الفقه
موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد العاشر
رواياتها (علیها السلام) -3
المرجع الديني الراحل
آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى 1439 ه - 2018م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد العاشر
رواياتها (علیها السلام)
القسم الثالث
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
وقالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):
قَدْ كُنْتَ لي جَبَلاً أَلوذُ بِظِلهِ *** فَاليَوْمَ تُسْلمُنِي لأَجْرَدِ(1) ضَاحِي
قَدْ كُنْتَ جَارَ حَمِيَّتِى مَا عِشْتَ لي *** وَ اليَوْمَ بَعْدَكَ مَنْ يُرِيشُ(2) جَنَاحِي
وَأَغُضُّ مِنْ طَرْفِي وأَعْلمُ أَنَّهُ *** قَدْ مَاتَ خَيْرُ فَوَارِسِي وسِلاحِي
حَضَرَتْ مَنِيَّتُهُ فَأَسْلمَنِي العَزَا *** وَ تَمَكَّنَتْ رَيْبَ المَنُونِ جَوَاحِي (3)
نَشَرَ الغُرَابُ عَليَّ رِيشَ جَنَاحِهِ *** فَظَللتُ بَيْنَ سُيُوفِهِ ورِمَاحِ
إِنِّي لأَعْجَبُ مَنْ يَرُوحُ ويَغْتَدِي *** وَ المَوْتُ بَيْنَ بُكُورِهِ ورَوَاحِ
فَاليَوْمَ أَخْضَعُ للذَّليل وأَتَّقِي *** ذُلي وأَدْفَعُ ظَالمِي بِالرَّاحِ
وَإِذَا بَكَتْ قُمْرِيَّةٌ شَجْناً بِهَا *** ليْلا عَلى غُصْنٍ بَكَيْتُ صَبَاحِي
فَاللهُ صَبَّرَنِي عَلى مَا حَل بِي *** مَاتَ النَّبِيُّ قَدِ انْطَفَى مِصْبَاحِي (4)
ص: 5
مسألة: يجوز إسناد الفعل مجازاً إلى غير ما هو له في الجملة، إذا كانمصحح للتجوز وكانت القرينة، ومنه قول الصديقة (عليها السلام) ههنا: (فاليوم تسلمني لأجرد ضاحي).
مسألة: قد يرجح التعبير بما يعبر به عادة المتشائم إذا كان المتكلم في مقام بيان عظم المصاب وجسامة الخطب على الدين وأهله، وأما حقيقة التشاؤم فإنه لا يتصور فيهم (صلوات الله عليهم)، لعصمتهم ولعلمهم بما جرى وسيجري عليهم.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، قَال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عِيسَى أَخِي، قَال: سَأَلتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَمَا يَقُول النَّاسُ فِيهِ، فَقَال: «عَنْ صَوْمِ ابْنِ مَرْجَانَةَ (لعَنَهُ اللهُ) تَسْأَلنِي ذَلكَ يَوْمٌ مَا صَامَهُ إلاّ الأَدْعِيَاءُ مِنْ آل زِيَادٍ بِقَتْل الحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) وَهُوَ يَوْمٌ تَشَاءَمَ بِهِ آل مُحَمَّدٍ وَيَتَشَاءَمُ بِهِ أَهْل الإِسْلامِ، وَاليَوْمُ المُتَشَائِمُ بِهِ الإِسْلامُ وَأَهْلهُ لا يُصَامُ وَلا يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَيَوْمُ الإِثْنَيْنِ يَوْمٌ نَحْسٌ قَبَضَ اللهُ فِيهِ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) وَمَا أُصِيبَ آل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) إلاّ فِي يَوْمِ الإِثْنَيْنِ، فَتَشَاءَمْنَا بِهِ وَتَبَرَّكَ بِهِ أَعْدَاؤُنَا، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ قُتِل الحُسَيْنُ (عليه السلام) وَتَبَرَّكَ بِهِ ابْنُ مَرْجَانَةَوَتَشَاءَمَ بِهِ آل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) فَمَنْ صَامَهُمَا وَتَبَرَّكَ بِهِمَا لقِيَ اللهَ عَزَّ وَ جَل مَمْسُوحَ القَلبِ، وَكَانَ مَحْشَرُهُ مَعَ الذِينَ سَنُّوا
ص: 6
صَوْمَهُمَا وَتَبَرَّكُوا بِهِمَا»(1).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «العَيْنُ حَقٌّ، والرُّقَى حَقٌّ، والسِّحْرُ حَقٌّ، والفَأْل حَقٌّ، والطِّيَرَةُ ليْسَتْ بِحَقٍّ، والعَدْوَى ليْسَتْ بِحَقٍّ، والطِّيبُ نُشْرَةٌ، والعَسَل نُشْرَةٌ، والرُّكُوبُ نُشْرَةٌ، والنَّظَرُ إِلى الخُضْرَةِ نُشْرَة»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (صلوات الله عليه) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةٌ، الخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَليْهِ ومَا لا يَعْلمُونَ ومَا لا يُطِيقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِليْهِ والحَسَدُ والطِّيَرَةُ والتَّفَكُّرُ فِي الوَسْوَسَةِ فِي الخَلقِ مَا لمْ يَنْطِقْ بِشَفَةٍ»(3).
مسألة: يجوز تشبيه العظيم بالجبل ونحوه، كما يجوز تشبيه الكريم بالبحر وبالمطر، وتشبيه الجميل بالشمسوالقمر وما أشبه، لكن يلزم أن يكون التشبيه في إطاره المقبول بحيث لا تمجّه الأسماع، ولا تلفظه العقول، ولا يكون له جهة غير مشروعة.
وفي اللغة: رجل مَجْبُول: عظيم، على التشبيه بالجَبَل (4).
وفلان لجَّةٌ واسِعةٌ، على التشبيه بالبحر في سَعته(5).
ص: 7
في رواية: قَال جَابِرٌ: فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ فَهَل يَقَعُ لشِيعَتِهِ الانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ، فَقَال (صلى الله عليه وآله): «إِي والذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُمْ يَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ ويَنْتَفِعُونَ بِوَلايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ وإِنْ تَجَللهَا سَحَاب» الخبر (1).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ، قَال: صَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَلاةَ الفَجْرِ فَلمَّا انْفَتَل مِنْ صَلاتِهِ أَقْبَل عَليْنَا بِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَلى اللهِ عَزَّ وجَل، ثُمَّ قَال: «مَعَاشِرَ النَّاسِ مَنِ افْتَقَدَ الشَّمْسَ فَليَسْتَمْسِكْ بِالقَمَرِ، ومَنِ افْتَقَدَ القَمَرَ فَليَسْتَمْسِكْ بِالزُّهَرَةِ، فَمَنِافْتَقَدَ الزُّهَرَةَ فَليَسْتَمْسِكْ بِالفَرْقَدَيْنِ»، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا الشَّمْسُ، وعَليٌّ القَمَرُ، وفَاطِمَةُ الزُّهَرَةُ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ الفَرْقَدَانِ، وكِتَابُ اللهِ لا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ»(2).
مسألة: يستحب بيان موقع الرسول (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى الزهراء (عليه السلام) حيث كان (صلى الله عليه وآله) جبلاً تلوذ بظله ابنته الصديقة (عليها السلام) وكان جار حميتها.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ قَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي الشِّكَايَةِ التِي قُبِضَ فِيهَا فَإِذَا فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ رَأْسِهِ، قَال: فَبَكَتْ حَتَّى ارْتَفَعَ صَوْتُهَا فَرَفَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) طَرْفَهُ إِليْهَا فَقَال: حَبِيبَتِي فَاطِمَةُ مَا الذِي يُبْكِيكِ؟
ص: 8
قَالتْ: أَخْشَى الضَّيْعَةَ مِنْ بَعْدِكَ يَا رَسُول اللهِ.
قَال: يَا حَبِيبَتِي لا تَبْكِيِنَّ فَنَحْنُ أَهْل بَيْتٍ أَعْطَانَا اللهُ سَبْعَ خِصَال لمْ يُعْطِهَا قَبْلنَا ولا يُعْطِهَا أَحَداً بَعْدَنَا، لنَا خَاتَمُالنَّبِيِّينَ وأَحَبُّ الخَلقِ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل وهُوَ أَنَا أَبُوكِ، ووَصِيِّي خَيْرُ الأَوْصِيَاءِ وأَحَبُّهُمْ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل وهُوَ بَعْلكِ، وشَهِيدُنَا خَيْرُ الشُّهَدَاءِ وأَحَبُّهُمْ إِلى اللهِ وهُوَ عَمُّكِ، ومِنَّا مَنْ لهُ جَنَاحَانِ فِي الجَنَّةِ يَطِيرُ بِهِمَا مَعَ المَلائِكَةِ وهُوَ ابْنُ عَمِّكِ، ومِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الأُمَّةِ وهُمَا ابْنَاكِ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، وسَوْفَ يُخْرِجُ اللهُ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ تِسْعَةً مِنَ الأَئِمَّةِ أُمَنَاءَ مَعْصُومِينَ، ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ إِذَا صَارَتِ الدُّنْيَا هَرْجاً ومَرْجاً وتَظَاهَرَتِ الفِتَنُ وتَقَطَّعَتِ السُّبُل وأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فَلا كَبِيرٌ يَرْحَمُ صَغِيراً ولا صَغِيرٌ يُوَقِّرُ كَبِيراً فَيَبْعَثُ اللهُ عَزَّ وجَل عِنْدَ ذَلكِ مَهْدِيَّنَا التَّاسِعَ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) يَفْتَحُ حُصُونَ الضَّلالةِ وقُلوباً غُفْلا، يَقُومُ بِالدِّرَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا قُمْتُ بِهِ فِي أَوَّل الزَّمَانِ، ويَمْلأُ الأَرْضَ عَدْلا كَمَا مُلئَتْ جَوْراً، يَا فَاطِمَةُ لا تَحْزَنِي ولا تَبْكِي، فَإِنَّ اللهَ أَرْحَمُ بِكِ وأَرْأَفُ عَليْكِ مِنِّي، وذَلكِ لمَكَانِكِ مِنِّي ومَوْضِعِكِ فِي قَلبِي، وزَوَّجَكِ اللهُ زَوْجاً هُوَ أَشْرَفُ أَهْل بَيْتِكِ حَسَباً، وأَكْرَمُهُمْ نَسَباً، وأَرْحَمُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ، وأَعْدَلهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وأَنْصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ، وقَدْ سَأَلتُ رَبِّي عَزَّ وجَل أَنْ تَكُونِي أَوَّل مَنْ يَلحَقُنِي مِنْ أَهْل بَيْتِي إلاّ إِنَّكِ بَضْعَةٌ مِنِّي مَنْ آذَاكِ فَقَدْ آذَانِي».
قَال جَابِرٌ: فَلمَّا قُبِضَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَاعْتَلتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) دَخَلإِليْهَا رَجُلانِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالا لهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ.
قَالتْ: اصْدُقَانِي هَل سَمِعْتُمَا مِنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول:
ص: 9
فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، قَالا: نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا ذَلكِ مِنْهُ، فَرَفَعَتْ يَدَيْهَا إِلى السَّمَاءِ وقَالتْ: «اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمَا قَدْ آذَيَانِي وغَصَبَا حَقِّي»، ثُمَّ أَعْرَضَتْ عَنْهُمَا فَلمْ تُكَلمْهُمَا بَعْدَ ذَلكَ وعَاشَتْ بَعْدَ أَبِيهَا خَمْسَةً وتِسْعِينَ يَوْماً حَتَّى أَلحَقَهَا اللهُ بِهِ»(1).
مسألة: للموت اطلاقان، ويجوز استعماله في مورده:
1: إطلاق أعم من القتل، وعلى هذا جرى قول الصديقة (عليها السلام): (مات النبي).
2: إطلاق يقابل القتل، وعليه جرى قوله تعالى: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل»(2)، وقولهسبحانه: «وَلئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلتُمْ لإِلى اللهِ تُحْشَرُونَ»(3).
مسألة: ربما يصح إسناد غير الاختياري إلى من لم يصدر منه ما يؤدي إليه اختياراً، ومنه ما لو وقع أمر كالموت على شخص، وكان أثره التكويني أمر آخر، وعلى ذلك قول الصديقة (عليها السلام): (فأسلمني العزاء).
ص: 10
مسألة: يستحب أن يلوذ الإنسان بالمعصوم (عليه السلام) في حال حياته وبعد وفاته، سواء لحاجاته الدنيوية أو الأخروية.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لمَّا نَزَلتْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لا تُكَلفُ إلاّ نَفْسَكَ، قَال: «كَانَ أَشْجَعُ النَّاسِ مَنْ لاذَ بِرَسُول اللهِ عَليْهِ وَ آلهِ السَّلامُ»(1).
وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «نَحْنُ نَقُول بِظَهْرِ الكُوفَةِ قَبْرٌ لا يَلوذُ بِهِ ذُو عَاهَةٍ إلاّ شَفَاهُ اللهُ عَزَّ وجَل، يَعْنِي قَبْرَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ عليه السلام»(2).
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ بَيْنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَالساً وَعِنْدَهُ جَبْرَئِيل (عليه السلام) إِذْ حَانَتْ مِنْ جَبْرَئِيل نَظْرَةٌ قِبَل السَّمَاءِ فَانْتُقِعَ لوْنُهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ كُرْكُمٌ، ثُمَّ لاذَ بِرَسُول اللهِ(صلى الله عليه وآله) فَنَظَرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى حَيْثُ جَبْرَئِيل فَإِذَا شَيْ ءٌ قَدْ مَلأَ بَيْنَ الخَافِقَيْنِ مُقْبِلا حَتَّى كَانَ كَقَابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ قَال: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي رَسُول اللهِ إِليْكَ أُخَيِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مَلكاً رَسُولا أَحَبُّ إِليْكَ أَوْ أَنْ تَكُونَ عَبْداً رَسُولا؟
ص: 11
فَالتَفَتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى جَبْرَئِيل وَ قَدْ رَجَعَ إِليْهِ لوْنُهُ، فَقَال جَبْرَئِيل: بَل كُنْ عَبْداً رَسُولا، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): بَل أَكُونُ عَبْداً رَسُولا، فَرَفَعَ المَلكُ رِجْلهُ اليُمْنَى فَوَضَعَهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ رَفَعَ الأُخْرَى فَوَضَعَهَا فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَفَعَ اليُمْنَى فَوَضَعَهَا فِي الثَّالثَةِ، ثُمَّ هَكَذَا حَتَّى انْتَهَى إِلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، بَعْدَ كُل سَمَاءٍ خُطْوَةٌ، وَكُلمَا ارْتَفَعَ صَغُرَ حَتَّى صَارَ آخِرَ ذَلكَ مِثْل الصِّرِّ، فَالتَفَتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى جَبْرَئِيل (عليه السلام) فَقَال: قَدْ رَأَيْتُكَ ذَعِراً وَمَا رَأَيْتُ شَيْئاً كَانَ أَذْعَرَ لي مِنْ تَغَيُّرِ لوْنِكَ؟
فَقَال: يَا نَبِيَّ اللهِ لا تَلمْنِي أَ تَدْرِي مَنْ هَذَا؟
قَال: لا. قَال: هَذَا إِسْرَافِيل حَاجِبُ الرَّبِّ، وَ لمْ يَنْزِل مِنْ مَكَانِهِ مُنْذُ خَلقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضَ، وَ لمَّا رَأَيْتُهُ مُنْحَطّاً ظَنَنْتُ أَنَّهُ جَاءَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، فَكَانَ الذِي رَأَيْتَ مِنْ تَغَيُّرِ لوْنِي لذَلكَ، فَلمَّا رَأَيْتُ مَا اصْطَفَاكَ اللهُ بِهِ رَجَعَ إِليَّ لوْنِيوَنَفْسِي، أَمَا رَأَيْتَهُ كُلمَا ارْتَفَعَ صَغُرَ إِنَّهُ ليْسَ شَيْ ءٌ يَدْنُو مِنَ الرَّبِّ إلاّ صَغُرَ لعَظَمَتِهِ، إِنَّ هَذَا حَاجِبُ الرَّبِّ وَ أَقْرَبُ خَلقِ اللهِ مِنْهُ، وَ اللوْحُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فَإِذَا تَكَلمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَ تَعَالى بِالوَحْيِ ضَرَبَ اللوْحُ جَبِينَهُ فَنَظَرَ فِيهِ، ثُمَّ أَلقَاهُ إِليْنَا، فَنَسْعَى بِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ، إِنَّهُ لأَدْنَى خَلقِ الرَّحْمَنِ مِنْهُ، وَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ تِسْعُونَ حِجَاباً مِنْ نُورٍ تُقْطَعُ دُونَهَا الأَبْصَارُ مَا لا يُعَدُّ وَلا يُوصَفُ، وَإِنِّي لأَقْرَبُ الخَلقِ مِنْهُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ مَسِيرَةُ أَلفِ عَامٍ»(1).
ص: 12
مسألة: غض الطرف عن الأذى الذي لا مفر منه ولا محيص عنه، مرغوب إليه ومطلوب، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذ قالت: (وأغض طرفي ...).
رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «لا يَكْمُل المُؤْمِنُ إِيمَانُهُ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلى مِائَةٍ وَثَلاثِ خِصَال، فِعْل وَعَمَل وَنِيَّةٍ وَظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا رَسُول اللهِ مَا يَكُونُ المِائَةُ وَثَلاثُ خِصَال» فَقَال: يَا عَليُّ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ ... غَضَّ الطَّرْفِ، سَخِيَّ الكَفِّ»(1).
وفي غرر الحكم:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثلاث فيهن المروءة: غض الطرف، وغض الصوت، ومشي القصد»(2).
وقال (عليه السلام): «رأس الورع غض الطرف»(3).
وقال (عليه السلام): «غض الطرف خير منكثير النظر»(4).
وقال (عليه السلام): «غض الطرف من المروءة»(5).
وقال (عليه السلام): «غض الطرف من كمال الظرف»(6).
ص: 13
وقال (عليه السلام): «غض الطرف من أفضل الورع»(1).
وقال (عليه السلام): «من المروءة غض الطرف و مشي القصد»(2).
وقال (عليه السلام): «نعم الورع غض الطرف»(3).
وقال (عليه السلام): «لا مروة كغض الطرف»(4).
وقال (عليه السلام): «من غض طرفه أراح قلبه»(5).وهذه الروايات تشمل غض الطرف بالمعنى الأخص والأعم فتشمل ما نحن فيه أيضاً.
مسألة: يستحب إظهار التعجب من الغافل عن الموت مع أن (الموت بين بكوره ورواح) كما صرحت الصديقة (صلوات الله عليها) بعجبها من ذلك.
وفي الشعر:
وا عجبا لامرئ ضحوك *** مستيقن أنّه يموت
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إذا صعدت روح المؤمن إلى السّماء تعجّبت الملائكة وقالت: وا عجبا له كيف نجى من دار فسد فيها خيارنا»(6).
ص: 14
مسألة: الدعاء إنشاء، ويصح الإنشاء بصيغة الإخبار، كما في قول الصديقة (صلوات الله عليها): «فالله صبرني على ما حل بي...».
ولعل من وجوهه إفادة قطعيةاستجابة الدعاء، إذ ذكره بصيغة الماضي الدال على الوقوع والتحقق.
كقوله (عليه السلام): «أصْبَحْنا وأصْبَحَتِ الأشياءُ كُلها بِجُملتِها لكَ»(1).
وكقول النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «يَا سَلمَانُ إِذَا أَصْبَحْتَ فَقُل: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا شَرِيكَ لكَ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلكُ للهِ، قُلهَا ثَلاثاً، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَقُل مِثْل ذَلكَ، فَإِنَّهُنَّ يُكَفِّرْنَ مَا بَيْنَهُنَّ مِنْ خَطِيئَةٍ»(2).
(مثل ذلك) أي: أمسينا وأمسى الملك لله.
وهذا الكلام إنشاء في صورة الخبر، كقولك: بعت واشتريت، لأنّ المقصود به الإقرار لله سبحانه بالمملوكية والتضرّع إليه تعالى، لا الإخبار عن ذلك، فهو لا يحتمل التصديق والتكذيب(3).
ص: 15
وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):
أمسى بخدّي للدموع رسوم *** أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم
و الصبر يحسن في المواطن كلها *** إلا عليك فإنّه معدوم
لا عتب في حزني عليك لو *** أنّه كان البكاء لمقلتي يدوم (1)
مسألة: تجوز المبالغة بأقسامها الأربعة، بتشبيه المعنويات بالماديات، أو الماديات بالمعنويات، أو المعنويات بالمعنويات، أو الماديات بالماديات، فيما إذا كان التشبيه عقلائياً مقبولاً لديهم.
فإنه كثيراً ما تستخدم مثل رسوم الدموع وكلوم الفؤاد على نحو المجاز والتشبيه، نعم في المقام ربما كان ذلك على نحو الحقيقة(2).
ص: 16
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض، وفي السماء الدنيا كالقمر بالليل في الأرض»(1).
وروي أنه قَامَ الأَعْوَرُ الشَّنِّيُّ إِلى عَليٍّ (عليه السلام) فَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّا لا نَقُول لكَ كَمَا قَال أَصْحَابُ أَهْل الشَّامِ لمُعَاوِيَةَ، وَلكِنَّا نَقُول: زَادَ اللهُ فِي هُدَاكَ وَسُرُورِكَ، نَظَرْتَ بِنُورِ اللهِ فَقَدَّمْتَ رِجَالا وَأَخَّرْتَ رِجَالا فَعَليْكَ أَنْ تَقُول وَعَليْنَا أَنْ نَفْعَل، أَنْتَ الإِمَامُ فَإِنْ هَلكْتَ فَهَذَانِ مِنْ بَعْدِكَ يَعْنِي حَسَناً وَحُسَيْناً، وَقَدْ قُلتُ شَيْئاً فَاسْمَعْهُ، قَال: هَاتِ فَقَال:
أَبَا حَسَنٍ أَنْتَ شَمْسُ النَّهَارِ *** وَ هَذَانِ فِي الحَادِثَاتِ القَمَرْ
وَ أَنْتَ وَ هَذَانِ حَتَّى المَمَاتِ *** بِمَنْزِلةِ السَّمْعِ بَعْدَ البَصَرْ
وَ أَنْتُمْ أُنَاسٌ لكُمْ سُورَةٌ *** يُقَصِّرُ عَنْهَا أَكُفُّ البَشَرْ
يُخَبِّرُنَا النَّاسُ عَنْ فَضْلكُمْ *** وَ فَضْلكُمُ اليَوْمَ فَوْقَ الخَبَرْ
عَقَدْتَ لقَوْمٍ ذَوِي نَجْدَةٍ *** مِنْ أَهْل الحَيَاءِ وَ أَهْل الخَطَرْ
عَقَدْتَ لقَوْمٍ ذَوِي نَجْدَةٍ *** مِنْ أَهْل الحَيَاءِ وَ أَهْل الخَطَرْ
مَسَامِيحَ بِالمَوْتِ عِنْدَ اللقَاءِ *** مِنَّا وَ إِخْوَانِنَا مِنْ مُضَرْ
وَ مِنْ حَيِّ ذِي يَمَنٍ جِلةٍ *** يُقِيمُونَ فِي الحَادِثَاتِ الصَّعَرِ
فَكُل يَسُرُّكَ فِي قَوْمِهِ *** وَ مَنْ قَال: لا فَبِفِيهِ الحَجَرْ
ص: 17
وَ نَحْنُ الفَوَارِسُ يَوْمَ الزُّبَيْرِ *** وَ طَلحَةَ إِذْ قِيل أَوْدَى غُدَرْ
ضَرَبْنَاهُمُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ*** إِلى الليْل حَتَّى قَضَيْنَا الوَطَرْ
وَ لمْ يَأْخُذِ الضَّرْبُ إلاّ الرُّءُوسَ *** وَ لمْ يَأْخُذِ الطَّعْنُ إلاّ الثُّغَرْ
فَنَحْنُ أُولئِكَ فِي أَمْسِنَا *** وَ نَحْنُ كَذَلكَ فِيمَا غَبَرْ
فَلمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ طِرْقٌ أَوْ لهُ مَيْسَرَةٌ إلاّ أَهْدَى للشَّنِّيِّ أَوْ أَتْحَفَهُ(1).
مسألة: ينبغي تطابق الظاهر والباطن في العزاء على مصاب أهل البيت (عليهمالسلام)، فإن الأولى أن يبكي المؤمن عليهم وأن تجري دموعه على خده، إضافة إلى حرقة قلبه وشدة كمده وكلم فؤاده، كما قالت الصديقة (صلوات الله عليها):
(أمسى بخدي للدموع رسوم *** أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم)
وعلى هذا لا يكفي أن يحزن القلب وحده ولا تدمع العين وحدها، وإن كانت له مرتبة من الفضل والثواب.
كما ربما لا يكفي التظاهر بالحزن دون حرقة القلب، وإن كان التباكي على سيد الشهداء (عليه السلام) ذا أجر وفضيلة كما في الروايات.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن شعائر سيد الشهداء (عليه السلام) وإن كانت
ص: 18
رياءً فهي مقبولة ويثاب عليها الإنسان، كأن يبكي رياءً أو يلطم كذلك، نعم الإخلاص أعظم مرتبةً وأكثر ثواباً.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَتَبَاكَى فَلهُ الجَنَّةُ»(1).
ورُوِيَ عَنْ آل الرَّسُول (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالوا: «مَنْ بَكَى وأَبْكَى فِينَا مِائَةً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى خَمْسِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى ثَلاثِينَ فَلهُالجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى عِشْرِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى عَشَرَةً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى وَاحِداً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ تَبَاكَى فَلهُ الجَنَّةُ»(2).
مسألة: يجوز البكاء على المعصوم (عليه السلام) حتى يصير في الخد رسوم، بل وأكثر من ذلك، كما ورد عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه) في زيارة الناحية المقدسة: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً»(3).
وذلك لأن الإضرار القليل بالنفس غير محرم، بل وحتى الإضرار الكثير فيما إذا كانت أهمية في البين، فيكون حينئذ من قاعدة الأهم والمهم.
وقد ذكر بعض الفقهاء أن سفر الحج لو كان مشتملاً على خطر ولو مثل
ص: 19
خطر البحر واحتمال الغرق فيه، فإنه محرم وإن كان حجة الإسلام، أما زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) حتى في موضعالخطر فهي أمر جائز بل مستحب، وربما يكون ذلك من قاعدة الأهم والمهم.
ولعله لخصوصية في زيارته (عليه السلام) تفرد بها، كما كانت خصوصية في تربته (عليه السلام) حيث جاز أكلها، ولا مانعة جمع بين الوجهين، وهم (صلوات الله عليهم) قد بينوا الأهم.
وفي الحديث عن السفر إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في البحر، وأنه من المحتمل أن تكفأ السفينة، فأخبر الإمام (عليه الصلاة والسلام) بأنها تكفؤ في الجنة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ النَّجَّارِ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «تَزُورُونَ الحُسَيْنَ (عليه السلام) وتَرْكَبُونَ السُّفُنَ»، فَقُلتُ: نَعَمْ، قَال: «أَمَا عَلمْتَ أَنَّهَا إِذَا انْكَفَتْ بِكُمْ نُودِيتُمْ إلاّ طِبْتُمْ وطَابَتْ لكُمُ الجَنَّةُ»(1).
ومن المعروف والمشتهر أن الذين كانوا يزورون الإمام الحسين (عليه
السلام) في أيام المتوكل، كانت تقطع أيديهم، ومع ذلك لم ينقل عن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) النهي عن السفر لزيارة أبي عبدالله (عليه السلام)، بل كانوا يشجعون على الزيارة رغم المخاطر.
وفي الروايات التصريح باستحباب الزيارة حتى مع خوف الهلاك:
عَنْ زُرَارَةَ قَال: قُلتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَا تَقُول فِيمَنْ زَارَ أَبَاكَ عَلى
ص: 20
خَوْفٍ، قَال: «يُؤْمِنُهُ اللهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ وتَلقَّاهُ المَلائِكَةُ بِالبِشَارَةِ ويُقَال لهُ: لا تَخَفْ ولا تَحْزَنْ هَذَا يَوْمُكَ الذِي فِيهِ فَوْزُكَ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: «إِنِّي أَنْزِل الأَرَّجَانَ وقَلبِي يُنَازِعُنِي إِلى قَبْرِ أَبِيكَ، فَإِذَا خَرَجْتُ فَقَلبِي وَجِل مُشْفِقٌ حَتَّى أَرْجِعَ خَوْفاً مِنَ السُّلطَانِ والسُّعَاةِ وأَصْحَابِ المَسَالحِ، فَقَال: «يَا ابْنَ بُكَيْرٍ أَمَا تُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ اللهُ فِينَا خَائِفاً، أَمَا تَعْلمُ أَنَّهُ مَنْ خَافَ لخَوْفِنَا أَظَلهُ اللهُ فِي ظِل عَرْشِهِ وكَانَ مُحَدِّثُهُ الحُسَيْنَ (عليه السلام) تَحْتَ العَرْشِ وآمَنَهُ اللهُ مِنْ أَفْزَاعِ يَوْمِ القِيَامَةِ، يَفْزَعُ النَّاسُ ولا يَفْزَعُ، فَإِنْ فَزِعَ وَقَّرَتْهُ المَلائِكَةُ وسَكَّنَتْ قَلبَهُ بِالبِشَارَةِ»(2).وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال: «يَا مُعَاوِيَةُ لا تَدَعْ زِيَارَةَ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) لخَوْفٍ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهُ رَأَى مِنَ الحَسْرَةِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّ قَبْرَهُ كَانَ عِنْدَهُ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ يَرَى اللهُ شَخْصَكَ وسَوَادَكَ فِيمَنْ يَدْعُو لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وعَليٌّ وفَاطِمَةُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَنْقَلبُ بِالمَغْفِرَةِ لمَا مَضَى ويُغْفَرُ لهُ ذُنُوبُ سَبْعِينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وليْسَ عَليْهِ ذَنْبٌ يُتْبَعُ بِهِ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ غَداً مِمَّنْ يُصَافِحُهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(3).
وعَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: قُلتُ لهُ: جُعِلتُ فِدَاكَ زِيَارَةُ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فِي حَال التَّقِيَّةِ، قَال: «إِذَا أَتَيْتَ الفُرَاتَ فَاغْتَسِل ثُمَّ البَسْ أَثْوَابَكَ الطَّاهِرَةَ ثُمَّ تَمُرُّ بِإِزَاءِ القَبْرِ وقُل: صَلى اللهُ
ص: 21
عَليْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، صَلى اللهُ عَليْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَقَدْ تَمَّتْ زِيَارَتُكَ»(1).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيل، قَال: قَال لي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ(عليهما السلام): «هَل تَأْتِي قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قُلتُ: نَعَمْ عَلى خَوْفٍ ووَجَل، فَقَال: مَا كَانَ مِنْ هَذَا أَشَدَّ فَالثَّوَابُ فِيهِ عَلى قَدْرِ الخَوْفِ، ومَنْ خَافَ فِي إِتْيَانِهِ آمَنَ اللهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لرَبِّ العالمِينَ، وانْصَرَفَ بِالمَغْفِرَةِ، وسَلمَتْ عَليْهِ المَلائِكَةُ، وزَارَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ودَعَا لهُ وانْقَلبَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْل لمْ يَمْسَسْهُ سُوءٌ واتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ»(2) الحديث.
مسألة: الصبر حسن في المصائب بشكل عام.
مسألة: عدم الصبر بمعنى البكاء والجزع هو المستحب في مصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومصاب المعصومين (عليهم السلام).
مسألة: لا ينبغي العتب في الحزن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذلك على فقد المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).
والروايات فيها كثيرة، قد أشير إلى بعضها فيما سبق.
ص: 22
وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):
إِذَا اشْتَدَّ شَوْقِي زُرْتُ قَبْرَكَ بَاكِياً *** أَنُوحُ وَ أَشْكُو لا أَرَاكَ مُجَاوِبِي
فَيَا سَاكِنَ الصَّحْرَاءِ عَلمْتَنِي البُكَا *** وَذِكْرُكَ أَنْسَانِي جَمِيعَ المَصَائِبِ
فَإِنْ كُنْتَ عَنِّي فِي التُّرَابِ مُغَيّباً *** فَمَا كُنْتَ عَنْ قَلبِ الحَزِينِ بِغَائِب (1)
مسألة: زيارة القبور مستحبة، فإنها بالإضافة إلى الإطلاقات والعمومات الدالة، تدل عليها جملة من الروايات المذكورة في بابها.
قَال أَبُو ذَر (رضوان الله عليه): قَال لي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ أُوصِيكَ فَاحْفَظْ لعَل اللهَ يَنْفَعُكَ بِهِ، جَاوِرِ القُبُورَ تَذَكَّرْ بِهَا الآخِرَةَ، وزُرْهَا أَحْيَاناً بِالنَّهَارِ، ولا تَزُرْهَا بِالليْل»(2).وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مِنْ حَقِّ المُؤْمِنِ عَلى المُؤْمِنِ المَوَدَّةُ
ص: 23
لهُ فِي صَدْرِهِ» إِلى أَنْ قَال: «وإِذَا مَاتَ فَالزِّيَارَةُ لهُ إِلى قَبْرِه»(1).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): المَوْتَى نَزُورُهُمْ، قَال: «نَعَمْ»، قُلتُ: فَيَعْلمُونَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَاهُمْ، فَقَال: «إِي وَاللهِ إِنَّهُمْ ليَعْلمُونَ بِكُمْ وَ يَفْرَحُونَ بِكُمْ وَ يَسْتَأْنِسُونَ إِليْكُمْ»(2).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «زُورُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِزِيَارَتِكُمْ، وَليَطْلبْ أَحَدُكُمْ حَاجَتَهُ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ وَعِنْدَ قَبْرِ أُمِّهِ بِمَا يَدْعُو لهُمَا»(3).
وعَنْ صَفْوَانَ الجَمَّال قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) يَقُول: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَخْرُجُ فِي مَلإٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِهِ كُل عَشِيَّةِ خَمِيسٍ إِلى بَقِيعِ المَدَنِيِّينَ فَيَقُول: السَّلامُ عَليْكُمْ يَا أَهْلالدِّيَارِ ثَلاثاً رَحِمَكُمُ اللهُ ثَلاثاً»(4) الحديث.
مسألة: يستحب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر المعصومين (عليه السلام) مطلقاً.
وفي ذلك الروايات المتواترة، كما لا يخفى على من راجع كتب المزارات وكتب الحج، المفصلة الاستدلالية وغيرها، بل وحتى الموجزة مثل مناسك الحج
ص: 24
وما أشبه.
عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا لمَنْ زَارَ قَبْرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «كَمَنْ زَارَ اللهَ فِي عَرْشِهِ»(1).
أي: في شدة تقربه إلى رحمة الله عزوجل.
وعَنِ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ الوَشَّاءِ، قَال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه
السلام) يَقُول: «إِنَّ لكُل إِمَامٍ عَهْداً فِي عُنُقِ أَوْليَائِهِ وشِيعَتِهِ، وإِنَّ مِنْ تَمَامِ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ وحُسْنِ الأَدَاءِ زِيَارَةَ قُبُورِهِمْ، فَمَنْ زَارَهُمْ رَغْبَةًفِي زِيَارَتِهِمْ وتَصْدِيقاً بِمَا رَغِبُوا فِيهِ كَانَ أَئِمَّتُهُمْ شُفَعَاءَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ»(2).
ورُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مَنْ زَارَنَا بَعْدَ مَمَاتِنَا فَكَأَنَّمَا زَارَنَا فِي حَيَاتِنَا، ومَنْ جَاهَدَ عَدُوَّنَا فَكَأَنَّمَا جَاهَدَ مَعَنَا، ومَنْ تَوَلى مُحِبَّنَا فَقَدْ أَحَبَّنَا، ومَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَقَدْ سَرَّنَا، ومَنْ أَعَانَ فَقِيرَنَا كَانَ مُكَافَاتُهُ عَلى جَدِّي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(3).
وَقَال (عليه السلام): «مَنْ زَارَ إِمَاماً مُفْتَرَضَ الطَّاعَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وصَلى عِنْدَهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللهُ لهُ حِجَّةً مَبْرُورَةً وعُمْرَةً»(4).
ص: 25
مسألة: يستحب عند اشتداد الشوق للمعصومين (عليهم السلام) وكذا العلماء وسائر الأموات من المؤمنين، زيارة قبورهم ومشاهدهم.
ويدل عليه قول الصديقة (عليها السلام) هنا: (إذا اشتد شوقي...)، إضافة إلى الروايات الدالة بالفحوى أو الالتزام أو ما أشبه.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا فِي زِيَارَةِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنَ الفَضْل لمَاتُوا شَوْقاً وتَقَطَّعَتْ أَنْفُسُهُمْ عَليْهِ حَسَرَاتٍ»، قُلتُ: ومَا فِيهِ؟ قَال: «مَنْ زَارَهُ شَوْقاً إِليْهِ كَتَبَ اللهُ لهُ أَلفَ حَجَّةٍ مُتَقَبَّلةٍ، وأَلفَ عُمْرَةٍ مَبْرُورَةٍ، وأَجْرَ أَلفِ شَهِيدٍ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ، وأَجْرَ أَلفِ صَائِمٍ، وثَوَابَ أَلفِ صَدَقَةٍ مَقْبُولةٍ، وثَوَابَ أَلفِ نَسَمَةٍ أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، ولمْ يَزَل مَحْفُوظاً» الحَدِيثَ وفِيهِ ثَوَابٌ جَزِيل وفِي آخِرِهِ: «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ هَؤُلاءِ زُوَّارُ الحُسَيْنِ شَوْقاً إِليْهِ»(1).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، قَال: قُلتُ لأَبِيعَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا لمَنْ أَتَى قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام)، قَال: «مَنْ أَتَاهُ شَوْقاً إِليْهِ كَانَ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُكْرَمِينَ، وكَانَ تَحْتَ لوَاءِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ حَتَّى يُدْخِلهُمَا اللهُ الجَنَّةَ»(2).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَسْكَنُهُ الجَنَّةَ ومَأْوَاهُ الجَنَّةَ فَلا يَدَعْ زِيَارَةَ المَظْلومِ» قُلتُ: مَنْ هُوَ، قَال: «الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ صَاحِبُ كَرْبَلاءَ، مَنْ أَتَاهُ شَوْقاً إِليْهِ وحُبّاً لرَسُول اللهِ وحُبّاً لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ
ص: 26
وحُبّاً لفَاطِمَةَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ وآلهِ وعَليْهِمْ أَجْمَعِينَ) أَقْعَدَهُ اللهُ عَلى مَوَائِدِ الجَنَّةِ يَأْكُل مَعَهُمْ والنَّاسُ فِي الحِسَابِ»(1).
مسألة: يستحب التسبيب لزيادة الشوق لأهل البيت (عليهم السلام) بمختلف الطرق، كقراءة الكتب الخاصة بفضائلهم، والتدبر في الروايات التي تتحدث عن مقاماتهم، والاستفادة من علومهم، وإقامة شعائرهم، والخدمة في مجالسهم،وكثرة زيارة مشاهدهم، وبيان فضائل التشرف بحضرتهم وما أشبه.
قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى جَعَل لأَخِي عَليِ بْنِ أَبِي طَالبٍ فَضَائِل لا يُحْصِي عَدَدَهَا غَيْرُهُ، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلةً مِنْ فَضَائِلهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ، ولوْ وَافَى القِيَامَةَ بِذُنُوبِ الثَّقَليْنِ، ومَنْ كَتَبَ فَضِيلةً مِنْ فَضَائِل عَليٍّ لمْ تَزَل المَلائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لهُ مَا بَقِيَ لتِلكَ الكِتَابَةِ رَسْمٌ أَوْ أَثَرٌ، ومَنِ اسْتَمَعَ إِلى فَضِيلةٍ مِنْ فَضَائِلهِ غَفَرَ اللهُ لهُ الذُّنُوبَ التِي اكْتَسَبَهَا بِالاسْتِمَاعِ، ومَنْ نَظَرَ إِلى كِتَابَةِ فَضَائِلهِ غَفَرَ اللهُ لهُ الذُّنُوبَ التِي اكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ»، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «النَّظَرُ إِلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ عِبَادَةٌ، وذِكْرُهُ عِبَادَةٌ، ولا يُقْبَل إِيمَانُ عَبْدٍ إلاّ بِوَلايَتِهِ والبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِه»(2).
وعَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، قَال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَدَخَل عَليْهِ رَجُل فَسَلمَ عَليْهِ وجَلسَ، فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مِنْ أَيِّ البُلدَانِ أَنْتَ» ،
ص: 27
فَقَال لهُ الرَّجُل: أَنَا رَجُل مِنْ أَهْل الكُوفَةِ، وأَنَا مُحِبٌّ لكَ مُوَال، فَقَال لهُ أَبُو جَعْفَرٍ(عليه السلام): «أَفَتَزُورُ قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فِي كُل جُمُعَةٍ»، قَال: لا، قَال: «فَفِي كُل شَهْرٍ»، قَال: لا، قَال: «فَفِي كُل سَنَةٍ»، قَال: لا، فَقَال لهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّكَ لمَحْرُومٌ مِنَ الخَيْرِ»(1).
مسألة: يستحب البكاء عند زيارة قبر المعصوم (عليه السلام) والنوح عليه.
والاستحباب مستفاد من العمومات، بل مما ورد من فعلهم (عليهم الصلاة والسلام) المقترن بالقرائن.
فالعمومات كقوله (عليه السلام): «يحزنون لحزننا»(2).وكقوله (عليه السلام): «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَلى النَّارِ»(3).
وكقوله (عليه السلام): «نَفَسُ المَهْمُومِ لنَا المُغْتَمِّ لظُلمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لأَمْرِنَا
ص: 28
عِبَادَةٌ، وكِتْمَانُهُ لسِرِّنَا جِهَادٌ فِي سَبِيل اللهِ»(1).
مضافاً إلى كون ما ذكر يوجب رقة القلب وزيادة الالتفاف حولهم (عليهم السلام).
وذلك أعم من كون البكاء عليهم لعظيم ما جرى لهم من المصائب أو لفقدهم، أو كونه لما حدث لأتباعهم وشيعتهم، أو لسائر ما ألمّ بهم من شؤون الدين، بل والدنيا أيضاً في الجملة.
روي أنه قَال جَابِرٌ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ مَا حَقُّ المُؤْمِنِ عَلى أَخِيهِ، قَال علي بن الحسين (عليه السلام): «يَفْرَحُ بِفَرَحِهِ، ويَحْزَنُ لحُزْنِهِ، ويَتَفَقَّدُ أُمُورَهُ كُلهَا فَيُصْلحُهَا، ولا يَغْتَنِمُ بِشَيْ ءٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا إلاّ وَاسَاهُ بِهِ حَتَّى يَكُونَا فِيالخَيْرِ والشَّرِّ قِرَاناً وَاحِداً»(2).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «سِتُّ خِصَال مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وجَل وعَنْ يَمِينِ اللهِ» فَقِيل لهُ: مَا هُنَّ، فَقَال: «يُحِبُّ المَرْءُ لأَخِيهِ المُسْلمِ مَا يُحِبُّ لأَعَزِّ أَهْلهِ، ويَكْرَهُ لهُ مَا يَكْرَهُ لأَعَزِّ أَهْلهِ، ويُنَاصِحُهُ بِالوَلايَةِ، ويَفْرَحُ لفَرَحِهِ، ويَحْزَنُ لحُزْنِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُفَرِّجُ عَنْهُ وإِلا دَعَا له»(3).
ص: 29
مسألة: يستحب الشكاية إلى المعصوم (عليه السلام).
فإن المعصومين (عليهم السلام) أحياء عند ربهم يرزقون، كما ورد بذلك النص ودل عليه العقل، فالشكاية عندهم أمواتاً كالشكاية عندهم أحياءً، وقد ورد في الحديث أن الشكاية إلى المؤمن شكاية إلى الله سبحانه.
عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ شَكَا إِلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ شَكَا إِلى اللهِ عَزَّ وجَل، ومَنْ شَكَا إِلى مُخَالفٍ فَقَدْ شَكَا اللهَ عَزَّ وجَل»(1).
هذا مضافاً إلى أن «إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِليْكُمْ وتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُم»(2) كما ورد في الزيارة الجامعة.
إضافة إلى أن ذلك مما يوجب توثيق ارتباط الناس بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) وهو مطلوب.
مسألة: يستحب إنشاد وإنشاء الشعر في مدح أهل البيت (عليهم السلام) ورثائهم، وقد دل عليه متواتر الروايات خاصة في مصاب سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).
ص: 30
والخصوصية لأنه لا يوم كيوم الحسين (عليه السلام)(1)، والإمام الحسين (عليه السلام) مصباح هدى وسفينة نجاة(2)، وهو طريق نور على طول الخط يبدد الظلام، وهو خط حق مقابل خط الظلمة الطغاة، ومن هنا نرى أن من يوم قتله إلى يومنا هذا تحاربه الجبابرة والطغاة والمستبدون في مختلف شعائره ومواكبه وما أشبه.
عَنْ أَبِي عُمَارَةَ المُنْشِدِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال لي: «يَا بَا عُمَارَةَ أَنْشِدْنِي فِي الحُسَيْنِ عليه السلام» قَال: فَأَنْشَدْتُهُ فَبَكَى، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ فَبَكَى، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ فَبَكَى، قَال: فَوَ اللهِ مَا زِلتُ أُنْشِدُهُ ويَبْكِي حَتَّى سَمِعْتُ البُكَاءَ مِنَالدَّارِ.
فَقَال لي: «يَا أَبَا عُمَارَةَ مَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى خَمْسِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى أَرْبَعِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى ثَلاثِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى عِشْرِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى عَشَرَةً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى وَاحِداً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَبَكَى فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَتَبَاكَى فَلهُ الجَنَّةُ»(3).
وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ قَال فِينَا بَيْتَ شِعْرٍ بَنَى اللهُ تَعَالى لهُ بَيْتاً
ص: 31
فِي الجَنَّةِ»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وليَجْتَهِدَنَ أَئِمَّةُ الكُفْرِ وأَشْيَاعُ الضَّلالةِ فِي مَحْوِهِ وتَطْمِيسِهِ فَلا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إلاّظُهُوراً وأَمْرُهُ إلاّ عُلوّاً»(2).
مسألة: يستحب الاستمرار في النياحة والشكوى عند مشاهد المعصومين (عليهم السلام).
عن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «وَارْحَمْ تِلكَ الأَعْيُنَ التِي جَرَتْ دُمُوعُهَا رَحْمَةً لنَا، وَارْحَمْ تِلكَ القُلوبَ التِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لنَا، وَارْحَمِ الصَّرْخَةَ التِي كَانَتْ لنَا»(3).
وفي الزيارة الناحية المقدسة: «فَلأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأَبْكِيَنَ عَليْكَ بَدَل الدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَليْكَ، وَتَأَسُّفاً عَلى مَا دَهَاكَ وَتَلهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلوْعَةِ المُصَابِ وَغُصَّةِ الاكْتِيَابِ»(4).
وينبغي أن لا ييأس الإنسان أبداً فإن الأدعية كلها تستجاب بشكل أو
ص: 32
آخر،وقد قالوا: (من لج ولج)(1)، و(من أكثر طرق الباب يوشك أن يسمع الجواب).
ويقول الشاعر:
لا تقولن مضت أيامه *** إن من جد على الدرب وصل
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ طَلبَ شَيْئاً نَالهُ أَوْ بَعْضَهُ»(2).
إضافة إلى فوائد وآثار ذلك المختلفة، وإن لم تقض بحسب الظاهر هذه الحاجة بخصوصها.
ص: 33
قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):
«وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ، نَقَمُوا واللهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ وشِدَّةَ وَطْأَتِهِ ونَكَال وَقْعَتِهِ، وتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ عَزَّ وجَل، واللهِ لوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لاعْتَلقَهُ ولسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لا يَكْلمُ خِشَاشُهُ ولا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ ولأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلا نَمِيراً فَضْفَاضاً، تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ ولأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، قَدْ تَخَيَّرَ لهُمُ الرَّيَّ غَيْرَ مُتَحَل مِنْهُ بِطَائِل إلاّ بِغَمْرِ المَاءِ ورَدْعِهِ سَوْرَةَ السَّاغِبِ ولفُتِحَتْ عَليْهِمْ بَرَكَاتُ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وسَيَأْخُذُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
----------------------
مسألة: يجب الدفاع عن الحق، وعن أئمة الدين (عليهم السلام)، وذكر مآثرهم ومناقبهم وأعمالهم وإنجازاتهم.
والوجوب فيما إذا كان الحق مما يجب إظهاره كالولاية وفروع الدين الواجبة، وإلاّ كان فضيلة واستحباباً.
نعم الحكم مشروط بعدم وجود محذور أهم كما في موارد التقية، اللهم إلاّ
ص: 34
لو كان أصل الدين في خطر، أو كانت حياة المعصوم (عليه السلام) في خطر، أوبلغت التقية الدماء، وما أشبه ذلك فلا تقية حينئذ.
عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِمْرَانَ المِيثَمِيِّ قَال: سَمِعْتُ مِيثَمَ النَّهْرَوَانِيِّ يَقُول: دَعَانِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وقَال: «كَيْفَ أَنْتَ يَا مِيثَمُ، إِذَا دَعَاكَ دَعِيُّ بَنِي أُمَيَّةَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، إِلى البَرَاءَةِ مِنِّي، فَقُلتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَا واللهِ لا أَبْرَأُ مِنْكَ، قَال: إِذاً واللهِ يَقْتُلكَ ويَصْلبُكَ، قُلتُ: أَصْبِرُ فَذَاكَ فِي اللهِ قَليل، فَقَال: يَا مِيثَمُ إِذاً تَكُونُ مَعِي فِي دَرَجَتِي»(1).
مسألة: يجب في الجملة إنذار الظالم بأن الله سوف يعاقبه، أما إذا كان مورداً للتقية ونحوها فلا يجب وربما لا يجوز حسب الموازين المذكورة في الكتب الفقهية.
ثم لا يخفى أن عمل الإنسان مثله مثل النبات سواء كان خيراً أو شراً، ومن النبات ما ينتج بعد ثلاثة أشهر كما في القثاء والباذنجان وما أشبه، ومن النبات ما لا ينتج إلاّ بعد عدة سنوات كالتفاح والرمان وما أشبه، ونحن عادةلا نعلم بالعلاقات والأسباب الغيبية إلاّ فيما ذكرته الآيات والروايات أو أرشدت إليه الفطرة، وإن كان ربما يعلم الإنسان ببعض العلاقات المادية حسب ما يراه في الخارج ويجربه، ومن هنا نرى أن الظالم قد يعجّل له العذاب، ونرى أنه قد يؤجل، لكن عقابه قطعي عاجلاً كان أم آجلاً، كما أن الثواب للمحسن قطعي
ص: 35
عاجلاً أم آجلاً.
قال تعالى: «ثُمَّ قيلَ لِلَّذِينَ ظَلمُوا ذُوقُوا عَذابَ الخُلدِ هَل تُجْزَوْنَ إلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ»(1).
وقال سبحانه: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَل الظَّالمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ليَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الأَبْصَار»(2).
وقال تعالى: «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتيهِمُ العَذابُ فَيَقُول الذينَ ظَلمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَل قَريبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُل أَولمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْل ما لكُمْ مِنْ زَوال»(3).
وقال سبحانه: «وَمِنْ قَبْلهِ كِتابُ مُوسى إِماماً ورَحْمَةً وهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لساناً عَرَبِيًّا ليُنْذِرَ الذينَ ظَلمُوا وبُشْرى للمُحْسِنين»(4).
مسألة: يستحب وقد يجب بيان أسباب نقمة المشركين والكفار وأعداء الدين بشكل عام، من علماء الدين وأئمتهم، ومن الدين وتعاليمه وقوانينه، كما ذكرت الصديقة (صلوات الله عليها) الوجه في نقمة أولئك القوم من أمير المؤمنين
ص: 36
(عليه الصلاة والسلام).
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (صلوات الله عليهما) أَنَّهُ قَال: «لمَّا احْتُضِرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) غُشِيَ عَليْهِ، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ (صلوات الله عليها) فَأَفَاقَ وهِيَ تَقُول: مَنْ لنَا بَعْدَكَ يَا رَسُول اللهِ، فَقَال: أَنْتُمُ المُسْتَضْعَفُونَ بَعْدِي واللهِ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن الناس لو قدّموا علياً (عليه السلام) لفتحت عليهم بركات السماء والأرض، وغير ذلك من النعم التي ذكرتها الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها).
وذلك لوضوح أن طاعة علي (عليه السلام) هو طاعة لله سبحانه ، وطاعة الله تعالى يوجب خير الدنيا والآخرة.
وينبغي ذكر الأدلة المتنوعة والبراهين المختلفة على ذلك، ولمختلفالمستويات بما يكون جديراً بإقناع مختلف الطبقات من الأساتذة والطلاب والحضريين والقرويين والعلماء والأميين وغيرهم.
ومعنى تقديمهم علياً (عليه الصلاة والسلام) وضعه موضعه الذي وضعه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فيه، من الإمامة والخلافة والوصاية والولاية التامة العامة وإطاعة أوامره واجتناب نواهيه.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَمَّارُ إِنَّ عَليّاً لا يَرُدُّكَ عَنْ هُدًى،
ص: 37
وَلا يَرُدُّكَ إِلى رَدًى، يَا عَمَّارُ طَاعَةُ عَليٍ طَاعَتِي، وَطَاعَتِي طَاعَةُ الله»(1).
مسألة: يستحب بيان أن الله سيأخذهم بما فعلوا في تقديم غير علي (عليه السلام) وظلمهم علياً وفاطمة (عليهما السلام).
وقد ذكرنا أن ذكر وبيان هذه الأمور لو أوجب تقوية العقيدة أو إيجادها كان واجباً، وإلاّ كان مستحباً(2).قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «حُرِّمَتِ الجَنَّةُ عَلى مَنْ ظَلمَ أَهْل بَيْتِي، وعَلى مَنْ قَاتَلهُمْ، وعَلى المُعِينِ عَليْهِمْ، وعَلى مَنْ سَبَّهُمْ، أُولئِكَ لا خَلاقَ لهُمْ فِي الآخِرَةِ، ولا يُكَلمُهُمُ اللهُ، ولا يَنْظُرُ إِليْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، ولا يُزَكِّيهِمْ ولهُمْ عَذابٌ أَليم»(3).
ص: 38
روي أن عائشة بنت طلحة دخلت على فاطمة (عليها السلام) فرأتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت وأمي ما الذي يبكيك؟ فقالت (عليها السلام) لها: «أسائلتي عن هنّة حلق بها الطائر، وحفي بها السائر، ورفعت إلى السماء أثراً، ورزئت في الأرض خبراً. إن قحيف تيم وأحيول عدي جاريا أبا الحسن في السباق حتى إذا تفرّيا بالخناق، أسرّا له الشنآن وطوياه الإعلان، فلما خبا نور الدين وقُبض النبي الأمين (صلى الله عليه وآله) نطقا بفورهما، ونفثا بسورهما، وأدلاّ بفدك، فيا لها كم من ملك ملك، إنها عطية الرب الأعلى للنجي الأوفى، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي، وإنها لبعلم الله وشهادة أمينه، فإن انتزعا مني البلغة، ومنعاني اللمظة فأحتسبتها يوم الحشر زلفة، وليجدنها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم»(1).
---------------------
قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار(2):
توضيح: (عن هنة) أي شي ء يسيرقليل، أو قصّة منكرة قبيحة(3).
ص: 39
(حلق بها الطائر): تحليق الطّائر ارتفاعه في الهواء، أي انتشر خبرها، إذ كان الغالب في تلك الأزمنة إرسال الأخبار مع الطيور.
(وحفي بها السائر): أي أسرع السائر في إيصال هذا الخبر حتى حفي وسقط خفّه ونعله، أو رقّ رجله أو رجل دابته، يقال حفي كعلم إذا مشى بلا خفّ ولا نعل، أو رقّت قدمه أو حافره، أو هو من الحفاوة وهي المبالغة في السّؤال(1).
وفي بعض النسخ: (وخفي بها الساتر).. أي لم يبق ساتر لها ولم يقدر الساترون على إخفائها.
(ورفعت إلى السماء أثراً): أي ظهرت آثاره في السماء عاجلاً وآجلاً من منع الخيرات وتقدير شدائد العقوبات لمن ارتكبها.
(ورزئت في الأرض خبراً): يقال رزأه كجعله وعمله أصاب منه شيئاً، ورزأه رزءاً أو مرزأة أصاب منه خبراً، والشيء نقصه، والرزيئة المصيبة، فيمكن أن يقرأ على بناء المعلوم.. أي أحدثت منجهة خبرها في الأرض مصائب، أو المجهول بالإسناد المجازي، والأول أنسب معنى، والثاني لفظاً، ويمكن أن يكون بتقديم المعجمة على المهملة، يقال زري عليه زرياً عابه وعاتبه فلا يكون مهموزاً.
وفي بعض النسخ: (ربت) بالراء المهملة والباء الموحّدة، أي نمت وكثرت.
وفي بعضها: (رنّت) من الرنين.
وفي نسخة قديمة: و(رويت) من الرواية.
ص: 40
(إنّ قحيف تيم): لعلها (صلوات الله عليها) أطلقت عليه قحيفاً، لأنّ أباه أبو قحافة، والقحف بالكسر العظم فوق الدماغ، والقحف بالفتح قطع القحف أو كسره، والقاحف المطر يجي ء فجأة فيقتحف كل شي ء.. أي يذهب به، وسيل قحاف كغراب جزاف.
(والأحيول) تصغير الأحول، فإنه لو لم يكن أحول ظاهراً كان أحول باطناً لشركه، بل أعمى، ويقال أيضا ما أحوله.. أي ما أحيله.
(جاريا أبا الحسن (عليه السلام) في السباق): يقال جاراه أي جرى معه، والسّباق المسابقة، أي كانا يريدان أن يسبقاه في المكارم والفضائل في حياة النبيّ (صلى الله عليه و آله).
(حتى إذا تفريا بالخناق أسرّا لهالشنآن): يقال تفرّى أي انشقّ، والخناق ككتاب الحبل يخنق به، وكغراب داء يمتنع معه نفوذ النّفس إلى الرّية والقلب. وفي بعض النسخ بالحاء المهملة وهو بالكسر جمع الحنق بالتّحريك وهو الغيظ أو شدّته.
و(الشّنآن): العداوة، أي لما انشقا بما خنقهما من ظهور مناقبه وفضائله وعجزهما عن أن يدانياه في شي ء منها، أو من شدة غيظه أكمنا له العداوة في قلبهما منتهضين للفرصة.
وفي بعض النسخ: (تعريا) بالعين والراء المهملتين، فلعل المعنى بقيا مسبوقين في العراء وهو الفضاء والصحراء متلبسين بالخناق والغيظ.
وفي بعض النسخ: (ثغرا) أي توقرا وثقلا.
وفي بعضها: (تغرغرا) من الغرغرة وهي تردّد الرّوح في الحلق، ويقال
ص: 41
يتغرغر صوته في حلقه أي يتردّد، وهو مناسب للخناق.
وفي بعضها: (تقرّرا) أي ثبتا ولم يمكنهما الحركة.
وفي بعضها: (تعزّبا) بالمهملة ثم المعجمة، أي بعدا ولم يمكنهما الوصول إليه، وكان يحتمل تقديم المعجمة أيضا، والمعنى قريب من الأول.وفي بعضها: (تقربا) بالقاف والباء الموحدة ويمكن توجيهه بوجه، وكان يحتمل النون، وهو أوجه فالخناق بالخاء المكسورة أي اشتركا فيما يوجب عجزهما كأنهما اقترنا بحبل واحد في عنقهما.
وفي بعضها: (تفردا) بالفاء والراء المهملة والدال وهو أيضا لا يخلو من مناسبة.
(وطوياه الإعلان): أي أضمرا أن يعلنا له العداوة عند الفرصة، وفي الكلام حذف وإيصال.. أي طويا أو عنه، يقال طوى الحديث أي كتمه، ويقال خبت النار أي سكنت وطفئت.
(نطقا بفورهما): أي تكلما فوراً، أي بسبب فورانهما.
وفي بعض النسخ: (نطفا) بالفاء أي صبّا ما في صدورهما فوراً، أو بسبب غليان حقدهما وفوران حسدهما، ويحتمل أن تكون الباء زائدة، يقال نطف الماء أي صبّه، وفلاناً قذفه بفجور، أو لطّخه بعيب. وفي الحديث: رأيت سقفا تنطف سمناً وعسلاً، أي تقطر، وفي قصة المسيح (عليه السلام) ينطف رأسه ماء، وفار القدر فوراً وفوراناً: غلا وجاش.
(وأتوا من فورهم): أي من وجههم، أو قبل أن يسكنوا.
(ونفثا بسورهما): نفثه كضرب رمىبه، والنفث النفخ والبزق. وسورة
ص: 42
الشي ء حدّته وشدّته، ومن السّلطان سطوته واعتداؤه، وسار الشراب في رأسه سوراً دار وارتفع، والرجل إليك وثب وثار.
(وأدلا بفدك): قال الجوهري الدّل الغنج والشكل.. وفلان يدّل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده، وهو يدل بفلان أي يثق به، والحاصل أنهما أخذا فدك بالجرأة من غير خوف.
وفي بعض النسخ: (وا ذلا بفدك) بالذال المعجمة على الندبة، ولعله تصحيف(1).
(فيا لها كم من ملك ملك): من قبيل (يا للماء) للتعجب، أي يا قوم تعجبوا لفدك. وقولها كم من ملك بيان لوجه التعجب.
وفي بعض النسخ: (فيا لها لمن ملك تيك).
وفي بعضها: (فيا لها لمزة لك تيك) واللمزة بضم اللام وفتح الميم العيّاب. و(تيك) اسم إشارة، والظاهر أن الجميعتصحيف(2).
(والنجيّ): هو المناجي المخاطب للإنسان، أي لمن خصّه الله بنجواه وسرّه، وكان أوفى الخلق بعهده وأمره.
(والصبية) بالكسر: جمع الصبي.
(والسّغب): الجوع.
ص: 43
و(النجل): الولد.
و(البلغة) بالضم: ما يتبلغ به من العيش.
و(اللماظة) بالضم: ما يبقى في الفم من الطّعام. وقال الشّاعر في وصف الدّنيا: لماظة أيّام كأحلام نائم.
ويقال: ما ذقت لماظا بالفتح أي شيئاً، واللمظة بالضم كالنكتة من البياض، واللماظة هنا أنسب.
و(الزّلفة) بالضم: كالزّلفى القرب والمنزلة.. أي أعلم أنها سبب لقربي يوم الحشر، أو أصبر عليها ليكون سبباً لقربي.
قال في النهاية: وفيه من صام إيماناً واحتساباً.. أي طلباً لوجه الله وثوابه، والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدّ، وإنّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه، لأنّ له حينئذ أن يعتدّ عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنّهمعتدّ به.. والاحتساب في الأعمال الصالحات، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البرّ و القيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجوّ منها..، ومنه الحديث «من مات له ولد فاحتسبه..» أي احتسب الأجر بصبره على مصيبته.
و(سعر النار).. كمنع أوقدها.
و(الحميم) الماء الحارّ.
و(اللظى) كفتى: النار أو لهبها، و لظى معرفة جهنّم، أو طبقة منها، أعاذنا الله تعالى منها ومن طبقاتها ودركاتها. انتهى(1).
ص: 44
مسألة: ينبغي التظلم، حتى عند من ليس بمقدوره أن يدفع الظلم عن المظلوم، إذا كان لغاية عقلائية كإيصال الظلامة بهذا الطريق للآخرين، وكالتنفيس عن الكرب، وكمنع الظالم من أن يظلم الآخرين لما يرى من ردود الأفعال والردع الاجتماعي.
وقد يجب فيما إذا توقف واجب عليه.
ومن المعلوم أن إظهار ظلم الظالم ليس من الاغتياب والإيذاء المحرم، فقد قال سبحانه: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْل إلاّ مَنْ ظُلم»(1)، على تفصيل ذكره الشيخ (رحمه الله) في كتاب المكاسب، وغيره في غيره، في باب الغيبة.
مسألة: يستحب إخبار الناس بظلم الظالم بل قد يجب، وإن لم يكن مصداق التظلم، نعم ربما لا يجوز إذا ترتب عليه ضرر لا يجوز تحمله.
لا يقال: إن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كيف تقول: «انتزعا مني البلغة»، معوضوح أن أهل البيت (عليهم السلام) ما كانوا من أهل الدنيا ولا يرغبون في حطامها؟
والجواب: إن البلغة لا يراد بها بلغة أكلهم وشربهم، بل لعل المراد بلغتهم
ص: 45
في إنفاق ذلك في سبيل الله كما هي عادتهم، خاصة وأنهم (عليهم السلام) كانوا ملاذ القاصي والداني من ذوي الحاجة لما عرف عنهم من الجود والكرم، ولأنهم أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً وبلغتهم في إحقاق الحق وإبطال الباطل.
مضافاً إلى أنه قد يذكر الإنسان ما لا احتياج له به، إلماعاً إلى الظلم الواقع عليه، وليتخذه الناس أسوة في التظلم والشكاية واستعادة الحقوق المسلوبة.
بالإضافة إلى احتمال أن يكون المراد من (الصبية السواغب من نجله ونسلي) الأعم من النسل المباشر وهما الحسنان (عليهما السلام) بل سائر أبنائهم إلى يوم القيامة.
مسألة: يستحب بيان كثرة بكاء الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) حيث ورد: (فرأتها باكية).فإن بيان ذلك يوجب فهم الناس عمق المصاب، كما أنه يحول دون اندراس تلك الوقائع والمصائب، وذلك يهدي إلى شدة الالتفاف حول العترة الطاهرة (عليهم السلام) وكثرة أتباعهم والابتعاد عن ظالميهم.
مسألة: ليس من جملة الفضائل كتمان البكاء فيما كان المقام يقتضيه، ومنه ما ورد في هذه الرواية من أن عائشة بنت طلحة دخلت على الصديقة الزهراء
ص: 46
(عليها السلام) فرأتها باكية.
وعلى هذا فإن البكاء والجهر به على فقد المعصومين (عليهم السلام) وظلامتهم حسن.
وكذلك البكاء وإظهاره على العلماء وما جرى عليهم، وإظهار البكاء على مظلومية أتباع أهل البيت (عليهم السلام).
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) أُحَدِّثُهُ فَدَخَل عَليْهِ ابْنُهُ، فَقَال لهُ: مَرْحَباً وضَمَّهُ وقَبَّلهُ وقَال: «حَقَّرَ اللهُ مَنْ حَقَّرَكُمْ، وانْتَقَمَ مِمَّنْ وَتَرَكُمْ، وخَذَل اللهُ مَنْ خَذَلكُمْ، ولعَنَ اللهُ مَنْ قَتَلكُمْ، وكَانَ اللهُ لكُمْ وَليّاً وحَافِظاً ونَاصِراً، فَقَدْ طَال بُكَاءُ النِّسَاءِ وبُكَاءُ الأَنْبِيَاءِوالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ ومَلائِكَةِ السَّمَاءِ»، ثُمَّ بَكَى وقَال:
«يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِذَا نَظَرْتُ إِلى وُلدِ الحُسَيْنِ أَتَانِي مَا لا أَمْلكُهُ بِمَا أَتَى إِلى أَبِيهِمْ وإِليْهِمْ، يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) لتَبْكِيهِ وتَشْهَقُ فَتَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لوْلا أَنَّ الخَزَنَةَ يَسْمَعُونَ بُكَاءَهَا وقَدِ اسْتَعَدُّوا لذَلكَ مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا عُنُقٌ أَوْ يَشْرُدَ دُخَانُهَا فَيُحْرِقَ أَهْل الأَرْضِ فَيَحْفَظُونَهَا مَا دَامَتْ بَاكِيَةً، ويَزْجُرُونَهَا ويُوثِقُونَ مِنْ أَبْوَابِهَا مَخَافَةً عَلى أَهْل الأَرْضِ، فَلا تَسْكُنُ حَتَّى يَسْكُنَ صَوْتُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ، وإِنَّ البِحَارَ تَكَادُ أَنْ تَنْفَتِقَ فَيَدْخُل بَعْضُهَا عَلى بَعْضٍ، ومَا مِنْهَا قَطْرَةٌ إلاّ بِهَا مَلكٌ مُوَكَّل، فَإِذَا سَمِعَ المَلكُ صَوْتَهَا أَطْفَأَ نَارَهَا بِأَجْنِحَتِهِ وحَبَسَ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ مَخَافَةً عَلى الدُّنْيَا ومَا فِيهَا ومَنْ عَلى الأَرْضِ، فَلا تَزَال المَلائِكَةُ مُشْفِقِينَ يَبْكُونَهُ لبُكَائِهَا ويَدْعُونَ اللهَ ويَتَضَرَّعُونَ إِليْهِ، ويَتَضَرَّعُ أَهْل العَرْشِ ومَنْ حَوْلهُ، وتَرْتَفِعُ أَصْوَاتٌ مِنَ المَلائِكَةِ بِالتَّقْدِيسِ للهِ مَخَافَةً عَلى أَهْل الأَرْضِ، ولوْ أَنَّ صَوْتاً مِنْ
ص: 47
أَصْوَاتِهِمْ يَصِل إِلى الأَرْضِ لصَعِقَ أَهْل الأَرْضِ وتَقَطَّعَتِ الجِبَال وزُلزِلتِ الأَرْضُ بِأَهْلهَا».
قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ إِنَّ هَذَا الأَمْرَ عَظِيمٌ.
قَال: «غَيْرُهُ أَعْظَمُ مِنْهُ مَا لمْ تَسْمَعْهُ»،ثُمَّ قَال لي: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ فِيمَنْ يُسْعِدُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، فَبَكَيْتُ حِينَ قَالهَا، فَمَا قَدَرْتُ عَلى المَنْطِقِ ومَا قَدَرَ عَلى كَلامِي مِنَ البُكَاءِ، ثُمَّ قَامَ إِلى المُصَلى يَدْعُو، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ عَلى تِلكَ الحَال، فَمَا انْتَفَعْتُ بِطَعَامٍ ومَا جَاءَنِي النَّوْمُ وأَصْبَحْتُ صَائِماً وَجِلا حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَلمَّا رَأَيْتُهُ قَدْ سَكَنَ سَكَنْتُ وحَمِدْتُ اللهَ حَيْثُ لمْ تَنْزِل بِي عُقُوبَةٌ»(1).
وروي أنه قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِليْكَ»، قَال: «الذِي يَبْكِي لفَقْدِ الصَّالحِينَ كَمَا يَبْكِي الصَّبِيُّ عَلى فَقْدِ أَبَوَيْه»(2).
مسألة: يستحب خطاب المعصوم (عليه السلام) بكلمة: (بأبي أنت وأمي).
وذلك لأن المعصوم (عليه السلام) أفضل، وحقه أكثر من أب الإنسان وأمه.وما ورد أحياناً من قولهم (عليهم الصلاة والسلام) هذا اللفظ لغير المعصومين
ص: 48
الأربعة عشر، كما قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لأخيه العباس (عليه السلام): «بأبي أنت» فذلك كلمة عطف ولطف(1) وهو دليل على علو مقام أبي الفضل (عليه السلام)، لأن المعصوم لا يفدى به غير المعصوم.
من كلام لأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قاله وهو يلي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتجهيزه:
«بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُول اللهِ، لقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ، خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولوْ لا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الجَزَعِ لأَنْفَدْنَا عَليْكَ مَاءَ الشُّئُونِ، ولكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلا والكَمَدُ مُحَالفاً وقَلا لكَ، ولكِنَّهُ مَا لا يُمْلكُ رَدُّهُ ولا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ واجْعَلنَا مِنْ بَالك»(2).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لمَّاصَعِدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) الغَارَ طَلبَهُ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وخَشِيَ أَنْ يَغْتَالهُ المُشْرِكُونَ، وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى حِرَا وعَليٌّ (عليه السلام) عَلى ثَبِيرٍ، فَبَصُرَ بِهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: مَا لكَ يَا عَليُّ، قَال: بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي خَشِيتُ أَنْ يَغْتَالكَ المُشْرِكُونَ فَطَلبْتُكَ، فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): نَاوِلنِي يَدَكَ يَا عَليُّ، فَرَجَفَ الجَبَل حَتَّى خَطَا بِرِجْلهِ إِلى الجَبَل الآخَرِ ثُمَّ رَجَعَ الجَبَل إِلى قَرَارِهِ»(3).
ص: 49
وفي زيارة عاشوراء: «يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي لقَدْ عَظُمَ مُصَابِي بِكَ، فَأَسْأَل اللهَ الذِي أَكْرَمَ مَقَامَكَ أَنْ يُكْرِمَنِي بِكَ ويَرْزُقَنِي طَلبَ ثَارِكَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ آل مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) اللهُمَّ اجْعَلنِي وَجِيهاً عِنْدَكَ بِالحُسَيْنِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة»(1).
وفي زيارة الإمام الرضا (عليه السلام): «وَارْحَمْ تَقَلبِي عَلى قَبْرِ ابْنِ أَخِي نَبِيِّكَ ورَسُولكَ (صلى الله عليه وآله) بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أَتَيْتُكَ زَائِراً وَافِداً عَائِذاً مِمَّا جَنَيْتُ بِهِعَلى نَفْسِي واحْتَطَبْتُ عَلى ظَهْرِي فَكُنْ لي شَفِيعاً إِلى رَبِّكَ يَوْمَ فَقْرِي وفَاقَتِي»(2).
مسألة: يستحب السؤال عن سبب تألم المعصوم (عليه السلام) وانزعاجه أو استيائه، وعن سبب بكائه.
وذلك لأن فعل المعصوم (عليه السلام) حجة يقتدى به، فالسؤال هادٍ إلى العمل الموجب للقرب من الله سبحانه.
والأمر كذلك في الجملة في شأن أتقياء العلماء ومن يقتدى بهم، بل حتى مطلق المؤمن إذا انطبق عليه عنوان من العناوين الراجحة.
قَال عُقْبَةُ بْنُ سِمْعَانَ: سِرْنَا مَعَهُ - أي مع سيد الشهداء عليه السلام - سَاعَةً فَخَفَقَ وهُوَ عَلى ظَهْرِ فَرَسِهِ خَفْقَةً ثُمَّ انْتَبَهَ وهُوَ يَقُول: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِليْهِ راجِعُونَ
ص: 50
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ، فَفَعَل ذَلكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَأَقْبَل إِليْهِ ابْنُهُ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) عَلى فَرَسٍ فَقَال: مِمَّ حَمِدْتَ اللهَ واسْتَرْجَعْتَ.
فَقَال: يَا بُنَيَّ إِنِّي خَفَقْتُ خَفْقَةً فَعَنَّ لي فَارِسٌ عَلى فَرَسٍ وهُوَ يَقُول: القَوْمُيَسِيرُونَ والمَنَايَا تَصِيرُ إِليْهِمْ، فَعَلمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِليْنَا.
فَقَال لهُ: يَا أَبَتِ لا أَرَاكَ اللهُ سُوءاً أَ لسْنَا عَلى الحَقِ، قَال: بَلى والذِي إِليْهِ مَرْجِعُ العِبَادِ.
قَال: فَإِنَّنَا إِذاً لا نُبَالي أَنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ.
فَقَال لهُ الحُسَيْنُ (عليه السلام): جَزَاكَ اللهُ مِنْ وَلدٍ خَيْرَ مَا جَزَى وَلداً عَنْ وَالدِهِ (1).
وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ غَيْرِ وَاحِدٍ قَالوا: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، فَلمَّا بَلغَ سِتَّ سِنِينَ خَرَجَتْ بِهِ إِلى أَخْوَالهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِالمَدِينَةِ تَزُورُهُمْ بِهِ وَ مَعَهُ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ وَهُمْ عَلَى بَعِيرَيْنِ فَنَزَلتْ بِهِ فِي دَارِ النَّابِغَةِ فَأَقَامَتْ بِهِ عِنْدَهُمْ شَهْراً، وَ كَانَ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ يَخْتَلفُونَ وَ يَنْظُرُونَ، قَالتْ أُمُّ أَيْمَنَ: فَسَمِعْتُ أَحَدَهُمْ يَقُول هُوَ نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ وَ هَذِهِ دَارُ هِجْرَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلى مَكَّةَ، فَلمَّا كَانُوا بِالأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ فَقَبَرَهَا هُنَاكَ، فَرَجَعَتْ بِهِ أُمُّ أَيْمَنَ إِلى مَكَّةَ، ثُمَّ لمَّا مَرَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ بِالأَبْوَاءِ قَال: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَتَاهُ رَسُول اللهِ (صلى
الله عليه وآله) فَأَصْلحَهُ وَبَكَى عِنْدَهُ وَبَكَىالمُسْلمُونَ لبُكَاءِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقِيل لهُ، فَقَال: أَدْرَكَتْنِي رَحْمَةُ رَحْمَتِهَا فَبَكَيْتُ.
ص: 51
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة(1) قال: انتهى إلى قبر قد درس، قال: فجلس إليه ودمعت عيناه، قال: فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما يبكيك يا رسول الله، قال: فقال: لما قدمت مكة استاذنت ربي في زيارة قبر أم محمد، قال: قال: فأذن لي فى زيارتها وأذن لها في كلامي، قال: فشكت إلي، قال: فأدركني من ذاك ما يدرك الولد، فسألت ربي أن يشفعني فيها»(2).
مسألة: يستحب بيان سبب بكاء الصديقة فاطمة (عليها السلام) في هذا المورد وسائر الموارد.
فإن معرفة السبب هنا، وهو غصب فدك وغصب الخلافة وما جرى عليها من الظلم، يوجب تجنب الناس عن الظلمة وعن الغاصبين، كما يوجب تجنبهم عن الظلموالغصب وما أشبه، مضافاً إلى ما يوجب من الالتفاف حول العترة الطاهرة (عليهم السلام) أكثر فأكثر، فالملاك آتٍ في بيان السبب.
رُوِيَ أَنَّهُ لمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ بِقَتْل وَلدِهَا الحُسَيْنِ ومَا يَجْرِي عَليْهِ مِنَ المِحَنِ، بَكَتْ فَاطِمَةُ بُكَاءً شَدِيداً وقَالتْ: يَا أَبَهْ مَتَى يَكُونُ ذَلكَ؟
قَال: فِي زَمَانٍ خَال مِنِّي ومِنْكِ ومِنْ عَليٍّ، فَاشْتَدَّ بُكَاؤُهَا وقَالتْ: يَا أَبَهْ
ص: 52
فَمَنْ يَبْكِي عَليْهِ ومَنْ يَلتَزِمُ بِإِقَامَةِ العَزَاءِ لهُ؟
فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): يَا فَاطِمَةُ إِنَّ نِسَاءَ أُمَّتِي يَبْكُونَ عَلى نِسَاءِ أَهْل بَيْتِي، ورِجَالهُمْ يَبْكُونَ عَلى رِجَال أَهْل بَيْتِي، ويُجَدِّدُونَ العَزَاءَ جِيلا بَعْدَ جِيل فِي كُل سَنَةٍ، فَإِذَا كَانَ القِيَامَةُ تَشْفَعِينَ أَنْتِ للنِّسَاءِ، وأَنَا أَشْفَعُ للرِّجَال، وكُل مَنْ بَكَى مِنْهُمْ عَلى مُصَابِ الحُسَيْنِ أَخَذْنَا بِيَدِهِ وأَدْخَلنَاهُ الجَنَّةَ، يَا فَاطِمَةُ كُل عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاّ عَيْنٌ بَكَتْ عَلى مُصَابِ الحُسَيْنِ، فَإِنَّهَا ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ بِنَعِيمِ الجَنَّةِ»(1).
مسألة: يستحب بيان قضية فدك وأنها كانت عطية الرب للصديقة فاطمة (عليها السلام) ونحلة لذريتها (عليهم السلام).
فإن بيان ذلك نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعطاء المحق حقه.
قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ تَرَكَ إِنْكَارَ المُنْكَرِ بِقَلبِهِ ويَدِهِ ولسَانِهِ فَهُوَ مَيِّتٌ بَيْنَ الأَحْيَاء»(2).
وفي (نهج البلاغة) في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف: «بَلى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ، مِنْ كُل مَا أَظَلتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَليْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ
ص: 53
وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، ونِعْمَ الحَكَمُ اللهُ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن من غصب فدك وأكلها ليجدنها ساعرة حميم في لظى جحيم.
وقولها (صلوات الله عليها) دليل على أنغاصبي فدك والخلافة من أهل النار.
ثم إن (يجدنها ساعرة) ظاهره أن ما غصبوه سيكون بنفسه ساغرة حميم، كما قال تعالى: «يَوْمَ يُحْمَى عَليْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ»(2).
وقوله سبحانه: «إِنَّ الذينَ يَأْكُلونَ أَمْوَالَ اليَتامَى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلونَ في بُطُونِهِمْ ناراً»(3).
فإن كثيراً من وقود جهنم هي الأشياء التي أخذت بالظلم في الدنيا، وقد بيّنا وجه ذلك في كتاب (الآداب والسنن)(4) بمناسبة.
ص: 54
مسألة: إسرار البغض والشنآن للمعصوم (عليه السلام) محرم، بل إنه النصب، والمبغض ناصبي، وقد أشارت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لذلك ب (أسر له الشنآن).
وفي يوم عاشوراء لمّا احتجّ الإمام الحسين (عليه السلام) في الطفّ على شذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب بما احتج إلى أن أنهى كلامه لهم بقوله: فبم تستحلون دمي؟ أجابوه بقولهم: بغضاً لأبيك (1).
وفي الرواية: دَخَلتْ أُمُّ سَلمَةَ عَلى فَاطِمَةَ (عليها
السلام) فَقَالتْ لهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عَنْ ليْلتِكِ يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ؟! قَالتْ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وكَرَبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وظُلمَ الوَصِيُّ وهُتِكَ واللهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مُقْتَصَّةً عَلى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُ فِي التَّنْزِيل، وسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيل، ولكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ كَانَتْ عَليْهَا قُلوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَةً لإِمْكَانِ الوُشَاةِ، فَلمَّا اسْتُهْدِفَ الأَمْرُ أَرْسَلتْ عَليْنَا شَآبِيبَ الآثَارِ مِنْ مَخِيلةِ الشِّقَاقِ، فَيَقْطَعُ وَتَرَ الإِيمَانِ مِنْ قِسِيِّصُدُورِهَا، وليْسَ عَلى مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الرِّسَالةِ وكَفَالةِ المُؤْمِنِينَ، أَحْرَزُوا عَائِدَتَهُمْ غُرُورَ الدُّنْيَا بَعْدَ انْتِصَارٍ مِمَّنْ فَتَكَ بِآبَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الكُرُوبِ ومَنَازِل الشَّهَادَات (2).
وفي رواية: قَال سُليْمٌ: وَحَدَّثَنِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) قَال:
ص: 55
كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي بَعْضِ طُرُقِ المَدِينَةِ فَأَتَيْنَا عَلى حَدِيقَةٍ فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا أَحْسَنَهَا مِنْ حَدِيقَةٍ، قَال: مَا أَحْسَنَهَا ولكَ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا، ثُمَّ أَتَيْنَا عَلى حَدِيقَةٍ أُخْرَى فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا أَحْسَنَهَا مِنْ حَدِيقَةٍ، قَال: مَا أَحْسَنَهَا ولكَ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلى سَبْعِ حَدَائِقَ أَقُول: يَا رَسُول اللهِ مَا أَحْسَنَهَا ويَقُول: لكَ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا، فَلمَّا خَلا لهُ الطَّرِيقُ اعْتَنَقَنِي ثُمَّ أَجْهَشَ بَاكِياً وقَال: بِأَبِي الوَحِيدُ الشَّهِيدُ، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا يُبْكِيكَ، فَقَال: ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لا يُبْدُونَهَا لكَ إلاّ مِنْ بَعْدِي، أَحْقَادُ بَدْرٍ وتِرَاتُ أُحُدٍ، قُلتُ: فِي سَلامَةٍ مِنْ دَيْنِي، قَال: فِي سَلامَةٍ مِنْ دِينِكَ فَأَبْشِرْ يَا عَليُّ، فَإِنَّ حَيَاتَكَ ومَوْتَكَ مَعِي، وأَنْتَ أَخِي وأَنْتَ وَصِيِّي وأَنْتَ صَفِيِّي ووَزِيرِي ووَارِثِي والمُؤَدِّي عَنِّي، وأَنْتَ تَقْضِي دَيْنِي وتُنْجِزُ عِدَاتِي عَنِّي،وأَنْتَ تُبْرِئُ ذِمَّتِي وتُؤَدِّي أَمَانَتِي، وتُقَاتِل عَلى سُنَّتِي النَّاكِثِينَ مِنْ أُمَّتِي والقَاسِطِينَ والمَارِقِينَ، وأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، ولكَ بِهَارُونَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إِذِ اسْتَضْعَفَهُ قَوْمُهُ وكَادُوا يَقْتُلونَهُ، فَاصْبِرْ لظُلمِ قُرَيْشٍ إِيَّاكَ وتَظَاهُرِهِمْ عَليْكَ، فَإِنَّكَ بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ومَنْ تَبِعَهُ، وهُمْ بِمَنْزِلةِ العِجْل ومَنْ تَبِعَهُ، وإِنَّ مُوسَى أَمَرَ هَارُونَ حِينَ اسْتَخْلفَهُ عَليْهِمْ إِنْ ضَلوا فَوَجَدَ أَعْوَاناً أَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِهِمْ وإِنْ لمْ يَجِدْ أَعْوَاناً أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ ويَحْقِنَ دَمَهُ ولا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، يَا عَليُّ مَا بَعَثَ اللهُ رَسُولا إلاّ وأَسْلمَ مَعَهُ قَوْمٌ طَوْعاً وقَوْمٌ آخَرُونَ كَرْهاً فَسَلطَ اللهُ الذِينَ أَسْلمُوا كَرْهاً عَلى الذِينَ أَسْلمُوا طَوْعاً فَقَتَلوهُمْ ليَكُونَ أَعْظَمَ لأُجُورِهِمْ، يَا عَليُّ وإِنَّهُ مَا اخْتَلفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إلاّ ظَهَرَ أَهْل بَاطِلهَا عَلى أَهْل حَقِّهَا وإِنَّ اللهَ قَضَى الفُرْقَةَ والاخْتِلافَ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ ولوْ شَاءَ لجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى حَتَّى لا يَخْتَلفَ اثْنَانِ مِنْ خَلقِهِ ولا يُتَنَازَعَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَمْرِهِ ولا يَجْحَدَ المَفْضُول ذَا الفَضْل فَضْلهُ، ولوْ
ص: 56
شَاءَ عَجَّل النَّقِمَةَ فَكَانَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ حَتَّى يُكَذَّبَ الظَّالمُ ويُعْلمَ الحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، ولكِنْ جَعَل الدُّنْيَا دَارَ الأَعْمَال وجَعَل الآخِرَةَ دَارَ القَرَارِ، ليَجْزِيَ الذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلوا ويَجْزِيَ الذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى، فَقُلتُ: الحَمْدُ للهِ شُكْراً عَلى نَعْمَائِهِ وصَبْراً عَلىبَلائِهِ وتَسْليماً ورِضًى بِقَضَائِه (1).
مسألة: تبيت النية لإعلان ظلم المعصوم (عليه السلام) محرم آخر، ، ولعله ما أشارت إليه الصديقة (عليها السلام) بقولها: (وطوياه الإعلان)، بل لعله يشمله قوله تعالى: «إِنَّ الّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشيعَ الفاحِشَةُ»(2).
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِذَا قَال الرَّجُل لأَخِيهِ المُؤْمِنِ: أُفٍّ، خَرَجَ مِنْ وَلايَتِهِ، وإِذَا قَال: أَنْتَ عَدُوِّي كَفَرَ أَحَدُهُمَا، ولا يَقْبَل اللهُ مِنْ مُؤْمِنٍ عَمَلا وهُوَ مُضْمِرٌ عَلى أَخِيهِ المُؤْمِنِ سُوءاً»(3).
وعَنْ عَبْدِ العَظِيمِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه
السلام) قَال: «يَا عَبْدَ العَظِيمِ أَبْلغْ عَنِّي أَوْليَائِيَ السَّلامَ وقُل لهُمْ: لا يَجْعَلوا للشَّيْطَانِ عَلى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلا، ومُرْهُمْ بِالصِّدْقِ فِي الحَدِيثِ» إِلى أَنْ قَال: «وعَرِّفْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لمُحْسِنِهِمْ وتَجَاوَزَعَنْ مُسِيئِهِمْ، إلاّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ وآذَى وَليّاً مِنْ أَوْليَائِي أَوْ أَضْمَرَ لهُ سُوءاً، فَإِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ لهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ، وإِلا نَزَعَ رُوحَ الإِيمَانِ عَنْ قَلبِهِ وخَرَجَ عَنْ
ص: 57
وَلايَتِي، ولمْ يَكُنْ لهُ نَصِيبٌ فِي وَلايَتِنَا، وأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلك»(1).
مسألة: الإعراب عما في الضمير من إرادة ظلم المعصوم (عليه السلام) وغصب حقه وإظهاره بأي نوع كان من أنواع الإظهار محرم ثالث، وذلك ما أشارت إليه الصديقة (عليه السلام) بقولها: (نطقا بفورهما ونفثا بسورهما).
وقد صرحت الروايات بما ورد على العترة من الظلم الكثير:
روي أنه دَخَلتْ أُمُّ سَلمَةَ عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالتْ لهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عَنْ ليْلتِكِ يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ؟ قَالتْ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وَ كَرَبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ (صَلى اللهُ عَليْهِ وَ آلهِ) وَظُلمَ الوَصِيُّ، وَهُتِكَ وَاللهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مُقْتَصَّةً عَلى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُ فِي التَّنْزِيل، وَسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيل، وَلكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ، وَتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ،كَانَتْ عَليْهَا قُلوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَة»(2).
وفي دعاء الندبة: «وَأَوْدَعَ قُلوبَهُمْ أَحْقَاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَأَضَبَّتْ عَلى عَدَاوَتِهِ، وَأَكَبَّتْ عَلى مُنَابَذَتِه»(3) الدعاء.
ص: 58
مسألة: ربما وجب التصريح باسم الظالم أو ما يجري مجراه في الجملة، كما لو توقف الردع عليه، أو توقف إحقاق الحق أو تعريف الناس بالحق عليه، ونرى الصديقة (صلوات الله عليها) تلقب الظالم بما هو كالصريح: (قحيف تيم وأحيول عدي).
نعم للتقية أحكامها كما هو المذكور في الفقه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: ذُكِرَتِ الخِلافَةُ عِنْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَال: «واللهِ لقَدْ تَقَمَّصَهَا أَخُو تَيْمٍ وإِنَّهُ ليَعْلمُ أَنَّ مَحَلي مِنْهَا مَحَل القُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنْهُ السَّيْل ولا يَرْتَقِي إِليْهِ الطَّيْرُ، فَسَدَلتُ دُونَهَا ثَوْباً، وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئِيُ مَا بَيْنَ أَنْ أَصُول بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ويَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلقَى اللهَ رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي العَيْنِ قَذًى وفِي الحَلقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى إِذَا مَضَى الأَوَّل لسَبِيلهِ عَقَدَهَا لأَخِي عَدِيٍّ بَعْدَهُ، فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَصَيَّرَهَا واللهِ فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَخْشُنُ مَسُّهَا ويَغْلظُ كَلمُهَا،ويَكْثُرُ العِثَارُ والاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ عَنَّفَ بِهَا حَرَن،َ وإِنْ سَلسَ بِهَا غَسَقَ، فَمُنِيَ النَّاسُ بِتَلوُّنٍ واعْتِرَاضٍ وبَلوًى مَعَ هَنٍ وهُنَيٍّ، فَصَبَرْتُ عَلى طُول المُدَّةِ وشِدَّةِ المِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لسَبِيلهِ جَعَلهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي مِنْهُمْ، فَيَا للهِ لهُمْ وللشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّل مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ بِهَذِهِ النَّظَائِرِ، فَمَال
ص: 59
رَجُل بِضَبْعِهِ وأَصْغَى آخَرُ لصِهْرِهِ وقَامَ ثَالثُ القَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ ومُعْتَلفِهِ، وقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ يَهْضِمُونَ مَال اللهِ هَضْمَ الإِبِل نَبْتَةَ الرَّبِيعِ حَتَّى أَجْهَزَ عَليْهِ عَمَلهُ(1)، الخطبة.
وقد ورد لعنه على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) وقوله بعد ذلك: «فَلوْلاهُ مَا زَنَى إلاّ شَقِيٌّ أَوْ شَقِيَّة»(2).
ص: 60
روي أنه لما استخرج القوم أمير المؤمنين (عليه السلام) خرجت فاطمة (عليها السلام) حتى انتهت إلى القبر فقالت:
«خلوا عن ابن عمي، فو الله الذي بعث محمداً بالحق، لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري، ولأضعن قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسي، ولأصرخن إلى الله تعالى، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولديّ»(1).
---------------------
مسألة: يستحب نشر المرأة شعرها عند الدعاء مع حفظ الموازين الشرعية، فإن قولها (صلوات الله عليها) لأنشرن شعري دليل على جوازه عند الدعاء، أما كونه مستحباً فيستفاد من جهة المقدمية أو ما أشبه.
ثم إن نشر الشعر بمعنى فتحه بحيث لا يكون ضفيرة، ومن الواضح أنه مع الأمن من الناظر الأجنبي، ولعل السبب فيه أنه نوع تذلل إلى الله سبحانه، ومن المعلوم أنه كلما كان الإنسان أكثرخضوعاً له تعالى كان أقرب إليه، وكلما قرب الإنسان إليه كان أقرب إلى استجابة دعائه.
ص: 61
عَنْ أَبَانٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَال: لمَّا أُخْرِجَ بِعَليٍّ (عليه السلام) خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) وَاضِعَةً قَمِيصَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى رَأْسِهَا آخِذَةً بِيَدَيِ ابْنَيْهَا فَقَالتْ: مَا لي ومَا لكَ يَا أَبَا بَكْرٍ تُرِيدُ أَنْ تُؤْتِمَ ابْنَيَّ وتُرْمِلنِي مِنْ زَوْجِي، واللهِ لوْ لا أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةٌ لنَشَرْتُ شَعْرِي ولصَرَخْتُ إِلى رَبِّي، فَقَال رَجُل مِنَ القَوْمِ: مَا تُرِيدُ إِلى هَذَا، ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَانْطَلقَتْ بِهِ(1).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «واللهِ لوْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا مَاتُوا طُرّاً»(2).
مسألة: يستحب عند الدعاء أن يضع الإنسان على رأسه شيئاً محترماً عند الله عزوجل.
فإنه نوع احترام من الإنسان لما يحترمه الله سبحانه، ويكون أقرب إلى الإجابة، ومنه وضع القرآن على الرأس حال الدعاء في ليالي القدر وغيرها.هذا بالإضافة إلى أن جعل القرآن على الرأس يؤكد على كون الإنسان خاضعاً لأحكام القرآن الكريم، وكذا فيما هو بحكمه، وكلما أظهر الإنسان الخضوع والإطاعة لله سبحانه ولأحكامه كان أقرب إلى الإجابة وأدعى للترحم عليه.
عن مَوْلانَا الصَّادِقِ (صلوات الله عليه) قَال: «خُذِ المُصْحَفَ فَدَعْهُ عَلى رَأْسِكَ وقُل: اللهُمَّ بِحَقِّ هَذَا القُرْآنِ وبِحَقِّ مَنْ أَرْسَلتَهُ بِهِ وبِحَقِّ كُل مُؤْمِنٍ مَدَحْتَهُ فِيهِ
ص: 62
وبِحَقِّكَ عَليْهِمْ، فَلا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ مِنْكَ، بِكَ يَا اللهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُول بِمُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِفَاطِمَةَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحَسَنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحُسَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِمُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليِّ بْنِ مُوسَى عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِمُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحَسَنِ بْنِ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحُجَّةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وتَسْأَل حَاجَتَك (1).
وعَنْ مَوْلانَا مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (صلوات الله عليه): «خُذِ المُصْحَفَ فِي يَدِكَ وارْفَعْهُ فَوْقَ رَأْسِكَ وقُل اللهُمَّ بِحَقِّ مَنْ أَرْسَلتَهُ إِلى خَلقِكَ وبِكُل آيَةٍ هِيَ فِيهِ وبِحَقِّ كُل مُؤْمِنٍمَدَحْتَهُ فِيهِ وبِحَقِّهِ عَليْكَ ولا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّهِ مِنْكَ يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وبِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وبِحَقِّ كُل إِمَامٍ وتَعُدُّهُمْ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلى إِمَامِ زَمَانِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ لا تَقُومُ مِنْ مَوْضِعِكَ حَتَّى يُقْضَى لكَ حَاجَتُكَ وتَيَسَّرَ لكَ أَمْرُك»(2).
وجَاءَ رَجُل إِلى سَيِّدِنَا الصَّادِقِ (عليه السلام)، فَقَال لهُ: يَا سَيِّدِي، أَشْكُو إِليْكَ دَيْناً رَكِبَنِي وسُلطَاناً غَشَمَنِي، وأُرِيدُ أَنْ تُعَلمَنِي دُعَاءً أَغْتَنِمُ بِهِ غَنِيمَةً أَقْضِي بِهَا دَيْنِي وأُكفَى بِهَا ظُلمَ سُلطَانِي. فَقَال: «إِذَا جَنَّكَ الليْل، فَصَل رَكْعَتَيْنِ، اقْرَأْ فِي الأُولى مِنْهُمَا الحَمْدَ وآيَةَ الكُرْسِيِّ، وفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ الحَمْدَ وآخِرَ الحَشْرِ (لوْ أَنْزَلنا هذَا القُرْآنَ عَلى جَبَل) إِلى خَاتِمَةِ السُّورَةِ، ثُمَّ خُذِ المُصْحَفَ فَدَعْهُ عَلى
ص: 63
رَأْسِكَ وقُل: بِهَذَا القُرْآنِ وبِحَقِّ مَنْ أَرْسَلتَهُ بِهِ، وبِحَقِّ كُل مُؤْمِنٍ مَدَحْتَهُ فِيهِ، وبِحَقِّكَ عَليْهِمْ، فَلا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ مِنْكَ، بِكَ يَا اللهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُول: يَا مُحَمَّدُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليُّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا فَاطِمَةُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حَسَنُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حُسَيْنُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَاجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليَّ بْنَ مُوسَى عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليَّ بْنَ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حَسَنَ بْنَ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حُجَّةُ عَشْرَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ تَسْأَل اللهَ تَعَالى حَاجَتَكَ». قَال: فَمَضَى الرَّجُل وعَادَ إِليْهِ بَعْدَ مُدَّةٍ، قَدْ قَضَى دَيْنَهُ، وصَلحَ لهُ سُلطَانُهُ، وعَظُمَ يَسَارُهُ(1).
مسألة: يجب الدفاع عن المظلوم وتنويع الأساليب في ذلك.
فإن الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) دافعت عن أول مظلوم وهو الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بأنواع الدفاع، كما هو مبين في مواضع من هذا الكتاب، ومنه ما سيأتي في الحديث اللاحق، ومنه ما تدل عليه هذه الرواية من تهديدها القوم بالدعاء عليهم وخروجها إلى القبر الشريف، مما شكل ضغطاً اجتماعياً هائلاً على الغاصبين، ومما أخافهم ومن معهم لما رأوا من بوادر استجابة الدعاء، كارتفاع الحيطان.
ص: 64
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، وَعَنْ سَلمَانَ الفَارِسِيِ: «أَنَّهُ لمَّا اسْتَخْرَجَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ مَنْزِلهِ، خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى انْتَهَتْ إِلى القَبْرِ فَقَالتْ: خَلوا عَنِ ابْنِ عَمِّي فَوَ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ لئِنْ لمْ تُخَلوا لأَنْشُرَنَّ شَعْرِي ولأَضَعَنَ قَمِيصَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى رَأْسِي ولأَصْرُخَنَّ إِلى اللهِ تَعَالى، فَمَا نَاقَةُ صَالحٍ بِأَكْرَمَ عَلى اللهِ مِنْ وَلدَيَّ، قَال سَلمَانُ: فَرَأَيْتُ واللهِ أَسَاسَ حِيطَانِ المَسْجِدِ تَقَلعَتْ مِنْ أَسْفَلهَا حَتَّى لوْ أَرَادَ رَجُل أَنْ يَنْفُذَ مِنْ تَحْتِهَا نَفَذَ، فَدَنَوْتُ مِنْهَا وقُلتُ: يَا سَيِّدَتِي ومَوْلاتِي إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى بَعَثَ أَبَاكِ رَحْمَةً فَلا تَكُونِي نَقِمَةً، فَرَجَعَتِ الحِيطَانُ حَتَّى سَطَعَتِ الغَبَرَةُ مِنْ أَسْفَلهَا فَدَخَلتْ فِي خَيَاشِيمِنَا»(1).
وقول الصديقة (عليها السلام): «فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولديّ» يراد به كما أن الله سبحانه استجاب دعاء صالح لما عقروا الناقة فإنه سيستجيب دعائي حين أدعوه تعالى.
أو كما أن الله عزوجل استجاب دعاءالنبي صالح (عليه السلام) في حق الناقة، يستجيب دعائي في حق أولادي.
ولعل الأظهر أنه كما انتقم الله تعالى لناقة صالح بدعائه (عليه السلام) لما عقروها وظلموها، كذلك سينتقم الله سبحانه لأبنيّ هذين لما ظلموهما بإخراج أبيهما قسراً وعدواناً، وقصدهم قتله (صلوات الله عليه)، لولا تهديد الصديقة (عليها السلام) بالدعاء عليهم، حتى ورد: أن جدران المسجد ارتفعت عن الأرض كادت
ص: 65
تقلب عليهم أو تخسف الأرض بهم، لولا أن أرسل الإمام علي (عليه السلام) سلمان إليها (صلوات الله عليها) يدعوها للصبر.
فإن ذلك القدر من التهديد ولما رأوه من آثار البدء بدعائها (عليها السلام) كان كافياً لارتداعهم.
وحاصل قولها (عليها السلام): كما انتقم الله لناقة صالح (عليه السلام) سينتقم لولديّ منكم، إذ ليست أكرم على الله تعالى منهما.
مسألة: يستحب الصراخ إلى الله سبحانه وتعالى في الجملة.
ومن المعلوم أن الصراخ أقرب إلى الإجابة، لأنه يدل على الاستغاثة فلاينافي ذلك قوله سبحانه: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً»(1)، وقوله تعالى: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخيفَةً ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْل»(2)، فإن الآية في الأحوال العادية، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وإلا ففي بعض الأحوال يستحب الصراخ.
كما ورد عنهم (عليهم السلام) بالنسبة إلى الشعائر الحسينية: «وَارْحَمْ تِلكَ الصَّرْخَةَ التِي كَانَتْ لنَا»(3).
وقد ورد في باب الحج أن جبرئيل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالعج
ص: 66
والثج، ثم فسّر العج بالصراخ عند قولهم: «لبيك»، والثج بإراقة الدماء في منى، وقد روي أنهم بحّت أصواتهم.
ففي الحديث: «إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لمَّا أَحْرَمَ أَتَاهُ جَبْرَئِيل (عليه السلام) فَقَال لهُ: مُرْ أَصْحَابَكَ بِالعَجِّ وَ الثَّجِّ، وَالعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلبِيَةِ، وَالثَّجُّ نَحْرُ البُدْنِ، وَقَال: قَال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: مَا بَلغْنَا الرَّوْحَاءَ حَتَّى بَحَّتْ أَصْوَاتُنَا(1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): قَالأَبِي (عليه السلام): قَال: عَليٌّ (عليه السلام): سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَخْطُبُ بِالنَّاسِ يَوْمَ الأَضْحَى وهُوَ يَقُول: «أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا يَوْمُ الثَّجِّ والعَجِ، الثَّجُ تُهَرِيقُونَ فِيهِ الدِّمَاءَ، فَمَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ كَانَ أَوَّل قَطْرَةٍ كَفَّارَةً لكُل ذَنْبٍ، وإِنَّ العَجَّ الدُّعَاءُ فِيهِ، فَعِجُّوا إِلى اللهِ تَعَالى، فَوَ الذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِهِ لا يَنْصَرِفُ مِنْ هَذَا المَوْقِفِ أَحَدٌ إلاّ مَغْفُوراً لهُ، إلاّ صَاحِبُ كَبِيرَةٍ مِنَ الكَبَائِرِ، مُصِرٌّ عَليْهَا، لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالإِقْلاعِ عَنْهَا»(2).
وفي مجمع البحرين: «أَفْضَل الأَعْمَال إِلى اللهِ تَعَالى العَجُّ والثَّجُ»، فالعج رفع الصوت في التلبية، والثَّجُ إسالة الدماء من الذبح والنحر في الأضاحي(3).
وكذلك كان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) يصرخون حتى بحت الأصوات.
ص: 67
قال الشاعر:
أصواتها بحّت فهن نوائح *** يندبن قتلاهن بالإيماء(1).
وفي دعاء الندبة: «فَلْيَصْرَخالصّارِخُون، وَيَضَجّ الضّاجُونَ، وَيَعِجَّ العاجُّونَ»(2) الدعاء.
مسألتان: إكراه الغير وإجباره محرم في الشريعة، وتدل عليه الأدلة العقلية والنقلية. وما قام به القوم من استخراج أمير المؤمنين (عليه السلام) للبيعة كرهاً، فإنه من أكبر المحرمات وأشدها.
فإن التصرف في إنسان بغير رضاه من إجلاس أو إخراج أو إدخال أو ما أشبه كله حرام، فالناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، وأما بالنسبة إلى الوصي (عليه الصلاة والسلام) فالحرام آكد من جهات متعددة.
قال تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ»(3).
وقَال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ النَّاسَ مُسَلطُونَ عَلى أَمْوَالهِمْ»(4).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَال: سَأَلهُ رَجُل مِنْ أَهْل النِّيل عَنْ أَرْضٍاشْتَرَاهَا بِفَمِ النِّيل، وأَهْل الأَرْضِ يَقُولونَ هِيَ أَرْضُهُمْ وأَهْل الأُسْتَانِ
ص: 68
يَقُولونَ هِيَ مِنْ أَرْضِنَا، فَقَال: «لا تَشْتَرِهَا إلاّ بِرِضَا أَهْلهَا»(1).
مسألة: يجب على النساء النهي عن المنكر، كما يجب على الرجال، ويجب عليهن الدفاع عن المظلوم كما يجب على الرجال، كل ذلك مع حفظ الموازين الشرعية.
وذلك للإطلاقات والعمومات، ويدل عليه أيضاً فعل الصديقة (صلوات الله عليها) حيث (خرجت فاطمة (عليها السلام) حتى انتهت إلى القبر) فإن فعلها كقولها وتقريرها حجة، والفعل بما هو هو وإن كان لا جهة له إلاّ أنه بالقرائن المقامية ربما يدل على الوجوب، ومنه المقام.
قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا ظَهَرَتِ البِدَعُ فِي أُمَّتِي فَليُظْهِرِ العَالمُعِلمَهُ فَمَنْ لمْ يَفْعَل فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ»(2).
وقَال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْل الرَّيْبِ والبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا البَرَاءَةَ مِنْهُمْ، وأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ والقَوْل فِيهِمْ والوَقِيعَةَ وبَاهِتُوهُمْ كَيْلا يَطْمَعُوا فِي الفَسَادِ فِي الإِسْلامِ ويَحْذَرَهُمُ النَّاسُ ولا يَتَعَلمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللهُ لكُمْ بِذَلكَ الحَسَنَاتِ ويَرْفَعْ لكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الآخِرَةِ»(3).
ص: 69
روي أن علياً (عليه السلام) حمل فاطمة (عليها السلام) على أتان(1)، عليه كساء له خمل(2)، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين (عليهما السلام) معها وهي تقول: «يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله فإني ابنة نبيكم، وقد بايعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ففوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعتكم». قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها(3).
-------------------------
مسألة: اللازم تذكير الناس بظلم الظالم للصد عنه، أو بظلمهم، ولو مع احتمال الارتداع.فإن التذكير بالظلم والاستنصار على الظلم راجح، وهو بين مستحب
ص: 70
وواجب، خصوصاً إذا كان الظلم فادحاً والمظلوم هو حجة من الله على الخلق جميعاً.
فمن الواجب على الإنسان أن لا يظلم أحداً، وأن لا يقبل الظلم من أحد، قال تعالى: «لا تَظْلمُونَ ولا تُظْلمُونَ»(1).
وفي دعاء الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام): «اللهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِليَّ أَنْ أُظْلمَ فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلم»(2)، كما في الصحيفة السجادية.
وعَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول فِي آخِرِ كَلامِهِ حِينَ أَفَاضَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ أَوْ أَقْطَعَ رَحِماً أَوْ أُوذِيَ جَاراً»(3).
وعن أَبي جَعْفَرٍ (عليه السلام) في أدعية السُّوقِ: «وأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ وأَعُوذُ بِكَ مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ ويَمِينٍكَاذِبَةٍ»(4).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: إِذَا دَخَلتَ سُوقَكَ فَقُل: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ مِنْ خَيْرِهَا وخَيْرِ أَهْلهَا وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وشَرِّ أَهْلهَا اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ أَوْ أَبْغِيَ أَوْ يُبْغَى عَليَّ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَليَّ»(5) الدعاء.
ص: 71
وفي الدعاء: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ عِيشَةً هَنِيئَةً، ومِيتَةً سَوِيَّةً، ومَرَدّاً غَيْرَ مُخْزٍ ولا فَاضِحٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَذِل أَوْ أَضِل أَوْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ أَوْ أَجْهَل أَوْ يُجْهَل عَليَّ، يَا ذَا العَرْشِ العَظِيمِ والمَنِّ القَدِيمِ تَبَارَكْتَ وتَعَاليْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(1).
مسألة: يجوز بالمعنى الأعم فضح الظالم، ومن مصاديقه غيبته، شخصاً كان أو جماعة.
فإن الصديقة الزهراء (عليها الصلاةوالسلام) كانت إذا ذهبت إلى بيوت المهاجرين والأنصار ذكّرتهم بالظلم التي وقع عليها، وذلك فضح للظالم وغيبة له، وقد ذكر الفقهاء استثناء ذلك من حرمة الغيبة.
والجواز هنا بالمعنى الأعم فإنه قد يجب، والآية الكريمة: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْل إلاّ مَنْ ظُلِمَ»(2) تجوّز الجهر به، سواء أمام الظالم أو في غيبته.
وفي آية أخرى: «وَلمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلمِهِ فَأُولئِكَ ما عَليْهِمْ مِنْ سَبيل * إِنَّمَا السَّبيل عَلى الذينَ يَظْلمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ»(3)
وفي تفسير علي بن إبراهيم: وقوله: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْل
ص: 72
إلاّ مَنْ ظُلِمَ»(1) أي: لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ويظلم، إلاّ من ظلم فقد أطلق له أن يعارضه بالظلم (2).
وقال الشيخ الأعظم (قدس سره): (ويؤيد الحكم فيه إنّ في منع المظلوم من هذا الذي هو نوع من التّشفى حرجاً عظيماً، ولأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظّالم وهى مصلحة خالية عن مفسدة فيثبتالجواز، لأنّ الأحكام تابعة للمصالح)(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته»(4).
مسألة: تجب المبادرة إلى النهي عن المنكر، فإن الأمر وإن لم يدل على الفور بذاته إلاّ أنه في مثل أدلة النهي عن المنكر ظاهر في الفور، لمبغوضية المنكر من أول آناء وقوعه، والعلم بإرادة الشارع عدم تحققه أصلاً، وذلك هو الظاهر من فعل الصديقة (صلوات الله عليها) حسب هذه الرواية، فإنه (لما استخرج القوم أمير المؤمنين (عليه السلام) خرجت) وهو ظاهر في الفورية العرفية، بل وربما الدقية أيضاً.
ص: 73
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «لا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوَى، فَإِذَا لمْ يَفْعَلوا ذَلكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ البَرَكَاتُ وسُلطَ بَعْضُهُمْعَلى بَعْضٍ ولمْ يَكُنْ لهُمْ نَاصِرٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ»(1).
وقد روي: «لا يَحِل لعَيْنٍ مُؤْمِنَةٍ تَرَى اللهَ يُعْصَى فَتَطْرِفَ حَتَّى تُغَيِّرَهُ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ رَجُل شَيْخٌ نَاسِكٌ يَعْبُدُ اللهَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل، فَبَيْنَا هُوَ يُصَلي وهُوَ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ بَصُرَ بِغُلامَيْنِ صَبِيَّيْنِ قَدْ أَخَذَا دِيكاً وهُمَا يَنْتِفَانِ رِيشَهُ فَأَقْبَل عَلى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ العِبَادَةِ ولمْ يَنْهَهُمَا عَنْ ذَلكَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلى الأَرْضِ: أَنْ سِيخِي بِعَبْدِي، فَسَاخَتْ بِهِ الأَرْضُ فَهُوَ يَهْوِي فِي الدُّرْدُورِ أَبَدَ الآبِدِينَ ودَهْرَ الدَّاهِرِين»(3).
مسألة: يمكن الاستفادة من المشاهد المشرفة للمعصومين (عليهم السلام) وذريتهم والصالحين من العلماء للتأكيد على الفرائض وأدائها بما يناسب تلك المقامات الطاهرة، ومنها النهي عن المنكر والتصدي للظالمينوفضحهم، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) حيث خرجت حتى انتهت إلى القبر الشريف.
ص: 74
هذا كله مع حفظ ما يناسب تلك المشاهد من الكرامة والتعظيم، ومع رعاية حق الزوار في الزيارة والدعاء.
نعم لا ينبغي الاستفادة الشخصية للأحزاب والفئات والجهات وما أشبه ممن تريد مصالحها لا مصالح الأمة.
عَنِ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم
السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لعَليٍّ (عليه السلام): «يَا أَبَا الحَسَنِ، إِنَّ اللهَ جَعَل قَبْرَكَ وقَبْرَ وُلدِكَ بِقَاعاً مِنْ بِقَاعِ الجَنَّةِ، وعَرَصَاتٍ مِنْ عَرَصَاتِهَا، وإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل جَعَل قُلوبَ نُجَبَاءَ مِنْ خَلقِهِ وصَفْوَةٍ مِنْ عِبَادِهِ تَحِنُّ إِليْكُمْ، وتَحْتَمِل المَذَلةَ والأَذَى فِيكُمْ، فَيَعْمُرُونَ قُبُورَكُمْ ويُكْثِرُونَ زِيَارَتَهَا تَقَرُّباً مِنْهُمْ إِلى اللهِ، ومَوَدَّةً مِنْهُمْ لرَسُولهِ، أُولئِكَ يَا عَليُّ المَخْصُوصُونَ بِشَفَاعَتِي، والوَارِدُونَ حَوْضِي، وهُمْ زُوَّارِي وجِيرَانِي غَداً فِي الجَنَّةِ، يَا عَليُّ مَنْ عَمَرَ قُبُورَكُمْ وتَعَاهَدَهَا فَكَأَنَّمَا أَعَانَ سُليْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلى بِنَاءِ بَيْتِ المَقْدِسِ، ومَنْ زَارَ قُبُورَكُمْ عَدْل ذَلكَ ثَوَابُ سَبْعِينَ حَجَّةً بَعْدَ حَجَّةِ الإِسْلامِ، وخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ زِيَارَتِكُمْ كَيَوْمَ وَلدَتْهُ أُمُّهُ، فَأَبْشِرْ يَا عَليُّ وبَشِّرْ أَوْليَاءَكَ ومُحِبِّيكَ مِنَ النَّعِيمِ بِمَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولاخَطَرَ عَلى قَلبِ بَشَرٍ، ولكِنَّ حُثَالةً مِنَ النَّاسِ يُعَيِّرُونَ زُوَّارَ قُبُورِكُمْ بِزِيَارَتِكُمْ كَمَا تُعَيَّرُ الزَّانِيَةُ بِزِنَاهَا، أُولئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي لا تَنَالهُمْ شَفَاعَتِي ولا يَرِدُونَ حَوْضِي»(1).
ص: 75
مسألة: ينبغي الخروج إلى مراكز توجه الناس، عند إرادة التصدي للحكام الظلمة، مع ملاحظة الشروط الشرعية المذكورة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره.
قَال أبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجْلسْ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ وَأَفْتِ النَّاسَ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلك»(1).
مسألة: يجب الاستنصار للحق، وقد يكون مستحباً، كل في مورده، وقد استنصرت الصديقة (عليها الصلاة والسلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر الخلافة، وهو واجب، كما استنصرت لنفسها كذلك.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث: «ومَنْ أَعَانَ ظَالماً ليُبْطِل حَقّاً لمُسْلمٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ الإِسْلامِ وذِمَّةِ اللهِوذِمَّةِ رَسُولهِ، ومَنْ دَعَا لظَالمٍ بِالبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللهُ، ومَنْ ظُلمَ بِحَضْرَتِهِ مُؤْمِنٌ أَوِ اغْتِيبَ وكَانَ قَادِراً عَلى نَصْرِهِ ولمْ يَنْصُرْهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ومِنْ رَسُولهِ، ومَنْ نَصَرَهُ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الجَنَّةَ مِنَ اللهِ تَعَالى، وإِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْحَى إِلى دَاوُدَ (عليه السلام): قُل لفُلانٍ الجَبَّارِ إِنِّي لمْ أَبْعَثْكَ لتَجْمَعَ الدُّنْيَا عَلى الدُّنْيَا، ولكِنْ لتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلومِ وتَنْصُرَهُ،
ص: 76
فَإِنِّي آليْتُ عَلى نَفْسِي أَنْ أَنْصُرَهُ وأَنْتَصِرَ لهُ مِمَّنْ ظُلمَ بِحَضْرَتِهِ ولمْ يَنْصُرْه (1).
وقَال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أُذِل عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ ولمْ يَنْصُرْهُ وهُوَ قَادِرٌ عَلى نَصْرِهِ، أَذَلهُ اللهُ عَلى رُءُوسِ الخَلائِقِ يَوْمَ القِيَامَة»(2).
مسألة: يجوز الاستنصار بالمرأة، وطلب النصرة منها، إذا لم يترتب عليه محذور أهم، وربما وجب كما إذا توقف إحقاق الحق عليه، مع حفظ الموازين الشرعية.
كما نصرت الصديقة الصغرى زينبالكبرى (عليها السلام) أخاها الحسين في نهضته ضد الظلم والطغيان، وكان من نصرتها خطبتها في الكوفة(3)، وخطبتها في الشام(4).
مسألة: تجب نصرة أهل البيت (عليهم السلام) وإجابتهم وإعانتهم.
وقول الصديقة (عليها الصلاة والسلام) وطلبها وفاء القوم دليل عليه، وهذا الوفاء واجب كما لا يخفى، خصوصاً في مثل المقام حيث إن الظلم خطير كبير،
ص: 77
وحيث إن المظلوم هو أعظم خلائق الله وهو المعصوم (عليه السلام)، وحيث المطالب للنصرة هي الصديقة الكبرى (عليه السلام) الذي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها»(1).
والإجابة: قبولهم الإتيان معها لأخذحقها (عليها السلام) وحق علي (عليه الصلاة والسلام).
والإعانة: المشاركة في ذلك.
والنصرة: استرجاع الحق، فهي أمور ثلاثة، وفي نهاية الحديث: «فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها».
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله):
«إِنِّي شَافِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ ولوْ جَاءُوا بِذُنُوبِ أَهْل الدُّنْيَا،
رَجُل نَصَرَ ذُرِّيَّتِي، ورَجُل بَذَل مَالهُ لذُرِّيَّتِي عِنْدَ المَضِيقِ، ورَجُل أَحَبَّ ذُرِّيَّتِي بِاللسَانِ وبِالقَلبِ، ورَجُل يَسْعَى فِي حَوَائِجِ ذُرِّيَّتِي إِذَا طُرِدُوا أَوْ شُرِّدُوا»(2).
وقَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَليْهِ، ورَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وكَانَ عَوْناً بِالحَقِّ عَلى صَاحِبِهِ»(3).
وقَال (عليه السلام) فِي وَصِيَّتِهِ للحَسَنَيْنِ (عليهما السلام) عِنْدَ وَفَاتِهِ: «وقُولا
ص: 78
بِالحَقِّ واعْمَلا للأَجْرِ، وكُونَا للظَّالمِ خَصْماً وللمَظْلومِ عَوْناً»(1).
مسألة: يحرم خذلان أهل البيت (عليهم السلام) وعدم نصرتهم.
والفرق بين الخذلان وعدم النصرة هو أن عدم النصرة حيادي، بينما الخذلان عمل سلبي، وكلاهما حرام، وإذا أطلقا كان أحدهما في قبال الآخر، أما إذا أطلق أحدهما فيراد به الآخر أيضاً، من قبيل: الفقير والمسكين، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
قال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي عَليٍّ (عليه السلام): «اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ، وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُل مَنْ خَذَلهُ»(2).
ص: 79
مسألة: يستحب التكرار وقد يجب في الجملة، وذلك لاحتمال التأثير، ومع عدمه فلإتمام الحجة، فلا يكتفى بالمرة الواحدة إلاّ في موارد رجحانها، وفي هذه الرواية قام الإمام ومعه الصديقة الزهراء والسبطان (عليهم السلام) بطلب النصرة (أربعين) يوماً.
فإن التكرار يوجب قوة الدعوة، وحث الطرف، وكثيراً ما يسبب التحقق والإنجاز.
قَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «بِتَكْرَارِ الفِكْرِ يَتَحَاتُّ الشَّكُّ»(1).
وَكَانَ النبي (صلى الله عليه وآله) يَقُول فِي مَرَضِهِ: «نَفِّذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ» ويُكَرِّرُ ذَلك (2).
وعَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام): «أَنَّ زَيْنَ العَابِدِينَ (عليه السلام) بَكَى عَلى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَائِماً نَهَارَهُ، قَائِماً ليْلهُ، فَإِذَا حَضَرَ الإِفْطَارُ جَاءَ غُلامُهُ بِطَعَامِهِ وشَرَابِهِ فَيَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُول: كُل يَا مَوْلايَ، فَيَقُول: قُتِل ابْنُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَائِعاً، قُتِل ابْنُ رَسُول اللهِ عَطْشَاناً، فَلا يَزَال يُكَرِّرُ ذَلكَ ويَبْكِي حَتَّىيُبَل طَعَامُهُ بِدُمُوعِهِ ويُمْزَجَ شَرَابُهُ بِدُمُوعِهِ، فَلمْ يَزَل كَذَلكَ حَتَّى لحِقَ بِاللهِ عَزَّ وجَل»(3).
ص: 80
وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) يدعو كثيراً فيقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ المَوْتِ، والعَفْوَ عِنْدَ الحِسَابِ» ويكرّر ذلك (1).
مسألة: قد يقال باستحباب أو وجوب التكرار في الاستنصار وشبهه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أربعين يوماً، إذا جمدنا على ظاهر ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) واستظهرنا الخصوصية في الأربعين(2).ويحتمل كونه من باب المصداق، لوفاء أربعين صباحاً بالمقصود، ووصولهم إلى كل من كان ينبغي أن يستنصر وإتمامهم للحجة في مثل ذلك الزمان.
مسألة: يستحب بيان أن نصرة أهل البيت (عليهم السلام) نصرة الله تعالى، فإن الله سبحانه أمر بنصرتهم، ومن الواضح أن نصرتهم نصرة لمن أمر بها، ونصرة الله نصرة دينه وشريعته، قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا
ص: 81
اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ»(1).
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ قَائِدُ البَرَرَةِ، وقَاتِل الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُول مَنْ خَذَلهُ، الشَّاكُّ فِي عَليٍّ هُوَ الشَّاكُّ فِي الإِسْلامِ، وخَيْرُ مَنْ أُخَلفُ بَعْدِي، وخَيْرُ أَصْحَابِي عَليٌّ، لحْمُهُ لحْمِي، ودَمُهُ دَمِي، وأَبُو سِبْطَيَّ، ومِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ تَخْرُجُ الأَئِمَّةُ التِّسْعَةُ، ومِنْهُمْ مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ»(2).وعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَال: سَأَلتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنِ الأَئِمَّةِ، فَقَالتْ: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليٍّ (عليه السلام): يَا عَليُّ أَنْتَ الإِمَامُ والخَليفَةُ بَعْدِي، وأَنْتَ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَيْتَ فَابْنُكَ الحَسَنُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الحَسَنُ فَابْنُكَ الحُسَيْنُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الحُسَيْنُ فَابْنُكَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَليٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى جَعْفَرٌ فَابْنُهُ مُوسَى أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُوسَى فَابْنُهُ عَليٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَليٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَليٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَليٌّ فَابْنُهُ الحَسَنُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الحَسَنُ فَالقَائِمُ المَهْدِيُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَفْتَحُ اللهُ تَعَالى بِهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، فَهُمْ أَئِمَّةُ الحَقِّ،
ص: 82
وأَلسِنَةُ الصِّدْقِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُمْ، مَخْذُول مَنْخَذَلهُم»(1).
مسألة: يحرم نقض البيعة الحقة.
فإن البيعة الصحيحة الشرعية يجب البقاء عليها والوفاء بها، فنقضها لا يجوز، على ما ذكرناه سابقاً في الحكمين في طرفي قضية واحدة، وقد دل على الحرمة روايات متعددة.
ولا يخفى أن حرمة نقض البيعة أمر آخر زائد على حرمة عدم الطاعة لمن نصبه الله ولياً وإماماً وخليفةً وقائداً، لبداهة حرمة عصيانه وإن لم تكن بيعة، أما البيعة فعقد موجب لمزيد التأكيد، لجريان عادتهم على الالتزام بها واعتبارها ملزمة، وقد أمضاها الشارع، فهي إلزام على إلزام، وهي كالقسم والحلف على أن يطيع ولي أمره وإمامه المعصوم، فلو خالف فقد عصى من جهتين.
قَال الرِّضَا (عليه السلام): «لا يَعْدَمُ المَرْءُ دَائِرَةَ السَّوْءِ مَعَ نَكْثِ الصَّفْقَةِ»(2).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ فِي النَّارِ لمَدِينَةً يُقَال لهَا الحَصِينَةُ، أَفَلا تَسْأَلونِّي مَا فِيهَا؟ فَقِيل لهُ: ومَا فِيهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَال: فِيهَا أَيْدِي النَّاكِثِينَ»(3).
ص: 83
وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثٌ مُوبِقَاتٌ، نَكْثُ البَيْعَةِ، وتَرْكُ السُّنَّةِ، وفِرَاقُ الجَمَاعَة»(1).
مسألة: يستحب تذكير الناس ببيعتهم إذا نقضوها.
فإنه نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى أنه من شؤون أصول الدين، على ما ألمعنا إليه في بعض البنود السابقة.
وفي قضية الشوری قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ، هَل فِيكُمْ أَحَدٌ نَصَبَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى، فَقَال: مَنْكُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، غَيْرِي»؟ قَالوا: لا(2).
عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن: أن علياً (عليه السلام) نشد الناس من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم، فلم يشهد وكان يعلمها، فدعا علي (عليه السلام) عليه بذهاب البصر، فعمي، فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره(3).
ص: 84
مسألة: حيث إن مظلومية أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) لا تزال قائمة بصورها العديدة، فإن واجب النصرة على الجميع لا زال قائماً.
وفي المناقب: وَقَدْ رَوَى الكَافَّةُ عَنْهُ أي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ ظَلمُونِي فِي الحَجَرِ والمَدَرِ»(1).
وفي حديث قَال عَليٌ (عليه السلام): «مَا زِلتُ مَظْلوماً مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) إِلى يَوْمِ الناسِ هَذَا»(2).
وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ المُسَيَّبِ بْنِ نَجِيَّةَ، قَال: بَيْنَمَا عَليٌّ (عليه السلام) يَخْطُبُ وأَعْرَابِيٌّ يَقُول: وَا مَظْلمَتَاهْ، فَقَال (عليه السلام): «ادْنُ»، فَدَنَا، فَقَال (عليه السلام): «لقَدْ ظُلمْتُ عَدَدَ المَدَرِ والمَطَرِ والوَبَرِ، وفِي رِوَايَةِ كَثِيرِ بْنِ اليَمَانِ: وَمَا لا يُحْصَى»(3).وروى أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْل بْنُ دُكَيْنٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُرَيْثٍ قَال: إِنَّ عَليّاً (عليه السلام) لمْ يَقُمْ مَرَّةً عَلى المِنْبَرِ إلاّ قَال فِي آخِرِ كَلامِهِ قَبْل أَنْ يَنْزِل: «مَا زِلتُ مَظْلوماً مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وآله»(4).
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج:
ص: 85
واعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه (عليه السلام) بنحو من هذا القول، نحو قوله (عليه السلام): «ما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله (صلى الله عليه وآله) حتّى يوم الناس هذا».
وقوله (عليه السلام): «اللهمّ اجز قريشاً فانّها منعتني حقّي وغصبتني أمري».
وقوله (عليه السلام): «فجزت قريشا عنّي الجوازي، فإنّهم ظلموني حقّي واغتصبوني سلطان ابن أمّي».
وقوله (عليه السلام) وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم، فقال (عليه السلام): «هلم فلنصرخ معا فإنّي ما زلت مظلوماً».
وقوله (عليه السلام): «وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرّحى».وقوله (عليه السلام): «أرى تراثي نهباً».
وقوله (عليه السلام): «أصفيا بإنائنا وحملا الناس على رقابنا».
وقوله (عليه السلام): «إنّ لنا حقّاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى».
وقوله (عليه السلام): ما زلت مستأثراً عليّ مدفوعاً عمّا أستحقّه وأستوجبه»(1).
ص: 86
مسألة: يستحب بيان مدى مظلومية الصديقة فاطمة (عليها السلام) بحيث ما أعانها أحد من القوم ولا أجابها ولا نصرها.
فإن بيان ذلك فضح للظلمة، ويوجب التفاف الناس حول الصديقة (عليها السلام) أكثر فأكثر مما ينفع دين الناس ودنياهم، هذا بالإضافة إلى أن الله سبحانه قال: «قُل لا أَسْأَلكُمْ عَليْهِ أَجْرًا إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(1)، وبيان مظلوميتها هو نوع من إظهار المودة(2)
عَنْ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَال: سَأَلتُ عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (عليهما السلام) عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(3)، قَال: «هِيَ قَرَابَتُنَا أَهْل البَيْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلى اللهُ عَليْهِ وآلهِ»(4).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلهِ تَعَالى: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(5)، قَال: «هُمُ الأَئِمَّةُ عليهم السَّلام»(6).
ص: 87
وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليه السلام)، قَال: «خَطَبَ الحَسَنُ بْنُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليهم السلام) حِينَ قُتِل عَليٌّ (عليه السلام) ثُمَّ قَال: وَإِنَّا مِنْ أَهْل بَيْتٍ افْتَرَضَ اللهُ مَوَدَّتَهُمْ عَلى كُل مُسْلمٍ حَيْثُ يَقُول:«لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لهُ فِيها حُسْناً»(1) فَاقْتِرَافُ الحَسَنَةِ مَوَدَّتَنَا أَهْل البَيْتِ»(2).
مسألة: يجب إعانة وإجابة ونصرة من ينصر أهل البيت (عليهم السلام).
فإن نصر الناصر نصر للمنصور، والأمر يشمل التسبيب أيضاً، كما أن ملاكه موجود في كل زمان ومكان.قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قصة غدير خم: «انصر من نصره، واخذل من خذله»(3).
وورد في مناشدة أمير المؤمنين (عليه السلام) طلحة بن عبيد الله: ثم إن امير المؤمنين (عليه السلام) استدعى طلحة بن عبيد الله، فقال له: إنما دعوتك يا أبا عبد الله لأذكرك ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) أما سمعته يقول: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»؟ وأنت أول من
ص: 88
بايعني، ثم نكثت بيعتك لي، وقد قال الله تعالى: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ»(1)، فقال: استغفر الله، وكان أمر الله قدراً مقدوراً(2).
لا يقال: كيف استجابة دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) في ناصره وخاذله، ونحن نرى أن كثيراً من شيعة علي (عليه الصلاة والسلام) لم يُنصروا في كثير من المواقع، ولم يخُذل كثير من أعدائه وخاذليه؟
لأنه يقال:
أولاً: النصرة والخذلان بالمعنىالوافي لهما يكون في الآخرة، فالآخرة هي محط النظر الأول، قال تعالى: «وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(3)، وقال سبحانه: «إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لهِيَ الحَيَوانُ لوْ كانُوا يَعْلمُون»(4)، والدنيا تكون في مرتبة ثانية من حيث النصرة والخذلان.
وثانياً: النصرة العظمى تكون في الدنيا في زمن الرجعة قال تعالى: «الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلّهِ»(5).
وثالثاً: إن من الواضح أنهم (عليه الصلاة والسلام) وناصريهم نُصروا، وخاذليهم خُذلوا طول التاريخ، فالنصرة لعلي (عليه السلام) وآل علي (عليهم السلام) مشاهد في الكتب والمنابر والمآذن وغير ذلك، كما نرى أن خاذليهم خُذلوا على
ص: 89
المنابر والمآذن والكتب وغيرها، فهو من قبيل قوله سبحانه: «إِنَّا لنَنْصُرُ رُسُلنا والذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا»(1)، وكم من مصائب دفعها الله تعالى عن شيعة علي (عليه السلام) ببركة دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ورابعاً: من مصاديق نصرة الناصرين تثبيتهم على الحق، وهل من نصرة أعظممن ذلك؟
مسألة: تجب التضحية للأهداف المقدسة، وأهمها مسألة الإمامة.
والتضحية أنواع، منها التضحية بماء الوجه لأجل نصرة المظلوم، وذلك مما قامت به الصديقة (صلوات الله عليها)، إذ لا يخفى على الفطن اللبيب أنها من أصعب الأمور على ذوي المكانة والمنزلة، فكيف بالعظماء، أن يخرجوا إلى بيوت الناس فيدورون عليها بيتاً بيتاً ويستنصرونهم وهم يعلمون، وبحسب الظاهر يظنون أو يحتملون، أنهم سيجبهون بالرد والرفض.
عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام): «إن علياً حمل فاطمة (عليها السلام) على حمار، وسار بها ليلاً الى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال عليّ: أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه. وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلاّ ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسبهم
ص: 90
عليه»(1).
وفي الرواية: «فَلمَّا كَانَ الليْل حَمَل عَليٌّ (عليه السلام) فَاطِمَةَ (عليها السلام) عَلى حِمَارٍ وأَخَذَ بِيَدَيِ ابْنَيْهِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ (عليهما السلام) فَلمْ يَدَعْ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إلاّ أَتَاهُ فِي مَنْزِلهِ، فَنَاشَدَهُمُ اللهَ حَقَّهُ ودَعَاهُمْ إِلى نُصْرَتِهِ، فَمَا اسْتَجَابَ مِنْهُمْ رَجُل غَيْرُنَا الأَرْبَعَةِ، فَإِنَّا حَلقْنَا رُءُوسَنَا وبَذَلنَا لهُ نُصْرَتَنَا، وكَانَ الزُّبَيْرُ أَشَدَّنَا بَصِيرَةً فِي نُصْرَتِهِ، فَلمَّا رَأَى عَليٌّ (عليه السلام) خِذْلانَ النَّاسِ إِيَّاهُ وتَرْكَهُمْ نُصْرَتَهُ واجْتِمَاعَ كَلمَتِهِمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وطَاعَتَهُمْ لهُ وتَعْظِيمَهُمْ إِيَّاهُ لزِمَ بَيْتَه»(2).
وَرُوِيَ أَنَّ الزهراء (عليها السلام) تُكُفِّنَتْ مِنْ بَعْدِ غُسْلهَا وحَنُوطِهَا وطَهَارَتِهَا لا دَنَسَ فِيهَا، وأَنَّهَا لمْ يَكُنْ يَحْضُرُهَا إلاّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ والحَسَنُ والحُسَيْنُ وزَيْنَبُ وأُمُّ كُلثُومٍ وفِضَّةُ جَارِيَتُهَا وأَسْمَاءُ ابْنَةُ عُمَيْسٍ، وأَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَهَّزَهَا ومَعَهُ الحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهماالسلام) فِي الليْل وصَلوْا عَليْهَا، وأَنَّهَا وَصَّتْ وقَالتْ: لا يُصَلي عَليَّ أُمَّةٌ نَقَضَتْ عَهْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، ولمْ يُعْلمْ بِهَا أَحَداً، ولا حَضَرَ وَفَاتَهَا أَحَدٌ، ولا صَلى عَليْهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ غَيْرُهُمْ، لأَنَّهَا وَصَّتْ (عليها
السلام) وقَالتْ: لا يُصَلي عَليَّ أُمَّةٌ نَقَضَتْ عَهْدَ اللهِ وعَهْدَ أَبِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ بَعْلي وظَلمُونِي وأَخَذُوا وِرَاثَتِي وحَرَقُوا صَحِيفَتِيَ التِي كَتَبَهَا أَبِي بِمِلكِ فَدَكَ والعَوَالي وكَذَّبُوا شُهُودِي وهُمْ واللهِ جِبْرِيل
ص: 91
ومِيكَائِيل وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وأُمُّ أَيْمَنَ، وطُفْتُ عَليْهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليهم
السلام) وعَليْهِ يَحْمِلنِي ومَعِيَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ ليْلا ونَهَاراً إِلى مَنَازِلهِمْ، يُذَكِّرُهُمْ بِاللهِ ورَسُولهِ لئَلا يَظْلمُونَا ويُعْطُونَا حَقَّنَا الذِي جَعَلهُ اللهُ لنَا، فَيُجِيبُونَ ليْلا ويَقْعُدُونَ عَنْ نُصْرَتِنَا نَهَاراً، ثُمَّ يُنْفِذُونَ إِلى دَارِنَا قُنْفُذاً ومَعَهُ خَالدُ بْنُ الوَليدِ ليُخْرِجَا ابْنَ عَمِّي إِلى سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ لبَيْعَتِهِمُ الخَاسِرَةِ، ولا يَخْرُجُ إِليْهِمْ مُتَشَاغِلا بِوَصَاةِ رَسُول اللهِ (صلى
الله عليه وآله) وأَزْوَاجِهِ وتَأْليفِ القُرْآنِ وقَضَاءِ ثَمَانِينَ أَلفَ دِرْهَمٍ وَصَّاهُ بِقَضَائِهَا عَنْهُ عِدَاتٍ ودَيْناً، فَجَمَعُوا الحَطَبَ بِبَابِنَا وأَتَوْا بِالنَّارِ ليُحْرِقُوا البَيْتَ، فَأَخَذْتُ بِعِضَادَتَيِ البَابِ وقُلتُ: نَاشَدْتُكُمُ اللهَ وبِأَبِي رَسُول اللهِ (عليه
السلام) أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا وتَنْصَرِفُوا، فَأَخَذَ عُمَرُ السَّوْطَ مِنْ قُنْفُذٍ مَوْلى أَبِيبَكْرٍ، فَضَرَبَ بِهِ عَضُدِي، فَالتَوَى السَّوْطُ عَلى يَدِي حَتَّى صَارَ كَالدُّمْلجِ، ورَكَل البَابَ بِرِجْلهِ فَرَدَّهُ عَليَّ وأَنَا حَامِل فَسَقَطْتُ لوَجْهِي والنَّارُ تَسَعَّرُ، وصَفَقَ وَجْهِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي، وجَاءَنِي المَخَاضُ فَأَسْقَطْتُ مُحَسِناً قَتِيلا بِغَيْرِ جُرْمٍ، فَهَذِهِ أُمَّةٌ تُصَلي عَليَّ، وقَدْ تَبَرَّأَ اللهُ ورَسُولهُ مِنْهَا وتَبَرَّأْتُ مِنْهَا»(1).
ص: 92
روي أنه لما بايع الناس أبا بكر، خرجت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) فوقفت على بابها، وقالت: «ما رأيت كاليوم قط، حضروا أسوأ محضر، وتركوا نبيهم (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أظهرنا، واستبدوا بالأمر دوننا»(1).
----------------------
مسألة: يستحب إيضاح ما قالته الصديقة فاطمة (عليها السلام) من فداحة الخطب وهو المصاب، وأنها ما رأت مثل ذلك اليوم قط، فإن أشد الأيام على الزهراء (عليها السلام) كان يوم غصب الخلافة من علي (عليه السلام) وما قارنه من أحداث ومصائب، وهو أسوأ الأيام حيث انحرف الأمر عن محله، وتحولت القيادة من قيادة الأنبياء والأوصياء إلى قيادة المنافقين والأدعياء، وفرح الشيطان بإغواء الناس وسن الانحراف، ومن المعلوم أن التأسيس للانحراف وسنّه قد يكون أسوأ وأخطر من الاستمرار فيه، لأنه العلة والسبب، وإن كان كلاهما انحرافاً.وفي الأحاديث أن وزر كل معاصي الخلق على مرور الأزمان في عنقهما،
ص: 93
إذ «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(1).
وعليه جرى قول الشاعر:
مولايَ ما سَنَّ الضَلال سِوى الأُلى *** هَجُوا على الطُّهرِ البتولةِ دارَها
مَنوا البتول عن النياحةِ إذ غَدَتْ *** تَبي أباهَا ليلها ونهارَها
قالوا لها قَري فَقد آذيتِنا *** أنّى وقد سَلبَ المُصابُ قرارَها
قَطوا أراكتَها ومِن أَبنائِها *** قطعتْ أُميُّ يمينَها ويسارَها
جَموا على بيتِ النّبيّ مُحمدٍ *** حَطاً و أوقَدتْ الضغائنُ نارَها
رَضّو سليلةَ أحمدٍ بالبابِ *** حتى أنبتُوا في صدرِها مسمارَها
عَصروا ابنةَ الهادي الأمينِ وأسقَطوا *** منها الجنينَ وأخرجُوا كرّارَها
قادُوهُ والزهراءُ تَعوا خلفَهم *** عَبى فليتَك تَنظُرُ استعبارَها
والعبدُ سَودَ متنَها فاستنصرتْ *** أسفاً فليتَكَ تَسعُ استنصارَها(2)
عَنْ دَاوُدَ بْنِ النُّعْمَانِ قَال: دَخَل الكُمَيْتُ فَأَنْشَدَهُ... إلى أن قال:قَال الكُمَيْتُ: يَا سَيِّدِي أَسْأَلكَ عَنْ مَسْأَلةٍ، وكَانَ مُتَّكِئاً فَاسْتَوَى جَالساً وكَسَرَ فِي صَدْرِهِ وِسَادَةً ثُمَّ قَال: سَل، فَقَال: أَسْأَلكَ عَنِ الرَّجُليْنِ، فَقَال: «يَا كُمَيْتَ بْنَ زَيْدٍ مَا أُهَرِيقَ فِي الإِسْلامِ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، ولا اكْتُسِبَ مَال مِنْ غَيْرِ حِلهِ، ولا نُكِحَ فَرْجٌ حَرَامٌ إلاّ وذَلكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، حَتَّى يَقُومَ
ص: 94
قَائِمُنَا ونَحْنُ مَعَاشِرَ بَنِي هَاشِمٍ نَأْمُرُ كِبَارَنَا وصِغَارَنَا بِسَبِّهِمَا والبَرَاءَةِ مِنْهُمَا»(1).
وقَال الصَّادِقِ (عليه السلام): «وَاللهِ مَا أُهْرِيقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ ولا قُرِعَ عَصًا بِعَصًا، ولا غُصِبَ فَرْجُ حَرَامٍ، ولا أُخِذَ مَال مِنْ غَيْرِ حِلهِ، إلاّ ووِزْرُ ذَلكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ العَامِلينَ بِشَيْ ءٍ»(2).
وقال الصادق (عليه السلام): «فلانة كَبِيرٌ جُرْمُهَا، عَظِيمٌ إِثْمُهَا، مَا أُهْرِقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ إلاّ وإِثْمُ ذَلكَ فِي عُنُقِهَا وعُنُقِ صَاحِبَيْهِا، ولقَدْ عَهِدَ إِليْهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وقَال: لا بُدَّ مِنْ أَنْ تُقَاتِل النَّاكِثِينَ وهُمْ أَهْل البَصْرَةِ، والقَاسِطِينَ وهُمْ أَهْل الشَّامِ، والمَارِقِينَ وهُمْ أَهْل النَّهْرَوَانِ، فَقَاتَلهُمْ عَليٌّ عَليْهِالسَّلامُ جَمِيعاً.
قَال القَوْمُ: إِنْ كَانَ هَذَا قَالهُ النَّبِيُّ فَقَدْ دَخَل القَوْمُ جَمِيعاً فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ.
قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّكُمْ سَتُنْكِرُونَ.
قَالوا: إِنَّكَ جِئْتَنَا بِأَمْرٍ عَظِيمٍ لا نَحْتَمِلهُ.
قَال: ومَا طَوَيْتُ عَنْكُمْ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَرْجِعُونَ إِلى أَصْحَابِكُمْ وتُخْبِرُونَهُمْ بِمَا أَخْبَرْتُكُمْ، فَتَكْفُرُونَ أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِهِمْ»(3).
ص: 95
مسألة: يجب أن يقتصر في التقية على مواردها وحدودها، فلو كانت التقية في ذكر الاسم لا الكنية اختص حكمها بالاسم، ولزمت التكنية فيما كان من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه المقام حيث أشير إلى ابن أبي قحافة بالرمز عنه بفلان، ويحتمل أن تكون التقية من الرواة اللاحقين، كما يحتمل أن تكون من الراوي الأول، كما يحتمل أن تكون من المستنسخين ومن أشبه.
وقد ذكر بعض العلماء أن إخراج علي (عليه السلام) من الدار وضرب فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) حدث ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بعدُ لم يقبر، أي كان ذلك في الأيام الثلاثة التي كان المسلمون يأتون فيها إلى جنازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويصلون عليها.
لا يقال: كيف يمكن ذلك؟
لأنه يقال: كان للبيوت التي بناها الرسول (صلى الله عليه وآله) حول مسجده بابان: باب إلى الشارع وباب إلى المسجد، وبيت الزهراء (عليها السلام) لم يغلق بابه الذي إلى المسجد وبقي له بابان، بينما سائر البيوت أغلقت أبوابها التي كانت شارعة إلى المسجدفي حديث سد الأبواب، فكان الناس يأتون من المسجد إلى جثمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطاهر الذي كان في غرفة تلي المسجد يصلون عليه، بينما هم جاؤوا من الباب الذي كان من الشارع إلى البيت وأخرجوا علياً (عليه السلام) وهجموا على الزهراء (عليها السلام) ويؤيد ذلك قول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «والرسول لما يُقبر».
ص: 96
ويؤيده أيضاً الخبر الآتي حيث قالت (عليها الصلاة والسلام): «تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا» الخبر(1).
ولما ذكرناه من وجود بابين أحدهما إلى المسجد، لما كانت الصديقة (عليها السلام) تبكي كان يسمع صوت بكائها من في المسجد، ومن الطبيعي أن تبكي معها النساء والحسن والحسين (عليهما السلام) وزينب وأم كلثوم (عليهما السلام) ومن أشبه مما كان يحدث ضجة، ولذا قالوا لعلي (عليه الصلاة والسلام): إما أن تبكي ليلاً أو نهاراً، وكانت (عليها السلام) تخرج من المدينة إلى أحد حيث قبر حمزة (عليه السلام) أو تخرج إلى البقيع حيث بيت الأحزان وتبكي هناك.قَالتْ فضة: ثُمَّ رَجَعَتْ فاطمة (عليها السلام) إِلى مَنْزِلهَا وأَخَذَتْ بِالبُكَاءِ والعَوِيل ليْلهَا ونَهَارَهَا وهِيَ لا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا ولا تَهْدَأُ زَفْرَتُهَا، واجْتَمَعَ شُيُوخُ أَهْل المَدِينَةِ وأَقْبَلوا إِلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالوا لهُ: يَا أَبَا الحَسَنِ إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) تَبْكِي الليْل والنَّهَارَ فَلا أَحَدٌ مِنَّا يَتَهَنَّأُ بِالنَّوْمِ فِي الليْل عَلى فُرُشِنَا ولا بِالنَّهَارِ لنَا قَرَارٌ عَلى أَشْغَالنَا وطَلبِ مَعَايِشِنَا، وإِنَّا نُخْبِرُكَ أَنْ تَسْأَلهَا إِمَّا أَنْ تَبْكِيَ ليْلا أَوْ نَهَاراً ... فَأَقْبَل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حَتَّى دَخَل عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) وهِيَ لا تُفِيقُ مِنَ البُكَاءِ ولا يَنْفَعُ فِيهَا العَزَاءُ، فَلمَّا رَأَتْهُ سَكَنَتْ هُنَيْئَةً لهُ، فَقَال لهَا: يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِنَّ شُيُوخَ المَدِينَةِ يَسْأَلونِّي أَنْ أَسْأَلكِ إِمَّا أَنْ تَبْكِينَ أَبَاكِ ليْلا وإِمَّا نَهَاراً، فَقَالتْ: يَا أَبَا الحَسَنِ مَا أَقَل مَكْثِي بَيْنَهُمْ ومَا أَقْرَبَ مَغِيبِي مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَوَ اللهِ لا أَسْكُتُ ليْلا ولا نَهَاراً أَوْ أَلحَقَ بِأَبِي
ص: 97
رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال لهَا عَليٌّ (عليه السلام): افْعَلي يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ مَا بَدَا لكِ.
ثُمَّ إِنَّهُ بَنَى لهَا بَيْتاً فِي البَقِيعِ نَازِحاً عَنِ المَدِينَةِ يُسَمَّى بَيْتَ الأَحْزَانِ، وكَانَتْ إِذَا أَصْبَحَتْ قَدَّمَتِ الحَسَنَ والحُسَيْنَ(عليهما السلام) أَمَامَهَا وخَرَجَتْ إِلى البَقِيعِ بَاكِيَةً فَلا تَزَال بَيْنَ القُبُورِ بَاكِيَةً، فَإِذَا جَاءَ الليْل أَقْبَل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِليْهَا وسَاقَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلى مَنْزِلهَا ولمْ تَزَل عَلى ذَلكَ(1).
وقال الشاعر:
الواثِبنَ لظُلمِ آل مُحَمَدٍ *** وَمُحمَدٌ مُلىً بِل تَكْفنِ
و القائِلنَ لفاطِمٍ آذَيْتن *** في طول نَوٍ دائِم و حَننِ
و القاطِعين أراكَة كَيلا تُقيل *** بِظل أَوراقٍ لها وغُصونِ
وَ مُجَمِعي حَطَبٍ عَلى البَيتِ الذي *** لمْ يَجتَمِعْ لولاهُ شَمل الدينِ
و الداخِلنَ عَلى البَتلةِ بيتها *** و المُسْقطينَ لها أعَز جَننِ
و القائِدين إمامهُمْ بِنجادِهِ *** و الطُهُ تدعو خَلهمْ بِرينِ
خَلوا ابنَ عَمي أَو لأكشفَ للدُعا *** رَأسي وأشكو للإلهِ شُجوني
ماكانَ ناقةُ صالحٍ و فَصيلها *** بالفضل عِنْدَ الله إلاّ دوني
وَ رَنَتْ إلى القَبرِ الشريفِ بِمُقْلةٍ *** عَبير وقَلبٍ مُكمَدٍ مَحونِ
نادتْ و أظفارُ المُصبِ بٍقَلبِها *** أبتاهُ عزَ على العداة مُعني
أبتاهً هذا السامريُّ و عِجلهُ *** تُبعَا ومال الناسُ عن هارونِ
ص: 98
أيَّ الرزايا أتَق بِتجَلدٍ *** هو في النوائبِ مذ حييتُ قريني
فقدي أبي أم غصبَ بَعي حَقَهُ *** أم كسرَ ضِلعِيْ أم سقوطَ جنيني
أم أخذهم إِرثي وَ فاضل نِحلتي *** أم جَههمْ حَقي وقدْ عَرفوني
قهروا يتيميك الحُسينَ و صنوَهُ *** و سألتُه حَق وقدْ نَهوني(1)
مسألة: يلزم الخروج لفضح الظالم، بالشرائط المذكورة في الفقه.
والخروج من باب أحد المصاديق، فإن فضح الظالم ورد الظلامة واجب، سواء كان بالخروج أم بالاعتكاف في المسجد، أم البقاء في المنزل احتجاجاً واعتراضاً، أم بالاعتصام بأنواعه، وسواء كان بالقول أم بالكتابة أم بغير ذلك.
روي أنه كَتَبَ سيد الشهداء (عليه السلام) هَذِهِ الوَصِيَّةَ لأَخِيهِ مُحَمَّدٍ:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ الحُسَيْنُ بْنُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ إِلى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفِ بِابْنِ الحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولهُ، جَاءَ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِ الحَقِّ، وأَنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ حَقٌ، وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأَنَّاللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ، وأَنِّي لمْ أَخْرُجْ أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفْسِداً ولا ظَالماً، وإِنَّمَا خَرَجْتُ لطَلبِ الإِصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله) أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وأَبِي عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَمَنْ قَبِلنِي بِقَبُول الحَقِّ
ص: 99
فَاللهُ أَوْلى بِالحَقِّ، ومَنْ رَدَّ عَليَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وبَيْنَ القَوْمِ بِالحَقِ وهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ، وهَذِهِ وَصِيَّتِي يَا أَخِي إِليْكَ، وما تَوْفِيقِي إلاّ بِاللهِ، عَليْهِ تَوَكَّلتُ وإِليْهِ أُنِيبُ»، قَال ثُمَّ طَوَى الحُسَيْنُ (عليه السلام) الكِتَابَ وخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ ودَفَعَهُ إِلى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ وَدَّعَهُ وخَرَجَ فِي جَوْفِ الليْل(1).
مسألة: يجوز للمرأة أيضاً أن تخرج للدفاع عن الحق وفضح الباطل، كما سبقت الإشارة إليه في الخطبة الشريفة(2)، مراعية الموازين الشرعية.
إذ لا فرق بين الرجل والمرأة في هذا التكليف، فإن كليهما مأمورانبالواجبات وترك المحرمات والدفاع عن الحق وفضح الظالم وما أشبه، وإنما الفرق بين الرجل والمرأة في أمور خاصة(3) مذكورة في أبوابها المرتبطة بها.
وهل يشترط في خروجها للنهي عن المنكر إذن زوجها، ربما تختلف المصاديق، فإذا علم من الشرع أهمية شيء قدم الأهم، نعم يقتصر فيه على ما يتحقق به الغرض، فلو تحقق بالخروج إلى باب دارها فقط اقتصر عليه.
وفي وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام): «اللهَ اللهَ فِي ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكُمْ، فَلا يُظْلمُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ وبَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ وأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلى الدَّفْعِ عَنْهُم»(4).
ص: 100
مسألة: يحرم التآمر لغصب الحق من أهله، سواء أكان وراء الأبواب المغلقة، أم غيرها.
ولا فرق في حرمته كونه بين شخصين أو جهتين أو دولتين، ولا بين كونه لهدم حق أو تشييد باطل، ولا بين كونه لمصادرة حق شخص أو جماعة أو أمة، نعم درجات الحرمة تختلف شدةً وضعفاً.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَجِي ءُ كُل غَادِرٍ يَوْمَ القِيَامَةِ بِإِمَامٍ مَائِل شِدْقُهُ حَتَّى يَدْخُل النَّارَ، ويَجِي ءُ كُل نَاكِثٍ بَيْعَةَ إِمَامٍ أَجْذَمَ حَتَّى يَدْخُل النَّارَ»(1).
وعن الأَصْبَغُ قَال: صَليْنَا مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) الغَدَاةَ فَإِذَا رَجُل عَليْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ قَدْ أَقْبَل، فَقَال (عليه السلام): «مِنْ أَيْنَ»، قَال: مِنَ الشَّامِ، قَال: «مَا أَقْدَمَكَ»، قَال: لي حَاجَةٌ، قَال: «أَخْبِرْنِي وإِلا أَخْبَرْتُكَ بِقَضِيَّتِكَ»، قَال: أَخْبِرْنِي بِهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
قَال: «نَادَى مُعَاوِيَةُ يَوْمَ كَذَا وكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا وكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وكَذَا مَنْ يَقْتُل عَليّاً فَلهُ عَشَرَةُ آلافِ دِينَارٍ فَوَثَبَ فُلانٌ وقَال: أَنَا، قَال: أَنْتَ، فَلمَّا انْصَرَفَ إِلى مَنْزِلهِ نَدِمَ وقَال: أَسِيرُ إِلى ابْنِ عَمِّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَبِي وَلدَيْهِ فَأَقْتُلهُ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِ اليَوْمَ الثَّانِيَ: مَنْ يَقْتُل عَليّاً فَلهُ عِشْرُونَ أَلفَ دِينَارٍ، فَوَثَبَ آخَرُ فَقَال: أَنَا، فَقَال: أَنْتَ، ثُمَّ إِنَّهُ نَدِمَ واسْتَقَال مُعَاوِيَةَ فَأَقَالهُ ،
ص: 101
ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِ اليَوْمَ الثَّالثَ: مَنْ يَقْتُل عَليّاً فَلهُ ثَلاثُونَ أَلفَ دِينَارٍ، فَوَثَبْتَ أَنْتَ وأَنْتَ رَجُل مِنْ حِمْيَرٍ، قَال: صَدَقْتَ، قَال: فَمَا رَأْيُكَ تَمْضِي إِلى مَا أُمِرْتَ بِهِ أَوْ مَا ذَا، قَال: لا، ولكِنْ أَنْصَرِفُ، قَال: يَا قَنْبَرُ أَصْلحْ لهُ رَاحِلتَهُ وهَيِّئْ لهُ زَادَهُ وأَعْطِهِ نَفَقَتَهُ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن القوم بحضورهم لمبايعة ابن أبي قحافة قد حضروا أسوأ محضر.
وإنما كان كذلك لأنه انقلاب على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعلى تعاليم السماء وعلى الدين وعلى أمرالإمامة والخلافة، فهو تحريف لعامة الحق عن مجاريه، ومن الواضح أن هناك فرقاً كبيراً بين التحريف في القيادة، وبين تحريف حكم من الأحكام الفرعية.
قال تعالى: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلَى أَعْقابِكُمْ»(2).
وعن حَنَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «كَانَ النَّاسُ أَهْل رِدَّةٍ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِلا ثَلاثَةً»، فَقُلتُ: ومَنِ الثَّلاثَةُ، فَقَال: «المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ، وأَبُو ذَرٍّ الغِفَارِيُّ، وسَلمَانُ الفَارِسِيُّ (رَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ عَليْهِمْ) ثُمَّ عَرَفَ أُنَاسٌ بَعْدَ يَسِيرٍ، وقَال: هَؤُلاءِ الذِينَ دَارَتْ عَليْهِمُ الرَّحَى وأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى
ص: 102
جَاءُوا بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُكْرَهاً فَبَايَعَ، وذَلكَ قَوْل اللهِ تَعَالى: «وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُول قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلهِ الرُّسُل أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ومَنْ يَنْقَلبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ»(1) »(2).
مسألة: يحرم ترك النبي (صلى الله عليه وآله)جنازةً والاشتغال بما اشتغلوا به.
فإن تركه (صلى الله عليه وآله) كذلك خلاف احترامه اللائق به، وقد أمر الله سبحانه باحترام رسوله (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً، قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذيراً * لتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصيلاً»(3).
بل ورد في المؤمن العادي أن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فكيف برسول الله (صلى الله عليه وآله).
قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «حُرْمَةُ المُسْلمِ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّاً سَوِيّاً»(4).
وقَال الإمام الكاظم (عليه السلام): «كَانَ أَبِي يَقُول: إِنَّ حُرْمَةَ بَدَنِ المُؤْمِنِ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّا»(5).
ص: 103
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: رَجُل قَطَعَ رَأْسَ مَيِّتٍ، قَال: «حُرْمَةُ المَيِّتِ كَحُرْمَةِ الحَيِّ»(1).وعن الإمام الجواد (عليه السلام) في رواية عن أبيه الرضا (عليه السلام) قال: «فَإِنَّ حُرْمَةَ المَيِّتَةِ كَحُرْمَةِ الحَيَّة»(2).
ثم إن ترك الجنازة من أظهر مصاديق هتك حرمة النبي (صلوات الله عليه)، وذلك من أسوأ ما تعير به الأمم، هذا إضافة إلى أن تركه كذلك كان بغرض الانقلاب عليه وعلى الخلافة الشرعية.
والظاهر أن كون ذلك (أسوأ محضر) عام شامل لمختلف الجهات والأبعاد، إذ كان تأسيساً للضلال سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وغير ذلك.
هذا والروايات كثيرة في لزوم احترام النبي (صلى الله عليه وآله) حتى عند ذكر اسمه المبارك، فكيف بحضوره وجنازته:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَنَسِيَ أَنْ يُصَليَ عَليَّ خَطَّأَ اللهُ بِهِ طَرِيقَ الجَنَّةِ»(3).
وَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلمْ يُصَل عَليَّ دَخَل النَّارَفَأَبْعَدَهُ اللهُ»(4).
ص: 104
مسألة: يحرم الاستبداد بالأمر بقول مطلق، ويشتد في الاستبداد به مقابل العترة الطاهرة (عليهم السلام) وفيما يرتبط بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فإن الاستبداد أصل المفاسد، وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): «من استبدّ برأيه هلك»(1).
وذكرنا في بعض المباحث المرتبطة بالاستبداد أن (هلك) مقدمة للإهلاك أيضاً، فإن النتيجة من سنخ المقدمة، و المسبَّب من جنس السبب(2).
قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ زَل»(3).
وقَال (عليه السلام): «من استبدّ برأيه فقد خاطر وغرّر»(4).
وقَال (عليه السلام): «حَقٌّ عَلى العَاقِلأَنْ يَسْتَدِيمَ الاسْتِرْشَادَ ويَتْرُكَ الاسْتِبْدَادَ»(5).
وقَال (عليه السلام): «الاستبداد برأيك يزلك ويهوّرك فى المهاوي»(6).
ص: 105
مسألة: غصب الخلافة من الكبائر، بل هو من أعظمها، فإن غصب الخلافة تحريف للقيادة الشرعية عن مجاريها، وذلك من أشد المحرمات، بل إن غصب إبرة وأقل من إبرة محرم فكيف بمثل الخلافة.
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلكَ ولا أَكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلوا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْ ءٍ عَليمٌ»(1)، قَال: «نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي فُلانٍ وفُلانٍ وأَبِي عُبَيْدَةَ الجَرَّاحِ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسَالمٍ مَوْلى أَبِي حُذَيْفَةَ والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، حَيْثُ كَتَبُوا الكِتَابَ بَيْنَهُمْ وتَعَاهَدُوا وتَوَافَقُوا لئِنْ مَضَى مُحَمَّدٌ لا تَكُونُ الخِلافَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ ولا النُّبُوَّةُ أَبَداً، فَأَنْزَل اللهُ عَزَّ وجَل فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ».
قَال: قُلتُ: قَوْلهُ عَزَّ وجَل: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلَى ورُسُلنا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(2). قَال: وهَاتَانِ الآيَتَانِ نَزَلتَا فِيهِمْ ذَلكَ اليَوْمَ».قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لعَلّكَ تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَوْمٌ يُشْبِهُ يَوْمَ كَتْبِ الكِتَابِ إلاّ يَوْمَ قَتْل الحُسَيْنِ (عَليْهِ السَّلامُ)، وهَكَذَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَل الذِي أَعْلمَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ إِذَا كُتِبَ الكِتَابُ قُتِل الحُسَيْنُ وخَرَجَ
ص: 106
المُلكُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَقَدْ كَانَ ذَلكَ كُلهُ».
قُلتُ: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلوا فَأَصْلحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْل»(1).
قَال: «الفِئَتَانِ إِنَّمَا جَاءَ تَأْوِيل هَذِهِ الآيَةِ يَوْمَ البَصْرَةِ وهُمْ أَهْل هَذِهِ الآيَةِ، وهُمُ الذِينَ بَغَوْا عَلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه
السلام) فَكَانَ الوَاجِبَ عَليْهِ قِتَالهُمْ وقَتْلهُمْ حَتَّى يَفِيئُوا إِلى أَمْرِ اللهِ، ولوْ لمْ يَفِيئُوا لكَانَ الوَاجِبَ عَليْهِ فِيمَا أَنْزَل اللهُ أَنْ لا يَرْفَعَ السَّيْفَ عَنْهُمْ حَتَّى يَفِيئُوا ويَرْجِعُوا عَنْ رَأْيِهِمْ، لأَنَّهُمْ بَايَعُوا طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ وهِيَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ كَمَا قَال اللهُ تَعَالى، فَكَانَ الوَاجِبَ عَلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه
السلام) أَنْ يَعْدِل فِيهِمْ حَيْثُ كَانَ ظَفِرَ بِهِمْ كَمَا عَدَل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي أَهْل مَكَّةَ إِنَّمَا مَنَّ عَليْهِمْ وعَفَا وكَذَلكَ صَنَعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِأَهْل البَصْرَةِ حَيْثُ ظَفِرَ بِهِمْ مِثْل مَا صَنَعَ النَّبِيُّ (صلى
الله عليه وآله) بِأَهْلمَكَّةَ حَذْوَ النَّعْل بِالنَّعْل».
قَال: قُلتُ: قَوْلهُ عَزَّ وجل: «وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى»(2)، قَال: «هُمْ أَهْل البَصْرَةِ هِي المُؤْتَفِكَةُ»، قُلتُ: «وَالمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلهُمْ بِالبَيِّناتِ»(3).
قَال: «أُولئِكَ قَوْمُ لوطٍ ائْتَفَكَتْ عَليْهِمُ انْقَلبَتْ عَليْهِمْ»(4).
ص: 107
في الرواية: وإذا فاطمة (عليها السلام) واقفة على بابها، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول: «لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا وصنعتم بنا ما صنعتم، ولم تروا لنا حقاً»(1).
----------------------
مسألة: يحرم جحود الحق.
فإن الزهراء (صلوات الله عليها) كانت تعيّر القوم بجحودهم الحق: (ولم تردوا لنا حقاً)، وفعلهم تلك الأفاعيل: (وصنعتم بنا ما صنعتم)، فيدل كلامها (عليها السلام) على حرمة كلا الأمرين.
بل يحرم مجرد عدم رؤية حق لهم، لا الإنكار والجحود فقط، كما لعله ظاهر (ولم تروا لنا حقاً)، فإن عدم رؤية حق لشخص أو جمع أعم من إنكاره، فإن الإنكار نفي، وعدم الرؤية، سكوت أو جهل أو حياء، فتأمل.
ويحتمل في (ولم تروا لنا حقاً) أن المراد: عملتم عمل من لا يرى لنا حقاً،
ص: 108
فتجاهلتمونا، وعملتم ما عملتم، وذلك لوضوح أنهم كانوا يعلمون بحقهم (صلوات الله عليهم).
عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... فَعَدُوُّهُمْ هُمُ الحَرَامُ المُحَرَّمُ، وأَوْليَاؤُهُمْ الدَّاخِلونَ فِي أَمْرِهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ فِيهِمُ الفَوَاحِشُ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ، والخَمْرُ والمَيْسِرُ والرِّبَا والدَّمُ ولحْمُ الخِنْزِيرِ، فَهُمُ الحَرَامُ المُحَرَّمُ، وأَصْل كُل حَرَامٍ، وهُمُ الشَّرُّ وأَصْل كُل شَرٍّ، ومِنْهُمْ فُرُوعُ الشَّرِّ كُلهِ، ومِنْ ذَلكَ الفُرُوعُ الحَرَامُ واسْتِحْلالهُمْ إِيَّاهَا، ومِنْ فُرُوعِهِمْ تَكْذِيبُ الأَنْبِيَاءِ وجُحُودُالأَوْصِيَاء»(1).
وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ نُعَيْمٍ الصَّحَّافِ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلهِ: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ ومِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»(2)، فَقَال: «عَرَفَ اللهُ عَزَّ وجَل إِيمَانَهُمْ بِمُوَالاتِنَا، وكُفْرَهُمْ بِهَا، يَوْمَ أَخَذَ عَليْهِمُ المِيثَاقَ وهُمْ ذَرٌّ فِي صُلبِ آدَمَ».
وسَأَلتُهُ عَنْ قَوْلهِ عَزَّ وجَل: «أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَليْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولنَا البَلاغُ المُبِينُ»(3)، فَقَال: «أَمَا واللهِ مَا هَلكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ ومَا هَلكَ مَنْ هَلكَ حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا (عليه السلام) إلاّ فِي تَرْكِ وَلايَتِنَا وجُحُودِ حَقِّنَا، ومَا خَرَجَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى أَلزَمَ رِقَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ حَقَّنَا «وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»(4)،(5).
ص: 109
وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «يَا أَبَانُ كَيْفَ يُنْكِرُ النَّاسُ قَوْل أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لمَّا قَال: لوْ شِئْتُ لرَفَعْتُ رِجْلي هَذِهِ فَضَرَبْتُ بِهَا صَدْرَ ابْنِأَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ فَنَكَسْتُهُ عَنْ سَرِيرِهِ، ولا يُنْكِرُونَ تَنَاوُل آصَفَ وَصِيِّ سُليْمَانَ عَرْشَ بِلقِيسَ وإِتْيَانَهُ سُليْمَانَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدُّ إِليْهِ طَرْفُهُ، أَ ليْسَ نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وآله) أَفْضَل الأَنْبِيَاءِ ووَصِيُّهُ (عليه السلام) أَفْضَل الأَوْصِيَاءِ، أَفَلا جَعَلوهُ كَوَصِيِّ سُليْمَانَ، حَكَمَ اللهُ بَيْنَنَا وبَيْنَ مَنْ جَحَدَ حَقَّنَا وأَنْكَرَ فَضْلنَا»(1).
وعن سَلمَانَ الفَارِسِيِّ (رضوان الله عليه) قَال: قَال لي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا سَلمَانُ الوَيْل كُل الوَيْل لمَنْ لا يَعْرِفُ لنَا حَقَّ مَعْرِفَتِنَا وأَنْكَرَ فَضْلنَا»(2).
مسألة: من أكبر المحرمات ما صنعه القوم في حق العترة الطاهرة (عليهم السلام) بدءاً من غصب الخلافة إلى إيذاء الصديقة فاطمة (عليها السلام) وضربها حتى صار في عضدها كمثل الدملج، وكسر ضلعها وإسقاط جنينها.
فإن كل ذلك محرم حتى بالنسبة إلى الإنسان العادي فكيف بمثلها (عليها أفضل الصلاة والسلام). قال تعالى: «إِنَّ الذينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً»(3).
ص: 110
وفي تفسير القمي حول هذه الآية، قال:
نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين عَليْهِ السَّلامُ حقه، وأخذ حق فاطمة عَليْها السَّلامُ وآذاها، وَقَدْ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، كَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي، ومَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، ومَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي ومَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ» وهو قول الله: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ» الآية. وقوله: «وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ» يعني علياً وفاطمة «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلوا بُهْتاناً وإِثْماً مُبِيناً» وهي جارية في الناس كلهم(1).
مسألة: يحرم الاعتقاد بأنه ليس لأهل البيت (عليهم السلام) حق في أمر الخلافة.
وهذا مما يرتبط بشؤون أصول الدين، فهناك عمل محرم وهناك اعتقاد محرم، وعدم الاعتقاد بشؤون أصول الدين محرم، أما عدم الاعتقاد ببعض ما يتعلقبالعمل فربما لا يكون واجباً، والأمر يختلف باختلاف موارده وأدلته(2).
قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، أَوَّلهُمْ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ، وَآخِرُهُمُ القَائِمُ، هُمْ خُلفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَأَوْليَائِي وَحُجَجُ اللهِ عَلى
ص: 111
أُمَّتِي بَعْدِي، المُقِرُّ بِهِمْ مُؤْمِنٌ، وَالمُنْكِرُ لهُمْ كَافِرٌ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب بهذه الخطبة إلى أكابر أصحابه وفيها كلام رسول الله صلى الله عليه وآله» وذكر الخطبة إلى أن قال: «من الولي يا رسول الله؟ قال: وليكم في هذا الزمان أنا، ومن بعدي وصيي، ومن بعد وصيي لكل زمان حجج الله»، ثم ذكر كلاماً طويلاً في الأوصياء من آدم إلى أن قال: «فلم يزل الأنبياء و الأوصياء يتوارثون ذلكحتى انتهى الأمر إليّ، وأنا أدفع ذلك إلى علي وصيي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، وإن علياً يورث ولده حيهم عن ميتهم، فمن سره أن يدخل جنة ربه فليتول علياً والأوصياء من بعده، وليسلم لفضلهم، فإنهم الهداة بعدي، أعطاهم الله فهمي وعلمي، فهم عترتي من لحمي ودمي، أشكو إلى الله عدوهم والمنكر لهم فضلهم، القاطع عنهم صلتي، فمثل أهل بيتي في هذه الأمة كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له» الحديث، وفي آخره ذكر المهدي (عليه السلام) (2).
مسألة: يستحب بيان أن القوم الذين غصبوا الخلافة والذين رضوا بالغصب هم أسوأ الناس، حيث قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):
ص: 112
«...أسوأ...».
فإن مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) وخاصة في أمر مهم كالخلافة التي أدى غصبها ولا يزال يؤدي باستمرار إلى مشاكل ومصاعب ومصائب جمة لا تعد ولاتحصى، وقد تركت المسلمين يكتوون بنارها إلى اليوم، هو أسوأ عمل قام به شخص على مر التاريخ.
فليس في كلامها (عليها السلام) أدنى مبالغة، بالإضافة إلى أنه لو ترك الأمر إلى صاحبه لأدخل كل الناس في الإسلام، ووفر لهم الرفاه والازدهار وسعادة الدارين.
قال سبحانه: «وَلوْ أَنَّ أَهْل القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لفَتَحْنا عَليْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
فعلى أولئك القوم يقع وزر وإثم كل كفر وفسق وفجور.
عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْهُمَا، فَقَال: «يَا أَبَا الفَضْل مَا تَسْأَلنِي عَنْهُمَا فَوَ اللهِ مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إلاّ سَاخِطاً عَليْهِمَا، ومَا مِنَّا اليَوْمَ إلاّ سَاخِطاً عَليْهِمَا، يُوصِي بِذَلكَ الكَبِيرُ مِنَّا الصَّغِيرَ، إِنَّهُمَا ظَلمَانَا حَقَّنَا، ومَنَعَانَا فَيْئَنَا، وكَانَا أَوَّل مَنْ رَكِبَ أَعْنَاقَنَا، وبَثَقَا عَليْنَا بَثْقاً فِي الإِسْلامِ لا يُسْكَرُ أَبَداً حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا أَوْ يَتَكَلمَ مُتَكَلمُنَا».
ثُمَّ قَال: «أَمَا واللهِ لوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا أَوْ تَكَلمَ مُتَكَلمُنَا لأَبْدَى مِنْ أُمُورِهِمَا مَاكَانَ يُكْتَمُ، ولكَتَمَ مِنْ أُمُورِهِمَا مَا كَانَ يُظْهَرُ، واللهِ مَا أُسِّسَتْ مِنْ بَليَّةٍ ولا قَضِيَّةٍ تَجْرِي عَليْنَا أَهْل البَيْتِ إلاّ هُمَا أَسَّسَا أَوَّلهَا فَعَليْهِمَا لعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ
ص: 113
أَجْمَعِينَ»(1).
مسألة: استئمار أهل البيت (عليهم السلام) واجب في ما ألم بالأمة من الشؤون، وكذا الشؤون العامة بل مطلقاً.
وقول الصديقة (عليها السلام): (لم تستأمرونا)، لوم وتقريع للقوم بتركهم ما وجب عليهم ككبرى كلية من الاستئمار بقول مطلق.
قال الشاعر:
ولو قلدوا الموصى إليه أمورها *** لزُمَّت بمأمون على العثرات
وفي خطبتها الشريفة (عليها الصلاة والسلام) ما يدل على ذلك أيضاً.
ص: 114
روي: إن فاطمة (عليها السلام) لما أن كان من أمرهم ما كان، قالت: «أما والله فلولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له، لعلمت أني سأقسم على الله، ثم أجده سريع الإجابة»(1).
------------------------
مسألة: يجب تقديم الأهم على المهم فيما دار الأمر بين واجبين متزاحمين أو محرمين متزاحمين في الجملة، فإنه أمر عقلي وشرعي.
وقد قال سبحانه: «وَلوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لجَعَلنا لمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَليْها يَظْهَرُونَ»(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيمارووا عنه: «يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين،
ص: 115
باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة»(1).
والعقل دال على القاعدة المذكورة أيضاً، فإنه إذا دار الأمر بين أن يُقتل إنسان أو تقطع يده، قدّم قطع يده على قتله.
وذلك سواء كان الأهم والمهم من جنس واحد كما مثلناه، أو من جنسين، كما إذا دار الأمر بين الزنا بامرأة أو قطع إصبعها مثلاً، وهكذا في الأموال والأعراض والدماء، لكن اللازم ملاحظة أمرين:
الأول: كون الموضوع من الأهم والمهم.
والثاني: كون الأهم بحيث يمنع من النقيض، وإلاّ فإذا كان الأهم على نحو الترجيح لا على نحو المنع من النقيض فإنه يحكم بالتخيير، إلاّ أن تقديم الأهم يكون عندئذ أفضل.
والصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) وازنت - حسب هذه الرواية - بين الدعاء والقسم بما يوجب نزول البلاء،وبين عدم إصابة البلاء من لا ذنب له.
لا يقال: كيف يمكن أن يصيب البلاء من لا ذنب له؟
لأنه يقال: كما قال سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظَلمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(2)، فإن من قوانين الكون أن البلاء إذا نزل يعمّ الجميع إلاّ أن يكون هنالك إعجاز، وليس من سنة الله سبحانه وتعالى الإعجاز في كل الأمور، بل إنه يجريها بأسبابها الطبيعية إلاّ ما خرج بالدليل.
ص: 116
والظاهر أن البلاء كان سيحيق بمن كانوا في تلك الفترة وبالأجيال القادمة، لأنهم كانوا من نسلهم، فلو أهلكوا لهلك خلق كثير ممن يتشهد الشهادتين ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله في امتداد الأزمان، ولذا قالت: «لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له».
مسألة: يكره الدعاء فيما لو كان يصيب البلاء من لا ذنب له.
فإن إصابة البلاء من لا ذنب له قد يكون من الأهم والمهم المانع من النقيض، وقد لا يكون، فهو جائزبالمعنى الأعم(1).
رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لمَّا اسْتُخْرِجَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ مَنْزِلهِ خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (صلوات الله عليها) خَلفَهُ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ هَاشِمِيَّةٌ إلاّ خَرَجَتْ مَعَهَا حَتَّى انْتَهَتْ قَرِيباً مِنَ القَبْرِ، فَقَالتْ لهُمْ: خَلوا عَنِ ابْنِ عَمِّي، فَوَ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً أَبِي (صلى الله عليه وآله) بِالحَقِّ إِنْ لمْ تُخَلوا عَنْهُ لأَنْشُرَنَّ شَعْرِي ولأَضَعَنَّ قَمِيصَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى رَأْسِي ولأَصْرُخَنَّ إِلى اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى، فَمَا صَالحٌ بِأَكْرَمَ عَلى اللهِ مِنْ أَبِي، ولا النَّاقَةُ بِأَكْرَمَ مِنِّي، ولا الفَصِيل بِأَكْرَمَ عَلى اللهِ مِنْ وُلدِي، قَال سَلمَانُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ): كُنْتُ قَرِيباً مِنْهَا فَرَأَيْتُ واللهِ أَسَاسَ حِيطَانِ مَسْجِدِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) تَقَلعَتْ مِنْ أَسْفَلهَا حَتَّى لوْ أَرَادَ رَجُل أَنْ يَنْفُذَ مِنْ تَحْتِهَا لنَفَذَ، فَدَنَوْتُ مِنْهَا فَقُلتُ: يَا سَيِّدَتِي ومَوْلاتِي إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى بَعَثَ أَبَاكِ رَحْمَةً فَلا تَكُونِي نَقِمَةً، فَرَجَعَتْ ورَجَعَتِ الحِيطَانُ حَتَّى
ص: 117
سَطَعَتِ الغَبَرَةُ مِنْ أَسْفَلهَا فَدَخَلتْ فِي خَيَاشِيمِنَا»(1).
مسألة: يستحب القسم على الله تبارك وتعالى في الأدعية المهمة.
فإن القسم من القسمة، كأن الأمر يقسم بين هذا وذاك، ويتحمل كل منهما نصف الأمر، والقسم على الله سبحانه نوع من الطلب المؤكد منه ليقضي الحاجة، فكأنه يطلب منه أن يكون إلى جواره في القضية بعد أن كان منفرداً بإرادة حلها، أو أنه يقسم الأمر بين الماضي حيث كان مبتلى بالأمر وكان بعهدته، والمستقبل حيث يطلب من الله تعالى أن يكون هو المتكفل بالحل، فتأمل.
وقد ذكرنا في الأدب أن المادة الواحدة لها معنى واحد وإن اختلفت في الصيغ المختلفة، وما ذكره جملة من الأدباء من المعاني المتعددة للفظ الواحد إذا فتشنا عنها نجدها ترجع إلى معنى عام واحد هو الكلي الذي له مصاديقه المختلفة، والقسم والقسمة وما أشبه كلها باعتبار كونها مادة واحدة تكون بمعنى واحد، وتختلف مصاديقها كاختلاف أفراد الكلي.
وقد ذكرنا استحباب القسم في الأدعية المهمة، لأنه لولا الأهمية لكان الأفضل ترك القسم على الله سبحانه لاحترام الاسم الشريف، قال سبحانه: «وَلا تَجْعَلوا اللهَعُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(2)، على أحد التفسيرين.
ص: 118
مسألة: لا يجب التصريح باسم الظالم إذا لم يكن موضع حاجة وضرورة، ولذا نجد الصديقة (عليها السلام) صرحت في بعض الموارد دون بعض، إذ لكل فائدة، وقد جمعت (صلوات الله عليها) بين الأمرين، بالتنويع في كلماتها.
وهذا أسلوب القرآن الكريم حيث صرح أحياناً بأسماء أعداء الله كفرعون وقابيل وهامان، ولم يصرح أحياناً.
وفي رواية: بعد ما سمعت بضعة المصطفى (عليها السلام) أصواتهم، وهي تبكي حزينة كئيبة، نادت بأعلى صوتها: «يا أبت يا رسول الله: ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة»(1).
مسألة: يستحب بيان مقام فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند الله سبحانه، بحيث لو أقسمت على الله تعالى تجده سريع الإجابة.
ويدل على قولها هذا ما دل علىأنها سيدة نساء أهل الجنة(2)، ويدل عليه
ص: 119
أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(1)، فإنها (عليها السلام) لو غضبت بما دعاها للدعاء عليهم لاستجاب الله لها دون ريب، كما قال عزوجل: «فَلمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعين»(2).
والنصيب قسم بكسر القاف، فأما اليمين فالقسم، قال أهل اللغة: أصلذلك من القسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء المقتول إذا ادعوا دم مقتولهم على ناس اتهموهم به(3).
ص: 120
روي أن فاطمة (صلوات الله عليها) انطلقت إلى أبي بكر فطلبت ميراثها من نبي الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إن نبي الله لا يورث!. فقالت: «قال الله: «يُوصيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُمْ للذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(1)»(2).
مسألة: المطالبة بالحق على قسمين، واجب ومستحب، على حسب أنواع الحق، وذلك مما يستفاد من الأدلة الخارجية.
مثلاً: إذا كان في ذمة إنسان لإنسان آخر دينار واحد، لم يجب على صاحبالحق طلبه، أما إذا كانت زوجته مختطفة فالواجب عليه طلبها، لأن ترك المختطف وهتك عرضه حرام شرعاً، بخلاف المثال الأول فإن ترك الدينار حتى عند الناهب ليس من المحرم.
ص: 121
والظاهر أن مطالبة الصديقة (عليها السلام) ميراثها من ابن أبي قحافة كان واجباً، لكون ذلك من أهم أسباب فضح الغاصبين والظالمين، ومن أهم أدلة ظلمهم وغصبهم لحقها وحق الوصي (عليهما السلام)، ومن أهم طرق الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «طَلبُ التَّعَاوُنِ عَلى إِقَامَةِ الحَقِّ دِيَانَةٌ وأَمَانَةٌ»(1).
وعن البَاقِرُ (عليه السلام) فِي خَبَرٍ: «أَنَّهُ رَجَعَ عَليٌّ (عليه السلام) إِلى دَارِهِ فِي وَقْتِ القَيْظِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ قَائِمَةٌ تَقُول: إِنَّ زَوْجِي ظَلمَنِي وأَخَافَنِي وتَعَدَّى عَليَّ وحَلفَ ليَضْرِبَنِي، فَقَال (عليه السلام): يَا أَمَةَ اللهِ اصْبِرِي حَتَّى يَبْرُدَ النَّهَارُ ثُمَّ أَذْهَبُ مَعَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَالتْ: يَشْتَدُّ غَضَبُهُ وحَرْدُهُ عَليَّ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ وهُوَ يَقُول: لا واللهِ أَوْ يُؤْخَذَ للمَظْلومِ حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ، أَيْنَ مَنْزِلكِ، فَمَضَى إِلى بَابِهِ فَقَال: السَّلامُ عَليْكُمْ، فَخَرَجَ شَابٌّ، فَقَالعَليٌّ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ فَإِنَّكَ قَدْ أَخَفْتَهَا وأَخْرَجْتَهَا، فَقَال الفَتَى: ومَا أَنْتَ وذَاكَ، واللهِ لأُحْرِقَنَّهَا لكَلامِكَ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): آمُرُكَ بِالمَعْرُوفِ وأَنْهَاكَ عَنِ المُنْكَرِ تَسْتَقْبِلنِي بِالمُنْكَرِ وتُنْكِرُ المَعْرُوفَ، قَال: فَأَقْبَل النَّاسُ مِنَ الطُّرُقِ ويَقُولونَ: سَلامٌ عَليْكُمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَسَقَطَ الرَّجُل فِي يَدَيْهِ فَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَقِلنِي عَثْرَتِي فَوَ اللهِ لأَكُونَنَّ لهَا أَرْضاً تَطَؤُنِي، فَأَغْمَدَ عَليٌّ (عليه السلام) سَيْفَهُ وقَال: يَا أَمَةَ اللهِ ادْخُلي مَنْزِلكِ ولا تُلجِئِي زَوْجَكِ إِلى مِثْل هَذَا وشِبْهِه»(2).
ص: 122
مسألة: يستحب الاستدلال والاستشهاد بآيات القرآن الكريم، وإذا توقف إحقاق الحق عليه وجب، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها)، وفي ذلك ترويج للقرآن الكريم وإحقاق للحق، وملاكه أيضاً يأتي في الأحاديث المروية عن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وهكذا بالنسبة إلى الثابت من أقوال الملائكة، وكذلك أقواله سبحانه وتعالى في الأحاديث القدسية، وكذا أقوال سائر الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) وحتى العلماء في الجملة، فالملاك في الجميع واحد وإن اختلفت مراتب الاستحباب أو الوجوب.
ثم إن استشهاد الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بالآيات بعمومها وإطلاقها، ولا دليل على تخصيصها أو تقييدها، أما ما ذكره ابن أبي قحافة فلا شك أنه مجعول، لأدلة كثيرة ذكرها الكلاميون والفقهاء في الكتب المفصلة(1).
ص: 123
مسألة: تحرم التفرقة بين المسلمين في الأحكام والحقوق، بما لم ينزل الله به سلطاناً، ولذا قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين».
مسألة: يحرم تكذيب كتاب الله تعالى، سواء بالتصريح أو التلميح، بالمطابقة أو الالتزام(1)، وسواء في العموم أو الخصوص، أو الكلي أو الجزئي.
ومنه تكذيب الأول والثاني لعموم آية الإرث بجعل حديث على خلافها، فإنه تكذيب بالحق الظاهر ويوجب العقاب في الآخرة.
وهناك في التاريخ الكثير مما يدل على جهل القوم بالآيات ومخالفتهم لها:
فلما قرأ: «وَفاكِهَةً وأَبًّا»(2) قال: ما الأب؟ثم قال: إن هذا لهو التكلف وما عليك يا ابن الخطاب إلاّ تدري ما الأب(3).
وقد أحرقوا الفجاءة المازني وهو يقول: أنا مسلم(4)، وقطعوا يسار
ص: 124
السارق وهو خلاف الشرع(1)، ولم يعرفوا ميراث الجدة، فَقَال: لجَدَّةٍ سَأَلتْهُ عَنْ إِرْثِهَا؟ لا أَجِدُ لكِ شَيْئاً فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَأَخْبَرَهُ المُغِيرَةُ ومُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ أَنَّ الرَّسُول (صلى الله عليه وآله) أَعْطَاهَا السُّدُسَ، وقَال: أَطْعِمُوا الجَدَّاتِ السُّدُسَ (2).ولم يعرفوا ميراث العمّة والخالة(3)، إلى غيرها مما هو كثير.
ص: 125
مسألة: يجوز للمرأة أن تطلب بإرثها، والجواز هنا بالمعنى الأعم كما سبق في شرح الخطبة الشريفة.
والإرث من باب المصداق، وكذلك المرأة، وإلا فالحكم شامل للمرأة والرجل، للإرث وغير الإرث.
ومن الواضح أن فدك لم تكن إرثاً بالمعنى الفقهي الأخص لأنها كانت نحلة، وإنما أريد بالإرث المعنى الأعم، أي ما وصل من الرسول (صلى الله عليه وآله) إليها (عليها السلام)، مثل قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الذينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأَرْضِ ومَغارِبَهَا»(1) وما أشبه ذلك من إطلاق الإرث على غير المعنى الفقهي الخاص بكتاب الإرث.
وهناك احتمال آخر في الباب(2).والاستدلال بآيات الإرث ذكرناه في الفصل الثاني من هذا الكتاب(3).
ص: 126
مسألة: يستحب بيان أن ما فعله القوم من غصب حق الصديقة فاطمة (عليها السلام) كان كفراً بالله تعالى، وتكذيباً لكتابه عزوجل.
وهل المراد بالكفر هنا الكفر العملي، فالكفر قد يطلق على الاعتقادي وقد يطلق على العملي.
قال سبحانه: «لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزيدَنَّكُمْ ولئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي لشَديد»(1).
وقال تعالى: «وَللهِ عَلى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليْهِ سَبيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالمين»(2).
وإطلاق الكفر على العملي في الروايات كثير، نعم إذا كان اعتقادهم على خلاف الحق فالكفر بالمعنى الاعتقادي أيضاً.
قال تعالى: «يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ واللهُ لا يُحِبُّ كُل كَفَّارٍ أَثيم»(3).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «سِبَابُ
ص: 127
المُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وقِتَالهُ كُفْرٌ، وأَكْل لحْمِهِ مَعْصِيَةٌ، وحُرْمَةُ مَالهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»(1).
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِذَا قَال الرَّجُل لأَخِيهِ المُؤْمِنِ أُفٍ، خَرَجَ مِنْ وَلايَتِهِ، وإِذَا قَال أَنْتَ عَدُوِّي، كَفَرَ أَحَدُهُمَا، ولا يَقْبَل اللهُ مِنْ مُؤْمِنٍ عَمَلا وهُوَ مُضْمِرٌ عَلى أَخِيهِ المُؤْمِنِ سُوءاً»(2).
قال تعالى: «إِنَّ الذينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلونَ الذينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَليم»(3).
وقال سبحانه: «إِنَّ الذينَ كَفَرُوا وماتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدِهِمْ مِل ءُ الأَرْضِ ذَهَباً ولوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهمْ عَذابٌ أَليمٌ وما لهُمْ مِنْ ناصِرين»(4).
مسألة: يحرم الكفر بالله تعالى، فإنهمن أشد المحرمات، قال عزوجل: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لمَنْ يَشاءُ»(5).
ص: 128
لا يقال: إن الله سبحانه ليس بمحتاج، فأي ضرر يترتب عليه في الكفر به.
لأنه يقال: لا شك في أنه غني مطلق، إلاّ أن الكافر الذي تمت عليه الحجة غير لائق لأن يحشر مع الذين أحقوا الحق وأبطلوا الباطل، فنفسيته نفسية نارية، ولذلك فإنه سيدخلها، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض الكتب المرتبطة بأصول الدين(1).
ص: 129
وفي حديث غصب فدك، قالت فاطمة (عليها السلام) حين أرادا انتزاعها وهي في يدها:
«أليست في يدي وفيها وكيلي، وقد أكلت غلتها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي»، قالا: بلى، قالت: «فلم تسألاني في البينة على ما في يدي»، قالا: لأنها فيء المسلمين، فإن قامت بينة وإلاّ لم نمضها، قالت لهما - والناس حولهما يسمعون -: «أفتريدان أن تردا ما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين، أيها الناس اسمعوا ما ركباها».
قالت: «أرأيتما إن ادّعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم تسألونني البينة أم تسألونهم»، قالا: لا، بل نسألك.
قالت: «فإن ادّعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني».
فغضب عمر وقال: إن هذا فيء للمسلمين وأرضهم، وهي في يدي فاطمة تأكل غلتها، فإن أقمت بينة على ما ادّعت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبها لها من بين المسلمين وهي فيئهم وحقهم نظرنا في ذلك.
فقالت: «حسبي، أنشدكم بالله أيها الناس، أما سمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن ابنتي سيدة نساء أهل الجنة».
ص: 130
قالوا: اللهم نعم، قد سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قالت: «أفسيدة نساء أهل الجنة تدّعي الباطل وتأخذ ما ليس لها»(1).
------------------------------
مسألة: يستحب طلب الحق بالاستشهاد بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومن الواضح أن استدلال الصديقة (عليها السلام) بكونها سيدة النساء قوي جداً، فإنه يمتنع عقلاً أن يجعل الله امرأة سيدة نساء الجنة كافة باستثناء مثل الرسول وعلي (صلوات الله عليهما) ثم تدّعي الباطل أو تحاول غصب حق لكافة المسلمين كما ادعياه!، هذا مع قطع النظر عن آية التطهير وغيرها من الأدلة التي قامت على عصمتها (عليها السلام).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «ثَلاثٌ لا يُسْتَحْيَى مِنْهُنَّ: خِدْمَةُ الرَّجُل ضَيْفَهُ، وقِيَامُهُ عَنْ مَجْلسِهِ لأَبِيهِ ومُعَلمِهِ، وطَلبُ الحَقِ، وإِنْ قَل»(2).
ص: 131
مسألة: قول ذي اليد حجة، ويلزم الأخذ به.
وهذه قاعدة فقهية دل عليها العقل والنقل والعرف، وادعي عليها الاتفاق والاجماع بل والضرورة أيضاً، فمن يدعي خلافها يحتاج إلى البينة وما أشبه، ولا فرق في ذلك بين اليد على الشيء اليسير أو الخطير، بل لا حاجة لقول ذي اليد، إذ تكفي يده حجة إلاّ بقيام دليل أقوى.
عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) قَال: قَال لهُ رَجُل: أَرَأَيْتَ إِذَا رَأَيْتُ شَيْئاً فِي يَدَيْ رَجُل أَيَجُوزُ لي أَنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ لهُ، قَال: «نَعَمْ»، قَال الرَّجُل: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ ولا أَشْهَدُ أَنَّهُ لهُ فَلعَلهُ لغَيْرِهِ، فَقَال لهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَفَيَحِل الشِّرَاءُ مِنْهُ»، قَال: نَعَمْ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «فَلعَلهُ لغَيْرِهِ فَمِنْ أَيْنَ جَازَ لكَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ ويَصِيرَ مِلكاً لكَ ثُمَّ تَقُول بَعْدَ المِلكِ هُوَ لي وتَحْلفَ عَليْهِ، ولا يَجُوزُ أَنْ تَنْسُبَهُ إِلى مَنْ صَارَ مِلكُهُ مِنْ قِبَلهِ إِليْكَ»، ثُمَّ قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لوْ لمْ يَجُزْ هَذَا لمْ يَقُمْ للمُسْلمِينَسُوقٌ»(1).
قال النراقي (رحمه الله): (ولا شكّ في صدق الكون في اليد عرفاً فيما كان تحت اختياره ويتصرّف فيه تصرفات ملكية، كالبيع والإجارة والإعارة ونحوها. وكذا فيما يستعمله وينتفع به ويتصرّف فيه بالإفساد والإصلاح، كالركوب والحمل في الدابة، والعمارة والتخريب في الدار، والغرس والزرع في الأرض، وهكذا. ومن وجوه الاستعمال: وضع متاعه أو جنس آخر بل مطلق ماله فيه،
ص: 132
للصدق العرفي. وهل تصدق اليد على شي ء بكونه في مكانه المختص به، ملكاً أو استئجاراً أو عارية، كغلة في بيته، أو دابّة في مذوده، أو متاع في دكّته؟ الظاهر: نعم، للصدق العرفي)(1).
مسألة: يستحب وقد يجب، إقامة الدليل بعد الدليل على كون المحق محقاً، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها). وهذا غير المطالبة به كما لا يخفى.
وربما يكون من التأكيد الذي مربحثه في مطاوي الكتاب.
مسألة: إلجاء ذي اليد إلى إقامة الدليل على ملكيته لما يده عليه محرم، فإنه نقض لحكم الله، واطّراح للأمارة الشرعية، فنفس مطالبتها (صلوات الله عليها) بالدليل محرم، حتى مع قطع النظر عما استلزمه من إيذائها وظلمها (عليها السلام).
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَوْلى عَلى شَيْ ءٍ مِنْهُ فَهُوَ لهُ»(2).
ص: 133
مسألة: يستحب بيان أن فدك كانت في يد الصديقة فاطمة (عليها السلام) وفيها وكيلها وقد أكلت غلتها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي.
فإن بيان مثل ذلك يوجب نصرتها (عليها السلام) وبيان بطلان حجة وموقف خصومها، فهو من نصرتهم (عليهم الصلاة والسلام)، بالإضافة إلى أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شؤون الولاية، ومما يوجب الهداية، إلى غيرها.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لمْ يُؤْخَذْ لضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(1).
مسألة: تقرير المعصوم (عليه السلام) حجة، ومن أدلة الصديقة (عليها السلام) استنادها إلى تقرير النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قالت: (وقد أكلت غلتها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي).
ومن الواجب في الجملة أن يتصدىجمع لجمع اعترافات الخصوم بالحق في الأصول والفروع، سواء كان اعترافهم بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام، أو حتى بمثل دلالة الاقتضاء، كما فيما يلزم من الجمع بين كلامين لهم.. وهكذا، فإن في ذلك نصرة للحق.
ص: 134
قالوا: المقصود من تقرير المعصوم (عليه السلام) أن يفعل شخص بمشهد المعصوم وحضوره فعلا، فيسكت المعصوم عنه مع توجّهه إليه ... فإنّ سكوت المعصوم عن ردع الفاعل أو عن بيان شي ءٍ حول الموضوع لتصحيحه يسمّى تقريراً للفعل، أو إقراراً عليه، أو إمضاءً له(1).
مسألة: الاستدلال قد يكون مباشراً، وقد يكون غير مباشر(2)، والواجب منه ماتوقف عليه إحقاق الحق، وقد يُلزم الخصم بما يلتزم به من دون علمه بأنه يستلزم كذا وكذا.
ومنه المقام حيث ألزمتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بلازم ما اعترفوا به من سماعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»(3).
ص: 135
مسألة: الكذب حرام، وتشتد حرمته إذا صدر من ذي موقع خطير بحق أو بباطل، كما تشتد الحرمة إذا كان لغمط حق الأولياء، فكيف بالأوصياء وأبناء الأنبياء (عليهم السلام).
كما تشتد إذا كان الكذب في حقٍ عظيمٍ مثل الحق الذي نحله رسول الله بضعته الزهراء (عليهما السلام).
ومن أظهر مصاديق الكذب الذي جمع كل تلك الخصال الموجبة لاشتداد الحرمة، قول الأول والثاني: لأنها - أي فدك - فيء المسلمين.
مسألة: يستحب بيان أن خصمها (عليها السلام) قد اعترف بأن فدك كانت في يدها ومع ذلك غصب ما نحله رسول الله (صلى الله عليه وآله).
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمَّا قُبِضَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وجَلسَ أَبُو بَكْرٍ مَجْلسَهُ، بَعَثَ إِلى وَكِيل فَاطِمَةَ (صلوات الله عليها) فَأَخْرَجَهُ مِنْ فَدَكَ»(1) الحديث.
ص: 136
مسألة: يحرم رد ما صنعه الرسول (صلى الله عليه وآله) ومخالفته، سواء في ذلك ما صنعه باعتبار مقام رسالته أم باعتبار مقام حكومته أم باعتبار مقام مالكيته الشخصية، أو غيرها.
فإن ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقام به واجب الاتباع في الصور المذكورة.
قال تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ»(1).
وقال سبحانه: «أَطيعُوا اللهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُول»(2).
وقال تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ»(3).
وعَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وَ جَل: «يا
أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَ للرَّسُول إِذا دَعاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ»(4). قَال: «نَزَلتْ فِي وَلايَةِ عَليٍّ عليهالسلام»(5).
ص: 137
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قريظة: «يا معشر قريش، احفظوا وصيتي، إن علياً إمامكم بعدي، بذلك أنبأني جبرئيل (عليه السلام) عن ربي عز ذكره. إلاّ إنكم إن لم تؤتوه أموركم اختلفتم، وتولى عليكم أشراركم. إلاّ إن أهل بيتي هم الوارثون لي، والقائمون من أمتي. اللهم من أطاعهم فثبته، ومن نصرهم فانصره، ومن خالف أمري وأقام إماماً لم أقمه وترك إماماً أقمته ونصبته فأحرمه جنتك، والعنه على لسان أنبيائك»(1).
وبيان أن القوم شهدوا بذلك تقويةلجانبها (عليها السلام) ومزيد إتمام الحجة عليهم، فإن (الفضل ما شهدت به الأعداء).
مسألة: يستحب وقد يجب التأكيد على السامع بالسماع كي لا يدعي الغفلة بعده، ولغير ذلك، وقد قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أيها الناس اسمعوا ما ركباها».
قال تعالى: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ المُنادِ مِنْ مَكانٍ قَريب»(1).
وقال عزوجل: «وَإِذا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لهُ وَأَنْصِتُوا لعَلكُمْ
ص: 139
تُرْحَمُونَ»(1).
وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَل فَاسْتَمِعُوا لهُ»(2).
مسألة: يحرم الغضب بالباطل ومنه المقام حيث غضب ابن الخطاب.وفي الدعاء: «اللهُمَّ إِنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَانِ الحِرْصِ، وسَوْرَةِ الغَضَب»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يَقُول: «أَتَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَجُل بَدَوِيٌّ فَقَال: إِنِّي أَسْكُنُ البَادِيَةَ فَعَلمْنِي جَوَامِعَ الكَلامِ، فَقَال: آمُرُكَ أَنْ لا تَغْضَبَ، فَأَعَادَ عَليْهِ الأَعْرَابِيُّ المَسْأَلةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى رَجَعَ الرَّجُل إِلى نَفْسِهِ فَقَال: لا أَسْأَل عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَ هَذَا مَا أَمَرَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إلاّ بِالخَيْرِ، قَال: وكَانَ أَبِي يَقُول: أَيُّ شَيْ ءٍ أَشَدُّ مِنَ الغَضَبِ إِنَّ الرَّجُل ليَغْضَبُ فَيَقْتُل النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ ويَقْذِفُ المُحْصَنَةَ»(4).
وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «الغَضَبُ مِفْتَاحُ كُل شَرٍّ»(5).
وروِي عَنِ العَالمِ (عليه السلام) أَنَّ رَجُلا سَأَلهُ فَقَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ (صلى
ص: 140
الله عليه وآله) عَلمْنِي مَا يَجْمَعُ لي خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ ولا تُطَوِّل عَليَّ، فَقَال: «لا تَغْضَبْ»(1).
مسألة: يحرم التشكيك فيما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو التوقف أو الاجتهاد في مقابل النص، وهما ما اجترحه الثاني ههنا، حيث قال: (فإن أقمت بينة على ما ادعت أن رسول الله وهبها .. نظرنا في ذلك) (2).
ص: 141
قالت فاطمة (عليها السلام): «يا بن الخطاب أتراك محرقاً عليّ بابي»؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك(1).
-----------------------
مسألة: يستحب وقد يجب إلفات الظالم إلى ظلمه وجريمته وإن كان عالماً به، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) للثاني: «أتراك...».
والإلفات إنما يكون لإتمام الحجة عليه وعلى الساكتين عنه أو الراضين بفعله، ولتثبيت الظلامة في صفحات التاريخ، كما في المقام، وأما في غيره فقد يكون أيضاً من جهة احتمال الانقلاع والارتداع، فقد يقدم شخص على فعل حرام أو ترك واجب فإذا نبه انقلع عن الحرام أو فَعَل الواجب، وإن كان هو بنفسه ملتفتاً، فإن للكلام تأثيراً ليس في السكوت كثيراً ما.
قال سبحانه: [وَإِذْ قَالتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلعَلهُمْيَتَّقُونَ](2).
ص: 142
ثم إن المعذرة إلى الله تعالى هي فائدة أخرى في تذكير من يعلم، فهذه فوائد خمس لتذكير الملتفت(1) لا على نحو الحصر، بل فوائده أكثر(2).
وفيما نحن فيه كانت الصديقة (عليها السلام) تعلم بأن ظالمها لا يرتدع، فإنهم أسلموا طمعاً لا طوعاً(3)، فكيفيتخلون عن مطامعهم، وهم يرون الأمور لهم
ص: 143
مستوسقة، والدنيا بزخرفها وزبرجها عليهم مقبلة، فكان نهيها (عليها السلام) عن المنكر لأجل سائر الفوائد المذكورة.
مسألة: يستحب بيان أن خصم الصديقة (عليها السلام) أحرق بابها، وقد يجب.
فإن ذلك نوع بيان للمظلومية الموجب للالتفاف حول العترة (عليهم السلام) أكثر فأكثر، والمسبب للابتعاد عن أولئك الطغاة أكثر فأكثر، وكلاهما يوجب خير الدنيا والآخرة على ما ذكرنا مثله في البنود السابقة.
مسألة: يجوز وقد يجب، ذكر اسم أو لقب أو كنية الظالم كي يعرفه الناس، فينفصلوا من حوله، وقد سبق مثله.
ص: 144
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: ذُكِرَتِ الخِلافَةُ عِنْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَال: «أَمَا واللهِ لقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ أَخُو تَيْمٍ، وإِنَّهُ ليَعْلمُ أَنَّ مَحَلي مِنْهَا مَحَل القُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْل ولا يَرْقَى إِليَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُول بِيَدٍ جَذَّاء...» (1).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُليْمَانَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: كَانَ عَليٌّ(عليه السلام) يَقُول: «لوْلا مَا سَبَقَنِي بِهِ بَنِي الخَطَّابِ مَا زَنَى إلاّ شَقِيٌ»(2).
مسألة: يجوز وقد يجب استدراج الخصم او استنطاقه ليقر بجريمته بلسانه، فإنه أقطع لعذر الجاهلين والمشككين وأقوى في الحجة، ولذلك ولغيره قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): «يا ابن الخطاب أتراك محرقاً علي بابي».
وقَالتْ (عليها السلام): «نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ هَل سَمِعْتُمَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي؟ قَالا: نَعَمْ، فَرَفَعَتْ يَدَهَا إِلى السَّمَاءِ فَقَالتْ: اللهُمَّ إِنَّهُمَا قَدْ آذَيَانِي فَأَنَا أَشْكُوهُمَا إِليْكَ وإِلى رَسُولكَ لا واللهِ لا أَرْضَى عَنْكُمَا أَبَداً حَتَّى أَلقَى أَبِي رَسُول اللهِ وأُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعْتُمَا فَيَكُونَ هُوَ الحَاكِمَ فِيكُمَا، قَال: فَعِنْدَ ذَلكَ دَعَا أَبُو بَكْرٍ بِالوَيْل والثُّبُورِ وجَزِعَ جَزَعاً
ص: 145
شَدِيداً»(1).
وعَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَال: كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا هِشَامُ إلاّ تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلتَهُ»، فَقَال هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ إِنِّي أُجِلكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولا يَعْمَل لسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْ ءٍ فَافْعَلوا»، قَال هِشَامٌ: بَلغَنِي مَا كَانَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلوسُهُ فِي مَسْجِدِ البَصْرَةِ فَعَظُمَ ذَلكَ عَليَّ فَخَرَجْتُ إِليْهِ ودَخَلتُ البَصْرَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ البَصْرَةِ فَإِذَا أَنَا بِحَلقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَليْهِ شَمْلةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ وشَمْلةٌ مُرْتَدِياً بِهَا والنَّاسُ يَسْأَلونَهُ، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ القَوْمِ عَلى رُكْبَتَيَّ ثُمَّ قُلتُ: أَيُّهَا العَالمُ إِنِّي رَجُل غَرِيبٌ تَأْذَنُ لي فِي مَسْأَلةٍ؟
فَقَال لي: نَعَمْ، فَقُلتُ لهُ: أَلكَ عَيْنٌ، فَقَال: يَا بُنَيَّ أَيُّ شَيْ ءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَال وشَيْ ءٌ تَرَاهُ كَيْفَ تَسْأَل عَنْهُ، فَقُلتُ: هَكَذَا مَسْأَلتِي، فَقَال: يَا بُنَيَّ سَل وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلتُكَ حَمْقَاءَ، قُلتُ: أَجِبْنِي فِيهَا، قَال لي: سَل، قُلتُ: أَ لكَ عَيْنٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا، قَال: أَرَى بِهَا الأَلوَانَ والأَشْخَاصَ، قُلتُ: فَلكَ أَنْفٌ، قَال:نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ، قَال: أَشَمُّ بِهِ الرَّائِحَةَ، قُلتُ: أَ لكَ فَمٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ، قَال: أَذُوقُ بِهِ الطَّعْمَ، قُلتُ: فَلكَ أُذُنٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا، قَال: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ، قُلتُ
ص: 146
: أَلكَ قَلبٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ، قَال: أُمَيِّزُ بِهِ كُل مَا وَرَدَ عَلى هَذِهِ الجَوَارِحِ والحَوَاسِّ، قُلتُ: أَوليْسَ فِي هَذِهِ الجَوَارِحِ غِنًى عَنِ القَلبِ، فَقَال: لا، قُلتُ: وكَيْفَ ذَلكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَليمَةٌ، قَال: يَا بُنَيَّ إِنَّ الجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْ ءٍ شَمَّتْهُ أَوْ رَأَتْهُ أَوْ ذَاقَتْهُ أَوْ سَمِعَتْهُ رَدَّتْهُ إِلى القَلبِ فَيَسْتَيْقِنُ اليَقِينَ ويُبْطِل الشَّكَّ.
قَال: هِشَامٌ: فَقُلتُ لهُ: فَإِنَّمَا أَقَامَ اللهُ القَلبَ لشَكِّ الجَوَارِحِ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: لابُدَّ مِنَ القَلبِ وإِلا لمْ تَسْتَيْقِنِ الجَوَارِحُ، قَال: نَعَمْ، فَقُلتُ لهُ: يَا أَبَا مَرْوَانَ فَاللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى لمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَل لهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِهِ مَا شُكَّ فِيهِ، ويَتْرُكُ هَذَا الخَلقَ كُلهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلافِهِمْ لا يُقِيمُ لهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِليْهِ شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لكَ إِمَاماً لجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِليْهِ حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟
قَال: فَسَكَتَ ولمْ يَقُل لي شَيْئاً، ثُمَّ التَفَتَ إِليَّ فَقَال لي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ؟ فَقُلتُ: لا، قَال: أَمِنْ جُلسَائِهِ قُلتُ: لا، قَال: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ، قَال: قُلتُ: مِنْ أَهْل الكُوفَةِ، قَال: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ، ثُمَّ ضَمَّنِي إِليْهِ وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلسِهِ وزَال عَنْ مَجْلسِهِ ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.
قَال: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وقَال: «يَا هِشَامُ مَنْ عَلمَكَ هَذَا»، قُلتُ: شَيْ ءٌ أَخَذْتُهُ مِنْكَ وأَلفْتُهُ، فَقَال: «هَذَا واللهِ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْراهِيمَ ومُوسى»(1).
ص: 147
مسألة: يحرم النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، فلو صرح بالكفر أحياناً كان كبيرة أخرى، وقول الثاني: (وذلك أقوى فيما جاء به أبوك) كفر واضح.
مسألة: إنكار الضروري موجب للكفر، ومن الضروريات إنكار رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكلام الثاني هذا دليل على كفره، نعم لم يرتب الرسول (صلى الله عليه وآله) بعض آثار الكفر على المنافقين ربما من باب التزاحم.
ثم إن الرسالة من أمهات الضروريات كالتوحيد والمعاد، وليس كبعض الضروريات التي اختلف في كونها موجبة للكفر بما هي أو بلحاظ عودها إلى إنكار أحد أصول الدين(1).عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الكِنَانِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قِيل لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُؤْمِناً، قَال: فَأَيْنَ فَرَائِضُ اللهِ، إِلى أَنْ قَال: ثُمَّ قَال: «فَمَا بَال مَنْ
ص: 148
جَحَدَ الفَرَائِضَ كَانَ كَافِراً»(1).
وقال (عليه السلام): «وَلا يُخْرِجُهُ إِلى الكُفْرِ إلاّ الجُحُودُ والاسْتِحْلال أَنْ يَقُول للحَلال هَذَا حَرَامٌ وللحَرَامِ هَذَا حَلال»(2).
مسألة: إحراق باب الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كان من أكبر الكبائر، وكان مجمع جرائم ومعاصي عديدة:
منها: إرعاب أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وعليهم)، وهذه بدورها تنحل إلى معاصي عديدة بعدد من أرعبوا من العترة الطاهرة (عليهم السلام) ومن يلوذ بهم.ومنها: التصرف في ملك الغير بأسوأ أنحاء التصرف دون رضاه.
ومنها: إنه مصداق: «الذينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولهُ»(3).
ومنها: إنه مصداق: «وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدينَ»(4).
ومنها: مقدمية ذلك لأكبر جرم ارتكب، وهو غصب الخلافة وإقصاء
ص: 149
الوصي الشرعي والانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومنها: هتك حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله) في ابنته الصديقة فاطمة (عليها السلام).
ومنها: هتك حرمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإيذائه وإيذاء الصديقة الطاهرة (عليها السلام).
إلى غير ذلك.
ص: 150
روي أن فاطمة (عليها السلام) قالت للأول والثاني: «أنشدكما بالله، أتذكران أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استخرجكما في جوف الليل بشيء كان حدث من أمر عليّ (عليه السلام)»؟
فقالا: اللهم نعم.
فقالت: «أنشدكما بالله، هل سمعتما النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: فاطمة بضعة مني وأنا منها، من آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي»؟
قالا: اللهم نعم.
فقالت: «الحمد لله». ثم قالت: «اللهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني، أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي، والله لا أكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما بي وارتكبتما مني»(1).
--------------------------
ص: 151
مسألة: يستحب حمد الله تعالى على إقرار الخصم.
فإن الحمد مستحب على كل نعمة، وعلى كل دفع لمكروه، والإقرار من الخصم هو من النعم للمقر له، وفي الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول عند كل نعمة: «الحمد لله على هذه النعمة»، وعند كل ما يكرهه: «الحمد لله على كل حال» أو «الحمد لله على هذه الحال».
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَال: «الحَمْدُ للهِ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وإِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَغْتَمُّ بِهِ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال»(1).
وعَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليهم السلام) قَال: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَال: الحَمْدُ للهِ الذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالحَاتُ، وإِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَكْرَهُهُ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال»(2).
وعنه (عليه السلام): «كَانَ رَسُول اللهِ (صلىالله عليه وآله) إِذَا أَتَاهُ مَا يُحِبُّ قَال: الحَمْدُ للهِ المُحْسِنِ المُجْمِل، وإِذَا أَتَاهُ مَا يَكْرَهُهُ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال والحَمْدُ للهِ عَلى هَذِهِ الحَال»(3).
ولا يخفى أن الشكر في مقام الحمد أيضاً كذلك، لاشتراكهما في تعظيم
ص: 152
المعبود وتمجيده، نعم قد يقال (الشكر) في النعم لا في المصائب، وقد قال تعالى: «لئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكُمْ»(1).
وقد ذكر الأدباء الفرق بين الحمد والمدح والشكر في كتب البلاغة ونحوها، قال بعضهم:
(الحمد) في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدي شخص عملاً طيباً عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإننا نحمده ونثني عليه.
و(المدح) هو الثناء بشكل عام، سواء كان لأمر اختياري أو غير اختياري، كمدحنا جوهرة ثمينة جميلة. ومفهوم المدح عام، بينما مفهوم الحمد خاص.
أما مفهوم (الشكر) فأخص منالاثنين، ويقتصر على ما نبديه تجاه نعمة تغدق علينا من منعم عن اختيار.
وفي مجمع البيان: (الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى، والفرق بين الحمد والشكر: إن الحمد نقيض الذم، كما أن المدح نقيض الهجاء. والشكر نقيض الكفران. والحمد قد يكون من غير نعمة، والشكر يختص بالنعمة، إلاّ أن الحمد يوضع موضع الشكر، ويقال: الحمد لله شكراً، فينصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ويكون بالقلب وهو الأصل، ويكون أيضاً باللسان، وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران.
ص: 153
وأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه)(1).
عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «أَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلى الجَنَّةِ الحَمَّادُونَ، الذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاء»(2).
وعَنِ المُفَضَّل قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): جُعِلتُ فِدَاكَ عَلمْنِي دُعَاءًجَامِعاً، فَقَال ليَ: «احْمَدِ اللهَ، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى أَحَدٌ يُصَلي إلاّ دَعَا لكَ يَقُول: سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ»(3).
وعن مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَيُّ الأَعْمَال أَحَبُّ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل؟ فَقَال: «أَنْ تَحْمَدَهُ»(4).
مسألة: ينبغي تثقيف الناس على ثقافة الحمد والارتباط بالله تعالى في كل حال، كما ينبغي أن يذكر الإنسان نفسه بأن وراء كل مصيبة أو نازلة حكمة وتعويض إلهي تستدعي حمد الله تعالى، فكم من مصيبة كانت سبباً لزيادة الدرجات، أو حط السيئات في غير المعصوم (عليه السلام)، وقد تكون لابتلاء الإنسان وامتحانه كما قد تكون لابتلاء الآخرين به، قال سبحانه: «وَجَعَلنَا بَعْضَكُمْ لبَعْضٍ فِتْنَةً»(5).
ص: 154
مسألة: ينبغي توثيق الأحداث التاريخية، خاصة ما يتعلق بالظلامات، وما يرتبط بتفاصيل الأحداث والحوارات التي جرت بين جانبي الإسلام والكفر، أو الإيمان والنفاق، وقد يجب ذلك، وقد قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «استخرجكما في جوف الليل...».
قَال الرِّضَا (عليه السلام): «مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا وبَكَى لمَا ارْتُكِبَ مِنَّا كَانَ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ ذُكِّرَ بِمُصَابِنَا فَبَكَى وأَبْكَى لمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي العُيُونُ، ومَنْ جَلسَ مَجْلساً يُحْيَا فِيهِ أَمْرُنَا لمْ يَمُتْ قَلبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ القُلوب»(1).
مسألة: يستحب تذكير الخصم بما سمع أو رأى من الحق، ولا يختص الاستحباب بصورة التأثر والتأثير، لما سبق من الغايات الأخرى.
مسألة: يستحب التأكيد في بيان الحق،وللتأكيد أنواع كثيرة، منها ما قالت الصديقة (عليها السلام): «أنشدكما بالله».
مسألة: يستحب أو يجب بيان النوعية الخاصة والاستثنائية لعلاقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بابنته الطاهرة، وأن الصديقة فاطمة (عليها السلام) بضعة من الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه منها، ومن آذاها فقد آذاه... إلى آخره.
ص: 155
وذلك لأن دوام الرسالة كان ببضعته الطاهرة (عليها السلام) بجهات عديدة:
منها: أن الأئمة (عليهم السلام) من ذريتها (صلوات الله عليها).
ومنها: أنها بدفاعها الذي لا نظير له في التاريخ عن رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمام المنقلبين على الأعقاب، حفظت الدين من أن يمحى أو يطمس بالكلية، وإنما قلنا لا نظير له، إذ لا يوجد في التاريخ كله من دافع بمستوى دفاعها (عليها السلام) عن الرسالة والخلافة، نظريا وعمليا، وعلى مستوى (الكلمة) ومستوى (الموقف) وأيضاً على مستوى (الكيفية) و(الكمية)، وفي بعد (التضحية) أيضاً كذلك، وهذا البحث يحتاج إلى مجلد مخصص له كي يؤدى بعض حقه.
ومنها: غير ذلك مما يظهرللمتأمل(1).
ص: 156
مسألة: يحرم حرمة شديدة إيذاء فاطمة (عليها السلام) في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد موته وشهادته.
ولا فرق في الإيذاء بين كونه بالمباشرة أو بالواسطة، فلو آذى من يؤذيها إيذاؤه كان من شدائد المحرمات، كما لا فرق في حرمة إيذائها (عليها السلام) بين كونه في حياتها أو بعد رحيلها شهيدة مظلومة.
قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فَاطِمَةَ شِجْنَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا ويَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا»(1).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ فَاطِمَةَ شِجْنَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا، ويَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا، وإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى ليَغْضَبُ لغَضَبِ فَاطِمَةَ ويَرْضَى لرِضَاهَا»(2).
وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَنْ آذَاهَا»(3).
ص: 157
مسألة: يستحب أو يجب بيان وتكرار أن ابن أبي قحافة وابن الخطاب قد آذيا فاطمة (عليها السلام) في حياتها وعند موتها واستشهادها.
وذلك غير خاص بالبيان لمن لا يعرف، بل يشمل أيضاً البيان والتكرار لمن يعرف، فلا يتوهم عدم الحاجة إليه في مجالس الشيعة، فإن التكرار يتضمن التأكيد، كما يوجب الاندفاع الأكثر، كما ينفع في الرسوخ الأعمق، إلى غير ذلك .
من هنا وجب التكرار في ما يجب، كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعين»(1) في الصلوات، بل ربما العديد من الشيعة لا يعرف كثيراً من هذه الحقائق رغم كثرة التكرار فكيف لو لم تتكرر.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تَجْلسُونَ وَتُحَدِّثُونَ» قُلتُ: نَعَمْ، قَال: تِلكَ المَجَالسُ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ عَنْ عَيْنَيْهِ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَهُ وَلوْ كَانَتْ أَكْثَرَمِنْ زَبَدِ البَحْرِ»(2).
وخروج الدمعة عادة تكون عند ذكر مصابهم وما جرى عليهم.
وعن ميسّر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال لي: أَتَخْلونَ وَتُحَدِّثُونَ وَتَقُولونَ مَا شِئْتُمْ، فَقُلتُ: إِي وَاللهِ، فَقَال: أَمَا وَاللهِ لوَدِدْتُ أَنِّي مَعَكُمْ فِي
ص: 158
بَعْضِ تِلكَ المَوَاطِنِ»(1) الحديث.
والحديث في الخلوة عادة حديث لا يقال في غير الخلوة.
مسألة: يستحب أو يجب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) غضبت على ابن أبي قحافة وابن الخطاب، فلم تكلمهما كلمة، وبما أن غضبها غضب الرسول (صلى الله عليه وآله) وغضب الرسول (صلى الله عليه وآله) غضب الله، وهو من أشد المحرمات وموجب للنار.
قال تعالى: «وَمَنْ يَحْلل عَليْهِ غَضَبي فَقَدْ هَوَى»(2).وقال سبحانه: «قُل هَل أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لعَنَهُ اللهُ وغَضِبَ عَليْه...»(3).
وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا لقِيتُمُ الذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرِّفاً لقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ»(4).
وقال سبحانه: «أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولهُ فَأَنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ
ص: 159
خَالداً فِيهَا ذَلكَ الخِزْيُ العَظِيمُ»(1).
وقال تعالى: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لهُمْ عَذاباً مُهِيناً»(3) قال: «نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقه، وأخذ حق فاطمة (عليها السلام) وآذاها»(4).
وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي كَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي، ومَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، ومَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي ومَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ، وقوله: «والذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ» يعني علياً وفاطمة.(5)
وفي المناقب عن تَفْسِيرِ الضَّحَّاكِ ومُقَاتِل قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلهِ تَعَالى: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولهُ» وذَلكَ حِينَ قَال المُنَافِقُونَ: إِنَّ مُحَمَّداً مَا يُرِيدُ مِنَّا إلاّ أَنْ نَعْبُدَ أَهْل بَيْتِ رَسُول اللهِ بِأَلسِنَتِهِمْ فَقَال: «لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ بِالنَّارِ وأَعَدَّ لهُمْ عَذاباً مُهِيناً» فِي جَهَنَّمَ(6).
ص: 160
مسألة: يستحب الشكاية إلى الله تعالى من ظلم الظالم في الحياة الدنيا، فإنه نوع إظهار للعبودية لله سبحانه، ونوع توثيق الصلة به جل اسمه، وموجب للقرب إليه تعالى. وقد يستفاد ذلك من فسح المجال لذلك في الآخرة، فتأمل.
قال تعالى: «قال إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْني إِلى اللهِ وأَعْلمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلمُونَ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «بَكَى عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلى أَبِيهِ حُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (صلوات الله عليهم) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بَكَى عَلى الحُسَيْنِ، حَتَّى قَال لهُ مَوْلى لهُ: جُعِلتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ إِنِّي أَخَافُ عَليْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الهَالكِينَ، قَال: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلى اللهِ وأَعْلمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلمُونَ، إِنِّي لمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إلاّ خَنَقَتْنِي العَبْرَةُ لذَلكَ»(2).
وفي الصحيفة السجادية: «اللهُمَّ لا أَشْكُو إِلى أَحَدٍ سِوَاكَ، ولا أَسْتَعِينُ بِحَاكِمٍ غَيْرِكَ، حَاشَاكَ، فَصَل عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ، وصِلدُعَائِي بِالإِجَابَةِ، واقْرِنْ شِكَايَتِي بِالتَّغْيِيرِ»(3).
ص: 161
مسألة: ما صنعاه بالصديقة (عليها السلام) وارتكباها بمختلف أنواعه كان من أشد المحرمات، فإن للحرمة درجات، فغصب الخلافة أسوأ من غصب فدك، وكسر ضلعها ولطم وجهها مما لا يدانيه ظلم ظالم.
وفي كتاب سليم: (وَحَالتْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلعُونُ بِالسَّوْطِ فَمَاتَتْ حِينَ مَاتَتْ وإِنَّ فِي عَضُدِهَا كَمِثْل الدُّمْلجِ مِنْ ضَرْبَتِهِ (لعَنَهُ اللهُ) ولعَنَ مَنْ بَعَث)(1).
وقال سليم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (عليها السلام): «إنك أول من يلحقني من أهل بيتي، وأنت سيدة نساء أهل الجنة وسترين بعدي ظلماً وغيظاً حتى تُضربي ويُكسر ضلع من أضلاعك، لعن الله قاتلك، ولعن الله الآمر والراضي والمعين والمظاهر عليك وظالم بعلك وابنيك»(2).
وقال سليم أيضاً: (فلقيتُ علياً (صلوات الله عليه) فسألته عما صنع ابن الخطاب، فقال: هل تدري لم كف عن قنفذ ولم يغرمه شيئاً؟ قلت: لا، قال: لأنه هوالذى ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم فماتت (صلوات الله عليها) وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج»(3).
وفي حديث آخر: «فنظر علي عليه السلام إلى من حوله، ثمّ اغرورقت عيناه بالدموع ثمّ قال: شكر له ضربها فاطمة (عليها السلام) بالسوط فماتت وفي
ص: 162
عضدها أثره كأنه الدملج».
وقال أيضاً: «... ثمّ عاد ابن الخطاب بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب، ثمّ دفعه ابن الخطاب فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وصاحت: يا أبتاه يا رسول الله، فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت يا أبتاه ...»(1).
وقال أيضاً: «... وقد كان قنفذ ... ضرب فاطمة (عليها السلام) بالسوط حين حالت بينه وبين زوجها، وأرسل إليه ابن الخطاب: إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها، فألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها فكسر ضلعا منجنبها، فألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت (عليها السلام) من ذلك شهيدة»(2).
ص: 163
وقال الخصيبي في حديث عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): «فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت، فأخذت بعضادتي الباب وقلت: ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفوا عنا وتنصرفوا، فأخذ ابن الخطاب السوط من قنفذ مولى ابن أبي قحافة فضرب به عضدي فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج، وركل الباب برجله فرده علي وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر، وصفق وجهي بيده حتى انتثر قرطي من أذني، وجاءني المخاض فأسقطت محسناً قتيلاً بغير جرم ...»(1).
والخصيبي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «... وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها، وضرب يد الصديقة الكبرى فاطمة بالسوط ورفس بطنها وإسقاطها محسناً ...»(2).وأيضا عنه (عليه السلام): «... فقال لها ابن الخطاب: دعي عنك يا فاطمة حمقات النساء، فلم يكن الله ليجمع لكم النبوة والخلافة، وأخذت النار في خشب الباب وإدخال قنفذ يده .. يروم فتح الباب، وضرب عمر لها بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود، وركل الباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بالمحسن لستة أشهر وإسقاطها إياه، وهجوم ابن الخطاب وقنفذ وخالد بن الوليد وصفقة خدها حتى بدا قرطاها تحت خمارها وهى تجهر بالبكاء وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، ابنتك فاطمة تُكذَّب وتُضرب ويُقتل جنين في بطنها ... وصاح أمير المؤمنين (عليه السلام) بفضة: يا فضة مولاتك فأقبلي منها ما تقبله النساء فقد جاءها المخاض من الرفسة ورد الباب، فأسقطت محسناً ....
إلى أن قال: فبكى الصادق (عليه السلام) حتى اخضلت لحيته بالدموع ثمّ قال: «لا قرت عين لا تبكي عند هذا الذكر»(3).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): «ومما أنكر عليه ضربهم لفاطمة وقد روي أنهم ضربوها بالسياط، والمشهور الذى لا خلاف فيه بين الشيعة أن ابن الخطاب ضرببطنها حتى أسقطت فسمي السقط محسناً، والرواية بذلك مشهورة عندهم»(4).
ص: 164
مسألتان: مقاطعة الظالم وكذلك العاصي قد تكون واجبة، وذلك إذا كانت المقاطعة أردع له، أو أبلغ في كشف حقيقة الظالم للناس بما يتطلب ذلك أو ما أشبه.
وفي شرح النهج: قال: فهجرته (ابنَ أبي قحافة) فاطمةُ فلم تكلمه حتى ماتت (1).
وقالوا: إنّ أحد علماء العامة أراد اللقاء بالعلامة الحلي (قدس سره) ليبحث معه في أمر الإمامة، فأوفد العلامة ولده فخر المحققين لاستقباله خارج البلدة، وبينما هما في الطريق التفت فخر المحققين وسأل ذلك العالم: هل حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» صحيح عندكم؟ فقال: نعم، قال فخر المحققين: فهل كان لفاطمة بعد وفاة أبيها (عليها السلام) إمام أو لا؟
فحار العالم ماذا يجيب، فإن قال: لا، فهل يعقل أن تكون الزهراء قد ماتت - والعياذ بالله - ميتة جاهلية، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟! وإن قال: نعم، فمن كان إمام زمانها؟ لا شكأنه لم يكن ابن أبي قحافة لأنها كانت مقاطعة له واجدة عليه رافضة لحكمه مُدينة له، وما رضيت حتى أن يشترك في تشييعها، وإن قال إن إمامها كان علي بن أبي طالب، فقد فحم، وهكذا حار العالم وعاد من حيث أتى دون أن يلتقي بالعلامة الحلي (قدس سره).
ص: 165
قالت فاطمة (عليها السلام) للأول والثاني: «أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم.
فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
«رضى فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني»؟
قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قالت: «فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه»(1).
--------------------------
مسألة: الظاهر أن كون رضا فاطمة (عليها السلام) من رضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسخطها من سخطه(2) هي من ضروريات المذهب.
ص: 166
عَنْ سَلمَانَ الفَارِسِيِّ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا سَلمَانُ مَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَهُوَ فِي الجَنَّةِ مَعِي، ومَنْ أَبْغَضَهَا فَهُوَ فِي النَّارِ، يَا سَلمَانُ حُبُّ فَاطِمَةَ يَنْفَعُ فِي مِائَةِ مَوْطِنٍ أَيْسَرُ تِلكَ المَوَاطِنِ المَوْتُ والقَبْرُ والمِيزَانُ والمَحْشَرُ والصِّرَاطُ والمُحَاسَبَةُ، فَمَنْ رَضِيَتْ عَنْهُ ابْنَتِي فَاطِمَةُ رَضِيتُ عَنْهُ، ومَنْ رَضِيتُ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ غَضِبَتْ عَليْهِ فَاطِمَةُ غَضِبْتُ عَليْهِ، ومَنْ غَضِبْتُ عَليْهِ غَضِبَ اللهُ عَليْهِ، يَا سَلمَانُ وَيْل لمَنْ يَظْلمُهَا ويَظْلمُ ذُرِّيَّتَهَا وشِيعَتَهَا»(1).
مسألة: يجب حب الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كما يجب حب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهو من مصاديق الحب في الله ولله وبالله، ولهذا الحب درجات، والأكمل حباً هو الأكمل إيماناً.
مسألة: يجب العمل والأخذ بما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله)، من غير فرق بين قوله في الشؤون العامة أو الشؤون الخاصة، كما لا فرق بين الأمور العبادية الأخروية والأمور الدنيوية، وهل الأمر كذلك في الأوامر غير المولوية أي الإرشادية، التفصيل مذكور في محله.
ثم إن قوله (صلى الله عليه وآله) أعم مما كان إنشاءً أو إخباراً أريد به الإنشاء،
ص: 167
أو إخباراً استلزم اعتباراً وحكماً أو كان ملزومه الحكم.
قال تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقاب»(1).
وعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهما السلام) قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: «إِنَّ اللهَفَوَّضَ إِلى نَبِيِّهِ أَمْرَ خَلقِهِ ليَنْظُرَ كَيْفَ طَاعَتُهُمْ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2)،(3).
مسألة: يستحب طلب إقرار الخصم بالحق، وينبغي التفنن فيه بما يستدرجه للإقرار، كما صنعت الصديقة (عليها السلام).
والاستحباب في مورده فيما إذا لم يكن الرجحان مانعاً من النقيض، وإلاّ وجب على ما سبق مثله في بعض المباحث الآنفة.
قال تعالى: «قُل فَللهِ الحُجَّةُ البالغَةُ فَلوْ شاءَ لهَداكُمْ أَجْمَعين»(4).
وفي خطب عاشوراء أنه «وَثَبَ الحُسَيْنُ (عليه السلام) مُتَوَكِّئاً عَلى سَيْفِهِ فَنَادَى بِأَعْلى صَوْتِهِ فَقَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْرِفُونِّي؟! قَالوا: نَعَمْ أَنْتَ ابْنُ رَسُول اللهِ وسِبْطُهُ!
ص: 168
قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ جَدِّي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ أُمِّي فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ أَبِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ جَدَّتِي خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلدٍ أَوَّل نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ إِسْلاماً؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ عَمُّ أَبِي؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ جَعْفَرَ الطَّيَّارِ فِي الجَنَّةِ عَمِّي؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ هَذَا سَيْفُ رَسُول اللهِ وأَنَا مُتَقَلدُهُ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ هَذِهِ عِمَامَةُ رَسُول اللهِ أَنَا لابِسُهَا؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ عَليّاً كَانَ أَوَّلهُمْ إِسْلاماً وأَعْلمَهُمْ عِلماً وأَعْظَمَهُمْ حِلماً وأَنَّهُ وَليُّ كُل مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!
قَال: فَبِمَ تَسْتَحِلونَ دَمِي وأَبِي الذَّائِدُ عَنِ الحَوْضِ غَداً يَذُودُ عَنْهُ رِجَالا كَمَا يُذَادُ البَعِيرُ الصَّادِرُ عَنِ المَاءِ ولوَاءُ الحَمْدِ فِي يَدِ جَدِّي يَوْمَ القِيَامَةِ؟!
ص: 169
قَالوا: قَدْ عَلمْنَا ذَلكَ كُلهُ ونَحْنُ غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى تَذُوقَ المَوْتَ عَطَشاً!(1).
وكما في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خلافة عثمان(2).
مسألة: يجب تحصيل رضى فاطمة (عليها السلام)، فإن في رضاها رضى النبي (صلى الله عليه وآله) ورضا الله عزوجل.
والظاهر أن الوجوب فيما لو طلبت ما يرضيها، أو أحرز كون الرضا على حد المنع من النقيض، أو ما أشبه مما فيه ملاك الوجوب.
والاستحباب في سائر درجات الرضا.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة، إن الله عز وجل يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك»(3).وفي الرواية: «رِضَى اللهِ رِضَانَا أَهْل البَيْت»(4).
ص: 170
مسألة: يحرم إسخاط الصديقة (عليها السلام) بأي وجه كان، سواء كان مباشرةً أو تسبيباً، في قضية صغيرة أم كبيرة، في نفسها أو ذريتها أو ما يرتبط بها، في حياتها أو بعد استشهادها (صلوات الله عليها).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، ومَنْ غَاظَهَا فَقَدْ غَاظَنِي، ومَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي»(1).
وقَال (صلى الله عليه وآله): «يَا فَاطِمَةُ إِنَّ اللهَ يَرْضَى لرِضَاكِ ويَغْضَبُ لغَضَبِك»(2).
ولا يخفى أنه يستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة، ويسخط لسخطها»، أن رضا الله من هذا الحيث بعد رضى فاطمة (عليها السلام) وأن سخطه سبحانه بعد سخطها كذلك، وذلك غاية التكريم واللطف منه عزوجلبالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).
وذلك لأن رضاها وسخطها يكون حسب موازين السماء، لا للقوة الغضبية والأهواء وما أشبه كما هو واضح.
ص: 171
وهذا دليل على عصمة الصديقة (عليها السلام) التامة، ومحوريتها وجلالة شأنها، كما أنه دليل على علمها الكامل بوجوه المصالح والمفاسد مما يعبر عنه بملاكات الأحكام، وكذلك بتزاحم تلك الملاكات في كل أمر ونهي، وإلاّ فكيف يكون رضا الله تعالى بعد رضاها على إطلاقه.
وهناك تعبير آخر في المقابل، حيث قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في خطبته لما عزم على الخروج إلى العراق: «رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين»(1)، أي: إذا رضي الله بشيء رضينا به.
والأمران منبعثان من مبعث واحد وإن كانا في صورتين: صورة تقديم رضى الله، وصورة تقديم رضى المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، وقد أشرنا إلى هذا البحث في بعض كتبنا.
قال النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله): «يَافَاطِمَةُ إِنَّ اللهَ ليَغْضَبُ لغَضَبِكِ ويَرْضَى لرِضَاك»(2).
ص: 172
قالت أم سلمة للصديقة فاطمة (عليها السلام): كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قالت: «أصبحت بين كمد وكرب، فقد النبي (صلى الله عليه وآله) وظلم الوصي (عليه السلام)، هتك والله حجابه، من أصبحت إمامته مقبضة(1)
على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي (صلى الله عليه وآله) في التأويل، ولكنها أحقاد بدرية، وترات أحدية، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة لإمكان الوشاة، فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيلة الشقاق، فيقطع وتر الإيمان من قسيّ صدورها، ولبئس - على ما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين - أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد استنصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكرب ومنازل الشهادات»(2).
--------------------
ص: 173
مسألة: يستحب وقد يجب بيان بواعث الظلمة والطغاة والعصاة على ظلمهم.
قال تعالى: «أَوَلمْ يَسيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذينَ كانُوا مِنْ قَبْلهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وآثاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وما كانَ لهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ»(1).
وقال سبحانه: «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُول يا ليْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُول سَبيلاً * يا وَيْلتَى ليْتَني لمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً * لقَدْ أَضَلني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَني وَ كانَ الشَّيْطانُ للإِنْسانِ خَذُولاً»(2).
وقال (عليه السلام): «عَجِبْتُ لمَنْ يَظْلمُ نَفْسَهُ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ»(3).
وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «للظَّالمِ مِنَ الرِّجَال ثَلاثُ عَلامَاتٍ، يَظْلمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالغَلبَةِ، وَيُظَاهِرُ القَوْمَ
الظَّلمَةَ»(4).
ص: 174
الكرب: تكاثف الغم مع ضيق الصدر، ولهذا يقال لليوم الحار: يوم كرب، أي كرب من فيه.
والكمد: الحزن المكتوم، ومعناه حزن دائم غير مفارق(1).
والمستفاد من الكلمتين كلا جانبي الكمي والكيفي، وتدل الكلمتان على أن ما أصابها (صلوات الله عليها) بفقد النبي (صلى الله عليه وآله) وظلم الوصي (عليه السلام) من الحزن كان:
1: دائماً غير مفارق(2).
2: متكاثفاً متراكماً، إذ لم تكن مصيبة واحدة بل مصائب عديدة، ولا ظلماً واحداً بل أنواع ظلم.
3: مكتوماً لا مجال لبثه، والحزن المكتوم أشد إيلاماً للنفس، وأذىً للجسم، وتأثيراً على الأعصاب، ولا يخفىكتمانها (صلوات الله عليها) أكثر آلامها وأحزانها عن الناس، بل حتى عن المقربين إليها.
4: موجباً لضيق الصدر، فإن الحزن إذا اشتد أثر على الجسد وأورث ضيق الصدر وصعوبة التنفس وشبه ذلك.
وقد بينت الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) أن الأمر - من غصب الخلافة
ص: 175
إلى غصب فدك وغيرها - لم يكن عن منطق وعقيدة، وإنما كان عن أطماع وأحقاد، (ولكنها أحقاد بدرية وتراث أُحُدية)، حيث إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قتل أشياخهم ببدر وأُحُد دفاعاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفاظاً على الدين، وكم من فرق بين من يعمل عملاً عن اعتقاد ومنطق وإن كان خاطئاً قصوراً، وبين من يعمل عملاً عن الحقد والهوى.
مسألة: يستحب وقد يجب بيان مختلف أنواع وشتى مصاديق مظلومية الصديقة فاطمة (عليها السلام) ووجوه كونها (صلوات الله عليها) أصبحت بين كمد وكرب.
عن أبي ذر (رحمه الله) عن النبي (صلى
الله عليه وآله) في حديث أنه قال لفاطمة (عليها السلام): «أنتِ أول من يلحقنيمظلومة مغصوبة، وسوف تظهر بعدي حسيكة النفاق، ويسمل جلباب الدين»(1).
وعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) قَال: «بَيْنَا أَنَا وفَاطِمَةُ والحَسَنُ والحُسَيْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذِ التَفَتَ إِليْنَا فَبَكَى، فَقُلتُ: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُول اللهِ؟ فَقَال: أَبْكِي مِمَّا يُصْنَعُ بِكُمْ بَعْدِي، فَقُلتُ: ومَا ذَاكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: أَبْكِي مِنْ ضَرْبَتِكَ عَلى القَرْنِ، ولطْمِ فَاطِمَةَ خَدَّهَا، وطَعْنَةِ الحَسَنِ فِي الفَخِذِ، والسَّمِّ الذِي يُسْقَى وقَتْل الحُسَيْنِ، قَال: فَبَكَى أَهْل البَيْتِ جَمِيعاً، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا خَلقَنَا رَبُّنَا إلاّ للبَلاءِ، قَال: أَبْشِرْ يَا عَليُّ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل
ص: 176
قَدْ عَهِدَ إِليَّ أَنَّهُ لا يُحِبُّكَ إلاّ مُؤْمِنٌ ولا يُبْغِضُكَ إلاّ مُنَافِقٌ»(1).
مسألة: يحرم الظلم مطلقاً، وظلم الوصي (عليه السلام) فهو من أكبر الكبائر، بل لا كبيرة أعظم من ظلم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) بعد الشرك بالله تعالى، على حسب درجات وأنواع ذلك الظلم.عَنْ أُمِّ سَلمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالتْ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): «أَنْتَ أَخِي وحَبِيبِي، مَنْ آذَاكَ فَقَدْ آذَانِي»(2).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «يا عَليُّ أَنْتَ مِنِّي وأَنَا مِنْكَ، سِيطَ لحْمُكَ بِلحْمِي، ودَمُكَ بِدَمِي، وأَنْتَ السَّبَبُ فِيمَا بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ خَلقِهِ بَعْدِي، فَمَنْ جَحَدَ وَلايَتَكَ قَطَعَ السَّبَبَ الذِي فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ وكَانَ مَاضِياً فِي الدَّرَكَاتِ، يَا عَليُ مَا عُرِفَ اللهُ إلاّ بِي ثُمَّ بِكَ، مَنْ جَحَدَ وَلايَتَكَ جَحَدَ اللهَ رُبُوبِيَّتَهُ، يَا عَليُّ أَنْتَ عَلمُ اللهِ بَعْدِي الأَكْبَرُ فِي الأَرْضِ، وأَنْتَ الرُّكْنُ الأَكْبَرُ فِي القِيَامَةِ، فَمَنِ اسْتَظَل بِفَيْئِكَ كَانَ فَائِزاً، لأَنَّ حِسَابَ الخَلائِقِ إِليْكَ ومَآبَهُمْ إِليْكَ، والمِيزَانَ مِيزَانُكَ، والصِّرَاطَ صِرَاطُكَ، والمَوْقِفَ مَوْقِفُكَ، والحِسَابَ حِسَابُكَ، فَمَنْ رَكَنَ إِليْكَ نَجَا، ومَنْ خَالفَكَ هَوَى وهَلك»(3).
وعن ابن الخطاب قَال: كُنْتُ أَجْفُو عَليّاً، فَلقِيَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه
ص: 177
وآله) فَقَال: «إِنَّكَ آذَيْتَنِي يَا عُمَرُ»، فَقُلتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ أَذَى رَسُولهِ، قَال: «إِنَّكَ قَدْآذَيْتَ عَليّاً ومَنْ آذَى عَليّاً فَقَدْ آذَانِي»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حسد عليّاً فقد حسدني، ومن حسدني فقد كفر»(2).
مسألة: يحرم هتك حجاب الوصي (عليه السلام)، والحجاب أعم من الحجاب المادي والاعتباري، وهو عبارة عما يحتجب به المرء من دار أو ماء وجه أو حسن سمعة أو ما أشبه.
كما أن (الهتك) أعم مما كان باليد أو باللسان أو غيرهما، وما كان في محفل خاص أو مجمع عام، بل حتى ما كان في صورة عدم وجود الغير، كما أنه أعم مما كان بالمباشرة أو بالتسبيب والتخطيط والتآمر وشبه ذلك.
وفي حديث أخذ العهد وبحضور جبرائيل، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «يَا عَليُّ تَفِي بِمَا فِيهَا مِنْ مُوَالاةِ مَنْ وَالى اللهَ ورَسُولهُ والبَرَاءَةِ والعَدَاوَةِ لمَنْعَادَى اللهَ ورَسُولهُ والبَرَاءَةِ مِنْهُمْ عَلى الصَّبْرِ مِنْكَ وعَلى كَظْمِ الغَيْظِ وعَلى ذَهَابِ حَقِّي وغَصْبِ خُمُسِكَ وانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ، فَقَال: نَعَمْ يَا رَسُول اللهِ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): والذِي فَلقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لقَدْ سَمِعْتُ جَبْرَئِيل (عليه السلام) يَقُول للنَّبِيِّ: يَا مُحَمَّدُ عَرِّفْهُ أَنَّهُ يُنْتَهَكُ الحُرْمَةُ وهِيَ حُرْمَةُ اللهِ وحُرْمَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله
ص: 178
عليه وآله) وعَلى أَنْ تُخْضَبَ لحْيَتُهُ مِنْ رَأْسِهِ بِدَمٍ عَبِيط»(1).
وفي حديث قال (صلى الله عليه وآله): «اللهَ اللهَ فِي أَهْل بَيْتِي، مَصَابِيحِ الظُّلمِ، ومَعَادِنِ العِلمِ، ويَنَابِيعِ الحِكَمِ، ومُسْتَقَرِّ المَلائِكَةِ، مِنْهُمْ وَصِيِّي وأَمِينِي ووَارِثِي، وهُوَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إلاّ هَل بَلغْتُ مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ، إلاّ فَاسْمَعُوا ومَنْ حَضَرَ، إلاّ إِنَّ فَاطِمَةَ بَابُهَا بَابِي وبَيْتُهَا بَيْتِي، فَمَنْ هَتَكَهُ فَقَدْ هَتَكَ حِجَابَ اللهِ»، قَال عِيسَى: فَبَكَى أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) طَوِيلا وقَطَعَ بَقِيَّةَ كَلامِهِ وقَال: «هُتِكَ واللهِ حِجَابُ اللهِ، هُتِكَ واللهِ حِجَابُ اللهِ، هُتِكَ واللهِ حِجَابُ اللهِ، يَا أُمَّهْ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهَا»(2).
مسألة: يجب الأخذ بما شرعه الله سبحانه في التنزيل، ولا يجوز التعلل بالأعذار الواهية لترك قوانين الله وأحكامه المشرعة في الذكر الحكيم، مثل عذر تغير الشرائط والزمان والمكان وما أشبه، كعذر سخرية الغرب أو الشرق أو غيرها.
عَنْ زُرَارَةَ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الحَلال والحَرَامِ، فَقَال: «حَلال مُحَمَّدٍ حَلال أَبَداً إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، لا يَكُونُ غَيْرُهُ ولا يَجِي ءُ غَيْرُهُ» وقَال: قَال عَليٌّ (عليه السلام): «مَا أَحَدٌ
ص: 179
ابْتَدَعَ بِدْعَةً إلاّ تَرَكَ بِهَا سُنَّةً»(1).
وعَنْ حَمَّادٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَا خَلقَ اللهُ حَلالا ولا حَرَاماً إلاّ ولهُ حَدٌّ كَحَدِّ الدُّورِ، وإِنَّ حَلال مُحَمَّدٍ حَلال إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وحَرَامَهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَة»(2).
وعَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَال: قُلتُ لأَبِيعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُل»(3)، فَقَال: «نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)، قُلتُ: كَيْفَ صَارُوا أُولي العَزْمِ، قَال: لأَنَّ نُوحاً بُعِثَ بِكِتَابٍ وشَرِيعَةٍ، وكُل مَنْ جَاءَ بَعْدَ نُوحٍ أَخَذَ بِكِتَابِ نُوحٍ وشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) بِالصُّحُفِ وبِعَزِيمَةِ تَرْكِ كِتَابِ نُوحٍ لا كُفْراً بِهِ، فَكُل نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) أَخَذَ بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ ومِنْهَاجِهِ وبِالصُّحُفِ حَتَّى جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ وشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ وبِعَزِيمَةِ تَرْكِ الصُّحُفِ، وكُل نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى (عليه السلام) أَخَذَ بِالتَّوْرَاةِ وشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ المَسِيحُ (عليه السلام) بِالإِنْجِيل وبِعَزِيمَةِ تَرْكِ شَرِيعَةِ مُوسَى ومِنْهَاجِهِ، فَكُل نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ المَسِيحِ أَخَذَ بِشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فَجَاءَ بِالقُرْآنِ وبِشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ، فَحَلالهُ حَلال إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَهَؤُلاءِ أُولوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُل (عليهم السلام)»(4).
ص: 180
مسألة: يجب الأخذ بما سنّه النبي (صلى الله عليه وآله) في التأويل ولو بنحو الكلي، ويحرم الأخذ بما لم يتصف بأي منهما(1) ولو بنحو الكلي.
قال تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقاب»(2).
مسألة: يحرم الحقد في الجملة، أما الحقد على أهل البيت (عليهم السلام) فهو من أشد المحرمات.
والحقد من الصفات النفسية الاختيارية لا أقل باختيارية مقدماتها كما فصلناه فيما سبق، ولو فرض خروجه عن الاختيار ولو في مرتبة فإن الواجب عليه ترتيب آثار ضده عليه ليكون كفارة لما خرج عن اختياره وستراً وغفراناً.
قال تعالى: «وَالذينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنا ولإِخْوانِنَا الذينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ ولا تَجْعَل في قُلوبِنا غِلاًّ للذينَآمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحيم»(3).
ص: 181
وقال أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «الحِقْدُ مِنْ طَبَائِعِ الأَشْرَارِ»(1).
وقال أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «احْتَرِسُوا مِنْ سَوْرَةِ الجَهْل والحِقْدِ والغَضَبِ والحَسَدِ وأَعِدُّوا لكُل شَيْ ءٍ مِنْ ذَلكَ عُدَّةً تُجَاهِدُونَهُ بِهَا مِنَ الفِكْرِ فِي العَاقِبَةِ ومَنْعِ الرَّذِيلةِ وطَلبِ الفَضِيلةِ وصَلاحِ الآخِرَةِ ولزُومِ الحِلمِ»(2).
مسألة: الحقد بالباطل رذيلة مؤكدة، كالحقد على مؤمن لأنه فعل الواجب أو ترك الحرام، كمن يحقد مؤمناً لأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو لأنه صلى أو صام أو حج واعتمر أو جاهد في سبيل الله، أو لأنه لم يتعاون معه على الظلم، أو لم يعنه على منكر أراد فعله.
وكلام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) صريح في أن حقد القوم على أمير المؤمنين (عليه السلام) كان حقداً بالباطل، بل كان حقداً بأسوأ أنواعالباطل، فقد حقدوا عليه لأنه جاهد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتل صناديد المشركين وأبطالهم دفاعاً عن الدين وحفظاً لسيد المرسلين.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لا يُبْدُونَهَا لكَ إلاّ مِنْ بَعْدِي، أَحْقَادُ بَدْرٍ وتِرَاتُ أُحُدٍ، قُلتُ: فِي سَلامَةٍ مِنْ دَيْنِي، قَال: فِي سَلامَةٍ مِنْ دِينِكَ، فَأَبْشِرْ يَا عَليُّ فَإِنَّ حَيَاتَكَ ومَوْتَكَ مَعِي، وأَنْتَ أَخِي وأَنْتَ وَصِيِّي وأَنْتَ صَفِيِّي ووَزِيرِي ووَارِثِي والمُؤَدِّي عَنِّي، وأَنْتَ تَقْضِي دَيْنِي وتُنْجِزُ عِدَاتِي عَنِّي، وأَنْتَ تُبْرِئُ ذِمَّتِي وتُؤَدِّي أَمَانَتِي،
ص: 182
وتُقَاتِل عَلى سُنَّتِي النَّاكِثِينَ مِنْ أُمَّتِي والقَاسِطِينَ والمَارِقِينَ وأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»(1).
وروي أنّه: لما دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي مات فيه، بكى، فقال عليّ: «يا رسول الله، ما الذي أبكاك؟ فقال: ضغائن من قوم في صدورهم، وأحقاد من قريش لا يبدونها لك إلاّ بعد موتي حين أولي»(2).ومن رِسَالةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لعَمْرُ أَبِي لنْ تُحِبُّوا أَنْ تَكُونَ فِينَا الخِلافَةُ والنُّبُوَّةُ وأَنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَحْقَادَ بَدْرٍ وثَارَاتِ أُحُدٍ»(3).
مسألة: يحرم النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، ولا فرق في النفاق بين أنواع متعلقه، كالكفر بالله أو بوحدانيته أو بالرسول أو بالوصي أو بالمعاد، نعم لذلك(4) إطلاقان ومرتبتان، كما مر سابقاً.
قال تعالى: «وَعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالدينَ فيها هِيَ حَسْبُهُمْ ولعَنَهُمُ اللهُ ولهُمْ عَذابٌ مُقيم»(5).
ص: 183
وقال سبحانه: «إِنَّ المُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَل مِنَ النَّارِ ولنْ تَجِدَ لهُمْ نَصيرا»(1).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْل، قَال: كَتَبْتُإِلى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) أَسْأَلهُ عَنْ مَسْأَلةٍ فَكَتَبَ إِليَّ: «إِنَّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وهُوَ خادِعُهُمْ وإِذا قامُوا إِلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاّ قَليلا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلكَ لا إِلى هؤُلاءِ ولا إِلى هؤُلاءِ ومَنْ يُضْلل اللهُ فَلنْ تَجِدَ لهُ سَبِيلا»(2)، ليْسُوا مِنَ الكَافِرِينَ وليْسُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ وليْسُوا مِنَ المُسْلمِينَ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ ويَصِيرُونَ إِلى الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ لعَنَهُمُ اللهُ»(3).
وقال أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «شَرُّ الأَخْلاقِ الكَذِبُ والنِّفَاقُ»(4).
مسألة: يحرم قطع وتر الإيمان.
قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «فَاطِمَةُ قَلبِي، وابْنَاهَا ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وبَعْلهَا نُورُ بَصَرِي، والأَئِمَّةُ مِنْ وُلدِهَا أُمَنَائِي وحَبْلهَا المَمْدُودُ، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِمْ نَجَا ومَنْ تَخَلفَ عَنْهُمْ هَوَى»(5).
ص: 184
وقَال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَاالنَّاسُ إِنَّ اللهَ مَوْلايَ وأَنَا مَوْلى المُؤْمِنِينَ وأَوْلى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، إلاّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ، وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُل مَنْ خَذَله»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «عُرِجَ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِلى السَّمَاءِ مِائَةً وعِشْرِينَ مَرَّةً، مَا مِنْ مَرَّةٍ إلاّ وقَدْ أَوْصَى اللهُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) بِوَلايَةِ عَليٍّ والأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَوْصَاهُ بِالفَرَائِضِ»(2).
الإمامة منصب إلهي، يستحيل اغتصابه، كالرسالة، وما يمكن غصبه هو السلطة الظاهرية، وهذا هو المراد في قول الصديقة (صلوات الله عليها): «من أصبحت إمامته مغتصبة».
عَنِ الرِّضَا (عليه السلام): «الإِمَامُ زِمَامُ الدِّينِ، ونِظَامُ أُمُورِ المُسْلمِينَ، وعِزُّ المُؤْمِنِينَ، وبَوَارُ الكَافِرِينَ، أُسُّ الإِسْلامِ، وصَلاحُ الدُّنْيَا، والنَّجْمُ الهَادِي، والسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، المَاءُ العَذْبُ عَلى الظَّمَاءِ، والنُّورُ الدَّال عَلى الهُدَى، والمُنْجِي مِنَالرَّدَى، والسَّحَابُ المَاطِرُ، والغَيْثُ الهَاطِل، والشَّمْسُ الظَّليلةُ، والأَرْضُ البَسِيطَةُ، والعَيْنُ الغَزِيرَةُ، والأَمِينُ الرَّفِيقُ، والوَالدُ الشَّفِيقُ، والأَخُ الشَّقِيقُ، والأُمُّ البَرَّةُ بِالوَلدِ الصَّغِيرِ، وأَمِينُ اللهِ فِي خَلقِهِ، وحُجَّتُهُ عَلى عِبَادِهِ، وخَليفَتُهُ فِي بِلادِهِ، الدَّاعِي إِلى اللهِ، والذَّابُّ عَنْ حُرَمِ الله»(3).
ص: 185
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي خُطْبَةٍ لهُ يَذْكُرُ فِيهَا حَال الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وصِفَاتِهِمْ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل أَوْضَحَ بِأَئِمَّةِ الهُدَى مِنْ أَهْل بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ، وأَبْلجَ بِهِمْ عَنْ سَبِيل مِنْهَاجِهِ، وفَتَحَ بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلمِهِ، فَمَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَاجِبَ حَقِّ إِمَامِهِ وَجَدَ طَعْمَ حَلاوَةِ إِيمَانِهِ، وعَلمَ فَضْل طُلاوَةِ إِسْلامِهِ (1)، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى نَصَبَ الإِمَامَ عَلماً لخَلقِهِ، وجَعَلهُ حُجَّةً عَلى أَهْل مَوَادِّهِ وعَالمِهِ، وأَلبَسَهُ اللهُ تَاجَ الوَقَارِ، وغَشَّاهُ مِنْ نُورِ الجَبَّارِ، يُمَدُّ بِسَبَبٍ إِلى السَّمَاءِ، لا يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَوَادُّهُ، ولا يُنَال مَا عِنْدَ اللهِ إلاّ بِجِهَةِ أَسْبَابِهِ، ولا يَقْبَل اللهُ أَعْمَال العِبَادِ إلاّ بِمَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ عَالمٌ بِمَا يَرِدُ عَليْهِ مِنْ مُلتَبِسَاتِ الدُّجَى، ومُعَمَّيَاتِالسُّنَنِ، ومُشَبِّهَاتِ الفِتَنِ، فَلمْ يَزَل اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى يَخْتَارُهُمْ لخَلقِهِ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُل إِمَامٍ يَصْطَفِيهِمْ لذَلكَ ويَجْتَبِيهِمْ، ويَرْضَى بِهِمْ لخَلقِهِ ويَرْتَضِيهِمْ، كُلمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ نَصَبَ لخَلقِهِ مِنْ عَقِبِهِ إِمَاماً، عَلماً بَيِّناً، وهَادِياً نَيِّراً، وإِمَاماً قَيِّماً، وحُجَّةً عَالماً، أَئِمَّةً مِنَ اللهِ «يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلونَ»(2) حُجَجُ اللهِ ودُعَاتُهُ ورُعَاتُهُ عَلى خَلقِهِ، يَدِينُ بِهَدْيِهِمُ العِبَادُ، وتَسْتَهِل بِنُورِهِمُ البِلادُ، ويَنْمُو بِبَرَكَتِهِمُ التِّلادُ، جَعَلهُمُ اللهُ حَيَاةً للأَنَامِ، ومَصَابِيحَ للظَّلامِ، ومَفَاتِيحَ للكَلامِ، ودَعَائِمَ للإِسْلامِ، جَرَتْ بِذَلكَ فِيهِمْ مَقَادِيرُ اللهِ عَلى مَحْتُومِهَا، فَالإِمَامُ هُوَ المُنْتَجَبُ المُرْتَضَى، وَالهَادِي المُنْتَجَى، وَالقَائِمُ المُرْتَجَى، اصْطَفَاهُ اللهُ بِذَلكَ، واصْطَنَعَهُ عَلى عَيْنِهِ فِي الذَّرِّ حِينَ ذَرَأَهُ، وفِي البَرِيَّةِ حِينَ بَرَأَهُ، ظِلاً قَبْل خَلقِ نَسَمَةٍ عَنْ يَمِينِ عَرْشِهِ، مَحْبُوّاً بِالحِكْمَةِ فِي عِلمِ الغَيْبِ عِنْدَهُ، اخْتَارَهُ بِعِلمِهِ، وانْتَجَبَهُ لطُهْرِهِ، بَقِيَّةً مِنْ آدَمَ (عليه السلام)،
ص: 186
وخِيَرَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، ومُصْطَفًى مِنْ آل إِبْرَاهِيمَ، وسُلالةً مِنْ إِسْمَاعِيل، وصَفْوَةً مِنْ عِتْرَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، لمْ يَزَل مَرْعِيّاً بِعَيْنِ اللهِ، يَحْفَظُهُ ويَكْلؤُهُ بِسِتْرِهِ، مَطْرُوداً عَنْهُ حَبَائِل إِبْليسَوجُنُودِهِ، مَدْفُوعاً عَنْهُ وُقُوبُ الغَوَاسِقِ(1)، ونُفُوثُ كُل فَاسِقٍ، مَصْرُوفاً عَنْهُ قَوَارِفُ السُّوءِ، مُبْرَأً مِنَ العَاهَاتِ، مَحْجُوباً عَنِ الآفَاتِ، مَعْصُوماً مِنَ الزَّلاتِ، مَصُوناً عَنِ الفَوَاحِشِ كُلهَا، مَعْرُوفاً بِالحِلمِ والبِرِّ فِي يَفَاعِهِ، مَنْسُوباً إِلى العَفَافِ والعِلمِ والفَضْل عِنْدَ انْتِهَائِهِ، مُسْنَداً إِليْهِ أَمْرُ وَالدِهِ، صَامِتاً عَنِ المَنْطِقِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ وَالدِهِ إِلى أَنِ انْتَهَتْ بِهِ مَقَادِيرُ اللهِ إِلى مَشِيئَتِهِ، وجَاءَتِ الإِرَادَةُ مِنَ اللهِ فِيهِ إِلى مَحَبَّتِهِ، وبَلغَ مُنْتَهَى مُدَّةِ وَالدِهِ (عليه السلام) فَمَضَى وصَارَ أَمْرُ اللهِ إِليْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وقَلدَهُ دِينَهُ، وجَعَلهُ الحُجَّةَ عَلى عِبَادِهِ، وقَيِّمَهُ فِي بِلادِهِ، وأَيَّدَهُ بِرُوحِهِ، وآتَاهُ عِلمَهُ، وأَنْبَأَهُ فَصْل بَيَانِهِ، واسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، وانْتَدَبَهُ لعَظِيمِ أَمْرِهِ، وأَنْبَأَهُ فَضْل بَيَانِ عِلمِهِ، ونَصَبَهُ عَلماً لخَلقِهِ، وجَعَلهُ حُجَّةً عَلى أَهْل عَالمِهِ، وضِيَاءً لأَهْل دِينِهِ، والقَيِّمَ عَلى عِبَادِهِ، رَضِيَ اللهُ بِهِ إِمَاماً لهُمُ، اسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، واسْتَحْفَظَهُ عِلمَهُ، واسْتَخْبَأَهُ حِكْمَتَهُ، واسْتَرْعَاهُ لدِينِهِ، وانْتَدَبَهُ لعَظِيمِ أَمْرِهِ، وأَحْيَا بِهِ مَنَاهِجَ سَبِيلهِ وفَرَائِضَهُ وحُدُودَهُ، فَقَامَ بِالعَدْل عِنْدَ تَحَيُّرِ أَهْل الجَهْل، وتَحْيِيرِ أَهْلالجَدَل بِالنُّورِ السَّاطِعِ، والشِّفَاءِ النَّافِعِ، بِالحَقِّ الأَبْلجِ، والبَيَانِ اللائِحِ، مِنْ كُل مَخْرَجٍ عَلى طَرِيقِ المَنْهَجِ، الذِي مَضَى عَليْهِ الصَّادِقُونَ مِنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) فَليْسَ يَجْهَل حَقَّ هَذَا العَالمِ إلاّ شَقِيٌّ، ولا يَجْحَدُهُ إلاّ غَوِيٌّ، ولا يَصُدُّ عَنْهُ إلاّ جَرِيٌّ عَلى اللهِ جَل وعَلا»(2).
ص: 187
روي أنه جاء إلى الصديقة فاطمة (عليها السلام) قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن (عليه السلام) ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد، ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره، فقالت (عليها السلام): «إليكم عني، فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم»(1).
-------------------------
مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - أمر أهل الغدر والعناد بالابتعاد وطردهم، وإن أظهروا الندامة بعد أن لم يرتبوا عليها أثرها، فإن الاعتذار باللسان فقط دون مطاوعة الجوارح ودون إصلاح ما أفسدوه أشبه بالاستهزاء أو الخداع.
وقول الصديقة (عليها السلام): (إليكم عني) قد يكون حقيقياً، أي طلب البعد الجسمي ومغادرة المكان، وقد يكون كنائياً عن رفض عذرهم بقول مطلق، وإدانة عملهم بما لا يقبل الغفران بمجرد الحضور والاعتذار باللسان.
ثم المراد بالجواز في المقام الأعممن الواجب والمستحب والجائز، إذ كل من المعنيين الحقيقي والمجازي قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون جائزاً،
ص: 188
كما أنه قد يكون الأمر مكروهاً فيما يكره الإبعاد الجسمي أو المجازي، كما في مؤمن لا يستحق ذلك بما لا يعد هتكاً وإهانة محرمة، وقد يحرم كبعض مسائل باب النكاح(1).
قال الإمام الحَسَنُ (عليه السلام) لأبي موسى الأشعري: «اعْتَزِل عَمَلنَا لا أُمَّ لكَ صَاغِراً وتَنَحَ عَنْ مِنْبَرِنَا»(2).
وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لسارق الأكفان: «تَنَحَ عَنِّي يَا فَاسِقُ إِنِّي أَخَافَ أَنْ أَحْتَرِقَ بِنَارِكَ فَمَا أَقْرَبَكَ مِنَ النَّارِ ثُمَّ لمْ يَزَل صلى الله عليه وآله يَقُول ويُشِيرُ إِليْهِ حَتَّى أَمْعَنَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه»(3).
وعن ابن عباس قال: لما أخرج أبوذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس إلاّ يكلم أحد أباذر ولا يشيعه!، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به،وتحاماه الناس إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً (عليهما السلام) وعماراً فإنهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسن (عليه السلام) يكلم أباذر، فقال له مروان: إيهاً يا حسن إلاّ تعلم أن الأمير قد نهى عن كلام هذا الرجل، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل عليّ (عليه السلام) على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال: «تنح لحاك الله إلى النار»(4).
ص: 189
مسألة: يجب تنبيه الأمة على عدم معذورية هؤلاء وأمثالهم ممن يحتجون بمختلف الأعذار لتبرأة ساحتهم من جناياتهم ومعاصيهم ومداهنتهم للظالمين، وما أكثرهم في كل مكان وزمان، كما نبّهت الصديقة (عليها السلام) بقولها: «إليكم عني...».
وذلك ليظهر الحق ويبطل الباطل، وإذا كان الرجحان فقط بحيث لم يمنع عن نقيضه كان مستحباً.
ثم إن كلامها (عليها الصلاة والسلام) نوع من إبطال الباطل وإحقاق الحق والنهي عن المنكر، لأن ما فعلوه كان من أشد المنكرات.
ولا يخفى أن كلامهم كان مجرد عذر غير مقبول، لأنهم كانوا قد علموا بأن علياً (صلوات الله عليه) هو الخليفة الشرعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في قصة الغدير وغيرها كما يدل عليه متواتر الروايات، ولهذا صح عتابهم بقولها (عليها السلام): «فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم»، والحاصل إنهم كانوا مقصرين غير قاصرين.
قال تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الذينَ ظَلمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ولاهُمْ يُسْتَعْتَبُون»(1). وقال سبحانه: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالمينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولهُمُ اللعْنَةُ ولهُمْ سُوءُ الدَّار»(2).
ص: 190
وعن ابن عبّاس وكعب الأحبار في حديث قال: قال عبد الله بن عمر: ولمّا دنت وفاة أبي كان يغمى عليه تارة ويفيق أخرى، فلمّا أفاق قال: يا بنيّ أدركني بعليّ بن أبي طالب قبل الموت، فقلت: وما تصنع بعليّ بن أبي طالب، وقد جعلتها شورى، وأشركت عنده غيره؟
قال: يا بنيّ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ في النار تابوتاً يحشر فيه اثنا عشر رجلاً من أصحابي، ثمّ التفت إلى أبي بكر، وقال: احذر أن تكون أوّلهم، ثمّ التفت إلى معاذ بن جبل وقال: إيّاك يا معاذ أن تكون الثاني، ثمّ التفت إليّ ثمّ قال: يا عمر إيّاك أن تكون الثالث، وقد أغمي عليه فأفاق.
ثمّ قال: عليّ بابني، ورأيت التابوت وليس فيه إلاّ أبو بكر ومعاذ بن جبل وأنا الثالث لا أشكّ فيه.
قال عبد الله: فمضيت إلى عليّ بن أبي طالب وقلت: يا ابن عمّ رسول الله إنّ أبي يدعوك لأمر قد أحزنه، فقام عليّ (عليهالسلام) معه، فلمّا دخل عليه قال له:
يا ابن عمّ رسول الله إلاّ تعفو عنّي وتحللني عنك، وعن زوجتك فاطمة، واسلم إليك الخلافة؟ فقال له علي: نعم غير أنّك تجمع المهاجرين والأنصار، وأعط الحقّ الذي خرجت عليه من ملكه، وما كان بينك وبين صاحبك من معاهدتنا، وأقرّ لنا بحقّنا، وأعفو عنك، وأحللك، وأضمن لك عن ابنة عمّي فاطمة.
قال عبد الله: فلمّا سمع ذلك أبي حوّل وجهه إلى الحائط، وقال: النار يا أمير المؤمنين ولا العار، فقام علي (صلوات الله عليه) وخرج من عنده، فقال له ابنه:
ص: 191
لقد أنصفك الرجل يا أبت، فقال له: يا بنيّ إنّه أراد أن ينشر أبا بكر من قبره، ويضرم له ولأبيك النار، وتصبح قريش موالين لعلي بن أبي طالب، والله لا كان ذلك أبداً.
قال: ثمّ إنّ عليّاً قال لعبد الله بن عمر: ناشدتك بالله يا عبد الله بن عمر ما قال لك حين خرجت من عنده؟ قال: أما إذا ناشدتني الله وما قال لي بعدك فإنّه قال: إنّ أصلع قريش يحملهم على المحجّة البيضاء، وأقامهم على كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم.
قال: يا ابن عمر فما قلت له عند ذلك؟
قال: قلت له: فما يمنعك أنتستخلفه؟
قال: وما ردّ عليك؟
قال: ردّ عليّ، اكتمه.
قال عليّ (عليه السلام): فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني به في حياته، ثمّ أخبرني في ليلة وفاته، فأنشدتك الله يا ابن عمر إن أنا أخبرتك به لتصدّقني.
قال: إذا سألت، قال: إنّه قال لك حين قلت له: فما يمنعك أن تستخلفه؟
قال: يمنعني الصحيفة التي كتبناها بيننا والعهد في الكعبة، فسكت ابن عمر، فقال له عليّ: سألتك بحقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما سكتّ عنّي.
قال أبي، سليم: رأيت ابن عمر في ذلك المحل قد خنقته العبرة، ودمعت عيناه، ثمّ إنّ عمر تأوّه ساعة ومات آخر ليلة التاسع من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وقيل لأربع بقين من ذي الحجّة من السنة المذكورة
ص: 192
والأوّل أصحّ، وله يومئذ ثلاث وسبعون سنة(1).
مسألة: يحرم التقصير عن نصرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حياته وبعد استشهاده، وتقصير القوم عن نصرته كان من أشد الكبائر.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَعَاشِرَ النَّاسِ فَاتَّقُوا اللهَ وتَابِعُوا عَليّاً أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ والحَسَنَ والحُسَيْنَ والأَئِمَّةَ، كَلمَةً بَاقِيَةً، يُهْلكُ اللهُ مَنْ غَدَرَ، ويَرْحَمُ مَنْ وَفَى، «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَليْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»(2)»(3).
وعَنْ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِينِي، ويَرْكَبَ سَفِينَةَ النَّجَاةِ بَعْدِي، فَليَقْتَدِ بِعَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، وليُعَادِ عَدُوَّهُ، وليُوَال وَليَّهُ، فَإِنَّهُ وَصِيِّي وخَليفَتِي عَلى أُمَّتِي فِي حَيَاتِي وبَعْدَ وَفَاتِي، وهُوَ إِمَامُ كُل مُسْلمٍ وأَمِيرُ كُل مُؤْمِنٍ بَعْدِي، قَوْلهُ قَوْلي، وأَمْرُهُ أَمْرِي، ونَهْيُهُ نَهْيِي، وتَابِعُهُ تَابِعِي، ونَاصِرُهُ نَاصِرِي، وخَاذِلهُ خَاذِلي».
ص: 193
ثُمَّ قَال (عليه السلام): «مَنْ فَارَقَ عَليّاًبَعْدِي لمْ يَرَنِي ولمْ أَرَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ خَالفَ عَليّاً حَرَّمَ اللهُ عَليْهِ الجَنَّةَ، وجَعَل مَأْوَاهُ النَّارَ وبِئْسَ المَصِيرُ، ومَنْ خَذَل عَليّاً خَذَلهُ اللهُ يَوْمَ يُعْرَضُ عَليْهِ، ومَنْ نَصَرَ عَليّاً نَصَرَهُ اللهُ يَوْمَ يَلقَاهُ ولقَّنَهُ حُجَّتَهُ عِنْدَ المُسَاءَلةِ». ثُمَّ قَال (عليه السلام): «الحَسَنُ والحُسَيْنُ إِمَامَا أُمَّتِي بَعْدَ أَبِيهِمَا، وسَيِّدَا شَبَابِ أَهْل الجَنَّةِ، وأُمُّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِينَ، وأَبُوهُمَا سَيِّدُ الوَصِيِّينَ، ومِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ، تَاسِعُهُمُ القَائِمُ مِنْ وُلدِي، طَاعَتُهُمْ طَاعَتِي، ومَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، إِلى اللهِ أَشْكُو المُنْكِرِينَ لفَضْلهِمْ، والمُضِيعِينَ لحُرْمَتِهِمْ بَعْدِي، وكَفى بِاللهِ وَليًّا ونَاصِراً لعِتْرَتِي وأَئِمَّةِ أُمَّتِي، ومُنْتَقِماً مِنَ الجَاحِدِينَ لحَقِّهِمْ، «وَسَيَعْلمُ الذِينَ ظَلمُوا أَيَّ مُنْقَلبٍ يَنْقَلبُون»(1)»(2).
مسألة: إبرام العهد مع الظالم الغاصب وإحكام العقد معه لغو لا شرعية له ولا اعتبار ولا قيمة ولا آثار، فإن عهد الله قبل عهدهم، والقسم عليه باطل لاغ،وخلفه واجب ولا كفارة عليه.
فاعتذار القوم بقولهم: (لو كان أبو الحسن (عليه السلام) ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره) احتجاج بما لا حجية له ولا شرعية فيه، ويدل عليه صريح قولها (صلوات الله عليها) : ولا أمر بعد تقصيركم.
ص: 194
روي أن فاطمة (عليها السلام) أتت أبا بكر فقالت: لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى، ثم قرأت عليه قوله تعالى: [وَاعْلمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَللرَّسُول وَلذِي القُرْبَى](1)، قالت (عليها السلام): سمعته (صلى الله عليه وآله) يقول لما أنزلت هذه الآية: «أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى»(2).
---------------------
مسألة: يستحب البشارة بإقبال الغنى، كما يستحب التسبيب لغنى الناس، فإن الغنى لمن هو أهله ولا يطغى بسببه من أهم البشارات.
وفي الحديث: «نِعْمَ العَوْنُ عَلى تَقْوَىاللهِ الغِنَى»(3)، فإن الإنسان بالغنى
ص: 195
والثروة والمال يمكنه أن يساعد الفقراء والمرضى والمساكين ويزوج العزاب والعازبات ويبني المؤسسات الخيرية كالمدارس والمساجد والحسينيات والمستوصفات والمستشفيات والمعاهد العلمية وما أشبه ذلك، ولذا سمّى الله سبحانه المال بالخير، قال تعالى: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبين»(1) الآية.
والحاصل: إن الغنى لآل محمد (عليهم السلام) طريقي، وهو للآخرة قبل أن يكون للدنيا، على أن ما يكون للدنيا في الجملة مما حبذ إليه الله تعالى إن كان من حل وأنفق في محله، قال جل اسمه: «قُل مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ للذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا خالصَةً يَوْمَ القِيامَةِ كَذلكَ نُفَصِّل الآياتِ لقَوْمٍ يَعْلمُونَ»(2).
مسألة: يستحب تبشير الإنسان إذا جاءه ما يسبب حسن حاله.فإن التبشير عبارة عن إدخال السرور في قلب المبشَّر بالفتح، ومن الواضح أن إدخال السرور في قلب المؤمن من أكبر المستحبات.
ويندرج في ذلك نشر الأخبار المبشرة للمؤمنين، بواسطة الجرائد والمجلات والإذاعة والتلفاز.
ومنه أيضاً نقل الأخبار المبشرة في داخل العوائل والمنظمات وغيرها، كنقل
ص: 196
خبر نجاح أحدهم في تأسيس مؤسسة ما، أو في الامتحان، أو في تأسيس شركة، أو في إصلاح ذات البين، أو البشارة بشفاء مريض أو هداية ضال أو ما أشبه، فإن ذلك مضافاً إلى إدخاله السرور في قلوب المؤمنين، يسبب تماسكهم أكثر فأكثر، كما يسبب التشجيع على عمل الخير.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ فَرَّحَ مُسْلماً خَلقَ اللهُ مِنْ ذَلكَ الفَرَحِ صُورَةً حَسَنَةً تَقِيهِ آفَاتِ الدُّنْيَا وأَهْوَال الآخِرَةِ، تَكُونُ مَعَهُ فِي الكَفَنِ والحَشْرِ والنَّشْرِ حَتَّى تُوقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، فَيَقُول لهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَ اللهِ لوْ أَعْطَيْتُكَ الدُّنْيَا لمَا كَانَتْ عِوَضاً لمَا قُمْتَ لي بِهِ، فَيَقُول: أَنَا الفَرَحُ الذِي أَدْخَلتَهُ عَلى أَخِيكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا»(1).وعَنِ ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَال: «مَنْ أَدْخَل السُّرُورَ عَلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومَنْ أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَدْ وَصَل ذَلكَ إِلى اللهِ، وكَذَلكَ مَنْ أَدْخَل عَليْهِ كَرْباً»(2).
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَقَدْ سَرَّنِي، ومَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اللهَ»(3).
وعَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَال إِلى اللهِ عَزَّ وجَل إِدْخَال السُّرُورِ عَلى المُؤْمِنِينَ»(4).
ص: 197
وعَنْ مُفَضَّل بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا يَرَى أَحَدُكُمْ إِذَا أَدْخَل عَلى مُؤْمِنٍ سُرُوراً أَنَّهُ عَليْهِ أَدْخَلهُ فَقَطْ، بَل واللهِ عَليْنَا، بَل واللهِ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(1).
مسألة: من ذلك يظهر أن ما جرى عليه ديدن الغرب، وتبعه الشرق من شدة الترويج في وسائل الإعلام للأخبار المحزنة والتركيز عليها بشكل كبير جداً، كحريق هنا، وقتل هناك، وسرقة أو غصب أو اغتصاب أو احتيال أو غرق أو ضياع أو ما أشبه، مما لا يصح، فإن كثيراً من ذلك مصداق لإشاعة الفاحشة، ويعد - عن قصد أو لا قصد - طريقاً لترويجها وإزالة قبحها من الأذهان، لتكون عادية لدى الناس.
بل إنها تجرؤ الكثيرين، خاصة بعض الشباب عليها.
إضافة إلى ما تسببه من مرض الكآبة في الذين يمطرون بمئات من هذه الأخبار طوال السنة، دون طائل.
نعم لا بد من ذكر بعض ما يرتبط بالبشرية من الجرائم والمصائب بالقدر الذي يحفزهم على التعاون، أو يذكرهم بالآخرة، أو يوضح لهم الأسباب والنتائج، ويحذرهم من الشرور والآثام، وما يكون مصداقاً لقوله (عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليهاللوابس»(2).
ولهذا البحث تفصيل في علم الاجتماع وعلم الأخلاق.
ص: 198
عن مَسْعَدَةُ بْنُ زِيَادٍ، قَال: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) وقَدْ سُئِل عَنْ قَوْلهِ تَعَالى: «فَللهِ الحُجَّةُ البالغَةُ»(1)، فَقَال: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ قَال اللهُ تَعَالى للعَبْدِ: أَ كُنْتَ عَالماً، فَإِنْ قَال نَعَمْ قَال لهُ أَفَلا عَمِلتَ بِمَا عَلمْتَ، وإِنْ قَال كُنْتُ جَاهِلا قَال لهُ: أَ فَلا تَعَلمْتَ، فَيَخْصِمُهُ، فَتِلكَ الحُجَّةُ البَالغَةُ للهِ عَزَّ وجَل عَلى خَلقِه»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: «عَلى العَاقِل أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِه»(3).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل عَيَّرَ أَقْوَاماً بِالإِذَاعَةِ فِي قَوْلهِ عَزَّ وَجَل «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ» فَإِيَّاكُمْ والإِذَاعَةَ»(4).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَذَاعَ فَاحِشَةً كَانَ كَمُبْتَدِئِهَا، ومَنْ عَيَّرَ مُؤْمِناً بِشَيْ ءٍ لا يَمُوتُ حَتَّى يَرْكَبَهُ»(5).
ص: 199
مسألة: يجب إعطاء الخمس لصريح قوله تعالى: «فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وللرَّسُول ولذِي القُرْبى...»(1)، كما أن انتشار الفقر في كثير من السادة(2) نتيجة منع الخمس.
فإذا كان الناس ملتزمين بدفع الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات والكفارات والنذورات وما أشبه لم يبق محتاج كما وردت بذلك النصوص المستفيضة، وعلى ما يظهر من كتابي الخمس والزكاة، وقد ذكرنا بعض تفصيل ذلك في كتاب (الفقه: الاقتصاد)(3).
ولا يخفى أنه إنما يُعطى الخمس للسيد إذا لم يكن غنياً فعلاً ولا قوّةً(4)، ولم يكن في دفع الخمس له إعانة على الإثم(5)، وتفصيله في بابه.
ص: 200
وهكذا في الزكاة حيث اشترط الفقهاء أن لا يصرفها في الحرام وأن يصرف على الموالين.
عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ يُجْبِرُ عِبَادَهُ عَلى المَعَاصِي أَوْ يُكَلفُهُمْ مَا لا يُطِيقُونَ فَلا تُعْطُوهُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئاً»(1).
وعَنْ بِشْرِ بْنِ بَشَّارٍ، قَال: قُلتُ للرَّجُل يَعْنِي أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام): «مَا حَدُّ المُؤْمِنِ الذِي يُعْطَى الزَّكَاةَ، قَال: يُعْطَى المُؤْمِنُ ثَلاثَةَ آلافٍ، ثُمَّ قَال: أَوْ عَشَرَةَ آلافٍ، ويُعْطَى الفَاجِرُ بِقَدَرٍ، لأَنَّ المُؤْمِنَ يُنْفِقُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ والفَاجِرَ فِي مَعْصِيَةِاللهِ»(2).
ص: 201
في حديث قالت فاطمة (عليها السلام): «ألم تسمعا من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل الجنة». فقالا: بلى(1).
----------------------
مسألة: يجب في مورده تزكية الشاهد العادل، رجلاً كان أم امرأة، فيما يصح شهادتها فيه، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عيلها).
هذا وفي الروايات من كان ظاهره العدالة تقبل شهادته، فكيف بمن وثقته الزهراء (عليها السلام) وهي المعصومة الصديقة.
عَنْ عَلقَمَةَ قَال: قَال الصَّادِقُ (عليه السلام) وَقَدْ قُلتُ لهُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ أَخْبِرْنِي عَمَّنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ وَمَنْ لا تُقْبَل، فَقَال: «يَا عَلقَمَةُ كُل مَنْ كَانَ عَلى فِطْرَةِ الإِسْلامِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ» قَال: فَقُلتُ لهُ: تُقْبَل شَهَادَةُ مُقْتَرِفٍ بِالذُّنُوبِ، فَقَال: «يَا عَلقَمَةُ لوْ لمْ تُقْبَل شَهَادَةُ المُقْتَرِفِينَللذُّنُوبِ لمَا قُبِلتْ إلاّ شَهَادَةُ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ (عليهم السلام) لأَنَّهُمُ المَعْصُومُونَ دُونَ سَائِرِ الخَلقِ، فَمَنْ لمْ تَرَهُ بِعَيْنِكَ يَرْتَكِبُ ذَنْباً أَوْ لمْ يَشْهَدْ عَليْهِ بِذَلكَ شَاهِدَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْل العَدَالةِ والسَّتْرِ وشَهَادَتُهُ
ص: 202
مَقْبُولةٌ وإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُذْنِباً، ومَنِ اغْتَابَهُ بِمَا فِيهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ وَلايَةِ اللهِ دَاخِل فِي وَلايَةِ الشَّيْطَانِ»(1).
وعَنْهُمْ (عليهم السلام): «أَنَّهُ لا بَأْسَ بِشَهَادَةِ المَمْلوكِ إِذَا كَانَ عَدْلاً»(2).
وعَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَامَل النَّاسَ فَلمْ يَظْلمْهُمْ، وحَدَّثَهُمْ فَلمْ يَكْذِبْهُمْ، ووَعَدَهُمْ فَلمْ يُخْلفْهُمْ، فَهُوَ مِمَّنْ كَمَلتْ مُرُوءَتُهُ، وظَهَرَتْ عَدَالتُهُ، ووَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وحَرُمَتْ غِيبَتُهُ»(3).
مسألة: يستحب بيان اهتمام الإسلام بمقام المرأة، فإن لذلك الموضوعية، كما له الطريقية أيضاً لإبطال دعاويالمغرضين والجاهلين وأعداء الدين، كما يجب أن لا يزاد على ما ذكره الإسلام، ولا ينقص منه خوفاً من إعلام الشرق والغرب، قال تعالى: «تَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ»(4).
مسألة: يستحب بيان فضائل أصحاب الفضل من المؤمنين والمؤمنات، كما بينت الصديقة (عليها السلام) كون أسماء وأم أيمن (رضوان الله عليهما) من أهل الجنة.
ص: 203
فإن ذكر أصحاب الفضل يسبب جعلهم أسوة، والتفاف الناس حولهم، وقبول شهادتهم وما إلى ذلك، كما أنه يشجعهم على العمل الصالح والتمسك بالفضلية أكثر، كما أن ذكر نقائص أهل النقص يوجب عكس كل ذلك.
وفي القرآن الحكيم ورد القسمان من تفضيل المفضَّلين وتنقيص المبطلين، كذكر الأنبياء (عليهم السلام) بالفضيلة وذكر الفراعنة بالرذيلة.
ص: 204
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه ميت، فبكيت، ثم أخبرني (صلى الله عليه وآله) أني أول أهله لحوقاً به فضحكتُ»(1).
--------------------------
مسألة: يستحب إظهار الحزن إذا سمع الإنسان شيئاً محزناً، فكيف إذا كان أمراً عظيماً كوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فإن ذلك من مظاهر الإنسانية، وقد قال الصادق (عليه السلام): «المُؤْمِنُونَ فِي تَبَارِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَل الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى تَدَاعَى لهُ سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحُمَّى»(2)، وهذا إنشاء في صورة الإخبار وهو من أساليب البلاغة(3).وأما بالنسبة إليهم (صلوات الله عليهم) فتدل عليه أدلة خاصة، مثل: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى اطَّلعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَنَا واخْتَارَ لنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ
ص: 205
لفَرَحِنَا ويَحْزَنُونَ لحُزْنِنَا، ويَبْذُلونَ أَمْوَالهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولئِكَ مِنَّا وإِليْنَا»(1).
وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «نَفَسُ المَهْمُومِ لنَا المُغْتَمِّ لظُلمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لأَمْرِنَا عِبَادَةٌ، وكِتْمَانُهُ لسِرِّنَا جِهَادٌ فِي سَبِيل اللهِ»(2).
وعَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ المَلكِ كِرْدِينٍ البَصْرِيِّ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) في حديث: «إِنَ المُوجَعَ لنَا قَلبُهُ ليَفْرَحُ يَوْمَ يَرَانَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَرْحَةً لا تَزَال تِلكَ الفَرْحَةُ فِي قَلبِهِ حَتَّى يَرِدَ عَليْنَا الحَوْضَ، وإِنَّ الكَوْثَرَ ليَفْرَحُ بِمُحِبِّنَا إِذَا وَرَدَ عَليْهِ حَتَّى إِنَّهُ ليُذِيقُهُ مِنْ ضُرُوبِ الطَّعَامِ مَا لا يَشْتَهِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ، يَا مِسْمَعُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَداً، ولمْ يَسْتَقِ بَعْدَهَاأَبَداً، وهُوَ فِي بَرْدِ الكَافُورِ ورِيحِ المِسْكِ وطَعْمِ الزَّنْجَبِيل أَحْلى مِنَ العَسَل وأَليَنَ مِنَ الزُّبْدِ وأَصْفَى مِنَ الدَّمْعِ وأَذْكَى مِنَ العَنْبَرِ، يَخْرُجُ مِنْ تَسْنِيمٍ ويَمُرُّ بِأَنْهَارِ الجِنَانِ يَجْرِي عَلى رَضْرَاضِ الدُّرِّ واليَاقُوتِ، فِيهِ مِنَ القِدْحَانِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلفِ عَامٍ، قِدْحَانُهُ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأَلوَانِ الجَوْهَرِ، يَفُوحُ فِي وَجْهِ الشَّارِبِ مِنْهُ كُل فَائِحَةٍ حَتَّى يَقُول الشَّارِبُ مِنْهُ، يَا ليْتَنِي تُرِكْتُ هَاهُنَا لا أَبْغِي بِهَذَا بَدَلاٌ ولا عَنْهُ تَحْوِيلاٌ»(3).
ص: 206
مسألة: يستحب إظهار السرور في محضر العظيم إذا سمع منه ما يفيد ارتباطه به أو لحوقه به في شأن من الشؤون الدنيا أو الآخرة.
وهذا كالسابق دليلاً ومدلولاً.
ثم المراد بالضحك هنا التبسم لا الضحك بصوت، لأن الضحك بصوت خلاف شأن الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) وفي الحديث: «بل كان ضحكه (عليه السلام) التبسّم»(1).
ولعل قوله سبحانه وتعالى: «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ»(2) أيضاً من هذا القبيل، وإن كانت شؤون الآخرة لا تقاس بشؤون الدنيا.
أما قوله تعالى: «فَليَضْحَكُوا
قَليلاً وليَبْكُوا كَثيراًجَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُون»(3)، فإنه تهديد لهم، أي للمنافقين وهم المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيلزم عليهم أن لا يسروا ولا يبتسموا فإن عذاب
ص: 207
جهنم لهم بالمرصاد، «قُل نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا»(1)، والحاصل: ليضحكوا في الدنيا قليلاً وليبكوا في الآخرة طويلاً.
قال تعالى: «فَاليَوْمَ الذينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُون»(2).
وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الأَوَّل (عليه السلام) قَال: «كَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا (عليهما السلام) يَبْكِي ولا يَضْحَكُ، وكَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليهما السلام) يَضْحَكُ ويَبْكِي، وكَانَ الذِي يَصْنَعُ عِيسَى (عليه السلام) أَفْضَل مِنَ الذِي كَانَ يَصْنَعُ يَحْيَى (عليه السلام)»(3).
ثم إن ضحك الصديقة (صلوات الله عليها) عند ما أخبرها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهل بيته لحوقاً به، قد يكون لبعض أو جميع الوجوه التالية أو غيرها:1: لأصل الالتحاق بشخصه الكريم (صلوات الله عليه)، فإنه مطلوب بذاته ومحبوب بنفسه، إذ أي شيء أفضل وأكمل وأجمل من أن يكون الإنسان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة.
2: لتضمنه تبشيرها بأعلى المراتب في دار الآخرة، حيث لحوقها به (صلى الله عليه وآله)، إذ الظاهر من اللحوق أنه في درجته ومنزلته، لا مجرد الجنة والنعيم المقيم.
ص: 208
3: لكشفه عن انتهاء أمد امتحانها في هذه الدار الدنيا، ونجاحها بأبلغ نجاح وأكمله وأتمه وأعلاه وأسماه وأجمله وأكمله, والذي يدل عليه تقدير الله تعالى لها (صلوات الله عليها) بأن تلتحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) في أعلى درجات جنان الخلد.
4: لتضمنه التحاق أهل بيته وهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) به (صلى الله عليه وآله) في أعلى مراتب الجنان أيضاً، فإنهم أهل بيته بالمعنى الأخص وبالدرجة الأولى، قال تعالى: «إِنَّما يُريدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(1).
5: ولعله لأن لحوقها به من غير طول مكث يستلزم عدم توارد مصائب أخرىعليها، فإن البقاء مع مجموعة من الأعداء يزيد الإنسان كرباً على كرب، وحزناً على حزن، فتأمل.
6: ويحتمل أن يكون لما عرفته (عليها السلام) مما فرح أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسرعة التحاقها به، فإن الميت يسر بالتحاق أهله به، كما أن سروره قد يكون لسرعة انتهاء مصائبها (عليها السلام) بسرعة اللحاق به.
رُوِيَ أَنَّهُ دَخَل النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً إِلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَهَيَّأَتْ لهُ طَعَاماً مِنْ تَمْرٍ وقُرْصٍ وسَمْنٍ، فَاجْتَمَعُوا عَلى الأَكْل هُوَ وعَليٌّ وفَاطِمَةُ والحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهم السلام) فَلمَّا أَكَلوا سَجَدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَطَال سُجُودَهُ ثُمَّ بَكَى ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ جَلسَ، وكَانَ أَجْرَأَهُمْ فِي الكَلامِ عَليٌّ (عليه السلام) فَقَال: يَا رَسُول اللهِ رَأَيْنَا مِنْكَ اليَوْمَ مَا لمْ نَرَهُ قَبْل ذَلكَ، فَقَال (صلى الله عليه وآله):
ص: 209
إِنِّي لمَّا أَكَلتُ مَعَكُمْ فَرِحْتُ وسُرِرْتُ بِسَلامَتِكُمْ واجْتِمَاعِكُمْ فَسَجَدْتُ للهِ تَعَالى شُكْراً، فَهَبَطَ جَبْرَئِيل (عليه
السلام) يَقُول: سَجَدْتَ شُكْراً لفَرَحِكَ بِأَهْلكَ، فَقُلتُ: نَعَمْ، فَقَال: إلاّ أُخْبِرُكَ بِمَا يَجْرِي عَليْهِمْ بَعْدَكَ، فَقُلتُ: بَلى يَا أَخِي يَا جَبْرَئِيل، فَقَال: أَمَّا ابْنَتُكَ فَهِيَ أَوَّل أَهْلكَ لحَاقاً بِكَ بَعْدَ أَنْ تُظْلمَ ويُؤْخَذَ حَقُّهَا وتُمْنَعَ إِرْثَهَا ويُظْلمَ بَعْلهَا ويُكْسَرَ ضِلعُهَا، وأَمَّا ابْنُ عَمِّكَ فَيُظْلمُ ويُمْنَعُ حَقَّهُويُقْتَل، وأَمَّا الحَسَنُ فَإِنَّهُ يُظْلمُ ويُمْنَعُ حَقَّهُ ويُقْتَل بِالسَّمِّ، وأَمَّا الحُسَيْنُ فَإِنَّهُ يُظْلمُ ويُمْنَعُ حَقَّهُ وتُقْتَل عِتْرَتُهُ وتَطَئُوهُ الخُيُول ويُنْهَبُ رَحْلهُ وتُسْبَى نِسَاؤُهُ وذَرَارِيُّهُ ويُدْفَنُ مُرَمَّلا بِدَمِهِ ويَدْفِنُهُ الغُرَبَاءُ، فَبَكَيْتُ وقُلتُ: وهَل يَزُورُهُ أَحَدٌ، قَال: يَزُورُهُ الغُرَبَاءُ، قُلتُ: فَمَا لمَنْ زَارَهُ مِنَ الثَّوَابِ، قَال: يُكْتَبُ لهُ ثَوَابُ أَلفِ حَجَّةٍ وأَلفِ عُمْرَةٍ كُلهَا مَعَكَ، فَضَحِكَ(1).
ص: 210
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أول أهله لحوقاً به(1).
-----------------------------
مسألة: يجوز الإخبار عن المستقبل إذا قُطع به ولو عن طريق الغيب، كما يجوز الإخبار الظني أو الاحتمالي بعنوان أنه محتمل ومظنون، ولا يعتبر ذلك من (الكهانة) فإن الكهانة هي تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الأيام بما يأتيه به الجن أو الشيطان.
ولا يخفى أن المراد ب (أهله) من كان يعيش آنذاك في الدنيا، وإلاّ فمحسن (عليه السلام) السقط قد استشهد قبل أمه فاطمة (عليها السلام) على أثر هجوم القوم على دارها (عليها السلام) وضربها وعصرها بين الحائط والباب.
قال تعالى: «عالمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاّمَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلفِهِ رَصَداً»(2).
ص: 211
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَا كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ ولا ضَللتُ ولا ضُل بِي»(1).
المراد بالجواز في المسألة الإخبار عن الغيب الأعم من الأحكام الثلاثة، لأنه قد يجب الإخبار، وقد يستحب، وقد يباح، ويضاف إلى ذلك الكراهة أحياناً في غيرهم (عليهم الصلاة والسلام)، لأنهم (صلوات الله عليهم) لا يفعلون حتى المكروه.
ولذا قال الفقهاء إنه إذا رأينا أنهم (عليهم السلام) فعلوا ما ظاهره الكراهة فإنه ليس بمكروه، لأن المكروه إنما يكون بعلة وملاك، لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وهم (عليهم السلام) يعرفون الملاكات الواقعية ومكان العلة وعدمها، فما فعلوه ليس بمكروه في حقهم ولو بطرو عنوان حاكم أهم(2).بل ذكرنا في بعض كتبنا العقائدية والأصولية أنهم (عليهم الصلاة والسلام) لا يصدر منهم حتى ترك الأولى، فهم (صلوات الله عليهم) معصومون من الذنب والمكروه وترك الأولى، ومن الخطأ والسهو والنسيان وما أشبه.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا وعَليٌّ والحَسَنُ والحُسَيْنُ وتِسْعَةٌ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ مُطَهَّرُونَ مَعْصُومُونَ»(3).
ص: 212
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا سَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ، وعَليٌّ سَيِّدُ الأَوْصِيَاءِ، وسِبْطَايَ خَيْرُ الأَسْبَاطِ، ومِنَّا الأَئِمَّةُ المَعْصُومُونَ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَقَامَ إِليْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَال: يَا رَسُول اللهِ كَمِ الأَئِمَّةُ بَعْدَكَ، قَال: عَدَدَ الأَسْبَاطِ وحَوَارِيِّ عِيسَى ونُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل»(1).وعن عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلى القَضِيبِ الأَحْمَرِ الذِي غَرَسَهُ اللهُ بِيَدِهِ ويَكُونَ مُتَمَسِّكاً بِهِ، فَليَتَوَل عَليّاً والأَئِمَّةَ مِنْ وُلدِهِ، فَإِنَّهُمْ خِيَرَةُ اللهِ عَزَّ وجَل وصَفْوَتُهُ، وهُمُ المَعْصُومُونَ مِنْ كُل ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ»(2).
ص: 213
وفي رواية أخرى:
قالت فاطمة (عليها السلام): قال لي أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تبكي، فإنك أول أهلي لاحق بي»(1).
--------------------------
مسألة: يستحب تسلية الباكي بما يفرحه.
فإن تسلية المصاب بمصيبة والباكي لأجل مصيبته من المستحبات شرعاً، كما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى مُصَاباً فَلهُ مِثْل أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ المُصَابِ شَيْئاً»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى ثَكْلى كُسِيَ بُرْداً فِي الجَنَّةِ»(3).وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي المَوْقِفِ حُلةً يُحَبَّرُ بِهَا»(4).
إضافة إلى عمومات استحباب إدخال السرور في قلب المؤمن.
ص: 214
والنهي في (لا تبكي) إرشادي، رأفة بها (عليها السلام) ورحمة، والتعليل خير شاهد ودليل.
ولا يخفى أن قوله (صلى الله عليه وآله) «لا تبكي» لا يدل على مرجوحية البكاء، بل هو عطف وحنان، ومثله ما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) على ما سبق حيث قال لابنته: لا تبكي، أو قال لأخته العقيلة زينب الكبرى (صلوات الله عليها) ذلك.
وهذا متعارف عند ما يرى الإنسان أحد أقربائه أو أصدقائه يبكي، فإنه يقول له: لا تبك، تعطفاً عليه ورحمةً به، لا أن بكاءه مرجوح كما هو واضح، بل إن عدم البكاء قد يكون مرجوحاً.
ثم إنه هل كانت القضية واحدة، والروايات وكيفية بيانها مختلفة، فلا تعدد لحادثة بكائها (عليها السلام) ولا تعدد لقوله (صلى الله عليه وآله): لا تبكي، خاصة مع قوة أن ضحكها (عليها السلام) بعدإخباره بلحوقها به، كان لمرة واحدة، أم لا، فالتعدد محتمل بل له وجه، لاستمرار مرضه (صلى الله عليه وآله) عدة أيام، ومن الطبيعي أن يتكرر بكاء ذوي المريض بين فترة وأخرى كلما اشتد بالمريض المرض أو شاهدوه يتألم مرة إثر أخرى، هذا إذا كان المريض عادياً فكيف إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله).
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) مشتاقون لدار الآخرة، وأن الدنيا
ص: 215
لاتهمهم إلاّ لأداء مسؤولياتهم الشرعية وهداية الناس.
ومن هنا فرحت الصديقة (عليها السلام) لما أخبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقرب رحيلها إلى دار الجنان.
قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «وَاللهِ لابْنُ أَبِي طَالبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْل بِثَدْيِ أُمِّه»(1).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ أَكْرَمَ المَوْتِ القَتْل، والذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالبٍ بِيَدِهِ لأَلفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَليَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلى الفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِالله»(2).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «شَوِّقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلى نَعِيمِ الجَنَّةِ تُحِبُّوا المَوْتَ وتَمْقُتُوا الحَيَاةَ»(3).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فِي المَوْتِ رَاحَةُ السُّعَدَاءِ»(4).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا مُرِيحَ كَالمَوْتِ»(5).
وقال سيد الشهداء (عليه السلام): «وَإِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إلاّ سَعَادَة»(6).
ص: 216
عن فاطمة (عليها السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنت أول أهلي لحوقاً بي، وأنت رفيقي في الجنة»(1).
------------------------
مسألة: يستحب استحباباً مؤكداً أن يعمل الإنسان ما يوجب مرافقته لعباد الله الصالحين في الجنان، بل أن يكون من أئمة المتقين وقادتهم.
وهذا يستفاد من مختلف الآيات والروايات، قال الله تعالى: «وَالذينَ يَقُولونَ رَبَّنا هَبْ لنا مِنْ أَزْواجِنا وذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلنا للمُتَّقينَ إِماماً»(2).
وقال سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُول فَأُولئِكَ مَعَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَ الصَّالحينَوَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً»(3).
وقال علي (عليه الصلاة والسلام): «المرء يطير بهمته كما يطير الطائر
ص: 217
بجناحيه»(1).
وفي الأدعية: «اللهُمَّ ارْزُقْنَا مَنَازِل الشُّهَدَاءِ وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»(2).
وأيضاً: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ وَ مَنْزِلةَ المُقَرَّبِينَ وَ مُرَافَقَةَ النَّبِيِّينَ»(3).
وأيضاً: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ إِيمَاناً لا يَرْتَدُّ وَ نَعِيماً لا يَنْفَدُ وَ مُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ صَلوَاتُكَ عَليْهِ وَ آلهِ فِي أَعْلى جَنَّةِالخُلدِ»(4).
بل ربما يمكن أن يقال: إنه مع الإمكان قد يلزمه العقل به، لأنه كما يوجب العقل دفع الضرر الكثير، كذلك يوجب جلب النفع الكثير خاصة إذا كان بأبسط العمل وأقل الجهد، بالقياس إلى عظيم الأجر وجزيل الثواب، إلاّ ترى أنه لو دار أمر الإنسان بين أن يكون في (الأعراف) أو في (الجنة)، أوجب عليه العقل أن يعمل عملاً يدخل الجنة، وإن كان (الأعراف) أيضاً مكاناً حسناً.
نعم المشهور بين الفقهاء أنهم لا يقولون بوجوب جلب المنفعة، وإن قالوا
ص: 218
بوجوب دفع المفسدة في الجملة، لكن الوجوب الذي أشرنا إليه عقلي لا يستتبع استحقاق العقاب بتركه، والوجوب الذي نفوه، القدر المتيقن منه هو الوجوب الشرعي الذي يستتبع استحقاق العقاب بالترك، فتأمل.
قال تعالى: «وَابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ ولا تَبْغِ الفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدين»(1).
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (صلوات الله عليها) رفيق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجنان.
ورفيق فعيل بمعنى مرافق، وأقوى منه دلالة، إذ المرافق قد لا يكون رفيقاً، فحيثما كان (صلى الله عليه وآله) من الجنة كانت (عليها السلام) مرافقة له، وهكذا علي والحسنان (عليهم السلام).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي، تركتك لنفسي أنت أخي ووصيي، وأنت معي في الجنة في قصر مع فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة ابنتي، ومع الحسن والحسين ابنيّ وابنيكما»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «أَنْتَ أَوَّل مَنْ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْهُ وأَنْتَ مَعِي، وقَال لهُ: أَنَا عِنْدَ الحَوْضِ وأَنْتَ مَعِي، وقَال لهُ: أَنَا أَوَّل مَنْ يَدْخُل
ص: 219
الجَنَّةَ وأَنْتَ مَعِي، تَدْخُلهَا والحَسَنُ والحُسَيْنُ وفَاطِمَة»(1).وفي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي (عليه السلام): «أنت معي في قصري في الجنة مع ابنتي فاطمة، وأنت أخي ورفيقي» ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ»(2)،(3).
ص: 220
عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي، ونعم الخلف أنا لك»(1).
--------------------------
مسألة: يستحب أن يعمل الإنسان ما يوجب أن يكون نعم الخلف.
والنسبة بين مفهوم (نعم الخلف) ومفهوم (القدوة الأسوة) هو العموم من وجه، إذ قد يكون نعم الخلف ولا يكون أسوة أو قدوة، وقد يكون قدوة من غير أن يكون نعم الخلف، فتأمل.
وعلي أي، فإن كلاً من (القدوة والأسوة) و(الكون نعم الخلف) مما يوجب جلب النفع المعنوي له، قال (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اسْتَنَّ خَيْراً فَاسْتُنَّ بِهِ فَلهُ أَجْرُهُ وَ مِثْل أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِمُنْتَقَصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ»(2).
وفي مقابل ذلك (السيئة) حيث قال (صلى الله عليه وآله): «وَمَنِ اسْتَنَّ شَرّاً
ص: 221
فَاسْتُنَّ بِهِ فَعَليْهِ وِزْرُهُ وَمِثْل أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ مُنْتَقَصٍ مِنْ أَوْزَارِهِ»(1).
ولعل قوله (صلى الله عليه وآله): (نِعْمَ) يشير إلى أنه (صلى الله عليه وآله) في عالم الآخرة مأذون له بإيصال مطلق وجوه النفع إليها (صلوات الله عليها)، أما في عالم الدنيا فحيث إنه عالم ابتلاء وامتحان، فإنه لم يؤذن لأمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك من حيث الكم والكيف، إذ كان (عليه السلام) مأموراً بالصبر، فتأمل(2).
قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام):«فَصَبَرْتُ وفِي العَيْنِ قَذًى وفِي الحَلقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْبا»(3).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْشٍ ومَنْ أَعَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وأَكْفَئُوا إِنَائِي، وأَجْمَعُوا عَلى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وقَالوا إلاّ إِنَّ فِي الحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفِي الحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا ليْسَ لي رَافِدٌ ولا ذَابٌّ ولا مُسَاعِدٌ إلاّ أَهْل بَيْتِي، فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ المَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلى القَذَى، وجَرِعْتُ رِيقِي عَلى الشَّجَا، وصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلقَمِ، وآلمَ للقَلبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَار»(4).
ص: 222
عن فاطمة (عليها السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن جبرئيل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، ولا أراني إلاّ حضر أجلي، وإنكِ أول أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك، يا بنية إنه ليس من نساء المسلمين امرأة أعظم رزية منك، فلا تكوني من أدنى امرأة صبراً، إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي»(1).
------------------------
مسألة: يستحب الأمر بالتقوى وبالصبر.
والاستحباب فيما كانا من المستحب، وإلا فقد يجب الأمر بهما من باب الأمر بالمعروف الواجب، وحيث إن الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كانت دون شك في أعلى درجات الصبر والتقوى، حملنا الأمر على الاستحباب، قال سبحانه: «وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْر»(2).
أو يقال إن أمره إياها بالتقوى والصبر نظير أمر الله تعالى لنبيه (صلى اللهعليه
ص: 223
وآله) بالصبر والتقوى، قال عزوجل: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله»(1).
وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُل»(2).
ولعل من وجوهه أن للتقوى والصبر عرضاً عريضاً، ودرجات لا تتوقف عند حد، والأمر بهما علة معدة للارتقاء أعلى فأعلى فأعلى، أو لعل ذلك كله من باب التعليم للغير، كما قالوا: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، أو من باب الأسوة والتأسي.
قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا ورابِطُوا واتَّقُوا اللهَ لعَلكُمْ تُفْلحُون»(3).
وقال تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ يا أُولي الأَلباب»(4).
وقال تعالى: «وَأَطيعُوا اللهَ وَرَسُولهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلوا وَتَذْهَبَ ريحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرين»(5).
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لمَّا حَضَرَتْ أَبِي عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) الوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلى صَدْرِهِ وقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ وبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ يَا بُنَيَّ اصْبِرْ عَلى الحَقِ وإِنْ
ص: 224
كَانَ مُرّاً»(1).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِذَا ابْتُليتَ فَاصْبِرْ»(2).
وقَال (عليه السلام): «التَّقْوَى رَأْسُ الحَسَنَاتِ»(3).
وقَال (عليه السلام): «الجَئُوا إِلى التَّقْوَى فَإِنَّهَا جُنَّةٌ مَنِيعَةٌ، مَنْ لجَأَ إِليْهَا حَصَّنَتْهُ، ومَنِ اعْتَصَمَ بِهَا عَصَمَتْهُ»(4).
مسألة: يستحب بيان ونقل إخبارات القرآن وإخبارات الرسول (صلى الله عليه وآله)، سواء منها ما تعلق بأحوال الدنيا والأمم والرسل وغيرها، أم ما كان عن المستقبل وما يرتبط بالآخرة، ومن إخباراته (صلى الله عليه وآله) ما نقلته عنه الصديقة الزهراء (عليها السلام) ههنا من أن جبرئيل (عليه السلام) كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة ثم عارضه آخر سنةمن حياته مرتين.
ولعل من أسباب معارضته كل سنة مرة، أنه كان يأتيه كل مرة مع تنزيله وتأويله، وفيه المستجد، أما السنة الأخيرة فلكونها السابقة على التحول العظيم بانقطاعه الظاهري عن الدنيا، وكثرة المستجدات الكبرى، فلزم معارضته مرتين بتنزيله وتأويله مما يستجد، والله العالم.
ص: 225
مسألة: يستحب للقائد أو من أشبهه كرب الأسرة، إذا علم بقرب أجله أن يخبر بذلك، كي يستعد الأتباع والأهل لرحيله، بما يحفظهم من الأعداء ويصونهم من الضياع، وبما يوجب استعدادهم النفسي لوفاته، أو لما أشبه ذلك من وجوه المنافع والفوائد.
روى القمي في تفسيره:
«فَلمَّا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْزَل: اللهُ «إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ»، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي، ثُمَّ نَادَى: الصَّلاةَ جَامِعَةً فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَليْهِ»(1)، الحديث.
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: قَال لي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لمَّا رَجَعَ مِنْ حِجَّةِ الوَدَاعِ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ قَرُبَ الأَجَل ونُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي فَمَنْ لذَلكَ بَعْدِي فَأَقْبَلتُ أَعُدُّ عَليْهِ رَجُلا رَجُلا، فَبَكَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَال: ثَكِلتْكَ الثَّوَاكِل فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، لمَ لا تُقَدِّمُهُ عَلى الخَلقِأَجْمَعِين»(2).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال: لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ السُّورَةُ دَعَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَال: إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي، فَبَكَتْ، فَقَال: لا تَبْكِينَ
ص: 226
فَإِنَّكِ أَوَّل أَهْلي لحُوقاً بِي، فَضَحِكَت»(1).
وقَال عُقْبَةُ بْنُ سِمْعَانَ: فَسِرْنَا مَعَ الحسين (عليه السلام) سَاعَةً فَخَفَقَ وهُوَ عَلى ظَهْرِ فَرَسِهِ خَفْقَةً ثُمَّ انْتَبَهَ وهُوَ يَقُول: «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليْهِ راجِعُونَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ» فَفَعَل ذَلكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَأَقْبَل إِليْهِ ابْنُهُ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ، فَقَال: مِمَّ حَمِدْتَ اللهَ واسْتَرْجَعْتَ، قَال: «يَا بُنَيَّ إِنِّي خَفَقْتُ خَفْقَةً فَعَنَّ لي فَارِسٌ عَلى فَرَسٍ وهُوَ يَقُول: القَوْمُ يَسِيرُونَ والمَنَايَا تَسِيرُ إِليْهِمْ، فَعَلمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِليْنَا»، فَقَال لهُ: يَا أَبَتِ لا أَرَاكَ اللهُ سُوءاً أَلسْنَا عَلى الحَقِ، قَال: «بَلى واللهِ الذِي مَرْجِعُ العِبَادِ إِليْهِ»، فَقَال: فَإِنَّنَا إِذاً مَا نُبَالي أَنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ، فَقَال لهُ الحُسَيْنُ (عليه السلام): «جَزَاكَ اللهُ مِنْ وَلد»(2).
مسألة: يستحب أن يخاطب الأب ابنته بقوله: يا بنية، تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله).
مسألة: يستحب التكرار والتأكيد فيما يقتضيهما، كما قال (صلى الله عليه وآله) إنك أول أهل بيتي لحاقاً بي، ثم كرره مؤكداً بالجملة نفسها في آخر الكلام.
وقد أشير إليهما فيما سبق.
ص: 227
مسألة: يستحب الوصية مطلقاً، والمراد الأعم من الوصية العهدية والوصية التمليكية، وقد تجب(1).
عن أبي الصباح الكناني، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنِ الوَصِيَّةِ، فَقَال: «هِيَ حَقٌّ عَلى كُل مُسْلمٍ»(2).
قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «الوَصِيَّةُ حَقٌّ وَقَدْ أَوْصَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَيَنْبَغِي للمُسْلمِ أَنْ يُوصِيَ»(3).
مسألة: يستحب الإخبار بما يحدث من الرزايا، سواء ما يحدث للأفراد أم العوائل أم الجماعات أم الدولة أمالأمة، وسواء كان ما سيحدث مما يتعلق بالأنفس أو الأموال أو الأعراض أو غيرها، إذا كان في الإخبار الفائدة، ولم يزاحم بأمر أهم، ومنه إخبار العظيم والقائد ورب الأسرة بتلك الأمور.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالي الرَّجُل مَا تَلفَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلمَتْ لهُ دُنْيَاهُ»(4).
ص: 228
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): «يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانٌ يَرْتَفِعُ فِيهِ الفَاحِشَةُ، ولتُصَنَّعُ وتُنْهَتَكُ فِيهِ المَحَارِمُ، ويُعْلنُ فِيهِ الزِّنَا، ويُسْتَحَل فِيهِ أَمْوَال اليَتَامَى، ويُؤْكَل فِيهِ الرِّبَا، ويُطَفَّفُ فِي المَكَايِيل والمَوَازِينِ، ويُسْتَحَل الخَمْرُ بِالنَّبِيذِ، والرِّشْوَةُ بِالهَدِيَّةِ، والخِيَانَةُ بِالأَمَانَةِ، ويَشْتَبِهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ، والنِّسَاءُ بِالرِّجَال، ويُسْتَخَفُّ بِحُدُودِ الصَّلاةِ، ويُحَجُّ فِيهِ لغَيْرِ اللهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلكَ الزَّمَانُ انْتَفَخَتِ الأَهِلةُ تَارَةً حَتَّى يُرَى الهِلال ليْلتَيْنِ، وخَفِيَتْ تَارَةً حَتَّى يُفْطَرَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي أَوَّلهِ ويُصَامَ للعِيدِ فِي آخِرِهِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ حِينَئِذٍ مِنْ أَخْذِ اللهِ عَلى غَفْلةٍ، فَإِنَّ مِنْ وَرَاءِ ذَلكَ مَوْتٌ ذَرِيعٌ يَخْتَطِفُ النَّاسَ اخْتِطَافاً، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلليُصْبِحُ سَالماً ويُمْسِي دَفِيناً، ويُمْسِي حَيّاً ويُصْبِحُ مَيِّتاً، فَإِذَا كَانَ ذَلكَ الزَّمَانُ وَجَبَ التَّقَدُّمُ فِي الوَصِيَّةِ قَبْل نُزُول البَليَّةِ، ووَجَبَ تَقْدِيمُ الصَّلاةِ فِي أَوَّل وَقْتِهَا خَشْيَةَ فَوْتِهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا، فَمَنْ بَلغَ مِنْكُمْ ذَلكَ الزَّمَانَ فَلا يَبِيتَنَّ ليْلةً إلاّ عَلى طُهْرٍ، وإِنْ قَدَرَ أَنْ لا يَكُونَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالهِ إلاّ طَاهِراً فَليَفْعَل، فَإِنَّهُ عَلى وَجَل لا يَدْرِي مَتَى يَأْتِيهِ رَسُول اللهِ لقَبْضِ رُوحِهِ، وقَدْ حَذَّرْتُكُمْ وعَرَّفْتُكُمْ إِنْ عَرَفْتُمْ ووَعَظْتُكُمْ إِنِ اتَّعَظْتُمْ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي سَرَائِرِكُمْ وعَلانِيَتِكُمْ، «وَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وأَنْتُمْ مُسْلمُونَ»(1)، «وَمَنْ يَبْتَغ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ»(2)»(3).
ص: 229
مسألة: يستحب تجديد إحياء ذكرى ما جرى من المصائب على الصديقة الزهراء (عليها السلام) وبيان أن مصائبها (صلوات الله عليها) التي جرت بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي أعظم المصائب التي جرت أو تجري على النساء، كما قال (صلى الله عليه وآله) بأنها أعظم النساء رزية، خاصة مع لحاظ ما منحها الله سبحانه من مقامات عالية لا يضاهيها مقام، مضافاً إلى كونها (عليها السلام) قد خلقت من طينة رفيعة جداً، ومن ثمار الجنة(1) ومع ذلك قد صبرت على أعظم الرزايا.
ومن المعلوم أن الإيذاء بالنسبة إلى الرفيع مقامه يكون آلم وأشد وأكبر وأدهى وأمر وأعظم من نفس الأذى لو وجه إلى الشخص العادي فكيف بمتسافل الدرجات، ومثل ذلك مثل الشعرة التي تنبت في العين فإنها أشد وأصعب من النابتة في غيرها، بل قد لا تكون للأخيرة شدة أو صعوبة.
وفي حديث قال الصادق (عليه السلام): «ولا كيوم محنتنا بكربلاء، وإن كان يومالسقيفة وإحراق النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم (عليهم السلام) وفضّة؛ وقتل محسن بالرفسة، أعظم وأدهى وأمرّ، لأنّه أصل يوم العذاب»(2).
وَقَالتِ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام):
ص: 230
قُل للمُغَيَّبِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى *** إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتِي ونِدَائِيَا
صُبَّتْ عَليَ مَصَائِبُ لوْ أَنَّهَا **** صُبَّتْ عَلى الأَيَّامِ صِرْنَ ليَاليَا(1)
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلكَ ولا أَكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلوا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْ ءٍ عَليمٌ»(2)، قَال: نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي فُلانٍ وفُلانٍ وأَبِي عُبَيْدَةَ الجَرَّاحِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسَالمٍ مَوْلى أَبِي حُذَيْفَةَ والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حَيْثُ كَتَبُوا الكِتَابَبَيْنَهُمْ وتَعَاهَدُوا وتَوَافَقُوا لئِنْ مَضَى مُحَمَّدٌ لا تَكُونُ الخِلافَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ ولا النُّبُوَّةُ أَبَداً فَأَنْزَل اللهُ عَزَّ وجَل فِيهِمْ هَذِهِ الآيَة.
قَال: قُلتُ: قَوْلهُ عَزَّ وجَل «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلى ورُسُلنا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(3).
قَال: وهَاتَانِ الآيَتَانِ نَزَلتَا فِيهِمْ ذَلكَ اليَوْمَ، قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): لعَلكَ تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَوْمٌ يُشْبِهُ يَوْمَ كَتْبِ الكِتَابِ إلاّ يَوْمَ قَتْل الحُسَيْنِ (عليه السلام) وهَكَذَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَل الذِي أَعْلمَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)
ص: 231
أَنْ إِذَا كُتِبَ الكِتَابُ قُتِل الحُسَيْنُ وخَرَجَ المُلكُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَقَدْ كَانَ ذَلكَ كُله (1).
ثم إنه لا يخفى أن الله تعالى جعل التناسب بين علو المقام من جهة، وبين فداحة المصائب وجميل الصبر من جهة أخرى، ويصح أن يستدل من بعضها على البعض الآخر في الجملة، وفي الحديث:«أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل»(2).
وفي رواية: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: إِنَّ فِي كِتَابِ عَليٍّ (عليه السلام): «أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَل فَالأَمْثَل»(3).
من هنا يدل أيضاً على علو مقامها وأنه لا يضاهيها من نساء المسلمين أحد، قوله (صلى الله عليه وآله): (إنه ليس من نساء المسلمين امرأة أعظم رزية منك).
وربما يقال إن مراده (صلى الله عليه وآله) من (نساء المسلمين) ما يشمل مثل مريم وآسية لكونهما مسلمين أيضاً، فإن القرآن الكريم أطلق الإسلام على من أسلم وجهه لله مطلقاً، وسمى الأنبياء السابقون بالمسلمين.
قال سبحانه: «ما كانَ إِبْراهيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنيفاً مُسْلماً
ص: 232
وَما كانَ مِنَ المُشْرِكينَ»(1).
وفي قصة نوح (عليه السلام): «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَمِنَ المُسْلمينَ»(2).
وقال تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ ديناً مِمَّنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً»(3). وقال سبحانه: «بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ»(4).
وقال تعالى: «رَبَّنا وَاجْعَلنا مُسْلمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلمَةً لكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَليْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ»(5).
وقال سبحانه: «وَوَصَّى بِها إِبْراهيمُ بَنيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلمُونَ»(6).
وأما إذا أريد المعنى المصطلح للإسلام فوجهه (المورد) لا الحصر، فلا مفهوم له، كما في قوله تعالى: «وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتي دَخَلتُمْ بِهِنَّ»(7).
بل إن اللقب مطلقاً لا مفهوم له إلاّ بمعونة القرائن.
ص: 233
عن فاطمة (عليها السلام) قالت: «يا أبا الحسن، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد إليّ وحدّثني: إني أول أهله لحوقاً به، ولابد مما لابد منه، فاصبر لأمر الله تعالى وارض بقضائه»(1).
-----------------------
مسألة: يستحب بيان مدى ثقل مصيبة فراق الصديقة فاطمة (عليها السلام) وفداحة ما جرى عليها من ظلم القوم إياها، على أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، إلى درجة استدعت منها أن توصيه به: «اصبر لأمر الله وارض بقضائه».
فإن الصبر على تلك الداهية العظمى والرزية الكبرى، من ضرب ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله) وعصرها بين الحائط والباب وقتل محسنها (عليه السلام) مع قدرة الإمام على دحرهم، فإنه الذي قلع باب خيبر، وهو القائل: «لو تظاهرت العرب على قتالي ما وليت عنها»(1)، هذا الصبر مما يحتاج إلى عزيمة أقوى مما يطيقه بشر، لو لا أنه (صلوات الله عليه) كان الوتر في صفاته والفرد في عظمته، كرسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل هو نفسه قال عزوجل: «وَأَنْفُسَنا َأَنفُسَكُمْ»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
فِرَاقُكِ أَعْظَمُ الأَشْيَاءِ عِنْدِي *** وَفَقْدُكِ فَاطِمُ أَدْهَى الثُّكُول
سَأَبْكِي حَسْرَةً وأَنُوحُ شَجْواً *** عَلى خَل مَضَى أَسْنَى سَبِيل
أَلا يَا عَيْنُ جُودِي وأَسْعِدِينِي *** فَحُزْنِي دَائِمٌ أَبْكِي خَليلي (3)
ص: 235
وقال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فَصَبَرْتُ وفِي العَيْنِ قَذًى وفِي الحَلقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً»(1).
وروى العامة عن جابر: إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَأَى عَلى فَاطِمَةَ كِسَاءً مِنْ أَوْبَارِ الإِبِل وهِيَ تَطْحَنُ فَبَكَى وقَال: يَا فَاطِمَةُ اصْبِرِي عَلى مَرَارَةِ الدُّنْيَا لنَعِيمِ الآخِرَةِ غَداً. ونَزَلتْ «وَلسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى»(2)»(3).
مسألة: يستحب الأمر بالرضا بقضاء الله تعالى.
ولعل قولها (عليها السلام): «فاصبر لأمر الله وارض بقضائه» من تتمة كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليها، خاصة بقرينة قولها: (عهد إليّ)، إذ ما سبقه(4) كان من حديثه لها، فعهده إليها إيصاؤها (عليها السلام) بأن توصيه (عليه السلام) بالصبر والرضا.
ثم إن القضاء بمعنى الحكم، والقدر بمعنى التقدير، فالمهندس يهندس البناء ويقدره بالكمية والكيفية الخاصة فيكون تقديراً، وحيث إن الله سبحانه خلق كل شيء من الخلق بتقدير، كما قال تعالى: «إِنَّا كُل شَيْ ءٍ خَلقْناهُ بِقَدَرٍ»(5)، لذلك
ص: 236
يقال: في كل شيء القدر، أما القضاء فهو الحكم، كما أن المهندس بعد التقدير يأمر العمال بالبناء على ما قرره وهندسه وقدره، وهذا المثال للتقريب.
ثم إن التقدير قد يكون تقديراً خاصاً لا يتمكن الإنسان من تجاوزه،كتقديره خلق الذكر ذكراً والأنثى أنثى، وخلق الإنسان محتاجاً إلى الحيّز وما أشبه، وقد يكون التقدير فضفاضاً يتمكن الإنسان معه من البدائل(1).
والقضاء في كلا الأمرين حسب ما قدّر، فالقضاء في التقدير الضيق مضيق، وفي التقدير الواسع موسّع، وفي بعض الروايات تقديم القضاء على القدر، وفي بعضها العكس، وربما يستظهر أن التقدير مقدم على القضاء، وقد ذكرنا تفصيل البحث في بعض الكتب الكلامية(2).
ص: 237
والفرق بين أن يسلم الإنسان أو لا يسلم فيما لابد منه ولا مفر منه: أنه إذا سلم وكان راضياً نفساً فإنه يقع الأمر عليه وقوعاً خفيفاً، وله أجر كبير لرضاه، بخلاف أن لا يكون كذلك، كما إذا جزع وفعل ما لا يناسب المسلمين لإرادة المولى عزوجل والراضين بقضائه.
قال (عليه السلام): «فَمَنْ غَلبَ جَزَعُهُ عَلى صَبْرِهِ، حَبِطَ أَجْرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلكَ»(1).
وعَنْ زُرَارَةَ، عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام)قَال: «مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ حَبِطَ أَجْرُهُ»(2).
وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «الصَّبْرُ عَلى قَدْرِ المُصِيبَةِ، ومَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ»(3).
مسألة: إذا عمل الناس بهذه الوصية: (الرضا والتسليم لما لا بد منه) كانوا سعداء، بل وأسعدوا من حولهم.
فمثلاً المريض الذي لا علاج له، والمعوق وناقص الخلقة، واليتيم، والفقير الذي فشل كلما حاول في النهوض، والطريد أو المنفي أو السجين ظلماً، إذا لم يقدر أي منهم وذووهم أن يغيروا ما بهم، فإنهم جميعاً ومن شابههم إذا
ص: 239
صبروا على البلاء ورضوا بالقضاء وسلموا لما لا بد منه، من غير تقصير في تسبيب الأسباب للخلاص والعلاج والتغيير، لأحرزوا رضا الله تعالى، وقمعوا الشيطان الذي يستغل مثل تلكالمصائب ليجر الناس للكفر أو اليأس من روح الله، وكانوا أهدأ بالاً، وأربط جأشاً، وأقوى نفساً، وأفضل أعصاباً، وأحب لذويهم، وهانت عليهم المصيبة، ولعل الله بذلك يخفف عنهم، ويرفع عنهم البلاء أو درجات منه، وإلا عوضهم في الآخرة بلا حساب، كما قال عزوجل: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»(1).
وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ رُزِقَ خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ: الرِّضَا بِالقَضَاءِ، والصَّبْرُ عَلى البَلاءِ، والشُّكْرُ عَلى الرَّخَاءِ»(2).
وقَال (عليه السلام): «الرِّضَا ثَمَرَةُ اليَقِينِ»(3).
وقَال (عليه السلام): «الدِّينُ شَجَرَةٌ أَصْلهَا التَّسْليمُ والرِّضَا»(4).
وقَال (عليه السلام): «الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ يُهَوِّنُ عَظِيمَ الرَّزَايَا»(5).
مسألة: يستحب الأمر بالصبر، إضافة إلى الأمر بالرضا، وخاصة في المصائب الكبيرة، وقولها لعلي (عليهما السلام) دليل على أن المصيبة بلغت الغاية في
ص: 240
الفداحة، كما لا يخفى.
ثم إن مرحلة الرضا أعظم من مرحلة الصبر، فإذ رضي الإنسان بقضاء الله سبحانه كان أجره أعظم، أما إذا صبر بدون الرضا القلبي فإنه أقل أجراً بالنسبة إلى الراضي في الآخرة، بالإضافة إلى أنه قد تفوته منافع عديدة في الدنيا، فالرضا يوجب اطمئنان النفس وسكينة الروح وهدوء البال، وكل ذلك مما يؤثر في صحة الإنسان وسلامته، وتقدم الإلماع إلى أن كل واحد من الروح والبدن يؤثر أحدهما في الآخر في كثير من الموارد، كما أنهما يؤثران في العقل وكماله ويتأثران به.
قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «حَقُّ اللهِ عَليْكُمْ فِي اليُسْرِ البِرُّ والشُّكْرُ، وفِي العُسْرِ الرِّضَا والصَّبْرُ»(1).
وقَال (عليه السلام): «مَنْ أَحْسَنَ رِضَاهُ بِالقَضَاءِ حَسُنَ صَبْرُهُ عَلى البَلاءِ»(2).ورُوِيَ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) سَأَل رَبَّهُ سُبْحَانَهُ ليْلةَ المِعْرَاجِ فَقَال: يَا رَبِّ أَيُّ الأَعْمَال أَفْضَل، فَقَال اللهُ تَعَالى: ليْسَ شَيْ ءٌ أَفْضَل عِنْدِي مِنَ التَّوَكُّل عَليَّ والرِّضَا بِمَا قَسَمْت»(3).
ص: 241
قالت فاطمة (عليها السلام): «أخبرني النبي (صلى الله عليه وآله) أنه مقبوض فبكيت، ثم أخبرني أن بنيّ سيصيبهم بعدي شدة فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت»(1).
------------------------
مسألة: يجوز البكاء للخبر المحزن، والجواز هنا بالمعنى الأعم فيشمل الاستحباب والوجوب، كل في مورده.
وبكاؤها (صلوات الله عليها) دليل على جواز البكاء على النبي (صلى الله عليه وآله) بل على رجحانه، وبكاؤها ثانياً يدل على جواز البكاء على الشدائد التي أصابت أهل البيت (عليهم السلام)، ويدل أيضاً على جواز البكاء على المصاب المتوقع المستقبلي.
كما أن تقرير النبي (صلى الله عليه وآله) لبكائها (عليها السلام) يدل على ذلك كله.
ثم إنه لا منافاة بين ما ذكر في هذا الخبر، وبين ما ذكر في الأخبارالأخر،
ص: 242
لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر بالأمرين أي: بما يلاقيها (عليها الصلاة والسلام) من الشدة، وبما يلاقي أبناءها أيضاً، وأن من الحكمة أن ينقل الناقل في كل مرة بعض الحديث مما يناسب المقام.
ثم إن البكاء حالة ممدوحة، فإنه دليل الكمال، كما أنه سبيل الكمال، ومنه البكاء من خوف الله تعالى.
والبكاء غير الجزع، فلا يكون مكروهاً لذلك، بل حتى وإن كان بعض البكاء جزعاً فإنه مطلوب في مصاب العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم) بل هو من أفضل المستحبات، كما تقدم الإلماع إلى ذلك.
قال تعالى: «أُولئِكَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومِمَّنْ حَمَلنا مَعَ نُوحٍ ومِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهيمَ وإِسْرائيل ومِمَّنْ هَدَيْنا واجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَليْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيًّا»(1).
وعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) لأَبِي بَصِيرٍ: «إِنْ خِفْتَ أَمْراً يَكُونُ أَوْ حَاجَةً تُرِيدُهَا فَابْدَأْ بِاللهِ ومَجِّدْهُ وأَثْنِ عَليْهِ كَمَا هُوَ أَهْلهُ، وصَل عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وسَل حَاجَتَكَ وتَبَاكَ ولوْ مِثْل رَأْسِ الذُّبَابِ، إِنَّ أَبِي (عليه السلام) كَانَ يَقُول إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنَ الرَّبِّ عَزَّ وجَل وهُوَ سَاجِدٌبَاكٍ»(2).
وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَوْحَى اللهُ إِلى مُوسَى (عليه السلام) أَنَّ عِبَادِي لمْ يَتَقَرَّبُوا إِليَّ بِشَيْ ءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ ثَلاثِ خِصَال، الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، والوَرَعِ عَنِ
ص: 243
المَعَاصِي، والبُكَاءِ مِنْ خَشْيَتِي، فَقَال مُوسَى: يَا رَبِّ فَمَا لمَنْ صَنَعَ ذَلكَ، قَال اللهُ تَعَالى: أَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فَأُحَكِّمُهُمْ فِي الجَنَّةِ، وأَمَّا المُتَوَرِّعُونَ عَنِ المَعَاصِي فَمَا أُحَاسِبُهُمْ، وأَمَّا البَاكُونَ مِنْ خَشْيَتِي فَفِي الرَّفِيقِ الأَعْلى»(1).
وَقَال (عليه السلام): «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْل الذُّبَابِ مِنَ الدَّمْعِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ آمَنَهُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَلى النَّارِ»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ولوْ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ ولوْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ البَحْرِ»(4).
مسألة: يجوز الضحك للخبر المفرح.
فإن الضحك مطلقاً جائز إذا لم يؤد إلى محرم، كالتشجيع على المعصية أو الازدراء بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، أو إهانة المؤمن وهتكه وما أشبه.
وربما استحب الضحك أو التبسم للخبر المفرح، كما فيما كان مصداقاً
ص: 244
لقوله (عليها السلام) «يفرحون لفرحنا»(1).
ولا يخفى أن كل ما صدر منهم (عليهمالسلام) فإنه يحمل على أفضل وجه، فقد ذكرنا في بعض المباحث أن المعصوم (عليه السلام) وخاصة النبي وآله الطاهرين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) لا يصدر منه حتى ترك الأولى، فكل ما يأتي به هو الصواب بل أفضل وجوهه، التزاماً بمثل قوله تعالى: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها»(2)، وهو مقتضى الإمامة بقول مطلق، قال تعالى: «إِنِّي جاعِلكَ للنَّاسِ إِماماً»(3)، وقال سبحانه: «وَاجْعَلنا للمُتَّقينَ إِماماً»(4)، وكون المرء إماماً في كل الجهات أنه أولى وأفضل من غيره في كلها، ومنه كونه إماماً في اتخاذ الأحسن مطلقاً.
ثم الظاهر من قولها (عليها السلام) فضحكت هو التبسم، كما سبق.
مسألة: يستحب بيان ما ورد على ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) من الشدة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، تأسياً به (صلى الله
ص: 245
عليه وآله) في بيانه ذلك، وقد سبق.
عَنِ الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)قَال: قَال لفُضَيْل: تَجْلسُونَ وَ تُحَدِّثُونَ، قَال: نَعَمْ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: «إِنَّ تِلكَ المَجَالسَ أُحِبُّهَا فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل فَرَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَهُ وَلوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ»(1).
ص: 246
روي أنه رأت فاطمة (عليها السلام) في منامها النبي (صلى الله عليه وآله)، قالت: فشكوت إليه ما نالنا من بعده، قالت: فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لكم الآخرة التي أعدت للمتقين، وإنك قادمة علي عن قريب»(1).
------------------------
مسألة: يستحب الشكاية إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد وفاته، فإنه حي عند ربه مرزوق، يرى ويسمع، ويغيث الملهوف، ويقضي الحوائج بإذن الله تعالى، كما تستحب الشكاية إلى الله عزوجل.
قَال (عليه السلام): «مَنْ شَكَى إِلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ شَكَى إِلى اللهِ، ومَنْ شَكَى إِلى مُخَالفٍ فَقَدْ شَكَى اللهَ»(2).
وفي حديث عليّ (عليه السلام): «أشكوإلى الله عجري وبجري»(3).
ص: 247
وعنه (عليه السلام) قال: «وَاللهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِليْنَا يَا مُفَضَّل مَعَاشِرَ الأَئِمَّةِ ونَحْنُ بَيْنَ يَدَيْ جَدِّنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَشْكُوا إِليْهِ مَا نَزَل بِنَا مِنَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ، ومَا نَالنَا مِنَ التَّكْذِيبِ والرَّدِّ عَليْنَا وسَبِّنَا ولعْنِنَا وتَخْوِيفِنَا بِالقَتْل، وقَصْدِ طَوَاغِيتِهِمُ الوُلاةِ لأُمُورِهِمْ إِيَّانَا مِنْ دُونِ الأُمَّةِ، وتَرْحِيلنَا عَنْ حَرَمِهِ إِلى دِيَارِ مُلكِهِمْ، وقَتْلهِمْ إِيَّانَا بِالحَبْسِ وبِالسَّمِّ وبِالكَيْدِ العَظِيمِ، فَيَبْكِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ويَقُول: يَا بُنَيَّ مَا نَزَل بِكُمْ إلاّ مَا نَزَل بِجَدِّكُمْ قَبْلكُمْ، ولوْ عَلمَتْ طَوَاغِيتُهُمْ ووُلاتُهُمْ أَنَّ الحَقَّ والهُدَى والإِيمَانَ والوَصِيَّةَ والإِمَامَةَ فِي غَيْرِكُمْ لطَلبُوهُ.
ثُمَّ تَبْتَدِئُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بِشَكْوَى مَا نَالهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، مِنْ أَخْذِ فَدَكَ مِنْهَا ومَشْيِهَا إِليْهِمْ فِي مَجْمَعِ الأَنْصَارِ والمُهَاجِرِينَ وخِطَابِهَا إِلى أَبِي بَكْرٍ فِي أَمْرِ فَدَكَ، ومَا رَدَّ عَليْهَا مِنْ قَوْلهِ: إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لا وَارِثَ لهُمْ، واحْتِجَاجِهَا عَليْهِ بِقَوْل اللهِ عَزَّ وجَل بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا ويَحْيَى: «فَهَبْ لي مِنْ لدُنْكَ وَليًّا * يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْآل يَعْقُوبَ واجْعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا»(1) وقَوْلهِ بِقِصَّةِ دَاوُدَ وسُليْمَانَ: «ووَرِثَ سُليْمانُ داوُدَ»(2)، وقَوْل عُمَرَ لهَا: هَاتِي صَحِيفَتَكِ التِي ذَكَرْتِ أَنَّ أَبَاكِ كَتَبَهَا لكِ عَلى فَدَكَ وإِخْرَاجِهَا الصَّحِيفَةَ وأَخْذِ عُمَرَ إِيَّاهَا مِنْهَا ونَشْرِهِ لهَا عَلى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ مِنْ قُرَيْشٍ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ وسَائِرِ العَرَبِ وتَفْلهِ فِيهَا وعَرْكِهِ لهَا وتَمْزِيقِهِ إِيَّاهَا، وبُكَاءِهَا ورُجُوعِهَا إِلى قَبْرِ أَبِيهَا (صلى الله عليه وآله) بَاكِيَةً تَمْشِي عَلى رَمْضَاءَ وقَدْ أَقْلقَتْهَا واسْتِغَاثَتِهَا بِأَبِيهَا»(3).
ص: 248
الظاهر أن سر تعدد شكوى الصديقة (عليها السلام) وتكرر بثها آلامها، هو فضح الظالمين، وتسجيل الظلامات للأجيال القادمة، والحيلولة دون محاولات القوم لطمس الحقائق، بل تغيير الوقائع، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الله تعالى جعل معادن ومخازن ومنابع لكل شيء في الماديات والمعنويات، ففي الماديات هنالك معدن للذهب، ومنجم للألماس وشبه ذلك، كما أن البحار هي مخازن للمياه والأسماك وهكذا، وكذلك المعنويات، فهنالك مخازن للعلم كما قال تعالى: «بَل هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الذينَ أُوتُوا العِلمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلاّ الظَّالمُون»(1)، وهناك مخازن ومعادن ومظاهر للأخلاق والورع والفضيلة والصبر والرضا بالقضاء(2)، وهكذا.
وقد جعل الله تعالى سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) مظهراً لا نظير له، لرفض الظلم ومقارعة الظالم، وذلك بواسطة سلاحي الكلمة والعاطفة، فسلاح الكلمة تجلى في خطبتها في المسجد وغيرها، وسلاح العاطفة تجلى في شكاواها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)وبكائها، حال حياته وبعد استشهاده.
وبذلك يظهر أن تكرار شكاواها من القوم في كل محفل ومجلس، خاص أو عام، في اليقظة والمنام، كان على أبلغ وجوه الحكمة.
ص: 249
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (عليها السلام) شكت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما نالها من بعده، فإن شكواها حجة على القوم، وفيها إبطال الباطل وإحقاق الحق، وبيانه أيضاً نوع انتصار للمظلوم، ونوع تبكيت للظالم(1).
خاصة إذا قورنت بما ورد في حقها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ فَاطِمَةَ شِجْنَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا، ويَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا، وإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى ليَغْضَبُ لغَضَبِ فَاطِمَةَ، ويَرْضَى لرِضَاهَا»(2).
مسألة: يستحب بيان أن الآخرة التي أعدت للمتقين هي لأهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم سادة المتقين وقادتهم وأئمتهم.
عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى اللهعليه وآله) يقول: «أنا سيد النبيين، وعلي سيد الوصيين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، والأئمة بعدهما سادة المتقين، ولينا ولي الله وعدونا عدو الله، وطاعتنا طاعة الله، ومعصيتنا معصية الله»(3).
ص: 250
وفي الزيارة: «السَّلامُ عَليْكُمْ أَئِمَّةَ المُؤْمِنِينَ، وسَادَةَ المُتَّقِينَ، وكُبَرَاءَ الصِّدِّيقِينَ، وأُمَرَاءَ الصَّالحِينَ، وقَادَةَ المُحْسِنِينَ، وأَعْلامَ المُهْتَدِينَ، وأَنْوَارَ العَارِفِينَ، ووَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ، وصَفْوَةَ الأَوْصِيَاءِ، وشُمُوسَ الأَتْقِيَاءِ، وبُدُورَ الخُلفَاءِ، وعِبَادَ الرَّحْمَنِ، وشُرَكَاءَ القُرْآنِ، ومَنْهَجَ الإِيمَانِ، ومَعَادِنَ الحَقَائِقِ، وشُفَعَاءَ الخَلائِقِ، ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ»(1).
مسألة: ما يراه المعصوم (عليه السلام) في المنام حجة شرعاً.
فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) لا يرون الباطل في المنام، ولا يتمثل لهمالشيطان في منامهم، أما ما ورد من أن فاطمة (عليها السلام) رأت في المنام أنهم أكلوا شاةً فماتوا، وأن جبرئيل (عليها السلام) قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد هذا شيطان يقال له الدهار، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ويؤذي المؤمنين يا يغتمون به)(2)، فإن صح السند، ولم يُطرح لمعارضته بالأقوى، فلعله
ص: 251
ص: 252
كان لأجل التنبيه على شيء أهم(1)، وهو أن لا يحزن الإنسان بما يراهفي المنام إذا كان مرعباً أو مخيفا أو سيئاً، فإن كثيراً من الناس يتأذى بالمنام السيء كثيراً ويتطير بالشر، فالقصة كانت من باب التعليم(2)، كما ذكرنا مثل ذلك في قصة الإمامين الحسنين (عليهما الصلاة والسلام) حيث توضئا لتعليم الشيخ، بل ذكرنا في (التفسير) احتمال أن تكون قصة موسى والخضر (عليهما السلام) أيضاً من باب التعليم لا من باب الجد، على تفصيل ذكرناه هناك.
عَنِ الوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «رَأَيْتُ أَبِي (عليه
ص: 253
السلام) فِي المَنَامِ فَقَال: يَا بُنَيَّ إِذَا كُنْتَ فِي شِدَّةٍ فَأَكْثِرْ أَنْ تَقُول: يَا رَءُوفُ يَا رَحِيمُ، والذِي تَرَاهُ فِي المَنَامِ كَمَا تَرَاهُ فِي اليَقَظَة»(1).وقال إِسْحَاقُ عَنِ الأَقْرَعِ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَسْأَلهُ عَنِ الإِمَامِ هَل يَحْتَلمُ، وقُلتُ فِي نَفْسِي: بَعْدَ مَا فَصَل الكِتَابُ الاحْتِلامُ شَيْطَنَةٌ وقَدْ أَعَاذَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى أَوْليَاءَهُ مِنْ ذَلكَ، فَوَرَدَ الجَوَابُ: «حَال الأَئِمَّةِ فِي المَنَامِ حَالهُمْ فِي اليَقَظَةِ، لا يُغَيِّرُ النَّوْمُ مِنْهُمْ شَيْئاً، وقَدْ أَعَاذَ اللهُ أَوْليَاءَهُ مِنْ لمَّةِ الشَّيْطَانِ كَمَا حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «طَلبَ أَبُو ذَرٍّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقِيل لهُ: إِنَّهُ فِي حَائِطِ كَذَا وكَذَا، فَمَضَى يَطْلبُهُ فَدَخَل إِلى الحَائِطِ والنَّبِيُّ نَائِمٌ، فَأَخَذَ عَسِيباً يَابِساً وكَسَرَهُ ليَسْتَبْرِئَ بِهِ نَوْمَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: فَفَتَحَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) عَيْنَهُ وقَال: أَتَخْدَعُنِي عَنْ نَفْسِي يَا أَبَا ذَرٍّ، أَ مَا عَلمْتَ أَنِّي أَرَاكُمْ فِي مَنَامِي كَمَا أَرَاكُمْ فِي يَقَظَتِي»(3).
وعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «الأَنْبِيَاءُ عَلى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ، مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ الصَّوْتَ مِثْل صَوْتِ السِّلسِلةِ فَيَعْلمُ مَا عُنِيَ بِهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُنَبَّأُ فِي مَنَامِهِ مِثْليُوسُفَ وإِبْرَاهِيمَ، ومِنْهُمْ مَنْ يُعَايِنُ، ومِنْهُمْ مَنْ يُنْكَتُ فِي قَلبِهِ، ويُوقَرُ فِي أُذُنِهِ»(4).
ص: 254
روي أنه لما حضرت الصديقة فاطمة (عليها السلام) الوفاة دعت علياً (صلوات الله عليه)، فقالت: إما تضمن وإلاّ أوصيت إلى ابن الزبير، فقال علي (عليه السلام): أنا أضمن وصيتك يا بنت محمد، قالت: سألتك بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أنا مت إلاّ يشهداني ولا يصليا علي، قال: فلكِ ذلك(1).
-------------------------
مسألة: يحق للمعصوم (عليه السلام) أن يوصي بأن لا يحضر جنازته من لا يرغب بحضوره، كالمنافقين، ويجب تنفيذ ذلك.
أما غير المعصوم حتى العلماء العدول، فليس ذلك من حقوقهم، ولا يلزم تنفيذ مثل هذه الوصية، فإذا وصى شخص بأن لا يحضر فلان جنازته ولا يشارك فيتشييعه، فإنه ليس مما يجب العمل به ورعايته، بل الناس أحرار في حضورهم
ص: 255
الجنازة وعدم الحضور، لإطلاق (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم).
فإذا قال شخص غير المعصوم: إني لا أرضى أن يحضر ابن عمي أو أحد أقربائي أو فلان جنازتي، لا يجب على ذلك الشخص الالتزام بمثل هذه الوصية، وكذلك لو قال إمام الجماعة: إني لا أرضى أن يحضر صلاة جماعتي فلان، أو قال مرجع التقليد: إني لا أرضى أن يقلدني فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن هذه الأوامر والوصايا لا يلزم تنفيذها، إذ لا ولاية له على غيره.
نعم إذا وصى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أو الصديقة الزهراء (عليها السلام) أو سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) بهذه الوصايا فالواجب تنفيذها، إذ ليس الأمر فيهم كالأمر في غيرهم، فإن لهم (صلوات الله عليهم) الولاية المطلقة دون غيرهم، ويدل عليه قوله تعالى: «أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُول وأُولي الأَمْرِ ِمِنْكُم»(1)، فإن لزوم طاعتهم عام شامل في كل شيء كإطاعة الله تعالى، وقد ذكرنا تفصيله في بحث البيع في باب الولاية.ثم إن تكليف الوصي يختلف عن تكليف غيره، فإذا أوصى إنسان عادي بمثل ذلك وقبل الوصي وأمكنه أن يفعل ما يوجب التنفيذ بأن يذهب بالجنازة في طريق لا يعلم به ذلك الشخص الموصى بعدم حضوره، وجب عليه ذلك(2)، فإنه ليس تصرفاً في حق إنسانٍ آخر حتى ينافي: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، بل هو مقتضى (الناس مسلطون) فإنه تنفيذ للوصية بلا ضغط على حرية الآخرين المشروعة في حدودها الإسلامية، وقد ورد التأكيد على تنفيذ
ص: 256
الوصية.
عَنْ عَليِّ بْنِ مَهْزِيَارَ قَال: كَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِلى جَعْفَرٍ ومُوسَى: وفِيمَا أَمَرْتُكُمَا مِنَ الإِشْهَادِ بِكَذَا وكَذَا نَجَاةٌ لكُمَا فِي آخِرَتِكُمَا وإِنْفَاذٌ لمَا أَوْصَى بِهِ أَبَوَاكُمَا وبِرٌّ مِنْكُمَا لهُمَا، واحْذَرَا أَنْ لا تَكُونَا بَدَّلتُمَا وَصِيَّتَهُمَا ولا غَيَّرْتُمَاهَا عَنْ حَالهَا لأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا مِنْ ذَلكَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وصَارَ ذَلكَ فِي رِقَابِكُمَا وقَدْ قَال اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى فِي كِتَابِهِ فِي الوَصِيَّةِ: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذِينَ يُبَدِّلونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ»(1)»(2).وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل أَوْصَى بِمَالهِ فِي سَبِيل اللهِ، قَال: أَعْطِهِ لمَنْ أَوْصَى لهُ بِهِ وإِنْ كَانَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يَقُول: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذِينَ يُبَدِّلونَهُ»(3)»(4).
مسألة: هذا كله في غير العقود الاجتماعية، أما فيها فاللازم العلم بمقتضى العقد، فلو أسس مجموعة من الناس نقابة أو حزباً أو جمعية ووضعوا شروطاً
ص: 257
للانتساب إليها، في قبال الحقوق، فإنه لا يصح أن يدخل شخص نفسه في ذلك التجمع بدون الالتزام بتلك الشروط وبدون رضاهم(1)، وليس هذا من (الوصية) فهو كالاستثناء المنفصل.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المؤمنون عند شروطهم»(2).وقال (صلى الله عليه وآله) : «المسلمون عند شروطهم»(3).
مسألة: ينبغي تحمل المشاكل في طريق الحق، وتحمل المصائب في سبيل الله، كما تحمل أمير المؤمنين (عليه السلام) تبعات تطبيق تلك الوصية الشريفة.
حيث كان العمل بتلك الوصية، يشكل تحدياً كبيراً للسلطات الجائرة، إذ كان يعني سلب شرعيتهم وفضحهم، وإثبات أن السيدة الزهراء (عليها السلام) ماتت ساخطة عليهم، وأنها لم ترض عنهم حتى آخر حياتها بعد أن سخطت عليهم، كما كانوا يحاولون البرهنة على ذلك.
والحاصل أن العمل بتلك الوصية كان يسبب أكبر المحاذير والمخاطر لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، كما حصلت تلك المحاذير حيث أجج ذلك عداء الشيخين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويدل عليه ما فعله النفران صبيحة دفنها إذ فعلوا ما فعلوا.
ص: 258
وعلى كل مؤمن خصوصاً إذا كانإنساناً رفيعاً، أن يتأسى به (صلوات الله عليه) وأن يتحمل مشاكل مقاطعة الظالمين ومقارعتهم وفضحهم، فإنه (صلى الله عليه وآله) قال: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «المَكَارِمُ بِالمَكَارِهِ»(2).
وقال (عليه السلام): «بِالمَكَارِهِ تُنَال الجَنَّةُ»(3).
مسألة: يستحب للزوجة أن توصي إلى زوجها، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها)، هذا في الوصية العهدية، وكذا في الوصية التمليكية للإطلاقات، ولأنه مما يوجب توثيق صلتها به وقربها لديه وزيادة المحبة بينهما وهو محبوب مطلوب شرعاً، كما يستفاد من الروايات الشريفة ذلك.
وقد ذكرنا في الفقه(4) أن الفرقبينهما(5) مجرد اصطلاح.
كما يجوز العكس بأن يوصي الرجل إلى امرأة.
عَنْ عَليِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ رَجُل أَوْصَى إِلى امْرَأَةٍ فَأَشْرَكَ فِي الوَصِيَّةِ مَعَهَا صَبِيّاً، فَقَال: «يَجُوزُ ذَلكَ وتُمْضِي المَرْأَةُ الوَصِيَّةَ ولا يُنْتَظَرُ بُلوغُ الصَّبِيِّ، فَإِذَا بَلغَ الصَّبِيُّ فَليْسَ لهُ أَنْ لا يَرْضَى إلاّ مَا كَانَ مِنْ
ص: 259
تَبْدِيل أَوْ تَغْيِيرٍ فَإِنَّ لهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلى مَا أَوْصَى بِهِ المَيِّتُ»(1).
أَمَّا مَا رَوَاهُ السَّكُونِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «المَرْأَةُ لا يُوصَى إِليْهَا، لأَنَّ اللهَ تَعَالى يَقُول «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالكُمُ»(2)»(3).
فَالوَجْهُ فِي هَذَا الخَبَرِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ نَحْمِلهُ عَلى ضَرْبٍ مِنَ الكَرَاهِيَةِ دُونَ الحَظْرِ، والثَّانِي أَنْ نَحْمِلهُ عَلى التَّقِيَّةِ لأَنَّهُ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ العَامَّةِوإِنَّمَا قُلنَا ذَلكَ لإِجْمَاعِ عُلمَاءِ الطَّائِفَةِ عَلى الفَتْوَى بِمَا تَضَمَّنَهُ الخَبَرُ الأَوَّل(4).
مسألة: يستحب وقد يجب أخذ الضمان في الوصايا المهمة، من باب التأسي بالصديقة (صلوات الله وسلامه عليها) وبجهة المقدمية.
ولا يخفى أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) كانت تعلم بأن علياً (عليه السلام) يعمل بكامل وصيتها وبأفضل ما يمكن، وأنه لا يكون أحد مثل علي (عليه السلام) في تطبيق الوصية، ولكنها أرادت أن تبين للتاريخ أهمية وصيتها، وأن موقفها من الشيخين نهائي لا رجعة فيه.
هذا إضافة إلى أن أخذ الضمان منه (عليه السلام) لعله كان لأجل حفظه (صلوات الله عليه)، فإنه يكون معذوراً عند القوم، نظراً لعمله أيضاً بوصيتها
ص: 260
وأخذها الضمان منه، فلا يتلقى كموقف عنيف من شخصه العظيم.
وبذلك كان الجمع بين الحقين والواجبين، ضرورة مقاطعة الشيخين وفضحهما، وضرورة حفظ الإمام من أن يتعرض بسوء قدر المستطاع.
مسألة: يجوز أو يجب أو يحرم، التعامل والتعاقد مع المكلفين على حسب وضعهم الحالي، من عقل وإسلام وإيمان وعدالة، أو أضدادها، فإن حال التعاقد والتعامل وحال العمل هو المدار، لا ما بعدهما، وإن علم انسلاخه بعدها عما يشترط في صحة العقد أو العمل، أو علم اتصافه بعدها بأضدادها.
ومن ذلك يظهر أن جعلها (صلوات الله عليها) خيار الوصية لابن الزبير، قسيماً للوصية له (صلوات الله عليه) كان على مقتضى القاعدة، لكونه آنذاك مؤمناً مجاهداً، بل إن الأمر في التكوين أيضاً كذلك، ويدل عليه قوله سبحانه: «وَاتْل عَليْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ»(1)، ومن ذلك يظهر حال الشهادة ومرجعية التقليد وغيرها.
ص: 261
مسألة: ينبغي عدم التضييق على الوصي قدر المستطاع ولو بتخييره، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها)، حيث خيرته (عليه السلام) بين أن يضمن الوصية أو أن توصي غيره.
وفي الروايات أن الوصية بالثلث كثير.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) يَقُول: لأَنْ أُوصِيَ بِخُمُسِ مَالي أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلثِ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلثِ فَلمْ يَتَّرِكْ فَقَدْ بَالغَ، قَال: وَقَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي رَجُل تُوُفِّيَ وَأَوْصَى بِمَالهِ كُلهِ أَوْ أَكْثَرِهِ، فَقَال: إِنَّ الوَصِيَّةَ تُرَدُّ إِلى المَعْرُوفِ غَيْرِ المُنْكَرِ، فَمَنْ ظَلمَ نَفْسَهُ وَأَتَى فِي وَصِيَّتِهِ المُنْكَرَ وَالحَيْفَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلى المَعْرُوفِ وَيُتْرَكُ لأَهْل المِيرَاثِ مِيرَاثُهُمْ، وَقَال: مَنْ أَوْصَى بِثُلثِ مَالهِ فَلمْ يَتَّرِكْ وَقَدْ بَلغَ المَدَى، ثُمَّ قَال لأَنْ أُوصِيَ بِخُمُسِ مَالي أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ»(1).
مسألة: يستحب قبول الوصية والوعد بالعمل بها، حتى إن كان فيها المشقة والعناء في الجملة، فإنه قضاء حاجة مؤمن، وإدخال السرور على قلبه، إضافة للأدلة الخاصة.
ص: 262
عَنْ عَليِّ بْنِ الرَّيَّانِ قَال: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام): رَجُل دَعَاهُ وَالدُهُ إِلى قَبُول وَصِيَّتِهِ هَل لهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُول وَصِيَّةِ وَالدِهِ، فَوَقَّعَ (عليه السلام): «ليْسَ لهُ أَنْ يَمْتَنِعَ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي الرَّجُل يُوصِي إِلى الرَّجُل بِوَصِيَّةٍ فَيَكْرَهُ أَنْ يَقْبَلهَا، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لا يَخْذُلهُ عَلى هَذِهِ الحَال»(2).
مسألة: يجب أن لا يقر الظالم على ظلمه، ويلزم أن يفضح، خاصة إذا كان ظلمه مرتبطاً بمسألة الولاية، فإن الصديقة فاطمة (عليها السلام) بموقفهاوبوصيتها المؤكدة أرادت أن تفرز الحق من الباطل إلى يوم القيامة، وتفضح الطغاة وغاصبي الخلافة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم»(3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا وَعَظَ اللهُ بِهِ أَوْليَاءَهُ مِنْ سُوءِ ثَنَائِهِ عَلى الأَحْبَارِ، إِذْ يَقُول: «لوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبارُ عَنْ قَوْلهِمُ الإِثْمَ»(4)، وقَال: «لعِنَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيل» إِلى قَوْلهِ:
ص: 263
«لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلونَ»(1)، وإِنَّمَا عَابَ اللهُ ذَلكَ عَليْهِمْ لأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مِنَ الظَّلمَةِ الذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ المُنْكَرَ والفَسَادَ فَلا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلك»(2).
وقال (عليه السلام): «العُلمَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ خَانَةٌ إِنْ كَتَمُوا النَّصِيحَةَ، إِنْ رَأَوْا تَائِهاً ضَالا لا يَهْدُونَهُ، أَوْ مَيِّتاً لا يُحْيُونَهُ، فَبِئْسَ مَا يَصْنَعُونَ، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى أَخَذَ عَليْهِمُ المِيثَاقَ فِي الكِتَابِأَنْ يَأْمُرُوا بِالمَعْرُوفِ وبِمَا أُمِرُوا بِهِ، وأَنْ يَنْهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وأَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى، ولا يَتَعَاوَنُوا عَلى الإِثْمِ والعُدْوان»(3).
مسألة: يستحب للإنسان إذا أراد أن يسأل شيئاً من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسأله بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه أقرب للإجابة، ويشمل ذلك الحاجات التي تطلبها الناس الآن منه (صلوات الله عليه) فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وهل المراد حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام)، أو حقه عليها (عليهما السلام)، أو حقه على الأمة، أو حقه على الخلق كلهم، الظاهر الأول، لمناسبة الحكم والموضوع(4).
ص: 264
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) كانت غاضبة عليهما، ولم ترض عنهما أبداً، وقد يجب ذلك، كما فيما إذا توقفت الهداية عليه، مراعياً في ذلك موازين التقية.
ثم إن قولها (عليها السلام): (ألا يشهداني ولا يصليا علي) يحتمل فيه أن يكون تقية من الرواة أو أحدهم أو الكاتب والمستنسخ، إذ يستبعد تقيتها (صلوات الله عليها) من ذكر اسمهما، لأنها جاهرت ببغضهما وكراهتهما حتى في وجههما، فكيف بذكرهما في وصيتها، نعم يحتمل أن لا تكون ذكرت الأسماء كراهة التلفظ باسم الأعداء، والله العالم.
مسألة: يلزم على من يقارع الظلمة أن يصمد حتى آخر أنفاسه، بل وأن يحافظ على جهاده وثمرات جهاده حتى بعد وفاته، بالتخطيط والوصية والكتابة وغير ذلك، كما صنعت الصديقة الطاهرة (عليها
السلام)، فلا يتوهم أن بالموت ينتهي تكليف مقارعة الظالم، فإنه وإن صح أنه لا تكليف بعد الموت إلاّ أنه لا ينفي وجوب ما يمتد تأثيره لما بعدالموت في حال(1) الحياة.
كما أن في ذلك عبرة للمجاهدين، فإن كثيراً منهم يستسلمون في أواخر أعمارهم ويتراجعون عن النهي عن المنكر أو عن مقارعة الظالم، إما لتعب أو
ص: 265
نصب، أو إغراء أو حتى شبهة، فإن أعوان الظلمة ووعاظ السلاطين جرى ديدنهم على محاولة خداع المجاهدين، إما بإلقاء شبهة حول جهادهم، كإقناعهم بلغويته وعدم فائدته، أو حتى محاولة تبرأة السلطان وأعوانه من الظلم وأنهم معذورون، أو بعنوان الأهم والمهم، أو غير ذلك.
كما جرى دأب أعوان الظلمة على تهديد المجاهدين أو استمالتهم بالمال أو المنصب أو الشهرة أو بعض المنافع الأخرى، ولذا فإن من الضروري جداً تنبيه المجاهدين والناهين عن المنكر بما فعلته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) من الجهاد والصمود رغم كل المصائب والمصاعب حتى استشهدت في سبيل الله.
قال (عليه السلام): «وكُونَا للظَّالمِ خَصْماً، وللمَظْلومِ عَوْناً»(1).
ص: 266
في حديث مرض الصديقة فاطمة (عليها السلام) أنها قالت:
«يا بن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني...».
ثم قالت: «جزاك الله عني خير الجزاء يا بن عم، أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لابد لهم من النساء...».
ثم قالت: «أوصيك يا بن عم، أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوروا صورته».
فقال لها: «صفيه إليّ»، فوصفته، فاتخذه لها، فأول نعش عمل في وجه الأرض ذلك، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحد.
ثم قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقي، فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا تترك أن يصلي عليّ أحد منهم، ولا من أتباعهم، وادفني في الليل، إذا هدأت العيون، ونامت الأبصار»(1).
------------------------
ص: 267
مسألة: يجوز وصية الزوجة الزوج بالتزويج بعدها بامرأة خاصة.
والجواز هنا بالمعنى الأعم على ما عرفت، ووصيتها (عليها السلام) تدل على الرجحان، ومنه يعرف جواز الوصية على عكسه(1) بالعدم، بأن لا يتزوج من فلانة مثلاً.
وكذا بالنسبة إلى الزوج، فيوصي زوجته أن تتزوج بعده بفلان، أو لا تتزوج بفلان.
والوصية بالتزويج راجحة نظراً لاستحباب الزواج في حد ذاته، واستحباب السعي في ذلك، والوصية بالمستحب راجح، خاصة في بعض المجتمعات التي لها تقاليد على خلاف الزواج، حيث تضغط المرأة على نفسها، أو تضغط أسرتها أو أسرة زوجها أو عشيرتها عليها كي لا تتزوج بعد وفاة زوجها أبداً، أو إلاّ بعد مضي فترة طويلة كسنة أو أكثر، فإن كل ذلك مرجوح، ولو سبب لها أو لأولادها الضر والإيذاء فحرام على مرتكبه.والظاهر أنه إذا قبل أحدهما وصية الآخر ولم يُبلغه الرد وجب التنفيذ ولزمته الوصية، لبعض الروايات، وكذا لو رد بعد الوفاة فإنه لا أثر لرده وعليه العمل(2)، لإطلاقات الوصية.
ص: 268
وعلى أي، فإن للموصى إليه رد الوصية وإن كان قد قبلها ما دام الموصي حياً، بشرط أن يبلغه الرد، كما ذكرناه في كتاب الوصية(1).
مسألة: تجوز الوصية باتخاذ النعش أو التابوت أو العماري أو ما أشبه، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) في مورده، وملاكاً في غيره، ولأن كل ذلك داخل في عموم الوصايا الجائزة بالمعنى الأعم على ما تقدم.ووجه الاستحباب أن فيه صوناً للمؤمن وإكراماً له وتعظيماً وستراً.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «للهِ عَزَّ وجَل فِي بِلادِهِ خَمْسُ حُرَمٍ، حُرْمَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وحُرْمَةُ آل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وحُرْمَةُ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَل، وحُرْمَةُ كَعْبَةِ اللهِ، وحُرْمَةُ المُؤْمِنِ»(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً سوياً»(3).
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْرَمَ مُؤْمِناً فَإِنَّمَا يُكْرِمُ اللهَ عَزَّ وجَل»(4).
ص: 269
مسألة: تجوز الوصية بالدفن ليلاً، وأما أصل الجواز لشمولها عمومات الوصية.
كما يجوز الوصية بالدفن نهاراً ، أو صباحاً ، أو مساءً، أو ظهراً، أو بعد أيام إذا لم يوجب ذلك إهانة للميت المحترم بتعفن الجسد مثلاً، وإلا فليس للإنسان الحق في أن يوصي بالتأخير حتى يتعفن جسده، فإنه من الهتك والإذلال، وفي الحديث: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى فَوَّضَ إِلى المُؤْمِنِ كُل شَيْ ءٍ إلاّ إِذْلال نَفْسِهِ»(1).
وأما ما تعارف في هذه الأزمنة من وضع الجسد في الثلاجة المخصصة للأموات، تمهيداً لنقله إلى العتبات العاليات، أو لغير ذلك من الأغراض العقلائية، فهو جائز بالمعنى الأعم، مراعياً عدم الهتك لطول مدة وغيره، فتأمل، وقد أجاز بعض الفقهاء ذلك حتى مع طول المدة وما أشبه.
مسألة: مخالفة الزوجة زوجها حرام فيالأمور الواجبة عليها، وقد حصرها الفقهاء في أمرين: الاستفراش، والخروج بدون إجازته، لكنا ذكرنا في (الفقه) أن المتيقن من حرمة المخالفة في الأمر الثاني هو فيما إذا لم يكن الزوج مانعاً عن صلة رحمها وما أشبه، فاللازم صدق المعاشرة بالمعروف.
ص: 270
وذكرنا هناك أن ما روي من أن امرأة سافر زوجها، فأمرها رسول الله (صلى
الله عليه وآله) أن لا تخرج من بيتها، فمرض أبوها إلى أن مات، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تخرجي من البيت(1)،فإن ذلك من قبيل ما لا نعرف وجهه، إذ لعله كان حكماً لعنوان ثانوي(2)، لمصلحة مزاحمة أهم، وربما كان المقصود بيان أهمية طاعة الزوج وما أشبه، لا عدم جواز الخروج كحكم عام أولي لمثل هذه الأمور.
أما الاستفراش فواجب عليها إطاعته مطلقاً إلاّ ما خالف الشرع أو لزم منه الضرر المرفوع بلا ضرر وما أشبه.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأَةِ؟ فَقَال لهَا: أَنْ تُطِيعَهُ ولا تَعْصِيَهُ، ولا تَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِهِ إلاّ بِإِذْنِهِ، ولا تَصُومَ تَطَوُّعاً إلاّ بِإِذْنِهِ
ص: 271
، ولا تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا وإِنْ كَانَتْ عَلى ظَهْرِ قَتَبٍ، ولا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلاّ بِإِذْنِهِ، وإِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لعَنَتْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ ومَلائِكَةُ الغَضَبِ ومَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلى بَيْتِهَا. فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلى الرَّجُل؟ قَال: وَالدُهُ. فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلى المَرْأَةِ؟ قَال: زَوْجُهَا. الحديث(1).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ وزَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ فِي حَقٍّ، لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا، وأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لغَيْرِ زَوْجِهَا لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ طِيبِهَا كَغُسْلهَا مِنْ جَنَابَتِهَا»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثَةٌ لا يُرْفَعُ لهُمْ عَمَل، عَبْدٌ آبِقٌ، وامْرَأَةٌ زَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ، والمُسْبِل إِزَارَهُ خُيَلاءَ»(3).
مسألة: خيانة الزوجة زوجها حرام، سواء في نفسها أو في ماله ومنزله وبستانه أو سائر أماناته وشؤونه، كما في ائتمانه إياها على أولاده، وكائتمانه إياها على أسراره.
وكذلك العكس، فلا يجوز للزوج خيانة زوجته بما يخالف الشرع، فالخيانة محرمة مطلقاً، لإطلاق أدلة حرمتها.
ص: 272
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُول وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلمُون»(1).
قال (عليه السلام): «رَأْسُ النِّفَاقِ الخِيَانَةُ»(2).
وقال (عليه السلام): رَأْسُ الكُفْرِ الخِيَانَةُ»(3).
قال (عليه السلام): «إِيَّاكَ والخِيَانَةَ فَإِنَّهَا شَرُّ مَعْصِيَةٍ، وإِنَّ الخَائِنَ لمُعَذَّبٌ بِالنَّارِ عَلى خِيَانَتِهِ»(4).
نعم خيانة الزوجة زوجها أشد حرمة، خاصة في الخيانة الزوجية بالمعنى المعهود.
قال (صلى الله عليه وآله): «وَأَمَّا العَنْكَبُوتُ فَمُسِخَتْ لأَنَّهَا كَانَتْ خَائِنَةً للبَعْل وكَانَتْ تُمَكِّنُ فَرْجَهَا سِوَاهُ»(5).
وقال (صلى الله عليه وآله): «وَأَمَّا العَنْكَبُوتُ فَكَانَتِ امْرَأَةً تَخُونُ زَوْجَهَا»(6).
ص: 273
مسألة: الكذب على الزوج حرام، بل مطلقاً.
وربما يكون الوجه في تأكيد الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) في وصيتها هذه الأمور: (ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني) هو أن تُتخذ أسوة للنساء في ذلك.
لوضوح أن كثيراً من الزوجات يخالفن الزوج، وبعض الزوجات يخُنّ الزوج، وكثيراً من الزوجات يكذبن على الزوج وما أشبه، وإلا فالموصية والوصي (صلوات الله عليهما) أبر وأتقى من كل ذلك.
ونظيره وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسنين (عليهما السلام) بقوله: «أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ وأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا ولا تَأْسَفَا عَلى شَيْ ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا وقُولا بِالحَقِّ واعْمَلا للأَجْرِ وكُونَا للظَّالمِ خَصْماً وللمَظْلومِ عَوْناً أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلدِي وأَهْلي ومَنْ بَلغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللهِ ونَظْمِ أَمْرِكُمْ وصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا صلى الله عليه وآله يَقُول صَلاحُ ذَاتِ البَيْنِ أَفْضَل مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ والصِّيَام»(1).
ص: 274
مسألة: الخيانة المحرمة أعم من خيانة البصر بالنظر، أو خيانة السمع أو اللمس أو سائر الجوارح، ومن معاني الخيانة: المالية وغيرها.
وأيضاً هي أعم من خيانة الشخص والأسرة والجماعة والحزب والعشيرة والأمة والدولة، فكل ما هو خيانة شرعاً فهو حرام.
أما الخيانة العرفية فبحسب مواردها.
وهذه نماذج من الخيانة بالمعنى الأعم:
عن أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ، العَرَبَ بِالعَصَبِيَّةِ، والدَّهَاقِينَ بِالكِبْرِ، والأُمَرَاءَ بِالجَوْرِ، والفُقَهَاءَ بِالحَسَدِ، والتُّجَّارَ بِالخِيَانَةِ، وأَهْل الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْل»(1).
وفي الرواية: «يَا دَاوُدُ نُحْ عَلى خَطِيئَتِكَ كَالمَرْأَةِ الثَّكْلى عَلى وَلدِهَا، لوْ رَأَيْتَ الذِينَ يَأْكُلونَ النَّاسَ بِأَلسِنَتِهِمْ وقَدْ بَسَطْتُهَا بَسْطَ الأَدِيمِ وضَرَبْتُ نَوَاحِيَ أَلسِنَتِهِم بِمَقَامِعَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ سَلطْتُ عَليْهِمْ مُوَبِّخاً لهُمْ يَقُول: يَا أَهْل النَّارِ هَذَافُلانٌ السَّليطُ فَاعْرِفُوهُ كَمْ رَكْعَةٍ طَوِيلةٍ فِيهَا بُكَاءٌ بِخَشْيَةٍ قَدْ صَلاهَا صَاحِبُهَا لا تُسَاوِي عِنْدِي فَتِيلا حَيْثُ نَظَرْتُ فِي قَلبِهِ فَوَجَدْتُهُ إِنْ سَلمَ مِنَ الصَّلاةِ وبَرَزَتْ لهُ امْرَأَةٌ وعَرَضَتْ عَليْهِ نَفْسَهَا أَجَابَهَا وإِنْ عَامَلهُ مُؤْمِنٌ خَانَهُ»(2).
وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لعَنَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه
ص: 275
وآله) رَجُلا يَنْظُرُ إِلى فَرْجِ امْرَأَةٍ لا تَحِل لهُ، ورَجُلا خَانَ أَخَاهُ فِي امْرَأَتِهِ، ورَجُلا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلى نَفْعِهِ فَسَأَلهُمُ الرِّشْوَةَ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ خَانَ جَارَهُ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ جَعَلهُ اللهُ طَوْقاً فِي عُنُقِهِ مِنْ تُخُومِ الأَرْضِ السَّابِعَةِ حَتَّى يَلقَى اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُطَوَّقاً إلاّ أَنْ يَتُوبَ ويَرْجِع»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ ورَتَعَ فِي الخِيَانَةِ ولمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ ودِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَل بِنَفْسِهِ الخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَل وأَخْزَى، وإِنَّ أَعْظَمَ الخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وأَفْظَعَ الغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ والسَّلامُ»(3).
مسألة: قد يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): (ولا خالفتك منذ عاشرتني) مبغضوية مخالفة الزوج مطلقاً، فهو أعم من البالغ حد الحرمة وعدمه، وسواء أكان في الأمور الشخصية أم في الحياة العائلية أم غيرها، وذلك كله في ما كان مرجوحاً كما لا يخفى.
ويتضح وجه التعميم مع أن له (عليه الصلاة والسلام) خصوصية بالبداهة، وكان كلامها (صلوات الله عليها) بنحو القضية الخارجية، من ضم الروايات التي تتكلم عما هو مطلوب ومحبوب شرعاً من كون الزوجة عليه.
ص: 276
مسألة: يستحب الدعاء للزوج، كما قالت الصديقة (عليها السلام): (جزاك الله عني خير الجزاء يا بن عم).
وهذا إخبار أريد به الإنشاء وهو الدعاء، ومن وجوه الحكمة في ذكر الإنشاء بقالب الإخبار، هو اعتبار المدعو به محقق الوقوع، فإن كان المخبر المنشئ مثلها (صلوات الله عليها) دل على حتمية وقوع المدعو به، وإن كان من عامة الناس دل على آكدية الطلب وشدة الرجاء.
بل الدعاء لمطلق المؤمن مستحب، وفي الحديث:
«أَنَّ اللهَ قَال لمُوسَى (عليه السلام): ادْعُنِي عَلى لسَانٍ لمْ تَعْصِنِي بِهِ، فَقَال: يَا رَبِّ أَنَّى لي بِذَلكَ، قَال: ادْعُنِي عَلى لسَانِ غَيْرِكَ»(1).
ثم إن الملائكة تقول لمن يدعو لغيره: لك مثل ذلك، أو مثلاه، أو أكثروفي بعض الروايات مائة ألف.
والظاهر أن المضاعفة لا تختص فيما لو دعا لواحد، بل لو دعا لاثنين أو عشرة أو ألف أو كل المؤمنين كان له ضعف ذلك(2).
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، عَنْ رَسُول اللهِ (صلى
ص: 277
الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ دَعَا لمُؤْمِنٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ قَال المَلكُ: ولكَ مِثْل ذَلكَ»(1).
وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَسْرَعُ الدُّعَاءِ نُجْحاً للإِجَابَةِ دُعَاءُ الأَخِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ، يَبْدَأُ بِالدُّعَاءِ لأَخِيهِ، فَيَقُول لهُ مَلكٌ مُوَكَّل بِهِ: آمِينَ ولكَ مِثْلاهُ»(2).
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ نَادَاهُمَلكٌ مِنَ السَّمَاءِ: ولكَ مِثْلاهُ»(3).
وعن عَلي عَنْ أَبِيهِ، قَال: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُنْدَبٍ فِي المَوْقِفِ فَلمْ أَرَ مَوْقِفاً كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مَوْقِفِهِ، مَا زَال مَادّاً يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ ودُمُوعُهُ تَسِيل عَلى خَدَّيْهِ حَتَّى تَبْلغَ الأَرْضَ، فَلمَّا صَدَرَ النَّاسُ قُلتُ لهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا رَأَيْتُ مَوْقِفاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ مَوْقِفِكَ، قَال: واللهِ مَا دَعَوْتُ إلاّ لإِخْوَانِي وذَلكَ أَنَّ أَبَا الحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) أَخْبَرَنِي أَنَّ مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ نُودِيَ مِنَ العَرْشِ: ولكَ مِائَةُ أَلفِ ضِعْفٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَ مِائَةَ أَلفٍ مَضْمُونَةً لوَاحِدَةٍ لا أَدْرِي تُسْتَجَابُ أَمْ لا»(4).
ص: 278
وقَال (عليه السلام): «إِذَا دَعَا الرَّجُل لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ نُودِيَ مِنَ العَرْشِ: ولكَ مِائَةُ أَلفِ ضِعْفِ مِثْلهِ، وإِذَا دَعَا لنَفْسِهِ كَانَتْ لهُ وَاحِدَةٌ، فَمِائَةُ أَلفٍ مَضْمُونَةٌ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدَةٍ لا يُدْرَى يُسْتَجَابُ لهُ أَمْ لا»(1).
كما أن الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بنفسها كانت تدعو طول الليل للآخرين،ولما سألها ولدها الإمام الحسن (عليه السلام) عن السبب؟ قالت: «الجار ثم الدار»(2).
ولا يخفى أن ذلك إضافة إلى كونه من أسباب جلب رضا الله سبحانه وتعالى، فإنه أيضاً يوجب تماسك المجتمع وتكاتف الناس وتضامنهم، فإن من يدعو للمؤمنين بظهر الغيب أكثر استعداداً فكرياً ونفسياً لمد يد العون إليهم، وكف الأذى عنهم، كما أنه أبعد عن اغتيابهم والسعي فيهم، والوقيعة بينهم، وظلمهم والتعدي عليهم، كما أنه أقرب لغفران ذنبهم والحلم عن شططهم والعفو عن خطئهم.
ص: 279
ثم لا يخفى أنه لا منافاة بين تصوير الملائكة للنعش لها كما في هذه الرواية، وبين تصوير أسماء النعش لها كما في بعض الروايات، فإنه في كثير من الأحيان مع علم المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) بالشيء من الغيب، كانوا يريدون إظهار الأمر حسب الموازين العرفية.
وبذلك يفسر أيضاً سؤال الرسول (صلى الله عليه وآله) وسائر الأئمة (عليهم السلام) من الناس كثيراً من الأمور.
وأيضاً منه:
ما رُوِيَ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ القُرْآنَ نَزَل جَمِيعُهُ عَلى مَعْنَى إِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَة»(1).
وعن بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «نَزَل القُرْآنُ بِإِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَةُ»(2).وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَعْنَاهُ مَا عَاتَبَ اللهُ عَزَّ وجَل بِهِ عَلى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) فَهُوَ يَعْنِي بِهِ مَا قَدْ مَضَى فِي القُرْآنِ، مِثْل قَوْلهِ: «وَلوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِليْهِمْ شَيْئاً قَليلا»(3) عَنَى بِذَلكَ
ص: 280
غَيْرَه»(1).
مسألة: هل يجوز لمن علم من الناس أمراً من غير طرقه الطبيعية أن يرتب عليه الأثر، أو يحرم، أو عليه أن يعمل حسب مقتضى الظواهر الطبيعية؟
للمسألة صور وتفصيل:
منها: أنه لو قطع مما لا حجية له(2) أنه لو سار في هذا الطريق قتل، وكانت الظواهر وإخبار أهل الخبرة الثقات بل العدول، تدل على أن الطريق آمن، فحيث إن للقطع على المشهور حجيته الذاتية، وجب عليه الاحتراز، فلا يشبه تكليف عامة الناس تكليف المعصومين (عليهم السلام) فيما علموا به من عالم الغيب.
بل لو ظن ظناً شخصياً بالخطر الدنيوي الكبير بخلاف الحجج المؤمّنةظاهراً، فعليه الاحتياط، فتأمل.
ومنها: عكس ذلك.
ومنها: ما لو قطع القاضي من دون شهود أو إقرار وما أشبه، بأن زيداً سرق، فهل له أن يجري عليه حكم السرقة.
المسألة تبتني على جواز قضاء القاضي بعلمه وعدمه، وقد فصلناها في كتاب القضاء من (الفقه)، ويجري البحث في كلتا صورتي علمه بالواقع عن طرق
ص: 281
طبيعي كما لو شاهده يسرق، أو غير طبيعي كما لو قطع من الرمل والاسطرلاب أو من الأحلام، فتأمل(1).
مسألة: يستحب الاهتمام بالأولاد والوصية بهم، فإنهم ودائع بيد الإنسان، قال تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً»(2).
والظاهر أن الأمر بالوقاية لا يختص بما يسببها حال الحياة، بل كل ما يبعث على الوقاية وإن كان ظرفه بعد الممات، فإنه واجب فعله أو قوله حال الحياة، لإطلاق «قوا» وغيره، فتأمل.
عَنْ عَبْدِ الأَعْلى مَوْلى آل سَامٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ «يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً» جَلسَ رَجُل مِنَ المُسْلمِينَ يَبْكِي، وقَال: أَنَا عَجَزْتُ عَنْ نَفْسِي كُلفْتُ أَهْلي، فَقَال رَسُول اللهِ
ص: 282
(صلى الله عليه وآله): حَسْبُكَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِمَا تَأْمُرُ بِهِ نَفْسَكَ، وتَنْهَاهُمْ عَمَّا تَنْهَى عَنْهُ نَفْسَكَ»(1).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً» قُلتُ: كَيْفَ أَقِيهِمْ، قَال: تَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللهُ وتَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللهُ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ كُنْتَ قَدْ وَقَيْتَهُمْ، وإِنْعَصَوْكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَليْكَ»(2).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً» كَيْفَ نَقِي أَهْلنَا، قَال: «تَأْمُرُونَهُمْ وتَنْهَوْنَهُمْ»(3).
وَسُئِل الصَّادِقُ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً»: كَيْفَ نَقِيهِنَّ، قَال: تَأْمُرُونَهُنَّ وتَنْهَوْنَهُنَّ قِيل لهُ: إِنَّا نَأْمُرُهُنَّ ونَنْهَاهُنَّ فَلا يَقْبَلنَ، قَال: «إِذَا أَمَرْتُمُوهُنَّ ونَهَيْتُمُوهُنَّ فَقَدْ قَضَيْتُمْ مَا عَليْكُمْ»(4).
ص: 283
مسألة: يستحب لمن تتوفى زوجته أن يتزوج، فإن الرجال لابد لهم من النساء، وهكذا العكس كما سبق، أما ما جرت عليه بعض الأعراف من التأخير سنة أو أقل أو أكثر فلا وجه له.
مسألة: يستحب اتخاذ النعش للميت، ويستحب أن يوصى بذلك، تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولأنه من الإتقان والستر وما أشبه.
مسألة: يستحب بيان ما أوصته الصديقة فاطمة (عليها السلام) لعلي (صلوات الله عليه)، كما يستحب بيان كافة وصايا المعصومين (عليهم السلام) لأهاليهم أو أصحابهم أو حتى أعدائهم، ومن الحري أن تجمع هذه الوصايا في كتب، وأن تكتب حولها البحوث والمقالات والموسوعات.
مسألة: يجب الاعتقاد بأن من ظلمها (عليها السلام) هم أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل أعداء الله تعالى، ويستحب بيان ذلك.
هذا لمن التفت لذلك(1)، أما غيرهفهل عليه تحصيل العلم به مطلقاً(2)، أو فيما كان طريقاً(3)، لا ريب في وجوب الثاني، أما ما عداه فيعود إلى مبحث نفسية الوجوب في مثل ذلك.
ص: 284
مسألة: يحرم إتباع الظالم وأتْباعِه، قال تعالى: «يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»(1)، وقال عزوجل: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقين»(2).
والفرق بين اتّباع الظالم واتّباع أتباعه، وإن كان الثاني يعود بالمآل إلى الأول، المباشرة وغيرها، والعرفية وعدمها، إذ قد يفرق بعدم صدق عنوان أعوان الظلمة على اتّباع الأتباع في غير جهة تابعيتهم للظالم.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَالأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «تَزَوَّجُوا فَإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَّبِعَ سُنَّتِي فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِيَ التَّزْوِيجَ»(3).
وعن سليمان بن خالد، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ أَوَّل مَنْ جُعِل لهُ النَّعْشُ، قَال: «فَاطِمَةُ عليها السلام بِنْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(4).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «أَوَّل نَعْشٍ أُحْدِثَ فِي الإِسْلامِ نَعْشُ
ص: 285
فَاطِمَةَ (عليه السلام) إِنَّهَا اشْتَكَتْ شَكَاتَهَا التِي قُبِضَتْ فِيهَا وقَالتْ لأَسْمَاءَ: إِنِّي نَحَلتُ فَذَهَبَ لحْمِي إلاّ تَجْعَلينَ لي شَيْئاً يَسْتُرُنِي، فَقَالتِ الأَسْمَاءُ: إِنِّي إِذْ كُنْتُ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ رَأَيْتُهُمْ يَصْنَعُونَ شَيْئاً أَفَلا أَصْنَعُ لكِ فَإِنْ أَعْجَبَكِ صَنَعْتُ لكِ، قَالتْ: نَعَمْ، فَدَعَتْ بِسَرِيرٍ فَأَكَبَّتْهُ لوَجْهِهِ ثُمَّ دَعَتْ بِجَرَائِدَ فَشَدَّدَتْهُ عَلى قَوَائِمِهِ ثُمَّ جَللتْهُ ثَوْباً، فَقَالتْ: هَكَذَا رَأَيْتُهُمْ يَصْنَعُونَ، فَقَالتِ: اصْنَعِي لي مِثْلهُ اسْتُرِينِي سَتَرَكِ اللهُ مِنَ النَّارِ»(1).وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال: مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) مَرَضاً شَدِيداً فَقَالتْ لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: إلاّ تَرَيْنَ إِلى مَا بَلغْتُ فَلا تَحْمِلينِي عَلى سَرِيرٍ ظَاهِرٍ، فَقَالتْ: لا لعَمْرِي ولكِنْ أَصْنَعُ نَعْشاً كَمَا رَأَيْتُ يُصْنَعُ بِالحَبَشَةِ، قَالتْ: فَأَرِينِيهِ، فَأَرْسَلتْ إِلى جَرَائِدَ رَطْبَةٍ فَقُطِّعَتْ مِنَ الأَسْوَاقِ ثُمَّ جَعَلتْ عَلى السَّرِيرِ نَعْشاً، وهُوَ أَوَّل مَا كَانَ النَّعْشُ، فَتَبَسَّمَتْ ومَا رَأَيْتُهَا مُتَبَسِّمَةً إلاّ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ حَمَلنَاهَا فَدَفَنَّاهَا ليْلا(2).
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَالتْ لهَا: إِنِّي قَدِ اسْتَقْبَحْتُ مَا يُصْنَعُ بِالنِّسَاءِ، إِنَّهُ يُطْرَحُ عَلى المَرْأَةِ الثَّوْبُ فَيَصِفُهَا لمَنْ رَأَى، فَقُلتُ: يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ أَنَا أَصْنَعُ لكِ شَيْئاً رَأَيْتُهُ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، قَالتْ: فَدَعَوْتُ بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَحَبَسْتُهَا ثُمَّ طَرَحْتُ عَليْهَا ثَوْباً، فَقَالتْ فَاطِمَةُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وأَجْمَلهُ، لا تُعْرَفُ بِهِ المَرْأَةُ مِنَ الرَّجُل، فَإِذَا مِتُّ فَاغْسِلينِي أَنْتِ، إِلى أَنْ قَال: فَلمَّا مَاتَتْ (عليها السلام) غَسَّلهَا عَليٌّ وأَسْمَاءُ(3).
ص: 286
وفي وصية فاطمة (عليها السلام): (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَتْ بِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَوْصَتْ وهِيَ تَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولهُ، وأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ والنَّارَ حَقٌ (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ)، يَا عَليُّ أَنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ زَوَّجَنِيَ اللهُ مِنْكَ لأَكُونَ لكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، أَنْتَ أَوْلى بِي مِنْ غَيْرِي، حَنِّطْنِي وغَسِّلنِي وكَفِّنِّي بِالليْل، وصَل عَليَّ وادْفِنِّي بِالليْل، ولا تُعْلمْ أَحَداً، وأَسْتَوْدِعُكَ اللهَ وأَقْرَأُ عَلى وُلدِيَ السَّلامَ إِلى يَوْمِ القِيَامَة»(1).
وفي زيارة الجامعة: «وَمَنْ خَالفَكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ، ومَنْ جَحَدَكُمْ كَافِرٌ، ومَنْ حَارَبَكُمْ مُشْرِكٌ، ومَنْ رَدَّ عَليْكُمْ فِي أَسْفَل دَرْكٍ مِنَ الجَحِيمِ، أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَابِقٌ لكُمْ فِيمَا مَضَى، وجَارٍ لكُمْ فِيمَا بَقِي»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِعَزَّ وجَل: «وَلا تَرْكَنُوا إِلى الذِينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(3) قَال: «هُوَ الرَّجُل يَأْتِي السُّلطَانَ فَيُحِبُّ بَقَاءَهُ إِلى أَنْ يُدْخِل يَدَهُ إِلى كِيسِهِ فَيُعْطِيَهُ»(4).
ص: 287
لما نعي إلى فاطمة (عليها السلام) نفسها، أرسلت إلى أم أيمن، وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها، فقالت لها: يا أم أيمن إن نفسي نُعيت إلي فادعي لي علياً (عليه السلام)، فدعته لها، فلما دخل عليها قالت له: يا ابن العم، أريد أن أوصيك بأشياء فاحفظها علي. فقال لها: قولي ما أحببت.
قالت له: تزوج أمامة تكون لولدي مربية من بعدي مثلي، واعمل نعشاً رأيت الملائكة قد صوّرته لي.
فَقَال لهَا عَليٌّ: أَرِينِي كَيْفَ صُورَتُهُ، فَأَرَتْهُ ذَلكَ كَمَا وُصِفَ لهَا، وكَمَا أُمِرَتْ بِهِ، ثُمَّ قَالتْ: فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ نَحْبِي فَأَخْرِجْنِي مِنْ سَاعَتِكَ أَيَّ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنْ ليْل أَوْ نَهَارٍ، ولا يَحْضُرَنَّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وأَعْدَاءِ رَسُولهِ للصَّلاةِ عَليَّ أَحَد. قال علي (عليه السلام): أفعل(1).
--------------------
مسألة: يجب انتخاب الثقاة من الناس للتصدي لمهام الأمور التي تتوقف على الوثاقة مما يعد غيره تفريطاً بحق واجب، أو تسبيباً لأمر محرم، بل ينبغي انتخاب الأوثق من الناس فالأوثق، قال تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ
ص: 288
الأَمين»(1).
وقال سيد الشهداء (عليه السلام) لما بعث مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة: «وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم»(2).
وقال أبو الحسن الهادي (عليه السلام): «العَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِليْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، ومَا قَال لكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُول، فَاسْمَعْ لهُ وأَطِعْ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ المَأْمُون»(3).
وقال أبو محمد العسكري (عليه السلام): «العَمْرِيُّ وابْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِليْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، ومَا قَالا لكَ فَعَنِّي يَقُولانِ، فَاسْمَعْ لهُمَا وأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَاالثِّقَتَانِ المَأْمُونَان»(4).
مسألة: ينبغي توثيق الثقاة لمن تمس حاجته إليه، ومنه ما قام به علماء الرجال في كتبهم.
والملاحظ في الحاجة ليس حاجة من يحيط بالإنسان فقط، بل حاجة مطلق القريب والبعيد، والحاضر والغائب، كما أن المدار فيها ليس على حاجة
ص: 289
المعاصرين، بل يشمل حاجة الأجيال الآتية.
كما هو ديدن القدماء والمتأخرين من علمائنا، من الكشي والنجاشي والطوسي والبرقي والصدوق والعلامة وابن داوود وغيرهم.
مسألة: من الأدلة(1) على أن رضا الصديقة (عليها السلام) رضا الله سبحانه، وأنه يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(2)، قول أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه) في هذا الحديث: «قولي ما أحببت»، فإن قوله ذلك وهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3) وهو المعصوم فكراً وقولاً وعملاً، يشهد بذلك.
ص: 290
مسألة: يستحب للزوجة أن توصي زوجها برعاية أولادها بعدها واتخاذ زوجة تربيهم كأمهم، ويتأكد الاستحباب إذا شاهدت علائم الموت.
فإنه قد توصي الزوجة زوجها بالتزويج على سبيل الإطلاق والكلية، وقد توصي بالتزويج من امرأة خاصة، كما أنها قد توصي بالتزويج من إحدى المرأتين أو إحدى النساء المعهودات، فإن كل ذلك جائز، وربما استحب إذا كانت هناك جهة راجحة مرجحة، للإطلاقات، وتأسياً بها (صلوات الله عليها)، حيث ورد:
«فَبَقِيَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَرْبَعِينَ ليْلةً، فَلمَّا اشْتَدَّ بِهَا الأَمْرُ دَعَتْ عَليّاً (عليه السلام) وقَالتْ: يَا ابْنَ عَمِّ مَا أَرَانِي إلاّ لمَا بِي وأَنَا أُوصِيكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنْتَ أُخْتِي زَيْنَبَ تَكُونُ لوُلدِي مِثْلي»(1).
قال تعالى: «كُتِبَ عَليْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقين»(2).
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهماالسلام) قَال: «مَنْ لمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لذَوِي قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلهُ بِمَعْصِيَة»(3).
ص: 291
مسألة: ينبغي حسن الانتخاب، بل انتخاب الأحسن فالأحسن، في كافة الشؤون، خاصة المهمة منها، كالعناية بالأولاد وتربيتهن، ولعله يظهر من كلام الصديقة (صلوات الله عليها) أن من أهم غايات الزواج حسن تربية الأولاد، فمن تحلت بهذه الصفة فهي الأجدر بأن تنتخب كزوجة.
قال تعالى: «وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُريكُمْ دارَ الفاسِقين»(1).
وقال سبحانه: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها»(2).
مسألة: حيث يتوقف حسن انتخاب الزوجة ومن أشبه ممن ينتخب لشأن من الشؤون، على التعرف على أحوال الناس، ربما يكون التعرف على أحوالهم وشؤونهم بمقدار طريقيته مستحباً أو واجباً، على حسب ذي المقدمة، وذلك ما لم يشتمل على محرم أو محذور.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول:«إِنَّمَا المَرْأَةُ قِلادَةٌ، فَانْظُرْ إِلى مَا تَقَلدُهُ»، قَال: وَسَمِعْتُهُ يَقُول: «ليْسَ للمَرْأَةِ خَطَرٌ لا لصَالحَتِهِنَّ ولا لطَالحَتِهِنَّ، أَمَّا صَالحَتُهُنَّ فَليْسَ خَطَرُهَا الذَّهَبَ والفِضَّةَ بَل هِيَ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأَمَّا طَالحَتُهُنَّ فَليْسَ التُّرَابُ
ص: 292
خَطَرَهَا بَل التُّرَابُ خَيْرٌ مِنْهَا»(1).
وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْكِحُوا الأَكْفَاءَ وانْكِحُوا فِيهِمْ واخْتَارُوا لنُطَفِكُمْ»(2).
مسألة: تستحب الوصية بحمل الميت في النعش، خاصة إذا كان من النساء، لأنه أستر وأقرب للعفة والاحتشام.
فإنّ حمل الميت يجوز بدون اتخاذ نعش، كالحمل على خشبة أو في فراش أو ما أشبه ، والاستحباب يكون آكد فيما إذا كانت هناك جهة مرجحة، حيث إن الزهراء (عليها
الصلاة والسلام) أرادت أن لا يرى الرجال حتى حجم جسدها، بل حتى شبح حجم جسدها(3)، تلك الرجال القلائل الذين كانوا يحضرون نعشها في وسطالليل، وفي ذلك عبرة لنساء المؤمنين، بأن يسترن حتى الحجم عن أنظار الرجال الأجانب بالعباءة الفضاضة وما أشبه، بل الأكثر من ذلك قدر المستطاع(4).
ولعل احتمال رؤيتهم لحجم الجسد أو شبحه كان بسبب ضوء القمر
ص: 293
الضعيف أو القوي(1) أو أنوار النجوم أو أنوار بعض المصابيح من بعض البيوت.
مسألة: يستحب لمن علم بموته أن يرسل إلى بعض أقربائه أو أحبائه ليوصيه بوصاياه، بل ربما يستحب أن يرسل إليهم ليحضروا عنده ليتزودوا منه ويتزود منهم.
قال (عليه السلام): «مَنْ ماتَ بِغَيرْ وَصِيَّةٍماتَ مِيتَةً جاهِليَّةً»(2).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «لمَّا حَضَرَ الحَسَنَ بْنَ عَليٍّ (عليهما السلام) الوَفَاةُ قَال للحُسَيْنِ (عليه السلام): يَا أَخِي إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظْهَا، إِذَا أَنَا مِتُّ فَهَيِّئْنِي ثُمَّ وَجِّهْنِي إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأُحْدِثَ بِهِ عَهْداً ثُمَّ اصْرِفْنِي إِلى أُمِّي (عليها السلام) ثُمَّ رُدَّنِي فَادْفِنِّي بِالبَقِيعِ واعْلمْ أَنَّهُ سَيُصِيبُنِي مِنْ عَائِشَةَ مَا يَعْلمُ اللهُ والنَّاسُ صَنِيعُهَا وعَدَاوَتُهَا للهِ ولرَسُولهِ وعَدَاوَتُهَا لنَا أَهْل البَيْت»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمَّا حَضَرَتْ أَبِي (عليه السلام) الوَفَاةُ قَال: يَا جَعْفَرُ أُوصِيكَ بِأَصْحَابِي خَيْراً، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ واللهِ لأَدَعَنَّهُمْ
ص: 294
والرَّجُل مِنْهُمْ يَكُونُ فِي المِصْرِ فَلا يَسْأَل أَحَداً»(1).
وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لمَّاحَضَرَتْ أَبِي عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) الوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلى صَدْرِهِ وقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، وبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ: يَا بُنَيَّ اصْبِرْ عَلى الحَقِّ وإِنْ كَانَ مُرّاً»(2).
مسألة: دلت الأدلة العديدة على أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت ترى الملائكة وتسمعهم، ومنها هذه الرواية (واعمل نعشاً رأيت الملائكة قد صورته لي).
ولا يناقش بأن ذلك من مختصات الأنبياء (عليهم السلام)؟
إذ يقال: إن نزول الوحي النبوي بواسطة الملك ورؤيته لذلك هو من مختصاتهم، ولا دليل على عدم غيره لغيره.
ص: 295
مسألة: الظاهر من مختلف الروايات بل ومن بعض الآيات، ومن هذه الرواية، أن الملائكة تقوم - في الجملة - بدور المرشد والموجه للناس بالإلهام وشبهه.
فإن ما يخطر ببال الإنسان من التفكر الحسن وما أشبه، قد يكون من إلهامهم، كما أن ما يدور في ذهنه من الوساوس قد يكون من تسويلات إبليس وشياطينه.
وفي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إِنَّ ابْنَتِي فَاطِمَةَ مَلأَ اللهُ قَلبَهَا وجَوَارِحَهَا إِيمَاناً إِلى مُشَاشِهَا، فَتَفَرَّغَتْ لطَاعَةِ اللهِ (عَزَّ وجَل) فَبَعَثَ اللهُ مَلكاً اسْمُهُ (رَوْفَائِيل) وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: (رَحْمَةٌ)، فَأَدَارَ لهَا الرَّحَى، فَكَفَاهَا اللهُ (عَزَّ وجَل) مَئُونَةَ الدُّنْيَا مَعَ مَئُونَةِ الآخِرَةِ»(1).
وفي رواية قال (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ لا تَعْجَبْ فَإِنَّ للهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ مُوَكَّلونَ بِمَعُونَةِ آل مُحَمَّدٍ»(2).
وَرُوِيَ أَنَّ فاطمة (عليها السلام) رُبَّمَا اشْتَغَلتْ بِصَلاتِهَا وعِبَادَتِهَا فَرُبَّمَا بَكَىوَلدُهَا فَرُؤِيَ المَهْدُ يَتَحَرَّكُ وكَانَ مَلكٌ يُحَرِّكُه (3).
ص: 296
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال سَمِعْتُهُ يَقُول: «كَانَ عَليٌّ (عليه السلام) واللهِ مُحَدَّثاً قَال: قُلتُ لهُ: اشْرَحْ لي ذَلكَ أَصْلحَكَ اللهُ قَال: يَبْعَثُ اللهُ مَلكاً يَنْقُرُ فِي أُذُنِهِ كَيْتَ وكَيْتَ وكَيْتَ»(1).
وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً بَعَثَ اللهُ إِليْهِ مَلكاً مِنْ خُزَّانِ الجَنَّةِ فَيَمْسَحُ صَدْرَهُ فَتَسْخَى نَفْسُهُ بِالزَّكَاةِ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل وَكَّل مَلكاً بِالبِنَاءِ يَقُول لمَنْ رَفَعَ سَقْفاً فَوْقَ ثَمَانِيَةِ أَذْرُعٍ أَيْنَ تُرِيدُ يَا فَاسِقُ»(3).
ص: 297
عن أسماء بنت عميس، قالت: أوصتني فاطمة (عليها السلام) أن لا يغسّلها إذا ماتت إلاّ أنا وعلي، فغسّلتها أنا وعلي (عليه السلام)(1).
----------------------
مسألة: المعصوم والمعصومة لا يغسلها إلاّ المعصوم، وذلك من مقاماتهم (صلوات الله عليهم) وقد يكون من الأدلة على العصمة أو الإمامة، كما في قضية تنحية الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عمه عن الصلاة على أبيه العسكري (عليه السلام)(2).
ص: 298
ص: 299
فالمراد في هذه الرواية أن أسماء (رضوان الله عليها) كانت تصب الماء أو تحضر لوازم التغسيل والتكفين أو تقوم ببعض المقدمات وما أشبه.
ولعل وصيتها (عليها السلام) بأن لا يغسلها إلاّ هي وعلي (عليه الصلاة والسلام) حتى تبعد بعض النساء غير المرغوبات عن احتمال الاشتراك في الغسل، وذلك نوع من إظهار غضبها (عليها السلام) عليهن، وأما من خرج فقد خرج بالدليل.إضافة إلى أن مثل هذه الوصية منعت أولئك القوم وتلك النسوة من الاستناد إلى مشاركتهن في التغسيل أو التشييع لنفي وجود فاصل بينها وبينهن، ونفي غضبها عليهن وعلى رجالهن.
عَنِ المُفَضَّل، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ غَسَل فَاطِمَةَ، قَال: ذَاكَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وكَأَنِّي اسْتَعْظَمْتُ ذَلكَ مِنْ قَوْلهِ فَقَال: كَأَنَّكَ ضِقْتَ بِمَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ، قَال: فَقُلتُ: قَدْ كَانَ ذَاكَ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: فَقَال: لا تَضِيقَنَّ فَإِنَّهَا صِدِّيقَةٌ ولمْ يَكُنْ يَغْسِلهَا إلاّ صِدِّيقٌ، أَمَا عَلمْتَ أَنَّ مَرْيَمَ لمْ يَغْسِلهَا إلاّ عِيسَى»(1).
وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الحَلال أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ الرِّضَا (عليه
السلام) قَال: قُلتُ لهُ: إِنَّهُمْ يُحَاجُّونَّا يَقُولونَ: إِنَّ الإِمَامَ لا يُغَسِّلهُ إلاّ الإِمَامُ، قَال: فَقَال: «مَا يُدْرِيهِمْ مَنْ غَسَّلهُ، فَمَا قُلتَ لهُمْ»، قَال: فَقُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ قُلتُ لهُمْ: إِنْ قَال مَوْلايَ إِنَّهُ غَسَّلهُ تَحْتَ عَرْشِ رَبِّي فَقَدْ صَدَقَ، وإِنْ قَال غَسَّلهُ فِي تُخُومِ الأَرْضِ فَقَدْ صَدَقَ، قَال: «لا هَكَذَا»، قَال: فَقُلتُ فَمَا أَقُول لهُمْ، قَال: «قُل
ص: 300
لهُمْ: إِنِّي غَسَّلتُهُ»،فَقُلتُ أَقُول لهُمْ: إِنَّكَ غَسَّلتَهُ، فَقَال: «نَعَمْ»(1).
وعن أَبي مَعْمَرٍ قَال: سَأَلتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يُغَسِّلهُ الإِمَامُ، قَال: «سُنَّةُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام»(2).
مسألة: يجوز أن يُعيّن الإنسان معاوناً للغاسل، كما تجوز الوصية بأكثر من مُعين واحد.
مسألة: ينبغي أن يهتم الإنسان بتفاصيل تجهيزه مما فيه جهة رجحان، مثل أنه بما ذا يكفن، وأين يدفن، إلى غير ذلك، كما اهتمت الصديقة (صلوات الله عليها) بتفاصيل ما بعد استشهادها في وصيتها.
مسألة: المرأة إذا كانت ثقة فإن إخبارها حجة كالرجل الثقة، ولا فرق في ذلك بين نقل الرواية وغير ذلك إلاّ فيما خرج بالدليل.
وقد أخبرت أسماء (رضوان الله عليها) عن إيصاء الزهراء (عليها السلام) لها بتلك
ص: 301
الوصية، فإنها ليست تمليكية ولا عهدية بمثل القيمومة(1)، خاصة وأن إخبارها مما يوجب العلم.
أما أحكام شهادة المرأة فمذكورة في بابها تفصيلاً.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي العُذْرَةِ وكُل عَيْبٍ لا يَرَاهُ الرِّجَال»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَنَّهُ سُئِل هَل تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ فَقَال: تَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ رَجُل وكَانَ عَليٌّ (عليه السلام) يَقُول: لا أُجِيزُهَا فِي الطَّلاقِ قُلتُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَالرَّجُل فِي الدَّيْنِ قَال: نَعَمْ وسَأَلتُهُ عَنْ شَهَادَةِ القَابِلةِ فِي الوِلادَةِ قَال: تَجُوزُ شَهَادَةُ الوَاحِدَةِ وقَال: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ وفِي المَنْفُوسِ والعُذْرَةِ وحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ مَعَ يَمِينِ الطَّالبِ يَحْلفُ بِاللهِ إِنَّ حَقَّهُ لحَقٌّ»(3).
ص: 302
عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال:
«هذه وصية(1) فاطمة بنت محمد (صلى
الله عليه وآله) أوصت بحوائطها السبع(2): العواف والدلال والبرقة والمثيب والحسنى والصافية وما لأم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب (عليه
السلام)، فإن مضى عليّ فإلى الحسن بن علي (عليه السلام) وإلى أخيه الحسين (صلوات الله عليه)، وإلى الأكبر فالأكبر من ولد رسولالله (صلى الله عليه وآله)، ثم إني أوصيك في نفسي وهي أحب الأنفس إليّ(3)
بعد رسول الله (صلى
ص: 303
الله عليه وآله)، إذا متُّ فغسّلني بيدك، وحنّطني وكفّني وادفني ليلاً، ولا يشهدني فلان وفلان ولا زيادة عندك في وصيتي إليك، واستودعتك الله تعالى حتى ألقاك، جمع الله بيني وبينك في داره، وقرب جواره»، وكتب ذلك علي (عليه السلام) بيده(1).
---------------------
مسألة: يستحب الوصية بالمال، سواء أكان من المنقول أم من غير المنقول،كثيراً كان أم قليلاً.
وفي القرآن الحكيم: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ»(2)، وقد فسّر (الخير) في الروايات والتفاسير بالمال(3)، ولا شك أن المال خير من قبل الله تعالى إن لم يصرف في الحرام، كما قال تعالى: «أَلمْ تَرَ إِلى الذينَ بَدَّلوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً»(4) فكيف لو صرف في المصارف التي عينها الله سبحانه على سبيل الوجوب أو على
ص: 304
سبيل الاستحباب(1).
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهما السلام) أَنَّهُمَا قَالا: «الخَيْرُ هَاهُنَا المَال،قَال اللهُ عَزَّ وجَل: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ»(2) يَعْنِي مَالا فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَسْتَطِيعُ الكَسْبَ والتَّصَرُّفَ فَهُوَ مِمَّنْ فِيهِ خَيْرٌ(3).
وعَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «صَاحِبُ المَال أَحَقُّ بِمَالهِ مَا دَامَ فِيهِ شَيْ ءٌ مِنَ الرُّوحِ يَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ»(4).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «المَيِّتُ أَوْلى بِمَالهِ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ»(5).
وعَنْهُ (عليه السلام) قَال: «الإِنْسَانُ أَحَقُّ بِمَالهِ مَا دَامَ الرُّوحُ فِي بَدَنِهِ»(6).
مسألة: ينبغي في الوصية تسمية الممتلكات إذا تعددت، بل مطلقاً، بمايميزها عن بعضها أو عن ممتلكات الغير، كأن يسمي دكاكينه أو دوره أو بساتينه أو غيرها، استناداً إلى إقرارها (صلوات الله عليها) تلك التسميات أو تسميتها لها.
ص: 305
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ لمْ يُحْسِنْ عِنْدَ المَوْتِ وَصِيَّتَهُ كَانَ نَقْصاً فِي مُرُوءَتِهِ وعَقْلهِ»(1).
مسألة: تجوز كتابة الوصية بيد الشخص، كما يجوز إملاؤها على من يوثق به ليكتبها، كما أملت الصديقة على علي (عليهما السلام)، ولعل إملاءها عليه لعدم قدرتها على الكتابة لما أصابها من القوم من جرح وضرب وشدة مرضها، أو للتأكيد على أن علياً (عليه السلام) هو الأولى بشؤونها كلها.
والكتابة أعم من الكتابة بالقلم أو بالحك والنحت أو بالأجهزة(2)، وهل يشمل التسجيل الصوتي أو التصويري، الظاهر أن الملاك واحد، لو كانتبإتقان الكتابة(3).
وفي العروة: (الأقوى في تحقّق الوصيّة كفاية كل ما دل عليها من الألفاظ، ولا يعتبر فيه لفظ خاصّ، بل يكفي كل فعل دال عليها حتّى الإشارة والكتابة)(4).
عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «دَخَلتُ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ وقَدِ اعْتُقِل لسَانُهُ فَأَمَرْتُهُ بِالوَصِيَّةِ فَلمْ يُجِبْ، قَال: فَأَمَرْتُ بِطَشْتٍ فَجُعِل فِيهِ الرَّمْل فَوُضِعَ، فَقُلتُ لهُ: خُطَّ بِيَدِكَ فَخَطَّ وَصِيَّتَهُ
ص: 306
بِيَدِهِ فِي الرَّمْل ونَسَخْتُ أَنَا فِي صَحِيفَةٍ»(1).
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الهَمَذَانِيِّ، قَال: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) رَجُل كَتَبَ كِتَاباً بِخَطِّهِ ولمْ يَقُل لوَرَثَتِهِ هَذِهِ وَصِيَّتِي ولمْ يَقُل إِنِّي قَدْ أَوْصَيْتُ إلاّ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَاباً فِيهِ مَا أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ بِهِ هَل يَجِبُ عَلى وَرَثَتِهِ القِيَامُ بِمَا فِي الكِتَابِ بِخَطِّهِ ولمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلكَ، فَكَتَبَ (عليه السلام): «إِنْ كَانَ لهُ وُلدٌ يُنْفِذُونَ كُلشَيْ ءٍ يَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ أَبِيهِمْ فِي وَجْهِ البِرِّ وغَيْرِه»(2).
الظاهر أن الفضولية أيضاً تأتي في الوصية كما ذكرناه في الفقه(3)، بأن يكتب شخص وصية لآخر فضولة، ثم إذا أجازها الثاني جازت، فإن الفضولية تدخل في كل شيء إلاّ ما خرج بالدليل(4)، على ما ذكرناه في مبحثه في (الفقه).
مسألة: يستحب تعيين خليفةٍ للوصي، وخليفةٍ لخليفته، وهكذا، سواء أكان التعيين بالاسم أم بعنوان مشير بما يمنع اللبس، ك (الأكبر) و (الأصغر) وما أشبه.
ص: 307
وذلك فيما اقتضى بما لا يكون عبثاً، سواء في العقارات أم غيرها.
ويتأكد الاستحباب فيما يكون عرضةللتلف أو الغصب أو التضييع ما لم يبلغ حد الحرمة، وإلا وجب التعيين.
ومن الجائز تعيين الوصي فقط بالقيد السابق.
ثم إنه إذا لم يعين وصياً(1) أو مات الوصي أو عجز أو ما أشبه، فالأمر راجع إلى الحاكم الشرعي على تفصيل مذكور في (الفقه).
كما أنه يجوز التشريك في الوصية، أو التوحيد فيها، في كل الطبقات أو بعضها دون بعض، فإن كل ذلك مشمول لملاك قوله (صلى الله عليه وآله): «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2).
ولو شرّك فمات أحدهم انحصر الأوصياء في الباقين، إلاّ أن يفعل أو يقول ما يفيد غير ذلك فإنه من حقه.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «قَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي رَجُل أَوْصَى لآِخَرَ والمُوصَى لهُ غَائِبٌ فَتُوُفِّيَ الذِي أُوصِيَ لهُ قَبْل المُوصِي، قَال: الوَصِيَّةُ لوَارِثِ الذِي أُوْصِيَ لهُ، قَال: ومَنْ أَوْصَى لأَحَدٍشَاهِداً كَانَ أَوْ غَائِباً فَتُوُفِّيَ المُوصَى لهُ قَبْل المُوصِي فَالوَصِيَّةُ لوَارِثِ الذِي أُوصِيَ لهُ إلاّ أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ قَبْل مَوْتِهِ»(3).
ص: 308
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ السَّابَاطِيِّ، قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ رَجُل أَوْصَى إِليَّ وأَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ عَمّاً لهُ فِي كُل سَنَةٍ شَيْئاً فَمَاتَ العَمُّ، فَكَتَبَ (عليه السلام): أَعْطِهِ وَرَثَتَهُ»(1).
مسألة: تستحب كتابة الوصية، وهذا غير استحباب أصل الوصية، فإن الكتابة أكثر إتقاناً، وإن كانت الوصية الشفهية أيضاً نافذة، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»(2)، فكل ما كان مصداقاً للإتقانكان مستحباً، كما في الإشهاد، أو الإثبات عند القاضي، أو ما أشبه.
وقد ورد في أصلها: عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الكِنَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: سَأَلتُهُ عَنِ الوَصِيَّةِ، فَقَال: «هِيَ حَقٌّ عَلى كُل مُسْلمٍ»(3).
وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «الوَصِيَّةُ حَقٌّ وقَدْ أَوْصَى رَسُول اللهِ (صلى الله
ص: 309
عليه وآله) فَيَنْبَغِي للمُسْلمِ أَنْ يُوصِيَ»(1).
مسألة: يستحب للزوجة أن تخاطب زوجها بما يدل على محبتها له، كما قالت الصديقة (عليها السلام) لعلي (عليه السلام): «أحب الأنفس».
نعم ينبغي أن لا تتجاوز الزوجة الصدق في قولها إلاّ في حدود المبالغة الجائزة بل والإغراق.كما ينبغي لكل من الزوج والزوجة أن يسعى لتوفير الفضائل في نفسه بما يجعله الأحب لشريكه.
رُوِيَ: «أَنَّ قَوْل الرَّجُل للمَرْأَةِ: إِنِّي أُحِبُّكِ، لا يَذْهَبُ مِنْ قَلبِهَا أَبَداً»(2).
وقَال الصادق (عليه السلام): «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ أَوْ أَخَاهُ
فَليُعْلمْهُ»(3).
وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِذَا أَحْبَبْتَ أَحَداً مِنْ إِخْوَانِكَ فَأَعْلمْهُ ذَلكَ»(4).
ص: 310
مسألة: ينبغي أن يحب الإنسان المؤمنُ اللهَ تعالى، فالرسول (صلى الله عليه وآله)، فالمعصومين (عليهم السلام)، أكثر من حبه للمال والجمال وزينة الحياة الدنيا.
قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أوصيك في نفسي وهي أحب الأنفس إليك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله»(1).
وقال تعالى: «وَالذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ»(2).
وفي الحديث: «وهل الدين إلاّ الحب»(3).
وقال عليه السلام: «حُبُ عَليٍ حَسَنَةٌ لا تُضِرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ، وبُغْضُ عَليٍّ سَيِّئَةٌ لا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَة»(4).بل لعل المستفاد من «المرء مع من أحب»(5)، كون ذلك على حسب
ص: 311
الدرجات أيضاً.
مسألة: يستحب لمن أشرف على الموت أن يودّع أقرباءه وأن يقول لهم: «أستودعكم الله»، بقصد التأسي بالصديقة (صلوات الله عليها) وسائر المعصومين (عليهمالسلام).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «حَفِظَكُمُ اللهُ مِنْ أَهْل بَيْتٍ وحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ وأَقْرَأُ عَليْكُمُ السَّلامَ»(1).
مسألة: يستحب أن يستودع المحتضر أهله عند الله، أي أن يجعلهم وديعة عند الباري تعالى، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) إذ قالت: «أستودعتك الله تعالى حتى ألقاك»، فإن الله لا تضيع لديه الودائع.
ص: 312
و(استودع) باب استفعال يفيد طلب أن يكون هذا وديعة عند الطرف الآخر، فهو دعاء، والظاهر أنه إنشاء وليس إخباراً.
كما أن أصل الاستوداع عند الله مستحب وإن لم يكن حين الموت، وفي الرواية: «أَخَذَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِ عَليٍّ فَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ بِأَصَابِعِهِ، فَحَمَل النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الحَسَنَ وحَمَل الحُسَيْنَ عَليٌّ وحَمَلتْ فَاطِمَةُ أُمَّ كُلثُومٍ وأَدْخَلهُمُ النَّبِيُّ بَيْتَهُمْ ووَضَعَ عَليْهِمْ قَطِيفَةً واسْتَوْدَعَهُمُ اللهَثُمَّ خَرَجَ وصَلى بَقِيَّةَ الليْل...»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا اسْتَخْلفَ رَجُل عَلى أَهْلهِ خَليفَةً أَفْضَل مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا إِذَا أَرَادَ الخُرُوجَ إِلى سَفَرِهِ ويَقُول: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعُكَ نَفْسِي وأَهْلي ومَالي وذُرِّيَّتِي ودُنْيَايَ وآخِرَتِي وخَاتِمَةَ عَمَلي، إلاّ أَعْطَاهُ اللهُ مَا سَأَل»(2).
وفي الحديث: فَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُول: «أَسْتَوْدِعُكَ الذِي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى، فَبَكَتْ نَرْجِس عليها السلام»(3).
مسألة: يستحب ختم الوصية بما يفيد انتهاءها ويرفع احتمال وجود غيرها، دفعاً للخطأ والوهم وانتحال المنتحلين ودعاويهم، وقد صنعت الصديقة
ص: 313
(صلوات الله عليها) ذلك في وصيتها هذه، إذ قالت:«ولا زيادة عندك في وصيتي إليك».
مسألة: تجوز التقية - وقد تجب - من المتكلم ومن الراوي ومن الكاتب والناسخ ومن أشبه، فإذا كان الإمام (عليه السلام) في حال التقية جازت له، وإذا كان الراوي في حال التقية أو الكاتب جاز له أن ينقل من الكلام بعضه.
ولعل قولها (عليها السلام): (ولا يشهدني فلان وفلان) من تقية الرواة أو الكتّاب أو النسّاخ، إذ لا وجه للتقية في وصيتها لعلي (عليهما السلام)، خاصة وأنها كانت مجاهرة بالبراءة منهم.
ولعل ما ورد في (نهج البلاغة) من: «أما والله لقد تَقَمَّصها ابن أبي قحافة»(1)،في بعض النسخ من تقية الرواة أو الكتبة.
ص: 314
مسألة: يستحب الدعاء في آخر لحظات الحياة لنفسه ولغيره، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) حيث قالت (عليها السلام): «جمع الله بيني وبينك في داره وقرب جواره»، وللإطلاقات أيضاً.
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ (عليها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) سِتِّينَ يَوْماً ثُمَّ مَرِضَتْ فَاشْتَدَّتْ عَليْهَا فَكَانَ مِنْ دُعَائِهَا فِي شَكْوَاهَا: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ فَأَغِثْنِي، اللهُمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ وأَدْخِلنِي الجَنَّةَ وأَلحِقْنِي بِأَبِي مُحَمَّدٍ" فَكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُول: يُعَافِيكِ اللهُ ويُبْقِيكِ، فَتَقُول: يَا أَبَا الحَسَنِ مَا أَسْرَعَ اللحَاقَ بِاللهِ، وأَوْصَتْ بِصَدَقَتِهَا ومَتَاعِ البَيْتِ وأَوْصَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي العَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَال: ودَفْنِهَا ليْلاً»(1).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَضَرَ شَابّاً عِنْدَ وَفَاتِهِ فَقَال لهُ: قُل لا إِلهَ إلاّ اللهُ،قَال: فَاعْتُقِل لسَانُهُ مِرَاراً، فَقَال: لامْرَأَةٍ عِنْدَ رَأْسِهِ هَل لهَذَا أُمٌّ، قَالتْ: نَعَمْ أَنَا أُمُّهُ، قَال: أَفَسَاخِطَةٌ أَنْتِ عَليْهِ قَالتْ: نَعَمْ مَا كَلمْتُهُ مُنْذُ سِتِّ حِجَجٍ، قَال لهَا: ارْضَيْ عَنْهُ، قَالتْ: رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَا رَسُول اللهِ بِرِضَاكَ عَنْهُ، فَقَال لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): قُل لا إِلهَ إلاّ اللهُ، فَقَالهَا، فَقَال لهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): مَا تَرَى، قَال: أَرَى رَجُلا أَسْوَدَ الوَجْهِ قَبِيحَ المَنْظَرِ وَسِخَ الثِّيَابِ
ص: 315
نَتِنَ الرِّيحِ قَدْ وَليَنِي السَّاعَةَ وأَخَذَ بِكَظَمِي، فَقَال لهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): قُل: "يَا مَنْ يَقْبَل اليَسِيرَ ويَعْفُو عَنِ الكَثِيرِ اقْبَل مِنِّي اليَسِيرَ واعْفُ عَنِّي الكَثِيرَ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"، فَقَالهَا الشَّابُّ، فَقَال لهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): انْظُرْ مَا ذَا تَرَى، قَال: أَرَى رَجُلا أَبْيَضَ اللوْنِ حَسَنَ الوَجْهِ طَيِّبَ الرِّيحِ حَسَنَ الثِّيَابِ قَدْ وَليَنِي وأَرَى الأَسْوَدَ قَدْ تَوَلى عَنِّي، فَقَال لهُ: أَعِدْ، فَأَعَادَ، فَقَال لهُ: مَا تَرَى، قَال: لسْتُ أَرَى الأَسْوَدَ وأَرَى الأَبْيَضَ قَدْ وَليَنِي، ثُمَّ طَفَا عَلى تِلكَ الحَال»(1).
وعن الرِّضَا (عليه السلام): «إِذَا حَضَرَتِ المَيِّتَ الوَفَاةُ فَلقِّنْهُ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلهَإلاّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ والإِقْرَارَ بِالوَلايَةِ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً وَاحِداً، ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُلقَّنَ كَلمَاتِ الفَرَجِ، وهُوَ: "لا إِلهَ إلاّ اللهُ الحَليمُ الكَرِيمُ، لا إِلهَ إلاّ اللهُ العَليُّ العَظِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ورَبَّ الأَرَضِينَ السَّبْعِ، ومَا فِيهِنَّ ومَا بَيْنَهُنَّ، ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، وسَلامٌ عَلى المُرْسَلينَ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ"»(2).
مسألة: يستحب بيان وصية فاطمة (عليها السلام) كما ذكرها الإمام الحسن (عليه السلام)، ومما في وصيتها أن فلاناً وفلاناً أي ابن أبي قحافة وابن الخطاب في قمة أعدائها الذين آذوها، فلم ترض عنهما أبداً، كما منعتهما من الحضور في
ص: 316
جنازتها.
مسألة: اللا اقتضائي لا يزاحم الاقتضائي، وهي قاعدة مسلمة، وعلى هذا فلا يمكن التمسك باستحباب عمل للقيامبه إذا عارضه الاقتضائي، كنهي من له الحق في النهي.
وفي المقام فإن منعها (صلوات الله عليها) أن يشهد ابن أبي قحافة وابن الخطاب ومن أشبههما جنازتها، يفيد التحريم، من غير أن يعارضه استحباب حضور جنازة الميت في حد ذاته.
مسألة: ينبغي في الوصية التعيين بما يرفع اللبس والاشتباه، كتعيين الشخص الموصي وأنه فلان، والموصى إليه والموصى به(1)، والزمان والمكان إن اعتبرهما الموصي بنحو ما، وكذا سائر الشرائط بحيث لا يبقى إبهام.
نعم قد يوصي بشيء كلي يجعل مصداقه بيد الوصي، وهذا لا بأس به، كالوصية بالتصدق على فقير مطلق، أو تزويج شاب كذلك، وهكذا.
وقد يكفي لرفع اللبس ذكر اسم الشخص واسم أبيه، كما صنعت (صلوات الله عليها) إذا قالت: «هذه وصية فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)».
ص: 317
قال أبو جعفر (عليه السلام): ألا أقرؤك وصية فاطمة (عليها السلام)؟
قال: قلت: بلى، فأخرج حقاً أو سفطاً(1)، فأخرج منه كتاباً فقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله (عليها السلام)، أوصت بحوائطها السبعة: العواف، والدلال، والبرقة، والمثيب، والحسنى، والصافية وما لأم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإن مضى عليّ فإلى الحسن، فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، شهد الله على ذلك(2)، والمقداد بن الأسود، والزبير بن العوام، وكتب علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3).
---------------------
مسألة: يستحب قراءة وصية المعصوم(عليه السلام) ووصية كل عظيم إذ فيه الفائدة، كما قد يستحب استعلام الطرف الآخر عن رغبته في قراءة الوصية
ص: 318
عليه، ولعل ما صنعه الإمام الباقر (عليه السلام) من سؤاله: (ألا أقرؤك وصية فاطمة عليها السلام) كان لجلب انتباه الطرف الآخر إليه أكثر واهتمامه بشكل أكبر.
ولا يخفى أن الغرض من قراءة الوصية قد يتحقق بتلاوتها على المذعن بها، كما في هذه الرواية، وقد يتحقق بتلاوتها على المخالف المنكر، إتماماً للحجة أو لغيره.
مسألة: ينبغي التصريح في الوصية بذكر الموصى به بحيث لا يلتبس الأمر، فإن الصديقة (عليها السلام) لم تكتف بذكر الحوائط السبع إجمالاً بل ذكرتها تفصيلاً.
مسألة: ينبغي في الوصية ذكر الموصى له بنحو لا يوقع في اللبس كي لا يكون مثاراً للنزاع، سواء كانت بذكر اسم يمنع منه، أو بذكر صفة أو شبه ذلك، ولذا أوصت (صلوات الله عليها) بتعيين علي ثم الحسن ثم الحسين (عليهم السلام) ثم الأكبر من ولدها، و(الأكبر) مما يدفع اللبسكما هو واضح.
مسألة: يجب حفظ الوصية بما يحفظها عن التلف ويصونها عن الضياع، ومنه حفظها في حق أو سفط، نعم ذلك لا موضوعية له، بل له الطريقية، فلو ضمن العمل بالوصية من دون حفظ ورقها، لم يجب حفظه من هذه
ص: 319
الجهة(1).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، ثم ذكر الوصية»(2).
وقال الراوي: دَخَلتُ عَلى جَعْفَرٍ، ومُوسَى وَلدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وهُوَ يُوصِيهِ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ، فَكَانَ مِمَّا حَفِظْتُ مِنْهُ أَنَّ قَال: «يَا بُنَيَّ احْفَظْ وَصِيَّتِي واحْفَظْ مَقَالتِي»(3).
مسألة: يستحب الإشهاد على الوصية،بنفر أو نفرين كما في هذا الحديث، حيث إن المقداد والزبير كانا شاهدين، ومن المعلوم أن الزبير كانت حالته حسنة حتى نشأ ابنه عبد الله فحرّفه عن الطريق، فلا يقال: كيف وصّت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بشهادة الزبير مع أنه من المنحرفين.
ولا يخفى أن الإشهاد قد يكون واجباً، كما لو أدى عدم الإشهاد على الوصية بالقيمومة مثلاً إلى ضياع الصغار حيث لم يكون للقيم شهود، مما يستلزم إنكار قيمومته من أهله أو قبيلته وضياع الصغار بالمآل.
وكلمة (شهد الله) في أمثال هذه المواضع من باب الإتقان، وإلا فلا تحتاج شهادة الله إلى الذكر، إذ هي تحصيل حاصل، فهي مثل قوله سبحانه: «شَهِدَ
ص: 320
اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاّ هُوَ والمَلائِكَةُ وأُولوا العِلمِ قائِماً بِالقِسْطِ»(1)، فإن نفس وجود الله شهادة على وجوده سبحانه(2)، وعلى صفاته الجمالية والجلالية، وقد ورد في دعاء الصباح: «يا من دل على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسةمخلوقاته»(3).
كما أن وجود الملائكة شهادة على وجود الله سبحانه وقدرته وحكمته وعظمته، وكذلك أهل العلم يشهدون بوجودهم، وأيضاً بشهادتهم اللفظية.
ويحتمل أن يكون الله تعالى أيضاً قد شهد هناك باللفظ، أي بخلق الكلام والصوت، ونحوه من سائر المبرزات، وكذلك الملائكة يحتمل أن يكونوا شهدوا باللفظ ونحوه.
ص: 321
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).. أوصت بصدقتها ومتاع البيت، وأوصته (عليه السلام) أن يتزوج أمامة بنت أبي العاص، وقالت: بنت أختي وتحنّ على ولدي»(1).
---------------------------
مسألة: يستحب تزوّج الرجل بعد موت زوجته.
ودلالة هذا الحديث نظراً لفهم عدم الخصوصية، وإحرازاً للملاك، بالإضافة إلى الأدلة العامة، فإن العزوبة مكروهة مطلقاً(2)، سواء لم يتزوج بعد،أم تزوج وحصل الفراق بموت الزوجة أو طلاقها أو فسخ العقد أو ما أشبه(3)، وسواء للرجل أو للمرأة في الجملة.
ص: 322
مسألة: يستحب تزوّج الرجل بعد موت زوجته بمن تحنّ على أولادها، سواء أكانوا منهما أم كانوا منه فقط، بل حتى لو كانوا منها فقط.
والظاهر أنه لا خصوصية للأقرباء بل المطلوب التي تحن، وربما يكون ذلك من تعدد المطلوب، نعم إذا دار الأمر بين من تحن وبين القريبة كانت من تحن أولى، وإن كان القريب بالنظر الآخر من حيث القرابة مع الأولاد أقرب، فالأمر دائر بين الأهم والمهم.
ثم إن أمامة مضافاً إلى حنانها كانت قريبة من علي (عليه
الصلاة والسلام) على رأي(1)، والأقرباء أولى، حيث قالسبحانه: «وَأُولوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ الله»(2).
وما عند بعض الناس من كراهة تزوج الأقرباء لأنه يوجب المشاكل وعلى الأقل في الأولاد، غير ظاهر الوجه، فقد تزوج علي (عليه الصلاة والسلام) بفاطمة (عليها السلام) ، وكذلك الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام)، وهكذا نرى على طول التاريخ الإسلامي أن ابن العم وبنت العم يتزوجان وكانت الحياة أسعد من حياة الناس هذا اليوم، وكذلك كان الزواج منتشراً كثيراً بين سائر الأقرباء، وفي الحديث
ص: 323
:
أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَظَرَ إِلى وَلدَيْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ الحَسَنِ والحُسَيْنِ (صلوات الله عليهم) وبَنَاتِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالبٍ (صلوات الله عليه) فَقَال: «بَنُونَا لبَنَاتِنَا وبَنَاتُنَا لبَنِينَا»(1).والظاهر إمكان التمسك بقوله (صلى الله عليه وآله) لتعميم الترغيب في مثل ذلك من زواج الأقارب وإن كان من المحتمل وجود خصوصية في بنونهم وبناتهم (عليهم السلام).
أما المشاكل التي نراها هذا اليوم والتي كثرت في زواج الأقرباء، فهي مشاكل الحضارة الحديثة التي دخلت عالمنا، لكثرة المعاصي ومخالفة الموازين والسنن الكونية والإعراض عن أوامر الشارع الوجوبية والندبية، بل والإرشادية أيضاً.
وهذه المشاكل الحادثة ليست خاصة بالزواج بل هي عامة لكل شؤون الحياة، ولذا كثرت الأمراض وشاع القلق وجاع كثير من الناس وافتقروا، وما أشبه ذلك من المشاكل التي ذكرناها في بعض مؤلفاتنا(2).
ص: 324
مسألة: يستحب الوصية بجميع ما يملكه الإنسان حتى متاع البيت، نعم نفوذها في غير الثلث موقوف على إجازة الورثة، هذا فيما أوصى به لما بعد الموت، كما هو المعهود من الوصية.
أما الوصية بالبذل حال حياته(1) فإنها بعد تنفيذها تكون كالبذل والبهة المحققة فهي نافذة بشروطها.
وأما رجحانها على تركها لكي تبقى إرثاً، فمنوط بملاحظة التزاحم والأهم والمهم.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي الرَّجُل يُعْطِي الشَّيْ ءَ مِنْ مَالهِ فِي مَرَضِهِ، قَال: «إِنْ أَبَانَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وإِنْ أَوْصَى بِهِ فَهُوَ مِنَ الثُّلثِ»(2).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «للرَّجُل عِنْدَ مَوْتِهِ ثُلثُ مَالهِ، وإِنْ لمْ يُوصِ فَليْسَ عَلى الوَرَثَةِ إِمْضَاؤُهُ»(3).
ص: 325
رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَخْرَجَ سَفَطاً أَوْ حُقّاً(1) وأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَاباً فَقَرَأَهُ وفِيهِ وَصِيَّةُ فَاطِمَةَ (عليها السلام): بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَتْ بِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) أَوْصَتْ بِحَوَائِطِهَا السَّبْعَةِ إِلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ فَإِنْ مَضَى فَإِلى الحَسَنِ فَإِنْ مَضَى فَإِلى الحُسَيْنِ فَإِنْ مَضَى فَإِلى الأَكَابِرِ مِنْ وُلدِي شَهِدَ المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ والزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ وكَتَبَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ(2).
-------------------------
مسألة: يستحب حفظ الكتب المهمة فيما يحفظها عن التلف أو العبث بها أو ضياعها، كما فعل الإمام الباقر (عليه السلام) حيث حفظ الكتاب المتضمن
ص: 326
لوصية فاطمة الزهراء (عليها السلام) في سفط أو حق.
وهكذا ينبغي حفظ كل أثر عن كل عظيم، بل حفظ آثار المؤمنين إن كانت فيها الفائدة لهم أو لغيرهم.
عَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اكْتُبْ وبُثَ عِلمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لا يَأْنَسُونَ فِيهِ إلاّ بِكُتُبِهِمْ»(1).
وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِليْهَا»(2).
وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «المُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وتَرَكَ وَرَقَةً وَاحِدَةً عَليْهَا عِلمٌ تَكُونُ تِلكَ الوَرَقَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ سِتْراً فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّارِ، وأَعْطَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى بِكُل حَرْفٍ مَكْتُوبٍعَليْهَا مَدِينَةً أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، ومَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَقْعُدُ سَاعَةً عِنْدَ العَالمِ إلاّ نَادَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وجَل: جَلسْتَ إِلى حَبِيبِي وعِزَّتِي وجَلالي لأَسْكَنْتُكَ الجَنَّةَ مَعَهُ ولا أُبَالي»(3).
مسألة: ينبغي قراءة الوصية ونظائرها من الأمور المهمة من الكتاب مباشرة، وإن كان القارئ لها حافظاً لها، فإن الإمام الباقر (عليه السلام) كان دون
ص: 327
شك حافظاً للوصية، لكنه قرأها من الكتاب نفسه، ولعل السامع كان ضعيف الإيمان، أو لعل خلافاً حدث فأنكر بعض الوصية أو بعض حدودها، أو لعل القصد كان إثبات الأمر لمن سيأتي، أو لغير ذلك.
مسألة: يستحب الوصية بجملة من الأموال للزوج الصالح، وكذلك لو كان يوجب ذلك صلاحه، وهل كانت هذه بعنوان الوصية أو بعنوان الوقف، احتمالان.
ثم إنها إذا كانت وصية فالأكثر منالثلث مشروط برضا سائر الورثة(1)، وهل الصديقة (عليها الصلاة والسلام) كانت تملك ما يكون هذا من ثلثها، أو كان ذلك برضا سائر الورثة، لا شك في رضاهم (عليهم السلام) ، وربما يقال يقال: إنها (عليها السلام) حيث كانت تملك فدك والعوالي وإن كانتا قد غصبتا من قبل القوم، فالحوائط السبعة كانت بقدر الثلث أو أقل منها، أو ما أشبه.
وربما كان الأمر تصرفاً ولائياً، فإنها (صلوات الله عليها) حجة الله على الحجج (عليهم السلام)، وفي الحديث عن الإمام العسكري (عليه السلام): «نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة (عليها السلام) حجة الله علينا»(2). وأمرها نافذ عليهم،
ص: 328
كنفوذ أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) قال تعالى: «النَّبِيُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1).
عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ رَوْحٍ القَصِيرِ، عَنْأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «النَّبِيُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وأُولوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ»(2) فِيمَنْ نَزَلتْ، فَقَال: نَزَلتْ فِي الإِمْرَةِ، إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ جَرَتْ فِي وُلدِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام) مِنْ بَعْدِهِ فَنَحْنُ أَوْلى بِالأَمْرِ وبِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، قُلتُ: فَوُلدُ جَعْفَرٍ لهُمْ فِيهَا نَصِيبٌ، قَال: لا، قُلتُ: فَلوُلدِ العَبَّاسِ فِيهَا نَصِيبٌ، فَقَال: لا، فَعَدَدْتُ عَليْهِ بُطُونَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلبِ كُل ذَلكَ يَقُول: لا، قَال: ونَسِيتُ وُلدَ الحَسَنِ (عليه السلام) فَدَخَلتُ بَعْدَ ذَلكَ عَليْهِ فَقُلتُ لهُ: هَل لوُلدِ الحَسَنِ (عليه السلام) فِيهَا نَصِيبٌ، فَقَال: لا واللهِ، يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ مَا لمُحَمَّدِيٍّ فِيهَا نَصِيبٌ غَيْرَنَا»(3).
وعَنْ سُليْمِ بْنِ قَيْسٍ قَال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ يَقُول: (كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ أَنَا والحَسَنُ والحُسَيْنُ وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وعُمَرُ ابْنُ أُمِّ سَلمَةَ وأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَجَرَى بَيْنِي وبَيْنَ مُعَاوِيَةَ كَلامٌ، فَقُلتُ لمُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَخِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ عَليٌّ فَالحَسَنُ بْنُ عَليٍ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ
ص: 329
أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ابْنِيَ الحُسَيْنُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ فَابْنُهُ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وسَتُدْرِكُهُ يَا عَليُّ، ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وسَتُدْرِكُهُ يَا حُسَيْنُ، ثُمَّ يُكَمِّلهُ اثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً تِسْعَةً مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ، قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: واسْتَشْهَدْتُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ وعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ وعُمَرَ ابْنَ أُمِّ سَلمَةَ وأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَشَهِدُوا لي عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، قَال سُليْمٌ: وقَدْ سَمِعْتُ ذَلكَ مِنْ سَلمَانَ وأَبِي ذَرٍّ والمِقْدَادِ، وذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلكَ مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله) (1).
مسألة: يستحب الوصية إلى الأكابر من الولد على حسب مقتضى الحكمة، وقد تقتضي الوصيةَ لمن يليهم، تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولأن فيه تكريماً لهم، كما أنه من أسباب تماسك الأسرة عادة.
مسألة: يجوز النقل بالمضمون، ما دام غير مخل بالمعنى، وعلى ذلك عمل العديد من الرواة، وبذلك ظهر وجه من وجوه اختلاف الروايات.
وعلى ذلك فإن الظاهر أن الاختلاف في بعض كلمات الروايات السابقة(2)
ص: 330
ناشئ من الرواة أنفسهم، إذ كانوا يعتمدون على الحافظة غالباً.
كما يحتمل أن تكون الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أوصت مراراً عديدة، وكتبها علي (عليه السلام) أكثر من مرة، توثيقاً للأمر كي لا ينكره منكر، ولعل وصيتها كانت تارة بدون شهود، ثم طلبت من أمير المؤمنين (عليه السلام) كتابتها مرة أخرى بحضور الشهود، والله العالم.
ص: 331
في الرواية: إن فاطمة (عليها السلام) أوصت لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله) لكل واحدة منهن باثنتي عشرة أوقية(1)، ولنساء بني هاشم مثل ذلك، وأوصت لأمامة بن أبي العاص بشيء(2).
----------------------------
مسألة: يستحب الوصية للأقرباء والأنسباء.
وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل، قال سبحانه: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبينَ»(3)، وهذه الرواية أيضاً من تلك الأدلة الدالة على استحباب مثل هذه الوصية.كما أنها تدل استحباب الوصية بالنسبة إلى الأنسباء، لأنها أوصت لأزواج النبي (صلوات الله عليه وآله) أيضاً، وهن أنسباء فاطمة (عليها الصلاة والسلام)، وحيث
ص: 332
الملاك يعرف منه استحباب الوصية لمطلق الأنسباء فلا خصوصية لأزواج الأب.
هذا بالإضافة إلى استحباب مطلق الإحسان، قال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْل وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى»(1).
وقد ذكرنا في بعض الكتب الفقهية أن الإحسان منه واجب ومنه مستحب، وهذه الآية تصلح دليلاً لذلك، إذ كان (الاحسان) فيها متعلقاً لمادة الأمر.
وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ مَعَ الذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُمْ مُحْسِنُون»(2)، وإن أمكن حملها على درجات الفضل والندب، فلا يلزم نفي أصل المعية بانتفاء الإحسان، لكن قرينية (الذين اتقوا) قد تكون وافية بالمراد، فتأمل.
إلى غيرها من الآيات والروايات.
وظاهر الإطلاق في (أوصت لأزواجالنبي) شمول الوصية بإعطاء اثني عشر أوقية لأمثال عائشة وحفصة أيضا، ولعل وجهه المزيد من إتمام الحجة عليهن بالإحسان إليهن مالياً لكي لا يكون حرمانهن ذريعة لهن لعدائهن مع الصديقة الزهراء (عليها السلام).
ص: 333
مسألة: تستحب الوصية للنساء من الأقارب ومن أشبه، كما أوصت الصديقة (عليها السلام) لهن، وهل الاستحباب خاص للمرأة أن توصي للنساء أم تشمل الرجل أيضاً، لا يبعد الأعم.
أما ما ورد من النهي عن ذلك فمحمول على غير الرشيدة أو ما أشبه، أو يراد أن تكون هي الوصي(1).
مسألة: تستحب الوصية بنحو المساواة بين المتساويين من جهة أو من جهات، إلاّ إذا كانت جهة مرجحة خارجية، كما تستحب المفاضلة بين المتفاضلين على حسب فضلهم، إلاّ إذا كانت جهة مزاحمة أقوى تقتضي المساواة، كما لو كان ذلك يوجب الفتنة أو الحسد أو شبه ذلك.
ولعل لذلك أوصت الصديقة (عليها السلام) بالمساواة بين أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) رغم تفاضلهن، وبمساواتهن مع نساء بني هاشم رغم اختلافهن، والحاصل لزوم مراعاة الحكمة في الوصية، فقد تقتضي المساواة وقدتقتضي المفاضلة.
قال تعالى: «وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً»(2)، فهذا الدليل
ص: 334
حاكم على ما ربما يستفاد من مثل: (الناس سواء كأسنان المشط)(1)، و«فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لكَ فِي الخَلق»(2)، لو فرض أن له دلالة التزامية باستحباب المساواة حتى في مثل الوصية.كما أنه حاكم على مثل ما يفيد إيتاء كل ذي فضل فضله، نعم ذلك في غير ما نص عليه الشارع كالإرث، فإنه لا يجوز تقسيمه إلاّ كما حدده الشارع.
عَنْ شُعَيْبِ بْنِ يَعْقُوبَ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل يَمُوتُ مَا لهُ مِنْ مَالهِ، فَقَال: «لهُ ثُلثُ مَالهِ، وللمَرْأَةِ أَيْضاً»(3).
ص: 335
مسألة: يستحب الوصية بشيء للمعصوم (عليه السلام) كما أوصت الصديقة (عليها السلام) لعلي (صلوات الله عليه)، ولا يختص ذلك بحال حياة المعصوم بل يستحب أن يوصي لمشهده الشريف، وما يتعلق به كالمساجد أو الحسينيات أو المكتبات التي باسمه المبارك، أو شبه ذلك، فيصرف فيها وفيما يرتبط به من شؤونه (عليه السلام)، ومنها هداية الناس إلى معرفته ومعرفة حقوقه ونشر علومه عن طريق طباعة الكتب وتكثير الأشرطة وغيرها.
كما تستحب أصل الوصية لنفسه ولأقربائه ولمطلق الخير.
قال تعالى: «كُتِبَ عَليْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقين»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال:
«كَانَ البَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ الأَنْصَارِيُ بِالمَدِينَةِ، وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَكَّةَ، وإِنَّهُ حَضَرَهُ المَوْتُ وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَكَّةَ وأَصْحَابُهُ والمُسْلمُونَ يُصَلونَ إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَوْصَى البَرَاءُ إِذَا دُفِنَ أَنْ يُجْعَل وَجْهُهُإِلى تِلقَاءِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِلى القِبْلةِ، وأَوْصَى بِثُلثِ مَالهِ، فَجَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ»(2).
وعَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: «مَنْ
ص: 336
لمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لذَوِي قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلهُ بِمَعْصِيَةٍ»(1).
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى يَقُول: ابْنَ آدَمَ تَطَوَّلتُ عَليْكَ بِثَلاثٍ، سَتَرْتُ عَليْكَ مَا لوْ يَعْلمُ بِهِ أَهْلكَ مَا وَارَوْكَ، وأَوْسَعْتُ عَليْكَ فَاسْتَقْرَضْتُ مِنْكَ فَلمْ تُقَدِّمْ خَيْراً، وجَعَلتُ لكَ نَظِرَةً عِنْدَ مَوْتِكَ فِي ثُلثِكَ فَلمْ تُقَدِّمْ خَيْراً»(2).
ص: 337
عن أبي بصير، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إلاّ أقرؤك وصية فاطمة (عليها السلام)؟ قلت: بلى. قال: فأخرج إليّ صحيفة: «هذا ما عهدت فاطمة بنت محمد (عليها السلام) في أموالها إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإن مات فإلى الحسن (عليه السلام)، فإن مات فإلى الحسين (عليه السلام)، فإن مات فإلى الأكبر من ولدي دون ولدك: الدلال، والعواف، والمبيت، والبرقة، والحسنى، والصافية، وما لأم إبراهيم». شهد الله عزوجل على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام(1).
-------------------------------
مسألة: يستحب إقراء الناس وصية عظماء الدين.
فإن مثل هذا الإقراء يوجب معرفة الناس بالأحكام الشرعية التي دلت عليها الوصية، سواء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزاميةأو غيرها(2)، كما أنه يوجب تعرف الناس على الأسلوب في الوصية لتتخذ أسوة.
قول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «شهد الله عزوجل» فيه محتملات
ص: 338
ومعان:
المعنى الأول: إنه تعالى شهيد بعلمه وقيموميته وإحاطته على ذلك، فإنه سبحانه شهيد على كل شيء سواء أشهده الإنسان أو لم يشهده، لكنه بقوله يكون آكد إثباتاً(1)، وإن كان في عالم الثبوت مما لا يختلف.
المعنى الثاني: بمعنى جعلته سبحانه شهيداً على ذلك.
فالمعنى الأول إخبار وهذا المعنى إنشاء، وليس تحصيلاً للحاصل إذ إنه اعتبار يوجد بإنشائه.
المعنى الثالث: الشهادة التكوينية، كما في مثل قوله سبحانه: «وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً»(2)، فإنه استدلال على صدق الرسول (صلى الله عليه وآله) بعدم ردع الله تعالى، إذ لو لم يكن صادقاً - والعياذ بالله - لكان على الله ردعه أوفضحه، فعدم الردع والفضح دليل على تصديقه له، فهو شهادته له، فكيف بما إذا أيده بمختلف المعاجز، ومنها القرآن الحكيم النازل تحدياً للبشر بأنه لا يمكن أن يأتي بمثله بكامله، بل ولا بعشر سور من سوره، بل ولا بسورة واحدة، ولا بحديث مثله.
لكن المعنى الثالث مستبعد في المقام.
ثم إن السبب في تحديد الصديقة (عليها السلام) (الأكبر من ولدي دون ولدك) هو أن ولدها - وهم أولاده أيضاً كما هو واضح - هم الذين فيهم الأئمة (عليهم السلام) دون أولاده (عليه السلام) من غيرها.
ص: 339
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): يا ابن العم أريد أن أوصيك بأشياء فاحفظها علي.
فقال لها: قولي ما أحببت.قالت له: تزوّج فلانة، تكون مربية لولدي من بعدي مثلي، واعمل نعشاً رأيت الملائكة قد صورته لي...
قال علي (عليه السلام): أفعل(1).
-----------------------------
مسألة: يجب حفظ الوصية، خاصة وصية المعصوم (عليه السلام)، والمراد من (احفظ علي) إما حفظها مقدمة للعمل بها، أو هو كناية عن العمل نفسه أي فاعمل بها.
ص: 340
مسألة: يستحب أن يقال للمحتضر أن يوصي بما أحب، كما قال علي (عليه السلام) للصديقة (عليها السلام): «قولي ما أحببت».
فإنه نوع من الإكرام للمؤمن ونوع من الإحسان وكلاهما مستحب، إضافة إلى التأسي بهم (صلوات الله عليهم).
مسألة: ينبغي تلفظ الإنسان بوصاياه.
ولا يخفى أن كلاً من التلفظ والإشارة والكتابة داخل في جامع استحباب الوصية، وإن كان للتلفظ مزية وللإشارة مزية وللكتابة مزية، كل في مورده.
فمزية التلفظ أنه إقرار فهو داخل في (إقرار العقلاء على أنفسهم) فتأمل(1)، وأنه يسمعه ويفهمه من يعرف القراءة ومن لا يعرف، وأن احتمال نفي نسبته لقائله في المباشر، أقل عكسالكتابة.
ومزية الإشارة أنها عمل جوارحي، والعمل الجوارحي ربما يكون أدل، فقد يقول الإنسان شيئاً ربما يحتمل المجاز، وقد يعمل شيئاً لا يحتمل المجاز
ص: 341
كالإشارة باليد أو بالرأس بأن يأتي أو لا يأتي.
ومزية الكتابة أنها تبقى، وفي الحديث: «قيّدوا العلم بالكتابة»(1).
وفي حديث آخر: «قَيِّدُوا العِلمَ بِالكِتَابِ»(2).
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «قَيِّدُوا العِلمَ، قِيل: ومَا تَقْيِيدُهُ، قَال: كِتَابَتُه»(3).
كما أنها لا تحتمل عادة التغيير بالقياس إلى اللفظ المحتمل فيه ذلك أكثر، لخطأ الحافظة في بعض الأحيان.
ولعل الكتابة هنا أرجح من اللفظ، واللفظ أرجح من الإشارة، نعم تجب أحياناً الكتابة إذا توقف عليها إثبات الحقوق، كما ذكرناه في الفقه بابالوصية(4).
وأما قولها (عليها السلام): (تكون مربية لولدي من بعدي مثلي)، فإنه يراد بكونها مثلها إما المجاز بإرادة أقرب المعاني الممكنة للحقيقة، إذ لا يعقل أن يكون غيرها مثلها (صلوات الله عليها) في التربية، أو الحقيقة بإرادة المعنى الظاهري المادي الملموس من التربية، لا المعنوي الروحي العلمي وشبه ذلك.
ص: 342
مسألة: ينبغي انتخاب الأصلح والأفضل لتربية الأبناء عند الزواج بامرأة أخرى بعد وفاة الأولى أو طلاقها أو شبه ذلك(1).
كما ورد انتخاب الأصلح في أصل الزواج واختيار المرضعة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّمَا المَرْأَةُ قِلادَةٌ فَانْظُرْ إِلى مَا تَقَلدُهُ، قَال: وَسَمِعْتُهُ يَقُول: «ليْسَ للمَرْأَةِ خَطَرٌ لا لصَالحَتِهِنَّ ولا لطَالحَتِهِنَّ، أَمَّا صَالحَتُهُنَّ فَليْسَ خَطَرُهَا الذَّهَبَ والفِضَّةَ، بَل هِيَ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأَمَّا طَالحَتُهُنَّ فَليْسَ التُّرَابُ خَطَرَهَا بَل التُّرَابُ خَيْرٌ مِنْهَا»(2).
وقَامَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَطِيباً فَقَال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ».
قِيل: يَا رَسُول اللهِ ومَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ، قَال: «المَرْأَةُ الحَسْنَاءُ فِي مَنْبِتِ السَّوْءِ»(3).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ فَإِنَّ اللبَنَ يُعْدِي، وإِنَّ الغُلامَ يَنْزِعُ إِلى اللبَنِ يَعْنِي إِلى الظِّئْرِ فِي الرُّعُونَةِ والحُمْقِ»(4).
ص: 343
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) يَقُول: لا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ فَإِنَّ اللبَنَ يَغْلبُ الطِّبَاعَ، وَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): لا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ فَإِنَّ الوَلدَ يَشِبُّ عَليْهِ»(1).
مسألة: الظاهر أن الصديقة (عليها السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) يرون الملائكة، ولكنهم لا يوحى إليهم بالوحي النبوي كما هو واضح، وأما تكلمهم مع الملائكة وتكلمها معهم فهو ممكن وواقع، وليس هو بالوحي المصطلح أي ما يوحى للنبي بما هو نبي.
وفي روايات كثيرة أن الملائكة تختلف عليهم (صلوات الله عليهم):قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «ما يَنْقِمُ النَّاسُ مِنَّا فَنَحْنُ واللهِ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَعْدِنُ العِلمِ ومُخْتَلفُ المَلائِكَةِ»(2).
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّا أَهْل البَيْتِ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ ومَوْضِعُ الرِّسَالةِ ومُخْتَلفُ المَلائِكَةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَعْدِنُ العِلمِ»(3).
وعَنْ خَيْثَمَةَ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا خَيْثَمَةُ نَحْنُ شَجَرَةُ
ص: 344
النُّبُوَّةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَفَاتِيحُ الحِكْمَةِ ومَعْدِنُ العِلمِ ومَوْضِعُ الرِّسَالةِ ومُخْتَلفُ المَلائِكَةِ ومَوْضِعُ سِرِّ اللهِ، ونَحْنُ وَدِيعَةُ اللهِ فِي عِبَادِهِ، ونَحْنُ حَرَمُ اللهِ الأَكْبَرُ، ونَحْنُ ذِمَّةُ اللهِ، ونَحْنُ عَهْدُ اللهِ، فَمَنْ وَفَى بِعَهْدِنَا فَقَدْ وَفَى بِعَهْدِ اللهِ، ومَنْ خَفَرَهَا فَقَدْ خَفَرَ ذِمَّةَ اللهِ وعَهْدَهُ»(1).وفي زيارة الجامعة: «السَّلامُ عَليْكُمْ يَا أَهْل بَيْتِ النُّبُوَّةِ ومَوْضِعَ الرِّسَالةِ ومُخْتَلفَ المَلائِكَةِ ومَهْبِطَ الوَحْيِ ومَعْدِنَ الرَّحْمَةِ وخُزَّانَ العِلمِ ومُنْتَهَى الحِلمِ وأُصُول الكَرَم»(2).
ص: 345
روي أن فاطمة (صلى الله عليه وآله) أوصت: أن تدفن ليلاً.
-------------------------
مسألة: يستحب أو يجب الوصية بالدفن ليلاً إذا كان الدفن في النهار مقدمة لمحذور من المحرمات أو المكروهات، أو كان في الدفن ليلاً مصلحة ملزمة أو راجحة.
والمحذور قد يكون العدو أو الحيوان أو ما أشبه.
والمصلحة قد تكون فضح الظالم وإظهار البراءة منه كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها).
وفي العكس أيضاً كذلك، كما إذا كان في دفن الليل محذور فإنه يستحب أو يجب الدفن نهاراً، وكذلك بالنسبة إلى ساعات الليل والنهار على حسب القواعد العامة.
وإلا فالأفضل التعجيل بتجهيز الميت على ما ذكر في أحكامه.
قَال ابْنُ طَلحَةَ: فَلمَّا مَاتَ علي (عليه السلام) غَسَّلهُ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ومُحَمَّدٌ يَصُبُّ المَاءَ، ثُمَّ كُفِّنَ وحُنِّطَ وحُمِل ودُفِنَ فِي جَوْفِ الليْل بِالغَرِي (1).
ص: 346
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لا أَلقَيَنَ رَجُلا مَاتَ لهُ مَيِّتٌ ليْلا فَانْتَظَرَ بِهِ الصُّبْحَ، ولا رَجُلا مَاتَ لهُ مَيِّتٌ نَهَاراً فَانْتَظَرَ بِهِ الليْل، لا تَنْتَظِرُوا بِمَوْتَاكُمْ طُلوعَ الشَّمْسِ ولا غُرُوبَهَا، عَجِّلوا بِهِمْ إِلى مَضَاجِعِهِمْ يَرْحَمُكُمُ اللهُ، قَال النَّاسُ: وأَنْتَ يَا رَسُول اللهِ يَرْحَمُكَ اللهُ»(1).
ص: 347
روي أنه: أوصت فاطمة (عليها السلام) أن تحمل على سرير طاهر.
----------------------------
مسألة: يستحب الوصية بالحمل على سرير طاهر.
مسألة: لا تشترط الطهارة في السرير الذي يحمل عليه الميت وإن كانت مستحبة، نعم لا تجوز النجاسة المسرية إلى كفن الميت أو جسده.
ثم إنه هل الطهارة تشمل المعنى الأعم أي المعنوية أيضاً، بأن لا يكون السرير وشبهه مغصوباً، أو تختص بالطهارة الظاهرية بأن لا يكون نجساً، الإطلاق يقتضي الأعم، وإن كان الانصراف يقتضي الأخص(1).
كما أن الطهارة الظاهرية تشمل الطهارة عن القذارة وإن لم تكن نجسة، وعن النجاسة كما لا يخفى.
قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّالمُتَطَهِّرين»(2).
ص: 348
قالت أسماء: فرأيتها - أي الصديقة فاطمة (عليها السلام) - رافعةً يديها إلى السماء وهي تقول: «اللهم إني أسألك بمحمد المصطفى وشوقه إليّ، وببعلي علي المرتضى وحزنه عليّ، وبالحسن المجتبى وبكائه عليّ، وبالحسين الشهيد وكآبته عليّ، وببناتي الفاطميات وتحسّرهن عليّ، أن ترحم وتغفر للعصاة من أمة محمد وتدخلهم الجنة، إنك أكرم المسؤولين وأرحم الراحمين»(1).
----------------------------
مسألة: يستحب الدعاء بالخمسة الطيبة (عليهم السلام)، كما سألت الصديقة (عليها السلام) الباري عزوجل بهم في دعائها.
وقد أمر الله أنبياءه (عليهم السلام) في الأمم السابقة بالتوسل بهم (صلوات الله عليهم) كما دلت على ذلك متواتر الروايات، بل هذا موجود في روايات العامة أيضاً.
عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله):
ص: 349
«إِنَّهُيُكْرَهُ للعَبْدِ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ ولكِنِّي أَقُول: إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) لمَّا أَصَابَ الخَطِيئَةَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ أَنْ قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا غَفَرْتَ لي، فَغَفَرَهَا لهُ.
وإِنَّ نُوحاً (عليه السلام) لمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ وخَافَ الغَرَقَ قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا أَنْجَيْتَنِي مِنَ الغَرَقِ، فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنْهُ.
وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لمَّا أُلقِيَ فِي النَّارِ قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا أَنْجَيْتَنِي مِنْهَا، فَجَعَلهَا اللهُ عَليْهِ بَرْداً وسَلاماً.
وإِنَّ مُوسَى (عليه السلام) لمَّا أَلقَى عَصَاهُ وأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا آمَنْتَنِي، فَقَال لهُ اللهُ عَزَّ وجَل: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى»(1).
وعَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ قَال: إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَكْثَرُ مَا يُلحُّ بِهِ فِي الدُّعَاءِ عَلى اللهِ بِحَقِ الخَمْسَةِ، يَعْنِي رَسُول اللهِ وأَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وفَاطِمَةَ والحَسَنَ والحُسَيْنَ عليهم السلام»(2).وعَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ، عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي قَوْلهِ تَعَالى «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلماتٍ»(3)، قَال: «هِيَ الكَلمَاتُ التِي تَلقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ فَتَابَ عَليْهِ، وهُوَ أَنَّهُ قَال: يَا رَبِّ أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وعَليٍّ وفَاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ
ص: 350
إلاّ تُبْتَ عَليَّ فَتَابَ عَليْهِ»(1) الحديث.
وعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ قِصَّةِ يُوسُفَ يَقُول فِي آخِرِهِ: «هَبَطَ جَبْرَئِيل عَلى يَعْقُوبَ فَقَال: إلاّ أُعَلمُكَ دُعَاءً يَرُدُّ اللهُ بِهِ بَصَرَكَ ويَرُدُّ عَليْكَ ابْنَيْكَ، قَال: بَلى، قَال: فَقُل: مَا قَالهُ أَبُوكَ آدَمُ فَتَابَ اللهُ عَليْهِ، ومَا قَالهُ نُوحٌ فَاسْتَوَتْ سَفِينَتُهُ عَلى الجُودِيِّ ونَجَا مِنَ الغَرَقِ، ومَا قَالهُ أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ خَليل الرَّحْمَنِ حِينَ أُلقِيَ فِي النَّارِ فَجَعَلهَا اللهُ عَليْهِ بَرْداً وسَلاماً، قَال يَعْقُوبُ: وَمَا ذَلكَ يَا جَبْرَئِيل.
فَقَال: قُل: اللهُمَ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وعَليٍّ وفَاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ (عليهم السلام) أَنْ تَأْتِيَنِي بِيُوسُفَ وبِنْيَامِينَ جَمِيعاً وتَرُدَّ عَليَّ عَيْنِي، فَقَالهُ فَمَااسْتَتَمَّ يَعْقُوبُ هَذَا الدُّعَاءَ حَتَّى جَاءَ البَشِيرُ فَأَلقَى قَمِيصَ يُوسُفَ عَليْهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً»(2).
ونقل أنه وجد أخيراً في الحرب العالمية الأولى سنة 1916م، عندما كان بعض الجنود البريطانيين يحفرون ملاجئ لهم في الحرب في قرية (أونتره) التي تبعد بضعة كيلو مترات عن مدينة القدس أنهم عثروا على لوح فضية مرصعة حواشيها بالمجوهرات الثمينة قد رسمت في وسطها حروف مذهبة، فأخذ الجنود تلك اللوح
ص: 351
إلى قائدهم(1) وكلما حاول هذا القائد فهم تلك الخطوط لم يتمكن، لكنه أدرك أن اللوحة كتبت بلغة قديمة جداً، ثم تناقلت هذه اللوحة أيد كثيرة إلى أن وصلت إلى يد القائد الجيش(2) وبعد جمع عدة من العلماء في اللغات القديمة من بريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا وجملة من الدول الأوروبيةكشفوا(3) أن هذه لوحة كتب في زمان سليمان (عليه الصلاة والسلام) وهو كلامه، ففي اللوح كتب هذا الكلام:
«يا أحمد أغثني، يا علي أعني، يا بتول اطفي عليّ(4)، يا حسن أكرمني(5)، يا حسين سرني(6)، هذا سليمان يستغيث الآن بهذه العظماء الخمسة، وعليٌّ هو قدرة الله»(7).
وقد سببت هذه اللوحة إسلام جماعة من الغربيين(8).
ص: 352
ونقل أيضاً في قصة مشابهة في شهر حزيران من عام 1951م كانت من مجموعة من خبراء المناجم الروس تبحث عن منجم فاشتغلوا بحفر الأرض، وعند ذلك عثروا على بعض الألواح الخشبية القديمة التي نخرتها الأرض وأثرت أثرها فيها، وبعدما حفروا أكثر وجدوا قطعاً كثيرة تحت الأرض قد أصبحت خاوية بسبب مرور الزمن عليها، ومن العلامات الموجودة عليها أدركوا بأنها لابد أن تتكون من الخشب غير العادي وتشتمل على بعض الرموز، ولذا أخذوا ينبشون الأرض بدقة كاملة فرأوا قطعاً من الخشب البالي وأشياء أخرى ثم رأوا خشبة مستطيلة الشكل قد حيّرتهم جميعاً لأنها كانت صحيحة سالمة لم تؤثر الأرض فيها بخلاف سائر الخشب.
ثم إن الدولة الروسية لما علمت بهذا الحادث شكلت(1) لجنة بالتحقيق حول هذه الخشبة، وقد شكلت اللجنة بعضوية جملة من خبراء الآثار وأساتذة اللغات القديمة وبالنتيجة وبعد ثمانية أشهر من التحقيق انكشفت لدى اللجنة أسرار هذه الخشبة، وتبين لها أن هذه الخشبة هي قطعة من سفينة نوح (عليه السلام) قدكتب عليها بعض الكلمات باللغة السامانية، للاستنجاد والتيمن، وكان الرسم بشكل كف اليد، وكان قد علقها على صدر السفينة، وكان المكتوب عليها بترجمتنا العربية له:
«يا رب يا معيني، بلطفك ورحمتك وبالذوات المقدسة محمد، إيليا،
ص: 353
شبّر، شبير، وفاطمة (عليهم السلام) خذ بيدي، هذه الذوات الخمسة المقدسة هي أعظم من كل أحد، ويجب احترامها، وخُلق كل العالم لأجلها، إلهي بواسطة أسمائهم أسعفني، إنك قادر على أن تهدي الناس إلى الصراط المستقيم»(1).
ثم لا يخفى استدلالنا على عظمة الخمسة الطيبة وسائر المعصومين (عليهم السلام) ومكانتهم هو بالعقل والمعجزات والقرآن والنقل المتواتر، الصيحح سنداً، والصريح دلالةً، وبالبراهين العلمية، وأما ما نقلناه فيصلح دليلاً أو مؤيداً حتى للمشكك، فإنه لا مجال لاستبعاد ذلك بل إن وجود اللوحين هو على القاعدة(2).
ص: 354
مسألة: يستحب التوسل والدعاء بالنساء الفاطميات، كالسيدة الجليلة زينب الكبرى (صلوات الله عليها).
ومنه يعلم استحباب التوسل بالسيدة الجليلة أم البنين (عليها السلام)، والسيدة الجليلة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) وأمهات المعصومين (صلوات الله عليهم)، ومن أشبه من الصالحات المنتسبات إلى أهل البيت (عليهم السلام).
وذلك لعدم القول بالفصل، بل لإلغاء الخصوصية في أصل القضية وإن كانت ذات مدخلية في درجاتها، وسائر الأدلة بإطلاقها شاملة للمقام، مثل قوله تعالى: «وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسيلة»(1).
كما قالت الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «وببناتي الفاطميات».
ثم إن إتيانها بصيغة الجمع (ببناتي) فيه احتمالان:
الأول: المراد هو الجمع المنطقي والعرفي حيث يصدق على الاثنين، فيراد بها زينب وأم كلثوم (عليهما السلام). وإطلاق الجمع على الاثنين كثير، كما لا يخفى على من له إلمام باللغةالعربية، بل وحتى سائر اللغات.
الاحتمال الثاني: ما ذكره بعض المؤرخين من أن الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) ولدت لعلي (عليه الصلاة والسلام) ثلاث بنات: زينب وأم كلثوم وبنت ثالثة، فالجمع لغوي أيضاً، لا منطقي عرفي فقط.
ص: 355
ولا يبعد شمول الملاك في ما ذكر من التوسل بهن (عليهن السلام) لسائر المقربين إلى الله سبحانه من العلماء والزهاد والعباد ومن أشبه.
مسألة: يستحب بيان أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان كثير البكاء على أُمه فاطمة (عليها السلام)، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) كثير الكآبة عليها (صلوات الله وسلامه عليها).
وهذا يدل على شدة ارتباطهما بأُمهما فاطمة (عليها السلام) ورقة قلبهما.
ويستحب التأسي بهما في ذلك أيضاً.
والكآبة هي الغم والانكسار من الحزن، وتتجلى بعض التجلي على ملامح الوجه وغيره، من دون بكاء أو مع قلته، وأما البكاء فهو المظهر الأظهر للحزن، ولعل الكآبة أخص مطلقاً منالحزن(1).
وهكذا كان سائر المعصومين (عليهم السلام).
مسألة: يستحب كثرة الكآبة والبكاء لميت يستحق ذلك كالأُم الصالحة، فيكف إذا كانت من العارفات الكاملات، إلاّ إذا زوحم ذلك بالأهم.
هذا مضافاً إلى فوائد البكاء الكثيرة.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّيْقَل، عَنْ أَبِيهِ، قَال: شَكَوْتُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللهِ
ص: 356
(عليه السلام) وَجْداً وَجَدْتُهُ عَلى ابْنٍ لي هَلكَ حَتَّى خِفْتُ عَلى عَقْلي، فَقَال: «إِذَا أَصَابَكَ مِنْ هَذَا شَيْ ءٌ فَأَفِضْ مِنْ دُمُوعِكَ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْكَ»(1).
وقَال (عليه السلام): «مَنْ خَافَ عَلى نَفْسِهِ مِنْ وَجْدٍ بِمُصِيبَةٍ فَليُفِضْ مِنْ دُمُوعِهِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْهُ»(2).
مسألة: يستحب ذكر الوصف فيما يقتضيه، وقد ذكرت الصديقة (صلوات الله عليها) في كل واحد من الأسماء اللقب وإحدى خصوصياته المناسبة للمقام. وهكذا نجد في القرآن الكريم وسائر الروايات.
قال تعالى: «الذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُول النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجيل يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ويُحِل لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَليْهِمُ الخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلال التي كانَتْ عَليْهِمْ فَالذينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلحُون»(3).
وعَنْ بُرَيْدَةَ، قَال: أَمَرَنَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نُسَلمَ عَلى عَليٍ (عليه السلام) بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ(4).
ص: 357
وعن أَبِي ذَرٍّ قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نُسَلمَ عَلى عَليٍ (عليه السلام)، وقَال: سَلمُوا عَلى أَخِي، وخَليفَتِي، ووَارِثِي فِي قَوْمِي، ووَليِّ كُل مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ مِنْ بَعْدِي سَلمُوا عَليْهِ بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ وَليُّ كُل مَنْ سَكَنَ الأَرْضَ إِلى يَوْمِ العَرْضِ، ولوْ قَدَّمْتُمُوهُ لأَخْرَجَتْ لكُمُ الأَرْضُ بَرَكَاتِهَا فَإِنَّهُ أَكْرَمُ كُل مَنْ عَليْهَا مِنْ كُل أَهْلهَا، قَال أَبُو ذَرٍّ:فَرَأَيْتُ عُمَرَ قَدْ تَغَيَّرَ لوْنُهُ وقَال: أَحَقٌّ مِنَ اللهِ؟ قَال: نَعَمْ، أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وقَال: أَحَقٌّ مِنَ اللهِ؟ قَال: نَعَمْ، أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي، وذَلكَ حَقٌّ مِنَ اللهِ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَقَامَ وسَلمَ عَليْهِ بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَقْبَل عَلى أَصْحَابِهِمَا وقَالوا مَا قَالاه(1).
مسألة: يستحب الدعاء لعموم الناس، ويتأكد في حالات الشدة والحزن، للأدلة الخاصة، ولأقربية استجابة الدعاء حينئذ حيث انكسار القلب، وفي الحديث القدسي: «أنا عند المنكسرة قلوبهم»(2)، ولما يستفاد من الروايات أن المريض والمبتلى قد يكون أقرب إلى رحمة الله تعالى.
كما يشمله أيضاً عموم استحباب الدعاء، قال سبحانه: «وَقال رَبُّكُم ادْعُوني أَسْتَجِبْلكُمْ»(3).
ص: 358
وقال تعالى: «قُل ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لوْ لا دُعاؤُكُم»(1).
وفي الحديث: «الدعاء سلاح المؤمن»(2).
وقال عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة»(3).
إلى غير ذلك مما رواه العلامة المجلسي (رحمه الله) في كتاب الدعاء من البحار، وألمعنا إلى جملة منها في بعض كتبنا.
مسألة: يستحب التأكيد على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ومظلوميته، كما قالت (عليها السلام): «وبالحسين الشهيد».
وهكذا كان التأكيد من قبل سائر المعصومين (عليهم السلام):روي أن الإمام الحسن (عليه السلام) قال للإمام الحسين (عليه السلام): «إِنَّ الذِي يُؤْتَى إِليَّ سَمٌّ يُدَسُّ إِليَّ فَأُقْتَل بِهِ، ولكِنْ لا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله»(4).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: لمَّا اشْتَدَّ بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَرَضُهُ الذِي مَاتَ فِيهِ ضَمَّ الحُسَيْنَ (عليه السلام) إِلى صَدْرِهِ يَسِيل مِنْ عَرَقِهِ عَليْهِ وهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ويَقُول: مَا لي وليَزِيدَ، لا بَارَكَ اللهُ فِيهِ، اللهُمَّ العَنْ يَزِيدَ، ثُمَّ غُشِيَ عَليْهِ
ص: 359
طَوِيلا وأَفَاقَ وجَعَل يُقَبِّل الحُسَيْنَ (عليه السلام) وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ويَقُول: أَمَا إِنَّ لي ولقَاتِلكَ مُقَاماً بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وجَل»(1).
مسألة: يستحب كثرة البكاء والكآبة والتحسر على فقد المعصوم (عليه السلام)، وخاصة الصديقة فاطمة (عليها السلام)كما كانوا (عليهم السلام) كذلك في فقدها (عليهم السلام).
ولا يتوهم أن ذلك خاص بسنة دونأخرى أو مكان دون آخر، نعم في المناسبات يتأكد الاستحباب، فإن كل ذلك مشمول لأدلة المواساة وأدلة البكاء والحزن، مثل:
«وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا»(2).
و: «تلك الصرخة التي كانت لنا»(3).
و: «يحزنون لحزننا»(4).
ص: 360
و: «وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا»(1).
مسألة: يستحب كثرة البكاء والكآبةوالتحسر على فقد الأُم.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَال: أَقْبَل عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) بَاكِياً وهُوَ يَقُول: «إِنَّا للهِ وإِنَّا إِليْهِ راجِعُونَ»، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَهْ يَا عَليُّ»، فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): «يَا رَسُول اللهِ مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ» قَال: فَبَكَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَال: «رَحِمَ اللهُ أُمَّكَ يَا عَليُّ، أَمَا إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لكَ أُمّاً فَقَدْ كَانَتْ لي أُمّاً»(2) الحديث.
مسألة: تستحب الشفاعة للمذنبين، وقد سبق الكلام عن ذلك في بعض أجزاء الكتاب.
مسألة: يستحب الدعاء للشفاعة وشمولها للمذنبين.
ثم إن المراد من (تغفر للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وآله) هو من له قابلية أن تشمله المغفرة، ومن له صلاحية أن يشفع له، إذ من الواضح خروج أقوام من ذلك كالناصبي ومنكر الولاية عن عناد وإصرار، أما القاصر منهمفيعاد امتحانه يوم القيامة.
ص: 361
والحاصل: إن (العصاة) هنا منصرف إلى من ارتضى الله الشفاعة له، لا مطلقاً.
قال تعالى: «لا يَشْفَعُونَ إلاّ لمَنِ ارْتَضى»(1).
وفي الرواية: «لا تنال شفاعتنا مستخفاً بصلاته»(2).
ص: 362
كان من دعاء الصديقة فاطمة (عليها السلام) في شكواها(1):
«يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ فَأَغِثْنِي، اللهُمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ، وَأَدْخِلنِي الجَنَّةَ، وَأَلحِقْنِي بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)». فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول لها: «يعافيك الله ويبقيك». فتقول: «يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق بالله»(2).
----------------------------
مسألة: يستحب طلب الجنة، والزحزحة عن النار.
لا يقال: إن الصديقة (عليها السلام) كانت تعرف أنها تدخل الجنة وتزحزح عن النار، فما فائدة الدعاء بذلك؟
لأنه يقال: هذا من الضراعة إلى اللهوالتواضع والعبودية له عزوجل(3)،
ص: 363
وهو مطلوب جداً، كما تدل على ذلك الآيات والروايات، إضافة إلى أنه يوجب مزيد نعيم الجنة ورفع الدرجات، وقد دعا إبراهيم (عليه السلام) بمثل ذلك إذ قال: «وَاجْعَلني مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيم»(1).
ثم إن ذلك يوجب مزيداً من الزلفى إلى الله سبحانه، كما ذكروا في الصلوات على محمد وآله (عليهم السلام)، وقد مثل له بعض العلماء للتقريب بأنه تكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مثلاً حديقة كبيرة تحتوي على مليار ورد، مع ذلك تخلق بكل صلاة عليه وردة جديدة، وكذلك إذا كانت هناك ألف مليون شمعة فكل واحدة من الصلوات توجب شمعة جديدة، وهكذا بالنسبة إلى سائر نعيم الجنة، لأن نعم الله تعالى لا تُحصى ولا آخر لها، قال عزوجل: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها»(2).
مسألة: يستحب الاستغاثة بالله تعالى بأسمائه، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «يا حي يا قيوم».
ومناسبة الاستغاثة بهذين الاسمين أن الحي القائم على كل شيء قيامَ خلق وتصرف تدبير حدوثاً وبقاءً هو الذي يمكنه الإغاثة وهو الذي ينبغي أن يستغاث به.
قال تعالى: «وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وذَرُوا الذينَ يُلحِدُونَ في
ص: 364
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلون»(1).
وعَنِ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «للهِ عَزَّ وجَل تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ اسْماً مَنْ دَعَا اللهَ بِهَا اسْتُجِيبَ لهُ، ومَنْ أَحْصَاهَا دَخَل الجَنَّةَ، وقَال اللهُ عَزَّ وجَل: (وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)»(2).
وَقَال الرِّضَا (عليه السلام): «إِذَا نَزَلتْ بِكُمْ شَدِيدَةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلى اللهِ عَزَّ وجَل، وهُوَ قَوْلهُ (وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)»(3).
مسألة: يستحب الدعاء بالالتحاق بالرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) في الجنان، كما طلبت الصديقة (عليها السلام) أن يلحقها الله تعالى بأبيها محمد (صلى الله عليه وآله).
ومن فوائد الدعاء أن يوفقه الله للعمل بما يوجب له الالتحاق بركبهم في الجنة، كما أن من فوائده تفضله تعالى عليه بذلك حسب مشيئته.
وفي الأدعية: «اللهُمَّ واحْشُرْنَا مَعَ الأَئِمَّةِ الهُدَاةِ مِنْ آل رَسُولكَ نُؤْمِنُ بِسِرِّهِمْ وعَلانِيَتِهِمْ وشَاهِدِهِمْ وغَائِبِهِم»(4).
ص: 365
وكذلك: «وَاحْشُرْنَا مَعَ أَئِمَّتِنَا فَإِنَّا بِهِمْ مُؤْمِنُونَ مُوقِنُونَ ولهُمْ مُسَلمُونَ آمَنَّا بِسِرِّهِمْ وعَلانِيَتِهِمْ وشَاهِدِهِمْ وغَائِبِهِمْ وحَيِّهِمْ ومَيِّتِهِمْ»(1).
وورد: «اللهُمَّ اجْعَل مَحْيَايَ مَحْيَاهُمْ ومَمَاتِي مَمَاتَهُمْ واجْعَلنِي مَعَهُمْ فِي المَوَاطِنِ كُلهَا ولا تُفَرِّقْ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْ ءٍ قَدِير»(2).وكذلك: «اللهُمَّ أَحْيِنِي حَيَاةَ مُحَمَّدٍ وذُرِّيَّتِهِ وأَمِتْنِي مَمَاتَهُمْ وتَوَفَّنِي عَلى مِلتِهِمْ واحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهِمْ ولا تُفَرِّقْ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً فِي الدُّنْيَا والآخِرَة»(3).
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّ أَنْ يَحْيَا حَيَاتِي ويَمُوتَ مَمَاتِي، ويَدْخُل جَنَّةَ رَبِّي جَنَّةَ عَدْنٍ مَنْزِلي، قَضِيبٌ مِنْ قُضْبَانِهَا غَرَسَهَا اللهُ رَبِّي بِيَدِهِ، فَليَتَوَل عَليّاً والأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُمْ أَئِمَّةُ الهُدَى، أَعْطَاهُمُ اللهُ فَهْماً وعِلماً، فَهُمْ عِتْرَتِي مِنْ لحْمِي ودَمِي، إِلى اللهِ أَشْكُو مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ أُمَّتِي، واللهِ ليَقْتُلنَّ ابْنِي لا أَنَالهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي»(4).
ص: 366
مسألة: يستحب أن يدعو الإنسان للمريض بالعافية والبقاء حتى إذا علم بقرب وفاته(1).
فالعافية لحاجة الإنسان إليها في كل لحظة لحظة من حياته وبعد وفاته إلى الأبد، وفي الدعاء: «وَارْزُقْنِي العَافِيَةَ ودَوَامَ العَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(2).
والبقاء لإمكان أن يستجيب الله دعاءه، فربما كان الأجل في لوح المحو والإثبات، لا لوح أم الكتاب، وقد قال سبحانه: «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب»(3).
ثم إن الدعاء مطلوب حتى مع العلم بعدم استجابته بخصوصه، وذلك لأنه تعالى يعوض عما لم يستجب له بعطاء آخر أعظم مما فات إما في الدنيا أو في الآخرة، كما دلت عليه الروايات، إضافة إلى أن الدعاء في حد ذاته مقرب إلى الله، ونوع تحبب وتضرع له، وهومطلوب لنفسه(4).
وتفصيل البحث في علم الكلام أردنا الإشارة فقط.
ص: 367
وقد ورد: «وَارْزُقْنِي العَافِيَةَ إِلى مُنْتَهَى أَجَلي»(1).
وورد: «وَارْزُقْنِي العَافِيَةَ والسَّلامَةَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(2).
وَقِيل للنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «إِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ليْلةَ القَدْرِ فَمَا أَسْأَل رَبِّي، قَال (صلى الله عليه وآله): العَافِيَة»(3).
ص: 368
عن أم سلمة في حديث، قالت لها فاطمة (عليها السلام): «يا أماه إني مقبوضة الآن، فلا يكشفني أحد ولا يغسّلني أحد»(1).
----------------------------
أقول: أي لا يغسلها أحد غير علي (عليه السلام).
مسألة: يستحب خطاب نساء النبي (صلى الله عليه وآله) الصالحات بالأُم، كما يجوز خطاب المرأة الكبيرة بالأُم احتراماً لها، وإن لم تكن أُماً حقيقية.
وأما قوله تعالى: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ»(2)، فالمراد منه أنها أُم من جهة حرمة الزواج منها، وإلا فليست أُماً حقيقية، ولذا لا يجوز النظر لها من دون حجاب، كما لا يرث منها المسلمون ولا ترثهم بادعاء أنها أُم لهم، كما لا يجوز الأكل من بيوتهن بدون إذنهنلعامة المسلمين(3).
ص: 369
قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلكُمْ أَطْهَرُ لقُلوبِكُمْ وَقُلوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا»(1).
ورُوِيَ: أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْمَ البَصْرَةِ فَقَالوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اقْسِمْ بَيْنَنَا غَنَائِمَهُمْ قَال: أَيُّكُمْ يَأْخُذُ أُمَ المُؤْمِنِينَ فِي سَهْمِه (2).
كما أن شرف (أمهات المؤمنين) ما دامت في طاعة الله(3)، كما ورد في الحديث الشريف(4).وقد ورد في حوار أنه قَال مُعَاوِيَةُ: يَا شَيْخُ الحَقُّ مَعَ عَليٍّ أَمْ مَعَ عَائِشَةَ؟ قَال الشَّيْخُ: بَل مَعَ عَليٍّ. قَال مُعَاوِيَةُ: يَا شَيْخُ أَ لمْ يَقُل اللهُ: «وَأَزْواجُهُ
ص: 370
أُمَّهاتُهُمْ»(1) وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) هِيَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ؟
قَال الشَّيْخُ: أَ لمْ يَقُل اللهُ تَعَالى «يا نِساءَ النَّبِيِ» إِلى قَوْلهِ: «وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليَّةِ الأُولى»(2) وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «أَنْتَ يَا عَليُّ خَليفَتِي عَلى نِسَائِي وأَهْلي وطَلاقُهُنَّ بِيَدِكَ» أَفَتَرَاهَا خَالفَتْ اللهَ تَعَالى فِي ذَلكَ عَاصِيَةً اللهَ ورَسُولهُ خَارِجَةً مِنْ بَيْتِهَا وهِيَ فِي ذَلكَ سَفَكَتْ دِمَاءَ المُسْلمِينَ وأَذْهَبَتْ أَمْوَالهُمْ، فَلعْنَةُ اللهِ عَلى القَوْمِ الظَّالمِينَ...)(3).
مسألة: يكره الكشف عن المرأة الميتة، إذا لم يكن في الكشف مصلحة، والكراهة للمَحرَم أو النساء، أما الأجنبي فلا يجوز.
ثم إن العقل يدل على ما ذكر مضافاً إلى الشرع، لأن الإنسان العادي إذا مات خصوصاً المرأة تتغير معالمها كثيراً.
وهناك احتمالات في سبب وصيتها (عليها السلام) بعدم الكشف عنها.
منها: إنه لعلها أرادت بذلك أن تبين الحكم الكلي مما يسمى بضرب القانون العام، وإلاّ فإنها (عليها الصلاة والسلام) لم تتغير معالمها بالموت لعصمتها وطهارتها، وأنهم (عليهم السلام) في حال حياتهم كحال مماتهم، وفي حال مماتهم كحال حياتهم، قال تعالى: «إِنَّما يُريدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل البَيْتِ
ص: 371
ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرا»(1).
ومثله تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله) وهو طاهر مطهر حياً وميتاً، وقد سُئل علي (عليه الصلاة والسلام) بعد ذلك، فقال (عليه السلام): «جرت به السنة».
عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدٍ قَال: كَتَبْتُ إِلى الصَّادِقِ (عليه
السلام): هَل اغْتَسَل أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حِينَ غَسَّل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) طَاهِراً مُطَهَّراً، ولكِنْ فَعَل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) ذَلكَ وجَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ(2).
ومعنى جريان السنة ضرب القانون، حيث إن القانون إذا ضرب يجب أن يشمل الجميع، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الفقه القانون.
نعم إذا كان في الكشف مصلحة من المصالح لوحظ الأهم والمهم من الأمرين.
ومن الاحتمالات: إنها (عليها السلام) أوصت أن لا يكشفها أحد، كي لا تأتي ابنتها زينب وأولادها الآخرين فيكشفوا عنها قبل حضور أمير المؤمنين (عليه السلام) مما يشكل صدمة نفسية كبيرة لهم حيث المفاجأة بموتها(3).
ومن الاحتمالات: إنه ربما كان السبب هو رعاية لزوجها وبنيها عن رؤية ما كان على جسدها ووجهها من آثار الضرب والمسمار وكسر الضلع والدملج، فإنالقوم (لعنهم الله) ضربوها بقصد القتل، وذلك عندما رأوا منها الدفاع الشديد
ص: 372
عن بعلها أمير المؤمنين (صلوات الله عليها) فخافوا على كرسيهم وخلافتهم التي اغتصبوها، فخططوا للقضاء عليها وقتلها. فأمر ابن أبي قحافة بالهجوم على دارها وحرقها وقتل من فيها، وقام ابن الخطاب بالهجوم والإحراق والضرب وإسقاط الجنين.
وذلك كله مضافاً إلى الهجوم عليها بعد ما خرجت وهي تحمل صك فدك حيث اعترضها ابن الخطاب في الطريق بأمر ابن أبي قحافة وأخذ منها الصك ومزقه ثم ضربها أشد الضرب على وجهها وجسدها حتى وقعت على الأرض مغشياً عليها.
والظاهر أنهم هجموا على الزهراء (صلوات الله عليها) أكثر من هجمة، وضربها أكثر من شخص، كان على رأسهم ابن الخطاب وكان أكثرهم وأشدهم ضرباً لها (صلوات الله عليها)، حتى تيقنوا بأنها ستموت من علتها، فلا يبقى من يدافع عن حق علي (صلوات الله عليه) في الخلافة، إضافة إلى شفائهم أحقادهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي الاحتجاج:
قَال: فَذَهَبَ إِليْهِمْ عُمَرُ فِي جَمَاعَةٍ مِمَّنْ بَايَعَ، فِيهِمْ أُسَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ وسَلمَةُ بْنُسَلامَةَ فَأَلفَوْهُمْ مُجْتَمِعِينَ فَقَالوا لهُمْ: بَايِعُوا أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ، فَوَثَبَ الزُّبَيْرُ إِلى سَيْفِهِ، فَقَال عُمَرُ: عَليْكُمْ بِالكَلبِ العَقُورِ فَاكْفُونَا شَرَّهُ، فَبَادَرَ سَلمَةُ بْنُ سَلامَةَ فَانْتَزَعَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ فَكَسَرَهُ، وأَحْدَقُوا بِمَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ومَضَوْا بِجَمَاعَتِهِمْ إِلى أَبِي بَكْرٍ، فَلمَّا حَضَرُوا قَالوا: بَايِعُوا أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ، وايْمُ اللهِ لئِنْ أَبَيْتُمْ ذَلكَ
ص: 373
لنُحَاكِمَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ(1).
وفيه أيضاً: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَال: ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ احْتَزَمَ بِإِزَارِهِ وجَعَل يَطُوفُ بِالمَدِينَةِ ويُنَادِي: إلاّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ بُويِعَ لهُ فَهَلمُّوا إِلى البَيْعَةِ، فَيَنْثَال النَّاسُ يُبَايِعُونَ، فَعَرَفَ أَنَّ جَمَاعَةً فِي بُيُوتٍ مُسْتَتِرُونَ فَكَانَ يَقْصِدُهُمْ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ ويَكْبِسُهُمْ ويُحْضِرُهُمُ المَسْجِدَ فَيُبَايِعُونَ، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَيَّامٌ أَقْبَل فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلى مَنْزِل عَليٍّ (عليه
السلام) فَطَالبَهُ بِالخُرُوجِ فَأَبَى، فَدَعَا عُمَرُ بِحَطَبٍ ونَارٍ وقَال: والذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ ليَخْرُجَنَّ أَوْ لأُحْرِقَنَّهُ عَلى مَا فِيهِ، فَقِيل لهُ: إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ ووُلدَ رَسُول اللهِ وآثَارَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِيهِ وأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلكَ مِنْ قَوْلهِ، فَلمَّا عَرَفَإِنْكَارَهُمْ قَال: مَا بَالكُمْ أَ تَرَوْنِي فَعَلتُ ذَلكَ؟ إِنَّمَا أَرَدْتُ التَّهْوِيل، فَرَاسَلهُمْ عَليٌّ (عليه السلام) أَنْ ليْسَ إِلى خُرُوجِي حِيلةٌ لأَنِّي فِي جَمْعِ كِتَابِ اللهِ الذِي قَدْ نَبَذْتُمُوهُ وأَلهَتْكُمُ الدُّنْيَا عَنْهُ وقَدْ حَلفْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي ولا أَدَعَ رِدَائِي عَلى عَاتِقِي حَتَّى أَجْمَعَ القُرْآنَ، قَال: وخَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِليْهِمْ فَوَقَفَتْ خَلفَ البَابِ ثُمَّ قَالتْ: «لا عَهْدَ لي بِقَوْمٍ أَسْوَأَ مَحْضَراً مِنْكُمْ، تَرَكْتُمْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَنَازَةً بَيْنَ أَيْدِينَا وقَطَعْتُمْ أَمْرَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ ولمْ تُؤَمِّرُونَا ولمْ تَرَوْا لنَا حَقّاً كَأَنَّكُمْ لمْ تَعْلمُوا مَا قَال يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، واللهِ لقَدْ عَقَدَ لهُ يَوْمَئِذٍ الوَلاءَ ليَقْطَعَ مِنْكُمْ بِذَلكَ مِنْهَا الرَّجَاءَ ولكِنَّكُمْ قَطَعْتُمُ الأَسْبَابَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ نَبِيِّكُمْ واللهُ حَسِيبٌ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة»(2).
وهناك هجمة أخرى أحرقوا فيها الدار، قال في الاحتجاج: فَغَضِبَ عُمَرُ
ص: 374
وقَال: مَا لنَا وللنِّسَاءِ ثُمَّ أَمَرَ أُنَاساً حَوْلهُ فَحَمَلوا حَطَباً وحَمَل مَعَهُمْ فَجَعَلوهُ حَوْل مَنْزِلهِ وفِيهِ عَليٌّ وفَاطِمَةُ وابْنَاهُمَا (عليهم
السلام) ثُمَّ نَادَى عُمَرُ حَتَّى أَسْمَعَ عَليّاً (عليه السلام): واللهِ لتَخْرُجَنَّ ولتُبَايِعَنَّ خَليفَةَ رَسُول اللهِ أَوْ لأُضْرِمَنَّ عَليْكَ بَيْتَكَنَاراً، ثُمَّ رَجَعَ فَقَعَدَ إِلى أَبِي بَكْرٍ وهُوَ يَخَافُ أَنْ يَخْرُجَ عَليٌّ بِسَيْفِهِ لمَا قَدْ عَرَفَ مِنْ بَأْسِهِ وشِدَّتِهِ ثُمَّ قَال لقُنْفُذٍ: إِنْ خَرَجَ وإِلا فَاقْتَحِمْ عَليْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَأَضْرِمْ عَليْهِمْ بَيْتَهُمْ نَاراً.
فَانْطَلقَ قُنْفُذٌ فَاقْتَحَمَ هُوَ وأَصْحَابُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وبَادَرَ عَليٌّ إِلى سَيْفِهِ ليَأْخُذَهُ فَسَبَقُوهُ إِليْهِ فَتَنَاوَل بَعْضَ سُيُوفِهِمْ فَكَثُرُوا عَليْهِ فَضَبَطُوهُ وأَلقَوْا فِي عُنُقِهِ حَبْلا أَسْوَدَ وحَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بَيْنَ زَوْجِهَا وبَيْنَهُمْ عِنْدَ بَابِ البَيْتِ فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ بِالسَّوْطِ عَلى عَضُدِهَا فَبَقِيَ أَثَرُهُ فِي عَضُدِهَا مِنْ ذَلكَ مِثْل الدُّمْلوجِ مِنْ ضَرْبِ قُنْفُذٍ إِيَّاهَا، فَأَرْسَل أَبُو بَكْرٍ إِلى قُنْفُذٍ اضْرِبْهَا فَأَلجَأَهَا إِلى عِضَادَةِ بَيْتِهَا فَدَفَعَهَا فَكَسَرَ ضِلعاً مِنْ جَنْبِهَا وأَلقَتْ جَنِيناً مِنْ بَطْنِهَا فَلمْ تَزَل صَاحِبَةَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَتْ مِنْ ذَلكَ شَهِيدَةً (صلوات الله عليها)(1).
وفي البحار قال العلامة المجلسي (رحمه الله): وَجَدْتُ أَيْضاً فِي كِتَابِ سُليْمِ بْنُ قَيْسٍ، بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْهُ، قَال: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ وَمَعَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ شِيعَةِ عَليٍّ (عليه السلام) فَحَدَّثَنَا فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا أَنْ قَال:
يَا إِخْوَتِي تُوُفِّيَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليهوآله) يَوْمَ تُوُفِّيَ فَلمْ يُوضَعْ فِي حُفْرَتِهِ حَتَّى نَكَثَ النَّاسُ وَارْتَدُّوا وَأَجْمَعُوا عَلى الخِلافِ، وَاشْتَغَل عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى فَرَغَ مِنْ غُسْلهِ وَتَكْفِينِهِ وَتَحْنِيطِهِ
ص: 375
وَوَضَعَهُ فِي حُفْرَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَل عَلى تَأْليفِ القُرْآنِ وَشَغَل عَنْهُمْ بِوَصِيَّةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَ لمْ يَكُنْ هِمَّتُهُ المُلكَ لمَا كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَخْبَرَهُ عَنِ القَوْمِ، فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِالذِي افْتَتَنُوا بِهِ مِنَ الرَّجُليْنِ، فَلمْ يَبْقَ إلاّ عَليٌّ (عليه السلام) وَبَنُو هَاشِمٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَالمِقْدَادُ وَسَلمَانُ فِي أُنَاسٍ مَعَهُمْ يَسِيرٍ، فَقَال عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: يَا هَذَا إِنَّ النَّاسَ أَجْمَعِينَ قَدْ بَايَعُوكَ مَا خَلا هَذَا الرَّجُل وَأَهْل بَيْتِهِ وَهَؤُلاءِ النَّفَرَ فَابْعَثْ إِليْهِ، فَبَعَثَ إِليْهِ ابْنُ عَمٍّ لعُمَرَ يُقَال لهُ: قُنْفُذٌ، فَقَال لهُ: يَا قُنْفُذُ انْطَلقْ إِلى عَليٍّ فَقُل لهُ: أَجِبْ خَليفَةَ رَسُول اللهُ.
فَانْطَلقَ فَأَبْلغَهُ، فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): مَا أَسْرَعَ مَا كَذَبْتُمْ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَارْتَدَدْتُمْ، وَاللهِ مَا اسْتَخْلفَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) غَيْرِي، فَارْجِعْ يَا قُنْفُذُ فَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُول فَقُل لهُ: قَال لكَ عَليٌّ (عليه السلام) وَاللهِ مَا اسْتَخْلفَكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِنَّكَ لتَعْلمُ مَنْ خَليفَةُ رَسُول اللهِ، فَأَقْبَل قُنْفُذٌ إِلى أَبِي بَكْرٍ فَبَلغَهُ الرِّسَالةَ.فَقَال أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ عَليٌّ، مَا اسْتَخْلفَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله).
فَغَضِبَ عُمَرُ وَوَثَبَ وَقَامَ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: اجْلسْ، ثُمَّ قَال لقُنْفُذٍ: اذْهَبْ إِليْهِ فَقُل لهُ: أَجِبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَقْبَل قُنْفُذٌ حَتَّى دَخَل عَلى عَليٍّ (عليه السلام) فَأَبْلغَهُ الرِّسَالةَ، فَقَال (عليه السلام): كَذَبَ وَاللهِ انْطَلقْ إِليْهِ فَقُل لهُ: لقَدْ تَسَمَّيْتَ بِاسْمٍ ليْسَ لكَ، فَقَدْ عَلمْتَ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُكَ.
فَرَجَعَ قُنْفُذٌ فَأَخْبَرَهُمَا، فَوَثَبَ عُمَرُ غَضْبَانَ فَقَال: وَاللهِ إِنِّي لعَارِفٌ بِسَخْفِهِ وَضَعْفِ رَأْيِهِ، وَإِنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ لنَا أَمْرٌ حَتَّى نَقْتُلهُ، فَخَلنِي آتِيكَ بِرَأْسِهِ.
فَقَال أَبُو بَكْرٍ: اجْلسْ، فَأَبَى فَأَقْسَمَ عَليْهِ فَجَلسَ، ثُمَّ قَال: يَا قُنْفُذُ انْطَلقْ
ص: 376
فَقُل لهُ أَجِبْ أَبَا بَكْرٍ.
فَأَقْبَل قُنْفُذٌ فَقَال: يَا عَليُّ أَجِبْ أَبَا بَكْرٍ، فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): إِنِّي لفِي شُغُل عَنْهُ وَمَا كُنْتُ بِالذِي أَتْرُكُ وَصِيَّةَ خَليلي وَأَخِي، وَانْطَلقْ إِلى أَبِي بَكْرٍ وَمَا اجْتَمَعْتُمْ عَليْهِ مِنَ الجَوْرِ.
فَانْطَلقَ قُنْفُذٌ فَأَخْبَرَ أَبَا بَكْرٍ، فَوَثَبَ عُمَرُ غَضْبَانَ فَنَادَى خَالدَ بْنَ الوَليدِ وَقُنْفُذاً فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَحْمِلا حَطَباً وَنَاراً، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى انْتَهَى إِلى بَابِ عَليٍّ (عليه السلام)، وَفَاطِمَةُ (عليها السلام) قَاعِدَةٌ خَلفَالبَابِ قَدْ عَصَبَتْ رَأْسَهَا وَنَحَل جِسْمُهَا فِي وَفَاةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَأَقْبَل عُمَرُ حَتَّى ضَرَبَ البَابَ ثُمَّ نَادَى: يَا ابْنَ أَبِي طَالبٍ افْتَحِ البَابَ، فَقَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): يَا عُمَرُ مَا لنَا وَلكَ لا تَدَعُنَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ.
قَال: افْتَحِي البَابَ وَإِلا أَحْرَقْنَا عَليْكُمْ، فَقَالتْ: يَا عُمَرُ أَمَا تَتَّقِي اللهَ عَزَّ وَجَل، تَدْخُل عَلى بَيْتِي وَ تَهْجُمُ عَلى دَارِي، فَأَبَى أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ عَادَ عُمَرُ بِالنَّارِ فَأَضْرَمَهَا فِي البَابِ فَأَحْرَقَ البَابَ، ثُمَّ دَفَعَهُ عُمَرُ فَاسْتَقْبَلتْهُ فَاطِمَةُ (عليها
السلام) وَصَاحَتْ يَا أَبَتَاهْ يَا رَسُول اللهِ، فَرَفَعَ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا فَصَرَخَتْ، فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا فَصَاحَتْ يَا أَبَتَاهْ، فَوَثَبَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه
السلام) فَأَخَذَ بَتَلابِيبِ عُمَرَ ثُمَّ هَزَّهُ فَصَرَعَهُ وَوَجَأَ أَنْفَهُ وَرَقَبَتَهُ وَهَمَّ بِقَتْلهِ، فَذُكِّرَ قَوْل رَسُول اللهِ (عليه السلام) وَمَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالطَّاعَةِ، فَقَال: وَالذِي كَرَّمَ مُحَمَّداً (صلى
الله عليه وآله) بِالنُّبُوَّةِ يَا ابْنَ صَهَّاكَ لوْ لا كِتَابٌ مِنَ اللهُ سَبَقَ لعَلمْتَ أَنَّكَ لا تَدْخُل بَيْتِي، فَأَرْسَل عُمَرُ يَسْتَغِيثُ فَأَقْبَل النَّاسُ حَتَّى دَخَلوا الدَّارَ وَسَل خَالدُ بْنُ الوَليدِ السَّيْفَ ليَضْرِبَ بِهِ عَليّاً (عليه السلام) فَحَمَل عَليٌّ (عليه السلام)
ص: 377
عَليْهِ بِسَيْفِهِ فَأَقْسَمَ عَلى عَليٍّ فَكَفَّ، وَأَقْبَل المِقْدَادُ وَسَلمَانُ وَأَبُوذَرٍّ وَعَمَّارٌ وَبُرَيْدَةُ الأَسْلمِيُّ حَتَّى دَخَلوا الدَّارَ أَعْوَاناً لعَليٍّ (عليه السلام) حَتَّى كَادَتْ تَقَعُ فِتْنَةٌ، فَأُخْرِجَ عَليٌّ (عليه السلام) وَتَبِعَهُ النَّاسُ وَاتَّبَعَهُ سَلمَانُ وَأَبُو ذَرٍّ وَالمِقْدَادُ وَعَمَّارٌ وَبُرَيْدَةُ وَهُمْ يَقُولونَ: مَا أَسْرَعَ مَا خُنْتُمْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَخْرَجْتُمُ الضَّغَائِنَ التِي فِي صُدُورِكُم (1)، الحديث.
ص: 378
قالت فاطمة (عليها السلام) لأسماء بنت عميس حين توضأت وضوءها للصلاة: «هاتي طيبي الذي أتطيب به، وهاتي ثيابي التي أصلي فيها، فتوضأت ثم وضعت رأسها، فقالت لها: اجلسي عند رأسي فإذا جاء وقت الصلاة فأقيميني، فإن قمت وإلاّ فأرسلي إلى علي عليه السلام»(1).
----------------------------
مسألة: يستحب الجلوس عند رأس المحتضر.
ولعل وجه الجلوس عند الرأس أن يكون أقرب إلى المحتضر والمحتضر أقرب إليه، فلعل للمحتضر حاجة أو وصية، ولعل صوته لا يصل إليه إذا كان بعيداً أو أنه يجهده ذلك، وكذا الجالس فربما يريد أن يسأله عن شيء أو يوصيه بإبلاغ السلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو سائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حيثإنه قادم عليهم.
ص: 379
هذا إضافة إلى أن الجلوس عند الرأس يوجب الأنس الأكثر بما لا يحصل مثله في الجلوس إلى أحد الجنبين أو الرجلين.
والمراد بالجلوس عند الرأس: أطراف الرأس، لا خصوص القمة، كما هو الظاهر.
ويستفاد من هذا الحديث أيضاً أنه يستحب للمحتضر أن يطلب ذلك، بأن يجلس أحد عند رأسه، فإن القضية وإن كانت شخصية إلاّ أنه قد يفهم منها الملاك والجامع عرفاً، فتأمل.
كما تستحب قراءة بعض الأدعية والسور عند رأسه.
عَنْ سُليْمَانَ الجَعْفَرِيِّ قَال: رَأَيْتُ أَبَا الحَسَنِ يَقُول لابْنِهِ القَاسِمِ: قُمْ يَا بُنَيَّ فَاقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِ أَخِيكَ «والصَّافَّاتِ صَفًّا»(1) حَتَّى تَسْتَتِمَّهَا، فَقَرَأَ فَلمَّا بَلغَ «أَهُمْ
أَشَدُّ خَلقاً أَمْ مَنْ خَلقْنا»(2) قَضَى الفَتَى، فَلمَّا سُجِّيَ وخَرَجُوا أَقْبَل عَليْهِ يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرٍ فَقَال لهُ: كُنَّا نَعْهَدُ المَيِّتَ إِذَا نُزِل بِهِ يُقْرَأُ عِنْدَهُ «يس والقُرْآنِ الحَكِيمِ»(3) وصِرْتَ تَأْمُرُنَا بِالصَّافَّاتِ، فَقَال: «يَا بُنَيَّ لمْ يُقْرَأْ عِندَ مَكْرُوبٍ مِنْمَوْتٍ قَطُّ إلاّ عَجَّل اللهُ رَاحَتَهُ»(4).
ص: 380
مسألة: يستحب الوضوء استعداداً للموت.
ومنه يعلم استحباب الغسل لمن كان جنباً أو ما أشبه، وكذلك استحباب التيمم بدل الوضوء إذا لم يتمكن من الوضوء أو من الغسل.
وذلك كله مشمول للإطلاقات أيضاً، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرين»(1)، فبإطلاقه شامل للطهارة من الخبث والحدث والذنوب بالتوبة.
وربما يقال باستحباب أن يغسله أهله إذا لم يتمكن هو من ذلك.
عَنْ ذَرِيحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: ذُكِرَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، فَقَال: «كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وكَانَ مُسْتَقِيماً، قَال: «فَنَزَعَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَغَسَّلهُ أَهْلهُ ثُمَّ حَمَلوهُ إِلى مُصَلاهُ فَمَاتَ فِيهِ»(2) الحديث.
مسألة: يستحب التطيب عند الموت.
والاستحباب يفهم بالإضافة إلى مثل هذا الحديث، عن مثل ما ورد من أن الملائكة تستقبل روح الميت وأن العطر تكريماً لهم، هذا بالإضافة إلى إطلاقات
ص: 381
التطيب الشامل لكل حال حتى حالة الاحتضار، إلاّ ما لم يكن مشروعاً.
رُوِيَ إِطْلاقُ المِسْكِ فَوْقَ الكَفَنِ وَعَلى الجِنَازَةِ، لأَنَّ فِي ذَلكَ تَكْرِمَةَ المَلائِكَةِ، فَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُقْبَضُ رُوحُهُ إلاّ تَحْضُرُ عِنْدَهُ المَلائِكَة(1).
وعن مَوْلى لجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) قَال: «مَرِضَ بَعْضُ مَوَاليهِ فَخَرَجْنَا إِليْهِ نَعُودُهُ ونَحْنُ عِدَّةٌ مِنْ مَوَالي جَعْفَرٍ، فَاسْتَقْبَلنَا جَعْفَرٌ (عليه السلام) فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَال لنَا: أَيْنَ تُرِيدُونَ، فَقُلنَا: نُرِيدُ فُلاناً نَعُودُهُ. فَقَال لنَا: «قِفُوا»، فَوَقَفْنَا، فَقَال: «مَعَ أَحَدِكُمْ تُفَّاحَةٌ أَوْ سَفَرْجَلةٌ أَوْ أُتْرُجَّةٌ أَوْ لعْقَةٌ مِنْ طِيبٍ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ عُودِ بَخُورٍ»، فَقُلنَا: مَا مَعَنَا شَيْ ءٌ مِنْ هَذَا، فَقَال: «أَمَا تَعْلمُونَ أَنَ المَرِيضَ يَسْتَرِيحُ إِلى كُل مَا أُدْخِل بِهِ عَليْهِ»(2).وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «الطِّيبُ مِنْ أَخْلاقِ الأَنْبِيَاءِ»(3).
وعَنِ العَبَّاسِ بْنِ مُوسَى قَال: سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يَقُول: «العِطْرُ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلينَ»(4).
ص: 382
مسألة: يستحب للمحتضر أن يلبس ملابسه للصلاة، فإنه مضافاً إلى كونه تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) فإن لبس تلك الثياب يوجب التخفيف ونزول الرحمة، كما يدل على ذلك أيضاً نقل المحتضر الذي يشتد به النزع إلى مصلاه.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا عَسُرَ عَلى المَيِّتِ مَوْتُهُ ونَزْعُهُ قُرِّبَ إِلى مُصَلاهُ الذِي كَانَ يُصَلي فِيهِ»(1).
وعَنْ زُرَارَةَ قَال: «إِذَا اشْتَدَّتْ عَليْهِ النَّزْعُ فَضَعْهُ فِي مُصَلاهُ الذِي كَانَ يُصَلي فِيهِ أَوْ عَليْهِ»(2).
وعَنْ ليْثٍ المُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال: «إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَدْ رَزَقَهُ اللهُ هَذَا الرَّأْيَ، وإِنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ نَزْعُهُ، فَقَال: احْمِلونِي إِلى مُصَلايَ، فَحَمَلوهُ فَلمْ يَلبَثْ أَنْ هَلكَ»(3).ومن الحكم المذكور قد يستفاد بالملاك وضع القرآن والأدعية وما أشبه إلى جانب المحتضر، كما تدل عليه أدلة أخرى بإطلاقها أو بدلالتها الالتزامية عرفاً، قال تعالى: «وَنُنَزِّل مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحْمَةٌ للمُؤْمِنينَ»(4).
ص: 383
كما يفهم ذلك مما دل على استحباب بعض هذه الأمور بالنسبة إلى الميت، حتى قال السيد بحر العلوم (قدس سره):
وسن أن يكتب بالأكفان *** شهادة الإسلام والإيمان
وهكذا كتابة القرآن *** والجوشن المنعوت بالأمان
وفي الفقه الرضوي: «فَإِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَاحْضُرُوا عِنْدَهُ بِالقُرْآنِ وذِكْرِ اللهِ والصَّلاةِ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(1).
مسألة: يستحب أن تكون للمرأة التي تربي أولاداً صغاراً ثياب خاصة لصلاتها، بل إن الاستحباب أعم، فينبغي لكل إنسان أن يتخذ ثياباً نظيفة طاهرة خاصة لصلاته، فإن ملابس الإنسان العادية تتعرض عادة للقذارات المادية والمعنوية في كثير من الأحيان، والإنسان إذا وقف أمام الله سبحانه استحب له حتى التزين والتنظيف، قال سبحانه: «خُذُوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِد»(2)، ومنه أيضاً استحباب لبس الزينة للمرأة إذا أرادت الصلاة، فإن الله تعالى وإن كان غنياً عن كل ذلك وعن جميع العالمين، لكنه نوع أدب ترجع فائدته للإنسان نفسه، إذ يؤكد ذلك في نفسه أنه يذهب إلى العظيم ويقف بين يدي من يخضع له كل عظيم، فيزداد خضوعاً وخشوعاً والتفاتاً واهتماماً.
ص: 384
والمؤيد للإطلاق أن الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) وأولادها (عليهم السلام) مشمولون لآية التطهير، فليسوا كسائر الأطفال، ومن المعلوم أن السيدة زينب وأم كلثوم (عليهما الصلاة والسلام) كانا في غاية الطهارة والنزاهة.
مسألة: يستحب أن يكون للمرأة طيب تستخدمه فيما يرضي الرب عزوجل، لا بحيث يشمه الأجانب.
قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ وزَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ فِي حَقٍّ لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا، وأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لغَيْرِ زَوْجِهَا لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ طِيبِهَا كَغُسْلهَا مِنْ جَنَابَتِهَا»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَيُّ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ تُلعَنُ حَتَّى تَرْجِع»(2).
وعَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «طِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لوْنُهُ وخَفِيَ رِيحُهُ، وطِيبُ الرِّجَال مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وخَفِيَ لوْنُهُ»(3).
ص: 385
مسألة: يستحب تنبيه الآخرين عند أول وقت الصلاة وإيقاظ النائم منهم وإلفات الغافل وتعليم الجاهل ونصح المتساهل، فإن للصلاة في أول الوقت أجراً عظيماً، والدال على الخير كفاعله.
ويدل عليه أمر الصديقة (صلوات الله عليها) أسماء أن تقيمها إذا جاء وقت الصلاة، وكذلك ما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين(1)، وما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء عند وقت الصلاة(2)، وقوله (عليه
السلام) لمن ذكر
ص: 386
الصلاة: (ذكرتَ الصلاة جعلك الله من المصلين)(1).قال تعالى: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا»(2).
وقال سبحانه: «وَأْمُرْ أَهْلكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَليْها لا نَسْئَلكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ للتَّقْوى»(3).
وفي رواية تسليم الوتر: «تُوقِظُ الرَّاقِدَ وَتَأْمُرُ بِالصَّلاةِ»(4).
وعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سَالمٍ أَنَّهُ سَأَل أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل يَقُومُ مِنْ آخِرِ الليْل فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فَقَال: «يَنْبَغِي للرَّجُل إِذَا صَلى فِي الليْل أَنْ يُسْمِعَ أَهْلهُ لكَيْ يَقُومَ القَائِمُ ويَتَحَرَّكَ المُتَحَرِّكُ»(5).
ص: 387
وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «رَحِمَ اللهُ عَبْداً قَامَ مِنَ الليْل فَصَلى وأَيْقَظَ أَهْلهُ فَصَلوْا»(1).وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُل أَهْلهُ مِنَ الليْل وتَوَضَّئَا وصَليَا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتِ»(2).
وفي أخلاق أمير المؤمنين (عليه السلام): أَنَّهُ يَتَفَقَّدُ النَّائِمِينَ فِي المَسْجِدِ ويَقُول للنَّائِمِ: الصَّلاةَ يَرْحَمُكَ اللهُ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ عَليْكَ، ثُمَّ يَتْلو (عليه السلام): «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ»(3)، فَفَعَل ذَلكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلهُ عَلى جَارِي عَادَاتِهِ مَعَ النَّائِمِينَ فِي المَسْجِد(4).
ص: 388
مسألة: يستحب استحباباً مؤكداً الصلاة في أول وقتها، واشتهر: «الصلاة في أول الوقت جزور وفي آخر الوقت عصفور».
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ صَلى الصَّلوَاتِ المَفْرُوضَاتِ فِي أَوَّل وَقْتِهَا فَأَقَامَ حُدُودَهَا رَفَعَهَا المَلكُ إِلى السَّمَاءِ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً وهِيَ تَهْتِفُ بِهِ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي واسْتَوْدَعَكَ اللهُ كَمَا اسْتَوْدَعْتَنِي مَلكاً كَرِيماً، ومَنْ صَلاهَا بَعْدَ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ عِلةٍ فَلمْ يُقِمْ حُدُودَهَا رَفَعَهَا المَلكُ سَوْدَاءَ
مُظْلمَةً وهِيَ تَهْتِفُ بِهِ: ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي ولا رَعَاكَ اللهُ كَمَا لمْ تَرْعَنِي»(1).
وعَنْ سَعْدِ بْنِ سَعْدٍ قَال: قَال الرِّضَا (عليه السلام): «يَا فُلانُ إِذَا دَخَل الوَقْتُ عَليْكَ فَصَلهِمَا فَإِنَّكَ لا تَدْرِي مَا يَكُونُ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَ فَضْل الوَقْتِ الأَوَّل عَلى الآخِرِ كَفَضْل الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيَا»(3).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لفَضْل الوَقْتِ الأَوَّل عَلى الأَخِيرِ خَيْرٌ للرَّجُل مِنْ وَلدِهِ ومَالهِ»(4).
ص: 389
مات خير فوارسي. 5
من مصاديق المجاز 6
ظاهر التشاؤم 6
التشبيه بالجبل ونحوه 7
والد البتول. 8
إطلاقات الموت.. 10
من أنواع الإسناد 10
اللوذ بالمعصوم 11
جبرئيل يلوذ برسول الله. 11
غض الطرف.. 13
إظهار التعجب.. 14
الإنشاء بصيغة الإخبار 15
البكاء وإضرار النفس.. 16
جواز المبالغة 16
روايات في تشبيه المعنويات بالماديات.. 17
حزن القلب.. 18
كثرة البكاء ورسم الخد 19
إذا اشتد شوقي. 23
زيارة القبور 23
ص: 390
زيارة قبور المعصومين. 24
الشوق وزيارة القبور 26
الشوق الأكثر 27
من موارد البكاء 28
الشكاية إلى المعصوم \ إنشاد وإنشاء الشعر 30
استمرار النياحة 32
الدفاع عن الولاية \ الدفاع عن الحق. 34
إنذار الظالم. 35
أسباب النقمة 36
لو قدموا علياً 37
سيأخذهم الله. 38
ما الذي يبكيك؟ 39
التظلم \ الإخبار بظلم الظالم. 45
كثرة بكاء الصديقة \ كتمان البكاء 46
السؤال عن تألم المعصوم 50
لماذا بكت الصديقة 52
قصة فدك. 53
عقاب غصب فدك. 54
نية الظلم 57
الإعراب عن قصد الظلم 58
التصريح باسم الظالم. 59
خلوا عن ابن عمي. 61
نشر الشعر عند الدعاء 61
الدفاع عن المظلوم 64
ص: 391
الصراخ إلى الله. 66
حرمة الإكراه والإجبار 68
النساء والنهي عن المنكر 69
إني ابنة نبيكم 70
الظلم وتذكير الناس. 70
فضح الظالم وغيبته 72
المبادرة إلى النهي عن المنكر 73
الفرائض والمشاهد المشرفة 74
مراكز توجه الناس \ الاستنصار للحق. 76
المرأة واستنصارها \ نصرة العترة 77
خذلان العترة 79
التكرار 80
الأربعون يوما \ نصرة الله. 81
نقض البيعة 83
التذكير بالبيعة 84
مدى المظلومية 87
نصرة الناصر 88
التضحية للأهداف المقدسة 90
توبيخ من حضر بيعة السقيفة \ فداحة الخطب.. 93
التقية ومواردها 96
الخروج لفضح الظالم. 99
المرأة والدفاع عن الحق. 100
التآمر لغصب الحق. 101
المحضر الأسوأ 102
ترك جنازة النبي. 103
ص: 392
الاستبداد بالأمر 105
من أعظم الكبائر 106
لم تستأمرونا \ جحود الحق. 108
من أكبر المحرمات.. 110
الخلفاء حقاً 111
أسوأ الناس. 112
نزول العذاب \ قانون الأهم والمهم 115
الدعاء والبلاء 117
القسم في الأدعية المهمة 118
الظالم وذكر اسمه \ مقام الصديقة 119
طلب الميراث \ المطالبة بالحق. 121
الاستدلال والاستشهاد بالكتاب العزيز 123
التفريق بين المسلمين. 124
تكذيب الكتاب.. 124
المطالبة بالميراث.. 126
غصب الخلافة كفر \ الكفر العملي. 127
الكفر الاعتقادي \ حرمة الكفر 128
احتجاج على الغاصبين. 130
طلب الحق. 131
قول ذي اليد 132
إقامة الدليل بعد الدليل \ نقض قانون اليد 133
فدك في يد الصديقة \ تقرير المعصوم 134
الاستدلال غير المباشر 135
حرمة الكذب ودرجاتها \ الخصم يعترف.. 136
ص: 393
رد صنع الرسول. 137
سيدة نساء الجنة 138
التأكيد على السماع. 139
الغضب بالباطل. 140
التشكيك في فعل النبي. 141
أتراك محرقاً بابي. 142
حرق الباب \ فضح الظالم. 144
استدراج الخصم ليعترف.. 145
كفر واضح. 148
إنكارة الضروري \ إحراق الباب من أكبر الكبائر 149
من آذاها 151
ثقافة الحمد 154
توثيق الأحداث \ مسائل عديدة 155
إيذاء الصديقة 157
تكرار التبري في المجالس.. 158
الإعلان عن غضبها 159
الشكاية لله من كل ظالم. 161
مقاطعة الظالم. 165
رضا فاطمة \ ضروري المذهب.. 166
حب فاطمة كحب الرسول \ العمل بقول الرسول. 167
إقرار الخصم 168
حرمة إسخاطها \ رضا الله بعد رضاها أم قبله؟ 171
كيف أصبحت؟ 173
بواعث ظلم الطغاة 174
معنى وفروق الكرب والكمد 175
ص: 394
بيان أنواع الظلامات.. 176
ظلم الوصي من أكبر الكبائر 177
ما سنّه النبي في التأويل \ حرمة الحقد 181
الحقد الباطل. 182
حرمة النفاق. 183
قطع وتر الإيمان. 184
رفض اعتذار القوم \ طرد أهل العناد 188
إنهم ليسوا بمعذورين. 190
التقصير المحرم 193
العهد مع الظالم باطل. 194
أبشروا آل محمد 195
تبشير المؤمنين. 196
لا لإشاعة الفاحشة 198
وجوب الخمس.. 200
فضيلة أسماء وأم أيمن \ تزكية الشاهد العادل. 202
منزلة المرأة في الإسلام 203
أول الأهل لحوقاً 205
إظهار الحزن عند مقتضيه 205
إظهار السرور لدى توفر علله 207
وجوه الحكمة في ضحكها 208
الأول لحوقاً \ الإخبار عن المستقبل. 211
هل يفعل المعصوم المكروه؟ 212
لا تبكي \ تسلية الباكي. 214
(لا تبكي) نهي أو حنان. 215
ص: 395
الشوق للآخرة 215
رفيق الجنة \ التمهيد لمرافقة الصالحين في الجنة 217
جلب المنفعة الكبيرة لازم 218
الصديقة رفيق الرسول. 219
نعم الخلف.. 221
الأعظم رزية 223
الأمر بالتقوى وبالصبر. 223
إخبارات الكتاب والسنة 225
إخبار الأسرة بقرب الرحيل. 226
مسألتان. 227
الوصية العهدية والتمليكية \ الإخبار برزايا المستقبل. 228
أعظم المصائب.. 230
التناسب بين المصيبة والصبر والمقام 232
اصبر يا علي \ إخبار العالم وفوائده 234
ثقل المصيبة 235
معنى القضاء والقدر 236
القدر نوعان. 237
التسليم لما لابد منه 238
الرضا سر السعادة 239
الصبر والرضا 240
الشدة تصيب ولدي \ البكاء مستحب وواجب.. 242
الضحك بين جائز ومحرم 244
الذرية الطاهرة وما ورد عليها 245
شكايتها في منامها \ الشكاية إلى الرسول. 247
سر تعدد شكواها 249
ص: 396
شكواها حجة على القوم \ سادة المتقين. 250
حجية منامات المعصومين. 251
هل تضمن الوصية \ الوصية بعدم حضور الجنازة 255
العقود الاجتماعية مستثناة 257
العمل بالوصية رغم المصاعب.. 258
وصية الزوجة للزوج. 259
الضمان على العمل بالوصية 260
الملاك في الشروط هو حال التعاقد 261
عدم التضييق على الوصي \ قبول الوصية 262
لا يُقر الظالم على ظلمه 263
السؤال بحق الرسول. 264
هل ذكرت الصديقة الأسماء \ مقارعة الظلمة حتى آخر نفس.. 265
ما عهدتني كاذبة 267
الوصية بالزواج بعد وفاة أحد الزوجين. 268
الوصية باتخاذ النعش أو العماري. 269
جواز الوصية بالدفن ليلاً \ مخالفة الزوجة لزوجها 270
خيانة الزوجة 272
الكذب على الزوج. 274
مخالفة الزوج. 276
الدعاء للزوج وللآخرين. 277
جري المعصومين على الظاهر 280
العلم من غير الطرق الطبيعية 281
الاهتمام بالأولاد 282
يا بن العم \ انتخاب الثقاة لمهمام الأمور 288
ص: 397
توثيق الثقاة 289
رضاها رضا الله. 290
الإيصاء بالأولاد 291
حسن الانتخاب \ التعرف الطريقي. 292
حمل الميت في النعش.. 293
استحباب الوصية 294
الصديقة ورؤية الملائكة 295
من أدوار الملائكة 296
مع أسماء بنت عميس \ تغسيل المعصوم 298
الاستعانة في الغسل \ تفاصيل التجهيز \ حجية خبر المرأة 301
وصية فاطمة (علیها السلام) 303
الوصية بالمال. 304
التسمية مع التعدد 305
الكتابة والإملاء 306
فرع \ تعين خلفاء الوصية 307
كتابة الوصية 309
المحبة في الخطاب.. 310
المؤمن والمحبة 311
الموت وتوديع الأحبة \ الاستوداع عند الله. 312
ختم الوصية 313
التقية ومواردها 314
الدعاء وقت الموت.. 315
بين اللا اقتضائي والاقتضائي \ التعيين في الوصية 317
الحوائط السبعة \ قراءة وصية المعصوم 318
التصريح بالموصى به والموصى له \ حفظ الوصية 319
ص: 398
الإشهاد على الوصية 320
الحنان على الأولاد \ مسائل في زواج الرجل بعد موت زوجته 322
الوصية بمتاع البيت.. 325
من وصاياها \ حفظ الكتب الهامة 326
القراءة المباشرة 327
الوصية للزوج. 328
الوصية إلى الأكابر \ النقل بالمضمون. 330
الوصية للنساء \ الوصية للأقرباء والأنسباء 332
الوصية لنساء الأقارب \ الوصية المتساوية والمتفاضلة 334
الوصية للمعصوم 336
قراءة الوصية \ إقراء الوصية 338
قولي ما أحببت \ حفظ الوصية 340
ما يقال للمحتضر \ التلفظ بالوصية 341
الأصلح في تربية الأبناء 343
رؤية الملائكة 344
الدفن ليلاً. 346
السرير الطاهر \ سرير الميت.. 348
دعاء عند الوفاة 349
الدعاء بالخمسة الطيبة 349
لوحات سليمانية 351
لوحات سفينة نوح. 353
التوسل بالفاطميات.. 355
السبط وكثرة البكاء على الأُم \ البكاء على الميت.. 356
الدعاء لعامة الناس. 358
ص: 399
شهادة الحسين والتأكيد عليها 359
كثرة البكاء على المعصوم 360
البكاء على فقد الأُم \ استحباب الشفاعة 361
من أدعية الصديقة \ طلب الجنة 363
الاستغاثة بأسماء الله. 364
الدعاء بالعافية 367
يا أماه إني مقبوضة \ أمهات المؤمنين. 369
كراهة الكشف.. 371
هاتي طيبي. 379
من آداب المحتضر 379
الوضوء عند الموت \ الطيب عند الموت.. 381
ملابس الصلاة 383
المرأة وثياب الصلاة 384
المرأة والطيب.. 385
التنبيه للصلاة 386
الصلاة أول الوقت.. 389
الفهرس. 390
ص: 400