مساعي الوصول الى المثمرات من الأصول المجلد 1

هوية الکتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

ص: 1

اشارة

ص: 2

كلمة النَّاشر

وبه نستعين

الحمد لله الَّذي نوَّر وهدى ذوي العقول والألباب، وأشَّع عليهم بسواطع السنَّة والكتاب، فأحكم فيهما الفروع بالأصول في كلِّ مدخل وباب، والصّلاة والسَّلام على من أرسله لإيضاح مناهجه وبيان ضوابطه بالحكمة وفصل الخطاب، وعلى أهل بيته مفاتيح الحكم ومصابيح الظلم الميامين الأطياب، سيّما باب مدينة علمه سيّد أولي الألباب، وبعد:-

فلما كانت الأحكام الشَّرعيَّة والفقهيَّات - من الطَّهارة إلى الدِّيات - مفتقرة إلى مبانٍوأصول مختصَّة تقع كبرى في قياس استنباطها على دقّة مسالكها وصعوبة فهم مداركها، كصغرى ظهور صيغة الأمر للوجوب في مباحث الألفاظ - بناءاً على أنَّها من الأصول - وكبراها مبحث حجيَّة الظهور.

حيث أنَّ النَّتائج المستحصلة من هذه المباحث والمباني تعتبر قانوناً كليَّاً تتفرَّع منها مسائل متعدِّدة قد تتعدَّى العشرات بل المئات بأبوابها المختلفة وأقسامها المتباينة.

وبما أنَّ فيها من محاسن النكت وملفتات الأنظار، ولطائف معانٍ تدق دونها الأفكار، وهو غاية ما ينتهي إليها فكر النظَّار، والضالَّة الَّتي يطلبها غاصة البحار.

لذا بادر فقهاء وأصولِّيو الأمصار والأعصار - في كلّ دور من الأدوار - إلى ترتيب فصولها وتمهيد قواعدها، وإحكام قوانينها، وتبيين ضوابطها وتقييد شواردها.

فعقدوا لكل منها مبحثاً مستقلاًّ، سواء كان في إلقاء محاضراتهم وبحوثهم أو في كتاباتهم وتدويناتهم، ومن ثمَّ جمعوها في علم مستقل، أسموه (علم أصول الفقه)، ممَّا

ص: 3

جعل له بين العلوم مع الفقه من علو الرتبة وسمو المرتبة والمكانة الجسيمة المنيفة والميزة الشَّريفة ما تصل بمن خاض هذا المضمار من حسن التَّوفيق والتَّسديد للسَّداد إلى خير مرتبة من الاستنباط والاجتهاد.

ومن المعلوم أنَّ لكل منهم أسلوبه ونهجه في بيان فكره ونظريَّاته، ومنه يُفهم كلامه مع تدويناته ويُعلم مقصده ومراده من أطروحاته.

فللّه دَرّهم من أفذاذ قد ورثوا الأنبياء والأوصياء فتلقّوا وأذعنوا، وبرعوا فأتقنوا، وصنَّفوا وأفادوا بما تفنَّنوا، فجزاهم الله من خيراته وجنانه ما بّوأهم بحبوحات رضوانه.

وممَّن تصدَّى للغور في بحوره سماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمى السِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دامت إفاداته" لالتقاط لآلئه وكنوزه، وقد خطَّه يراعه الشَّريف وسطَّره قلمه المنيف بعد ما أملاه من خلال محاضراته وبحوثه الَّتي ألقاها على طلاَّبه وتلامذته في دورته الأولى الخاصَّة بآيات الأحكام، وهذه الدَّورة الثَّانية بما سمَّاها (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) في جزئه الأوَّل، ليليه الجزء الثَّاني قريباً بإذن الله.

وقد لوحظ فيه أنَّ سماحته "دام ظلُّه" قد أضاف مواضيع تحت عناوين قد لا يكون بعضها مألوفاً لمحض الأصول، إلاَّ أنَّها تحمل في طيَّاتها بعض المطالب الَّتي يعرفها أهل المعرفة والاختصاص، قد تكون مدعاة للتَّفكير في كيفيَّة إمكان معالجة وتطوير الأصول الَّتي تنجح المطالب الفقهيَّة، لتكون الأقرب إلى غاية ما يرضي الله والنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت الطَّاهرين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والأبعد عن وضع الوضَّاعين.

كما أنَّ البارز في بحوث سماحته "دامت إفاضاته" في المواضيع الأصوليَّة - وحتَّى في غيرها كما هو معروف عنه في كافَّة محاضراته البيانيَّة وأطروحاته التَّدوينيَّة - الجنبة العقائديَّة الخاصَّة في بيان أحقيَّة مسلك النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وفقهاء وأصوليِّي مذهبهم الحنيف مع الحفاظ على قدسيَّة نصوص الشَّريعة من الكتاب والسنَّة ومكانتها

ص: 4

السَّاميَّة الَّتي امتازت على الشَّرائع السَّماويَّة السَّابقة.وكان لمؤسسَّتنا (مؤسَّسة العلاَّمة الفقيه السيِّد حسين الغريفي قدس سره) الفخر والاعتزاز أن تستأذن من سماحة سيِّدنا المفدَّى دام ظله في إبرازه ونشره لتعميم الفائدة والاستفادة، نسأله تعالى أن يمتِّعه بالصَّحة والعافية ويديم علينا إفاضاته الفكريَّة والعلميَّة.

كما نسأله أن يكون عملنا هذا في ميزان حسناتنا ومقبولاً بأحسن القبول في ساحة إمام زماننا الحجة ابن الحسن المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]، وآخر دعوانا أن

[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]

النَّاشر

ص: 5

المقدِّمة

الحمد لله ربِّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، ومتحفهم تكريماً وتشريفاً بالعقل والدِّين ومنقذهم بشرائعه السَّماوية والصُّحف والألواح والكتب الإلهيَّة على يد أخير الخيرة من الأنبياء والمرسلين، المشَّرفين بآخرهم وخاتمهم الصَّادق الأمين، محمَّد المصطفى لقرآنه المبين وبقيَّة معاجزه لكافَّة النَّاس والمؤمنين الَّذي أصَّل به وبعترته كل أصل ثمين وفرَّع به وبهم كل فرع متين، والصَّلاة والسَّلام الدَّائمين على نبي إسلامنا ورسول مبادئنا والخيرة من آله وصفوته من عترته الأئمَّة المعصومين، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم ومبغضيهم من كل آن وهذا الآن إلى قيام يوم الدِّين باليقين، وبعد:-

فإنَّ من غاية المنى قبول التَّشرُّف بالسَّعي الحثيث المتواضع متى سمح المجال في هذا الوقت الضيِّق بكثرة الأشغال الحوزويَّة وغيرها وبالعافية المتمنَّى من المولى تعالى الوصول إلى ما يعيننا من أحسنها على مشاركة أقراننا "رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين" في تدوين ما وصل إليه ذهننا القاصر في الفقه والأصول وغيرهما قبل السِّجن الَّذي ابتلينا به من الأعداء الظلمة وأهل النُّصب والكفر وبعده وبعض ما بين الفترتين وبعد جمع الأوراق والدَّفاتر المبعثرة لتجهيرها للطَّبع وبالأخص الآن وحسب رغبة الأولاد وغيرهم من أفاضل طلاَّبنا فيما يتعلَّق بمباحثنا الأصوليَّة وهي المتزامنة مع إلقائها دروساً عليهم بمستوى بحث الخارج، عسى أن يسعفنا الحظ والتَّوفيق بقبول أهل الفضل من زملائنا الأعلام، وليستفيد منها من كان قابلاً للاستفادة، وليتذكَّر بها أو لنقدها

ص: 6

العارفون المحبُّون، وهي تحت عنوان سميَّناه (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول).

وكان بعض هذه البحوث داخلاً في دورتنا الأولى المرتبطة بأصول آيات الأحكام وهي بعض من مباحث الألفاظ، وقد بدأنا بالجزء الأوَّل المتكوِّن بعد الدِّيباجة من الباب الأوَّل الَّذي فيه تمهيدات في مجموعة مداخل تطلب الحل الكامل من البحوث الأصوليَّة الَّتي نعرضها إلى الأخير أو تقوى بها، وهذه المداخل المتيسِّرة في هذا الجزء اثنا عشر مدخلاً، أوَّلها تأريخ علم الأصول.

والباب الثَّاني الَّذي فيه ما يسمَّى بالمبادئ أو مقدِّمات مباحث الألفاظ.

ويليه الجزء الثَّاني وهو الخاص بمباحث الألفاظ وملحقاتها ونتمنَّى طباعته بأقرب وقت وإلى آخر أجزاء هذه المعلومات الأصوليَّة المتعارفة، وقد أوجزناها في الفهرست الَّذي في بداية هذا الجزء بعد المداخل، وإن فاتنا عنوان أو أكثر من بعض العناوين المناسبة الأخرى فسوف يكون اتِّخاذ القرار في إضافتها إلى الطَّبعات الأخرى الآتية إنشاء الله تعالى، والله المستعان وهو ولي التَّوفيق الدَّائم.الفقير إلى الله الغني المغني

الأقل

علاء الدِّين الموسوي

الغريفي

ص: 7

الباب الأول في التَّمهيد في مداخل

المدخل الأوَّل:

تأريخ علم أصول الفقه ومدى الحاجة إليه في خلاصة أدواره

إنَّ الكلام عن زمن علم الأصول الأوَّل إن ثبتت علميَّته من القديم حتَّى هذا الحين واسع وطويل وليس بمتناول اليدين حتَّى ما هو عليه من الاختصار الكثير في الزَّمن الأوَّل في الحاجة إلى التَّطبيق الدَّقيق لسلامة فطرة الأوائل.

وكذا السِّعة المتفاوتة بين التَّوسُّط والأوسعيَّة وإلى حدِّ الخطورة في هذا الحين، إلاَّ إذا قصد منه خصوص الأصول الأصيلة ممَّا قد نبَّه عليه المحقِّقون الأتقياء من أعلامه ما دام الفقه السَّامي الأصيل في نفسه بدأ قبل ذلك واضحاً بجهابذته الإلهيِّين من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ عن طريق ما قد يُسمَّى باللِّسان الآخر بالأصول الأصيلة المختلفة بعض الشَّيء عن الأصول الصِّناعيَّة المتعارفة اليوم، لكون الأولى مبتنية على ما يستفاد لذلك من أصول الكتاب والسنَّة وتوجيهاتهما.

ولذا يُغنينا الاقتصار على المهمَّات المسلَّمة بين الكل المتَّبعة للفقه الأصيل على حاله مهما اعترى أصوله الأصيلة الواردة في الجوامع والمجامع بعد الكتاب من بعض الضِّياع والتَّبعثر على ما سوف يتَّضح في البحوث الآتية من دون إدخال العقل المستقل للسَّيطرة على الأمور، كي يكون هو المشرِّع دون مصادر الشَّرع نفسه مع العقل التَّابع، لأهميَّة ما بقي من مصادره فلن تكون الحاجة الأكثر إلى الوصول الأنجح إلاَّ إلى تلك المهمَّات من

ص: 8

الأصول.

فبدأ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعدما بدأ التَّشريع السَّماوي في القرآن وتلته شروح السنَّة المطهَّرة للمجملات من الآيات ومعه الأطهار من آله والحفظة من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حيث جاء بآيات خير البيان وهي عديدة وبلغة الضَّاد حيث قال صلی الله علیه و آله و سلم في حديثه المشهور (أنا أفصح من نطق بالضَّاد بيد أنِّي من قريش واسترضعت في بني سعد)(1).

وهي من مبادئ الأصول اللَّفظيَّة المدركة عند كل من يعرف اللغة العربيَّة في فطرته أو بعد ما يتعلَّمها الآخرون، وعُرف عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إمام الفصاحة والبلاغة بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم قوله (وقد أوتينا فصل الخطاب)(2).

وكانت الأصول في رواياتها عن الأئمَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبتوسُّع علمي على اختصاره آنذاك بادية بعد ذلك من أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ لتعليم أبي الأسود الدُّؤلي ومن أبي الأسود إلى الخليل الفراهيدي ومن الخليل إلى سيبويه صاحب الكتاب وأمثاله بأصول الأدبيَّات الأصوليَّة اللَّفظيَّة المحتاج إليها باعتبار أنَّ الألفاظ قوالب المعاني.

للخلاص من تغيير الأعاجم لألفاظها من كثرة الاحتكاك بأبناء هذه اللُّغة الأقحاح وأتباعهم وحجبهم عن أن يؤثِّروا على النُّصوص الشَّريفة من الكتاب والسنَّة والقدرة على فهمها وفي الخصوص آيات وروايات الأحكام المليئة بقواعد الأصول والفقه المعتمدة من الَّتي لا يخفى على المتتبِّع قبل التَّوسُّع الجديد ومن الإمامين الباقرين

ص: 9


1- المزهر للسُّيوطي، ج1، ص209، ومغني اللَّبيب ج1 باب "بيد".
2- كما ورد عن أبي الصلت الهروي قال : (كان الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ يكلِّم النَّاس بلغاتهم، وكان وألله أفصح النَّاس وأعلمهم بكل لسان ولغة، فقلت له يوماً: يا بن رسول ألله إنِّي لأعجب من معرفتك بهذه اللُّغات على اختلافها فقال: يا أبا الصَّلت أنَّا حجَّة ألله على خلقه، وما كان ألله ليتَّخذ حجَّة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم، أو ما بلغك قول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ "أوتينا فصل الخطاب" وهل فصل الخطاب إلا معرفة اللُّغات) كشف الغمة: ص 277.

الصَّادقين عَلَيْهِما السَّلاَمُ فيما ذكروه ورووه من الرِّوايات العلاجيَّة في روايات تعارض الأدلَّة وغيرها.

لئلاَّ تفهم الأمور فهم الخلط بالأعجميَّات الَّتي لم يردها الشَّارع المقدَّس، لئلاَّ يلحد بالمشرِّع تعالى وهو أبسط المخاطر الَّتي أشارت إليها الآية في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](1).

وأمثال ذلك من فهميَّات أصحابها المعوجَّة، بحيث لو راجعنا تلك الرِّوايات لوجدنا أكثرها أو الكثير منها قواعد تُغني الفقيه الأصولي عن الخروج من النُّصوص المهذَّبة والمرتَّبة إلى العقل الممنوع جعله في نفس الأصول المهذَّبة حاكماً في مقابل الشَّرع الكامل.

ولذا ورد عن هشام ابن الحكم ما يتعلَّق بالأصول المتاخمة لنصوصها، لأنَّه من أجلِّ رواة رواياتها المعروفين، وكذا ما رتبَّه الحسن ابن علي ابن أبي عقيل ومحمد ابن أحمد ابن الجنيد الإسكافي في القرن الرَّابع.

بل عرف عن الشَّيخ المفيد قدس سره ما كتبه عن الأصول وكذا من عاصره من القدامى وهوالسيِّد المرتضى قدس سره في كتابه (الذَّريعة) والشَّيخ الطَّوسي قدس سره شيء من هذا القبيل بكتابه المختصر المسمَّى ب- (العدَّة).

وعرف عن الفقهاء القدامى أيضاً أنَّهم كانوا يوردون من الأصول لهم ولغيرهم كل ما دعت الحاجة إلى شيء منها الأقرب فالأقرب إلى وزن النُّصوص من الكتاب والسنَّة وقواعدهما الفقهيَّة والأصوليَّة، لأعميَّة وأهميَّة الفقه وأخصيَّة الأصول إن أريد منها الأوسعيَّة ممَّا ذكرنا آنفاً كما سيجيء.

وبعد ذلك عرف للمحقِّق الحلِّي قدس سره من هذا القبيل (نهج الوصول إلى علم الأصول) وكذا ما كتبه العلاَّمة قدس سره بأكثر من كتاب ومن ذلك كتاب (التَّقريب في أصول التَّهذيب).

ص: 10


1- سورة النحل / آية 301.

إلى أن جاء دور الحاجة بعد الأزمنة القديمة إلى تقدُّم الأصول الحديثة في الرُّتبة الدَّرسيَّة، لأشرفيَّة الغاية الفقهيَّة بعد علم الكلام والعقائد حينما ابتعد الزَّمن عن عصر المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والعصور الَّتي التزم الكثير السَّير على نهجهم وإن ساعد على ذلك سلامة الأكثر من النُّصوص الشَّريفة من السنَّة من أزمتنا هذه.

لأنَّ في الزَّمن القديم لابدَّ وأن تكون الحاجة إلى الأصول الموسَّعة قليلة فضلاً عن الأوسعيَّة في زماننا، كما ظهر ذلك من أسلوب صاحب المعالم قدس سره في عرضه للمطالب الأصوليَّة بعد اهتمامه بتعريف الفقه أوَّلاً ثمَّ الباقي من كلامه.

وكان صاحب الحدائق قدس سره قد ذكر في بداية موسوعته الفقهيَّة بعض القواعد الأصوليَّة غير المنافية للثَّوابت الفقهيَّة الَّتي توفَّرت لها عنده النُّصوص الشَّريفة ولم يعارضه معاصره الوحيد البهبهاني قدس سره المعروف بأصوليَّته بعد أن كان معاصراً له ومعارضاً كثيراً بعد ما عرف منه الوسطيَّة بين خصوص المحدِّثيَّة والأوسعيَّة الأصوليَّة.

وهكذا صاحب الوسائل في ختام موسوعته الرِّوائيَّة، لأهميَّة ذكر الثَّوابت الأصوليَّة الَّتي لا نزاع فيها عند الفقهاء الورعين بعد رواياته الَّتي قد لا تخلو من مجال المناقشة الاجتهاديَّة الصَّحيحة من معروضاته.

وكذا الأصول الأصيلة للسيِّد عبد الله شبَّر قدس سره، وإن استعرض الكثير من القدامى أصوله المشابهة لما أشرنا إليه من الأصول الرِّوائيَّة بلسانهم العربي الآخر المدقِّق.

إلى أن جاء دور الاستقلال التَّام الإضافي والمتوسِّع بأجلى مظاهره للمتأخِّرين من مثل الفصول والقوانين والرَّسائل والكفاية.

وهذه الأخيرة هي الَّتي عليها حتَّى هذا الحين جُل محاور البحوث الأصوليَّة من ألفاظ وملازمات وحجج وأصول عمليَّة إن لم نقل كلُّها - إكراماً للفطاحل الآخرين ممَّن أسَّسوا للتَّوسُّع المقبول أسسه المحتاج إليها - من قبل من جاء بعدهم من فحول الأعلام.

لكن للأسف إنَّ البعض من المتوسِّعين قد بالغ في هذا الاستقلال بتوسُّع غريب قد

ص: 11

يعطي لاستقلاله شيئاً أو أشياء من الموضوعيَّة للعقل العام والعلميَّة غير الشَّرعيَّة، وكأنَّها لها الشَّأن الهام قبل التَّشريع.

مع أنَّ ما في الكتاب والسنَّة المحقَّقة مع استفراغ الوسع فيها ما يُغني الأصول الأصيلة وما يُلحق بها عن الحاجة إلى شيء آخر.حتَّى جعل البعض منهم العقل المأخوذ مستقًّلاً في كثير أو أكثر مصاديقه بإدخالهم الفلسفة، وكثرت عن ذلك النَّظريَّات الَّتي لا نصيب لها إن كانت إيجابيَّة إلاَّ حالة الثُّبوت دون الإثبات في أكثر حالاتها وهي الأقرب إلى السَّفسطة إذا أريد منها الإثبات بالادِّعاء الفارغ لو لم يقر بها الشَّرع أو العقل التَّابع عند الانسداد، وإلاَّ فالقياس مع الفارق والاستحسانات السَّطحيَّة ونحوها كما في أصول أهل التَّسنُّن هو من موارد ومواقع التَّورط بالتَّشريع المحرَّم من مذاهبهم في النَّتيجة.

وعلى نحو هذه الأصالة الأصوليَّة الأصيلة في التَّأريخ القديم لدى الإماميَّة - إن سأل سائل عن الفائدة من الكلام عن تأريخ الأصول -

لا مجال لمن يدَّعي من الآخرين أصالة أصولهم حتَّى من تدوين من كان يُعرف بإيجابيَّاته بالمحبَّة الفائقة تجاه أهل البيت النَّبوي عَلَيْهِم السَّلاَمُ في العقيدة وهو الشَّافعي على أصولنا على ما ورد في تأريخهم أنَّ له كتاب الرِّسالة.

إمَّا من عدم صحَّة هذه النِّسبة التَّأريخيَّة كما يدَّعى، إذ في مقابل ذلك ما حقَّقه العلاَّمة المدقِّق السيِّد حسن الصَّدر قدس سره في كتابه تأسيس الشِّيعة لعلوم الإسلام.

أو لكون ما ذكره الشَّافعي من أصوله عدم صحَّة كثير بل أكثر قواعده، مع ما مرَّ من كون أصولنا كانت ناشئة من زمن نزول الوحي الشَّرعي وشرح السنَّة الشَّريفة له.

وكذا إنَّ ما عرف عن أئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبعض أتباعهم في كونهم غير تابعين لأهل التَّسنُّن في بعض التَّدوينات أوان ما ورد من تدوينات من دوَّن في الأصول منهم، بل الأمر منصب عن ذلك.

ص: 12

لأنَّ الشَّيعة الإماميَّة لهم وفيهم عقيدة الانتماء بكون أئمَّتهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ هم الامتداد الطَّبيعي الشَّرعي للرِّسالة المحمَّديَّة، فلم يحتاجوا إلى تدوين الأصول، بل لديهم الأصول الأربعمائة الكافية في حينه.

مع علاقة حواري الأئمَّة بالأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في حل المشاكل بالمباشرة أو التَّسبيب القريب جدًّاً ومنهم الفقهاء المستغنون عن الأصول آنذاك فلم تكن الحاجة الملحَّة إلى شيء من التَّدوين إلاَّ بداية عصر الغيبة الكبرى سنة 329ه- باستغنائهم عن تدوين الأصول إلى قرنين ونصف تقريباً.

وما بدأت الحاجة إلى جمع المتفرِّقات الأصوليَّة إلاَّ في زمن العَلمين من متقدِّمي أعلام الإماميَّة، وهما ابن أبي عقيل العماني وابن الجنيد بظهور الشَّيخ الطُّوسي قدس سره صاحب العُدَّة.

فلم تعن حالة تقدُّم العامَّة في التَّدوين وتأخُّر الإماميَّة فيه أنَّهم فازوا عليهم، لما ذكرناه من لجوء الإماميَّة إلى خلفاء النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وصفوته المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وهو ما أغناهم عن أن يكون الشَّافعي فائزاً عليهم في ذلك.

بل إنَّ من تأمَّل في مركَّبات الأصول - ومنها الأدبيَّات كمباحث اللُّغة والأدب والعلوم العقليَّة وبناء العقلاء والتَّعبُّد الشَّرعي - فإنَّ الاعتماد على مقرَّرات واضعي هذه المعارف أولى من الاعتماد على مقرَّرات الشَّافعي ومنها نواقص القياس والاستحسان ونحوهما، وواضعوا تلك العلوم تعلَّموا تحفها وبرعوا في التَّعمُّق بفروعها من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فالأولويَّةفي الواقع لعلماء الإماميَّة وإن تأخَّروا في التَّدوين.

إضافة إلى كون الحاجة كانت ملحَّة إلى التَّدوين والجمع أو التَّوسعة والتَّنسيق في أمور ما بعد القرنين والنِّصف بعد ضياع أو تبعثر قسم لا يُستهان به من الأصول الأربعمائة.

وهو ما سبَّب وجوب الاهتمام بالجوامع الأربعة الأولى والمجامع الأربعة الأخيرة

ص: 13

بالدَّرجة الثَّانية، مع الاهتمام بتطبيق علمي الدِّراية والحديث وعلم الرِّجال بالنَّحو الإجمالي في الأخير اعتماداً على الوثوق في الرِّواية لا الرَّاوي، نقداً لمسيرة من حصر الأمر في الأخذ بروايات الآحاد الصَّحيحة وحدها ومنها المتروكات بمثل هجر المتناقضات كليَّاً وبما لا مجال فيه إلى الجمع المقبول عكس ما أمكن منه ذلك وما خصَّ منها في موارد التَّقيَّة مع كون المقام غير مقامها.

إضافة إلى أنَّ بعض مصاديق الاجتهاد كانت في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وما بعده من الأيَّام الأولى كالقضاء، وكذلك إنَّ هشام ابن الحكم ويونس ابن عبد الرَّحمن وهما من أصحاب الإمامين الصَّادق والكاظم عَلَيْهِما السَّلاَمُ كانا قد كتبا رسالتين في مباحث الأصول الأولى باسم كتاب الألفاظ ومباحثها والثَّانية باسم كتاب اختلاف الحديث.

فلا فخر للشَّافعي وغيره في السَّبق بالأصول، وقد نوَّه الحجَّة السيِّد حسن الصَّدر قدس سره كما مرَّ في كتابه تأسيس الشِّيعة لعلوم الإسلام بما يكفي، فلا مجال لتفاخر الآخرين على أصوليِّينا.

المدخل الثَّاني

لماذا العناوين الأصوليَّة بين كونها نظريَّات وكونها قواعد

بعد أن جاءت شرائع الله السَّماويَّة وعلى أيدي الأنبياء والمرسلين بواسطة الوحي المبين - لإنقاذ الأمم والشُّعوب من الجهالة وحيرة الضلالة بسبب المغريات الأربع الَّتي أبتلي بها البشر بعد اتِّحاف الله تعالى إياه بالعقل الَّذي لو خُلِّي وطبعه لقاد هذه الأمم والشُّعوب بالرُّقي إلى أسعد مراتب الحياة الرَّغيدة وقوانينها المنظَّمة الرَّشيدة ولكن استحوذ عليها وعلى عقلها الشِّيطان الماكر والدُّنيا المخادعة والنَّفس الأمَّارة والهوى المشغل عن اتِّباع خيرة هذه القوانين المنظِّمة لهذه الحياة، فللخلاص من هذه الابتلاءات

ص: 14

بمجيء الدَّور الإلهي وبعث الأنبياء والرُّسل والكتب السَّماويَّة لإنقاذ تحفة العقل ومن أتحف به ليسير سير ما يُرضي الله ويدفع سخطه بهذا النِّظام الجامع للمنقول وخير المعقول عقيدة وعملاً وعن طريقهما وبواسطة خير الأصول -

جاء تعقُّل وجوب شكر المنعم مع تأكُّيد النُّصوص على ذلك بما يجمع حقَّه تعالى لصالح السَّعادة في الدَّارين بعد هذه العناية الإلهيَّة الفائقة، لأنَّه لم يترك عباده سداً بعد أن لم يخلقهم عبثاً، لكن لم يُترك التَّمرُّد على الله وقوانينه وشرائعه من قبل أكثر البشر.

فأرادوا التَّخلُّص من قيود تلك القوانين الإلهيَّة وبما لم يشبه قوانين السَّماء في كل شيء وإن كان هناك شيء من الإيجابيَّة الجانبيَّة لكونها وضعيَّة مليئة بالنَّواقص وبدون عدالة تامَّة ودائمة لصالح الجميع، وبذلك كانوا يعتبرون النَّظريَّات المقترحة من قبلهم قوانين قبل تكامل نصوصها.

وهذا ما لا يمكن قبوله والرِّضا به لابتعاده عن تلك القوَّة الإلهيَّة الغيبيَّة الإعجازيَّة الدَّاعمة لأولئك الأنبياء والمرسلين، ومن هؤلاء الوضَّاعين كان فراعنة الأنبياء والرُّسل، وكانت صرخات المعارضين من غيرهم.

حتَّى لو افترض قبول دعوى من يدَّعى لهم كون بعضهم كانوا من دعاة بعض العلوم كالفلاسفة وأمثالهم، كما لو احتجَّ لهم وعلى ضوء مبادئنا السَّماويَة الإسلاميَّة لنبيِّنا الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم وما ورد عن عترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ ممَّا أخذوه منه من الرِّوايات كقول (العقل ما عُبد به الرَّحمن واكتسب به الجنان)(1) بحجَّة إمكان أن يصل الإنسان بهذا العقل إلى الهداية والخلاص من الغواية، لأنَّه أوَّل الرُّسل إلى الإنسان كما عُرف عن أرسطو الموحِّد في حينه بعقله بلا تقيُّد منه بالنبوَّات المعاصرة له، وعلى الأخص لو كان أرسطو داخلاً أيضاً في ابتلاءه بتلك المغريات.

ومن هنا اعتقدت بعض أقوام التمرُّد على الله وشرائعه أنَّ الله تعالى خلق الخلق

ص: 15


1- أصول الكافي ج1 ص 8.

ثمَّ فلت الأمر من يديه، وهم اليهود ومن شاطرهم هذا الرَّأي ممَّن يدَّعي الإسلام كذباً، وقد ردَّهم القرآن بقوله تعالى [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ] جواباً لهم بعد قوله تعالى على لسانهم [يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ](1).

ولكن هذه كما لا يخفى شبهة في مقابل بديهة، لأنَّ الرِّوايات الواردة في شرعنا الحنيف - كرواية (العقل ما عٌبد به الرَّحمن واكتسب به الجنان) الَّتي مرَّت - لا تدل إلاَّ على ما اجتمع فيه العقل والشَّرع ممَّا دون العقل المجرَّد بعد الابتلاء المشار إليه آنفاً وغير المضمون منه عدم تأثُّره بالمغريات الأربع ما دام بدون عصمة.

بل إنَّ في مقابله ورد أيضاً (إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول النَّاقصة)(2) للإشارة إلى موارد الابتلاء المؤثِّرة تلك.

وهذه النَّظريَّات المفسَّرة في علم المنطق بمعنى (ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول) لا يجوز أن تبقى في شرعنا العظيم المرتبط كذلك بعلم الأصول وبإحكام وبدون الابتعاد عنالقياسات والاستحسانات وما يُسمَّى بسدِّ الذرائع والمصالح المرسلة عند أصوليِّ الآخرين البادية فيها بهذه النَّظريَّات المجرَّدة والمنتهية بمجرَّد ادِّعاء كونها قواعد لها.

وهي ليست إلاَّ نظريَّات من دون ربط لها بمصادر شرع الله الملائم لما في أصولنا، وهو ما لابدَّ وأن يدخل في المعنى المصادر وهو الَّذي معناه اصطلاحيَّاً (جعل الدَّعوى عين الدَّليل) وهو من أشد المرفوضات لو بقي على مجرَّد النَّظريَّة.

وأمَّا ما يهواه اليهود من التَّحرُّر من القيود السَّماويَّة المثلى - وبما وصلوا إليه من طيشهم وغرورهم في هذه الدُّنيا حتَّى عاثوا في الأرض فساداً وما قالوه عن الله تعالى من الجسارة - فهو من المعايب الفاضحة لهم والَّتي لا تستحق الرَّد لهم ولأمثالهم.

فهذا نوع من موارد الابتلاء بالنِّظريَّات المجرَّدة المحاربة من الوضَّاعين للاستقامة

ص: 16


1- سورة المائدة / آية 64.
2- بحار الأنوار 2/303.

وأهلها.

بل لم يُقتصر على هذا الأمر حين مجيء الرِّسالة المحمَّديَّة والقرآن والسنَّة المحفوظة بالصَّون بالعترة المطهَّرة حينما ابتعد النَّاس عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ قسراً واختياراً من أهل الكفر والشِّرك والنِّفاق حتَّى تبعثرت الأدلَّة بسبب مضايقة الأعداء لهم إلى أن انسدَّ باب العلم جملة أو تفصيلاً ولو من بعض النَّواحي.

فالتزم قسم من الغيارى - للتَّعويض عمَّا لم يكن ميسوراً في الظاهر - بما يُسمَّى باستفراغ الوسع الَّذي حصل منه الكثير من الخير الغفير وعلى طبق هذا وما عرفت به النَّظريَّة منطقيَّاً بمعنى (ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول) ولو تشبُّثاً بالمحاولات القديمة على أساس دعم النَّظريَّات ولو بالاعتماد على ما بقي من الرِّوايات العلاجيَّة غير البعيدة حتَّى عن الإرشاديَّات المرتبطة بحسن الإحسان وقبح الظلم لتصحيح الانتقال من النَّظريَّات إلى القواعد وهي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل.

ولا شكَّ أنَّ أمَّهات الأدلَّة المطروحة للاستدلال بها أو عن طريقها من حيث المبدأ هي الأدلَّة الأربعة وهي (الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل)، سواء في العرف الأصولي القديم المصاحب للفقه الإسلامي في صدر أيَّامه الزَّاهرة الغنية عن التَّوسُّع أو الحديث الموسَّع وعلى نهج ما يراد حتَّى عند بعض أهل القديم الَّذي التزم به في عرفهم والنَّاهجين منهج القدامى من حواري الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من جرَّاء استفاداتهم من متقنات الرِّوايات العلاجيَّة الَّتي عُثر عليها باستفراغ ذلك الوسع.

أو العرف الأصولي الصِّناعي في توسيعه بتوسيع دواخل جميع الأدلَّة الأربعة بلا زيادة، ولربَّما صحَّ بعض التَّوسُّع العنواني الافتراضي لدراسته عند القدامى أيضاً بما قد يزيد في عدد العناوين الأصوليَّة إلى الأكثر فالأكثر من دواخل تلك الأربع عرضاً لا طولاً لدراستها والنَّظر فيها بأنَّها هل تصلح أن تكون من الأصول الفرعيَّة للأصول الكليَّة حتَّى يتمسَّك بها أم لا فيُعرض عنها؟.

ص: 17

ولذا شاع بين القديم والحديث عند حلول هذه المرحلة اعتبار (فرض المحال ليس بمحال).

لكن حين احتياج المجموعتين من القدامى والجدد إلى التَّوسُّع العنواني - كلَّما بعُد الزَّمنعن زمن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحدث على باب العلم شيء من الغلق - كانت مهجة العلماء الغيارى بين حين وآخر تهيج بشدَّة للتَّصدَّي إلى أي أزمة معرقلة بإزالتها واتِّخاذ ما يمكن أن يكون معوِّضاً عمَّا لم يكن صالحاً للاكتفاء به حتَّى من بعض الأدلَّة القديمة إلاَّ بإكمالها بما يتمِّم إسنادها.

ومن جهة تورُّع هؤلاء العلماء عن أن يقولوا شيئاً مبتدعاً كانوا يسمَّون العنوان المقترح قبل وصوله إلى القاعدة بالنَّظريَّة، وهي الَّتي لا تفرض على أحد منهم، إلاَّ إذا تأكَّد مدركها عند السَّاعي لتوليدها قاعدة وعند من يذعن إلى هذا الدَّليل من المجتهدين الآخرين.

بل وينبغي لزوماً أن يكون هذا التَّحفُّظ عند كل من لم يتقن أمر مدرك هذه الأمور بإبقائها على مستوى النَّظريَّة حتَّى لا تكون مجازفات بتطبيقها في الخارج حتَّى على أي نحو تكون، كما لو أمكن تصديق هذا الانطباق في خصوص الذِّهن بالإذعان للنِّسبة لا في الخارج، وهو ما يسمُّونه إذا انطبق في الذِّهن بحالة الثُّبوت لعدم إعطاءه الثَّمرة العمليَّة في الخارج، وهي الَّتي تسمَّى عندهم بحالة الإثبات إذا تحقَّق الانطباق.

وقد توصل إلى حالة تحقُّق الثُّبوت هذه فقط في بحوثه كثيراً أستاذ الأساتذة المعظَّم الشَّيخ النَّائيني قدس سره مع عدم مجازفته يوماً بتطبيق شيء من ذلك في الخارج على أساس من مجرَّد احتمال الانطباق.

ولكن كان سيدنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره يتبنَّى حلُّها أو حل بعضها وأمر إيصالها كلاًّ أو بعضاً إلى حدِّ الإثبات الخارجي حسب ما يعتبره من المباني الخاصَّة له منجحاً لذلك.

ص: 18

بل حتَّى ما لو انطبق شيء من المصاديق في الخارج عند آخرين وهو ما كان تابعاً لدليله الخاص وهو ما يسمَّى ب- (الخارج بالنَّص) إذا كانت القاعدة في الأعم الأغلب على خلافه لكونها لها دليل كونها قاعدة.

فكان العلماء يتورَّعون بعدم القياس على هذا الخارج بالنَّص لضعف دليله عن دليل القاعدة.

وللفارق الواضح بين القاعدة التَّامَّة وبين ما شذَّ عنها وورد هذا الأمر كسؤال ليجاب عنه وهو:

(إذا كانت كل قاعدة لها شواذ فهل يُعد مخلاًّ بقاعديَّة القاعدة؟ أم أنَّه خارج بالنَّص وأنَّ سرَّه موكول إلى صاحب النَّص حينما تُعد القاعدة للتَّسهيل)؟.

فنقول: إذا تكاملت أدلَّة القاعدة مع أدلَّة قاعدة التَّسهيل المضاعفة لقوَّتها مع الحاجة الملحَّة إليهما بحيث لم يضر شذوذ الشَّاذ من الأدلَّة العائدة له مهما كان قويَّاً أو تعدَّد بقاعديَّة القاعدة كمعارض لها، وإنَّما كان الشُّذوذ عن القاعدة من جهة جانبيَّة دون أن تزعزع أركان تلك القاعدة وإن كان مجيء هذا السؤال بصفة المبالغة وكأنَّها قاعدة في مقابل قاعدة، فلا ضير في صحَّة الاثنين.

ولعدم ثبوت أنَّ كل قاعدة لها شواذ بتلازم دقِّي لو خيف من كثرتها على قواعدها ما دامت قاعديَّة القواعد متفاوتة بتفاوت المجتهدين في نظراتهم الاجتهاديَّة بين المجتهد والأعلم أو حتَّى بين القوَّة والضَّعف عند صدق أنَّ الاثنين في اجتهاد كافي.

وقد أدَّى أمر صحَّة الاثنين عن اجتهاد المجتهدين - وإن شكَّك من شكَّك إن تمَّت القاعدة على رأيه، كما لو اختلف بعضهم مع البعض الآخر حول بعضها - فوافق بعض عليها وشكَّك آخرون إذا أثَّر مثل هذا في بعض الشَّواذ ضعفاً مسقطاً ولو في نظر البعض، وإلاَّ يمكن أن يصل الخلل من كثير من هذه الشَّواذ في كثير من هذه القواعد وهو خلاف المفروض.

ص: 19

مع أنَّا فرضنا في الجواب تكامل أدلَّة القواعد، وإن كان كل منها ناتجاً عن اجتهاد مجتهد مغاير للآخرين في القواعد الأخرى، وإنَّ أدلَّة الشَّواذ المقبولة جانبيَّة غير معارضة لأركان القاعدة، لعدم كونها بمستوى دليل القواعد وإذا كانت قاعدة التَّسهيل المقويَّة للقاعدة الأصوليَّة وهي المطابقة لمصالح الأعم الأغلب، فيمكن أن يقوى الخارج بالنَّص إن قيل مع كماله الجانبي من قاعدة التَّسهيل نفسها إنصافاً بحق الأقليَّات وبلا محذور من الخوف من التَّعارض الدَّاعي إلى التَّساقط إذا كان هذا التَّسهيل مرتبطاً بالمستوى الجانبي، وإنَّ مصاديق صحَّة القواعد وما شذَّ عنها مع أدلَّته موفورة تتَّضح في الأبواب الآتية.

ولمثل هذا التَّورَّع كان التَّدوين للأصول في الكتب القديمة والحديثة حتَّى في عناوينها، فبعضهم كتب ما عنده باسم المسائل، وبعضهم سمَّاه باسم الفوائد، وبعضهم بالأصول، وآخرون بالمعالم، وهكذا بالعناوين وبالفصول وبالقوانين وبالرَّسائل، وبعضهم قلَّص في مواضيعها، واكتفى بالضَّروري منها كالكفاية.

لكن لم يخرج الكل فيما نعلم مع المتتبِّعين عن كون عناوين كتبهم كانت كبحوث تفرض في البداية نظريَّات، وعند الوصول في البحث عنها إلى صدق كونها قواعد يجعلونها مبنى لهم وإلاَّ تعطَّل إذا كانت واصلة إلى مرحلة الثُّبوت دون الإثبات أو تبقى نظريَّة لعدم وجود الثَّمرة العمليَّة لها مسلَّمة في الخارج، وإذا لم تكن صادقة في كونها قاعدة لا ثبوتاً ولا إثباتاً لابدَّ أن تترك أو أن يُدقَّق فيها لتوسعة الذِّهن الأصولي مثلاً على الأقل عند الحاجة إلى التَّوسعة.

وعلى الأخص إذا اختير هذا في تلك التَّوسعة في المقامات الفلسفيَّة المرتبطة ببعض المطالب الأصوليَّة إن صحَّت وإن كانت أكثرها إن لم نقل كلُّها علميَّة غير عمليَّة، لكون الأصول مرتبطة بالفقه ودقَّته إن اقتضى الأمر الحرص عليها فهي الأقرب إلى العرف فقط.

ص: 20

وأمَّا الدقَّة الفلسفيَّة فلا يمكن أن يُحاسب عليها المكلَّف في شرعيَّاته كما سوف يتَّضح أكثر فيما يأتي، لأنَّ الفلسفيَّات إن أمكن الانتفاع منها، ففيما إذا تساوت مع الحكمة وفوائد علم الكلام فلا نفع منها إلاَّ في باب الاعتقاديَّات الحقَّة.

ولأجل إتمام الفائدة أكثر بذكر بعض القواعد الأصوليَّة وما شذَّ عنها خروجاً بالنَّص أو الدَّليل وذكر بعض مساوٍ لها في العدد من القواعد الفقهيَّة وما شذَّ عنها خروجاً بالنَّص أيضاً اخترنا هذه الأمور زمن العدد لكلٍّ منهما ثلاثة تعميماً للفائدة.

فمن أمثلة الباب استصحاب الطَّهارة لمن سبقت طهارته وشكَّ في الحدث بعدها ولكن الوضوء التَّجديدي باق على استحبابه خروجاً بالنَّص.

وممَّا يلحق بذلك بعض القواعد الفقهيَّة لا الأصوليَّة ومنها (قاعدة سوق المسلمين) المبيح لشراء كل شيء فيها، إلاَّ ما علم جهاراً بخروج بعض سلعه عن الحلال أو شكَّ فيها،ولذا ورد الاحتياط في اللُّحوم والدِّماء والفروج والأموال.

ومن أمثلة الباب قاعدة كون الألفاظ موضوعة لذوات المعاني لا بما هي موادِّه ومستندها التَّبادر مثلاً للدِّلالة على الحقيقة، وعند كون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة إذا انتفت إرادة كونها للحقيقة بوجه من الوجوه صارت الألفاظ مجازاً، لأنَّ المركَّب ينتفي بانتفاء ذلك الوجه.

وممَّا يلحق بذلك من بعض القواعد الفقهيَّة (قاعدة الطَّهارة) ليتمسَّك بها عند الشَّك كفضلات ماء الوضوء الَّذي لا يمكن التَّوضؤ أو الغُسل من الحدث الأصغر والأكبر، ما عدا الأخباث على ما دلَّت عليه الأدلَّة خروجاً بالنَّص.

ومن أمثلة الباب (قاعدة التَّرتُّب) الَّتي تقضي بتقديم الأهم على المهم، كما لو ضاق وقت أحد الواجبين المتساويين في أصل الوجوب وتفسح وقت الآخر، وأمَّا فيما لو توسَّع وقت الاثنين كما لو تفاوت أحدهما عن الآخر كالفرق بين الواجب الأدائي وهو الأهم والقضائي وهو المهم، كما بين الصَّلاة الأدائيَّة مع سعة وقتها والقضائيَّة مع

ص: 21

سعته أيضاً إذا لم تتزاحما وبين الصَّوم القضائي الموسَّع والمستحب، سواء الموسَّع أو المؤقَّت فلا مانع من تقديم المهم على الأهم خروجاً بالنَّص ولكلٍّ أدلَّته.

وممَّا يلحق بذلك من القواعد الفقهيَّة قاعدة (المؤمنون عند شروطهم)(1) في المعاملات، فللبائع والمشتري أن يبيِّن كلٍّ منهما شروطه وفي جميع القضايا إذا لم يصادف خلل يوجب الخيار، ولكن لابدَّ أن يشترط الصَّحيح دون الفاسد إذا تبيَّن خلل يدعو إلى الخيار خروجاً بالنَّص وللشَّاذ أدلَّته.

المدخل الثَّالث

معايب عدم العناية بالمصطلحات العلميَّة وأسبابها

يُعدُّ عدم العناية بالمصطلحات العلميَّة الخاصَّة لكل علم أثناء دراسة الكتب الدِّراسيَّة للعلوم الحوزويَّة مقدِّمات وسطوح أولى وعُليا - وكذا أثناء الدخول في الاجتهاد أو التَّخصُّص الاجتهادي مطالعة أو تدويناً أو بياناً من قبل المدرِّسين ومدرِّسي بحوث الخارج الفقهي والأصولي وغيرهما من العلوم، وكذا الدُّروس الأكاديميَّة -

من أخطر ما يكون ضدَّ جواهر العلوم بتركها أو عدم العناية بها بعدم ضبطها وعدم حفظها لما اتَّخذت له أو تحويلها لغير مواقعها، وإن كنَّا أحياناً نخرج عن الصَّدد لإيضاح بعض الأمور لا لتبديل الاصطلاح.

ومن ذلك محاولة تبديلها بألفاظ جديدة غير ألفاظ التَّدوين القديمة الَّتي طالما سعى لها مدوِّنوها القدامى حتَّى جعلوا المعاني من خلال معرفة المدرِّسين لها من الأكابر والأفاضلوبياناتهم بواسطتها واضحة في الأذهان وعدم العناية هذه بها ناشئ من

ص: 22


1- المستندة إلى الرِّواية المروية عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وعن أهل بيته الطَّاهرين عَلَيْهِم السَّلاَمُ بلفظ (المسلمون)، راجع تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371; الاستبصار، ج 3، ص 222.

أسباب:

منها: عدم الفهم لتلك المصطلحات المهمَّة من جرَّاء تقصير المدرِّسين في تنبيه طلاِّبهم بوجوب العناية بها لحفظهم لها بعد فهم معانيها وتوصية من بعدهم بها، لتوقُّف فهم المقصود العلمي عليها إن كان المدرِّسون أو بعضهم يفهمون معناها لغرض تبديلها بالألفاظ الجديدة، وهو ما يحوجهم إلى الإكثار من العبارات الَّتي تبيِّن المقصود الملخَّص في تلك المصطلحات.

وقد فاتهم أنَّ بسبب ذلك تمَّ تقليص الوفاء بحق تلك العلوم النَّاشئة على نهج فكر الأعاظم القدامى أو كتبها الدِّراسيَّة من البيان بما يضيع به العمر أو ما يلزم المحصِّل بالاقتصار على الجزء اليسير الَّذي لا يُحقِّق به الفضيلة له، لتوقُّف ذلك الفهم على ما وصفوه من تلك الاصطلاحات كقرائن لابدَّ أن لا تتجلَّى المعاني إلاَّ بواسطتها، فضلاً عمَّا لو لم يفهموها جميعاً أو حتَّى لبعضها دون البعض الآخر وهو الأشد والمراد هو فهم العلم أو الكتاب الدِّراسي الحاوي له كلُّه وفي هذا كيف يكون فاقد الشَّيء (ولو في الجملة) معطيا له.

ومثل هذا حتماً أيضاً يكمن فيه الخطر أو بعضه في الكتب المدَّعى كونها معوِّضة عن تلك القديمة، فضلاً عمَّا لو لم يركِّز طالب العلم نفسه على لزوم مواصلة دروسه الحوزويَّة الاصطلاحيَّة كبعض المتجدِّدين أو بما كان أنكى وأشد، وهو كون الطَّالب لا يبالي بدروسه أنَّه فهمها أو لم يفهمها من تساهله بنفسه أو بمعونة أستاذه المتماهل.

ومن هؤلاء عُدَّ الَّذين تكثر بهم بعض الحوزات للأسف لأجل عنوانيَّة أصل الانتماء، ولو لكسب الرَّواتب الشَّهريَّة ونحو ذلك، إلاَّ ما قلَّ وندر.

ومنها: مشكلة استغلال بعض المصطلحات العقائديَّة والفقهيَّة والأصوليّة وغيرها من بعض أهل الخلاف ومعهم بعض المتطرِّفين الآخرين من الوضَّاعين والعلمانيِّين والحزبيِّين بما لم ينزل الله به من سلطان.

ص: 23

لصالح ما يريدون لا ما يُراد إلهيَّاً بالرَّغم من ورود الحديث النَّبوي الشَّريف من قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم(افترقت أمَّة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وافترقت أمَّة أخي عيسى إلى اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وستفترق أمَّتي من بعدي ثلاث وسبعون فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار)(1).

كما في استغلال مصطلحات ما اتَّخذته الفرقة النَّاجية لصالح الفرق الأخرى وغيرها من فروع تلك الفرق الَّتي ظهرت أو سوف تظهر في هذا الزَّمن زمن كثرة الفتن.

مع ثبوت الثَّوابت الإسلاميَّة الكثيرة المغنية لهم عن كلِّ ذلك بين فرق المسلمين الَّتي يمكن أن تكون - بين أهل البراءة والإنسانيَّة والعقل والدِّين الجامع لهم - جامعة لفرقهم مهما تباعدت أماكنها وتفرَّقت أزمنتها وجذورها في هذه الدُّنيا الوسيعة بين كلٍّ منها ولو بالتَّوحُّد السَّطحي الَّذي لا بأس به إذا لم يمكن الأفضل على الفور، ليدوم بالتَّعمُّق الوحدوي إذا استمرَّ بتبادل الأخلاق الحسنة والتَّفاهم العلمي والسِّلمي وعلى أساس كلمة سواء.

لتذوب التَّرسُّبات المؤذية شيئاً فشيئاً مع الفرق الأخرى الَّتي جعلت بعض المعتدلين منهاوبالأخص مسلك أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ الإمامي صابراً طول الزَّمان حتَّى هذا الأوان، للرَّغبة الملحَّة في الوئام من عموم الكتاب والسنَّة ومن لسان المؤالف والمخالف أو التَّقارب على الأقل، ولو للابتعاد عن مشاكل التَّزاحم بمثل الإبقاء لآيات التَّآخي والتَّراحم والاعتصام بحبل الله جميعاً في مقابل العدو الكافر والنَّاصبي المتجاهر الحاقد الَّذي كشف عن مدى بُعده عن الإسلام العظيم ومنه التَّيمي والوهابي، ولطرد الأسماء الجديدة الموضوعة، لتحقيق أعماله الَّتي من جملتها تمزيق أوصال المسلمين صغاراً وكباراً حتَّى يغزوهم في عقر دارهم ضدَّ كلام الله الواضح وتعاليم نبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم الواضحة.

ص: 24


1- سنن أبي داود 3/896، صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/156 ، مشكاة المصابيح 1/61، الدر المنثور 2/286.

وفضلاً عن رغم ما ورد عن فِرق شيعة مولانا أمير المؤمنين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وعدِّهم إلى ثلاثين فرقة(1)، وهو ممَّا يدعو إلى التَّكاتف الأكثر والوئام الأعمق بالابتعاد جهد الإمكان ولو عن أقل نسبة من الافتراق على مثل أكثريَّة ثوابت الاتِّفاق والوفاق وبما لا عذر فيه بين فرق ما يؤمَّل أن يكونوا أو بعضهم لو انصاعوا إلى الحق وأهله مع الخواص أنَّهم هم الفرق النَّاجية.

فزرعت وللأسف بذور النِّفاق في مواقع جذور هذا الافتراق منذ استغلال مصطلح الخلافة من قبل غير أهلها سلفاً وخلفاً وبما يخالف الجعل الإلهي بصراحة من قبل العامَّة وتساهل بعض الخاصَّة وخصوصاً بعض الأحزاب وإن انتسبت بعضها إلى محبَّة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ظاهراً.

وكذلك مصطلح وكلمة الإمامة إلاَّ بتوجيه ذلك على نحو حذف المضاف كنائب الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وهكذا مصطلح الولاية إلاَّ بتوجيه ذلك بما يناسب نائب الولي الأصلي إذا كان الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو الولي إماميَّاً مجتهداً جامعاً للشَّرائط.

وكذا بدعة مصطلح الرِّسالة أخيراً أعني الرِّسالة الموجهَّة من الإمام للأمَّة زعماً ولعلَّها بمثابة السَّفارة وهي من البدع الصَّريحة، أو إمامة اثنا عشر إماماً آخرين غير الاثنا عشر الأصوليِّين وهي من فضائع البدع أيضاً.

وكذا من جعل بعض المتطرِّفين من الشِّيعة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إماماً وخليفة أنَّه لا يمتنع من أن يقال عنه ولو تملُّقاً وتزلُّفاً للآخرين بأنَّه الرَّابع، حتَّى لو ظنَّ من قوله هذا بأنَّه ظاهراً تنازل عن الحق الإلهي الَّذي كان باعتراف الكل في بيعة الغدير وغيرها ممَّا سبق.

فلماذا هذا الاستغلال - الواضح في بطلانه - ونحن في أتم الغنى إن تبانينا على

ص: 25


1- الملل والنحل: 1/131 - 169.

التَّآخي العام، وكون الكل أهل القبلة الواحدة وأهل الإقرار بالشَّهادتين ونحو ذلك.

حتَّى لو بقيت بعض الاصطلاحات وهي الخاصَّة بنا ثابتة لنا والخاصَّة بالآخرين باقية لهم بدون تحرُّش أحد بأحد ما دام التَّفاهم في بعض الأوقات مشكلاً ولو اعتماداً على ثبوت امتياز الحق عن الباطل بمجرَّد إلقاء الضَّوء التَّأريخي الثَّابت لكل من ألقى السَّمع وهو شهيد عند مقارنة مؤامرة السَّقيفة وصنَّائعها بالأمر الإلهي في بيعة الغدير وما قبلها في أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الخلافة والإمامة.

إذ لا مشاحَّة في الاصطلاحات الاجتهاديَّة لبعض من تدخَّل في الشؤون الإلهيَّة ما دامالحق واضحاً لكل أحد.

ومنها: ما يثير المعايب وهو ورود اتِّهامات الخلط بين الفلسفة والأصول وهو نوع الأهم فيما نحن فيه - مع وضوح الفرق بين العِلمين على ما سيتَّضح أو ذكر معلومات عن الاثنين -

وهو بعض الأمور الكلاميَّة - الَّتي لا تخفى علاقتها الحميمة بالفلسفة في كثير من القضايا ولو كانت مجملة في بعض الاعتبارات كعلاقة الخاص بالعام -

مثل البراءة العقليَّة، وهي النَّاتجة من عقيدتنا الثَّابتة المعروفة بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وهي واضحة في كونها مسألة كلاميَّة عند الأصولييِّن والأخبارييِّن من الحريصين على حماية الفقه الشَّرعي معاً من المسؤوليَّة ما لم يدل على المسؤوليَّة دليل واضح.

وعليه فالجميع أبرياء من كل مسؤوليَّة تُدعى عن أي تكليف لم يرد فيه نص سماوي أو بيان إلهي وما يتبعه من الأدلَّة المتَّفق عليها، وإلاَّ يكون العقاب على الشَّيء المجهول قبيحاً في سببه أيٍّ كان ومخالفاً للعدالة.

وهذه المسألة من فروع قبح الظُّلم على الله تعالى لعدله الثَّابت دنياً وآخرة.

ومن هنا تتَّضح كلاميَّاتها الاعتقاديَّة عند الجميع حتَّى عند أنصار العدل الإلهي من

ص: 26

فريقي الخاصَّة وهم الإماميَّة والعامَّة من المعتزلة أجمعهم.

إلاَّ أنَّ الأخباري لا يقول بالبراءة من المسؤوليَّة عند فقدان الدَّليل على التَّكليف الشَّرعي مطلقاً في الشَّرعيات، اعتماداً منه على الاحتياط.

لأنَّه في نظره أنَّه بيان وأصالة يرجع إليها في مقام فقدان الدَّليل الصَّريح أو كون النَّص عامَّاً مطلقاً، ولذا فالعقاب من دون تطبيق لحالاته لا قبح فيه في نظره، لكون هذا النَّوع من البيان حاكماً على قاعدة البراءة عنده.

وأنَّ الأصولي يقول بها لأنَّه يريد البيان التَّفصيلي للأحكام أو الإجمالي الخاص الَّذي لا يرفع أصل التَّكليف، وهو ما يسمَّى باشتغال الذمَّة اليقيني كفروع العلم الإجمالي المنجَّز الدَّالَّة عليه، فلو لم يكن شيء من ذلك ثابتاً فلا عقاب، وإلاَّ يكون قبيحاً فيرجع الأمر إلى البراءة.

وهي أصل عند الأصولييِّن يرجع إليه عند الشَّك أو اليأس من أي دليل في مثل المقامات الشَّرعيَّة أيضاً وداخل في شموليَّة الأدلَّة الإرشاديَّة لها كما سلف.

ولكن لم يتعرَّضوا لها بالنَّحو الأصولي المحض، حتَّى حصل الخلط بين العرض الكلامي وأصالة البراءة الأصوليَّة.

ومثل ما عُرف من قاعدة (التَّخيير العقلي) النَّاشئة من القول بقبح التَّرجيح بدون مرِّجح لو تساوى طرفا الشَّيئين فيما بينهما، فضلاً عن ترجيح المرجوح على الرَّاجح لما يخل من ذلك بالعدالة.

إذ هو من المسائل الكلاميَّة المتَّفق عليها بين الطَّرفين في أساسها كذلك، ولذا فالعقل لا يحكم إلاَّ باختيار أحد الطَّرفين أو الأطراف إذا تساوت ما دام احتمال الإصابة له وجوده في أي طرف ولم يكن مضرَّاً ببقيَّة الأطراف وهو لا خلاف فيه.

وإنَّما البحث في هذه القاعدة قد يتناسب مع كون أنَّ دعوى كون (دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة) ثابتة أم لا؟

ص: 27

لو أمكن تحصيل تفاوت بين هذين المتساويين أو الأكثر ولو من جهة مرِّجح الاستجابة لا الوجوب أو مرجوحيَّة الكراهة لا الحرمة.

فإن ثبت شيء فلا تساوي، إلاَّ إذا اخترنا المكروه وتركنا المستحب، لعدم الحرمة وعدم الوجوب في الفقهيَّات منهما، وأمَّا الأخيرين الحرمة والوجوب فلا تساويا الثبوت.

وهذه القاعدة ممَّا حصل في أمرها الخلط كذلك أو عدم إفراز الحالة الكلاميَّة عن الأصوليَّة.

ومثل قاعدة (الاحتياط العقلي) الَّتي أشرنا إليها آنفاً لمناسبة سابقة، وهو المساواة بقاعدة الشُّغل كما في أطراف العلم الإجمالي المنجَّز، مثل حالة الشَّك بين صلاة الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ظهراً، على أساس أنَّ دفع الضَّرر المتحمَّل واجب عقلاً.

وهي مسألة كلاميَّة متفَّق عليها أيضاً، وعن طريقها يكون وجوب معرفة الله تعالى وبقيَّة الأصول الاعتقاديَّة والنَّظر في المعاجز والكرامات لدفع الشُّبهات والاحتمالات المخالفة للفطرة السَّليمة.

ولكن عُرف من ادِّعاء العلامة المجلسي قدس سره في كتاب الأربعين شمول أدلَّة البراءة لجميع أطراف العلم الإجمالي(1)، والمحقِّق القمِّي قدس سره في قوانينه(2) والسيِّد المرتضى قدس سره في الذَّخيرة(3) والعاملي قدس سره في المدارك(4) شمولها لبعض الأطراف دون بعض.

أقول: ولعلَّ هذا من الفرق بين أصل التَّكليف بالبراءة فيه وبين المكلَّف به وهو الاشتغال، وهو حسن.

ص: 28


1- ص 582 ، على ما حكاه عنه في القوانين ج 2 ص 27.
2- قوانين الأصول للقمِّي ج 2 ص 25.
3- الذخيرة للسيِّد المرتضى ص 138.
4- المدارك للعاملي ج1 ص 107.

وأضاف الأخير وهو صاحب المدارك قدس سره تعليقاً عمَّا قال بأنَّه مذهب أصحابنا، وهو من الاعتماد في الأطراف الخاصَّة الملزمة بالاشتغال، على أنَّ اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وأزاد الشَّيخ الأنصاري قدس سره على هذا في الفرائد عدم الشُّمول للبراءة بدون تبعيض.

ولعلَّ إدخالها في الأصول هو الَّذي سبَّب تغيرً اسمها بينهم باسم قاعدة الاشتغال، للخلاص من مشكلة الاحتياط العقلي الكلامي وجعلها أصالة أو قاعدة الاحتياط الفقهيَّة للأخبارييِّن وبعض الأصوليين، وسوف يأتي الكلام عن هذا الأمر في محل آخر أنسب لتبسيطه.

إلى غير ذلك من الملابسات المثيرة للجدل بين الأصولييِّن والأخبارييِّن، أو حتَّى بين الأصولييِّن أنفسهم بين مشبع ومقلص وبما يسلم من أحقيَّة ورود النِّقاش على الإطناب والإيجاز معاً.حتَّى أنَّ بعض هذه الأمور الَّتي ذكرناها أزيحت من صلاحيَّة دخولها في التَّعريف الآتي ذكره قريباً عند بعض الأساطين، واحتيج إلى إضافة ألفاظ مسددِّة له عند آخرين.

لكون الغريب عن الأصول الثَّابتة لابدَّ وأن يزاح أو يوجَّه بما يناسب الأصول المرتبطة بالفقه فقط، لملازمة الحفاظ على الاصطلاحات الخاصَّة لكل علم دائماً، وإن اشتركت بعض الألفاظ لحملها أكثر من معنى، لعدم امتناع حمل كل معنى لقرينته، بل لوجوب ذلك في باب التَّعاريف، وعلى الأخص في اللُّغة العربيَّة المحفوفة بالأدبيَّات القريبة من كل علماء الاصطلاحات المختلفة من ذوي القدرة الفائقة في إفراز هذا المصطلح عن ذاك بواسطة القرائن الخاصَّة لكل علم منها.

فالخلط بين عنواني الفلسفة أو الكلام وبين الأصول لا يُعطي التَّعريف للأصول معنى صحيحاً على ما سيتبيَّن.

وحينما يمكننا القول بأنَّ هذه الأمور أصول بالاعتبار الخاص غير الحالة الكلاميَّة

ص: 29

فالأقرب أن تكون داخلة في مبادئ الأصول لا في نفس الأصول، ولذا اخترنا عرضها في البدايات.

المدخل الرَّابع

السَّعي في رفع مشاكل الكمال الحوزوي

بتأخُّره عمَّا كان في أدوار الخير من الانتعاش

بعد ما منيت الأمَّة والحوزات العلميَّة للإماميَّة الاثنا عشريَّة المرتبطة ارتباطها الإلهي الوثيق برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الَّذي حمى عترته الخاصَّة بالكتاب الكريم وبحديث الثَّقلين وأمثالهما ممَّا نقلته العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من بقيَّة أحاديث العِدل للكتاب قبل تأسيس تلك الحوزات بالشَّدائد الخانقة ابتداءاً:

1 - من أيَّام انقلاب المنافقين على أعقابهم.

2 - من منع تدوين الأحاديث الشَّريفة الماضية من قِبل أسلافهم، لتسهيل أمر تشريعهم بقاعدة (حسبنا كتاب الله)(1) الموضوعة أو تبريرهم أمور بدعهم بالاجتهاد في مقابل النُّصوص من أحاديث ذلك العِدل الشَّريف الواردة في خصوص كشف مجملات ومتشابهات كتاب الله تعالى والموضِّحة للغوامض ممَّا بقي من السنَّة عن العترة، وممَّا أقرَّ به الفريقان من المسلمين بعد ذلك وأيَّام اعتزال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في داره للخلاص من تلك الضغوط والفتن ولاغتنامها خير فرصة لجمع القرآن مع متعلَّقاته الهامَّة.

3 - من استبدال ذلك بأحاديث الوضع والتَّلفيق.

4 - من استمرار ضغوط النَّاكثين والقاسطين والمارقين أيَّام الاحتياج إلى خلافة أمير

ص: 30


1- البخاري / ج: 8 ص: 138.

المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ الأصيلة.

5 - من أيَّام عداءات الدَّولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة المعروفة إلى أن توسَّطت بينهما فترة الانتقال من الأولى إلى الثَّانية وجاءت فترة الخير مع الحذر بخفَّة تلك الشَّدائد الملزمة باغتنام الفرصة أيَّام الإمامين الباقر والصَّادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ بابتداء الانفتاح وللدِّراسة ببركة وجودهما إلى أن ازدهرت بعد وفاة الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ حوزة ولده الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتوسَّعت حينما تلت هنا وهناك بعض فترات خفَّة بالضُّغوط وإن كانت تلك المرَّات غير متواصلة زماناً في تلك الخفَّة إذ تخلَّلتها بعض فترات من الفتور ممَّا أعطت مجالاً للإنعاش والانتعاش العلمي ابتداءاً ممَّا بين الدَّولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة كما قلنا.

إذ في تلك الفترات تمَّت القدرة والفعليَّة ولله الحمد على التَّدوين وفي مختلف العلوم عقيدة وعملاً ومن تعاليم الإمامين الباقرين والصَّادقين عَلَيْهِما السَّلاَمُ لتلامذتهم ومن مختلف البقاع، حيث كانا مرجعاً لهم في تولُّد القدرة الاستنباطيَّة الصَّحيحة فيهم عن طريق القواعد الفقهيَّة والأصوليَّة ونحوها.

وكانت قد اشتدَّت تلك المضايقات من جديد وبلون آخر بزرع مذاهب أربعة بل أكثر من أيَّام المنصور وما بعده، لتأسيس ذلك بنحو المعارضة ليضيِّقوا الخناق على الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كانوا قد تلَّمذوا عليه مباشرة كأبي حنيفة أو تسبيباً كمالك ابن أنس والشَّافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم.

حتَّى أنَّهم مدحوا الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ببعض كلمات لهم كقول أبي حنيفة فيه (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد ... ثم قال أبو حنيفة: أعلم النَّاس أعلمهم باختلاف النَّاس)(1) وقوله (لولا السَّنتان لهلك النُّعمان)(2) ونحو ذلك منه، وقول مالك ابن أنس (اختلفت إلى جعفر بن محمَّد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمَّا مصلّياً وإمَّا

ص: 31


1- مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج1 / 137 وفي جامع أسانيد أبي حنيفة ج 1 / 222.
2- الآلوسي في "صوب العذاب على من سب الأصحاب" (ص157 - 158).

صائماً وإمَّا يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله إلاَّ على الطَّهارة، ولا يتكلَّم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبَّاد والزهَّاد الَّذين يخشون الله)(1)، وكذلك أقوال غيرهم.

ولكنَّهم في مذاهبهم الجديدة خالفوا مدرسة الإمامين عَلَيْهِما السَّلاَمُ في كثير من الأمور بتفاوت بين القلَّة والكثرة بين مذهب ومذهب.

ومن تلك الأمور هي الأصوليَّة حيث التزموا بالقياس كثيراً مع مخالفات كثيرة في الاستنتاج الفقهي حتَّى ورد عن أبي حنيفة قوله (خالفت جعفر بن محمَّد في جميع أقواله وفتاواه، ولم يبق إلاَّ حالة السُّجود، فما أدري أنَّه يغمض عينيه أو يفتحها حتَّى أذهب إلى خلافه وأفتى النَّاس بنقيض فعله)(2).

وهذا وأمثاله ممَّا اضطرَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ليقول في أحد أقواله عنهم (دعوا ما وافق القومفإنَّ الرُّشد في خلافهم)(3) وكأنَّ هذه التَّخريجات وأمثالها من هؤلاء التَّلامذة وأمثالهم المخالفين مثل ما كان على نهج الأسلاف القائلين (حسبنا كتاب الله)(4)، بل هي نفسها جوهريَّاً كتوصيات لتدوم على هذه الوتيرة.

مع أنَّ هذه المذاهب الأربعة وإن زادت أرقامها بعض الشَّيء فهم القلَّة المعلومة في بداياتها، كما في بداية أحداث ما بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وإن ساد انتشارها وبلغت مبالغها من الأكثريَّة في الخلاف أو التَّعصُّب.

ولكن ما كان شيء منها في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأغلب الصَّحابة المحافظين وإن كان في نفوس بعضهم كثير من حالات التَّطرُّف يحكي ظاهراً أي مذهبيَّة مثل هذه الجديدة،

ص: 32


1- التهذيب: 1/104.
2- الكشكول للشَّيخ يوسف البحراني 3/46.
3- الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).
4- البخاري / ج: 8 ص: 138.

بينما خط أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ كان هو الأصيل بلا منافس.

ومع هذه الأصالة المثاليَّة في مسلك أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وإلى حد كون صيرورة حوزاتهم الشَّريفة محاطة بهذه المذاهب - بل والأكثر منها وتناميها باستمرار وباشتداد بين عدو وشبه صديق مخيف أو مراقب مقلق ومتَّسعة في أكثر من مكان من البقاع الإسلاميَّة الَّتي عمرَّتها في فترات الخير صولات وجولات حواري الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن تلمَّذ على أيديهم ومن تعاقب بعدهم من تلامذة التَّلامذة وهكذا -

حتَّى امتدَّت بداية الحوزات إلى بغداد بعد فترة الغيبة الكبرى لطبقات منهم الشَّيخ المفيد قدس سره والسيِّد المرتضى قدس سره والسيِّد الرَّضي قدس سره والشَّيخ الطُّوسي قدس سره حتَّى الانتقال إلى النَّجف الأشرف بعد اشتداد المضايقات الكثيرة من حكومات الجور ومن متعصِّبي المنتمين إلى المذاهب المعادية الَّتي من حالاتها حرق المكتبات لبعض علمائنا، ممَّا اضطرَّ الشَّيخ الطُّوسي قدس سره إلى الهجرة إلى النَّجف الأشرف ونقل الحوزة إليها.

كما وأنَّ النَّجف الأشرف هي الأخرى الَّتي انتابتها المضايقات مرَّات عديدة هي وغيرها من حوزات العالم الإسلامي الَّتي فيها شيء من النَّفس الإمامي، حتَّى ورد في حق النَّجف الأشرف لأهميَّتها وأهميَّة اغتنام الفرصة للاستفادة من علومها أو التَّزوُّد من بركاتها

لأنَّها حوزة باب مدينة علم الرَّسول صلی الله علیه و آله و سلم أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ولو تخللَّتها بعض الضغوط الهيِّنة كما عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ستخلو الكوفة من المؤمنين ويأرز عنها العلم كما تأرز الحية في جحرها)(1).

حيث حلَّ فيها في عهود الظلمة والطَّواغيت المتعدِّدة ظلم بعد ظلم، لكونها مركز الإشعاع العلمي والإلهي في كل معانيه لأئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبضغوطات مركَّزة ما دامت تلك العهود عدائيَّة خارجيَّة وداخليَّة وروَّاد إعادة الجاهليَّة الأولى، وإن انطلى بعضها بصبغة الإسلام القشري.

ص: 33


1- بحار الأنوار ج 57 ، ص 53، والكوفة هي المجاورة للنَّجف الأشرف عاصمة العلم.

إلاَّ ما يتخلَّل ما بين بعض فتراتها بعض الفتور الَّذي قد يستعوض فيه ما يعطي العافية إلاَّ أنَّه كثيراً ما يزعزع حوزتها مرَّات كما منيت بعض الحوزات العلميَّة المقدَّسة الأخرىبشبه ذلك من الظلمة والطَّواغيت.

وهو ما قد سبَّب السَّطحيَّة في التَّحصيل العلمي الحوزوي اجتهاداً فقهيَّاً في الآونة الأخيرة، سواء على ضوء الفقاعة القديمة أو على نهج الأصول الصَّحيحة والمهذَّبة.

وبالأخص حين زجَّ بعض شياطين الإنس من مخربِّي الحوزات الشَّريفة بزج سمومهم في البسطاء أو تثبيط عزائم المحصلِّين المخلصين من المدرِّسين والتَّلامذة بعد التَّعرُّف على بعض نقاط الضَّعف فيهم واستغلالها ولو بدفع بعض الأموال لهم.

حتَّى صارت بعض حلقات الدُّروس أو حتَّى الكثير من حضَّار بعض بحوث الخارج مع الأسف غير أهلٍ لحضوره، أو حتَّى أصبحت بعض المناقشات لأستاذهم لا تتناسب حتَّى مع مستوى المقدِّمات إن لم يحسبوا من سواد العوام.

وللتَّوضيح أكثر نقول:

إنَّ ممَّا يُساعد أو يُحقِّق تنامي الضغوط على أمَّتنا من أعداءها هو ضعف أبناءها في العلم والعمل الصَّالح، والأمَّة إذا اتَّصفت بالجهل أو ضعفت في العلم تلكَّأت في الدِّفاع عن نفسها ودينها عقيدة وعملاً وعِرضها وأرضها وما لها، ومن الجهاد هو الجهاد باللِّسان والقلم ولرفع الضَّيم عن الأمَّة وحوزاتها عدم تسبيب ما يلي:

الأوَّل: عدم معرفة اللُّغة العربيَّة وقواعد علومها أو عدم تعلُّمها مع قواعدها لأجل القرآن والسنَّة لغة ونحواً وصرفاً وتجويداً ومعاني وبياناً وبديعاً والمنطق باللُّغة العربيَّة على الأقل والأصول، وبالأخص على النَّهج العربي لصالح الكتاب والسنَّة المرتبطين بألفاظ ما يتعلَّق بالفقه وملحقاته الاجتهاديَّة وعدم الإحاطة بمصطلحات هذه العلوم.

الثَّاني: عدم العناية بالعلوم الأخرى المقرَّرة حوزويَّاً وهي المسمَّاة بالمقدِّمات، ومنها العقائد والفقه الابتدائي، وكذا السُّطوح.

ص: 34

بل وعدم الإحاطة كلاًّ أو جزءاً ممَّا يُسبِّب عدم ضبط الاصطلاحات لهذه العلوم كما مر.

الثَّالث: القفزات الدِّراسيَّة من بعض المقدِّمات وإلى حد حضور السُّطوح العالية، فضلاً عن الاقتصار على بعضها فوراً أو عبور الكل فوراً إلى بحوث الخارج من ناحية التَّقدُّم في السِّن حتَّى لو كان من الأذكياء المفرطين أو كان خرِّيجاً أكاديميَّاً برتبة البكالوريوس الأدبي.

لأنَّ العلوم الحوزويَّة لها اصطلاحيَّاتها الخاصَّة الَّتي لا يمكن الغفلة عنها يوماً في مجال بحوث الخارج، إذا أريد منه التَّخرُّج الاجتهادي النَّاضج والمنتج.

الرَّابع: فتح الكُّتب الدِّراسيَّة لتدريس طلاَّبهم قبل فهمهم لها بمثل عدم مطالعتها وإن حضروها مسبقاً في أيَّامهم أو عدم دراستهم لها على أيدي الأساتذة الكفوئين.

الخامس: عدم التَّباحث بعد الدَّرس اليومي المشترك بين الطلاَّب، سواء اشتركوا في الحضور، أو اشتركوا في المستوى دون الحضور، أو عدم تلخيص ما فهمه الطلاَّب كتابة في دفاتر المذكَّرات.

السَّادس: عدم عناية الطلاَّب بمطالعة دروسهم قبل حضورها عند الأستاذ.

السَّابع: عدم عناية التِّلميذ -- بل حتَّى المدرِّس -- بالوصايا المذكورة في كتب الوعظ ك- (منية المريد) وغيرها ولو تذكيراً للعارف، ليكون الجو الحوزوي ايمانيَّاً حريصاً على الرُّقيالمقدَّس وبعيداً عن السُّلوك المعاكس.

وهذا ما قد سبَّب أو يُسبِّب غرور بعض المدرِّسين ونحو ذلك، أو عدم تواضع الطلاَّب لأساتذتهم لمقاربة أساتذتهم في السِّن أو كان الأستاذ أصغر سنَّاً، وإلى حدِّ أن يكون التِّلميذ المبتدئ جرئيَّاً ليُدرِّس الأصغر منه على الأقل وإن لم يكن منهم ونحو ذلك.

الثَّامن: احتقار الأستاذ لتلميذه تكبُّراً، مهما كان عمر التِّلميذ حتَّى لو كان أفهم

ص: 35

من قرناءه أو حتَّى من الأستاذ نفسه حتَّى مع تدينه.

التَّاسع: إلحاح بعض المدرِّسين الجُدد على طلاَّبهم - حتَّى من كان منهم في عنفوان شبابه مع حاجته الماسَّة إلى تعديل سليقته الدِّراسيَّة والفهميَّة - بترك الكتب القديمة والالتزام بالحديثة بدلاً عنها، حتَّى لو أفادته تلك الحديثة بالأقل من ربع القديمة السَّائدة دراسيَّاً، فضلاً عمَّا لو اقتصر على بعض المقدِّمات والسُّطوح دون بعض.

العاشر: عدم العناية بل عدم الإحاطة بضبط آيات الأحكام أصولاً وقواعد فقهيَّة وأحكاماً فقهيَّة من الأصول والتَّفسير والفقه وقواعده، وعدم العناية بل عدم الإحاطة

بضبط روايات الأحكام التَّابعة للآيات أصولاً وقواعد فقهيَّة وأحكاماً فقهيَّة من كتب الأصول والفقه الاستدلالي المشبع بها.

الحادي عشر: دخول بعض من يُسمَّون بالأساتذة وبعض من يسمُّون بالتَّلامذة معهم أو مع غيرهم وهم مشبوهون كما مرَّت الإشارة إليه.

وبالأخص في الآونة الأخيرة بعد انتهاء عهد الطَّاغوت البعثي وأذنابه وأشباههم من الَّذين لم يتركوا على الأقل إشاعة الفتن أو التَّضليل، إمَّا لحزبيَّة مقيتة وإن كانت بصفة دينيَّة خالية من اللُّباب، أو انتماءات سيئة مستوردة أو خارجيَّة كفراً وناصبيَّة أو حزبيَّة فكريَّة.

من خلال زج السُّموم أثناء الدِّراسة أو للوضع والابتداع أو بأخلاق جديدة وإن كان ظاهراً بتعاطف مع خط أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

الثَّاني عشر: عدم التَّنافس بين الطلاَّب في طلب العلم بدون قربة إلى الله تعالى وبلا إخلاص إلاَّ كما يريده قوله تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](1) تماماً.

وهو الَّذي نتيجته التَّفوُّق الإيماني القصدي وإن لم يكن نتيجته أخذ المرجعيَّة أو إحراز الأعلميَّة ضدَّ الطَّرف الآخر.

ص: 36


1- سورة المطففين / آية 26.

إذ قد يكون الطَّرف الآخر المقصود في المضادَّة غير قاصد في منافسته الإساءة، سواء نال التَّوفيق للمرجعيَّة أو درجة الأعلميَّة أم لم ينلها، وقد يوفَّق الاثنان المتنافسان إلى نيل التَّوفيقين مع التَّساوي أو حتَّى عُدَّ مهمَّاً لو كان على طبق الآية الكريمة.

المدخل الخامس

ظاهرة فقاهة العرب وأصوليَّة غيرهم

لم تكن هذه الظاهرة في ندرة بالغة - من العنوان المثار عن العرب في فقاهتهم مع خطورتها الاجتماعيَّة حينما كانت تلعب دورها القاسي ضدَّ الأمَّة الواحدة بتجزئتها من تحريك الخارج المعادي أو الدَّاخل الجاهل أو المنافق الخؤون إن صدقت في جملتها أو كذبت كذلك -

حتَّى لا يستحق أن يبحث عنها ولو من وجهة من وجهات النَّظر العلمي والتَّأريخي في كمِّه وكيفه، لتفادي بالغ الخطورة أو تحجيمها إن كان مع الإمكان، ولو بإبداء النَّصيحة على الأقل ولو في الخاتمة مع أهل تقبُّلها من كلا الفريقين (العرب مع غيرهم) إن كانت قد سبَّبت صراعاً ولو بسيطاً مع غيرهم.

حينما يكون الغير أصوليَّاً - فضلاً عن أن يستهان بها في هذا العنوان - منهم حتَّى في ضمن المخلوطين منهم مع غيرهم من الأقوام الآخرين في أمر إشاعة الفقاهة في العرب بإتقانهم -- ومن التحق بهم من غيرهم من بقيَّة الأقوام منهم -- علوم الأدبيَّات إلى مباحث الألفاظ البيانيَّة والمنطقيَّة ومن بعدها الأصوليَّة اللَّفظيَّة المرتبطة ارتباطها الوثيق بالكتاب والسنَّة وبالأخص ما يتعلَّق بآيات وروايات الأحكام وإلى ما وراء النُّصوص والظواهر المحكمة بعد ذلك من المفاهيم المحتاج إليها وإلى آخر مباحث الملازمات والحجَّة بما يعود إلى الألفاظ العربيَّة من قبل أهلها المحصّلين ومن التحق بهم من بقيَّة الأقوام في

ص: 37

معايشتهم لهم ولأمثالهم لأمور تلك اللُّغة العلميَّة الشَّرعيَّة نفسها أو ما قد تزيد على نفس أهل اللُّغة ممَّا قد يحوجهم إلى الزِّيادة لتحصيل التَّعادل أو النِّسبة الكافية لتحقيق التَّوفيق للفقاهة حتَّى لو استعانوا على بعض أو كثير من الأمور المهمَّة بتفاهمهم بنفس لغتهم.

بناءاً على أحقيَّة عدم الفرق بين العرب وغيرهم في الدِّين والأخلاق إذا تساووا، كما سيتَّضح أكثر عند من لا يخفى عليه هذه الأمور، عدا أمر الفوارق العلميَّة والعمليَّة الثَّابتة.

بينما الأمر في واقعه فيه تمام المجال للقول بأنَّ من العرب المحصِّلين - قديماً وحديثاً من قد حدَّثنا التَّأريخ الصَّادق وعلم الرِّجال والحديث وعلم الموسوعات الجامعة لمؤلَّفات العرب الإماميَّة ومن شابههم من الآخرين - غير قليلين في الفقاهة.

وأنَّ العرب - لقربهم من أساسيَّاتهم مع ممارستهم الَّتي أشرنا إليها - هم الأقرب لنيل فضيلتها.

وإن نال بعض غيرهم تمام فضيلتها بفوزه حتَّى على بعض العرب - ممَّن أهمل أمر ما يجب عليه تجاه الأساسيَّات من لغته - ولو لئلاَّ يبخس النَّاس أشياءهم.

كما أنَّه لم تكن الظاهرة الأصوليَّة في خصوص غير العرب حسب المفترض، بل ومنالتحق بهم من العرب غير المتقنين لأدبيَّاتهم أو المتهاونين فيها في تلك النُّدرة أيضاً، كما مرَّ من حالة عدم الفرق بين أهل اللُّغات المختلفة في الدِّين والأخلاق.

كما ربَّما يتصوَّر أيضاً إذا أحوجهم تحصيلهم العلمي إلى التَّغلغل في الأمور الفكريَّة للتَّعويض عمَّا فقدوه من الألفاظ الاصطلاحيَّة بتحصيل القواعد الكليَّة الأصوليَّة ومعها القواعد الفقهيَّة الميسِّرة، ومن الأصول المهمَّة هي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل وبما قد يغنيهم حسب النَّظر الأصولي عن ممارسة نفس طرائق الفقاهة من مستمسكاتها الأقرب إذا كانت تلك الأصول غير داخلة فيها

ص: 38

خصوص النَّظريَّة الثُّبوتيَّة فيها حسب، حتَّى لا تكون لها مصداقيَّة تامَّة.

بل هي مع كونها إثباتيَّة ومن ذوات الثِّمار العمليَّة والَّتي ينبغي أن تكون دوماً هي المتصوَّرة من موارد الاحتياج إليها بالأكثر من النَّظريَّة المجرَّدة والمعمول بها وإن كانت فيها فائدة التَّوسعة للذِّهن كما في النَّظريَّات غير المحتاج إليها للدقَّة وكذا الأصوليَّات الخاصَّة المرتبطة بالعقل الحر.

بل إنَّ هذه الأصول ولو كانت ممَّا لو ينتفع منها كثيراً كالعمليَّة وفي موارد الانسداد والحاجة إليها، فإنَّها لم تكن بمثل اتِّساع فوائد الفقاهة المتكاملة ظاهراً، وبالأخص لو اجتمعت مع الضَّروريَّات من الأصول بعد الحاجة إليها.

لكن بعد التَّأمُّل والمراجعة الدَّقيقة أيضاً لم تكن القضيَّة في خصوص غير العرب من غير المتقنين للأدبيَّات اللازمة في بابها وبلا ممارسة بل ومعهم العرب المتماهلون في أمر لوازم لغتهم مع تمسُّكهم التَّام في ضرورة التَّحصيل الفقهي من غير طرق تلك الفقاهة بغير مثبتة.

للنِّسب غير القليلة من بيان رجال علم الأصول في ميدان ما عرفوا واختصُّوا به لما اتَّصفوا به من أسباب ذلك إلاَّ إذا توصَّل الأصوليُّون إلى أصول كاملة تفي بالحاجة كما تفي بها طرق الفقاهة وأمكن التَّطابق بين مؤداهما.

ولذا تطرَّق العلماء إلى بحث أنَّ اجتهاد الفقيه هل هو أولى بالاعتبار؟ أم الأصولي؟.

ولعلَّه هنا ثارت المهاترات والمنابزات بين جهلة الفريقين ممَّن لم تضرب الأمثلة بهم للاعتناء بهم دون التَّنبيه على خطرهم لو بدا خطرهم الَّذي يجب السَّعي لإزالته بالهدوء والسَّكينة الأخلاقيَّين جهد الإمكان.

ولم تكن أيضاً ظاهرة الفقاهة في أهلها - وظاهرة الأصوليَّة في أهلها كذلك كائناً من كانوا - في ضخامة بالغة في الظهور وبنحو الكثرة البالغة فيه، حتَّى يُهتم بها كقاعدة ثابتة

ص: 39

عليها المعوَّل التَّام لتخرَّج عليهما دائماً كقضايا التَّأريخ الطويل المرير المبعثر حتَّى ما في بعض الأوساط من أواسط النَّسب أو كثيرها غير البالغ.

بل إنَّ ما بين عدم النُّدرة بحدودها - غير المعلومة بالضبط التَّام المشار إليه - وما بين عدم الكثرة البالغة.

ربَّما قد تسجَّل تأريخيَّاً في نفس الأوساط بالنَّحو النَّوعي نسبها المتفاوتة - ولو بين حين وآخر في الحوزات المعروفة كالنَّجف الأشرف الأم بعد بغداد أيَّام الشَّيخ المفيد قدس سره والسيِّدعلم الهدى قدس سره والسيِّد الرَّضي قدس سره والطُّوسي قدس سره قبل هجرته إلى النَّجف الأشرف وكحلب وكالحلَّة الفيحاء وكربلاء المقدَّسة ولبنان العامليَّة والبحرين والحويزة والكاظميَّة وسامراء وقم المقدَّسة وأصفهان ومشهد المشرَّفة وغيرها من الجامعات الجامعة -

لأكثر من قوميَّة من ذوي الطموح والاستعداد لأكثر من طاقة في القبض والانبساط، وممَّا لا ينفي عنهم الوسطيَّة من النِّسب على الأقل لو أمكن علاج الأمر كلِّه بهذه النِّسبة في ذلك عند ما يأتي مجال إنصاف الكلام، بلا أي خصوصيَّة في العرب أو حتَّى غيرهم من الكمَّل في الفقاهة أو الكمَّل في الأصول وبالأخص الأصيلة منها كذلك.

فضلاً عمَّا لو اجتمعت الخصلتان في أي قوم من القوميَّتين العربيَّة وغيرها.

وهذا مع توفُّره فقاهة وأصولاً في القوميَّتين لا يدع مجالاً للخصومة بينهما قلَّت النِّسبة أو كثرت أو توسَّطت ما دام الدِّين والأخلاق هما الجامعان والحاكمان مع حسن أسلوب المصلحين.

وعلى هذا الأساس ليس الأمر بمهم إذن وإنَّما الأهميَّة فيما يأتي.

ففي كل من كان عربيَّاً ولم يترك قواعد أدبيَّاته - فضلاً عمَّن أتقنها أو مع حسن سليقته ومثله من شابهه في مشاركته له من الآخرين أو زاد عليه -

ص: 40

فإنَّ هذا كان ممَّن يسهل عليه الاتِّصاف بالفقاهة، لا كما قد يُشاع في عنوان البحث أنَّه بلا استحقاق وإن لم يتوغَّل في الأصول إلاَّ بمقدار حاجته منها على ما سوف يتَّضح.

وإنَّ من لم يتقنها من الآخرين من غير العرب أيضاً - أو تساهل في تلك الأدبيَّات من تبعهم من العرب وهم للأسف كثيرون في الآونة الأخيرة وأراد الدُّخول في علم الفقاهة وعالمها -

فإنَّه لم يقدر على الأكثر لما مرَّ ذكره، إلاَّ عن طريق صدق المفاهيم المقبولة والملازمات المأخوذ بها والحجج الثَّابتة والأصول العمليَّة، لا كما يُشاع في العنوان للعرب وغيرهم كذلك، وهو مع عجزه المذكور لم يضمن له النَّجاح المذكور أيضاً.

مع كون هذه المحاولة غير ناجحة أو دون أن تكون في واقعها وافية أصوليَّاً بما كان محدوداً بجميع الأغراض الشَّاملة لكل الأحكام الخمسة من أفعال المكلَّفين غير المحدودة بكثرة مصاديقها في الحياة مع الأحكام الوضعيَّة، إلاَّ إذا قلنا بتوسُّع الأصول في الإفادة التَّامَّة كما سيأتي اتِّضاحه عنه في ذلك وغيره.

وعلى كل حال فإنَّ الإنصاف الَّذي لابدَّ من بيان ما يلزم ذكره تجاهه - ولو مكرَّراً للتَّأكيد بأنَّ هذا العنوان الَّذي في طليعة البحث - لا علاقة له بأنَّه قاعدة تامَّة للبحث عن ملازماتها وما تنطبق عليه من المصاديق.

إلاَّ بما حُدِّد أعلاه من كثرة الفقهاء العرب والأصوليِّين من غيرهم، بلا ملازمة ليدوم ذلك بين القومين على ما سيجيء إيضاحه، لئلاَّ يُبخس حق أحد من العرب أو غيرهم، سواء في الفقاهة أو الأصول لو لم يُرد التَّنقيص لأحد مع براءة القصد، وإلاَّ فهذا الَّذي نحن نسعى للقضاء عليه.

فحق القول الكافي إذن أن يكون عن ظاهرة فقاهة العرب وظاهرة أصوليَّة غيرهم الَّتيقد يبدو منها كونها متفاوتة عمَّا سبقها من حيث المبدأ وبما قد يُعطي مديحاً لائقاً لكن لا لخصوص القوم الأوَّلين ومن لحقهم دون الثَّانين ومن لحقهم.

ص: 41

لكن إذا جعلنا الأصول في كل حالاتها لا قيمة لها غير تلك الفقاهة وقد يكون معها بعض الأصول المحتاج إليها في المستحدثات، وهو أمر غير سليم من جهة إمكان المناقشة لذلك في بابها إذا لزمت.

وهكذا إذا جعلنا الأصول هي الَّتي عليها المعوَّل دون الفقاهة المجرَّدة عن موارد الحاجة من تلك الأصول فلا اعتبار بتلك الفقاهة أيضاً لو تجرَّدت عن ممارسة الفقاهة الكاملة الَّتي كما في الحالة الأولى.

لكون ذلك أيضاً أمر غير سليم عن الحاجة إلى المناقشة العلميَّة في بابها.

فلابدَّ من عدم فسح المجال بإشغال الأجواء العلميَّة ببيان الحقائق الَّتي لا يمكن نكرانها لنا أم علينا.

وفي نفس الوقت أيضاً أنَّ هذا الأمر لو اتَّضح في صدقه وبراءة ذمم ذوي التَّقابل من الأقوام - بسبب وجود بعض الشُّبهات الَّتي يمكن إزاحتها أو انقشاعها من الإشاعات المغرضة خارجيَّاً أو داخليَّاً من عداوة حمقاء أو سذاجة بلهاء، لأنَّ الأمر في واقعه ليس كذلك إذا أمكن التَّوجيه بين خصوص الغيارى من أهل الحل والعقد في الأزمات كهذا الأمر -

فهو غير هيِّن جدَّاً على هؤلاء الغيارى والعقلاء من متديِّني الطَّرفين وروَّاد جمع الشَّمل الإسلامي والإيماني، وعلى الأخص إن طبَّل وزمَّر بعض السَّطحيِّين الآخرين بين أهل الفرقة النَّاجية الواحدة صانها الله من كل المخاطر وبين رعيل مجتهدي الجانبين.

كيف إذن لو كانت هذه الإثارات مسبِّبة لإثارة ما كان يجري من العهود العجاف وممَّا قد أكل الدَّهر عليه وشرب من محزنات ما جرى بين الأصوليِّين والأخباريِّين.

وكانت قد أنهاها تعالى من لطفه باجتهاد المجتهدين وبما اصطلح عليه عند الجانبين وبيقظة العوام عن نومة الغافلين نوعاً بتقليد الأحياء من كمَّل الفقهاء والأصوليِّين أو البقاء على تقليد من مضى من موتاهم استمراراً إن رضي الأحياء بالبقاء دون

ص: 42

التَّعصُّبات الماضية على تفصيل في محلِّه.

كيف وإنَّ كُمَّل الفقهاء والأصوليِّين ممَّن يشد بعضهم بعضاً وإلى حد إمكان تحقيق الوسطيَّة الكاملة في الاثنين بما يكمل بعضهما البعض الآخر ونحو ذلك ممَّا سوف يتَّضح أمره في البحوث الأصوليَّة وكان جامعهما الأسمى ممَّا يثلج الصَّدر هو نكران الذَّات بين كل منهما والإيثار حتَّى في مثل التَّنازل عن تقمُّص مرجعيَّته للآخر وإن تمَّ ترشيحه من قبل الجميع.

فلابدَّ لهذه الواقعيَّة أن تكشف زيف ألاعيب ما يرتكبه المفرِّقة من الأعداء لو تجاهروا في عدائهم ممَّا يشدِّد في خطورتها أكثر فأكثر.

إلاَّ أن يهتم في مقابل ذلك بمحاولة صونع المستحيل للقضاء على هذه الظواهر المقيتة بتكاتفنا بحكمة وحنكة اتِّخاذ القرار الجماعي المكافح والمميت لما لم يكن في أساسه مقصوداً في بعض الأحيان في العناوين المشاعة كعنوان هذا البحث، وإن كانت هناك بعض حالات يمكن حلُّها بما لم يرد منه إثارة أيَّة نعرات نتيجة لتصرُّف بعض أهل السَّذاجة المؤذية أوالذَّكاوة المخيفة ممَّن يزن الأمور الاجتماعيَّة فيها بما لا يتناسب وضخامة خطورتها على ما سيجيء توضيحه قريباً بإذن الله تعالى.

لأنَّ أولئك الَّذين قد يستعربون الفقهاء حتَّى لو لم يكونوا من العرب حقيقة أو يستعجمون الأصوليِّين وإن كانوا من العرب كذلك وحتَّى بنفس اللجاجة ممَّا هم قد يخفى عليهم كونهم رعاة مصالح مستقبل الملَّة ولا حتَّى أنفسهم.

فإنَّهم مع ما هم عليه من السَّذاجة والبساطة فلا يجوز تركهم إلاَّ ببذل النُّصح لهم من قبل القادرين عليه.

ومع ما هم عليه من الذَّكاوة يجب الحذر منهم أيضاً في بعض المقامات كالحذر من أهل الحماقة.

وإن كان الكثير من هؤلاء العلماء أبرياء من التُّهم، كما علم ذلك من بعض

ص: 43

القرائن والأوساط الخبيرة المتديِّنة.

فأكثر الظن إذن لابدَّ أن يوكل أمر الاتِّهام فيه إلى بعض أو كثير الأطراف والحواشي من المروجِّين لمرجعيَّة هذا أو ذاك لبُعد الكثيرين من هؤلاء عن التَّقيُّد الدِّيني الثَّابت لا غير.

بل إنَّما هو انتماء إلى بعض الأحزاب المشبوهة حتَّى اللادينيَّة منها سرَّاً لأجل خصوص مصالحهم، ولم ينحصر هذا الأمر في خصوص إبعاد العرب الأكفَّاء ومنهم من جمع المنقول والمعقول والفقه والأصول عن المرجعيَّات اللائقة بشأنهم وحصرها في قوميَّات خاصَّة أخرى أو جعلها فيهم لقاء مصالحهم الخاصَّة أو لتآمر مبيَّت ولو في وقت خاص لنقلها لأيَّة قوميَّة مخصوصة أخرى بعد انتفاء أغراضهم أو كانت عامَّة للإخضاع إلى سياسة بعض الدُّول الظالمة ولو بتصفيتهم ظلماً بعد ذلك.

بل إنَّ غير العرب ممَّن يرجَّح عليهم غيرهم في الفقه والأصول من العرب وغيرهم أن تبنى أمورهم بعض الحواشي المشبوهة هم الَّذين قدَّموا هذا على ذاك أو ذاك على هذا لنفس تلك المصالح الخاصَّة.

كما تفطَّن إلى هذا الخطر وسعى بمقدار ما تيسَّر لديه الابتعاد عنه لنجاة الأمَّة آية الله السيِّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني قدس سره وبعض من سبقه من المراجع السَّابقين عرباً وغيرهم بعد عمليَّة تسفيرهم حتَّى كسَّر بعضهم أختامهم الماليَّة لئلاَّ تؤخذ الأموال بواسطتها خلسة لغير مصالح الدِّين والشَّريعة، وكذلك آية الله السيِّد عبد الهادي الشِّيرازي قدس سره وكذلك آية الله السيِّد محمود الشَّاهرودي قدس سره وولده آية الله الأستاذ السيِّد محمَّد الشَّاهرودي "دام ظلُّه" وهكذا آية الله الأستاذ السيِّد السَّبزواري قدس سره وغيرهم وغيرهم لطردهم الكثير من تلك الحواشي.

لأنَّ المبنى الشَّرعي في أمور المرجعيَّة وقيادة الأمَّة عندهم أن تطلبك المرجعيَّة لتتصدَّى لها دون أن تطلبها أنت كي تتصدَّى لها لإحراز رضا صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ أوَّلاً

ص: 44

وآخراً، وإن تأخَّرت مرجعيَّات بعضهم أو سبَّبوا إبعاد بعضهم الآخر عن ساحة التَّرشيح إلى بعض البلدان الأخرى غير الحوزويَّة.

كما وأبعد الكثير من العرب من أهل الاستحقاق التَّام للمرجعيَّة وإن كان بحجَّة أمراضبعضهم أو قلَّة ما في يدهم من المال أو تلبية نداء زملائهم من المراجع لبعض الأغراض الشَّريفة، لكن لم يخل ذلك من التَّحريض من تلكم الحواشي المشبوهة ممَّا مرَّ ذكره وإن كان لبعض الوقت.

كما أنَّ من بعض المبعدين هم بعض غير العرب ومنهم من صفُّوا بالاغتيال والقتل وغيره قديماً وحديثاً بالتَّسفير كما في عهد البعثيِّين بعدما سبقه ما يشبهه.

وجزى الله تعالى بعض الأعلام خير الجزاء حيث كشفوا بعض هذه الحقائق عن الأعلام العرب ممَّن أبعدوا ولو بتوكيل من مجتهد لمجتهد أو جمِّدوا أو سبِّبت لهم أمراضهم نسيان ذكرهم عند البعض.

فإنَّهم وإن لم يكترثوا في أنفسهم بما سُعي لهم أو لم يكن من قصد المراجع الموكَّلين لهم الإساءة لهم ولكون خير صفة كانت لهم أنَّهم كانوا من أهل الإيثار تجاه أقرانهم، إضافة إلى تحلِّيهم بالورع والتَّقوى والاحتياط كآية الله الفقيه الأصولي السيِّد الجد قدس سره وابن عمِّه آية الله السيِّد محمَّد مهدي الموسوي الغريفي قدس سره وابن عمتِّه آية الله العلاَّمة السيِّد هادي الحُسيني الموسوي الغريفي الصَّائغ قدس سره وقبلهم النَّابغة آية الله السيِّد عدنان الغريفي قدس سره حيث غُيِّب من قبل الأعداء ثمَّ أرجع إلى المحمَّرة، وغيرهم من أصحابهم.

فإنَّ آثارهم - وتخرُّج المئات من تلامذتهم على أيديهم مجتهدين وما كتبوه وانكبُّوا عليه من التَّدوين والتَّحقيق فيه أوقات فراغهم وذكر كتب الرِّجال والتَّراجم لهم ببعض ما يناسبهم -

لخير دليل على تفوُّقهم في الذُّكر، حتَّى على كثير من المراجع المنصوبين من أولئك السُّعاة حينما صاروا مراجع ولم يدوِّنوا شيئاً أو قلَّ سعيهم في ذلك لانشغالهم

ص: 45

بمرجعيَّاتهم أو كتب لهم ليكون الاسم لهم بينما حقوق الكتابة شرعاً للمدوِّن فقط.

فلابدَّ بعد هذا أن نقول الحق ولو على أنفسنا - وعلى قاعدة قوله تعالى [وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](1) بلا أي فرق بين أقوام العرب وغيرهم -

بأنَّ من كان أهلاً للمرجعيَّة العليا بمثل حسن الإدارة المرتبطة بالعليا فضلاً عمَّا لو كان الفاقد للإدارة أو الضَّعيف فيها هو الأعلم في الفقه والأصول.

وهو ما قلناه ونقوله في الفقهيَّات في محلِّه ممَّا بين الإفراط والتَّفريط من نمط الوسطيَّة بين الظاهرتين على ما سيجيء توضيحه، لتفادي خطورة ما يريده أو يسعى له الأعداء ولو من وراء الكواليس، لئلاَّ يكون البريء واقعاً في شَرك البليَّة.

بينما التَّمنِّي بكل المنى الَّذي نسعى له في هذا المدخل إمَّا هداية الجهلة البسطاء بتخليصهم من أسباب النِّزاع المختلفة من المتعمِّدين في زمن كثرة المشاكل كي يراعوا عواقب الأمور لصالح سلامتهم.

أو الوقوع بقاءً في شَرك تلك البليَّة لو كانوا من الحمقى.

لتكون النَّجاة ثابتة لأهلها من تلك الفرقة النَّاجية ومصير الآخرين حسب ما أصرُّوا عليه هو التَّيه والضَّلالة رغبة في العقوبة الدُّنيويَّة قبل الآخرويَّة.

التَّنبيه على إمكان تلاقي الفقاهة والأصول للخلاص من مخاطر بعض الفتن المقدور عليها

بعد ما بينَّا الكلام الفقهي في تعاليقنا المبسوطة - على الاجتهاد والتَّقليد من مسائل العروة الوثقى عن الفرق بين الفقاهة والأصول وما أوجزناه هنا عن هذا الأمر -

بأنَّ الفقاهة يمكن اجتماعها مع الأصول وبكمالٍ في الاثنين، سواء قلنا بالفقاهة كما

ص: 46


1- سورة الشعراء / آية 183.

في السَّابق ثمَّ الأصول في اللاحق، ومن بعد ذلك تطبيق الفقاهة على ضوء الأصول.

أو قلنا بأوليَّة الأصول في هذه الأزمنة الأخيرة وانطبقت الفقاهة على ضوئها إن تمَّ قبول ذلك بالتَّالي.

وبعد أن قلنا بأنَّ حق القول أن يقال بأنَّ العنوان الماضي لا علاقة له بأن يكون دالاًّ على حصول قاعدة كليَّة ليكون كل محصِّل عربي حوزوي فقيهاً ولا كل محصِّل غير عربي أصوليَّاً.

وإنَّما ذكرناه عنواناً للإشارة به لأن نجعله مدخلاً إلى البحث عمَّا أشيع عنه فيه في بعض الأوساط، للتَّشهير بما حصل من بعض المصاديق بفقاهة بعض العرب وأصوليَّة البعض من غيرهم للبناء على ذلك ليكون كالقاعدة.

إمَّا بغضاً لنوع غير العرب - من الأقوام الأخرى كالعرب لما حصل من بعض جهلتهم ضدَّ بعض أو نوع محصِّلي العرب - لئلاَّ يوفَّق للمرجعيَّة وإن استحقَّها شرعاً وحبَّاً للعرب ليفوزوا بهذه السُّلطة ولو بين أقوامهم وإن ضعف بعضهم عنها إداريَّاً ولو لشبهة حنكة الفقاهة المفضَّلة في العرب لقربهم من لسان النَّص الشَّرعي دون غيرهم وإن قدر بعض الغير على نفس القول بذلك لكن لسان الشَّرع الواضح لو راجعناه فإنَّه يختلف عن هذا التَّشخيص كثيراً للتَّسامي عن المشاكل.

وإمَّا بغضاً لنوع العرب من الأقوام الأخرى - لما حصل من بعض جهلتهم ضدَّ بعض أو نوع محصِّلي غير العرب لئلاَّ يوفَّقوا للمرجعيَّة وإن استحقُّوها - وحبَّاً لغير العرب ليفوزوا بهذه السُّلطة وإن ضعفوا عنها في بعض الجهات وكما بين العرب أنفسهم، ولو بشبهة حنكة أهل الأصول المفضَّلة في غير العرب لبُعد نظرهم الفكري في بعضهم وقصره في البعض الآخر لنوع عجزهم عن مثل قدرة العرب اللِّسانيَّة وسرعة فهم معانيها.

والشَّرع الواضح لو راجعناه لم يأت بهذه الدقَّة من المفارقات، وإنَّما أتى بأوامر

ص: 47

جمع الشَّمل ونواهي التَّفرُّق كقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](1) وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى)(2) وغيرهما.

والسَّبب في عدم انطباق هذا العنوان على القاعدة الَّتي ربَّما أشيعت كما أسلفناه ليتساوى طرفا العنوان دائماً في مرحلة التَّفاوت بين القومين المختلفين من مصاديق هذا العنوان أو ذاك ولو من الجهة الخارجيَّة، لعدم صدق كون كل عربي لابدَّ وأن يكون فقيهاً وعدم صدق كون كل غير عربي بأنَّه أصولي، لإمكان اجتماع الفقاهة والأصوليَّة في العربي وفي غير العربي من المحصِّلين كذلك، وعدم لزوم اجتماعهما في الاثنين كاملين أو ناقصين أو اختصاص العربي بالفقه أو غيره بالأصول وافتقارهما كليَّاً لهما.

إذن فالمبنى في أمر المخاطر هو على أن لا تقع كارثة مشابهة لما وقع ممَّا وقع سابقاً في مصير الفرقة النَّاجية الواحدة.

فينبغي بل يلزم أن يكون لو تكاملت أمور الفقاهة والأصول في أي جهة من القوميَّتين المكرَّمتين دون أن تكون الفقاهة ناقصة والأصوليَّة كاملة أو الفقاهة كاملة والحاجة الماسَّةإلى الأصول العمليَّة في مثل مستحدثات المسائل الَّتي لم تتوفَّر مواردها الطَّبيعيَّة حتَّى لو كانت المرجعيَّة في العرب أو غير العرب وعلى كون أساس توفُّر الشُّروط كاملة في أي جهة هو الحلاَّل للمشكلة الاجتماعيَّة.

فلا تجوز محاربة أيَّة مرجعيَّة أذن الله تعالى من توفيقاته بالظهور لها حتَّى إذا كانت أدنى المرجعيَّات في الإدارة ممَّن حقَّ له ذلك مع توفُّر الشُّروط حتَّى لو كان الغير هو الأرقى في مرجعيَّة يمتاز بها بحسن الإدارة مع الشروط موجوداً.

كما لا يجوز التَّجاوز على الأرقى من جهة حسن إدارته بما يناسب مرجعيَّته الأوسع ممَّا مرَّت الإشارة إليه بلا فرق بين العرب وغيرهم وإن سبَّب ذلك قلَّة في

ص: 48


1- سورة الحجرات / آية 13.
2- من لا يحضره الفقيه 2:27 باختلاف يسير، والكافي 2: 246.

مرجعيَّة الأدنى بلا تصدٍّ عمدي من الثَّاني.

وقد مرَّ تبسيط هذه الأحكام في الرَّسائل العمليَّة بما يغني عن الإطالة هنا.

المدخل السَّادس

المدخل السَّادس(1)

هل يمكن تساوي اجتهاد الفقيه مع اجتهاد الأصولي؟

ومعه أيُّهما المقدَّم؟

وفيه محاولة المقارنة الزَّمنيَّة بين الفقاهة الأولى والأصول

لا ريب أنَّ متابع كلامنا عن تأريخ الأصول - سواء سمَّينا الأصول علماً من بداية حصول الفقاهة أوائل صدر الإسلام أو ظهرت علميَّته عند الحاجة إلى تقنينه كعلم وإن نوقش في حكم ذلك كمَّاً وكيفاً -

لابدَّ بعده من أن يعرف أنَّ أمهات الأصول من الكتب الَّتي كتب عنها كالمعالم وما شابهها قبل ذلك أو بعده لابدَّ وأن لا تمر قواعده على الأصولي إذا حدثت عنده حادثة يريد معرفة حكمها فقهيَّاً على أساس من الأصول إلاَّ وأن يكون مجتهداً أوَّلاً في تلك القواعد، ليكون بصره وبصيرته بالنِّسبة إليها كبصر وبصيرة ما ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ تجاه مدارك الفقاهة أو ما يقرب من ذلك.

وألاَّ يكون مقلِّداً لغيره في مدارك الاستنباط الأوَّلي في أيَّام الحاجة إلى الأصول كأيَّام البُعد عن زمن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وتعقُّد الأمور السَّنديَّة ونحوها.

فضلاً عمَّا بعد المعالم من أيَّام التَّوسُّع الأصولي وتفريع الفروع الأصوليَّة وتكثيرها لتسديد المطلب الحكمي الفقهي لئلاّ يتجاوز عن أساسيَّاته المدركيَّة في لسان أهل

ص: 49


1- هذا المدخل له علاقة بنتيجة المدخل الخامس.

الفقاهة.

وعلم هذا أمر ثابت في منظور الاجتهاد اللُّغوي على ما ذكرته قواميس اللُّغة المعتمدة، ككون المعنى أنَّه مأخوذ من بذل الجهد بفتح الجيم بمعنى الغاية كقوله تعالى [وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ](1) ليتبنَّى حمله كثقيل، وهو كناية عن شدَّة المسؤوليَّة أو ضمِّها كقوله تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ](2) أي يُتعبون أنفسهم في تحصيله كعمليَّة استنباط الماء من البئر.

وكلا المعنيين لا يتنافيان مع أقصى ما يبذل في سبيل الشَّيء، وممَّا لا يتنافى أيضاً حتَّى عن المعنى الاصطلاحي لدى أهل العلم على نحو الخصوص بعد اللُّغوي العام.

ولعلَّ منه أو أقرب إلى معناه ما ورد في القرآن الكريم حكاية عمَّا كان يجري في القديم من قبل علماء الخواص على ما ترجمه القرآن بلسانه العربي المبين وهي قوله تعالى [وَلَوْرَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ](3) وهم الأسباط الَّذين يقولون الحكم عن الاستنباط المصطلح لا غيره.

وهو الَّذي لا يتنافى مع ما كان ممكناً في إجراءه فقهياً عند الحاجة إليه، لتعلم الأمَّة في مجتمعها وأفرادها أدَّلة التَّصديق بما يراد من الآيات والأحاديث النَّبويَّة بواسطة العترة حتَّى في صدر الإسلام.

وهذا التَّوجيه يمكن جعله من أوجه التَّقارب للتَّساوي بين الاجتهادين للفقيه الكامل والأصولي المهذَّب ممَّا يصحِّح اختيار أيِّهما في قيادة الأمَّة، ومن أدلَّة ذلك القرآنيَّة قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ

ص: 50


1- سورة الأنعام / آية 109.
2- سورة التوبة / آية 79.
3- سورة النساء / آية 83.

قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](1).

وأمَّا الرِّوايات الَّتي ذكرها الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ - عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ممَّا لم يبتعد عن صدر الإسلام أو هو نهج على مسلكه وإن بعُد - فكثيرة، إلاَّ أنَّ الاجتهاد لم يكن عند النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوماً من ذاته لذاته.

لأنَّه إمَّا من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم فهو من الموحى به إليه من دون تصرُّف إلاَّ بما أذن إليه من الشَّرح والإيضاح عن السنَّة وممَّا أشار إلى هذا قوله تعالى [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ](2) وقوله [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](3).

فما بقي من ذلك إلاَّ ما أذن به لنبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم من السنَّة الشَّريفة بتوجيه الأدلَّة لخواصِّه الَّذين يتحمَّلون تفاصيلها كابن عبَّاس وغيره ممَّن تعلَّم هذه الأمور من أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وإمَّا من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ فهو الحافظ لوحي الله آيات وشروحاً وللسنَّة تفصيلاً كذلك، من دون حاجة إلى شيء من الاستنباط الاجتهادي لا على نهج الفقاهة الميسورة في مداركها وقت الانفتاح الكامل أيَّام أهل العصمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، ولا على نهج الأصول في بداياتها أيَّام تيسُّر الأصول الأربعمائة عند الخوف من بعض الانسدادات أيَّام كثرة الأكاذيب على النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في وضع الأحاديث أو تلفيقها، لتشويشها على الأقل من قبل الأمويِّين ومن سبقهم والتحق بهم.

أو مع وجود بعض الانسدادات حينما كان الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ موجودين أو يمكن الاتصال بهم ولو على مضض ولو بواسطة الحواري والسُّفراء مع تيسُّر قرب الإسناد المنقَّح

ص: 51


1- سورة التوبة / آية 122.
2- سورة القيامة / آية 16.
3- سورة الحاقة / آية 44.

وتيسُّر المتواترات.

لأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كالنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم من بعده هو حجَّة الله في الأرض - لا يُعاب عليه، لعصمته بلا زيادة أو نقيصة، وإنَّما كانت استدلالاته إمَّا نقضاً أو حلاًّ أو إقناعاً، ليعلم الغير كيف الاجتهاد الَّذي يحتاجه الغير لإجابة مناقش الغير من الآخرين وكذا إفحام الأعداء.

ولذلك كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أوَّل من أرسى قواعد الاستدلال بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بادئاً منالأدبيَّات لعلاقتها بالكتاب والسنَّة، إلى أن توسع التَّعليم من قبل بقيَّة أبناءه من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ بمثل نشوء مدرستي الباقر والصَّادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ وغير ذلك، بما سدَّدهم الله بفائق المعاجز والكرامات من العلوم الباهرة.

ولكن قد تُثار بعض الإشكالات المحسِّسة لنا من محاربي الحق من المخالفين لنا بعد ما عرف من نهج البلاغة وغيره قول الإمام في وعظه (ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد)(1).

إذ قد يقول الخصم كيف يعظ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ من تحت منبره ولم يضم هو نفسه إليهم؟

وبحل هذا الإشكال ومن جميع نواحيه يتبيَّن الفرق بين المعنى اللُّغوي والمعنى الاصطلاحي أو يتجلَّى الاصطلاحي للاجتهاد أكثر.

وإن أمكن اتِّصاف المأموم بالاثنين وعدم اتِّصاف الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالاصطلاحي لنفسه.

لأنَّ علم الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لدنِّي وانكشافي وإن أطلق على هذا العلم أنَّه اجتهاد، لوضوحه بالنِّسبة إليه منه كالشَّمس في رائعة النَّهار كما ورد عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في ليلة وفاة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لمَّا دعاه النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم إليه وأجابه ثمَّ سارَّه تحت الكساء وجلس عنه مبتسماً قائلاً (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي منه ألف باب)(2) وقيل (ألف

ص: 52


1- نهج البلاغة: 416 - 420 رقم 45.
2- مناقب آل أبي طالب 2/36، كنز العمال 13/114.

ألف باب)(1).

وهو معنى الانكشاف الَّذي لا يحتاج إلى الاجتهاد الاصطلاحي الَّذي لا يحتاجه إلاَّ من تتزاحم عنده الأفكار ولم يقدر على نيل الرأي الصَّواب فيها إلاَّ بإعمال قواعد الفقاهة أو الأصول.

وكما ورد أنَّه قد سأله (عمر بن الخطَّاب قال له: يا أبا الحسن، إنَّك لتعجل في الحكم والفصل للشَّيء إذا سئلت عنه، قال : فأبرز علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ كفَّه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر : خمسة، فقال: عجلت يا أبا حفص، قال: لم يخف علَيَّ، فقال علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنا أسرع فيما لا يخفى علَيَّ)(2)، وغير ذلك ممَّا أثر عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ من مصادرنا وغيرها.

وقد نقلت كتب الفريقين أحاديث كثيرة في مدحه من قبل النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم كقوله صلی الله علیه و آله و سلم (علي أعلمكم وأفضلكم وأقضاكم، والرَّاد عليه كالرَّاد علَيَّ، والرَّاد علَيَّ كالرَّاد علي الله، وهو على حد الشرك بالله)(3) و (أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي من بعدي)(4) و (أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب)(5).وغير ذلك الكثير ممَّا يثبت كون المعصوم فوق مستوى البشر دون مستوى الخالق ومعه الأئمَّة من أبناءه عَلَيْهِم السَّلاَمُ .

فإنَّ الاجتهاد بالمعنى اللُّغوي يمكن أن يدخل بمعنى الإمعان في الطاعة، وأداءها لا

ص: 53


1- بحار الأنوار، 26، 29.
2- المناقب لابن شهر آشوب ج2 ص 31.
3- رواه أحمد في مسنده، وأبو المؤيد موفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب، والمير سيد علي الهمداني الشافعي في مودة القربي، والحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي في سننه، وغيرهم.
4- حلية الأولياء 7: 195 و196، مشكل الآثار 2: 309، تأريخ بغداد 11: 432، مسند أحمد 1: 182، 2.
5- اللئالئ المصنوعة: ج 1، ص 329، ورواه الحاكم في المستدرك (ج 3، ص 126).

بمعنى الاستدلال على ثبوت وجوبها أو استحبابها إلاَّ في مرحلة الحاجة إليه ومن أهله المجتهدين.

فلابدَّ من التَّفرقة بين علم الإمام وعلم المأموم، ولذا وردعنه قوله (ألا وإنَّ لكل مأموم إماماً يقتدى به ويستضيء بنور علمه)(1)، وعلى فرض عدم ذلك جدلاً فلا داعي للانقياد مع وجود الفرق الثَّابت.

ولنا كلام عقائدي عن علم الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ينبغي المتابعة له في المطبوعات الخاصَّة وليس هذا موضع ذكره.

ومن هذا القبيل موقفه مع طلحة والزُّبير لمَّا أرادا مبايعته واشترطا عليه اتِّباعه الكتاب والسنَّة وإضافة سيرة الشَّيخين وبعد رضاه باتِّباع الكتاب والسنَّة كما هو أهله امتنع عن متابعة سيرة الشَّيخين قائلاً حصرها باجتهاد رأيه، لأنَّ قوله تعالى [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ](2) حينما ثبت أنَّهم الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ دون من كان الأدنى.

ولموانع كثيرة تعرف عن دراسة تصرُّفاتهم تجاه إمام زمانهم الَّذي أوصى بها النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عن الله تعالى مرَّات وكرَّات وبقيَّة الأئمَّة من أبناءه عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فهم الحفظة والاستنباط المذكور في القرآن للآخرين لا لأنفسهم.

ومن معانيه اللَّفظيَّة تشخيص الموضوعات لا الأحكام المحفوظة، وإذا كان علم الَّذين يستنبطون هذه الأحكام من أولي الأمر إن استحضر للتَّوجيه فليس بلازم ليكون في جهالة قبل الاستنباط.

هذا كلُّه فيما إذا أمكن التَّساوي بين سائر العلماء من غير المعصومين كما سبق.

وأمَّا في حالة عدمه فقد يفترض أيضاً كما هو سائد بين أهل العلم، حتَّى لو تساوى الفقيه وكذا الأصولي بالمنظور السَّابق في اجتهادهما وأبهرا في النَّتيجة الاستنباطيَّة.

ص: 54


1- نهج البلاغة: 416 - 420 رقم 45.
2- سورة النساء / آية 83.

فقالوا بأنَّ الفقيه في هذه الحالة هل هو المقدَّم على الأصولي من حيث هو فقيه؟

أم الأصولي كان هو المقدَّم على الفقيه من حيث هو كذلك؟

فضلاً عمَّا لو كان أحدهما هو الأعلم من صاحبه لو ثبتت الأعلميَّة.

لأنَّ هذا المعنى قد لا يُعد في الحقيقة تساوياً إذا رأى أحد المجتهدين بتقدُّم أحدهما على الآخر أو تأخُّر الآخر عنه، لاعتبار مايز في المقدَّم في نظره أنَّه هو السَّبب في تأخُّر الآخر عن المقدَّم أو العكس، وبهذا تحصل حالة عدم التَّساوي.

مثال ذلك أنَّ رأي من يقدَّم الأصولي اليوم على الفقيه قد يكون له المجال المناسب لكون الفقاهة محلَّها في الزَّمن القديم وزمن القديم هو زمن انفتاح الأدلَّة اللفظيَّة وفطرة التَّضلُّع العربي وإتقان أدبيَّاته فطرة وعملاً إضافة إلى العلم الفنِّي بذلك وقرب الإسناد بما لم يكنكالبعيد عنه وتوفُّر الأصول الأربعمائة والآن لم تتوفَّر بعضها إلاَّ بشق الأنفس من المحاولات وكثرة المتواترات والآن لم يضمن منها إلاَّ المحدود في قلَّته، وهكذا قوَّة ظن أنَّ كثيراً من الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب أخيراً هي وإن كانت من المتواترات في القديم ولكن لم تثبت عندنا اليوم إلاَّ بما قد يستضعف عند البعض الآخر من العلماء وهكذا كانت الفقاهة ناجحة ولأنَّها قرب عصر الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحواريهم الأقربين وهي الآن ليست كذلك إلاَّ عن طريق التَّوسُّع الأصولي.

ولكن هذا أوَّل الكلام عند آخرين.

إذ رأي من يقدَّم رأي الفقيه مع توفُّر الرِّوايات مع ما تكامل فيه حتَّى في هذا الزَّمان، فلأنَّ من مبناه عدم انحصار العمل بأخبار الآحاد إلاَّ بما أستثني منها والعمل حتَّى بالضَّعيفة المجبورة بعمل الأصحاب والتَّفوُّق العلمي والعملي بالأدبيَّات وعن ذلك قوَّة الخبر بتصحيح الأسانيد بالمتون وكثرة التَّجارب الاستنباطيَّة عن طريق الفقاهة والتَّسامح في أدلَّة السُّنن وتصحيح العمل بأخبار (من بلغه ثواب على عمل)(1) ولو

ص: 55


1- ثواب الأعمال 1/160.

رجاءاً وغير ذلك.

بينما العهد الأصولي الموسَّع حتَّى لو تكامل وأتقن صاحبه أمر أدبيَّات مباحث الألفاظ فيه وما بقي حتَّى حالات ما يعوِّض عن حالات الانسداد أو الانفتاح الصَّغير فإنَّه الأقدر في بعض الأمور لو قصرت يد الفقيه عن بعض المدارك وفي الخبرة بقلَّة المزاولة وقويت يد الأصولي في الخبرة الفقهيَّة وإضافة العمل بالضِّعاف المجبورة أو الاحتياط.

لكن إذا كان من تصرُّفات الأصولي هو تنقيح المناط والأخذ بما لم يكن منصوصاً قياساً على المنصوص اعتماداً على المثال، وإنَّ الفقيه مبناه المنصوص ولو إرشاداً فإنَّه يكون هو الأقدر على ما سيتَّضح الأمر فيه أكثر.

وأمَّا ما قد يظهر من حالة التَّساوي العلمي وتفوُّق أحدهما في العمل والممارسة الفقهيَّة فقط فهو المقدَّم مع بقيَّة الأوصاف كما هو مفصَّل في الفقهيَّات.

وفي حالة عدم مشابهة أحدهما للآخر بما يتَّصف هو به والمؤدى في كليهما واحد وعلى القواعد الفقهيَّة فيؤخذ بكليهما مع بقيَّة المواصفات.

لأنَّ الأهميَّة للفقاهة الموروثة بمصاديقها والأصوليَّة وحدها لم تثبت لها العلميَّة التَّامَّة كبقيَّة العلوم على ما سوف يتَّضح.

وقد يغلب الفقيه الأصولي أيضاً لكثرة خبرته وممارساته النَّاجحة وإن كان الأصولي أعلم من الفقيه في الصِّناعة الأصوليَّة لو تقل خبرته في التَّطبيق الفقهي.

ولهذا وما سبقه أدخلنا هذا المدخل في ضمن المداخل قبل مقدِّمات مباحث الألفاظ، للإشعار بأنَّ بحوث المستقبل الأصولي والتَّعمُّق فيها هي الَّتي تتكفَّل بتشخيص المراد معرفته في أنَّ أي الأمرين يكون هو المقدَّم.

ص: 56

المدخل السَّابع

كيفيَّة علاج ما قيل عن الجمود الإخباري والتَّوسُّع الأصولي المخيف

كما أنَّ في بداية التَّوسُّع الأصولي عند الأصوليِّين كان شيء من الجمود الفكري عند غيرهم، وقيل ذلك عن الأخباريِّين أيضاً، واحتمال حل ذلك بالتَّوسُّط الأخباري الأصولي للفقه بعد التًَّصفية.

فلابدَّ وأن نقول ردءاً للصَّدع بين أهل الفرقة النَّاجية، لنجعل هذا الموضوع من المداخل المهمَّة الَّتي ينبغي - بل يجب مراعاتها بما يلي - عسى أن تكون بحوثنا الآتية ناجحة في منهجها الوسطي بين الأخبار المعتبرة والأصول المهذَّبة:

عند حلول الأصول الأصيلة سابقاً - عند مجيء الوحي للتَّشريع وارتباط السنَّة الشَّرعيَّة به من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وعترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ وما ألحق بتلك الأصول من فرعيَّاتها المهمَّة حين التَّدوين التَّوسُّعي المهم للحاجة الماسَّة إلى ذلك في بعض أزمنة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ المتأخِّرة والغيبة الصغرى وبدايات الكبرى وفترات البُّعد عن أعمدة المراجع من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن يُطمئن بالرُّجوع إليهم عند فقدهم من الحواري وأتباعهم وهكذا القواعد الفقهيَّة المعروفة بنجاح للاستعانة بها للتَّسهيل من ذات الثَّوابت المتاخمة لنتائج تلك الأصول الأصيلة والَّتي لم تخرج عن أطوار أساسيَّات الشَّريعة من الأزمنة القديمة إلاَّ أنَّها ربَّما ظهرت ببعض تصرفات غير لازمة في حينها -

نشأت - مع الاحترام لجميع علماء الأمَّة المقدَّسين -- سيرة التَّعصُّب الإخباري على ما يروى وإلى حد القول بلزوم جمود الفكر الفقهي، حذراً من وصول التَّصرُّف الفكري إلى حدِّ ما يتجاوز عن مراد النُّصوص أو ما يقابلها من الأدلَّة، حتَّى حورب -

ص: 57

من قبل بعضهم - الاجتهاد بكل أنواعه حتَّى النَّافعة منه كما يروى.

بل حتَّى المحتمل من جرَّاءه أكيداً لزومه حسبما ورد صحيحاً عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من التَّوجيهات إلى ذلك عند بعض حواريهم المهمَّين عنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولو بحجَّة أنَّ شرع الله لم يتغيَّر لورود قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا](1) وقوله [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ](2) بعد مثل آية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](3) وقول أبي عبد الله الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(4).

وهو صحيح في مقامه لكن دون مقام الاجتهاد المحتاج إليه، للوصول إلى ما هوالأوصل عند اختلاف الأدلَّة إلى ذلك الحلال للالتزام به أو الحرام لتجنُّبه، وفي مقام المستحدثات من المسائل للاستدلال عليها ولو بالأدلَّة الإرشاديَّة إن لم تساعد عليها الأدلَّة الأكثر بالانسداد.

وبقي هذا الأمر مدَّة عصيبة أثَّرت أثرها بالخلط الكبير بين الأخبار المقبولة وبين غيرها، وإلى حدِّ اتِّهام حتَّى الاجتهاديِّين أنفسهم من المعتدلين من قبل أخباريِّيهم أنَّهم كانوا أساساً في كونهم كانوا في البداية يستعملون عقولهم وسيلة لتصحيح قياسات غير الإماميَّة الممنوعة ثمَّ تركوها.

فنشأت المغالاة المخيفة في بعض كتب الرِّوايات الشَّريفة بمثل كتاب (الكافي) الشَّريف، حتَّى أصبح بمتناول أيدي عوامهم ليأخذوا أحكامهم منه بأنفسهم من رواياته الَّتي يجعلونها حجَّة على أنفسهم جميعاً، بحجَّة ما قيل عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في النَّوم أنَّه قال

ص: 58


1- سورة البقرة / آية 187.
2- سورة الإسراء / آية 36.
3- سورة المائدة / آية 3.
4- أصول الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.

(الكافي كافٍ لشيعتنا) وغير ذلك.

حتَّى لو ظهر التَّناقض الكبير الواضح من تصرفاتهم دون أهل العلم المتعارفين في باب الفقاهة لهم، وهو ما لا يمكن قبوله عند أهل العلم الكمَّل جميعاً من الأصوليِّين والأخباريِّين المجتهدين لقوله تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1) إلاَّ بما يمكن توجيهه بما لم يقبل الرَّد علميَّاً.

للتَّفاوت الواضح بين الأمرين وغير ذلك وفي مثل المسائل المستحدثة على الأقل المحتاجة إلى الأصول العمليَّة لو لم تكن الأفضل، وإن كان كتاب (الكافي) - بل حتَّى غيره من الجوامع والمجامع - مقبولاً عند بعض أو كثير من أساطين الأصول حتَّى بأجمع كتاب (الكافي)، كما عند الشَّيخ النَّائيني قدس سره من الأساطين كما نقل عنه سيدُّنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره ب- (إنَّ المناقشة في إسناد الكافي حرفة العاجز)(2).

ويمكن الإجابة عن هذا الأمر بأنَّ مفاد مضمونه هو لزوم الحاجة إلى جميعه، لكن بيد أهل العلم الَّذين يعرفون كيف يعالجون أموره، حينما يبدو من رواياته عدم الانسجام بين بعضها مع البعض الآخر دون غيرهم لو سبَّب الاجتهاد الاصطلاحي التَّصفية الصَّحيحة، كما في حالات (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) وضم المؤيِّدات المرفوضة في أساسها رجاليَّاً أو درائيَّاً ولو ضمناً، لأنَّها محسوبة على غيرنا من الطرق كطرق العامَّة، إلاَّ أنَّها مقبولة في باب التَّقريب عندنا، أو لإخضاع أراءهم لأراءنا ولو ضمناً على قاعدة الإلزام، أو كونها من طرقنا في الضعف ولكنَّها عوامل مساعدة لو كثرت لأثَّرت أثرها الضمني حتَّى لو كان مع صحيحة واحدة في تشكيل القوَّة السَّنديَّة بالمعنى، أو أنَّها ضعيفة عندنا ولكنَّها مجبورة بعمل الأصحاب، وهكذا.

ولقد أثَّر بعض الأخباريِّين - وهم المتعصِّبون - أثرهم في ابتعادهم عن تقليد

ص: 59


1- سورة الزمر / آية 9.
2- معجم رجال الحديث 1: 87.

المجتهدين حتَّى على مشروعيَّة تقليدهم لأولئك المجتهدين حتَّى لو كان المجتهدون منهم فضلاً عن غيرهم في تلك المدَّة.بل اكتفى بعضهم بتقليد صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ، مع كون ذلك لدى التَّحقيق غير مرضي به عند التَّأمَّل.

لأنَّ الإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لا يختلف في ذهنه الحافظ لأحكام الله كمن سبقه من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حتَّى يجتهد مستنبطاً لها من مداركها كرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإن كان يعرف الاجتهاد وأنواعه ليعرف أصحابه كيف يعلمون أساليب الاستنباط أيَّام بعدهم عنه.

لكون التَّقليد في زمن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ لا يمكن إلاَّ أن يكون بمعنى الامتثال والإطاعة بدون اعتراض من قبل العامي - وإن كان على خلفيَّة ثقافيَّة تفرض عليه المزيد من التَّعلُّم - على شيء من أدلَّة ذلك.

والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان في طبيعة الأمر لا يمتنع من ذكر ذلك له كعادته لنشر العلم بين العوام، لكن بدون اعتراض رادٍ عليه من العامي وإن كان في مثل زمن الغيبة الكبرى لا يمكن إلاَّ لمن تختلف عنده الآراء ومداركها من المختلف فيها من المسائل، فإن اجتهد واستقام في استنباطاته بما عرف بين الاصطلاحيِّين وعلى نهج ما عرف من أهل العصمة ومن بعدهم صحَّ تقليد ذلك المجتهد عند الحاجة إليه وإلاَّ فلا.

وللأسف أيضاً قد أثَّر هذا التَّدهور الفكري والسُّلوكي أثره البالغ، حتَّى سرى هذا المشكل على مسلك بعض الأصوليِّين بهجر بعض المجتهدين منهم لاجتهادهم بالتزامهم بآراء أستاذهم حتَّى لو كان المجتهد منهم جهبذاً جامعاً للمنقول والمعقول وإن كان بمجرَّد توجيه سؤال من الآخرين لو سألوا تلامذته المجتهدين فإنَّهم كانوا يجيبونهم باتِّباع أراء أستاذهم حتَّى لو كان ذلك بعد وفاته.

وأيضاً إنَّ تقليد الموتى سيرة عُرف بها الأخباريُّون، وقد رأيت في بعض مذكَّراتي الأصوليَّة القديمة بما توصَّلت إليه عن الفرق بين الأصوليِّين والأخباريِّين بأنَّها قد تصل

ص: 60

إلى سبعين تفاوتاً أو تزيد شيئاً.

إلاَّ أنَّ الحق عمليَّاً بعد الَّذي عرف ثابتاً عنهم هو تقليد الموتى ابتداءاً، وهو أمر محلول عند أهل الوسطيَّة، بعد ما حصل ذلك عند تلامذة الشَّيخ الطُّوسي قدس سره تجاه أستاذهم الأصولي قدس سره حتَّى سُمُّوا بمقلِّدة الشَّيخ قدس سره أو أصحاب النِّهاية وإن كان ذلك التَّوجيه بعد وفاته.

حتَّى جاء دور المحقِّق الحُلِّي قدس سره فأعاب عليهم هذا الأمر، وأفهم من كان معاصراً له منهم أنَّ هذا الأمر غير مقبول منهم، لأنَّهم مجتهدون، والمجتهد يجب عليه أن يمارس عمله مستقلاًّ بنفسه إمَّا لنفسه أو لنفسه وغيره من العوام، وإن ما أُثر من عملهم هذا تجاه أستاذهم قدس سره قد تسبَّب منه إشاعة أنَّ هذا منهم إجماع فقهي.

وبعد توجُّه وتوجيه الشَّيخ المحقِّق قدس سره ومن تلاه من أمثاله ثبتت الإشاعة المعاكسة للسَّابقة، وهي عدم قبول اجماعات ما بعد الشَّيخ الطوسي قدس سره، وما بقي من هذا النَّحو من تقليد الموتى إلاَّ الاستمراري بقاءاً لا ابتداءاً، وهو ما به مجال البناء عليه في الجملة بين مطلق المجتهدين على ما سوف يتَّضح أمره في الفقه الاستدلالي.

وبعد حلول المشاكل الكثيرة - وبالخصوص أبان ضيق خناقها علينا نحن ملَّة الفرقة النَّاجية بعد ما كان على كل من سبقنا من غيارى السَّلف الصَّالح أمام أعداء نشأوا من نفسالدَّاخل الإسلامي من المسلك المخالف من بقيَّة المذاهب الأخرى بعد أن رأوا من واقعنا هذا التَّفرُّق أو ما يلوح في أفقه وإن نشأ عندهم ذلك التَّفرُّق المذهبي الرُّباعي أو الأكثر وكذلك من الجمود الفكري عندهم وبما قد يزيد بحسب مسلكهم المذهبي مع التَّطاحن المعروف عنهم فيما بين مذاهبهم الأربعة لبقاءهم على تقليدهم لمذاهبهم الأربعة أو الأكثر حتَّى هذا الحين -

نشأت بعد ذلك من أسلافنا الصَّالحين بصيرة الحرص على مستقبل الأمَّة ومعها أفكار الوعي الحريص على جمع الكلمة ولو داخليَّاً لنصرة الحق الأصيل الواحد،

ص: 61

ولإظهار حقِّنا الثَّابت في دقَّة أدلَّته أمام الآخرين من أعلام الأمَّة ولدحر الجمود والتَّراجع عن الثَّقافة الدَّاخليَّة النَّامية في نفس الفكر الشَّرعي الأصيل لو خلا من التَّعصُّب ومن كل من ألقى السَّمع وهو شهيد تجاه التَّجديد الفكري المحترم داخل الأطر المحدودة لا بما يزيد.

فأثَّر أثره المهم لدفع الكثير من تلك المشاكل وإن لم يكن الكل وإن كان في ذلك بعض الشدَّة اللازمة على ما عرف عند الوحيد البهبهاني قدس سره من مقصده الشَّريف في تأسيسه الأصول الحديثة وبلسان الاستقلال عن التَّبعيَّة وإن كان بحسب الدقَّة لا غرابة فيها لأنَّها لابدَّ وأن تكون متضمِّنة لكثير من الأصول الأصيلة.

وإنَّما سمِّي بيانها منه تجديداً آنذاك فلغرابة عناوينها في فترة ما قبلها من المشاكل حتَّى أثَّرت تلك الشدَّة أثرها الكثير على معاصره الشَّيخ يوسف البحراني قدس سره وإن كان محارباً عند الإخباريِّين من معاصريه وسابقيه لاجتهاده المعروف.

وبقيت هذه الحالة مدَّة غير قليلة بسبب السَّطحيَّة في العلاقة بين العلَمين وكلاهما يقطنان كربلاء المقدَّسة.

فالبهبهاني قدس سره أصولي مؤسِّس ومجدِّد، والبحراني قدس سره أخباري مجتهد لم تفته الأصول اللازمة والمعتمدة في عمليَّة الاستنباط كما في أصوله الَّتي دوَّنها في أوَّل حدائقه.

حتَّى تعرَّف الوحيد قدس سره على واقعيَّات مقاصد الشَّيخ البحراني قدس سره في دقائق ما عرفه من حدائقه وموسوعته الفقهيَّة البادية بالأصول المعتدلة أو الَّتي في تجديد الوحيد مع الحدائق ما لا يبتعد عن الاعتدال للبحراني قدس سره .

وعليه فإن زاد شيء فهو من الخير بعد تخفيف البهبهاني قدس سره معه بعضاً أو كثيراً من شدَّته معه أو ما أبقى منها شيئاً.

فلا شكَّ أنَّه نتج من خلال ذلك بين العلَمين - وهما البحراني والوحيد البهبهاني - التَّصفية من الزَّوائد والفضول وقبول الاجتهاد المعتدل فقاهة وأصولاً وأصولاً وفقاهة بما

ص: 62

اتَّصفا به وما يناسبهما معاً.

فلله درُّهما وعليه أجرهما.

المدخل الثَّامن

بدعة الحداثة أو التَّجديد في الشَّرع بما ليس منه

ظهرت في الآونة الأخيرة بدعة جديدة تُسمَّى بالحداثة أو التَّجديد في الشَّرع ولو بما ليس منه في الظاهر، بحجَّة اقتضاء ضرورة مواكبة العصر بما يستحقُّه من التَّطورات الاجتماعيَّة.

ومن راجع النُّصوص الأساسيَّة الواضحة في الكتاب والسنَّة وظواهرها، بل ومفاهيمها المستفادة مؤكَّداً من وراء الألفاظ واللوازم من قريب أو بعيد، بل وكذا الإرشاديَّات فلم يجد شيئاً حتَّى من تعاليم الأصول الصَّحيحة يدل على شيء منها.

وممَّن أسَّس هذه الظاهرة المفترات على الشَّرع نسبة إليه - كبدع الماضي المرير أو أثار ألاعيبها وساعد على ترويجها اليوم -

هي الأحزاب المسمَّاة بالإسلاميَّة وحتَّى من داخل متطرِّفي الفرقة النَّاجية وأناسها - نجَّاها الله من سوء عواقب هذه الكوارث - وإن انتسبت على نطاق ألسنة بعض رجالها أو أناسها سطحيَّاً خجولة إلى كون بعضهم لهم نسبة علاقة في سلفهم أو بيئتهم بالدِّين ولو جزئيَّاً مع سطحيَّة.

لئلاَّ يُقال بأنَّ هذا التَّطوُّر في الحداثة خارج عن الدِّين الأساس ولو بشيء من التَّلفيق مع السَّطحيَّة من الدِّين وإن كان في نتيجة هذه المحاولة بعد نجاح المخطَّطات الكتلويَّة أن لا يكون أي شيء مع الدِّين الواقعي ولو بالمصاحبة لما توافق عليه أو على بعضه إحدى المذاهب الأخرى المعتمدة على النُّصوص غير المؤكَّدة في كونها أدلَّة على

ص: 63

المراد الفقهي مع ما تذهب إليه الأصول الصَّحيحة أو المعتمدة على ما لم يكن من الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل عند وجود بعض الانسدادات كالقياسات الممنوعة أو سدِّ الذَّرائع أو المصالح المرسلة ولو بحجَّة التَّذرُّع بمحاولة جمع الشَّمل لأكثر من مذهب لإسكات المتدِّينين.

لأنَّ مثل هذا الابتداع هو نوع من التَّنازل الخاص مع القدرة التَّامَّة على التَّمسُّك بالدَّليل الصَّحيح، بل هو في حقيقته انهزام من الواقعيَّة ولجوء إلى العلمانيَّة المجرَّدة من القيم الدِّينيَّة الثَّابتة وإن رضي الدِّين ببعض مقرَّراتها كالنَّصائح الطبيَّة أو الفنيَّة الأخرى وإمضاءه لمقرَّرات أهل الاختصاص من رجالها.

لأنَّ هذا الرِّضا والإمضاء لهما أدلَّتهما المستثنات في نفس الشَّريعة الَّتي لا علاقة لها في أن تبرَّر للجميع جواز الخروج عن الدِّين وشرعه في غير ما أستثني لتكون العلمانيَّة أو القوانين الوضعيَّة أو ما خرج من الدِّين من بعض القياسات للمذاهب الأخرى أو ما تلفَّق من هذا أو ذلك ليكون الدِّين متماشياً مع كل عصر وإن قلبت موازينه لقوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِفَلاَ تَقْرَبُوهَا](1) لأنَّ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(2) وقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ (من أفتى بغير علم أكبَّه الله على منخريه في نار جهنَّم)(3) وغيره، كما وأنَّه قد لا تكون لها أيَّة علاقة في مقرَّراتها الحزبيَّة مع العلم من قريب أو بعيد أو حتَّى مع التَّلفيق الَّذي أشرنا إليه.

وهذه البدعة فيها محاولة خبيثة في باطنها وإن تمظهرت في ظاهرها ببعض من التَّقيُّد الدِّيني، وهي إخضاع الشَّرع الشَّريف إلى العلمانيَّة العامَّة للإيحاء إلى أنَّ الشَّرع واحد من بين الاتِّجاهات العلميَّة العديدة لاعتبار المبتدعين أنَّ التَّقيُّد الدِّيني في كل شيء هو

ص: 64


1- سورة البقرة / آية 187.
2- أصول الكافي ج1 ص 58 ، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.
3- وسائل الشيعة 18/ 16، تحف العقول 61.

حرمان من فوائد العلوم الأخرى.

بينما إثارة هذا الشَّيء يُعد شبهة في قبال بديهة إذا اعتبرنا الدِّين كما دلَّت عليه الأدلَّة الثَّابتة أنَّه ناموس الحياة في كل المجالات، فإخضاعه إلى العقل المشوب بالرَّغبات النَّفسيَّة -- للنُّفوس الأمَّارة وبلا أي حاجة إلى ما ذكرناه من إمضاء الشَّرع لبعض المقرَّرات الطبيَّة المزيلة للأمراض أو النَّاشرة للصحَّة العامَّة أو الخاصَّة الَّتي يجب اتِّباعها امتثالاً للأمر الشَّرعي الآمر بإطاعة قول الطَّبيب الحاذق في تشخيص المرض والدَّواء لا أكثر -- يُعد ممنوعاً.

وهكذا المقرَّرات الفلكيَّة للعلوم الأخرى الَّتي لا تقول إلاَّ الظن وهو منهي عن اتِّباعه في القرآن والسنَّة عن العترة كقوله تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ](1) وقوله [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً](2) وفي الحديث المنسوب إلى النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (إياكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث)(3).

إلاَّ ما حصل من عطاءه ما يطابق الشَّرع في النَّتيجة وهو المسمَّى ب- (الظن المتاخم للعلم)، كمحاولة الاكتفاء بالعين المسلَّحة بديلاً تامَّاً عن المجرَّدة لمثل الهلال، فإنَّ ذلك لا يمضى شرعاً بهذه الاستعانة بالمسلَّحة إلاَّ برفعها عن العين المجرَّدة ثمَّ ليرى الهلال بعد ذلك رؤية طبيعيَّة.

وإن قبلنا إرشاد الشَّرع إلى قبول بعض ما يقبله العقل لبعض المقرَّرات الأصوليَّة للاستناد إليها فيما لو انسدَّ باب العلم الشَّرعي فلأجل أنَّ بعض الأخبار الَّتي يُراد الاستشهاد بها كانت مهجورة من قبل الأصحاب، لأنَّها لا تستقيم مع الأخبار الأصيلة

ص: 65


1- سورة يونس / آية 36.
2- سورة الإسراء / آية 36.
3- موطأ مالك كتاب حسن الخلق - باب ما جاء في الهاجرة (15).

المتَّبعة في المقام، ولأنَّ من مباني أصول العامَّة هو اتِّباع القياس حتَّى مع الفارق.

فلا يمكن الرِّضا نوعاً في فقه الإماميَّة بما تقوله جماعة الحداثة والتَّجديد.وعلى أساس التَّنزُّل لصالح بعض المغفَّلين من دعاة الحداثة والتَّجديد - بادِّعاء القول بإمكان ذلك كما يقولون لتخليصهم بإجابتهم من بعض حالات الجمود الدِّيني الَّذي قد يخلو في نظرهم من بعض حالات تقليص الرِّوايات إلى حد توسُّع حالة انسداد باب العلم للرِّضا بمشروعيَّة عموم العلم حتَّى لو لم تدل الإرشاديَّات من الأدلَّة على شيء كالقياسات والاستحسانات ونحو ذلك أو للمجاملة للعامَّة حتَّى بالضغط على بعض ثوابتنا مع أنَّ (الرُّشد في خلافهم) في مرحلة الاختيار -

فإنَّ هذا سوف يصطدم بما ثبت في مثل دعاء النُّدبة وغيره كما في عبارة (أين المدَّخر لتجديد الفرائض والسنُّن) وغيرها، لأهميَّة انتظار قدوم صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ليحارب أهل الفتاوى الشَّاذَّة.

وممَّا يشير إلى صدق مضمون ما في دعاء النُّدبة قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ](1) وغيره، وهل أنَّ المجدِّدين هم نفس صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ حتَّى يقبل منهم التَّجديد وإن كان مبتدعاً كما مرَّ ذكره؟

وأمَّا حالة تجدُّد الفرائض والسُّنن الأصيلة بمعنى الإعادة - ممَّا قد يُستكشف من مصادرها كذلك عند العثور عليها بعد اختفاءها - وهي الَّتي معناها وجوب أو استحباب أو مشروعيَّة ممارستها بدون انقطاع في أوقات أداءها، كما فيما يتعلَّق بليلة القدر في كل سنة.

وعدم ممارسة الفرائض والسُّنن - بمعنى إحياء ذكراها لقضايا ولو تأريخيَّة تراثيَّة - فلم يكن داخلاً فيما سنذكره، فلا ينبغي الخلط بين المعنيين.

ص: 66


1- سورة القصص / آية 5.

وعلى فرض ادِّعاء أنَّ التَّجديد من سماحة الشَّريعة كما في قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ](1) وفي الحديث عنه صلی الله علیه و آله و سلم (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(2) والحديث عنه صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً (جئتكم بالشَّريعة السَّهلة السَّمحاء)(3)؟.

فإنَّه يُقال بأنَّ السَّماحة كانت وتكون داخل أطر نصوص الشَّريعة لا خارجها بمثل التَّقيَّة والضَّرر وتخفيف مستوى تكليف المكلَّف الأدائي لو اشتدَّ عليه لا أكثر.

وأكثر الظن أنَّ ممَّا ساعد على انتشار هذه الظاهرة أو تشجيع المبتدعين على التَّمسُّك ببعض الشُّبهات الَّتي منها قلَّة النُّصوص الكافية لردع هذه الأمور ما يأتي وهو:

خاتمة في ابتداع عمليَّة تقليص روايات الجوامع والمجامع

فإنَّ ممَّا ابتليت به الأمَّة وبالأخص في الآونة الأخيرة - ولعلَّه نصرة للتَّوسُّع في أمر الانسداد العلمي للمدارك الشَّرعيَّة الأصيلة حتَّى لو صار كبيراً، ولذا تصوَّر بعض الأصوليِّين توهُّماً أنَّه لا مانع من العمل ببعض القياسات وتنقيح المناط عموماً وتطبيق غير المنصوص على المنصوص أو قال بذلك غفلة عن الدقَّة الأصوليَّة المتورِّعة أو لجوء

ص: 67


1- سورة الحج / آية 78.
2- الكافي ج 5، ص292، باب الضرار.
3- الكافي ج 5 ص 494 باب "كراهية الرهبانيّة" وترك الباه" الحديث الأوّل، وفيه "بعثني بالحنيفيَّة السهلة السمحة".

للعلم العام حتَّى لو رفضت ذلك ثوابتنا الشَّرعيَّة من المحكمات ونحوها لتبرير القول بالحداثة والتَّجديد -

هو عمليَّة تقليص الجوامع والمجامع لرواياتنا الشَّريفة الَّتي عليها أمل الأمَّة، حتَّى وإن أدَّت إلى التَّنازل للأعداء السَّلفيِّين قليلاً أو حتَّى كثيراً وإن لم يكن بثمن مدفوع جهاراً تملُّقاً كما عُرف من فعل بعضهم ذلك، حتَّى لو سمحت بعض القواعد الأصوليَّة الصِّناعيَّة المرضي عنها عند بعض الشِّيعة الإماميَّة من ذوات النَّمط الأوسط للأخذ بالرِّوايات المتروكة عند أولئك المقلِّصين.

لأنَّ الكثير من تلك الرِّوايات الَّتي تركها المقلِّصون حتَّى على فرض ضعفها في نظر الَّذين تركوها فهي في بعضها مقوَّات بعمل الأصحاب إن لم نقل الكثير.

وإلاَّ فأين مقرَّرات وجوب استفراغ الوسع الاجتهادي مع إمكانه عند احتمال الخلاف ووجود أمل العثور على الضالَّة المنشودة للعلاج بناءاً على قاعدة (لا يخفى على فقيه طريق)، للخلاص من مثلبة الوصول إلى تغيير الدِّين في ظواهره، فضلاً عن بواطنه إذا أرادت هذه التَّغييرات العصور المتحضِّرة، حتَّى لو يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

وقد ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ذكر هذا الأمر من التَّغير في آخر الزَّمان في مورد الذَّم حتماً،ممَّا يبرهن على عدم رضاه بمثل هذه التَّغيُّرات المؤثِّرة وهو صلی الله علیه و آله و سلم (لا تزال أمَّتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرِّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السَّماء)(1) وقال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فيولَّى عليكم شراركم ثمَّ تدعون فلا يستجاب لكم)(2).

ص: 68


1- بحار الأنوار 97: 94.
2- نهج البلاغة: الكتاب 47، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 17/ 6 نحوه.

وقد كان السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره - الَّذي من ديدنه العمل بأخبار الآحاد دون الضِّعاف المجبورة - بعدما يكمل ما عليه من استدلاله على مبناه - عند حضورنا في مجلس بحثه الفقهي - يعقبه بالالتزام الإضافي للمسألة تورُّعاً بقوله (والأحوط وجوباً العمل برأي المشهور العملي)، كإشارة إلى الجابر لضعف الرِّوايات المعارضة لخبر الواحد الَّذي يعتمد عليه في أصوله لئلاَّ يقع في ورطة مخالفة الواقع.

أي حتَّى لو كان مدرك الرِّوايات المعارضة ضعيفاً لجبره بعمل الأصحاب وهو الشُّهرة العمليَّة، بناءاً على الوثوق لا خصوص وثاقة الرَّاوي، ولأنَّ سيرتهم العمليَّة كانت مستمدَّة من سيرة أهل البيت وأهل العصمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ .

وقد يكون ضعف السَّند غير مهتم به لوضوح الدِّلالة، كما عبَّر كثير من أهل العلم المختصَّين بالأدبيَّات عن هذا النَّوع بقول أحدهم (كثيراً ما صححَّنا الأسانيد بالمتون).

ولذا فإنَّ أغلب من سعى إلى هذا التَّقليص لهجر الباقي مع كون هذا - وإن كان منه الكثير والجم الغفير من هذا الباقي ممَّا يُعتز ويُفتخر به - هو المتَّهم بضعف دينه، بل تآمره عليه طاعة وتزلُّفاً للأعداء.

مع كونه فَعَل فِعلَ من كان مقلِّداً لأحد الرِّجاليِّين القائل بوثاقة الرَّاوي فقط، وهو حجَّة - إن كان مقبولاً - على نفسه لا على الآخرين.

ولكن انخرط إلى هذا الشُّذوذ والاعوجاج - في سليقة المعايشة للآخرين على اختلافهم في المذاهب - أولئك الَّذين يحبُّون التَّعايش السِّلمي معهم، لزرع أجواء الوئام والالتئام.

وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه، بل هو مرغوب فيه جدَّاً، لو خلى من التَّملُّق والتَّنازل عن الحق الثَّابت، وبقي محدوداً بحدود التَّقريب بين المذاهب بما لا تكفير ولا ذبح ولا تهجير فيه وبما نصَّت كتب الفريقين عليه.

واكتفاءاً بالتَّقيَّة في مقامها، ولكن لا على أساس هدم أركان الاستدلال الأصيل

ص: 69

بمثل حالة الاقتصار على الرِّوايات المؤيِّدة لجمع الشَّمل وترك المدافعة عن الحق الخاص عقيدة وعملاً، سواء من كتب المخالفين أو نصوصنا، سواء منها أخبار الآحاد أو المستفيضة أو المتواترة أو الضَّعيفة المجبورة بعمل الأصحاب.

فليس إنَّ من يعمل بأخبار الآحاد والاستفاضة والمتواترة عليه أن يحارب الضَّعيفة وإن جبرها عمل المشهور، بل إنَّ كثيراً من الرِّوايات المختلفة بما ذكرنا قابلة لأن يقوِّي بعضها بعضاً.وليس لكل من يعمل بأخبار الآحاد أن يرى إعدام كل الضِّعاف المجبورة لما ذكرنا.

كما أنَّ هناك صحاح آحاديَّة مهجورة ومحمولة على التَّقيَّة كما مرَّ مرراً.

وتعطيل الحديث الكامل سوف يأتي عمَّا دار بين السِّيد المرتضى قدس سره ومخالفيه عند مجيء الحديث عن الدَّليل الثَّاني للفقه وهو السنَّة.

وخلاصة هذا المطلب:

أنَّه لا يمكن إعدام كل الضِّعاف المجبورة في قبال الآحاد، إذ أنَّ السَّير على نهج هذه الضِّعاف كثيراً ما يكون أقرب إلى الطَّاعة والورع فيها.

وأنَّ تبعثر الأصول الأربعمائة ربَّما يجمع شملها أو شمل بعضها، وهو ما يعطي الأمل من محاولة عدم التَّساهل في إسقاط هذه الضِّعاف، إلاَّ ما أسقطتها الثَّوابت الفقهيَّة والأصوليَّة الَّتي عند الجميع.

وثمَّ إنَّ قاعدة التَّسامح في أدلَّة السُّنن أو العمل على طبق روايات (من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك "وإن كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يقله")(1) تستدعي الإبقاء على هذه الضِّعاف لرجاء العثور على مدارك مهمَّة منها لها كما في المسنونات.

وكذلك ما ذكرناه من حقيقة تصحيح الأسانيد بالمتون وثمَّ تصحيح البناء على

ص: 70


1- ثواب الأعمال - 1/ 160.

وثوق الرِّواية من جهاتها لا وثاقة الرَّاوي كما سوف يأتي ضبطه في الأجزاء الآتية أكثر.

وأكثر الظن أنَّ قصد المقلِّصين للرِّوايات المُشار إليها ومن تصرَّف مثلهم من غيرهم بالَّتي اعتبروها صحيحة وترك الباقي من الآخرين ينطبق عليهم ما ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (ستكثر عليَّ القالة)(1) أو (قد كثرت عليَّ الكذَّابة)(2).

بحتميَّة دخول مختلقي الأحاديث وملفِّقي الرِّوايات بالرِّوايات الأخرى المختلقة والمبعِّضين لما في الجوامع والمجامع بمثل الأخذ بأخبار الآحاد وترك الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب وغير ذلك.

لأنَّ التَّصرُّف الأخير وما قبله قد يضطر صاحبه إلى التَّوجيه بما لم يف بالغرض الشَّرعي الوافي حينما يترك الباقي الَّذي يحتمل أن يكون محقِّقاً للغرض مع ما كان مقلَّصاً إذا كان مقبولاً في الجملة كذلك.

وأمَّا قول الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (خذوا ما رووا واتركوا ما رأوا)(3) إذا كان اجتهادهم في خصوص المقلَّصات من الرِّوايات غير وافٍ إلاَّ بضم الرِّوايات الأخرى وإن كانت ضعيفة لجبرها بعمل الأصحاب أو الشُّهرة العمليَّة فهو رد لهم في الحقيقة.

إضافة إلى أنَّ الشُّهرة قضت بعدم إمكان الاستدلال على حجيَّة أخبار الآحاد بمفاد آيةالنَّبأ كما هو محرَّر في محلِّه الآتي عن المصدر الثَّاني من أركان التَّشريع الأربعة وهو السنَّة بإذن الله تعالى.

ص: 71


1- كنز العمال ج 5 ص 239 ، و 240 ، و 223 ، و 224 والمستدرك للحاكم ج1 ص103، ومقدمة صحيح مسلم.
2- الكافي 1: 50/ 1 باب اختلاف الحديث عنه صلی الله علیه و آله و سلم.
3- كتاب الغيبة: 240، الطبعة الثانية.

المدخل التَّاسع

التَّنويه عن مواقع ذكر ما يخص آيات الأحكام من العناوين وتوابعها أصولاً وقواعد

من مهمَّات المداخل قبل مقدِّمات المباحث اللَّفظيَّة للأصول هو الكلام عن آيات الأحكام، للإشارة إلى عنوانها الكبير الشَّامل لأمور عديدة.

حيث كنَّا سابقاً قد أعددنا كتاباً مستقلاًّ، بل موسوعة وبحثناها أو كثيراً منها في دروسنا كمحاضرات من بحث الخارج على طلاَّبنا مدَّة مديدة كاد أن ينتهي الجزء الأوَّل منه تحت عنوان (دقائق الأفهام ممَّا حوته آيات الأحكام)، وهي مسجَّلة الآن لنا صوتيَّاً أيضاً.

لا يهمُّنا الآن منها إلاَّ التَّنويه عمَّا سيأتي من المناسبة الأصوليَّة وما يلحق بها في هذا المدخل لذكره بما يستحق من الذكر المناسب خاصَّة ولو موجزاً هنا وذكر موقع الكلام عنه عن الأصول وملحقاتها.

بمعنى فتح الحديث عن لُمم هنا لما سيأتي من التَّفاصيل في كل ما يحويه كتاب الأصول هذا في كل ما له علاقة كليَّة أو جزئيَّة بنوع الآيات وتوابعها من الأحاديث أصولاً فقهيَّة، بل وقواعد فقهيَّة عند اقتضاء الحاجة بل حتَّى بعض الآيات المرتبطة ببعض الفرعيَّات الَّتي محلُّها التَّفصيلي هو ذلك الكتاب المشار إليه آنفاً.

لإعطاء فكرة نموذجيَّة تحوج إلى بعض التَّفصيل الآتي عنها في الموقع، وهو حول الكلام الأصولي عن المصدر الأوَّل لمدارك الأحكام الشَّرعيَّة، وهو ما لابدَّ وأن يعتمد عليه كليَّاً وجزئيَّاً علماء الفقاهة والأصول، وهو كتاب الله العزيز وهو الأصل الكبير عند فريقيهما، وإن كانت الأصول الصِّناعيَّة عند موسِّعيها أخيراً قد تزداد قواعدها

ص: 72

لتعادل الفقاهة القديمة الكافية في أساليبها المتقنة لو لم تزد إلى ما لا يرتضى على ما سيأتي إيضاحه.

ولذلك سوف نشير إلى ما يلزم ذكره في البحث الأصولي عند حلول الكلام عن هذا المصدر للجمع بين الحقَّين.

إذ لهذه البحوث في إجمالها وتفصيلها أهميَّة قصوى يلزم أن يتكلَّم عنها الأصولي في زمن البُعد عن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ- كما كان يلزم أن يتكلَّم عنها الفقيه في زمن القرب، بل ويكون أيضاً في كل الآحاييين - لارتباطها الوثيق بهذا المصدر الرئيس.

ولأنَّه أوَّل الحُجج الضَّروريَّة بتواتره وغير ذلك على لسان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن معها من المسلمين - علماء وأتباع خواص وعامَّة - في محبَّة وإنصاف.

ولتعزيز قوَّة الأصول به إن توفَّرت الملائمة بينهما، ولم يكن تجاوز عن خطوطه الضَّيقة والعريضة من قريب أو بعيد في كثير من الحالات.

ولجامعيَّته المهمَّة في جنباته المعطاء برهانيَّاً لمهمَّات أصوليَّة وقواعد فقهيَّة وفقهيَّات فرعيَّة - وإن كان هذا الكتاب لا يحمل أو ليس بمحل لتفصيل هذا الثَّالث من العطاء لأنَّه تابع لموسوعة آيات الأحكام الموما إليها بل ولا الجزء الثَّاني منه لأنَّه الأقرب إلى الفقهيَّات الفرعيَّة وإن كان مع قربه إلى قواعد الأصول -

فإنَّنا نذكر بعض النَّماذج المحتاج إليها، كأمثلة نمر عليها عند مجيء المناسبة الأصوليَّة المحتاجة إلى التَّمثيل التَّطبيقي حتَّى عن القاعدة الفقهيَّة، ممَّا قد يصل إلى ما هو بين بين أو بمعونتها، لتقوية العلاقة بالفقاهة وإلى حدِّ التَّطبيق بالفرع الفقهي ولو كانت مختصرة ومجملة في تلك الآيات، لاعتمادنا على معرفتها تفصيليَّاً وقت التَّفصيل عن طريق السنَّة بواسطة العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُوالمؤيدة من غيرها من الأدلَّة والقواعد مع بقيَّة ما يحتويه هذا المصدر الشَّريف من المعارف القرآنيَّة الأخرى.

فنظراً إلى محاولتنا الاستيعابيَّة لهذا الموضوع في الكتاب العزيز وآياته الخاصَّة في

ص: 73

كتابنا المشار إليه أعلاه على ما عرَّفناه من نظرنا في موسوعته وما سنعرِّفه ووجدنا الآيات الخاصَّة فيه كما مرَّ منقسمة إلى الأقسام الثَّلاثة وهي:

الأولى: المسمَّات بآيات الأحكام الأصوليَّة الآليَّة للفقه وهي الَّتي منها ما يعرف بقواعد مباحث الألفاظ وغير البعيدة عن أفكار الفقهاء والأصوليِّين من ذوي الطموح للوصول إلى ما توصَّل إليه الفقهاء المحنَّكون.

الثَّاني: آيات القواعد الفقهيَّة الَّتي يُنظر فيها علميَّا عند محاولة التَّطبيق لصالح الفقه، هل هي على كفاءة ليستثمر من وراءها بعد تأكُّدها بالمباشرة تيسير معرفة أحكام الله بما هو أسرع من القواعد الأصوليَّة ومحل النَّظر الاجتهادي والبت فيها بين الاجتهاد الفقهي والتَّدقيق الأصولي الخاص بالآيات أم لا؟.

الثَّالثة: آيات الفروع الفقهيَّة ممَّا عُثر عليه أو ما يؤمل أن يُعثر عليه من تلك الآيات من قبل المتتبِّعين قديما وحديثاً في نصوصها الدَّالَّة على الأحكام كليِّها وجزئيها ومنطوقها الظاهري ومفهومها المعمول به وغير ذلك وإلى حدِّ وصول استغناءنا عن تفاصيل هذه الثَّالثةوتفاصيل تطبيقاتها العمليَّة الفقهيَّة الاستدلاليَّة، لأنَّها معدَّة لكتاب التَّفاصيل المشار إليه من موسوعة آيات الأحكام.

فلم يلزم ذكره من الأثنين الأخيرين إلاَّ بنحو الاختصار المناسب الَّذي لا يخرج كتاب الأصول عن طوره.

فما بقي إذن إلاَّ ما يخص النَّواحي الأصوليَّة وما يرتبط بها من بعض القواعد الفقهيَّة مع خصوص هذا القسم الأوَّل.

فالمحل الأنسب لعرضها فيما يأتي هو نفس ما يتعلَّق بالكلام الرَّئيس عن كتاب الله من آيات أحكامه في مثل كم الآيات الأصوليَّة والفقهيَّة - قواعد وآيات فرعيَّة - وكيفها كذلك، من مثل بحوث مباحث الألفاظ السَّابقة على بيان أركان الفقه من الأدلَّة الأربعة المتعارفة.

ص: 74

ممَّا لابدَّ أن ينوَّه عنها في الأصول وإن لم يقتصر عليها كبحوث المشتق والأوامر والنَّواهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيَّد والمجمل والمبيَّن وغير ذلك من المواضيع المطروحة اللائقة بالأصول المهذَّبة.

ويلحق بمورد الكلام هذا بعد الكتاب العزيز - وتيسير نفس القضيَّة من مجملها إلى مبسِّطها ولو ببعض الكلام عن المصدر الثَّاني - هو السنَّة الشَّارحة الواردة عن العترة الطاهرة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وما يتبعها من المؤيَّدات من الطرق الأخرى، حيث تحل فيه بحوث مهمَّة جدَّاً.

منها ما نوَّهنا عنه من أمور آيات الأحكام وما يتعلَّق بها أو يخصُّها في الأحاديث.

ومنها ما يتعلَّق بأمور تصحيح الواردات من الرِّوايات للأخذ بها وفصلها عن الغير مثل أمور الرِّجال والأسانيد والمتون رواية ودراية وغير ذلك.

ممَّا لولاه لما قدر الفقيه المتبِّحِّر ولا الأصولي المطبَّق معه في اعتدال وتهذيب أن يحكم السَّيطرة على الفهم المقبول الَّذي لابدَّ أن يكون صاحبه مفلحاً لتصديق كلام الله من آيات أحكامه لهذا الفهم أو موافقته بما يبرئ ذمَّة صاحبه.

وهكذا ما بعدها ممَّا تقوى به حجَّتا الكتاب والسنَّة وهو الإجماع وهو الثَّالث من الأركان.

وإلى حدِّ أن يكون من بعد هذه الأمور الأصوليَّة ممَّا يتوسَّع الكلام فيه عن الاحتجاج بكتاب الله ولو إلى حدِّ جعل الآيات الإرشاديَّة ومعها الرِّوايات الشَّريفة المقويَّة للاحتجاج بها في أمر إمكان جعل الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل عاملاً من عوامل إبقاء الشَّرعيَّة للأمور الَّتي لا دلالة صريحة من الأدلَّة على ثبوت حكمها كما في الاستصحاب ودقَّة حالاته عند الشَّك وبراءة الذمَّة عند الشَّك في أصل التَّكليف ومشغوليَّتها عند الشَّك في المكلَّف به ولو احتياطاً وأصالة الحليَّة في الشَّيء فيما لم يعلم حكمه من مدرك بعينه على ما سوف يأتي الكلام والإتمام فيه بتوفيق الله تعالى.

ص: 75

المدخل العاشر

التَّقيَّة وكون استنباط الحكم الشَّرعي الواقعي أو حتَّى الظَّاهري أصوليَّاً مانعاً أم لا؟

إنَّ الحديث عن هذا الموضوع يحتاج في بدايته إلى مقدِّمة عن المعنى اللُّغوي والاصطلاحي والمقارنة بين المعنيين ثمَّ من بعده يأتي عن ذي المقدِّمة.

فالتَّقيَّة في نظر علماء اللُّغة وجامعي القواميس حيث جاء في بعض كتبهم أنَّ مصدر (اتَّقيت) هو (الاتِّقاء) حيث قال في المصباح المنير (اتَّقيت الله اتِّقاء والتَّقيَّة والتَّقوى اسم منه والتَّاء مبدلة من واو والأصل وقوي من وقيت لكنَّه أبدل ولزمت التَّاء في تصاريف الكلمة والتقاه مثله وجمعها تقى)(1).

وقال في مجمع البحرين ما هو نظير ما في المصباح (والتَّقوى فعلى كنجوى والأصل فيه وقوى من وقيته: منعته قلبت الواو تاء وكذلك تقاه والأصل وقاه، قال تعالى [إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً](2) أي اتِّقاء مخافة القتل وجمع التَّقاة تقي كطلي للإعتاق وقرء تقية والتقية والتقاه اسمان موضوعان موضع الاتِّقاء)(3).

أقول: وممَّا يؤيد أو يؤكِّد هذا نظر بعض علمائنا على أنَّ التَّقية وما ساواها اسم لاتَّقى يتَّقي، لأنَّها تحمل في جعبتها نتيجة الحدث، لا ما يحمله الثَّالث في التَّصريف وهو نفس المصدر وهو الاتِّقاء كما في هذين المصدرين اللُّغويَّين المهمَّين من العامَّة وهو المصباح والخاصَّة الإماميَّة وهو المجمع.

ص: 76


1- المصباح المنير 2: 922 الطبعة السَّابعة.
2- سورة آل عمران / آية 28.
3- مجمع البحرين 1: 452 الطبعة المحقَّقة الثَّانية.

وهو ما اعتبره الشَّيخ الأعظم الأنصاري قدس سره لغويَّاً حيث مال إلى هذا الرَّأي، دون أن يعتبر هذه الكلمة وما ساواها مجرَّد كونها مصدراً.

ولعلَّه ينسجم مع مصاديق ما يحمله الكثير من روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ كقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ (التَّقيَّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقيَّة له)(1) و (لا دين لمن لا تقيَّة له، ولا إيمان لمن لا ورع له)(2) و (اتَّقوا على دينكم فاحجبوه بالتقيَّة، فإنَّه لا إيمان لمن لا تقيَّة له)(3) و (التقية ترس المؤمن، والتقيَّة حرز المؤمن)(4) و (ليس منَّا من لم يلزم التقيَّة ويصوننا عن سفلة الرعيَّة)(5) و (التقيَّة من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين)(6) وغيرها من الرِّوايات.

وعلى الأخص ما يشابه الرِّواية الأولى الَّتي فيها ذكر الآباء المنتهي إلى إبراهيم الخليل الحنيفي عَلَيْهِ السَّلاَمُ الَّذي لم يخرج معنى التقيَّة لغويَّاً عن معنى العموم المتطابق مع معنى الخصوص الآتي ولو في الجملة، لوجود وجه شبه بين عهدي القديم والحديث فيما ألمحت إليه بعض الكتب اللُّغويَّة الجامعة، ولأنَّ ما بين عهدنا وتلك القديمة تشابه ولو بالنَّحو الإجمالي بمثل الصَّلاة والصَّوم والحج والزَّكاة وغير ذلك.

وكانت بقيَّة تلك الأحاديث عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ملحقة بالرِّواية الأولى، سواء من مواقع الابتلاء العام من مثل عموم الأعداء كفَّاراً وغيرهم أو الخاص من بعض المذاهب المخالفة.

ص: 77


1- أصول الكافي 2: 219/ 12، باب التقيَّة.
2- صفات الشيعة / الشيخ الصدوق : 3/ 3.
3- أصول الكافي 2: 218/ 5، باب التقية.
4- أصول الكافي 2: 221/ 23، باب التقية.
5- أمالي الشيخ الطوسي 1: 287.
6- تفسير الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ 320/ 163.

لكنَّه إمَّا بناءاُ على أنَّه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ألحق أمرهم في الرِّوايات الماضية بالعموم كما في قاعدة (لا ضرر) الواردة في البدء فيما بيننا وبين أهل الكفر - كما في قضيَّة شروط صلح الحديبيَّة لإراءة الكفَّار أساليبنا العامَّة الاصطلاحيَّة العادلة وإن كانوا لعنادهم على بعض الوجوه يستحقُّون القتل، فصبر النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لهم للحكمة الإلهيَّة الأبلغ من القتل حتَّى لو كان مقدوراً - أو فيما بين المسلمين أنفسهم قبل رسوخ المعاني الاصطلاحيَّة الآتية كسمرة ابن جندب الَّذي مارس العناد والتَّمرُّد وقلع نخلته صاحب الدَّار.

وإمَّا أنَّ المعنى اللُّغوي والشَّرعي قد يلتقيان كما يأتي، ليتطابق مع خصوص المسلك اللُّغوي، وهو ما يمكن أن ينسجم مع كثير من الآيات العامَّة كقوله تعالى [وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](1) وقوله [وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ](2) وقوله [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ](3) وغيرها، لأنَّ من معانيها التَّحفُّظ عن كل ضرر والاتِّقاء من كل ما يخاف ويختشى دينيَّاً كان أو دنيويَّاً.ولكن عند مراجعة بعض الكتب اللُّغويَّة الأخرى قد نجد ما قد يبرِّر الميل إلى كون التَّقيَّة ليست إلاَّ مصدراً حسب، وهي مصدر تقيَ يتَّقي لأنَّها الثَّالث في تصريف الكلام، واسم مصدرها الحامل لنتيجة الحدث هو التَّقوى، إلاَّ أنَّها مصدر ثاني لا أوَّل حيث قال في القاموس (واتَّقَيْتُ الشيءَ وَتَقيْتهُ أتَّقيه وأتْقِيه تُقىً وتَقِيّةً وتِقاءً ككساء حَذِرْتهُ، والاسم التَّقْوى)(4).

وقال ابن منظور في لسان العرب (وقد توقَّيتُ واتَّقَيتُ الشيء وتَقَيْتهُ أتَّقيه واتْقِيه تُقىً وتَقِيّةً وعن اللحياني أن تقاء هي الثَّالث في تصريف الكلام بمعنى حذرته وأن اسم

ص: 78


1- سورة البقرة / آية 189.
2- سورة البقرة / آية 197.
3- سورة النساء / آية 1.
4- القاموس المحيط 4: 582 الطبعة الأولى.

المصدر في الجميع هو التَّقوى باعتبار أن التَّاء بدل من الواو والواو بدل من التَّاء)(1).

وقد تنبَّه إلى اختيار هذا الأمر سيدنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره في تقريرات بحوثه من التَّنقيح للأستاذ الشَّيخ الغروي قدس سره(2).

وممَّا ذكره ابن منظور من الأحاديث النَّافعة في الدِّلالة على العموم اللَّغوي قوله (وفي الحديث ""قلت وهل للَّسيف من تقيَّة قال نعم تقيَّة على إقذاء وهدنة على دخن"" وهو المفسَّر باتِّقاء بعضهم البعض الآخر مع إظهار الصُّلح والاتِّفاق وكون الباطن بخلاف ذلك)(3).

فأقول بعد ذلك: بناءاً على براءة الكتب اللُّغويَّة المعتمدة - فيما تنقل عن مصادرها الموثوقة عند أصحابها وعند أهل الخبرة من الأعلام الماضين لو لم يظهر شيء من علائم الأرجحيَّة بين الرأيين الماضيين ولو بحسب الظاهر في هذه العجالة وعلى أي تقدير وبالأخص حينما لم يظهر ما بين اختياري العلمين المهمِّين من أعلامنا ما يضر في النَّتيجة المختارة لو توحَّدت -

فالتَّقيَّة أو التَّقوى أو الاتِّقاء لابدَّ أن يكون لها معنى عام وهو اللُّغوي الَّذي لم يتقيَّد بتعاليم شرعنا العظيم بتمام الدقَّة وإن شمل بعض مصطلحاته في بعض أو كثير الأحيان، بناءاً على القول بالحقيقة المتشرعيَّة دون الشَّرعيَّة على ما مرَّ ذكره من الاستشهاد ببعض الرِّوايات والآيات والمعاني العامَّة وما تعطيه أسماء المصادر من نتائج أحداثها.

وأمَّا المعنى الخاص فلم يظهر كذلك في هذه المصادر اللغُُّويَّة، إلاَّ ما إذا فصل بين اللُّغوي والاصطلاحي الشَّرعي تفصيل افتراق تام، وهو الَّذي لم يتطابق إلاَّ مع الحقيقة

ص: 79


1- لسان العرب 15: 378 الطبعة الأولى بتصرُّف.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 253 الطبعة الثانية.
3- لسان العرب 15: 41 بتصرُّف.

الشَّرعيَّة الآتية.

ولكنَّه لم يُرد منه هذا المعنى بدوام لإمكان دخول هذا الخاص بالعام اللُّغوي الَّذي كُدِّس فيه المعلومات أو الَّتي ما صرِّح فيها بأي معلوم خاص إلاَّ بعد التَّعرُّض على المصطلح الخاص وتبيَّن أنَّ العموم الَّذي فيها بشمله ولو استعمالاً بالمساواة.

وهذا هو الأهم كما يلوِّح ممَّا ذكره ابن منظور من الأحاديث النَّافعة وهو كتاب لغوي واستشهاده بالحديث تحت ظلَّه لغويَّاً.

وأمَّا التَّقيَّة في الاصطلاح فبعد بزوغ شمس الشَّريعة المقدَّسة بعد إشراقة عقائدها الحقَّةظهر من تعاليمها ما قد يختلف بالقصد والكيفيَّات والكميَّات وإن تشابه بين العرف اللُّغوي العام وبين العرف الشَّرعي الخاص على ما حدَّدناه الآن كما مرَّ من نقل ابن منظور للحديث الماضي وما عرف عن شيخنا المفيد "أعلى الله مقامه" من قوله (إنَّ التَّقيَّة كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدِّين والدُّنيا)(1) وهو ما يجمع فيه رأي العامَّة والإماميَّة.

ويؤكِّده تعريف شيخنا الأنصاري لها بأنَّها (الحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق)(2).

ويزيد في الألفة بين الجهتين من العامَّة والخاصَّة أكثر ما قاله السَّرخسي الحنفي عنها في الاصطلاح حيث قال (والتقيَّة: أن يقي نفسه من العقوبة، وإن كان يضمر خلافه)(3).

وبمثل هذا التَّعريف جاء عن بعض علماء العامَّة منهم ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(4) وعز الدِّين ابن عبد العزيز ابن عبد السَّلام السَّلمي في قواعد الأحكام في

ص: 80


1- تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد : 66.
2- التقية / الشيخ الأنصاري : 37.
3- المبسوط / السرخسي الحنفي 24: 45.
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12: 136.

مصالح الأنام(1)، وهكذا الآلوسي في روح المعاني(2) والمراغي في تفسيره(3) ومحمَّد رشيد رضا في تفسير المنار(4) وغيره، وكأنَّ الأمر متَّفق عليه بين الإماميَّة وغيرهم.

ولعلَه يظهر منه حتَّى ما يدل على تجويز الجميع ارتكاب ما يحتاج إليه من هذا التَّوجيه عند الحاجة الماسَّة والاضطرار إليها، بل إنَّه مستعمل عندهم جميعاً إلاَّ ما قد يتفاوت بين الإكثار المثير للأزمات بسبب التَّملُّق كثيراً في التَّقيَّة بما لا داعي له وعنه قد يدوم بطش الظالم كثيراً والقلَّة المخلَّة بشرف الأتقياء حينما لم يقدروا للحاجة قدرها الَّذي لم ينتقد به الإماميَة فقط بل شمل الكل في الكل كدلالة القرآن عمَّا سبق من عهد موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ من خروجه خائفاً يترقَّب وقضيَّة مؤمن آل فرعون الَّذي كان يكتم إيمانه ثمَّ تجاهر بالنَّصيحة عند انتهاء شدَّة الأزمة، وهكذا ما ابتلي به نبيُّنا صلی الله علیه و آله و سلم من أمر الدَّعوة السريَّة وبتجاهره عند انتهاء مقتضيها وعدم المانع أو لزومه من المجاهرة.

وهو ما لم يمكن إنكاره حينما يحسن الظن بالجميع من أهل العقل والدِّين والإنصاف إلاَّ ما قلَّ وندر بأنَّهم لم يتركوا الاستفادة من دلائل الآيات المناسبة للمقام عند الابتلاء بها كقوله تعالى [مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ](5) وقوله [فَمَنِ اضْطُرَّغَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ](6) وما الَّذي قلَّ وندر إلاَّ أولئك المكفِّرة الَّذين يشِّهرون بالإماميَّة لكونهم في نظرهم المعادي يدَّعون بهتاناً بأنَّهم يسترخصون أحكام الإماميَّة الأصيلة عندهم ويلتزمون بأحكام التقيَّة الَّتي لم يعتقدوا

ص: 81


1- ج1: 107.
2- ج3: 121.
3- ج3: 137.
4- ج3: 280.
5- سورة النحل / آية 106.
6- سورة البقرة / آية 173.

بها أنَّها الجائزة منها عند التَّقيَّة، وهذا في شبهتهم ضدَّنا مخالف للتَّطبيق المشروع، بينما مذاهبهم الأربعة في أزماتهم الخاصَّة بهم قد مر الكثير والجم الغفير من هذا الإدِّعاء الَّذي يعود عليهم أكثر فأكثر فيما بينهم، ونحن في تقيُّدنا بالشَّرع عند الاضطرار أنقى وأثمر لاعتبار أنَّ الضَّرورة تُقدَّر بقدرها لا كما يُفترى علينا.

وبعد ذكر المعنيين اللُّغوي والاصطلاحي للتَّقيَّة وما يتبعها والاكتِّفاء بما عرضناه بدون داعٍ للمزيد عليه لابدَّ من التَّفكير بالعلاقة بينهما في أنَّها كانت بنحو المساواة كما ألمحنا بشيء من ذلك آنفاً أو بنحو العام اللُّغوي والخاص الاصطلاحي الَّذي لم يخرج عن التَّلاقي ولو في الجملة كما سيأتي، وكلا المعنيين لابدَّ أن ينسجما مع القول بالحقيقة المتشرعيَّة الآتية إلاَّ المعنى الثَّالث وهو عدم الانسجام الكامل عند القول بالحقيقة الشَّرعيَّة الآتي ذكره في أمور الباب الثَّاني وهو الَّذي سوف يتبيَّن فيه المطلب بما هو أوضح وأمتن.

وبعد هذا كلِّه علينا أن نبيِّن المراد من عنوان البحث وهو أنَّ التَّقيَّة حينما كانت مشروعة ولو في الجملة ولنفرضها أيضاً كذلك لا تفضيلاً هل يمكن القول بمنع استنباط الحكم الشَّرعي الواقعي أو حتَّى الظاهري أصوليَّاً أم لا؟ والمجتهد لا محالة هو أحد المكلَّفين، بل هو المرموق من بينهم لعلمه أنَّ جميع الشَّرائط المتوفِّرة يه تفرض عليه السَّعي الجاد لتحقيق الأحكام أصوليَّاً لنفسه وغيره.

فنقول: لابدَّ من القول بأنَّ الحكم الإلهي الشَّرعي في أساسه ما جاء في واقعيَّته مع تبيُّن مداركه وظاهريَّته مع تبيُّن مداركه بالمرتبة الثَّانية عند الانسدادات المناسبة إلاَّ على أساس الحريَّة المعطاء إلهيَّاً للبشر، وأهمُّهم دعاة الاعتدال والاستقامة وعندنا في المنظور الشَّرعي هم الأنبياء والرُّسل وأولوا العزم وأوصياءهم.

وما نحن فيه الآن هو قضيَّة الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم وشريعة الإسلام ومن ناب عنه من الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وبعد غيبة الإمام الثَّاني عشر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ومجيء النَّواب الأربعة (رض) وانتهاء دورهم

ص: 82

ومجيء نيابة الفقهاء الكرام العامِّين لابدَّ من تفكيرهم الاجتهادي الدَّائم عند الحاجة إلى حل المشاكل الشَّائكة على أساس من تلك الحريَّة التَّامَّة، لا ذل عداوة هذا وذاك أو معاداة غيرهم من الأحرار المؤمنين في العالم من قبل الطغاة والظلمة.

وما استعباد البشر للبشر أو ما يشبه ذلك من غطرسة الطَّواغيت والفراعنة على الشُّعوب أو أبعاضها في كثير من الفترات أو بعضها إلاَّ قضايا طارئة ما أنزل الله بها في مقابل الشَّرع الشَّريف والدِّين الأصيل الحنيف من سلطان.

وما ورد من جواز التَّقيَّة للحفاظ على الحياة والخلاص من الأعداء أو وجوبها فهو من كونها المقدَّرة بقدرها عند الاضطرار إليها، وما أن انتهى دورها ينتهي ذلك التَّكليف بها ليرجع ذلك التَّكليف الأوَّلي لأولئك الأحرار وبما كان عليهم على أولَّيته وعلى نفس طغاتهموفراعنتهم لو كانوا يعقلون.

ولا يذهب على السَّطحيِّين من أهل الإنصاف بأنَّ أحكام التَّقيَّة من الواقعيَّات المطابقة لأدلَّة العامَّة وكما يريدون، لأنَّها غير المعتمدة عندنا إماميَّاً، وإنَّما يشهِّر بعض العامَّة بنا إذا التزمنا بها تقيَّة لأنَّهم يعتبرون ذلك منَّا تزلُّفاً ونفاقاً لا كما نعتبره وقاية واستكفاء من شرِّ أهل الشَّر منهم، لأنَّ الواقعيَّة في خصوص أدلَّتنا في مواقع الحريَّة والاختيار لا في موارد الإكراه والاضطرار.

وأمَّا الرِّوايات الَّتي قالها أئمَّتنا عَلَيْهِم السَّلاَمُ في موارد الضَّرورة فهي وإن كانت صحيحة السَّند ومعتبرة عندنا لكونها ذات علاقة بالحكم الثَّانوي لا الواقعي الأوَّلي، إذ متى ما انتهى دورها لابدَّ من البناء على ذلك الواقعي الأوَّلي وعلى ضوء أدلَّتنا الثَّابتة في أصولنا.

ولا يذهب على هؤلاء أيضاً أنَّ أحكام التَّقيَّة من نوع الظاهريَّة حينما كانت الواقعيَّة غير متيسِّرة، فإنَّها وإن كانت كذلك في وجه إلاَّ أنَّها لا بمعنى الظاهريَّة الدَّائميَّة البديلة عن الواقعيَّة الدَّائميَّة لو لم تتيسَّر، بل إنَّ ظاهريَّتها بمعنى الحكم الظاهري

ص: 83

الثّانوي المناسبة.

وستأتي تفاصيله تباعاً على ضوء ما نعرضه من الأصول.

المدخل الحادي عشر

أصالة عروبة الدَّليلين اللَّفظيَّين ولوازمهما بين المولوي الاجتهادي والإرشادي الفقاهتي دون غيرها

حديث هذا الأمر طويل عريض في ظرافته المعنويَّة والأدبيَّة العامَّة والخاصَّة نذكره ولو كمقدِّمة لمباحث الألفاظ الآتية، وسوف نبيِّن منه المهم وندع الباقي في مناسباته الخاصَّة به، ولعلَّ من ذلك ما يكون موقعه في نفس هذه الموسوعة الأصوليَّة للفقه من المقامات الأخرى الآتية وما حشر فيها من مهمَّات أصول آيات الأحكام.

فبعد تفاوت الأقوال التَّأريخيَّة - أو عدم صفاءها على الإجمال وإن لم يكن التَّأريخ بحدِّ نفسه حجَّة تامَّة تثبت الآصالة لأصول اللَّهجات اللِّسانيَّة واللَّغات البيانيَّة، إلاَّ ما أنبأ به الوحي الإلهي من الإشارة المحتاجة إلى التَّفصيل الآتي في مقامه -

بين كون اللَّفظ الأدمي كان من أي لغة من اللَّغات حتَّى تكون الآصالة فيها بادية منها وفعَّالة فيها ليرجع إليها أو لا يعاب عليها حينما جاء القرآن عربيَّاً في اعتبارها بما قد يغايرها كيف إن كانت اللُّغة عربيَّة ولو بأن لم يمنع هذا التَّأريخ من الأخبار بالعربيَّة إن كان عدم المنع داخلاً في حلقة الظَّن المأخوذ به بين العقلاء وأهل العلم في نسبه المرجِّحة للأخذ به.

وبين كون اللَّفظ الآدمي كان من خصوص لغة العرب كما لم يكن ذلك غريباً لثبوت استعمال هذه اللَّغة من بين اللُّغات قبل نزول الوحي القرآني بل مألوفيَّة كونها اللُّغة الخاصَّة لقوميَّة العرب وبما قد يزيد على كونها كانت على نحو خصوص

ص: 84

الاستعمال الخاص حسب بعد ثبوت أساسيَّاتها وثوابتها قديماً بمثل الوضع السَّابق عليه بما سيأتي قريباً وغيرهما كالمخلوطة.

كان لزاماً علينا ولغرض الوصول في مثل هذا الأمر الهام على ما سيتَّضح بيانه إلى ما به الاعتقاد الجازم.

ولغرض التَّطبيق في الميدان العملي في المجالات الكثيرة المهمَّة لغويَّاً وعلى مستوى ما ذكره أو ظنَّه المؤرخون مع الاحترام للمهمَّات من اللُّغات الأخرى من رجحان اللُّغة العربيَّة، بل تعيُّنها عند أهلها على الأقل أو لا أقل من عدم البأس فيها لهم وللآخرين ومنها ما يلي:

1 - أنَّه قد نصَّ بها في الوحي القرآني الإعجازي المتواتر من كون هذه اللُّغة هي المشار إليها في أحد التَّوجيهات في ضمن ما يراد من قوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء](1) أي اللُّغات، وما جاء بها في القرآن لأهميَّتها إلاَّ باللُّغة العربيَّة وإن فُسِّرت بالمعصومين الأربعة عشر قدس سره.

ومن كونها كما هي عربيَّة كانت لغة أهل الجنَّة بعد أن قال الله تعالى لآدم [وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ](2) بعد حديثه تعالى العربي كذلك مع الملائكة عند أمره لهم بالسُّجود لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتحقَّق سجود الملائكة إلاَّ إبليس.

ولأنَّ آدم قدس سره أوَّل من نطق بها في الدُّنيا بعد نزوله إلى الدُّنيا بسبب الأكل من الشَّجرة، حيث دعا الله ومعه زوجته بعد أكله من الشَّجرة أن يغفر له ولزوجه بقوله تعالى [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ](3).

ص: 85


1- سورة البقرة آية / 31.
2- سورة البقرة / آية 35.
3- سورة الأعراف / آية 23.

وما دار من الكلام فيه بين قابيل وهابيل قبل القتل وبين الأنبياء والرُّسل وأقوامهم وإلى حين نزول القرآن العظيم كما في القصص القرآنيَّة الحاكية عن ألسنة تلك الأزمنة الأولى.

بل إنَّ كلام الله كان جامعاً شمل كل الكتب السَّماويَّة السَّابقة الحاوي لكل العلوم والمعارف المسبِّبة لكل نحو من أنحاء الهدايات والدَّافعة لكل نحو من أنواع الشُّرور والبلايا بما يجعل هذا الظن لدى أرباب التَّأريخ قطعيَّاً في الأرجحيَّة بل يقينيَّاً على بقيَّة اللُّغات كما قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ](1).

كما عرف الكثير من ذلك عند المقارنة بين القرآن وبين الكتب التَّأريخيَّة الأخرى الَّتي تحكي عمَّا في الكتب السَّماويَّة أو بينه وبين ما بقي سالماً من تلك الكتب السَّماويَّة كما قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ](2).وإن قيل: بأنَّ التَّأريخ لا حجيَّة في قراراته دوماً إلاَّ في حالات وجود ما به استدلال الفقهيَّات الاصطلاحيَّة معه؟

فنقول: أنَّه حين الوصول إلى تمام ما نريده فلابدَّ من وجوب الأخذ به كحالة الاستدلالات المولويَّة المتينة شرعاً، لعدم الفرق بين التَّأريخ وبين السِّيرة الشَّريفة لو تواءمتا أو تلاءمتا.

وإن قيل: بأنَّ القرآن مهما نُقل ما ظاهره تأييد كون اللُّغة العربيَّة أفضل من غيرها فهو محصور في الزَّاوية القرآنيَّة الَّتي عند المسلمين ومن يصدِّقهم فقط، لمطابقته للحق وإن قَّل النَّاصرون جهلاً عناديَّاً.

فلا فائدة من الفرض على الجميع من بقيَّة القوميَّات المعتزَّة بقوميَّاتها لغويَّاً؟

ص: 86


1- سورة النحل / آية 89.
2- سورة الأعراف / آية 157.

فإنَّا نقول: مضافاً إلى ما ذكرنا في آخر ما لو قيل بأنَّ اللُّغات الأخرى الَّتي جاءت على نهجها الكتب السَّماويَّة السَّابقة لضعفها أو عدم كفاءتها كانت تلك الكتب مصيرها التَّحريف، بينما القرآن كان عصيَّاً على الزَّنادقة والمحرِّفين ولذا قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](1)، وإن حاول أعداء الخارج والمنافقون من الدَّاخل تحريف المعاني، لكونهم ما نجحوا كذلك ببركة حُجج الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ الدَّامغة لهم أيضاً.

بل إنَّ السنَّة الشَّريفة مع التَّأريخ المعاضد كانت خير عضد وحام للنُّصوص القرآنيَّة في قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المتواتر بين الفريقين بواسطة العترة المطهَّرة (أيَّها النَّاس; قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(2) وغيره.

ونزوله عربيَّاً لمن ينطق بالعربيَّة دون غيرهم من بعض الأعاجم كان مطابقاً للحكمة البالغة لقوله تعالى [وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ](3) أي لعدم علمهم السَّابق بالعربيَّة، لأنَّه كانت مسؤوليَّتهم التَّعلُّم ومسؤوليَّة دعاة الإسلام توفير المساعدات على ذلك.

أمَّا أولئك العرب فقد أسَّسوا قواعد العربيَّة بواسطة أمير المؤمنين قدس سره حيث علَّم أبا الأسود الدؤلي بقوله على ما ورد من طرق العامَّة والخاصَّة عن مولانا أمير المؤمنين قدس سره أنَّه (أمر أبا الأسود الدؤلي أن يدوِّن علم النَّحو وأملى عليه وأن ينحو نحوه بما نصُّه "الاسم ما أنبأ عن المسمَّى والفعل ما دلَّ على حركة المسمَّى والحرف ما أوجد معنى في غيره")(4) لتوسعة رقعة الإسلام بين جميع الأقوام.

ص: 87


1- سورة الحجر / آية 9.
2- الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده ( 117) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
3- سورة الشعراء / آية 198.
4- سير أعلام النبلاء ص 83، 84، 85، أعيان الشيعة / الأمين العاملي ج1 ص 162.

ولم ينجح من الأعاجم إلاَّ من عاشر العرب وأتقن قواعد هذا الأدب وصار فقيهاً متمكِّنا في باب الفقاهة وأصولها، حتَّى لو درس هذين العِلمين بلغته غير العربيَّة، فإنَّها لا تنفعه غاية النَّفع كانتفاعاته على ضوء المعرفة العربيَّة التَّامَّة.

2 - ثبوت ذلك التَّواتر القرآني لدى كل المسلمين فضلاً عن المؤمنين بل عن المؤمنينالأخص ومن الَّذين صدقوا فيما عاهدوا الله عليه وتفانوا في سبيل عروبته ومحكمات آياته وتبيُّن المحكمات من المتشابهات بواسطة إحكام أمرها بالآيات الأخرى الَّتي يفسِّر بعضها بعضاً وبالسنَّة بواسطة العترة وما وافقها وأيَّدها من غيرها تفسيراً وتأويلاً في أصول الفقه وفروعه من آيات الأحكام وهبوط معنويَّات الزَّنادقة وفشلهم الذَّريع أيَّام الإمام الصَّادق قدس سره لمَّا رأوا إعجازه القرآني وعلى يديه في سديد إجاباته على شبهاتهم بعدما لم يقدروا على ادِّعاء ذلك التَّهافت اللَّفظي المزعوم فيه وكذا المعنوي -

وكان من قضيَّتهم ما جاء في الاحتجاج(1) عن هشام بن الحكم قال:

(اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الدَّيصاني الزِّنديق وعبد الملك البصري وابن المقفَّع عند بيت الله الحرام يستهزءون بالحاج و يطعنون بالقرآن.

فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمد وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن فيه.

فاتَّفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام.

فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكِّر منذ افترقنا في هذه الآية [فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا](2) فما أقدر أن أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر فيما سواها.

ص: 88


1- الاحتجاج / الطَّبرسي، ج 2، ص 142 - 143، ط النَّجف الأشرف.
2- سورة يوسف / آية 80.

فقال عبد الملك: و أنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية [يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ](1) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر: و أنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية [لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا](2) لم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفَّع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية [وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](3) ولم أبلغ غاية المعرفة بها ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مرَّ بهم جعفر بن محمَّد الصادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ فقال: [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً](4).فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيَّة محمَّد إلاَّ إلى جعفر بن محمَّد، والله ما رأيناه قط إلاَّ هبناه واقشعرَّت جلودنا لهيبته ثمَّ تفرَّقوا مقريِّن بالعجز).

3 - إذعان الكثير من الأدباء حتَّى من غير المسلمين أخيراً بعد انبهار الوليد ابن المغيرة (لع) وغيره قديماً، حينما أتقن أولئك الأدباء علوم اللُّغة والصَّرف والنَّحو

ص: 89


1- سورة الحج / آية 73.
2- سورة الأنبياء / آية 22.
3- سورة هود / آية 44.
4- سورة الإسراء / آية 88.

ومخارج الحروف النَّحويَّة والمعاني والبيان والبديع الَّتي عظمت قواعدها المتقنة مقام القرآن فآمنوا، بل سبَّب ذلك هداية الكثير منهم إلى إتقان الإيمان به على طول الزَّمن طوعاً لا كرهاً.

4 - وممَّا أمكن بعد ذلك الاستناد إلى آياته الَّتي منها آيات كثيرة تذكر، بل تؤكِّد عروبة القرآن بأجمعه في أسماءه ومسميَّاته بمعنى عدم وجود العجمة فيه، أي كونه أنزل في قالب عربي أو ترجم بلسان عربي مبين وإن كان بمضامين تعد أوسع من الكتب السَّماويَّة السَّابقة، لتكون مشعَّة في أضواءها كل أجواء الملل والنِّحل الأخرى.

فمن الآيات الصَّريحة في ذلك قوله تعالى من سورة يوسف [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](1) أي لأنَّ تمام ما به تمام التَّعقُّل عند أهل الأبصار وأحسن الحواس والبصائر.

وأثمر النَّتائج لن يتم إلاَّ بالمرور على عالميَّة أفضل اللُّغات أو أوسعها ظرفيَّة، وبدقَّة الظرافة واللَّطافة وذات الزَّوايا والخبايا الحاوية لكل المعاني الدَّقيقة مع قرائنها الصَّارفة ومعيَّنة المراد والمفهمة وعلى الأخص في الَّذين نزل الوحي فيما بينهم ولأجلهم بين المشركين العرب على أساس من قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ](2)، مع كون الرِّسالة عامَّة تصغر عندها لغات بقيَّة الأقوام احتراماً، لأصالة هذه اللُّغة العربيَّة بينما بقيَّة اللُّغات أهم شيء فيها التَّعبير عن الكليَّات ولا تراد فيها إلاَّ القرائن المقاميَّة كما سيتَّضح أكثر في آية مشابهة ونحو ذلك.

وقو له تعالى من سورة طه [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا](3) بمعنى ما فيه من المرونة العربيَّة المبقية للمعنى

ص: 90


1- سورة يوسف / آية 2.
2- سورة إبراهيم / آية 4.
3- سورة طه / آية 113.

الوحيد الدَّائم أو أن يأتيهم بناسخ إذا كان القرار الأوَّل مؤقَّتاً حسب مقتضى المقام البلاغي في المعنى دون نسخ التِّلاوة والمفسَّر بالتَّخصيص لقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا](1) أي بحيث لا تُسبِّب خللاً في القراءة السَّابقة بينما بقيَّة اللُّغات ليست فيها هذه المرونة على ما سيجيء في لغة موسى وهارون.

وقوله تعالى [قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ](2) أي وهو ما يراد منه الإفصاح الطَّبيعي للألفاظ ونفي العجمة الَّتي عن طريقها تلوى الألسن على غير الطَّبيعة وكما قال تعالى في ذمِّ من يلوي لسانه في قراءة القرآن [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِلِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ](3) لأنَّ وحي الله معطاء فيصح بطبيعته بلا اختلاف عمدي.

بل إنَّ من حاول أن يزعم أن فيه العجمة حاول تفريعاً عن جعله من وضع البشر، لعدم ارتكاب حالة الإعجاز في ذلك لعدم الكفاءة بشريَّاً حتَّى لو جيء بها عربيَّاً.

بينما المجرَّب بين مئات الآلاف والملايين وملايين الملايين نجاح إفصاح الأعاجم على اختلافهم وبما يطابق إعجاز النَّص القرآني الكامل طول التَّأريخ وبما يُفتخر به لا كما يُطبَّل ويُزمَّر ضدَّ هذا الإعجاز، ولذا قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا](4) مضافاً إلى قوله [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى](5) وغيره.

ولأنَّ القليل في الآية الأسبق لو أهمل يمكن السَّيطرة عليه بعد التَّأمُّل من حالات

ص: 91


1- سورة البقرة / آية 106.
2- سورة الزمر / آية 28.
3- سورة آل عمران / آية 78.
4- سورة النساء / آية 82.
5- سورة النجم / آية 3.

التَّوجيه المقبولة أدبيَّاً حسب المتعارف في القواعد الخاصَّة في العلوم العربيَّة، وقوله تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ](1) وهي الَّتي فيها رد لما قاله الجهلة الَّذين حكى عن حالهم القرآن الكريم من قوله [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ](2) وما بعدها لجهلهم و (لأنَّ النَّاس أعداء ما جهلوا).

فإنَّ فيه دلالة واضحة على نفي العُجمة في القرآن الكريم حتَّى في تلفيق آياته بين العروبة والعُجمة بصيغة الاستفهام الإنكاري، إلاَّ ما كان مستعرباً في تسميته ممَّا كان أعجميَّاً في أساسه، مع أدلَّة نفي العُجمة الكثيرة الأخرى السَّابقة واللاحقة من القرآن وغيره وسبق علمه تعالى بذلك، ممَّا قد أوضحته الكتب السَّماويَّة السَّابقة كذلك بألسنتها الماضية المطابقة في أمَّهات المطالب لما في القرآن الكريم المحفوظ.

وأمَّا ادِّعاء أهل التَّيه والضَّلالة شيئاً أو بعض شيء منه باطلاً فمن الوقر في آذانهم، لأنَّهم (أعداء ما جهلوا) وإن نودوا من أقرب الأماكن.

بينما أهل الإيمان بما صحَّ قديماً وحديثاً قد صدَّقوا ويصدِّقون بعروبة هذه الآيات، لعوامل العروبة الثَّابتة أدبيَّاً وإن نودوا من الأماكن البعيدة.

وقوله من سورة الشُّورى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا](3)، وفي هذه الآية شموليَّة معارف القرآن الكريم في إنذار الأقوام الأخرى وعدم الاقتصار على أهل هذه اللُّغة لكن بعد تعلُّمها بل وجوبه عليهم جميعاً، وجعل قواعدها من مقدِّمات مباحث الألفاظ مباني أصوليَّة لعلمائهم في الاستنباط من آيات الأصول والفروع ومعها الرِّوايات الشَّريفة أصولاً وفروعاً على ما سيتَّضح في محلِّه.

ص: 92


1- سورة فصلت / آية 3.
2- سورة فصلت / آية 44.
3- سورة الشُّورى / آية 7.

وقوله من سورة الزُّخرف [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](1) مثل آية سورةيوسف أي تعقلون دقَّة ما فيها من المنطوق والمفهوم ونحوهما من مختلف ما فيه من مضامين كافَّة المعارف، ومنها ما نحن بصدده بما أودعتم إلهيَّاً من الميزان العقلي المفرِّق بأدنى تأمُّل بين الحق والباطل كي لا يتلابسا.

وثمَّ إنَّ هذا الجعل الإلهي بعمومه وإطلاقه لا يدع ولن يدع أي مجال لأي زاعم بأنَّ فيه شيء من العجمة الملكِّأة لفهم تلك المعاني السَّامية.

كما وأنَّ [تعقلون] في الآية السَّابقة قابلة لفهم ما ذكرناه الآن وكذلك هذه الأخيرة قابلة لفهم ما ذكرناه عن السَّابقة.

وقوله من سورة الأحقاف [وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ](2)، بمعنى أنَّ القرآن في عروبته تصديق لما في التَّوراة ذات اللُّغة الخاصَّة قبل التَّحريف وزيادة بالتَّبشير للمؤمنين بعد ذلك الإنذار مع تبشيرات الإنجيل الأخلاقيَّة بعد ذلك به كإنجيل برنابا.

وإذا كان كتاب موسى قدس سره - التَّوراة - خير مدعاة للتَّصديق بما في قرآننا فلما فيها ممَّا في هذا القرآن العربي وغيره وممَّا فيها من الأحكام السَّالفة.

كما أنَّ قرآننا مدعاة للتَّصديق بتوراة اليهود لجمع الشَّمل السَّماوي والإسلامي العام لكل ديانات السَّماء باعتراف آياته لأهميَّة اللُّغة العربيَّة والإفصاح فيها بما اختار ه الوحي الإلهي من أحسن البيان وعلى لسان أفصح من نطق بالضَّاد صلی الله علیه و آله و سلم ولسان وصيِّه سيد الفصحاء والبلغاء عَلَيْهِ السَّلاَمُ جامع القرآن من بعده كما فعل ذلك في حياته.

وكان موسى قدس سره آنذاك يتوق أن تصل رسالته إلى جميع من في عالمه كما بشَّر بها السَّابقون من الأنبياء والرُّسل وإلى آخر يوم من الدُّنيا تحت ظل الإمام المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ

ص: 93


1- سورة يوسف / آية 2.
2- سورة الأحقاف / آية 12.

وبأفصح لسان، لأنَّه لم يتكلَّم بالعربيَّة أو لعارض يعيقه حيث حكى عنه القرآن في سورة طه والشُّعراء داعياً الله تعالى بقوله [وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي](1).

وما تمَّت دعوته إلاَّ بمؤازرة أخيه هارون قدس سره ذي السُّلطة التَّنفيذيَّة والحنكة البيانيَّة والتَّوضيحيَّة ولو بما يشبه العربيَّة في المؤدَّى العبري إن لم تكن هي نفسها، لأنَّه كما قال موسى قدس سره معترفاً بأفضليَّة لسان أخيه عليه فعلاً في قوله تعالى الآخر [وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا](2)، للعارض الطارئ من إيذاء فرعون له كأفضليَّة لغة الضَّاد على بقيَّة اللُّغات في الإفصاح.

وكما كان أمير المؤمنين قدس سره لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الخاتم في حديث المنزلة المتواتر بين الفريقين فإنَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ووصيِّه قدس سره هما الآيتان في الإفصاح ولسانا الكتاب والسنَّة الكاملان.

وهذه قضيَّة نوعيَّة لابدَّ أن تكون في كل لغة يراد منها الإفصاح، وبالأخص في القضايا الرِّساليَّة الخطيرة، ولذا عرف أصوليَّاً كلاميَّاً ب- (قبح العقاب بلا بيان).فلابدَّ من أن يكون الإفصاح الإعجازي للقرآن الكريم - وعلى لسان خيرة دعاته لما سردناه ونسرده من الأدلَّة الأخرى الآتية أفضل - مدعاة للتَّصديق به رغم حقد الحاقدين كما في التَّوراة غير المحرَّفة إن بقيت أو شيء منها حتَّى الآن.

ولا يمكن كذلك أن يقبل في لغة القرآن الخلط ولو بأقل نسبة من العجمة، ولذا كانت أفصحيَّة لسان نبي الرَّحمة صلی الله علیه و آله و سلم ووصيِّه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومن تلاه من بقيَّة العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ أفضل حجَّة للتَّمسُّك بها في علم الأصول على ما سوف يجيء في البحث عن الحجَّة.

وقوله من سورة الشُّعراء[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ

ص: 94


1- سورة طه / آية 28.
2- سورة القصص / آية 34.

بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ](1) أي أنَّه مخبر عنه غيبيَّاً إلهيَّاً في الكتب السَّماويَّة السَّابقة بكونه قرآنا عربيَّاً آتياً كما مرَّ بيانه سابقاً.

5 - ومع آيات عروبة القرآن آيات نفي الأعجميَّة عنه، وهي عديدة وبأساليب بيانيَّة متعدِّدة كقوله تعالى [وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ](2) وقوله تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء](3)، وقوله تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](4) وقد مرَّ علينا قبل هذه الآيات ما لا تخفى على المتابع بإتقان.

6 - ومعها أيضاً الآيات المتلازمة مع أدلَّة العروبة تلازمها البيِّن وهي كثيرة جدَّاً كقوله تعالى من سورة إبراهيم [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ](5) أي ومن ذلك اللَّغة العربيَّة الَّتي في لسان نبيِّنا 2، لأنَّه من قريش وإن كان في عقيدتنا وعقيدة من يؤيِّدنا أو لا يمنع من ذلك أنَّه كان يعرف بقيَّة اللُّغات بإذن الله وأمره إن اقتضى المقام للامتثال أو التَّصدِّي لأعمال قدرته الإلهيَّة في أي لغة أخرى كما عرف عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من بعده كذلك إن أرادوا.

وقوله من سورة مريم [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا](6) أي لأنَّ لسان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في أساسه كان عربيَّاً صالحاً للتَّبشير والإنذار معاً على

ص: 95


1- سورة الشعراء / آية 194 - 195.
2- سورة الشعراء / آية 199 - 200.
3- سورة فصلت / آية 44.
4- سورة النحل / آية 103.
5- سورة إبراهيم / آية 4.
6- سورة مريم / آية 97.

خلاف سيرة الأنبياء المكلَّفين بالإنذار فقط.

وقوله تعالى من سورة القيامة [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ](1) أي قبل نزول الوحي المناسب لأسباب النُّزول من النُّجوم وإن كان حافظاً للقرآن في نزوله الكامل الأوَّل على صدره، لتكون المطابقة حاصلة دائماً بما هو أنسب، أو لئلاَّ ترد شبهة من الأعداء في التَّقولمنه صلی الله علیه و آله و سلم حاشاه منه، وهو ما أشار إليه قوله تعالى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](2)، كل ذلك لتثبيت خصوص كون ما أتى به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم هو الوحي القرآني العربي [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى](3) وقوله [سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى](4) أي الآيات الأخرى كما أمره عَلَيْهِ السَّلاَمُ في البداية أن يقرأ سورة العلق.

وقوله من سورة القمر [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ](5) أي فهل من مغتنم للفرص بإدكار لنفسه من ذكره، لأنَّ القرآن في لفظه ومعناه ربيع القلوب.

وقوله من سورة آل عمران [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ](6)، أي قريش وغير قريش عربهم وأعاجمهم، لإخضاعهم لمضامينه العربيَّة ولو بعد حين من التَّعلُّم.

وقوله من سورة القدر [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ](7)، والضمير عائد إلى القرآن

ص: 96


1- سورة القيامة / آية 16.
2- سورة الحاقة / آية 46.
3- سورة النجم / آية 3 - 5.
4- سورة الأعلى / آية 6.
5- سورة القمر / آية 17.
6- سورة آل عمران / آية 138.
7- سورة القدر / آية 1.

لمعلوميَّته الثَّابتة والكناية أبلغ من التَّصريح.

وقوله [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ](1) والضمير عائد إلى القرآن أيضاً لمعلوميَّته الثَّابتة وكالآية السَّابقة.

وقوله [الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ](2) وهو البيان العربي المعهود.

وقوله [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ](3) أي جاء بهذه اللُّغة المعطاء.

وقوله [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ](4)، أي فكيف بالعقول البشريَّة الميَّالة في طبيعتها وفطرتها ولو بشيء من التَّأمُّل إلى هضم المعاني الحقيقيَّة لإسعاد البشريَّة.

وغير ذلك من كثير الآيات المتلازمة مع صراحة الآيات السَّابقة عليها في التَّعبير عن عروبة القرآن تلازمها البين بسبب وفرة قرائن القرآن الَّتي لا تخفى على المتتبِّع والمطِّلع على علم المعاني والبيان وعلى قاعدة تفسير القرآن بالقرآن أو عموم تفسيره أو حتَّى بالسنَّة الَّتي تُعد الثِّقل الثَّاني بعد وحي الله القرآني في عروبتها من حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين وغيره بلا أي حاجة إلى الإكثار منها بعد هذه النَّماذج الكافية.

7 - وكذلك ما ورد عن المخلوق والمكلَّف الشَّرعي الثَّاني وهم نوع الجن وهو قوله منسورة الأحقاف حكاية عنهم لمَّا عرفوا وحي الله العربي [قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ](5)

ص: 97


1- سورة الدخان / آية 3.
2- سورة الرحمن / آية 1 - 3.
3- سورة التكوير / آية 19.
4- سورة الحشر / آية 21.
5- سورة الأحقاف/ آية 30.

أي على ما هو عليه من بيانه العربي.

وقوله من سورة الجن [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا](1).

وفي هتين الآيتين وغيرهما من الأدلَّة المناسبة تمام الرَّد لمن يدَّعي بأنَّ القرآن من تعليم الجن للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم حاشاه.

وإذا كان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم هكذا فكيف كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ والوصي والإمام من بعده معروفاً بإمام الإنس والجن، ولذا قال الشَّاعر عامر ابن ثعلبة في مدحه:

علي حبُّه جنَّة *** إمام الإنس والجِنَّة

وصي المصطفى حقَّاً *** قسيم النَّار والجنَّة

وكأنَّ رسالة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المعطاء تكمن في خصوص كونه صلی الله علیه و آله و سلم عربيَّاً وكون رسالته كذلك بين القرشيِّين كما مرَّ في عبارة الآية وهي [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](2) وأمثالها.

أي أنَّه يؤكِّد على لزوم اتِّخاذ الشَّكل اللُّغوي العربي للخطاب والتَّداول فيه بأكثر من تأكيده على مضمونه وإن كان المضمون مهمَّاً جدَّاً خصوصاً في احتواء هذه اللُّغة لجميع جوانبه بأكثر من بقيَّة اللُّغات مهما استوعب بعضها من المعاني ما استوعب كما سبق بيانه.

لأنَّ القرآن فيه كل ما في الكتب السَّماويَّة السَّابقة من المضامين وزيادة كالتَّبشير بعد الإنذار دونها، لاقتصار تلك على الإنذار عدا الإنجيل الأخلاقي.

ويكفيه ما سبق ذكره من قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ](3)، للحاجة الآن إلى بثِّها عربيَّة، كما ورد في أوَّل الإرسال عربيَّاً، ولتذكير غير العرب بما

ص: 98


1- سورة الجن / آية 1.
2- سورة النحل / آية 103.
3- سورة النحل / آية 89.

ورد في كتبهم السَّماويَّة السَّابقة من الَّذين اهتدوا للتَّصديق به إسلاماً وإيماناً وعمقاً فيه والَّذين سيهتدون أو سوف يهتدون وللحاجة الماسَّة إلى تعلُّم اللُّغة العربيَّة كما هي الآن في رسميَّتها الشَّهيرة في العالم، لأنَّ تلك المضامين الملازمة لها لابدَّ أن تتبعها.

لكن ورد في مقابل هذا أمثلة على كلمات قرآنيَّة اعتبرت على رأي بعض أنَّها أعجميَّة مستفادة من لغات أخرى غير عربيَّة(1).

ومن هذه الألفاظ [الطور] بمعنى الجبل و[طفقا] بمعنى قصدا و[الرَّقيم] بمعنى اللَّوح و[هدنا] بمعنى تبنا و[طه] بمعنى طأطأ الأرض يا رجل و[سينين] بمعنى الحسن و[السِّجل] بمعنى الكتاب و[الاستبرق] بمعنى الغليظ و[السندس] بمعنى الرَّقيق من السَّتر و[السري] بمعنى النَّهر الصَّغير و[المشكاة] بمعنى الكوَّة و[الدُّري] بمعنى المضيء و[ناشئة اللَّيل]بمعنى الاستيقاظ من النَّوم ليلاً والقيام إلى الصَّلاة و[كفلين] بمعنى ضعفين و[قسورة] بمعنى الأسد بالحبشيَّة والحمار الهرم بالسِّريانيَّة و[وراءهم] بمعنى أمامهم و[أباريق] بمعنى أواني و[إنجيل] بمعنى بشارة و[تابوت] بمعنى صندوق و[جهنَّم] بمعنى وادي هنوم خارج القدس حيث كانت تحرق الأضاحي البشريَّة قرباناً للوثن مولوخ و[زنجبيل] بمعنى نبات و[سجيل] بمعنى طين متحجِّر و[سرادق] بمعنى سور أو فسطاط يجتمع فيه النَّاس لعرس أو مأتم وغيرهما و[سورة] بمعنى فصل و[طاغوت] بمعنى كل ما عبد من دون الله و[فردوس] بمعنى بستان و[ماعون] بمعنى أداة منزليَّة كالقدر والقصعة و[عليون] بمعنى منزلة عالية في السَّماء و[سجِّين] بمعنى موضع و[مرقوم] بمعنى مسطور واضح الكتابة و[أراءك] بمعنى مقاعد منجَّدة و[تسنيم] بمعنى عين ماء.

وأقول: إلى غير ذلك من أسماء الأنبياء والرُّسل من الأقوام غير العربيَّة كإبراهيم الَّتي أصلها بالأعجميَّة (ابراهام) وغيرهم.

ص: 99


1- على ما ورد في كتاب المتوكِّلي للسيوطي والإتقان له كذلك ج1 ص 139.

حتَّى تراءى للبعض أنَّ هذا يحكي تناقضاً بين فكرة وجود كلمات أعجميَّة في القرآن وأنَّه جاء منزَّلاً ومفصَّلاً بلسان عربي مبين.

وجوابنا في المقام: بعد التَّعريب أو التَّحوير إلى لسان تمام الحروف العربيَّة الهجائيَّة الثَّمانية والعشرين والاستعمال قلَّة أو كثرة لابدَّ من أن يُحسب على اللُّغة العربيَّة، وكما عُرف أنَّ الأسماء لا تعلل.

بل إنَّ هناك من الألفاظ ما لم يعرف لها منشأ استعمال، ومنها ما قد تمَّ تخريجه على نهج القواعد العربيَّة التَّجويديَّة والصَّرفيَّة ونحوهما، وكما مرَّ عن كلام أمير المؤمنين لأبي الأسود الدؤلي للخلاص من غزو الأعاجم للغتنا إن لم تكن لغتنا هي المؤثِّرة في بعض الأحوال فيظهر ما هو عربي عند الأعاجم وفي لغتهم لو استعمل عندنا أو عاد إلى عروبته أنَّه هو أعجمي استعمل عندنا، ولذا صرَّح الطَّبري والشَّافعي بعروبة هذه الألفاظ.

وأمَّا ما عرف في بعض الرِّوايات من اعتبار هذه الألفاظ أعجميَّة - كما عن ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والسَّيوطي وغيرهم كما عرف أيضاً عن بعض المتصدِّرين عنوة من الصَّحابة -

فهو إمَّا على اعتبارها عربيَّة بعد التَّحوير والاستعمال أو أنَّها عربيَّة حسب إذا كانوا أقوياء في دين الله ولا يبغون سوى إسنادهم عروبة القرآن بأدلَّة ذلك أو مع سبق إصرار بعضهم على عجمته لها فهو من نفاق ذلك البعض.

لكونهم جهد إمكانهم أرادوا الخدشة فيه من هذا الأمر ونحوه على نهج أولئك المشركين الأوائل الَّذين حاولوا إضعاف حجيَّته وما قدروا.

فإن قيل: بأنَّ هناك ألفاظ غير مألوفة في لغتنا فلربَّما هي الدَّاخلة في العجمة؟

فإنَّا نقول: ليس كل عبارة نادرة هي أعجميَّة كما في بعض لغات العرب المتعدِّدة في لهجاتها بل بعضها عربيَّة أصيلة مستعملة كثيراً عند قوم وبقلَّة عند قوم آخرين، ومن

ص: 100

تلك ما قد تستعمل عند بعض الأعاجم وهي عربيَّة.

وكذا ما عُرف بندرة استعماله في النَّثر لربَّما كان مألوفاً في الشِّعر كما في المعلَّقاتوغيرها مثل كلمة (السجنجل) وهي لغة رومية، ومعناها: المرآة; وقد وردت هذه الكلمة في شعر امرئ القيس في قوله في المعلقة:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة *** ترائبها مصقولة كالسجنجل

كذلك كلمة (الجُمان) وهي الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عُرِّب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:

وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سلَّ نظامها

وأمَّا ما عُرف من استغراب أبي بكر وعمر وغيرهما -- باعتبار أنَّهما من أهل اللِّسان وأساسه كما حصل عندهما - حول كلمة [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا](1)، حيث قال أبو بكر (أي سماء تظلُّني وأي أرض تقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)(2).

فجوابه:

أوَّلاً: بجرأتهما على الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم حينما كانا يقولان (حسبنا كتاب الله)(3) - وقد أثبتت ذلك كتبهم - ويتركان العترة الَّتي منعا تدوين السنَّة عن طريقها، لأنَّها الَّتي تعرفهما كل شيء يجهلانه.

وثانياً: بأنَّ صاحب اللِّسان الأقوم وهو علي قدس سره وهو القرآن النَّاطق بمقولة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الشَّهيرة فيه (علي مع القرآن والقرآن معه)(4) والَّذي جاء فيه عن زيد الشَّهيد، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي

ص: 101


1- سورة عبس / آية 31.
2- الدر المنثور للسيوطي ج 8 ص 421.
3- البخاري / ج: 8 ص: 138.
4- الصَّواعق المحرقة ص 76.

طالب عَلَيْهِم السَّلاَمُ : قال: (سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول وقد سئل: بأي لغة خاطبك ربُّك ليلة المعراج؟ قال: خاطبني بلسان علي، فألهمني أن قلت: يا رب خاطبتني أم علي؟ فقال: يا أحمد أنا شيء ليس كالأشياء، لا أقاس بالنَّاس، ولا أوصف بالشُّبهات، خلقتك من نوري، وخلقت عليَّاً من نورك، اطَّلعت على سرائر قلبك فلم أجد أحداً إلى قلبك أحب من علي بن أبي طالب، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك)(1).

أنَّه أجاب الأوَّل بأنَّ ما بعدها يفسِّرها وهو قول الله تعالى[مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ](2)، وأمَّا قول الثَّاني الأجرأ ممَّا سبق حيث قال ما يكفي في ردِّه المنبئ عن مقامه عن [أبَّا] بأنَّها جاءت بتكلَّف فترد إلى ربِّها.

وخلاصة كل ما سبق وعلى أساس هذه العروبة الَّتي لا غبار عليها بأي معنى قبلناه أنَّه لابدَّ وأن يكون القرآن وبالأخص آيات أحكامه حجَّة توجب علينا استغلال ثروته وعطاءه،ويلحق به السنَّة الصَّحيحة في كافَّة الأمور المولويَّة والارشاديَّة.

وأن نغتنم معالمهما على ضوء المعالم العربيَّة وقواعدها المرتبطة بمباحث الألفاظ كالأوامر والنَّواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتَّقييد والإجمال والتَّبيين والنَّاسخ والمنسوخ المفسَّر بالتَّخصيص وكل ملازمات هذه الأمور لا على غير ذلك.

وإن كان المأمول من مدرِّسي الحوزة الأفاضل ممَّن لم يتقن العربيَّة أن يشجِّعوا على مزاولة هذه اللُّغة، فإنَّ إتقان هذه اللُّغة لابدَّ أن يزيد في فقاهة الفقيه بينما الَّذي لم يتقنها وإن قويت أصوليَّته لم يوفَّق عادة كما ينبغي لإتقان الفقاهة كمن أتقن هذه اللُّغة.

وأمَّا أمر النَّقل بالمعنى فهو ممَّا صحَّ ويصح في مجال ما يحتاج إليه من ذلك كما في

ص: 102


1- رياض السِّالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عَلَيْهِ السَّلاَمُ - السيد علي خان المدني الشيرازي - ج1 - الصفحة 32، وورد في مناقب الخوارزمي: 78 / الحديث 61، وينابيع المودة 1: 246 - 247/ الحديث 28، عن عبد الله بن عمر.
2- سورة عبس / آية 31.

النُّصوص القرآنيَّة الَّتي لم يستحضرها المرء فينقلها مضموناً إذا أتقن ذلك ليراجع بعده النَّص الأساس ويبني عليه بنفسه وكذلك السنَّة غير المحفوظة بنصوصها في مثل الآيات.

بل لا مانع من نقل رواة الرِّوايات مثل ما حصل بالمعنى كثيراً من قبل المعتبرين والموثوق من رواة الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ إذا طابق المعنى نفس معنى لفظ الإمام والقدر المتيقِّن ممَّا يحتمل فيه بعض الزَّوائد الَّتي لم تحقِّق بعد، على ما سوف يجيء تحقيقه في حينه من بحث الرِّوايات وعلاجات الأخذ بها سالمة أو بما يعوِّض عنها.

المدخل الثَّاني عشر

من أصول الاستنباط الشَّرعي

نثريَّة النُّصوص في الكتاب والسنَّة لا شعريَّتها

إنَّ من جملة حالات الإعجاز القرآني عموماً وفي آيات الأحكام خصوصاً - وأنَّه لا تناقض في القرآن كما سيجيء حتَّى لو توسَّعنا فيها من الأصول بكلا نوعيها اعتقاديَّة وفقهيَّة ولأصولِّي أهل التَّشيُّع وأهل التَّسنُّن للفقه المقارن إن أمكن إرساء دعائم التَّقريب بين المذاهب وحصل بعض التَّلائم أو كثير منه في الأصول والفقه، وكذا القواعد الفقهيَّة وغير ذلك ممَّا تحتمله كلمة الأحكام من التَّوسعة، وممَّا يناسب أن يدخل في هذا الخصوص أيضاً من العلميَّات الأخرى بقيَّة المعارف الَّتي تحتضنها الآيات والَّتي لابدَّ وأن ترتبط بهذا الإعجاز الإلهي والَّذي ما جاء لنبيِّنا صلی الله علیه و آله و سلم وأنزل عليه إلاَّ من الوحي النَّثري المبين لا كما يفتري أعداءه من كونه شعراً لخرق العادة دعماً لرسالته العامَّة كبقيَّة من سبقه في مقابل قريش الفصيحة البليغة -

هو نثريَّة الألفاظ لا شعريَّتها، وبما لا يقوى قول بشر على مباراتها إذا كان عربيَّاً آنذاك فضلاً عن غيره شعراً ونثراً وفي عالم أدبها المعروف وإن اشتهر قول رسول الله

ص: 103

صلی الله علیه و آله و سلم (إنَّ من الشِّعر لحكمة وإنَّ من البيان لسحراً)(1) والّذي لابدَّ وأن يكون الكلام المعجز في هذه الأمور دقيقاً غاية الدقَّة وبلفظ يحوي كل معانيه الإلهيَّة السَّامية عالميَّاً وإن تعدَّدت لأسبابها كجزل الغضا ومفحماً للأعداء مهما أوتوا من مهارة بيانيَّة في الفصاحة والبلاغة وبعيداً عن الشَّطط والمبالغات والمجازات والكنايات والخيالات الَّتي لا يخلو منها عادة كلام البشر والآدميِّين من العرب من غير الوحي القرآني نثراً وشعراً فضلاً عن غيرهم لعدم ضمان الواقعيَّة المطلوبة فيه إلاَّ ما قلَّ وندر.

وممَّا لا يمكن لهذا النَّادر أن يكون دستوراً سماويَّاً لجميع العالم بما يحوي كل ما مضى من الرِّسالات وزيادات ولآخر أزمنته إلاَّ ذلك البيان النَّثري والوحي الإلهي المبين، حتَّى أخضع الأعداء لمَّا سمعوا بعض آياته كالوليد ابن المغيرة المعروف بخلفيَّته الفائقة ثقافيَّاًفطريَّاً آنذاك حينما سمعه من النَّبي الأمي صلی الله علیه و آله و سلم الَّذي كان من أقواله عنه (والله إنَّ لقوله الَّذي يقول لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة وإنَّه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنَّه ليحطم ما تحته وأنَّه ليعلوا وما يعلى)(2) والفضل ما شهدت به الأعداء.

وغير ذلك من الأعاجيب الَّتي سبَّبت هداية أمثاله للإسلام من الآخرين وإن لم يوفَّق هو له لمنع أبي جهل له عنه محرجاً.

بل هو عدم احتواءه على أي تناقض مزعوم على ما سيجيء، كما بيَّن منع أن يكون شعراً أو وجود الشِّعر فيه ولو مختصراً، وبيَّن ذمِّ الشِّعر والشُّعراء، ومنع أن يكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم شاعراً.

وفيما قد أورده بعض الأعداء أيَّام جاهليَّة الشِّرك ووثنيَّته آنذاك ممَّا أشارت إليه بعض الآيات القرآنيَّة الآتية، وفيما أورده بعض الأعداء الآخرين ممَّن تلاهم حين انتابهم

ص: 104


1- أخرجه أحمد برقم 2813، وأبو داود برقم 5013، وأصوله في صحيح البخاري برقم 5146، ومسلم برقم 2046.
2- تفسير الطبري 12/309 وتفسير عبد الرزاق 2/ 1328.

الجهل العلمي والحماقة الفهميَّة وقلَّة التَّدبُّر أو عدمه على ما في هذه الآيات وصيغها ممَّا حوى فيها بعض الأوزان الشِّعريَّة أو حتَّى الستَّة عشر المعروفة عروضيَّاً بأجمعها على ما سيجيء سرده بعد استعراض شبههم.

فقالوا ما مضمونه للتَّوضيح أكثر:

لماذا ورد الذَّم والتَّحريض ضدَّ الشِّعر والشُّعراء ومنع كون قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم حينما ينقل وحياً قرآنيَّاً للنَّاس أن يكون متَّصفاً بالشِّعر حتَّى لو استثني بعض الشِّعر من حالة ذلك الذَّم ممَّا لا يعطي أي مشروعيَّة له ما دام الشِّعر من وضع البشر؟

وذلك لكون لسان الوحي القرآني لا ينسجم مع الشِّعر ولو قليلاً، لقلَّة ذلك القليل وضعف ذلك المستثنى أمام المنع العام لصالح دستور العالم في لسانين متفاوتين وهما:

لسان الشِّعر المحدود بقيوده الَّتي لا يتعدَّاها روياً ووزناً وقافية.

ولسان النَّثر الإلهي الغالب لقدرات فصحاء وبلغاء القرشيِّين، وإن صحَّ للبشر أن يقول المستثنى في عادي كلامه حتَّى النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام قدس سره .

وتلحق السنَّة بالقرآن أيضاً في نثريَّة ألفاظها في أمر الاستنباط منها ربطاً بحديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين، لنفس الغرض كما سيتَّضح دون أن يرجع إلى أي نوع من الشِّعر، حتَّى لو عًدَّ في بابه أرقى ما يكون أدبيَّاً، وحتَّى لو قلنا بجواز النَّقل بالمعنى حينما لم يحفظ نص ما قاله المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لعدم مألوفيَّة أن يعوَّض عن كلامه الشِّعر ما عدا النَّثر المسموح به في باب الدِّراية والحديث.

ولعلَّ عناد المعاندين في جاهليَّتهم الحمقاء - من نسبة التَّناقض لما أتى به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم من وحي الله تعالى القرآني ممَّا مرَّ ذكره في ادِّعاءهم أنَّه شعر أو من الشِّعر، لأنَّ الشِّعر من مقدور البشر الاعتيادي -

لمحاولة إثبات أنَّ القرآن من وضع محمَّد صلی الله علیه و آله و سلم على حدِّ زعمهم لا الوحي.

مع أنَّ زعيمهم الوليد بن المغيرة قال غير ذلك مادحاً كما مرَّ، ممَّا يعني أنَّ الجاهليِّين

ص: 105

هم الواقعون في التَّناقض لا القرآن، حينما كانوا هم المولعون بالشِّعر قبل الإسلام.وأنَّ نثرية القرآن متحفة بالمحسِّنات ومشوِّقات الإصغاء إلى أساليبه الجذَّابة، فكيف يكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم هو المذموم عندهم لأنَّه شاعر أو أنَّ قرآنه شعر أو فيه الشِّعر، ومنع القرآن أن يكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم شاعراً أو قال غير الوحي.

مع أننَّا لو تتبَّعنا آيات القرآن جيِّداً - لو تنزَّلنا قليلاً للخضوع لأي شيء من التَّناقض ولكن للحق الَّذي لابدَّ أن يقال من ناحية أدبيَّة أخرى - لوجدنا الكثير منها مطابقاً للأوزان الشِّعريَّة أو بعضها، لا تأييداً لمن يقول بهذا التَّناقض، وليفرض أن يكون ذلك من ذلك المستثنى في آيات المنع كما سيجيء ومن ذلك ما جمع شطرين كاملين في عدَّة موارد أو ثلاثة أشطر كما سيأتي التَّمثيل له، وهو ما قد يوضِّح بعض حالات ما يسمَّى بالتَّناقض المزعوم في ادِّعاءهم.

ولكن لا يلزم أن تسميِّه من الشِّعر الاصطلاحي على ما يأتي ذكره في تسميته، بل لابدَّ أن نسميِّه ذكراً لعدم كفاءته الاصطلاحيَّة بين الأدباء وكما قال تعالى [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ](1) وإن أضيفت عليه صفة الوزن والسَّجع وتنسيق الكلام فإنَّ محاسن النَّثر كثيرة والقرآن مليء بأعلاها.

وعلى الرَّغم من أهميَّة الشِّعر أدبيَّاً عربيَّاً وغيره بعد النَّثر في الجاهليَّة وفي الإسلام وعند الأعداء والأصدقاء فلاعتباره الأهم بعد النَّثر في الاستعانة به لحفظ المعاني المقصودة والتَّذكُّر والتَّذكير به ونحو ذلك إعلاميَّاً.

ولربَّما يفوق على النَّثر المصوغ لبعض الآدميِّين في بعض المقامات الاجتماعيَّة وغيرها كالمنظوم للعلوم والمعارف والحكم والمواعظ وللدِّفاع عن الحق ودفع الباطل.

كما ربَّما يفوقه النَّثر في مقامات أخرى بمختلف أقسامهما الأدائيَّة وبالأخص في المجال العربي بصفة كبيرة جدَّاً في كافَّة الأوساط العلميَّة دينيَّاً وأدبيَّاً في غير ذلك حينما

ص: 106


1- سورة يس آية / 69.

يكون الشِّعر ماجناً وضالاًّ ومضلاًّ وللامتهان المادِّي أو للتَّزلف إلى الباطل وأهله وكما قال القرآن الكريم بلا اطلاق في ذمَّه للممتهنين به ونحوه في آخر سورة الشُّعراء [الشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ](1).

حيث استثنى تعالى من الشِّعر ما به نصرة الحق والمظلومين ومن الشُّعراء من كان مؤمناً وناصراً للحكمة والحق وقال الحديث الشَّريف وكما مرَّ (إنَّ من الشِّعر لحكمة وإنَّ من البيان لسحرا)(2) استثناءاً فيه بمن التَّبعيضيَّة عمَّا لم يكن مرغوباً فيه منه كما في آيات الله المانعة.

ومن ذلك ما نظم للعلوم وجمع شمل ما تبعثر منها وعموم الدِّينيَّة وخصوصها وبمختلف أوزانها، ومنها الأراجيز المستخدمة لجمع الشَّمل أصولاً عقائديَّة وأصولاً منطقيَّة وفقهيَّةوفرعيَّات فقهيَّة وأخلاقيَّات وتأريخيَّات وأنساب وغيرها، لتسهيل حفظها حسب المألوف بين الممارسين لهذا النَّوع من الأدب المحترم في بابه عند أهله من أهل الذَّوق الخاص في مجال حسن اختياره.

ومن حالاته ما يستثنى سائغاً في الحجِّ والعمرة والاعتكاف والصَّوم بل واجباً في بعض الأحوال وما به مدح النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وآله عَلَيْهِم السَّلاَمُ .

إلاَّ أنَّ البيان نوعاً وما يسمَّى بالنَّثر من الكلام العربي لابدَّ أن يكون مفضَّلاً على الشِّعر حتَّى في محاسنه الممتازة، لا في خصوص ما لو استقصى بيان الحقيقة له للزومه وعدم كفاءة الشِّعر إلهيَّاً له لأجل مصدري الكتاب والسنَّة الشَّرعيَّين النَّثريَّين من الوجهة

ص: 107


1- سورة الشُّعراء آية / 114 - 117.
2- أخرجه أحمد برقم 2813، وأبو داود برقم 5013، وأصله في صحيح البخاري برقم 5146، ومسلم برقم 2046.

الأساسيَّة في باب توليد أو تولُّد القواعد الأصوليَّة والفقهيَّة وفي بابي الاستدلال الاستنباطي منهما مولويَّاً وارشاديَّاً لانحصار أمره فيهما.

بل حتَّى الأراجيز الَّتي تشبه النَّثر إنَّ صحَّ الحاقها بالنَّثر كما عند البعض، لأنَّها قد تُمكِّن ناظمها من استيعاب بعض التَّفاصيل العلميَّة أو كثيرها لهذا الانحصار النَّثري الأصيل، ومع ذلك لم يكن شيء من الأراجيز بموجود في النَّصَّين الشَّريفين.

ولذا لوكان ذلك ممكناً لوجد شيء منه كاملاً ولو قليلاً في القرآن الكريم لإلحاقه بالشِّعر في أضعف مستوياته عند آخرين.

وإن نفاه بعض الاصطلاحيِّين أن يكون من الشِّعر، لأنَّ الشِّعر مهما بلغ ما بلغ من الرُّقي ومنه ما يُعد في بعض أو كثير من الأوساط من توابعه وهو هذه الأراجيز، فإنَّه لن يزيد على ما ينعش النُّفوس المتأثِّرة به من روعة التَّلخيص وجمع المتفرِّقات أو بعض التَّصريحات بأعذب العبارات أو كثير من الكنايات، ولو لاعتبار أنَّ (أكذبه أعذبه) على ما قيل، وإن خرج بعضه مباحاً كالكذب للمصلحة أو لإصلاح ذات البين ونحو ذلك ومنه الغزل العذري وأنَّ الكنايات منه أبلغ من التَّصريح ممَّا يحل، لأنَّ التَّفصيل النَّثري المحتاج إليه في الدستور وتابعه غير ما بني على الاختصار.

وإنَّ قدِّمت الأراجيز على الشِّعر في بعض الحالات فلقربها من النَّثر في الإفادة وإمكان الاستفادة منها كالنَّثر عند روَّاد النَّثر كما نوَّهنا.

فإنَّ الكثير من أهل الاختصاص الشِّعري وإن نفوا كونها من الشِّعر الَّذي يقصدونه، فقد ذمَّ القرآن والسنَّة نوع الشِّعر وهو أكثره، وإن لم يقصدا ما كان مستثنى منهما ممَّا مضى ذكره وما يأتي، فلا أقل ممَّا يخص القرآن والسنَّة وألفاظهما النَّثريَّة غير الموزونة بأي موزون شعري حقيقي، حتَّى الأراجيز لكونها تابعة لذلك النَّوع.

كيف والعلميَّات غير المحدودة بحدود ما كان موزوناً من أي شعر كامل في الصَّدر والعجز ممَّا حدِّد أدبه لا تكون ناجحة في أداء الحجَّة العلميَّة إلاَّ بالتَّفاصيل الحرَّة غير

ص: 108

المرتبطة بالأوزان والمقيَّدة بالقوافي حتَّى القافية الواحدة لكل بيت في الأرجوزة إذا اعتيد عليها أن تسمَّى شعراً ومن نوع الرَّجز اصطلاحاً.

وما ذاك إلاَّ خصوص البيان والنَّثر غير المرتبط بأي نوع من الشِّعر سواء اتَّفق عليه أو لم يتَّفق عليه.واستثناء القرآن والسنَّة بعض الشِّعر من الذَّم لا يعني أنَّ هذين المصدرين جوَّزا أن يكون فيهما أي نسبة من الشِّعر في جميع مجالاتها الثَّقافيَّة ليستنبط الحكم من لسانيهما حال كونهما شعريَّين.

بل فسح المجال في ذلك بعد أخذ المعلومات الكليَّة من اللِّسانين الشَّرعيَّين، ثمَّ التَّطبيق بالتَّعبير الآخر شعراً مستفاداً منهما لا غير من قبل العلماء، بما يتكفَّل بيان الحقائق عن طريقه لا مانع منه بخصوص هذا المقدار فقط.

بل قد نفى القرآن الكريم أن يكون بيانه شعراً من أي نوع من أنواعه حيث قال تعالى عن القرآن [وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ](1) ذمَّاً لمن يقبل كون ذلك من الشِّعر، وقال عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ](2)، حيث انتقل عن كلامه عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى كون كلامه الذِّكر والقرآن المبين دون الشِّعر المفترى المرتبط بالآخرين.

وهذا النَّفي الثَّابت بما مضى وبما سيأتي - وإن أصرَّ المشركون وأمثالهم من أهل الكفر - فلإضاعة الحقيقة الواضحة لكل رائد لها حقيقة في بداية التَّشريع والدَّعوة إلى التَّوحيد والنبوَّة الرِّساليَّة وقرآنها السَّماوي، بمثل قوله تعالى على لسان أولئك العصاة [بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ](3)

ص: 109


1- سورة الحاقَّة آية / 41.
2- سورة يس آية / 69.
3- سورة الأنبياء آية / 5.

وقوله عنهم [وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ](1) وقوله عنهم [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ](2).

والشَّاعريَّة المدَّعاة منفية باعتراف الوليد ابن المغيرة نفسه على ما مرَّ بأنَّ هذا الكلام ليس بكلام بشر، لأنَّ من اتَّهم النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بأنَّه شاعر لمحاولة اتِّهامه - ولو بأتفه شبهة - بكون الشِّعر من البشر هو باطل.

وإنَّها عن الجن فهي منتفية كذلك لما مرَّ ذكره في بحث عروبة مصدري الاستنباط من انبهار الجن بالقرآن وإيمانهم به حتَّى صار دستور الجن والإنس معاً، كما نطق القرآن الكريم حول هذا الأمر في مطلع سورة الجن من الآيات.

هذا وإن عثر على ألفاظ كثيرة في القرآن والسنَّة من ذوات الأوزان الشِّعريَّة - كما أشرنا سابقاً على اختلافها كبعض الصدور من دون عجز مكمِّل لها أو أعجاز من دون صدور سابقة لها -

فإنَّها لم يُرد منها الشِّعر الكامل كما لا يخفى، إضافة إلى كون ذلك عفويَّاً من جمال التَّعبير المرغوب فيه جدَّاً عند أهل الذَّوق، وبالأخص حينما كان محلَّى بألوان من السَّجع البديعي ونحوه.ومن بقي على إصراره ممَّن مضى ومن الآخرين عناداً حتَّى هلاكه فليس بمهم ما دام الحق محترماً عند أهله.

والتَّناقض منفيَّاً بل منتفياً وإن عاداه الجهلة الحمقى الَّذين كانوا وما يزال أتباعهم يُقدِّسون الشِّعر الخيالي وأمثاله وقد يُفضِّلونه حتَّى على القرآن العظيم لو توقَّفت مصالحهم على ذلك حينما ناقضوا أنفسهم لا ما افتروه على القرآن الكريم منه.

وإن اعترض: بأنَّ الإيجاز وغيره المعروفين عن الشِّعر المعيب في أن يكون القرآن

ص: 110


1- سورة الصافات / آية 36.
2- سورة الطور آية / 30.

موصوفاً به للتُّهمة الواردة عليه باطلاً واضحاً من أعداءه قد يرجع العلاقة بالشبه في السُّور المكيَّة القصار المعروف عن بعضها أنَّ فيه الموزون الشِّعري مثل قوله تعالى [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ](1) وقوله [وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا](2) وغيرهما؟

فإنَّه لابدَّ أن يجاب بأنَّ المجملات فصِّلت بالمدنيَّات، وبما فصَّله النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم من نفسه وبواسطة عترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ وما سار على نهجها من روايات الآخرين ممَّا لا يخلو بعضها عن كثير من الموزون غير المقصود به الشِّعر كذلك، لعدم تكامله وإن قبله الوزن في بعضه من العجز الَّذي لا صدر له أو الصَّدر الَّذي لا عجز له أو ما تكامل فيه موزونان صدر وعجز ولكن كل له وزنه الخاص حسبما عثر عليه من ذلك وهو ما صنعته قريحة الكلام المقصود فيها الأكثر في أنَّه بيان المعنى لا الشِّعر.

والنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وإن ظهر منه بعض من الشِّعر غير القرآني وهو المستثنى المباح أو الحسن كما ورد عنه قوله:

أنا النَّبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطَّلب

إلاَّ أنه باق على كونه ممَّا لا ينبغي له أن يكون شاعراً كالآخرين المكثرين منه، لعدم إكثاره الثَّابت، لئلاَّ يمكن إصابته من أعداءه المتحجِّجين ضدَّه بالنَّقد الرَّخيص، لأنَّه صاحب رسالة سماويَّة سامية، ولأجل أن يؤخذ من لسانه الشَّريف ما به دوام كونه حجَّة نثريَّة في كلامه.

وثبوت هذه الحقيقة لابدَّ من الاهتمام بها في مقدِّمات مباحث الألفاظ من الأصول، سواء في عموم الأصول المستفادة من الكتاب والسنَّة والعقل المرتبط بالأدلَّة الإرشاديَّة العامَّة، أو خصوص أصول آيات الأحكام التَّابعة للبحث العام، حتَّى الفقه العام الشَّامل للعقائد والشَّرعيَّات.

ص: 111


1- سورة الكوثر آية / 1.
2- سورة العاديات آية / 1.

للحاجة الماسَّة إلى التَّفصيل المقوِّم للحجَّة بما هو أفضل كثيراً من الشِّعريَّات المحدودة باصطلاحيَّاتها الضَّيقة.

تبقى الشِّعريَّات الشَّائعة وفي خصوص ما شاع منها من كلام الآدميِّين النَّافع - ولو عن طريق عدم كمال الشِّعر الاصطلاحي عند البعض - عن الأراجيز أو ما اختلف فيه بين العروضيِّين.

فلأنَّ الكمال لله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في هذا الاستعراض، لإثبات نفي التَّناقضالقرآني بين نفيه الشِّعر وبين ادِّعاءه، لبيان نتائج الأفكار في ألفاظ الآدميِّين كما مرَّت الإشارة إليه سلفاً ولمن يألفها أو يحتاج إليها، وان اشتملت على ما يوافق الكثير من فوائد المعقول والمنقول محصورة فيما لم يمنع منه الذَّوق الأدبي الآخر عند أهله أو يمدحه.

ومن خلال ما مرَّ من تأكيد القرآن الكريم حول تكرار نفيه كونه فيه شيء من الشِّعر حتَّى المستساغ منه، ونفي اتِّصاف النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم به، فبدليل الحجِّية الثَّابتة بالتَّواتر المعروف عمَّا بين الدَّفتين حتَّى أنَّه لم يكن مألوفاً عنه قول السَّائغ إلاَّ نادراً إن كان.

وإن حاول بعض أهل العلم الأفاضل استيعاب الأوزان الشِّعريَّة من آيات القرآن الكريم على اختلافها، لإرجاع إمكان أن يأتي القرآن في معلوماته بالشِّعر السَّائغ ولو في الجملة، وإن منعناه.

أو لبعض النَّواحي الأدبيَّة غير المخلَّة لا بعنوان الذِّكر السَّائغ شعراً ولو في الجملة.

أو لبعض النَّواحي الأدبيَّة غير المخلَّة كذلك، لغلق الباب المرتبط بأصل الاستحالة ولو لخصوص مجال الاستثناء المبيح آنف الذِّكر ثبوتاً وإن لم يكن إثباتاً للقرآن نفسه، ولعلَّه لبيان عدم كمال الشِّعر بالتَّالي فيه.

أو ليجوز استعماله خارجاً لدى كلام الآدميِّين مع منعه في كلام الله تعالى قرآنيَّاً وفي السنَّة أيضاً.

ص: 112

فذكر الأستاذ الحجَّة آية الله أديب العلماء الكبير السيد مسلم الحلِّي قدس سره في كتابه (القرآن والعقيدة) عن بعض الأدباء وهو ما يعتقده البعض أنَّه (صفي الدِّين الحلِّي قدس سره) (1) بأنَّه نظم البحور العروضيَّة الستَّة عشر بأوزانها الخاصَّة وضمَّنها آيات أو بعضها أو أزاد عليها شيئاً من القرآن الكريم بكامل المصراع الثَّاني لإكمال صورة الشُّبهة.

وذلك للسَّعي في ردِّها إن أمكن بمقدار الميسور منه أو ما هو الواجب أو احتيج إلى ذلك، ولو للإدلاء إلى ما يصحِّح التَّضمين تشرُّفاً ببعض الآيات أو أجزاءها في أشعار الشُّعراء، أو للاستدلال بها لتقوية تلك الأشعار.

لا لأجل تبرير ادِّعاء إمكان أن يكون القرآن شعراً كما أفتري.

مع إدلاء بعض التَّعليقات الَّتي نأتي بها في أثناء عرضها، كما سوف نبيِّنه بإذن الله من فئة المصراع الواحد الأخير:

فقال عن بحر الطَّويل:

أطال عذولي فيك كفرانه الهوى *** وآمنت يا ذا الظبي فانس ولا تنفر

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن *** فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ (2)

وقال عن بحر المديد:

يا مديد الهجر هل من كتاب *** فيه آيات الشفا للسقيم

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن *** تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(3)

ص: 113


1- وفي "ميزان الذهب": 121 للهاشمي: فقد ذكر أنَّها للشِّهاب وهو "الشهاب أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري"، قاضي القضاة، ولد 977 ه-، تنقل في البلاد الإسلامية قاضيا ومعلما إلى أن استقر به الأمر في مصر، فعاش بها حتى توفي 1169 ه-، وله تصانيف كثيرة منها: ريحانة الألبا، حاشية على تفسير البيضاوي، قلائد النحور في جواهر البحور في العروض.
2- سورة الكهف آية / 29.
3- سورة لقمان آية/ 2.

وقال الآخر أيضا عن نفس البحر بنقل من السيد الأستاذ قدس سره:

لو مددنا بابتهال يدينا *** نرتجيكم هل يكون العطاء

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن *** [إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء](1)

وقال نفس المنقول عنه الأوَّل عن بحر البسيط :

إذا بسطت يدي أدعو على فئة *** لاموا عليك عسى تخلو أماكنهم

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن *** [فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ](2)

وقال عن بحر الوافر :

غرامي في الأحبة وفّرتْه *** وشاة في الأزقة راكزونا

مفاعلتن مفاعلتن فعولن *** [إِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَا](3)

أقول: إنَّ الألف في المصراع الأخير من البيت الثَّاني زائدة على النَّص القرآني للرَّوي مع مساواة الوزن للبحر.

وقال عن بحر الكامل :

كملت صفاتك يا رشا وأولوا الهوى *** قد بايعوك وحظهم بك قد نما

متفاعلن متفاعلن متفاعلن *** [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا](4)

أقول: وهذا المصراع من الآية فيه إضافة (إنَّما) من جملة أخرى في الآية الكريمة لا يتم إلاَّ بتبعيَّتها لها، وهي مثل يبايعونك الماضية داخلة في خبر إنَّ، فلا وزن في كل الآية، وتمام المعنى في ذلك بما بعدها وهي (يبايعونك) الأخرى، فلا وزن في جملة كاملة، وعليه فلا شعر كما ينبغي.

ص: 114


1- سورة الجمعة آية / 6.
2- سورة الأحقاف / آية 25.
3- سورة المطففين / آية 30.
4- سورة الفتح / آية 10.

وقال عن بحر الهزج :

لئن تهزج بعشاق ***فهم في عشقهم تاهوا

مفاعيلن مفاعيلن *** [وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ](1)

وقال عن بحر الرجز :

يا راجزا باللوم في موسى الذي *** أهوى وعشقي فيه كان المبتغى

مستفعلن مستفعلن مستفعلن***. [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى](2)

وقال عن بحر الرمل :

إن رملتم نحو ظبي نافر *** فاستميلوه بداعي أنسه

فاعلاتن فاعلاتن فاعلن *** وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ](3)

وقال عن بحر السريع:

سارع إلى غزلان وادي الحمى *** وقل أيا غيد ارحموا صوبكم

مستفعلن مستفعلن فاعلن *** [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ](4)

أقول: وهذه الآية من المصراع الأخير في بيت الوزن العروضي يمكن أن يكون من توابع آيات الأحكام أو الأعم من الَّتي منع القرآن أكثر الشِّعر عنه، والأقل المستثنى لا يبرِّر له إثبات الشِّعر فيه في الأمور الشِّرعيَّة.

ولربَّما يرتبط بالأمر بالتَّقوى عند عدم الإطاعة أو فعل المعصية عموماً ولغرض الاهتمام بدفع الشُّبهة عمَّا نحن في صدد البحث فيه عن الإعجاز وعدم التَّعارض كذلك.

ص: 115


1- سورة آل عمران / آية 173.
2- سورة طه /آية 24.
3- سورة يوسف / آية 32.
4- سورة يوسف / آية 32.

وقال عن بحر المنسرح :

تنسرح العين في خديد رشا *** حيى بكأس وقال خذه بفي

مستفعلن مفعولات مستفعلن *** [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي](1)

أقول: وهذا البيت الثَّاني مصراع تعود ألفاظه للقرآن الكريم ويعود الوزن الشِّعري من هذا البحر كذلك، لكنَّه لم يكن بمصراع مؤدِّي إلى معنى تام كما تؤدِّيه الآية الكاملة بطبيعتها النَّثريَّة، إلاَّ بأن يوصل لفظ (في) بما بعد لتكون الآية تامَّة المعنى.

إلاَّ أنَّها تبقى ألفاظها نثريَّة لا شعريَّة لو رفعت (في) منها.

وقال عن بحر الخفيف:

خف حمل الهوى علينا ولكن *** ثقلته عواذل تترنم

فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن .*** [رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ](2)

أقول: وهذا المصراع الأخير ما بين قوسين فيه ناحية ارتباط بآيات الأحكام العامَّة أو الخاصَّة كآية الأمر بالتَّقوى الماضية ولو من ناحية عقاب العصاة فيها.

وقال عن بحر المضارع:

إلى كم تضارعونا *** فتى وجهه نضير

مفاعيلن فاعلاتن *** [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ](3)

وفي رواية أخرى [وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ](4)

وقال عن بحر المقتضب:

اقتضب من وشاة هوى *** من سناك حاولهم

ص: 116


1- سورة الفتح / آية 4.
2- سورة الفرقان / آية 65.
3- سورة الملك / آية 8.
4- سورة الأنعام / آية 103.

مفعولات مفتعلن *** [كُلَّمَا أَضَاء لَهُم](1)

أقول: وهذا المصراع الأخير من الآية لم يكمل معناه أيضاً إلاَّ بباقيها وهو (مشوا فيه)، ولذلك لا يكون هذا المقدار الموزون من الشِّعر الوافر في معناه، لعدم دلالة السِّياق عليه إلاَّ بما يأتي ولم يذكر.

وقال عن بحر المجتث:

إجتث من عاب ثغرا *** فيه الجمان النظيم

مستفعلن فاعلاتن *** [وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ](2)

وقال عن بحر المتقارب:

تقارب وهات اسقني كأس راح ***وباعد وشاتك بعد السماء

فعولن فعولن فعولن فعولن *** [وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء](3)

وقال عن بحر المتدارك [ بل هو الخبب ]:

دارك قلبي بلمى ثغر *** في مبسمه نظم الجوهر

) فعلن فعلن فعلن فعلن *** [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ](4)

وقال عن بحر مخلع البسيط:

خلعت قلبي بنار عشق *** تصلى بها مهجتي الحرارة

مستفعلن فاعلن فعولن *** [وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](5)

أقول: وهذا ما يتعلَّق بآيات الأحكام لتابعيَّته للسِّياق وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 117


1- سورة البقرة / آية 20.
2- سورة البقرة / آية 255.
3- سورة الكهف / آية 29.
4- سورة الكوثر / آية 1.
5- سورة التحريم / آية 6.

آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا].

هذا ما أبداه الأديب الأوَّل ومن تلاه بنقل من سيِّدنا الأستاذ قدس سره من المصاريع الأخيرة الموزونة المسبوقة بما أبدى من النَّظم المطابق للبحور المتعارفة مع بعض تعليقاتنا المناسبة في الأثناء.

وبدورنا بعد ذلك ننقل عن أديب آخر من مصدر آخر ممَّا ينقله صاحبه عن بعض الأدباء من فئة المصراع الواحد من نوع الرَّجز وهو قوله:

قد قلت لما حاولوا سلوتي *** [هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ](1)

أقول: وأمَّا ما يرتبط بما قد يصلح أن يكون موزوناً من الآيات بوزن بعض البحور من مصراعين ولكن بتصرُّف فقد عُثر على شيء من ذلك عن هذا المصدر الآخر ممَّا تكلَّف له أحد الأدباء قادراً أن يكمله بيتاً وهو ما يسمَّى بالتَّضمين كقوله:

سبحان من سخر هذا لنا ***حقَّاً وما كنا له مقرنينأقول: وهو من الخفيف، لكن لا على نسق الآية وهو قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ](2)

وبذلك كان قد بدَّل هذا مكان لنا في الشَّطر الأوَّل وأزاد كلمة حقَّاً لتحقيق الوزن العروضي للبحر.

وهذا ما به تصرف في المعنى قد لا يكون له موجب أو مبيح بلاغي في القرآن كذلك مع عدم مصداقيَّة الشِّعر كاملاً من نفس الآية.

ويحتمل أن يكون هذا الأديب هو أبو نؤاس.

ومثل ذلك ما تصرَّف فيه أبو نؤاس في قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ.... فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ](3) من البحر الخفيف فقال بعد قوله:

ص: 118


1- سورة المؤمنون / آية 16.
2- سورة الزخرف / آية 13.
3- سورة الماعون / آية 2.

وقرا مُعلناً ليصدعَ قلبي *** والهوى يصدعُ الفؤساد السقيما

أرأيت الذي يُكِذّبُ بالدي *** -ن فذاك الذي يدع اليتيما

والتَّصرُّف في ذلك هو أنَّه قطع كلمة الدِّين فجعل (الدِّي) في الشَّطر الأوَّل و (النون) في بداية الثَّاني مع حذف اللام من كلمة ذلك وزيادة الألف في آخر كلمة اليتيم ولذلك لم يكن من الشِّعر القرآني مثل ما يدَّعى ومثل ذلك قول الآخر:

وفؤادي كعهده بُسليمى *** بهوىً لم يَحُلْ ولم يتغيرْ

ولذا فهو غير كاف حينما نضيف له ما مرَّ من البيت الثَّاني مع معانيه.

وأمَّا ما يرتبط بما قد يصلح ليكون موزونا من الآيات بوزن بعض البحور لوزن أبيات كاملة فقد عُثر على شيء من ذلك عن هذا المصدر الآخر(1) ممَّا تكلَّف له أحد الأدباء بترتيبه كاملاً.

ومن ذلك ما زعم أنَّه بيت هو قوله تعالى من بحر الرَّمل

[وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ](2)

وهو ما قيل أنَّ مثله من شعر الآخرين:

ساكن الرِّيح نطوف ال *** مزن منحل العزال

وهو ما يوصف فيه يوم مطير والنطوف القطور، وليلة نطوف ليلة بمعنى قاطرة تمطر حتى الصباح.

وممَّا زعم أنَّ بيتاً من بحر الخفيف وهو قوله تعالى [وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ](3)

كقول الشَّاعر:

ص: 119


1- وهو كتاب الإعجاز في القرآن العظيم لأبي بكر محمَّد ابن الطِّيب الباقلاني.
2- سورة سبأ / آية 13.
3- سورة فاطر / آية 18.

كل يومٍ بشمسه *** وغدٍ مثل أمسه

ومن ذلك من بحر المتقارب قوله تعالى:[مَنْ يَتَّقِ اللَّهِ يَجْعَلْ لَّهْ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتسِبُ](1)

فعولن فعولن فعولن فعولن *** فعولن فعولن فعولن فعولن

ومن ذلك ما يوازن الرَّجز هو قوله تعالى في زعمهم: [وَدَانِيةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلِتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا](2)

أقول: وهذا لا يمكن إلاَّ بعد حذف واو (ودانية) واشباع حركة الميم في (عليهم) لإكمال الوزن في الرَّجز.

وذكروا أنَّ أبا نؤاس أنَّه ضمَّن ذلك شعراً يليق بأن يكون قبل الآية قائلاً:

وفتية في مجلس وجوههم *** ريحانهم قد عدموا التَّثقيلا

ولكن لا يتم ما ادَّعوه عن القرآن من الشِّعريَّة في طبيعة آياته لما مرَّ ولما سيتَّضح في الختام.

وهكذا قالوا أنَّ ممَّا يوازن بحر الوافر قوله تعالى: [وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ](3).

كقول الشَّاعر امرئ القيس:

لنا غنم نسوقها غزار *** كأنَّ قرون جلتها عصى

وكذا قالوا أنَّ من بحر البسيط قوله تعالى: [والْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *** فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا](4).

ص: 120


1- سورة الطلاق / آية 3.
2- سورة الإنسان / آية 14.
3- سورة التوبة / آية 14.
4- سورة العاديات / آية 1 - 2.

وهكذا قوله [والذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً](1).

إلى غير ذلك وهو كثير.

وإلى هذا الحد كنَّا قد وفَّرنا ما تيسَّر بوسعنا من المصاديق المزعومة من الآيات أو أجزائها في كونها من الشِّعر العروضي ولا داعي إلى التَّوسُّع فيه أكثر ما دام مستوى الزَّعم قد علمت محدوديَّته العاجزة تجاه قرآن الإعجاز العظيم.

بقي علينا واجب الرَّد والتَّوجيه لإثبات بقاء المُعجز على حاله في عدم وجود التَّعارض.

فهذا التَّشخيص باطل من جهات بمعونة ما أفاده في ضمنه آخرون:

الجهة الأولى: أنَّ النَّثر لم يتقيَّد اعتباره نثراً في الأدب العربي بخصوص أن لا يكون موزوناً دائماً بالوزن العروضي أو المقفَّى منه حتَّى لو لم يكن مقصوداً، لإشاعة توفُّر هذه الحالات فيه كثيراً، مع احتفاظ انطباق هذا العنوان على مصاديقه ما لم يكن مقصوداً في الوزن والقافية وما يناط بالشِّعر من الخيال والاستعارات والكنايات والتَّشبيه والوصف والمبالغات ممَّا يخلو من النَّثر الواقعي الاصطلاحي عادة إلاَّ ما قلَّ من المحسوب له حسابه كالشِّعر الاصطلاحي.

ومن النَّثر ما يسمَّى اليوم بالشِّعر الحر إذا خلى من خصوصيَّات الشِّعر المرتَّب فيالقصد ونحوه.

والجهة الثَّانية: أنَّ فصحاء العرب ومنهم أهل الفن الشِّعري حين أورد عليهم القرآن لو كانوا يعتقدونه أو بعضه شعراً في أمثال الموزون ممَّا ذكرناه بتمام المعنى ولم يروه خارجاً عن أساليب كلامهم الشِّعري لبادروا إلى معارضته.

لأنَّ الشِّعر مسخَّر بهم وسهل عليهم.

فلا قيمة لهذا الزَّعم من هذا وذلك، وإلاَّ لم يكن الأديب الشَّاعر أديباً شاعراً إذا

ص: 121


1- سورة الذاريات / آية 1 - 3.

كان يقول بأنَّ في القرآن شيء من الشِّعر مثلاً.

وإنَّ من هؤلاء من يصر وهو من حفظة الاصطلاحات الشِّعريَّة على القول بذلك من دون رضاه بأن يجابه بالتَّدقيق في قبال قوله.

فلابدَّ من أن يكون هذا الإصرار منه ومن أمثاله ناتج عن الحقد والحسد والعداء مع عدم توفُّر اصطلاحيَّات الشِّعر حتَّى في عقيدة هذا المصر لو خُلِّي وطبعه.

والجهة الثَّالثة: أنَّه عُرف بين أهل العلم والأدب والاصطلاح بأنَّ البيت الواحد وما كان على وزنه فضلاً عن المصراع الواحد لا يكون شعراً وإن أقل الشِّعر عندهم بيتان ثمَّ يتصاعد.

وقالوا أيضاً بأنَّه إذا كان مألَّفاً من بيتين ولكنَّه يختلف وزنهما أو قافيتهما فليس بشعر أيضاً، إلى أن قال بعضهم أنَّ الرَّجز ليس بشعر لفقدانه القافية الواحدة في بيتين لا سيَّما إذا كان مشطوراً.

وبهذا يتم المطلوب الدِّفاعي عن إعجاز القرآن النَّثري الشَّريف وإن تحلَّى بشيء من الطَّراوة والطَّلاوة والحلاوة بالسَّجع البديعي وقطع من الموزون الشَّبيه بالشِّعر غير الاصطلاحي، لأهميَّة أن يكون أخاذاً للقلوب المحتاجة إلى الهداية السَّماوية ما دامت أدران الجاهليَّة العمياء متراكمة عليها.

لأهميَّة الأسلوب النَّثري في الاستدلال في جميع مجالاته، ومن أهمِّها بل أهمُّها الآن في الاستدلال الفقهي والأصولي وإن استعمل الشِّعر لدى الآدميِّين ومنهم أهل الدِّين بما فيه الكثير من الفوائد الاستدلاليَّة العامَّة والخاصَّة ومنها ما نحن بصدِّده، إلاَّ أنَّها بالأساليب والنَّتائج الإجماليَّة حتَّى الرَّجز من أنواعه مهما توغَّلوا في أعماق أساليبه للتَّوسعة في الاستدلال المحتاج إليه في أمر الفقه والأصول، لعدم إمكان نكران أوسعيَّة النَّثر ونجاحه التَّام في هذا المجال.

وقد أثبت النَّثر المطابق للقرآن والسنَّة من كلام الآدميِّين الخاص وجوده النَّاجح في

ص: 122

طول الزَّمان من زمن التَّشريع الأوَّل إلى هذا الحين وإلى أقصى أعماق أنواع الاستدلال المطلوب وهو ما يتطابق مع نفس الإعجاز القرآني المذكور وإن لم يستوعب أعماقه الأكثرون.

ص: 123

الباب الثَّاني

اشارة

فهرست الدِّراسات الأصوليَّة الآتية

قد أظهر الشَّيخ أستاذ الأساتذة المحقِّق الأصفهاني (الكمباني) قدس سره المعروف بشارح الكفاية بما كان أعمق منها بالدقَّة الفلسفيَّة في نظر أهل العلم الواردين في مجالات ذلك، وإن ابتعد عن الفلسفة في التَّطبيق كثيراً لصالح الدِّراسة الأصوليَّة ممَّا لم يكن مألوفاً بين من سبقه من التَّقسيم للبحوث الأصوليَّة وبالنَّحو المتسلسل من البداية إلى النِّهاية المفترضة في طرحه لها.

وقد تكون هذه الملاحظة الاقتراحيَّة البيانيَّة منه فيها ما يعين حسب خبرته التَّحقيقيَّة على إمكان تصوُّر أن تكون الأصول من سنخ العلوم الَّتي يصح ضبطها وتعريفها في قبال من لا يرى أنَّه من العلوم، وإنَّما هو مجموعة فوائد عُثر عليها في طريق التَّفكير الفقهي الدقِّي كما سيأتي بيانه.

ونحن نأنس بهذا الاقتراح حتماً ما دمنا في مسلك التَّجربة البحثيَّة لاستكشاف ما ينبغي قبوله من غيره وإن لم نتقيَّد بتماميَّة علميَّة هذه الأصول.

وذكر السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره - وهو من قدامى تلامذته المعروفين بنعمة الحافظة - هذا المطلب استفادة منه في بداية دروسه الأصوليَّة لطلاَّبه تحت عنوان الفهرست، وهكذا بدأ البعض الآخر بنحو متشابه.

ولذا جعلنا عنوان هذا الموضوع في بداية مبادئ الأصول أو مقدِّمات مباحث الألفاظ باسم (فهرست الدِّراسات الأصوليَّة الآتية).

ولكن دخولنا فيها ينبغي أن يكون بعد بيان موجز الاستفادة من الأصول إن كانت تامَّة وتفصيليَّة وعن أي طريق تكون؟

ص: 124

إذ بعد الفراغ من تعاريف وخصوصيَّات هذا العلم - في صحَّتها من عدمها فيما يأتي بيانه بتوفيق الله تعالى - لابدَّ من السَّعي الجاد لمعرفة موارد الاستفادة منه موجزاً في تقديمنا هذا قبل تلك التَّفاصيل العلميَّة الآتية.

وهي بمعنى أنَّ أيَّ شيء يمكن أن نعرفه منها افتراضاً - عن الاستنباط القواعدي الأصولي - منتجاً أو ما يُسعى له لتأسيسه من القواعد عند مراجعة مدارك الفقه الأصوليَّة وملحقاته مع بعض الأمثلة للتَّقريب فهو داخل وإلاَّ فلا.

وهو مع هذا بلا شك ولا شبهة محرز النَّجاح ولو إجمالاً من كثرة التَّجارب والممارسات الاجتهاديَّة قديماً وحديثاً لدى الأساطين حتَّى جعل القطع النَّوعي في مسلك أهل البيت صلی الله علیه و آله و سلم الفقهي ومن سايرهم أو شابههم في مسلكهم من بعض المذاهب الأخرى ممَّا اتَّفق من ذلك بيننا وبينهم فيما قلناه عنَّا وعنهم من الإجمال إلى حين انكشاف الواقع الكامل عن الفقه والأصول في البحوث الآتية بالتَّساوي المجمل أو التَّشابه المطلوب من عدمه حوله.

إلى أن أصبح يؤخذ بتطبيق تلك القواعد الأصوليَّة المتَّفق عليها في موارد الحاجة وبما يكون الأمل فيه ناجحاً فيها ولو فيما بعد ولو في أوَّل وهلة على ما سيتَّضح في مقامات الاستدلال على كل مسألة فقهيَّة عن هذا العلم من الأبواب الفقهيَّة الآتية إن شاء الله تعالى.

وخلاصة المستنتج النَّوعي الَّذي ينبغي أن يكون من ذلك في أمرين وهما:

الأوَّل: الحكم الواقعي

وهو ما لو كان ثابتاً للشَّيء بما هو في نفسه فعل من الأفعال كوجوب الصَّلاة المستدل عليه من أوامره وأدلَّته المتعدِّدة في آيات الأحكام والسنَّة التَّابعة لها وغير ذلك، لأنَّه ثابت لها بما هي صلاة في نفسها وفعل من الأفعال، مع قطع النَّظر عن أي شيء آخر حتَّى كونها في الدَّار المغصوبة أو في حال وضع الكراهيَّة ككونها في آخر الوقت أو في

ص: 125

الحمَّام أو غير ذلك ممَّا لم نلاحظه طارئاً في الذِّهن حولها أو لكونها من الضَّروريَّات الَّتي لا يجوز نكران واقعيَّة وجوبها للغرض القاضي بفوريَّة الإطاعة فيه بالالتزام بها عند حلول وقتها من قبل المكلَّفين بحيث (لا تسقط بحال).

وهكذا وجوب الفرائض المسلَّمة والضَّروريَّة الأخرى الَّتي لا اختلاف فيها وإن اختلفت عن الصَّلاة في كون الصَّلاة (لا تسقط بحال) وبقيَّة الواجبات الضَّروريَّة مشروطة بأن تكون واجبة عند توفُّر الشَّروط كي تكون كالصَّلاة وهي بأجمعها الواجبات الَّتي يطلق عليها بفروع الدِّين الأساسيَّة العشرة.

وهكذا كل ما يصل إليه الدَّليل التَّام فهو مثل ما مرَّ من غيرها حتَّى بعض المسنونات المسلَّمة من غير التَّسامحيَّة في أدلَّتها.

وطريق هذا ما يسمَّى بالدَّليل الاجتهادي والمرتبط دائماً بالألفاظ القرآنيَّة الخاصَّة وتوابعها بحيث لم يفترض في موضوعه الشَّك في حكم شرعي سابق، وقد يطلق على هذا الواقعي:

أ - الأوَّلي: مثل الوضوء والغُسل للتَّهيؤ للطَّهارة المشترطة في أداء العبادة الخاصَّة المرتبطة بها إذا دلَّ الدَّليل المماثل نفسه عليه.ب - الثَّانوي: إذا دلَّ مثل ذلك عليه وهو التَّيمُّم المعوِّض عن الوضوء أو الغُسل لو فقد الماء أو منع استعماله من مرض أو نحوه.

الثَّاني: الحكم الظَّاهري

وهو ما يكون ثابتاً للشَّيء بما أنَّه مجهول الحكم الواقعي أو افترض في موضوعه الشَّك في حكم شرعي سابق، كما إذا اختلف الفقهاء في حرمة النَّظر إلى الأجنبيَّة أو وجوب الإقامة في الصَّلاة، ونحو ذلك الكثير من الأشباه والنَّظائر، بسبب البُعد الزَّمني عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ المؤثِّر على النُّصوص، أو بسبب ما حصل من الآثار والكوارث الطَّبيعيَّة وغيرها على بعض الأدلَّة الَّتي ما أبقت من أدلَّتها إلاَّ الظواهر غالباً.

ص: 126

فعند عدم الدَّليل على أحد الأقوال مثلاً كذلك - ولأجل عدم البقاء على الحيرة وبالأخص بعد العلم الإجمالي بأنَّ كل شيء من هذا القبيل ولو نوعاً لا يخلو من الحكم الشَّرعي حتَّى لو كان ظاهراً لتماميَّة شرع الله الثَّابتة في نصوص الكتاب والسنَّة وغيرها -

فلابدَّ له من وجود حكم آخر ولو كان عقليَّاً بسبب الانسداد كوجوب الاحتياط إن سميَّناه حكماً أو البراءة أو التَّخيير أو أصالة الحل أو عدم الاعتناء بالشَّك في بعض الموارد الخاصَّة أو البناء على تصديق الثِّقة وإن لم يكن عادلاً أو سائر الإمارات الأخرى إن تمَّ قبول هذه العلاجات عن نوعيَّة الانسداد المتفاوتة.

ولهذا وأمثاله سُمِّي حكمه بالحكم الظاهري، والدَّليل الدَّال عليه في مثل الأصول العمليَّة بالدَّليل الفقاهتي أو الأصل العملي المقرِّر للشَّاك في مقام العمل ممَّا سوف يأتي توضيحه والتَّدقيق فيه أكثر وبيان المختار من البحوث الأصوليَّة الآتية أكثر.

وبهذا تتلخَّص صلاحيَّة علم الأصول بتكفُّل بحوث الأصول على ما سيأتي ذكره في أن تكون عن أي شيء تقع نتيجته في طريق استنباط الحكم الواقعي تارة وعمَّا تقع في طريق الحكم الظاهري أخرى وعلى ما سيجيء ذكره في التَّعريف قريباً إنشاء الله تعالى.

ويلحق أوَّلاً بالحكمين النَّوعيَّين أهميَّة ذكر الأحكام الشَّرعيَّة أو التَّشريعيَّة التَّكليفيَّة الخمسة ومن بعدها الأحكام الوضعيَّة، لأنَّها أيضاً ممَّا يُستكشف أمره بواسطة الأصول أو الممارسات الفقهيَّة:

أمَّا الأولى: فهي الوجوب والتَّحريم والاستحباب والكراهة والإباحة من دون زيادة بسبب التَّتبُّع الكامل أو الحصر العقلي ودون نقيصة لمانعة الخلو، لأنَّ كل شيء في الحوادث الطَّارئة لا يخلو من أحد هذه الخمسة من لطف الله وفائق عدله وعلى أساس أن لا تكون المثوبة أو العقوبة في المباح.

والأوَّل: هو الإلزام بفعل الواجب بحيث يُثاب المرء على فعله ويُعاقب على تركه، وعن هذا الواجب يتفرَّع الوجوب إلى العيني والكفائي، ومنه يحصل الانقسام إلى

ص: 127

التَّعييني والتَّخييري.

والثَّاني: هو الإلزام بترك الحرام بحيث يُثاب المرء على ذلك التَّرك ويُعاقب على الفعل والارتكاب.

والثَّالث: هو الاستحباب، بحيث يُثاب المرء على الفعل ولا يُعاقب على التَّرك: إلاَّ أنَّهمرجوح بتسبيب الحرمان من فعل المستحب إمَّا بقلَّة الثَّواب أو عدمه.

والرَّابع: هو الكراهة، وهي عكس الثَّالث بحيث يُثاب المرء على التَّرك للمكروه ولا يُعاقب على ذلك الفعل، إلاَّ أنَّه مرجوح بسبب الحرمان من ثواب ترك المكروه بالمرَّة أو بتبعيضه.

والخامس: هو الإباحة، بحيث لا ثواب ولا عقاب في فعل شيء لا يعتريه حكم راجح أو مرجوح زائد عمَّا تساوى فيه الجانبان بل المرء مخيَّر فيه بتساوٍ بين الفعل وعدمه حول تلك الإباحة وهو حكم إلهي لا بتشريع أي عاقل على ما سيتَّضح في الفقه فراجع.

وسيتَّضح الأمر عن الإباحة بصفة أكثر في الأصول الآتية كما أوضحنا هذا الأمر في بحوث الاجتهاد والتَّقليد المتعلِّقة بالعروة.

وأمَّا الثَّانية: وهي الأحكام الوضعيَّة فهي الَّتي لم تظهر من الأدلَّة بصراحاتها في الغالب وإن ذكرت آيات الأحكام والرِّوايات التَّابعة لها خصوصاً وعموماً في بعض الأحوال كالنَّماذج مثل قوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ](1) وقوله [وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ](2) وقوله [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](3) وغير ذلك.

ص: 128


1- سورة المائدة / آية 27.
2- سورة هود / آية 16.
3- سورة الزلزلة / آية 7.

لكنَّها في ذلك الغالب اصطيدت منها أمور بالنَّحو الموسَّع بصفة أكثر من قبل الفقهاء من تلك الأدلَّة الأخرى، بحيث لم تكن ملازمة دوماً للأحكام التَّكليفيَّة السَّابقة.

لأنَّ بعض من لم يجب في حقِّه شيء من الواجبات وإن كان بالغاً كالمجنون مثلاً في عدم وجوب الصَّلاة المشروطة بالطَّهارة عليه لا يعني ذلك أن يسمح له وليُّه حسب تكليفه الشَّرعي كولي يتبع حكماً من الأحكام ببقاءه على النَّجاسة في جسمه أو ردائه ولو من جهة الآخرين.

كما أنَّ الحكم التَّكليفي قد يأتي مثل شرب العصير العنبي وهو الحرمة وإن لم يكن نجساً وأمثلتها الطَّهارة والنَّجاسة والصحَّة والفساد والقبول والعدم ونتائج العقود كالزَّوجيَّة والملكيَّة ونحو ذلك.

ولذا بُحث هذا الأمر في الأصول تحت عنوان (هل أنَّ الأحكام الوضعيَّة جاءت متأصِّلة في الجعل أم منتزعة؟)

بمعنى أنَّ انتزاعها تابع للأحكام التَّكليفيَّة الشَّرعيَّة ومن أمثلة المتأصِّلة في الجعل الملكيَّة والزَّوجيَّة ونحوهما ممَّا يُعطي حليَّة التَّصرُّف في الأدلَّة ومن المنتزعة هي المصطيدة من قبل الفقهاء بفضل سعيهم وعثورهم عليها مثل الجزئيَّة والشَّرطيَّة للمكلَّف به أو كالسَّببيَّة والشَّرطيَّة لنفس التَّكليف.

أمَّا فيما تكون بالنِّسبة إلى المكلَّف به فهو المجعول بالتَّتبع لا بالأصول كجزئيَّة السُّورة للصَّلاة لعدم إمكان جعلها مستقلَّة لضرورة كونها تابعة للأمر المولوي.وأمَّا فيما يكون بالنِّسبة إلى نفس التَّكليف فلا يقبل الجعل الاستقلالي، بل هو أمر منتزع عن التَّكليف، لأنَّ سببه دلوك الشَّمس لوجوب صلاة الظهر مثلاً المجعول للشَّارع بتبع جعل الحكم التَّكليفي فلا تناله يد الجعل ابتداءاً.

وخالف في هذا بعض الأعلام، وهو ما سيجيء الوقوف عليه حين الوصول إلى تفصيله المناسب.

ص: 129

ويلحق ثانياً بالدَّليلين الماضيين الاجتهادي والفقاهتي وممَّا يخصُّهما ما ذكره أحد العلماء الأفاضل من التَّقسيم الأوسع في هذا الفهرست ممَّا لابدَّ من إمراره على الأصول الآتية، لتطبيق نجاحه في الأصول إن كان كما كان مطبَّقاً على ضوء الفقاهة القديمة وإن كان بلحاظ ما قد يكون مختلفاً باختلاف خاص به.

وهو كون انقسام الأدلَّة إلى ثلاثة وهي:

الأوَّل: الدَّليل اللَّفظي، وهو ما يأتي معناه قريباً.

الثَّاني: الدليل البرهاني، وأقلًّه كاستدلال بعض العوام على دليل صحَّة عمله (هذا ما أفتى به المفتي وكل ما أفتى به المفتي واجب في حقِّي فهذا واجب في حقِّي).

ولابدَّ أن يتجاوز إلى ما هو الأعمق وكما قال تعالى [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](1) أي عند الاجتهاد في انقسامه إلى البرهان اللمِّي وإلى البرهان الإنِّي وسيأتي التَّفصيل في محلِّه إن شاء الله تعالى.

الثَّالث: الدليل الاستقرائي، كالإجماع المحصَّل أو المتَّواترات الكاملة أو أخبار الآحاد من نوع المستفيض أو ما دونه وهو الواحد ومنه الأعلائي في جميع أفراده مع القرائن من الرُّواة ويلحق به موارد التَّطبيق الفقهي الأخرى ونحو ذلك.

ويمكن انحلال الدَّليل البرهاني في هذا التَّقسيم إلى المباحث العقليَّة ومباحث الحجَّة وهو ما يزيد في عدد الأقسام.

ولذلك يكون ما ذكره الشَّيخ المظفَّر قدس سره من التَّقسيم الرُّباعي الآتي في أصوله على ما استفاده من أستاذه الشَّيخ الكمباني قدس سره مع تصرفاتنا السَّابقة والحاليَّة هو الأقرب إلى الصَّواب وهو انقسام الأدلَّة أو مباحثها إلى أربعة وهي:

أوَّلاً: مباحث الألفاظ، وهي الباحثة عن مداليل الألفاظ وظواهرها من جهة عامَّة نظير البحث عن صيغة (افعل) في الوجوب وصيغة (لا تفعل) في الحرمة ومباحث العام

ص: 130


1- سورة يوسف / آية 76.

والخاص والمطلق والمقيَّد ونحوهما.

ثانياً: المباحث العقليَّة، وهي ما تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها ولو لم تكن تلك الأحكام مدلولة للفظ كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل والشَّرع بنحو ما يوصل إلى الحكم الشَّرعي بعلم وجداني وتنقسم إلى قسمين:

الأوَّل: المباحث العقليَّة المستقلَّة.

الثَّاني: المباحث العقليَّة غير المستقلَّة، وهي القواعد الَّتي يتوقَّف استنباط الحكم الشَّرعي منها على ضم مقدِّمة شرعيَّة إليها كمباحث الضِّد ومبحث اجتماع الأمر والنَّهيومبحث النَّهي عن العبادة ومبحث مقدِّمة الواجب ونحوها.

ثالثاً: مباحث الحجَّة أو الحجج والإمارات، وهي الباحثة عن الحجيَّة، والدَّليليَّة كحجيَّة خبر الواحد وظواهر الكتاب وحجيَّة الظن والإجماع المنقول وكل دليل تثبت حجيَّته شرعاً.

رابعاً: مباحث الأصول العمليَّة، وهي ما تبحث عن مراجع المجتهد عند فقدان الدَّليل الاجتهادي أو فقدان ما يعين الوظيفة الشَّرعيَّة، كالبحث عن أصول البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها وهي قسمان:

الأوَّل: الأصول العمليَّة الشَّرعيَّة، وهي ما يستعمله الفقيه كدليل شرعي مباشر على الإثبات للجعل الشَّرعي الكلِّي تعذيراً أو تنجيزاً كالاستصحاب والبراءة الشَّرعيَّة.

الثَّاني: الأصول العمليَّة العقليَّة، وستأتي تفاصيلها في مواضعها الآتية إن شاء الله تعالى.

وهذه الأقسام الأربعة في هذه المقدِّمة من الإلحاق الثَّاني المسبوق بالإلحاق الأوَّل وما قبله الَّذي سميَّناه بالفهرست عن المطالب الأصوليَّة الآتية بتفاصيلها الآتية بعدها.

ولنجعل المطلب الأخير لهذه الأصول لا كما جعله الشَّيخ المظفَّر قدس سره - وهو ما يعبَّر عنه عند أهل التَّدوين للعلوم ومنه موضوعنا الحالي (علم الأصول) بالخاتمة ولم يطبِّقه

ص: 131

هو رحمه الله فيما دُوِّن له من الكلام الأصولي بطباعته وهو الكلام عن مباحث التَّعادل والتَّراجيح أخيراً أو ما يعبَّر عنه عند آخرين من أقرانه كالأستاذ السيِّد السَّبزواري قدس سره بتعارض الأدلَّة وإن قدَّمه في كتابه (تهذيب الأصول) في أواخر مباحث الألفاظ لما قد بيَّن هناك بعض أسباب ذلك كما سيتَّضح للمتتبِّع -

وإنَّما لنجعله في خاتمة مباحث الحجَّة كما صنعه الشَّيخ المظفَّر قدس سره مع ذكر المرجِّح لذلك.

ومحاولة التَّعرُّف الكامل في المقام هذه ليكون تمام الكلام عن المقدِّمة الأصوليَّة ومعروضاتها وخاتمتها مسبوقاً بما لخصَّناه في هذا الفهرست لما فيه من الفوائد الجمَّة.

ص: 132

بداية ما يُسمَّى بمبادئ علم الأصول أو مقدِّمات مباحث الألفاظ

وفيه مباحث:

المبحث الأوَّل

موضوع كل علم وبالأخص علم الأصول

بعد أن ذكرنا سابقاً أنَّه عند الدخول في علم أهل الميزان خادم العلوم - المسمَّى بالمنطق للاستفادة منه وبواسطته في التَّعرُّف على كل علم يختاره طالبه -

لابدَّ في البداية من التَّعرُّف على ذلك العلم عن طريق الرؤوس الثَّمانية الَّتي أهمُّها تعريف ذلك العلم وغاية ذلك العلم وموضوعه وفائدته ورتبته.

وإذا أريد التَّعرُّف على مجموع تلك العلوم في آن واحد قبل ذلك فلابدَّ من التَّهيؤ لذلك بما يمكن السَّيطرة عليه وبما فيه تمام الفائدة ثبوتاً أو ثبوتاً وإثباتاً حتَّى لو خرج عن طور الذَّاتي والذَّاتيَّات إذا تطابق المصداق مع الأدلَّة كما في مثل علم الأصول لصالح المخدوم من جانبه وهو الفقه العظيم على ما سوف يجيء، ليكون أي علم خاص يخاض فيه منبثقاً من ذلك المعنى المتلائم معه إن كان كذلك لإثبات أصالته، بناءاً على أنَّ كل علم من تلك العلوم هو علم اصطلاحي في بابه حتَّى في أمر الموضوع الخاص به.

وأهم تلك الرؤوس الأربعة أو الخمسة - في نظر الشَّيخ الآخوند قدس سره عن كل علم في كفايته الَّتي أعدَّها تلخيصاً لما كتبه السَّابقون عليه من الأعاظم مع إبداء أرائه الخاصَّة في أي مقام من بحوث علم الأصول إن كان بعد التَّحدُّث في البداية عن أمر كل العلوم مقدِّمة له، سواء ضدَّ المشهور أو ضدَّ بعض الآراء الخاصَّة للتَّهذيب من الزِّيادة

ص: 133

والفضول - هو الموضوع.

ولذلك قدَّم الكلام أوَّلاً عن موضوع كل علم ثمَّ ثانياً عن خصوص علم الأصول، لأنَّ الكلام عن هذا الموضوع الثَّاني في البداية وإن لم يكن التَّعرُّض له مألوفاً بين الأصوليِّين السَّابقين ولذلك أخَّره فلما قد يتَّضح منه غرضه أكثر حينما يأتي على ما ذكر هذا المعنى السيِّد الشَّاهرودي قدس سره في تقريرات بحثه(1).

إضافة إلى أهميَّة ذكر أصل الموضوع للعلم أي (أي علم) كان ليميز الطَّالب بين ذلك العلم وعلم آخر وإلاَّ فتختلط عنده العلوم، ولذلك يكون ما يبتغيه غير مركِّز على الجهة الَّتي ترفع عنه الجهالة الخاصَّة حول العلم الَّذي أراده أو ما قد يزيده تشخيصاً له أو يرفع عنه بعض الاختلاط مع العلوم الأخرى أو بعضها إن كان محيطاً بالباقي حتَّى عرف لدى مشهور الأصوليِّين أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وإن كان للشَّيخ قدس سره رأي آخر يخالفه، وهو فياعتبار كون التَّمايز بتمايز الغايات على ما سيتَّضح.

ولعلَّ بالخوض في محاولة التَّعرُّف على موضوع كل علم إن أمكن - بناءاً على تماميَّة كل العلوم المتعارفة اصطلاحاً - يمكن إن يُعلم ما كان مجهولاً من موضوع خصوص علم الأصول.

وإن لم يمكن فسوف يتبيَّن من التَّحقيق الآتي إن شاء الله تعالى أنَّ علم الأصول هو من تلك العلوم الاصطلاحيَّة أم لا؟ حتَّى يكون له موضوع معيَّن لو كان منها، وتلحق بذلك بقيَّة الرؤوس.

ونحن الآن نبقى مع المشهور تجربيَّا في البداية، لنعرف مدى العلاقة وإلى أي نحو تنتهي مع موضوع كل علم ولو مقداراً ممَّا قد يوصلنا إلى ما به إمكان الاستثمار الإثباتي؟

أم حتَّى لمجرَّد الثُّبوتي على أمل أن يعثر له في المستقبل ولو على مصداق من

ص: 134


1- نتائج الأفكار ج1 ص 17.

المصاديق؟

أم لمجرَّد توسعة الذِّهن إن ارتضيت على أقل تقدير كما في أمر الحاجة إلى التَّوغُّل في المنطق المقصود منه تلك التوسعة؟

أم إلى ما لا فائدة فيه ممَّا لا نريده ويرفضه الحريصون على أوقاتهم؟

أم به مضرَّة يضيع بها العمر ولو في المسير مع هذه النَّاحية بعضاً من طريقها؟

لنستشعر فيه ما وصل إليه نوع المدقِّقين، للفرق بين ما يدقِّقه الأصوليُّون بالدقَّة العرفيَّة وبين دقَّة الفلاسفة الَّذين يدخلون معارفهم الفلسفيَّة في المباحث الأصوليَّة، ولو بناءاً على ما ظهر من تجاربهم الأصوليَّة المثمرة إن كانت مميِّزة عن غيرها، ولو كنَّا نفضِّل الأعراف الأصوليَّة والمثمرة أكثر من غيرها.

لنرى أي القبيلين هو المنتج للعبور بعد ذلك القرار الآتي حول موضوع كل علم من غيره.

إلى حين مجيء دور الكلام عن موضوع خصوص علم الأصول، للتَّحدُّث عن موضوعه ثمَّ بقيَّة الكلام عن المهمَّات آنفة الذِّكر من الرؤوس اعتماداً على تقديم العام على الخاص حسب التَّسلسل الطَّبيعي المقبول.

ثمَّ يتبيَّن رأينا الأخير حول الموضوع بين المشهور والشَّيخ، أم هناك رأي آخر يصح التَّمسُّك به؟.

فذكر الشَّيخ قدس سره وغيره من الأساطين هذا الرَّأي عن موضوع كل علم حيث جعلوا بعض عبارات الكفاية محور أحاديثهم الأصوليَّة وإن خرجوا عن صدد مجاراتها في كل شيء تقريباً ارتباطاً بآرائهم الخاصَّة أو أساليبهم البيانيَّة أو كليهما.

ونحن على النَّهج الاستقلالي كذلك إن حالفنا التَّوفيق عن كلام الشَّيخ قدس سره جهد الإمكان بعد ذلك التَّقييد ولو في الابتعاد حسب المقدور عن التَّعقيد مع الإكثار من الأمثلة للتَّقريب إلى الذِّهن بكل ما فيه فائدة ملموسة دون غيرها.

ص: 135

ونبدأ معه قدس سره من قوله (أنَّ موضوع كل علم - وهو الَّذي يبحث فيه عن عوارضه الذَّاتيَّة، أي بلا واسطة في العروض - هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتحد معهاخارجاً وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلِّي ومصاديقه والطَّبيعي وأفراده)(1).

أقول: كمغايرة مفهوم الفاعل مرفوع في علم النَّحو مثلاً لمفهوم الكلمة.

ولعلَّ سر الكلام حول موضوع كل علم أيضاً هو للإشارة إلى ما قد اعترى نفس علم الأصول الآتي بيانه وحده في كلام الأصوليِّين عن موضوعه بعد هذا المطلب لكونهم تطرَّقوا فيما ذكروه عنه أنَّه يبحث عن مجموعة مسائل متشتِّتة تصلح أن يكون كل منها علماً برأسه وحينئذ كيف يمكن السَّيطرة على موضوع موحَّد له، وهو ما سيتَّضح أمره أكثر عند بيان عبارة الشَّيخ قدس سره عن المتشتِّتة في كل علم مسائل علم الأصول الَّتي أنكر أن يكون لها موضوع محدَّد كما سيجيء.

وقد علم من هذا الكلام أيضاً عن الموضوع العام لكل علم بأنَّ المراد من عوارضه الذَّاتيَّة المرادة من البحث فيه هو للإشارة إلى عدم إرادة ما يقابلها وهي العوارض الغريبة في التَّحديد حيث أنَّ القدماء من علماء المنطق والأصول قسَّموا العرض إلى قسمين:

ذاتي، وهو المراد.

وغريب، وهو غير المراد حسب المستفاد من هذه الإشارة.

وعلى الأكثر أنَّ العرض الذَّاتي عندهم انقسم إلى ثلاثة أقسام، وكذلك ما يقابله من الغريب في تجارب الأحداث للأعراض من المتقابلين.

وقد اختلفت كلماتهم في تحقيق ما هو الذَّاتي وما هو الغريب حينما يلاحظ الذَّاتي بلحاظين مختلفين، وكذا العرضي ممَّا قد أوقع أو حتَّى ما قد يوقع البعض الآخر في الالتباس بسبب تفسير الذَّاتي بلا واسطة في العروض أنَّه ذا واسطة ولكنَّه لم يكن

ص: 136


1- كفاية الأصول ص 7.

كذلك حقيقة بعد التَّأمل أو مشابهة بعض الأمثلة مع بعض الوسائط للذَّاتي الحقيقي على ما سيجيء مع ما لم يكن مراداً بالدقَّة العرفيَّة دون الفلسفيَّة.

ولعلَّ الأقرب إلى الأذهان أنَّ الذَّاتي وهو القسم الأوَّل منه:

وهو ما كان عارضاً على الشَّيء أوَّلاً وبالذَّات هو من دون توسُّط شيء هناك أصلاً كما مرَّ في التَّفسير، كعروض الزَّوجيَّة للأربعة وعروض (كلَّما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان للإمكان ما لم يذدك عنه ساطع البرهان)(1) وعروض عدم الإمكان للممتنع لارتباط هذه الأمثلة بما لا واسطة فيه للعروض.

والثَّاني: ما كان عارضاً على الشَّيء بتوسُّط الأمر الذَّاتي المساوي له وذلك كعروض التَّعجُّب على الإنسان بواسطة النَّاطق، فإنَّ الإنسان والنَّاطق متساويان وهو ذاتي له، وإنَّما يعرض التَّعجب للإنسان لأنَّه ناطق، والتَّعجُّب والنَّاطقيَّة متلازمان و (مساوي المساوي مساوي) من ناحية ما ذكرناه من التَّلازم لذاتيَّته.

والثَّالث: ما كان عارضا للشَّيء بواسطة الأمر الخارج عنه اللاّزم له المساوي له، وذلك كعروض الضَّحك على الإنسان بواسطة أنَّه متعجِّب.

فالتَّعجُّب أمر خارج عن حقيقة الإنسان إلاَّ أنَّه لازم له ومساوي له فالضَّحك إنَّما عرضعلى الإنسان بواسطة هذا الأمر الخارج عنه المساوي له.

والمساواة هناك بمعنى أنَّ التَّعحب لا يعتري غير الإنسان من مثل القرد أو غيره من الحيوانات الأخرى وإن كان قد يظهر على بعضها الضَّحك في بعض الأوقات لأنَّها لا تعقل، لكون المتعجُّب مصاحباً للعقلاء حسب لأنَّه منهم وإن لم يكن دائماً على ضحك في تعجُّبه في بعض أحواله.

هذه هي أقسام العوارض الذَّاتية الثَّلاثة.

ولكن هل سلمت من الواسطة في العروض بأجمعها كالأوَّل، أم كان الاثنان

ص: 137


1- عن ابن سينا الإشارات والتنبيهات 3/ 418 النمط العاشر في أسرار الآيات.

الأخيران فيهما الواسطة فيه فقط؟ أو أنَّ الواسطة هنا لا تعد واسطة مخلَّة؟

المبحث الثَّاني

عدم الفرق بين الذَّاتيَّات والعوارض الغريبة في الشَّرعيَّات

فعلى رأي أهل الدقَّة الفلسفيَّة من الأصوليِّين - وهم من المشهور - أنَّ في الاثنين هذه الواسطة موجودة، لعدم انسجامهم مع العرف.

وعلى رأي أهل العرف من مثل الأصوليِّين القريبين من الواقع المعاش ومنهم الشَّيخ قدس سره أنَّ الواسطة فيهما غير موجودة على ما سيجيء بصورة أوضح.

وأمَّا أقسام العوارض الغريبة فهي أيضاً ثلاثة:

الأوَّل: ما كان عارضاً للشَّيء بواسطة المباين، وذلك كعروض الحرارة على الماء بواسطة النَّار.

الثَّاني: ما كان عارضاً للشَّيء بواسطة جزئه الأعم، وذلك كعروض المشي على الإنسان بواسطة أنَّه حيوان.

الثَّالث: ما كان عارضاً للشَّيء على جزئه الأخص، وذلك كعروض الضَّحك على الحيوان بواسطة الإنسان.

وهذه أقسام العوارض الغريبة أيضاً قد يكون لأهل العرف الأصولي فيها رأي يخالف أهل الدقَّة الفلسفيَّة منهم في أمر إمكان الذَّاتيَّة فيها بتوجيه مقبول.

وأمثلة الثَّلاثة الذَّاتيَّة والثَّلاثة العرضيَّة بأجمعها قال بها المشهور ونفوا الواسطة في القسم الأوَّل في مثالي الزَّوجيَّة للأربعة والإمكان والامتناع فقط وثبَّتوا الواسطة في الباقي.

ولكن الشَّيخ الآخوند قدس سره بقوله المعلوم (بلا واسطة في العروض) خالف المشهور

ص: 138

كما وعدنا بذكره(1) حيث جعله الميزان.

فأشار بهذا إلى أقسام الواسطة حيث جعلها ثلاثة بالصِّفة المقرِّبة للذِّهن بالنَّحو المقبول عنده ومن معه.

ونحن نعتبره الرَّأي الصَّائب على ما سيجيء بإذن الله، وهي:

الأولى: هي الواسطة في العروض، وهي الواسطة الَّتي يعرض العرض عليها أوَّلاً وبالذَّات، ثمَّ يعرض إلى ذي الواسطة، ثانياً وبالعرض، وذلك كالحركة العارضة على راكب السَّفينة بواسطة حركة السَّفينة، فإنَّ الحركة عرضت أوَّلاً وبالذَّات للسَّفينة ثمَّ بواسطتها عرضت على راكب السَّفينة، فنسبة الحركة إلى راكب السَّفينة بالعرض والمجاز، ويصح سلب تلك الحركة عن راكب السَّفينة، فيقال راكب السَّفينة ليس بمتحرِّك في نفسه حقيقة، ومثل هذا نسبة الجريان إلى الميزاب أو إلى النَّهر لا كجريان الماء نفسه فيهما، وهذا ما لا ينكره الشَّيخ قدس سره وأمثاله إلاَّ إذا أمكن توجيه اعتبار المجازيَّة للأخذ بها وتطابق الدَّليل الشَّرعي معه.

الثَّانية من أقسام الواسطة: هي الواسطة المسمَّاة بالواسطة في الثُّبوت، وهي عبارة عن العلَّة الَّتي تكون سبباً لعروض العارض على معروضها حقيقة، وذلك كالشَّمس أو النَّار الَّتي تكون علَّة وسبباً لعروض الحرارة على الماء، فالماء قد عرضت له الحرارة وأتَّصف بها اتصافاً حقيقيَّاً لا يصح سلبه عنه، فالماء حار حقيقة ولكن عرضت له الحرارة بواسطة الشَّمس أو بواسطة النَّار، فالنَّار هي العلَّة في عروض هذا العارض وهو الحرارة على المعروض وهو الماء فهي واسطة في الثبوت.

الثَّالثة: هي الواسطة في الإثبات وهي عبارة عن العلَّة الموجبة لثبوت شيء لشيء،

ص: 139


1- المخالفات للمشهور عند المرحوم الشَّيخ قدس سره عديدة، لكن لم نلتزم نحن بتعدادها في هذا الجزء أو فيما بعده على نحو التَّسلسل الكامل، وإنما ذلك حسب المصادفات في أهمية استعراض كلامه المخالف واقتضاء الحاجة المقاميَّة.

وذلك كالمتكرِّر من الحد الأوسط في قياس الشَّكل الأوَّل البديهي الإنتاج مثل (المتغيِّر) في قولنا (العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث) والنَّتيجة الحاصلة منه هي قولنا (العالم حادث)، فالَّذي حصل ههنا علَّة للعلم بثبوت الأكبر وهو (حادث) إلى الأصغر وهو (العالم) هو قولنا (متغيِّر).

فهذه العلَّة الَّتي صارت سبباً للعلم بهذا الحكم نسميِّها الواسطة في الإثبات ومثل هذا المثل ما أمكن تحقُّقه من الإشكال في المجالات الشَّرعيَّة.

وبعد معرفة هذه الأقسام الثَّلاثة للواسطة نعرف ما هو الميزان جيِّداً عند الآخوند قدس سره في كون العرض عرضاً ذاتيَّاً أو عرضاً غريباً، عدا تحرُّك راكب السَّفينة عند الشَّيخ بالعرض والمجاز لتحركه بالواسطة الواضحة كما في جري الميزاب أو جري النَّهر إلاَّ إذا قبل توجيه مجال الأخذ بها مع القرينة الواضحة.

والفرق بين الواسطة في الثُّبوت والواسطة في الإثبات:

أنَّ الواسطة في الثُّبوت من صفات سبب العارض لا نفس العارض والثُّبوت من صفاته.

والواسطة في الإثبات أعم من الواسطة في الثُّبوت.

لأنَّه كما يكون العلم بالعلَّة واسطة في العلم بالمعلول كذلك يكون العلم بالمعلول واسطةفي العلم بالعلَّة وأعم من الواسطة في العروض، لأنَّ العرض الَّذي يكون نسبته إلى المعروض بالعرض والمجاز يكون العلم به سبباً للعلم بالمعروض وبالعكس أيضاً.

وعليه فالعرض الَّذي تكون الواسطة فيه واسطة في الثُّبوت أو الإثبات هو عرض ذاتي عند الشَّيخ قدس سره .

والعرض الَّذي تكون الواسطة فيه واسطة في العروض هو العرض الغريب في التَّمثيل.

بلا فرق عنده بين الأعم والأخص مطلقاً والمباين، لإمكان توجيه الأمثلة بالذَّاتيَّة

ص: 140

أيضاً.

وللتَّوضيح أكثر بين فريقي الشَّيخ قدس سره والمشهور يتبيَّن ممَّا أشار له الشَّيخ في عبارته الماضية وهي (هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتَّحد معها خارجاً) مدى الالتباس على القوم في مسألة العوارض العارضة على موضوع العلم بواسطة موضوع المسألة.

وذلك كالرَّفع مثلاً العارض على الفاعل الَّذي هو موضوع المسألة في علم النَّحو مثلاً عند عروضه على موضوع العلم وهو الكلمة.

فبناءاً على رأي المشهور يقع الإشكال في ذلك، حيث أن العوارض العارضة على موضوع العلم بواسطة موضوع المسألة عندهم هي من العوارض الغريبة، لأنَّها عروض على الأعم بواسطة الأخص في حين أنَّها في الواقع هي من العوارض الذَّاتيَّة، لأنَّ الواسطة فيها واسطة في الثبوت لا في العروض، لأنَّ الأخص لا يمكن إنكار حصَّته من الأعم في الذِّهن فلا يمتنع دوره في الوساطة وإن لم تطبَّق كليَّته المصداقيَّة في الخارج كالكلِّي العقلي الَّذي لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين في الذِّهن فقط.

فأراد الشِّيخ قدس سره التَّنبيه على اشتباه القوم بما التبس عليهم من ذلك فيما أعطاه من الميزان من التَّمييز بين العرض الذَّاتي والعرض الغريب.

فتكون بناءاً على نظر الشَّيخ قدس سره من العوارض العارضة للأعم بواسطة الأخص من العوارض الذَّاتيَّة، لأنَّ الواسطة فيها واسطة في الثُّبوت وهو ما يصل فيه المثال المضروب إلى حدِّ الاستقرار الثُّبوتي في الذِّهن وإن لم يكن مرتبطاً فعلاً بالمصداق الخارجي.

بخلاف ما لا يمكن فيه عدم إنكار ما لا يزيد على مجرَّد العروض من الواسطة كحرارة الماء بواسطة الشَّمس أو النَّار، لعدم إمكان إنكارها وجداناً تجربيَّاً في أمر الثُّبوت وكراكب السَّفينة في تحرُّكه بواسطة تحرُّك السَّفينة في أمر العرض الغريب، لإمكان إنكار أن يكون هو المتحرِّك وجداناً في ذاته في العكس إلاَّ إذا قبل توجيهه في الأدلَّة الشَّرعيَّة.

ص: 141

فمن هنا تتَّضح مخالفته للمشهور أكثر في شيئين:

أوَّلهما: التَّمييز بين العرض الذَّاتي والعرض الغريب.

ثانيهما: أنَّ العرض العارض على الأعم بواسطة الأخص من العرض الذَّاتي لا كما قاله القوم للمشاركة بين الأعم والأخص في الجملة.

وللتَّقريب إلى الذِّهن في المجال الفقهي تطبيقاً لما نحن فيه جرياً على مسلك الشَّيخ قدس سره أيضاً أنَّ الوجوب والحرمة العارضين للصَّلاة وجوباً ولشرب الخمرة حرمة قد عرضا عليها بواسطة المصالح والمفاسد كما هو رأي مشهور العدليَّة، مع أنَّ المصالح والمفاسد مبائنان لهما.وعلى ما التزم به المشهور في العرض الذَّاتي تكون أعراضاً غريبة، مع أنَّ الالتزام منهم بكونها غريبة غريب جدَّاً، إلاَّ أن يلتزموا بأنَّ الموضوع ليس هو فعل المكلَّف مطلقاً بل هو المتغيِّر بالمصلحة أو المفسدة، والحال أنَّه لم يصرِّح أحد بهذا القيد.

والَّذي يزيد المسألة إشكالاً أنَّ أهل المعقول فسَّروا العرض الذَّاتي بما فسَّره الشَّيخ قدس سره، ومع ذلك التزموا بأنَّ العارض للشَّيء بواسطة أمر أعم أو أخص داخليَّاً كان أو خارجيَّاً عرض غريب.

لأنَّ مرادهم من الواسطة في العروض المقابلة للعرض الذَّاتي ما كانت بحسب النَّظر الدقِّي لا العرفي.

والعرف للمتشِّرعة مقدَّم على النَّظر الدقِّي - من غير فرق بين عهدهم أيَّام التَّشريع الأوَّل وبين هذه الأيَّام - لأنَّ الأمور مبنيَّة على التَّسهيل ونفي العسر والحرج، ولأنَّ معنى الفلسفة عربيَّاً حب الحكمة لا الحكمة بدقَّتها دينيَّاً، ولأنَّ لسان الأدلَّة المرتبطة بالفقه والأصول غير ما هو النَّظر الدقِّي العقلي المستقل.

والمحكمات من تلك الأدلَّة ما كانت لتتَّكئ يوماً على العقل المستقل، لأنَّ (دين الله لا يصاب بالعقول) وإلاَّ لجعل مبنى الأمور دوماً عليه من دون حاجة إلى الأدلَّة الأربعة

ص: 142

حتَّى لو كان الانسداد العلمي صغيراً.

ولذا لو يتماشى مع مسلك أهل الدِّقة يلزم خروج جملة من العوارض المبحوث عنها في علم النَّحو وعلم الأصول وغيرهما عن كونها أعراضاً لموضوع العلم.

فالرَّفع المبحوث عنه فيما بيننا آنفاً في باب الفاعل يعرض موضوع علم النَّحو وهو الكلمة والكلام بواسطة الفاعليَّة وهي أخص من الكلمة والكلام.

ومثل مقدِّمة الواجب المبحوث عن الملازمة فيها في علم الأصول فإنِّها إنَّما يعرضها الوجوب أو عدم الوجوب لكونها مقدِّمة واجب لا لكونها مستفادة من خصوص الأدلَّة الأربعة على ما سيجيء بيانه في تشخيص موضوع علم الأصول.

فالوجوب يعرضها بواسطة أمر أعم فتكون على مبناهم من الأعراض الغريبة فتكلَّفوا في الجواب تكلُّفات هم في غنى عنها، لأنَّ أساطين العلمين نحواً وأصولاً لم ولن يتركوا مثل بحث الرَّفع في بابه وبحث مقدِّمة الواجب في بابه.

ثمَّ عقَّب الشَّيخ قدس سره بعد ما مضى بيانه من القول الماضي بقوله (وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلِّي ومصاديقه والطَّبيعي وأفراده)، أي أن موضوع العلم حسب مراده كلِّي طبيعي لا عقلي فقط ولا منطقي وموضوعات المسائل أفراده نسبته إليها نسبة الطَّبيعي والفرد فهو عطف تفسير.

وفيما ذكره سابقاً من قوله أنَّ (موضوع العلم - هو نفس موضوعات مسائله) إشارة إلى ما يراه من ردِّه لما يراه علماء المنطق في خاتمة علمهم من أنَّ موضوع المسألة ربَّما يكون نفس موضوع العلم وربَّما يكون مغايراً له.

لأنَّه إن كان المنطق كذلك عندهم فلا يلزم أن يكون الأصول كذلك مع بقيَّة العلوم الأخرى، كيف والمنطق كثير منه تحت التَّجربة على ما دقِّق في شرح المطالع وغيره.

بل إنَّ السيِّد الشَّاهرودي قدس سره في تقريرات بحثه ردَّ على ما تعرَّض له الشَّيخ الآخوند قدس سره من ردِّ المنطقيِّين على كون موضوعات مسائل العلم - أي علم هي نفس موضوع

ص: 143

العلم العام(1) - بأنَّ النَّفسيَّة هنا غير واردة في المقام ما دام شتات المسائل باقياً.

فإنَّ البحث عن حكم اسم إنَّ وخبرها واسم كان وأخواتها ونصب التَّمييز والحال وغير ذلك من أحوال النَّحو هي بحث عن أحوال موضوعات مسائل النَّحو لا حالات موضوع علم النَّحو إن حقِّق.

وهكذا ما يتعلَّق بعلم الأصول، فإنَّ حجيَّة خبر الواحد والشُّهرة والإجماع المنقول وهكذا هي من عوارض موضوعات مسائل الأصول، لا من حالات موضوع هذا العلم على افتراض تحقُّقه وهو الحق.

لأنَّ المسائل المطروحة لبحث الباحث كموضوعات للمناقشة والنَّقض والإبرام فيها - لمحاولة استنتاج القواعد من هذا العلم أو ذاك، وقد لا يكون التَّوفيق حليفاً لهذا الباحث أو ذاك وإن كان على مبلغ هائل من العلم فلم يوفَّق لاستنتاج البعض منها -

لم تكن كالمؤكَّدة في كونها موضوعاً لهذا العلم و ذاك ولو افتراضاً ليتحتَّم نجاحه.

المبحث الثَّالث

كيف تُرد شبهة أنَّ الواحد يمكن أن يصدر من متكثِّر لموضوع كل علم؟

قد دأب المشهور على تبَّني قاعدة أنَّ (الواحد لا يصدر إلاَّ من واحد) في جميع المجالات(2) وإن كان صحيحاً في الجملة لا في الجميع، كما في مقام الذَّاتيَّات التَّكوينيَّة

ص: 144


1- نتائج الأفكار للمروِّج الجزائري تقريراً لأبحاث السيِّد الشَّاهرودي قدس سره ج1 ص 22.
2- عن الأسفار الأربعة، وشرح منظومة الشَّيخ هادي السَّبزواري قدس سره قسم الحكمة وغيرهما.

وقضايا الخالق تعالى مع مخلوقيه والعلَّة الحقيقيَّة مع معلولها بحسب الدقَّة الفلسفيَّة، دون العرفيَّات وأمور العلوم المتعدِّدة في باب اتِّخاذ موضوع واحد لكل علم حسب افتراض أن يكون واحداً إن أمكن، وإلاَّ فلا موضوع لكلِّ علم.

لشتات مسائل بعض العلوم واختلاف بعضها عن بعض، بما لا يمكن فيه الجمع بينها على موضوع موحَّد على ما سيتَّضح بالمثال أكثر فكيف بموضوع كل علم.

أمَّا مسألة تشتُّت المسائل الموضوعة ممَّا مرَّت الإشارة إليه لكل علم عمَّا سيعرضه الشَّيخ الآخوند قدس سره بعد عباراته السَّابقة.

فقد قال قدس سره بعد ما مضى ذكره من أقواله (والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتِّتة جمعها اشتراكها في الدَّخل في الغرض الَّذي لأجله دُوِّن هذا العلم)(1).

أقول: أي هذا العلم أو ذاك حسب المستفاد من سياق عباراته قبل الدُّخول في صميم الكلام عن خصوص موضوع علم الأصول الآتي بيانه بعد هذا الكلام عن كل علم.

فالمسائل الَّتي يجب معرفتها قبل الشُّروع في هذا العلم أو ذاك ممَّا يعود إلى كل علم منها قد اختل فت كلمتهم في تحقيق ما يسمَّى (مسائله) للعلم الَّذي ارتبطت به.

فقيل أوَّلاً: أنَّ المسألة هي عبارة عن المحمولات على الموضوع فقط، مثلاً في قولنا (الفاعل مرفوع) تُعد المسألة منه هي قولنا (مرفوع).

وقيل ثانياً: هي المحمولات المنتسبة أي المحمولات بقيد الانتساب إلى الموضوعات، فمرفوع بقيد انتسابه إلى الفاعل هو المسألة.

وقيل ثالثاً: أنَّ المسألة هي المجموع المركَّب من الموضوعات والمحمولات، فتكون المسألة على هذا هي مجموع قولنا (الفاعل مرفوع).

وهذا الثَّالث والأخير هو المختار عند الشَّيخ الآخوند قدس سره أكثر من الثَّاني، وإن كان

ص: 145


1- كفاية الأصول ص 7.

فيه معنى الانتساب الواصل إلى التَّركُّب لظهور التَّركُّب في التَّعبير معنىً.

ووجه استكشاف هذا الثَّالث من قوله الَّذي ذكرناه آنفاً هو كونه عرَّف المسألة بأنَّها جملة من قضايا، والقضايا لا تكون إلاَّ مركبة.

ومن هنا وممَّا رتَّبه الشَّيخ قدس سره عليه من أنَّ المسائل المتشتِّتة المختلفة موضوعاً ومحمولاً مع اختلافها في هذا يطلق عليها اسم (علم واحد)، لوحدة الغرض المترتِّب على تلك المسائل لا للموضوع كما أفاده قوله الماضي (متشتِّتة جمعها اشتراكها في الدَّخل في الغرض الَّذي لأجله دُوِّن هذا العلم)، وهو ما قد يضعف كيان الموضوع في تبنِّي تمييز علم عن علم لا كما قاله المشهور.

ويقوِّي هذا الأمر في الغرض والغاية كما مرَّت الإشارة إليه وكما سيأتي بصورة أصرح في عبارة الشَّيخ قدس سره ، لإعرابه عن رأيه بقوله الآتي الَّذي يلي ما مضى بكلمة الإنقداح عنده بأنَّ التَّمايز بالغايات لا بالموضوعات.

ولكن قد يتعدَّد الغرض في المسألة الواحدة فتذكر في عِلمين مختلفين لاختلاف الغرضالمترتِّب عليها وذلك كمسألة اجتماع الأمر والنَّهي مثلاً.

فإنَّه تارة يبحث عنها في علم الكلام لغرض خاص فيه وهو معرفة ما يتعلَّق بأفعال الخالق سبحانه من أنَّه هل يجوز فيه اجتماع إرادة وكراهة لشيء واحد أم لا؟

وقد يبحث عن هذه المسألة تارة أخرى في علم أصول الفقه لما يترتَّب عليها من الغرض الملحوظ في أصول الفقه بعبارة الأمر والنَّهي ممَّا يناسبه من المدارك المثبتة للواجب والمحرَّم عن طريق تلك الأصول.

وهو أنَّ تعدُّد الجهة والعنوان هل يوجب تعدُّد المعنون فيكون شيء واحد مأموراً به من جهة وعنوان ومنهيَّاً عنه من جهة وعنوان آخر أم لا؟

وكذلك مسائل أخرى كثيرة من هذا القبيل، لكن لا تساعد على إمكان الاعتقاد باطمئنان أن يكون موضوع ومحمول للعلوم المتعدِّدة دوماً.

ص: 146

ولا أن يكون هو المايز لكل منها كالغاية والغرض ما دام العنوان الغائي متعدِّداً.

المبحث الرَّابع

بأي شيء تمايز العلوم هل هو بالموضوع أم بالغاية؟

لكن ممَّا استدلَّ به على أنَّ المايز في التَّحديد هو الغاية والغرض لا الموضوع والمحمول أمران:

أوَّلهما: ما تعرَّض له الشَّيخ قدس سره وهو أنَّه بناء على كون التَّمييز بالموضوعات يلزم عندنا أن يكون اختلاف كل موضوع موجباً لاختلاف الشَّيء نظراً إلى أنَّه موجب للتَّمييز فيلزم أن تكون المسألة الواحدة علماً على حِدة بناءاً على ما اشتهر بين المشهور بأنَّ (الواحد لا يصدر إلاَّ من واحد) في جميع المجالات ومسألتنا متعلِّقة بالعلوم.

وهذا لا يلتزم به ملتزم فيها وفيما لو تعدَّدت العلل المختلفة في أفعال المخلوقين أيضاً كالبيت الَّذي اشترك في بناءه تصميماً وإعماراً وكهرباءاً وماءاً وأبواباً ونحو ذلك جماعة كل له عمله المستقل.

وهذا أبسط مثال له مصاديقه الكثيرة في إنتاج الواحد من متكثِّر إلاَّ أن نجعل البيت موزَّعاً على أقسام كل قسم اختص به عامل خاص فلا وحدة للبيت كما لو جعلنا كل مسألة من علم من العلوم اختصَّ بها عالم امتاز بها عن غيره كعلم النَّحو في مسائله الكثيرة المشتركة في موضوع واحد.

فلابدَّ في هذا من الجامع العنواني وإلاَّ فلا علميَّة له وإن تشخَّص موضوعه.

وليس من هذا القبيل علم الفقه في مسائله لو تمَّ الاختصاص في كلٍّ منها لعالم متخصِّص لكن لا يمكن احتواؤها في جامع وإن كان هو أشرف العلوم بعد العقائد.

وقد علَّل سيِّدنا الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره بقوله عن علم الأصول (فلأنَّه تارة

ص: 147

يبحث عن الجواهر مثل الماء وحكمه وأخرى عن الأعراض مثل شرب الخمرة وتارة عن الأمور الحقيقيَّة مثل الماء أيضاً وأخرى عن الانتزاعيَّة كالغصب وتارة عن الأمور الوجوديَّة مثل الصَّلاة وأخرى عن الأمور العدميَّة مثل الصَّوم وتروك الإحرام وتارة عن بعض المقولات وأخرى عن بعض آخر ومعلوم في محلِّه استحالة الجامع بين الأمور الوجوديَّة والعدميَّة وجامع بين مقولتين الجواهر والأعراض وبين الحقيقي والانتزاعي)(1).

أقول: وهو ما لا يمكن نكرانه.

ودعوى: أنَّ الجامع هو أفعال المكلَّفين.

مدفوعة بأنَّه جامع انتزاعي لا حقيقي، والكلام في الحقيقي مضافاً إلى أنَّ أفعال المكلَّفين هو الجامع مع أنَّه أوَّل الكلام، فإنَّ نجاسة الماء وطهارته ونجاسة الخمر وطهارته ومثل كون المال ميراثاً وغيرهما من الأحكام الَّتي موضوعها ليس هو أفعال المكلَّفين.وبهذا ظهر سقوط لزوم أن يكون للعلم موضوع يمتاز به أصلاً لأنَّ دليل لزوم الموضوع مرَّ ما فيه.

ثانيهما: أنَّهم بعد أن قالوا أنَّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وجاء الإشكال عليهم باتِّخاذ العلوم العربيَّة جميعاً في موضوع واحد مثل علم الصَّرف والنَّحو واللُّغة والتَّجويد وعلوم البلاغة الثَّلاثة وهي المعاني والبيان والبديع وغيرهما من سائر العلوم العربيَّة وهو اشتراكها جميعاً بالكلمة، فإذن لم يكن هذا الموضوع مميِّزاً علماً عن علم من هذه العلوم مع بقاء كل منها متميِّزاً عن الآخر بما لا يمكن إنكاره بين أقل من يكون من الطلاَّب الأذكياء؟

وأجابوا المستشكل عليهم عن مرادهم: بأنَّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيَّات.

ص: 148


1- في تقريرات بحثه من قبل شيخنا الجواهري قدس سره (غاية المأمول ج1 ص 95).

وممَّن اعتبر الحيثيَّة في المقام الشَّيخ النَّائيني قدس سره، لكن سمَّاها بالقابليَّة(1)، وقال بالحيثيَّة أيضاً صاحب نهاية الدِّراية قدس سره(2) بما إيضاحه:-

أنَّ مثل موضوع علم النَّحو هو الكلمة لكن لا مطلقاً بل من حيث الإعراب والبناء وكذلك موضوع علم الصَّرف هو الكلمة لكن لا مطلقاً أيضاً بل من حيث الصحَّة والاعتلال، وكذا علم المعاني هو الكلمة لكن من حيث معرفة الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وكذا علم البيان بأنَّ موضوعه الكلمة لكن لا مطلقاً بل من حيث إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، وكذلك علم البديع موضوعه الكلمة لكن من حيث معرفة المحسِّنات البديعيَّة.

وهكذا حيثيَّات بقيَّة تلك العلوم العربيَّة إذن فالموضوع بهذا الاعتبار باق على اتِّحاده في ذاته وإن تعدَّد من ناحية الحيثيَّات فلا ضرر بهذا الاعتبار.

ثمَّ جاءهم الإشكال بعد ذلك مفصَّلاً لما قالوه بأنَّ هذه الحيثيَّة المعتبرة في الموضوع إمَّا أن تكون حيثيَّة تعليليَّة، وإمَّا أن تكون حيثيَّة تقييديَّة.

فإن كانت تعليليَّة فلا تفيدنا شيئاً لأنَّها تخصُّ العلَّة فلا يتعدَّد بها الموضوع ولا يتكثَّر، والعلوم مسلَّمة التَّعدُّد لو لم تتداخل بعضها مع بعضها الآخر.

وأمَّا أن تكون حيثيَّة تقييديَّة فهذا ليس بصحيح، لأنَّ مثل الإعراب والبناء في الكلمة المرتبطة بعلم النَّحو مثلاً من العوارض المتأخِّرة عن موضوعيَّة الكلمة فلا يعقل أن يتقيَّد بها موضوعيَّة الكلمة لأنَّه يلزم من ذلك أخذ ما مرتبته التَّأخُّر متقدِّماً وهو خلف صريح.

لكنَّ السيِّد الشَّاهرودي قدس سره في تقريرات السيِّد المروِّج لبحوثه(3) قال (إنَّ العلوم إن

ص: 149


1- فوائد الأصول / الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني ج1 ص 24.
2- نهاية الدراية في شرح الكفاية / الغروي الأصفهاني ج1 ص11.
3- مجلد أوَّل ص 25.

كانت موضوعاتها متباينة كعلمي النَّحو والطِّب فيكون تمايزها من وجهين الموضوع والغرض وإن كانت موضوعاتها متَّحدة كالعلوم العربيَّة فيكون تمايزها بالغايات والفوائد المقصودة منها مثلاً صيانة اللِّسان عن الخطأ في المقال تغاير الفصاحة والبلاغة وهكذا.

وهذا الأمر وجداني إذ الموضوع بعد أن كان واحداً في علوم، فالوجدان قاضٍ بكون جهة المغايرة الموجبة لتعدُّد العلم هي الفوائد والغايات المطلوبة من العلم، كما أنَّ الموضوعإن كان متعدِّداً يكون تغاير العلوم من ناحية الموضوع والغاية.

وخلاصة محاصيل ما نتج من هذا البحث أمور:

أحدها: عدم الفرق بين العرض الذَّاتي والغريب، لإمكان الاستفادة من القرار العلمي حتَّى من حامل المعنى المجازي مع القرينة ومن ذلك القرار الشَّرعي ولو بالتَّشخيص العرفي.

ثانيها: الواحد لابدَّ أن ينتج من واحد فيما بين الخالق والمخلوق كالكون والعلَّة والمعلول دون العلوم وما يشبهها من أعمال بني البشر فيكون واحدا من متكثِّر إلاَّ بالتَّوجيه الَّذي مرَّ ذكره.

ثالثها: تمايز العلوم بتمايز الغايات والفوائد في الجملة دون أن يكون في الموضوعات بالكليَّة وإن بقيت مشخَّصة لشتات المسائل، ولاشتراك جملة من العلوم في الموضوع كالعلوم العربيَّة بما لا تلاقي كل منها في مواضعها عند التَّخصيص في كل منها للتَّفاوت الملحوظ في المسائل ولعدم تماميَّة الحيثيَّة والقابليَّة، لكن العلوم إن كانت موضوعاتها متباينة كعلمي النَّحو والطِّب فيكون تمايزها من وجهين الموضوع والغرض كصيانة اللِّسان من الخطأ في المقال في الأوَّل وصيانة البدن من الأمراض في الثَّاني وإن اتَّحدت فكما مرَّ بالغايات والفوائد فقط.

رابعها: اشتراط أن تكون العلوم اصطلاحيَّة، كي يمكن أن يبحث عنها فيما مضى

ص: 150

وإلاَّ فلا داعي للبحث فيها.

خامسها: لابدَّ من التَّدقيق إن أريد في الشَّرعيَّات وأصولها بالعرفيَّات لا بالمنظور الفلسفي.

سادسها: قد تتداخل العلوم بعضها في بعض، وقد يكون علم واحد يمكن تجزئته في مسائله إلى علمين أو أكثر، وعن هذا الطَّريق أو ذاك قد يتضيَّق الجامع أو يتوسَّع أو غير ذلك لو لم تكن العلوم أو بعضها اصطلاحيَّة.

سابعها: إ نَّ موضوعات مسائل العلوم ليست هي موضوع نفس العلم وإنَّما هي نفسه بقيد الشَّتات في بعض الحالات قبل التَّحقيق أو كما في نفس موضوع العلم المحقَّق ولو افتراضاً.

ثامنها: ما ينقل عن الشَّيخ البهائي قدس سره قوله (سبقت كل ذي فنون وسبقني كل ذي فن).

أقول: وهو ما يدل فيما يدل ممَّا يظهر من عبارته عدم السَّيطرة الكاملة على الفنون العديدة وهي العلوم وهو ما يلازمه عادة معنى السَّطحيَّة في العلم لها، ومن ذلك ما سبق ذكره، ومنه ما سيأتي ذكره ممَّا يخص علم الأصول في شتات مسائله وإن كان كل منها علم برأسه.

وغير ذلك ممَّا لم يحضرنا الآن على ما سيتَّضح أكثر.

إلى هنا ينبغي أن نمسك عن الاسترسال بالكلام عن التَّدقيق في موضوع كل العلوم موحَّداً مع تفاوت تلك العلوم، لعدم إمكان السَّيطرة الكاملة عليه ما دام الفطاحل والفحول رأوا رجحانه، ولذا رأوا أنَّ الإطالة في ذلك هو من التَّطويل بدون طائل، وإنَّما المهم هو الدخول في صميم موضوع أصول الفقه إن كان الإنسان موفَّقاً في تحصيله، ومن الله التَّوفيق.

ص: 151

المبحث الخامس

ما هو موضوع علم الأصول الخاص به إن كان؟

بعد أن أغلقنا الكلام عن محاولة تشخيص موضوع جامع لكل علم - عندما تكلَّمنا بعض الشَّيء للوقوف على خبرة من التَّجربة ولو كانت يسيرة وإن لم يُحقِّق هذا الأمر تامَّاً كما فعل آخرون قبلنا من الأعاظم ومنهم من عاصرنا لا تقليداً لهم ولا تواطياً معهم، بل إنَّ آخرين من الأعاظم تجنَّبوا الدُّنو من هذا الباب من البداية حرصاً على الفرص الثَّمينة منهم لئلاَّ تذهب سُدى، وممَّن كتب شيئاً أو بعض شيء منه وإن أصابوا شيئاً من المرجِّحات أخذ الفكرة المختصرة عن حالة كونه غير منتج أو غير مريح في إنتاجه ثبوتاً لا إثباتاً إن كان كذلك، حذراً من الوقوع في مطب ما لا طائل تحته لما لخَّصناه في آخر مطاف الكلام السَّابق وما قبله من تمايز العلوم من خلاصات ما مضى، ممَّا قد يظهر عليها شيء كثير أو غير قليل من ارتباك أهل التَّدقيق في أمر إمكان إصابة ما ينفع حتَّى ما كان لتوسعة الذِّهن، ولذا أعرض المعرضون عنه من الأوَّل -

لزمنا الخوض في المقصود المشخِّص المهم من الرؤوس الأربعة أو الخمسة المختارة، بإضافة رتبة هذا العلم، وهو خصوص موضوع علم الأصول.

لئلاَّ يكون البحث عن مجهول بين العقلاء كما سبق، على فرض كون أصول الفقه علماً اصطلاحيَّاً كما يقال، للسَّعي في البحث عن تحديده أو الأدنى للسَّعي في تعريفه أو أي شيء يناسب الوصول إليه بعد اليأس ممَّا سبق أو يسبق الوصول إليه عند العجز عنه.

بل لأنَّ علم الأصول هو أيضاً غير متكفِّل للبحث الدَّقيق عن موضوع خاص له كما سبقت الإشارة إليه وكما سيتَّضح.

بل يبحث عن موضوعات شتَّى قد تشترك كلَّها أو بعضها في غرضنا المهم منه وهو استنباط الحكم الشَّرعي.

ص: 152

ولذا لم ينجح القرار الأصولي القديم للمشهور - وهو المنسوب إلى صاحب القوانين - في جعل الأدلَّة الأربعة وهي الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل هي الموضوع له بما هي أدلَّة.

وكأنَّ هذه الأدلَّة مرهونة للتَّطبيق الاستنباطي الاستدلالي على نهجها فقط هي وأجزاءها من دون أن يكون للأصولي مجال للنَّظر الاجتهادي فيما اختلف فيه وعلى الأقل فيما وراءها.

ويرد عليه خروج مباحث الألفاظ، فإنَّ البحث فيها ليس من دليليَّة الدَّليل والالتزام بالاستطراد فيها كما ترى، وإنَّها من المبادئ في رأي الأستاذ السيد الخوئي قدس سره، لكنَّها لا يستغنى عنها في كثير من الأمور، بل منها ما يُعد من أُمَّهات علم الأصول وإن كانت قد تستخدم في مجالات علميَّة أخرى عديدة.

وسوف تأتي مصاديق استخدامها الأصولي بإذن الله كاستعمال (افعل) على الوجوب ونحو ذلك.

وكمسألة أنَّ الجمع المعرَّف بالألف واللام يفيد العموم؟ أو لا يفيد العموم؟ وهكذا.

أو بإضافة الاستصحاب بإضافته دليلاً خامساً غير الأصول العمليَّة، لاختلافهم في أنَّه من محض الدَّليل الشَّرعي أو العقلي أو منهما.

أو بإضافة القياس والاستحسان كما صنعه المتقدِّمون إن قُبلا كأدلَّة، وإن لم يكن ذلك القياس وما يشبهه مرتبطاً بخصوص أصولي العامَّة، لإمكان أن يتعدَّى ذلك قرارهم إلى قرار بعض علماءنا ممَّن أدخل تنقيح المناط في بعض حالاته عند البحث فيه، وكذلك بعض الأصول العمليَّة المسمَّاة عند العامَّة بالقياس مع خلوِّها عن الاستدلال لها بالأدلَّة الإرشاديَّة وعندنا بالأصول العمليَّة مع تمام ارتباطها بتلك الأدلَّة كأدلَّة حسن الإحسان وقبح الظلم، وإن كان قد يستفيد الجميع من ذلك حالة محاولة التَّقريب بين

ص: 153

المذاهب ولو لفوائد اجتماعيَّة خارجة عن التَّصادق على الحق الموحِّد بين الفريقين كالاستدلال من قبلنا للعامَّة لا لنا، بما يمكن أن يوصل إلى الوفاق فيما بيننا وبينهم مع كون دليلنا صحيحاً في نظرنا دون دليلهم.

ولا ما قاله صاحب الفصول قدس سره ردَّاً على قول المشهور أيضاً من أنَّها هي الأدلَّة الأربعة بما هي هي، وهي الأعم من كونها يبحث فيها عن الدَّليليَّة وغيرها ممَّا يخص جميع جوانب الأصول الخادمة لكلِّ أمور الفقه من أوَّله إلى آخره كليَّات وجزئيَّات.

وإن كان النَّقض على رأي القدماء يُسهِّل له المجال المحتمل للتَّصديق به في بعض المجال، للتَّخلُّص عمَّا يرد على التَّعريف الأوَّل من كون البحث فيه عن حجيَّة الخبر والظواهر ونحوهما بحثاً عن وجود الموضوع لا عن عوارضه فتخرج تلك المباحث عن مسائل الأصول وتندرج في المبادئ.

كما ويرد على هذا الثَّاني خروج مباحث الحجج كحجيَّة خبر الواحد والاستصحاب الَّذي أشرنا إليه للبحث حوله والتَّعادل والتَّراجيح عنها المعبَّر عنه أيضاً بتعارض الأدلَّة، لعدم إمكان الاستفادة منها قبل حصول النَّتيجة مع الحاجة إليها في الميدان الاستنباطي المتين ولو في الصُّورة الاستثنائيَّة، مع الحاجة الماسَّة إليه كذلك لتوسعة الدَّليليَّة بالأكثر ممَّا حدِّد ولذلك رجَّح الشَّيخ قدس سره اتِّخاذ رأيه الخاص به عن الموضوع بقوله في كفايته (موضوع علم الأصولهو الكلِّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتِّتة)(1).

بل وكذلك يمكن القول بخروج حتَّى الجامع بين موضوعات مسائل علم الأصول كما قاله المحقِّق الخراساني قدس سره عند قوله في الكفاية عن الموضوع عن أن يكون صالحاً لتمثيله عن الموضوع.

وإن كان هذا التَّعريف من الشَّيخ قدس سره يُعد احدى مخالفاته للمشهور كما سبق إن

ص: 154


1- كفاية الأصول ص8.

نسبنا بعض المخالفات منه ضدَّهم، فإنَّ الحسن في بعض ما يقوله ضدَّهم لا يلزم منه أن يكون دائم الحسن في البعض الآخر، ولأنَّ فيه عدم انقداح وحدة موضوع العلم خصوصاً في علم الأصول لا كما يدَّعي قدس سره .

إذ لا يمكن تصوير الجامع بين كثير من موضوعات مسائله لتضادِّها كالإمارات كاليد وسوق المسلمين والأصول كالتَّخيير والبراءة ونحوهما ودليل الانسداد في أمر الظنون الضعيفة وغيرها، فإنَّ مباينة موضوعات هذه المسائل ممَّا لا يخفى.

ولذلك يمكن أن يكون التَّعبير الأنسب عن الموضوع ما في نظر السيِّد الشَّاهرودي قدس سره(1) وهو (أنَّ علم الأصول عبارة عن كل ما له دخل بنحو الجزء الأخير للعلَّة التَّامَّة في استنباط الحكم الشَّرعي).

فخرج بالقيد الأخير العلوم العربيَّة والرِّجال، لأنَّها وإن كانت دخيلة إلاَّ أنَّها ليست هي الجزء الأخير من العلَّة التَّامَّة، بل هي تنتج صغريات مسائل الأصول لدخل العلوم العربيَّة في إثبات الظهور الَّذي يبحث في علم الأصول عن حجيَّته والرِّجال ينتج خبر الثِّقة الَّذي هو موضوع الحجيَّة في علم الأصول.

وقد يقترب هذا المعنى من الموضوع مع ما عرف عن تعريف السيِّد البروجردي قدس سره له بقوله (إنَّ موضوع علم الأصول هو الحجَّة في الفقه)(2).

فيمكن القول به على أساس كون الحجَّة موضوعاً افتراضيَّاً أو حقيقيَّاً ليلتجأ إليه حين العثور عليه وليُحقِّق في مسائل علم الأصول عن طريق الملائمة معه، لكن بناءاً على عدم إمكان القول بوجود موضوع ثابت للأصول جامع لتشتُّت مسائله، إلاَّ أن تثبت حجيَّة الحجَّة الفقهيَّة عن طريق التَّحقيق ولو طال الأمد.

فتتطابق حجيَّة تلك المسائل مع الموضوع المفترض له الحجيَّة للغرض الاستنباطي

ص: 155


1- نتائج الأفكار تقريرات الموسوي الجزائري المروِّج ص27.
2- نهاية الأصول، لحسين علي المنتظري / تقريرات بحث السيد البروجردي: 11.

الموحَّد بمستوى الحجيَّة الكاملة، ولإمكان أن تنحل مسائله إلى علوم متعدِّدة للتَّخصًّص في بحوثها أو بعضها فيتشتَّت موضوع كل منها على ضوء الحجَّة الفقهيَّة لا الموضوع الأصولي.

ففي الحقيقة أنَّه بالإمكان أن لا يكون موضوع للأصول حين البحث عنه بالتَّشخيص الافتراضي، وأن يكون له موضوع بعد الفراغ من تثبيته له والاستدلال النَّاجح للفقه عن طريقه.ولتأكيد عدم ضمان ثبوت الموضوع للأصول في كل حال جاء للسيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره ما مضمونه أنَّه على افتراض القول بأنَّ الموضوع هو أفعال المكلَّفين كما لا يخفى ممَّا سبق ذكره -

فإنَّه يقال بامتناع ذلك المتطابق من أفعالهم تماماً مع ما ينتج من توسُّط قواعد الأصول من نتائج الاستنباط، كوجوب الأشياء وحرمتها أو حليَّتها وحرمتها أو طهارتها ونجاستها ونحو ذلك بل على أساس الابتلاء بها.

وهذا هو الحق عند تقارب قرار العلَمين السيِّد الشَّاهرودي قدس سره والسيِّد البروجردي قدس سره.

المبحث السَّادس

التَّحديد أم التَّعريف والرَّسم أم شرح الاسم لعلم الأصول؟

بعد أن أتممنا ما وفِّقنا له من البيان على العجالة الَّتي بين أيدينا حين كثرة انشغالاتنا الدِّينيَّة وتبلور البال في شتَّى الشُّؤون الحوزويَّة والدنيويَّة المشروعة عن الرَّأس المختار من الرؤوس الثَّمانية المتعارفة بين المنطقيِّين ليكون الأوَّل في الذِّكر من بينها وهو موضوع

ص: 156

علم الأصول وسبقه بما يتيسَّر عن موضوع كل علم لما مرَّ التَّعرُّض له من وجيز سبَّب اختلاف الأصوليِّين في أمره مجاراة منَّا للشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته بالتَّقيُّد في عباراته الأولى ولو تبرُّكاً بالمطلع منها وإن لم نتقيَّد في بحوثنا الأصوليَّة الباقية هذه بشرح كفايته كبقيَّة الشُّروح وهي كثيرة جدَّاً، بينما هو الثَّاني في تعداد الرؤوس المعروفة لدى المنطقيِّين خدمة للأصول من بقيَّة العلوم.

جاء دور الثَّاني غير الاعتيادي في تسلسل الرؤوس عندهم، ليكون مكان ما مضى بيانه، لإتمام ما يلزم بيانه من مهمَّاتها.

وهو ما عن تعريف علم الأصول ولو لم يكن الوصول إلى حقيقته وحده على الأقل للسَّيطرة ولو بعض الشَّيء ذهنيَّاً أو حتَّى ما هو الأقل في التَّشخيص بما يسمَّى بشرح الاسم إن قبل.

لئلاَّ يدور الكلام حوله عن المجهول المطلق، وهو ممتنع عادة عقلائيَّة بين العقلاء من أهل العلم لما مرَّ ذكره وهم طلاَّبه الَّذين يحاولون الاستثمار من مفاهيمه ولو بهذا المستوى الضئيل، ولئلاَّ يتهَّم العقلاء من طلاَّبه فضلاً عمَّن يتفوَّق عليهم أنَّهم في شيء من السَّفه، وهو أنَّهم من طلاَّب المجهول أو بإغراء لهم في ذلك من بعض أساتذتهم وهي الخيانة العظمى لما ائتمنوا عليه.

والاهتمام بهذه المهمَّات قبل المقصود منها لمحاولة الوصول إلى ما به التَّكافل عن علم الأصول منها ليشد بعضها بعضاً ولتكون جملتها من مستوى معتبر واحد وإن حصل تفاوت عن بعض عنه.

ومن ثمَّ ليتبيَّن المراد عن حقيقة هذا العلم أنَّها من نوع الحد التَّام أو الرَّسم التَّام أو النَّاقصين أو ما يسمَّى بشرح الاسم لتقييم ما يتوصَّل إلى الاستنباط الفقهي عن طريقه أنَّه ممَّا قرِّر علميَّاً بأنَّه من القواعد التَّامَّة آليَّاً أصوليَّاً أو قواعديَّاً فقهيَّاً مباشراً معتبراً من أدلَّتهما المعتبرة؟

ص: 157

أم ممَّا عثر عليه ولو من مجموع الشَّتات أو بعضه الكافي من النَّصوص أو الظواهر من الآثار الشَّريفة حتَّى بما زاد على الأدلَّة الأربعة ممَّا حقِّق أن يكون من الأدلَّة موضوعاً وغاية لما دعت إليه الحاجة الشَّرعيَّة الماسَّة، والحاجة أم الاختراع كبعض المستحدثات المعاصرة من المسائل.

المبحث السَّابع

لماذا بدأ صاحب المعالم قدس سره بتعريف الفقه دون الأصول؟

وقبل الخوض بالكلام عن خصوص التَّعريف لعلم الأصول وما دار بين ما يسمَّى بالمشهور وبين ما يمكن تسميته بالمعارض كالشَّيخ الآخوند قدس سره يرجح منَّا التَّنويه عن رأي صاحب المعالم قدس سره قبل ذلك.

حيث ابتدأ بتعريف الفقه دون الأصول، والتَّلخيص لشيء من سرِّ ذلك، ومنه إمكان العلمبواقعيَّة علم الأصول والحاجة إليه كعلم قابل لأن يركن إليه أكثر ممَّا يركن إلى قابليَّة وفعليَّة الفقيه المجتهد المتضلِّع أو ما هو العكس أو ما به تتساوى الطَّاقتان وأدائياتهما حسب التَّحقيق الَّذي يوفَّق له السُّعاة.

فقال صاحب المعالم قدس سره عن الفقه في الاصطلاح (هو العلم بالأحكام الشَّرعيَّة الفرعيَّة عن أدلَّتها التَّفصيليَّة)(1).

فخرج ما كان في نظره الشَّريف خارجاً عن الفقه وأبقى ما كان مرتبطاً بالفقه في إصطلاحيَّاته مكان تعريف علم الأصول.

وكأنَّ التَّضلَّع الفقهي الاجتهادي الدَّقيق على النَّهج القديم عنده هو الأصول، أو أنَّها نابعة من حنكة التَّضلُّع من دون حاجة إلى التَّشخيص، أو أنَّ أسلوب الأصول

ص: 158


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين، مطبعة بهمن، قم المقدسة، ط5 /66.

القديمة هي الأقرب إلى النُّصوص كبحَّار ناجح في غوصه يلتقط من بحر فقهه ما يفيده من الأصول.

إلى أن أنهى علاقته بالفقه ثمَّ بدأ التَّعريف ببقيَّة ما يلزم من الرؤوس.

ولأجله علَّق من لم تثبت منه خبرة في الأصول عن المعالم الَّتي كانت لها ولأمثالها المرتبة المهمَّة بانتشارها الحوزوي المهم قبل الصِّناعيَّات المخترعة للأصول ومنها الزَّائدة بما مضمونه بأنَّ (المعالم ليس بكتاب أصول).

إلاَّ أن يريد من الأصول المعتبرة اليوم هي المطابقة للصِّناعة لا غير وإن زادت عن الحاجة أو أخرجت تلك الزَّوائد الفقه الأصيل عن طوره.

ولأجل هذا وأمثاله مع الأسف قلَّت العناية بالمعالم في الحلقات الدَّرسيَّة، بينما كانت في العناية بها أنَّها أوَّل السُّطوح.

وأكثر الظَّن أنَّ هجرها من هذا ومن ذاك لما ذكرنا كان من قلَّة المدرِّسين فيها، فكان السَّبب في ضعف خبرتهم بمضامينها العالية على النَّهج القديم والإغراء بتركها وإبدالها بما لم يعوَّض عنها حتماً ولو لخصوص ما تمتاز به أصوليَّاً في عصرها وفي هذا الزَّمان الَّذي خسرها غير العارفين بقدرها.

وأمَّا فيما بعد صاحب المعالم قدس سره وأمثاله فقد احتدم الخلاف بعد ذلك كثيراً بين الأصوليِّين قديماً وحديثاً، ولنختر المهم الشَّائع بين الفطاحل.

فقال المشهور عن الأصول في عبارة الكفاية وضمَّ إليها الشَّيخ عباراته التَّصحيحيَّة لما في نظره:

(ويؤيَّد ذلك تعريف الأصول بأنَّه العلم بالقواعد الممِّهدة لاستنباط الأحكام الشَّرعيَّة وإن كان الأولى تعريفه بأنَّه صناعة يُعرف بها القواعد الَّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو الَّتي تنتهي إليها في طريق العمل)(1).

ص: 159


1- كفاية الأصول ص9.

أقول: أي ويؤيِّد ما مرَّ ذكره من أمر الحاجة إلى البحث عن موضوع كل علم لو كان بالإمكان تشخيصه ممَّا قد بدأنا به، لئلاَّ يكون البحث عن المجهول وبالأخص عن خصوص موضوع علم الأصول، لنفس السَّبب من أنَّ نتيجته عند ذكر الأقوال الذَّاكرة له هل كانت لإمكان هذا التَّشخيص من عدمه وأسباب ذلك والوصول إلى النَّتيجة المناسبة أم إلى ترجيح كون هذا الأمر مرتبطاً بما يتناسب وترجيح القول بشرح الاسم ممَّا دون الحد والرَّسم؟

لأنَّ الموضوع في الماضي هو المسائل المتشتِّتة دون حقيقة العلم ورسمه على ما سيجيء حوله.

ولأجل هذا حاول الشَّيخ الآخوند قدس سره الوصول إلى ما يثبت ذلك عدولاً عن عبارة المشهور بقوله في المنقول عن الكفاية من كلام المشهور وكلامه بقوله بعد نقل كلامهم (وإن كان الأولى تعريفه بأنَّه صناعة ...إلخ).

ولم يقل عن ذلك عبارة (والأصح) مثلاً بدلاً عن الأولى على ما سوف يتَّضح أكثر، ولذا حذف كلمة العلم في تعريف ذلك المشهور وأبدلها بكلمة (صناعة) ممَّا يعرب عن السَّطحيَّةعمَّا يختاره الأصوليُّون عمليَّاً دون العلم الحقيقي حدَّاً ورسماً.

وبذلك يتَّضح معنى الأولويَّة الَّتي أرادها، وهو أنَّه ليس لعلم الأصول قواعد مضبوطة حتَّى يعلم بأنَّه علم بتلك القواعد كما في سائر العلوم.

بل علم الأصول - مع سطحيَّة التَّعبير حقيقة - الأجدر بها أن تسمَّى كما في تعبير أحد الأعاظم قدس سره :

(صناعة يقتدر بها على تأسيس قواعد تقع في طريق استنباط الحكم الواقعي والظاهري)(1).

وكأنَّها صياغة جديدة خارجة عن التَّعبيرات العلميَّة الواقعيَّة للعلوم إن كانت لها أو

ص: 160


1- منتهى الدراية ج1 ص22.

لبعضها واقعيَّة.

وهذه عبارة كنَّا نسمعها كثيراً في بحث السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره وهي مقبولة لو لم تصطدم بمقررَّات الشَّريعة الأساسيَّة وثوابتها لتدوين الأصول.

المبحث الثَّامن

بعض الكلام عن الفرق بين القاعدة الأصوليَّة والقاعدة الفقهيَّة

وهذه المخالفة من الشَّيخ للمشهور تعد الخامسة من بداية ما راقبنا عباراته الماضية الشَّريفة إلى حد الآن، وكأنَّ الوفاق موجود في الجملة بينه قدس سره وبينهم إلى حد ما مع زيادة الأولويَّة بسبب التَّباين الموجود في المسائل التَّطبيقيَّة بين الموضوع والمحمول بين ما ينتج منه من خلال البحث فيه عن القواعد الأصوليَّة وما يلحق بها من القواعد الفقهيَّة.

وبين ما لم ينتج منه شيء فيلتمس بمسلك الانسداد بالتَّبعيض في الاحتياط بين الاحتياط الفعلي وبين التَّركي.

ووجيز الفرق بين القاعدة الأصوليَّة أنَّها كالآلة تستخدم في جميع ميادين الاستنباط.

بينما القاعدة الفقهيَّة تستخدم في الركون إليها في مقام استحقاق أن يستدل من مقاماتها الخاصَّة، وقد سبق ذكر هذا الأمر في احدى الفوائد الماضية.

وكثيراً ما كانت هذه الثَّانية مستخدمة من الفقهاء حتَّى قبل انتشار الصِّناعيَّة وبما لا يضر بل بما ينفع.

ويمكن الاستغناء عن لزوم إخراج الفقهيَّة المشتركة مع الأصوليَّة خوف الوقوع في الاشتراك بسبب قرينة (الباء) في الأصوليَّة لدلالتها على الآلية في تعريف المعبِّرين

ص: 161

بالصِّناعة عن الأصوليَّة في المبحث السَّابع، بينما الفقهيَّة لا تناسبها سوى كلمة (فيها).

وتوضيح المناقشة على أساس الأولويَّة بما يجعل تعريف المشهور غير جامع ومانع.

إنَّ قول المشهور بأنَّه (العلم بالقواعد الممِّهدة ...إلخ) لم يصلح أن يكون العلم جنساً قريباً لما مرَّ من عدم تصافي الكلام عن وجود موضوع محدَّد له.

ولذا أبدله الشَّيخ قدس سره من نفسه بكلمة (صناعة) وهو الفن الخارجي والقواعد الممِّهدة لم تصلح أن تكون هي الفصل القريب لتفاوت بعضها عن بعض ولا ما يكمل الرَّسم، لعدم ضمان أن تكون تلك القواعد قواعد جاهزة سواء بالواسطة أم بلا واسطة في تحرُّكها لصالح الاستنباط، لما مرَّ ذكره من الحاجة إلى عرضها على بساط البحث قبل اتِّخاذها قاعدة للتَّعرُّف في النَّتيجة على أنَّها صالحة لتكون واسطة بكلِّها أم ببعضها أم لا؟

مع احتمال تأكيد المشابهة بين تعبير المشهور بالعلم وتعبير الشَّيخ قدس سره بالصِّناعة إذا جملنا العلم على غير الاصطلاحي.

وعلى فرض عدم كفاية كلام المشهور في الجملة فيما لو انسدَّ باب العلم بوجوب الرجوع إلى الأصول العمليَّة الأربعة أو الأوسع منها.فقد حاول الشَّيخ قدس سره التَّعويض عن ذلك أيضاً بقوله الماضي مع إضافة (أو التَّي ينتهي إلها في طريق العمل) ليختار أحد التَّعبيرين.

وبهذا ينتهي الأمر إلى عدم التَّحديد وعدم التَّعريف التَّام، والبقاء على مستوى شرح الاسم إن لم نتجاوز الأدنى وشرح الاسم لم يعط أكثر ممَّا يكون الواضح والأجلى كما أشرنا سابقاً.

ولأجل أهميَّة هذه النَّتيجة ينبغي لطالب العلم الذَّكي أن لا يغيب عنه هذا الأمر مع التَّدبُّر.

فلم يكن التَّعريف في تعبير المشهور وتعبير الشَّيخ قدس سره بالجامع المانع، وأنَّ المسؤوليَّة

ص: 162

لابدَّ أن تتضخَّم أكثر حسب مستوى القضيَّة أمام المتورِّعين عسى أن يعثر على ما هو الأيسر والأبهر براءة للذمَّة.

ومن أسباب ذلك الأمور المتباينة موضوعاً ومحمولاً، وهي كثيرة من الَّتي تمر في طريق المستنبط بين الموضوع والمحمول وممَّا مرَّ ذكره من التَّمثيل تحت ما يناسب من العناوين الماضية.

فلا مجال إذن إلاَّ أن يعرَّف بما لا يزيد على مستواه بأنَّه (علم بقواعد) أو (نتائج تقع في طريق الاستنباط).

سواء كانت تلك النَّتائج كبرى القياس المنتج للحكم الكلِّي الفرعي كحجيَّة الخبر فإنَّها تقع كبرى قياس الاستنباط، إذ يصح أن يقال (صلاة الجمعة ممَّا قام على وجوبها خبر الثِّقة) (وكل ما جاء كذلك فهو واجب) فينتج (صلاة الجمعة واجبة) أم صغرى للحجيَّة كقولنا (الأمر ظاهر في الوجوب) و(كل ظاهر حجَّة) ف- (الأمر حجَّة في الوجوب).

فلا فرق في كون المسألة الأصوليَّة بين أن تكون بنفسها واقعة كبرى لقياس الاستنباط أو بالواسطة.

وعلى هذا فالقواعد الفقهيَّة المبحوث عنها في علم الأصول كقاعدتي التَّجاوز والفراغ وقاعدة نفي الضَّرر والأصول العمليَّة الشَّرعيَّة داخلة في علم الأصول.

كما وأيَّد ذلك جملة من الأعلام كالسيِّد الشَّاهرودي قدس سره والسيِّد السَّبزواري قدس سره في تهذيبه والشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله ونحوهما وهي كذلك.

ص: 163

المبحث التَّاسع

الكلام عن بقيَّة ما يلزم من الرُّؤوس عن الأصول

الثَّالث: منها غاية علم الأصول

فلأجل عدم إيقاع طلاَّب علم الأصول - وتذكير مدرِّسيهم بأن لا يوقعوهم - في مطبَّات ما لا غاية معقولة ومقبولة له من هذا العلم ، لأنَّ عدمه يقترب ولو ظاهراً من عدم قصد أن يستثمر بشيء في قصده لعدم عقلانيَّة المقاصد العبثيَّة لاستحالتها في تصرُّفات العقلاء ومدى خطورة ذلك البالغة.

لابدَّ من إبداء لزوم أن تكون غاية مرتجاه تناسب المقام في طلب هذا العلم والتَّركيز عليها من بداية الأمر إلى نهاية بحوثه، سواء كانت الأصول تامَّة القواعد - كالمسلَّمات والأساسيَّات منها والَّتي تحت التَّحقيق لإعداد كونها صالحة للاستفادة منها من القواعد الإضافيَّة - أم لا؟ ولو افتراضاً أو إلى حين أن تكون جاهزة لتلك الاستفادة بانتظار أمر يتناسب معه كما بين الثُّبوت والإثبات، وسواء كانت تلك المسائل والقواعد متشتِّتة أو منظومة علميَّاً أو بعضها الصِّناعي الآخر كذلك.

ولم يتعرَّض الشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته إلى الغاية.

ولعلَّه لاكتفائه بذكر التَّعريف غير المبعد للغاية في مضامين عبارته اصطياداً، ولصحَّة التَّداخل من قوله (القواعد الممهِّدة لاستنباط الأحكام) والاستنباط هو الغاية المنشودة كما سبتَّضح قريباً أكثر.

وقد يجتمع هذا الرَّأس أيضاً مع شيء آخر من تلك الرؤوس وهو الفائدة، لعدم إمكان تحمُّل أن لا تكون بين العقلاء عند قصد تعلُّم هذا العلم أو هذه الصِّناعة.

والمساعد على ذلك - وإن أمكن وجود ضرورة هذا التَّعقُّل حتَّى عند إفراد الكلام

ص: 164

عن خصوص هذه الفائدة - هو إمكان بل معقوليَّة التَّداخل بين بعض هذه الرؤوس كما بين الغاية والفائدة، لكن الفائدة أعم من الغاية كما سيتَّضح في الأفراد عن الفائدة.

الرَّابع منها: فوائد علم الأصول

بعد تسليم أنَّ أي مسألة عامَّة وخاصَّة لابدَّ وأن يكون لها حكم إيجابي أو سلبي في الشَّريعة الإسلاميَّة، سواء كان لأمور الدُّنيا والآخرة حسبما حُقِّق في محلِّه عقائديَّاً بالارتباط بما بين المبدأ والمعاد أو خصوص ما يتصوَّر جهلاً عند الوجوديِّين العلمين وغير المسلمين من أمور الدُّنيا حسب.

لأنَّ الإسلام هو الجامع لكل جواهر المبادئ السَّماويَّة السَّابقة كمبادئ اليهود الَّتي كانت قبل التَّحريف والنَّصارى الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة كذلك أيضاً والإسلاميَّة اللاحقة وزيادات في الإسلام سماويَّة في هذه الدُّنيا وأرضيَّة وإن حرَّفاها بعد ذلك.

فإنَّه لابدَّ أن يكون دين الله الكامل بعد أن كان إلهيَّاً في لطفه وصافياً من التَّحريف قبل وقوعه في الدِّيانات القديمة والحديثة المحفوظة في منظور المدقِّقين المنصفين لو خلُّوا وطباعهم الفطريَّة والعقليَّة السَّليمة من إبليس والدُّنيا والنُّفس الأمَّارة والهوى.

وإنَّ دين خاتم الأنبياء والمرسلين وما سبقه هو قانون الحياة لجميع معانيها حتَّى السِّياسات الَّتي أرادها الأعداء والجهلة، لأن تكون بعمومها وخصوصها فضلاً عن العلوم النَّافعة المزعوم بكونها غير شرعيَّة كالطِّب والصَّيدلة والفلك والهندسة والفيزياء والجبر وغيرها في معزل تام عن تصوُّر وتصرُّف النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حاشاهما والفقهاء الجامعين المانعين.

فإنَّ القرآن الكريم - بعد أن ذكر أهل الدِّيانات القديمة كاليهود والنَّصارى وما أجروه من التَّحريف لمداركهم السَّماويَّة بما بين الإفراط والتَّفريط بما قد يتصوَّره السَّطحيُّون في دياناتهم ودراساتهم من هذه الشُّبهة وغيرها من الماديَّة والرَّهبنة -

ص: 165

ذكر ما ينفي التَّجاوزين ودعى إلى المسلك التَّوسطي في الدِّين الشَّرعي بعد العقائدي وفي الأخلاق والاستقامة بما بين المبدأ والمعاد ونحو ذلك من خصوص أمور الدُّنيا بمثل قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](1).

ولا يخفى أنَّ الخطاب الإلهي في هذا التَّوسُّط كان للجميع وبقرينة ذكر النَّاس عموماً بشتَّى مشاربهم لمحاسبتهم أخرويَّاً، لأنَّ الدُّنيا دار عمل ولا حساب والآخرة دار حساب ولا عمل في مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](2) وغيره.

وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عن الأخلاق والتَّعامل السُّلوكي بين المجتمعات (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارمالأخلاق)(3) لاعتزازه صلی الله علیه و آله و سلم بما بين المبدأين السَّماويَّين السَّابقين قبل التَّحريف.

وقد ذكر تعالى حرمة التَّحريف بقوله [مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ](4) وغيرهم كذلك في ذمِّ السَّابقين من أهل التَّحريف ومحاولات الملاحقين لقرآننا.

ولذا تصدَّى تعالى إلى حفظه ببركة مساعي النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وصفوة الحواري بقوله [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](5) وبعض العوامل الإلهيَّة الخفيَّة الَّتي تضمَّنها حديث الثَّقلين.

ص: 166


1- سورة البقرة / آية 143.
2- سورة الحجرات / آية 13.
3- البحار ج16ص210.
4- سورة النساء / آية 46.
5- سورة الحجر / آية 9.

ولذا نجد إسلامنا الصَّافي - بعد التَّحقيق العقائدي والشَّرعي والأخلاقي بعد التَّأمُّل والاجتهاد فيه وعن طريق الأصول المهذَّبة الَّتي لا تبتعد عن الثَّوابت الشَّرعيَّة غير المخلوطة بشبهات الأعداء من الخارج والدَّاخل والجهلة الَّذين لا نصيب لهم من العلم الكافي وإن كانوا في بعض التَّمسُّك الدِّيني الحري بهم لأن يكونوا فيه من المقلِّدة للمجتهدين الأتقياء -

أنَّه يدعوهم بأتم الأدلَّة العامَّة والخاصَّة إلى أن يكون مرجعاً لكل أمور الحياة وجميع مسائلها وقد أيَّدت ما ذكرناه مقولة الإمام الحسن المجتبى وهي قوله عَلَيْهِم السَّلاَمُ (اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً)(1).

والمعين على تيسير استنباط الأحكام العامَّة المذكورة من المدارك الثَّابتة الصَّحيحة هو علم الأصول ولو بالنَّحو المقرِّب لنقض كل ما يدَّعى غلطاً أنَّ هذه الأمور ليست من الشَّرع في شيء حتَّى يرى رأيه الصَّواب فيه بأن يكون منه ولو من المدارك العقليَّة التَّابعة للمشرِّع ولو ممَّا أرشد الشَّرع إليها لو أعوزتنا صراحة النُّصوص في بعض الأوقات.

على شرط أن لا يتمسَّك بالعقول المعارضة للشَّرع في كل مجالاته كآراء العلمانيِّين والفلاسفة في قوانينها الوضعيَّة غير الشَّرعيَّة، سواء الفلسفيَّات ممَّا قبل التَّرجمة الإسلاميَّة لها أو بعد التَّرجمة الَّتي ما سلمت من بقاء أو إبقاء الشُّبهات أو بعضها.

ممَّا أثار أهل الكفر إلى أن يقولوا باستنقاص الإسلام بعجزه عن حلِّه للمعضلات العلميَّة عن طريقه.

بينما أمره بمراجعة أهل الاختصاص عند الحاجة كالأطبَّاء ونحوهم هو كاف في أنَّ له الرَّأي الصَّواب وعدم تجويزه مراجعته ليترك ما هو مكلَّف به شرعاً في غير مورد الحاجة، كيف وهو الطَّبيب النَّطاسي في مجال عدم وجود الأطبَّاء الخاصِّين.

وأمَّا السِّياسات الَّتي منها بث النَّصائح للحكَّام لاستقامة أمور البلد في الحرب وفي

ص: 167


1- من لا يحضره الفقيه 3/ 156، وسائل الشيعة 17 / 76.

السِّلم كما كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوجِّه نصائحه لولاته على ولاياته في البلدان بين حين وآخر.

فإنَّه من صميم تعاليم الدَّولة الإسلاميَّة حتَّى كان حثَّ ذلك منه وهو الإمام العادل حثَّاً لهم كما ورد في الحديث (أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر)(1) ومن قبل أي إنسان.

لا كما قيل بأنَّه يجب على سائر النَّاس مطاوعتهم لأي سلطان وإن كان جائراً حتَّى ولو كان المسلم في داره مختاراً، لأنَّها مغالاة في المطاوعة والتَّقيَّة في غير مقامها، وأمَّا حفظ النِّظام العام غير المخل بالحياة الإسلاميَّة للفرد والمجتمع فهو واجب وفي غير موردنا المبحوث عنه.

وأمَّا الدُّخول في مسار سياسات أهل الكفر والظلمة ممَّا اصطنع منها فنيَّاً عندنا اغراءاً وعلى الأساليب الشَّيطانيَّة المورِّطة للمؤمنين وأهمُّهم العلماء.

فلا يجوز اقتحامها فإنَّها مسالك هلكة، إلاَّ إذا أحكم العالم البصير السَّيطرة على سلامة دينه ودنياه وشخصه ومجتمعه وأمَّته ولو بسحب نفسه من شرك الاصطياد عند الشُّعور بالخطر، فضلاً عن تأكُّد الضَّرر أو البقاء معهم حتَّى النَّصر إذا كان زمام المبادرة بيده حتَّىآخر مسار أهل الكفر والظلمة ولو بالاستعانة بنفس أهل الكفر والظلمة الأغبياء في سياستهم، لحرمان أنفسهم من فضيلة الإسلام وخط أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ بما كسبت أيديهم أو الاعتماد على الثَّوابت الإسلاميَّة العامَّة بين الجميع لو كان الظلمة في نفس المسلك الولائي الخاص أو الإسلامي العام بما لا إحراج للتقيَّة فيه أو الثَّوابت الإنسانيَّة الَّتي لا خوف من المعارضة فيها بين الحكَّام الظلمة أو من طغى من أهل الكفر، لصراحة الأدلَّة الإسلاميَّة العامَّة بين المذاهب الإسلاميَّة كلِّها أو الأدلَّة السَّماويَّة العامَّة بين الملل والنِّحل كلِّها من كافَّة الكتب حتَّى المحرَّفة فيما تبقَّى منها ولو إنسانيَّاً.

ص: 168


1- غوالي اللئالي ج1ص 432 المسلك الثالث ح131.

ومن مضار ترك الأصول النَّاصرة - في قواعدها الأصيلة للثَّوابت من المدارك الإسلاميَّة وما اتَّسع من تلك القواعد الزَّائدة عليها غير الخارجة عن صميم الأدلَّة أو الإرشاد حجَّيَّة ما تقر به العقول المقبولة في كل منطوق ومفهوم -

هو الخروج عن الدِّين وعليه وعن تعاليمه بالبدع الَّتي ما أنزل الله بها من سلطان بمثل القياسات والاستحسانات وسدِّ الذَّرائع ممَّا حوته وتمسَّكت به أصول الآخرين أو بالتَّمسُّك باطلاً بما وضع باطلاً من النُّصوص من كعب الأحبار وأمثاله قديماً وأيَّام الأمويِّين.

ملحق بفوائده ومضار تركه

ومن تلك الفوائد ومضار التَّرك هو ما ذكرناه آنفاً متناسباً في الجملة أو التَّفصيل مع الثَّالث، ولأجل الحديث عنه مستقلاًّ نقول:

لم تكن فائدة علم الأصول منحصرة في خصوص هذا العلم ولا محصورة في معنى خاص من معانيها إن تعدَّدت فيه أو منه، بل هناك فقاهة اجتهاديَّة مثلى كانت عند حواري النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من عترته ناتجة عن خير الاستدلالات أيَّام تجوالهم بابتعادهم عن أئمَّتهم للتَّبليغ في بقيَّة البقاع من الأرض كما دلَّت عليه آية النَّفر وغيرها.

وقد سبقت حالة اشتهار علم الأصول واتِّخاذه صناعة بعد ذلك مفصَّلاً على ضوء قواعده الثَّابتة أو المتكاملة للاستنباط بواسطتها.

وإن كانت تلك الفقاهة في القديم لا تخلو من بعض أو حتَّى كثير من القواعد الأصوليَّة غير الملتفت إليها في طريق الاستنباط، نتيجة للممارسات النَّاجحة الكثيرة والمتظافرة خلفاً عن سلف ومن أهم المصادر الشَّرعيَّة وعن أفضل الأساليب وأبسطها.

وقد دوَّن بعضها في زمنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ مع القواعد الفقهيَّة الكثيرة المطبقة آنذاك.

كما قد اختير بعضهم قضاة ناجحين في اجتهادهم وبإشراف أهل الخبرة والأئمَّة

ص: 169

عَلَيْهِم السَّلاَمُ في فترات مسجَّلة في الكتب الأربعة الأولى والأخيرة وغيرها من مصادرنا الشَّريفة.

وعلى أساس عدم لزوم أن تكون تلك الفقاهة ظاهرة عن نفس علم الأصول، حتَّى لو عرفت صناعيَّة في قواعده لأصالة الشَّرعيَّات الفقهيَّة وما صحَّ من مصادرها الأساسيَّة متواتراً عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة المطهَّرة عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

بل إنَّ قواعد الأصول أكثرها ظاهراً فيما قبل منه ونجح صناعيَّاً فيه بعد البحث والتَّنقيب عن تلك الفقاهة، وذلك التَّبحُّر الَّذي قد تضييع عنده تلك الأصول، ممَّا قد احتمل فيه أنَّ هناك خلفيَّة فقهيَّة - طالما تفوق بعض أصول الأصوليِّين المحدِّثين - مكَّنت الفقهاء العظام ليمنحوا القواعد والفوائد من فقاهتهم ثمَّ أنجحت بأيديهم كيف يستنبطون بنجاح الأحكام عن القواعد والفوائد.

وقد أشرنا حول الكلام عن تعريف الأصول إلى هذا المعنى، وهو ما جعلناه الثَّاني من الرؤوس المنطقيَّة لكل علم، وهو الماضي ذكره باستشهادنا بما عرَّفه صاحب المعالم قدس سره في كتابه من تعريفه للفقه دون الأصول إلى شيء أو بعض شيء، ممَّا خالف أسلوب الأصوليِّين اليوم، مع كون المعالم يُعد حوزويَّاً في النَّجف الأشرف وغيرها أول السُّطوح في الأصول،ولذا عدَّت دراستها مهمَّة في بابها قبل دراسة أصول اليوم.

مع عدم ضمان النِّجاح التَّام في تعريف الأصول بما يساوي الفقاهة العظمى، لكثرة من حوى الأصول وتوغَّل فيها، بل عُدَّ من أكابرها ولكن ليست له تلك الفقاهة أو أوصله ذهنه وعقله إلى عدم رفضه أو رضاه ببعض القياسات الممنوعة.

ولأجل عدم البخس بحق العلمين النَّاجحين لو تكاملا في واحد قد جمعهما - وإن ندرت مصاديقهما فيه الفقاهة العظمى عن التَّبحُّر والممارسة وأصول الفقه النَّاجحة في أفضل ما بينَّاه - كنَّا قد قلنا بعدم الانحصار في فائدة واحدة.

وهذه الفائدة في نوعها هي الَّتي مرَّت في الكلام عن الغاية وبما لم ينحصر في فائدة معيَّنة، وهي القدرة على الاستنباط وتيسير فعليَّته أو تسهيله بكثرة الممارسة أو حتَّى من

ص: 170

مرَّة واحدة، ولإلقاء الحجَّة من الشَّرع على المكلَّفين، ولإبراء الذمَّة وحتَّى بما لم يفوت علو درجة العبد الرَّاغب في المزيد كما في استنباط المستحبَّات ليلتزم بها والمكروهات لتجتنب استحباباً حتَّى الَّذي يستكشف أمره في تخيير بين الفعل والتَّرك، ولتثبيت المعذريَّة بين يدي الله وشرعه وإن لم يوفَّق لإدراك ما كان يصبوا نحوه بعد عدم تقصيره عند اقتضاء الحاجة لاستفراغ وسعه فقهاً وأصولاً.

واعلم أنَّه لم تتقيَّد هذه الفوائد أو بعضها بخصوص قصد الطالب لها من بداية طلبه لهذا العلم بمثل ما تتقيَّد الغاية بالقصد لها من بداية طلبه قريباً.

بل كثيراً ما تنال فوائد هذا الأمر وإن لم يلتفت إليها من البداية مع التَّوجُّه التَّام إليها ولو في الطريق بل حتَّى الغاية لو التفت إليها الطَّالب في ذلك وقصدها، فإنَّه لم يكن ضامناً لما يريد مثل ما يدركه صاحب التَّوفيق إليه لو أخلص في منواه.

الخامس منها: حول مرتبته العلميَّة بين العلوم

فالأصول على أي نحو وصل بأيدينا منه ما وصل لابدَّ وأن يصل حتَّى إجمالي ما يعتبر منه أنَّه إلى الأدنى من علم الفقه إلى مسلَّماته في ضروريَّاتها الإجماليَّة وغير الضَّروريَّات المحتاجة إلى استفراغ الوسع واستغناء هذه الأصول عن الفقه من غير المسلَّمات الَّتي لا تتنجَّز حالة النَّفع منها لكونه صناعة كما هو موفور قدسيَّاً فيه وفي أهله ما يفيد.

بل هو المعد خادماً لمقامه بعد أن كان الفقه هو أفضل علم عرفته الحياة الشَّرعيَّة الإلتزاميَّة بعد علم العقائد.

ومنه يتجلَّى وعن طريق تداخل بعض الرؤوس ببعض نوع الحاجة إلى الفقه الأعظم، وعن طريقه تتجلَّى الحاجة إلى ما تكامل من أمر خادمه من الأصول، وإن تقدَّم عليه في الرُّتبة الدِّراسيَّة في الآونة الأخيرة.

ص: 171

المبحث العاشر

من مبادئ مباحث الألفاظ ذو المقدِّمة (الوضع) للمسائل

بعد التَّفرُّغ النِّسبي - عن الَّذي لا ينبغي تركه أو لابدَّ منه بين الأصوليِّين وأهل الصِّناعة - من الرؤوس الثَّمانية - قبل مقصودهم من المقدِّمات التَّمهيديَّة طبقاً لما تعارف منطقيَّاً أن يجري لكل علم يُراد معرفته للتَّمكُّن من الاستفادة العلميَّة منه على ضوء ما حواه، ومن ذلك ما نحن بصدد استعراض مجمل بحوثه من بدايتها إلى نهايتها بتطبيق هذه المقدِّمات أو بعضها عليه، بعد الاستعانة بالله والتَّوكُّل عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل -

لزمنا الخوض في ابتداء الكلام عن ذي المقدِّمة، وهي مبادئ مباحث الألفاظ الَّتي مطلعها الكلام عن الوضع للألفاظ المعنونة لما يبحث فيه عادة من مضامين المسائل المطروحة، لتكون معبِّرة بعد الفراغ من البحث فيها عن احدى القواعد الأصوليَّة الممهِّدةللاستنباط أو المؤسَّسة له ونجاح ذلك فيها ثمَّ تتلوها الأخرى وهكذا تباعاً.

وقبل ممارسة ذلك لابدَّ من التَّنبُّه إلى الغاية لعلم الأصول بعد عدم ذكر الشَّيخ قدس سره صراحة لها، لما كنَّا قد أسلفنا عنه في تصدِّيه في كفايته بأنَّها يمكن اصطيادها ممَّا ذكر عن المشهور وكذا عن جنابه قدس سره في التَّعريف، وهو ما يصلح أن يطلق عليها قول (غاية علم الأصول هي معرفة القواعد الَّتي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط أو التَّي ينتهي إليها في مقام العمل)، لتصلح الممارسة لما يأتي بعد العلم بالغاية.

ص: 172

(أقسام الوضع من حيث المناشئ)

وبعده نقول:

إنَّ من جملة مبادئ المباحث اللَّفظيَّة الَّتي أدرجت في المسائل الأصوليَّة هي مسألة معرفة حقيقة الوضع أي وضع اللَّفظ وجعله لمعناه، لاعتياد الأصولييِّن على ذكر الوضع في المقام، نظراً إلى أنَّ المباحث اللَّفظيَّة إنَّما تتعقَّل بمعرفة دلالة اللَّفظ على معناه ودلالة اللَّفظ على معناه لا تكون إلاَّ بالوضع عادة نظامية، سواء في كلام الوحي أو السنَّة والآدميِّين.

فإذن وجب معرفة الوضع أوَّلاً لنعرف كيفيَّة الدِّلالات عن هذا الوضع بعد معرفة علاقة الوضع بالألفاظ ودلالتها، لأنَّه محورها بين العقلاء ولو في الجملة، كبدايات الرَّبط بين اللَّفظ والمعنى لا دائماً على ما سوف يجيء، وهو انسجام اللَّفظ مع المعنى بقوَّة وإن لم يمنع من تعدُّد الواضع في طول التَّأريخ وعرضه.

(الوضع التَّعييني والتَّعيُّني والاستعمال في كل منهما)

ثمَّ اعلم إنَّ القوم السَّابقين على أمثال الشَّيخ الآخوند قدس سره منهم من عرَّف اللَّفظ بأنَّه (تخصيص اللَّفظ بالمعنى) ومنهم من عرَّفه ب- (تخصُّص اللَّفظ بالمعنى).

نظراً إلى أنَّ التَّعريف الأوَّل تخصَّص بخصوص الوضع التَّعييني، لأنَّه ما جاء إلاَّ بوضع واضع وجعل جاعل.

والتَّعريف الثَّاني تخصَّص بخصوص الوضع التَّعيُّني الحاصل، بسبب كثرة الاستعمال للَّفظ في المعنى ولو مجازاً لا بسبب الواضع أو حتَّى الواضع الواحد وإن بدأ أوَّلاً منه بغفلة عنه.

ولعدم وضوح الرؤية المميِّزة لأحد الرَّأيين على الآخر - ولو من حيث الأساس

ص: 173

ووجود كلتا الحالتين في كلام الوحي وكلام المعصومين أنبياء ورسل وأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ بعد ورود النُّصوص من الجانبين وفي كلام سائر الآدمييِّن وبما لم يمتنع عن تعقُّله كافة العقلاء الأدباء -

خالف الشَّيخ قدس سره، بل عدل عن كلام السَّابقين في هذا الوضع من العلاقة بقوله عنه (هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه به تارةً، ومن كثرة استعماله فيه أُخرى)(1).

أقول: فلا يستبعد هذا الرَّأي للحالتين وإن لم يكن التَّعيين مرتبطاً بالاستعمال المستمر على أحد الآراء والتَّعيُّن بكثرة الاستعمال بعد ابتدائه بالكثرة وإن كان أساس وضعه مصادفة وبلا مناسبة حتَّى قبل أوان المدنيَّة من تحركُّات بعض الأفواه بواسطة الصَّوت وتحرُّك الألسنة وحروف الحلق.

وقد سار تقريباً على هذا النَّهج من التَّعريف السيِّد المقدَّس الشَّاهرودي قدس سره.

وفرَّع الشَّيخ قدس سره على هذا قوله الآخر (وبهذا المعنى صحَّ تقسيمه إلى التَّعيينيوالتَّعيُّني) لعدم إمكان نكران الحالتين وهما الاعتياديَّتان في الوجدان وعلى الدَّوام.

(تجلِّي معنى الوضع بين ما قيل وما يُقال)

وبما مرَّ من المعنى يتجلَّى معنى الوضع إضافة إلى ما سيجيء من نفي المانع.

وبما مرَّ أيضاً من المخالفة الظاهرة عند من يراها بالدقَّة كذلك تكون من الشَّيخ قدس سره للمشهور القديم مخالفة سادسة.

ولعلَّ سبب هذه المخالفة للمشهور إذا كانت سطحيَّة هو الَّذي جعل كلا الوضعين تعيينيَّاً وتعيُّنيَّاً صحيحاً عند الشَّيخ قدس سره وعندهم، وحينما كان كلا القبيلين من المشهور

ص: 174


1- كفاية الأصول ص9.

أيضاً ممَّا قد لا يمنع أحدهما الآخر ممَّا صحَّ عنده من التَّعيين أو التَّعيُّن وكأنَّهما عند القبيلين كما عند الشَّيخ قدس سره وعلى الأخص لو كان كل منهما في الأساس من وضع واضع ثمَّ ازداد أحدهما الآخر بالغفلة عن التَّعيين من كثرة الاستعمال، وقد يجعل المكثور عند قوم تعيينيَّاً من واحد، وقد يجعل الأحادي عند آخرين مكثوراً تعينيَّاً ولو مجازاً وإن كان قد حصل ذلك في الكتب الأدبيَّة بنحو الإجمال الَّذي لم يكشف عن شيء حتَّى الآن من بواطنه، ولعلَّ المخالفة في هذه السَّطحيَّة غير جليَّة.

أمَّا المخالفة الواقعيَّة الدَّقيقة لو كانت فلم نتناسب مع ما صحَّحه الشَّيخ من الوضعين وبالأخص لو اقتضت الحاجة شيئاً ممَّا قد يتصوَّر ولو اشتباهاً من الممنوع إلاَّ إذا كان القائل لأحد القولين دوماً يمنع الآخر.

وهذا لم يثبت لأنَّ الكثرة الاستعماليَّة قد تظهر مألوفة من الواحد الغافل عن الجعل والتَّخصيص أو الأكثر ولم يتفطَّن الجميع إلاَّ إلى خصوص هذه الكثرة لا إلى التَّعيين والجعل، وبهذه الواقعية تتجلَّى المخالفة للمشهور أكثر.

وقد قيل في تعريف الوضع قول آخر وهو ما عن النَّهاوندي قدس سره في تشريح الأصول(1) والمحقِّق الحائري قدس سره في درر الفوائد(2) والشَّيخ النَّائيني قدس سره في أجود التَّقريرات(3) وأغا رضا الأصفهاني قدس سره في وقاية الأذهان(4) والسيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره في المحاضرات(5) بما مضمونه ومحصَّله (إنَّ الوضع عبارة عن التَّعهُّد والالتزام القلبي من الواضع بأنَّه متى أراد إفهام معنى خاص تلفَّظ بلفظ مخصوص).

ص: 175


1- تشريح الأصول : 47.
2- درر الفوائد 1: 4.
3- أجود التقريرات 1: 12.
4- وقاية الأذهان: 62، ط آل البيت.
5- محاضرات في أصول الفقه1 : 38 و43.

لكن هذا القول قابل للرَّد من وجوه نقتصر على واحد منها فقط:

وهو أنَّ الوضع من الفعل والالتزام من الانفعال، فلا يمكن تعريف أحدهما بالآخر وذلك من جهة تعريف المباين بالمباين، لأنَّ الفعل غير الانفعال.

إذ كيف يصنع الإنسان قاعدة أصوليَّة ويعاهد نفسه على الالتزام بها، وهو ممَّن قد يكثر اشتباهه بجعلها في طريق استنباط الأحكام في قبال شرع الله تعالى الجاعل لتلك المدارك، وإن جهل بعضها أو الكثير من دقائقها للاجتهاد فيها أصوليَّاً ولو أطلقنا على بحوث تلك الأصول بالصِّناعة.

لأنَّ كثيراً من الاجتهادات الصِّناعيَّة قد تخرج بعض أصحابها عن طور نتائج الفقه الاستدلالي الشَّريف زحفاً نحو أطوار بعض القياسات المرفوضة ولو اشتباهاً أو لقصد محاولة التَّقريب بين المذاهب الأخرى وخوف الوقوع في التَّشريع المحرَّم.

وهو غير ما قلنا في فقهنا الاستدلالي والعملي من وجوب التَّعهُّد والالتزام في تقليد المجتهد الجامع للشَّرائط.للفرق بين هذا الموقف الأصولي الصِّناعي الَّذي قد لا يخلو من بعض السَّطحيَّات والاشتباهات وبين ذلك الموقف الفقهي المليء صاحبه بالرَّصانة الفقهيَّة الجامعة للشَّرائط مع التَّحفُّظ عن بعض التَّوسُّعات الأصوليَّة المخيفة المتأخِّرة الأخرى.

ولو قيل: لم يكن المقصود هو خصوص وضع القاعدة الأصولية الَّتي تخرج واضعها في التَّطبيق عن الصَّدد الشَّرعي، بل مرادنا هو عهد المؤمن مع الله على أمر من الأمور المشروعة، فلابد أن يلتزم به لما ورد (المؤمن إذا وعد وفى)(1) وغيره وهو شرعي.

فنقول: إنَّ المراد من الوضع المناقش فيه هو مطلق الوضع على الأساس الأصولي الصِّناعي البعيد عن الشَّرعيَّات المؤكدَّة فتواءيَّاً تقليديَّاً وإن كان علميَّاً معدَّاً لخدمتها.

وعلى هذا الأساس الَّذي ذكرناه من تعريف الوضع تعيينيَّاً وتعيُّناً ولو غفلة ونحوها

ص: 176


1- دعائم الإسلام ج1 ص 64.

في التَّعيُّن وعلى ما مرَّ ذكره من الاستعمال في كلا القسمين وما يرتبط به من صحَّة اطلاق (سمَّيت ولدي هذا عليَّاً) وصحَّة اطلاق (ناولوني ولدي عليَّاً) بتسميته الجديدة وما سيأتي ذكره من ارتباط الدِّلالة بهذا النَّوع من الأوضاع وصحَّة الاستفادة من معانيها يمكن القول بأنَّ تعريفه بما مرَّ ذكره بين غيره من التَّعاريف مع جلالة قدر أصحابها مع كون المسألة لغويَّة مقدَّم عليها.

المبحث الحادي عشر

من هو الواضع للألفاظ

ولهذا الأمر جاء الخلاف بينهم في أمر الواضع للألفاظ في البداية بأنَّه من هو؟ هل هو الله تعالى؟ أم البشر؟ أم الاثنان الآمر ودعاة التَّطبيق والحكاية ومن وراءهم بقيَّة البشر أو المكلَّفون؟

فالأمر وارد فيه قولان:

الأوَّل: إلهيَّة الوضع

وهو ما لا يمكن قبوله بتفاصيله الكاملة، لئلاَّ يكون كلام كل البشر - على اختلافهم بين الأنبياء والرُّسل وبقيَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وغيرهم من سائر النَّاس الآخرين - وحياً وقرآناً، وهو غير معقول.

لأنَّه لو كان كذلك لانعكس على أفعالهم وكان كلُّهم صلحاء، بينما الوجدان لا يدل إلاَّ على التَّفاوت بين صلحاء وغيرهم.

بل قال الوحي في أكثر من آية في ذمِّه البالغ للعصاة من حيث الكم كقوله تعالى

ص: 177

[لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ](1) وقوله [وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ](2).

ولم يستثن أحداً في لغات النُّطق إلاَّ تمكين عموم البشر على النُّطق والتَّداول التَّفاهمي من غير الوحي مع نزول أوامر التَّشريع المستقلَّة لتطبيقها ونواهيه كذلك للتَّجنُّب عنها وغير ذلك من الله على الأنبياء والرُّسل حسب.

وكذلك من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في سنَّته الواردة عن عترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ المرتبطة بصميم الوحي وجوهره، ومن دون أن يكون هذا التَّمكين في كل شيء حتَّى بما لا يتساوى مع معنى الجبر فقط أو التَّفويض كذلك، بل في خصوص ما سوف يتجلَّى عرضه من معنى المنزلة بين المنزلتين إن شاء الله، كما سيتَّضح في الموضوع الآتي.

الثَّاني: بشريَّة الوضع

وهو بناءاً على أنَّ الحاجة أم الاختراع مع سبق القدرة والقابليَّة على النُّطق في البشر إلهيَّاً كما سبق، لكن التَّفاصيل لا تتناسب كلُّها مع البشر كذلك، لكون الكثير منها تشريع، لا مجرَّد الكلام اللُّغوي التَّفاهمي.

وأنَّ التَّكويني لا يمكن في البشر إلاَّ بسبق إذن منه تعالى كإنطاق البشر البُكم أو إنطاق النَّاطقين بلا إرادتهم أو تسبيح الحصى في يد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وغير ذلك، مع دوام سيطرته تعالى على ألفاظه، لدوام قدرته على التَّحديد لتصرُّفاتهم وبما فصَّلناه في المعنى الأوَّل، وإلاَّ يكون الأمر كما في الآية [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ](3)، وهو ممنوع، لأنَّ الَّذي غلَّت يده هي أيديهم كما ورد في الآية الَّتي بعد ذلك.

وممَّا دعى إلى هذا التَّفاوت النَّظري حول ذلك هو نزول آيات شريفة حكت عمَّا

ص: 178


1- سورة الزخرف / آية 78.
2- سورة ص / آية 24.
3- سورة المائدة آية / 64.

قبل المدنيَّة في العالم كقوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(1)] وقوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ](2) وقوله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ](3) وقوله [وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ](4).

حيث ورد في تفسير المراد من الآية الأولى أنَّه أسماء الله تعالى الحسنى، أو أنَّها أسماء اللُّغات، أو أنَّها مسمَّيات اللَّغات.

وأنَّ [علَّمه البيان] في الآية الثَّانية بمعنى فهَّمه كيف ينطق ابتداءاً بمعونة الإلهام للتَّطبيق والتَّفريع فيه، وهو المناسب لمعنى أنَّ الحاجة أم الاختراع، وهو المعوَّل عليه تجربيَّاً عمليَّاً ولو في الجملة الظَّاهريَّة، حينما لا يتنافى هذا الأمر مع أسماء الله في المشتركات غير الخاصَّة بالله تعالى.

وعن الآية الَّتي بعدها حول جعل لسان الأنبياء والرُّسل لابدَّ أن يكون مطابقاً لما يفهمه أقوامهم من الأوامر والنَّواهي، وإلاَّ لا يكون مطابقاً لمقتضى المقام، بل يكون من قبيل الإغراء بالجهل إلاَّ بعد تعليمهم تلك اللُّغة ليفهموا مقاصدها.

وهو أمر لا تساعد عليه الفوريَّة المحتاج إليها في بعض الأحوال، بل هو معنى ما شاع عن الأصولييِّن بقبح العقاب بلا بيان ليعملوا به.

بل من هنا أثيرت شبه الأعداء بأنَّ الوحي من اختراع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم دون صميم الوحي؟

فرُدُّوا: بخوارق الإعجاز المعنويَّة والبيانيَّة ونحوهما، كما شهد بهذا الإعجاز الوليد

ص: 179


1- سورة البقرة آية / 31.
2- سورة الرحمن آية / 3 - 4.
3- سورة إبراهيم آية / 4.
4- سورة الشُّعراء آية / 84.

ابن المغيرة (لع) المعادي وغيره، بل ليصدَّقوا بهم كما في الآية الأخرى الرَّابعة.

ومن ذلك السنَّة النَّبويَّة المحاطة بالحفظة وهم العترة إذا جعلناها أو بعضها غير خارجة عن كلام الآدميِّين من حيث القدرة على فهمها، لكونها قطعيَّة الدِّلالة.فلم يظهر من الجميع المعنى البارز المسيطر من بين القولين الماضيين من هذه الآيات وأمثالها، إلاَّ ما يتعلُّق بصولة المكوِّن والمشرِّع تعالى مع ديمومته رقيباً عتيداً على سائر العباد وفي تصرُّفات خير المعصومين من البشر إسناداً وتسديداً لهم.

ومن ذلك أمر لغاتهم الَّتي حلَّ بسببها الاهتداء إلى الحق في القلوب وبأفضل الطرق والأساليب.

لكن يمكن تصوُّر الأمر المعقول ولو من عدم امتناعه ودخوله في بقعة الإمكان، بل الَّتي لا تخلو من المصداقيَّة.

وهو معنى ما يقبل الاشتراك اللَّفظي بين الخالق وخواص المخلوقين من البشر، لإيصال أنباء السَّماء لبقيَّة الأمم بواسطتهم، لأنَّهم خير الوسيلة بين الأمم وبين الله أو بينه وبين عمومهم في أمور عموم التَّداول اللُّغوي وإيجاد الاصطلاحات اللُّغويَّة الأصوليَّة.

وهو غير بعيد عمَّا نريده من الهدف المنشود وهو ما لا يبتعد في جملته المألوفة أيضاً بل المفصَّلة بعد المدنيَّة المنتشرة.

ونحن لم نذكر الكلام عن الواضع في المطلب السَّابق المعد (حول بقيَّة الرؤوس الثَّمانيَّة)، للاقتراب من البحوث الصِّناعيَّة.

بينما مناسبة الكلام هناك أقرب إلى أن تكون مع المشرِّع تعالى لا خصوص الصِّناعي.

ص: 180

المبحث الثَّاني عشر

توجيه معنى الوضع الذَّاتي وغيره

ومن هنا لابدَّ من معرفة أنَّ وضع الواضع للألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة هل كان لعلاقة ذاتيَّة في نفسها جاءت لوحدها بين اللَّفظ والمعنى، دون تصدِّي هذا الواضع ولكن تفطَّن لها بعدما حلَّت أو انكشفت المناسبة ووضع الألفاظ لها جعلاً أو كشفاً، وبأنَّ ما تحمله من المناسبة من أوَّل الاستعمال أو من الأكثريَّة فيه؟ أو حتَّى من آخره كشفاً؟

أم لمناسبة يختارها الواضع من نفسه تعييناً ثمَّ تتَّضح المناسبة منه شيئاً فشيئاً؟ أولم يتَّضح باختفائها شيء؟ وتبدوا أخرى تعيُّناً؟

أم كانت مرتجلة بدون مناسبة ثمَّ نشأت الرَّوابط تعيُّناً حقيقة عن طريق التَّفاهم حتَّى ظهرت القواعد؟

أم كانت مجازيَّة في التَّعيين أو في التَّعيُّن عند قرائن المجازيَّة أم لا؟ كالمجعولات المهجورة الَّتي لم يعرف واقعها لغويَّاً وإن حفظتها بعض القواميس.

فنقول ممَّا يحضرنا في الجواب بعد هذا الرُّكام من التَّساؤلات المتعدِّدة:

إنَّه بعد الكلام عن خصوص الواضع والجاعل من هو.

قد ينقدح في الذِّهن ما يصل معنى ما قد يكون الوضع أو الموضوع بحاجة إلى معرفته بدقَّة أكثر كارتباط اللَّفظ بالمعنى للمناسبة الذَّاتيَّة المحتملة.

لورود بعض الأدلَّة وأن يُقصد منها جميع الألفاظ، إلاَّ أنَّه قد يصطدم الواقع بالواضع، فأين يكون دوره تجاه ذلك؟

أو لمناسبة يختارها الواضع، لكن قد يتصرَّف آخرون بهذه اللَّفظة نفسها أو تلك لنفس المعنى صدفة بما لم يعلم ذلك من قصد القاصد الأوَّل في وضعه أو من غيره

ص: 181

حقيقة أو مجازاً أو لا لمناسبة كالمرتجلات والمجازات المرتبطة بقرائنها حتَّى الَّذي ما قد ينشأ تعيُّناً من كثرة الاستعمال في وضع اللَّفظ من قبل الآخرين بعد الاستعمالات الأولى لنفس مقصود الأوائل أو غيره.

وهذا ما قد يحتاج إلى بسط الكلام فيه للإيضاح، فنقول كذلك:

أمَّا خصوص الأوضاع المرتبطة بين اللَّفظ والمعنى - حسب الموجود في القواميس مع غض النَّظر عن الواضع من هو؟ وكيف وضعه؟ وأين هو؟ ومتى هو؟ ارتباطها للمناسبة الذَّاتيَّة -

فهي موجودة في الجملة لا محالة، ولا يمكن نكرانها في ثنايا التَّأريخ على هذا الإجمال، ومعه القواميس اللُّغويَّة والآيات والرِّوايات الشَّريفة.

ولم نقصد من هذا الوضع ارتباطه بخصوصه بالحروف أو ملحقاتها والأسماء أو مسميَّاتها والجمل النَّاقصة والتَّامَّة حقائقها ومجازاتها وما يخص جميع ألفاظ البحوث الأصوليَّة من مباحث الألفاظ لخدمة الفقه في نصوصه الدِّلاليَّة، بل وكذا وضع الواضع الأصولي للأصول حتَّى لو خرج عن الأصول الأصيلة إلى الصِّناعة المقبولة ونتائجهاوالقواعد الشَّرعيَّة وآثارها.

إذ لابدَّ أن يتعدَّى هذا الأمر إلى ما لا ذاتيَّة فيه في غير ما مضى من حالة الإجمال.

فقصص السَّير وروايات النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ - حول أنباء السِّيرة المطهَّرة لهم وما نقلوه عن أنباء الأنبياء والرُّسل السَّابقين رجوعاً إلى حدِّ أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما حواه وضعه والأوضاع الأخرى قبل المدنيَّة وبعدها - خير شاهد على بعض المصاديق وإن لم يستوف الكل.

وقد بدأت من قوله تعالى في القرآن الكريم [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا](1) لحمله وجوهاً عديدة:

ص: 182


1- سورة البقرة / آية 31.

منها: ما يؤول بعضها إلى المناسبة الذَّاتيَّة، أو ما يقرب منها في بعض الوجوه وعلى ما في كتب التَّفسير وروايات التَّفسير والتَّأويل المدرجة في كتبنا أعني كتب الجوامع والمجامع للسَّلف الصَّالح الَّتي منها روايات أسماء الله الحسنى الخاصَّة في الله، والمشتركة بينه وبين مخلوقيه كالرَّازقيَّة والخالقيَّة والرَّحيميَّة المتفاوتة بين الشدِّة المناسبة لله والخفَّة المناسبة للعباد، ممَّا لم يضر بثوابت العقيدة الإسلاميَّة الحقَّة.

ومنها: ما صحَّ أن يكون داخلاً فيها من أسماء النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وبقيَّة المعصومين الأربعة عشر عَلَيْهِم السَّلاَمُ الَّذين اشتَّقت أسماءهم من اسم الله كرواية علاقة رسول الله محمَّد صلی الله علیه و آله و سلم بالمحمود تعالى وأمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأعلى تعالى وفاطمة الزَّهراء سلام الله علیها بفاطر السَّماوات والأرض تعالى والحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالمحسن تعالى والحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقديم الإحسان تعالى(1).

وقد وجَّه صاحب الميزان قدس سره هذا الأمر أو بعضه بما قد يكفي على إجماله لما نقصده حول الآية، وذكر رواية تناسب المقام عن كتاب المعاني عن جعفر ابن محمَّد الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ :

(إنَّ الله عزَّ وجل علَّم آدم أسماء حججه كلَّها ثمَّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال الله تبارك وتعالى: "" [قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في

ص: 183


1- هذا مضمون الرِّواية عن علي ابن الحسين ( عَلَيْهِما السَّلاَمُ عن أبيه عن أبيه عَلَيْهِم السَّلاَمُ عن جدِّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حول الأشباح الَّتي رآها آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في ذروة العرش ثمَّ دعا بهم فتاب عليه وغفر له. انظر تفسير العسكري : ص 219 - ينابيع المودة : 1/ 95 - تأويل الآيات الظاهرة : 1/44 - ح19 - البحار :11/150 - ضمن ح 25 و 26/ 337 - البرهان: 1/88 - ح13 - فرائد السِّمطين: 1.

أرضه وحججه على بريته""، ثمَّ غيَّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم :[أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] فراجع(1).

وهكذا الباقون المرتبطون بأهل العصمة عقيدة وعملاً، لأنَّهم امتداد لذلك الجوهر الواحدوتفرَّعوا عن هذه الأسس الطَّاهرة والثَّوابت الزَّاهرة انطلاقاً من كونهم جميعاً من النَّور الواحد تأسيَّاً بأوائلهم وابتغاءاً لوسيلتهم.

وهكذا بقيَّة الأسماء الَّتي لبعض الآخرين إقتداءاً بمن سبقهم من المعصومين الأربعة عشر عَلَيْهِم السَّلاَمُ ممَّن سمُّوا بأسمائهم، للانسجام الإيماني الكامل بينهم وبين أئمَّتهم وأولياءهم.

وهكذا المسميَّات والمعاني ومختلف ألفاظها حتَّى الحروف وملحقاتها، ممَّا يمكن تعقُّل كونها ذات علاقة ذاتيَّة بأصحابها بسبب الجامع الإيماني.

بل قد تنشأ من ألفاظ أخرى مناسبة كقول الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمَّا صُرع الحر ابن يزيد الرِّياحي شهيداً مهنِّئاً له (أنت حر كما سمَّتك أمُّك حرٌّ في الدُّنيا وسعيد في الآخرة) وغير ذلك.

وإن كان الاسترسال في هذا الأمر قد يخرجنا عن طور بحوثنا العلميَّة الأصوليَّة بعض الشَّيء ما دمنا في غير تحفُّظنا عن الإكثار فيه بدون مناسبة.

فالذَّاتيَّة قد تعقل إمَّا لما ذكرناه من الرِّواية الذَّاكرة لمناشىء تسمية المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والرِّوايات المناسبة الأخرى الخاصَّة والعامَّة.

وإمَّا من جهة حسن الصُّدفة الحاصلة من ذلك بين الاسم والمسمَّى من المناسبة، ثمَّ يتعارف وضعها أكثر عند المألوفيَّة الأكثر حين التَّطابق الخارجي كما سبق ذكره وإن كان في آخر ساعة من الحياة.

ص: 184


1- الميزان في تفسير القران ج1 ص114 - 121.

وإمَّا من اتِّباع آيات وروايات نصائح التَّربيَّة النَّبويَّة والإماميَّة للأمَّة في تسميتهم لأبنائهم، كقولهم من طرقنا وطرق الآخرين في الحديث الشَّائع (خير الأسماء ما حمِّد وعبِّد)(1)، للأفضليَّة الَّتي قد يتوصَّل عن تطبيق أمرها إلى الموضوعيَّة ولو تدريجاً.

أو للموضوعية الكامنة في هذا الحديث - والَّتي لا تبتعد عن الذَّاتيَّة ولو بنشؤها بعد حين - وفي أحاديث المنع ممَّا يستقذر من الأسماء المبغوضة المعروفة من قباحة أعمال رجالها حتَّى ورد المنع عنها - أو قباحة نفس الأسماء وإن كان المسمَّى لا عيب فيه - تجنُّباً عن سيرة الجاهليَّة ذات التَّعلَّق حتَّى بأسماء البهم الحيوانيَّة أكثر من أطوار الحضارة المدنيَّة.

لتكريم أهل الفطرة السَّليمة من بني آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ](2).

إضافة إلى إسناد هذا الشَّائع من روايات (من بلغه ثواب على عمل)(3) كتسمية البعض باسم الحارث ومروان وغيرهما.

وقد تكون ذاتيَّة هذا الارتباط منطلقة من اتِّباع روايات استحباب تحسين الاسم حتَّى لو كان المسمَّى غير جميل في مظهره الخارجي إدراكاً لجمال وواقع المسمَّى الإيماني لقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](4) ليتناسب الاسم المحسَّن مع واقع المسمَّى الإيماني مع الذَّاتيَّة المأنوس بها ولو في أحد الوجوه.

ولكن هذا وإن كان موجوداً بمعانيه فهو في واقعه لم يتجاوز عن الإجمال المقدَّر له

ص: 185


1- فعن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، قال : أصدق الأسماء ما سمّي بالعبوديّة، وأفضلها أسماء الأنبياء، الوسائل : ج15 ص124 ح1.
2- سورة الإسراء / آية 70.
3- ثواب الأعمال - 1/160.
4- سورة الحجرات / آية 13.

حسب سعينا وسعي السَّاعين لإحصاء كل معانيه أو ما أمكن منها، لأنَّ الحقيقة في الإجمال الكافي الَّذ ي ذكرناه لا أكثر، لأنَّ الذَّاتيَّة وإن كنَّا قد عرفناها بما مرَّ بما لا يمنع من ارتباط الذَّاتيَّة بالمكوِّن تعالى تكويناً وتشريعاً بواسطة الوحي مثلاً.

إلاَّ أنَّ الذَّاتيَّة الخارجة في معناها عن قدرة المكوِّن والمشرِّع تعالى بما يناسبه لم تكن بمعقولة فهي بعيدة، إضافة إلى نقطة الخلاف بين الكلاميِّين وغيرهم عن قِدم كلام الله وحدوثه - حذراً من تعدُّد القدماء - وأنَّ الله تعالى يكون محلاًّ للحوادث ممَّا سيأتي، وإن أشرنا إلى ذلك من المحاذير الَّتي يجب الانتباه لها.

تبقى الذَّاتيَّة المعقولة والمقبولة بما بينَّاه من مثل نصوص الوحي ونصوص السنَّة الصَّحيحة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والمعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ وأسماء الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ والزَّهراء سلام الله علیها بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم تمتاز عن غيرها بوجوب احترامها وعدم جواز التَّحريف لها وعدم جواز مسِّها إلاَّ بعد الطَّهارة بما هو مفصَّل في الفقه.

وأمَّا ما كان من مناسبة ما يختاره الواضع الآخر فهو معقول بمَّا بينَّاه وكما وجَّهناه أيضاً في الذَّاتيَّة بمعناها الرَّابط بين الاسم والمسمَّى الَّتي جاءت لوحدها ثمَّ حصلت مألوفيَّتها البالغة عن كثرة الاستعمال تعيُّناً.

ثمَّ إنَّ المناسبة الذَّاتية في الوضع إن كانت بوضع واضع حسبما شرحناه من معاني ذلك، أو من دون وضع واضع كالمصادفات المقولة على الشَّيء من دون قصد، وإنَّما هي من مصاحبة لفظ لمعنى قد لا يعرفه اللافظ وإنَّما قاله إلهاماً لا إراديَّاً ثمَّ تشكَّلت العُلقة بين النَّاس حتَّى صارت لها مناسبة حتَّى قيل لقوَّتها في التَّعلُّق بأنَّها ذاتيَّة مع إمكانها فهي محتملة فيما مرَّ من الإجمال.

كل ذلك نقدر أن نقول عنه: بأنَّه من الوضع الحقيقي في أساسه إذا كان بلا قرينة لتبادر المعنى إليه - ومن المجازي مع حاجته إلى القرينة.

وقد يكون الوضع بلا مناسبة كالمرتجلات في بداية أمرها، وقد تقلب بعض الحقائق

ص: 186

فتهجر الأولى وتشاع الأخيرة.

وإلى غير هذا ممَّا سيأتي من العناوين اللَّفظيَّة عند حلول مناسبتها الأصوليَّة من المباحث الأصوليَّة الأخرى الآتية كمبحث الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة ونحو ذلك، فستأتي تباعاً بعد الفراغ من سلالة ما بأيدينا.

المبحث الثَّالث عشر

القِدَم والحدوث القرآني وألفاظ آيات الأحكام

مناسبة البحث

إنَّ الكلام عن آيات الأحكام هو كبقيَّة ألفاظ القرآن الكريم الَّتي حصل النِّزاع فيها بين المسلمين قديماً - وهم الأشاعرة والعدليَّة من المعتزلة والإماميَّة - حول القِدَم والحدوث، مع إجماعهم - أو حصول التَّواتر فيما بينهم - بأنَّ ما بين الدَّفتين هو كلام الله حقَّاً.

علماً بأنَّ حديثنا الآن أصوليَّاً عن قِدم ألفاظ المدارك كتاباً وسنَّة أو حدوثهما، وهو ممَّا يتناسب والمقام وإن تتفاوت العقيدة عن المبادئ الأصوليَّة، لأنَّ كل علم له طريقه وطريقته.

فقالت الأشاعرة - جماعة أبي الحسن الأشعري تبعاً لصاحبهم - بقِدَم كلام الله، بل نقل القوشجي عن بعض العامَّة وهم الحنابلة القول بقِدَم ما بين الدَّفتين حتَّى الجلد والغلاف، وهو ما معناه صحَّة هذا القول عندهم حتَّى لو أدَّى إلى قبول الجسميَّة في ذات الخالق تعالى.

وفي مقابل ذلك قول الكراميَّة، وهو أنَّ الحروف والأصوات حادثة قائمة بالذَّات.

وقالت العدليَّة من المعتزلة وهم جماعة واصل بن عطاء - تبعاً لصاحبهم - ومعهم

ص: 187

الإماميَّة تبعاً منهم لمدرسة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ بحدوث هذا الكلام، انتصاراً للعدل الإلهي البعيد عن الجبر والتَّفويض(1).

ولإيضاح المناسبة بما هو أنسب نقول:

بأنَّ هذا البحث وإن لم يكن كبير الأهميَّة في مقام أطروحتنا الأصوليَّة من هذا المدخل لبحوث آيات الأحكام أصولاً وفقهاً وإنَّما هي في الجملة - وإن كان مهمَّاً من حيث نفسه عقائديَّاً - لارتباطه بالجانب العقائدي أكثر.

إلاَّ أنَّه للوصول إلى كون الحجيَّة فيها ثابتة في خصوص تشخيص حالة الحدوث الأنسب لهذا القرآن وآيات أحكامه.

لا القِدَم من حيث انسجامه مع العقيدة الحقَّة بعدم تعدُّد القدماء لو قلنا بالقِدَم وانسجامه مع الشَّرع فقهاً وأصولاً بما يرتبط بالوحي الحادث من القوَّّة الإلهيَّة الخارقة بإحداث الكلام الَّذي يقدر على بيانه الوحي للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لئلاَّ يكون الله محلاًّ للحوادث.

فإنَّ مدركها بعدما صحَّ أنَّه هو الوحي الثَّابت، وهو فوق مستوى كلام الآدميِّين، وبه اتَّضحت الوسطيَّة.لأنَّا لو رجعنا إلى قول الأشاعرة كما يريدون وكما سيتَّضح أكثر بأنَّ قولنا بأنَّ هذا الكلام قديم وأردنا منه الكلام النَّفسي الآتي واتَّضح لنا بعد التَّدقيق الآتي تفسيره بأنَّه من الخيال المحض فهو الَّذي سوف يكون ممَّا لا حجيَّة فيه حين ذكر أدلَّتهم ونقضها.

إضافة إلى ناحية تسبيب هذا ضعف حجيَّة هذا الكلام الَّذي ما بين الدَّفتين، بينما الحجيَّة هي الكاملة فيه على رأينا نحن الإماميَّة.

وقد أشبعنا الكلام في بيان حجيَّة النُّصوص والظواهر القرآنيَّة سابقاً في بعض المواضيع السَّابقة ،لكونها تابعة لوحي الله الإعجازي من آيات أحكامه، ممَّا لا داعي إلى الإطالة فيه.

ص: 188


1- راجع كتاب النَّافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر - العلامة الحلي - الصفحة 46.

سبب النِّزاع في القِدَم والحدوث بين المسلمين

هو الفلسفة اليونانيَّة وأسباب أخرى

ومن أسباب النِّزاع بين المسلمين - أهل كلمة لا إله إلاَّ الله محمَّد رسول الله وأهل القبلة الواحدة والنَّبي الواحد والقرآن الواحد والجوامع المشتركة الكثيرة الأخرى وللأسف الشَّديد المؤلم عندما نشاهد التَّفرُّق والتَّشتُّت بين المسلمين -

هو دخول أو إدخال الأفكار الأجنبيَّة البعيدة عن قيم السَّماء، حتَّى الَّتي سبقت الإسلام العزيز في بعض ما بقي منها من دون تحريف وغزوها لنا في عقر دارنا الإسلامية الواسعة ومن دون تضخيم في الرَّدع المناسب وحتَّى منذ بداية نشوء المدارس العلميَّة الإسلاميَّة وإن كان من استضعاف الأعداء لنا طوال أوقات غير قصيرة كتبشير المبشِّرين وغزو المستشرقين اليوم بأفكارهم المحرَّفة الأخرى.

ألا وهي أفكار فلاسفة اليونان الَّذين غزونا آنذاك وتأثَّر بأفكارهم كثير من المسلمين الَّذين تطرَّفوا وما التزموا بتنفيذ وصية النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بحفظ تمام الثَّقلين.

بل رحَّبوا بتلك الأفكار المستوردة ليضيفوها إلى سمومهم النِّفاقيَّة الانتقاميَّة وفضَّلوها في تحليل القضايا وتعليلها سفسطة على مبادئ المبدأ السَّماوي الأعظم والَّتي أهمُّها ما يتعلَّق بفلسفة كلام الله وكتابه المقدَّس.

وإن كان ذلك التَّحليل أو تلك التَّعليلات قد نتجت من أهل العقول الأجنبيَّة تهرُّباً من صميم المبادئ السَّماوية حينما تتَّسع آفاق أفكارهم الشَّيطانيَّة المليئة بالشُّبهات والأوهام، حتَّى أصرُّوا على ترك العترة وقالوا مقولتهم المعروفة (حسبنا كتاب الله)(1) - حينما عرفوا أنَّ إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة والتَّحليل والتَّعليل الصَّحيحين لا يكونان

ص: 189


1- البخاري / ج: 8 ص: 138.

ناجحين بالعقل السَّديد إلاَّ بإتِّباع العترة مع الكتاب - جهلاً وعناداً.

بل انقلاباً على الأعقاب وقد كانت الأساسيَّات منهم سلفيَّة سبقت هذه الأحداث وفي تفصيلها شجون وألآم كما هو معلوم ومدوَّن في الكتب التَّأريخيَّة العامَّة والخاصَّة، ثمَّ توسَّعت هذه المنازعة بين المسلمين إلى منافرات عدائيَّة طويلة أوصلت إلى القتل والفتك واستباحة الدَّم واغتصاب الأرض والعِرض وإلى آخره.

ولعلَّ من الذي أهاج هذا النَّزاع واحتدامه وأزَّمه أو ساعد عليه هو إحراج المأمون العبَّاسي "لع" علماء زمانه بامتحانه لهم في أمر كون القرآن هل أنَّه كان مخلوقاً أم غير مخلوق؟

ولعلَّ تسمية علم أصول العقائد بعلم الكلام انتشرت بسبب هذه القضيَّة الواقعة في النِّزاع ،حيث أنَّ أوَّل مسألة طرقوها آنذاك هو أنَّ كلام الله هل هو قديم أو حادث؟

وعن تحقيق هذا الأمر عن الكلام المبارك يتم الارتباط الصَّحيح عقائديَّاً وشرعيَّاً، وبه تتبيَّن المناسبة الأنسب في هذا الموضوع عن الأصول الفقهيَّة.وقد ذكر بعض المؤرِّخين أنَّ من الأسباب قول الشَّاعر المعروف بالأخطل:

إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنَّما

جعل اللِّسان على الفؤاد دليلاً

كما أنَّ من جملة ما حرَّك أذهان المسلمين إلى محاولة التَّدقيق في هذا الأمر هو بعض الآيات القرآنيَّة النَّاطقة بما يدلَّ صريحاً على كون القرآن هو كلام الله كقوله تعالى [وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا](1) وقوله [حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ](2).

مع العلم بعدم وجود تلازم ثابت بين الكلام المنسوب إليه تعالى لو تأمَّلناه في نظرته السَّطحيَّة في أن يكون هذا المنسوب يجب أن يكون من خصوص الذَّات أو من الأفعال أو ممَّا هو أبعد من ذلك كما سيتَّضح، فاحتيج إلى التَّدقيق في هذا الأمر.

ص: 190


1- سورة النساء / آية 164.
2- سورة التوبة / آية 6.

ولهذا ولأمثاله أنشئت الفلسفة الإسلاميَّة آنذاك بعدما كانت أصولها باللُّغة اليونانيَّة.

وهي وإن كانت في بعض غايات إنشاءها للانقضاض على معاهد الفلسفة اليونانيَّة، إلاَّ أنَّ آثار ذلك الغزو والتَّأثير المشؤوم لم يترك الأمور على بساطتها بل أنشئت معها أيضاً هذه المشاكل وأمثالها ممَّا بين المسلمين أنفسهم ممَّا حصل ما بين الأشاعرة ومن عارضهم، ومنهم من وُفِّق للهدى والسَّير على منهجه كاملاً حرصاً على مذهب الحق.

توضيح حول انقسام المسلمين

إلى الأشاعرة والعدليَّة من المعتزلة والإماميَّة

فانقسمت الأمَّة إلى قسمين:

أحدهما الأشاعرة، فقالت بأنَّ كلام الله قديم بقِدَم الله.

لأنَّه كان في نظرهم أنَّه لابدَّ وأن ينقسم إلى قسمين لفظي ونفسي، والنَّفسي هو القائم بذات الله والقديم بقِدَمه، ولذا يكون إحدى صفاته الثُّبوتيَّة الذَّاتيَّة، فلابدَّ من أن يكون الكلام عندهم قديماً وهو هذا النَّفسي دون اللفظي.

الثَّاني: وهم العدليَّة من المعتزلة والإماميَّة فذهبوا إلى كون الكلام حادثاً.

لأنَّه منحصر في اللفظي الَّذي نطق به الوحي المبين وأنطقه النَّبي الصَّادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم ، وإلى أنَّ هذا التَّكلُّم لا علاقة له بالذَّات وإنَّما علاقته بالفعل، وهو معنى ما يناسب الحدوث لا القِدَم، لعدم إمكانيَّة تعقُّل الكلام النَّفسي كما سيتَّضح بمعنى موجَّه كما يريده أولئك.

ص: 191

انقسام الصِّفات الإلهيَّة كلاميَّاً إلى ذاتيَّة وفعليَّة والفرق بينهما

وقبل الخوض في صميم الموضوع - لتمييز الوصف عن الموصوف ومدى علاقة الله تعالى بذلك، أو أي شيء منه من عدمه ومدى ارتباط معنى الاثنينيَّة بالنِّسبة إليه وإلى غيره، ولزوم كون الوصف بعد التَّفريق بين الخالق والمخلوق -

لابدَّ وأن ينقسم الوصف إلى ذاتي وفعلي حتَّى تصح النِّسبة بدقَّة مقبولة.

فنقول: إنَّ الصِّفة لا تكون مناسبة للموصوف أيٍّ كان إلاَّ إذا ناسبت شأنه بلا أي إفراط أو أي تفريط، فإذا كان الأمر في مثل الله تعالى فلابدَّ من أن لا يتناسب القديم بقِدَم الأزمان تعالى مع تلك المجهولات الَّتي لو فرض جدلاً بأنَّها اتَّضحت في معنى وضعها، كالكلام النَّفسي محل البحث عند الأشاعرة.

ولكن لمَّا لم يتعقَّل أحد لو خلِّي وفطرته العقليَّة السَّليمة إلاَّ حدوثها - لكونها مثلاً لا يصدق عليها إلاَّ كونها مخلوقة لله بعد فرض كونها قديمة بقِدَم الزَّمان بسبب جهل حقيقتها أو العلم بها - فلا يصح نسبتها إليه تعالى، لئلاَّ يكون الله محلاً للحوادث.

أو كان الوصف قديماً فيتعدَّد القدماء، لوجوب تجنُّب معنى الاثنينيَّة، والله أحد فرد لا تعدُّد فيه.

أو كانت المجهولات ممَّا لم يتَّضح لها معنى سوى صرف ذلك الخيال من الأشاعرة. فلا حصيلة لذلك المطلوب.

وإذا فرضت مناسبة ذلك للشَّأنيَّة المرتبطة بالله فلابدَّ من عدم تصوُّر الاثنينيَّة، فراراً من الحال والمحل بالنِّسبة إليه ومن تعدُّد القدماء وانقلاب القديم إلى حادث ونحو ذلك.

ولأجل كل ذلك فلابدَّ من تقسيم الصِّفات الإلهيَّة بما اتَّفق عليه الكلاميُّون المدقِّقون إلى ذاتيَّة وفعليَّة، لمعرفة كلام الله من أي قسم يكون.

فالذَّاتيَّة: هي الَّتي يستحيل على الله سبحانه أن يتَّصف بنقيضها كالعلم والقدرة

ص: 192

والحياة، فإنَّه تعالى لم يزل ولا يزال كل شيء من تغيُّرات الأمور في المخلوقين وتقلُّباتها فيهم تحت قبضته وسعة سلطانه عالماً قادراً حيَّاً، لاستحالة أن يكون كذلك في أي حال من تلك الأحوال.

والفعليَّة: هي الَّتي يمكن أن يتَّصف بها في حال، وبنقيضها في حال آخر، كالخلق والرِّزق والرَّحمة، حتَّى لو أدَّى ذلك إلى وصول اشتراكٍ للإنسان مثلاً في بعض من ذلك معه تعالى بما يناسبه مناسبة المخلوق إلى خالقه.

ومن الخلق خلق الكلام القرآني، فيمكن أن يقال إنَّ الله تعالى خلق كذا ولم يخلق كذا ورزق فلاناً ولداً ولم يرزقه ولدين أو بنتاً أو مالاً أو خلق ما بين الدَّفتين من وحيه وكلامه ولم يخلق الأكثر وهكذا الباقي.

وبهذا يتَّضح أنَّ التَّكلُّم من صفات الله المناسبة لشأنه، ولكنَّها فعليَّة لا ذاتيَّة فيقال [كلَّم الله موسى] ولم يكلِّم فرعون، ويقال [كلَّم الله موسى] في جبل طور ولم يكلِّمه في بحر النِّيل.

ولكن هذا الكلام لم يخرج منه تعالى بواسطة جوارح مجسَّمة كما فينا، وإنَّما بسبب الإنطاق للنَّبي بالمعجز أو من الوحي أو بالمنام أو من وراء حجاب.

وباتِّضاح تشخيص الصِّفة المناسبة لله دون البشر - لكونهم هم المباشرون للتَّكلُّم - فلابدَّ من وجوب البقاء على الارتباط بخصوص ما يناسبه، حتَّى لا يشاركه البشر بتمام المشاركة.

وبما أنَّ الكلام ما هو إلاَّ المتكوِّن من الألفاظ اللغويَّة المعبِّرة عن معانيها فلا يمكن إلاَّ وأن تكون مناسبة لمن جعلت له، وهم عباده المخلوقون له، وأوَّلهم الأولياء، لتكون ألفاظه وأهمُّها الوحي القرآني مكوِّناً آخر لهم منه تعالى، ليستضيؤا بنور معانيه في حياتهم.

ومضمون هذا القول هو قول ما عدا الأشاعرة ومن التحق بهم ولو في الجملة من

ص: 193

عموم المسلمين الآخرين.

لمَّا مرَّ تعليله من المحاذير المانعة من كون هذا النَّوع صفة قديمة بقِدَم الأزمان، بلا أن يكون لهم تشخيص آخر ممَّا وراء اللَّفظ ليقولوا به كالأشاعرة من كونه قديماً باسم الحديث النَّفسي، ولذلك كان قول الله تعالى في كتابه[مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ](1) ممَّا سيأتي الاستفادة منه بصورة أكثر.

الحديث النَّفسي وعدم تعقُّله

وأمَّا الأشاعرة - وهم على ما يظهر منهم أنَّهم غالب المسلمين - فإنَّهم قد اتَّفقت كلمتهم على وجود نوع آخر غير النَّوع اللَّفظي المتعارف، سمُّوه ب- (الحديث النَّفسي).

ثمَّ اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أنَّ هذا الحديث هو نفس مدلول الكلام اللفظي ومعناه.

ونظراً إلى أنَّ هذا اللفظ وما يحويه لا يخرجان عن إطار المخلوق الحادث - الَّذي لا يتناسب مع ذات القديم تعالى بوضوحٍ بيِّن حتَّى يكون صفة ذاتيَّة له -

قال آخرون منهم عنه - ولعلَّه للفرار من هذا الإشكال - بأنَّ المعنى المراد هو المغايرلمدلول اللَّفظ، وأنَّ دلالة اللَّفظ عليه دلالة غير وضعيَّة، فهي من قبيل دلالة الأفعال الاختياريَّة على إرادة الفاعل وعلمه وحياته.

إلاَّ أنَّ هذا الأمر أيضاً لا يعطي المجال لأن لا يبقي شيء من الإشكال.

لأنَّ حقيقة تمكين الوحي بأمره تقوم لينطق النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بما يريد من ألفاظ كتاب الله الكريم - ومنها آيات الأحكام - من تلك الإرادة.

والقوَّة الخاصَّة لا يسمَّى في نفسه كلاماً ولا ينفي الملفوظ المتعارف الحامل لمعانيه

ص: 194


1- سورة الأنبياء / آية2.

الغالية بإعجازه واستيعابه مع إيجازه عن كونه كلام الله، وإن كان حادثاً ككون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِما السَّلاَمُ والخواص والعوام عباداً حادثين عائدين لله تعالى أيضاً، وغير ذلك من المخلوقات.

إلاَّ أنَّ هذا الكلام القرآني أو النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِما السَّلاَمُ حضوا بالقدسيَّة لما فيهم من مضامين العلو والرِّفعة وحمل الرِّسالة الخالدة والإعجاز الباهر.

بعض ما قد يستدل به المتطرِّفون

في القِدَم والحدوث لكلام الله والإجابة عليه

فيقول الحنابلة بأنَّ القرآن هو هذه الحروف والأصوات المتركِّبة من الأجزاء المتعاقبة المرتَّبة في الوجود، إضافة إلى قِدَمه عندهم بقِدَم الذَّات، بل إنَّ ما بين الجلدتين والغلاف كان عندهم كذلك من دون أن يلاحظوا عيب تعدُّد القدماء الممتنع في مقام الله.

وحاول بعض الكلامييِّن أن يصيِّغ لهم دليلاً قياسيَّاً من نوع الشَّكل الأوَّل المعروف بين المنطقييِّن في بداهة إنتاجه، وهو ما كان بنحو إيجاب الصغرى وكليَّة الكبرى وحذف المتكرِّر، لإنتاج تلك النَّتيجة، وهو ما كان على صورة (الكلام صفة من صفاته تعالى وكل ما كان صفة من صفاته فهو قديم).

وبالطَّبع إن رتِّبت صورة القياس على هذا النَّحو في الظاهر بعد حذف المتكرِّر من دون تطبيق التَّدقيق الكامل في شروط هذا الشَّكل تكون النَّتيجة لهم هي قول المصوِّر للشَّكل المزعوم صدقه (الكلام القرآني قديم).

ولكن لو أردنا ردَّهم حتَّى في مهزلتهم جوهريَّاً وشكليَّاً لو احتجوا بها بهذا الشَّكل وبما يخجل منه المبتدئ السَّطحي ويُضحك الثّكول لتبيين البطلان واضحاً.

لكونهم إن استدلُّوا بهذا على مدَّعاهم فقد فاتهم اشتراط فعليَّة الصغرى وتسليم

ص: 195

إحدى المقدَّمتين لإدراك بداهة الإنتاج وهما غير موجودين.

وأيُّ فعليَّة وأيُّ تسليم في أصوات وحروف لفظيَّة لا يقولها إلاَّ المخلوقون ابتداءاً من الملَك أمين الوحي ثمَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ومن بعده الإمام الحافظ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثمَّ الناس الآخرون، وكلُّهم من صنائعه تعالى.

وإنَّ ما بين الدَّفتين من الورق ومعه الغلاف وما فيه من النُّقوش والرتوش الكتابيَّة وإن احتوى عليها لو قاله المتعلِّم لها لكانت ألفاظ الوحي القرآني في أساسها السَّماوي كلُّها مصنوعات بشريَّة فكيف يتَّصف بها وبما سبقها الله تعالى وهي كلُّها مخلوقة بخلق البشر الأوَّل كما قال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا](1) ثمَّ جاءت أسسها منه تعالى وصيَّغ الصِّيغ الَّتي بعدها جامعاً ومانعاً فيما بينها ذلك الإنسان بمرور الزَّمان من الإلهام والفطرة والوحي والتَّعلُّم كما ورد في خطاب نبيِّنا الإلهي بواسطة جبرائيل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ](2).وهو وإن صحَّت النِّسبة إلى الله بتمام الصِّحة فصار كلام الوحي (كلام الله) لبعض الاعتبارات اللازمة في صدق النِّسبة إليه عن تلك القوَّة الهائلة بتلك الأساسيَّات لكنَّه إلى غير الصِّفة الذَّاتيَّة كما سيجيء شرحه.

وربَّما لا يصح شيء من ذلك بأيِّ نحو من المجازيَّة لمخاطر مالا يناسب الدِّقَّة المفروضة في التَّوصيف لما يستحقه الوصف الحقيقي للذَّات الأقدس، لمحذور تعدُّد القدماء ليكون منها هذه الحوادث.

ويقول الكراميَّة في مقابل قول الحنابلة تماماً:

بأنَّ الكلام القرآني هو الأصوات والحروف كما في الأوَّل، ولكنَّهما عندهم شيء

ص: 196


1- سورة البقرة / آية 31.
2- سورة العلق / آية 1 - 5.

حادث كما مرَّ توجيهه في الرَّد.

إلاَّ أنَّ هذا الحادث عند هؤلاء قائم بذات الله، إذ لا مانع عندهم بكونه حادثاً وفي نفس الوقت هو قائم بذاته تعالى، حتَّى لو صار محلاًَ للحوادث وهو قديم.

وقد حاول ذلك الشَّخص من الكرامييِّن نفسه أن يصيِّغ لهم دليلاً قياسيَّاً من نوع الشَّكل الأوَّل المعروف في بداهة إنتاجه كذلك، لكن على نهج مرادهم المقابل للأوَّل، وكأنَّ الشَّكل الأوَّل الموحَّد في قواعده منطقيَّاً عند هذا وذاك قابل لأن يصاغ بما يشتهيه به كلٌّ منهما حتَّى لو يتناقض أو يتفاوت في نتائجه بغير قبول منطقيَّاً.

اللَّهمَّ إلاَّ أنَّ يُراد من عرض هذه الصِّيغة أو تلك لدحض المطلبين بسبب عدم انضباط القاعدة على مسلك الحنابلة والكراميَّة.

وعلى كلٍّ فهذه الصُّورة على نهج مراد الكراميَّة هي هكذا (أنَّ كلامه تعالى مؤلَّف من أجزاء مترتِّبة متعاقبة في الوجود وكل مؤلَّف من هكذا أجزاء فهو حادث)، وبالطَّبع تكون النَّتيجة على هذا الأساس بعد حذف المتكرِّر هكذا (أنَّ كلامه تعالى حادث).

وعليه فلا مانع عندهم من كون القديم تعالى بقدم الأزمان محلاً للحوادث على ما بيَّنه هذا الكرامي من الشَّكل.

ولكن نقول في توضيح ردِّهم في هذه المهزلة الأخرى وما يخجل أقل المستويات ويُضحك الثَّكلى إن بقي شيء لم يتَّضح بعدما قلناه من وجوب فعليَّة الصُّغرى وتسليم إحدى المقدِّمتين وبما لا مزيد عليه من حالة ما استدللنا عليه سابقاً من عدم صحَّة أن يكون تعالى محلاً للحوادث.

إضافة إلى ما قد أشرنا إليه من حالة نقض كل من الفرقتين صاحبتها بشكل يرضيها دونما يرضي صاحبتها الأخرى حتَّى لو سبَّب ذلك اختلالاً في قاعدة الشَّكل أو كان منافياً للتَّسليم لمعنى واحد يجب أن يتوحَّد فيه الطَّرفان إن كانا على حق.

ولكن المغالطات وضعف العلم والدِّين هي الَّتي أوقعت أمثالهما في هذا الخلل

ص: 197

المفضوح.

فالحنابلة: حيث يرون قِدَم الكلام وإن كان مكوَّناً من الحروف والأصوات اللَّفظيَّة بل الأكثر، فلا تراهم يؤمنون بكبرى القياس الثَّاني وهو قول الكراميَّة الماضي تصويره وهو (وكل مؤلف من هكذا أجزاء فهو حادث).

والكراميَّة: حيث يرون أنَّ الكلام أصوات وحروف لفظيَّة، وهي حادثة وإن صار اللهمحلاً للحوادث، أو أنَّهم لم يشعروا بذلك، فهم يسلِّمون بالقياس الثَّاني صغراه وكبراه.

ويقول الأشاعرة - أهل الفكرة الأدق والأساسيَّة وعلى ما فيها إجمالاً كما مرَّ - أنَّ الكلام ليس هو الأصوات والحروف، وإنَّما هو الحديث النَّفسي أو المعنى النَّفساني القائم بالذَّات والمدلول للحروف والأصوات.

فهم يقدحون بالقياس الثَّاني صغراه وكبراه، ويسلِّمون بالقياس الأوَّل صغراه وكبراه من حيث خصوص النَّتيجة المجرَّدة عمَّا بين الدَّفتين والجلد والغلاف من المادِّيات والحوادث، وبلا إذعان للأصوات والحروف اللَّفظيَّة في أن تكون في الله وإن كانت لها وجودها في البشر وإنَّما المراد عندهم هو ما وراءها كما سبق.

ونقول نحن إيضاحاً أكثر أوَّلاً: في ردِّهم وردِّ من ذكرناهم قبلهم أنَّه:

لا نرى واحداً من هذين القياسين الماضيين ممَّا كان يمكن كونه محسوباً للحنابلة والكراميَّة يسلَّم به للجميع ومعهم الأشاعرة.

وعليه كلُّهم يعدُّون من المتطرِّفين تجاه الله تعالى وقرآنه وصفاته المناسبة له وإن دقَّق الأشاعرة أكثر منهم لما مرَّ من تشبُّثهم بالمسألة الخياليَّة.

وثانياً: إضافة إلى ما أوردناه سابقاً نورد شيئاً آخر من أدلة الأشاعرة لردِّها:

ونختار ما استعرضه السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره من أدلَّتهم وردِّها في كتابه (البيان في تفسير القران) مع بعض الإضافات التوضيحيَّة منَّا:

ص: 198

الدَّليل الأوَّل: (أنَّ كل متكلِّم يرتِّب الكلام في نفسه قبل أن يتكلَّم به والموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النَّفس وهذا وجداني يجده كل متكلِّم في نفسه واليه كانت إشارة الأخطل بقوله الماضي ذكره)(1).

وقال قدس سره في ردِّه (أنَّ تركيب الكلام في النَّفس هو تصوُّره وإحضاره فيها وهو الوجود الذِّهني الَّذي يعم الأفعال الاختياريَّة كافَّة، فالكاتب والنقَّاش لابدَّ لهما من أن يتصوَّرا عملهما أوَّلاً قبل أن يوجداه فلا صولة لهذا بالكلام النَّفسي).

وأضيف إليه: أنَّ قصده قدس سره من هذا الَّذي يريده صحيحاً هو الكلام النَّفساني، لا ما قد يتصوَّره أو يُصوِّره أولئك ممَّا يستحضره الإنسان المتكلِّم من عبائر كلامه قبل كلامه الخارجي في لوحة ذهنه، فإنَّه بعيد كل البعد عن اتِّصاف الخالق في ذاته بذلك.

لأنَّ هذا المستحضر مخلوق كصاحبه الموجد له في طيَّات لسانه، حتَّى لو تصوَّرنا اللَّوح المحفوظ بالمناسبة، وتصوَّرنا معنى كل نبي حينما يأتي بلسان قومه، لأنَّ كليهما مخلوق لا يناسب رفعة الذَّات، وإنَّما يناسب صفات الأفعال كما عرفناها مع عدم ضمان كون كل ما في اللَّوح المحفوظ أيضاً وقبل إتيان النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم كلام الوحي بما يناسب لسان القوم الَّذين حوله كان من نوع المستحضر اللَّفظي مع تلك القدرة الإلهيَّة الهائلة هو خصوص اللغة العربيَّة الَّتي في القرآن، لأن كتب السَّماء إذا كانت في روحيَّة معنويَّة متشابهة أو موحَّّدة في جواهرها كما هو الواقع، فلا شكَّ في عدم خضوع ما في ذلك اللَّوح النَّوعي المهم المرتبطاستمداد كل الأنبياء منه إلى خصوص لفظ معيَّن ما دامت تلك القدرة هي المسيِّطرة وكما قال القائل:

عباراتنا شتَّى وحسنك واحد *** وكل إلى ذاك الجمال يشير

فصفو الكلام ممَّا استدلُّوا به من كلام الأخطل - في البيت الشعري - أنَّ مراده كان هو ذلك المخطَّط اللَّفظي البشري المصوغ أو الملفوظ من البشر في تنفيذه، لا الَّذي أوحى

ص: 199


1- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص 406.

الله به لنبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم في قوله تعالى [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى](1) أو كان لم يختص بنطقه البشر بل الأعم منه، كما لو كان من الملَك وإن كان وحياً لما علَّلناه، لكن ذلك محصور بما يناسبه.

إضافة إلى أنَّ ممَّا يرتبط بالنَّفس هو الحديث النَّفسي المبتلى به كمرض نفسي حتَّى الكثير من العقلاء وممَّا ليس له أي علاقة بالارتباط بما في الخارج من الأحداث أثناء هذا الحديث، وهو الَّذي قد يتحرَّك معه اللسان لا إراديَّاً كما يحصل عند بعض أهل المواهب وأخذ مجالاً واسعاً من الحديث عنه برايسكلوجيَّاً وأخذت بعض الجامعات الأجنبيَّة الأمريكيَّة له مجالاً لدراسته بما سمَّوه بحديث الخواطر.

حيث أنَّه إذا صار شيء في نفس أحد من ذلك الابتلاء - والعياذ بالله - واصطدم هذا الأمر بالواقع الخارجي لاختلف القرار ووصل إلى ما لم يتوقَّع غالباً من الغرائب مثل عدم التَّطابق بين الحديث وبين الحادث المتنازع فيه.

الدَّليل الثَّاني: (يطلق الكلام على الموجود منه في النَّفس، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية، فيقول القائل أنَّ في نفسي كلاماً لا أريد أن أبديَه وقد قال الله عزَّ اسمه [وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ](2))(3).

وقال قدس سره في ردِّه أيضاً: (فإنَّ الكلام كلام في وجوده الذِّهني كما هو كلام في وجوده الخارجي، ولكل شيء نحوان من الوجود خارجي وذهني والشَّيء هو ذلك الشَّيء في كلا وجوديه وإطلاق الاسم عليه بلا عناية ولا يختص هذا بالكلام، فيقول المهندس إنَّ في نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة، ويقول المتعبِّد إنَّ في نفسي أن أصوم غداً).

ص: 200


1- سورة النجم / آية 5.
2- سورة سبأ / آية 33.
3- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص411.

أقول: بأنَّ المراد من استدلالهم هو عدم ارتباطه بخصوص ما يتعلَّق بالكلام النَّفسي الَّذي فسَّره السيد الأستاذ قدس سره، وعليه فيخرجون عن الموضوع الَّذي يريدون إثباته، إضافة إلى أنَّ الآية الَّتي استشهدوا بها لا ترتبط إلاَّ بالنَّاس فيما أسرُّوا به من مورد وعيده لهم بسبب انحرافهم لا بما يخص كلام الله ووحيه، وإذا كان في الآية شَبه بالاستدلال الأوَّل فردُّه قد سبق ذكره فلا نعيد.

الدَّليل الثَّالث: (أنَّه يصح إطلاق المتكلِّم على الله - أي عند نزول الوحي أو بعده - وهذه الهيئة أي هيئة اسم الفاعل - وهي كلمة المتكلِّم - وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذَّات قياماً وصفياً، ولذا لا يطلق المتحرِّك والسَّاكن والنَّائم إلاَّ على من تلبَّس بالحركة والسُّكون والنَّومدون من أوجدها.

ومن الواضح أنَّ الكلام اللَّفظي لا يمكن أن يتَّصف بمباشرته الله سبحانه لاستحالة اتِّصاف القديم تعالى بالصِّفة الحادثة فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم ليصح إطلاق المتكلِّم على الله سبحانه باعتبار اتِّصافه به)(1).

وقال قدس سره في جوابه أيضاً: (إنَّ المبدأ في صيغة المتكلِّم ليس هو الكلام فإنَّه غير قائم بالمتكلِّم قيام الصِّفة بموصوفها حتَّى في غير الله، فإنَّ الكلام كيفيَّته عارضة للصَّوت الحاصل من تموُّج الهواء، وهو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلِّم، والمبدأ في الصِّيغة المذكورة هو التَّكلُّم، ولا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنى واحد).

أقول موضِّحاً:

وهو أنَّه على هذا كيف يقاس الله بغيره في إيجاد الكلام؟ وهو معنى واحد وهو ذلك الإيجاد الواحد مع الفارق البيِّن بين الخالق والمخلوق، وبذلك يكون الأشاعرة ما فرُّوا منه وقعوا فيه.

ص: 201


1- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص 412.

إلاَّ أن يريدوا ذلك المعنى الخيالي الَّذي لا يمكن وصوله أبداً إلى ما قد أوضحناه سابقاً من أنَّ كون الصِّفة هي صفة الفعل لا صفة الذَّات والفاعل فراراً من الوقوع في هذه المقايسة مع الفارق البيِّن، وهي ما ليس لهم أي نفع ملموس فيها إن خضعوا للنُّصح، بل تضرُّهم حتماً لو لم يخضعوا.

وقال قدس سره أيضاً في تتمَّة الرَّد عليهم: (وأمَّا قول المستدل أنَّ هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذَّات قيام الوصف بالموصوف فهو غلط بيِّن، فإنَّ الهيئة إنَّما تفيد قيام المبدأ بالذَّات نحواً من القيام، أمَّا خصوصيَّات القيام من كونها إيجاديَّة أو حلوليَّة أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة، وهي تختلف باختلاف الموارد، ولا تدخل تحت ضابط كلِّي، فالعالم والنَّائم مثلاً لا يطلقان على موجد العلم والنَّوم - وإن كانا سبباً في وقوع العلم وتأثير النَّوم في الاثنين بالمباشرة - لكن القابض والباسط والنَّافع والضار تطلق على موجد هذه المبادئ، وعليه فعدم صحَّة إطلاق التَّحرُّك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحَّة إطلاق المتكلِّم على مطلق موجد الكلام)(1).

وأقول إضافة توضيحيَّة: بصحَّة إمكان إطلاق بل وقوع وصدق لفظ اسم الفاعل وهو المتكلِّم على موجد الكلام تعالى وإن لم يلفظه لامتناعه عنه كالخالق تعالى وإنَّما اللافظ هو النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعد الوحي ومن أرسل للنَّاس، لانحصار الأمر بالنِّسبة إليه تعالى في الإيجاد لا في الحلول، وإن لم يصح ذلك في المتحرِّك للفارق المذكور بين اللفظين.

وسر بطلان هذا الاستدلال هو عدم القدرة على إيجاد ضابط كلِّي لما مرَّ من أمر اختلاف الموارد وأسبابها.

ص: 202


1- البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي ص412.

نتيجة البحث النِّهائيَّة

ونتيجة ما مرَّ بيانه أنَّ كلام الله هو صفة لله تعالى حتَّى لو كان مؤلَّفاً من الأصوات المؤلَّفة من الحروف اللَّفظيَّة القرآنيَّة، لكنَّها من نوع الصِّفة الفعليَّة لا الذَّاتيَّة حتَّى يمنع اتِّصاف الذَّات بهذه الحوادث، ولا ينطق بها إلاَّ الوحي والنَّبي والوصي "سلام الله عليهم" وبقيَّة من أرسل لهم من النَّاس أجمعين، لكنَّه ليس هو ككلام الآدمييِّن وإن شابهه في أنَّه مخلوق إلاَّ أنَّه من الوحي الاعجازي له تعالى.

وآخره وأهمُّه القرآن العربي المبين النَّازل من لدن اللَّطيف الخبير عن طريق جبرائيل الأمين الَّذي أنزله بجملته على صدر سيِّد المرسلين صلی الله علیه و آله و سلم من مصدر القوَّة المتين، وصحَّة نسبته الفعليَّة هذه إليه كنسبة الخلق إليه عند إيجاده لهم، فهو حادث فوق مستوى الحوادث الكلاميَّة الأخرى وكما مر من قوله تعالى في ذم اللاعبين [مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ](1).

ومن مثبتات الحدوث التَّوضيحيَّة قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِكّرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](2)، وما التنزيل بنحو ما وصل إلينا منه بحسب المناسبات وما الحفظ له في هذه الدُّنيا إلاَّ لكونه من عالم الكون والفساد وعالم المقولات التِّسعة، إضافة إلى قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ](3).

ومن ذلك القرآن الحاوي لتعاليم الله لجميع شؤون الحياة ومنها الشَّرع والأحكام، وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في حديث الثَّقلين المعروف الدَّال على كون لسان القرآن ولسان السنَّة الَّذي تحمله العترة لا يفترقان في هذه الدُّنيا حتَّى الورود على الحوض وهو (ألا وإنَّهما

ص: 203


1- سورة الأنبياء / آية2.
2- سورة الحجر / آية 9.
3- سورة إبراهيم / آية 4.

لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1).

وعدم الافتراق من حالاته التَّشابه اللِّساني، أو اللِّساني والمعنوي، أو المعنوي مع بعض الفرق في اللِّسان ولو لتثبيت قطعيَّة الدِّلالة في السنَّة بعد إجمال الكتاب وكونهما مخلوقان أولُّهما بالمباشرة وثانيهما بالتَّسبيب وأنَّهما متوافقان معنويَّاً أحدهما يدعم الآخر، وإن كانت السنَّة في مرتبة ثانية بعد كلام الله.

وأمَّا سر ما وراء هذا الكلام الخاص ووراء اللوح المحفوظ لصفة الفعل هذه بعدما أشرنا إليه من القدرة والإرادة والإيجاد فلا يحدَّد خيال الكلام النِّفسي الَّذي قالته الأشاعرة، والبعيد كل البعد عن ما يناسب الذَّات إلاَّ أنَّ يكون خيالهم خبالاً وكما ورد عنه صلی الله علیه و آله و سلم (تفكّروا فيخلق الله، ولا تفكّروا في الله فتهلكوا)(2).

والنَّافع في المقام لختم الكلام وكما وصفه أحد أساتذتنا العظام هو الَّذي جاء في أصول الكافي عن أبي بصير عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمَّد الصَّادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ قال سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِما السَّلاَمُ يقول ("لم يزل الله عزَّ وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسِّمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور" قال قلت فلم يزل الله متحرِّكاً قال "تعالى الله عن ذلك إنَّ الحركة صفة محدثة بالفعل" قال قلت فلم يزل الله متكلِّماً؟ قال فقال "إنَّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليَّة كان الله عزَّ وجل ولا متكلِّم")(3).

ص: 204


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
2- ميزان الحكمة 3/ 1892 للرَّيشهري.
3- أصول الكافي كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح1.

وعلى أساس كون القرآن والكلام المقدَّس - الَّذي فيه ومنه آيات الأحكام ومنها الأصوليَّة والفقهيَّة - من صفات الله الفعليَّة لا الذَّاتيَّة، لناحية الحدوث الَّتي فيه.

فلابدَّ من أن يكون مورد الاحتجاج بها ومدركيَّتها في إفادة الفقهيَّات هو خصوص هذه الحالة، لأنَّ الحجيَّة الَّتي فيها لابدَّ أن تكون في حالة كون ما يحتج منه أو به في متناول اليد وعاضدته القواعد والأصول، لا ما كان خياليَّاً أو لا يفهم له معنى وعلى ما سيتوضَّح الأمر فيه بصورة أكمل في مباحث الحجَّة.

المبحث الرَّابع عشر

أقسام الوضع الأربعة

إنَّ للوضع بلحاظ المعنى الموضوع بإزائه اللَّفظ أقساماً من حيث التَّصوُّر والإمكان والوقوع فنقول:

بعد أن ذكرنا التَّلازم بين اللَّفظ والمعنى عند عقلاء الآدمييِّن، سواء كانوا هم الَّذين وضعوا الألفاظ لمعانيها، أم وضعت لهم إلهيَّاً تعيينيَّاً أم تعينيَّاً غير إلهي، حتَّى لو صدر ذلك من واحد ثمَّ كثر استعماله من ذلك الواحد أو غيره أو المجموع اللُّغوي العربي مثلاً، حتَّى صار مألوفاً حين كثرة استعماله تعيُّناً بدون قصد له أو غفلة عن وضعه الأوَّل قبل كثرة الاستعمال، حتَّى الَّذي قد يمرَّن ويربَّى عليه الأطفال من الألفاظ والحروف والكلمات والهيئات الَّتي قد تبدأ غير مرتبطة قبل المدنيَّة ثمَّ يرتبط بعضها ناقصاً ثمَّ يكون كاملاً حقيقة أو مجازاً وإلى أن ينشؤوا عليه بعد تفطُّنهم على لغة كاملة جاهزة عربيَّة مثلاً تحوي بين جنباتها نصوصاً إلهيَّة، ومنها القرآنيَّة وبالخصوص آيات أصول وقواعد وفروع أحكام الشَّريعة، ومنها أحاديث السنَّة النَّبويَّة والواردة في فقهنا فقه الإماميَّة عن أهل البيت الطاهر عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحواريهم، وما صحَّ أيضاً مطابقاً لما ورد عندنا من بعض النَّبويَّات

ص: 205

من المؤيِّدات من طرق الآخرين، ومنها كذلك ما صحَّ وتعارف بين أهل العلم شائعاً من المصطلحات العلميَّة العامَّة وبالخصوص الأدبيَّة الموصولة بالأصول والفقه وقواعد الاستفادة من تلك الألفاظ في التَّصوُّر والتَّصديق، وإلى حد الإنتاج من قوانين الأدبيَّات الموضوعة لخدمة الأصول في مباحث ألفاظها للاستنباطات الفقهيَّة، وإلى حد أن يذوب اللَّفظ في المعنى والمعنى في اللَّفظ، وإلى حد أن تكون كذلك هذه اللغة مثلاً مستعملة أو صالحة لاستعمالها في جميع شؤون وقضايا الحياة حتَّى فضِّلت عند أهلها وغيرهم قوميَّاً ودينيَّاً خاصَّاً أو حتَّى عامَّاً من بعض النَّواحي على جميع اللُّغات للتَّداول والتَّفاهم، وإلى حدِّ إمكان أن يقال بجواز أن يكون أمر التَّعيين والتَّعيُّن المقرون بكثرة الاستعمال في بقيَّة اللُّغات كالَّتي استعملت في نقل وحي الله تعالى للأنبياء والرُّسل السَّابقين.

فبعد ذكر ما مرَّ ذكره لابدَّ من معرفة أقسام الوضع الَّتي ظهرت بعد التَّأمُّل وبحسب المحتملات العقليَّة، بل منذ بدايات الحياة القديمة وأيَّام تأسُّس اللُّغات وقوانينها للكلام بما يناسبه فيها للاستفادة من فوارق ما هي عليه إن كانت ونتيجة الخلاف الحاصل، وهي أربعة:1 - الوضع العام والموضوع له العام.

2 - الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

3 - الوضع العام والموضوع له الخاص.

4 - الوضع الخاص والموضوع له العام.

فهي بعد الانتباه إليها بجميعها متصوِّرة كما أشرنا أعلاه، لأنَّه لا يصح الحكم على أي شيء إلاَّ بعد تصوُّره بوجه من الوجوه ولو إجمالاً إن اتَّضح الأمر عن تشخيصه.

لأنَّ التَّصوُّر قد يكون للشَّيء بنفسه، وقد يكون بوجهه وهو تصوُّر عنوانه عامَّاً ينطبق عليه، لأنَّ هذا العام مراد كاشف عنه، وهذا ما يسمَّى عندهم بتصوُّر الشَّيء بوجهه وإن كان غير معلوم بالتَّمام وهو بخلاف المجهول المحض.

ص: 206

ولكنَّ الثَّلاثة الأولى داخلة في الإمكان المقابل للامتناع، حتَّى الثَّالث بعد الاختلاف الَّذي فيه، ما عدا الرَّابع منها، لاستحالة أمره على قول في مصداق معقول له وجوده العقلي، ولو بمجرَّد افتراضه ممكناً في عالم مجرَّد التَّصوُّر على قول آخر.

فهو مع ما سبقه أعني الثَّالث غير قابلين للوقوع على ما قيل في الثَّالث، لكنَّه محل بحث بينهم.

بل جعلت الثَّلاثة الأولى بأجمعها بين المشهور متعارفة في الوقوع، يبقى الأوَّل والثَّاني وارداً تماماً في التَّصوُّر والإمكان والوقوع عند الجميع.

ومُثِّل للأوَّل بأسماء الأجناس كماء وسماء وحيوان ونحو ذلك.

وللثَّاني بالأعلام الشَّخصيَّة كمحمَّد وعلي ونحوهما.

وللثَّالث بالحروف والهيئات والمبهمات من أسماء الإشارة والضَّمائر والموصولات والاستفهام ونحوها، حتَّى عُرف بين الأصولييِّن أنَّه كلَّما يذكر القسم الثَّالث يلازمه الكلام عن المعنى الحرفي، وهو الشَّاخص الأبرز ما بين هذه النَّظائر على ما سيجيء.

ولكنَّ الشَّيخ الآخوند قدس سره خالف المشهور في هذا الثَّالث، وجعله باقياً في خصوص بقعة الإمكان بلا أن يتجاوزها، وجعل الأمثلة المنسوبة إليه من قبل المشهور في واقعها عائدة إلى الأوَّل من الأقسام، مستدلاًّ على ذلك بما معناه منه قدس سره وهو:

(وذلك لأن الخصوصية المتوهمة ، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصِّص بها جزئيَّاً خارجيَّاً، فمن الواضح أن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كلياً، ولذا التجأ بعضٍ الفحول(1) إلى جعله جزئياً إضافياً، وهو كما ترى)(2).

بمعنى أنَّنا قد نرى المعنى الحرفي أمراً صالحاً، بل منطبقاً على كثيرين كالعام، فمثلاً

ص: 207


1- يقصد بذلك إمّا صاحب الفصول كما في الفصول ص 16، وإما المحقق التقي كما في هداية المسترشدين ص30.
2- كفاية الأصول ج1 ص11.

إذا قلت (سرت من الكوفة) ف- (من) الَّتي هي أحد حروف الجر دالة على الابتداء، والابتداء الَّذي تدل عليه (من) وإن كان معنى خاصَّاً بخصوص الابتداء بالكوفة إلاَّ أنَّه صالح في نفسه للانطباق على كثيرين، فإنَّه متعدِّد بتعدُّد النّقاط الَّتي يقع منها ابتداء السَّير، فإنَّ نقاط السَّيركثيرة من نفس البعد، ومصداق هذا خارجي.

إذن فهو بهذا المعنى كلِّي عام ليس بمتشخِّص، فلابدَّ من رجوعه إلى القسم الأوَّل.

وهذه المخالفة للمشهور تُعد للشَّيخ قدس سره هي السَّابعة.

المبحث الخامس عشر

وقوع الحروف وتوابعها وعودها للقسم الثَّالث أقرب من الرُّجوع للأوَّل

ولكنَّ الحق لا ينبغي هجرانه إن أمكن الدِّفاع عن رأي المشهور، كما قد يلوح أمر رجحان الأخذ بدفاع الشَّيخ المظفَّر قدس سره عن رأي المشهور لسلاسته، بدل إجابة الشَّيخ الآخوند قدس سره في ردِّه على المشهور ممَّا يرويه ويجعله شبهة منهم بقول السيِّد الأستاذ المحقِّق الخوئي قدس سره عن الشَّيخ قدس سره، وقد أجاب بما يحتمل وجوهاً، وهو ما قد يشعر بتمريضه على ما سيتَّضح.

ولأنَّ كلام الشَّيخ المظفَّر قدس سره أقرب إلى الواقع الوجداني مع اعتراف الآخوند قدس سره إجمالاً بعد نقله ما يحتمل من القوم أن يستندوا عليه كذلك وهو (وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً)(1) بعدم استبعاد هذا المعنى، وهو ما يصل إلى نصف الجواب ثبوتاً لما قاله الشَّيخ المظفَّر قدس سره من الحالة الإثباتيَّة لما قاله المشهور من كون القسم الثَّالث

ص: 208


1- كفاية الأصول ج1 ص11.

داخل في الوقوع.

إلاَّ أنَّه يستوجب توضيح الإجابة بما يوافق رأي المشهور للمعنى بما يأتي، وإن كان فيه إعادة بعض ما مضى، فلا داعي إلى الاسترسال بما حاوله البعض لنصرة من يريد نفي الوقوع في الثَّالث تأييداً للشَّيخ قدس سره .

مع تحقيق السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره بانتصاره للمشهور كما في غاية المأمول بقوله: (بأنَّ الإطالة فيه أكثر ما فيه تضييع للعمر)(1).

فقد ذكر الشَّيخ المظفَّر رحمه الله في أصوله(2) ما يؤول بالتَّالي إلى الرَّد لهذا القرار بما مضمونه بعد ذكر معان ثلاث للحروف مع بعض التَّصرُّف الإيضاحي.

أوَّلها: ما اختاره الشَّيخ الآخوند قدس سره(3) تبعاً للشَّيخ الرَّضي قدس سره(4) وخلاصته:

(أنَّ الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى كمن الابتدائيَّة، والفرق هو ما بين الآليَّة في الحروف إذا لوحظت غير مستقلَّة وبين الاستقلاليَّة الموضوعة للاسم الَّذي وضع ليكون كذلك)، وقد رُدَّ هذا الرَّأي بما سيأتي.

ثانيها: أنَّ الحروف لم توضع لمعان أصلاً، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفيَّة خاصَّة في لفظ آخر فكما أنَّ علامَّة الرَّفع في قولهم (حدَّثنا زرارة) تدل على أنَّ زرارة فاعل الحديث كذلك (من) في المثال المتقدَّم تدل على أنَّ الكوفة مبتدأ منها والسَّير مبتدأ به، وفي هذا مجال للرَّد بما سيجيء.

ثالثها: وهو مورد الرَّد للشَّيخ قدس سره ، لأنَّ الحروف موضوعة لمعان مباينة في حقيقتها وسنخها للمعاني الإسميَّة وكما مرَّ بأنَّ المعاني الإسميَّة في حدِّ ذاتها معان مستقلَّة في

ص: 209


1- غاية المأمول ج1 ص 130 آخر الصَّفحة.
2- أصول الفقه ص 29.
3- كفاية الأصول ج1 ص 25.
4- شرح الكافية ج1 ص 9، 10.

أنفسها ومعاني الحروف لا استقلال لها، وهو أنَّ المعاني الموجودة في الخارج على نحوين وهما:

الأوَّل: ما يكون موجوداً في نفسه ك- (زيد) الَّذي هو من جنس الجوهر وقيامه مثلاً الَّذي هو من جنس العرض، فإنَّ كلاًّ منهما موجود في نفسه، ولكنَّ الفرق أنَّ الجوهر موجود في نفسه لنفسه والعرض موجود في نفسه لغيره، ومن هنا قد ينشأ بسبب نفسيَّة الاثنين الجوهريَّة والعرضيَّة شيء من الالتباس والإشكال.

الثَّاني: ما يكون موجوداً لا في نفسه كنسبة القيام إلى زيد، والدَّليل على كون هذا المعنى لا في نفسه أنَّه لو كان للنَّسب والرَّوابط وجودات اسنقلاليَّة للزم وجود الرَّابط بينها وبين موضوعاتها فننقل الكلام إلى ذلك الرَّابط، والمفروض أنَّه موجود مستقل فلابدَّ له من رابط أيضاً، وهكذا ننقل الكلام إلى هذا الرَّابط فيلزم التَّسلسل والتَّسلسل باطل.

فيعلم من ذلك أنَّ وجود الرَّوابط والنَّسب في حدِّ ذاته متعلَّق بالغير ولا حقيقة له إلاَّ التَّعلُّق بالطَّرفين وهو معنى الجزئيَّة.

ثمَّ إنَّ الإنسان في مقام إفادة مقاصده كما يحتاج إلى التَّعبير عن المعاني المستقلَّة كذلكيحتاج إلى التَّعبير عن المعاني غير المستقلَّة في ذاتها.

فحكمة الوضع تقتضي أن توضع بإزاء كل من القسمين ألفاظ خاصَّة، والموضوع بإزاء المعاني المستقلَّة هي الأسماء، والموضوع بإزاء المعاني غير المستقلَّة هي الحروف وما يلحق بها.

مثلا إذا قيل (نزحت البئر في دارنا بالدلو) ففيه عدة نسب مختلفة ومعان غير مستقلة: أحدها نسبة النزح إلى فاعله والدال عليها هيئة الفعل للمعلوم، وثانيتها نسبته إلى ما وقع عليه أي مفعوله وهو البئر والدال عليها هيئة النصب في الكلمة، وثالثتها إلى المكان والدال عليها كلمة (في)، ورابعتها نسبته إلى الآلة والدال عليها لفظ الباقي في

ص: 210

كلمة (بالدلو).

ومن هنا يعلم أنَّ الدَّال على المعاني غير المستقَّلة ربَّما يكون لفظاً مستقلاًّ كلفظة (من) و (إلى) و (في)، وربَّما يكون هيئته في اللَّفظ كهيئات المشتقَّات والأفعال وهيئات الإعراب.

وبهذا يتم عدم الفرق بين الحروف وبين ملحقاتها وفي الحاجة إلى الاستقلال والحاجة إلى عدمه(1).

وبهذا يتم الانتصار لما قاله المشهور، وسوف يتَّضح أمر المستقَّلات وغيرها من الحروف وملحقاتها.

وممَّا يشير إلى تقوية هذا الانتصار ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين وإمام المتَّقين ومقنِّن القواعد والقوانين في أمور التَّقسيمات الماضية على الَّتي منها تفرَّعت بحوث العلوم الأدبيَّة حتَّى ارتبطت بالأصول في مباحث ألفاظها قوله "سلام الله عليه":-

(الاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف ما أوجد معنى في غيره)(2).

أقول: فمنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومن ابن عمِّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومن بضعته سلام الله علیها وأبنائهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ كانت هذه الأصول، ومن العلماء كانت الفروع كما ورد عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إنَّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرِّعوا)(3) وعن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (علينا إلقاء الأصول وعليكم التَّفريع)(4).

ولأجله فإنَّ الحروف وأسماء الإشارة والضمائر والمبهمات كأسماء الموصول

ص: 211


1- أصول الفقه للشَّيخ المظفَّر ج1 ص 14.
2- الفصول المختارة الشَّريف المرتضى ص91، بحار الأنوار ج40 ص162.
3- الوسائل: ج18 ص41 باب 6 ح 51.
4- الوسائل: ج18 ص41 باب 6 ح 52.

المحتاجة إلى الصَّلات وغيرها كلُّها موضوعة بالوضع العام وإنَّ الموضوع لها خاص في التَّصوُّر والإمكان والوقوع لما مرَّ عن القسم الثَّالث.

المبحث السَّادس عشر

لماذا النِّزاع في إمكان الرَّابع والامتناع في وقوعهإنَّ سبب النِّزاع في إمكان القسم الرَّابع وهو (الوضع الخاص والموضوع له العام) - وإن كنَّا قد أشرنا إليه في السَّابق القريب إلاَّ أنَّنا قد نكون بحاجة إلى شيء من التَّفصيل فيه -- ناشئ من النِّزاع في إمكان أن يكون الخاص وجهاً وعنواناً للعام، وذلك لما تقدَّم من أنَّ المعنى الموضوع له لابدَّ من تصوُّره بنفسه أو بوجهه لاستحالة الحكم على المجهول.

والمفروض في هذا القسم إنَّ المعنى الموضوع له لم يكن متصوَّراً في عمومه وإنَّما المتصوَّر هو الخاص فقط وإلاَّ لو كان العام متصوَّراً بنفسه أو بوجهه ولو بسبب تصوُّر الخاص كان من القسم الأوَّل وهو (الوضع العام والموضوع له العام) وهو ممكن وواقع ولا كلام لنا فيه.

فلابدَّ حينئذ للقول بإمكان هذا الرَّابع من افتراض صحَّة أن يكون الخاص وجهاً من وجوه العام حتَّى يكون تصوُّره كافياً عن تصوُّر العام بنفسه ليكون تصوُّراً للعام بوجه كما عُرف رابعاً في كون الموضوع له عاماً.

ومن هنا حصل النِّزاع بين الأعلام من الأصوليِّين فبعض جعل الصَّحيح بعد التَّأمُّل أنَّ الخاص ليس وجهاً للعام وهم الأكثر إن لم يبالغ بكلمة الكل ومنهم الشَّيخ الآخوند قدس سره ، بل الأمر بالعكس لصحَّة أن يكون العام وجهاً من وجوه الخاص كالمرآة الَّتي تتَّسع لما ينعكس فيها وزيادة، ولذا أمكن القول بالقسم الثَّالث وهو (الوضع العام والموضوع

ص: 212

له الخاص) بإمكانه على الأقل على ما مرَّ تفصيله.

وبعض قال بالإمكان في الرَّابع وأوجد لما قال أمثلة يقر بها العقل، بل بما قد لا يجعل مجالاً لمن يستبعد ذلك، بل ترقَّى الأمر عند بعض مهم آخر حيث جعل تلازماً للرَّابع بالثَّالث فإمَّا أن يصح الثَّالث عندهم ويصح الرَّابع معه أيضاً وإمَّا أن لا يصحَّا معاً، وهو ما يصل في الصُّورة الأولى بالإمكان للرَّابع كالثَّالث، وعليه:

فقد نقل العلاَّمة السُّبحاني عن لفيف من المحقِّقين حسب قوله حاولوا تصحيح هذا القسم بالأمثلة التَّالية:-

(أ: إذا لاحظ الواضع فرداً خارجياً من نوع كزيد، وهو يعلم أنّ بينه و بين سائر الأفراد جامعاً كليّاً، فيضع اللفظ للجامع بينه و بين سائر الأفراد، فالملحوظ خاص أعني زيداً، لكن الموضوع له يكون الجامع بين هذا الفرد وسائر الأفراد.

ب: ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري(1) : إذا تصوَّر شخصاً جزئياً خارجيّاً من دون أن يعلم تفصيلاً بالقدر المشترك بينه و بين سائر الأفراد، ولكنّه يعلم إجمالاً باشتماله على جامع مشترك بينه و بين باقي الأفراد مثله، كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم أنّه حيوان أو جماد، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع(2) فالموضوع له لوحظ إجمالاً وبالوجه، وليس الوجه عند هذا الشخص إلاّ الجزئي، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقلاً عنده إلاّ بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص.

ج الكم المعروف ب- (المتر) الَّذي هو وحدة قياس الطول ومقداره (100 سنتيمتر) فالمخترع وضع لفظ (المتر) على الوحدة القياسيَّة الَّتي اخترعها، وعلى كل وحدة تشابهها، فالوضع خاص، لأنَّ الموضوع هو الكميَّة المعيَّنة ولكن الموضوع له هو الجامع

ص: 213


1- في درر الفوائد ج1 ص 5.
2- أي على الجامع بينه و بين غيره.

بينه وبين غيره).

انتهى ما عن السُّبحاني "دام عزُّه"(1).

أقول: وممَّن نقل رأي صاحب الدُّرر المحقِّق الحائري قدس سره أيضاً السيِّد الرَّوحاني قدس سره وجاء في كشكول الشَّيخ أحمد الإحسائي ما يشبهه وهو قوله قدس سره:-

(ثمّ التقسيم العقلي يقضي قسماً رابعاً وهو أنّ الوضع خاص والموضوع له عام وأنكروا وجوده ولا يبعد أن يكون المفقود عند وجدانه لا وجوده ويمكن أن يتحمّل في إثباته(2).

وربّما مثل له بالعقل فانّه مستعمل في كلّ عقل من سائر العقول لا بعينه في شخص خاص وأصل الاسم موضوع على العقل الأوّل وهو يدلّ عليه بمادّته وهيئته وهو ذات متشخّصة في الخارج فالواضع حال استعماله في كلّ عقل من سائر العقول لاحظ ما دلّ الاسم عليه بمادّته وهيئته وهو العقل الأوّل للتشخّص الموجود في الخارج فتكون ملاحظة ذلك المتشخّص خارجاً من حيث خصوصه وتعيّنه آلة لاستعمال ذلك الاسم في فرد لا بعينه منسائر العقول لا المفهوم الكلّي الذي لم يوجد أفراده إلاّ واحداً كما يتوهّم ليكون الوضع عامّاً لأنّ المفهوم إنّما يكون معروضاً للكلّي مع إمكان تعدّده وتكثّره وهو هنا غير ممكن لنقص قابليّة على ما هو عليه عن إمكان التعدّد فلا تتعلّق القدرة بتعدّده لا لنقص فيها وإنّما ذلك لنقص قابلية للوجود مع التعدّد). إلى آخره

أقول : هذا ما تيسَّر لدينا من الَّذي قاله العلماء الأكابر بما قد لا يلوح من أفكارهم حسب الأمثلة الَّتي ذكروها أكثر من حالة الإمكان للرَّابع في الظَّاهر.

وأمَّا ما قد يُستفاد منه قوَّة هذا الإمكان أيضاً فيه.

فقد قال الفيروز آبادي قدس سره في عنايته بعد ذكر رأي الشَّيخ الآخوند قدس سره في متن

ص: 214


1- إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج1 ص 41.
2- بمعنى أنَّ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وهو معنى الإمكان.

كفايته حول الأقسام الثَّلاثة وتركه للرَّابع منعاً له ما قد يُستفاد منه قوَّة إمكان الرَّابع كالثَّالث الممكن عنده وهو قوله:

("أقول" أوَّلاً لا معنى للتفكيك بين الوضع والموضوع له من حيث العموم والخصوص أصلاً فإنَّ الوضع ليس مجرَّد لحاظ المعنى كي إذا لوحظ المعنى العام كان الوضع عامَّاً سواء كان الموضوع له عامَّاً أيضاً أم لا وإذا لوحظ المعنى الخاص كان الوضع خاصَّاً سواء كان الموضوع له خاصَّاً أيضاً أم لا بناءً على جواز القسم الرَّابع كما ستأتي الإشارة إليه.

(وثانياً) أنَّ لحاظ الموضوع له على الدَّقة والتَّفصيل عند الوضع لازم عقلاً ولا يكفى اللِّحاظ الإجمالي المرآتي وإلاَّ فكما أنَّه يصح القسم الثَّاني أي الوضع العام والموضوع له الخاص(1)، فكذلك يصح القسم الرَّابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام إذ لم يعلم أنَّ مرآتية الفرد للطَّبيعي هي أقل من مرآتية الطَّبيعي للأفراد فكما أنَّه إذا لاحظ الطَّبيعي جاز وضع اللَّفظ لأفراده نظراَ إلى كونه وجهاً من وجوهها فكذلك إذا لاحظ الفرد الخاص جاز وضع اللَّفظ لكلِّيه المنطبق عليه وعلى أقرانه لكونه وجهاً من وجوه)(2) انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد عُرف عن الميرزا الرَّشتي قدس سره في كتابه بدائع الأصول ما حاصل كلامه ما يشبهه أيضاً:

(أنَّه كما أنَّ الجزئي يرى بواسطة الكِّلي كذلك الكلِّي يرى بواسطة الجزئي فإنَّ ((الإنسان)) يرى مع ((زيد)) غير أنَّه تارة يوضع اللَّفظ عليه من حيث أنَّه ((زيد)) وأخرى يوضع عليه اللَّفظ من حيث أنَّه ((إنسان))).

وقد أوضح ذلك بأنَّ (من يصنع معجوناً مركّباً من أجزاء، تارة يلحظ المعجون

ص: 215


1- أي حسب التَّقسيم الَّذي في كلام الشَّيخ الرَّشتي قدس سره للأوضاع.
2- عناية الأصول للفيروز آبادي ج1 ص 18.

بلحاظ كونه معجوناً خاصّاً، وأخرى يلحظه بلحاظ الخاصيّة التي فيه، فالوضع باللّحاظ الثاني خاص والموضوع له عام ، فالفرق بين الوضع العام والموضوع له العام، وبين الوضع الخاص والموضوع له العام ، هو الفرق بين قولنا : كلّ مسكر حرام، وقولنا: الخمر حرام لإسكاره، فوزان القضيّة الأولى وزان العام والموضوع له العام، لأنه يلحظ العام المسكر ويجعل الحرمة لهذا العام، أما في القضيّة الثانية فالموضوع الملحوظ هو إسكار الخمر، لكنْ لا يضع الحكمللإسكار المختص بالخمر، بل إنّه يرى بإسكار الخمر عموم الإسكار ويضع الحكم لهذا العام)(1).

انتهى ما عن الشَّيخ الرَّشتي قدس سره .

وقال الشَّيخ السُّبحاني "دام عزُّه" في بعض أجوبته حول حياة أستاذه السيِّد الخميني قدس سره ومبانيه الرِّجاليَّة والأصوليَّة وغيرها، ناقلاً رأيه حول إمكان الرَّابع بما يشبه السَّابق أيضاً فقال:

(أبطل الإمام الرَّأي المعروف في الوضع من مباحث الألفاظ الذي يقول "الوضع الخاص والموضوع له عام محال" و "الوضع العام والموضوع له خاص ممكن" وقال : إمّا أن يكونا ممكنين معاً أو ممتنعين معاً، وقد استدلّ لذلك، وذكرنا استدلاله في "تهذيب الأصول"، وإجماله أنّه يقول بتجويز الاثنين معاً بنحو وإلى امتناعهما بنحو آخر فيما لو لاحظناهما مرآة، بحيث لا يكون الخاص مرآة للعام ولا العام مرآة للخاص، فالخاص لأجل ضيقه لا يعكس المفهوم الواسع، والعام لأجل سعته لا يُري الجزئيات، وإذا كان اللِّحاظ الانتقال فكلاهما صحيح وجائز).

أقول : هذا ما كان من أمر الرَّابع في إمكان القول بإمكانه الخاص المقوِّي لعدم صحَّة القول بامتناعه إلاَّ أنَّه من بيان العلماء السَّابقين لا ينبغي توهُّم الوقوع للرَّابع بحجَّة القول للثَّالث عند من يراه فيه ممَّن سبق ذكرهم بسبب ما ذكروه من التَّلازم بين الثَّالث

ص: 216


1- بدائع الأصول : 39.

والرَّابع حول صحَّة أحد القولين من عدمه، وهو أمَّا الصحَّة أو عدمها لأنَّهما قد لا يقولان (أي صاحبي القولين) بالوقوع في الثَّالث كمن سبق ذكرهم فكيف يقال بالوقوع في الرَّابع ملازمة له للتَّجنُّب عن القياس مع الفارق.

وبهذا يكفينا ما بينَّاه من عدم الدَّاعي إلى الإطالة فيه حذراً من تضييع العمر بأكثر ممَّا أمكن في هذا الرَّابع بما لم تضمن منه ثمرة عمليَّة فعليَّة كما مرَّ من كلام سيِّدنا الأستاذ الخوئي قدس سره في القسم الثَّالث.

المبحث السَّابع عشر

تبعيَّة الدِّلالة للإرادة أم لا؟

والثَّمرة العمليَّة المترتِّبة على ذلك

ذكر المنطقيُّون أقسام الدِّلالة في مباحث ألفاظ علم المنطق - خادم العلوم الَّتي لابدَّ أن تكون إمَّا مرتبطة بالأوضاع اللُّغويَّة المقصودة من قبل الواضعين لها من العقلاء الأوائل أو من بعدهم إذا كان بعض الأوائل قاصدين أو جادِّين في قصدهم عند ارتباطهم بمقدِّمات الحكمة أو كانوا ساهين وغافلين حينما صار الوضع الأوَّل وهكذا من شابههم من بعض من تلاهم إلى هذا الحين من بين مقاصد العقلاء اللَّفظيَّة والَّتي منها حالتا الحقيقة والمجاز أو من غيرهم حتَّى من اصطكاك حجر بحجر فتولَّد صوت مفهم أو تحرَّك الهواء بحركة ذات صوت وتنبَّه السَّامع من الحجرين أو تحرَّك الهواء إلى لفظ من دون علم السَّامع بعدم تكلُّم اللافظ البشري على ما سوف يجيء في منظور الأصوليِّين وما يلحق بذلك -

فقسَّموها إلى ثلاثة أقسام وهي المطابقة والتَّضمُّن والالتزام.

ومن بعد هذا أراد الأصوليُّون إيصال ما توصَّل إليه المنطق - خادم علمهم وغيره

ص: 217

من هذه الأقسام الثَّلاثة - في الأصول من مباحث ألفاظها الخاصَّة إلى ما به الثَّمرة العمليَّة في طريق الاستنباط الفقهي عن طريقها إلى مبحث تبعيَّة الدِّلالة من ذات معنى واحد أو معنيين قد يتسبَّب منهما معاً الخلط المخل بالتَّبعيَّة.

وإلاَّ فلا جدوى من الاهتمام بطرح هذه البحوث في الأصول، سواء كان الدَّاعي إلى هذه البحوث حول النُّصوص الإلهيَّة أو ظواهرها أو السنَّة النَّبويَّة وروايات العترة الطَّاهرة أو ظواهرها وفي لغة التَّفاهم العلمي الجدِّي لا الهزلي ولا المكذوب ولا الملفَّق بالكذب الَّذي تضيع معانيه ولا المروي تقيَّة في غير محل الاختيار أو زمانه من الأمور الَّتي منها يتسبَّب بعض انسداد باب العلم الَّذي بسببه يلوذ الأصولي بالنَّمط الآخر من الأصول، إلاَّ إذا اضطرَّ لها وبمقدار الحاجة أو غير ذلك ممَّا هو أقل من هذا المستوى حتَّى الَّذين يساوون الجهلاء وغير العقلاء وهكذا.

فالتزموا بعد الكلام عن وضع الألفاظ وأقسامه وما يتعلَّق باندماجه بالمعنى ذاتيَّاً بدلاً من عدمه بالبحث عن الدِّلالة وتبعيَّتها للإرادة أم لعدمها؟ أمَّ أنَّ الدِّلالة مستقلَّة عن بعض حالات الوضع الأوَّل لو تعدَّد الوضع؟ أم أنَّها تابعة بتمام ذلك الوضع الأوَّل؟ أم لمَّا يتجَّدد أيضاً؟وقد عُرف عنهم قبل الدُّخول منَّا في البحث أنَّ الدِّلالة على قسمين (تصوريَّة وتصديقيَّة).

والأولى: تسمَّى ذات الدِّلالة الوضعيَّة دون أن تتلازم مع مقدِّمات الحكمة، وهي من قال المنطقيون عنها بأنَّها غير تابعة للإرادة، وسيجيء تعريفها.

والثَّانية: ذات الارتباط بها(1) وهي إحراز كون المتكلِّم في مقام البيان والإفادة، وإحراز أنَّه جاد وغير هازل، وإحراز أنَّه قاصد لمعنى كلامه شاعر به، وإحراز عدم نصب قرينة على إرادة خلاف الموضوع له، وإلاَّ كانت الدِّلالة التَّصديقيَّة على طبق

ص: 218


1- أي مقدِّمات الحكمة.

القرينة المنصوبة، وسيجيء تعريفها.

فذكر الشَّيخ الرَّئيس أبو علي ابن سينا(1) e والمحقِّق الخواجه نصير الدِّين الطُّوسي(2) قدس سره أنَّ الدِّلالة تتبع الإرادة، فيلزم من ذلك ما قاله القائلون بأنَّ الألفاظ موضوعة للمعاني مع قيد الإرادة.

ولكن هذا خلاف التَّحقيق من حيث المبدأ للزوم الفصل بين حالة أمثلة التَّصوُّر وأمثلة التَّصديق، لكثرة من يقول اللَّفظ ولم يُرد المعنى الَّذي يحمله إمَّا سهواً وغفلة أو في حال النَّوم أو حكاية، لأنَّ اللافظ قد لا يعرف المقصود من هذا اللَّفظ وذاك، أو كالآيات القرآنيَّة الَّتي نزلت وحياً قرآنيَّاً أو غيره وغيرها من الكتب السَّماويَّة السَّابقة وصحفها ونصوص السنَّة الشَّريفة ونصوص أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ التَّابعة لمضامين الوحي الشَّريف لو نطق بتلك الآيات والرِّوايات الشَّريفة غير المبلِّغ الكامل، أو حتَّى من اعتبر مبلِّغاً لكنَّه لا أهليَّة له في الواقع، لأنَّه ممَّن لا يقول إلاَّ بما لم ينزل الله به من سلطان من المعاني تحريفاً ونحوه وإن كانت إرادة ذلك تابعة للمريد الأوَّل تعالى في جوهري الكتاب والسنَّة الَّتي كان مورد الاطمئنان بصدورها من الإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المرسل عن الله تعالى، وهكذا من حذا حذوه من الحواري وغيرهم، لكون المتكلِّم وإن غفل أو نحو ذلك فقال ما قال، فإنَّه ليس معنى ذلك أن لا يحمل اللَّفظ معنى في السَّابق.

إلاَّ إذا أراد العلَمان - من قولهما ذلك عند الوضع العقلائي الأوَّل أو حتَّى الوضع الثَّاني في حال الجد لا في حال الهزل أو الوضع الثَّالث، وهكذا بعد هجران الوضع السَّابق أو الأوضاع السَّابقة أو من دون قصد الهجران أو لتعدُّد الواضعين، سواء في الزَّمان الواحد والمكان المتفرِّق أو الزَّمان المتعاقب ولو في مكان واحد بحيث كل وضع يحمل معنى يغاير المعنى الآخر وبمستوى الحقيقي وهو ما يُسمَّى بالمشترك اللَّفظي إذا كان

ص: 219


1- الشفاء، قسم المنطق في المقالة الأولى من الفن الأوّل، الفصل الثامن /42.
2- حسبما حكى عنه العلاّمة الحلّي قدس سره في الجوهر النضيد في شرح التجريد / 4.

اللَّفظ الموضوع واحداً وهو ما يحتاج فهم معناه إلى القرينة معيَّنة المراد أو دون أن يكون الوضع الثَّاني مثلاً أو الأكثر يحمل المعنى الحقيقي مثل السَّابق وهو ما يسمَّى بالوضع المجازي المحتاج فهم معناه إلى القرينة الصَّارفة أو نحو ذلك من الفروع اللُّغويَّة كما في المنطق والمعاني والبيان وعلم الأصول -إرادتهما(1) مع الاستعمال لا مجرَّد الإرادة، لأنَّ الإرادة ناشئة من الاستعمال كما صرَّح الشَّيخ الآخوند في قوله قدس سره (الخامس لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها لما عرفت بما لا مزيد عليه من أنَّ قصد المعنى على أنحائه من مقوِّمات الاستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه .... إلخ)(2).

وقد يتناسب هذا المشكل مع التَّصوُّر دون التَّصديق في أكثر محاوره، وإن قلَّت المصادفات الصَّادقة، وإن كان هو رأي ذلك المشهور نقلاً عن السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره(3) على ما سيجيء تبيُّنه من ذكر الثِّمار العمليَّة لصالح الدِّلالتين.

ولذا أوَّل الشَّيخ الآخوند قدس سره ذلك على الإجمال، لإزالة الإشكال عمَّا أراده العلَمان بإفرازه عن رأي المشهور، دون إعراب الشَّيخ قدس سره عن تأييد منه لها في ذلك والبقاء على المعنى المتيقَّن، بما يحتاج إلى بيان منَّا ولو بنحو من الاختصار، لحصر المقبول في المقام إن كان وهو (تبعيَّة الدِّلالة للإرادة) وإخراج غيره منه مع شيء من التَّصرُّف الإضافي الَّذي لا يخلو من الإفادة الإيضاحيَّة، وهو أنَّ الدِّلالة على قسمين:

الأوَّل: دلالة يُعبَّر عنها بالدِّلالة التَّصوريَّة، وهي عبارة عن دلالة اللَّفظ على معناه، أو انتقال ذهن الإنسان إلى معنى اللَّفظ الأساسي مثلاً بمجرَّد سماعه ولو علم أنَّ اللافظ

ص: 220


1- أي العلَمين وهما الرئيس والخواجه.
2- كفاية الأصول ج1 ص 16.
3- غاية المأمول ج1 ص 145.

لم يقصده، إذ مجرَّد سماع اللَّفظ من لافظ ولو بلا شعور ولا اختيار أو حتَّى من وراء جدار لابدَّ أن يخطر مدلول ذلك اللَّفظ في ذهن السّامع له بعد معرفة وضع اللَّفظ لذلك المعنى، فالعارف بأنَّ لفظة (زيد) موضوعة لذات خاصَّة بمجرَّد سماع هذا اللَّفظ ينصرف ذهنه إلى معناه بسبب اندكاك اللَّفظ بالمعنى والمعنى باللَّفظ، إن كان التَّلفُّظ به قد حصل بلا شعور ولا اختيار حتَّى من الألفاظ الَّتي لها حرمتها ولا يجوز التَّعدِّي على معانيها وتبديلها بالرَّأي، ومن ذلك انتقال الذِّهن إلى المعنى الحقيقي عند استعمال اللَّفظ في معنى مجازي، مع أنَّ المعنى الحقيقي ليس مقصود المتكلِّم.

وهنا مورد اعتاد على ذكره المنطقيُّون والأصوليُّون في هذا المقام وهو بحث علامات الحقيقة وسيجيء بيانه قريباً.

وقد يتصوَّر المعنى تصوَّره الاعتيادي بدون هذه الأمور ولو مع خفَّة التَّعلُّق ودون مستوى العمق فيه كما في معنى من معاني الدِّلالة التَّصديقيَّة، وهي في البداية تصلح أن تسمَّى تصوريَّات تحمل دلالة كبدايات نشوء الحضارة المدنيَّة للغات أو أواخر ما قبلها، وإن قالوا عنها بأنَّها في الواقع ليست بدلالة إلاَّ بنحو التَّشبيه والتَّجوُّز لتداعي المعاني، لكنَّها كانت في بداياتها صورة تفاهميَّة مختصرة رتِّب الأثر العملي عليها وكان ناجحاً في بعض الميادين وإلى الآن.

الثَّاني: هو الدِّلالة التَّصديقيَّة، وهي عبارة عن الدِّلالة الَّتي توجب الجزم للسَّامع بأنَّ مراد المتكلِّم من لفظه هو ذلك المضمون الخاص لا غير، ومن المقطوع به أنَّ هذه الدِّلالة لاتحصل إلاَّ مع إحراز أنَّ المتكلِّم كان قاصداً في كلامه ذلك المدلول الخاص، فمع عدم القصد لا تتحقَّق هذه الدِّلالة.

ومنه ما مرَّ ذكره من كلام الوحي والسنَّة إذا كان الَّلافظ هو ملك الوحي، أو النَّاطق الأوَّل من البشر وهو النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ومن بعده بقيَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ الحفظة للألفاظ ومعانيها، لحتميَّة دلالة ألفاظه عن الإرادة مع الاستعمال.

ص: 221

وقد أضاف السيِّد الأستاذ المحقِّق الخوئي قدس سره قسماً ثالثاً(1)، وهو الجملة الخبريَّة، وهي دلالة الألفاظ على كون المتكلِّم مريداً للإخبار وبصدده بإرادة جديِّة لا هازلاً أو كان في سخريَّة، إلاَّ أنَّه عزلها عن أن تكون مرتبطة بمورد بحثنا.

لوضوح أنَّ هذا القسم وهو الجملة الخبريَّة لم تكن إلاَّ من بناء العقلاء لا من وضع واضع معيَّن حتَّى يعرف أنَّ دلالة ألفاظها تابعة لإرادته أم لا؟ وهي الَّتي جعلها بعيدة عن مراد العلَمين "رحمهما الله".

لكن تبقى الدِّلالتان بعد ما ذكرناه من تأويل الشَّيخ الآخوند قدس سره في ما حاصله، أنَّ مراد العلّمين من تبعيَّة الدِّلالة للإرادة منهما هو القسم الثَّاني لا الدِّلالة التَّصوريَّة.

وإن عُرف عن المشهور الارتباط بها حسبما عُرف في تقرير بحث السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره حيث أنَّهم قالوا بدخولها في المقام، لأنَّ كل متكلِّم لا يحمل كلامه على الإرادة الواقعيَّة له إلاَّ بعد إحراز الإرادة منه وهي الَّتي في هذا القسم.

فالَّذي قصده العلَمان "رحمهما الله" شيء والَّذي فُهم من كلامهما شيء آخر فلا داعي للخلط.

وبعد تأويل الشَّيخ المحقِّق الآخوند قدس سره وحصر مطلب التَّبعيَّة في الدِّلالة التَّصديقيَّة - حسب اتِّضاح واختيار العلَمين لهذا الرَّأي دون رأي المشهور وتبيَّن نسبة التَّصوريَّة أنَّها للمشهور كذلك ولصاحب الفصول فضلاً عن التَّصديقيَّة -

نعرف أنَّ هذا وإن كان صحيحاً في بابه عند وضع الواضع الجاد في وضعه لو لم يهجر وضعه لمعناه وبقي مستعملاً له من دون أن ينسخ بوضع جدِّي آخر وكما مرَّ ذكر ه من النَّصوص الشَّرعيَّة.

لكن نقول: وبعد أن حكى العلاَّمة الحلِّي قدس سره(2) عن أستاذه المحقِّق الخواجه الطُّوسي

ص: 222


1- غاية المأمول ج1 ص 145.
2- الجوهر النَّضيد في شرح التَّجريد / 4.

قدس سره قوله بأنَّ (اللَّفظ لا يدل بذاته على معناه بل باعتبار الإرادة والقصد)(1).

وأوضح عنه أيضاً ما ذهب إليه من أنَّ الدِّلالة المطابقيَّة هي دلالة اللَّفظ على تمام المسمَّى والدِّلالة التَّضمنيَّة هي دلالة اللَّفظ على جزئه.

أنَّه قد اعترض قدس سره على أستاذه الخواجه قدس سره بأنَّه ربَّما يكون اللَّفظ مشتركاً بين الكل والجزء، كما إذا كان لفظ الإنسان موضوعاً للحيوان النَّاطق ولخصوص النَّاطق أيضاً، فعندئذ تكون دلالة الإنسان على النَّاطق دلالة تضمنيَّة ومطابقيَّة.وأجاب أستاذه المحقِّق الطُّوسي قدس سره عن هذا الاعتراض، بأنَّ اللَّفظ لا يدل بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد واللَّفظ حينما يُراد منه المعنى المطابقي لا يراد منه المعنى التَّضمُّني فهو يدل على معنى واحد لا غير.

ولم يرتض العلاَّمة قدس سره بهذا الجواب حسبما نُقل عنه.

ثمَّ أجاب قدس سره عن هذا الاعتراض المذكور، بأنَّه يجب أن تقيَّد التَّعاريف في الدِّلالات الثَّلاثة بجملة (من حيث هو كذلك)، وعندئذ يندفع النَّقض.

لأنَّ الدِّلالة المطابقيَّة عبارة عن دلالة اللَّفظ على تمام المسمَّى من حيث هو تمام المسمَّى، كما أنَّ الدِّلالة التَّضمنيَّة عبارة عن دلالة اللَّفظ على جزء المعنى من حيث هو جزء المعنى، وعلى ذلك فلا ينطبق على دلالة الإنسان على النَّاطق إلاَّ أحد التَّعريفين.

ولكن نقول: إن قيل بأنَّ جزء حروف (زيد) لا يدل على جزء معناه؟

فإنَّه يمكن أن يقال بأنَّ جزء (غلام زيد) يمكن أن يدل على جزء معناه، فضلاً عن المركَّب التَّام، وأيضاً لا يمكن نكران مصاديق الثِّمار العمليَّة لصالح الحالتين ممَّا يأتي وإن كانت أقوى في الثَّانية.

وكأنَّ من إصرار العلاَّمة قدس سره على ما أفاده فيه مجال، ليكون الرَّد منه باقياً لأستاذه الشَّيخ الخواجه قدس سره وإن تكرَّر من الخواجة قدس سره الرَّد كذلك وهو كفاية قول (ناطق) عن

ص: 223


1- علماً بأنَّ نظريَّة الشَّيخ الرَّئيس نفس نظريَّة الخواجه.

الحيوان النَّاطق عند تعريف الإنسان به في الدِّلالة المطابقيَّة والتَّضمنيَّة في آن واحد.

كما وأنَّه يمكن أن يلاحظ على كلام الشَّيخ الآخوند قدس سره حينما قال في المقام (نعم لا يكون حينئذ دلالة بل يكون هناك جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة)(1).

بأنَّ هذا التَّوجيه منه لا يخلو أيضاً عن المعنى الدِّلالي بحسبه وإن كان بالمعنى العكسي في نظره، ومن ذلك تمَّ قبول دلالة كل لفظ مختصر مقيَّد في عرف البيانيِّين حقيقة لا مجازاً كما أراد العلاَّمة قدس سره .

ويؤيَّد ذلك حينما يكون التَّصوَّر للمفردات دون التَّصديق إذا قيل لفظ (رجل) وعرف منه السَّامع أنَّه الإنسان البالغ العاقل وصادف مرور مصداق مثل هذا الرَّجل أمام هذا السَّامع ورتَّب الأثر على ذلك وما يحويه من معنى خارجي لو يُراد عن طريق التَّبادر ونحوه من علائم الحقيقة وإن لم يكن اللافظ له في تمام انتباهه ووعيه.

وبذلك لم تكن الدِّلالة تابعة للإرادة من جميع الجهات بل لمجرَّد الاستعمال بعد وضعها السَّابق حتَّى ظهر للسَّامع ما ظهر.

ومن حالات ترتيب الأثر منه أنَّه لو كان ناذراً شيئاً لرجل ما حينما يسمع صوت وجوده ويراه عليه الوفاء به له ولو عن طريق هذه النِّسبة من التَّصوُّر.

وأمَّا الثِّمار العمليَّة المعتبرة في البحث فالمحتمل منها أمور:

أحدها: ما يتعلَّق بجميع عناوين مباحث الألفاظ المحتمل من حالة إتمام أمورها بحثاً وتدقيقاً.

ومن تلك الأمور كون الدِّلالة اللَّفظيَّة تابعة للإرادة أم لما هو أوسع؟ للوصول إلى تمامما تنتجه الأصول المرتبطة بما بين المنقول والمعقول، ولربَّما فيه مظنَّة العثور على مصداق خارجي بعد حين لو استقصيت بأجمعها، بحيث لو علم أنَّ من ترك بعضها يؤدِّي إلى خسارة الانتفاع المحتاج إليه من هذه المظنَّة ولم يكن البناء على شيء من

ص: 224


1- كفاية الأصول ج1 ص 17.

الاختصار مهمَّاً، عدا ما لا طائل تحته منها في عرف الأصيل منها وفي عرف الصِّناعة المحنَّكة.

ثانيها: التَّفريق بين المصطلحات العلميَّة المختلفة وأدوارها المتفاوتة بين السَّطحيَّة والعميقة الَّتي عن طريقها يتم تشخيص المعنى اللُّغوي المراد من غيره، ثمَّ الإخطار وهو الدِّلالة التَّصوريَّة، ثمَّ المرحلة الاستعماليَّة، ثمَّ الدِّلالة التَّصديقيَّة الأولى، ثمَّ عدم الهزل وهو الإرادة الجديَّة وهي الدِّلالة التَّصديقيَّة الثَّانية.

بمعنى تمييز بعضها عن بعض، لئلاَّ تتداخل بعضها مع بعض ويتراكم بعض الاصطلاحات على بعض، بما قد يغمط حق ما ليس بمعط نتيجة إيجابيَّة، وإن كان سطحيَّاً في رتبته وبما قد يعطي الحق لجهة لا تستحقه وإن كان فيها شيء من العمق، وهو ما يسبِّب ضياع القيم الفكرية والنَّكات العلميَّة بسيطة ومركَّبة سطحيَّة ومعمَّقة ومن جميع الدَّرجات سواء قلنا بكلام العلمين أم لم نقل أو فصَّلنا.

ثالثها: ما مرَّ ذكره من حالة سماع شخص لفظ (رجل) من متكلِّم لم يعلم حاله في كونه عن قصد أو غيره وصادف وجود ما يشخِّص هذا الرِّجل عند السَّامع وتذكَّر أنَّ عليه نذراً عليه أن يرتِّب الأثر له لو رآه.

وهي ثمرة علميَّة عمليَّة في نفس الوقت وفقهيَّة لصالح الدِّلالة التَّصوريَّة ولو من جانب واحد وهو السَّامع.

ر ابعها: لو تمَّت من ناحيتها الفقهيَّة فبناءاً على أنَّ كل حكم موضوعه كلام الآدميِّين يمكن أن تترتَّب عليه ثمرة من خلال دراسة الأصول للفقه.

مثاله: من تكلَّم ساهياً في صلاته بكلام الآدميِّين لو فرض أنّه ورد في الرِّوايات (من تكلَّم ساهياً فعليه سجدتا السَّهو)، شريطة اعتبار كلام الآدميِّين أن يحمل معنى وقد حمله لكن دون السَّاهي، كما لو سمع من بعض السَّامعين أو تمَّ الحكم في ذلك في نظر الإمام الصَّادر منه الحكم وإن كان تلفَّظ السَّاهي اخفاتيَّاً.

ص: 225

وهذا المعنى في (من تكلَّم ساهياً) هل يمكن أن نحمل تعبيره على المعنى الحقيقي؟ بناءاً على أنَّ الدِّلالة تابعة للإرادة، والدِّلالة هي التصوريَّة، فعندما يكون ساهياً ليس هناك إرادة ولا يعتبر كلاماً، فكيف في الرِّواية الَّتي تقول (تكلَّم)؟ أنَّ عليه السَّجدتين عند السَّهو.

فإنَّ ترتيب الأثر الشَّرعي على هذا لا من جهة كون التَّكلُّم وضع سهواً، لأنَّه لا قيمة للموضوع السَّهوي، بل من جهة أنَّ هذا اللَّفظ من الكلمات المقولة وهي المفهمة عند الآدميِّين وإن لم يقصد معناها السَّاهي.

خامسها: نقل العامَّة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم قوله (ثلاثة جدُّهنَّ جد وهزلهنَّ جد الطلاق والنكِّاح والعتاق)(1)، وعليه وعلى أساس قاعدة الإلزام يمضي عندنا نحن الإماميَّة طلاقهم، وإن لم يتقيَّدوا فيه بمثل ما نحن نتقيَّد به وإن كان بنحو من التَّصور غير المركَّز فيه بالشُّهودونحوها.

إذن: فالبحث

وما يمكن أن يرتَّب عليه من ثمار هو من البحوث المهمَّة، ولو في مقام التَّصور بمقدار ما يمكن أن يقبل منه صحيح.

وكذا في مقام التَّصديق مؤكَّداً، إلاَّ أنَّ تبعيَّة الدِّلالة للإرادة لابدَّ وأن يكون الاستعمال مصاحباً لها أو سابقاً عليها لأجل الوضع اللَّفظي ولو من طرف واحد، لعدم معقوليَّة أن تكون الإرادة مرجعاً للدِّلالة بدون لفظ موضوع له علاقة بما يمكن أن يتصوَّر منه المعنى عند استعماله البدائي، ولذا لا يمكن أن يستفاد عند سماع مطرقة الباب المتحرِّكة من الدَّاق لها إلاَّ إذا سمع منها السَّامع - وإن كان ذلك عن قصد - لفظاً ذا حروف مجموعها تحمل معنى مقبولاً وهو غير وارد حسب المألوف العرفي لأنَّه مثل السَّالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 226


1- أخرجه أبو داود (2/259، رقم 2194)، والتَّرمذي (3/490، رقم 1184).

المبحث الثَّامن عشر

دور الاستعمال بين الوضع والدِّلالة دون الإرادة

مرَّ التَّركيز في بحثنا الماضي عن تبعيَّة الدِّلالة للإرادة وعدمها على أهميَّة الاستعمال ولو بنحو الإشارة استطراداً بعرض نص للشَّيخ الآخوند قدس سره حوله وتأييدنا لما قاله في هذا الأمر وميلنا له مع التَّعليل له في نتيجة البحث.

وإن الإرادة ناشئة من الاستعمال دون أن تكون هي المرجع الوحيد للدِّلالة، وإن كان للعلَمين(1) شأنهما المحترم والعصمة لأهلها، بما لا يمكن فيه إنكار صدق سابقيَّة الإرادة مع الوضع لو لم يبدأ الاستعمال، بحيث لن تمح أسبقيَّة الاستعمال لها لو اجتمعت الإرادة معه أو صاحبته، حتَّى لا تطلق سابقيَّة الإرادة للدِّلالة كقاعدة أصوليَّة مع الاستعمال ينفي ما عداها في كلا الدِّلالتين.

فنقول مع الاختصار: إنَّ الاستعمال أءصل من الإرادة للفظ الموضوع، لكون الإرادة وحدها لا أثر لها، ما لم يكن هناك وضع واستعمال معاً إن كانت لذلك اللَّفظ الموضوع، ولحاكميَّة التَّجارب اللَّفظيَّة الاستعماليَّة الموضوعة لغويَّاً على الإرادة وهي متفاوتة، لأنَّ من أراد شيئاً وتلفَّظ بلفظ لم يسبق بوضع ولا استعمال ولو بالسَّابقيَّة المتَّصلة تسلسليَّاً ولو آناً ما أو شخص يستعمل وآخر يريد أو بالمصاحبة لم يكن إلاَّ من نشوز في القواعد المرغوبة.

ولذا لم يقبل من الأمثلة إلاَّ لمن قال مثلاً (أءتوني بولدي الجديد محمَّد) بعد ولادته ولم يسمِّه من قبل، حيث اجتمع الوضع والاستعمال ومعهما الإرادة المصاحبة أو الَّلاحقة في آن متقارب في تداخله أو مصاحب غير جدِّي أو مؤقَّت كالواحد إن لم يبدُ

ص: 227


1- وهما الرئيس والخواجه.

له فوراً في ذلك الوقت أو كان محمد في السَّابق مثلاً موضوع ومستعمل لشخص آخر، ولكن هذا المثال قليل الاستعمال في بابه.

بل إنَّ الاستعمال جاء بحالة الوضع المحدود بالحدود التَّصوريَّة القابلة بأن يتداول بمستواها، وإن كان خفيفاً ليس كالمركز التَّصديقي كما مرّ ذكره في حالة بدايات المدنيَّة اللُّغويَّة أو أواخر البدائيَّة أو ما قبلها من أيام بدائيات تكون اللُّغات وضعاً وتداولاً، بل حتَّى لو كان التَّداول من جانب واحد، إذا كان مسبِّب هذا اللَّفظ أو ذاك مفرداً أو مركَّباً من لافظ ساهي أو ناسي أو غافل أو هازل أو لاغي كالسَّكران ونحوه أو نائم أو ببَّغاء لا تحكي إلاَّ ما عُوِّدت عليه من الموضوعات واصطكاك الحجر بالحجر ممَّا قد يشبه صوته بعض الألفاظ الموضوعة ولم يُر الاصطكاك وإنَّما سمع ذلك الصَّوت منه حسب.

ومن ذلك ما تقوله بعض المسجَّلات الصَّوتيَّة وبعض وسائل البث الإعلامي الحديث الَّتي لا علاقة لها بمخاطبة السَّامعين أو بعض التَّيَّارات الهوائيَّة المشابهة ممَّا يُعطي من التَصوُّريَّات الَّتي لم تكن في تواطئ مقصود نوعي أو شخصي مع السَّامع الَّتي تذكر عند سماعه بما يحوج إلى ترتيب الأثر على ما يحمله المسموع من المعنى.وقد رتَّب الأثر الجدِّي على هذا التَّداول ذلك الجانب الآخر لا من جهة الرَّابط الوفاقي بين الَّلافظ والسَّامع، بل من جهة بعض المصادفات أو من مجرَّد السُّماع والتَّذكُّر بشيء يحوج إلى ترتيب الأثر ولا حبَّاً للاستماع إلى أمثال من ذكرنا بعضهم ممَّن لا يعتنى بهم دون أن يعرفه السَّامع أنَّه من اصطكاك الأحجار مثلاً أو أصوات تيَّارات الرِّيح أو غيرهما.

فما يستفيده السَّامع من دلالة هكذا ألفاظ لم تكن حقَّاً عند التَّدقيق والفحص في جوانب الأحداث المختلفة كونيَّة طبيعيَّة أو صناعيَّة فاقدة للقصد في ذاتها وإن لم تكن عن الإرادة من مصدرها بما وصفناه ولا عن بعض حالات الاستعمال إلاَّ عن الوضع السَّاذج البسيط الَّذي لا يخلو من معنى حتَّى الَّذي لم يُعلم واضعه السَّابق من هو حتَّى

ص: 228

يسأل عنه أنَّه استعمله وأراده إن احتيج إليه حتَّى ظهر إلى هذا الحين على هذا النَّحو من النُّشوء فوصوله مألوفاً يحمل معنى ولو بوحده.

وبهذا المستوى من التَّلقيَّات مع اختفاء أمر من وضعه سابقاً بأي نحو من الوضع قد لا يمنع من التَّصرُّف معه وبالمستوى التَّصوري الَّذي ذكرناه، لعدم المانع كما ذكرناه في الثِّمار ونحوها ومن المقتضيات، مع جواز إعماله مع ما يكمله من التَّركيب التَّصديقي على طبق تعاليم علم المعاني والبيان والمنطق والأصول، وكذا أمر التَّصور والتَّصديق بحسب الوضع الثَّاني أو الثَّالث وهكذا.

ولأهميَّة ما ذكرناه من الاستعمال قد تضعف حتَّى حالات الوضع من جهة الواضع الواحد المعيَّن، كما في غلبة الطَّبع لحالة الوضع على ما أستظهره السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره بأنَّ الوجدان مساعد على عدم الاحتياج إلى الوضع، وأنَّه دائر مدار الاستحسان الطَّبعي ما دام الاستحسان الطَّبعي موجوداً وإلاَّ فلا)(1).

مثلاً يقال (فلان سلمان زمانه) فلا يتوقَّف بعد فرض المشابهة في التَّقوى إلى رخصة من واضع لفظ سلمان إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، وحتَّى الإرادة في القسم التَّعيُّني دون التَّعييني ممَّا مضى ذكره.

أقول: وهو معنى غير بعيد عمَّا نشاهده من الشَّواهد المشابهة كقول (فلان أبو ذر زمانه) ونحو ذلك.

نعم قد تضعف حالة الاستعمال الأقوى وتفقد أهميَّته في مثل المهملات ك- (ديز) مقلوب (زيد) ولم يؤلف استعمال مثل هذا اللَّفظ إلاَّ في مقام التَّمثيل للطلاَّب، وهو مألوف على قلَّته لتقريب معنى ما كان مهملاً بالمثال.

وعلى فرض أن يقال بورود عِدَّة روايات شريفة مهمَّة عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ تفيد تبعيَّة

ص: 229


1- غاية المأمول ج1 ص 140 تقريرات الجواهري.

الدِّلالة للإرادة كما في الأصول الأصيلة(1) برواية محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، أنَّه سأل الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن امرأة أحلَّت لزوجها جاريتها؟ فقال: ذلك له، قال: فإن خاف أن تكون تمزح، قال: فإن علم أنَّها تمزح فلا(2).وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن امرأة أحلَّت لي جاريتها؟ فقال: ذاك لك، قلت: فإن كانت تمزح؟ فقال: وكيف لك بما في قلبها، فإن علمت أنَّها تمزح فلا(3).

ورواه الشيخ بإسناده، عن أحمد بن محمد إلاَّ أنَّه قال: أحلَّت لزوجها جاريتها.

ورواه بإسناده عن محمَّد بن يعقوب، وكذا الَّذي قبله(4).

وعن محمَّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نصر، عن المشرقيّ، عن الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: قلت له: ما تقول في رجل ادَّعى أنَّه خطب امرأة إلى نفسها وهي مازحة، فسألت عن ذلك، فقالت: نعم؟ فقال: ليس بشيء، قلت: فيحل للرَّجل أن يتزوَّجها؟ قال: نعم(5).

إلى غير ذلك ممَّا رواه السيِّد قدس سره وغيره ممَّا يوافق هذا المعنى وهو مرجعيَّة الإرادة للدِّلالة وهي مجموعة لا بأس بها يقوِّي بعضها بعضاً.

فإنَّه يمكن أن يقال - إن احتج بإطلاق هذه الرِّوايات - بأنَّ إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه، وهو أسبقيَّة الاستعمال الدَّاخل في طول الإرادة لا في عرضها، وإن كانت الإرادة

ص: 230


1- للسيد عبد الله شبر قدس سره ص 117.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 289/1376، وأورده في الحديث 2 من الباب 24 من أبواب عقد النكاح.
3- التهذيب 7: 462/ 1854.
4- التهذيب 7: 242/ 1058، والاستبصار 3: 136/491.
5- الكافي 5: 563/28.

ضروريَّة في بابها الجدِّي بعد الاستعمال، للخلاص من المزاح والهزل الَّذي في باب عدم جوازهما من باب التَّصديق.

ولذا فإنَّ ما قد يظهر من بعض إرسال بعض الرِّوايات الذَّاكرة للعقود المزاحيَّة من دون ظهور المنع من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ومن ذلك ما أورده العامَّة من الرِّواية الَّتي ذكرناها سابقاً عن رواتهم وهي) ثلاثة جدِّهنَّ جد وهزلهنَّ جد الزَّواج والطَّلاق والعتاق) -

فإنَّه محمول على التَّقيَّة، وإن كنَّا نبني عليه عندنا في خصوص قضاياهم على أساس قاعدة الإلزام دون قضايانا المزاحيَّة الممنوعة عندنا نحن الإماميَّة.

بل في بناءنا على قضاياهم المزاحيَّة الجائزة عندنا حسب الدَّليل المذكور دون أن يبنوا هم على مزاحيَّاتنا، لعدم الدَّليل عندنا، فيعدم لزوم الإرادة ويكون للهزل معنى مقبول، وهو ما يرجع الأهميَّة للاستعمال في مواقعه، فيدور الأمر بين الوضع والاستعمال وتتبعهما الدِّلالة.

ولأجل الفوارق المذهبيَّة في الفقه لا مانع عند التَّحيُّر من الرُّجوع إلى قواميس اللُّغة العامَّة وتطبيق القضيَّة الأصوليَّة على ما يتناسب مع المسلك المذهبي الخاص.

يبقى هنا مطلب لم نتكلَّم عنه له علاقة بالاستعمال أيضاً وإن لم تصاحبه الإرادة في باب استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى، وهو بحث أنَّ القرآن يحمل سبعة معانٍ أو سبعين معنى تحت عنوان (دفع وهم) تعرَّض له الشَّيخ الآخوند قدس سره وغيره دون أن نذكره والبت فيه للاختصار في هذا الجزء.

ولكن سوف نذكره في المقام الأنسب، وهو الجزء الثَّاني من مباحث الألفاظ المرتبطةبخصوص كتاب الله الَّذي من آياته الآيات المتعلَّقة بالأحكام إن شاء الله تعالى.

ص: 231

المبحث التَّاسع عشر

خلاصة الأمثلة الَّتي مرَّت من بداية الأوضاع إلى آخر مواضعها

لقد تحصَّل من جميع ما مضى ذكره عن الأوضاع اللَّفظيَّة المستعملة سواء الجديَّة أو غيرها إلى آخرها الَّتي من بعضها ما قد يأتي حتَّى ما يناسب بعض المتفرِّقات والملحقات الآتية كذلك.

وهذه الخلاصة تصلح أن تكون مرجعاً لها كذلك عند الحاجة فيما إذا فقدت الإرادة في بعض الأمثلة، لكون الدِّلالة حتماً تكون تابعة للاستعمال بناءاً على ما ترتَّب سابقاً، وكذا لو كانت مصاحبة له فضلاً عمَّا لو كانت لاحقة به، إلاَّ ما لو كان الاستعمال مفقوداً، كما في الوضع والإرادة في المرتبة الدَّانية كما في المثال العاشر، فحينئذ تكون الدِّلالة تابعة للإرادة فقط.

لأنَّا نريد الآن أن نذكر أغلب تلك الأمثلة لأجل ذكر أهم المواضيع الخاصَّة المحتاجة إلى هذه الأمثلة ممَّا مرَّ ولو معجَّلاً، لبعض الأسباب التَّدوينيَّة إن لم نقدر على الكل، وإن لم نأت بعد بتلك الملحقات المتفرِّقة الَّتي قد يتناسب معها بعض هذه الأمثلة، عدا اللَّواتي تحتاج إلى القرائن المعيِّنة والصَّارفة والمفهمة، وكذلك حالة هجران الوضع السَّابق والإتيان بالوضع الجديد النَّاسخ، ليرجع إلى هذه الخلاصة عند المرور على هذه الملحقات.

وهي أمثلة لأمور سبق التَّعرُّض لها في جميع المهمَّات السَّابقة، حيث لكل مورد مثاله، حتَّى لا تخفى على الطلاَّب المتتبِّعين فضلاً عن الأفاضل، قد جمعناها الآن للتَّذكير بها على الأكثر، وللتَّنبيه على أهميَّة تبعيَّة الدِّلالة للاستعمال لا للإرادة على المبنى الماضي، وهي:

1 - الاستعمال والإرادة، وتتبعه الدِّلالة تصوريَّة وتصديقيَّة، على ما قربَّناه في

ص: 232

التَّصوريَّة سابقاً في المطابقة والتَّضمُّن، وإن لم يكن هناك وضع سابق من المستعمل كالنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المطيع للوحي الإلهي الآمر له، لأنَّ الوضع لم يكن إلاَّ من الوحي فهو كالمتكامل الآتي من كلام الآدميِّين.

2 - ما به تكامل الحالات الماضية للأوضاع في كلام الآدميِّين، ما عدا الصُّورة الأولى السَّابقة وضعاً واستعمالاً وإرادة ودلالة، لأنَّ الواضع لابدَّ أن يكون منهم في مثل الوضع التَّعييني الاستعمالي ولو مرَّة.

3 - نفس ما مضى تعيينيَّاً من غير وضع، كالمصادفات العفويَّة الَّتي رتَّب الأثر عليها كالتَّعيين بالاستعمال حسب من قبل السَّامع، كقول السَّاهي والغافل لفظاً قد رتَّب السَّامع الأثر عليه.

4 - نفس ما مضى تعيُّناً من كثرة الاستعمال، ولو في البداية من شخص غير قاصد قد رتَّب السَّامع وغيره الأثر على كلامه في هذه الكثرة من غير وضع، كما في المصادفات الَّتي رتِّب الأثر عليها.

5 - أمثلة الاستعمال والإرادة وتتبعه الدِّلالة ولكن بدون الوضع، كمن جاء بما يستحسنه الطَّبع، كوصف أحد الأتقياء بأنَّه (سلمان زمانه) أو وصف المجاهد الموالي الصَّادق بأنَّه (أبو ذر زمانه)، وكذا في عكس ذلك لذم الطَّاغوت مثلاً بأنَّه (يزيد عصره).

6 - الوضع والاستعمال بلا إرادة، كما مرَّ في أمثلة الثِّمار العمليَّة الماضية(1).

7 - نفس السَّادس لكن فيما ذكرناه عن جواز ترتيب الأثر في حالات المزاح الثَّلاثة الخاصَّة عند العامَّة فقط.

8 - عن مقولة الأب الَّذي رزق بمولود في قوله (أءتوني بولدي محمَّد) قبل أن يضع له اسماً، حيث اجتمع تسامحاً بما ظاهره الوضع والاستعمال والإرادة المصاحبة،

ص: 233


1- ص65.

والدِّلالة تتبع الاستعمال أيضاً.

9- عدم الوضع والاستعمال والإرادة كالنَّائم والسَّاهي وغيرهما، ولكن الَّذي رتَّب الأثر هو السَّامع فوضع واستعمل وأراد.

10 - حالة الخلو من الاستعمال ولكن الوضع والإرادة موجودان في أمثلة المهملات الَّتي لا يُعتد بها في مألوف الاستعمال، لكن تقال في معناها الشَّاذ للتَّقريب إلى الأذهان ك- (ديز) مقلوب (زيد)، وبهذا تكون الدِّلالة تابعة للوضع والإرادة وإن كان المعنى بالمرتبة الدَّانية، لأنَّ الاستعمال لا يعطيها معنى مألوفاً.

هذه الأمور هي الميسورة حسب ما عثر عليه في العلوم المرتبطة بالألفاظ كالمعاني والبيان والمنطق والأصول وغيرها من معارف قواعد وآداب الألسنة.

وربَّما تستفاد كذلك بعض تفاصيل أخرى، إضافة إلى ما مرَّ من مواضيع الأوضاع إلى آخرها من بعض الكتب اللُّغويَّة كمجمع البحرين والقاموس وغيرهما، شريطة أن لا تخرج الأمثلة عن الصَّدد الشَّرعي في هذه الخدمة اللُّغويَّة، لأنَّ مرجع القضيَّة الشَّرعيَّة لفظيَّاً هما الكتاب والسنَّة وما راعاهما من كلام الآدميِّين في الأصول.

تتمَّة تابعة لما مضى

وهي استعمال اللَّفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه في المعنى المجازي المأخوذ بالطَّبع لا بالوضع.

فبعد أن اعتاد الأصوليُّون اليوم ذكر هذا المطلب لأهميَّته وعمَّا تعرَّض له الشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته على نهج من سبقه.

فلابدَّ من الاهتمام بذكر وإيضاح عبارته المختصرة وتصفية ما ينبغي قبوله عمَّا لم يمكن قبوله.

فاعلم أنَّ كلَّ لفظ إذا اطلق فالمراد منه هو الحكاية عن مدلوله ومعناه، فإذا قلت

ص: 234

مثلاً (زيد) فزيد إنَّما يحكي عن الذَّات المشخِّصة المدلول عليها بلفظة زيد، فاللَّفظ محدود بحدود الدِّلالة على معناه فقط.

هذه هي الاستعمالات المتعارفة، وهناك نوع استعمالي آخر في مقابله، وهو المحصور في أربعة أقسام:-

أوَّلها: اطلاق اللَّفظ وإرادة نوعه مثل أن تقول (ضرب) فعل ماض، فتطلق لفظة (ضرب) ولا تريد بها الحكاية عن معناها المتعارف المذكور، وإنَّما تريد بها الحكاية عن نوعها العام، والنَّوع كلِّي مقول على ما تحته من الأفراد المتساوية كالإنسان نوع.

ثانيها: اطلاق اللَّفظ وإرادة صنفه، والصّنف هو النَّوع المقيَّد بالعرضيَّات المشخَّصة كمثل الزَّنجي أو الرُّومي صنف، ومثال هذا الثَّاني في نفس مثال الأوَّل تريد به الصِّنف.

ثالثها: أن يطلق اللَّفظ ويراد به مثله كما تقول أيضاً (ضرب) فعل ماض وتريد به المثل، وهو المماثل لقرأ صرفيَّاً مثلاً ونحوه.

رابعها: أن يطلق اللَّفظ ويراد منه شخصه، بأن يطلق لفظ من الألفاظ ويراد منه شخص نفس اللَّفظ، كما يقال (زيد لفظ) ويجعل زيد حاكياً عن نفس لفظه.

فهذه الأقسام الأربعة ذات الحكاية غير المتعارفة.

والثَّلاثة الأوُل منها هي الَّتي لا إشكال فيها، كما عبَّر بذلك الشَّيخ قدس سره كمن سبقه مع المجازيَّة الَّتي فيها.

وأمَّا الرَّابع: فهو محل للإشكال.

لأنَّ الأمر في حكايته يدور بين أمرين وكل منهما فيه إشكال كذلك، لأنَّه ان اعتبرت الدِّلالة والحكاية في مثالها في الأمر المشكل الأوَّل حيث يراد منه شخصه فلابدَّ من اتِّحاد الدَّال والمدلول، بينما الدَّاليَّة والمدلوليَّة من الأمور المتضايفة، وتلك المتضايفة بما أنَّها من الأمور النِّسبيَّة لابدَّ من أن تقوم بين طرفين، إذن فلم يعقل اتِّحاد الدَّال والمدلول الَّلازم حسب المثال.

ص: 235

وأمَّا في الأمر المشكل الثَّاني وهو اعتبار ناحية الحمل في المثال، وهو أن تعتبر الشَّخص فيها لقضيَّة حمليَّة، فتكون القضيَّة بهذا الاعتبار ثنائيَّة الأجزاء، لأنَّ المفروض أنَّ المحمول فيها هو نفس الموضوع، في حين أنَّ القضيَّة الحمليَّة واقعها ثلاثيَّة الأجزاء لا ثنائيَّة وهو الموضوع والمحمول والنِّسبة، بينما إنَّ البناء على اعتبار الحمل في هذه المسألة للبقاء على الاتِّحاد تكون القضيَّة متكوِّنة من محمول ونسبة فقط، تعبيراً عن المحافظة على الاتِّحاد، وهذا لا يجوز فلا إشكال وارد على كلِّ حال.

ولذلك لابدَّ في مقام هذا القسم الرَّابع من البقاء على التَّوجيه والإيضاح الَّذي ذكرناه، لئلاَّ يصل الأمر إلى الالتباس بالإيرادين، كما صرَّح بذلك الشَّيخ قدس سره نفسه، لاستلزامه اتِّحاد الدَّال والمدلول أو تركب القضيَّة من جزأين وهي من ثلاثة.

ولأجل المزيد من الإراحة أكثر نذكر مضمون إجابة الشَّيخ قدس سره وبأسلوبه عن الإشكال الأوَّل:

وهو أنَّ باستطاعتنا رفع المحذور من اتِّحاد الدَّال والمدلول بالتَّغاير الاعتباري، فاللَّفظمن حيث أنَّه دال فهو حاكي، ومن حيث أنَّه هو نفسه المقصود والمدلول فهو محكي عنه بهذا الاعتبار إذن، فلم يتَّحد الدَّال والمدلول للتَّغاير المذكور.

وكذلك نذكر إجابته عن الإشكال الثَّاني:

بأنَّ القضيَّة الحمليَّة ههنا متكوِّنة في واقعها من ثلاثة أجزاء لا اثنين، غاية الأمر قد احضر الموضوع بنفسه وشخصه لا بشيء حاك عنه فكأنَّ نفس معنى اللَّفظ قد أحضر بذاته أمام المخاطب وحكم عليه بالحكم المذكور بدون واسطة حاكياً عنه كمثال أنَّ شخصاً يريد أن يحكم على النَّار بأنَّها حارَّة فيأتي بنفس النَّار وذاتها ويقول (حارَّة) أو يريد أن يحكم على زيد بأنَّه قائم فيحضر ذات زيد عيانا في قيامه ويقول قائم.

وهذا النَّوع من الإتيان بالموضوع أشد حضوراً من الحكاية عنه بلفظه الدَّال عليه وأبلغ عند الحاجة إليه، وهو متَّبع في لسان الأدباء إذا أيقنوا ذكاوة المخاطبين وانتباههم

ص: 236

إلى مرام المتكلِّمين لو اختصروا الكلام لو اقتضى المقام أو أنَّهم لا يهمُّهم ذكاوة المخاطبين، ولكن المهم عندهم حسن قصد أنفسهم الأدبي وعلى السَّامع إن أراد فهم مقصدهم عليه أن يتعلَّمه كما في باب الكنايات الأوسع.

وبعد دفع الإشكالين منه قدس سره بتصرُّف منَّا لابدَّ من بيان نتيجة المطلب المبدوء به في التتمَّة.

فقد تبيَّن أنَّ صحَّة اطلاق اللَّفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ليس بالوضع، لأنَّ هذه الاستعمالات تصح في المهملات، فيصح أن يقال أنَّ (ديز) لفظ باعتبار نوع لفظ (ديز) مقلوب (زيد) الصَّادر من أي أحد، وأن يراد صنفه بأن يقيَّد بالصَّادر من شخص خاص وزمان خاص من العرضيَّات، وأن يراد به مثله بأن يقول (ديز) ثمَّ يقول بعد أن يتكلَّم أنَّ (ديز) الَّذي قد تكلَّمت به لفظ، وأن يراد به شخصه وهو أن يقول (ديز) لفظ ويحمل اللَّفظ على خصوص شخص(ديز).

ولو كانت هذه الإطلاقات إنَّما تصح بالوضع وهي مهملة في واقعها لما صحَّت في لفظ (ديز) المهمل على الدَّوام.

المبحث العشرون

معنى الحكم الشَّرعي وتوجيه مراتبه

قبل البدء بالموضوع ينبغي لنا أن نعرِّف الحكم، وإن كنَّا قد ذكرناه مختصراً في الفهرست العام الماضي لغةً واصطلاحاً للتَّعريف بما بين المعنيين.

أمَّا اللُّغة، فقال الفيروز آبادي في قاموسه (الحُكم، بالضم: القضاء، ج أحكام، وقد حكم عليه بالأمر حُكماً وحُكومة، و - بينهم كذلك. والحاكم: منفِّذ الحُكم، كالحَكم محرَّكة، ج: حُكَّام، وحاكمه إلى الحاكم: دعاه وخاصمه. وحكَّمه في الأمر

ص: 237

تحكيماً: أمره أن يحكم فاحتكم. وتحكَّم/ جاز فيه حكمه، والاسم: الأُحكومة والحُكومة. وتحكُّم الحروريَّة: قولهم لا حكم إلاَّ لله...... إلخ)(1).

أقول: وبالإمكان قبول ما أجمله من كلمة الحُكم بضم الحاء وتسكين الكاف، ممَّا يقبل الاشتراك اللَّفظي الجامع للحكم القضائي الخاص والحكم الشَّرعي الفقهي العام التَّابع كل منهما لقرينته عند الحاجة إلى الإفراد، ويمكن أن يستوضح الأمر بما قاله الحروريَّة وهم الخوارج، بأنَّ الحكم لله الَّذي ظاهره شرع الله الجامع في جملته الحكم القضائي.

وقال الطَّريحي في مجمع البحرين (والحُكْمُ : العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهو مصدر حَكَمَ يَحْكُمُ) ثمَّ قال (والحُكْمُ الشرعي: طلب الشَّارع الفعل أو تركه مع استحقاق الذم بمخالفته وبدونه أو تسويته، وعند الأشاعرة: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين)(2).أقول: لا يخفى ما ذكره المصدران وغيرهما ممَّا لا يمنع من التَّصادق بين اللغة وبين الاصطلاح الشَّرعي الآتي الآن.

وهو أنَّ الحكم الشَّرعي ليس ببعيد عن المعنى اللُّغوي العام الشَّامل للمعنى الشَّرعي الخاص، وهو ما ورد سماويَّاً من الأحكام الشَّرعيَّة من آيات الأحكام ومعها السنَّة وغيرها من المدارك عند نبيِّنا صلی الله علیه و آله و سلم وعند أئمَّتنا عَلَيْهِم السَّلاَمُ من الحفظة الكرام من الطَّهارة إلى الدِّيات ومنه القضاء، وما زاد عليه ممَّا سبقه من الأحكام السَّماويَّة الأخرى الماضية المشابهة والأحكام الوضعيَّة المرتبطة بالقوانين الحاليَّة إذا جمع شمل الكل ذلك العقل البعيد عن القياس في فطرته كما سنشير إليه في نهاية الحديث.

وبعد هذا لمَّا ذكرنا أيضاً عند الكلام عن فهرست المواضيع المقرَّر إيرادها في هذا

ص: 238


1- القاموس المحيط باب حكم ص 1095.
2- مجمع البحرين ج 6 ص 46 - 48.

الباب الثَّاني من المقدِّمات والمبادي وما بعده نبذ التَّفصيل بعضها أو كثيراً منها أو جلُّها حسب الحاجة الملزمة إلى ذكرها وحسب ما تقتضيه مناسبتها ومنها شيء عن الحكم الواقعي ومعناه الاصطلاحي بعد أن لم يكن معناه اللُّغوي العام مخفياً على أحد من المتتبِّعين كما مرَّ وأخر عن الظاهري وعن معناه الَّذي قد لا يتناسب ذكره مفصَّلاً إلاَّ في باب الحجج من الأبواب الأخرى الآتية إن شاء الله تعالى.

لابدَّ للتَّفريع المناسب أكثر عن رموزنا في ذلك الفهرست - للتَّعرُّف على التَّفاصيل أو بعضها - أن نضيف إليه شيئاً أو بعض شيء من المراتب المتعارفة سابقاً للحكم الواقعي.

وهذه المراتب كما عرف عن الشَّيخ الآخوند قدس سره ) تعليقاً منه على فرائد الأصول(1) للشَّيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، وهي أربعة هي:

الاقتضاء والإنشاء والفعليَّة والتَّنجُّز

وعرف عنه قدس سره كذلك تفسيره للأوَّل منها مع شيء من التَّقريبات منا ولبقيَّة المراتب الأخرى بأنَّه:

بمرتبة من الحكم يكون فيها مناطة ومقتضية، أي أنَّه ذا ملاك يقتضي الحكم الفلاني على طبق ذلك الملاك أو بما يصح أن يعبَّر عنه بأنَّه ذو مرتبة ذات شأنية في الوجود من دون أن يكون موجوداً أصلاً.

وللثَّاني وهو الإنشاء: بأنَّه بمرتبة جعل صورة الحكم من قبل المولى تعالى من دون أن يشتمل على بعث أو زجر، أي أنَّه عبارة عن إنشاء الحكم على طبق المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ضرباً للقاعدة والقانون من دون أن يكون في البين إرادة أو كراهة فعليَّة.

ص: 239


1- حاشية فرائد الأصول / 36 - الطبعة الأولى.

وللثَّالث وهو الفعليَّة المفسرَّة: بما إذا بلغ ذلك الحكم الصُّوري إلى مرتبة البعث والزجر، أي أنَّه عبارة عن تعلُّق الإرادة الفعليَّة أو الكراهة الفعليَّة بشيء وإلى حدِّ التَّرخيص من دون أن يبلغ لرتبة التَّنجيز.

وللرَّابع المفسَّر منه مع إيضاحاتنا: بما إذا وصل الحكم الفعلي من طريق العلم أو العلمي إلى المكلَّف فاستحق العقوبة، بخلاف الحكم الاقتضائي والإنشائي، إذ الحكم ما لم يصرفعليَّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجُّز واستحقاق العقوبة على مخالفته وبعبارة أخرى أنَّه عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى وعصيانه بعد وصوله إليه بعلم أو علمي.

لكن أكثر من تأخَّر عن الشَّيخ قدس سره حسب بعض التَّوجيهات لبعض أهل العلم المتتبِّعين ومنهم الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره(1) والسيِّد الخميني قدس سره(2) جعل للحكم مرتبتين من هذه الأربعة وهما الإنشاء والفعليَّة حسب وعلى نهج أهل القواعد والقوانين الوضعيَّة وخصوصاً إذا ربطنا الأمر بكون الملاك هو العلم أو العلمي ربطاً له بالوجدان، وقد يلتقي الشَّرع بالعقل كما أنَّه قد يلتقيان باللُّغة في عمومها.

وقد حدَّد بعض علمائنا المهمِّين(3) استعراضه لكلام الشَّيخ الآخوند قدس سره والنَّقد له في آن واحد بما مضمونه:

أنَّ المراتب المتعارفة للحكم الواقعي المرتبطة بحمله على الشَّأنيَّة أو الإنشائيَّة والظاهري المرتبط بحمله على الفعليَّة وكما سوف يأتي ذكره فيه وفي متعلَّقه في باب الكلام عن الحجَّة.

وأمَّا التَّنجُّز الَّذي لم يذكره السيِّد البجنوردي قدس سره في بداية استعراضه مقتصراً على

ص: 240


1- مصباح الأصول: ج1 ص 49 - 50.
2- تنقيح الأصول: ج3: 19.
3- منتهى الأصول ج2 ص 70.

الثَّلاثة فلأنَّه حكم عقلي لا شرعي، فلا وجه لأن يُعد من مراتب الحكم الشَّرعي إذا أريد منه الشَّرعي دون الأكثر.

وبتعبير البعض أنَّ المعقول والمشهود من مراتب الحكم عند العقلاء مرتبتان فقط وهما مرتبة الإنشاء وهي ما قد مرَّ معناها أو أنَّها جعل الحكم قبل أن يوضع بيد الإجراء ومرتبة الفعليَّة وهي مرحلة جعل الحكم بمقام الإجراء(1).

وهذا ما معناه بوضوح أكثر في أنَّه ليس للشَّارع طريقة حديثة ولو في بعض الانسدادات العلميَّة الشَّرعيَّة وإن قلَّت، وكأنَّ المولى تعالى من البداية أعطى صلاحية الحكم والبت به للعقل ولو من أدلَّته الإرشاديَّة الحاثَّة على العلم والمشجِّعة عليه كتاباً وسنَّة.

ولكن لابدَّ أن نقول كما فصلَّنا في الفقه والأصول بأنَّ هذا صحيح في الجملة، لكن لا من كل الوجوه خروجاً عن تصادم الأدلَّة الَّتي نحن في غنى عنها وعلى الأخص فيما نسعى له من تصدَّياتنا هذه.

بل إنَّ الصَّحيح دون أن يكون التَّفصيل الاستنباطي منوطاً بالعقل وحده وتخلُّصاً من القياسات الممنوعة، وإنَّما المسلك الطَّبيعي في الأصول الَّتي نبتغيها دفعاً للتَّحديث المتطرِّف هو تلك المدارك المتسلسلة المعروفة بتدرجها حسب المتوِّفر عند المقتضي وعدم المانع من الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل وبقيَّة الفروع الأصوليَّة المعتمدة في التَّجديد المقبول.

ولذا لا ينبغي التَّسرُّع بالرَّد لما ذكره الشَّيخ قدس سره وإن كان بحد تعبير أحد الأعلام بعد مايحصر الحكم في المرتبتين دون الأكثر لقوله في تعليقه(2) المتضمِّن للاعتراف بذلك (إنّ ما أفاده من انحصار أقسام الحكم في قسمين وإن كان هو الحقّ الذي لا مرية فيه).

ص: 241


1- تسديد الأصول للشَّيخ المؤمن القمِّي على الكفاية ج1 ص 335.
2- وهو صاحب (تسديد الأصول) الشَّيخ المؤمن القمِّي على الكفاية ج1 ص 336.

ثمَّ يبيِّن ما عنده من الحاجة إلى التَّوسُّع إلاَّ بعد معرفة ما وراء كلام الشَّيخ قدس سره كما في قوله (كما لا يبعد أن يكون - أي النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم - كذلك قبل بعثته صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال هنا أحد الأعلام "دام ظلُّه" معلِّقاً على الكفاية (ولعلَّه لذا نسب له قدس سره جعل المرتبة الأولى مرتبة الاقتضاء كما يظهر منها ومن بعض كلماته الأخر - ومنها ما في مبحث الواجب المشروط من الكفاية - أنَّ المراد من المرتبة الثَّانية ما إذا حصلت العلَّة التَّامَّة للإنشاء - لتماميَّة الملاك في المتعلِّق - فحصل الإنشاء - إلاَّ أنَّ الحكم لا يكون فعليَّاً لوجود المانع من فعليَّة البعث والزَّجر والتَّرخيص لعدم استعداد النَّاس له حيث يلزم معه تشريع حكم أخر تابع لمصلحة فيه لا في المتعلَّق وإنَّ منع الواجب المشروط قبل تحقُّق شرطه والأحكام في أوَّل البعثة قبل ظهورها تدريج والأحكام المودعة عند الحجَّة عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ الَّتي يكون هو المظهر لها)(1).

أقول: كما قد أثبتت هذا الأمر وأمثاله آيات الأحكام التَّدريجيَّة قبل البدء بالتَّكاليف، وقبل توفُّر الشُّروط في المشروطة وكل ما يرتبط بإمام الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ فيما يتعلَّق بأنَّه المقصود في سورة القدر وليلتها في كل عام من الحوادث.

فعلى فرض إمكان الجمع بين الرَّأيين، أي من يرى المراتب الأربعة كالشَّيخ الآخوند قدس سره وأنصاره، ومن يرى الاثنين في مثل زمن الغيبة الكبرى من الأخرين كما في الشَّرعيَّات المعلَّقة والفرائض المشروطة وإن جاءت قبل التَّكليف كما في الصَّلاة والصَّوم والحج ونحوها أو ما أعطى إمام الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ من صلاحيَّة الأرزاق والأعمار من التَّحديد وعدمه للسنة كلِّها كما في سورة القدر في هذه الغيبة فهو الَّذي لا مشاحَّة فيه من اصطلاح كل منهما إذا لم يكن المانع موجوداً.

وعلى فرض عدم الإمكان كما في الأمور الَّتي جاءت لها النُّصوص قبل تأكُّد وجوب الممارسة لو أدرك المكلَّف الموت قبل البلوغ أو في حال الجهل القصوري وكما

ص: 242


1- الكافي في أصول الفقه - ج1.

أنَّ في النُّصوص الأخرى أشياء يخاطب فيها صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ولكن لأحكام تكون مرتبطة بأيَّام ظهوره دون هذه الأيَّام ممَّا عهد إليه بواسطة أجداده عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

فهذه أمور لا تخص الأمَّة في هذا الحين فلم يبق معقول ومنجز إلاَّ المرتبتان لا غير.

وعلى هذا وبناءً على المؤكَّد من أنَّ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1)، لأنَّه هو الَّذي جاءت به المدارك الشَّريفة وهي مثل قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2) ولو بمعونة اجتهاد المجتهدين المحفوف ببراءة ذممهم لو كانت من غير أي تقصير، ولذلك لا يمكن قبول ما قد يرد كما قيل بأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لو ظهر يأت بدين جديد لأنَّ الكتاب وما حوته العترة محفوظان إلى حين الورود علىالحوض، إلاَّ بما لابدَّ من توجيهه بأنَّ كثرة المنكرات الَّتي ارتبطت بها أعمال الأمَّة مكان المعروف بعدمه أو قلَّته أيَّام ما قبل ظهور الإمام "عج" كأنَّها حينما يعود معروفها إلى الوجود حين ظهوره وكما أراده النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وعترته عَلَيْهِم السَّلاَمُ إلى أن يكون هو ذلك الدِّين الجديد لا غير.

وأمَّا المرتبتان الأخريتان مع عدم إمكان الجمع أو التَّقريب المذكور فلا منع لسعة الاطِّلاع من إجابة البعض من الأكابر رحمه الله في توجيه الرَّد للشَّيخ قدس سره حيث قال(3):

(وفيه أوَّلاً: أنَّه لا يصح القول بكون الاقتضاء والتَّنجُّز من مراتب الحكم، فإنَّ الحكم سواء كان من الأحكام الشَّرعيَّة أو العقلائيَّة أمر اعتباري مجعول والاقتضاء أمر حقيقي تكويني متقدِّم عليه مقتض له فلا يمكن أن يكون من مراتبه.

كما أنَّ التَّنجُّز الَّذي فسَّره باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم من الأحكام العقليَّة المترتِّبة على الحكم والمتأخِّرة عنه، فإنَّ العقل هو الَّذي يحكم بأنَّ المكلَّف يستحق

ص: 243


1- أصول الكافي ج1، ص58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح7.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- أصول الشيعة لاستنباط أحكام الشريعة ص 173 - 174.

العقوبة لو خالف الحكم الفعلي الواصل إليه بالعلم أو العلمي، فالتَّنجُّز ليس حكماً شرعيَّاً بل حكم شرعي متأخِّر عنه.

وثانياً: أنَّ الحكم الإنشائي لو كان صوريَّاً غير مشتمل على البعث والزَّجر كما فُسِّر به، فلو قلنا بعدم تحقُّق الوجوب والحرمة الإنشائيَّين في هذه المرتبة فلم يصح عدها من مراتب الحكم، ولو قلنا بتحقُّقهما فلم يصح خلو الإنشاء عن البعث والزَّجر، لأنَّ الإيجاب والتَّحريم عبارتان عن البعث والزَّجر الاعتباريَّين كما حقَّقناه في مبحثي مفاد صيغة افعل ولا تفعل من مباحث الأوامر والنَّواهي.

وبالجملة لا يمكن تصوَُّر حكم وجوبي أو تحريمي خال عن البعث والزَّجر المقوِّمين للوجوب والحرمة، لكي يصح القول بالفرق بين الحكم الفعلي والإنشائي ببلوغ الأوَّل مرتبة البعث والزَّجر دون الثَّاني ... إلخ).

ثمَّ أقول: وإن كان القارئ الكريم ينتظر منَّا شيئاً خاصَّاُ في المقام فقد مرَّ منَّا في ضمن البحث ما يكفي والحمد لله من التَّوجيه لإمكان الجمع بين الرأيين وامتناع أن يكون أمام العصر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ آتيا في زمانه الشَّريف بالدِّين الجديد إلاَّ بما وجهَّناه، وهو عودة ما أوصله المنحرفون من العلماء والجهلاء بمراتبهم المتعدِّدة بعد ظهوره إلى كون المعروف منكراً والمنكر معروفاً كهذه الأزمنة الَّتي ما خفيت أمور المعروف والمنكر مجهولة عندنا حتَّى هذا الزَّمان إلاَّ أنَّهما محاربان عند أكثر النَّاس وكثير من المسلمين.

المبحث الحادي والعشرون

اشتراك التَّكاليف الشَّرعيَّة بين العالم والجاهل في الحكم الواقعي

تنفيذا لما أوجزناه في الفهرست الماضي عن مجمل العناوين الآتية بالكلام عمَّا ينبغيبيانه أو يلزم ولو من المهم منه تباعاً وبالأخص بعد موضوع (معنى الحكم الشَّرعي

ص: 244

وتوجيه مراتبه) آنف الذِّكر الَّذي ذكرنا فيه رأي الشَّيخ الآخوند قدس سره في تعليقته على رسائل الشَّيخ الأعظم قدس سره حول مراتب الحكم وبعض المناقشات والتَّوجيهات المناسبة حولها وما تعقبه كذلك من الكلام في الرَّسائل من الشَّيخ الأعظم حول لزوم شمول العالم والجاهل معاً في تكليف واحد للأحكام الواقعيَّة في ذلك التَّعليق دون العالم وحده في قوله (أنَّ وجود الحكم المشترك بين الكل والَّذي يشترك فيه العالم والجاهل ممَّا تواترت عليه الآثار والأخبار ومعه لا يبقى مجال لتوهُّم اختصاص الأحكام بالعالمين بها، بل هي تعمُّهم والجاهلين فحالها حال بقيَّة الأمور الواقعيَّة الَّتي قد تصيب وقد تخطأ ...إلخ)(1).

وعلى كل حال فيلزمنا الآن بعد هذا الشُّروع ذكر هذا المطلب للتَّلازم بين البحثين ولو إجمالاً وفيما يأتي كذلك من عموم واطلاق الأوامر والنَّواهي الآتيتين من مباحث الألفاظ إن وسع المجال وكما قد أيَّدته الأدلَّة الكثيرة حتَّى أصبح ذلك الأمر أمر قاعدة تامَّة للتَّمسُّك بها.

بل إنَّها لابدَّ أن تشمل حتَّى الكفَّار، ولكن بدون أن يربط اختيارنا الخاص هذا في هذا التَّصدَّي بالتَّقليد لأحد، بل على نهج ما ذكرناه عنهم في البحث السَّابق والَّلاحق وما رأيناه مستقلاًّ معهم ببعض الاشتراك والتَّوجيه منَّا.

فنقول: لا شكَّ في شمول الخطاب الإلهي الشَّرعي التَّكليفي للعالم والجاهل معاً عقلاً قبل تنصيص الشَّارع المقدَّس مولويَّاً من جهة أدلَّة إرشاد العقلاء إلى ذلك قبل أدلَّة النُّصوص المولويَّة، ومن تلك الأدلَّة الإرشاديَّة قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](2).

علماً بأنَّ المسؤولين من قبل الله تعالى العالم بالحكمة في سؤاله هذا وكل سؤال

ص: 245


1- حاشية فرائد الأصول / 36 - الطبعة الأولى.
2- سورة الزمر / آية 9.

دون غيره ليحفِّز الَّذين لا يعلمون أن يتعلَّموا ويمقتوا الجهالة ولو بالسؤال وأمثاله أو بخضوعهم لأهل العلم ليتكفَّلوا وليتكلَّفوا تعليمهم بأساليبهم الخاصَّة النَّاجحة.

ومن الأدلَّة المولويَّة الشَّاملة للاثنين علماء وجهلاء في جميع التَّكاليف الشَّرعيَّة من النُّصوص والظواهر ما يملأ كتب المدارك الفقهيَّة الاستدلاليَّة، وسوف تأتي عند مجيء مناسبتها التَّطبيقيَّة الاستدلاليَّة بعد الموسوعة الأصوليَّة هذه وهي كل آيات وروايات الأوامر والنَّواهي المولويَّة من آيات وروايات الأحكام وغيرهما من الإجماعات والسِّيرة على نهج المشهور العملي.

بل إنَّ من تلك الأدلَّة ما برهن ويبرهن على كون هذا الاشتراك بين الاثنين مع التَّفاوت الظاهر المعلوم قاعدة يلزم التَّمسك بها - شاء المكلَّفون من المخاطبين وغيرهم أم أبوا - بناءً على أنَّ الخطاب مستمر إلى يوم القيامة ولا أقل من أن يكون إلى يوم قيام القائم عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ليعرف التَّكليف الدَّقيق من قِبل الإمام عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ إن حصلت شبهة مبتدعة من بدع هذا الزَّمان ومن هنا وهناك بناءً على أنَّ المراد من الجاهل هو العالم بالقوَّة.

ولذا خوطب الحاضر والغائب الَّذي ولد ولم يبلغ سن التَّكليف أو لم يولد حالته ولكنَّهسوف يولد والكل قد اعترفوا بعد تكاملهم عقلائيَّاً بواجب التَّعلُّم، لأنَّ العالم بالقوَّة لا يتنافى مع العقل الَّذي أتحف به ولو تدرُّجاً وقد حصل تجربيَّاً ممَّا لا يُعد ولا يحصى ومن أهل هذه المصاديق الأذكياء وأهل المواهب الفائقة، وإلاَّ فلابدَّ أن يكون الجاهل هو المسؤول بين يدي الله لأنَّه الجاهل المقصِّر الملتفت، بل حتَّى غير الملتفت لو كان من المقصِّرين ولم يستثن إلاَّ ذلك القاصر الَّذي ما وصوله أو لم يصله الخطاب أو ما انتبه إليه وقد مات.

بل إنَّنا قد ألحقنا عموم الكفَّار في المسلمين بناءً على أنَّ الإسلام دين الفطرة، لأنَّ الكل هم مسلمون وإن لم ينتموا على بعض التوجيهات، ولأنَّ القاعدة في الشُّمول لابدَّ وأن تشملهم وإن ابتعدوا وبقوا جهلاء في تفاصيل دين الله تعالى، وقد أقرَّت الكتب

ص: 246

السَّماويَّة السَّابقة بالإسلام ولو في آخر الزَّمان كما في (إنجيل برنابا) وغيره ممَّا بقي منه سالماً في بعضه بلا تحريف.

وقد كتبنا قديماً حول سؤال وردنا من إحدى جامعات البصرة جواباً رتَّبناه في كتاب عن أدلَّة شمول الكفَّار فيه ومن الأدلَّة الَّتي كانت هو الشُّهرة وهي المهمَّة في الباب، بل مع انضوائه تحت القاعدة الماضي ذكرها مع الأدلَّة الأخرى سمَّيناه (غاية المسؤول التَّكليف بالفروع للكفَّار بالأصول).

ولذا جعلت العقوبة الإسلاميَّة في داخل دولتها النِّظاميَّة العادلة ثابتة دنيا وآخرة على جميع العصاة والمَردَة بعد تكامل الخطاب لهم قبل عقوبة الآخرة بناءً على استمراره منذ نزول القران وحصول السنَّة بحفظ العترة وبقيَّة المدارك وثبوت براءة الذمَّة من أهل التمرُّد وتسبيب المثوبة لجميع مطيعيهم ولو بمجرَّد التَّصميم منهم على الأداء للواجبات وبقيَّة ما ينبغي من الأعمال الشَّرعيَّة لو أدركهم الموت.

ولا يمكن اختصاص العالم وحده بذلك التَّكليف وفي خصوص الحكم الواقعي دون شمول الجاهل معه، لئلاَّ يلزم الدَّور وهو مستحيل، لأنَّ العالم بالحكم حينئذ يكون متوقِّفاً على وجود الحكم ضرورة أنَّ توقُّف العلم على معلومه كتوقُّف العارض على معروضه وهو نفسه بلا فرق، فإذا توقَّف وجود الحكم على العلم به لزم توقُّف وجود الحكم على نفسه وهو محال وهو صحيح في استحالته إذا تطابق ما في الذِّهن مع ما في الخارج، أمَّا إذا افترق ما في الذِّهن عمَّا في الخارج ككون ما في الذِّهن ثبوتيَّاً فقط بحسب الواقع وما في الخارج إثباتياً بحسب الظاهر على ما أجاب به بعضهم للتَّدرج الَّذي أشرنا إليه قبل ذلك كما في الجاهل الَّذي يصير عالماً بالفعل بعد ما كان بالقوَّة.

ولذا كان لدفع استحالة هذا الدَّور اشتراك الجاهل مع العالم في التَّكليف بما بينَّاه، وبدون فرق بين الرَّجل والمرأة وإن تفاوتا في المواريث أو سقوط بعض الواجبات عن المرأة بسبب الحيض والنَّفاس وغير ذلك - لمبرِّرات ليس هذا محلُّها - ومعهما الخنثى على

ص: 247

تفصيل في محلِّه والحاضر والغائب.

إلاَّ أن تكليف الغائب عند حضوره اعتماداً على عالميَّة الدَّين الإسلامي في تكاليفه كما في قوله تعالى مخاطباً نبيَّه المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيراً وَلَكِنَّأَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ](1) وكذلك جميع الآيات الَّتي خوطب فيها النَّاس ممَّا يتناسب مع المقام.

بل وكذا آيات الخطاب للَّذين آمنوا إذا عمَّ فيها المؤمنون فعلاً ومن لم يؤمن معهم فعلاً، تشويقاً لذلك الغير لقربه من الآخرين بحسن الفطرة، إلاَّ ما قد يستثنى من مثل أهل الفرائض المشروطة، ممَّن لابدَّ أن تشمل الأقليَّات غير المسلمة من أتباع المبادئ السَّماويَّة من السَّابقين، فضلاً عن غيرهم من الجهلة الَّذين انطلقوا لخدمة العلوم الدنيويَّة فقط من مصاديق أهل الجهل التَّقصيري مع الالتفات.

بل حتَّى الجن كما في سورة الجن وغيرها إذا وافاهم الأجل في حال قصورهم أو فاتهم شيء من ذلك وقت قصورهم ثمَّ هداهم الله لطاعته.

لكن فوت شيء ممَّا على المسلمين لابدَّ فيه من القضاء إذا كان ممَّا يقضى وفوت شيء ممَّا على أهل الكفر ممَّا مضى فهو مرفوع عنهم منه وتفضُّلاً بناءً على أنَّ الإسلام يجب ما قبله على تفصيل في محلِّه.

وقد ساعدت على هذا الاشتراك إطلاقات الأدلَّة في نفسها، كما دلَّ على حرمة الخمرة ونجاستها سواء علم النَّاس أم جهلوا، أو على ملكيَّة شيء أو سببيَّته للضمان أو موت المورِّث سبَّب لملكيَّة الوارث حصل العلم بذلك أم لم يحصل، لعدم اختصاص الإطلاقات بالعالمين.

ومن تلك الإطلاقات إطلاقات عبادات الإسلام الأساسيَّة وما يلحق بها من بقيَّة الفقهيَّات كالتَّي تحملها آيات الصَّلاة والصِّيام والحج والزَّكاة والخمس والجهاد والأمر

ص: 248


1- سورة سبأ / آية 28.

بالمعروف والنَّهي عن المنكر وموالاة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومعادات أعدائهم، سواء علم الجميع تمام العلم أم لم يعلموا، وسواء كانت هذه الواجبات قديمة في تشريعها أيَّام الرُّسل الماضين أم لا مطلقة في وجوبها لا تسقط بحال وإن تفاوتت كيفيَّتها حسب طاقة المكلَّف كالصَّلاة أم مشروطة كالبواقي.

وعلى فرض عدم اشتراك الجاهل مع العالم بإدخال الحكم الظاهري مع الواقعي فلابدَّ من الخضوع للقول بالتَّصويب الممنوع عندنا، لأنَّ الجاهل إذا أراد التَّعلُّم ومنه طلب الفقاهة الاجتهاديَّة ولا يمكنه إلاَّ العمل على نهج الأحكام الظاهريَّة على الأكثر وأنَّ الواقعيَّة من الأحكام نادرة عند المجتهدين لن يوفَّق لها إلاَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ والمجتهد القريب من المعصوم، فلا مجال إلاَّ بالعمل على نهجنا نحن الإماميَّة وهو نهج القول بالتَّخطئة لأنَّ التَّصويب خاص بالعامَّة ولن يفوز من الوجهة العلميَّة الأصوليَّة.

وليس لمن يتعجَّل في الأمور أن يسبقه الوهم بأنَّ الجاهل هل يشمله حكم العالم على حدٍّ سواء في الحكم الواقعي وهو لا يتناسب مع عدالة المشرِّع تعالى.

فنقول: إنَّ تبعيَّة الحكم الظاهري للواقعي - الَّذي يوظَّف له عادة من يكثر عنده الخطأ ممَّن هو دون العصمة - لا يلازمها عدم التَّوفيق في بعض الأحوال إلى بعض الأحكام الواقعيَّة، وإن كانت محتملة لأنَّها غير مضمونة، لكن الأمر كما قال تعالى [وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَاسَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى](1).

ولأنَّ الجاهل قد يتبع ويترَّقى إلى ما به الكثير من حالات الإصابة مع اعتقاده بالتَّخطئة دون التَّصويب وسوف يأتي في بحث الظاهر وبحث الظن ما قد يرتجى منه التَّوسعة المفيدة في المقام.

وعلى فرض قصد التَّبعيَّة في خصوص الواقعي فإنَّ سطحيَّة المتعلِّم أو المجتهد غير المعصوم تجاه الخواص الأعاظم وأهل التَّوفيق لا يعني أنَّه لابدَّ أن يحالفه التَّوفيق دائماً

ص: 249


1- سورة النجم / آية 39 - 40.

لذلك الواقعي، لأنَّ الواقعي قد يتسطَّح عند الأدنى من أولئك الخواص ويكون سعيه بمثابة التَّخريج في الظاهري.

هذا إذا لم يكن هناك ما يدل على مدخليَّة خصوصيَّة لا تنطبق إلاَّ على شخص خاص كالنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في مثل وجوب صلاة اللَّيل عليه واستحبابها للآخرين أو جواز تزوجه من تسع نسوة وتحديد الأربع للآخرين في آن واحد مع العدالة واختصاصه بالنبوَّة الأخيرة في مسؤوليّتها من دون أن ينقض عليه لأنَّه لا ينطق عن الهوى ومعاجز التَّحدِّي لأعداء الله لإخضاعهم إلى دينه وحصول الكرامات حتَّى في غير موارد التَّحدِّي.

وهكذا الأئمَّة b في معاجزهم وكراماتهم وما ورد عن خواصِّهم ثمَّ يليهم بعض الأولياء في بعض الكرامات إلى غير ذلك أو اختصاص بعض الأمور الإعجازيَّة أو الكرامات الخارقة لصالح عهد الإمام الثَّاني عشر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ على ما بلَّغ به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عنه حين ظهوره، وكذا بقيَّة العترة أو طائفة خاصَّة من خدمة النَّبي والأئمَّة "صلوات الله عليهم" وهم الأبدال الثلاثمائة وثلاثة عشر سواء كان ثبوت هذه التَّكاليف بخطاب لفظي أم عملي أم بدليل لبِّي كالإجماع وغيره.

المبحث الثَّاني والعشرون

هل بين الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة تضاد أم لا؟

بعد ما تمَّ الكلام ولو على إجماله لانتظار البحث في أمور آتية متمِّمة أو مسددة عن الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة وما يلحق بها من الأحكام الوضعيَّة بنحو أكثر بأنَّها أو بعض ما ألحق بها اعتباريَّة وإن كان في الوضعيَّة شيء من الحاجة إلى التَّفصيل على ما سوف يجي كما في الاستصحاب وما قد يسبقه من الأبواب.

ص: 250

ينبغي لنا أن نعرف عن هذه الأحكام أنَّه هل بينها تضاد حكمي أي لا يجتمع كل من خمستها مع أحد منها في شيء واحد أم لا؟

بما معناه أنَّها لو اجتمعت ولو بمصداق واحد لنقص العدد وهي خمسة لا يزيد عليها إلاَّ بعض ما سميَّناه بالأحكام الوضعيَّة.

بل لولا وضع الوضَّاعين لبعض الرِّوايات أو تلفيق بعضها بما يحرَّف بعض معاني الآيات أو الرِّوايات لما أثر شيء من الشَّبه على بعض النِّسب في تغيير مسارها المطلوب شرعاً كاجتماع الوجوب مع الحرمة في وجوب الصَّلاة وحرمة شرب الخمر بناءاً على أنَّه لا يُطاع الله من حيث يُعصى، ولأنَّ دين الله في كل أحكامه دين طاعة واجبة لله تعالى لا معصية فيها في أوائل المصاديق للخمسة، إضافة إلى أنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ومن أهم المنكرات شدَّة على المكلَّف احتساء الخمرة والعياذ بالله، بل ازداد النَّهي عن نفس القرب من الصَّلاة العباديَّة في مثاليَّاتها فضلاً عن جريرة نفس ذلك الاحتساء في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1)، فكيف بالصَّلاة مع ذلك الاحتساء نعوذ بالله تعالى.

ومن ذلك تعمُّد الصَّلاة في الدَّار المغصوبة مع سعة الوقت الأدائي الَّذي لابدَّ أن يكون فيه الفرار من المغصوب ثابتاً ثمَّ الصَّلاة في الخارج، ولذا قال تعالى [مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ](2).

ومثل هذه الصَّلاة في الجمع بينها وبين ما يضادُّها في الشَّرع بقيَّة الواجبات كالصَّوم والحج والزَّكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وموالاة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومعاداة أعدائهم ويلحق بذلك أيضاً صولة الأرحام الواجبة والجمع بينها وبين قطيعتهم وكذلك الجمع بين حالات التَّضاد الحكمي في الوجوب والحرمة في بقيَّة

ص: 251


1- سورة النساء / آية 43.
2- سورة الأحزاب / آية 4.

الأحكام الفقهيَّات من المعاملات ونحوها إلى آخر الفقه.

وهكذا الجمع بين الواجبات والمستحبَّات بنيَّة التَّشريع المحرَّم كأداء الصَّلاة المستحبَّة مكان الواجبة في ضيق وقتها الأدائي فضلاً عن الواجبة الفائتة، إضافة إلى حرمة التَّشريع ولو بمجرَّد التَّجرِّي الكامل.

وكذا الواجبات مع المكروهات رغبة بالتَّشريع المحرَّم وإن لم يصل المكروه إلى ما يساوي المحرَّم.

وهكذا الواجبات مع المباحات، بل كذلك كل من هذه الخمسة مع أمثالها في الوجوب والتَّحريم أو الاستحباب والكراهة من المؤقَّتات بتزاحم في التَّشريع من دون أن يساعد عليه دليل شرعي.

وكاجتماع حالة ما يستحب مع حالة ما يكره مع التَّباين العنواني، وإن كانت حالة ما بين الوجوب والحرمة أشخص في التَّباعد ظاهراً في وضوح الأمر فيما يأتي ذكره كالصَّلاة المستحبَّة في المكان المكروه أداؤها فيه كالحمام مع سعة الوقت اجتهاداً أو تشهيَّاً من قبلالعامي.

وهكذا بقيَّة العبادات المستحبَّة لو اجتمعت مع ما يضادها في العنوان باختيار، وهكذا المعاملات الفقهيَّة الأخرى، لأنَّ الفرق بيِّن في كل جمع بين ضدَّين كالمستحب والمكروه وبالأخص ما لو جمعا باختيار وتعمُّد ولو بفرق ضعف الثَّواب لوجوب تجنُّب ذلك التَّشريع المحرَّم، وكذلك الأمر نفسه بين المكروه والمستحب عكس المثال الماضي كصلاة اللَّيل في الحمَّام تشريعاً بدون دليل.

وكاجتماع حالة ما يباح فعله كشرب الماء المعروف بلا أي رجحان أو مرجوحيَّة في شرع الله مع ما كان راجحاً رجحان وجوب كشرب هذا الماء الَّذي لا يجتمع مع الصَّوم في رمضان، أو مرجوحاً في الشَّرع لحرمة شربه أثناء الصَّوم الواجب تشريعاً منه بقلب نيَّته إلى نيَّة إباحته في غير هذه الحالة، أو ما هو أدنى من الوجوب والحرمة كالاستحباب

ص: 252

والكراهة أو بالتَّصرُّف في المباح الأصلي نفسه باختيار جعله تشريعاً ممَّا يجب أو يحرم أو يستحب أو يكره بادِّعاء اجتهادي من قبل العامي بأنَّهما من مستوى واحد، فضلاً عمَّا لو كان مثل هذا الجمع بين هذا المباح وبين ما هو محرَّم لتجنُّب التَّشريع في المساواة المزعومة وهي لا تساوي فيها للمحدوديَّة في شرع الله بالنَّحو التَّوفيقي كقوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا](1) ولقوله صلی الله علیه و آله و سلم (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(2) وغيره.

فإنَّ المشهور بين الأصوليِّين هو كون هذه الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة وتتبعها بعض الوضعيَّة كالملكيَّة والزَّوجيَّة والصحَّة والفساد ونحوها ممَّا سوف يتَّضح في البحوث الآتية متضادَّة كما مثَّلنا.

بل ادَّعى بعضهم أنَّ ذلك من المتسالم عليه بينهم كعدم اجتماع من اشترى شيئاً ظاهراً من مالكه بثمن معيَّن مع الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ظاهراً وقبض الثَّمن والمثمن ممَّا بين المتعاملين في الظاهر وعدم طرو أي مانع من الخيارات ونحوها من بقاء هذا التَّعامل مع افتراض أنَّ ذلك المبيع لم يملكه مشتريه في الشَّريعة الإسلاميَّة الواحدة بحسب الدقَّة الواقعيَّة المخالفة لهذه الظواهر لكون الملكيَّة الواقعيَّة لم تكن متحقِّقة بسبب فضوليَّة التَّعاقد ومن دون انكشاف الموافقة من المالك الأصلي، وكذا افتراض الأوَّل صحيحاً والثَّاني فاسداً، لكون العقد مركَّباً من جانبين أحدهما يقوِّم الآخر فلابدَّ من سبق الصحَّة فيهما معاً ، وكل عقد مبني على ما هو فاسد فهو فاسد ولو كان طرفاً واحداً.

وهذا التَّضاد له وجوده في كل ما دلَّت عليه الأدلَّة والمدارك المتقنة اجتهاداً أو تقليداً وغير قابل للإنكار ولو في الجملة حينما يمكن عدم قبوله كفرض اجتماع واجب

ص: 253


1- سورة البقرة / آية 187.
2- الأصول من الكافي ج1، ص58 ، بصائر الدرجات: ص 148 ب 13 ح 7.

مع واجب شرعي لوقت واحد لعدم تعقُّل أن يشرِّع الله واجبين أو أكثر في آن واحد مع التَّزاحم العملي وشرعه شرع الرَّحمة والسِّعة لقوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1) وقوله [وَمَا جَعَلَعَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](2) وغيرهما، وكما لو فرض اجتماع محرَّم مع محرَّم، لأنَّ كل محرَّم يمنع ارتكابه قلَّ عدده أو كثر وإن قبله العلمانيُّون المتهتِّكون في قوانينهم الوضعيَّة المحاربة للإسلام في قوانينه الصَّارمة الحديَّة سواء الرَّدع عن الجمع بينهما أو تجويز ذلك الجمع لحرمتهما على أي حال.

بل إنَّ التَّضاد الَّذي ذكرناه مع الإشارة إلى شيء من أدلَّته والتَّمثيل له بشيء من مصاديقه وذكر بعض أسباب التَّضاد كنيَّة التَّشريع المحرَّم من قبل العالم القادر على الاستنباط الشَّرعي الصَّحيح بسبب المقدِّمات والمباني الفاسدة فكيف بالعامي الَّذي نصيبه الأخذ من المجتهد الجامع للشَّرائط لا غير فضلاً عن تطبيق الأحكام المحدودة مع مضادَّاتها المحرَّمة كاختيار الصَّلاة في الدَّار المغصوبة مع سعة الوقت للفرار أو الوضوء بالنَّبيذ المسكر أو التَّصدُّق بمال السَّرقة ونحو ذلك فإنَّ التَّضاد هنا له وجوده الكامل في المنع.

مع أنَّ الحق هو إمكان عدم التَّضاد كذلك لكن لا في مقابل ما ذكرناه تماماً من حالة التَّضاد وحرمة الجمع، فإنَّ لكل من المقامين اعتبار ولحاظ لا يضر بصحَّة المعنيين، لأنَّ المطلب الأوَّل مبتنٍ على كون القدرة شرطاً في التَّكاليف وغير ذلك ممَّا ذكرناه من الحدود المحدودة للواقع الحكمي.

ولأنَّهم إن كانوا يعنون بالحكم هو البعث والزجر الحاصلين بهيئة افعل ولا تفعل وغيرهما - من الأدوات المشابهة على ما سوف يأتي في الأوامر والنَّواهي وغيرهما من الجزء الثَّاني - فلا تتحقَّق الضدِّية بينهما.

ص: 254


1- سورة البقرة / آية 286.
2- سورة الحج / آية 78.

لأنَّ البعث والزجر من الأمور الاعتباريَّة والاعتبار خفيف المؤنة لا تحقُّق له إلاَّ في عالم الاعتبار ولم يكونا من الأمور الواقعيَّة التَّكوينيَّة المتأصِّلة.

ومن أهم عوامل ما يقبل الاعتبار وسعة المدار هو سعة الوقت أو عدم ضيقه وعدم نيَّة التَّشريع المحرَّم واتِّباع النُّصوص المتكاملة في تقابلها ورفض الموضوعات والملفَّقات المشوَّشة وبما لا يمنع من الجمع في حالة ما قد يتصوَّر اشتباهاً بالمنع منه.

ومن أبسط الأمثلة هو نفس ما مرَّ ذكره في المطلب السَّابق البعيد عن إمكان الجمع فيه هناك، ولكنَّه هنا لا مانع منه بالاعتبار الحالي وهو ما يصح فيه الصَّلاة حتَّى في الدَّار المغصوبة، كما في تورُّط المكث غفلة فيها ونحو ذلك مع الغفلة عن الصَّلاة الواجبة الَّتي ضاق وقتها.

وهنا بناءاً على أنَّ الصَّلاة لا تترك بحال وبناءاً على أنَّ المكث في هذه الدَّار باستقرار محرَّم تمَّ استنباط حكم جواز الصَّلاة أو وجوبها في حال الخروج فقط، للجمع بين ما يجب وهو الصَّلاة وما يحرم وهو البقاء في تلك الدَّار بالصَّلاة إلاَّ أثناء الخروج.

لأنَّ متعلَّق البعث والزَّجر هو نفس العنوان الكلِّي وليس الموجود الواقعي الخارجي فلا يتحقَّق التَّضاد بينهما لإمكان اجتماع الحالات المتضادَّة في العنوان في آن واحد.

وفي هذا الأخير يمكن اجتماع المصلحة والمفسدة في آن واحد مع ضيق الوقت فيصح الواجب مع المسير ولا يفسده عدم البقاء لعدم شرعيَّة السُّكون فيه فقط مع الغصب.وعلى هذا الأساس أيضا يمكن الجمع بين الأمر والنَّهي كالأمر بالصَّلاة والنَّهي عن تركها أو الأمر بالشَّيء الواجب مع النَّهي عن ضدِّه الخاص كما في ضيق وقته.

وكذا الجمع بين الوجوب من الأحكام الخمسة وبين الاستحباب بجامع الرجحان العام للوجوب والاستحباب كالفريضة مع مستحبَّاتها ومنها القنوت بل بين الفريضة

ص: 255

الَّتي لم يوفَّق صاحبها للجماعة مع استحباب إعادتها جماعة لو حضرت بعد ذلك وإن كان قد أدَّاها منفرداً.

وكذا اجتماع الواجب مع المكروه كالصَّلاة الواجبة في الحمَّام بلا إثم مصاحب وإن قلَّ الثَّواب.

وكذا اجتماع الواجب مع المباح غير المانع من الصَّلاة فيه كبعض الملابس المباحة.

وكاجتماع المحرَّم مع المستحب كالصَّلاة الواجبة ماشياً في نفس الدَّار المغصوبة لو ضاق وقتها حتَّى مع القنوت غير المضر عند نفس الخروج الواجب كما مرَّ.

واجتماع المحرَّم مع المكروه كالصَّلاة الماضية مع فرقعة الأصابع عند الخروج من الدَّار المغصوبة.

واجتماع المحرَّم مع المباح في نفس المثال أيضاً لو لم يعرقل المسير.

وكاجتماع المكروه مع المستحب كصلاة النَّافلة في الحمام.

وكاجتماع المكروه مع المباح كما في النَّافلة وارتداء ما يباح لبسه.

وكاجتماع المباح مع كل من الأحكام الأربع، وسوف يتَّضح هذا الأمر في بحث الضد إن شاء الله تعالى.

وبعد الفراغ من هذا البحث كان المناسب ذكر الكلام عن التَّخطئة والتَّصويب - وإن سبق أن نوهَّنا عنهما استطراداً ببعض الشَّيء في أكثر من مورد - لكن ربما يكون الأنسب ذكره في الجزء الثَّاني تفصيلاً أو في بحث الحجَّة، فينبغي للمحتاج إليه مراجعته هناك.

ص: 256

تتمَّة نافعة

حول التَّقسيم بين التَّكليفي والوضعي والفرق بينهما من النِّسب الأربع

وعلى أساس ما مرَّ من الكلام عن الفهرست من التَّقسيم إلى التَّكليفي والوضعي، وبتعبير آخر بأنَّ الأوَّل هو ما شرَّعه الله تعالى ليتعلَّق بفعل الإنسان من غير واسطة شيء من حيث الاقتضاء والتّخيير، حيث أنَّ الاقتضاء بالفعل يتعلَّق بالوجوب والنَّدب لكون الوجوب مع المنع من التَّرك والنَّدب مع عدمه ويتناسبان مع ما مرَّ ذكره بالفريضة بما مرَّ ذكره بالفريضة والقنوت والاقتضاء بالتَّرك يتعلَّق بالتَّحريم والكراهة، لكون التَّحريم مع المنع من الفعل والكراهة مع عدمه، لكنَّها تظهر مع ما يحرم تركه من الفريضة مع المكروه الَّذي لا يبطلها ولكن يقل ثوابها كفرقعة الأصابع وإنَّ التَّخيير ما يؤدِّي إلى معنى الإباحة بين الفعل والتَّرك.

والوضعي ما يباين مفهوم التَّكليفي فلا تعلُّق له بفعل الإنسان مباشرة ولا يتضمَّن الاقتضاء ولا التَّخيير في تنوُّع مصاديقه، نعم إنَّهما يختلفان بالنَّحو الإجمالي وجوداً ومورداً.

وعليه يكون أمر الفرق بين التَّكليف والوضع متعيِّناً بالعموم والخصوص من وجه دون بقيَّة الفوارق على ما ستوِّضحه المصاديق الَّتي لا تساعد عليه غيرها.

فقد يجتمع عدم التَّكليف مع الوضع في شيء واحد كتحقُّق الوضع بانتقال الملكيَّة من غير البالغ والمجنون والسَّفيه المولَّى عليه من قبل وليِّه الشَّرعي كالأب والجد للأب أو الحاكم الشَّرعي إن احتيج إلى الرُّجوع إليه في رعاية شؤون القاصرين أو من يوليِّه وليُّه الشَّرعي كالقيِّم بواسطة الولي أو القيِّم ليقوم بما تقتضيه المصلحة في شيء ممَّا يملكه هؤلاء القاصرون عن تصرُّفهم الشَّخصي في أموالهم إلاَّ بإذن ذلك الولي أو القيِّم أو

ص: 257

تصدِّيهما المباشر في التَّعامل.

وقد يتحقَّق التَّكليف مع عدم ثبوت الوضع كما إذا أجاز صاحب المال الآخر في بيع ماله مع أنَّه غير مالك لذلك المال بالإجازة الكاشفة للفضولي أو النَّاقلة لمثل تصدِّي الوكيل.

وقد يتحقَّق التَّكليف مع الوضع كما في مثل الجماع مع الزَّوجة فإنَّه مباح وسبب في وجوب الغُسل ومع الأجنبية فإنَّه محرَّم وسبب في وجوب الغُسل إلى غير هذا من الأمثلة الكثيرة.

المبحث الثَّالث والعشرون

هل الأحكام الشَّرعيَّة والوضعيَّة من الأمور الخارجيَّة التَّكوينيَّة أم الاعتباريَّة؟

ممَّا ينبغي بل يلزم علميَّاً أصوليَّاً أن لا يفوتنا الكلام عمَّا لخَّصناه في الفهرست الماضيعن الأحكام في أمرها الشَّرعي وأنواعه الخمسة ويتبعها الحكم الوضعي عند مجيء دورها بعدما دار بين الأصوليِّين أنَّها بالدقَّة.

هل يمكن أن تكون خارجيَّة تكوينيَّة أم لابدَّ من كونها اعتباريَّة؟

فقد اتَّضح بينهم أنَّ هذه الأحكام التَّكليفيَّة منها والوضعيَّة ليست من الأمور الخارجيَّة التَّكوينيَّة، لكونها لا تدخل بتَّاً تحت أي مقولة من المقولات الواقعيَّة المتأصِّلة التِّسعة المنسوبة إلى أرسطو والَّتي منها الجِدة لخضوع الشَّرعيَّات إلى يد المشرِّع تعالى، لأنَّ بيده النَّسخ والتَّخصيص والتَّدرُّج في التشَّريع من الموجز إلى الموسَّع من علائم ما تطابق وما يتطابق مع بالغ حكمته حينما عرف من فقهاء الأمَّة وأصوليِّيها من ثبوت هذه

ص: 258

السِّيرة ونجاحها تربويَّاً.

ولذا قالوا بأنَّ هذا لن يكون مع لزوم المطابقة لمقتضى ما يتناسب مع قدرات الفرد والمجتمع وعدالة المشرِّع المليئة بالرِّفق والرَّحمة والبعيدة عن العسر والحرج، إلاَّ ما يتناسب مع كونها من الأمور الاعتباريَّة لكون الاعتبار لا تحقِّق له إلاَّ في عالم الاعتبار، وهو ما يعني تمام التَّبعيَّة لاعتبار المعتبر وكون الأمر المولوي بيده تعالى وضعاً ورفعاً وليس من الوجود الخارجي التَّكويني ولا الوجود الذِّهني و الثُّبوتي وحده أو الإثباتي وحده، ولعدم تماشيه مع التَّكوينيَّات الخلقيَّة كتكوينناً وغيرنا من بقيَّة الكائنات وإن جعل تعالى قدرته الماضية بمحض الإشاءة له جلَّ وعلا بالمحو والإثبات التَّكوينيَّين في الأعمار والأرزاق في باب القدر بيد إمام الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ وما خصَّ ذاته القدسيَّة به من القضاءيَّات المبرمة الَّتي قد يتصوَّرها بعض البسطاء مشابهة للنَّسخ والتَّخصيص في الشَّرعيَّات الاعتباريَّة وبما قد يجتمع فيه الاثنان في قوله تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ](1) للفرق بين التَّكوين والتَّشريع على ما هو موضَّح ومحرَّر في مقامات مناسبة أكثر أخر عقائديَّاً دفعاً لمشكلة الجبر والتَّفويض على ما أوضح ذلك كثيراً من الكتاب والسنَّة وتثبيتاً للمنزلة بين المنزلتين كما قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ](2).

ولذا اعتبر أحد السَّادة الأساتذة الأفاضل قدس سره هذا الأمر الاعتباري في وصفه له بأنَّه برزخ بين الموجود الجوهري والموجود العرضي، فمن حيث كونه غير متقوِّم بالموضوع يشبه الموجود الجوهري، ومن حيث كونه غير متحقِّق خارجاً مستقلاًّ يشبه الموجود العرضي، وبافتقاره إلى العلَّة يكون متحقِّقاً بغيره وبكونه كالجوهر فتحقِّقه بتحقُّقه في نفسه بسبب الاعتبار لا في الذَّات.

ص: 259


1- سورة الأنبياء / آية 98.
2- سورة البقرة / آية 143.

وهو كلام متين في المقام يشكر عليه.

ثمَّ حاول الشَّيخ المحقِّق الكمبَّاني الأصفهاني قدس سره تبرير قول من قال بأنَّ الأحكام الَّتي منها الوضعيَّة اعتباريَّة دون كونها حقيقيَّة واقعيَّة بل دون كونها مجهولة بين هذه وتلك، كمن أظهر تحيَّره من العلماء الأجلاء الأساتذة مع أنَّ أستاذه الشَّيخ الكمباني قدس سره كان فيلسوف الأصول في تعليقته على الكفاية فاستدَّل على عدم كون الملكيَة من المقولات الواقعيَّة بعِدَّة وجوه، ونكتفي بالأوَّل منها والوضعيَّة الَّتي منها الملكيَّة والزَّوجيَّة ونحوهما بطبيعتها تابعة للتَّكليفيَّة.

وهذا الوجه الأوَّل في حاصله مع بعض التَّصرُّف منَّا:

إنَّ من الواضح المسلَّم بشهادة الوجدان السَّليم إنَّ كلاًّ من ذات المالك والمملوك قبل العقد البيعي وبعده على حد سواء لا يتبدَّل عرض من أعراضهما فلا يتحيَّثان بحيثيَّة وجوديَّة جديدة ولا يتحقَّق وجود مطابق وصورة في الأعيان فيهما (قبل القبض والإقباض) وصدق المقولة الواقعيَّة من دون حصول أحد هذين الأمرين مستحيل عقلاً)(1).وهو ما يعني عدم حصول الملكيَّة بما يتساوى فيه حالة ما قبل العقد وبعده وهو معنى الاعتبار في الملكيَّة دون الواقعيَّة بل لا يتساوى الاعتباري والواقعي في مورد الحيرة بتزعزع في الأوَّل أو ثبات في الثَّاني وإن صحَّ هذا النَّوع من التَّعامل شرعاً لعدم لزومه بسبب عدم ذلك القبض والإقباض، ولذا يصح فيه الفسخ، على أن لا تتعدَّى السلوك الأخلاقي أدبيَّاً مع مالك الملك تعالى حقيقة.

وقد ذكرنا هذا الأمر مع غض النَّظر عن مفاد الحديث القدسي الشَّريف القائل (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فمن بخل من وكلائي على عيالي أدخلته ناري ولا

ص: 260


1- حاشية المكاسب ج1 ص 35 - 36، ونهاية الدراية ج3 ص 133.

أبالي)(1) وهو الَّذي منه ومن أمثاله علمنا إمضاء الشَّرع التَّمليك الاعتباري، ولذا يجب أن نحترم القرار الشَّرعي بتمليك المنتقل إليه عند شراءه بخصوص ما بعد القبض والإقباض وإن كان الله هو المالك الحقيقي دون ما قبل ذلك.

ولكن أورد عليه ما ذكره الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره بما ملخَّصه (إنَّ هذا البرهان ليس إلاَّ مصادرة على المطلوب - أي جعل الدَّعوى عين الدَّليل - لأنَّ الملكيَّة قد وجدت بعد وقوع عقد البيع وكونها من الأعراض المقوليَّة أو من الاعتباريَّة هو أوَّل الكلام).

لكن يمكن الإجابة انتصاراً للشَّيخ قدس سره: بأنَّ عدم القبض والإقباض من المعلوم كونهما يفسحان المجال شرعاً بعدم اللُّزوم أو ما يثبت التَّزلزل.

وبغض النَّظر أيضاً عن الملكيَّة الحقيقيَّة الثَّابتة في مالك الملك تعالى - وإن مقولة الجِدة على رأي الفلاسفة وإن تفاوتت بحسب الأعراف المتفاوتة في العالم - فهذه الأمور بأجمعها لا تعطينا مجالاً للقول بعدم المعنى الاعتباري الشَّرعي أو ما قد يظهر منه التَّردُّد في نظر السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره بين الاعتبار أو الأعراض المقوليَّة، لكون قرار اللُّزوم في الملكيَّة لابدَّ وأن يكون بعد القبض والإقباض حسب نظر الشَّرع وأهله لا بعد ما ذكره الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره .

إضافة إلى إنَّ وجود الملكيَّة بعد وقوع العقد وحده في نظره الشَّريف وإن جعلته بعض الأعراف الوضعيَّة دون الشَّرعيَّة لازماً غير كاف فإنَّه لا ينفك إلاَّ بالتَّفاسخ والتَّقايل.

بينما التَّفاسخ والتَّقايل في الشَّرع لن يكونا إلاَّ بعد ذلك القبض والإقباض مع العقد، بينما حينما كان بعد مجرَّد العقد فالتَّزلزل واضح في اعتباره، والتَّعليل منه قدس سره أوَّل الكلام لا ما قاله الشَّيخ قدس سره .

قد يقال ما يمكن به وضوح بعض الغموض الَّذي في كلام ما ذكره الشَّيخ قدس سره من

ص: 261


1- الأمالي، للشيخ الطوسي، ص531.

الوجه الأوَّل على فرض وجوده:

أنَّه يمكن أن يقال بأنَّ (الملكية الاعتبارية تكون من سنخ الملكية الحقيقية أعني مقولة الجدة، بتقريب: أن الواجديَّة والإحاطة لها مراتب أقواها ملكية السَّماوات والأرضين له تعالى، وأيّ واجديَّة أقوى من واجديَّة العلة لمعلولها الّذي يكون من مراتب وجودها، نظير واجدية النّفس للصور المخلوقة لها، ودون هذه المرتبة واجديَّة أولي الأمر "صلوات اللّه عليهم أجمعين"، لأنها من مراتب واجديَّته جل و علا، ودونها واجديَّة الشخص لما يملكه وانلم يكن تحت تصرفه، ودونها الواجديَّة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالقميص المحيط بالبدن عند التَّقمص والتَّعمُّم)(1).

وأجيب عنه أوَّلاً: (فلأنَّه لا وجه لجعل الملكيَّة الاعتباريَّة الَّتي هي من الأمور الاعتباريَّة

دون الانتزاعيَّة من الملكيَّة الحقيقيَّة بعد كون الاعتباريَّة في مقابل الحقيقيَّة والانتزاعيَّة، إذ الهيئة الحاصلة في وعاء الخارج تكون حقيقيَّة وليست اعتباريَّة، فلا سنخيَّة بين الملكيَّة الحقيقيَّة وبين الملكيَّة الاعتباريَّة وإن كان لكل منهما مراتب.

وثانياً: فلأنَّه لا وجه لتنظير واجديَّة الله سبحانه وتعالى للسَّماوات والأرضين وغيرهما بواجديَّة النَّفس للصُّور والعلَّة والمعلول، ضرورة عدم كونه سبحانه وتعالى علَّة للسَّماوات والأرضين بل هو عزَّ وجل فاعل وموجد، ولا سنخيَّة بين الواجب والممكن حتَّى يكون المخلوق من مراتب وجوده وتنظيره عظمت كبرياؤه بالعلَّة التَّكوينيَّة ممَّا لا يليق به جلَّت الآؤه)(2).

أقول: هذا الجواب من مثل السيِّد الشَّاهرودي قدس سره أو ممَّن هو من أضرابه - إضافة إلى كونه نصرة للملك الاعتباري كما قاله الكمبَّاني قدس سره لاختلاف ملكيَّته عن الملكيَّة

ص: 262


1- نقل ذلك عن الشَّيخ النَّائيني قدس سره كما في (نتائج الأفكار في الأصول) تقريرات السيِّد الشَّاهرودي قدس سره للسيِّد الجزائري قدس سره، راجع نتائج الأفكار ج6 ص 110.
2- نتائج الأفكار ج 6 ص 111.

الحقيقيَّة المنوطة بالخالق والفاعل تعالى وإن كانت الأحكام الوضعيَّة لم تصل عندنا القناعة بها عن أجمعها ما عدا الملكيَّة والزَّوجيَّة بكونها من ذوات خصوص الاعتبار لوجود تفاصيل أخرى عندنا قد تحتاج في بسطها إلى كلام خاص ربَّما يليق أمر البسط فيه تحت العناوين الآتية -

ممَّا ينسجم مع العقيدة الحقَّة في الخالق الفاعل تعالى ومن أوجدهم من المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بنسبة من السُّلطة التَّكوينيَّة لهم وأتحفهم بشرعه العادل المبين.

ولعلَّ دفاع الشَّيخ الأصفهاني قدس سره عن الملكيَّة واعتباريَّتها، وكذا من كان بعده من الأعاظم قدس سره والتَّركيز عليها وإهمال خصوص التَّكليفيَّة عن الدِّفاع عنها كان للخلاف في بعض مصاديق الوضعيَّة ممَّا أشرنا إليه دون التَّكليفيَّة الشَّرعيَّة.

وسوف يتَّضح هذا الأمر وغيره أكثر من مواضيع الأحكام الشَّرعيَّة الأخرى إذا دام توفيقنا عند الكلام عن تضاعيف بحوث الأوامر والنَّواهي وبحث الضِّد والاستصحاب من الأصول.

المبحث الرَّابع والعشرون

عِلَّة الحكم وحكمة التَّشريع

لم تكن الأحكام الشَّرعيَّة بملازمة دائماً للعلَّة التَّشريعيَّة الَّتي تعارف أن تدور مدار معلولاتها ثبوتاً ونفياً، لخفاء أكثرها في طول الزَّمن العصيب، وإن كانت العلَّة لو توفَّرت لفاقت كثيراً من مدارك الأحكام أو لقلَّة الوارد المضبوط في وروده منها.

ولذا تُعد غيرها في باب الاستدلال بها وممَّا يشبهها ممَّا يُسمَّى بحِكم التَّشريع، وإن كانت لها أدلَّتها الَّتي تُسبِّب العمل بها خطيرة لو قورنت تلك الحِكم بتلك العِلل إذا يُقاس عليها بحيث لو كانت حِكمة لخرج هذا الأمر عمَّا يرتضي.

ص: 263

لأنَّ أغلب حالات التَّطبيق الخارجي في المقام هو من نوع القياس الممنوع منطقيَّاً مهما تشابهت الأمثال فضلاً عمَّا لو كان مع الفارق.

ولذا لم يطمئن في حال الورود العام لنصوص العِلل ونصوص الحِكم لو اختلط الحابل بالنَّابل حين إفراز بعضها عن بعض لتمييز العِلل عن الحِكم، إلاَّ بما يسمَّى في حالة تصحيح القياسات المرضية من ذلك بمنصوص العلَّة ويبقى الباقي الخالي من معنى العِليَّة في الثُّبوت والنَّفي مرتبطاً ظاهراً بما لا عِليَّة فيه بدون مجال للأخذ به إلاَّ بما أوصله بعض أهل العلم للأخذ به كالمنصوص الكامل ممَّا سمِّي ب- (تنقيح المناط القطعي) دون ارتباطه بالنَّص ظنيَّاً.

وقد رأى هذا الرَّأي رهط من أهل العلم كالسيِّد الأستاذ السَّبزواري قدس سره في تهذيب الأصول والسيِّد البجنوردي قدس سره في قواعده.

وأمَّا التَّنقيح المرتبط باستيضاح مناطه من الظن دون القطع واليقين فلم يركن إليه المدقِّقون وإن سُمِّي ب- (مستنبط العلَّة) في مقابل منصوص العِلَّة، لأنَّه من القياس الَّذي لم يختص بمنعه أصوليُّوا الإماميَّة، بل سار على هذا النَّهج ابن حزم الأندلسي وأضرابه منالعامَّة وهو في حال النَّفي ليس كالعِلَّة، لأنَّ الفقيه قد ينال بُغيته من تفحُّصه أو استفراغ وسعه في الأدلَّة بما ينال به حُكماً آخر لصالح الإيجاب أيضاً، لأنَّ إثبات الشَّيء في غير العِلل التَّامَّة لا ينفي ما عداه.

وأمَّا حِكم التَّشريع وهي الخالية في نصوصها من معاني العِليَّة التَّامَّة ثبوتاً ونفياً -- وإن أفادت الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة في كل منها -- فهي الَّتي إن كانت قد تتكثَّر منها معاني الحكم على اختلافها من منافع الوجوب والاستحباب ومضار الحرمة والكراهة وحكم المباحات وبما قد يسمَّى أيضاً بالفلسفات وغيرها، ولكن لم يظهر من كلِّ منها ما يُعادل علَّة موحَّدة تامَّة في التَّركيز عليها ثبوتاً ونفياً كالعلَّة الماضية المنصوصة أو ما يُلحق بها، بحيث تكون كل حِكمة تبيِّن مناسبة تشريعيَّة تختلف عن غيرها، وهي الَّتي ذكر عنها

ص: 264

بأنَّها من العِلل النَّاقصة وهي الَّتي إن انسجم بعضها مع بعض في الإيجابيَّة مثلاً لصالح الحُكم الإيجابي أو في النَّفي لصالح الحكم السَّلبي أو لما يتعلَّق بالحكم الجامع في المعنى الوسطي وهو الإباحة ويلحق بذلك أمور الأحكام الوضعيَّة.

فلم يكن الجميع بموضِّح سر العِليَّة الموحَّدة من مجموع تلك الحكم في تلاقيها الضمني.

ولذا إن وجب الالتزام بذلك الحُكم على اختلافه لما سبَّبه مدركه فلم يكن إلاَّ من باب التَّعبُّد وإن لم تدرك علَّته، احتراماً لجانب ما أعطاه الدَّليل لصالح الإثبات دون ما يستفاد لصالح النَّفي، وأمثلة هذين الأمرين وهما العِلَّة والحِكمة قابلة لأن تدرك من قِبل المنتبهين من أهل العلم بل هي ميسورة وإن قلَّت مصاديق الحالة الأولى.

فالحالة الأولى مثل بعض الآيات الَّتي ظاهرها التَّعليل وهي عديدة ويُغنينا عن الإطالة فيها مثل الرِّوايات الَّتي من أبرزها ما يستعرضونه للكلام عن التَّعليل أيضاً قوله عَلَيْهِم السَّلاَمُ (حرِّمت الخمرة لإسكارها)(1).

فبعد ثبوت النَّص والتَّأكُّد من صحَّته وإثبات الحُكم الشَّرعي عن طريقه - إضافة إلى ما بيَّنته الآيات لمثل الخمرة وحرمتها - لابدَّ أن تظهر عِلَّة الحكم معه وهي الإسكار أو ذهاب العقل بشُربه، سواء خفَّ إسكاره أو ثقل وسواء قلَّ مقداره أو كثر وإنَّ التَّركيز على الإسكار وإن كان المسكر له اسم آخر كالحشيشة والتِّرياق والأفيون إلاَّ بالتَّفريق بين حالتي السَّائل والجاف مع إثبات الحرمة في الحالتين.

نعم اختلف أمر الجاف بين الفقهاء عن السَّائل، فاعتبروا الأوَّل من أنواع الطَّاهر وإن حرُم والثَّاني من أقسام النَّجس في نوعه مع حرمته إلاَّ ما قلَّ كالجاف إذا أسيل فلم ينجِّس مع حرمته، بل اعتبر من السَّائل أيضاً ما كان طاهراً وإن بقي على حرمته وهو العصير العنبي وإن استنجسه قدماء ومتوسّطون مهمُّون واحتاط في أمره آخرون، لأنَّه

ص: 265


1- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9.

من قبيل الخارج بالنَّص وبحثه الخاص به ميسور في مكانه من الفقه.

وعلى أي حال فإن عُدَّ الإسكار هو العِلَّة للحكم دون خصوص الخمريَّة فلابدَّ أن يكون كل مسكر محرَّماً ونجساً إن كان سائلاً في طبيعته ما عدا السَّائل الخارج بالنَّص آنف الذِّكر وهو العصير العنبي ومحرَّماً فقط إن كان من الجاف في طبيعته.ولأجل حرمة الجمع بين إسكار السَّائل النَّجس بأدلَّته والسَّائل الطاهر بدليله التَّحريمي وحرمة الموارد المسكرة الجافَّة شدَّد قول الله تعالى على السُّكارى بأن لا يقربوا الصَّلاة وهم سكارى في قوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1) لأخطريَّة الاتِّصال بالمولى المعبود جلَّ وعلا في عبادته بالصَّلاة حالة السكر وإن قارنته العواطف الجيَّاشة من قِبل بعض السُّكارى خوفاً وخشوعاً منه تعالى لأنَّه (لا يُطاع الله من حيث يُعصى)، لأنَّ الاستثمار الدُنيوي والأخروي روحيَّاً لن يستقرا مع أقل مقدار من فقدان الشعور أو عدم التَّهيؤ ولو من بقايا آثار السكر القديمة فكيف بالنسب الأكثر بل كيف بمباشرة الاحتساء أثناءها وفي عكس هذه الحالة تتبيَّن اللا حرمة واللا نجاسة عند ثبوت العِلَّة ثبوتاً ونفياً.

إلاَّ أنَّ أجواء هذه العبادة وأمثالها تبقى محتاجة إلى تفريع كافَّتها بما يتناسب وروحانيَّة عبادة المعبود جلَّ وعلا وبالابتداء ولو بأقل مثابات درجات الأشواق المؤكَّدة الَّتي من أوضح لوازمها بين العقلاء تكامل عقل العابد بين يدي معبوده تعالى، لإمكان أن ترتقي إلى ما به نسب القبول من حالات شكر المنعم لهم وإلى أمثال التَّسامي مع أصحاب عاشر درجات الإيمان أو القريب منها مع الإمكان وإن صوعب هذا الأمر لدى أكثر النَّاس المشغولين بانهماك في أمور الدُّنيا ومغرياتها.

وهنا تتبيَّن ميزة العِليَّة - في الإثبات والنَّفي وصحَّة القياس في المنصوص العِلَّة من عدمها في غير هذا المنصوص وهو المسمَّى أيضاً بالمستنبط - بالقياس ونحوه كما أشرنا،

ص: 266


1- سورة النساء / آية 43.

وإن كان الواجب الشَّرعي الثَّابت بأدلَّته وغيره من باقي الأحكام من الَّذي لم تُنص عليه عِلَّة تامَّة كالمنصوص وإن حفَّت به حِكم تشريعيَّة عديدة أو ما قد يُسمَّى أنَّ له فوائد ومنافع وإن ذكرتها نصوص لكن لا بمستوى منصوص العِلَّة لكل منها فلا صحَّة لأن تكون من بين تلك الفوائد والمنافع أو ما قد تُسمَّى بفلسفات التَّشريع عِلَّة موحَّدة يُقاس عليها في الوجود وجود وفي العدم عدم ، لأنَّ العقل كما مرَّ لم تُقبل قياساته بالأمثال مهما تشابهت، ولذا عُرف (الأمثال تُضرب ولا يُقاس عليها) ما دام لم يأت نص خاص تام الفائدة في تجويز القياس أو إمضاءه للإثبات إثبات وللنَّفي نفي.

وقد مُثِّل لبعض عِلل الشَّرايع وغيرها من كتب الأخبار الشَّريفة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ بعد إشارات الآيات القرآنيَّة الكريمة الَّتي لا ينبغي عدم الاعتداد بها كعِلل تامَّة دوماً إلاَّ في النُّدرة، لأنَّ أغلبها لم تصل صناعة إلى مستوى العِلل الكاملة ومن تلك الكتب الجامعة علل الشَّرائع وغيرها، فجاءت هذه العِلل بهذه الأسماء إمَّا من باب التَّسامح في التَّعبير أو أنَّها وردت عن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ كعِلل لم تتجاوز أفواههم الشَّريفة إلى مستوى اطِّلاع من بعدهم من الحواري إلاَّ نادراً.

فإنَّ الصَّلاة قد عبَّر عنها بقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](1) وعبَّر عنها بأنَّها في قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (معراج المؤمن)(2) و (قربان كل تقي)(3) وغيرها.وهكذا الصِّيام بأنَّه ممَّا يُحقِّق التَّقوى في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](4) وفي الحديث الشَّريف (صوموا تصحُّوا)(5) وفي خطبة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في آخر جمعة من شعبان (واذكروا

ص: 267


1- سورة العنكبوت / آية 45.
2- بحار الأنوار، ج 79 ص 303.
3- منتهى المطلب ج1 ص 193.
4- سورة البقرة / آية 183.
5- بحار الأنوار ج93 ص 255.

بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه)(1) إلى غير ذلك.

وهكذا الحج فإنَّ في قوله تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ](2) كفاية أمر كثرة فوائده ومنافعه الدُنيويَّة والأخرويَّة لنفسه وأهله ومن حوله وعموم المسلمين ولمظاهر تعظيم الشَّعائر الَّتي إن عُرف مغزاها أو لم يعرف احتراماً للتَّعبُّد، لأنَّ الله تعالى تعبَّدنا فيجب أن نمتثل أوامره وننتهي عن نواهيه وغير ذلك.

فإنَّ هذه الواجبات وغيرها من الأحكام في أدلَّتها مع تعدُّدها واختلاف ما تحمله من معاني بعضها عن بعض لم تصلح للمقايسة، لكن دون أن تنزل مستوياتها إلى محو المنافع الدُنيويَّة والأخرويَّة لصاحبها المكلَّف ما دام قاصداً وجه المعبود تعالى وطاعته إلاَّ أن تظهر من بينها علَّة واحدة يرجع إليها في باب القياس الصَّحيح كما مرَّ في منصوص العِلَّة.

والحالة الثَّانية ممَّا تحت عنوان البحث وهو حِكم التَّشريع إذا أريد الكلام عن مجرَّدها لا عن خصوص العِليَّة فهو -- وإن ذكرنا مطلبها في ضمن الأولى بما قد يُغني، لكن نقوله للتَّوضيح الأكثر في قوله عَلَيْهِم السَّلاَمُ الماضي ذكره (حرِّمت الخمرة لإسكارها)(3) - بيان آخر ولاستعراض ما هو أوسع من وجهة استدلاليَّة أخرى، لمحاولة ترجيح أحد فردي العنوان الماضي إن أمكن.

فإذا ما أريد من هذا النَّص تشريع الحكم وذاته دون العِليَّة فلابدَّ من أن يبقى مطلقاً دون أن يكون خاضعاً لذلك التَّعليل، فلا يدور الحكم مدار التَّعليل وجوداً وعدماً، فلا يصير مطَّرداً اطِّراد العلَّة كتعليل تشريع حرمة الخمرة بإلغاء الأضرار الدُّنيويَّة وهو المراد منه حِكمة التَّشريع.

ص: 268


1- مفاتيح الجنان / فضل شهر رمضان.
2- سورة الحج / آية 28.
3- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9.

وقد بيَّن مضمون هذا النَّص الشَّريف وصيَّره إلى تعبيرين الشَّيخ النَّائيني قدس سره -- فجعل منه مثالاً خاصَّاً للأوَّل وهو التَّعليل المنصوص العِلَّة فحرَّم جميع الأنواع وهو (الخمر حرام لأنَّه مسكر)، وجعل منه لهذا الثَّاني وهو العائد لحِكمة التَّشريع دون العِلَّة فحرَّم خصوص الخمرة دون الباقي وهو قول (الخمر حرام لإسكاره) -

بما توجيه تفصيله بين ما إذا كانت العِلَّة المنصوصة المذكورة في الكلام من قبيل الواسطة في العروض.

حيث صرَّح بأنَّه يُستفاد من الأوَّل تحريم بقيَّة المسكرات باعتبار إنَّ وصف المسكر فيه من قبيل هذه الواسطة فيصير الحرام هو نفس المسكر واقعاً دون الخمر فيسري التَّحريم إلىجميع مصاديق المسكر، وهذا بخلاف الثَّاني فلا يُستفاد منه حرمة بقيَّة المسكرات، لكون الإسكار فيه من قبيل الواسطة في الثُّبوت، لأنَّ موضوع التَّحريم هو نفس الخمر لاحتمال الخصوصيَّة في إسكار الخمر.

لكن نقول: هذا لم يتبيَّن بوضوح من أصل النَّص، لعدم الفرق بين قسمي التَّعبيرين المختارين من قِبل مقامه المعظَّم قدس سره ما دامت لام التَّعليل موجودة في جامع الاثنين، لعدم الفرق بين التَّعبيرين.

ويشهد لذلك الظهور تباني العقلاء وإذهاب العقل من حالات حرمته هو غاية ما به تبانيهم، ولذا جاء عن جعفر الطيار عَلَيْهِ السَّلاَمُ لبيان مسلكه أيَّام الجاهليَّة (ما شربت خمراً قط لأني لو شربتها زال عقلي)(1).

وقد أمضى الشَّرع للعقل والعقلاء هذا الحكم الأخلاقي المحارب للخمرة بأنواعها في إسكارها القليل والكثير وبتمام العِليَّة وبما لا داعي لتوزيع العبارة الواردة عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الواضح في عِليَّته نفياً وإثباتاً وهو قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (حرمِّت الخمرة لإسكارها) وإلى

ص: 269


1- الدرجات الرفيعة ص 70 نقلاً عن الأمالي لابن بابويه / بحار الأنوار: 22/ 273، الحديث16.

التَّشقيق إلى القسمين ما دام النَّص واحداً في تعليله.

ولأنَّ احتمال مدخليَّة خصوصيَّة في إسكار الخمر لا يوجب إبطال ظهور العِلَّة في أنَّ الحكم يدور مدار العِلَّة إثباتاً ونفياً، وأنَّ العِلَّة الجارية في أصل النَّص تقتضي سريان الحُكم إلى غير مورده من دون مدخليَّة خصوصيَّة المورد.

فإنَّ عدم ذكر المواد الجافَّة الفعَّالة في الإسكار أو السَّائلة الطاهرة المسكرة وإن لم تُسمَّ بالخمرة لكنَّها داخلة في الإسكار.

ومن علائم إمضاء الشَّرع المهم في تباني العقلاء على هذا الأمر هو عدم ردعه لما تبانوا عليه، ولو كان مستصغراً بين النَّاس في خمريَّته كالفقاع ومثله النَّبيذ كما في الخبر المأثور(الفقاع خمر استصغره الناس)(1) وفي المناهي العامَّة عن عموم المعاصي قولهم (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)(2).

ثمَّ إنَّه عند دوران الأمر بين عِلَّة الحكم وحِكمة التَّشريع فإن كان هناك ما يعين أحدهما فبها ونعمت، وإلاَّ لزم الحمل على الأوَّل حفاظاً على النَّص، وممَّا يزيدنا في الاطمئنان بما نقوله هو توصل رهط من أعاظم أهل العلم إلى هذا الرَّأي كالأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره وللتَّوسُّع الأكثر يراجع بحث الدَّليل الِّلمي والإنِّي والحجَّة وغيرها من البحوث الآتية.

ص: 270


1- الوسائل25: 365/ أبواب الأشربة المحرمة ب 28 ح1 (باختلاف يسير).
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 77.

المبحث الخامس والعشرون

عدم خلو كل واقعة من الحكم الشَّرعي

بعد التَّنويه الموجز في الفهرست الجامع الماضي ذكره عن الأحكام الشَّرعيَّة الكاملة ومشتقَّاتها لديننا الحنيف للتَّعبُّد به في هذه الحياة الواسعة في طولها وعرضها وعمقها والَّذي أعدَّت له جميع أصول الفقه خادمة له ولجميع أحكامه والبحث عن أموره وعلى ما يناسب سعته وبما لابدَّ أن يتناسب هذا الأمر وعلى ما صرَّحت به ولوَّحت أمَّهات آيات الأحكام ورواياتها لدستورنا القرآني العظيم الَّذي ما ترك لهذا الدِّين وبقيَّة معارف الحياة الأخرى جزئيَّة ولا كليَّة إلاَّ أحصاها مع العترة وما خزنته لهذه الأمَّة كقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](1) وقوله [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](2) في أمر ولاية أمير المؤمنين وأبناءه البررة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وزعامة أمر العترة الطَّاهرة في حديث الثَّقلين الوارد في قوله صلی الله علیه و آله و سلم (إنِّي مخلِّف فيكم الثَّقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيُّها النَّاس إنَّكم لا تعلموهم فإنَّهم أعلم منكم)(3) وقوله صلی الله علیه و آله و سلم (حلال محمَّد حلال

ص: 271


1- سورة النحل / آية 89.
2- سورة المائدة / آية 3.
3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 36 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1) وغير ذلك.

وبهذه الأدلَّة وغيرها ومن ألسنة الخاصَّة والعامَّة بعد العلم الثَّابت بكون هذه العموميَّة لكل فعل من أفعال المكلَّفين ضروريَّة دينيَّة ولدى جميع المذاهب المعروفة مع مسلك أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وإن قاس غيرنا من بعض المذاهب للأسف مع الفارق ممَّا يؤدِّي إلى إمكان ادِّعاء أن يكون الدِّين يوماً محتاجاً إلى استخدام العقل ليستقل في أمر التَّشريع الوضعي.

وإلاَّ لصحَّ ادِّعاء أمر النَّقص في هذا الدِّين المتَّفق على كماله وهو ما قد يُسبِّب بل سبَّب جرأة الوضَّاعين والعلمانيِّين قديماً وحديثاً للتَّدخُّل في أمور الأحكام الأخرى.

بل حتَّى ما اتَّفق عليه بين كافَّة المذاهب من الثَّوابت فضلاً عمَّا اختلف فيه بين خطِّ أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وخطِّ المذاهب الأخرى، وهو ما منعناه ونمنعه في كل مراحل الأصول الصِّناعيَّة المتطرِّفة.

وهو ما يدعو كافَّة المدوِّنين المخلصين في الأصول المهمَّة النَّزيهة أن تمتلئ أفكارهم بنواحي الخلل الموجود وما عليه أهل التَّطرُّف من مدوِّني القوانين الوضعيَّة كي يُنقِّحواالأصول من حالات التَّطرُّف ولإزاحة الخلل.

وعلى فرض ادِّعاء سعة بقعة الإمكان العقلي تصوُّراً أو تصوُّراً وتصديقاً لأن يُعطي العقل حق التَّفكير لإيجاد حل يكمل للدِّين من الأحكام المفقودة في واضح نصوصه وغير المستبعد أن تكون موجودة بما يمضيها من الإرشاديَّات.

فهو الَّذي يُبرِّر للأصولي حين وجود انسداد يحوج إلى الاعتماد على الصَّحيح من الإرشاديَّات الصَّحيحة دون التَّوسُّع إلى ما يزيد عن موارد الحاجة أو يزيده بعض الخياليِّين تطرُّفاً من دعاة التَّجديد، بناءاً على الاحتجاج بالعقل في مقابل شرع الله الواسع في مصادره وتنوِّعها مع افتراء المفترين من رواة الباطل وضعاً وتلفيقاً في مصادر

ص: 272


1- أصول الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 13 ح 7.

العامَّة أو روايات التَّقيَّة في غير مواردها وإن روته كتبنا أو ادُّعي توهًّماً أو اجتهد في أمره حليَّة شيء أو حرمته خطأ، بناءاً على القول بالتَّخطئة لا بالتَّصويب ممَّا سوف يأتي بيانه على ما هو الحق ،حذراً من التَّشريع المحرَّم بلا غطاء شرعي من المصادر الإلهيَّة المتنوَّعة.

وعلى فرض عجز الأصوليِّين عن تدبير ما يسد الخلل من الأصول الصِّناعيَّة فلابدَّ من اللُّجوء إلى الأصول الأصيلة الَّتي مورست مع الاجتهادات الفقهيَّة القديمة وغير البعيدة عن تلك الأصول الأصيلة، ولا رأي في الطِّب والحكمة في المقام لتحديد تصرُّفات البشريَّة جميعها أو بعضها إلاَّ بما أضرَّ من الزِّيادة أو النَّقيصة ممَّا أمضاه الشَّرع للطِّب والحكمة من ذلك، لأنَّ الشَّرع سيِّد الموقف في كل العلوم والفنون ومن قرار الإمضاء ونحوه.

ولو قيل بوجود خلل في علم الرِّجال أو الدِّراية والحديث كان سبباً في بعض العراقيل في طريق الفقيه الأصولي من مداركه الصَّحيحة كالانسدادات العلميَّة الزَّائدة عن المعتاد بما قد يلجئ إلى أمر هذا التَّساهل المشار إليه آنفاً.

لقلنا بإمكان الأخذ بالوثوق لا بخصوص الوثاقة ولكون الشُّهرة العمليَّة جابرة لعمل الأصحاب على ما سوف يجيء بيانه في الجزء الثَّاني وما بعده.

وأمَّا ما منيت به الأمَّة في رزية الخميس من عدم فسح المجال للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في أن يدلي بوصيَّته المعلومة سابقاً في أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما تحتاجه الأمَّة منه عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعد وفاته صلی الله علیه و آله و سلم كتابة من المترصِّدين له بالمعاداة له وللزَّهراء سلام الله علیها وأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ بحيث تضر قطعاً في كمال هذا الدِّين وشريعة أحكامه حيث انعزل عن أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِم السَّلاَمُ كثير ممَّن في قلوبهم الأمراض العدائيَّة والنِّفاقيَّة.

وإن حارب أهل السَّقيفة تدوين السنَّة بعد وفاته صلی الله علیه و آله و سلم، حيث قد سبب الأعداء غلق بعض الأبواب العلميَّة فقد فتح الله أبواباً وأبواباً بالأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولو بأشد الظروف وكما

ص: 273

قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (علَّمني ألف باب، وكل باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتَّى علمت ما كان ما يكون إلى يوم القيامة، وعلّمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب)(1)، والشَّهادة له عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنَّه أعلم الصَّحابة ونحو ذلك ما يقرُّ به مرَّات وكرَّات كل عدو وصديق.

بل إنَّ الوقائع الَّتي يجريها عموم النَّاس والمسلمون والمؤمنون إذا لم تتطابق منالبداية مع الحكم الشّرعي كتاباً أو سنَّة أو إجماعاً أو سيرة أو نحو ذلك بالنَّحو الصَّحيح الصَّريح فإنَّه بعد ذلك لابدَّ وأن يعثر على ما يطابقه بعد حين.

وهذا ما قد أثبت وجوده في الموسوعات العلميَّة فقهيَّة وأصوليَّة ممَّا خلَّفه لنا سلفنا الصَّالح، حيث أنَّ المئات تلو المئات من فقهاء الأمَّة وأصوليِّيها ما تركوا شيئاً إلاَّ ووثقوه بالمدرك الاصطلاحي عندهم وإن كان بعض الفروع من ذلك خاضعاً للنِّقاش العلمي الشَّريف للوصول إلى ما هو الأحسن والأمتن جزاهم الله عنَّا وعن أنفسهم خيراً دنياً وآخرة.

هذا كلُّه بما يرتبط بحكم الله الشَّرعي من دون ابتداع وعلى نهج الأحكام الخمسة وما ألحق بها من الأحكام الوضعيَّة الظاهرة في المطابقة والَّتي اكتشفت مطابقتها بعد ذلك حيث علم ذلك ممَّا ذكر وما لم يذكر من توجيه الأدلَّة الشَّرعيَّة على اختلافها من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته الطَّاهر عَلَيْهِم السَّلاَمُ وحواريهم "رضوان الله عليهم" وبمختلف الأساليب الأصوليَّة الممكنة وعن طرق الأسئلة والأجوبة ومن الأثار الشَّريفة ما لا يخفى بعد كتاب الله المعظَّم من مجاميع الرِّوايات الشَّريفة.

وأمَّا لابديَّة كون أفعال المكلِّفين على اختلافها ممَّا بين حالات الإطاعة من المطيعين وحالات عدمها من غيرهم فلابدَّ بعد حتميَّة حصول هذا الأمر ممَّا سبق من الأمَّة وإلى حد الآن بلا ضمان صافٍ من المعاصي والمنكرات كما لا يخفى ومن هذا الآن إلى آخر

ص: 274


1- ينابيع المودة: ص 84.

مستقبل هذا الزَّمان إلى أن يحين حين ظهور مولانا صاحب الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ من وجوب الحرص بالسَّعي الحثيث واستفراغ الوسع فقهاً وأصولاً للوصول إلى ما يحل كل إشكال في أمور المدارك والقواعد الأصوليَّة.

لتوجيه الخطاب بالنَّتيجة إلى خطباء الأمَّة ووعَّاظها لوعظ الأمَّة ولتنسيق أمورها في خصوص الحلال بالحلال والالتزام به والحرام باجتنابه والابتعاد عنه بل وبما هو على نسق الأحكام الخمسة وما ألحق بها.

ولأهميَّة هذا الأمر صرَّحت الأدلَّة بما لا حاجة إلى تفصيله كثيراً، لأنَّ هذا ليس محل تبسيطه لكونه فقهيَّاً محضاً بالاكتفاء بما مرَّ ذكره في مطلع البحث وبختمه بقوله تعالى [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](1).

المبحث السَّادس والعشرون:

الأوضاع اللُّغويَّة المتعارفة واستعمالاتها وما دار فيها من التَّفاوت النَّظري والعملي في الأصول

اشتركت علوم عديدة في أمور الأوضاع اللُّغويَّة المتعارفة من مقدّمات مباحث الألفاظ واستعمالاتها كاللُّغة وما ضمَّته قواميسها الحافظة والمعوَّل عليها بين دفَّاتها منها حتَّى النَّادر والمستعمل منها على ندرته كغريب القرآن والسنَّة وغيرهما من غريب كلام الآدميِّين لو صحَّ استعماله وفهم معناه أدبيَّاً وكعلمي المعاني والبيان والمنطق والأصول في تلك المقدِّمات العربيَّة، لكن لا بنحو الاشتراك الكامل الَّذي قد يُباح منه الاستعمال على أي تعليميَّاً من تلك الأوضاع وبأي نحو من الدِّلالة حتَّى المختلف فيها من دون تركيز

ص: 275


1- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.

على معنى مقبول أو غير ممنوع من حالاتها وبالأخص فيما بين الأصوليِّين من تلك الأمور عربيَّاً.

وإنَّما بعد تقسيم اللَّفظ والمعنى إن اتَّحدا إلى أن يمنع نفس تصوُّر المعنى من وقوع الشِّركة فيه وهو الجزئي مثل (هذا الكتاب) و (هذا القلم) ونحوهما أو لا يمنع وهو الكلِّي مثل مفهوم إنسان وحيوان وعالم وجاهل ونحوها.

ثمَّ الكلِّي وهو (الإنسان) إمَّا أن يساوى معناه في جميع موارده وهو المتواطئ مع مصاديقه مثل (علي) و (حسن) و (حسين) ونحوهم، أو يتفاوت وهو المشكِّك بين التَّواطيء والاشتراك مثل مفهوم البياض والعدد والوجود لتفاوت بياض الثَّلج عن بياض القرطاس وتفاوت عدد الألف عن المائة وأولويَّة وجود الخالق عن وجود مخلوقيه.

وإن تكثَّر اللَّفظ والمعنى كالفرق ما بين الإنسان والفرس المحقِّق لمعنى التَّباين فالألفاظ من هذه الكليَّات تسمَّى بالمتباينة، سواء كانت المعاني متَّصلة كالذَّات والصِّفة كما بين السَّيف والصَّارم أو منفصلة كالضَّدين المراد بهما كمطلق المتخالفين، سواء كانا ضدَّين حقيقيَّين كالسَّواد والبياض أو مشهورين كالحمرة والصُّفرة أو غيرهما من أنواع التَّقابل.وإن تكثَّر اللَّفظ واتَّحد المعنى فهي المترادفة مثل أسد وسبع وهرَّة وقطَّة وإنسان وبشر.

وإن تكثَّرت المعاني واتَّحد اللَّفظ من وضع واحد فهو المشترك ك- (العين) المعروفة بكونها حاملة لسبعين معنى و (الجون) المعروف بكونه يحمل معنيين في آن واحد، وإن اختصَّ الوضع بأحدهما ثمَّ استعمل في الباقي من غير أن يغلب فيه فهو الحقيقة والمجاز كالأسد الَّذي يوصف به الإنسان الشُّجاع.

وإن غلب وكان الاستعمال لمناسبة فهو المنقول اللُّغوي كنقل (الدَّابة) عن معناه الأوَّلي وهو المتحرِّك في الأرض داباً عليها إلى مثل الفرس وغيره مع الغلبة للثَّاني أو

ص: 276

الشَّرعي مثل (الصَّلاة) الموضوعة سابقاً إلى الدُّعاء فغلبت إلى ذات الأركان الخاصَّة أو العرفي كنقل (الأبل السائرة) إلى (السيَّارة الآليَّة اليوم) وإن كان بلا مناسبة فهو المرتجل ك- (جعفر) المراد منه النَّهر في السَّابق ثمَّ ارتجل إلى كونه اسماً لشخص من دون مناسبة من منشأ التَّسمية النَّاقلة معنوياً.

ثمَّ بعد هذا التَّقسيم الَّذي لابدَّ من المرور عليه ولو على إجماله ينبغي التَّعرُّف على المهمَّات المألوفة في ذكرها بين الأصوليِّين بنحو من التَّفصيل أو ما يقرب منه.

كالَّذي دار بينهم في مبحثي الإفراد والتَّركيب، ومبحثي الخبر والإنشاء، ومبحثي الاختصاص والاشتراك، ومبحث الاشتراك المعنوي والتَّرادف، ومبحثي الحقيقة والمجاز، ومبحثي الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرِّعيَّة، ومبحثي النَّص والظاهر والظَّاهر والمضمر، ومبحث الأصول اللَّفظيَّة، ومبحثي الصَّحيح والأعم، ويلحقه الكلام عن أسماء العبادات والكلام عن أسماء المعاملات.

فلنمر على هذه المباحث ولو لبيان المهم منها تباعاً كما بحثه جملة المهمِّين من الأصوليِّين.

الأوَّل: مبحث الإفراد والتَّركيب

قسَّم النُّحاة وغيرهم من علماء الأدب العربي اللَّفظ إلى قسمين (مفرد ومركَّب).

فالأوَّل: هو المفرد وهو الَّذي علامته أن لا يدل جزؤه على جزء معناه ك- (زيد وعلي) ونحوهما من الأعلام وما يطلق عليه بالجواهر، فإنَّ حروف المباني في كل منهما لا يدل أحدها على جزء كل منهما، وهكذا دارس وخاطب لزيد وعلي من مفردات الأعراض، حيث حروف كل منهما وهي كل جزء منها لا يدل على جزء معنى كل منهما فهما مفردان أيضاً، وهكذا حروف المعاني المتألِّفة من حرفين فما زاد ك- (من التَّبعيضيَّة والابتدائيَّة) و (على الاستعلائيَّة) و (إلى الانتهائيَّة)، وكذا حروف المعاني

ص: 277

الموضوعة على حرف واحد حينما تحتاج إلى إظهار معناها بارتباطها بإحدى الكلمات ك- (لام الملك) و (لام الاختصاص) كلفظ (الملك لله) و (الحمد لله) وباء الملابسة في (برؤوسكم) من آية الوضوء.

وهكذا ما يلحق بالحروف من الضمائر كأبوه في (زيد قام أبوه)، حينما يراد إظهار معناه عمليَّاً ، وهكذا حروف مباني (هذا) وأمثاله من أسماء الإشارة، فإنَّ أجزاء تأليفها لو جزئت لا تدل كل منها على جزء المعنى، وهكذا البواقي في ميزانيَّة التَّدليل على المفردات من الأخريَّات.

والثَّاني: وهو المركَّب هو الَّذي ميزانيَّته أن يدل جزؤه على جزء معناه ك- (زيد دارس) و (علي خاطب)، وهكذا أمثلة الحروف وملحقاتها لو انضمَّت إلى الكلمات الأخرى الَّتي تسبِّب بذلك إظهار معانيها، فإنَّها عند التَّجزئة لها يمكن ظهور معناها، سواء في المركَّبات النَّاقصة كمركَّب (كان علي) من دون ذكر (إماماً) أو الكاملة لو أكملناها حتَّى بدون (إماماً) وهي الَّتي معناها (صار علي) وهي المسمَّات بكان التَّامَّة.

وبناءاً على هذه المقدِّمة ينبغي أن نعرف أنَّ الهيئة الموضوعة لمعنى تارة تكون فيالمفردات الجوهريَّة ك- (زيد وعلي) من أسماء الأعلام وغيرها من أسماء المعاني وأسماء الأعراض كهيئات المشتقَّات ك- (قائم وساجد ونائم) وغيرها من المشتقَّات وأخرى في المركَّبات، كالهيئة التَّركيبيَّة بين المبتدأ والخبر لإفادة حمل شيء على شيء، وكهيئة تقديم ما حقُّه التَّأخير لإفادة الاختصاص وهكذا بقيَّة الجمل والقضايا.

وكل من المفردات وما تألَّف متها من المركَّبات موضوعة بوضع مستقل، نظراً إلى أنَّ المركَّب إنَّما يحصل من انضمام مفرَّد إلى مفرد آخر.

فهل إنَّ المركَّبات يمكن افتراض أنَّها موضوعة بوضع مستقل زيادة على وضع المفردات كما قيل على حدِّ ما ذكره الشَّيخ الآخوند في كفايته (السَّادس لا وجه لتوهُّم وضع للمركَّبات غير وضع المفردات)؟

ص: 278

أقول: أي أنَّ وضع المفردات يكفي عن وضع المركَّبات؟

فقد أثير هذا الأمر بينهم فكان بين ناف ومثبت.

ويلحق بالإفراد والتَّركيب

أوَّلاً: انقسام الوضع المستعمل إلى شخصي ونوعي

فقد توهَّم جماعة أنَّ المركَّبات موضوعة بوضع مستقل عن المفردات، إلاَّ إذا أراد قسم منهم المفردات والمركَّبات القرآنيَّة ومثلها نصوص السنَّة الَّتي يجب الاستفادة منها لفهم مضامين تلك المركَّبات المجملة من دون تغيير أو تبديل لحرمة التَّحريف أو النَّقل بالمعنى بعد عدم الإذن من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلاَّ إذا تبدَّل النَّص من عند الله وحده نسخاً وتخصيصاً كما في قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا](1).

وكذا السنَّة المناسبة للتَّبدُّل من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا أحرزت معانيه الصَّحيحة المذكورة في الأصول على ما سوف يجيء بيانه، كما في حالات تبدُّل المقتضي وحصول المانع عن المعنى الأوَّل من مثل موارد التَّقيَّة أو التَّخصيص أو غير ذلك، وأمَّا مع الإذن من أحدهما أو كون المتصرِّف كان من حواري الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ المعتمدين خصوصاً أو المأذون بالإذن العام من أهل العلم في الغيبة الكبرى فلا مانع منه على التَّفصيل الَّذي ليس هذا موضعه الأنسب.

وذهب الآخرون إلى أنَّ وضع المفردات من كلام الآدميِّين يغني عن وضع المركَّبات ومنهم الشَّيخ الآخوند قدس سره مستدلاًّ على ذلك بما وجهه بتعبير منَّا:

ص: 279


1- سورة البقرة / آية 106.

أوَّلاً: أنَّ القصد من الوضع والحكمة الدَّاعية إليه هو التَّفهيم ولا شكَّ أنَّ هذا التَّفهيم يحصل بوضع المفردات فلا حاجة إلى وضع زائد للمركَّبات فيكون الوضع للمركَّبات لغواً ولا داعي له.

وقد أشار الشَّيخ الآخوند قدس سره بقوله بعد عبارته الماضية معلَّلاً له (بداهة أنَّ وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها)(1).

ثانياً إنَّ اللَّفظ نسبته إلى المعنى نسبة الدَّال إلى المدلول، ونكتفي في مقام الدِّلالة بدال واحد فإدِّعاء وضع ثان للمركَّب من نفسه معناه وجود دلالتين للمعنى وهما دلالة المفردات ودلالة المركَّبات وهو باطل بلا كلام، إذ لا معنى للدِّلالة على المعنى مرَّتين وبه عيب تحصيل الحاصل.

وأشار أيضاً إلى هذا المحذور الثَّاني بقوله (مع استلزامه الدِّلالة على المعنى تارة بملاحظة وضع نفسها وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها)(2).أقول: وهذا واضح لا لبس فيه في كلام الآدميِّين كما أسلفنا، لأنَّ مركبَّاتهم متألفة من نفس المفردات الموضوعة السَّابقة، بل حتَّى مركبَّات الوحي ومركبَّات السنَّة لو كانت غامضة، فإنَّها لا تمنع من أن تشرحها مفرداتها على الأسس المأذون بها شرعاً، وكذا التَّأويل المؤدِّي إلى نفس القرض القرآني وغرض السنَّة.

وقد أوَّل القائلون بما مضى قول من يقول بوضع المركَّبات بأنَّ المقصود منها أنَّ الهيئات المتحصِّلة من الصِّيغ والهيئات الإعرابيَّة والخصوصيَّات المتحصِّلة من الجمل التَّركيبيَّة من تقديم أو تأخير أو حصر موضوعة بالوضع النَّوعي زيادة على وضع المواد بالوضع الشَّخصي كما احتمله الشَّيخ الآخوند قدس سره.

أي أنَّ الوضع الشَّخصي عبارة عن وضع المواد ويراد من هذه المواد أنَّها عبارة عن

ص: 280


1- كفاية الأصول تحقيق آل البيت لإحياء التراث ج1 ص 18.
2- المصدر نفسه.

الأمور الَّتي تقوم في ضمن حروف خاصَّة لا تقوم بغيرها فمثل مادَّة (زيد) وهي (الزَّاي والياء والدَّال) ومادَّة (رجل) أيضاً وهي (الرَّاء والجيم والَّلام) موضوعة بالوضع الشَّخصي، بمعنى أنَّ الوضع لمادَّة (زيد) لا يمكن أن يقوم في ضمن شيء آخر، وكذلك مادَّة (رجل) لا يمكن أن تقوم بلحاظ نفسها بمادَّة ثانية.

بل حتَّى ما قد تسمَّى حروفه بالنَّوعيَّة في صلاحيَّتها للتَّآلف بما لا يزيد على المعنى المسمَّى مثل ضاد وراء وباء الصَّالحة لتكوين ضرب وضارب ومضروب في كون كل منها عن شخص واحد وهو زيد مثلاً.

وأمَّا الهيئة الموضوعة للوضع النَّوعي فهي مثل هيئة فاعل الَّتي يمكن أن يتشكَّل على وزنها ألفاظ مصوغة عديدة كضارب ولابس وجالس وراكع وساجد ونحوها، فإنَّ الملحوظ بها إذا كان كل ذات نسب إليها حدث هذا المعنى أيضاً أمكن في أن يقوم في كل ذات ثبت لها الحدث نفسه كما فرضناه في الموزونات الأخرى المشابهة لكن من غير لفظ فاعل، كما كان على وزن مفعول وغيرهما وأريد منها النَّوع.

وهكذا في الجمل التَّركيبيَّة فكون تقديم المسند على المسند إليه يفيد حصول المسند بالمسند إليه وهو أيضاً موضوع بالوضع النَّوعي على خلاف التَّركيب العكسي كقوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ](1) في عبادة الصَّلاة فإنَّه للتَّشخيص.

فإذن تحصل بما مضى أنَّ المواد موضوعة بالوضع الشَّخصي والهيئات موضوعة بالوضع النَّوعي فحملوا قول القائل على أنَّ المركَّبات موضوعة بوضع مستقل عن المفردات على هذا المعنى لا على ظاهره، وهو لا ما نع منه في الجملة إذا لم يسبِّب خللاً في المعنى العميق.

ص: 281


1- سورة الفاتحة / آية 4.

ثانياً: هل الأسبقيَّة للوضع أم للاستعمال

قد اختلفت كلمة الأصحاب إضافة إلى ما سبق ذكره ومن بدايات الكلام عن خصوص الوضع، ومن بعد ذلك أيضاً حينما وصل الكلام إلى أهميَّة الاستعمال من كون الاستعمال أءصل من الإرادة وإن صاحبته أو تلاقحت معه تسلسليَّاً في بعض الأحوال لأكثريَّة مصاديق الاستعمال عليها -

بين قائل بالوضع أو لا؟ ثمَّ بالاستعمال ثانياً، ثمَّ جاءت الدِّلالة مع الإرادة أو عدمها كما مرَّ ذكره.

وبين قائل بالاستعمال ولو على غير هدى ثمَّ جاء التَّركيز على الشَّيء المراد بالوضع استئناساً بالطَّبع أو التَّطبُّع أو التَّطبيع عليه، بعد التَّفطُّن على مورد الاستئناس، أو على هدى الطَّبيعة الَّلاإراديَّة، أو هدى المطاوعة الَّتي لا تبعد عن مصاحبة الاستعمال البشري للوضع الإلهي وحياً أو في المنام أو من وراء حجاب البادي في الأنبياء والرُّسل للبشر، كما في الوضع الإلهي للنَّصوص السَّماويَّة الخاصَّة ونصوص السنَّة الشَّريفة الخاصَّة المنقولة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ الَّتي هي من جواهر وأعراض الوحي الإلهي المعروف في عالم علم الأصول والفقه بنصوص آيات الأحكام ونصوص السنَّة الشَّارحة لمجملاتها.

وهو ما قد بدى في شرع الله الأخير لخاتم النَّبيِّين والمرسلين بأمره إلهيَّاً بذلك الوضع الخاص بواسطة جبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الآية الأولى الَّتي أنزلت عليه قبل آيات الأحكام الخاصَّة من سورة العلق ليلة البعثة النَّبويَّة للرِّسالة وهي قول الله تعالى له يا محمَّد [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ](1) وقد أطاع صلی الله علیه و آله و سلم الأمر بعد أن أخبر الأمين جبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنِّي لست بقارئ وكرَّر الوحي ذلك عليه بالامتثال بادياً بالاستعمال فقرأ وتمَّت وظيفته

ص: 282


1- سورة العلق آية / 1.

الإلهيَّة في الإرسال.

وهذه القضيَّة إن أريد بها تشخيص كلام الآدميِّين في أمر الأصالة أنَّها للوضع أم للاستعمال؟ فهي في وحي الله وما يتَّصل به من جوانب شرعه في الأصول غير الخارجة عن جوهرها من البداية إلى النِّهاية.

فلابدَّ من أن يكون الأءصل هو الاستعمال ولا علاقة للوضع في المقام وكما قال تعالى [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى](1) وقال أيضاً [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ](2) إلخ وغيرهما، وهكذا أحاديث خطورة الإفتاء بغير علم كقوله صلی الله علیه و آله و سلم (من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السَّماوات والأرض)(3).

ولكنَّ صحَّة هذا الأمر الواضحة جملة أو تفصيلاً هو في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة الطَّاهرة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من عدم الحاجة إلى توسُّع علم الأصول كالأزمنة القريبة من عهودهم الَّتيكانت الأصول الأربعمائة ميسورة لدى جميع المهمِّين دون أزمنتنا وأنَّ فهم المعاني الأصيلة كان ميسوراً كذلك حتَّى لمن هم دون مرتبة الاجتهاد من الأفاضل.

أمَّا في أزمنتنا وأزمنة الحاجة إلى توسعة الكلام عن الأصول لملأ فراغ الحاجة إلى جعل القواعد الميسَّرة، لتبيُّن حكم الله في بعض موارد انسداد أبواب العلم كليَّاً أو جزئيَّاً أو الانفتاح غير الكامل وعلى أساس التَّوسّع الأصولي الصِّناعي ممَّا قد يحتاج إلى أن يذكر الوضع الآدمي للألفاظ لموارد التَّفاهم العلمي.

إضافة إلى التَّفاهمات العامَّة الخارجيَّة الَّتي لا بأس بها على القيم جميعها ولو في خصوص الأصول دون أن يكون في مقابل وحي الله في النَّتيجة أو لمعرفة أبعاد كلام

ص: 283


1- سورة والنَّجم آية /3.
2- سورة الحاقَّة آية / 44.
3- البحار 2: 115/ مجموعة ورَّام: 2 / كنز العمَّال 10: 193 ح29018 / عيون أخبار الرِّضا 2: 46.

الآدميِّين الأصوليِّين أو استنتاجاتهم الفقهيَّة إذا لم تخرج عن الصَّدد الأساس من الثَّوابت الفقهيَّة والمسلَّمات الأصوليَّة كموارد عرض المشتبهات من الرِّوايات على المحكمات من كتاب الله ونحو ذلك من العلاجات ومعالجة المشاكل الاستدلاليَّة المخيفة بترك القياسات مع الفوارق واجتناب الاستحسانات العلمانيَّة المعارضة للشَّريعة والالتزام بما صحَّ من النُّصوص حتَّى لو كانت نادرة لو لم تهجر أو كانت ضعيفة لو كانت معضودة بعمل الأصحاب وغير ذلك من الحالات المتوفِّرة في الأصول المثمرة والبعيدة عن الوضع البشري.

الخلاصة

ونتيجة كل ما ذكرناه فيما سبق من ألفاظ اللُّغة ومقاصدها من كلام الآدميِّين العقلاء ومن معهم من أهل التَّديُّن غير الوضَّاعين لكلام الله أن لا قاعدة تامَّة يتَّبعونها إلاَّ ما كان من حالات ما هو الأعم الأغلب وممَّا لا نقاش فيه عن الوضع والاستعمال والإرادة بمثل ما يطمئن لهم عن علامات الحقيقة الثَّابتة كالتَّبادر ما عدا كلام الوحي المبين السَّماوي للغاته وبالأخص العربي منها وهو القرآن الكريم المحفوظ، لتحريف ما سبقه من التَّوراة والإنجيل لأنَّ وضعه وما سبقه تمَّ مخلوقاً لله تعالى وفي جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وكذا بترك الوضع في حالة ما يستأنس منه طبعاً، وكذا ما يرتِّب الأثر على كلام النَّائم أو السَّاهي أو نحوهما من قبل السَّامع فلم يبق إلاَّ الاستعمال والإرادة.

ولا يخفى أمر المقدَّم منهما فيما سبق وتبقى باقي المكوِّنات اللُّغويَّة لأسبابها على ندرتها غير خفيَّة على أهل الاطلاِّع والذَّوق الأدبي.

ص: 284

الثَّاني: مبحث الخبر والإنشاء

لابدَّ أن يتفاوت نظر الباحث المتأمِّل مع حياده العلمي النَّزيه مهما يحاول الإنصاف بين ما دار من الكلام حول المراد من الإخبار والإنشاء بين أهل العلم المتفاوتين في نظراتهم.

فهم في أقوالهم بين من يجعل الفرق كالفرق بين الأسماء والحروف.

وبين من يجعل الفرق بين الإخبار والإنشاء أنَّ الخبر حاك عمَّا في الخارج والإنشاء موجد لمعناه بعد أن لم يكن.

وبين من يجعل الجملة الخبريَّة موضوعة للدِّلالة على قصد الحكاية والجملة الإنشائيَّة موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية.

وبين من يجعل الجملة الخبريَّة موضوعة للنِّسبة بين الموضوع والمحمول والجملة الإنشائيَّة موضوعة للحكاية عن الاعتبار النَّفسي القائم في ذهن المعتبر.

فهذه الأقوال إذا لم نختر التَّوسُّع إلى ما هو الأكثر تكون ثلاثة، ولعلَّ الرَّابع نأت به قولاً مختاراً بصياغته المقبولة:

أوَّلها: ما ذكره الشَّيخ الآخوند قدس سره(1) حيث فرَّق بين الاثنين كتفريق ما بين الاسم والحرف وهو ما يصل مؤدَّاه إلى عدم حصول أي فرق بين الإخبار والإنشاء في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، وإنَّما كان كما أشرنا آنفاً (بين الأسماء والحروف) من قبيل الاختلاف في الدَّاعي للاستعمال فهو في الأخبار خصوصيَّة قصد الحكاية وفي الإنشاء ليستعمل في خصوصية قصد تحقُّقه وثبوته وإن اتَّفقا فيما استعملا فيه، وهو معنى أنَّ الأخبار والإنشاء متِّحدان بالذَّات والحقيقة ومختلفان بلحاظ الدَّاعي.

ومثال هذا الاتِّحاد كلمة (بعت) الَّتي تصلح أن تكون إخباراً وحكاية عمَّا أوقعه

ص: 285


1- كفاية الأصول ج1 ص 27 بتعليقة المشكيني.

سابقاً، وتصلح كذلك لإنشاء وإيجاد البيع لما يقصده حين التَّكلُّم بذلك، وكذلك كلمة (هي طالق) وغيرهما.

ولكن يرد على هذا أوّلاً:

إنَّ هذا وإن كان صحيحاً في الجملة لإظهار معنى الاتِّحاد اللَّفظي، لكن لا يجري مع كل ما يصلح لهذا الباب من الأمثلة في الحالتين ك- (علي إمام) للإخبار و (أقم الصَّلاة) للإنشاء مع مشكلة الاشتراك في كلمة (بعت) و (هي طالق) لفظيَّاً لحاجة أمر التَّشخيص إلى القرينة المعيِّنة المراد لكل من الحالتين، وإن كان الأصل في المقام عند الشَّك هو الرُّجوع إلى الإخبار، لكون الإنشاء في مثل هذه الأمثلة مبني على نحو العناية والمجاز.

ويرد ثانياً: أنَّه لو كان معنى الإخبار والإنشاء واحداً لصحَّ استعمال أحدهما بدل الآخر مطلقاً، سواء المشترك اللَّفظي أو غيره فضلاً عن عدم صحَّة استعمال بعض الجمل الخبريَّة مكان الإنشائيَّة تركيزاً كما في (زيد قائم) وأريد به الإنشاء فإنَّه من أشد الأخطاء بل إنَّما هذا ممَّا يبرهن على معنى المباينة بين الجملة الخبريَّة والإنشائيَّة.ويرد ثالثاً: إنَّ الاختلاف بين الاثنين (الإخبار والإنشاء) على ما أفاده الشَّيخ قدس سره من كلمة (بمجرَّد القصد) أمر مخالف للوجدان لكون الاختلاف جوهري بالأخص في الَّذي يتم ظهوره في أمثلته لا بمجرَّد القصد لما مرَّ ذكره من عدم اكتفاءنا في التَّمثيل ب- (بعت) وأمثاله وإنَّ صحَّ في الجملة لحاجته إلى القرينة دوماً في موضع الاشتراك الَّلفظي لوجود الأمثلة الأوضح في الحالتين.

القول الثَّاني: وهو ما ذكره جماعة ومنهم الشَّيخ العراقي قدس سره وهو أنَّ الفرق بين الإخبار والإنشاء أنَّ الإخبار حاك عمَّا في الخارج والإنشاء موجد لمعناه بعد أن لم يكن(1).

وقد أورد على (الإنشاء موجد) السيِّد الأستاذ قدس سره في غاية المأمول بأنَّه:

ص: 286


1- نهاية الأفكار ج1/56.

(صرف لقلقة لسان، لأنَّ الإيجاد الحقيقي لمعناه غير متحقِّق قطعاً، إذ ليس من الجواهر والأعراض والوجود الاعتباري عند المعتبر قائم بنفسه نطق باللَّفظ أم لا، واللَّفظ مبرز لذلك الاعتبار والوجود الاعتباري عند العقلاء أو عند الله وإن تحقَّق بتلفُّظ المتكلِّم بهذا اللَّفظ لكنَّه إذا كان قاصداً لمعناه والكلام يعد في المعنى الَّذي يقصد، فافهم)(1).

إلاَّ أنَّه يمكن أن يقال بتصحيح معنى الإيجاد بتوجيه بغير ما ذكره السيِّد الأستاذ قدس سره:

وهو أنَّ طرفي النِّسبة الاستفهاميَّة مثلاً - وهي كما لا يخفى من أنواع الطَّلب كما مرَّ ذكره من الأمثلة السَّابقة - كجملة (هل زيد عالم) هي من المفاهيم الثَّانويَّة، إذ فيها مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه لا يكون مدلولاً للفظ بالمطابقة، وعليه فعدم دلالة الكلام على مفهوم الاستفهام بالمطابقة لا يؤدِّي إلى كونه ناقصاً على مستوى مدلوله اللَّفظي، وعلى هذا فلا تكون الجملة ناقصة على مستوى مدلولها اللَّفظي.

والفرق واضح بين نسبة ما بين المستفهم والمستفهم عنه وبين مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه ومفهوم الاستفهام مفهوم اسمي.

ولا تدل الإرادة أو الهيئة على النِّسبة بينه وبين الجملة المدخول عليها الإرادة حتَّى يرد الإشكال:

وهو أنَّ لا يعقل وجود النِّسبة بدون وجود طرفيها(2) وإن كان في الَّلفظ ما مرَّ من الاشتراك.

القول الثَّالث: ما ذكره الأستاذ المحقِّق السيد الخوئي قدس سره في تقريرات بحثه(3) وهو أن تكون الجملة الخبريَّة موضوعة

ص: 287


1- غاية المأمول ج1 ص 137.
2- أورده في (بحوث في علم الأصول) ج1 ص 297.
3- غاية المأمول ج1 ص 138.

للدِّلالة على قصد الحكاية والجملة الإنشائيَّة موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية وعلى أساس ما بني عليه من حالة التَّعهُّد.

ولكنَّ ممَّا يرد عليه أوَّلاً:

إنَّ ما اختاره من التَّعريف للإنشاء يقتضي أن يكون مطلق الإنشاء إخباراً، لأنَّه أيضاً حاكي عمَّا كان في وعاء النَّفس الإنسانيَّة فإن صارت النِّسبة موافقة لما في وعاء النَّفسفتصح أن تصفها بالصِّدق وإلاَّ فتصح أن تصفها بالكذب، ومن الواضح أن الاتِّصاف بهما إنَّما هو من خواص الأخبار.

ثانياً : إن كان يعني من كلمة (بعت) أنَّ البيع هو صرف الاعتبار النَّفساني ولكن الإنشاء يظهره في الواقع الخارجي، فهذا الأمر ليس بصحيح، لعدم صدق عنوان البيع على صرف الاعتبار النَّفساني بشهادة العرف والعقلاء.

وإن كان يعني أنَّ البيع هو مجموع الأمرين على نحو يصير البيع عبارة عن الاعتبار القائم في وعاء النَّفس شريطة أن يكون مقيَّداً بإظهاره في الواقع الخارجي وهو الإنشاء فهو غير صحيح، لاستلزامه أن يكون البيع غير قابل للإنشاء باعتبار أن الإنشاء لا يتعلَّق إلاَّ بالأمور الاعتباريَّة.

ومن البيِّن أن الإنشاء بحد ذاته من الأمور الواقعيَّة الحقيقيَّة يمتنع إنشاؤه، وبما أنَّ الإنشاء قيد للبيع فحينئذ يصير البيع ممَّا يمتنع إنشاؤه أيضاً، وهذا خلاف ما تطابق عليه قول والتزام الكل.

ثالثاً: عن التَّعهُّد الَّذي جعله أساساً في بيان الفرق، فقد أجبنا سلفاً عن رفضه، في باب الأصول وإن كنَّا قد التزمنا به في باب التَّطبيق الفقهي، وقد مرَّت الإشارة إلى سبب المطلبين(1).

وبالنَّتيجة إضافة إلى ما ذكرناه تصحيحاً لمعنى الإيجاد بدل ردِّ السيِّد الأستاذ للمحقِّق العراقي قدس سره أنَّ هناك معنى لا بأس بقبوله عن بعض الأفاضل:

ص: 288


1- ص175.

وهو أنَّ الجملة الخبريَّة موضوعة للنِّسبة بين الموضوع والمحمول والجملة الإنشائيَّة موضوعة للحكاية عن الاعتبار النَّفساني القائم في ذهن المعتبر.

وهذا التَّمييز بين الجملة الخبريَّة والإنشائيَّة هو الأمر الارتكازي الَّذي نفهمه لما يتبادر من معناهما في الذِّهن، وهو خال في ظاهره عن جميع المحاذير الَّتي أوردت على القولين الأوَّلين.

فهو من جهة يحافظ على وجود الفرق بينهما، كما أكَّد عليه أستاذنا السيِّد الخوئي قدس سره، ومن جهة ثانية لا يجعل الفرق بينهما مجرَّد القصد بل الفرق بينهما جوهري.

وهناك بعض أراء في المقام تتَّسم بالرِّضا بما قال أصحابهما فيه كأستاذ الأساتذة الشَّيخ الكمبَّاني الأصفهاني قدس سره قد يأتي تفصيلها في بعض مفصَّلاتنا.

تتمَّة مجملة

عن التحاق الجملة الشَّرطيَّة بالحمليَّة من الخبر والإنشاء

كان كلامنا الماضي عن الجمل الحمليَّة سواء الاسميَّة منها أو الفعليَّة خبريّة أو إنشائيَّة، وقد مضى الاستطراد عن الكامل والنَّاقص من ذلك بلا إسهاب، اكتفاءاً بمورد الحاجة منه وهي الَّتي حدُّها أنَّها المتكوِّنة من الموضوع والمحمول وفي مقابلها الجملة الشَّرطيَّة المتكوِّنة من المقدَّم والتَّالي على أنَّ الحمليَّة والشَّرطيَّة مع تقابلهما مهمَّتان في تلازمهما في الاجتماع والافتراق لم تتركا يوماً في علم المعاني والبيان والمنطق والأصول لمعرفة ما يؤدِّيانه بحثاً واستدلالاً واستنتاجاً من جهة استعمالهما الاصطلاحي الَّذي قد يختلف في كل علم من هذه العلوم وفي المقامات المتعدِّدة أدبيَّاً أو منطقيَّاً أو أصوليَّاً.

لكن بقيت الشَّرطيَّة مختصَّة عن شكل الحمليَّة الدَّاخلي بما يربط فيها مفاد جملة بمفاد جملة أخرى بواسطة أدوات الشَّرط مثل (إن) و (إذا) و (لو) وعلى أساس ما

ص: 289

أشرنا إليه آنفاً، وهو أن لا يخلو مدخولها دوماً من نفس الحمليَّة السَّابقة حتَّى الإنشائيَّة المشتركة بينها وبين الخبريَّة اشتراكها اللَّفظي، إلاَّ أنَّ أدوات الشَّرط إذا دخلت عليها تفرزها عن الإنشائيَّة وتمحِّضها للخبريَّة لتبقى جاهزة للجملة الشَّرطيَّة لا غير.

ولما مرَّ بيانه تتبيَّن مناسبة ذكر هذا الالتحاق لهذه الجملة الشَّرطيَّة بالحمليَّة ولو بهذا النَّحو من الإجمال تمهيداً لما يأتي من التَّفصيل الأنسب لمعرفة الموقف الأصولي تجاه مقاماتها المختلفة أنَّه ما هو عند المشهور وما هو عند الآخرين تجاه ما يؤخذ به من المفاهيم وبالتَّالي ما يلزمنا نحن من العمل به وما لا يؤخذ به عند الجميع كمفهوم المخالفة إذا كان الشَّرط من قبيل السَّالبة بانتفاء الموضوع.

ولمناسبة هذا الذِّكر المجمل من بيان الرَّبط وأهميَّة التَّفصيل الأصولي الآتي تتبيَّن ضرورة ذلك كلِّه، لأنَّ مداليل ألفاظ الشَّرطيَّة وعلى اختلاف مصاديق الحمليَّة منها لم تخل ألفاظ الكتاب والسنَّة منها وبما يخص فقهنا الحنيف، وكذا ألفاظ المتشرِّعين والبحَّاثين من ذوي المناقشات العلميَّة الاجتهاديَّة وغيرهم من أتباع القواعد الأدبيَّة المحقَّقة والمتَّبعة بينأهل الحل والعقد فلابدَّ بعد هذا التَّفصيل الآتي الأنسب أو ما يتيسَّر منه في حينه من بحث المفاهيم الَّتي أوَّلها مفهوم الشَّرط، والله الموفِّق.

الثَّالث: مبحث الاختصاص والاشتراك

لا شكَّ أنَّ الاختصاص في الألفاظ اللُّغويَّة العامَّة ومنها العربيَّة في بدايات وضعها القديم قبل المدنيَّة وبعدها مستمرٌّ في لسان الوحي السَّماوي وآخره القرآني الكريم وفي لسان الآدميِّين الجادِّين العقلاء السَّاعين لجلب منافعهم والبعيدين عن الإغراء بالجهل دفعاً للإضرار بالآخرين والأبرز منه ما في لسان المتشرِّعة من أتباع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ الحافظة للسنَّة النَّبويَّة وهو المألوف والمتعارف وعليه الاعتماد في القواميس اللُّغويَّة والعلوم الأدبيَّة والعلميَّة الَّتي لها علاقتها بمباحث الألفاظ العامَّة والخاصَّة إلاَّ ما شذَّ

ص: 290

لحكمة وغيرها ممَّا زاد عليه من المشتركات.

وقد أشار القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة واللِّسان العلمي الصَّحيح للكتب العلميَّة الَّتي تحوم حول لساني المصدرين الشَّريفين بلا أي ابتعاد عن مضامينهما مهما كانت واسعة واحتيج إلى الاختصار اللَّفظي في بعض الأحوال كالتَّقيَّة أو ما عثر عليها بين الرِّوايات المنقولة إلاَّ مختصرة أو مجملة وعلى الأخص لو اتَّبع تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنَّة عن طريق العترة وغيرها من التَّابعة لها وتفسير السنَّة بالقرآن بحيث لو اتُّبعت هذه الأساليب بالدِّقَّة لم يكن لغير الاختصاص مجال للأخذ به إلاَّ مع القرائن، وما أسهل التَّعامل مع المشتركات مع تلك القرائن المعيِّنة.

وهذه المشتركات وإن كثرت مع القرائن لابدَّ أن تعد نادرة في مقابل المختصَّات من المتعارفة، وأمَّا مع عدم القرائن فلابدَّ من أن تكون من أندر النَّوادر على ما سوف يتَّضح ذكره في باب الإرادة الاستعماليَّة.

ولذلك قال الأصوليُّون عن هذه المشتركات وغيرها من المجملات الأخرى وعن تبعثر الأصول الأربعمائة أو ضياع بعضها مقولتهم بانسداد باب العلم الجزئي أو ببقاء باب الانفتاح له وللعلمي بما يقاربه ممَّا قد يحوج السُّعاة للوصول إلى دقائق الأمور إلى عدم الجمود على هذا الانسداد أو ما يشبهه من الانفتاح، بل إلى بذل الجهد باستفراغ الوسع للخلاص من تبرير العامَّة لأنفسهم العمل بالقياس الممنوع وأمثاله على ما سيتَّضح أكثر.

بل إنَّ توفُّر المألوف من المختَّصات مع ما يأتي من النُّصوص والحقائق غير المجازيَّة والمبيَّنات الَّتي لا إجمال فيها مع تلك الأمور الَّتي تعطينا معلوماتها مع قرائنها هي الَّتي تعطينا المطمئنات الكافية من القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة والسِّيرة الِّلسانيَّة المعتدلة المستمرَّة حتَّى الآن في مسايرتها لمضامينها الشَّريفة.

على أن الاختصاص وأشباهه هي المرادة من قوله تعالى [وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ

ص: 291

هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا](1) وقوله [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ](2) وقوله [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ](3) وقوله [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](4) وقوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ](5) وقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ](6) ولو بنحو ما قد يحتاج ذلك أو بعضه إلى شيء من التَّوجيه ممَّا ليس هذا المقام بمحل تفصيله.

ومن ذلك كل آية تدل على قبح العقاب بلا بيان، لكونه من المستحيل على الله لقولهتعالى [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً](7)، وقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ](8) وقوله تعالى [رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا](9) إضافة إلى آية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](10) النَّازلة في حقِّ بيعة الغدير الَّتي لا تعطي أي مجال للمناقشة فيما مرَّ ذكره، لأنَّ صاحبها أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو الخليفة الأوَّل بحق وهو الأعلم لبيان

ص: 292


1- سورة الكهف / آية 49.
2- سورة الإسراء / آية 82.
3- سورة الأنفال / آية 42.
4- سورة النحل / آية 89.
5- سورة النحل / آية 44.
6- سورة آل عمران / آية 138.
7- سورة الإسراء / آية 15.
8- سورة الأنفال / آية 33.
9- سورة النساء / آية 165.
10- سورة المائدة / آية 3.

كلِّ غامض في الآيات وكذا الأحاديث الشَّريفة كما في أحاديث النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم فيه وفي البضعة الطَّاهرة وبقيَّة أبناءه الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وكما اعترف الثَّلاثة الَّذين أخذوا الخلافة منه بالتَّواطئ تحت السَّقيفة حينما وقعوا في المضايق المحرجة لهم بين النَّاس من الأباعد والأجانب وأهل المدينة إلاَّ أن تكون مشاكلهم الدِّينيَّة العامَّة والخاصَّة غير منحلَّة إلاَّ من لسان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقول كلٍّ منهم (لولا علي لهلك فلان) ولمرَّات وكرَّات كثيرة من لسان ثانيهم.

وأمَّا قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس إنكم لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(1) فهو من الواضح في مراده دون أن يراد طبيعيَّاً شيء من غير تلك المختصَّات ومعها النُّصوص والحقائق والمبيَّنات ومن بعدها الظَّواهر المقبولة إلاَّ بشيء من العناية والتَّكلُّف في المشتركات على ما سيتَّضح قريباً.

وأمَّا الاشتراك اللَّفظي بخصوصه فكما قلنا عنه أنَّه لم يتحمَّل إلاَّ بالعناية والتَّكلُّف حتَّى لو كان مع بعض القرائن المعيِّنة المقاميَّة، فضلاً عن الخالي منها كما في حالات التَّقيَّة الَّتي لا مبرِّر لهافي حال الاختيار ولو استغني عنها، لكون الرُّشد في خلاف أهل الخلاف عند الاستغناء عنها، أو لاختيار الاختصار لحكمة عرفت بعد حين كما في الفرق بين السُّور القصار المكيَّة والطوال المدنيَّة.

وهذا على أساس ما مرَّ التَّنويه عليه عند الكلام عن ضدِّه وهو الاختصاص وأشباهه.

وأمَّا في غير ذلك ومن حيث المبدأ فقد انتهت الأقوال فيه إلى ثلاثة أو تزيد:

ص: 293


1- ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى.

القول الأوَّل: استحالة الاشتراك(1)، ويريد بالاستحالة هي الاستحالة العاديَّة لا الاستحالة العقليَّة، لكون الإمكان العقلي حاوٍ لهذا الاشتراك حتَّى على القول بالاستحالة المذكورة على ما سيتَّضح، وإن لم نقل بالوقوع محتجَّاً بأنَّ الغرض من وضع الواضع للألفاظ لمعانيها هو التَّفهيم.

ونظراً إلى أنَّ المشترك اللَّفظي في تعدُّد معانيه بلا امتياز معنى على معنى منها يُعدمجمل الدِّلالة، وهو يعني أنَّ المعنى المقصود للمتكلِّم بحسب الظاهر غير معيَّن، وهذا الإجمال يناقض الحكمة الدَّاعية إلى الوضع بين العقلاء، فهو مستحيل لهذا الاعتبار، ومن أسباب منعه هو التَّعمية للإغراء بالجهل.

وإن قال قائل بأنَّه يعتمد في التَّفهيم على القرائن المعيِّنة للمراد فهذا اعتماد على التَّطويل بلا طائل في كثير أو أكثر الحالات إن لم نقل كلِّها، إذ المفروض الاعتيادي في المشترك اللَّفظي هو تجرُّده من هذه القرائن إلاَّ بعد حين فينظر إلى ذلك الحين وهو معنى التَّطويل وعند حصول القرينة عند التَّكلُّم فوراً ينتفي محذور الاشتراك اللَّفظي والمفروض أنَّه بدون هذه القرينة الفوريَّة في سيرة العقلاء فيبقى المنع على حاله.

فقد رُدَّ هذا الاستدلال بمنع صحَّة دعوى أنَّ الإجمال مناف للحكمة لكثرة اقتضائها بينهم للاختصار أو الاختيار أو للأحاجي أو للإيهام في باب التَّقيَّة كما مرَّ.

القول الثَّاني: جواز وقوع الاشتراك دون وجوبه وهو ما فيه مضمون الرَّد للقول السَّابق حيث رُدَّ ذلك السَّابق برد استدلاله بمنع صحَّة دعوى أنَّ الإجمال مناف للحكمة، إذ كيف يكون منافياً لها مع أنَّ الإجمال كثيراً ما يكون متعلِّقاً لأغراض العقلاء.

ومن هنا يظهر الرَّد على من يقول من الآخرين بأنَّ المشترك اللَّفظي لم يقع في كلام الله تعالى لما فيه هنا من الإجمال المذكور غير اللائق بكلامه تعالى.

ص: 294


1- ومن القائلين بهذه المقولة السيد الخوئي قدس سره بناءاً على مسلكه في الوضع أنه التَّعهد.

وشبهة من يمنع ذلك وإن أمكن تعقُّلها من حيث عدم معقوليَّة إفناء اللَّفظ الواحد في معنيين، لكون صحَّة المعقوليَّة كامنة بإفناء اللَّفظ في معنى واحد لا أكثر كما في كلام الشَّيخ الآخوند قدس سره، وعلى فرض إمكان الاستدلال لما قاله قدس سره بمثل قوله تعالى [مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ](1) إلاَّ أنَّ كلام العقلاء من الآدميِّين لا يتفاوت عن كلام الله حينما كان نازلاً على نهج كلامهم وإنَّ مستوى حمل اللَّفظ في الوضع لأكثر من معنى ليس هو نفس مستوى الاستعمال الإرادي للأكثر من معنى على ما سيتَّضح عند الكلام عن الاستعمال الإرادي قريباً وهو ما يبعد كون القلبين في جوف الرَّجل عن الأبعد من مستوى الاستعمال الإرادي وإن كان هنا بعض ما يساعد على قبول حتَّى الاستعمال الإرادي في بعض الأحوال الَّتي لها مبرِّراتها مضافاً إلى أنَّ بعض من يدَّعي عدم الوقوع في كلام الله يقول بوقوع المتشابه فيه لعدم إمكان نكرانه في قوله تعالى [هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ](2).

أقول: والمتشابهات هي من حالات ما يتردَّد فيه المتتبِّع لألفاظها وضعاً بين أكثر من معنى، ولا أقل من احتمال هذا الأمر فيها.

أقول أيضاً: وهو لا بأس به إن كان بمعنى مجرَّد الحمل لتكشف أسرارها من قبل غيرها من الآيات أو من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو من العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولو لأهميَّة الرَّبط التَّأكيدي بين الكتاب والعترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ وتبقى الإرادة الاستعماليَّة فهي موكولة إلى ما سيأتي قريباً.

وعلى فرض ادِّعاء عدم صحَّة استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى استناداً إلى ما عنكتاب التَّهذيب عن ابن عيسى عن موسى ابن القاسم وأبي قتادة عن علي ابن جعفر عن أخيه عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سألته عن صلاة الجنائز إذا احمرَّت الشَّمس أيصلح أو لا؟

قال (لا صلاة في وقت الصَّلاة وقال إذا وجيت الشَّمس فصلِّ المغرب ثمَّ صلِّ على

ص: 295


1- سورة الأحزاب / آية 4.
2- سورة آل عمران / آية 7.

الجنائز(1).

فإنَّه يجاب أوَّلاً:

بأنَّ سؤال السَّائل لا يتطابق مع جواب الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

ثانياً: إنَّ وجوب الشَّمس الَّذي بمعنى مجرَّد غيابها كما هو الظَّاهر لا يعنيه أنَّ كان معه غياب الحمرة وهو ما يصل إلى معنى وجود معنى التَّقيَّة في الرِّواية.

إضافة إلى ما يؤكِّده من معنى سؤال السَّائل فالرِّواية مرفوضة في مورد الاختيار.

ثالثاً: إنَّ جواب الإمام كان في مجال التَّزاحم الخارجي بين الصَّلاتين وهو غير معنى الحمل في الاشتراك اللَّفظي.

كما وقد قال الكثير من علماء الأصول قديماً وحديثاً إضافة إلى إمكان ذلك بالوقوع ومنهم صاحب المعالم قدس سره حيث قال (أصل الحق أن الاشتراك واقع في لغة العرب)(2)، وهو يعًد من أهم أدباء عصره.

وقد أيَّد ذلك من أصحاب القواميس جماعة كما في صحاح الجوهري عن لفظ (العين) ذات المصاديق المختلفة العديدة المحصاة إلى سبعين معنى كالباصرة والذَّهب والفضَّة وعين الماء وربية القوم ونحو ذلك، والفيروز آبادي صاحب القاموس عن لفظ (الأرض) وأساس البلاغة للزَّمخشري عن لفظة (رؤبة) وفي الأخبار للهروي البغدادي عن لفظ (صدى) وفي مفردات الرَّاغب الأصفهاني عن لفظ (الهلال) وغير ذلك، بل ما وقع في القرآن المجيد كلفظ (القرء) المراد منه حمله لمعنى (الطُّهر والحيض).

ومن ذلك ما في كتاب الأصول الأصيلة من الاستدلال على ذلك بقول الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا

ص: 296


1- التهذيب 3: 320/994، وفي سائل الشيعة "كتاب الطهارة باب جواز صلاة الجنازة في وقت الفريضة ح 3192.
2- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص38.

تَسْلِيمًا](1).

أقول: مع العلم بالفرق بين معنى صلاة الله وصلاة الملائكة وصلاة المؤمنين كما هو مفسَّر بقول الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعدما (سئل عن هذه الآية فقال: الصَّلاة من الله عزَّ وجل رحمة ومن الملائكة تزكية ومن النَّاس دعاء)(2).

والاستدلال عليه أيضاً بقوله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ](3).

أقول: مع العلم بتفاوت معنى السُّجود لكلِّ من ذكر في الآية لله تعالى.وهكذا أورد عن الكافي ما عن أبي علي الأشعري عن محمَّد ابن عبد الجبَّار عن صفوان ابن يحي عن ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قول الله عزَّ وجل [فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا](4)، قال (علمتم لهم مالاً وديناً)(5)، ورواه الشَّيخ بإسناده عن الحسين ابن سعيد عن صفوان مثله.

وهكذا فيه عن من لا يحضره الفقيه عن العلاء عن محمَّد ابن مسلم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قول الله تعالى [فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا]، قال (الخير أن يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة)(6).

ص: 297


1- سورة الأحزاب / آية 56.
2- بحار الأنوار ج 91 ص 55.
3- سورة الحج / آية 18.
4- سورة النور / آية 33.
5- وسائل الشِّيعة ج23 ص 135، التهذيب 8: 270/984، الكافي 6: 186 ح7 و 187 ح10، والمقنع: 159.
6- وسائل الشِّيعة ج23 ص 135، الفقيه 3: 78/ 278.

القول الثَّالث: وهو ما مفاده وجوب وقوع الاشتراك وبما يزيد على مجرَّد حمل اللَّفظ.

مستدلاًّ على ذلك بأنَّ المعاني بما أنَّها صور ذهنيَّة غير متناهية، والألفاظ بما أنَّها حروف وأصوات فهي متناهية، فالألفاظ المفروض تناهيها لا يمكن أن تقطع وتؤدِّي إلى تفهيم المعاني غير المتناهية، فإذا جعلنا الألفاظ المتناهية في قبال المعاني غير المتناهية بقي عندنا من المعاني ما لا يمكن تفهيمه بالألفاظ فوجب أن يقع عندنا الاشتراك في الألفاظ، لأنَّه حينئذ قد يكون عندنا لفظ واحد يؤدِّي إلى معاني متعدِّدة فمن هنا يظهر وجوب القول بالاشتراك، لاحتواء أكبر كمٍّ من تلك المعاني، إضافة إلى الحاجة إلى الاختصار أو للتَّقيَّة في مواقعها اللازمة.

وقد استغلَّ بعض العامَّة هذا القول باستدلالهم على حجيَّة القياس في الأحكام الشَّرعيَّة وبنظير هذا البرهان، وهو أنَّ الفروع غير متناهية والكتاب والسنَّة متناهيان وغير وافيِّين بالفروع فلابدَّ أن يكون القياس في نظرهم حجَّة لوفائه بالفروع.

ولكن في هذا اللُّزوم واستغلال العامَّة مجال للإيراد الثَّابت على ذلك.

أوَّلاً: بمنع عدم تناهي المعاني، لأنَّها في كلِّ من جواهرها وأعراضها لابدَّ أن تكون متناهية ولو بما يتناسب مع الألفاظ القرآنيَّة المحفوظة مع لسان ومعاني العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ إلى يوم الورود على الحوض كما مرَّ من الآيات وغيرها، لأنَّ المراد بالمعاني هي الطَّبائع الكليَّة دون مصاديقها وجزئيَّاتها ولا داعي للشَّك في تناهي الكليَّات من المعاني.

ثانياً: بعد تسليم عدم تناهي المعاني في الغرض الجدلي أنَّ المعاني المحتاج إليها لنظم المعاش والمعاد متناهية في الحالة المتعارفة اعتياديَّاً بين النَّاس والغرض الدَّاعي إلى الوضع وهو التَّفهيم والتَّفهُّم مختص بتلك المعاني المبتلى بها لفقدان ذلك الغرض في غير المعاني المحتاج إليها.

ثالثاً: إنَّ وفاء ما في الكتاب والسنَّة من المعاني وجميع متصوَّراتها التَّصديقيَّة

ص: 298

المرجِّحة للأخذ بحالة الاختصاص أو بما لا يزيد على القول بخصوص جواز الاشتراك من القول الثَّاني بما يتناسب معه لا وجوبه ولزومه ممَّا مرَّ ذكره من شواهد ما يُغني عن الالتزام بالقياسالممنوع وهو القياس مع الفارق حتَّى على ما بنينا عليه من الانسداد الإجمالي علماً وعلميَّاً، بل حتَّى مع عدم الفارق إلاَّ بما حُدِّد أصوليَّاً فقهيَّاً في باب الأصول العمليَّة المرتبطة بالمستقلاَّت العقليَّة والتَّابعة للأدلَّة الإرشاديَّة.

إضافة إلى التَّصريحات الشَّريفة المانعة من عموم العمل بالقياس كقول الإمام السجَّاد عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أنَّ دين الله لا يصاب بالعقول)(1) وقول الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (السنَّة إذا قيست محق الدِّين)(2) وقوله أيضاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إياك والقياس، فإنّ أبي حدّثني عن آبائه أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: مَن قاس شيئاً من الدِّين برأيه، قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس في النَّار، فإنَّه أوَّل من قاس حيث قال [خلقتني من نار وخلقته من طين]، فدعوا الرَّأي والقياس فإنّ دين الله لم يوضع على القياس)(3)، وسوف يتَّضح هذا الأمر أكثر في باب الحديث عن القياس إن شاء الله تعالى.

رابعاً: في حال الإصرار على عدم تناهي المعاني ولو بالإكبار التَّام لكلام الله وسنَّة نبيِّه صلی الله علیه و آله و سلم في معانيهما لقوله تعالى [وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً](4) وهو معنى أن كلامه تعالى وتتبعه السنَّة المؤكَّدة لم يدركه بكل معانيهما إلاَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

ولو قيل: بمحدوديَّة الحروف الثَّمانية والعشرين حرفاً فلم تتناسب مع تلك المعاني الواسعة فلابدَّ من أن تضيق تلك الحروف إلاَّ بالاشتراك؟

لأمكن القول بأنَّ التَّوسع الحرفي للحروف ممكن مع تلك المعاني بل واقع في

ص: 299


1- بحار الأنوار للمجلسي: 2/ 303، لحديث 41.
2- الكافي (ج1 ص 58) وسائل الشيعة: 29/ 352.
3- ) الاحتجاج ص 286.
4- سورة الإسراء / آية 85.

التَّصريفات الصَّرفيَّة والتَّكيُّفات النَّحويَّة إعراباً وبناءاً وفي الحركات الجامدة والمتنوِّعة بحسب العوامل، وكذا البيانيَّة المتنوِّعة لصالح المعاني في علم المعاني والبيان مهما اتَّسعت بما تفي له تلك الحروف حتَّى على ما حُدِّدت أساسيَّاتها الهجائيَّة بتلك التَّصرُّفات، بل وصلت إلى ما لا يحصى، ولذا وصلت جميع الرِّسالات السَّماويَّة وبما لا داعي إلى هذه المبالغة من الاشتراك إلاَّ بما مرَّ ذكره أو خضوع الاشتراك إلى حلِّ مشكلها بالقرائن المعيِّنة.

والحاصل أنَّ المعاني المحتاج إليها لمَّا كانت متناهية أو كانت سعتها البالغة مقدوراً عليها ولو على تقدير ضياع كثير منها بالكوارث الطَّبيعيَّة والعدائيَّة بمثل استفراغ الوسع فلا حاجة إلى وجوب الالتزام دوماً بالاشتراك، وإن قلنا بجوازه في القول الثَّاني بمعانيه.

ويلحق بالاختصاص والاشتراك

القول باستعمال اللَّفظ في أكثر من معنى

بعد أن مرَّ الكلام في إمكان حمل اللَّفظ وجوازه لأكثر من معنى في مقابل القول بمنعه أووجوبه ولزومه في الاشتراك اللَّفظي.

حلَّ دور الكلام عن القول باستعمال هذا اللَّفظ في أحد معانيه وفي أكثر من معنى في صحَّته أو عدم صحَّته مجرَّداً عن القرينة بنحو الحقيقة أو غيرها أو مع القرينة بلفظ المفرد أو التَّثنية أو الجمع ونحو ذلك.

فلا شكَّ في البداية في جواز استعمال لفظ المشترك، كما أمكن وجاز حمله كما مرَّ ذكره من الآيات وغيرها، لكن في أحد معانيه ومع القرينة المعيِّنة للمراد، وعلى تقدير عدم الحاجة إلى القرينة يكون اللَّفظ مجملاً لا قابليَّة له مع اشتراكه لتشخيص أحد معانيه دون غيرها في الدِّلالة، كما لا شبهة مع إجماله المذكور في جواز استعماله في مجموع

ص: 300

معانيه بما هو مجموع المعاني.

غاية الأمر يكون هذا الاستعمال استعمالاً في غير ما وضع له اللَّفظ في أساس كل معنى من معانيه حينما وضع للتَّشخيص له، وهو ما يصل إلى معنى المجازيَّة عند وصوله إلى حد الاشتراك اللَّفظي في احتياجه، لاتِّضاح أمره إلى القرينة الصَّارفة للمعنى الحقيقي عن هذا المجازي.

وهذا واضح في قوانين أرباب الأدب العربي في باب المعاني والبيان ومباحث ألفاظ علم المنطق، وعند ذلك تمَّ إيراده في مقدِّمات مباحث الأصول هذه لمعرفة مدى ما يصل الأمر إليه فيها ممَّا أشرنا إليه سابقاً من أمثلة الإجمال للحكمة في الكتاب والسنَّة والتَّعمية للتَّقيَّة وكذلك التَّورية بها للخلاص من الكذب للمعاني الأخر غير التَّقيَّة وكذا للاختبار أو للأحجيَّات في مصدري الكتاب والسنَّة وغيرهما.

ولكن الموجب للكلام بما يزيد على هذا المستوى هو ما وقع الخلاف فيه وهو جواز إرادة أكثر من معنى واحد من المشترك في استعمال واحد، على أن يكون كل من المعاني مراداً من اللَّفظ على حِدة وكان اللَّفظ قد جعل للدِّلالة عليه وحده.

ففصَّل العلماء في هذا الأمر تفصيلات عديدة بين مجوِّز مطلقاً ونافٍ مطلقاً ومفصِّلٍ مع ذكر قيد التَّفصيل للجواز أو عدمه، لكون الحالات عديدة، كما أسهب فيها صاحب المعالم قدس سره.

لكن أجدها بأجمعها لو ذكرت تكون مشوَّشة للذِّهن، وقد تخلو كثير منها عن الثَّمرة العمليَّة.

فلابدَّ من الاقتصار على ما سُلِّم به عربيَّاً في القواعد الأدبيَّة مع وجود ما نصَّ عليه في مجال ما ينفعنا في المجال الأصولي الآتي كذلك.

أمَّا استعمال اللَّفظ المشترك وهو مفرد لأكثر من معنى فقد أجازه صاحب المعالم قدس سره مطلقاً، لكنَّه في المفرد مجاز وفي غيره حقيقة، ومنعه نوع المتأخِّرين مع بعض من

ص: 301

عاصره.

وقد استدلَّ في المعالم على تجويزه بما مضمونه بانتفاء المانع من استعمال المشترك في أكثر من معنى وهو ما يأتي الآن من بطلان ما يتمسَّك به المانعون من الاستعمال.

حيث احتجَّ المانعون مطلقاً: بأنَّه لو جاز استعماله فيهما ك- (الجون) و (القرء) معاً لكان ذلك بطريق الحقيقة، إذ المفروض أنَّه موضوع لكلِّ واحد من المعنيين وأنَّ الاستعمال في كل واحد منهما وإذا كان بطريق الحقيقة يلزم كونه مريداً لأحدهما خاصَّة غير مريد له خاصَّة وهو محال في إرادتهما معاً للزوم اجتماع النَّقيضين كما لا يخفى.

وأجابهم بما مضمونه أيضاً: بأنَّ هذا من المانعين مطلقاً مناقشة لفظيَّة، لكون المجوِّزين لا ينكرون ما ذكره المانعون من امتناع استعماله في مفهوميه حقيقة، لكون المراد نفس المدلولين معاً لا بقاؤه لكل واحد منفرداً فيصح قولنا (القرء) بكلا معنييه وهما الطُّهر والحيض من صفات النِّساء و (الجون) بكلا معنييه وهما الأبيض والأسود من صفات الجسم، وبهذا يكون المحصَّل أنَّ ببطلان دليل المانعين مطلقاً يثبت الجواز بلا إشكال.

لكن يمكن أن يورد على المعالم حيث أطلق في جوازه لوجود حالة منع في بعض الألفاظ المشتركة كالأمر المشترك وهو أفعل بين الوجوب والتَّهديد، إذ أنَّهما لم يجتمعا إلاَّ مع أفرادأحدهما عن الآخر فلا اطلاق كما يقول قدس سره، بل مع التَّقييد بإمكان الجمع، وهنا لا إمكان بل إنَّ الاجتماع ممنوع.

وبهذا يكون من حق المانعين أن يجروا منعهم فيما لا يمكن الجمع فيه إلاَّ فيما ذكرناه سابقاً من حالات الاختبار والتَّعمية والإبهام أو إمكان الجمع بين الوجوب والتَّهديد في صيغة افعل لإشعار الابن مثلاً بوجوب الصَّلاة وتهديده في آن واحد قرب انتهاء الوقت إن اقتضى الأمر لهذا الجمع فهو ثابت وإن ندر.

وقد استدلَّ على المنع من المتأخِّرين المحقِّق الأصبهاني قدس سره بما نصُّه:

(أنَّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللَّفظ حيث أنَّ وجود اللَّفظ في

ص: 302

الخارج وجود لطبيعي اللَّفظ بالذَّات ووجود لطبيعي المعنى بالجعل والمواضعة والتَّنزيل لا بالذَّات، إذ لا يعقل أن يكون وجود واحد هو وجود الماهيَّتين بالذَّات، وحيث أنَّ الموجود الخارجي بالذَّات واحد فلا مجال بأن يقال وجود اللَّفظ وجود لهذا المعنى خارجاً ووجود آخر لمعنى آخر كي ينسب إلى الآخر بالتَّنزيل ...إلخ)(1).

وقال ناقل قوله قدس سره أنَّ ما ذكره يرجع إلى أمور:

الأوَّل: أنَّ الوجود الحقيقي واحد وهو وجود لطبيعي اللَّفظ بالذَّات ولا يمكن أن يكون ذلك الوجود الواحد وجود الماهيَّتين متباينتين بالذَّات.

الثَّاني: أنَّ الوجود الواحد لا يمكن أن يكون وجوداً تنزيليَّاً لهذا المعنى ووجوداً تنزيليَّاً لمعنى آخر.

الثَّالث: أن الاستعمال عين إيجاد المعنى بالوجود اللَّفظي مستقلاًّ، والاستغلال في الإيجاد التَّنزيلي يقتضي الاستغلال في الوجود التَّنزيلي، لأنَّ الإيجاد عين الوجود.

وأورد على هذه الأمور أحد الأعلام المعاصرين(2) ما حاصله:

أمَّا الأمر الأوَّل فهو واضح بداهة أنَّ الوجود الواحد لا يمكن أن يكون وجوداً بالذَّات لاثنين.

وأمَّا الثَّاني: فيرد عليه أنَّ تعدُّد الوجود التَّنزيلي للفظ لا يستلزم تعدُّد وجوده الحقيقي، لأنَّ الوجود التَّنزيلي وجود اعتباري فيكون موطنه الذِّهن، وأمَّا الوجود الحقيقي فهو وجود واقعي فيكون موطنه عالم العين والخارج.

وعلى هذا الأساس أنَّه لا مانع من وجودات اعتباريَّة تنزيليَّة متعدِّدة لوجود واحد لفظي حقيقي، ولا يلزم من تعدُّد الوجود الاعتباري تعدُّد الوجود الحقيقي، فما ذكره من أنَّ الوجود التَّنزيلي عين الوجود الحقيقي وتعدده يستلزم تعدُّده لا يرجع إلى معنى

ص: 303


1- نهاية الدراية:1/64.
2- المباحث الأصوليَّة ج1 ص 314 - 315.

محصَّل.

وأمَّا الأمر الثَّالث فيرد عليه أنَّه إن أريد بكون حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى باللَّفظ جعل وجود اللَّفظ وجوداً تنزيليَّاً للمعنى فقد تقدَّم أنَّ لا مانع من جعل وجود اللَّفظ وجوداً تنزيليَّاً لأكثر من معنى واحد.

وإن أريد بذلك كون اللَّفظ مرآة للمعنى وأداة لإحضاره فقد تقدَّم أن لحاظ اللَّفظ آليَّاًومرآتيَّاً ليس من مقوِّمات الاستعمال.

وإن أريد بذلك فناء وجود اللَّفظ في وجود المعنى فقد تقدَّم أنَّه لا يرجع إلى معنى محصَّل.

فالنَّتيجة أنَّ ما أفاده المحقِّق الأصفهاني قدس سره في وجه استحالة استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى واحد غير تام.

أقول: وهذا ممَّا يزيد في الطمئنة أكثر بما ذكرناه في الجواز، ولكن مع قيد الإمكان بما ذكرناه في اللَّفظ المفرد، ليكون التَّصحيح لما ذكره الأصفهاني قدس سره من الاستحالة مقبولاً في الجملة لا كالإطلاق الَّذي ذكره صاحب المعالم قدس سره أيضاً.

ولعلَّ بعض المانعين الآخرين من المتأخِّرين يمكن علاج أمرهم بما ذكرنا كما أشرنا سابقاً.

وأمَّا ذلك في التَّثنية والجمع، فدليل جوازه في المعالم فيهما كونه حقيقة فيهما، لأنَّهما في قوَّة تكرير المفرد بالعطف، فإنَّ قول القائل (جاءني الرَّجلان) في قوَّة (جاءني رجل ورجل) وهكذا فيما نحن فيه كقولك (رأيت عينين أو أعيناً) أي (رأيت عيناً وعيناً وعيناً).

أقول: والظاهر عنده اعتبار الاتِّفاق عنده في اللَّفظ دون المعنى في المفردات، أي بلا تواطٍ مسبق وهو صحَّة أن تكون التَّثنية والجمع في مثل العينين أو الأعين حتَّى لو اختلفت عين عن عين في المصداق لا خصوص العينين أو العيون الباصرة مثلاً للجميع

ص: 304

وهو ما قد نستفيده أيضاً من إطلاقه في الجواز وإن ناقشناه فيه.

ولو احتجَّ بدليل المنع المطلق ليشمل التَّثنية والجمع كذلك فقد بيَّنا جواب صاحب المعالم قدس سره بالمناقشة اللَّفظيَّة الَّتي لا تنفيهما كذلك وإن حدَّدنا نحن مجال الجواز في خصوص ما يمكن وأعطينا الحق للقائل بالمنع في جملة ما لا يمكن.

الرَّابع: مبحث المشترك المعنوي أو ما يسمَّى بالمتَّرادف

اعلم أنَّ أهل العلم قسَّموا المشترك إلى قسمين إلى المشترك اللَّفظي، وقد أنهينا ما يلزم ذكره عنه.

وجاء دور الحديث عن الثَّاني وهو المشترك المعنوي.

وهو أن يكون اللَّفظ موضوعاً لمعنى وحداني، وهو الكلِّي الَّذي تندرج تحته أفراد ومصاديق وذلك كما في لفظ الإنسان مثلاً، فإنَّه موضوع للمعنى الكلِّي العام وهو كلِّي الحيوان النَّاطق الَّذي له أفراد متعدِّدة ومصاديق متكثِّرة.

ومن ذلك يمكن أن يترادف الإنسان أيضاً مع البشر تحت كلِّي الحيوان النَّاطق، كما ينضوي تحت كلِّي الإنسان بتساوي مثل (محمَّد وعلي وحسن وحسين) وهكذا.

وهذا القسم لم يكن مثل القسم الأوَّل الَّذي اختلفت فيه الأقوال، إذ لا خلاف في إمكانه ووقوعه حتَّى قال المدقِّقون أنَّه لا يصغي إلى مقالة من أنكره وبالخصوص في اللُّغة العربيَّة.

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يوضع له ما ذكرناه من اسم النَّوع وهو الإنسان المنضويَّة تحته المصاديق المتعدِّدة أو الجنس والفصل المذكورين في مثال الحيوان النَّاطق المنضوي تحتهما كل من الإنسان والبشر ما دامت المصاديق مرتبطة بالقرينة المفهمة لا المعيِّنة للمراد.

نعم قد يشترك القسمان في حالة ما حقَّقناه في القسم الأوَّل من كون المشترك اللَّفظي

ص: 305

ممكن وواقع وبنحو الجواز لا الوجوب واللُّزوم وحالة ما اشتهر أمره بين العلماء في هذا الثَّاني أيضاً بلا معارض، فيكون في النَّتيجة كالأوَّل في أهميَّتهما في العلوم الأدبيَّة وفي اللَّغة العربيَّة وفي ذكرهما في مقدِّمات مباحث الألفاظ لعلم الأصول ووجودهما في نصوص المصدرين الشَّريفين وإن كان المجاز مقدَّماً على الاشتراك على ما سوف يتَّضح في الكلام عن الحقيقة والمجاز وبلا فرق في جوازه بين أن يكون الواضع حين الكلام عن نشأتهما واحداً بأن يضع شخص واحد لفظين لمعنى واحد أو لفظاً لمعنيين أو أن يكونا من وضع واضَعين متعدِّدين.

فعند تعدُّد الألفاظ للمعنى الوحداني وتعدُّد المعاني للفظ الواحد من الواضع الواحد أو المتعدِّد ولو بتكثُّر في طول الزَّمان يبرز القسمان كما حصل ذلك في لغتنا العربيَّة.

ولا ضير يخشى منه ما دامت القرائن المقاليَّة والمقاميَّة هي الَّتي تحل المشكل ويؤكِّدها حصول ما يخص المشترك المعنوي عند تفاوت المصاديق عند عدم التَّشخيص حتَّى لو يكون المترادفان تحت الكلِّي الواحد شيئاً واحداً لا ثاني له في الخارج ولو لاختلاف في منشأ التَّسمية للتَّفاوت الاعتباري.كما بين الإنسان والبشر إذا كان في الدقَّة موضوعيَّة ككون الإنسان مأخوذاً من النِّسيان وصدفة كان ذلك المصداق كثير النسيان، وكون البشر مأخوذاً من البُشر (بضم الباء وتسكين الشَّين) ضدَّ العبوس وكان للشَّرع وأصوله رأي خاص في المتعدِّد لو تفاوتا في أحد الوضعين.

لأنَّ حالة التَّفاوت لابدَّ أن تختلف بعضها في أحكام الفقه والقواعد الأصوليَّة، وكذا المشترك اللَّفظي لبروز حالة الاختلاف المصداقي أكثر كتفاوت عين الذَّهب عن عين الفضَّة.

ص: 306

الخامس: مبحث الحقيقة والمجاز

اعلم أنَّ من مقدِّمات المباحث المهمَّة الآتية هو الكلام عن الحقيقة والمجاز في باب الوضع والاستعمال فإنَّه ما خلت العلوم الأدبيَّة وبالأخص البيانيَّة البلاغيَّة والمنطقيَّة من مباحث ألفاظهما وكذا الأصول منها، لأنَّ من مهمَّات أنواع الدِّلالات هو دلالة اللَّفظ على معناه على نحو الحقيقة ودلالته عليه على نحو المجاز.

والحقيقة تعرف بأنَّها استعمال اللَّفظ فيما وضع له، لأنَّ المقوِّم لها هو الوضع والاستعمال كما سبق التَّركيز عليه في بابي الوضع والاستعمال.

والمجاز يعرف عند المشهور أنَّه استعمال اللَّفظ في غير ما وضع له بعلاقة ما وضع له مع وجود قرينة صارفة عن المعنى الموضوع له في الأساس الحقيقي والمقوِّم لاستعماله بهذا المعنى الثَّانوي أيضاً أمران:

العلاقة: وهي المناسبة القائمة بين ذلك المعنى الأصولي الحقيقي وهذا المعنى الثَّانوي المجازي.

والقرينة: وهي حال أو مقال يمنع بأحدهما من حمل اللَّفظ على معناه الأوَّلي.

فمثلاً لفظة الأسد موضوعة بالوضع الأوَّلي للحيوان الخاص المفترس، فإذا استعمل لفظة في نفس ما وضع له كان حقيقيَّاً فيه، وإذا استعمل في الرَّجل الشُّجاع فلا يصح استعماله فيه إلاَّ مجازاً بوجود الأمرين المذكورين وهما المناسبة الدَّائرة بين المعنى الأوَّلي والمعنى الثَّانوي وهي المسمَّاة بالعلاقة وبوجود القرينة المانعة من حمل اللَّفظ على معناه الأصولي كأن تقول عن المثال الماضي (رأيت أسداً يرمي) فتكون كلمة يرمي قرينة مانعة من حمل اللَّفظ على المعنى الأصولي وهو الحيوان المفترس وهذا هو ما يراه المشهور كما مرَّ ذكره.

وعليه يمكن تطبيق الأمر في المثال الخاص المناسب لبحوثنا الأصوليَّة الآتية كما في الصَّلاة الَّتي كانت في اللُّغة لمطلق الدُّعاء وبعد استعمالها موضوعة في إسلامنا العزيز

ص: 307

لذات الأركان الخاصَّة بنحو الحقيقة حين هجر المعنى الأوَّل وأريد نفس ذلك المعنى الأوَّل، فلابدَّ أنَّه إذا أريد دون الحقيقي من نصب القرينة الصَّارفة له دونه ولو مقاميَّة ككون الدَّاعي ولو إلى غير القبلة إذا سميَّته مصليَّاً، فإنَّ قرينة المقام لا تدل على أنَّ صلاته من ذات الإركان.

أمَّا في نظر من خالف المشهور ومنهم الشَّيخ الآخوند قدس سره فإنَّه لا يرى أنَّ صحَّة استعمال اللَّفظ المجازي موقوفة على العلاقة، بل يكفي في صحَّة الاستعمالات المجازيَّة وجود استحسان الطَّبع، فإذا استحسن الطَّبع استعمال اللَّفظ في معنى من المعاني المجازيَّة صحَّ ذلك الاستعمال من دون حاجة إلى تلك العلاقات المنصوص عليها عند علماء البيان المأخوذة من موارد استعمالات العرب.

وهذه تعد من الشَّيخ قدس سره مخالفة تاسعة للمشهور، وهي وإن كنَّا على أي حال نقولها من باب الإكبار لمقامه لنوع خدماته الجلَّى في الأصول، مع تمام الإكبار لمقام أهل المشهور أيضاً لسابقتهم في المعلومات المهمَّة وبإصرار.

لكن لا يعني من هذا أن لا مجال للإيراد على هذا الرَّأي مع تمام التَّوقير لأهل المقاماتالعلميَّة حينما يأتي مجاله.

ولذا نحن مع أهل الذَّوق التَّتبعي نرى أنَّ الاستعمالات المجازيَّة قد تكون مستهجنة عند الطَّبع أيضاً في مقابل ما يقوله أو يعتبره الشَّيخ قدس سره من الاستحسان الطَّبعي مع وجود أحد العلاقات المقرَرة الدَّاعية للاستهجان.

فإنَّنا لا نرى أنَّ الطَّبع يستحسن استعمال لفظ (النَّخلة) في الرَّجل الطَّويل بعلاقة الطول فيقول القائل (رأيت نخلة) أي رجلاً طويلاً وهذا أمر يشهد به الوجدان.

وكذلك يستهجن استعمال لفظة (الأسد) في رجل أبخر الفم بعلاقة هذه المشابهة في بخر الفم، فإنَّه لا شكَّ أنَّ الوجدان يرى قبح هذا الاستعمال إلاَّ أن يكون هذا الاستهجان الواضح في خصوص التَّحقير للمشار إليهما في المثالين تحقيراً من دافع

ص: 308

الاستحسان الطَّبعي من المعبِّر بذلك، مع أنَّ التَّحقير لم يستحسن ضدَّ كل أحد، ومن ذلك الأمثلة العامَّة الَّتي لم يحرز منها حصول الاستحسان إلاَّ بالتَّهجُّم على كل أحد مستحقَّاً أو غير مستحق.

ويمكن القول إضافة إلى ما ذكرناه عن الحقيقة والمجاز بأنَّ الكلام عنهما كان كالكلام عن الاشتراك اللَّفظي في أمر جواز أن تراد الحقيقة والمجاز معاً في مثال واحد وعدمه أم لا؟

وإن فضِّل المجاز على الاشتراك في بعض الأحوال، وهو ما يسمَّى بعموم المجاز كما كان الاشتراك يسمَّى بعموم الاشتراك إن قبل أن تراد الحقيقة والمجاز كما كان قبل ذلك الاشتراك فيما لو لم يرد قيد الوحدة، كما في مثال أن تريد بوضع قدمك في قولك (لا أضع قدمي في دار فلان) الدخول فيتناول دخولهما حافيين وهو الحقيقة وناعلاً أو راكباً وهو المجاز.

وبذلك تمَّ الجمع بين الحالتين كما مرَّ في باب الاشتراك، ومن الأمثلة مع ترك قيد الوحدة أيضاً قول (رأيت أسداً) ويراد به الحيوان المفترس مع الرَّجل الشُّجاع في آن واحد مع إلغاء قيد الوحدة.

ويمكن الجمع بين قول المانعين إذا أرادوا من منعهم كونه مع الوحدة، وقول المجوِّزين مع إلغائها بكون النِّزاع بينهما لفظيَّاً كما في الاشتراك.

حيث أنَّ المانعين لا ينكرون ما جوَّزه المجوِّزون، إذ المراد من الاشتراك عندهم نفس المدلولين معاً لا بقاءه لكل واحد منهما منفرداً أي حال كونه مأخوذاً مع الانفراد والوحدة.

وأنَّ المجوِّزين لا ينكرون ما يريده المانعون من امتناع استعماله في مفهوميَّة حقيقة.

والحاصل أنَّهم يجوِّزون استعماله في كل واحد منهما مسلوباً عنه الوحدة تجوزَّاً والمعارضون لم ينكروا ذلك فلا تعارض بين الجانبين في الحقيقة.

ص: 309

وعلى فرض عدم التَّساوي بين الاشتراك والمجاز لكون المجاز لا يحمل إلاَّ معنى واحداً والاشتراك ربَّما يحمل أكثر من معنى في آن واحد؟

فهنا يجيء المجال للقول عند اجتماع الاشتراك والمجاز في مثال واحد، بأنَّه ينبغي الحمل على خصوص المجاز الَّذي يحمل معنى واحداً وهو المجاز فهو المقدَّم على الاشتراك، لأنَّه خير منه كما قيل عند أهل الأدب البياني، لأنَّ فهم المعنى الواحد أيسر للفكر من فهم المعنى من اللَّفظ المشترك.توضيح ذلك: أنَّ الأوَّل وهو المجاز مع القرينة الصَّارفة عن المعنى الحقيقي لا يحمل غير ذلك المعنى المجازي المصاحب لها، لوحدانيَّة المعنى المنصرف عن الحقيقة وجداناً ولو بالمصداق المجازي الواحد حتَّى في عموم المجاز، لعدم الحاجة إلى الاهتمام بالحاجة إلى التَّفكير بالأكثر وإن احتمل تعدُّده للاكتفاء بالواحد.

بينما الاشتراك اللَّفظي في مثل الجون والقرء والعين ونحو ذلك وإن لزم أن تصاحبه القرينة المعيِّنة للمراد لتمييز الأسود عن الأبيض في المثال الأوَّل، وتمييز الطَّهارة من الدَّم أو الحدث عن حالة الحيض في الثَّاني وتمييز عين البصر عن عين الماء في الثَّالث وهو فيه معنى الوحدة المشابهة للمجاز، وإلاَّ لا داعي للقرينة المعيِّنة للمراد.

لكن مرَّ في باب الكلام الخاص عن الاشتراك أنَّ أهل المعاني لم يستبعدوا توفُّر حصول مصداقين أو أكثر من لفظ واحد مختلف في المصداق في الأفراد والتَّثنية والجمع كعين وعينين وعيون مع الحاجة إلى تلك القرينة لإفراز معنى عن الآخر المغاير، وهو ممَّا قد يُعرقل بعض الفهم في لغة التَّخاطب السَّهلة في مثل المجاز.

لأنَّ قولنا (زيد أسدان) أو (أُسود) مع القرينة لا يُراد منه إلاَّ مضاعفة الشَّجاعة وهو معنى واحد أو (عين زيد عينان) أو (ثلاثة) بمعنى قوَّة النَّظر أو كالغدران من الدُّموع عند البكاء أو الحسَّاسيَّة المدمعة وفي القضايا الشَّرعيَّة الَّتي لا تبتعد عن أدلَّتها الملازمة لها كقول الفقيه (إقراء المرأة لها أحكامها)، سواء قصد من ذلك خصوص

ص: 310

معنى الحيض في كل شهر لو تفاوتت العدديَّة عن الوقتيَّة، أم اجتمع الطهر مع الحيض في الأشهر فلا وجه لمنع بعضهم.

وأمَّا إذا أريد عدم تشخيص أفراد المشترك بنيَّة أن يراد من هذا اللَّفظ هو المسمَّى فلا مانع من أن يراد منه المعنى المجازي، لما مرَّ من ترجيح المجاز على الاشتراك لو اجتمعا باصطلاح أهل المعاني والبيان بأنَّ المجاز خير من الاشتراك.

يُلحق بذلك علامات الحقيقة

ونظراً إلى أنَّه لم تكن الحقيقة بمعزل عن الحاجة إلى بعض العلامات الخاصَّة لتسهيل أمر وضوحها ولو كعوامل ذهنيَّة مساعدة محلاَّة بسرعة الالتفات، لإبراز النُّصوص والظواهر في حقائقها الَّتي وضعت لها عند العجز عن تشخيصها مميَّزة عن مجازاتها تلك النُّصوص والظواهر وإن كانت المشتركات اللَّفظيَّة والمعنويَّة والمجاز تحتاج إلى القرائن بصورة أكثر، فلابدَّ من الاهتمام بها والحديث حولها واحداً واحداً كما اهتمَّ السَّلف المحترم بها.

وهذه العلامات هي:

1 - التَّبادر. 2 - عدم صحَّة السَّلب أو صحَّة الحمل. 3 - الاطِّراد.

4 - تنصيص الواضع. 5 - تنصيص أهل اللُّغة.

وإن أمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى بعض هذه العلائم إنَّه لا ثمرة عمليَّة في البحث عن جميعها بعد أن كان الكتاب والسنَّة يحملان في ألفاظهما ومضامينهما ما فيه القدر المتيقِّن من العلم بها من بحوثهما العلميَّة.

فإنَّه يقال وإن كان هذا صحيحاً - في بعض المعلومات القرآنيَّة وما يتعلَّق بها من

ص: 311

السنَّة الشَّريفة لو أكتفي بذلك عن الحاجة إلى المزيد إلى أن يظهر الإمام المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ فيعرِّفنا بالكامل إن كان أو في الجملة كذلك في مثل خصوص الشَّرعيَّات الفقهيَّة ومبانيها بناءاً على الانسداد الصَّغير الَّذي منيت به الأمَّة على ما سوف يتَّضح -

إلاَّ أنَّه - وإن كنَّا لم نبن على صحَّة العمل بجميع هذه العلائم إلاَّ ما أتقن أمره منها ممَّا حوته قواميس اللُّغة عند بعض الانسداد - لابدَّ أن يحتاج ولو إجمالاً إلى تشخيص ما قد يزيد على ذلك القدر المتيقَّن من محتملات ما يمكن العثور عليه إن ساعدت المواهب الأدبيَّة حسبما تساعد عليه الأصول المتَّفق على صحَّتها وإن كانت صناعيَّة لانعقاد الأمل الوطيد إلى ما يزيد باستفراغ الوسع حسب الوظيفة الشَّريفة الَّتي خُوِّل بها الفقهاء الأصوليُّون من قبل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في هذه الغيبة الكبرى، إذ ما خفي على فقيه طريق.

إذن فالثَّمرة غير مستحيلة ولو في الجملة.

العلامة الأولى: التَّبادر

إنَّ من جملة ما ذكروه عوضاً عن القرينة - ولو كعامل ذهني نابع من العلم بحاق اللَّفظ تقل رتبته كثيراً عن الحاجة إلى القرينة الَّتي لا وجه لها في عموم الأوضاع والاستعمالات اللُّغويَّة الحقيقيَّة والَّتي لم يُتصدَّ لاستعمالها إلاَّ في غير ما وضعت له الألفاظ أو ما استعملت الحقائق في خصوص ما وضعت له كما في حالتي التَّعيين الأوَّل الَّذي لم يأت بعده تعيين آخر ينسخه أو يقل استعماله فيه أو يكون في مقابله بمستوى واحد أو التَّعيُّن الأوَّل المرتبط بكثرة الاستعمال لو لم يكن بعده ما سبق ذكره في حال التَّعيين ما يزعزع حقيقته ومنه ينجر الكلام إلى ما به الابتلاء الأكثر المرتبط بالنَّصوص الشَّريفة كتاباً وسنَّة عند الحاجة إلى الفهم -

هو المسمَّى ب- (التَّبادر)، أو ما يصح أن يُعبَّر عنه مكانه من سبق المعنى من اللَّفظ إلى

ص: 312

ذهن السَّامع، لأنَّهم ساووا بين الحالتين على ما هو الصَّحيح أو حتَّى المتكلِّم نفسه الَّذي لم تأثِّر على ذهنه غير الحقيقة الموضوع لها اللَّفظ أيضاً، إمَّا من قِبل وضعه لذلك اللَّفظ أو وضع مجتمعه، وسواء كان ذلك من الوضع القديم أو الحديث وإن تفاوت ما في ذهنه عمَّا في ذهن السَّامع ولو في الجملة على ما سيتَّضح أمره في الكلام التَّابع لعلامات الحقيقة وهو (تعارض الأحوال) كتنصيص أهل اللُّغة وغيره.

إذ ربَّما يحتاج إلى الاستعانة بمثل هذا المساعد على التَّركيز التَّشخيصي لأجل الخوف من احتمال انحشار شيء حقيقي غير المتبادر إليه لو لم يتساو معه بمثل التَّرادف، فإن لم يظهر ذلك من التَّبادر - لقوَّة العلاقة بين اللَّفظ والمعنى ولو من التَّعوُّد بتكرار اللَّفظ واستحضار المعنى المنسي لغير المعنى الحقيقي الَّذي لم يغفل عنه وإن لم يكن النَّاطق به هو الواضع - فمن السَّبق إلى الذِّهن عند إرادته لأنَّهما شيء واحد حسب المتعارف.

فلا شكَّ عندهم حينئذ - بين حالة المستعلم بعد إن كان جاهلاً إذا كان في فطنته وذكاءه الطَّبيعيِّين وبالأخص عند أهل المحاورة المتعارف بينهم عند تداول الأحاديث أن لا يتلكؤوا في الألفاظ وفهم معانيها الحقيقيَّة حين التَّداول كغير الفطنين وغير الأذكياء --

أنَّ هذا التَّبادر وما هو مثله أنَّه من علائم الحقيقة، لأنَّ إنسباق المعنى إلى الذِّهن من اللَّفظ ينحصر في أمرين إمَّا الوضع له حقيقة بلا قرينة أو لاستعمال اللَّفظ فيه مجازاً بالقرينة وهو ما يخالف الحقيقة.

وحيث فرض أنَّه لا قرينة فلابدَّ وأن يكون للعلم بالوضع الأساسي، سواء كان اللافظ هو الواضع أو العالم بوضعه كالنُّصوص القديمة الَّتي جاءت بواسطة الوحي.

وقد تواتر بين أهل العلوم الأدبيَّة ومحقِّقي اللُّغويِّين المعتمدين بين كافَّة علماء المسلمين بل وحتَّى غيرهم توفُّر الحقائق المميَّزة عن المجازات ونحوها ولو في الجملة النَّفيسة الَّتي لا تخفى على أهل الحل والعقد من الفقهاء والأصوليِّين وعلى الأخص

ص: 313

كثيراً الَّذين قد أتعبوا أنفسهم فيه من نصوص الكتاب والسنَّة طول التَّأريخ العلمي الحوزوي وعرضه، ودلَّت على ذلك موسوعاتهم المهمَّة.

ولكن قد يُثار الإشكال حول هذا وهو العلم بالوضع، فيمكن أن يقال فيه كيف يكون علامة مع توقُّفه على هذا العلم بأنَّه موضوع له كما لا يخفى، فلو كان العلم به موقوفاً عليه وهو نفسه لدار؟ والدَّور مسلَّم الاستحالة.

ولكن يمكن أن يجاب على هذا الإشكال:

بعدم التَّساوي بين العلمين ومع عدم هذا التَّساوي لا دور، فإنَّ العلم التَّفصيلي بكونه موضوعاً له موقوف على التَّبادر، وإلاَّ لحصل لعامَّة النَّاس مع تفاوتهم في الذِّهنيَّة والإحاطة اللُّغويَّة، ولا شبهة في أنَّ لا يحصل هذا التَّبادر في لغة العرب لغير العربي ومن عايشهم وتعلَّم مثلهم كاملاً من غيرهم أو أزاد كما لا يحصل للعربي في اللُّغات الأخرى حيث لم يكن من أهل تلك اللُّغات أيضاً ولم يتعلَّم مثلهم.

وهذا التَّبادر موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به لا التَّفصيلي فلا دور، وهو في وضوحه بين العلم التَّفصيلي والإجمالي إذا أريد به التَّبادر عند المستعلم غير بعيد في تعارفه،لكونه أصبح من أهل اللُّغة المقصودة فكيف بالواضع أو العالم.

وأمَّا إذا أريد به التَّبادر عند أهل المحاورة كما أشرنا فالتَّغاير أوضح من أن يخفى، لأنَّ ما يتوقَّف على التَّبادر هو علم المستعلم بالوضع ويكفيه علمه الإجمالي وما يتوقَّف عليه التَّبادر هو علم أهل المحاورة وبتوجيه آخر أدق وهو أنَّ العلم الإجمالي يطلق على معان:

منها: كون العلم بالعلم علماً إجماليَّاً بالمعنى الخاص وإن لم يغفل صاحبه عن تفصيله الكامل لو أراد ولكنَّه غير محتاج إليه.

ومنها: كون المعلوم بالتَّفصيل مردَّداً بين فردين أحدهما وهو العلم المخلوط بشيء من الجهل وهو العلم الإجمالي عند علماء الأصول كما مرَّت الإشارة إليه.

ص: 314

ومنها وهو الفرد الآخر: العلم الارتكازي وهو العلم الحاصل للنَّفس الَّتي غفلت عنه تلك النَّفس تفصيليَّاً أو تعمَّدت تركه لعدم الحاجة إليه اعتماداً على المرتكز، فإنَّ كثيراً ما يحصل للفرد علم ولكنَّه ليس له علم بعلمه يحتاجه تفصيلاً، وهذا هو المراد بالعلم الإجمالي المعروف في المقام وقد مرَّت الإشارة إليه كذلك.

وحينئذ يكون الأوضح من أن يخفى على الجميع أنَّ هذا التَّبادر يتوقَّف على هذا العلم الإجمالي وهو ما كان عند المستعلم وهو غير التَّفصيلي الَّذي عند أهل المحاورة، سواء علموا به وتركوه في محاوراتهم للاختصار أو تداولوا فيها على نحو التَّفصيل إن اقتضى الأمر ذلك.

ولذا إنَّ من ليس له هذا العلم لا يتبادر له شيء منه، فلا داعي لإثارة شبهة الدَّور في أمرهم.

وممَّن يرى هذا الرَّأي المحقِّق الآخوند قدس سره ، ولم يغفل عن مسايرته الفطاحل من الآخرين بلا داع للإطالة في هذا الأمر، وعلى هذا النَّهج سار اللامعون من الفقهاء والأصوليِّين في أدبيَّاتهم تجاه مصدري الكتاب والسنَّة والقواعد اللُّغويَّة.

وملخَّص ما مضى أنَّ التَّبادر إنَّما يكون علامة للحقيقة لو أحرزت الحقيقة وحدها من حاق اللَّفظ، أمَّا لو لم تحرز واحتمل إرادة غير المعنى الموضوع له اللَّفظ فلابدَّ لإرادة المعنى المجازي من وضع القرينة الصَّارفة له عن الحقيقة، وإلاَّ لتساوي المجاز والحقيقة في صدق التَّبادر دالاًّ عليهما معاً، وهو مخالف للقواعد الأدبيَّة الموضوعة للتَّفريق بين الحالتين لاختلافهما الواضح، وعند الشَّك مع احتمال إرادته لا تجدي أصالة عدم القرينة، لأنَّ انحصار ما يمكن أن يكون مستنداً لأمرين في أحدهما وهما القرينة وعدمها في خصوصه إنَّما يكون بعدم الآخر.

نعم لو كان الشَّك موجوداً أيضاً بلا وجود لهذا الاحتمال ولم تكن القرينة على خلاف الحقيقة موجودة لوصول الأمر إلى الرُّجوع إلى أصالة الحقيقة الآتي ذكرها قريباً.

ص: 315

ولو قيل بعدم إمكان الاستثمار من هذا البحث لكونه نظريَّاً وغير عملي؟

لقلنا بأنَّ مثل التَّبادر يمكن تصوًّر إفادته، بل التَّصديق بها في علاج أمر الحقيقة واستكشافها عن طريقه، لكثرة ما يمر على الفقيه والأصولي عند انسداد باب العلم الإجمالي من واضحات النَّصوص الشَّريفة ممَّا يميز فيه أمر التَّبادر عن غيره من الفقهيَّات بيسروسهولة كما عرض للسيِّد الخوئي قدس سره من التَّجربة العمليَّة بمضمون ما ذكر عنه(1) بكون التَّبادر من لفظ البيع عرفاً عند الإطلاق هو اختصاص المعوَّض بالأعيان دون المنافع.

أقول: لكون الأخير مخالفاً لما يتبادر الذِّهن إليه، إضافة إلى عدم تصحيح بعض الفقهاء بيع المنافع كما هو الحق، لكون الأعيان حين هذا البيع تكون مسلوبة المنفعة ببيع منافعها دون أعيانها وإلى ما لا نهاية كبيع الأعيان وعليه لو أريد من هذا بيع المنافع فقط لكان ممَّا يحتاج في صدقه إلى القرينة الصَّارفة عن الحقيقة.

وقال بهذا المضمون جملة أخرى من العلماء، وإنَّ المنافع حقَّها أن تستأجر دون أن تباع، ولذا تكون القرينة عند عدم الوضوح صعبة المنال بل لم تساعد عليه الأدلَّة الشَّريفة حتَّى عند استفراغ الوسع.

الثَّانية: صحَّة الحمل أو عدم صحَّة السَّلب

وهي المعروضة في الكفاية - ومن سار على نهج صاحبها قدس سره ومن أيَّده في الذِّكر كما ذكرت في علم المنطق وعلم المعاني والبيان والأصول - بأنَّها من علائم الحقيقية كالتَّبادر ما دامت تصدق اية على الحقيقة، كما وضعت ألفاظ هذا الأمر عربيَّا في القديم أو في لساني الكتاب والسنَّة أو الألفاظ الموضوعة من هذا أو ذاك من دون قرينة مخالفة

ص: 316


1- مصباح الفقاهة ج2 ص14 تحقيق جواد القيومي الأصفهاني.

للحقيقة، فإنَّ صحَّة الحمل في المقام على نحوين:

الأوَّل منهما: سمَّوه بالحمل الأوَّلي الذَّاتي، ومثاله ما يتَّحد فيه الذَّات والمفهوم معنى عند الحمل فضلاً عن المصداق، ويختلف أحدهما عن الآخر في الاعتبار اختلاف الإجمال عن التَّفصيل، كما في قولنا في تعريف (الإنسان) لتعريفيه الحقيقي بأنَّه (حيوان ناطق) باعتبار كون الإنسان مجملاً وحيوان ناطق مفضَّلاً، وعليه يكون الإنسان مستعملاً في نفس ما وضع له من المعنى وهو الحيوان النَّاطق المسمَّى بالحمل الأوَّلي.

والثَّاني منهما: سمَّوه بالحمل الشَّايع الصِّناعي، وملاكه الاتِّحاد الوجودي الخارجي، والتَّغاير المفهومي كما في قولنا (زيد إنسان)، فإنَّ الموضوع في هذا المثال وهو (زيد) متَّحد مع المحمول مصداقاً وخارجاً وهو الإنسان وإن كان بينهما مغايرة مفهوميَّة، لأنَّه لا يزيد عن إنسانيَّة غيره من الأفراد ولا ينقص عنها، لأنَّ كل أفراد بني الإنسان متساوون في الإنسانيَّة كما كان الإنسان بكلِّه وكليَّته مساوياً لتعريفه الماضي في التَّبادر وهو (الحيوان النَّاطق).

كما أنَّ معنى صحَّة الحمل في الحملين - الأوَّلي والصِّناعي - لا يختلفان في المعنى عن عدم صحَّة السَّلب، فإذا ما صحَّ تعريف الإنسان بأنَّه حيوان ناطق ارتباطاً بالوضع الحقيقي لمَّا كان مرتكزاً في الذِّهن فإنَّ الأمر نفسه لابدَّ وأن يعني عدم صحَّة سلبه عنه، وهكذا لو صحَّ تعريف زيد بأنَّه إنسان فإنَّه يصح فيه معنى عدم إمكان السَّلب عنه.

كما أنَّ صحَّة سلبه عنه علامة كونه مجازاً في الجملة، لعدم انسجامه مع الحقيقة إلاَّ مع القرينة أي لا دائماً، يعني إذا لم يتصادق المحمول والموضوع أصلاً وصحَّ سلب أحدهما عن الآخر حقيقة فلابدَّ أن يكونا من المتباينين، لعدم الشَّك في أنَّ استعمال أحد المتباينين في الآخر من المجاز إذا لم يكن غلطاً، كما في صحَّة السَّلب بنحو الجامع بين الحمل الأوَّلي والكلِّي وفرده، كما في مثال الشَّائع الماضي ذكره علامة إنَّ كلاًّ منهما غير متَّحد مع الآخر ماهيَّة ولا أحدهما متَّحد مع الآخر بحصَّة منه، فلابدَّ وأنَّ مبدأ كل

ص: 317

منهما مباين مع مبدأ الآخر.

فإنَّ حمل أحدهما على الآخر باعتبار أنَّه عينه أو متِّحد معه بحصَّة منه كان استعمالاً مجازيَّاً، فإنَّ استعمال (الضَّاحك) في مفهوم الكاتب لا شكَّ أنَّه مجاز.

وكذا الأمر في حمل الإنسان على زيد إذا أريد انطباق الإنسانيَّة كلُّها على خصوص زيد دون الغير كالمبالغة.

وقد أورد على هذا الثَّاني من علامات الحقيقة ما توهَّموه من الدَّور كما توهَّموه في الأوَّل وهو التَّبادر فقالوا بما مضمونه:

كيف يكون صحَّة الحمل أو عدم صحَّة السَّلب علامة للعلم بالحقيقة بعد أن كان هذا العلم موقوفاً على العلم بكونه حقيقة فيه؟.

وكان الجواب هو نفس ما تقدَّم في أمر التَّبادر وهو:

أنَّ صحَّة الحمل تتوقَّف على العلم الإجمالي الارتكازي، وما يتوقَّف على صحَّة الحمل هو العلم التَّفصيلي بأنَّه حقيقية فيه، وهذا بالنِّسبة إلى صحَّة الحمل عند العالم نفسه باللُّغة، وأمَّا كون صحَّته عند الجاهل بها فتدل على الحقيقة عند المستعلم بأمورها بعد جهله ثمَّ علم فارتفاع الدَّور فيه أجلى وضوحاً.وهكذا في أمر عدم صحَّة السَّلب وعدمهما، لأنَّه المؤكَّد لصحَّة الحمل كما عليه الشَّيخ الآخوند قدس سره ومن سار على منواله.

دفع لوهمين حول كلا العلامتين

بعد منع الدَّور الماضي عن العلامتين وهما التَّبادر وصحَّة الحمل ذكر أحد الأعلام المهمِّين ما مضمونه بأنَّه يمكن قبول كل من العلامتين علامة على الحقيقة لكن في مستوى الثُّبوت دون الإثبات وهو خلاف الغرض المنشود من أصل تدوين الأصول النَّافعة، فقد أفاد الشَّيخ العراقي قدس سره:

ص: 318

(أنَّه لا فائدة عمليَّة لعلامات الحقيقة لأنَّ البحث فيها إنَّما ينتج بناءاً على كون مدار حجيَّة اللَّفظ على أصالة الحقيقة تعبُّداً وهي الجارية حتَّى مع عدم انعقاد الظهور الفعلي ولو لاتِّصال الكلام بما يصلح للقرينة المانعة عن انعقاد الظهور والدِّلالة الفعليَّة ولو التَّصوريَّة فضلاً عن التَّصديقيَّة).

ثمَّ قال (إذ الظهور في مورد لا يجدي بالنِّسبة إلى مورد لا ظهور فيه ولو لاتِّصاله بما يصلح للقرينة، وحينئذ لا يرى لمثل هذا البحث نتيجة عمليَّة كما لا يخفى)(1).

أقول: وقال بمقالته بعض أعلام آخرين، ولكن يمكن الاكتفاء بالقول جواباً أنَّه:

لا شكَّ في أنَّ مرجع انعقاد الظهور للفظ في معناه الموضوع له - من أهل العرف إلى معرفة الوضع - يفتقر إلى علامات الوضع فالتَّبادر وصحَّة الحمل يكونان مقتضيين لمعرفة الوضع ومعرفة الوضع تستدعي انعقاد الظهور العرفي، ومن هنا يتَّضح انكشاف أنَّ لهذا البحث فائدة عمليَّة.

ولعلَّ عدم اعتبار رضا الشَّيخ قدس سره أن يكون لعلامات الحقيقة ثمرة عمليَّة هو من جهة البعض المناقش فيه منها لا جميعها كما سيتَّضح والله العالم.

الثَّالثة: الاطِّراد وعدمه

فقد ذكروا من علامات الحقيقة والمجاز الاطِّراد وعدمه، فالأوَّل للحقيقة والثَّاني لعدمها وهو المجاز.

وقد اكتفى البعض بالاقتصار على الاثنين الماضيين، لمألوفَّيتهما في الذِّكر بحثاً أو بحثاً واستثماراً منهما في أخذ معلومات النُّصوص الشَّريفة أكثر من الأخريات وإن نوقش فيهما كما مرَّ وترك الباقي كهذا الثَّالث أو الرَّابع وهو تنصيص الواضع أو

ص: 319


1- ملخَّص ما أفاده من مقالات الأصول ج1 ص 114 ط 3 مطبعة باقري.

الخامس وهو تنصيص أهل اللُّغة الآتي بيانهما، ليكون عند انغلاق باب النُّصوص الرُّجوع إلى قواميس اللُّغة.

ولأجل البت بما يناسب هذا الموضوع في أنَّه يناسب كونه من علامات الحقيقة أم لا؟

وعلى فرض قبوله أن يكون منها فإنَّ عدمه وهو عدم الاطِّراد لابدَّ أن يكون معاكساً لهذه العلامة لأنَّه يتناسب مع المجاز وبما أنَّ ترك البعض لهذا الثَّالث في الذِّكر، ولعلَّه لعدم الاعتناء به أو لوجود الاختلاف فيه حيث وجَّه أمره إلى أربع معانٍ يختلف بعضها عن البعض الآخر بما لا ينسجم حتماً ليكون مناسباً لقبوله علامة دالَّة على الحقيقة أو كان أحدها الخاص مثلاً مناسباً ليكون علامة دالَّة عليها ليرفض الباقي مع إمكان الاجتماع بين هذه الخمسة لا من حيث الاختلاف وإنَّما من جهة الشُّيوع الأكبر.

وأمر قبول ذلك وعدمه - من الجميع أم من البعض - مرهون بذكر هذه المعاني واحداً بعد الآخر ليتبيَّن الحق من غيره أو أن يرفض الجميع ليمحى الاطِّراد من علامات الحقيقة الأربعة المذكورة في طليعة بحث العلامات، وهي:

الأوَّل من المعاني: قول البعض بأنَّ المراد من الاطِّراد تكرار الاستعمال في معنى منالمعاني.

ولكن يمكن ردُّه إذا لوحظ منه الإطلاق في العبارة بأنَّه إن أريد به تكرار صحَّة استعمال لفظ في ذلك المعنى، فإنَّ من بداهة صحَّة هذا الاستعمال فيه مرَّة يتسبَّب تصحيحه مرَّات عديدة من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي والمجازي.

وبهذا يتبيَّن أنَّ هذه العلامة وهي الاطِّراد المفترض كونها علامة على الحقيقة صارت مساوية لما يعاكسها وهو عدم الاطِّراد وهو مرفوض في أن يكون الاطِّراد وعدمه.

وإن أريد به كثرة الاستعمال في معنى في موارد مختلفة بحيث يحصل استعماله فيه من

ص: 320

الكثرة بدرجة الشُّيوع عند العموم كما ذكرنا، ففي ذلك لا يبعد أن يكون ذلك علامة على الحقيقة، لأنَّ كثرة الاستعمال إذا كانت مطَّردة في مختلف الموارد فلابدَّ أن تكشف عن الوضع.

إذ لا يحتمل أن تكون جميع هذه الاستعمالات الكثيرة مجازاً مع القرينة وإلاَّ لم تطَّرد، ولو وقع التَّخلُّف فلا محالة إذن أن يدور الأمر بين أن تكون جميع هذه الاستعمالات مجازاً أو حقيقة، والأوَّل غير محتمل عادة فيتعيَّن الثَّاني.

أقول: وهو نفس ما يطابق القواعد الأدبيَّة.

الثَّاني: ما سمَّوه باطِّراد التَّبادر، بأن يطلق المستعمل اللَّفظ الخاص مراراً عديدة وفي حالات وأوضاع مختلفة، كما لو تبادر من لفظ (الأسد) أنَّه الحيوان المفترس في كل موارد استعماله بدون أيَّة قرينة، فإذا كان التَّبادر بهذا النَّحو مطَّرداً كشف استناده إلى حاق اللَّفظ وصار مرتبطاً بكل ما يرتبط به التَّبادر في التَّمثيل.

وعليه لا يصلح الاطِّراد أن يكون علامة مستقلَّة على الحقيقة في مقابل التَّبادر.

الثَّالث: ما سمَّوه باطِّراد الاستعمال، ويراد به صحَّة استعمال اللَّفظ في معنى معيَّن في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما يحتمل كونه قرينة على إرادة المجاز.

وقد ذكر السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره أنَّ هذا الأسلوب هو الطَّريقة الصَّحيحة المتَّبعة غالباً لمعرفة الحقيقة والوضع(1) فإنَّ الأطفال يتعلَّمون اللُّغات من الاطِّراد.

أقول: وهو الحق لأنَّ الانعكاس يربك أذهانهم والتَّجربة خير برهان.

الرَّابع: ما سمَّوه بالاطِّراد في التَّطبيق بلحاظ الحيثيَّة الَّتي أطلق من أجلها اللَّفظ كما إذا أطلق (الأسد) على حيوان باعتباره مفترساً وكان مطَّرداً في تمام موارد وجود حيثيَّة الافتراس فيكون علامة كونه حقيقة في تلك الحيثيَّة، علماً بأنَّ الأسد ينطبق دائماً على الحيوان المفترس ولم ينطبق دائماً على الإنسان إلاَّ على الشُّجعان من بنيه، فالأسد

ص: 321


1- محاضرات في أصول الفقه ج1 ص132.

حقيقة فيما اطَّرد فيه فهو الموضوع دون غيره، فالجبناء من بني الإنسان لم تطرد حيثيَّة الافتراس فيهم وهي حالة العدم المرتبطة بمعنى الحمل على المجاز مع القرينة.

وقد اعترض الشَّيخ الآخوند قدس سره على هذا الرَّابع مضموناً:

بأنَّ معناه في الاطِّراد يقتضي أن يكون ثابتاً في المعاني المجازيَّة كذلك إذا كان فيه يحفظ مصحِّح المجاز وإنَّما كان لم يطَّرد تطبيق استعمال الأسد في جميع الموارد المشابهة مع معناه الحقيقي لعدم كفاية مطلق الشَّبه في تصحيح المجاز، بل لابدَّ من المشابهة في إفراز الصِّفات ومع حفظ ذلك يكون الاستعمال مطَّرداً(1).

أقول: والاطِّراد هنا في الوضع الحقيقي والمجازي مع القرينة لن يتناسب مع الاطِّراد وعدمه، لعدم تساويهما كما مرَّ ذكره، لعدم انطباق الشَّجاعة دوماً على الإنسان إلاَّ على بعض أفراده دون الافتراس في الأسد وإن حفظ مصحَّح المجاز في أفراده الأخرى من غير الشُّجعان، لفارق الكثرة والقلَّة مع القرينة، فضلاً عمَّا لو استغنى عن القرينة في اطرِّادالشُّجعان.

فإنَّ المحذور يزداد بسبب الهجران للسَّابق إذا حصل أو تساوى الأوَّل والثَّاني في وضعهما واستعمالهما ليكونا كالمشترك المعنوي الَّذي لابدَّ وأن يحتاج إلى القرينة المفهمة لإفراز أحد الوضعين عن الآخر.

وخلاصة الموضوع: عدم اعتبار الاطِّراد علامة، ولا عدمه على الخلاف في كل المعاني المدرجة آنفاً، وعدا الصُّورة الثَّانية من المعنى الأوَّل وكامل ما أيَّده السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره من الثَّالث.

الرَّابعة والخامسة:

تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللُّغة

فقد مرَّ الكلام حول العلامة الرَّابعة عند الكلام عن المبحث الحادي عشر بما قد

ص: 322


1- كفاية الأصول ج1 ص 29.

يستحقُّه الإدراج الموضوعي المتعارف ذكره في الأصول ولو في الجملة الَّتي قد يُزيد عليها بعض المدوِّنين -

في أنَّ الواضع هل هو الله تعالى أو غيره؟

وعن هذا البحث تعرف الحقائق من غيرها، وحول العلامة الخامسة أيضاً وبما يستحقُّه أيضاً ولو استطراداً في أكثر من موضع حول الحاجة إلى ذكر مرجعيَّة القواميس اللُّغويَّة عند انسداد باب العلم الشَّرعي أو العلمي للتَّركيز على مصير الحقيقة أين تكون عند الانسداد في مراحله.

ولذا لم نحتج هنا لإكمال مبحث علامات الحقيقة الخمسة لأكثر ممَّا مضى إلاَّ بالموجز الكافي وهو أنَّ كلاًّ من الاثنين (تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللُّغة) للتَّدليل على أنَّ كلاًّ منهما من علامات الحقيقة لإفرازها عن المعنى المجازي فلابدَّ من أن يعتمد عليه في إحدى صورتين:

أحدهما: توفُّر شروط الشَّهادة من العدد والعدالة وحسيَّة الخبر أو قربه إلى الحس.

ثانيهما: حصول الوثوق والاطمئنان من كلامهم كما يتَّفق كثيراً حين ممارسة الفقيه لعمليَّة الاستنباط، وعلى الأخص مع إجماع اللُّغويِّين.

وبالاختصار التَّوضيحي نقول:

أمَّا عن تنصيص الواضع، فإن أريد به صاحب النُّصوص الشَّرعيَّة كالكتاب والسنَّة - وهي أهم ما يعنينا في البداية - فمع ضبط أمورهما في السنَّد - كالتَّواتر في الأوَّل وهو ما يعادل قطعيَّة الصُّدور واعتبار السَّند أيضاً في الثَّاني وهو السنَّة وإن كان من الظَّن المعتبر لما سيأتي بيانه في بحوث السنَّة والحجَّة من الأزمات المقتضية لذلك حتَّى لو كانت الدِّلالة ظنيَّة بالنَّحو المتاخم للعلم في الأوَّل وهو الكتاب الكريم وقطعيَّة في الثَّاني وهي السنَّة الشَّريفة -

فلابد من البناء على ما تعطيه هذه النُّصوص من الحقائق الشَّرعيَّة أو المتشرعيَّة الَّتي

ص: 323

سيأتي اتِّضاح أمر تشخيص أحدهما قريباً دون ما هو غير ذلك ولو بالرُّجوع إلى تفسير القران بمثله أو القران بالسنَّة أو نحو ذلك إن أشكل الأمر وإلاَّ فبالرُّجوع إلى اللُّغة المتَّفق عليها على ما مرَّ ذكره.

وإن أريد به واضع الأسماء كالَّذي ولد له مولود وسمَّاه باسم وبقي واضعه على هذا المنوال باستعماله له ولم يكن هذا الوضع منه مساوياً لمن كان وضع له اسم آخر ممَّا لم يكن من نوع الحقيقة من قلَّة استعماله واحتياجه إلى القرينة في التَّدليل على المراد منه، إلاَّ إذا صار حقيقة أخرى بهجر السَّابق له، وهكذا وضع الألفاظ للمعاني الأخرى الَّتي منها تتشكَّل اللُّغة وقواميسها.

وأمَّا عن تنصيص أهل اللُّغة كأصحاب القواميس وأهل التَّداول الفصيح الموافق للأسس العربيَّة المتسالم عليها حتَّى بعض المنقولة شفاهية وبما لا يتفاوت فيها أحد عن أحد في الإفصاح عن الحقائق البعيدة عن غيرها مع مطابقة العرف عليها إذا حصل تشكيك في أمر شرعي يراد ادراك خصوص حقيقته، لوجود بعض من الانسدادات العلميَّة من مصادر الشَّرع.

فبالإمكان الرُّجوع إلى تلك القواميس واللُّغويَّات المتداولة في ثوابتها، لأنَّها الأقرب إلى ما يستهدف مع الأعراف المطابقة عند البعض، ليكون تفسيرها الأقرب إلى ما يراد شرعاً ولو بمستوى الظاهر بعد النَّص ويفضل أيضاً عند الحيرة الأكثر في تشابك القواميس وعدم صفاء بعضها في الرُّجوع إلى الكتب اللُّغويَّة القريبة إلى ثوابتنا وبما هو الأفضل كمجمع البحرين أو ما به إلزام الآخرين بما ألزموا به أنفسهم كالقاموس أو الرُّجوع إلى القواعد الأدبيَّة، كالفرق بين الحقيقة والمجاز في أنَّ الأوَّل مصداقه تبادري مثلاً والثَّاني لابدَّ وأن يكون مع القرينة كما مرَّ بيانه.

ص: 324

المبحث السَّابع والعشرون

تعارض الأحوال

لم يغفل الأصوليون عن أهميَّة ذكر ما يحتاجون إليه أو ما يمهِّدونه إلى من يأتي بعدهم من أجيال المحصِّلين بعد ذكر علامات الحقيقة وما استقرُّوا عليه من الصَّحيح منها عن غيره، سواء النَّصوص من تلك الحقائق أو الظواهر المستفادة من المدارك الشَّرعيَّة أو ما قد يعوِّض عنها حال اختفاءها أو بعضها من اللُّغويَّات المتَّفق عليها سواء كانوا من كل المذاهب الإسلاميَّة لو اتَّفقوا على المنهجيَّة الأصوليَّة الموحَّدة على جملتها المعلومة أو البعض الخاص من المسلك الأصولي عند أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن سار على منوالهم من أتباعهم ومن المذاهب الأخرى أو خالفهم ذلك المخالف ولكنَّه كان قد ألزمه المذهب الحق بما ألزم به نفسه أو اختلف ذلك المسلك الأصولي عنَّا ولكن النَّتيجة كانت هي الوفاق الفقهي بين الجميع من حيث النَّتيجة للتَّقريب المذهبي.

كل ذلك حينما تكون تلك العوارض المتعارفة في مقابل الحقيقة وهي الَّتي ذكرها الشَّيخ الآخوند قدس سره في كفايته وهي خمسة وهي (التَّجوُّز والاشتراك والتَّخصيص والنَّقل والإضمار)، وأضاف إليها آخرون خمسة أخرى وهي (النَّسخ والتَّقييد والكناية والاستخدام والتَّضمين).

وبذلك تكون تلك العوارض بمجموعها عشرة أحوال في مقابل الحقيقة النَّاصعة، وبذلك أيضاً تكون الحقيقة أو المعنى المصطلح عليه في الوضع الأساسي في المدارك اللَّفظيَّة الشَّرعيَّة أو اللُّغويَّات المتَّفق عليها في التَّعويض هي الموضوعة والمعوَّل عليها في النُّصوص والظواهر من بين الأحوال كلُّها غير ما وضعت له تلك الألفاظ، وعليه فالمجاز العام طارئ عليها وإن كان المجاز بالمعنى الخاص معدَّاً في أوَّلها.

وقد أوضح المنطقيُّون معاني هذه الأحوال العارضة أو بعضها، وأسهب أهل المعاني

ص: 325

والبيان كالمطوَّل وغيره فيها، وذكر الأصوليُّون كصاحب القوانين قدس سره المهم ممَّا يلزم ذكره في نظره وإن استصعب بعض ما ذكره.

وبدورنا للخلاص من بعض المشاكل - العالقة في هذا الموضوع قبل موعدها لضعف موارد الاستفادة منه - ناسب أن يكون عند التَّفاوت الاصطلاحي بين العلوم اللِّسانيَّة ومبادئها للقرب من الشَّرعيَّات المرتبطة بالقواعد اللِّسانيَّة الَّتي أعددناها من مقدِّمات مباحث الألفاظ كمن أعدَّها من بعض الأفاضل، لكونها قبل الاستقرار عليها عند تعارضها متكاملة فيما بينها في ضمن الأدلَّة أصوليَّاً ولو ظاهراً كالفرق الواضح بين الحقيقة والمجاز ونحوهما ولو بالنَّحو الأدنى من التَّعارض الاستدلالي.

وأمَّا بعد الاستقرار بين الأصوليِّين على كونها أدلَّة متكاملة عند التَّعارض في الأحوال - الَّتي تحوم حول الشَّرعيَّات ولو من بعض الاصطلاحات الإضافيَّة الأصوليَّة من القرائن كالأدلَّة المتداولة عندهم في مبحث التَّعادل والتَّراجيح أو فقل (تعارض الأدلَّة) وإن قلَّت موارد الانتفاع منها لخصوصها - فهذا ليس موقعها بالدقَّة بعد التَّكامل، وإنَّما يناسبها إمَّا مباحث الألفاظ كما في أصول المظفَّر، أو غيره، أو ربط الموضوع ببحث الحجَّة على ما سوفنرجِّحه هناك فيه، أو في الأخير كما في المعالم.

فلنبدأ بمحاولة إيضاح ما نحتاج إلى إيضاحه في مقام هذا التَّعارض عمَّا ابتدأنا به.

فغير خفي على المنتبه أنَّه تارة يدور الأمر بين المعنى الحقيقي أو ما يُسمَّى بالمصطلح في نظر أهل الصِّناعة إذا كان هو الموضوع وبين أحد هذه الأمور الخمسة أو العشرة وتارة أخرى يدور بين كل أو بعض هذه الأمور إذا لم يُرد المعنى الحقيقي.

أمَّا الدَّوران الأوَّل وهو ما بين المعنى الحقيقي وبين أحد هذه الأمور فهو واضح كل الوضوح حين إرادة المعنى الحقيقي الَّذي وضع له اللَّفظ خصِّيصاً له دون أن يُراد من لفظه معنى آخر غيره وإذا يرتبط به التَّبادر ونحوه من صحيح العلامات دون أن تكون صالحة للإفادة في غيره من الأمور الأخرى.

ص: 326

فلأنَّها إن أريد شيء منها في مقابل المعنى الحقيقي فلابدَّ أن تنضم إلى كل منها علامة تصرفها عن ذلك المعنى الحقيقي حسبما ذكره الأدبيُّون في قواعدهم عن كل منها، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه بالحالة المجازيَّة العامَّة وإن تفاوتت قرائن بعضها عن بعضها الآخر في الاصطلاح تجاه الحقيقة ممَّا مرَّت الإشارة إليه.

إلاَّ أنَّ الأقرب في المقابلة بين المعنى الحقيقي وبين مصاديق هذه المجازات هو الأوَّل منها وهو المجاز الخاص الَّذي لابدَّ أن يصح معه التَّمثيل الآتي مع كثرته كلفظ (أسد) الصَّادق في حقيقة وضعه الأساسي على خصوص الحيوان المفترس من دون حاجة إلى قرينة والَّذي لا يصدق على معنى آخر غيره إلاَّ مع القرينة الصَّارفة عن ذلك الحقيقي وهو الرَّجل الشُّجاع ولفظ (قمر) الصَّادق في حقيقة وضعه الأساسي على ذلك الجرم السَّماوي اللَّيلي في ليلة الكمال من غير حاجة إلى قرينة عليه والَّذي لا يصدق على معنى آخر غيره إلاَّ مع القرينة الصَّارفة ومنه قمر بني هاشم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقد مرَّ ذلك.

وكذلك دوران الأمر بين الحقيقة ذات المعنى الواحد الَّذي يحمله اللَّفظ الواحد الواضح في إفادة معناه بدون أيَّة قرينة عليه كعلي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وبين المشترك ذي اللَّفظ الواحد أيضاً الحامل لمعنيين أو أكثر ك (القرء والجون والعين) المحتاج كل مصداق منها له إلى القرينة المعيَّنة المراد وذي اللَّفظين المختلفين إذا دلاًّ على معنى واحد كالإنسان والبشر في حاجته إلى ما يُسمَّى بالقرينة المفهمة ممَّا يُسمَّى بالمشترك المعنوي وقد مرَّ ذلك.

وكذلك دوران الأمر بين الحقيقة والتَّخصيص فإنَّ مثاله (كل) ونحوها من ألفاظ العموم إذا أريد منها الجميع حسب ما وضعت له في الحقيقة الَّتي لا تحتاج إلى قرينة، وهي الَّتي لابدَّ أن تكون غير ما يُراد منه البعض الَّذي يطلق عليه بالعام المخصِّص إذا أريد منه بعض أفراده، كما لو كان معنى الكل عشرة وأطلق على ثلاثة أو كالشُّجاع الواحد الَّذي يعدل ألفاً من الشُّجعان، وأمثلته كثيرة يأتي تفصيلها وتفصيل مقولة ما من عام إلاَّ وقد خص من بحث العموم والخصوص فيها في الجزء الثَّاني والنَّظر في ذلك.

ص: 327

وكذلك في دورانها بين الحقيقة والنَّقل فإنَّ الحقيقة حين دلَّت على ما وضعت له فهي الحقيقة الَّتي لا غبار عليها في تبادر معناها ونحوه كالصَّلاة بمعناها اللُّغوي وهو كونها للدُّعاء وفي نقلها إلى معنى آخر كما حينما صارت تحت ظل الإسلام بمعنى أنَّها ذات الأركانالخاصَّة مع وجود المناسبة بين الوضع القديم والحديث ولو في الجملة، كالجامع بين مطلق الدُّعاء في اللُّغوي وبين ذات القنوت من ذوات الأركان الخاصَّة الشَّرعيَّة أو المتشرِّعيَّة الآتي معناها قريباً أو ممَّا كان بلا مناسبة فيُسمَّى بالمرتجل كإطلاق لفظ الأسد على من كان جباناً أو شُكَّ في أمره.

وهذا المنقول العام بكلا طرفيه قد يشبه المشترك اللَّفظي بصورة أوضح ولا قرينة يحتاجها إلاَّ معيَّنة المراد بين معنييه أو معانيه دون الأكثر إذا يهجر المعنى اللُّغوي السَّابق ومع عدم هجرانه يبقى محتاجاً إلى القرينة الصَّارفة كما في بدايات النَّقل الجديد.

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والإضمار أنَّ الحقيقة تراد بمجرَّد اطلاق لفظها والإضمار لو احتيج إليه هو تجويز في هيئة الإسناد كما لو استشكل في بعض أدلَّة نجاسة الكافر والمشرك ذاتاً؟ حينما يقال كيف يُستنجس الكافر المشرك بكلمة المصدر وهي لفظة (نَجس) من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ](1) والمصدر لا يطلق على الذَّات؟

فإنَّه يمكن الإجابة عنه: بأنَّه مع الإضمار يمكن أن يرتفع الإشكال ففي قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] حينما قالوا أنَّ المصدر وهو (نجس) لا دليل فيه على عدم نجاسة ذات المشركين بصحَّة تقدير (ذو نجس) وبه يرتفع الإشكال فتكون الغلبة للحقيقة والإضمار فيه معنى المجاز المحتاج إلى القرينة، ولا داعي له مع صحَّة هذا التَّقدير.

وإن قيل بأنَّ الأصل عدم التَّقدير؟

فإنَّه يُجاب عنه: بإمكان أن يصح أيضاً اطلاق كلمة المشرك نجس بنحو الوصف

ص: 328


1- سورة التوبة / آية 28.

كقولنا (زيد حسن).

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والنَّسخ وإن كان النَّسخ يتعلَّق بالأحكام دون أحوال الألفاظ لكونه كالهجران، فإنَّ الحقيقة هي المقدِّمة حتَّى لو فُسِّرت ببعض المراد منها حينما كان النَّسخ على الرَّأي المخالف يُراد منه نسخ التِّلاوة دون خصوص نسخ المعنى الَّذي يُبقي من الآية كل ما زاد على المعنى المنسوخ وهو ما أردناه من المعنى الحقيقي وهو نفس المعنى الدَّائر بين التَّخصيص والنَّسخ.

وقد أثبتت مصادر العامَّة ما قاله عمر ابن الخطَّاب عن آية رجم الشَّيخ والشَّيخة (إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرَّجم أن يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ورجمنا، والَّذي نفسي بيده: لولا أن يقول النَّاس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ((الشَّيخ والشَّيخة فارجموهما ألبتّة)) فإنّا قد قرأناها"(1)، وما قالته عائشة بنت أبي بكر (أنّها قالت: " كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن)(2)، وما قاله غيرهما كأبي ابن كعب مَّا يبرهن على أنَّ العامَّة قالوا بنقص القرآن وتحريفه ولم يقله الإماميَّة.وفي دوران الأمر بين الحقيقة والتَّقييد فإنَّ المطلقات من الألفاظ إذا لم تؤثَّر فيها التَّقييدات أثرها كاقتضاء الحكمة بقاء المطلق على إطلاقه قبل مجيء القيد عليه وتأثيره فيه لغويَّاً وضعاً واستعمالاً.

وهكذا أمره في الشَّرع وإن قال عنه رهط من أعاظم الأصوليِّين كالشَّيخ الآخوند قدس سره والسيِّد الشَّاهرودي قدس سره والسيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره وغيرهم بأنَّ الواجب المطلق أمره نسبي.

ص: 329


1- الموطأ 2: 824/10.
2- الإتقان في علوم القرآن 3: 82، الدر المنثور 5: 180 عن أبي عبيدة في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه.

فإنَّا مع فرض كونه كذلك فلابدَّ من كون الإطلاق له وجوده الكامل في هذه النِّسبيَّة من الإطلاق، وهو صاحب المعنى الحقيقي.

وإنَّ في مقابله إن كان شيء من التَّقييد فلابدَّ من كونه في نفسه على خلاف الحقيقة وإرادة المطلق مقيَّداً قبل مرحلة التَّعوُّد عليه لابدَّ من حاجته بالتَّقييد إلى نصب القرينة إمَّا من الشَّرع أو اللُّغة المعتمدة من حالاتها كما في إطلاق لفظ الصَّلاة في إطلاقها اللُّغوي، كما إذا كانت بمعنى الدُّعاء لو قيِّدت بذات الأركان قبل التَّعارف عليها في هذا الأمر فإنَّها لغويَّاً غير محتاجة إلى القرينة حينئذ.

وكذلك إذا أطلقت ابتداءاً عند المتشرِّعة وأريد منها مطلق ذات الأركان أيضاً وبلا قيد ولا شرط، لكونها لا تسقط بحال في مطلق كيفيَّاتها المختلفة مع الأعذار المقبولة في الكيفيَّات الدَّانية غير العاديَّة فهي صاحبة المعنى الحقيقي وفي حالة وجود القيد الغير المؤثَّر لابدَّ من وجود القرينة الصَّارفة كزوال الشَّمس المقارن لقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ (لا صلاة إلا بطهور)(1).

لأنَّه لولا جعل الآية الشَّريفة كقرينة عند حصول زوال الشَّمس مثلاً لدخول وقت الظهر والعصر وهو قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ](2) لم يكن الوضوء واجباً لعدم مجيء وقتهما وهو زوال الشَّمس وسيأتي توضيح ذلك في المطلق والمقيَّد من الجزء الثَّاني إن شاء الله تعالى.

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والكناية فإنَّ الحقيقة لابدَّ أن تتقدَّم عليها لسبق الوضع لها ما لم يكن داع للعدم، بل لأنَّ الوضع ظاهر في المعنى الحقيقي دون غيره، ومن الغير الكناية وإن كانت مشابهة للحقيقة في عدم الحاجة إلى القرينة وإنَّ المجاز قرينته معاندة للمعنى الحقيقي إلاَّ أنَّ الكناية لا تعانده وإن كانت أخفى منه لكنَّها محسسة للذَّهن إلى

ص: 330


1- الوسائل 1: 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح1.
2- سورة الإسراء / آية 78.

حدِّ أن قيل بأنَّها أبلغ من التَّصريح ولا يتبادر إليها مثل الحقيقي لكون وضع الكناية ثانويَّاً وإشاريَّاً بدون تصريح، وعلى ذلك تباني العقلاء على الأخذ بالحقيقة حتَّى يثبت غيرها كابن أبي طالب بالنِّسبة إلى علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأبي عبد الله بالنِّسبة إلى الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وغيرهما، وقد يتجلَّى التَّعريف أكثر في الجمع بين الاسم وكنايته مثل الإمامين عَلَيْهِما السَّلاَمُ .

نعم قد يمتنع المعنى الحقيقي لخصوص المورد كقوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى](1) فإنَّه كناية لله تعالى عن القدرة والاستيلاء ويمتنع المعنى الحقيقي عنه للجسمانيَّة.وفي دوران الأمر بين الحقيقة والاستخدام بكون الحقيقة هي الَّتي وضعت في الأساس وصارت حقيقة حين استعمالها بالتَّعيين أو بكثرة الاستعمال حتَّى تعيَّنت كذلك وبجعل لفظة الاستخدام في وضعها الأساسي ليست كالحقيقة بل فيه معنى التَّجوز في هيئة إرجاع الضمير إلى مراجعه كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ](2)، فإنَّ أحقيَّة الرَّد مختَّصة في المطلَّقة الرَّجعيَّة لا مطلق المطلَّقات، إذ لابدَّ من إرجاع ضمير بعولتِّهنَّ إلى بعض مراجعه وهو خصوص المطلَّقات الرِّجعيَّة دون الجميع فهو استخدام بهذا المقدار.

وفي دوران الأمر بين الحقيقة والتَّضمين بكون الحقيقة هي الحرة بيد الواضع لها ومصطلحها وكون التَّضمين من التَّجوُّز في مادَّة اللَّفظ بأن يضمَّن معنى لغظ آخر كما في قوله تعالى [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ](3) فإنَّ مادَّة المخالفة تتعدَّى بنفسها لا بكلمة (عن) لكنَّها ضمِّنت معنى الإعراض المتعدِّي بكلمة (عن).

وأمَّا ملاحظة المقارنة بالدَّوران بما كان بين هذه الأمور العشرة ممَّا يصح عمَّا لا

ص: 331


1- ) سورة طه / آية 5.
2- سورة البقرة / آية 228.
3- سورة النور / آية 63.

يصح أو بعضها نفسها مع غض النَّظر عن الموضوع بالمعنى الحقيقي فقد مرَّ عن النَّقل من لفظ إلى لفظ آخر بعد هجران اللَّفظ الأوَّل.

لأنَّه بعد ذلك إذا أريد هذا الأوَّل فلابدَّ أن يكون مستعملاً في غير ما وضع له وتشخيصه في الإرادة محتاج إلى القرينة الصَّارفة كالمجاز بالمعنى الخاص، ومع تساوي اللَّفظين في الاعتبار الاستعمالي فإنَّه يكون مشتركاً لفظيَّاً ومع اختلافهما اللَّفظي واتِّفاقهما المعنوي يكون مشتركاً معنويَّاً، وقد أوضحناه.

وأما ما بين النَّسخ والتَّخصيص فقد مرَّ من التَّمثيل ما يُغنينا عن إعادته، وأشبه شيء بذلك ما بين النَّسخ والتَّقييد، لإمكان دخول النَّسخ في الاثنين، وسيتَّضح أكثر في الجزء الثَّاني، وقد يتفاوت التَّخصيص عن التَّقييد كالتَّفاوت بين العموم والإطلاق ممَّا يأتي ذكره هناك أيضاً.

وأمَّا ما بين الكناية والمجاز فإنَّ المجاز يعتبر فيه عدم قصد المعنى الحقيقي، بل قرينته معاندة للحقيقي كما سبق ذكره بخلاف الكناية إلاَّ أنَّ الكناية هي الثَّانويَّة بعد الحقيقة في وضعها وإنَّما نسبت إليها معوضِّة عنها، لتدل عليها بدلاً عنها دون أن تكون نافية عن الحقيقة أصالة وضعها.

وأمَّا ما بين المجاز والاشتراك فقد ذكروا بعض وجوه استحسانيَّة لما بينهما أشير إليها في متن الكفاية لا يخلو ذكرها من فائدة من بعض المصادر الأخرى.

منها ما ذكروه في ترجيح المجاز على الاشتراك، وهي أمور نختار منها:

أحدها: الأكثريَّة في مقام الاستعمال، فإنَّ المجاز شائع رائج أكثر من الاشتراك.

ثانيها: الأوسعيَّة، إذ التَّجوُّز قابل للإعمال بإرادة المتكلِّم كلَّما أراد، بخلاف المشترك فإنَّه محتاج إلى إحراز الوضع.

ثالثها: الأقيديَّة فإن المجاز لا توقف فيه أبداً لتعيُّن المعنى بالقرينة، بخلاف الاشتراكفإنَّه يؤدِّي إلى الإجمال والتَّوقُّف.

ص: 332

لكن رد هذا التَّرجيح من قبل السَّيدين المرتضى قدس سره وابن زهرة قدس سره من جهة أبعديَّة الاشتراك عن الخطأ، إذ مع خفاء القرينة يتوقَّف مع الاشتراك ويحمل على الحقيقة مع احتمال المجاز مع إمكان كونه غير مراد واقعاً.

لكن يمكن القول مع الالتزام ببقاء الاشتراك بالرَّد له، لأنَّه على تعدُّد معانيه بحيث أنَّ كل معنى منها هو المراد دون غيره وباحتياجه إلى إفراز كل معنى منها عن الأخر بقرينة تعيين المراد عمَّا يراد من المعاني الأخر، فهو الَّذي يدعو إلى التَّحيُّر بينما المجاز وإن خالف الحقيقة بقرينته الصَّارفة عنها، فإنَّه لا يحمل معها إلاَّ معنى واحداً.

وقد مرَّت الإشارة إلى مثل هذا الجواب منَّا عند ذكر ما بين المجاز والاشتراك سابقاً فهو مع كون هذه الأمور استحسانيَّة لا داعي إلى الإطالة فيها.

ومن الأمثلة الَّتي ذكروها للاستثمار من البحث في مقام هذه المقارنة هو قوله تعالى [وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً](1)، حيث لو احتمل كون النِّكاح حقيقة في الوطيء مجازاً في مجرَّد العقد وصار النِّكاح مشتركاً بين الاثنين.

فإنَّ التَّخريجة الفقهيَّة - الَّتي لابدَّ أن تكون متقنة على المبنى الأصولي المحقَّق الَّذي لابدَّ أن يجلب من وراءه رضا الشَّارع والابتعاد عن إفساد المجتمع مع التَّوصيات الكثيرة بالاحتياط في الفروج والدِّماء واللُّحوم والأموال -

لابدَّ أن يكون مجرَّد العقد فيها هو النِّكاح المنهي عنه من قبل الابن تجاه أبيه العاقد على الزَّوجة، حتَّى لو كان هو المجاز دون الحقيقة، لتقدُّم المجاز على الاشتراك على ما ذكرناه مؤكَّداً لما مرَّ ذكره سابقاً عمَّا بين المجاز والاشتراك.

وبذلك أفتى المفتون صيانة للأنساب ولو بمستوى كون العلاقة مجرَّد العقد فضلاً عمَّا لو كانت المرأة موطوءة من قبل الأب.

ص: 333


1- سورة النساء / آية 22.

المبحث الثَّامن والعشرون

الأصول اللَّفظيَّة

ممَّا يُلحق بمحث تعارض الأحوال في التَّسلسل الموضوعي هو الكلام عن الأصول اللَّفظيَّة، وهو وإن كان يشبه المبحث السَّابق إلاَّ أنَّه ممَّا لم ينتف نفعه بنحو آخر، لكون نفع المبحث الأوَّل عن طريق اللَّم وهو كونه من العِلَّة إلى المعلول وهذا المبحث عن طريق الإن أي من المعلول إلى العلَّة، ولذا فنقول:

إنَّ من محامد ما سعى له المهمُّون من العقلاء من علماء المعقول المنطقي العام خدمة لجميع العلوم لتصحيح أفكارهم بواسطة أهم وسائل الإيضاح وهي الألفاظ ومن كافَّة اللُّغات وأهمِّها فيما نبتغيه هنا لغتنا العربيَّة العريقة للتَّعريف بواسطتها بقواعدها العامَّة ومن بعدهمبالتَّركيز على المنطق الخاص الَّذي سمَّاه الأصوليُّون كمن سبقنا - وفي خصوص لغتنا العربيَّة المعهودة لبث قواعدها الأصوليَّة الَّتي تناولتها أيدي اجتهاداتهم الكريمة لخدمة الفقه الشَّريف لتسهيل أمور الاجتهاد الفقهي -

هو الوصول إلى ما سمَّوه بالأصول وهي في علم الأصول منقسمة إلى قسمين:

ثانيهما: ما يُسمَّى بالأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل وهو ما لا علاقة لنا به الآن لأنَّ موقعه في آخر المباحث الأصوليَّة الآتية إن شاء الله تعالى.

والأوَّل منهما: وهو ما يناسب مقامنا الآن، حيث الحاجة الأصوليَّة إلى استيضاح ما استنتجه الأصوليُّون ومن قبلهم المنطقيُّون الَّذين أتقنوا أدبيَّاتهم العربيَّة العامَّة حتَّى أوصل الأصوليُّون بذل جهودهم العقلائيَّة إلى نجاحهم في محاولة استخلاص قواعد لفظيَّة سميِّت بالأصول اللَّفظيَّة ليرجع إليها عند ورود الشُّكوك والشُّبهات في بعض ما ورد من ألفاظ آيات الأحكام ورواياتها الَّتي لا تنفك يوماً عن علاقتها باللُّغة العربيَّة وأدبيَّاتها ممَّا تسالموا عليه منها بعد ثبوت الوضع وتشخيصه من قبل الواضع، وهي الَّتي

ص: 334

أطلق عليها أيضاً بالأصالات، وقد مرَّت مضامينها في بحث أحوال التَّعارض.

وللدخول في صميم موضوعنا الآن نحتاج إلى تمهيد شيء وهو أنَّه:

بعد التَّنويه عن هذه الأصالات في إنَّ مورد الاستفادة منها عند حصول الشَّك لابدَّ قبل ذلك من بيان أنَّ الشَّك في المقام على نحوين كذلك:

أولهما: الشَّك في وضع اللَّفظ لمعنى من المعاني فقد كان البحث ممَّا قبل السَّابق معقوداً لأجله وهو علامات الحقيقة، لأنَّه عن طريق بيانه كان حصول ما يفيد ولو على نحو الإجمال وهو امتياز الحقيقة عن المجاز.

وبذلك كانت الحقيقة هي ذات اللَّفظ الموضوع وكان المجاز هو من غير الموضوع مع بقيَّة الخمسة بل العشرة المذكورة في البحث السَّابق إلاَّ إذا انقلب بعض ما يصلح للانقلاب إلى الحقيقة، وقد أعان على هذا الكلام ما كان عن (تعارض الأحوال) الماضي.

وثانيهما: الشَّك في المراد منه بعد فرض العلم بوضعه كالَّذي يسمع كلمة (رأيت أسداً) من متكلِّم ولم يُعلم بالمراد منه أنَّه المعنى الحقيقي الموضوع أو المجازي مع تسليم وضع لفظ الأسد أنَّه موضوع حقَّاً للحيوان المفترس وغير موضوع في أساسه للرَّجل الشُّجاع، وقد أعان على فهم هذا الثَّاني أيضاً ما مرَّ من بحث (تعارض الأحوال).

وبعد هذا التَّمهيد لبيان مورد حاجة البحث نقول أنَّ الأصالات هي كما يلي:

أصالة الحقيقة.

وموردها عند الرُّجوع إليها هو لإثبات مراد المتكِّلم حين الشَّك في هذا المراد بعد فرض العلم بوضعه احتجاجاً بهذه الأصالة حين الاستعمال بأنَّه كان على نحو الحقيقة أم على نحو المجاز.

وربَّما كان سبب نشوء الحاجة إلى اللُّجوء إلى أصالة هذه الأصالة والاستفادة منها

ص: 335

هو الاشتهار بين السنَّة أهل التَّحقيق من العلماء حتَّى عُدَّ عندهم ما قالوه بأنَّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز كقاعدة. وبعد تأكُّد الفرق هنا بين الاستعمال وإرادة خصوصه وتبيُّن إرادة الحقيقة دون المجاز عند الحيرة في أمر المراد بين الاستعمالين لا بعد تسليم كون اللَّفظ موضوعاً وهو العائد إلى بحث علامات الحقيقة الماضي يتبيَّن إمكان رد العلماء السَّابقين في طريقتهم لإثبات وضع اللَّفظ بمجرَّد وجدان استعماله في ألسنة العرب كما عرف ذلك عن علم الهدى قدس سره وابن زهرة أيضاً قدس سره، بينما إنَّ الاستعمال أعم من الوضع وعدمه.

ولذا كان الحق في الرُّجوع إلى هذه الأصالة وغيرها ممَّا يصح الرُّجوع إليه هو حال الحيرة في المراد كما مرَّ التَّنويه عليه دون الحيرة في الوضع.

وبهذا تتم الحجَّة فيه من المتكلِّم على السَّامع، وتتم كذلك للسَّامع على المتكلِّم إذا استشعر الخطأ وأراد تعديل كلامه، بل لا يصح من السَّامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة بأن يعتذر للمتكلِّم بقوله (لعلَّك أردَّت المعنى المجازي) كما لا يصح الاعتذار من المتكلِّم بأن يقول للسَّامع (إنِّي أردَّت المعنى المجازي) حينما تمَّت الحيرة حين الاستعمال بعد تأكُّد الوضع اعتماداً على أصالة الحقيقة.وبهذا يتم أيضاً اتِّضاح الفرق بين علامات الحقيقة الَّتي مرَّت وبين بحث الأصالات.

أصالة عدم النَّقل

إذا علم لغة بوضع لفظ أو ألفاظ لمعنى أو أكثر ثمَّ شُكَّ في نقل أحد هذه الألفاظ أو الأكثر إلى معنى آخر من غير ما وضع له حكم سابقاً بعدم النَّقل اعتماداً على الأصل السَّابق وفراراً من تأسيس التَّزاحم للحقيقة المشتركة في لفظ واحد لأكثر من معنى على أساس من الاحتمال لما مرَّ ذكره من أنَّ النَّقل لا يخضع للقرينة كالمجاز.

ولذا مرَّ منَّا في البحث السَّابق ما يتعلَّق به وبالاشتراك وإن كان للشَّارع المقدَّس

ص: 336

غرض شرعي من هذه الألفاظ فهو الأبعد بما يكون عن إيجاد ما يدعوا إلى التَّزاحم أو تشتيت المعنى كما سيأتي في البحث عن الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرِّعيَّة الأتي بيانه قريباً جدَّاً.

وبالخلاصة نقول إنَّ مقتضى أصالة عدم وضع جديد وأصالة عدم هجر المعنى الأوَّل الموضوع له اللَّفظ هو عدم النَّقل.

أصالة عدم الاشتراك

وهي أصالة ترعى شؤون المعنى الموضوع الواحد على ما عهد أمره بين العقلاء اللُّغويِّين وأرباب علم البلاغة والمنطق والأصول، وقد مرَّ شيء من الكلام عن عدم قبول أن يحمل اللَّفظ في آن واحد أكثر من معنى وفي أمر تحقيق المراد من الاثنين أو الأكثر ما يُسبِّب ضرراً أو أضراراً إلاَّ ما ندر في باب الامتحان أو التَّعمية لبعض الأغراض العقلائيَّة أو التَّقيَّة إلاَّ أنَّ هذه الأمور لا تخل من حيث المبدأ بالأصالة هذه حينما يتميَّز الوضع علماً به ثمَّ يشك في حدوث معنى آخر - كما مرَّ في أصالة عدم النَّقل - موضوع له اللَّفظ منضمَّاً إلى المعنى الأوَّل فلابدَّ أن يحكم له بعدم الاشتراك للخلاص من مشاكله.

أصالة العموم

وموردها ما إذا ورد لفظ عام وشكَّ في إرادة العموم منه أو الخصوص فيقال حينئذ بأَّنَّ الأصل هو العموم فيكون حجَّة في العموم على المتكلِّم أو السَّامع، وقد مرَّ التَّمثيل لهذا الأمر في بحث التَّعارض ولابدَّ من رفض احتمال وجود المخصِّص وإن شاع ما قيل (ما من عام إلاَّ وقد خصِّص) لقلَّة الثَّابت من هذه الأمور ولم تكن قرينة الثَّابتات احتماليَّة الشَّك لأنَّ الأصالة تأبى ذلك، وسيجيء بيان ذلك في الجزء الثَّاني إن شاء الله.

ص: 337

أصالة الإطلاق

وموردها ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات وقيود يمكن إرادة بعضها منه وشكَّ في إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القيد فيُقال أنَّ الأصل هو الإطلاق فيكون هذا المرجع وهو أصل الإطلاق حجَّة على السَّامع والمتكلِّم وقد مرَّ التَّمثيل له في بحث التَّعارض، ونضيف إليه قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا](1).

فلو شكَّ مثلاً في البيع أنَّه هل يُشترط في صحَّته أن يُنشأ له بألفاظ عربيَّة فصيحة في الإيجاب والقبول؟

فإنَّ علينا أن نتمسَّك بأصالة إطلاق البيع في الآية لنفي اعتبار هذا الشَّرط ولو على النَّحو الاحتمالي إذا لم يتأكَّد النَّص المقيِّد الآخر من الكتاب أو السنَّة.

نعم قد يختلف هذا الأمر عن عقد النِّكاح المحتاج إلى المبرز العربي لوجود ما يدعو له من المبنى، وعلى هذا مبنى العقلاء عند طرو الشَّك، وقال بهذا الشَّيخ الآخوند قدس سره ومن تبعهمن الأعلام.

ولولا التَّمسُّك بأصالة الإطلاق هذه لسقط التَّمسُّك به أصلاً لمن لم يُشافههم المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما أكثرهم وإلى هذا الحين، بل حتَّى لبعض من شافههم عَلَيْهِم السَّلاَمُأيضاً إلاَّ نادراً.

أقول: والنَّادر ما أشرت إليه حول صيغة النِّكاح المحتاج إليها حسبما عرف من النُّصوص.

أصالة عدم التَّقدير

وهي مثل ما مرَّ من أصالة عدم النَّقل وأصالة عدم الاشتراك وموردها ما إذا

ص: 338


1- سورة البقرة / آية 275.

احتمل معنى ثان موضوع له اللَّفظ فإن كان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنى الأوَّل وهو المسمَّى بالمنقول فالأصل (عدم النَّقل) وإن كان مع عدم هذا الغرض وهو المسمَّى بالمشترك فالأصل عدم الاشتراك وهكذا الأمر نفسه في أصالة عدم التَّقدير، وقد مرَّ التَّمثيل له إلاَّ ما خرج بالدَّليل لكن لا أصالة فيه كهذه الأصالة.

أصالة الظهور

وموردها ما إذا كان اللَّفظ ظاهراً في معنى خاص وإن كان عامَّاً من حيثيَّة آتية لا على وجه النَّص فيه الَّذي لا يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل فيه إرادة خلاف الظاهر أيضاً وهو ما يتبيَّن منه كون الظهور في الأصالة أعم من هذا الثَّاني المقابل للنَّص الخاص، فإنَّ هذه الأصالة كأصالة الحقيقة حين طرو الشَّك مع احتمال إرادة خلاف الظاهر فإنَّ الأصل أن يحمل حينه على الظاهر الَّذي لا يعانده النَّص إلاَّ ما صرِّح به.

وعلى فرض وجود مثل هذا النَّوع من الظهور العام فلا مانع من أن يشمل جميع الأصالات الماضية، وعليه لو كان ظاهراً ولو جدلاً في المجاز واحتمل إرادة الحقيقة لصحَّ العكس وهو كون الأصل من اللَّفظ المجاز دون أن تجري أصالة الحقيقة، وكذا البواقي في صحَّة افتراض الحالة العكسيَّة.

بقي الكلام عن مثابة حجيَّة الأصول اللَّفظيَّة للبناء عليها في مرحلة التَّحيُّر المذكور فلا يمكن في المقام توسعة التَّفصيل في أمرها ما دام بحث الحجَّة الآتي أمامنا لمعالجة هذا الأمر وغيره من الحجج في سوانح الكلام الخاصَّة.

فيكفينا الآن تلخيصها في مورد الحاجة المستعجلة بأنَّ المدرك لها هو بناء العقلاء الممضى له من قبل الشَّارع المقدَّس لعنايته بما يرفع به كل إشكال أمام ما هو الأقوى ومن بين العقلاء أهل الحل والعقد الأدبي المفتخر بأربابه في تسالمهم على القواعد المهمَّة وعنايته بعدم الرِّضا منه باحتمال الغفلة منهم أو الخطأ أو الهزل أو إرادة الإهمال والإجمال، والتَّفصيل في ذلك آت في مواقع الحجَّة بإذن الله تعالى.

ص: 339

المبحث التَّاسع والعشرون

الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرعيَّة في نظرتهما الأولى

بعد أن استقرَّ الكلام فيما بينهم على أنَّ الحقيقة في الكلام العربي هي اللَّفظ الموضوع دون غيره من المعاني اللَّفظيَّة الخمسة الَّتي ذكرت في الكفاية وغيرها وهي:

التَّجوُّز والاشتراك والتَّخصيص والنَّقل والإضمار

لخضوع هذه الخمسة في أمر اتِّضاحها إلى مزيد من العناية بواسطة القرينة ونحوها مقاليَّة وغيرها، وعلى الأخص لو كانت الحقيقة مستعملة في لفظها الموضوع دون أن تهمل بل حتَّى الخمسة الأخرى الَّتي أضيفت وهي النَّسخ والتَّقييد والكناية والاستخدام والتَّضمين.

فإنَّ هذه الحقيقة لموضوعيَّتها واستعمالها مقدَّمة على الجميع لبناء العقلاء على الأخذ بها بيسر حتَّى يثبت غيرها وإن كان هذا التَّقدم أو فقل التَّرجح من جهة الظهور حيث يكوناللَّفظ ظاهراً في المعنى الحقيقي كما هو الغالب في زماننا ومحيطنا دونما هو الأعمق في غيرها ولا ما يختلف عن حالة الظهور هذه ممَّا في عدم أو قلَّة استعمال الحقيقة بسبب هجرانها أو بدايته بسبب النَّقل أو ما مرَّ ذكره من حالة ما يتحقَّق به الاشتراك اللَّفظي بين المعنى الحقيقي وبين معنى آخر معادل له مخل بظهور الأوَّل عليه في الاستعمال أو غير ذلك من مثل الكناية.

فإنَّ المشهور وإن قالوا بأنَّ الكناية والتَّضمين والتَّخصيص من المجاز لما مرَّ ذكره من تبرير تقدُّم أو ترجيح الحقيقة عليها وإن لم يصل أمر هذه الثَّلاثة في ظهور كل منها بدقَّة مثل المجاز الخاص في حاجته إلى القرينة الصَّارفة لإفهام معناه، لأنَّ هذه الثَّلاثة صارت في مقابل هذا المجاز لشيوعها حتَّى في مقابل مطلق المجاز الشَّامل لكل ما هو غير حقيقي لإمكان القول باستثناء هذه الثَّلاثة من بين جميع العشرة عند ثبوت الشيوع لخصوصها

ص: 340

دون الباقي.

وعليه فالحقيقة الَّتي صفا أمرها - سواء الأساسيَّة الموضوعة والمستعملة نعييناً أو تعيُّناً وما تعيَّنت بعد التَّردد في المراد منها عند الرجوع إلى أصالة الحقيقة والتَّي انتقلت إليه من المعنى الجديد بعد هجران المعنى الأوَّل وحالة التَّخصيص بعد النَّسخ لكون الآية أو الرِّواية النَّاسخة لم تحمل إلاَّ المعنى الواحد ظاهراً بما لم يكن فيه نسخ تمام مضامين المنسوخ وبالخصوص الأكثر الآيات القرآنيَّة المنسوخة تجنُّباً عن نسخ التِّلاوة، وغير ذلك ممَّا يمكن أن تتبلور منه أمور الحقيقة بمعنى من المعاني الأخرى الممكنة أدبيَّاً -

هي الَّتي أتى الآن دور الكلام فيها في أنَّها حينما جاءت نصوصها وظواهر ألفاظها من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم بواسطة العترة المطهَّرة وما ألحق بها من النُّصوص والظواهر الأخرى التَّابعة وهي ذات المعارف المختلفة والَّتي أهمُّها بعد العقائد الحقَّة أحكام الشَّريعة من الطَّهارة إلى الدِّيات تسمَّى بآيات الأحكام ورواياتها.

فبعد تحقُّق كون هذه الحقائق جاءت موضوعة ومستعملة وعلى طبق الكلام العربي القديم وهو ما قبل الإسلام العزيز فإنَّ الكلام حولها يتم بما يلي وهو أنَّ الأقوال المطروحة في البحث عنها ثلاثة:

الأوَّل: ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة.

الثَّاني عدم ثبوتها وإنَّ الاستعمال كان مجازاً.

الثَّالث: إنَّ هذه الماهيَّات المخترعة لم يستعمل الشَّارع المقدَّس اللَّفظ فيها بما هي هي، وإنَّما كان استعماله فيها بعنوان أنَّها أحد المصاديق للمعنى الَّذي وضع له اللَّفظ في اللُّغة وهو ما يدَّعيه القاضي الباقلاني، حيث جعل الصَّلاة موضوعة للعطف أو الدُّعاء واستعملت في هذه الماهيَّة المخترعة لأنَّها مصداق للدُّعاء أو للعطف.

ولغرض التَّصفيَّة وتوحيد الهدف نقول:

لابدَّ من أن نفترض لها أنَّها إمَّا أن يكون أمرها ناتجاً عن خصوص الماهيَّات

ص: 341

المخترعة أو الأعم منها فهذا ما لا يمكن ضبطه في الألفاظ المستعملة في لسان الشَّارع المقدَّس ممَّا رتِّب عليه أحكامه إلاَّ ببيان أقسام ضبطها المحقِّقون والمتتبِّعون في التَّأريخ اللُّغوي والأدبي العام والأصولي والفقهي، وهي ثلاثة:

أوَّلها: ما يسمَّى بالموضوعات الخارجيَّة كتكوينَّاتها من الجواهر والأعراض ومنها الدَّم والميتة والعذرة وأمثال هذه الألفاظ فإنَّه حسب المتابعة لا إشكال في أنَّها مستعملة في خصوص معانيها اللُّغويَّة وليس للشَّارع المقدَّس حقيقة شرعيَّة فيها قطعاً.

ثانيها: ما يُسمَّى بالاعتباريَّات العقلائيَّة وهي الَّتي وقع الإمضاء لها من لسان الشَّارع كألفاظ المعاملات مثل البيع والصُّلح والإجارة وأمثالها، والظاهر أنَّ هذه لا حقيقة شرعيَّة لها أيضاً ما لم يكن لإمضاء الشَّارع لهذه الألفاظ بعض العنايات الملحقة لها به، فإنَّ الشَّارع وإن استعملها بما لها من المعنى في لسان اللُّغة والعرف لكن إن اعتبر فيها شروطاً وموانع ولم يخترع لها معاني استعمل اللَّفظ فيها فهي خارجة عن محل النِّزاع أيضاً، إلاَّ أنَّ صاحب القوانين قدس سره أدخلها فيه، ولعلَّه لأمر يتَّضح سببه الآن.وهو على فرض أنَّ الشَّارع مع اعتباره شروطاً فيها أو موانع - وادَّعى عنه أنَّه اخترع لها معاني ولم يثبت لذلك مصداق خارجي بسبب انسداد باب العلم ولو في مثل هذه القضايا فقط أو بعد استفراغ الوسع في التَّحقيق والتَّنقيب إلى حين كسب العذر عن ذلك -

فلابدَّ من إحالة ذلك إلى ثوابت اللُّغة والأعراف المعقولة دون الأخذ بما تفضَّل به صاحب القوانين قدس سره ، لأنَّه ليس بمقدوره أن يجعل هذه النَّاحية من موارد النِّزاع قبل أن تثبت علاقة الشَّرع بتلك المعاني، وهي ممَّا انتفى النِّزاع في أمرها لكن يمكن الأخذ بما قال نظريَّاً إلى حين ثبوت المصداق الخارجي.

ثالثها: ما يُسمَّى بالماهيَّات المخترعة كالصَّلاة والصَّوم والحج والزَّكاة ونحو ذلك فإنَّها لم تكن في السَّابق مألوفة ولو في خصوص كيفيَّاتها الجديدة بما زاد كثيراً على

ص: 342

المشتركات مع قلَّتها قبل الإسلام ونقلت ألفاظها بجزم من معانيها اللُّغويَّة إلى هذه المعاني الشَّرعيَّة.

وقد زاد الشَّارع في بعض الأمور الاعتباريَّة الممضى لها منه قيوداً أو حدوداً كما أشرنا عمَّا في القسم الثَّاني آنف الذِّكر.

كالكر في ضبط مقاديره وزناً وأشباراً ممَّا لا يمكن معرفته إلاَّ عن طريق الشَّرع وإن اشترك الشَّرع مع قديم اللُّغة من بعض الجهات.

والسَّفر في تعيين مسافة القصر والتَّمام في الصَّلاة ومجال وجوب الصِّيام أو صحَّته من عدمهما وما يتعلَّق بمحل التَّرخُّص ونحو ذلك ممَّا لا يمكن معرفته إلاَّ عن طريقه وإن حصل اشتراك أيضاً في الجملة.

والبيع في اشتراط الشَّرع استعمال الصِّيغة الفصحى من عدمها وقيود الخيارات وقبول اللُّغات الأخرى من عدمه في العقد ممَّا لم يعرف إلاَّ منه ونحو ذلك وإن اشتركت اللُّغة القديمة معه في بعض المصاديق.

والإجارة في تفصيل الشَّرع ما يصح منها عمَّا لا يصح ممَّا لم يعرف إلاَّ منه وإن اشتركت اللُّغة القديمة معه في بعض المصاديق.

إلى غير ذلك من الاعتباريَّات الأخرى إذا أمضيت وأضيف إلى ذلك قيود وموانع واخترع الشَّرع لها معاني لم تألفها اللُّغة والعُرف مهما توسَّعت طاقاتها.

فإنَّ هذه المخترعة وتوابعها هي محل النِّزاع دون القسم الأوَّل، فإنَّ المرجع فيه اللُّغة والعرف، ودون القسم الثَّاني إذا لم تتأكَّد المصاديق الخارجيَّة ممَّا للشَّرع علاقة تامَّة فيه، وبذلك يمكن الانصياع لكلام ومقام المحقِّق القمِّي قدس سره هناك على تقدير تحقُّق المصاديق دون ثبوت عدمه.

فهي هنا وإن كانت بدون شك مخترعة من قبل الشَّارع واستعملت ألفاظها من قبله من الكتاب والسنَّة إلاَّ أنَّها مع علاقتها باللُّغة القديمة في الجملة لا يدرى في استعماله لها

ص: 343

أنَّه كان بنحو الحقيقة أم المجاز أم ما توسَّط بينهما.

وفائدة ذلك تبرز أكثر لو تجرَّدت ألفاظها من القرائن لتصح مصداقيَّة الحيرة الدَّاعية إلى حسم النِّزاع في المقام بما يأتي.

وبعبارة أخرى أنَّهم اختلفوا في المقام من جهتين:الأولى: وهي هل أنَّ هذه الألفاظ من ذوات المعاني المستحدثة بحيث تُعد عائدة إلى خصوص الشَّريعة المقدَّسة الحاليَّة، وعلى الأخص لو حرَّك الأذهان إلى هذا المعنى أمثال قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)(1) وقوله (خذوا عنِّي مناسككم)(2)، بحيث لم يكن أي علاقة مع قديم اللُّغة أو أنَّها كانت في جميع الشَّرائع الإلهيَّة السَّابقة لها مع بعض أو كثير من خصوصيَّاتها في الجملة.

فإنَّ المتتبِّع الحاذق لابدَّ أن يظهر له من خلال جملة من الآيات والرِّوايات حول الصَّلاة كقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا](3) وغيره، وحول الصَّوم كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](4)4) وغيره، وحول الحج كقوله تعالى مخاطباً إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً](5)5)، وحول الزَّكاة كقوله تعالى على لسان نبي الله يحيى عَلَيْهِ السَّلاَمُ [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا](6) وغير ذلك من الواردات الكثيرة عن

ص: 344


1- عوالي اللئالي: ج1، ص197، ذيل حديث 8، صحيح البخاري1: 162 كتاب الصلاة باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، تفسير الرازي 2/164.
2- السنن الكبرى للبيهقي 5: 125 باب الايضاع في وادي محسر.
3- سورة النساء / آية 103.
4- 4) سورة البقرة / آية 183.
5- سورة الحج / آية 27.
6- سورة مريم / آية 31.

حالات السَّابقين من الرُّسل عن شرائعهم لهم ولشعوبهم هو المعني من طرفي السؤال، وأنَّ شريعتنا الخاتمة إنَّما أكملتها لا أنَّها أوجدت معاني لم يكن الأنبياء والرُّسل الماضون يعرفونها كما أكملت جميع المعارف السَّماويَّة السَّابقة الأخرى كقوله تعالى في بيعة الغدير لأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](1) وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)(2) وغير ذلك.

وأمَّا أقوال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الَّتي مرَّت حول طرف السُّؤال الأوَّل فلم تعدم إفادتها عن هذا الطَّرف الثَّاني المختار، لوجود معانيه كاملة أيضاً ولو بمعنى الحقيقة الثَّانويَّة الَّتي لم تعدم العلاقة فيما استحدث القديم بالنَّحو الإجمالي على ما سيجيء قريباً، وأنَّ الحقيقة الشَّرعيَّة في التَّعيين دون التَّعيُّن بالمعنى الَّذي يخالف معنى هذا الطرف الثَّاني فهو مستبعد وإلا لأشتهر وذاع وبالأخص أنَّ أمور الشَّريعة المناطة به عامَّة البلوى.

الجهة الثَّانية: وهي الاستفهام عن أنَّ هذه الألفاظ في معانيها مسبوقة بالعدم قبل شرعنا وإنَّما أوجدها شرعنا بحيث لا علاقة للغة العامَّة به بأي معنى أو أنَّها كانت مستعملة في معان لغويَّة واستعمال الشَّرع لها فيما يريد كان على نحو استعمال الكلِّي في الفرد بمعنى كون الصَّلاة أنَّها من الدُّعاء أو العطف والصوم من الإمساك ونحوه في اللُّغة والحج من القصدوالزَّكاة من التَّطهير.

وحيث أنَّ هذه الألفاظ ومعانيها استعملها الشَّارع فيها لا على أن يكون نحو وضع حادث في الإسلام تخصيصاً أو تخصُّصاً أنَّ فيها قولين الحق فيهما هو الثَّاني للأصالة عند كلِّ شك وإن صدر من النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعض ما يتصوَّر منه الخلاف لإجابتنا عنه بما يكفي سابقاً، ولأنَّه لو كان شيء غيره لظهر وبان شائعاً لاسيَّما في مثل الأمور عامَّة البلوى.

ثمَّ نبقى مع هذا الثَّاني المرتبط في الجملة باللُّغويَّات، ومن اللُّغويَّات

ص: 345


1- سورة المائدة / آية 3.
2- مجمع البيان، ج1، ص 333.

ما حمل بعض

المعاني الشَّرعيَّة القديمة وإن لم تف بتمام الغرض الكامل لشريعتنا فالمرجع هي الحقائق المتشرعيَّة، لعدم ثبوت تمام الحقيقة في زمن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ورسوخ معانيها بدأ من زمن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ والأئمَّة من بعده عَلَيْهِم السَّلاَمُ وهم أعاظم المتشرِّعة ثمَّ الأقرب فالأقرب تقوى وإيماناً وحرصاً على ضبط الشَّريعة من بقيَّة الطَّبقات.

وبعد ثبوت ما استوفيناه فلم يلزم أن تراجع اللُّغة في عمومها لو طرأت بعض الشكوك وإنَّما يجب الفحص عن ما يرفع الشَّك مع استفراغ الوسع من آثار المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ والأدلَّة الصَّحيحة المعروفة عنهم إلاَّ مع انسداد باب العلم المقتضي لمراجعتها.

المبحث الثلاثون

الصَّحيح والأعم من الصَّحيح والفاسد

تبعيَّة هذا البحث

من البحوث التَّابعة للبحث السَّابق وهو - (الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرِّعيَّة) - بحث الصَّحيح والأعم من الصَّحيح والفاسد.

ويمكن أن يكون سبب هذه التَّبعيَّة هو أنَّ البحث تبرز منه ناحية الأحكام الشَّرعيَّة التَّكليفيَّة، وأنَّ هذا الصَّحيح والأعم تبرز فيه ناحية الأحكام الوضعيَّة، وغير خفي على الفطن ناحية الارتباط بين قسمي الأحكام هذا ممَّا مرَّ ذكره أو بعضه في فهرست هذه البحوث وما بعدها.

وإن قيل بعدم ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة في نتيجة البحث الماضي في بداية التَّشريع الأوَّل من أيّام النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الأولى للدَّعوة وإن صرَّح عن طريق الوحي ومن السنَّة الشَّريفة بأمور العبادات وما يتبعها وبالمعاملات الَّتي جعل لها شروطاً وموانع ومعاني تحجيميَّة لأسماءها على النَّاحية المجازيَّة مع القرينة الصَّارفة عن المعاني اللُّغويَّة القديمة،

ص: 346

لئلاَّ يلبتس الأمر مع هذه التَّشريعات الجديدة بدون القرينة عنها وإن حملت بعضاً من المعاني الجزئيَّة العامَّة المشاركة لهذه الشَّرعيَّات فلا فائدة في هذه التَّبعيَّة إذن.

فإنَّا نقول: بأنَّ عدم ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة وإن كان صحيحاً - بمعنى ما اخترناه ممَّا مرَّ ذكره في المبحث الماضي - ولكن البقاء على وزن المجازيَّة العامَّة المذكورة كان محدوداً في تلك البدايات، وهي أيَّام عدم التَّعوُّد على المعاني الجديدة المحوج - إلى صحَّة صدقها كحقائق في أداء ما هو المكلَّف به النَّاس - وجود القرينة الصَّارفة عن المعنى اللُّغوي المختصر.

لأنَّ هذا اللُّغوي كان هو الحقيقة في بابه بالتَّبادر وعدم صحَّة السَّلب ونحوهما، ولكن متى ما حصل التَّعود على هذا الجديد بكثرة الاستعمال والممارسة وغلب المعنى المجازي الجديد على جانب الحقيقة الماضية إلى حدِّ أن هجرت واستغنى الوضع الجديد بالعرف الخاص عن القرينة حتَّى جاءت الحقيقة الجديدة بعد عهد تلك البدايات وإن سميِّت بالحقيقة المتشرعيَّة في مثل عهد أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما بعده من أزمنة التَّعوُّد.

فلا ضرر في هذه المتابعة ما دام المعوِّض حقيقة أيضاً وإن كان من وضع جامع للحقيقة وشيء من المجاز وأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو نفس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخليفته والمكمِّل لنهضته.

هذا ويمكن اعتبار ما هو الأوجه في التَّبعيَّة للبحث السَّابق هو كون السَّابق توصلنا فيه إلى الأعم من الحقيقة الشَّرعيَّة لوحدها والمجاز لوحده وهي الحقيقة المتشرعيَّة كما ذكرنا، حيث جاءت بالمعاني الجديدة مع ارتباطها إجمالاً بشيء من العلاقة اللُّغويَّة كرابطة الصَّلاة ذات الأركان المعروفة الَّتي لا تشبه ما في القديم إلاَّ بالقنوت الَّذي فيها لأنَّها في اللُّغة كانت بمعنى صرف الدُّعاء ونحوه من الأدعيَّة في الرُّكوع والسُّجود والتَّشهُّد وهكذا من الرَّوابط الأخرى الموجودة في بقيَّة العبادات وغيرها ممَّا مرَّ ذكره.

وهذا البحث الحالي مرتبط في بعض جوانب بحثه على ما سيجيء الآن وبما هو

ص: 347

الأعم من الصَّحيح والفاسد، لكنَّه موقوف على ما سيؤول إليه قرارنا وهو الرِّضا بهذا الأعم لا خصوص الحقيقة ولا خصوص المجاز وعند ذاك سيتم التَّطابق في التَّبعيَّة.

إلاَّ على أساس ما قاله البعض من أهل العلم من أنَّ البحث السَّابق لا ثمرة فيه حينما تكون النَّتيجة هي عدم ثبوت الحقيقة الشَّرعيَّة.

بينما بحثنا الآن له علاقة بالثَّمرة العمليَّة على ما سيجيء بيانه قريباً فلا فائدة في هذه التَّبعيَّة.

ولكن يمكن الرَّد بأنَّ الفائدة ليست بمنعدمة تماماً ولو بالاستقرار في النَّتيجة على الاقتصار على الحقيقة المتشرعيَّة، وهي الحقيقة المعوَّضة أو المصطلحة حينما تراد ولو من كثرة الاستعمال الكاشفة عن الوضع لها، ولو لم تكن هي الأصيلة في الوضع على ما قد يُقال.

فإنَّه يُجاب عنه بأنَّ الأصيلة لم يبرز لها وجود أصلاً على ما أسلفناه، إضافة إلى أنَّ النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم لم ينف الاستقرار على الثَّانية وتقرير النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم حجَّة على ما سوف يتَّضح بيانه في الكلام عن بحث الحجَّة.

وبهذا تصح تبعيَّة هذا الموضوع للموضوع السَّابق ولو في الجملة، لوجود الاستقرارعلى الحقيقة الثَّانية بل وهجر المعنى اللُّغوي وإن كانت المتشرعيَّة قبل استقرارها بكثرة الاستعمال ونحوه متكوِّنة من بعض المعنى اللُّغوي والشَّرعي الجديد بتردُّد ثمَّ صارت حقيقة.

ص: 348

محل النِّزاع في المقام

وأمَّا الثَّمرة العمليَّة الَّتي جاء ذكرها فستمر علينا بعد ذكر موقع النِّزاع حول بحثنا (بحث الصَّحيح والأعم)، فإنَّ موقع النِّزاع بين الأصوليِّين هو أنَّ ألفاظ العبادات أو المعاملات هل هي أسم موضوع للمعاني الصَّحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة؟

بيان ذلك أنَّ هذه الألفاظ مثلاً لمَّا كانت في عرف المتشرِّعة حقيقة في خصوص الصَّحيح يستكشف منه أنَّ المستعمل فيه في لسان أهل الشَّرع هو الصَّحيح أيضاً مهما كان استعماله عنده أحقيقة كان أم مجازاً؟ كما أنَّه لو علم أنَّها كانت حقيقة في الأعم عندهم كان ذلك إمارة على كون المستعمل فيه في لسانه الشَّرعي هو الأعم كذلك وإن كان استعماله على نحو المجاز هذه من جهة.

وهناك جهة أخرى وهي أنَّ المراد من العبادة الصَّحيحة أو المعاملة الصَّحيحة كذلك هي الَّتي كملَّت أجزاءها وتمَّت شروطها في المقام، فالصَّحيح إذن معناه هو تام الأجزاء والشَّرائط.

فالنِّزاع يرجع هنا إلى أنَّ الموضوع له هو خصوص تام الأجزاء والشَّرائط من العبادة أو المعاملة أو الأعم منه ومن النَّاقص.

ثمرة البحث

وبعد بيان الوجيز من محل النِّزاع ينبغي لنا ذكر ثمرة النِّزاع لئلاَّ يكون البحث لا داعي له كما وعدنا بها.

فهي صحَّة رجوع القائل بالوضع للأعم المسمَّى بالأعمِّي إلى أصالة الإطلاق عند ورود الشَّك دون القائل بالوضع للصَّحيح المسمَّى بالصَّحيحي فإنَّه لا يصح له الرُّجوع

ص: 349

إلى أصالة إطلاق اللَّفظ.

ويتجلَّى ما يعود للأعمِّي فيما لو أمر المولى بعتق رقبة ولكن لا يدري أَّنها المؤمنة أم الكافرة، فإذا حصل الشَّك في دخل وصف الإيمان في غرضه من أمره، فيحتمل أن يكون قيداً للمأمور به.

فالقاعدة الحاكمة في المقام هي الرُّجوع إلى أصالة الإطلاق في نفي اعتبار القيد المحتمل اعتباره لزيادته، لكون الأمر جاء بدون قيد لكون الشَّك في أصل التَّكليف فلا يجب تحصيله فتكفي الكافرة، ولو لخلو بعض الآيات من قيد المؤمنة.

ويتجلَّى للصَّحيحي بناءاً عليه ما أذا أمر المولى بالتَّيمُّم بالصَّعيد من غير أن يدري أنَّ ما عدا التُّراب هل يسمَّى صعيداً أم لا؟ فإذا حصل في صدق الصَّعيد على غير التُّراب كالرَّمل شك فلا يصح الرُّجوع إلى أصالة الإطلاق، لإدخال المصداق المشكوك في عنوان المأمور به بخلاف المثال الأوَّل، لكون المرجع في المقام هي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل بمثل الاحتياط تورُّعاً من المحتمل زيادته أو البراءة من حالة ما شكَّ في أساس التَّكليفبه، وهو ممَّا أختلف في أمره العلماء وبعده يكون المبنى هو استقرار الدَّليل على إلحاق الزَّائد بالصَّحيح من عدمه.

وهناك مثال أخر صار سبباً لاختلاف العلماء فيه أيضاً بين من يرى الأعمِّي وبين من يرى الصَّحيحي، وهو أنَّ الصَّلاة الَّتي أمرنا بها إذا كانت فاقدة للسُّورة.

فعلى الأعمِّي يمكن أن يرى المجتهد الشَّاك قبول الفاقدة للسُّورة وبالأخص أكثر في ضيق الوقت لو صدقت الصَّلاة على الفاقدة.

وعلى الصَّحيحي إذا شكَ بعدم الاكتفاء بالفاقدة لها إلاَّ بمراجعة الأصول العمليَّة من الاحتياط والبراءة إلاَّ في ضيق الوقت وعدمها حتَّى مع سعته إن عثر على الدَّليل وإن لم تكن السُّورة في الأهميَّة حسب الأدلَّة كالفاتحة.

ويمكن تصوُّر الثَّمرة فيما لو نذر النَّاذر دفع درهم لمن يُصلِّي ولو صلاة فاسدة أو

ص: 350

ناقصة للتَّشجيع وصلَّى أحد السَّامعين صلاته صحيحة أو فاسدة، فذمَّة النَّاذر مشغولة حتَّى يبرؤها بدفع درهمه، وكذا لو نذر الشَّخص نذره له أي لمن صلَّى لخصوص الصَّحيح بشرط الصحَّة فكانت الصحَّة فيجب البر وإلاَّ لا يجب.

معنى الصَّحيح والفاسد من حيث العموم

وبعد اليأس من وجود ما به الثَّمرة العمليَّة المقتضية لكون البحث الَّذي تطرَّقنا له ناجحاً من الأمثلة الماضية على رأي من يرى العدم وغيرها دون حالة عدمه الَّتي قال بها صاحب الرأي المخالف وتبيَّن قوَّة تبعيَّته للبحث الماضي ولو في الجملة، للتَّشابه بين الحقيقتين في مقابل المجاز على رأي من يرجِّح الأولى وهي الحقيقة الشَّرعيَّة الَّتي لا علاقة لها بالمعاني اللُّغويَّة ولو في الجملة والحقيقة المتشرِّعيَّة الَّتي لها علاقة بالمعاني اللُّغويَّة في الجملة وإن قلنا إشارة فيما مضى عن السَّابق بميلنا إلى المتشرعيَّة، ممَّا قد يقتضي من هذا التَّشابه أن يكون ميلنا في هذا البحث الثَّاني إلى ما هو الأعم لا خصوص الصَّحيح من حقيقة الأعم وحقيقة خصوص - الصَّحيح - المتشرعيَّة.

إلاَّ أنَّنا نرجِّح الآن تأجيل التَّصريح بما نختاره إلى ما بعد بيان ما هو الصَّحيح وما هو الفاسد لإدراك ما هو الأعم في المراد من بعده كيف يكون هل هو خصوص ما يمكن تداركه بتصحيحه - كعلاجيَّات ما بعد الشَّك الصَّحيح من الشُّكوك الصَّحيحة التِّسعة في الصَّلاة أو تدارك الأجزاء المنسيَّة مثل السَّجدة الواحدة أو التَّشهُّد المنسي أو الفاتحة المنسيَّة ونحو ذلك من باب العبادات أو عقد الفضولي الملحوق بإجازة المالك مثلاً من باب المعاملات؟ -

أم حتَّى ما لا يمكن تداركه كنسيان السُّورة بعد الفاتحة من العبادات الَّتي اختلف في دليلها ولو في ضيق الوقت، وهكذا ما يرتبط بالمعاملات المشابهة ممَّا اختلف فيه؟.

أم أنَّ الفاسد هو ما لم يمكن قبوله متروكاً عن عمد مع وجوبه دون أن تبرء الذمَّة

ص: 351

بتركه إلاَّ بالإعادة في العبادة في الوقت دون خارجه أو في الإعادة في الوقت، فإن لم يكن ففي القضاء في الخارج، وهكذا ما يتعلَّق بالمعاملات كأداء الدُّيون وإبراء الذِّمم ممَّا به التَّدارك ولو بعد حين؟.

وأنَّ المراد من الصَّحيح هو الحقيقة الشَّرعيَّة الَّتي لا علاقة لها باللُّغة أو الأعم منها ومن الفاسد أو المتشرعيَّة الَّتي لها بعض علاقات في القواميس اللُّغويَّة أو الأعم منها ومن المتشرعيَّة ولو احتراماً لرأي خصوص من يدِّعي الأولى لرعاية ما ينبغي أو يجب مطابقته لشرع الله العادل المليء باللُّطف والمطابق لقاعدة اليسر ونفي الحرج وسهولة التَّكليف حتَّى بأوسع ما يمكن فيه إبراء الذمَّة ولو بعد حين ما عدا التَّعمُّد المستمر من المكلَّف نفسه أو نائبه أو وصيه أم لا؟.

إجمال ما يتعلَّق بالعبادات

فنقول ولو مجملاً عمَّا يتعلَّق بالعبادات:إنَّ ما يخص أمر الصَّحيح والفاسد في تصوير الجامع على القول بالوضع للأعم الَّذي عن طريقه يمكن استكشاف ما هو الصَّحيح وما هو الفاسد وبهما يتصوَّر المعنى الأعم يمكن أخذه ممَّا ذكره صاحب القوانين القمِّي قدس سره بما حاصله:

(إنَّ المسمَّى لأسامي العبادات هو خصوص الأركان وأمَّا سائر الأجزاء والشَّرائط فهي معتبرة في المأمور به لا في المسمَّى أي لا الموضوع له فلفظ الصَّلاة مثلاً موضوع للأركان خاصَّة وهي الَّتي تكون من الأمور المقوِّمة لمعنى الصَّلاة، وأمَّا سائر الأجزاء والشَّرائط فهي معتبرة في المأمور به لا في المسمَّى)(1) انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: إنَّ مجال الأخذ بهذا البيان مرتبط بسبق علم المحقِّق قدس سره بأنَّ حالات المكلَّف

ص: 352


1- قوانين الأُصول ص 44.

في صلاته متفاوتة بين المتم في صلاته وبين المسافر المقصِّر حينها وبين الصَّحيح في جسمه والمريض والخائف والمطمئن والمتراخي في سعة وقته والمستعجل في ضيقه وحتَّى الغريق الَّذي لابدَّ أن تختلف صلاته في كيفيَّتها وكمَّيتها على أساس تسمية الشَّرع صلاة الغرقى بهذا الاسم لا من خصوص لسان الفقهاء كما قيل وبين القيام والقعود الاعتياديَّين وبين خصوص الجلوس أو النَّائم المضطجع يميناً أو يساراً أو المسجَّى المومئ وأمثاله لأنَّ الله لا يكلِّف [نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1) حتَّى أنَّ بعض الشُّروط والقيود مسقط بل حتَّى فاقد الطَّهورين على أحد الأقوال على أساس أن لا تسقط الصَّلاة بحال.

بينما كلامه مجمل، والمأمور به والمسمَّى كلاهما يختلفان بحسب مراتب التَّكليف، وفي أضعف حالات أصله قد تزيد بعض الشُّروط والقيود عن الحاجة إليها وحتَّى بعض الأركان كما في الغرقى، لأنَّه قد يكفيهم ما قاموا به حسب استطاعتهم، لإدراك البراءة الَّتي يتعقَّبها الموت للغريق حيث لم يهمل واجبه.

فإنَّ كان كذلك كما هو المعهود من مقامه قدس سره فالأمر سهل، ولكنَّه ينبغي منه أن يوضِّح هذا المقصود لإجمال كلامه وإن لم يكن من قصده ما ذكرنا ناسبه إيراد الشَّيخ النَّائيني قدس سره عليه حيث حاصل ما قال حول هذا:

(إنَّ الأركان تختلف بحسب اختلاف حالات المكلَّف من حيث كونه قادراً أو عاجزاً وغريقاً ونحو ذلك، فإنَّ الرُّكوع مثلاً ركن للصَّلاة له مراتب مختلفة وحالات متعدِّدة حيث أنَّ الواجب من الرُّكوع في مبدأ الأمر هو الانحناء إلى حدِّ يتمكَّن فيه المكلَّف القادر أن يضع كفيَّه على ركبتيه بقصد الرُّكوع، فإنَّ لم يمكنه ذلك يجب عليه أن ينحني بمقدار ما يتمكَّن إلى أن يبلغ أن يومئ للرُّكوع برأسه.

فحينئذٍ لابدَّ من تصوير جامع أخر بين تلك المراتب ليصير هو الموضوع له فيقع

ص: 353


1- سورة الأنعام / آية 152.

الكلام عن ذلك الجامع وأنَّه ما هو ومن أي أقسام الجامع فيعود الإشكال المتقدِّم)(1).

أقول: وقد قال بمثل مقالته أو ما يشبهها أخرون من أعلام الصِّناعة وبما يمكن أن يدل على عدم الحاجة إلى تشخيص الجامع على النَّهج الموحَّد كما عرف عن ظاهر صاحبالقوانين قدس سره أو غيره، لاختلاف المصاديق باختلاف حالات المكلَّف ممَّا مرَّ ذكره.

فلابدَّ من أن يكون الجامع متناسقاً مع اختلاف حالات المكلَّف المتفاوتة.

وغير مستبعد أن يكون إجمال كلام القمِّي قدس سره مقدَّراً بما يناسب كلام المعترضين في تفاوت الحالات إلى حدِّ الغرق أو حتَّى ما بعد الموت ممَّا يستدعي قضاء الولد الأكبر عمَّا فقد أو فسد من واجبات أبيه في حياته أو أوصى الوالد في القضاء عنه لا الجامع المشكل الَّذي ذكره الشَّيخ النَّأئيني قدس سره .

وعليه فتكون الصحَّة مع الحقيقة الشَّرعيَّة المخترعة بناءاً عليها أو المتشرعيَّة وإن دلَّت عليها نصوص ونصوص كقوله تعالى [وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](2) وغيره ممَّا قد يتصوَّر من وراءه تمام الكمال.

والفساد ما كان في مقابله وهو تمام النَّقص وحتَّى عند القول بما كان الأعم من الصَّحيح والفاسد، لا مثل ما عبَّر به الشَّيخ النَّائيني قدس سره أيضاً من الإشكال في الجامع، حيث أنَّ الجامع يمكن تحقُّقه بالرِّضا والقبول مع النَّقص أو الفساد أو بعدمهما ولو مع تمام الكمال بسبب مثل سوء النيَّة عن الجهل القصوري.

فإنَّ الصَّحيح وإن طبقِّنا ما عرف عن ما في الكفاية قدِّس سرِّ مدونها وما أفاده الشَّيخ العراقي قدس سره من أنَّ هذين العلَمين(3) أفادا أنَّ الظاهر أنَّه لا خلاف بينهم في أنَّ حقيقة الصحَّة عبارة عن التَّماميَّة المسقطة للقضاء على مسلك الفقهاء أو ما وافق

ص: 354


1- أجود التقريرات ج1/41 - 42.
2- سورة العنكبوت / آية 45.
3- الشَّيخ القمي قدس سره صاحب القوانين، والشَّيخ النَّائيني قدس سره في أجود التَّقريرات.

الشَّريعة على مسلك المتكلِّمين، وعلى هذا كانت قناعة الأصوليِّين.

وحقيقة الفساد ما ساوق النُّقصان ممَّا يقابلها ممَّا قد يتوهَّم الوحدة الحديَّة من الحكمين الوضعيَّين.

فإنَّ الإطلاق في عبارتي العلَّمين لا يوحي إلى ما قد يتوَّهم، بل إنَّ اختلاف حالات المكلَّفين وتفاوتها ممَّا مرَّ ذكره هو الصَّحيح.

فلابدَّ من تعدُّد مراتب الصحَّة وعدم الحاجة إلى القضاء دائماً وكل المراتب وحالاتها الموافقة للشَّريعة على ما يطابق الأدلَّة الَّتي أفادها الفقهاء طول هذه الغيبة الكبرى حسبما يتناسب مع أهل الكمال الصحِّي ومن كان أدنى من أهل الأعذار وكذا ما في مقابل هؤلاء.

الرَّأي المختار

قد لوَّحنا في السَّابق ما آل إليه اختيارنا المتواضع من أنَّ الحقيقة الَّتي قد ترتضى هي المتشرعيَّة.

لما مرَّ ذكر بعضه من المستمسكات وهي كذلك، وتتبعها في المقام الآن الصحيحة وإن أريد منها التَّامة حدِّياً، لعدم المانع من إمكان أداءها على أحسن ما يرام على أساس إدراك تمام مصادرها الكاملة النَّافية لما عداها في آوان النِّزاع الدَّائر.

لكن لا على أن تكون الصَّحيحة العباديَّة هي خصوص المطابقة للحقيقة الجديدة والمخترعة الَّتي معها قرينة مجازيَّة صارفة، لعدم وجود ما يربطها ولو بيسير من المعنى اللُّغوي.

بل إنَّ التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب إلى ذلك اللُّغوي لا يسمن ولا يُغني من جوع عمَّا يدَّعى من المعنى الشَّرعي المخترع والجديد، فالصَّحيحة هي المرتبطة بتصرُّف المتشرِّعة فقط والتَّبادر وعدم صحَّة السَّلب مصاحبان لها، بل والأقوى محتاج إلى نصب

ص: 355

القرينة الصَّارفة لو كانت هي الصَّحيحة.

وهذا الاختيار منَّا لا يعني نفي تصوُّر اعتبارنا للأعم من الصَّحيح والفاسد أو الصَّحيح والنَّاقص.

بل هذا الأمر ممَّا نختاره كذلك لإمكان تعقُّل الجامع المرتبط بالأدلَّة الكثيرة معه على كلِّ قضيَّة صغيرة وكبيرة من الأدلَّة الشَّرعيَّة الرَّاعية لذمار الحالات المختلفة والمتفاوتة من طبقات المكلَّفين في عباداتهم رأفة ولطفاً بهم ممَّا مرَّ بيانه.

ويسهل أمر اعتبارنا أكثر لهذا الأعم هو إمكان الانصراف إليه بالتَّبادر وعدم صحَّة السَّلب الَّذي مرَّ ذكره.

والإشكال الَّذي أورده الشَّيخ النَّائيني قدس سرهعلى الشَّيخ القمِّي قدس سره - بوجود المانع من تصوِّر الجامع الموحَّد لشتات موارد اختلاف المكلِّفين وتفاوتها -

غير مانع عن تصوُّر الجامع(1) لجميع حالات المكلَّف الَّتي بين الصَّحيح والفاسد، نظير(الكلمة) الموضوعة لما تركَّب من حرفين فصاعداً، ليكون الجامع بين الأفراد هو ما تركَّب من حرفين فصاعداً مع أنَّ الحروف ثمانية وعشرون حرفاً ومعها ما يلحق بها ممَّا يوسِّع دائرة احتواء الكلمات إلى أكثر المعاني لحالات المكلَّف في عباداته الَّتي أوَّلها الصَّلاة من ذات الأركان الأربعة أو الخمسة مع النيَّة المعدَّة روح العبادة.

فالكلمة وإن كانت هي الجامع المشترك مع كونه يصدق على (أب) المكوَّن من حرفين أو (ابن) المكوَّن من ثلاثة أحرف من حالات المكلَّف وإلى حدِّ الفرق في صلاته أو بعد مماته.

وكذا بقيَّة العبادات والأوسع ممَّا يسقط القضاء في الحياة أو يوافق الشَّريعة وقد حوت الكتب الفقهيَّة علميَّة وفتوائيَّة أغلب المسائل الإبتلائيَّة الَّتي تصل بعض كلماتها إلى سبعة، وقد قال بهذا الرَّأي صفوة من العلماء كالمحقِّق الكمبَّاني قدس سره.

ص: 356


1- راجع أجود التقريرات ج1/ 41 - 42.

مختصر ما يتعلَّق بأمر المعاملات

لا يخفى بعد أن عرفت ما ذكرناه عن معنى الصَّحيح ومعنى الفاسد ومعنى الأعم من الصَّحيح والفاسد وما مرَّ ذكره ولو بشيء من الإيجاز عن هذه الأمور عن العبادات ذكر الشَّيخ الآخوند قدس سره ما يخص أمور المعاملات أوَّلها بقوله:

(إنَّ أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسبَّبات فلا مجال للنِّزاع في كونها موضوعة للصَّحيح أو الأعم لعدم اتِّصافها بهما كما لا يخفى بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى)(1)، انتهى ما أردناه من كلامه الشَّريف.

أقول: إنَّ التَّركيب المتصوَّر من بيانه قدس سره عندما قال (للصَّحيح أو الأعم) حينما كان بين أجزاءه تلازم في التَّحقُّق لا يوصف بالصحَّة والفساد اعتماداً على معنى مسبِّبات المعاملات وملحقاتها كالملكيَّة والزَّوجيَّة من ذوات الإيجاب والقبول والفراق والحريَّة من ذوات الإيقاعات كالطَّلاق والإعتاق مع غض النَّظر عن الأسباب.

فإنَّه لبساطته كالمركَّب من الجنس والفصل كالحيوان والنَّاطق لنوع الإنسان فتركب ماهيَّة الإنسان لا يعني تركُّب وجوده الواحد، فهو إمَّا أن يكون موجوداً، وإمَّا أن لا يكون مثل أسامي هذه المعاملات الَّتي يُطلق عليها لفظ المسبِّبات دون إرادة أسبابها مثل الملكيَّة والزَّوجيَّة والفراق والحريَّة وغيرها ممَّا قد يُطلق عليه بالأحكام الوضعيَّة ممَّا أطلقنا عليه سابقاً بموضوع فهرست المباحث الأصوليَّة وما سيأتي بيانه من بقيَّة مضامينه في مناسبات أخرى آتية فهي الَّتي لا تتَّصف بالصحَّة والفساد لعدم إمكان التُّركُّب بين هذين الحكمين الوضعيَّين في نظره ولذا قال:

(لا مجال للنِّزاع في كونها موضوعة للصَّحيح أو الأعم إلخ).

لأنَّها قد تكون الملكيَّة عن طريق البيع أو الشِّراء والزَّوجيَّة عن طريق عقد النِّكاح أو

ص: 357


1- كفاية الأصول ج1 ص 32.

الفراق بالطَّلاق أو الحريَّة بالإعتاق أو لم يسبقها ذلك من الأسباب فتبقى بلا موضوع، وعلى هذا رأي المشهور.

لعدم إمكان تصوُّر ملكيَّة صحيحة وفي نفس الوقت هي فاسدة لعدم الجامع بينهما، وهكذا بقيَّة الأمثلة، على خلاف أمر ما مضى من العبادات المركَّبة من ذوات الثِّمار المشجِّعة على البحث في أمرها المتنازع فيه.

وفي مقابل ما ذكره الشَّيخ قدس سره في المقام قال بعد ذلك (وأمَّا إن كانت موضوعة للأسباب فللنِّزاع فيه مجال).

أقول: وهو ما يُعطي تمام المجال في مختصر عبارته المعروفة ولو في الجملة من تصوُّر النِّزاع في سبب الملكيَّة كالبيع والشِّراء وصيغة النِّكاح وصيغة الطَّلاق وصيغة الإعتاق من حيث الصحَّة أو الفساد أو الأعم منهما إذا تصرَّف بالسَّبب أجنبي فضوله إذا تعقَّب ذلك العقد الإمضاء في الصِّيغ الأربعة بناءاً على ذلك من توفُّر أجزاءها وشرائطها وعدمها.ولكن لم يظهر منه تصريح أو إشارة إلى كون النِّزاع من وجهة شرعيَّة أو عقلائيَّة ممضاة ولم يبدأ منه بجزم أنَّها في هذه المعاملات تعود للصَّحيحة، لكن كونه في عبارته لم يستبعد أنَّها اسم للصَّحيحة، فهي في نظره لو كانت تُعد أقرب إلى الأعم إلاَّ أنَّه من دون أن يظهر منه القول بأنَّ الأعم ممتنع.

وقد ظهر من السيِّد الأستاذ الخوئي قدس سره الميلان إلى كون المحرِّك في النِّزاع هو الحالة العقلائيَّة الممضاة لا خصوص الشَّرعيَّة.

لأنَّ المعاملات في أساسها كانت عرفيَّة وعند تعارف أهل اللُّغة والشَّرع كان التَّعارف معهم دون أن تظهر منه حالة زائدة على المتَّعارف إلاَّ ما أضافه ممَّا كان في نظر أهل العرف الخاص كالمتشرعيَّة وإن حملت بعض الصيِّغ الممضاة بعض التَّسامحات في القديم ممَّا لم يقبله البعض كالمعاطاة في البيع أو النِّكاح بما هو أشد على ما سيتَّضح قريباً

ص: 358

من الأدلَّة.

ومن هذا وأمثاله يتبيَّن ما معناه الإمضاء منه لهم، بدليل أنَّ الصحَّة المأخوذة في مسمَّى المعاملات بناءاً على القول بالصَّحيح هي الصحَّة العقلائيَّة لا الصحَّة الشَّرعيَّة.

إذ لو كانت الصحَّة المأخوذة في مسمَّاها هي الصحَّة الشَّرعيَّة لاستلزم ذلك أن تكون الخطابات الإمضائيَّة كما في قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ](1) لغواً واضحاً وتحصيلاً للحاصل.

وأضيف قائلاً: إنَّ هذا ما يعني إمضاء الشَّرع لما كان يجري في العرف اللُّغوي القديم لمطابقته لتعاليمه وعدم مطابقة الرِّبا لها، ولذا حرَّمه وصحِّحت البيوع القديمة بالإمضاء بل أطلق تعالى على البيع حتَّى على الفاسد منه كما في بيع يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ من قِبل أخوته عند قوله [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ](2).

وكذا الأنكحة بل وكما ورد (لكل قوم نكاح)(3) ولو لتبقى سلالات البشر القديمة محفوظة بما تعارف عند القدامى من المبرزات القديمة على تعاليم السَّماء السَّابقة وإن تفاوتت عنَّا بعض الشَّيء في الظاهر إلاَّ ما عرَّفه النِّسابون منَّا كعقيل ابن أبي طالب (رضوان الله عليه) الخاطب لأم البنين سلام الله علیها لأمير المؤمنين "سلام الله عليه"، لمعرفة استقامة أهلها القدامى عن أهل الانحراف الجاهلي الَّذي لا يمكن التَّستُّر عليهم.

بل ورد أيضاً (الإسلام يجب ما قبله)(4) لو خضع أهل الكفر للإسلام وتعاليمه، لا بقبول الانحراف بعد ذلك، وبذلك يتم القول بما هو الأعم من الصَّحيح والفاسد.

ص: 359


1- سورة البقرة / آية 275.
2- سورة يوسف / آية 20.
3- تهذيب الأحكام: ج7 ص 472 ب 41 ح 99.
4- عوالي اللئالي) ج 2 ص 54 ج 145 وص 224 ح 38 (مسند احمد بن حنبل) ج 4، ص 199 و 204 و 208، جامع الصغير للسيوطي ج1 ص 123.

ثمرة النِّزاع في المقام

ممَّا مرَّ ذكره عن حال ما تأثِّره الأسباب المتحرِّكة من الحالة العقلائيَّة الممضاة وهي الَّتي لا تخلو إمَّا أن تكون مطابقة للشَّرع مع إمضاءه أو إمضاءه مع زيادة، فإذا شككنا في اعتبار شيء - عند الشَّارع - في صحَّة البيع مثلاً ولم ينصب قرينة على ذلك في كلامه فإنَّه يصح التَّمسُّك بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال حتَّى لو قلنا بأنَّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصَّحيح، لأنَّ المراد من الصَّحيح هو الصَّحيح عند العرف العام العقلائي ربطاً بالقديم المفروض علينا نحن المسلمين عندما جاء الإسلام العزيز وألزم نفسه بالتِّرحاب بالجاهليِّين حينما دخلوا الإسلام بعاداتهم وتقاليدهم الَّتي منها بعض العادات والتَّقاليد وعُدِّل بعضها لهم حتَّى قال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)(1).

لا أن يكون الصَّحيح عند خصوص الشَّارع المقدَّس إلاَّ إذا أضاف قيداً أو شرطاً وعند ذلك يكون الأمر كما في العبادات العائدة إلى الحقيقة المتشرعيَّة الَّتي لا تكون دخيلة في صدق عنوان المعاملة الموضوعة - افتراضاً - للصَّحيح على المصداق المجرَّد عن القيد وحالها في ذلك حال ألفاظ العبادات لو كانت موضوعة للأعم.

نعم لابدَّ للحقِّ أن يقال فيما لو كان هذا القيد دخيلاً في صحَّة المعاملة عند أهل العرف القدامى مثلاً أنفسهم أيضاً، فلا يصح التَّمسُّك بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال بناءاً على القول بالصَّحيح (كما هو شأن ألفاظ العبادات)، لأنَّ الشَّك يرجع إلى الشَّك في صدق عنوان المعاملة كما عُرف عن سيرة ذي الجناحين جعفر الطيَّار عَلَيْهِ السَّلاَمُ الحميدة في أيَّام الجاهليَّة على ما ورد عنه قوله (ما زنيت قط منذ أن علمت أنِّي إذا أتيت أءتى)(2).

ص: 360


1- بحار الأنوار ج16 ص 210.
2- الدرجات الرفيعة ص 70 نقلاً عن الأمالي لابن بابويه، بحار الأنوار: 22/273، ح16.

وهكذا أهل هذا الزَّمان من الملل والنِّحل غير الإسلاميَّة لو جعلوا عندهم قيد أن لا يكون نكاحهم من مصاديق الزِّنا قيداً ثابتاً لا يصح التَّمسُّك بالإطلاق عند الشَّك إذا كان الزِّنا عندهم داخلاً ولو لقاعدة الإلزام.

وأمَّا على القول بالأعم السَّالم من التَّسالم على حرمته عندهم وإنَّما هي ربَّما تكون لو كان شيء مثل الشُّبهات الَّتي تدرأ عندها الحدود إسلاميَّاً فضلاً عن بقيَّة الملل، وإنَّما يصح التَّمسُّك بالإطلاق لدفع الاحتمال فتظهر الثَّمرة في المقام وإن كانت نادرة.

مختارنا في المقام

نختار في المقام عن المعاملات في باب الأسباب ما هو الأعم من الصَّحيح والفاسد دون الصَّحيح لناحية التركُّب كما مرَّ في باب العبادات إلاَّ أنَّه في المقام قليل لإمكان أن نختار حسبما مرَّ من الأدلَّة، وأمَّا في باب المسبِّبات فأمرها مرتبط بأسبابها لو وجدت دون ما لو لم تكن موجودة لبساطتها.

ص: 361

نهاية المطاف

وإلى هنا ينبغي لنا أن نكتفي بهذا القدر من الكلام عمَّا سمَّيناه في هذا الجزء في الباب الأوَّل بالمدخل وفي الباب الثَّاني بمقدِّمات مباحث الألفاظ لتكون بداية الجزء الثَّاني الآتي من الباب الثَّالث بحث المشتق وما بعده من بحوث مباحث الألفاظ، أرجو على ضعفه وقلَّة دقَّته ممَّا تيسَّر لي مع تشتُّت البال وكثر الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السَّابق تقرُّباً إليه ولو لأداء أن لا أكون مقصِّراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النِّجفيَّة المطهَّرة منذ نعومة الأظفار أن يكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظَّم صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ للتَّأييد والتَّسديد إلى إكمال بقيَّة الأجزاء ولو كمقدِّمات يؤمل أن تطرح فيها أو بعدها لطلاَّبها بمقدارها البركات، والله ولِّي التَّوفيق.

ليلة الأربعاء الخامس من شهر رجب المرجَّب علاء الدِّين الموسوي

لسنة 1437ه- الغريفي

ص: 362

المصادر

ت

اسم الكتاب

1. القران الكريم

2. الاحتجاج / الطَّبرسي

3. الأسفار الأربعة / صدر المتألِّهين

4. الاستبصار / الطُّوسي

5. الإعجاز في القرآن العظيم / الباقلاني

6. الأصول الأصيلة / السيد عبد الله شبر

7. الأربعين / المجلسي

8. الإتقان / السيوطي

9. أجود التقريرات / تقريرات الشَّيخ النَّائيني للسيِّد الخوئي

10. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي

11. البرهان / البحراني

12. الدر المنثور / السيوطي

13. الدرجات الرفيعة / للسيد على خان المدني

14. الكافي / الكليني

15. الكافي في أصول الفقه / السيد الحكيم

16. الكشكول / البحراني

17. اللآلئ المصنوعة /السيوطي

18. المباحث الأصوليَّة /الفياض

19. المبسوط / السرخسي الحنفي

20. المدارك / العاملي

ص: 363

ت

اسم الكتاب

21. الموطأ / مالك ابن أنس

22. المزهر / السيوطي

23. الملل والنحل / أبو الفتح الشهرستاني

24. المناقب / ابن شهر آشوب

25. المستدرك / للحاكم النيسابوري

26. المصباح المنير / المقري الفيومي

27. المقنع / الصدوق

28. المتوكِّلي / السيوطي

29. النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر / العلاَّمة الحلِّي.

30. السنَّة / ابن أبي عاصم

31. السنن الكبرى / البيهقي

32. الفصول المختارة / الشريف المرتضى

33. الفصول الغروية في الأصول الفقهية / الشيخ محمد حسين الأصفهاني

34 . القاموس المحيط / مجد الدين الفيروزآبادي

35. القواعد الفقهيَّة /البجنوردي

36. الشفاء / ابن سينا

37. التهذيب / الطوسي

38. التنقيح في شرح العروة الوثقى/ تقريرات بحث السيد الخوئي للشيخ الغروي

39. التقية / الشيخ الأنصاري

40. الذخيرة / المرتضى

41. الغيبة / الطوسي

42. أمالي / الشيخ الطوسي

43. أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين

ص: 364

ت

اسم الكتاب

44. أصول الكافي / الكليني

45. أصول الفقه / الشَّيخ المظفَّر

46. إرشاد العقول إلى مباحث الأصول / السبحاني.

47. بدائع الأصول / الرَّشتي

48. بداية الوصول / الشيخ محمد طاهر آل راضي

49. بحار الأنوار / المجلسي

50. بحوث في علم الأصول / السيد الصَّدر

51. بصائر الدرجات / لمحمّد بن الحسن الصفار

52. جامع أسانيد أبي حنيفة

53. دعائم الإسلام

54. درر الفوائد / الشيخ عبد الكريم الحائري

55. وسائل الشيعة / الحر العاملي

56. وقاية الأذهان / الشيخ محمّد رضا النجفي الأصفهاني

57. حاشية المكاسب

58. حلية الأولياء

59. ينابيع المودة / القندوزي الحنفي

60. كشف الغمة

61. كنز العمال

62. لسان العرب

63. مجموعة ورَّام

64. مجمع البيان

65. مجمع البحرين

66. مودة القربي / المير سيد علي الهمداني الشافعيت

ص: 365

اسم الكتاب

67. محاضرات في أصول الفقه

68. ميزان الحكمة / الرَّيشهري

69. ميزان الذهب / الهاشمي

70. مناقب آل أبي طالب / الخوارزمي

71. مناقب أبي حنيفة / الخوارزمي

72. من لا يحضره الفقيه

73. منتهى الأصول / البنجوردي

74. منتهى الدراية

75. منتهى المطلب / العلامة الحلي

76 معالم الدين وملاذ المجتهدين / لابن الشَّهيد الثَّاني

77. مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي

78. مصباح الأصول / الخوئي

79. مصباح الفقاهة

80. مقالات الأصول

81. مقدمة صحيح مسلم

82. مشكاة المصابيح

83. مشكل الآثار

84. مغني اللبيب لابن هشام

85. نهاية الأفكار

86. نهاية الدراية في شرح الكفاية / الغروي الأصفهاني.

87. نهج البلاغة: الكتاب 47.

88. نتائج الأفكار / للمروِّج الجزائري تقريراً لأبحاث السيِّد الشَّاهرودي قدس سره

89. سير أعلام النبلا

ص: 366

اسم الكتاب

90. سنن أبي داود

91. سنن الترمذي

92. سنن الإمام أحمد

93. سنن أبي يعلى

94. سنن / الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي

95. عوالي اللئالي

96. عيون أخبار الرِّضا

97. عناية الأصول / للفيروز آبادي

98. فوائد الأصول / الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

99. فرائد الأصول / الشَّيخ الأنصاري

100. فرائد السمطين

101. فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني

102. صب العذاب على من سب الأصحاب / الآلوسي

103. صحيح الجامع الصغير للسيوطي

104. صحيح البخاري

105. صحيح مسلم

106. صفات الشيعة / الشيخ الصدوق

107. قوانين الأصول / القمِّي

108. قواعد الأحكام في مصالح الأنام / عز الدِّين ابن عبد العزيز ابن عبد السَّلام السَّلمي

109. روح المعاني / الآلوسي

110. رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عَلَيْهِ السَّلاَمُ / السيد علي خان المدني

111. شرح منظومة الشَّيخ هادي السَّبزواري قدس سره

112. شرح الكافية / الشَّريف الرَّضي.

ص: 367

اسم الكتاب

113. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 17 / 6 نحوه

114. تأويل الآيات الظاهرة

115. تأريخ بغداد

116. تهذيب الأحكام / الطوسي

117. تهذيب الأصول / السَّبزواري

118. تنقيح الأصول / الخميني

119. تسديد الأصول / الشيخ محمد المؤمن القمي

120. تفسير الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ

121. تفسير الطبري

122. تفسير المنار / محمَّد رشيد رضا

123. تفسير المراغي

124. تفسير الرازي

125. تفسير عبد الرزاق

126. تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد

127. تشريح الأصول

128. ثواب الأعمال

129. غاية المأمول / للجواهري قدس سره تقريراً لبحث السيد الخوئي قدس سرهn

ص: 368

فهرس

1 - كلمة النَّاشر... 3

2 -المقدِّمة... 6

3 -الباب الأوَّل في التَّمهيد في مداخل ... 8

4 -المدخل الأوَّل: تأريخ علم أصول الفقه ومدى الحاجة إليه في خلاصة أدواره... 8

5 - المدخل الثَّاني: لماذا العناوين الأصوليَّة بين كونها نظريَّات وكونها قواعد ... 14

6 -المدخل الثَّالث: معايب عدم العناية بالمصطلحات العلميَّة وأسبابها ... 22

7 -المدخل الرَّابع: السَّعي في رفع مشاكل الكمال الحوزوي بتأخُّره عمَّا كان في أدوار الخير من الانتعاش ...30

8 -المدخل الخامس: ظاهرة فقاهة العرب وأصوليَّة غيرهم ... 37

9 - التَّنبيه على إمكان تلاقي الفقاهة والأصول للخلاص من مخاطر بعض الفتن المقدور عليها... 46

10 -المدخل السَّادس: هل يمكن تساوي اجتهاد الفقيه مع اجتهاد الأصولي ومعه أيُّهما المقدَّم؟ وفيه محاولة المقارنة الزَّمنيَّة بين الفقاهة الأولى والأصول ...49

11 -المدخل السَّابع: كيفيَّة علاج ما قيل عن الجمود الإخباري والتَّوسُّع الأصولي المخيف... 57

12 -المدخل الثَّامن: بدعة الحداثة أو التَّجديد في الشَّرع بما ليس منه ... 63

13 -خاتمة في ابتداع عمليَّة تقليص روايات الجوامع والمجامع ... 67

14 -المدخل التَّاسع: التَّنويه عن مواقع ذكر ما يخص آيات الأحكام من العناوين وتوابعها أصولاً وقواعد... 72

ص: 369

15 -المدخل العاشر:التقية وكون استنباط الحكم الشَّرعي الواقعي أو حتَّى الظَّاهري أصوليَّاً مانعاً أم لا؟ ...76

16 -المدخل الحادي عشر: أصالة عروبة الدَّليلين اللَّفظيَّين ولوازمهما بين المولوي الاجتهادي والإرشادي الفقاهتي

دون غيرها ... 84

17 -المدخل الثَّاني عشر: من أصول الاستنباط الشَّرعي نثريَّة النُّصوص في الكتاب والسنَّة لا شعريَّتها...103

18 - الباب الثَّاني: فهرست الدِّراسات الأصوليَّة الآتية ... 124

19 - بداية ما يُسمَّى بمبادئ علم الأصول أو مقدِّمات مباحث الألفاظ ... 133

20 - المبحث الأوَّل: موضوع كل علم وبالأخص علم الأصول ... 133

21 -المبحث الثَّاني: عدم الفرق بين الذَّاتيَّات والعوارض الغريبة في الشَّرعيَّات ...138

22 -المبحث الثَّالث: كيف تُرد شبهة أنَّ الواحد يمكن أن يصدر من متكثِّر لموضوع كل علم؟...144

23 - المبحث الرَّابع: بأي شيء تمايز العلوم هل هو بالموضوع أم بالغاية؟ ... 147

24 -المبحث الخامس: ما هو موضوع علم الأصول الخاص به إن كان؟ ... 152

25 - المبحث السَّادس: التَّحديد أم التَّعريف والرَّسم أم شرح الاسم لعلم الأصول... 156

26 - المبحث السَّابع: لماذا بدأ صاحب المعالم بتعريف الفقه دون الأصول ... 158

27 -المبحث الثَّامن: بعض الكلام عن الفرق بين القاعدة الأصوليَّة والقاعدة الفقهيَّة...161

28 - المبحث التَّاسع: الكلام عن بقيَّة ما يلزم من الرُّؤوس عن الأصول ... 164

29 -الثَّالث: منها غاية علم الأصول ... 164

30 -الرَّابع منها: فوائد علم الأصول ... 165

ص: 370

31 - ملحق بفوائده ومضار تركه ... 169

32 - الخامس منها: حول مرتبته العلميَّة بين العلوم ... 171

33 - المبحث العاشر: من مبادئ مباحث الألفاظ ذو المقدِّمة (الوضع) للمسائل ... 172

34 - (أقسام الوضع من حيث المناشئ)... 173

35 - (الوضع التَّعييني والتَّعيُّني والاستعمال في كل منهما) ... 173

36 - (تجلِّي معنى الوضع بين ما قيل وما يُقال) ... 174

37 - المبحث الحادي عشر: من هو الواضع للألفاظ ... 177

38 -المبحث الثَّاني عشر: توجيه معنى الوضع الذَّاتي وغيره ... 181

39 - المبحث الثَّالث عشر: القِدَم والحدوث القرآني وألفاظ آيات الأحكام ... 187

40 - سبب النِّزاع في القِدَم والحدوث بين المسلمين هو الفلسفة اليونانيَّة وأسباب أخرى...189

41 -توضيح: حول انقسام المسلمين من الأشاعرة والعدليَّة من المعتزلة والإماميَّة ... 191

42 - انقسام الصِّفات الإلهيَّة كلاميَّاً إلى ذاتيَّة وفعليَّة والفرق بينهما ... 192

43 - الحديث النَّفسي وعدم تعقُّله ... 194

44 - بعض ما قد يستدل به المتطرِّفون في القِدَم والحدوث لكلام الله والإجابة عليه... 195

45 - نتيجة البحث النِّهائيَّة ... 203

46 - المبحث الرَّابع عشر: أقسام الوضع الأربعة ... 205

47 - المبحث الخامس عشر: وقوع الحروف وتوابعها وعودها للقسم الثَّالث أقرب من الرُّجوع للأوَّل...208

48 - المبحث السَّادس عشر: لماذا النِّزاع في إمكان الرَّابع والامتناع في وقوعه ... 212

ص: 371

49 - المبحث السَّابع عشر: تبعيَّة الدِّلالة للإرادة أم لا؟ والثَّمرة العمليَّة المترتِّبة على ذلك...217

50 -المبحث الثَّامن عشر: دور الاستعمال بين الوضع والدِّلالة دون الإرادة ... 227

51 - المبحث التَّاسع عشر: خلاصة الأمثلة الَّتي مرَّت من بداية الأوضاع إلى آخر مواضعها ... 232

52 - تتمَّة تابعة لما مضى ... 234

53 - المبحث العشرون: معنى الحكم الشَّرعي وتوجيه مراتبه ... 237

54 - المبحث الحادي والعشرون: اشتراك التَّكاليف الشَّرعيَّة بين العالم والجاهل في ملحوظات الحكم

الواقعي ... 244

55 -المبحث الثَّاني والعشرون: هل بين الأحكام الشَّرعيَّة الخمسة تضاد أم لا؟ ... 250

56 - تتمَّة نافعة: حول التَّقسيم بين التَّكليفي والوضعي والفرق بينهما من النِّسب الأربع ... 257

57 - المبحث الثَّالث والعشرون: هل الأحكام الشَّرعيَّة والوضعيَّة من الأمور الخارجيَّة التَّكوينيَّة

أم الاعتباريَّة؟ ... 258

58 - المبحث الرَّابع والعشرون: عِلَّة الحكم وحكمة التَّشريع ... 263

59 - المبحث الخامس والعشرون: عدم خلو كل واقعة من الحكم الشَّرعي ... 271

60 - المبحث السَّادس والعشرون: الأوضاع اللُّغويَّة المتعارفة واستعمالاتها وما دار فيها من التَّفاوت

النَّظري والعملي في الأصول ... 275

61 -الأوَّل: مبحث الإفراد والتَّركيب ... 277

62 -ويلحق بالإفراد والتَّركيب أوَّلاً: انقسام الوضع المستعمل إلى شخصي ونوعي ... 279

63 - ثانياً: هل الأسبقيَّة للوضع أم للاستعمال ... 282

64 - الخلاصة ... 284

ص: 372

65 - الثَّاني: مبحث الخبر والإنشاء ... 285

66 - تتمَّة مجملة عن التحاق الجملة الشَّرطيَّة بالحمليَّة من الخبر والإنشاء ... 289

67 - الثَّالث: مبحث الاختصاص والاشتراك ... 290

68 - ويلحق بالاختصاص والاشتراك: القول باستعمال اللَّفظ في أكثر من معنى ... 300

69 - الرَّابع: مبحث المشترك المعنوي أو ما يسمَّى بالمتَّرادف ... 305

70 - الخامس: مبحث الحقيقة والمجاز ... 307

71 - يُلحق بذلك علامات الحقيقة ... 311

72 -الأولى: التَّبادر ... 312

73 - الثَّانية: صحَّة الحمل أو عدم صحَّة السَّلب ... 316

74 - دفع لوهمين حول كلا العلامتين... 318

75 -الثَّالثة: الاطِّراد وعدمه ... 319

76 -الرَّابعة والخامسة: تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللُّغة ... 322

77 - المبحث السَّابع والعشرون: تعارض الأحوال ... 325

78 -المبحث الثَّامن والعشرون: الأصول اللَّفظيَّة ... 334

79 -أصالة الحقيقة ... 335

80 - أصالة عدم النَّقل ... 336

81 -أصالة عدم الاشتراك ... 337

82 -أصالة العموم ... 337

83 - أصالة الإطلاق ... 338

84 - أصالة عدم التَّقدير ... 338

85 -أصالة الظهور ... 339

86 -المبحث التَّاسع والعشرون: الحقيقة الشَّرعيَّة أم المتشرعيَّة في نظرتهما الأولى... 340

ص: 373

87 - المبحث الثَّلاثون: الصَّحيح والأعم من الصَّحيح والفاسد ... 346

88 - محل النِّزاع في المقام ... 349

89 - ثمرة البحث ... 349

90 - معنى الصَّحيح والفاسد من حيث العموم ... 351

91 - إجمال ما يتعلَّق بالعبادات ... 352

92 -الرأي المختار ... 355

93 - مختصر ما يتعلَّق بأمر المعاملات... 357

94 -ثمرة النِّزاع في المقام ... 360

95 -مختارنا في المقام ... 361

96 - نهاية المطاف ... 362

97 - المصادر ... 363

98 -فهرس ... 369

ص: 374

ص: 375

جوال: 07801010517 ، 07827760880 ، 07813015930

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.