب الأعمال / ابن بابويه القمي

153. خمسون ومائة صحابي مختلق / السيد مرتضى العسكري

154. ذخائر العقبي / الطبري

155. غوالي اللئالي / ابن أبي جمهور الأحسائي

156. غرر الحكم / الشيخ عبد الواحد التميمي الآمدي

ص: 445

فهرس

1 - كلمة الناشر...3

2- المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الرابع...5

3-الباب السادس (الإجماع اللبي والعقل اللُّبي)...7

4-المقدمة الأولى: (تتمة الأركان الأربعة وهي الدليلان اللبيان الإجماع - والعقل)...7

5-المقدّمة الثانية: الحجّة الدامغة بين الألفاظ والألباب لعموم وإطلاق الأركان الأربعة...8

6- هل تأثير موضوعية لبية الإجماع والعقل في الجملة أم بالجملة؟...16

7-المبحث الأول / (الإجماع)...18

8- الفصل الأول: المعنى اللغوي...18

9- الفصل الثاني: المعنى الاصطلاحي الخاص...25

10 - الطريق الأول: الإجماع المسمى بالدخولي...25

11 - الطريق الثَّاني : الإجماع اللطفي...28

12 - الطّريق الثالث: الإجماع الحدسي...32

13 - الطَّريق الرابع: الإجماع التقريري...34

14 - الطريق الخامس : الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر...35

15 - الطريق السادس: الإجماع الكاشف عن القاعدة...36

16 - الطريق السابع: الإجماع المنسوب إلى القدماء...36

17 - الطريق الثامن : الإجماع القهري الانطباقي...37

18 - الطَّريق التّاسع: الإجماع الاحتفاظي...37

ص: 446

19 - الطريق العاشر : الإجماع الاختلافي...38

20 - علاقة المعنى اللغوي للإجماع بالمعنى الاصطلاحي...39

21 - الإجماع الإمامي اللبي بين محصل ومنقول...41

22 - الإجماع المنقول بخبر الواحد...47

23 - القول الأول: أنه حجة مطلقاً...50

24 - القول الثاني: نفي الحجية مطلقاً...52

25 - القول الثالث: التفصيل بين الإجماع الحدسي والمنقول بقاعدة اللطف...53

26 - (الخاتمة حول مقدار حجية الإجماع اللبي)...55

27 - (مناسبة ذكر الشهرة بعد الإجماع) الشهرة العملية...56

28 - أقسام الشهرة...57

29 - الأولى / الشهرة الروائية...57

30 - الثانية / الشُّهرة العملية الإسناديَّة...58

31 - الثَّالث / الشهرة الفتوائية المجردة...60

32 - السيرة...64

33 - انقسام السيرة إلى قسمين...67

34 - السيرة العقلائية العامة...67

35 - حجية سيرة المتشرعة خاصة...72

36 - المبحث الثاني / (العقل)...78

37 - الفصل الأول / (العقل في دلالته اللبيَّة)...78

38 - توضيح ما مضى بأسلوب آخر مع بعض الإضافات النافعة...80

39-تقييم ما يستحق من الكلام عن العقل على ضوء التحسين والتقبيح العقليين مع نزاع الموافقة والمعارضة وبعض التوضيح...89

ص: 447

استعراض رأيي الفريقين والبحث حولهما ثم الوصول بعده إلى الأصوب مما بينهما...91

41 - رد أو مناقشة قول الأشاعرة...98

42 - قول العدلية وما يستحقه كلامهم مناقشة أو حتّى في الجملة...110

43 - (المنزلة بين المنزلتين)...114

44 - (أسباب القياس التمثيلي وما يلحق به لمنعه)...119

45 - (استعمال أبي حنيفة القياس التمثيلي)...128

46 - (عملية تنقيح المناط)...129

47 - (عملية المصالح المرسلة)...131

48 - الإجابة عن أمثلة المصالح المرسلة...140

49 - (عملية سد الذرائع وإبطال الحيل)...144

50 - خلاصة الكلام عن حجية العقل اللبي...174

51 - لا حجية في قول المؤرخ إلا في الجملة من حيث المنقول والمعقول...175

52 - الباب السابع: بحوث الحجة...177

53- الحجة الأصولية بين آيات الله وسنة النبي والعترة الأطياب وبين الإجماع وعقول ذوي المعقول من أولي الألباب...177

54 - مواطن الحاجة إلى ما يستحق من الاحتجاج به من الموارد اللفظية...178

55 - مناشيء القوة والضعف في الاستدلال للحجية...180

56 - الأول (العلم)...182

57 - الثاني: العلم مع القطع ، أم القطع العلمي ، أم الأقل ايضاً ؟...183

58 - الثَّالث: (العلمي)...190

59 - الرابع: (الظَّن العام أو المطلق)...192

60 - الخامس خصوص (الظن الضعيف)...

ص: 448

(التدرج والتدرك في أمور العلم والعلمي والقطع المصاحب له وما دون ذلك)...201

62- أولهما : وهو (خبر الواحد الضعيف وإن صح سنده)...201

63 - ثانيهما: وهو ما حول معنى الظَّن الاختلاجي المجرد من القرينة...204

64 - السادس: حالة (الشَّك)...208

65-(محاولة الاحتجاج والتعبد بما دون العلم ما مضى ولو بالتسنيد الإجمالي له)...212

66 - السابع: (الوهم المرجوح وجهل الحماقة وما دونها)...227

67 - (جهل الحماقة)...231

68 - (الجاهل المقصر)...234

69 - (الجاهل القاصر)...235

70- (زبدة مخض ما مضى)...240

71-هل مقومات الحجية المعتمدة خصوص العصمة أم الأقل كذلك بالاعتبار ومشكلة التّخطئة و التّصويب)...243

72 - (قضيّة التّخطئة والتصويب بين الإمامية وغيرهم)...253

73 - الباب الثَّامن: التعادل والترجيح أو تعارض الأدلة...257

74 - التمهيد الأول: حول سبب عدم تأخير الكلام الأول إلى هذا البحث...257

75-التمهيد الثَّاني: سبب اختيارنا لعنوان البحث أعلاه وترك ما عبر به القدامى من عبارة (التعادل والترجيح)...262

76-المبحث الثاني (جواب المقارنة بين ما جاء به القدامى من "التعادل" وبين ما جئنا به نحن أيضاً مثلهم)...263

ص: 449

المبحث الثالث: (جواب المقارنة بين تعبير القدامى ب-(التعادل) وما قلنا نحن به

77-أيضاً معهم وتعبيرنا الخاص بالتعارض واحتمال معنى الإضراب فيه بسبب التزاحم بينه وبين التعادل)...267

78-المبحث الرابع: (جواب المقارنة بين مختارنا مع بعض السابقين من لفظ "الترجيح" بدون الألف وبين اختيار القدامى للتراجيح معها)...269

79 - المبحث الخامس: (التعارض في الأدلة وخواصه المميّزة له عن التزاحم)...273

80 - المبحث السادس: شروط التعارض الخاصة...278

81 - المبحث السابع: الفرق بين التعارض والتزاحم...287

82 - المبحث الثامن: مشخصات التزاحم بخواصه الأكثر وقواعد الترجيح عليه. عليه...289

83 - المبحث التاسع : قواعد الترجيح في بعض حالات التزاحم...291

84 - المبحث العاشر: خلاصة ما مضى ذكره من القواعد الستة للتزاحم...301

85- المبحث الحادي عشر: ماذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عن الحكومة والورود والمناسبة للمقام...302

86-المبحث الثاني عشر : ماذا قال المتعرضون كالشيخ قدس سره ومن سبقه لخصوص الحكومة...306

87 - المبحث الثالث عشر : ماذا قال السابقون عند تعرضهم الخصوص أمر الورود...313

88-المبحث الرابع عشر: ما هي القاعدة في التعارض المستقر هل هي التساقط أم التخيير؟...314

89-المبحث الخامس عشر: ما المقصود عندهم من كون (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح)؟ وما هي وظيفتنا؟...319

90-المبحث السادس عشر: انحصار كون القاعدة السابقة في العرف الدلالي دون التبرعي...324

ص: 450

91-المبحث السابع عشر : عود الكلام عن التعارض قبل الاستقرار مع العلاجات بما هو أدق...331

92 - المبحث الثامن عشر: أخبار الترجيح في أمور...353

92 - الأمر الأول: مورد الحاجة إلى المرجحات في الخبرين المتعارضين...353

93 - الأمر الثاني: العمدة من تلك الأخبار في هذا المورد...354

94 - الأمر الثالث: ملحقات المقبولة...355

95- الأمر الرابع: دفاعيات أخرى عن بعض ما قيل من المناقشات لبعض مضامين المقبولة الرئيسية في المقام...356

96 - الأمر الخامس المرجحات الخمس...361

97 - أ - الترجيح بالصفات...362

98 - ب - الترجيح بالشهرة...362

99 - ح - الترجيح بما يوافق الكتاب...362

100 - د - الترجيح بما يخالف العامة...366

101 - ه-: الترجيح بالأحدث...368

102 - التفاضل العلمي العملي في مرجحات ما بين الأدلة / المقدمة...372

103- ذو المقدمة...373

104 - خلاصة الكلام عن المرجحات...374

105 - الباب التاسع: الاجتهاد والتقليد في علم الأصول...383

106 - الأوّل: المقدّمة...383

107- الثاني موارد ذكر هذه العلوم الثلاثة...383

108-الثالث: الاجتهاد والتقليد والاحتياط في اللغة مع موارد الاشتراك العام فيما بينها كذلك...385

ص: 451

109 - الرابع موارد الحاجة الملحة...386

110 - الخامس: معنى الاجتهاد الاصطلاحي...388

111 - السادس: التّجزي والإطلاق في الاجتهاد...392

112 - السابع: التخطئة والتصويب...395

113 - الثامن: الكلام حول التقليد الاصطلاحي...400

114 - التاسع: شرائط مرجع التقليد الثمانية أو التسعة مع اجتهاده...404

115 - مقدمة: حول شيء من مرجعية التقليد الاجتهادي...404

116 - (ذي المقدمة)...406

117 - الشرط الأول: العلم الاجتهادي الكامل...407

118- الشرط الثاني: الرجولة والحرية وطهارة المولد...408

119 - الشرط الثالث: البلوغ والعقل...412

120 - الشَّرط الرابع: الإيمان...415

121 - الشرط الخامس: العدالة...417

122- الشرط السادس: مخالفة الهوى...418

123- الشرط السابع: الحياة...421

124 - الشرط الثَّامن: حسن السليقة...423

125-الشَّرط التّاسع إلحاقاً : هل للأعلمية علمياً لا موضوعياً لازمة في شأن مرجع التقليد...425

126-الخاتمة: حول شيء من التعقيب على الشروط الثمانية غير خال من النفع المهم...432

127- دفع وهم...435

128 - نهاية المطاف...437

ص: 452

129 - المصادر...439

115 - فهرس...445

ص: 453

موسسة العلامة الفقيه السَّيَد حَسَینَ الغَريفى قدس سره نالثقافیة

العراق / النجف الأشرف / نهاية شارع الرسول (صلی الله علیه و اله) / الجديدة الثانية /محلة 212 / زقافه /1

جوال: 07801010517 ، 07827760880 ، 07813015930

www.ghoraifi-alnajaf.org // E-mail:alghonyah@hotmail.com

ص: 454

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.