الفقه
موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد التاسع
رواياتها (علیها السلام) - 2
المرجع الديني الراحل
آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي
(أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى
1439 ه 2018 م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد التاسع
رواياتها (علیها السلام)
القسم الثاني
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْفَاضِلَةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَلِيمَةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المَظْلُومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
في حديث قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):
«ما عندنا إلاّ قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا»(1).
-------------------------------------------
ص: 5
مسألة: يستحب إيثار الضيف وإكرامه.
وقد تقدم استحباب الإيثار مطلقاً، وإيثار الضيف آكد استحباباً، وإيثارهم (عليهم الصلاة والسلام) قوت صبيتهم، لأن الصبية كانوا وإياهم نوراً واحداً، وكانوا على مراتب الرضا كما لا يخفى، فلا يمكن أن يقاس ذلك بالصبيان الذين لايرضون بأمثال هذا الإيثار.
مسألة: يستفاد من الحديث أن الأولاد غير البالغين إذا كانوا راضين بالإيثار جاز ذلك، فإن أولاد علي وفاطمة (عليهم الصلاة والسلام) كانوا في أعلى مراتب المعرفة والفهم، بحيث كانوا راضين بإيثار قُوتِهم.
وكذلك الحال في أولاد سائر الأئمة (عليهم الصلاة والسلام).
وقد يستشهد لجواز الإيثار وحسنه بإعطاء الإمام الحسين (عليه
السلام) الماء للأعداء، بينما إذا كانوا يحتفظونالماء من دون إعطائه للأعداء، كان من الممكن بقاء الماء إلى يوم عاشوراء فلم يكن أطفاله يحرمون منه.
لكن ربما يقال: حين إعطاء الماء للأعداء لم يكونوا قد منعوا الماء، وكان بالإمكان التزود منه بعد منزل، فإن الشريعة لم تمنع من أول يوم.
ص: 6
وعلى أي، فلو فرض حرمان الرضّع لذلك، فان المباشر أقوى من السبب(1)، والإيثار كان لمصلحة قطعية راجحة، وهي إظهار ظلم القوم وعتوّهم وعدوانهم، وفضح زيفهم وانتحالهم للدين.
قال سبحانه: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(2)، وهو يدل على الإيثار على النفس لا على غيرها، إلاّ إذا كان الغير كبيراً وهو راضٍ بذلك، أو كان الغير صغيراً لكنه كان مميزاً، فكيف إذ كان أفهم من الكبير كصغارهم (عليهم الصلاة والسلام)، كما في قصة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) على ما ذكرناه.
وهل المراد بالصِبية في الرواية: الحسن والحسين (عليهما
الصلاة والسلام) أوحتى زينب وأم كلثوم، ربما يستفاد من سورة «هَلْ أَتَى» بمعونة التفاسير أنه لم يكن في ذلك الوقت لهما (عليهما الصلاة والسلام) غير الحسن والحسين (عليهما السلام) من أولاد.
ولعله المستظهر أيضاً من قولها (عليها السلام): (ابناي والله من الجياع .. أبوهما).
ص: 7
قد يستفاد من هذا الحديث وسابقه أنه كانت تمر بهم (صلوات الله عليهم) أوقات لم يكونوا يملكون فيها قوتاً لأي واحد منهم، وأوقات أخرى لم يكن لهم قوت إلا للصبية فقط، فكان علي وفاطمة (عليهما سلام الله) يحرمان أنفسهما من الطعام، ويخصصانه لقلّته للصبية (صلوات الله عليهم جميعاً).
ثم إن من الواضح أن الحصر في الحديث حقيقي وليس إضافياً.
ص: 8
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «أبوا هذه الأمة محمد وعلي، يقيمان أودهم(1)، وينقذانهم من العذاب الدائم إن أطاعوهما، ويبيحانهم النعيم الدائم إن وافقوهما»(2).
-------------------------------------------
مسألة: يجب أو يستحب - كل في مورده - على الوالدين إقامة أود الأولاد وحفظهم من الأخطار والأضرار، وحفظهم من الانحراف والاعوجاج.
وما يستفاد من هذا الحديث الشريف أن ذلك من صفاتهما (عليهما السلام)، وأنهما مقيمان عليه، بل قد يستفاد من غايات البعثة والوصاية.
كما يستفاد منه رجحان بل وجوب ذلك عليهما (صلوات الله عليهما) نظراً لقرينية مادة (أودهم) و(الإنقاذ) و(العذاب الدائم).
وقد يستفاد من الحديث أن ذلك واجب على من اتصف بعنوان الأبوة، بالإضافةإلى قوله سبحانه: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ ناراً»(3)، فإنه وإن كان
ص: 9
خاصاً بالآخرة حسب الظاهر، إلا أن ملاكه وبعض الروايات الأخر الواردة في حق الأولاد يشمل ما ذكرناه.
والوالدان في كلامنا من باب المثال وأظهر المصاديق، وإلاّ فإنه تلزم هذه الرعاية بالنسبة إلى كل من يدير شؤون الأولاد، ولو كان قيّماً أو وصيّاً أو ما أشبه ذلك.
نعم لا يلزم الحفظ من الأضرار اليسيرة، مثل بعض المشي الموجب للتعب، أو شيء من حرارة الشمس المؤذية، أو ما أشبه ذلك، لعدم الدليل على الوجوب فيها، والسيرة المستمرة تدل على العدم(1).
عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: «أَوَّلُ مَا يَبَرُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمٍحَسَنٍ« فَلْيُحْسِنْ أَحَدُكُمُ اسْمَ وَلَدِهِ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَبَّلَ وَلَدَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، ومَنْ فَرَّحَهُ فَرَّحَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ومَنْ عَلَّمَهُ الْقُرْآنَ دُعِيَ بِالْأَبَوَيْنِ فَكُسِيَا حُلَّتَيْنِ تُضِي ءُ مِنْ نُورِهِمَا وُجُوهُ أَهْلِ الْجَنَّةِ»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ
ص: 10
تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ»(1).
وعَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ، قَالَ: «عَلِّمُوا صِبْيَانَكُمْ مِنْ عِلْمِنَا مَا يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ، لَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ بِرَأْيِهَا ... ومَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا هَلَكَ»(2).
مسألة: لا يجوز إسخاط أبوي الدين أو أبوي النسب.
وهل هما (صلوات الله عليهما) والدان عرضاًأو طولاً، بأن يكون علي (عليه الصلاة والسلام) أباً بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ احتمالان؛ إذ يحتمل أن يكون المراد بالأبوين: الجد والأب، فرسول الله (صلى الله عليه وآله ) بمنزلة الجد، وعلي (عليه السلام) بمنزلة الأب.
والظاهر أن سائر الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) في زمان إمامتهم أيضاً آباءٌ للمسلمين، لأن كلهم نور واحد(3)،
ص: 11
وما يثبت لأولهم يثبت لآخرهم(1) إلاّ في بعض الاختصاصات، مثل اختصاصات الرسول (صلى الله عليه وآله) واختصاص فاطمة (عليها الصلاة والسلام) بعدم جواز زواج علي (عليه السلام) بغيرها (عليها السلام) ما دامت في الحياة، كما ورد بذلك الدليل(2)، ولأن نفس المصلحة التي أوجبت جعلهما (صلوات الله عليهما) أبوين للأمة حدوثاً موجبة لاعتبار أبوين بعدهما على مرور الأزمان إبقاءً.
ثم إن الظاهر أنه لا تزاحم بين أبوتهما (عليهما السلام) وأبوة المعصومين اللاحقين (عليهم السلام)، ففي الأزمنة اللاحقة تجتمع هذه الاعتبارات كلها.وبلفظ آخر:
إن الظاهر أن أبوة النبي والوصي (عليهما السلام) للأمة مستمرة حتى بعد وفاتهما الظاهرية، نعم قد تكون بدرجة أخرى أو بنحو آخر، ولذا نجد
ص: 12
إقامتهما (عليهما السلام) لاعوجاج الأمة مستمرة من بعد شهادتهما، كما هو واضح(1).
ذكرنا أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مشتركون في الفضائل وما ثبت لأولهم يثبت لآخرهم(2) إلاّ ما خرج بالدليل.
ورد في الزيارة الجامعة: «أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَابِقٌ لَكُمْ فِيمَا مَضَى وجَارٍ لَكُمْ فِيمَابَقِي»(3).
وورد أيضاً: «مُؤْمِنٌ بِسِرِّكُمْ وعَلَانِيَتِكُمْ وشَاهِدِكُمْ وغَائِبِكُمْ وأَوَّلِكُمْ وآخِرِكُم»(4).
وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام): «آمَنْتُ بِاللَّهِ ومَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وأَتَوَلَّى آخِرَكُمْ بِمَا تَوَلَّيْتُ بِهِ أَوَّلَكُمْ وكَفَرْتُ بِالْجِبْتِ والطَّاغُوتِ واللَّاتِ والْعُزَّى»(5).
وفي الاحتجاج: «فَنَفْسِي مُؤْمِنَةٌ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وبِرَسُولِهِ وبِأَمِيرِ
ص: 13
الْمُؤْمِنِينَ وبِأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وبِكُمْ يَا مَوْلَايَ أَوَّلِكُمْ وآخِرِكُم»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا النَّبِيُّ وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ والذُّرِّيَّةُ والْأَئِمَّةُ الْأَوْصِيَاءُ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ولَمْ تَنْقُصْ ذُرِّيَّتُهُمْمِنَ الْجِهَةِ
الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ وحُجَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ وطَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ»(2).
وعَنِ الْحَرْثِ النَّضْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ونَحْنُ فِي الأَمْرِ والنَّهْيِ والحَلالِ والْحَرَام نَجْرِي مَجْرَى وَاحِدٍ« فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وعَلِيٌّ فَلَهُمَا فَضْلُهُمَا»(3).
وسَأَلَ الْفَهْفَكِيُّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام): مَا بَالُ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ الضَّعِيفَةِ تَأْخُذُ سَهْماً وَاحِداً ويَأْخُذُ الرَّجُلُ سَهْمَيْنِ، فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «إِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا جِهَادٌ ولَا نَفَقَةٌ ولَا عَلَيْهَا مَعْقُلَةٌ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ»، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ كَانَ قِيلَ لِي إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَأَقْبَلَ أَبُومُحَمَّدٍ (عليه السلام) عَلَيَّ فَقَالَ: نَعَمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ والْجَوَابُ مِنَّا وَاحِدٌ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَاحِداً، جَرَى لآِخِرِنَا مَا جَرَى لِأَوَّلِنَا، وأَوَّلُنَا وآخِرُنَا فِي الْعِلْمِ سَوَاءٌ،ولِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَضْلُهُمَا»(4).
ص: 14
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: «نَحْنُ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ سَوَاءٌ، وفِي الْعَطَايَا عَلَى قَدْرِ مَا نُؤْمَرُ»(1).
وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ، قَالَ: كُنْتُ يَوْماً مِنَ الْأَيَّام عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقَالَ: «يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: «قَوْلُ اللَّهِ «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ»(2) إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَنَا الْمُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، مَنِ الْهَادِي الْيَوْمَ»؟ قَالَ: فَسَكَتُّ طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هِيَ فِيكُمْ تَوَارَثُونَهَا رَجُلٌ فَرَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْكَ فَأَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ الْهَادِي، قَالَ: «صَدَقْتَ يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ، إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، والْآيَةَ حَيَّةٌ لَا تَمُوتُ، فَلَو كَانَتِ الْآيَةُ إِذَا نَزَلَتْ فِي الْأَقْوَام مَاتُوا مَاتَتِ الْآيَةُ لَمَاتَ الْقُرْآن، ولَكِنْ هِيَ جَارِيَةٌ فِي الْبَاقِينَ كَمَا جَرَتْ فِي الْمَاضِينَ»، وقَالَ عَبْدُالرَّحِيمِ: قَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ والنَّهَارُ وكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ والْقَمَرُ، ويَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا»(3).
وعَنْ سَعْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليه السلام) يَقُولُ:«كَأَنِّي بِكُمْ وقَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الْخَلَفِ مِنِّي، أَمَا إِنَّ الْمُقِرَّ بِالْأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ الْمُنْكِرَ لِوَلَدِي كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ورُسُلِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) والْمُنْكِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ
ص: 15
(صلى الله عليه وآله) كَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلِنَا، والْمُنْكِرَ لآِخِرِنَا كَالْمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا، أَمَا إِنَّ لِوَلَدِي غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا النَّاسُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ»(1).
وعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ، وأَنْتَ يَا عَلِيُّ سَيِّدُ الْخَلَائِق بَعْدِي، وأَوَّلُنَا كَآخِرِنَا وآخِرُنَا كَأَوَّلِنَا»(2).
مسألة: حيث إن الاعتبار بيد المعتبر، لذا يمكن أن يكون (الملاحَظ) لدى الاعتبار أمراً واحداً ذا خصوصيات واقعية، ويكون الجعل الاعتباري لأمرين أو أكثر بخصوصيات أخرى.
ومن مصاديق ذلك أنه يصح أن يكون للإنسان أبوان ديناً، ولا يصح إلاّ أب واحد نسباً، كما أن الأم كذلك.
ولذا كانت نساء النبي (صلى الله عليه وآله) أمهات المؤمنين، في عدم جواز الزواج منهن، مع أنه لا يعقل في (المشبه به) إلا أن تكون لكل فرد أم واحدة.
وهل يستفاد من إطلاق كلمة (الأُمهات) لزوم احترامهن، حتى بعد ممات النبي (صلى الله عليه وآله)، كما في الأُم نسباً، الظاهر ذلك في المؤمنات منهن.
أما من خرجن بالدليل، فإن العمومات إذا خصصت خرج المخصّص في
ص: 16
مورده عن حكم العام، دون الباقي، كما قرر في الأصول.
وعلي أي، فإنه المستفاد من كونهما (عليهما السلام) أبوين للأمة، ثبوت حقوقالأبوين العامة لهما في الحياة وبعد الممات.
ثم قد يكون الفرق بين الطاعة حيث قالت: (إن أطاعوهما)، وبين الموافقة حيث قالت (عليها السلام) (إن وافقوهما): أن الطاعة في الواجب، والموافقة في الأعم منه، فيشمل المستحب وإن كان مؤكداً.
وربما كانت الطاعة في الأمر المولوي، والموافقة في غيره من إرشاد(1) أو حض أو تشويق.
وربما كانت الطاعة في الأمر، والموافقة في الأعم(2).
ويدل على ذلك اللغة، فإذا قال الإنسان لشخصٍ: أطع زيداً، فإن الإطاعة إنما تجب إذا كان آمراً له، أما الموافقة فإنها تشمل حتى غير الأمر، كما إذا سلك مسلكاً أو عمل عملاً فيوافقه المكلف(3).وعلى هذا فبينهما عموم مطلق، فكلما كانت الطاعة كانت الموافقة، دون العكس.
ص: 17
مسألة: يستحب بيان أن أبوي هذه الأمة هما: محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام).
ومعنى كونهما أبوين، إضافة للوضع والاعتبار: إن إطاعتهما (عليهما السلام) واجبة على الأمة كإطاعة الأبوين بل أكثر، وتشبيه الأقوى بالأضعف كتنزيله منزلته لا بأس به إذا كان مصححاً، ككون الأضعف هو الآنس بالذهن، أو هو المعلوم لدى الناس ثبوته وتحققه، ومن الواضح أن إطاعة هذين الأبوين (عليهما السلام) أوجب من إطاعة الأبوين النسبيين.
قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ وَالِدَيْكُمْ وأَحَقُّهُمَا لِشُكْرِكُمْ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌ»(1).
وَقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، ولَحَقُّنَا عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ أَبَوَيْ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّا نُنْقِذُهُمْإِنْ أَطَاعُونَا مِنَ النَّارِ إلى دَارِ الْقَرَارِ، وَنُلْحِقُهُمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِيَارِ الْأَحْرَارِ»(2).وَقال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): «إِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ إِنَّمَا عَظُمَ حَقُّهُمَا عَلَى أَوْلَادهِمَا، لِإِحْسَانِهِمَا إِلَيْهِمْ، فَإِحْسَانُ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (عليهما السلام) إلى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَجَلُّ وأَعْظَمُ، فَهُمَا بِأَنْ يَكُونَا أَبَوَيْهِمْ أَحَقُ»(3).
ص: 18
مسألة: إقامة الأَوَد وتصحيح المسيرة والحفاظ على الأمة من الانحراف من أهم الواجبات، ولا تكون إلا بتوفير الأسباب وإعداد المقدمات، من تبليغ وهداية وإرشاد، وليس بالقسر والجبر، كما ليس ذلك (تكوينياً) إلا بمقدار إزاحة العلة، كما في قوله تعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).
قال سبحانه: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»(2).
وقال عزوجل: «وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ»(4)، قَالَ: «حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيهِ ومَا يُسْخِطُهُ، وقَالَ: «فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وتَقْوَاها»(5)، قَالَ: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي ومَا تَتْرُكُ،وقَالَ: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً»(6)، قَالَ:
ص: 19
عَرَّفْنَاهُ إِمَّا آخِذٌ وإِمَّا تَارِكٌ، وعَنْ قَوْلِهِ: «وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الهُدَى»(1)، قَالَ: «عَرَّفْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وهُمْ يَعْرِفُونَ وفِي رِوَايَةٍ بَيَّنَّا لَهُمْ»(2).
وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً»(3) قَالَ: «إِمَّا آخِذٌ فَهُوشَاكِرٌ وإِمَّا تَارِكٌ فَهُوكَافِرٌ»(4).
مسألة: يجب إنقاذ الأمة من العذاب الدائم.
وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفعه ودفعه، ونفي الضرر الجسيم عن الغير، والدعوة إلى الخير، وإرشاد الجاهل، وتنبيه الغافل،وغيرها من العناوين العامة الاقتضائية، وقد قال المسيح (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) ما مضمونه: التارك مداواة الجريح كالجارح له.
وقال سبحانه قبل ذلك: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً»(5).
إلى غير ذلك من الأدلة العامة والخاصّة، وأما استفادة ذلك من هذه الرواية
ص: 20
الشريفة فموقوف على ضميمة دليل التأسي أو تنقيح المناط أو شبه ذلك.
قال تعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ويُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ ويُطيعُونَ اللهَ ورَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قِوَام الشَّرِيعَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وإِقَام الْحُدُودِ»(2).
مسألة: يستحب إباحة النعيم للأمة،وتيسير سبل وصول الناس إليه، وقد يكون واجباً، والحكم يختلف باختلاف مصاديقه.
و(إباحة النعيم) قد تعني: الإذن في التصرف فيه، وقد تعني تسبيب الأسباب للغير حتى يصل إليه، والظاهر أن كلا المعنيين صحيح ومقصود بالنسبة إليهما (صلوات الله عليهما)، إذ تسبيب الأسباب بالدعوة والإرشاد وغيرهما منهما، ثم إن الأذن في دخول الجنة في القيامة منوط بهما أيضاً.
وأما بالنسبة لنا، فإن المعنى الثاني هو الصحيح والمتيسر فقط.
ثم إن ذلك من أهم وظائف الحكام والمسؤولين أيضاً.
ولا يخفى أن ما ذكرناه في هذين البندين من باب دليل الاقتضاء الذي أشرنا
ص: 21
إليه في بعض المباحث السابقة، لا دليل الاقتضاء الذي ذكره الأصوليون.
مسألة: قد يستفاد من هذه الرواية أن لكل أُمة أبوين: (النبي ووصيه)، وأن هذه سنة من سنن الله في الأمم، ولهذا عبرت (صلوات الله عليها) ب (أبوا هذه الأُمة).عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، عَنْ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي ونَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِي، وأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ اتِّبَاعَ أَمْرِي، وفَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ طَاعَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي مَا فَرَضَهُ مِنْ طَاعَتِي، ونَهَاكُمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي، وجَعَلَهُ أَخِي ووَزِيرِي، وَصِيِّي ووَارِثِي، وهُوَ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ، حُبُّهُ إِيمَانٌ وبُغْضُهُ كُفْرٌ، ومُحِبُّهُ مُحِبِّي ومُبْغِضُهُ مُبْغِضِي، وهُوَ مَوْلَى مَنْ أَنَا مَوْلَاهُ، وأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ، وأَنَا وإِيَّاهُ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ»(1).
وعن عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ كُنِّيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ قَاسِمٌ فَكُنِّيَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَهَلْ تَرَانِي أَهْلًا لِلزِّيَادَةِ، فَقَالَ: َنعَمْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
ص: 22
وآله) قَالَ: أَنَا وعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، قُلْتُ:بَلَى، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَبٌ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ وعَلِيٌّ (عليه السلام) مِنْهُمْ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَاسِمُ الْجَنَّةِ والنَّارِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ لِأَنَّهُ أَبُو قَسِيمِ الْجَنَّةِ والنَّارِ، فَقُلْتُ لَهُ: ومَا مَعْنَى ذَلِكَ، قَالَ: إِنَّ شَفَقَةَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمَّتِهِ شَفَقَةُ الْآبَاءِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وأَفْضَلُ أُمَّتِهِ عَلِيٌّ (عليه السلام) ومِنْ بَعْدِهِ شَفَقَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَيْهِمْ كَشَفَقَتِهِ (صلى الله عليه وآله) لِأَنَّهُ وَصِيُّهُ وخَلِيفَتُهُ والْإِمَامُ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَنَا وعَلِيٌ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، وصَعِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَعَلَيَّ وإِلَيَّ، ومَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وأُمَّهَاتِهِمْ وأَوْلَى بِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَعْدَهُ جَرَى ذَلِكَ لَهُ مِثْلُ مَا جَرَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) »(1).
مسألة: لا تكفي طاعة غير النبي والوصي (عليهما السلام) مهما كانت مطابقة للواقعفرضاً، ويجب بيان أن الإنقاذ من العذاب الدائم لا يكون إلاّ بطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيه الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، وكلام الصديقة (صلوات الله عليها) صريح في ذلك حيث إنها قالت: «وينقذان من العذاب الدائم إن أطاعوهما».
ص: 23
فلذلك من اللازم إرشاد الأمة إلى وجوب طاعتهما، قال سبحانه: «مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاع اللهَ»(1)، وقال تعالى: «أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).
وقد صرّح الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن «طاعة علي (عليه السلام) هي طاعة الله»(3).
وأنه (عليه السلام) «مع الحق والحق معه»(4).
ص: 24
وأنه (عليه السلام) «مع القرآن والقرآن معه»(1).إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
عن عَمْرُوبْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ أَتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ
ص: 25
فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِمَّا أَنْ تَقُومَمَعَنَا وإِمَّا تَخْلُو بِنَا عَنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ أَنَا أَقُومُ مَعَكُمْ.
قَالَ: وهُو يَوْمَئِذٍ صَحِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى، قَالَ: فَابْتَدَؤوا فَتَحَدَّثُوا فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا، قَالَ: فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ فَيَقُولُ: أُفْ وتُفْ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ عَشْرُ خِصَالٍ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللَّهُ أَبَداً يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ، قَالَ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مَنِ اسْتَشْرَفَ، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ، فَقَالُوا: هُو فِي الرَّحَى يَطْحَنُ، قَالَ: ومَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَيَطْحَنُ، قَالَ فَجَاءَ وهُو أَرْمَدُ لَا يَكَادُ يُبْصِرُ، قَالَ: فَنَفَثَ فِي عَيْنِهِ ثُمَّ هَزَّ الرَّايَةَ ثَلَاثاً فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حي.
قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ فُلَاناً بِسُورَةِ التَّوْبَةِ فَبَعَثَ عَلِيّاً خَلْفَهُ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وقَالَ: لَا يَذْهَبْ بِهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ.
وقَالَ: وقَالَ لِبَنِي عَمِّهِ: أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، قَالَ: وعَلِيٌّ جَالِسٌ مَعَهُمْ، فَأَبَوْا، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه
السلام): أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، قَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، وكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثَوْبَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى عَلِيٍّ وفَاطِمَةَ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ وقَالَ: «اِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَالْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).
قَالَ: وشَرَى عَلِيٌّ نَفْسَهُ لَبِسَ ثَوْبَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ نَام مَكَانَهُ، قَالَ: وكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ..
ص: 26
وجَعَلَ عَلِيٌّ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا كَانَ يُرْمَى نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وهُو يَتَضَوَّرُ قَدْ لَفَّ رَأْسَهُ فِي الثَّوْبِ لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالُوا إِنَّكَ لَلَئِيمٌ كَأَنَّ صَاحِبَكَ نُرَامِيهِ فَلَا يَتَضَوَّرُ وأَنْتَ تَتَضَوَّرُ، وقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ.
قَالَ: وخَرَجَ (صلى الله عليه وآله) بِالنَّاسِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): أَخْرُجُ مَعَكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لا، فَبَكَى عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلاّ وأَنْتَ خَلِيفَتِي، قَالَ: وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَنْتَ وَلِيِّي فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ومُؤْمِنَةٍ، وقَالَ: سُدُّوا أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ باب عَلِيٍّ (عليه السلام) قَالَ: فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ جُنُباً وهُو طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ، قَالَ: وقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُفَإِنَّ عَلِيّاً مَوْلَاهُ»(1).
مسألة: يلزم بيان أن الفوز بالنعيم الدائم لا يكون إلاّ بموافقتهما (عليهما الصلاة والسلام)، حيث إن الإنقاذ من العذاب الدائم لا يلازم ثبوتاً وفي حد ذاته الفوز بالنعيم الدائم، والتلازم إنما هو للدليل الخارجي، وقد دلت هذه الرواية على كلا الطرفين، وذلك هو المستفاد من الروايات الكثيرة، ويأتي هنا ما ذكرناه في المسألة السابقة.
ثم إن أظهر مصاديق النعيم الدائم نعيم الآخرة، ويمكن أن يراد - إن لم
ص: 27
يكن إطلاقاً فملاكاً - ما يشمل نعيم الدنيا، فإن الدوام فيها نسبي، فربما يكون للإنسان عافية مؤقتة وثروة كذلك، وربما تكون عافيته دائمة وثروته كذلك، أي إلى آخر حياته.
فطاعة النبي والوصي (صلى الله عليه وآله) يكون سبباً لسعادة الدنيا والآخرة، ومن هنا ورد قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْمِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ»(1).
وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ»(2).
مسألة: يحرم مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ويجب إطاعتهما (عليهما الصلاة والسلام).
ولا يخفى أن حرمة المخالفة ووجوب الإطاعة وجهان لشيء واحد، لما حقق في (الأصول) من أنه لا يُعقل أن يكون للطرفين حكمان إلا من باب التأكيد، وهو في الحقيقة ليس بحكمين وإنما حكم واحد، فإذا قيل: الخمر حرام، كان معناه العرفي وجوب تركه واجتنابه، لا أنه حكم ثان ببوجوب الترك، كما أنه إذا قيل الصلاة واجبة كان معناه حرمة تركه كذلك.
ص: 28
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ كُنِّيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ قَاسِمٌ فَكُنِّيَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَهَلْ تَرَانِي أَهْلًا لِلزِّيَادَةِ.فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَبٌ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ وَعَلِيٌّ بِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيّاً قَاسِمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ لِأَنَّهُ أَبُو قَاسِمِ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَ مَا مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ شَفَقَةَ الرَّسُولِ عَلَى أُمَّتِهِ شَفَقَةُ الْآبَاءِ عَلَى أَلْأَوْلَادِ، وَأَفْضَلُ أُمَّتِهِ عَلِيٌّ (عليه السلام)، وَمِنْ بَعْدِهِ شَفَقَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَيْهِمْ كَشَفَقَتِهِ لِأَنَّهُ وَصِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ وَالْإِمَامُ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ (صلى الله عليه وآله): أَنَا وَ عَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصَعِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَصَارَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَعْدَهُ جَرَى لَهُ مِثْلُ مَا جَرَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)»(1).
مسألة: قد يستفاد من هذا الحديث ملاكاً، أو بلحاظ ما ذكر لها من خصائص ككونهما (عليهما السلام) أبوين، أن الفقيه ومرجع التقليد وعالم المنطقة
ص: 29
والمعلم ومن أشبه أيضاً آباء روحيون، بدرجة أو أخرى.
ولعل التفات كلا الطرفين لهذا المعنى يفيد كثيراً من الأمور، ويسهم في التعليم والتزكية أكثر فأكثر.
قال الشهيد (رحمه الله) في منية المريد، في بيان مقام الأستاذ:
هو أعظم من الوالد الجسماني، فيبالغ بعد الأدب في حقه كما تقدم في رعاية حق أبوته ووفاء حق تربيته، وقد سئل الإسكندر: ما بالك توقر معلمك أكثر من والدك، فقال: لأن المعلم سبب لحياتي الباقية ووالدي لحياتي الفانية.
وأيضاً لم يقصد الوالد في الأغلب في مقاربة والدته وجوده ولا كمال وجوده وإنما قصد لذة نفسه فوجد هو وعلى تقدير قصده لذلك فالقصد المقترن بالفعل أولى من القصد الخالي عنه، وأما المعلم فقصد تكميل وجوده وسببه وبذل فيه جهده ولا شرف لأصل الوجود إلاّ بالإضافة إلى العدم فإنه حاصل للديدان والخنافس وإنما الشرف في كماله وسببه المعلم.وقد روي أن السيد الرضي الموسوي (قدس الله روحه) كان عظيم النفس، عالي الهمة، أَبِيَّ الطبع، لا يقبل لأحد منة، وله في ذلك قصص غريبة مع الخليفة العباسي حين أراد صلته بسبب مولود ولد له وغيره، ومنها أن بعض مشايخه قال له يوماً: بلغني أن دارك ضيقة لا تليق بحالك ولي دار واسعة صالحة لك قد وهبتها لك فانتقل إليها، فأبى فأعاد عليه الكلام فقال: يا شيخ أنا لم أقبل بر أبي قط فكيف من غيره، فقال له الشيخ: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك لأني أبوك الروحاني وهو أبوك الجسماني، فقال السيد (رحمه الله): قد قبلت الدار، ومن هنا قال بعض الفضلاء:
ص: 30
من علم العلم كان خير أب *** ذاك أبو الروح لا أبو النطف (1)
مسألة: هل تترتب حقوق خاصة للنبي والوصي (عليهما السلام) على الأمة نظراً لأبوتهما، وهل تترتب حقوق خاصة للأمة عليهما (صلوات الله عليهما) نظراً لذلك؟
لا يبعد وكون (الأبوة) طولية، لكنهاعلى أي تقدير ارتباطية، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: «كُلٌّ آمَنَ باللهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصير»(2).
وقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ باللهِ وَرُسُلِهِ وَيُريدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُريدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً»(3).
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَ لَحَقُّنَا عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ أَبَوَيْ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّنا نُنْقِذُهُمْ إِنْ أَطَاعُونَا مِنَ النَّارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ وَ نَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِيَارِ الأَحْرَارِ»(4).
ص: 31
لا ينبغي أن يتصور أن قولها (صلوات الله عليها): (أبوا هذه الأُمة محمد وعلي) معارض لقوله تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليم»(1).
إذ الآية الشريفة تنفي الأبوة الجسمية الحقيقية، وأما الرواية فتثبت الأبوة المعنوية الاعتبارية، والأبوة الروحية، ويوضح ذلك شأن نزول الآية(2).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحاديث عديدة: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة»(3).
ص: 32
قالت فاطمة (عليها السلام) لبعض النساء: «أرضي أبوي دينك محمداً وعلياً بسخط أبوي نسبك، ولا ترضي أبوي نسبك بسخط أبوي دينك، فإن أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمد وعلي (عليهما السلام) بثواب جزء من ألف ألف جزء من ساعة من طاعاتهما، وإن أبوي دينك محمداً وعلياً (عليهما السلام) إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأن ثواب طاعات أهل الدنيا كلهم لا يفي بسخطهما»(1).
-------------------------------------------
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله قد فرض عليكم طاعتي ونهاكم عن معصيتي و أوجب عليكم اتباع أمري، وأن تطيعوا علي بن أبي طالب بعدي، فإنه أخي ووزيري، ووارث علمي وهو مني وأنا منه، حبه إيمان وبغضه كفر، ألا فمن كنتُ مولاه فهو مولاه، أنا وعلي أبوا هذه الأمة، فمن عصى أباه فحشر مع ولد نوح، حيث قال له أبوه: «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِيإِلى جَبَلٍ»(2) الآية، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): «اللهم
ص: 33
انصر من نصره، واخذل من خذله، و والِ وليه، وعادِ عدوه، ثم بكى النبي (صلى الله عليه وآله) وودعه ثلاث كرات بمشهد جمع من المهاجرين والأنصار كانوا حوله جالسين يبكون»(1).
الأبوة أمر اعتباري بالمعنى الأعم، والاعتبار بيد المعتبر، فكما اعتبر الله تعالى الوالدين أبوين، له أن يعتبر غيرهما أبوين أو في حكمهما، نعم انعقاد النطفة منهما مُعدَّ أو جزء علة لاعتبار الأبوة.
وكما أن أصل اعتبار الأبوة بيد المعتبر، فكذلك نحو الاعتبار ودرجته، فله أن يعتبر هذا مقدماً على ذاك، كما هو صريح الرواية الآتية أيضاً.
مسألة: يلزم تحصيل رضا الأبوين نسباً، ولا يجوز إسخاطهما بالعنوان الأولي ما دام لم يعارض بإسخاط أبوي الأمة محمد وعلي (عليهما السلام)، فإن لزوم تحصيل رضا الوالدين إنما هو إذا كان في حدود الشريعة المقدسة، أما إذا لم يكن الأمر شرعياً بل كان خلافه فلا يلزم الإرضاء بل لا تجوز حينئذ إطاعتهما، قال سبحانه: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً»(2)، والشرك من باب المثال وكونه أبرز المصاديق،
ص: 34
لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) (1) كما ورد في الحديث.
وهذا الحكم إجماعي، ويدل عليه العقل أيضاً، لأن المنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، ثم النبي والوصي، فلا يجوز تقديم المنعم المجازي وهما الأبوان عليه، قال تعالى: «وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ»(2).
وفي أدعية السفرة: (هذا منك ومن محمد).
عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه
السلام) فَأَطْعَمَنَا ثُمَّ رَفَعْنَا أَيْدِيَنَافَقُلْنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَمِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»(3).
مسألة: هل (الأبوان) يشمل غير الشرعيين أيضاً؟
احتمالان، ولا يبعد الشمول، فإن المستثنى هو الإرث فقط، وإلا فالظاهر أنهما لا فرق فيهما بين الشرعي وغير الشرعي في المحرمية وحرمة النكاح ولزوم النفقة والرضاع وما أشبه ذلك، لأنهما ولّداه حقيقةً، فالأدلة تشملهما، نعم الخارج عدم الإرث، كما أشرنا إلى ذلك في بعض مباحث الفقه.
مسألة: ولد الشبهة، لا إشكال في أنه ولد شرعاً وعقلاً وعرفاً، والفرق بينه وبين الولد الحلال إنما هو في التسمية فقط.
مسألة: قد اختلف الفقهاء في أنه هل تجب طاعة الأبوين مطلقاً، أو في مورد إيذائهما بعدم الطاعة؟
ص: 35
جمع من الفقهاء قال بوجوب الطاعة في مورد الإيذاء بتركها فقط، وإلا فلا يلزم الإطاعة لهما في كل أمر،كما لو أمرا بالخروج عن الأهل بتطليقها، أو الخروج عن المال أو العمل، أو في سُكنى هذا البلد أو ذاك، أو تزويج هذه البنت أو تلك، وما أشبه ذلك.
مسألة: لا ريب في أنه يجب تقديم رضا النبي وآله (صلى الله عليه وعليهم) على رضا غيرهم في الواجبات، أما في المستحبات فهو مستحب، بل مطلق غير الواجب ليشمل المباح أيضاً، وكذلك في الأمر الإرشادي، فتأمل(1).
ولذا سألت بريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هل أمرها بالرجوع إلى زوجها، أم نصحها بذلك وتشفع له.
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْداً أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَ دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لِلْعَبَّاسِ يَا عَبَّاسُ أَ لَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَ مِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثاً، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): لَوْ رَاجَعْتِهِفَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي، قَالَ: لَا، إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ، فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ(2)
فإن أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) وأوامر الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) واجبة التنفيذ في الواجبات، سواء كانت
ص: 36
واجبة بالعنوان الأولي أم بالعنوان الثانوي، وكذلك في الأوامر المولوية التي أريد امتثالها مع المنع عن النقيض.
أما إذا كان الأمر على سبيل الشفاعة أو الترغيب أو النصيحة أو ما أشبه فلا يجب، وإن كان مستحباً في نفسه وكان له عظيم الثواب.
وكذلك حال المناهي، فهي بين محرمة لا يجوز فعلها، وبين ما يفضل تركها في المكروه، وكذا ما كان في مقام الشفاعة ونحوها، لا النهي المولوي الإلزامي.
قال تعالى: «وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1).
وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُواالرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).
وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ولَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ، أَلَا فَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وصُومُوا شَهْرَكُمْ، وحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، طِيبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وأَطِيعُوا وُلَاةَ أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»(3).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: ... كَذَلِكَ فِي الطَّاعَةِ قَالَ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(4)
ص: 37
فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ ثُمَّ بِأَهْلِ بَيْتِهِ، كَذَلِكَ آيَةُ الْوَلَايَةِ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ»(1) فَجَعَلَ طَاعَتَهُمْ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ مَقْرُونَةً بِطَاعَتِهِ، كَذَلِكَ وَلَايَتَهُمْ مَعَ وَلَايَةِ الرَّسُولِ مَقْرُونَةً بِطَاعَتِهِ، كَمَا جَعَلَ سَهْمَهُمْ مَعَ سَهْمِ الرَّسُولِ مَقْرُوناً بِسَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ والْفَيْ ء»(2).
مسألة: يستحب - وقد يجب - على العلماء والمصلحين والمثقفين أن يربوا الناس على ثقافة أولوية إرضاء النبي وآله (عليهم سلام الله) على إرضاء الحكام أو الرؤساء أو المدراء أو حتى الأمهات والآباء.
وينبغي بيان أن رضا وسخط غير النبي وآله (صلى الله عليه وآله) في مقابل رضاهم وسخطهم ليس بشيءٍ أصلاً.
قال تعالى: «يَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنين»(3).
وقول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): (بثواب جزء من ألف ألف جزء من ساعة من طاعتهما)، الظاهر أنه من باب المثال، لا أن المراد جزء من مليون فقط، إذ قد يستعمل أمثال هذه الألفاظ لإرادة الكثرة، مثل قول العرب (سبعة)
ص: 38
في إرادة الكثرة، ومثل قولهم: (سبعين) في إرادتها(1).
قال سبحانه: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَاللهُ لَهُم»(2)، مع أنه لو استُغفر لهم أكثر من سبعين لن يغفر الله لهم أيضاً، لأنهم لم يكونوا قابلين للغفران كما بين ذلك في التفاسير.
قال الفيض الكاشاني في تفسيره: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) لا فرق بين الأمرين في عدم الإفادة لهم (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) قيل: السبعون جاء في كلامهم مجرى المثل للتكثير، وروت العامة أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: واللَّه لأزيدنّ على السبعين، فنزلت (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَلَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، وفي لفظ آخر قال: لو علمت أنّه لو (زدت على السّبعين) مرّة غفر لهم لفعلت(3).
وروى العياشي، عن الرضا (عليه السلام): «أنّ اللَّه قال لمحمد (صلى الله عليه
ص: 39
وآله): (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فاستغفِر لهم مائة مرّة ليغفر لهم، فأنزل اللَّه (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) الآية»(1).
وربما كان استغفاره لمن يرجى إيمانه وكان النهي لمن لا يرجى إيمانه.
وربما كان الاستغفار أكثر من سبعين، بياناً لعدم قابليتهم للاستغفار مطلقاً، وتفسيراً للآية.
هذا ويرى البعض أنه (صلى الله عليه وآله) لم يستغفر لكافر أبداً بل كان يدعو لهدايتهم، وأن القضية الشرطية تصح حتى مع امتناع مقدمها، كما في قوله تعالى: «لَو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا»(2)، فلا يقال: كيف قال تعالى: «إن تستغفر لهم..» مع علمه بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يستغفر لهم.
وفائدة مثل هذه القضية بيان عدم قابليتهم لأن يغفر الله لهم، وأن عدم غفران الله لهم أمر لا يتغير وليس من لوح المحو والإثبات.
وفي التفسير: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولِهِ» إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منّا ولا قصور فيك، بل لعدم قابليّتهم بسبب الكفر الصّارف عنها(3).
ص: 40
مسألة: يجب إرضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطاعته وطاعة أوصيائه، وكذلك إرضاء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بطاعته وطاعة أوليائه.
إذ من الواضح أن رضا الله في رضاهما، وسخطه في سخطهما، لأنهما منصوبان من قبله سبحانه، النبي رسولاً وعلي إماماً.
وإرضاؤهم (صلوات الله عليهم) يكون - إضافة إلى إطاعتهم - بترويج شعائرهم، وإحياء آثارهم ومآثرهم، والدفاع عن المظلومين من أتباعهم من العلماء وعامة المؤمنين.
مسألة: يحرم إسخاط الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
ويأتي هنا أيضاً ما ذكرناه سابقاً، من أن الوجوب والحرمة وجهان لشيء واحد، فإذا كانت المصلحة في الفعل كالصلاة قيل إنه واجب، وإذا كانت المفسدة في الفعل كشرب الخمر قيل: إنه حرام، وما يذكر للطرف الآخر من الحكم يكون تأكيداً.
ص: 41
مسألة: يستحب بيان عظيم ثواب طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وتقريب ذلك إلى الأذهان بعبارات متنوعة وألفاظ مختلفة وبتشبيهات شتى.
لأن ذلك يوجب التفاف الناس حول النبي والوصي (عليهما الصلاة والسلام) أكثر فأكثر، ومن الواضح أنه أينما كان التفاف أكثر يكون الإنسان الملتف أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية، هذا كله إضافة إلى أن ذلك في حد ذاته فضيلة وعبادة(1).
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً حَبَّبَنَا إلى النَّاسِ ولَمْ يُبَغِّضْنَا إِلَيْهِمْ، أَمَا واللَّهِ لَو يَرْوُونَ مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَكَانُوا بِهِ أَعَزَّ، ومَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ بِشَيْ ءٍ، ولَكِنْ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْراً»(2).
مسألة: يستحب (عقد المقارنة) بين طرفي الأمر، ضدين كانا أو نقيضين أو متخالفين، فإنه أقرب للإقناع ولإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل.
ومن ذلك استحباب بيان أن ثواب طاعات أهل الدنيا لا يفي بسخط النبي
ص: 42
(صلى الله عليه وآله)، وكذلك بالنسبة إلى سخط الإمام أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله). وذلك على ما يستفاد من البند السابق إيجاباً وسلباً.
مسألة: الظاهر جواز المعاملة على إسقاط حقٍ، مقابل مالٍ أو منفعة، كما تجوز المعاملة بإعطاء شيء مقابل أن يرضى المظلوم أو الساخط أو من أشبه؛ فإنها معاملة عقلائية.
كما لا يجوز الإسخاط ظلماً، سواء كان المسخِط قادراً على إرضاء المسخَط بتعويضه بما يرضيه أم لا، والمراد بالمعاملة المعنى الأعم(1).
مسألة: الخطاب في قولها (صلوات الله عليها): (أرضي) وإن كان موجهاً لبعض النساء، إلا أنه من باب كونها طرف الخطاب لا اختصاص الحكم، فالأمر بالإرضاء عام للرجال والنساء كما هو أوضح من أن يخفى.
وقد سبق اشتراك الأحكام بين الذكر والأنثى ، وبين الأولين والآخرين،
ص: 43
إلاّ ما خرج بالدليل.
عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَام مِنْكُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) إلى النَّاسِ أَجْمَعِينَ رَسُولًا وحُجَّةً لِلَّهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ واتَّبَعَهُ وصَدَّقَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْإِمَام مِنَّا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، ومَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ ولَمْ يَتَّبِعْهُ ولَمْ يُصَدِّقْهُ ويَعْرِفْ حَقَّهُمَا فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْإِمَام وهُوً لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ويَعْرِفُ حَقَّهُمَا»، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ويُصَدِّقُ رَسُولَهُ فِي جَمِيعِ مَا أَنْزَلَاللَّهُ يَجِبُ عَلَى أُولَئِكَ حَقُّ مَعْرِفَتِكُمْ، قَالَ: «نَعَمْ أَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ يَعْرِفُونَ فُلَاناً وفُلَاناً»، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «أَتَرَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مَعْرِفَةَ هَؤُلَاءِ، واللَّهِ مَا أَوْقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ إلاّ الشَّيْطَانُ، لا واللَّهِ مَا أَلْهَمَ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّنَا إِلاّ اللَّهُ عَزَّوجَلَّ»(1).
وما رواه في الوسائل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لأنّ حكم الله عزّ وجلّ في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء، إلّا من علّة أو حادث يكون، والأوّلون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه الأوّلون، ويحاسبون عمّا به يحاسبون»(2). قال تعالى: «وما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً ونَذيراً ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون» (3).
ص: 44
في حديث، قالت فاطمة (عليها السلام): وأنا ابنة خديجة الكبرى.
قال علي (عليه السلام): وأنا ابن الصفا.
قالت: أنا ابنة سدرة المنتهى.
قال: وأنا فخر الورى.
قالت: وأنا ابنة من دنى فتدلى وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.
قال: وأنا ولد المحصنات.
قالت: أنا بنت الصالحات والمؤمنات.
قال: خادمي جبرائيل.
قالت: خاطبني في السماء راحيل، وخدمتني الملائكة جيلاً بعد جيل.
قال: وأنا ولدت في المحل البعيد المرتقى.
قالت: وأنا زوّجت في الرفيع الأعلى(1).
-------------------------------------------
ص: 45
ص: 46
ص: 47
ص: 48
ص: 49
مسألة: ينبغي التنويع في أساليب الهداية والدعوة والتبليغ والإعلام، لتكون بين نثر وشعر ومقالة وحوار وقصة وغير ذلك؛ فإن النفوس مختلفة، بل النفس الواحدة في الحالات المختلفة تميل إلى أنواع متعددة.
وعلى ذلك جرى هذا (الحوار) بين الصديقة الطاهرة وأمير المؤمنين (عليهما صلوات الله وسلامه).
ص: 50
وفي القرآن الكريم التنوع الفريد في أساليب العرض والكلام(1).
مسألة: يجوز التفاخر بالحق، بل ربما استحب أو وجب على ما سيأتي، وذلك إذا كان فيه فائدة دينية أو دنيوية للناس، كما في كلماتها (عليها السلام) وكلماته (عليه السلام).
ويعتبر ذلك من أساليب الدعوة والإرشاد والهداية والتعريف بأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأما قوله سبحانه: «فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْأَوْ أَشَدَّ ذِكْراً»(2)، إنما يراد به التفاخر بالباطل أو بالمكروه(3)، أما التفاخر بالحق فإنه جائز بالمعنى الأعم بما يشمل المستحب والواجب.
قال تعالى: «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ»(4).
وقال سبحانه: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُحْسِنين َ»(5).
ص: 51
وقال تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهيمَ وَجَعَلْنا في ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ»(1).
وقال سبحانه: «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ»(2).
والمقام مقام إظهار الفضل والمكانة عند الله والمنزلة والقرب لديه، بغرض التأثير الإيجابي على نفوس الناس، كي يلتفوا حول من نصبهم الله تعالى أمناء على خلقه.
وبذلك يظهر الجواب عما قد يُقال:إنه ليس على سبيل البرهان في الجملة، بل على سبيل الخطابة في عدد منها، كقولها (عليها الصلاة والسلام): «وأنا زوّجت في الرفيع الأعلى»، فإنه ليس خاصاً بها، لوضوح أن الزواج طرفيني وأن علياً (عليه الصلاة والسلام) أيضاً زُوّج بها في الرفيع الأعلى، نعم قد يُراد أنها (عليها السلام) زوّجت في الرفيع الأعلى دون سائر زوجات علي (عليه الصلاة والسلام)، فيظهر أن الفضل في ذلك لها وحدها، علماً بأن أهداف الكلام تختلف خطابةً أو شعراً أو برهاناً كما حقق في آخر المنطق.
ص: 52
مسألة: يجب إظهار الحق الواجب ولو في صورة المفاخرة، فإن إبداء الحق وإظهاره والإعلان عنه واجب في الجملة، سواء أكان في صورة المفاخرة أم الكناية أم التصريح أم دلالة الاقتضاء أم غير ذلك من الإشارة والكتابة ونحوهما.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(1).
وفي رواية أخرى سأل الراوي عنه (صلى الله عليه وآله): أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند إمام ظالم»(2).
ولا خصوصية للكلام كما هو واضح، فإظهار الحق قد يكون بعمل أو كتابة أو ما أشبه، وقوله (عليه الصلاة والسلام): «إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام»(3) إنما يراد به في باب النكاح والطلاق، وإلاّ فالمشهور بين الفقهاء صحة المعاطاةفي كل شيء غير بابهما، للأدلة التي أقامها الشيخ المرتضى (قدس سره) في المكاسب، وغيره في غيره على ذلك، وقد ذكرناه في الفقه مفصلاً.
ص: 53
مسألة: لا يبعد إجمالاً القول باستحباب الانتساب إلى الكبار من العلماء والأولياء والصالحين، وكذا طلب الانتساب إلى البقاع المتبركة أو المهمة، وذلك بوسيلة اختيار المكان والنسب بحيث يتزوج من عائلة رفيعة أو يسكن في بلد مقدس وما أشبه، وذلك من باب المقدمية، فإن ذلك من المقدمات المؤدية للتخلق بالأخلاق الفاضلة والتقرب إلى الله تعالى.
بل النسبة في حد ذاتها نوع من الارتفاع أو الانخفاض، وربما تكون هي من أسباب الثواب أو العقاب، دنياً وآخرةً في الجملة، ففي الآخرة (الشفاعة) قال تعالى: «لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى»(1)، والشفاعة هي نوع انتساب مشروط، نسبي أو غيره، إذ قد يكون ذرياً أو ولاءً أو ما أشبه.
فإن المؤمن المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُشفع له، بينما الكافر والمنافق لا يشفع له، فإن الشفاعة تحتاج إلى المحل القابل أيضاً، وهذا بحث كلامي مفصل نكتفي منه بهذا القدر.وأما في الدنيا ف (الشفاعة) متحققة فيها، بحق أو بباطل.
كما يوجد نوع آخر من الارتفاع والانخفاض الانتسابي، ففي الدنيا قال سبحانه: «وَلْيَخْشَ الَّذينَ لَوتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَديداً»(2)، فإن ما يصيب الإنسان في الدنيا بسبب أبويه إنما
ص: 54
هو من (الانتساب) في كثير من الموارد، لا من نفسه.
نعم في الآخرة: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1) حيث هذا القانون يطبق بالكامل، أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
كما أنه في الدنيا كذلك بالنسبة إلى الحدود الشرعية حيث «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(2).
وأما كون الدية على العاقلة فليس من باب وزر الوازرة، بل من باب التكافل الاجتماعي، كما هو كذلك في الخمس والزكاة وما أشبه، والتكافل الاجتماعي ليس خاصاً بالإسلام، بل كلالأديان والقوانين فيها التكافل الاجتماعي بشكل أو بآخر، ولهذا تأخذ الحكومات الضرائب من الأغنياء لتضعها - لو التزمت بالقوانين - عند الفقراء.
مسألة: شجرة النسب أمر محمود ذو منافع، من هنا ينبغي المحافظة على أشجار الأنساب، وقد جرت سيرة المتشرعة على ذلك ولو في الجملة.
ولعل ذلك يستفاد من قولها (صلوات الله عليها): «وأنا ابنة خديجة الكبرى» بلحاظ وحدة المناط في المباشر وغير المباشر، فتأمل.
ص: 55
مسألة: يستحب القيام بكل ما يسبب تأكيد وتثبيت منزلة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) كقدوات وأسوات للناس، ومن ذلك استحباب بيان نسب وحسب الصديقة فاطمة (عليها السلام) وأنها ابنة خديجة الكبرى (عليها السلام)، وابنة سدرة المنتهى، وابنة من دنى فتدلى وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، وأنها بنت الصالحات والمؤمنات.
وفائدة بيان ذلك هو ما مرّ كراراً من الالتفاف حولها (عليها الصلاة والسلام) وإطاعتها، والتأسي بها في صالح أعمالها، إضافة إلى كون كل ذلك عبادة توجب الأجر والمثوبة.
ومن الواضح أن الإنسان سرّ أبويه، تسري فيه حالاتهما، إلاّ ما خرج بالدليل.
ومعنى (ابنة سدرة المنتهى) أنها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي وصل إلى سدرة المنتهى، مثل ما ورد في خطبة الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) أنه ابن زمزم والصفا(1)، وما أشبه ذلك،والنسبة تكفي فيها أدنى مناسبة فكيف إذا كانت مناسبة استثنائية؟
وأما أنها (عليها السلام) (بنت الصالحات المؤمنات) ففيه دلالة على أن الأرحام التي اشتملت عليها وكذلك الأصلاب كانت، كلها مؤمنات إلى حواء وآدم (عليهما الصلاة والسلام) كما نقرأ في زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام): «لم
ص: 56
تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها»(1).
وهناك روايات متواترة تدل على ذلك بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام).
ولعل هذه التأكيدات في قبال ما ذكرته كتب المسيحيين واليهود من أن أنبيائهم كانوا أولاد زنا أو كانوا يزنون ويفعلون الفاحشة - والعياذ بالله - وقد أشرنا إلى بعض ذلك في كتاب (ماذا في كتب النصارى)؟
وكل هذه الأكاذيب كانت لنشر الفساد بين الناس وتبرير فساد الحكام ومن أشبه، وقد دلت الأدلة القطعية على أن تلك الكتب التي ذكرت أمثال هذه الافتراءات إنما هي محرّفة، كماقال سبحانه: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ»(2).
مسألة: يستحب ذكر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) بكل أنواعها وأشكالها، ومنها أنه ابن الصفا، وفخر الورى، وولد المحصنات.
ولعل بيان أنه من أولاد المحصنات، تعريض بغيره ممن اغتصبوا الخلافة، كما لا يخفى خبث نسب بعضهم على من ألمّ بالتاريخ(3).
ويحتمل أن يكون المراد من (المحصنات) ليس المحصنات من الزنا فقط كما
ص: 57
هو المشهور، بل الأعلى من ذلك وهو الإحصان من كل رذيلة ونقيصة ومثلبة، ولعل المراد من (التي أحصنت فرجها..) هو المعنى الأعم لا خصوص الإحصان والحفظ من الزنا.
وكذلك ما ورد من (أن فاطمة بنت محمد أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار)(1)، فإن الفرج لغة يطلق على(الثغر) و(موضع المخافة)(2)، وكل سيئة ونقيصة وشهوة وقوة هي موضع مخافة، كما أن الفرج: (الفتق والشق)(3)، وهما بين مادي ومعنوي، ومن ذلك (الفَرَج) فإنه يفتح ما استغلقت من الأبواب، ماديةً أو روحية أو نفسية أو غيرها، و(الفَرجَة: الخلوص من شدة)(4)، و(ثوب طويل الفرج) أي واسع الذيل(5).
مسألة: يستحب بيان كل ما بينه الدين من أنواع ومصاديق الارتباط بين عالمي الغيب والشهود، كما يستحب بيان فضائل العترة الطاهرة (عليهم السلام).
ومن مصاديق الأمرين: أن جبرائيل (عليه السلام) هو خادم أمير المؤمنين (عليه السلام).
ص: 58
فإن بيان ذلك يوجب التفات الناس حول الوصي (عليه الصلاة والسلام)، لأنه أفضل من جبرائيل الذي هو أفضل الملائكة، ويدل ذلك على شدة قربه (عليه الصلاةوالسلام) من الله سبحانه وتعالى.
ولا يستغرب؛ فإن الإمام علي (عليه السلام) هو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأفضل الخلائق بعده، وقد قال تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً»(1)، وأمر ملائكته بالسجود لآدم (عليه السلام)، وقد ورد في روايات عديدة أن أمره تعالى بالسجود لآدم كان لوجود المعصومين (عليهم السلام) في صلبه.
قال الإمام (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ، وسَوَّاهُ، وعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَعَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، جَعَلَ مُحَمَّداً وعَلِيّاً وفَاطِمَةَ والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهم السلام) أَشْبَاحاً خَمْسَةً فِي ظَهْرِ آدَمَ، وكَانَتْ أَنْوَارُهُمْ تُضِي ءُ فِي الْآفَاقِ، مِنَ السَّمَاوَاتِ والْحُجُبِ والْجِنَانِ وَالْكُرْسِيِّ والْعَرْشِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، تَعْظِيماً لَهُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ وعَاءً لِتِلْكَ الْأَشْبَاحِ، الَّتِي قَدْ عَمَّ أَنْوَارُهَا الْآفَاقَ. فَسَجَدُوا لِآدَمَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَتَوَاضَع لِجَلَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ، وأَنْ يَتَوَاضَع لِأَنْوَارِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَدْ تَوَاضَعَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا واسْتَكْبَرَ، وتَرَفَّع وكانَ بِإبائِهِ ذَلِكَ وتَكَبُّرِهِ مِنَ الْكافِرِينَ»(2).وقال علي بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قال: «يَا عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ آدَمَ لَمَّا رَأَى النُّورَ سَاطِعاً مِنْ صُلْبِهِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ نَقَلَ أَشْبَاحَنَا مِنْ ذِرْوَةِ الْعَرْشِ إلى ظَهْرِهِ، رَأَى النُّورَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنِ
ص: 59
الأَشْبَاحَ، فَقال: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الأنوار، قال: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْوَارُ أَشْبَاحٍ،نَقَلْتُهُمْ مِنْ أَشْرَفِ بِقَاع عَرْشِي إلى ظَهْرِكَ، وَلِذَلِكَ أَمَرْتُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَكَ، إِذْ كُنْتَ وِعَاءً لِتِلْكَ الأَشْبَاحِ»(1).
مسألة: تستحب الخطبة في الزواج، وقد يستند إلى هذه الرواية أيضاً نظراً لخطبة راحيل الملك للصديقة (عليها السلام) في السماء كما ذكرته.
مسألة: توزيع المسؤوليات وتنوع الأدوار، مما يدل عليه العقل والنقل، وهي سنة الله في خلقه، وذلك مشهود في الملائكة أيضاً.والروايات الدالة على تنوع مسؤوليات ومهام الملائكة كثيرة، ومنها ما ورد عن الصديقة (عليها السلام)، إذ اتضح من كلامها (صلوات الله عليها) أن (راحيل) وقعت عليه مهمة (الخطبة)، وأن ملائكة آخرين وقعت عليهم مسؤولية (الخدمة)، وهكذا.
مسألة: تستحب الشجاعة في عرض الحقائق الغيبية وبيانها للناس، وقد تجب، ومن تلك الحقائق أن الملائكة خدمة للصديقة الزهراء (عليها السلام) والعترة
ص: 60
الطاهرة (عليهم السلام) جيلاً بعد جيل.
والمراد ب (جيلاً بعد جيل) إما في زمن حياتها الدنيوية، أو المراد بذلك خدمتهم لها في العوالم السابقة، حيث كانت (عليها السلام) من الأنوار المحدقة بعرش الرحمن(1).
مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ولد في المحل البعيد المرتقى، أي الكعبة المشرفة به (عليهالصلاة والسلام).
فإن ولادته (عليه الصلاة والسلام) في الكعبة دليل على عظمته، وإن كانت الكعبة هي التي تشرفت به.
لا يقال: فلماذا لم يولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أعظم من علي (عليه الصلاة والسلام) في الكعبة؟
لأنه يقال: ذلك لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن موضع النزاع بين المسلمين، بخلاف الوصي (عليه الصلاة والسلام)، فكان مولده إرهاصاً لعظمته، كما قالوا مثل ذلك في مريم وفاطمة (عليهما الصلاة والسلام) حيث ورد اسم مريم في القرآن الحكيم دون اسم فاطمة (عليها السلام)، لأن مريم (عليها السلام) اتهمت من قبل اليهود بما هي بعيدة عنها كل البعد, وبالبهتان العظيم كما قال سبحانه: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظيماً»(2) بخلاف الصديقة فاطمة (عليها الصلاة
ص: 61
والسلام) حيث كانت مسلّمة النزاهة والطهارة والقدسية عند الجميع، فلم تحتج إلى الذكر، إلى غير ذلك مما ذكر في محله.
ومن هنا يعرف بعض الحكمة في تصديها لغاصبي الخلافة، فإن الأمة كانت بأجمعها معترفة بفضلها ومكانتها،ولذلك تمكنت من سلب الشرعية عن ابن أبي قحافة وابن الخطاب إلى يوم القيامة.
مسألة: يستحب عند بيان الحقائق مثل: إن الصديقة فاطمة (عليها السلام) زُوّجت في الرفيع الأعلى، التطرّق لحكمة ذلك، وفائدته وثمرته، وذلك لما سبق من أن بيان أمثال هذه الفضائل يوجب الالتفاف الأكثر فالأكثر مما يفيد دين الناس ودنياهم.
مضافاً إلى أنه بيان لشرعيتهم دون من سواهم.
ولا يبعد أن يكون الزواج قد حدث في الرفيع الأعلى بحضور الزوجين النورين النيرين، لا بمجرد إجراء العقد لهما هناك، ولا صرف إرادة المجاز من ذلك؛ فإن حضورهما غير ممتنع ولا ببعيد ولا بمستغرب، بل نظائره مقرِّبة لذلك، كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به روحاً وجسماً إلى السماء.
ثم الظاهر أن الزواج في الملأ الأعلى ذو آثار تكوينية وضعية لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم، إضافة إلى أنه تشريف ما فوقه تشريف،وكرامة لا تعدلها كرامة.
ص: 62
عن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، عن أم سلمة، قالت: والذي أحلف به إن علياً (عليه السلام) كان أقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، عدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قبض، فجعل (صلى الله عليه وآله) غداة بعد غداة يقول: جاء عليّ؟ مراراً، وأظنه كان بعثه في حاجة، فجاء بعد، فظننا أنه له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا بالباب، فأكبّ عليه علي (عليه السلام) فجعل (صلى الله عليه وآله) يساره ويناجيه، ثم قبض من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهداً.
-------------------------------------------
مسألة: يجوز الحلف بالموصول وما أشبه، مراداً بها الله سبحانه وتعالى، أو مطلق ما جاز الحلف به، كما قالت أم سلمة، وقررتها الصديقة فاطمة (عليها السلام).
مسألة: تجوز المسارة والمناجاة في الجملة، بعنوانها الأولي، وقد تجب من باب المقدمية.
ص: 63
وربما كرهت المناجاة إذا حزن الآخرون، ولم تكن واجبة.
وربما حرمت المناجاة، كالمناجاة بالمعصية، قال سبحانه: «فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ»(1).
وقال سبحانه: «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً»(2).
مسألة: يستحب العمل حتى آخر لحظات الحياة، بل قد يجب، كما في مطلق الكفائيات التي لم يقم بها من فيه الكفاية.
ويدل على الرجحان دليل التأسي، كما قد يظهر من قولها (عليها السلام): «وأظنه كان بعثه في حاجة» حيث يدل على تواصل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو في تلك اللحظات بما يرتبط بتبليغ الدين ونشر المعارف.
بل ويظهر ذلك من (فجعل يسارّه ويناجيه) حيث إن المناجاة في الأمور الخطيرة من أهم الأعمال، ومن البيّن أنه (صلوات الله عليه وآله) كان يودع علياً (عليه السلام) في مناجاته تلك ودائعالنبوة وأسرار الغيب.
ويدل على استحباب العمل الصالح حتى آخر اللحظات من عمر الإنسان، قوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(3)
ص: 64
وملاقاته أي رؤية ثوابه وعقابه.
فما دام الإنسان كادحاً لربه، عليه أن يعمل بالطاعات دوماً وإلى آخر اللحظات، وبمختلف أنواعها، ليكون ثوابه أعظم.
ويدل عليه أيضاً ما يستحب من الذكر والدعاء وقراءة القرآن وما أشبه في السكرات، بالإضافة إلى العمومات والإطلاقات.
وأما قولها (عليها السلام): (أظنه كان بعثه في حاجة)، فقد يقال: إنه كان من الظن المعتبر، فقد ذكرنا في (الأصول) أن الظن العرفي حجة، إلا ما خرج بالدليل.
أما الأدلة التي تنهى عن الظن، كقوله تعالى: «وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ»(1)، فإنما هي في باب أصول الدين وما أشبه، وإلا فقد استعمل الظن في القرآن الحكيم في موارد غير مذمومة، قال سبحانه: «الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(2)، فالظن المذموم في القرآن الحكيم إنما هو في مقابل الدليل، وفي أصول الدين، وتفصيله موكول إلى الأصول.
وقد يقال: إن الظن ههنا بمعنى اليقين، إذ قد جاء الظن بمعنى العلم، كقوله تعالى: «وَاَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً»(3).
ص: 65
وقال سبحانه: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً»(1)، كما ذكرنا ذلك في التفسير(2)، وكما ذكره في مجمع البحرين(3) وغيره.
مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان أقرب الناس مطلقاً برسول الله (صلى الله عليه وآله).
وذلك يدفع توهم أن أولاد العباس كأولاد علي (عليه السلام)، أو أن العباسكان أقرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من عليّ (عليه السلام)، كما كان العباسيون يدّعون ذلك.
مسألة: يستحب التكرار إذا كان لأمر مهم أو فيه الفائدة، سواء في الإخبار أو الإنشاء.
وذلك كتكرار السؤال في هذا الحديث، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) مراراً: «جاء علي»؟، وكما تكرر أنه (عليه السلام): «أقرب الناس به عهداً».
ص: 66
وقد قال القرآن الحكيم مكرراً: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان»(1).
وكما قال سبحانه مكرراً: «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر»(2).
مسألة: يلزم إحياء ذكر المؤمنات من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) كالسيدةخديجة الكبرى وأم سلمة، بمناسبات شتى، لما فيه من الموضوعية والطريقية أيضاً، فإن إحياء أمرهن يسحب البساط بنفس القدر عن اللاتي صغت قلوبهن وآذين رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومن الغريب ما نجده من إحياء أولئك القوم ذكر تلك النسوة رغم إيذائهن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرب بعضهن مع وصيه (صلوات الله عليها)، وإهمالهم ذكر أمثال السيدة خديجة وأم سلمة.
ص: 67
عن عبد الله بن مسعود،قال: أتيت فاطمة (صلوات الله عليها) فقلت لها: أين بعلك؟ فقالت: إن نفراً من الملائكة تشاجروا في شيء فسألوا حكماً من الآدميين. فأوحى الله تعالى إليهم أن تخيّروا، فاختاروا علي بن أبي طالب (عليه السلام).
-------------------------------------------
أقول: لا عجب من اختصام الملائكة أو شبهه بما لا يكون معصية، ففي القرآن الحكيم: «مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ»(1).
حيث اختصم الملائكة في أمر آدم (عليه السلام) وتكلموا مع الله، كما هو مبين في آيات أخرى، والملأ الأعلى أي الملائكة(2).
فإن ظاهر الاختصام هي الخصومة لا المحاورة فقط.
نعم لا شك أنهم لا يختصمون بالباطل، لأنه لا باطل هناك إلاّ نادراً، كما في قصة فطرس أو هاروت وماروت، وأمثال ذلك فإنه كان من باب الاستثناء لأجلتنبيه الملائكة وغيرهم أن عصمتهم من الله سبحانه، وإلاّ فإذا وكلهم إلى
ص: 68
أنفسهم أخطؤوا الطريق.
وكذلك يفسر ما ورد من عُجب ذلك الملك الذي خلق السماوات بأمر الله سبحانه وتعالى، فسلط الله عليه ناراً ألجأته إلى التوبة.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَخَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وسَبْعَ أَرَضِينَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدِ انْقَادَتْ لَهُ قَالَ: مَنْ مِثْلِي، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ نُوَيْرَةً مِنَ النَّارِ، قُلْتُ: ومَا النُّوَيْرَةُ، قَالَ: نَارٌ مِثْلُ الْأَنْمُلَةِ، فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فَتَخَبَّلَ لِذَلِكَ حَتَّى وَصَلَتْ إلى نَفْسِهِ لَمَّا أَنْ دَخَلَهُ الْعُجْبُ»(1).
نعم قد يفسر (التخاصم) في الآية الشريفة و(التشاجر) في قولها (صلوات الله عليها) ب (التحاور) و(المحاورة)، وقد يكون المراد من التشاجر: الصوري منه لغرض أهم، كإرادة تعليم الناس وتعريفهم على بعض المجهولات لديهم عن طريق مثل هذا الحوار.
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن المعصوم (عليه السلام) أفضل من الملائكة.
كما دل على ذلك متواتر الروايات والإجماع، أما العقل فلا يستطيع أن يستكشف مباشرة ودون معونة الروايات مثل هذه الحقائق، نعم الكتاب والسنة والإجماع والعقل كلها تدل على قاعدة: تفضيل الله سبحانه وتعالى بعض الأشياء على بعض حتى بالنسبة إلى الرسل، كما قال سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ
ص: 69
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ»(1).
وهكذا في تفضيل بني آدم بعضهم على بعض، لاختلاف القابليات وما أشبه، على ما ذكر في علم الكلام.
وهذا الحديث دال على أفضلية المعصوم (عليه السلام) من الملائكة، لأن الحَكَم يكون عادة أفضل من المتحاكمين(2)، مضافاً إلى ما ورد من فضل بني آدم على الملائكة بشكل عام، ومن فضلهم (عليهم السلام) على سائر الخلقبشكل خاص.
ثم إنه ربما يستفاد من تشاجر نفر من الملائكة ما يلي:
- الملائكة قادرة على إظهار المنويات وما تقصد.
- هناك لغة بالمعنى الأعم للملائكة.
- الملائكة قادرة على فهم الرموز والإشارات والمظهرات والعلامات في حدود لغة أو الأكثر في بعضهم.
- بعض الملائكة قد يرى ما لا يراه البعض الآخر منها.
- بعض الملائكة قد يعلم ما لا يعلمه البعض الآخر منها.
- الملائكة قد تتخالف في أمر.
ص: 70
- يحق للملائكة التخالف في أمر.
- الملائكة قد تتخذ مواقف.
- للملائكة تأثير في الجملة على عدد من مواقفها.
- قد ينتهي التخالف بينهم إلى التشاجر.
- يحتمل أن المراد من: (التشاجر) هنا هو التشاجر اللفظي لحكمةٍ ما.
- بعض الملائكة قد يخطئ، إذا رفع الله عنه العصمة، فيظن أن الحق معه.
- بعض الملائكة قد يقول غير ما يطابق الواقع، عند ما ترفع العصمةعنه.
- عصمة الملائكة بقول مطلق يمكن أن ترتفع إذا شاء الله ذلك.
- العقل بلا شهوة أيضاً قد يؤدي إلى التنازع.
- قد يكون الإنسان عند الملائكة، كالملائكة عند الإنسان، ولذا سألوا حكماً من الآدميين.
فإن الملائكة وإن كانوا «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ»(1)، إلا فيما استثني كما تقدم، إلا أن ذلك لا ينافي تشاجرهم، ولا ينفي ما ذكر من البنود المستفادة من هذا الحديث.
أما حقيقة الملائكة وخصوصياتهم النفسية والجسمية(2) والعقلية والعاطفية وما أشبه فهي مخفية عنا، كيف ونحن لا نعرف حتى أنفسنا في خصوصياتها، وإنما نعرف شيئاً بسيطاً جداً عن أنفسنا، مع أنا نعاشر أنفسنا ستين سنة أو سبعين أو
ص: 71
مائة أو أكثر أو أقل، وذلك على الرغم من هذا التطور العلمي، وتلك الوسائل الحديثة الدقيقة.
ولذا كتب أحد علماء الغرب كتاباًاسمه: (الإنسان ذلك المجهول)(1)، بل نحن لا نعرف حتى أمثال النملة من صنوف الحيوان رغم ضئالة حجمها وكثرة مشاهدتنا لها، وكذلك سائر مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الجماد والنبات والسيّال والجامد وغيرها، نعم ما يعرفه البشر هو شيء بسيط جداً من بعض هذا الأمور، فتكون نسبة علمنا إلى جهلنا بالحقائق كقطرة في بحر لجيّ بل أقل.
وقصة النبي موسى (عليه الصلاة والسلام) مع ذلك الطير الذي أخذ قطرات من ماء بحر ورمى بها نحو اليمين والشمال والخلف والأمام، تؤيد هذه الحقيقة حتى بالنسبة إلى بعض الأنبياء (عليهم السلام)، إلا من استثني منهم كرسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) فإنهم أعلم الخلق، والله عزوجل منحهم العلم اللدني بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.
روي أنه لَمَّا وَقَعَتِ الْمُشَاجَرَةُ بَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ والْخَضِرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قِصَّةِ السَّفِينَةِ والْغُلام والْجِدَارِ. ورَجَعَ إلى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عَمَّا اسْتَعْلَمَهُ عَنِ الْخَضِرِ عَلَيْهِالسَّلامُ.
فَقَالَ: عِلْمٌ لَا يَضُرُّ حَمْلُهُ، ولَكِنْ كَانَ مَا هُوأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: ومَا هُوأَعْجَبُ؟
قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وُقُوفٌ وإِذَا قَدْ أَقْبَلَ طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ
ص: 72
الْخُطَّافِ، فَنَزَلَ عَلَى الْبَحْرِ، وأَخَذَ بِمِنْقَارِهِ فَرَمَى بِهِ إلى الشَّرْقِ ثُمَّ أَخَذَ ثَانِيَةً فَرَمَى بِهَا إلى الْغَرْبِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَالِثَةً فَرَمَى بِهَا إلى الشَّمَالِ ثُمَّ أَخَذَ رَابِعَةً فَرَمَى بِهَا إلى الْجَنُوبِ ثُمَّ أَخَذَ خَامِسَةً فَرَمَى بِهَا إلى السَّمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ سَادِسَةً ورَمَى بِهَا إلى الْأَرْضِ، ثُمَّ أَخَذَ مَرَّةً أُخْرَى فَرَمَى بِهَا إلى الْبَحْرِ.
وجَعَلَ يُرَفْرِفُ وطَارَ، فَبَقِينَا (مَبْهُوتِينَ) لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادَ الطَّائِرُ بِفِعْلِهِ فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكاً فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ مَبْهُوتِينَ.
قُلْنَا: فِيمَا أَرَادَ الطَّائِرُ بِفِعْلِهِ، قَالَ: مَا تَعْلَمَانِ مَا أَرَادَ؟ قُلْنَا: اللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: وحَقِ مَنْ شَرَّقَ الْمَشْرِقَ، وغَرَّبَ الْمَغْرِبَ، ورَفَعَ السَّمَاءَ، ودَحَى الْأَرْضَ.
لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَبِيّاً اسْمُهُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله).
ولَهُ وَصِيٌّ اسْمُهُ عَلِيٌّ (عليه السلام)وعِلْمُكُمَا جَمِيعاً فِي عِلْمِهِ، مِثْلُ هَذِهِ الْقَطْرَةِ فِي هَذَا الْبَحْرِ(1).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا لَقِيَ مُوسَى الْعَالِمَ كَلَّمَهُ وسَاءَلَهُ نَظَرَ إلى خُطَّافٍ يَصْفِرُ ويَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ ويَتَسَفَّلُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا يَقُولُ هَذَا الْخُطَّافُ؟ قَالَ: ومَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: ورَبِّ السَّمَاءِ ورَبِّ الْأَرْضِ مَا عِلْمُكُمَا فِي عِلْمِ رَبِّكُمَا إِلَّا مِثْلَ مَا أَخَذْتُ بِمِنْقَارِي مِنْ هَذَا الْبَحْرِ قَالَ: فَقَالَ أَبُوجَعْفَرٍ عليه السلام: أَمَا لَوكُنْتُ عِنْدَهُمَا لَسَأَلْتُهُمَا عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمَا فِيهَا عِلْمٌ»(2).
ص: 73
وورد أنه: أقبل طائر «روي» انّه الجندب وأنّه أصغر من العصفور وأنّه الخطاف، حتى وقع بالبحر فأخذ بمنقاره من ماء البحر فقال العالم لموسى (عليه السلام): هل رأيت الطائر وما صنع؟
قال: نعم.
قال له: ما علمي وعلمك في علم محمّد وآل محمّد (عليهم السلام) إلّا بمقدار ما أخذه هذا الطائر بمنقاره من البحر فهل تراه نقص من ماء البحر بما أخذهبمنقاره (1).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (صلوات الله عليه) قَالَ: لَمَّا لَقِيَ مُوسَى الْعَالِمَ (عليه السلام) وكَلَّمَهُ وسَأَلَهُ نَظَرَ إلى خُطَّافٍ يَصْفِرُ ويَرْتَفِعُ فِي الْمَاءِ ويَسْفُلُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ هَذِهِ الْخُطَّافَةُ؟ قَالَ: ومَا تَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولُ: ورَبَّ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ورَبَّ الْبَحْرِ مَا عِلْمُكُمَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا قَدْرُ مَا أَخَذْتُ بِمِنْقَارِي مِنْ هَذَا الْبَحْرِ وأَكْثَرُ، ولَمَّا فَارَقَهُ مُوسَى قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي، فَقَالَ الْخَضِرُ: الْزَمْ مَا لا يَضُرُّكَ مَعَهُ شَيْ ءٌ كَمَا لا يَنْفَعُكَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْ ءٌ وإِيَّاكَ واللَّجَاجَةَ والْمَشْيَ إلى غَيْرِ حَاجَةٍ والضَّحِكَ فِي غَيْرِ تَعَجُّبٍ يَا ابْنَ عِمْرَانَ لا تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِخَطِيئَةٍ وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك»(2).
ثم إننا لا نعرف أيضاً قدر علمهم (عليهم السلام) وخصوصياته، إنما الموجود لدينا هو إشارات إلى سعة علمهم، وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمِمَّا كَانَ وَمَا هُوَ
ص: 74
كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلُّ بَابٍ مِنْهَا يَفْتَحُ أَلْفَ أَلْفِ بَابٍ حَتَّى عَلِمْتُ عِلْمَالْمَنَايَا وَالْبَلَايَا وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(1)، كما في حديث رواه المجلسي (رضوان الله عليه)، يعني: ألف مليون باب من العلم، ومن المعلوم أن الباب معناه ما يشمل جزئيات كثيرة، وربما يكون المراد به علماً معيناً، كعلم الطب وعلم الفلك وعلم الهندسة، فإن كلها أبواب من العلم.
مسألة: ينبغي حل المشاجرات والنزاعات بمختلف أنواعها وفي مختلف العوالم، ولذا نلاخظ أن الصديقة الزهراء (عليها السلام) تصرّح بأن الملائكة طلبت حَكَماً، فإن تشاجُر الملائكة أيضاً يحتاج إلى حل.
لأن الحق لا يعدو إما هذا الجانب أو ذلك الجانب، فيما إذا كان هناك تضايف أو تضاد أو تناقض أو عدم وملكة أو ما أشبه ذلك، من غير فرق بين أن يكن التشاجر على أصل من الأصول أو فرع من الفروع أو بعض شؤون الأصول أو بعض شؤون الفروع أو ما أشبه.
مسألة: ينبغي الرجوع لأهل الخبرة والكفاءة فيما يحتاج إلى خبرة وكفاءة، بل ينبغي تخيّر الأفضل والأكفأ كما صنعت الملائكة.
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي كِتَابِهِ إِلَى مَالِكٍ الْأَشْتَرِ: «اخْتَرْ لِلْحُكْمِ
ص: 75
بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ» إلى أن قال: «أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْم»(1).
وربما يستفاد من هذا الحديث أيضاً، أو مع ضميمة غيره إليه أمور منها(2):
- معرفة الملائكة أن التشاجر بينها يحتاج إلى حَكَمٍ وحلّ وفصل وبتّ.
- متعلق التشاجر له عرض عريض، بلقد يُفرض مختلف الأشياء مما يتعلق بالعقل النظري أو العقل العملي.
- الملائكة أيضاً قد لا يقتنع بعضها بحُجج البعض الآخر، وذلك لاختلاف القابليات وتفاوت المستويات وغير ذلك.
- يحق للملائكة أن تختار حَكَماً من غير صنفها، كما يحق لنا ذلك لو أمكن، لو تراضى الطرفان بذلك مع سائر الشرائط.
- قد يقف بعض الملائكة عن العمل بسبب التشاجر(3)، فتأمل(4).
ص: 76
- من الممكن أن يكون الحَكَم من الملائكة كإمكان أن يكون منّا.
- الملائكة تفهم لغة الإنسان وتدرك حكمه في الجملة.
- نفوذ حكم الإنسان في الملائكة إذا رضيت به حَكَماً أو مطلقاً إذا كان الحَكَم مثل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
- الملائكة أيضاً قد ينكشف لأنفسها خطأها إذا أمكن الخطأ في حقهم على ما تقدم.
- ينبغي للمرء أن يعيد النظر فيمعلوماته وقناعاته بين فترى وأخرى، لو لم يزاحم بالأهم في المهم منها على الأقل، إذ قد ينكشف بطلان مجموعة منها.
- يندم بعض الملائكة على ما قاله أو فعله عندما يتبين له خطؤه، وهذا الندم مما يحبّذ إليه فإنه نوع عقوبة كما أنه يحفز على التكامل.
- تستغفر الملائكة أيضاً، ولاستغفارها وتوبتها درجات.
- قد تفرح الملائكة فيما إذا حكم لها.
- قد تعظم الملائكة المحكوم عليها، الملائكة المحكوم لها، فيما بعد.
- بعض الملائكة قد يطَّلع إلى الأرض، فيعرف الأعلم الأعدل.
- الفحص عن الأعلم الأعدل راجح وقد يكون واجب.
- الملائكة لها إرادة، وحرية، واختيار(1)، وليست كالجمادات أو كالآلة كما قد يتصور البعض.
- قد تستحي الملائكة من بعض أفعالها، كالتشاجر مثلاً، أو من بعض
ص: 77
أقوالها كقولها: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُنُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ»(1).
- يوجد في الملائكة من هو أقل حلماً ومن هو أكثر حلماً.
- بعض الملائكة أعقل من بعض.
- بعض الملائكة أعلم من بعض.
- بعض الملائكة أقوى حجة من بعض، وكل ذلك ونظائره من جمال الخليقة، فإن الجمال في التنوع، ولاقتضاء الماهيات بلسان حالها خلقها.
- للملائكة أيضاً طلب ورجاء، وإلا لما طلبوا من علي (عليه السلام) ليحكم بينهم فيفصل النزاع، وقد يجاب طلبهم كما ذكرته الصديقة (عليها السلام) في الرواية، وقد لا يجاب، وقد تتأخر الإجابة كما في قضية فطرس.
- حوار الملائكة وتشاجر الملائكة قد يطول وقد يقصر.
- قد تعلم الملائكة أن تشاجرها سينتهي بالآخرة بواسطة الحكم أو غيره، وهي راغبة في ذلك طالبة له.
- الملائكة تفكر أيضاً ولو في الجملة.
- الملائكة متعاونة ومرتبطة بعضها مع بعض إجمالاً.- قد تتردد الملائكة في شيء أو أشياء، نظراً لعدم وضوح الرؤية لديهم، كما في قضية النبي آدم (عليه السلام) وكما في هذه القضية في هذه الرواية.
ص: 78
- ربما يكون للملائكة شك وظن ووهم أيضاً، ويكون لهذين(1) فيها مراتب.
- لعل العلم في الملائكة أيضاً ينقسم إلى ضروري ونظري.
- يمكن أن يتنازل بعض الملائكة عن مطلبه قبل التحاكم.
- قد لا يفهم بعض الملائكة كلام أو برهان بعضها الآخر.
- قد لا يتقن بعض الملائكة إقامة حجته أمام البعض الآخر.
- الملائكة لها قدرة التميز بين الخير والشر، وبين الحسن والقبيح، وبين الحسن والأحسن، والكامل والأكمل، وبين القبيح والأقبح.
- الملائكة قد تُعلِّم بعضها بعضاً، فترة طويلة أو في قضية منفردة.
- الملائكة قد تخبر بعضها بعضاً بأمر أو أمور عن عوالمهم أو عن العوالم الأخرى.
- الملائكة قد يكتم بعضها عن بعضما تعلمه لحكمةٍ ما، أو لكونها مأمورة بالكتمان.
- الملائكة قد تغضب بعضها على بعض، فتأمل.
- قد يكون بين الملائكة حوار أحياناً، بل ويحتمل كون ذلك حالة عامة، في بعضهم على الأقل وقد وصلت إلينا نُتف فقط.
- بعض الملائكة قد يستشكل على بعض، والحق قد يكون مع المستشكِل، وقد يكون مع المستشكل عليه.
ص: 79
- قد تسأل الملائكة بعضها من بعض.
- قد يساعد بعض الملائكة بعضاً على بعض آخر، حسب اختلاف قناعاتهم، لكن الظاهر أن ذلك وما أشبهه مما سبق وسيأتي كله في درجة أعلى وأسمى من منازعات البشر(1).
- قد يكون في الملائكة من يراعي ما ينبغي، أكثر من مراعاة الآخر.
- قد تتفاوت درجات إخلاص الملائكة.
- قد تطلع الملائكة الأخرى على وجود تحاور بين بعضها والبعض الآخر، وقد لا تطّلع كلاً أو بعضاً.
- قد تستحي بعض الملائكة من وقوعتشاجر بين فريق آخر من الملائكة.
- قد يكون التحاور بين أعداد كبيرة من الملائكة.
- الملائكة تطلب الحق وتكره الباطل.
- قد يتوسط بعض الملائكة في سبيل حل التشاجر.
- قد يستمع بعض الملائكة إلى ما يدور بين المتحاورين منها.
- تختلف الملائكة من حيث كثرة الحوار أو التشاجر وقلته أو عدمه ومن حيث قسوته وخفته.
- يمكن أن تسبّح الملائكة في حين التشاجر.
- قد يكون التشاجر سبباً لتنمية الملائكة، وقد يكون تنقيصاً لها، أو بالاختلاف.
وكل ذلك وما سبقه إذا كان بإذن الله تعالى، كما أن بعض ما سبق إنما هو
ص: 80
على سبيل الاحتمال، وقد يتأمل في بعضها، فتأمل جيداً.
كما أن هناك أدلة أخر تؤيد بعض هذه الأمور، مثل سؤال الملائكة عن الله في قصة آدم (عليه السلام):
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَناإِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَليمُ الحَكيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(1).
وقوله سبحانه: «إِذْ يَخْتَصِمُونَ»(2).
وآيات أخر مربوطة بالملائكة، وقصة ليلة المبيت حيث اختار كلا الملكين العمر الأطول لنفسه، وقصة فطرس، وقصة دردائيل، إلى غيرها مما يرتبط بالملائكة.
وقد جمع السبزواري في (ملائكته) جملة من الأمور، كما كتب بعض العلماء كتباً حول الملائكة، وذكروا فيها ما يستفاد من الآيات والروايات حولها(3).
ص: 81
وقد أشرنا إلى أنه ربما كان التشاجر بين الملائكة صورياً لأجل بيان فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) للبشر ولسكان تلك العوالم، حيث كان التشاجر مقدمة لطلبهم الحَكَم من الله تعالى ثم إعطاء الله تعالى لهم صلاحية الانتخاب ثم انتخابهم علياً (عليه سلام الله).
مسألة: ينبغي انتخاب حَكمٍ عالمٍ عادل، كما اختارت الملائكة علياً (عليه السلام).
ثم إنه كلما كانت درجة العدالة والعلم أعلى كان الملاك أقوى، وكان طلبه أفضل.
مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين (عليه السلام) معروف بعدله في القضاء حتى بين الملائكة وغيرهم.
ثم إنه ينبغي أن لا يستحيي الإنسان من قول الحق، ومن ذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وإن أثار استغراب بعض الناس.
مسألة: يستحب قبول الحكومة بين المتشاجرين إذا طلبا من الإنسان أن يحكم بينهما، كما تقبَّل ذلك عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام).
ص: 82
هذا إذا وجد الشخص من نفسه الكفاءة لذلك، والقدرة على الحكم بالحق، وفقاً للشروط الشرعية المقررة في باب القضاء، أو الحكم بالإصلاحكذلك.
ومن الواجب الكفائي أن يُعدّ جمع أنفسهم لحل مثل هذه الشجارات والنزاعات.
مسألة: يستحب تخيير المتشاجرين في تعيين الحَكَم كما خير الله الملائكة.
والمستفاد منه ومن غيره حق الإنسان في الرجوع إلى أي قاض شرعي في منازعاته، فإن ذلك أقرب إلى الكرامة الإنسانية، حيث إن إعطاء الاختيار بيد الشخص تكريم له، وكذلك الحال في مثل صلاة الجماعة ومرجع التقليد وما أشبه ذلك، بعد فرض كون أولئك كلهم متساوين في أصل الحجية وجواز الرجوع إليهم.
هذا فيما لو اتفق المدعي والمدعى عليه على القاضي، وأما لو اختلفا بأن أراد المدعي الرجوع إلى قاض، وأراد المدعى عليه الرجوع إلى آخر، فتفصيله في باب القضاء.
مسألة: يستحب اختيار الأفضل في كل شيء من المتزاحمات المعنوية وشبهها، وخاصة بالنسبة للحَكَم في الخصومةوالتشاجر.
ص: 83
وفي القرآن الحكيم ورد مكرراً مثل قوله تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها»(1).
وقال سبحانه: «الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ»(2).
وقال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(3).
وقال سبحانه: «وَ هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(4).
وقال تعالى: «ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ المَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(5).
وقال سبحانه: «وَ قُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(6).
وقال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
ص: 84
عَمَلاً»(1).وقال سبحانه: «ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ»(2).
وقال تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(3).
وقال سبحانه: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(4).
وقال تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(5).
وقال سبحانه: «الَّذي خَلَقَ المَوْتَ وَ الحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزيزُ الْغَفُورُ»(6).
أما المتزاحمات المادية ففيها تفصيل مذكور في محله.
مسألة: يستحب طلب الحَكَم عند التشاجر لإنهاء النزاع، كما سألت الملائكة ذلك من الله تعالى.
فإن في استمرار النزاع أضراراً كثيرة دنيوية، وعواقب وخيمة أخروية، وفي كثير من الأحيان يفتح باب الغيبة والتهمة والتدابر وغيرها من المعاصيوالمساوئ.
ص: 85
ولا فرق في ذلك بين أنواع المتشاجرين، فكما يستحب للشخصين المتنازعين طلب الحَكَم، كذلك يستحب للجهتين المتنازعتين، كشركتين أو هيئتين أو حزبين أو دولتين أو غيرها.
ولو لم يكن التشاجر على شيء ماديّ، بل كان معنوياً لا يمكن تقسيمه بينهما، كالمرأة المتشاجر فيها لا يمكن أن تكون لزوجين، فلا مجال ههنا لقاعدة العدل والإنصاف، بل لابد من الحكم والفصل والبت في الأمر.
مسألة: التحاور لمعرفة الحق أو لإظهاره مرغوب إليه ومطلوب، أما التنازع والتشاجر فمرغوب عنه ومبغوض.
وكل منهما(1) ينقسم إلى الأحكام الخمسة(2)، ويختلف باختلاف المناشئ(3).
مسألة: ليس التشاجر الصوري لإظهار حقأو تبليغ دعوة، من الخدعة والتدليس، فالظاهر أنه خارج خروجاً موضوعياً عنهما، وعلى فرض الدخول فلا ريب أنه مستثنى من حكمهما.
ص: 86
عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أما ترضين أن زوّجتك خير أمتي، أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً».
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأن علياً (عليه السلام) خير الأُمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويستحب وقد يجب بيان ذلك للناس.
لا يقال: الاعتقاد ليس باختياري.
لأنه يقال: بل هو اختياري باختيارية مقدماته.
روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار عن سلمان الفارسي أنه قال:
«لَمَّا أَنْ مَرِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الْمَرْضَةَ الَّتِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهَا دَخَلْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام) فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِهِ خَنَقَتْهَا الْعَبْرَةُ حَتَّى فَاضَتْ دُمُوعُهَا عَلَى خَدَّيْهَا.
فَلَمَّا أَنْ رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّةُ؟
قَالَتْ: وَكَيْفَ لا أَبْكِي وَأَنَا أَرَى مَا بِكَمِنَ الضَّعْفِ فَمَنْ لَنَا بَعْدَكَ يَا
ص: 87
رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ لَهَا: لَكُمُ اللَّهُ فَتَوَكَّلِي عَلَيْهِ وَاصْبِرِي كَمَا صَبَرَ آبَاؤُكِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَّهَاتُكِ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، يَا فَاطِمَةُ أَوَ مَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ أَبَاكِ فَجَعَلَهُ نَبِيّاً وَبَعَثَهُ رَسُولًا، ثُمَّ عَلِيّاً فَزَوَّجْتُكِ إِيَّاهُ وَجَعَلَهُ وَصِيّاً، فَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَبِيكِ، وَأَقْدَمُهُمْ سِلْماً، وَأَعَزُّهُمْ خَطَراً، وَأَجْمَلُهُمْ خُلُقاً، وَأَشَدُّهُمْ فِي اللَّهِ وَفِيَّ غَضَباً، وَأَشْجَعُهُمْ قَلْباً، وَأَثْبَتُهُمْ وَأَرْبَطُهُمْ جَأْشاً، وَأَسْخَاهُمْ كَفّا،.
فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام) فَرَحاً شَدِيداً.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): هَلْ سُرِرْتِ يَا بُنَيَّةُ؟
قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَرَرْتَنِي وَأَحْزَنْتَنِي.
قَالَ: كَذَلِكِ أُمُورُ الدُّنْيَا يَشُوبُ سُرُورُهَا بِحُزْنِهَا.
قَالَ: أَفَلا أَزِيدُكِ فِي زَوْجِكِ مِنْ مَزِيدِ الْخَيْرِ كُلِّهِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ وَأَخُ الرَّسُولِ وَوَصِيُّ رَسُولِ اللَّهِ وَزَوْجُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَابْنَاهُ سِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ، وَعَمُّهُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَخُوهُ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَالْمَهْدِيُّ الَّذِي يُصَلِّي عِيسَى خَلْفَهُمِنْكِ وَمِنْهُ، فَهَذِهِ يَا بُنَيَّةُ خِصَالٌ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ، يَا بِنْتِي هَلْ سَرَرْتُكِ؟
قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: أَوَ لا أَزِيدُكِ مَزِيدَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؟
قَالَتْ: بَلَى.
ص: 88
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَجَعَلَنِي وَزَوْجَكِ فِي أَخْيَرِهِما قِسْماً، وَذَلِكِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ «فَأَصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ المَيْمَنَةِ»(1)، ثُمَّ جَعَلَ الِاثْنَيْنِ ثَلَاثاً، فَجَعَلَنِي وَزَوْجَكِ فِي أَخْيَرِهَا ثُلُثاً، وَذَلِكِ قَوْلُهُ: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(2)»(3).
مسألة: ما يوجب التفاضل عند الله عزوجل: الأقدمية سلماً، والأكثرية علماً، والأعظمية حلماً، كما أنه يوجب التفاضل في إمام الجماعة ومرجع التقليد والحاكم في الجملة، بعد فرض جامعية الأطراف للشرائط.
والظاهر أن هذه الثلاثة من باب المثال لا الحصر، ولعل الوجه فيانتخاب هذه الثلاثة هو أن الحلم مرتبط بالنفس، والعلم بالعقل، والإسلام بالروح والجسد، وإن كان كل يرتبط بوجه ما بكلها.
مسألة: يستحب للأب اختيار الزوج الأفضل لابنته، كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فإنه عقلي قبل أن يكون شرعياً، وقد قال سبحانه وتعالى: «يَأْخُذُوا
ص: 89
بِأَحْسَنِهَا»(1)، فإن العاقل هو الذي يرجّح الفاضل على المفضول في كل شؤونه، لا في شأن الزوج والزوجة فقط، بل حتى في الشؤون الصغيرة.
نعم ينبغي أن لا يكون ذلك ذريعةً إلى (عضل) البنات(2).
قال الله تعالى: «فلا تَعْضُلوهُنَّ أَن يَنْكِحْنأَزواجهن»(3).
لا يقال: ينافي ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(4).
لأنه يقال: لا تنافي، إذ يمكن أن يفرض انتخاب الأفضل من بين مجموعة طلبوا يد الفتاة، هذا بالإضافة إلى أن إمكان كون الاستحباب في المبادرة للبحث عن الأفضل، أما الحديث فهو فيما لو جاء من يُرتضى دينه وخلقه.
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن علياً (عليه السلام) هو الأعلم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) على الإطلاق، ويستحب وقد يجب بيان ذلك للناس.
فهو (عليه السلام) أعلم المسلمين إلى يوم القيامة، لصدق الأمة على جميعهم
ص: 90
من المعاصرين له (عليه السلام) ومن يأتي بعده إلى يوم يبعثون، بل هو (عليه السلام) بل أعلم الناس.
فلا يقال بانصراف هذا الحديث إلى المعاصرين في زمانه (عليه
الصلاة والسلام)،وذلك للإطلاقات والعمومات، مضافاً إلى الأدلة المتواترة الدالة على كونه (عليه السلام) أعلم وأفضل من جميع الأمة إلى يوم القيامة من غير إشكال.
كما أن الظاهر أن المراد من (الأعلم) الأعلم في كل شيء، لا في علوم الحديث والتفسير والكلام والفقه وشبهها، بل الأعلم أيضاً في الطب والفلك والكيمياء والسياسية والاقتصاد وغيرها. ولا مجال لتوهم الانصراف بعد الأدلة الكثيرة الدالة على الأعلمية في كل شيء.
عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ عِلْمِ الْإِمَامِ بِمَا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَ هُوَ فِي بَيْتِهِ مُرْخًى عَلَيْهِ سِتْرُهُ، فَقَالَ: يَا مُفَضَّلُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ، رُوحَ الْحَيَاةِ فَبِهِ دَبَّ وَ دَرَجَ، وَ رُوحَ الْقُوَّةِ فَبِهِ نَهَضَ وَ جَاهَدَ، وَ رُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِهِ أَكَلَ وَ شَرِبَ وَ أَتَى النِّسَاءَ مِنَ الْحَلَالِ، وَ رُوحَ الْإِيمَانِ فَبِهِ آمَنَ وَ عَدَلَ، وَرُوحَ الْقُدُسِ فَبِهِ حَمَلَ النُّبُوَّةَ، فَإِذَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) انْتَقَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَصَارَ إِلَى الْإِمَامِ»(1).وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إِنَّ لِلَّهِ لَعِلْماً لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَعِلْماً يَعْلَمُهُ مَلَائِكَتُهُ الْمُقَرَّبُونَ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْمُرْسَلُونَ وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ»(2).
ص: 91
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَسُئِلَ عَنِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَعْلَمُ أَمِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، فَقَالَ: مَا كَانَ عِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ عِنْدَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تَأْخُذُ الْبَعُوضَةُ بِجَنَاحِهَا مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه): أَلَا إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هَبَطَ بِهِ آدَمُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَ جَمِيعَ مَا فُضِّلَتْ بِهِ النَّبِيُّونَ إِلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي عِتْرَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلوات الله عليهم »(1).
وورد في تفسير قوله تعالى: «وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء» أي علم الإمام (عليه السلام) وسع كل شيء(2).
مسألة: يستحب التعلّم مطلقاً، فإن العلم فضيلة، وكلما نال الإنسان منه كان أفضل، قال سبحانه وتعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله): «وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً»(3).
نعم يستثنى من التعلم ما كان حراماً كالسحر في الجملة، وما كان مرجوحاً كعلم الأنساب فيما لا نفع فيه.
ثم إن هذا الاستحباب طريقي وليس نفسياً، فتأمل.
ص: 92
ويستفاد استحباب التعلم من اعتباره (صلى الله عليه وآله) خير أمته الأعلم، مما يدل عرفاً على أن مقدمته أو مقدمة أية درجة من درجاته مطلوبة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَلا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ، إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ وَضَمِنَهُ، وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال:«عَالِمٌ يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِدٍ»(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَلَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ»(3).
وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ، فَقَالَ: وَمَا الْعَلَّامَةُ، فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالأشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): ذَاكَ عِلْمٌ لا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَلا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلاثَةٌ، آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ»(4).
ص: 93
مسألة: يستحب الحلم والتحلم مطلقاً، وذلك يظهر من قوله (صلى الله عليه وآله) «خير أمتي» مطلوبية الحلم لذاته، أما القول بغيرية التحلم فللقرينة الخارجية، فلا يصار في الحلم إلى الغيرية بعد فقدها فيه فتأمل، نعم ذلك لا يدل إلا على الاستحباب.
ويأتي في التحلم ما ذكرناه في البند السابق، فكلما استوعب الإنسان أكثر منه كان أفضل.
عن عنوان البصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْحِلْمِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ، فَاحْفَظْهَا وَإِيَّاكَ وَالتَّهَاوُنَ بِهَا، قَالَ عُنْوَانُ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ، إلى أن قال: قال (عليه
السلام): «وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْحِلْمِ فَمَنْ قَالَ لَكَ إِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ لَهُ إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً، وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَمَنْوَعَدَكَ بِالْخَنَا فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالرِّعَاءِ» الخبر(1).
وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) فِي أَسْئِلَةِ الشَّيْخِ الشَّامِيِّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قال: فَأَيُّ الْخَلْقِ أَقْوَى، قَالَ: الْحَلِيمُ»(2).
ص: 94
وعن الغلابي، قال: سَأَلْتُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) عَنِ الْحِلْمِ، فَقَالَ: هُوَ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَكَ وَتَكْظِمَ غَيْظَكَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ»(1).
وعن جابر، قال: سَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلًا يَشْتِمُ قَنْبَراً، وَقَدْ رَامَ قَنْبَرُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَنَادَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَهْلًا يَا قَنْبَرُ دَعْ شَاتِمَكَ مُهَاناً تُرْضِ الرَّحْمَنَ وَتُسْخِطُ الشَّيْطَانَ وَتُعَاقِبْ عَدُوَّكَ، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَرْضَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ بِمِثْلِ الْحِلْمِ، وَلَا أَسْخَطَ الشَّيْطَانَ بِمِثْلِ الصَّمْتِ، وَلَا عُوقِبَ الْأَحْمَقُ بِمِثْلِ السُّكُوتِ عَنْهُ»(2).وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «احْتَمِلْ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ، وَمِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْكَ، وَمِمَّنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمِمَّنْ هُوَ شَرٌّ منك، وَمِمَّنْ هُوَ فَوْقَكَ، وَمِمَّنْ هُوَ دُونَكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَذَلِكَ بَاهَى اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ»(3).
مسألة: يستحب للأب أن يزوّج ابنته خير الناس الممكن، كما يستحب أن يختار لأبنائه خير الزوجات.
فإن الممكن إذا كان بين فاضل وأفضل، فالأفضل في الاختيار أفضل عقلاً وشرعاً، قال سبحانه: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(4).
ص: 95
ولا يتوهم من ذلك بقاء غير الأفضل من الشباب والفتيات دون زوج أو زوجة، وذلك لوضوح تعدد المطلوب في المستحبات، مضافاً إلى أن الأكثر لا يأخذ بالأفضل، إضافة إلى الاختلاف في تعيين الأفضل ومصداقه، فكل يراه شخصاً، ثم المتفقون ليس كلهم قادراً على الأخذ بما رآه الأفضل، ثم بعد ذلك كله الفعلية بيد الطرف الآخر أيضاً.عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فِي وَصِيَّتِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: «اضْمُمْ آرَاءَ الرِّجَالِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ اخْتَرْ أَقْرَبَهَا مِنَ الصَّوَابِ وَأَبْعَدَهَا مِنَ الِارْتِيَابِ»(1).
مسألة: يستحب للزوجة بيان فضائل زوجها، ومدحه، وخاصة فيما إذا كان في ذلك فائدة للآخرين، وذلك سواء في داخل الأسرة أم خارجها، فإن في ذلك ترويجاً لمكارم الأخلاق وتشجيعاً عليها، كما أنه يوجب تماسك الأسرة أكثر فأكثر.
وأما بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فإنه يوجب التفات الناس حوله أكثر فأكثر فيوصلهم إلى الدرجات الرفيعة والسعادة الدنيوية والأخروية.
ص: 96
مسألة: يستحب وربما وجب بيان فضائل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مطلقاً، أي من كل أحد ولكل أحد، وشتى الفضائل، فإنه من أفضل العبادات كما ورد في الحديث الشريف.
قال أَبُوجَعْفَرٍ (عليه السلام): «وإِنَّ الرَّوْحَ والرَّاحَةَ والْفَلْجَ والْعَوْنَ والنَّجَاحَ والْبَرَكَةَ والْكَرَامَةَ والْمَغْفِرَةَ والْمُعَافَاةَ والْيُسْرَ والْبُشْرَى والرِّضْوَانَ والْقُرْبَ والنَّصْرَ والتَّمَكُّنَ والرَّجَاءَ والْمَحَبَّةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لِمَنْ تَوَلَّى عَلِيّاً وائْتَمَّ بِهِ وبَرِئَ مِنْ عَدُوِّهِ وسَلَّمَ لِفَضْلِهِ ولِلْأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، حَقّاً عَلَيَّ أَنْ أُدْخِلَهُمْ فِي شَفَاعَتِي وحَقٌّ عَلَى رَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالَى أَنْ يَسْتَجِيبَ لِي فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ أَتْبَاعِي ومَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي»(1).
ولا يخفى أن بيان الفضائل في حد ذاته نوع تلقين للنفس يوجب أقربية تحليها بها.
مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) أعظم الناس حلماً، مما يدل على أنه (عليه السلام) أكمل الناس أخلاقاً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وذكر فضائله (عليه الصلاة والسلام) بالإضافة إلى المثوبة له، يوجب حيث
ص: 97
الإقتداء به، ترفيعاً للإنسان في دنياه وآخرته، وحلاً لمشاكله.
ومن الواضح أن (الأعظم حلماً) أولى بالاقتداء من غيره، إما أولوية وجوبية، أو أولوية استحبابية ، ثم إن الأولوية التعليمية أيضا على درجات.
مسألة: يستحب للفتاة الرضا بما اختاره الأب لها من الأزواج إذا كان كفواً، فإن المماطلة وإعمال بعض الآراء الشخصية والأذواق والسلائق الخاصة، يوجب تأخير سن الزواج، وقد يسبب العنوسة الدائمة كما هو المشاهد كثيراً.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا تُنْكَحُ ذَوَاتُ الآبَاءِ مِنَ الْأَبْكَارِ إِلاّ بِإِذْنِ آبَائِهِنَّ»(1).
ص: 98
في الحديث المروي عن الصديقة فاطمة (عليها السلام):
... قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة إن الله تبارك وتعالى اطّلع اطلاعة فاختار منها رجلين: أحدهما أبوك، والآخر زوجك»(1).
-------------------------------------------
مسألة: يستحب اختيار الأفضل، لتحمّل عبء الرسالات المهمة.
فإن انتخاب الله سبحانه أفضل الناس للنبوة وكذلك أفضلهم للإمامة ببرهان الحكمة وغيره يدل على استحباب اختيار الإنسان الأفضل والأكفأ في كل المسؤوليات، وخاصة الدينية منها.
قال عزوجل: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها»(2).
وقال تعالى: «الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْباب»(3).
ص: 99
مسألة: يستحب اختيار الزوج الفاضل.
فإنه إذا ثبت استحباب اختيار الأفضل على الفاضل، فإذا كان الأمر دائراً بين الفاضل والمفضول فلا شك في استحباب اختيار الفاضل حينئذ، بدليل العقل والنقل، نعم قد يكون اختيار المفضول محرماً إذا كان فيه تضييع حقها(1)، أو إيقاع لها في المحرم، أو موجب لمفسدة أخرى.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من زوج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها»(2).
وقال (عليه السلام): «فإن من زوج ابنته شارب الخمر فكأنما قادها إلى الزنا، ومن زوج ابنته مخالفاً له على دينه فقد قطع رحمها»(3).وقال (عليه السلام): «فَإِنَّ مَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ شَارِبَ خَمْرٍ فَكَأَنَّمَا قَادَهَا إِلَى النَّارِ»(4).
وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ بِفَاسِقٍ نَزَلَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ لَعْنَةٍ وَلا يَصْعَدُ لَهُ عَمَلٌ إِلَى السَّمَاءِ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُ دُعَاؤُهُ
ص: 100
وَلايُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن الله قد اختار من بين الخلق محمداً (صلى الله عليه وآله) وعلياً (عليه السلام)، للأدلة الكثيرة المتواترة ، وهذه الرواية منها، إذ لم تخصص (اطلع اطلاعة) بعلى البشر أو على الأرض، بل هي عامة، فإن حذف المتعلق يفيد العموم.
عَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْتَيَا عَلِيُّ ووُلْدُكَ خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ»(2).
وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَلَايَتُنَا وَلَايَةُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً قَطُّ إِلَّا بِهَا»(3).
وعَنْ كُلَيْبِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الصَّيْدَاوِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِيَّاكُمْ والنَّاسَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً فَتَرَكَهُ وهُوَ يَجُولُ لِذَلِكَ ويَطْلُبُهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّكُمْ إِذَا كَلَّمْتُمُ النَّاسَ قُلْتُمْ ذَهَبْنَا حَيْثُ ذَهَبَ اللَّهُ واخْتَرْنَا مَنِ اخْتَارَ اللَّه،ُ واخْتَارَ اللَّهُ مُحَمَّداً واخْتَرْنَا آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ»(4).
ص: 101
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى عادل وحكيم، يضع الأشياء مواضعها، ومن مصاديق ذلك ما يظهر من هذه الرواية وسائر الأدلة القطعية من أن النبي والوصي (عليهما السلام) كانا في واقع الأمر(1) الأفضل من سائر الخلق، لذا انتخبهما الله واختارهما على من سواهما، لا العكس، ولذا قال المحقق الطوسي في (التجريد):
(وبعض الأفعال مستندة إلينا والمغلوبية غير لازمة والعلم تابع) (2)، بمعنى إصابة موازنه في التطابق، وبذلك تنتفي شبهة الجبر، وشبهة التفضيل عبثاً.
مسألة: الإضافة التشريفية، قد تكون مستحبة وقد تكون واجبة وقد تكون مباحة، ومن ذلك نسبة الشخص إلى عظماءعائلته، ونسبة السادة إلى جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3)، ومنه ما قاله (صلى الله عليه وآله): «أحدهما أبوك والآخر زوجك».
ومن أمثلة الإضافة التشريفية:
* (روح الله) في قوله تعالى: «وَالَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيها مِنْ
ص: 102
رُوحِنا وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمين»(1).
وقوله سبحانه: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيهِ مِنْ رُوحِنا وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وكُتُبِهِ وكانَتْ مِنَ الْقانِتين»(2).
* (أرض الله) في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيراً»(3).
وقوله سبحانه: «قُلْ يا عِبادِ الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذينَ أَحْسَنُوا في هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»(4).
* (ناقة الله) في قوله تعالى: «فَقالَ
لَهُمْرَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللَّهِ وسُقْياها»(5).
وفي قوله سبحانه: «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ اللهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَليمٌ»(6).
ص: 103
وفي قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ اللهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَريبٌ»(1).
و(بيت الله) و(شهر الله) و(كلام الله) و(كتاب الله) و(علي (عليه السلام) ولي الله) و(هُوَ عَيْنُ اللَّهِ النَّاظِرَةُ وأُذُنُهُ السَّامِعَةُ ولِسَانُهُ النَّاطِقُ فِي خَلْقِهِ ويَدُهُ الْمَبْسُوطَةُ عَلَى عِبَادِهِ بِالرَّحْمَةِ ووَجْهُهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وجَنْبُهُ الظَّاهِرُ الْيَمِينُ وحَبْلُهُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ وعُرْوَتُهُ الْوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصامَ لَها وبَابُهُ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ وبَيْتُهُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وعَلَمُهُ عَلَى الصِّرَاطِ فِي بَعْثِهِ مَنْ عَرَفَهُ نَجَا إِلَى الْجَنَّةِ ومَنْ أَنْكَرَهُ هَوَى إِلَى النَّار) (2).
ص: 104
في حديث مروي عن ابن عباس، يرفعه(1) إلى سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال للصديقة فاطمة (عليها السلام): يا فاطمة ألا أزيدك في علي (عليه السلام) رغبة؟
قالت: زدني يا أبتاه.
قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن علياً أكرم على الله من هارون، لأن هارون أغضب موسى، وعلي لم يغضبني قط، والذي بعث أباك بالحق نبياً ما غضبت عليه يوماً قط، وما نظرت في وجه علي إلاّ ذهب الغضب عني، يا فاطمة ألا أزيدك في علي رغبة؟
قالت: زدني يا نبي الله.
قال: هبط عليّ جبرئيل وقال:
يا محمد أقرء علياً من السلام السلام.
فقامت فاطمة (صلى الله عليه وآله) وقالت: «رضيتُ بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً،وبابن عمي بعلاً وولياً»(2).
ص: 105
ص: 106
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله): «لأن هارون أغضب موسى» إشارة إلى ما ورد في القرآن الحكيم(1)، والمراد به الغضب الظاهري لا الواقعي، أي إنه كان
ص: 107
صورة الغضب على هارون، أما الغضب الحقيقي فكان على الذين اتخذوا العجل، فإن موسى (عليه الصلاة والسلام) كان نبياً معصوماً، والغضب في غير موقعه لا ينبغي لمؤمن أو عادل فكيف بمثل موسى (عليه السلام) النبي المعصوم؟
فكان الغضب في الواقع على متخذي العجل لكنه أظهره بهذه الصورة، وكذلكفي إلقائه (عليه السلام) الألواح وفي أخذه برأس أخيه ولحيته، على ما ورد في الذكر الكريم(1).
أما في العلاقة بين الرسول والوصي (عليهما السلام) فلا يوجد حتى أقل من هذا المقدار من الغضب الظاهري، ولعل من حكمته أنه لا يتخذه الأعداء حجة ويتبعهم الجهلاء.
عن عمران بن حصين: إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي»(2).
وعن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي»(3).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «أنت مني وأنا منك»(4).
ص: 108
وعبد اللّه بن بريدة، عن أبيهبريدة، في حديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «يا بريدة، لا تقع في علي، فإنما علي مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي»(1).
وروى المحدثون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما ارتث(2) يوم أُحُد قال الناس: قُتل محمد، رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلى إلا أنه حي فصمدت له، فقال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): اكفني هذه، فحمل عليها وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة أخرى فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي اكفني هذه، فحمل عليها فهزمها وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة ثالثة فكذلك، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك يقول: قال لي جبريل: يا محمد إن هذه للمواساة، فقلت: وما يمنعه وهو مني وأنا منه، فقال جبريل: أنا منكما (3).
وعن سعد بن مالك، قال: بعث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة، ثم أتبعه علياً (عليه السلام)، فأخذها منه. فقال: أبوبكر: يا رسول اللّه، أ أنزل فيّ شي ء. قال: «لا، إلا إنه لايؤدي عني غيري أو رجل مني، فعلي مني وأنا منه»(4).
ص: 109
مسألة: يستحب ذكر فضائل الزوج ومناقبه ومزاياه للزوجة لزيادة رغبتها فيه، فإن من المستحب تقوية دعائم الأسرة وزيادة التآلف بين الزوجين والتوادد بينهما.
والاستحباب لا يختص بذكر فضائل الرجل لامرأته، بل العكس كذلك أيضاً، فيستحب ذكر فضائل ومزايا وامتيازات الزوجة لزوجها.
وكذلك ذكر فضائل كل طرف للآخر في مختلف الأمور الاجتماعية المتقومة بالطرفين أو أكثر، من المعاملات ونحوها، فإن ذلك يوجب تأليف القلوب واقتراب بعضهم من بعض وتيسير الطلبات وقضاء الحاجات، وهو محبوب شرعاً وعقلاً.
مسألة: يحرم إغضاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد عُدّ في هذا الحديث عدم إغضاب عليٍّ (عليه السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله) مزيَّة وفضيلة، وربما يكون تعريضاً بمن أغضب النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة.
لا يقال: إن عدم إغضاب النبي (صلى اللهعليه وآله) هو شأن كل مؤمن صالح، فليس مزية خاصة بعلي (صلوات الله عليه).
لأنه يقال:
أولاً: إن عدم إغضاب البعداء عن بعضهم البعض، أو من يلتقون أحياناً
ص: 110
قد لا يكون صعباً، أما عدم إغضاب من يلتقي به باليوم مراراً عديدة بعضهم للبعض الآخر قد يكون من الصعب، ومن هنا يعلم أهمية عدم الإغضاب بقول مطلق لمن عاشوا طيلة حياتهما منذ الطفولة حتى الممات واشتركا في الحياة الشخصية والعائلية والسياسية والاجتماعية وفي ألف شيء وشي، فإن الظاهر أنه لا يمكن عادة لغير المعصوم (عليه السلام).
والإمام علي (سلام الله عليه) كان منذ فترة رضاعه وطوال طفولته ثم شبابه حتى لحظة شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، في السراء والضراء والشدة والرخاء والجهر والإسرار، وفي الحضر والأسفار، وفي كل حادثة وموقع، ومع ذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : (لم يغضبني قط)، مع لحاظ أن الغضب قد يكون لترك الأولى، لا لفعل الحرام أو فعل المكروه، بل قد يكون حتى للقصور أحياناً وليس للتقصير، وإن كان القاصر معذوراً.ثانياً: إن المقارنة هي بالقياس إلى موسى وهارون (عليهما السلام) في تلك القضية، وهذا يدل على شدة القرب بين النبي والوصي (عليهما السلام).
وثالثاً: إن ذلك تعريض بمن أغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الصحابة، وخاصة البعض المعروفين منهم من أصحاب العقبة وما أشبه.
رابعاً: إن المقام مقام زيادة رغبتها في بعلها، وأنه لم يغضب أباها قط، فلا يغضب زوجته الصديقة قط، ولازم ذلك الرد على من وضعوا حديث إغضابه لها (صلوات الله عليهم أجمعين).
وخامساً: وهذا تعريض و ردّ على ما اختلقه المختلقون من المنافقين من
ص: 111
حصول الغضب أحياناً بين النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وذلك للحط من كرامته، ولتبرير مواقف أعداء أهل البيت (عليهم السلام) في إغضاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ولبيان أنه (عليه السلام) وغيره ممن غصبوا الخلافة حيث غضب النبي (صلى الله عليه وآله) على الغاصبين غير مرة، متساويان.
مسألة: يستحب أن يكون الإنسان متحلياً بمكارم الأخلاق، حسن الخلق، هشّاً بشاًمبتسماً، بحيث إذا رآه غضبان سكن غضبه، أو حزين ذهب حزنه.
فإن هذا الاستحباب يفهم من متواتر الروايات مضافاً إلى هذه الرواية، وقبل ذلك يدل عليه العقل.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ بُشْرَ الْمُؤْمِنِ فِي وَجْهِهِ، وقُوَّتَهُ فِي دِينِهِ، وحُزْنَهُ فِي قَلْبِهِ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفات المؤمن: «مَأْمُولٌ لِكُلِّ شِدَّةٍ هَشَّاشٌ بَشَّاش»(2).
وقال معاوية لقيس بن سعد: (رحم الله أبا حسن فلقد كان هشاً بشاً ذا فكاهة) قال قيس: (نعم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسواٌ في ارتغاء وتعيبه بذلك، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى وليس
ص: 112
كما يهابك طغام أهل الشام»(1).
مسألة: يستحب بيان أن الله تبارك وتعالى قد أبلغ السلام إلى علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإن إبلاغ السلام من الله مرتبة عالية جداً.
ولا يخفى أن السلام الخاص من الله تعالى على قسمين:
1: ما يخص عباده المصطفين، قال سبحانه: «وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذينَ اصْطَفَى»(2)، وهو مرتبة عالية جداً.
2: ما هو أخص منه، بحيث يخص شخصاً معيناً فقط، كما
في سلام الله على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في هذه الرواية، وهو مرتبة أعلى من سابقتها.
ومن أسماء الله (السلام)، وسمي به لأنه يريد السلام لجميع خلقه، وفي الآية الكريمة: «هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ»(3).
وقيل: إن وجه التسمية هو أن الله تعالى سليم من كل نقص وفقر وحاجة، فإن العرب تضع المصادر في بعض استعمالاتهم موقع اسم الفاعل.
وفي ليلة القدر: «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِالْفَجْرِ»(4)، لأن الله عزوجل ينزل السلام لكل الناس حسب قابلياتهم وحسب مقتضى الحكمة، سلامة من
ص: 113
الفقر، وسلامة من المرض، وسلامة من الجهل، وسلامة من الفوضى، وسلامة من المحاربة، وغير ذلك من أنواع السلام، وإنما الناس بسوء أفعالهم يميلون إلى ما يضاد السلام، كما ذكرنا ذلك في تفسير هذه الآية في بعض كتبنا.
قال تعالى: «مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(1).
وقد ذكر بعض أهل الذكر أن كثرة تكرار اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى يوجب إفاضة معنى ذلك الاسم على ذلك الشخص الذي يكرره، مثلاً: إذا أكثر فقير من كلمة: (يا غني)، أو أكثر ضعيف من كلمة: (يا قوي) سبب ذلك غنى الأول وقوة الثاني، وهذا أمر مجرب ولا بُعد فيه، وقد جربناه نحن في الجملة.
فإذا كان الإنسان مبتلى بمشكلة أفقدته السلام والسلامة، فكرر اسم الله سبحانه وتعالى الذي هو (السلام)، أضفى الله سبحانه عليه السلامة فيما أراده، سلامة من فقر أو مرض أو جهل أو عدو أوخوف أو ما أشبه، فإن السلامة بالمعنى الأعم تشمل كل ذلك.
ولعل من أسباب ذكر السلام في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته كذكر (الرحمن) و(الرحيم): أن اليهود كانوا يعتقدون أن الله إله غضب وإله انتقام وإله حرق وقتل وما أشبه ذلك، كما لا يخفى على من راجع كتب اليهود.
ومن جهة أخرى نجد أن بعض الأديان تزعم أن الله حيادي بالنسبة إلى السلام وما يقابله.
ص: 114
أما الإسلام فقد أكد على (الرحمن) و(الرحيم) و(السلام) و(الرؤوف) وما أشبه ذلك.
وهذا لا ينافي كونه تعالى عزيزاً لا يعجزه الانتقام، وكونه قاصم الجبارين، لأن ذلك استثناء وخاص بمورده، وإنما الأصل السلم والرأفة والرحمة.
وقد ورد حديث عن الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام): الإكثار من قول «يا رؤوف يا رحيم» لكشف الهموم وقضاء الحوائج.
عَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: خَرَجَ بِجَارِيَةٍ لَنَا خَنَازِيرُ فِي عُنُقِهَا(1) فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُلْ لَهَا فَلْتَقُلْ: يَا رَءُوفُ يَا رَحِيمُ يَا رَبِّ يَا سَيِّدِي، تُكَرِّرُهُ،قَالَ: فَقَالَتْهُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهَا، قَالَ وَ قَالَ هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَا بِهِ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ»(2).
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: شَكَوْتُ إِلَيْهِ عِلَّةَ أُمِّ وَلَدٍ لِي أَخَذْتُهَا، فَقَالَ: قُلْ لَهَا تَقُولُ فِي السُّجُودِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: يَا رَبِّي يَا سَيِّدِي صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَافِنِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَبِهَا نَجَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَعَرَضْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: أَعْرِفُ فِيهِ يَا رَؤوفُ يَا رَحِيمُ يَا رَبِّي يَا سَيِّدِي افْعَلْ بِي كَذَا وَ كَذَا»(3).
ولعل ما روته الصديقة الزهراء (عليها السلام) من قول الله عزوجل: «يا محمد
ص: 115
اقرأ علياً من السلام السلام» يفيد معنى أوسع من إبلاغ السلام اللفظي، إذ يحتمل أنه يدل على إيصال أنواع من السلامة والسلام من الله العلي القدير إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) أكرم على الله من هارون النبي (عليه السلام).
فإذا كان هارون (عليه السلام) واجب الإتباع يكون علي (عليه الصلاة والسلام) أوجب بالاتباع منه، فإن قوله (عليه الصلاة والسلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» يراد به أصل المنزلة والخلافة ولزوم الاتباع، وإلا فعلي (عليه السلام) أفضل من موسى وهارون (عليهما السلام)، كما دل على ذلك متواتر الأدلة.
وهكذا الأئمة المعصومون (عليهم السلام) هم أفضل من جميع الأنبياء باستثناء النبي محمد (صلى الله عليه وآله).
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وفَضَّلَهُمْ بِالْعِلْمِ وأَوْرَثَنَا عِلْمَهُمْ وفَضَّلَنَا عَلَيْهِمْ فِي عِلْمِهِمْ، وعَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَا لَمْ يَعْلَمُوا وعَلَّمَنَا عِلْمَ الرَّسُولِ وعِلْمَهُمْ»(1).
وعَنْ سَدِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَعْيَنَ يَسْأَلُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِتَبَارَكَ وتَعَالَى: «بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ»(2)، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه
ص: 116
السلام): إِنَّ اللَّهَ ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ وابْتَدَعَ السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ ولَمْ يَكُنْ قَبْلَهُنَّ سَمَاوَاتٌ ولَا أَرَضُونَ، أَمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ»(1) فَقَالَ لَهُ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً»(2)، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) : «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً»(3)، وكَانَ واللَّهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) مِمَّنِ ارْتَضَاهُ وأَمَّا قَوْلُهُ: «عَالِمُ الْغَيْبِ»(4) فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَالِمٌ بِمَا غَابَ عَنْ خَلْقِهِ بِمَا يُقَدِّرُ مِنْ شَيْ ءٍ ويَقْضِيهِ فِي عِلْمِهِ، فَذَلِكَ يَا حُمْرَانُ عِلْمٌ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ إِلَيْهِ فِيهِ الْمَشِيَّةُ فَيَقْضِيهِ إِذَا أَرَادَ، ويَبْدُو لَهُ فِيهِ فَلا يُمْضِيهِ، فَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يُقَدِّرُهُ اللَّهُ ويَقْضِيهِ ويُمْضِيهِ فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ إِلَيْنَا»(5)).
ص: 117
مسألة: يستحب بيان حِكَم وأسباب التكوين أو التشريع، وكذلك الترجيح(1) وما أشبه في الجملة، كما قال (صلى الله عليه وآله): «لأن هارون...».
فإن بيان الأسباب يوجب اعتقاد الناس بالمسبب أكثر فأكثر، وقد أكثر القرآن الحكيم والسنة الشريفة من ذكر علل الأحكام والقضايا وحِكَمِها، كما أشرنا إليه في بعض مباحث هذا الكتاب، مثلاً قال سبحانه: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري»(2)، وقال تعالى في الصوم: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون»(3)، إلى غير ذلك من وجوه الحكمة في وجوب الواجبات وحرمة المحرمات، وبيان القصص التي مرت، أو الأمور التي تأتي مثل: نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار: «مَا سَلَكَكُمْ في سَقَر * قالوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّين»(4).
مسألة: يصح التعليل بإحدى الحِكم أو العلل المتشاركة، أو التي هي على سبيل البدل(5)، لما فيه من الفائدة، ولأن المقام قد لا يقتضي الاستيفاء، والمقام
ص: 118
من هذا القبيل، فإن تعليله (صلى الله عليه وآله) ب «لأن هارون ... وعلي ...» تعليل بإحدى وجوه أكرمية علي (عليه السلام) على هارون، وإلا فإن علل تفضيله عديدة بل كثيرة (1).
مسألة: يستحب التأكيد على حقانية نبوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما قال(عليه السلام): «والذي بعث أباك بالحق نبياً».
مسألة: يستحب النظر في وجه علي (عليه السلام) فإنه عبادة.
ولا تبعد دعوى الملاك في النظر إلى صورته - لو كانت - بل وإلى اسمه الشريف، وإلى قبته المطهرة وضريحه المبارك أيضاً.
علماً بأن للنظر إلى الشيء الحسن من الكعبة، أو وجه علي (عليه السلام)- أو عالم دين، أو الوالدين أو ما أشبه، الأثر التكويني والوضعي مما يوجب تمايل النفس إليه، وقد ورد في عكس ذلك تقبيح النظر وذمه إلى الشطرنج والأجنبية وعدد من المحرمات والمكروهات.
ص: 119
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَزَلْ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَةٌ حَتَّى يَنْصَرِفَ بِبَصَرِهِ عَنْهَا»(1).
وقال (عليه السلام): «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْوَالِدَيْنِعِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الإِمَامِ عِبَادَةٌ»(2).
وقال (عليه السلام): «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَ مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ»(3).
وقال (عليه السلام): «وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عَارِفاً بِحَقِّهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَكَفَى مَا أَهَمَّهُ»(4).
وقال (عليه السلام): «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عَارِفاً فَعَرَفَ مِنْ حَقِّنَا وَ حُرْمَتِنَا مِثْلَ الَّذِي عَرَفَ مِنْ حَقِّهَا وَحُرْمَتِهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا وَ كَفَاهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ»(5).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ نَظَرَ إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْ عَوْرَةِ غَيْرِ أَهْلِهِ مُتَعَمِّداً أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّىيَفْضَحَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ»(6).
ص: 120
وقال أبو جعفر (عليه السلام): «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ، وَرَجُلاً خَانَ أَخَاهُ فِي امْرَأَتِهِ، وَرَجُلاً احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِفِقْهِهِ فَسَأَلَهُمُ الرِّشْوَةَ»(1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً نَظْرَةً وَاحِدَةً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى مَكَّةَ مِائَةً وَعِشْرِينَ رَحْمَةً سِتُّونَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلْعَاكِفِينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ»(2).
مسألة: يستحب بيان أن النظر في وجه علي (عليه السلام) يذهب الغضب، وأن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) كان إذا نظر في وجه علي (عليه السلام) ذهب عنه الغضب.
فإن النظر إلى الشيء يوحي إلى النفس بمعاني الخير في الأمور الخيرة، ومعاني الشر في الأمور الشريرة، وحيث كان علي (عليه الصلاة والسلام) في أعلى درجات المحبوبية عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان نظره في وجهه يذهب غضبه.
وكذلك النظر إلى منقبة من مناقبه أو رواية من رواياته أو أثر من آثاره المباركة (عليه السلام).
ص: 121
وكما النظر كذلك الاستماع، كالاستماع إلى كرامة من كراماته أو حكمة من حكمه أو فضيلة من فضائله بل وحتى اسمه الشريف (عليه الصلاة والسلام).
عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لأَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَضَائِلَ لا تُحْصَى كَثْرَةً، فَمَنْ قَرَأَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَنْ كَتَبَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا بَقِيَ لِتِلْكَ الْكِتَابَةِ رَسْمٌ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالسَّمْعِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى كِتَابَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ، ثم قال: النَّظَرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه
السلام) عِبَادَةٌ، وَ لا يَقْبَلُاللَّهُ إِيمَانَ عَبْدٍ إِلاّ بِوَلايَتِهِ وَ الْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِهِ»(1).
مسألة: يستحب السلام على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن الله كان يبلغه السلام، وفي الحديث: «تخلقوا بأخلاق الله تعالى»(2).
والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين حياته (عليه السلام) وبعد استشهاده، كما أن الظاهر أنه (صلوات الله عليه) يرد السلام في الصورتين، وفي سلامه أو رده السلام من البركات ما لا يخفى على البصير.
هذا بالإضافة إلى إطلاقات أدلة السلام، وأدلة تعظيم علي أمير المؤمنين
ص: 122
(عليه الصلاة والسلام).
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَتِ مَا جَزَاءُ مَنْ زَارَكَ؟ قَالَ: بُنَيَّ مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَومَيِّتاً أَوزَارَ أَبَاكَ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أَنْ أَزُورَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِفَأُخَلِّصَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ (صلوات الله عليه) لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَا جَزَاءُ مَنْ زَارَكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَومَيِّتاً أَو زَارَ أَبَاكَ أَو زَارَ أَخَاكَ أَو زَارَكَ كَانَ حَقّاً عَلَيَّ أَنْ أَزُورَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أُخَلِّصَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ»(2).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ مَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي أَو بَعْدَ مَوْتِي أَو زَارَكَ فِي حَيَاتِكَ أَو بَعْدَ مَوْتِكَ أَو زَارَ ابْنَيْكَ فِي حَيَاتِهِمَا أَو بَعْدَ مَوْتِهِمَا ضَمِنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أُخَلِّصَهُ مِنْ أَهْوَالِهَا وشَدَائِدِهَا حَتَّى أُصَيِّرَهُ مَعِي فِي دَرَجَتِي»(3).
مسألة: يستحب بيان وإظهار الرضا بربوبية الرب ونبوة الرسول (صلى الله عليه وآله) وولاية علي (عليه السلام).
وهذا نوع شكر للنعمة، كما أن فيه جلباً للمنفعة بل المنافع، وفيه أيضاً
ص: 123
دفع للمضرة بل المضار، وقد سبق تفصيله.
ومن المعلوم أن الرضا بهذه الأمور وأمثالها يوجب رضا الله تعالى أولاً، كما يوجب اطمئنان النفس وسكون الخاطر ثانياً مما ينفع دين الإنسان ودنياه، قال سبحانه: «رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ»(1).
مسألة: يستحب إجابة الطلب، وإن تكرر وتنوع، خاصة إذا كان من العظيم، فكيف إذا كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكون الصديقة (عليها السلام) أسوة وقدوة يرشدنا إلى ذلك، إذ قالت في كلتا المرتين: «زدني يا أبتاه»، وقد سبق نظيره.
مسألة: يستحب التنوع في خطاب الأب، تارة بما يشير إلى أبوته، وأخرى بما يشير إلى مناقبه وفضائله، وقد خاطبت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أباها الرسول (صلى الله عليه وآله) تارة ب «يا أبتاه» - وأخرى ب «يا نبي الله».
ص: 124
مسألة: يستحب النظم والترتيب في مختلف الأمور، ومن ذلك التسلسل المنطقي في الكلام، ومن مصاديقه الابتداء من الأعلى فالأعلى فالأعلى، وهذا ما صنعته الصديقة (عليها السلام) إذا قالت: «رضيت بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً، وبابن عمي بعلاً وولياً».
ولعل الوجه في تقديمها (بعلاً) على (ولياً) تناسب المقام، إضافة إلى كونه (عليه السلام) ولياً عاماً وليس خاصاً بها، أما كونه بعلاً فهو خاص بها.
ص: 125
عن أسماء بنت عميس قالت:
سمعت سيدتي فاطمة (عليها السلام) تقول: «ليلة دخل بي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أفزعني في فراشي»، فقلت: أفزعتِ يا سيدة النساء؟ قالت: «سمعت الأرض تحدّثه ويحدّثها، فأصبحت وأنا فزعة، فأخبرت والدي (صلى الله عليه وآله) فسجد سجدة طويلة ثم رفع رأسه وقال: يا فاطمة أبشري بطيب النسل، فإن الله فضّل بعلك على سائر خلقه، وأمر الأرض أن تحدثه بأخبارها وما يجري على وجهها من شرق الأرض إلى غربها».
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن الأرض تكلم المعصومين (عليهم السلام).
فإن كل ذرات الكون شاعرة وناطقة كما تقدمت الإشارة إليه(1)، والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) سفراء الله سبحانه وتعالى في الأرض وحججه على جميعالخلق، ولذا كل شيء يكلمهم، وهم يتكلمون معه، من الأرض والحيوان
ص: 126
والنبات والأبنية وغيرها.
قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الحَديد»(1).
وقال سبحانه: «وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبين... فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقين»(2) الآيات.
ولا شك أن علياً (عليه الصلاة والسلام) كالرسول (صلى الله عليه وآله) بل هو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان أفضل من داود (عليه السلام) حيث قال سبحانه: «يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ»(3)، وقال تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه»(4)، كما أنهم (عليهم الصلاة والسلام) أفضل من الملائكة، والملائكة مطاعة في الكون بإذن الله سبحانه وتعالى.
نعم قد يتصرف المعصوم (عليه السلام) حسب القدرة الإعجازية لإثبات النبوة أو الإمامة، وكذلك في علمه بالغيب، وقد يكون مأموراً بالصبر وشبهه.عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَلَّمَتِ الشَّمْسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَأَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَتْ لَهُ: يَا إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ اشْفَعْ لِي إِلَى رَبِّي أَنْ لَا يُعَذِّبَنِي، والثَّانِيَةُ قَالَتْ لَهُ: مُرْنِي أَحْرِقْ مُبْغِضِيكَ فَإِنِّي أَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، والثَّالِثَةُ بِبَابِلَ وقَدْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ فَكَلَّمَهَا وقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى
ص: 127
مَوْضِعِكَ، فَأَجَابَتْهُ بِالتَّلْبِيَةِ، والرَّابِعَةُ قَالَ: يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ هَلْ تَعْرِفِينَ لِي خَطِيئَةً، قَالَتْ: وعِزَّةِ رَبِّي لَو خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِثْلَكَ لَمْ يَخْلُقِ النَّارَ، والْخَامِسَةُ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فَخَالَفُوا عَلِيّاً فَتَكَلَّمَتِ الشَّمْسُ ظَاهِرَةً فَقَالَتْ الْحَقُّ لَهُ وبِيَدِهِ ومَعَهُ، سَمِعَتْهُ قُرَيْشٌ ومَنْ حَضَرَهُ، والسَّادِسَةُ حِينَ دَعَاهَا فَأَتَتْهُ بِسَطْلٍ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ، فَقَالَتْ أَنَا الشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ، والسَّابِعَةُ عِنْدَ وَفَاتِهِ حِينَ جَاءَتْ وسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وعَهِدَ إِلَيْهَا وعَهِدَتْ إِلَيْه»(1).
وعَنْ سَلْمَانَ وأَبِي ذَرٍّ وابْنِ عَبَّاسٍ وعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وانْتَهَيَا إِلَى هَوَازِنَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): قُمْ يَا عَلِيُّ وانْظُرْ كَرَامَتَكَ عَلَى اللَّهِ كَلِّمِ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ،فَقَامَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْعَبْدُ الدَّائِبُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّهِ، فَأَجَابَتْهُ الشَّمْسُ وهِيَ تَقُولُ: وعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَخَا رَسُولِ اللَّهِ ووَصِيَّهُ وحُجَّةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَانْكَبَّ عَلِيٌّ سَاجِداً شُكْراً لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يُقِيمُهُ ويَمْسَحُ وَجْهَهُ وقَالَ: قُمْ يَا حَبِيبِي فَقَدْ أَبْكَيْتَ أَهْلَ السَّمَاءِ مِنْ بُكَائِكَ وبَاهَى اللَّهُ بِكَ حَمَلَةَ عَرْشِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنِي عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وأَيَّدَنِي بِوَصِيِّي سَيِّدِ الْأَوْصِيَاءِ ثُمَّ قَرَأَ «ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً»(2) الْآيَة(3).
وفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وعَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍ: أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) ضَرَبَ
ص: 128
الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ فَتَحَرَّكَتْ فَقَالَ: اسْكُنِي فَلَمْ يَأْنِ لِكَيْ، ثُمَّ قَرَأَ: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها»،(1).
وعَنْ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَنَاوَلَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) حَصَاةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْحَصَاةُ فِي كَفِّهِ نَطَقَتْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبّاً وبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاًوبِعَلِيٍّ وَلِيّاً، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ رَاضِياً بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ فَقَدْ أَمِنَ خَوْفَ اللَّهِ وعِقَابَه»(2).
وعن مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم السلام) قَالُوا: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فِي طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ إِذْ جَعَلَ خَمْسَهُ فِي خَمْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَواللَّهِ مَا رَأَيْنَا خَمْسَيْنِ أَحْسَنَ مِنْهُمَا إِذْ مَرَرْنَا عَلَى نَخْلِ الْمَدِينَةِ فَصَاحَتْ نَخْلَةٌ أُخْتَهَا هَذَا مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى وهَذَا عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى فَاجْتَزْنَاهُمَا، فَصَاحَتْ ثَانِيَةٌ بِثَالِثَةٍ هَذَا نُوحٌ النَّبِيُّ وهَذَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فَاجْتَزْنَاهُمَا، فَصَاحَتْ ثَالِثَةٌ بِرَابِعَةٍ هَذَا مُوسَى وأَخُوهُ هَارُونُ فَاجْتَزْنَاهُمَا فَصَاحَتْ رَابِعَةٌ بِخَامِسَةٍ هَذَا مُحَمَّدٌ سَيِّدُ النَّبِيِّينَ وهَذَا عَلِيٌّ سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ سَمِّ نَخْلَ الْمَدِينَةِ صَيْحَانِيّاً فَقَدْ صَاحَتْ بِفَضْلِي وفَضْلِكَ»(3).
ص: 129
مسألة: يستحب أن يركع الإنسان خضوعاً لله، أو أن يسجد سجدة الشكر على الخبر المُسرّ، وعلى كل نعمة تتجدد له أو لغيره من المؤمنين، وعلى كل نعمة يتذكرها.
فإن شكر الله تعالى بين واجب ومستحب على ما سبق، والشكر يكون على حدوث النعمة، وكذل على دفع البلية والنقمة.
هذا بالإضافة إلى إطلاقات أدلة السجدة، وأدلة الركوع للباري تبارك وتعالى، وقد ذكرنا في الفقه استحباب الركوع مستقلاً ولو كان خارج الصلاة وبدون الذكر، وكذلك السجدة ولو خارجها وبدونه.
والظاهر أن وجه شكر الرسول (صلى الله عليه وآله) مع أن النعمة كانت لعلي (عليه السلام) لا له (صلى الله عليه وآله) مباشرة، أمور:
منها: كونها نعمة له (صلى الله عليه وآله) أيضاً، لأن المنعم عليه هو صهره، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «فإن الله فضل بعلك...» مما يشير إلى أن نعمة الصهر الصالح فكيف بالأصلح نعمة على الإنسان نفسه وهو من أكبر النعم.ومنها: كونها نعمة له (صلى الله عليه وآله) من جهة أن ذلك سبب لطيب نسلهما (عليهما السلام)، ونسلهما نسله (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة، ولذا قال (صلى الله عليه وآله) : «أبشري بطيب النسل».
ومنها: كون المنعم عليه هو وصيه وخليفته، إضافة إلى كونه ابن عمه.
ومنها: كون هذه النعمة على وصيه دليلاً آخر على حقانيته.
ص: 130
ومنها: كونها دليلاً جديداً على لطف الله به وحبّ له (صلى الله عليه وآله).
ومنها: كونها نعمة له (صلى الله عليه وآله) أيضاً، من جهة أن علياً (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في آية المباهلة(1).
إلى غير ذلك.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ، فَإِنَّهُ لا زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ، وَلا بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ، الشُّكْرُ زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ، وَأَمَانٌ مِنَ الْغِيَرِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِوَحَمِدَ اللَّهَ ظَاهِراً بِلِسَانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتَّى يُؤْمَرَ لَهُ بِالْمَزِيدِ»(3).
وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاّ أَدَّى شُكْرَهَا»(4).
مسألة: يستحب تبشير المؤمن، وكلما ازدادت درجته وازداد إيمانه زاد الأجر بتبشيره، ولذا قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة أبشري...».
فإنه نوع من إدخال السرور في قلبه وهو مستحب، كما أن كشف همه
ص: 131
كذلك، بل الأمر بالنسبة إلى غير المؤمن أيضاً كذلك(1) وإن اختلف في درجات الثواب.
قال علي (عليه الصلاة والسلام): «الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(2).وقال (صلى الله عليه وآله): « لِكُلِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْر»(3).
وما أشبه ذلك مما يدل على أن الإنسان بما هو إنسان له كرامة عند الله عزوجل.
وقال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «قال اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: الْخَلْقُ عِيَالِي فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَلْطَفُهُمْ بِهِمْ وأَسْعَاهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ»(4).
كما يمكن فهم ما نحن فيه من هذه النصوص ولو بالملاك.
مسألة: ينبغي السعي في سبيل أن يكون النسل نسلاً طيباً.
ورجحانه مما لا شك فيه، كما أن هذا الخبر يدل عليه، فإن قوله (صلى الله عليه وآله): «أبشري بطيب النسل» مبني على مقدمة مطوية عُدت مسلّمة، وهي:
ص: 132
إن طيب النسل نعمة يستحق عليها الشكر.
والمراد بالنسل الطيب ما لا خبثفيه(1)، ولا ينتهي أمره إلى الفساد كالسرقة والظلم والقتل وما أشبه ذلك من المحرمات، وإذا كان الأمر كذلك فاللازم السعي في سبيله، وفي القرآن الحكيم: «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً»(2).
بل قد ورد استحباب أكل بعض الأشياء لجمال الولد والطيب في الخَلق، فكيف بالطيب في الخُلق، قال الأعشم في شعر له:
وفي السفرجل الحديث قد ورد ** تأكله الحبلى فيحسن الولد
وفي الحديث: «إن الله جميل ويحب الجمال»(3).
ومن المعلوم أن الجمال يشمل جمال النفس وجمال الروح وجمال الخَلق وجمال الخُلق، وغيرها.
مسألة: العلم من أهم أركان قيادة الأمة، فمن كان يريد الإدارة والإرشاد لابد أن يكون مطلعاً على أخبار العالَم من شرقها وغربها، فإن استقامة الإدارة متوقفة عليه.
ص: 133
قال أبو عبد الله (عليه الصلاة والسلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).
ومن هنا ولغيره أيضاً، كانت إحاطة رسول الله والأئمة الأطهار (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) والإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بأخبار الكون كله.قال تعالى: «تَنَزَّلُ (2) الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(4).
وقال سبحانه: «وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»(5).
ص: 134
وقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأُوتينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ»(1).
والحاصل: إن مقتضى حكمة الله تعالى تعليمهم (عليهم السلام) تلك العلوم كلها، فإنهم (صلوات الله عليهم) وسائط فيضه.
وقد ورد: «بيمنه رزق الورى،وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(2).
كما ورد: «إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، وتصدر عن بيوتكم»(3).
مسألة: من اللازم السيطرة والتسلط على النفس في مختلف الأحوال وخاصة لدى الطوارئ وفي الاضطرابات المادية والروحية وفي الظروف الصعبة.
وفي الأحاديث: «وقور عند الهزاهز»(4).
وأما فزع الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) فليس من عدم السيطرة على النفس كما هو واضح، بل هو رد فعل طبيعي لما رأته من شيء غير معتاد، مضافاً إلى كونه تبييناً لفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد ورد في حق الأنبياء (عليهم السلام) مثل هذه الاستجابات الطبيعية
ص: 135
للحوادث، قال تعالى: «فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خيفَةًمُوسَى»(1).
وقال سبحانه: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَليمٍ»(2).
وقال تعالى: «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ»(3).
وقال سبحانه: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ»(4).
فالإنسان قد يفزع من شيء لكنه يسيطر على نفسه، فيتصرف ويتعامل معه وفق الحكمة والرضا الرباني، وقد يفزغ ويفقد أعصابه وسيطرته على نفسه فيتصرف بما لا يليق أو بخلاف المرضاة الإلهية.
لا يقال: كيف الفزع والصديقة (عليها السلام) تعلم بما كان وبما يكون وبما هو كائن؟
لأنه يقال: قد ذكرنا في بعض المباحث السابقة في هذا الكتاب وغيره أن العلم والقدرة من المعصومين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) لا تؤثر عادة في أعمالهم الطبيعية العادية - إلا بإذن الله -، وذلك ليكونوا أسوة للجميع، ولهذا كانوا يبكون عند موت أحدهم مع أنهميعلمون بأنه انتقل إلى مكان أحسن، كما بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ولده إبراهيم (عليه السلام)، وكذلك ما ومن أشبه، مع أنه يعلم بدخوله جنة عدن لا تقاس بالدنيا، وهل يبكي أحد إذا رأى
ص: 136
ولده انتقل من مكان سيء إلى مكان حسن؟
وهكذا بالنسبة إلى القدرة، حيث كانوا لا يتصرفون عادة حسب ما لديهم من القدرات الخارقة - إلا بإذن الله -، وإلاّ لم يتخذوا أسوة، قال سبحانه: «وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُون»(1).
ويحتمل أن يكون فزع الصديقة الزهراء (عليها السلام) لا من أصل سماعها الأرض تحدث علياً (عليه السلام) ويحدثها، بل من مضامين ما نقلته الأرض لعلي (صلوات الله عليه) من الأخبار(2).
وربما الفزع كان من عظمة الله عزوجل وآثاره في خلقه.
وربما كان الفزع من خوف الله تعالى، حيث تذكرت يوم القيامة وأن الأرضتحدّث، كما قال عزوجل: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها»(3).
مسألة: يستحب تطويل السجدة وإن لم ينشغل فيها بذكر، نعم الذكر أفضل كما لا يخفى، والأدلة على استحباب ذلك متواتر الروايات قولاً وفعلاً، فقد كانوا (عليهم الصلاة والسلام) أصحاب السجدة الطويلة ذاكرين الله عزوجل.
وفي الأحاديث أن حالة السجدة هي أقرب الحالات إلى الله سبحانه، إلى
ص: 137
غير ذلك مما ذكر في باب السجود من الفقه(1) وكُتب الحديث(2)، وفي هذه الرواية: «فسجد سجدة طويلة».
عَنِ الْوَشَّاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليهالسلام) يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وهُو سَاجِدٌ» (3) الحديث.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) تَفَرُّقَ أَمْوَالِنَا ومَا دَخَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالدُّعَاءِ وأَنْتَ سَاجِدٌ، فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ وهُوَ سَاجِدٌ.
قَالَ: قُلْتُ: فَأَدْعُو فِي الْفَرِيضَةِ وأُسَمِّي حَاجَتِي، فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَدَعَا عَلَى قَوْمٍ بِأَسْمَائِهِمْ وأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وفَعَلَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) بَعْدَهُ»(4).
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَطَالَ السُّجُودَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ قَالَ الشَّيْطَانُ: وَا وَيْلَاهْ أَطَاعُوا وعَصَيْتُ، وسَجَدُوا وأَبَيْتُ. وقَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ
ص: 138
إِلَى اللَّهِ وهُوَ سَاجِدٌ»(1).
ولا يخفى أن قولها (عليها السلام): «سجدة طويلة» بلحاظ أن الطول والقصرأمران نسبيان، يختلف باختلاف حالات الفرد والآخرين، وقياس بعضها إلى بعض قد تدل على فترة طويلة جداً من السجود، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أهل العبادة، وكذلك كانت الزهراء (عليها السلام) حيث كانت تقوم الليل على قدميها للعبادة حتى تورمتا(2)، فسجداتهم العادية هي طويلة فكيف بسجدتهم الطويلة، فقولها (عليها السلام) «سجد (صلى الله عليه وآله) سجدة طويلة» له الدلالة البالغة.
ص: 139
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ عَائِشَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَامَ يَتَنَفَّلُ، فَاسْتَيْقَظَتْ عَائِشَةُ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَلَمْ تَجِدْهُ فَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ قَامَ إِلَى جَارِيَتِهَا، فَقَامَتْ تَطُوفُ عَلَيْهِ فَوَطِئَتْ عُنُقَهُ (صلى الله عليه وآله) وهُو سَاجِدٌ بَاكٍ يَقُولُ: سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وخَيَالِي وآمَنَ بِكَ فُؤَادِي، أَبُوءُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ وأَعْتَرِفُ لَكَ بِالذَّنْبِ الْعَظِيمِ، عَمِلْتُ سُوءاً وظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وأَعُوذُ بِرَحْمَتِكَ مِنْ نَقِمَتِكَ وأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أَبْلُغُ مَدْحَكَ والثَّنَاءَ عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا عَائِشَةُ لَقَدْ أَوْجَعْتِ عُنُقِي أَيَّ شَيْ ءٍ خَشِيتِ؟ أَنْ أَقُومَ إِلَى جَارِيَتِكِ؟»(1).
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا سجد سجدة الشكر غُشي عليه من خشيةالله تعالى (2).
ص: 140
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (عليهما السلام) قَالَ: «كَانَ لِأَبِي (عليه السلام) فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ آثَارٌ نَأْتِيهِ، وكَانَ يَقْطَعُهَا فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ خَمْسَ ثَفِنَاتٍ، فَسُمِّيَ ذَا الثَّفِنَاتِ لِذَلِك»(1).
وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (عليهما السلام): إِنَّ أَبِي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) مَا ذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا سَجَدَ، ولَا قَرَأَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِيهَا سُجُودٌ إِلَّا سَجَدَ، ولَا دَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُوءً يَخْشَاهُ أَوْ كَيْدَ كَائِدٍ إِلَّا سَجَدَ، ولَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ إِلَّا سَجَدَ، ولَا وُفِّقَ لِإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلاّ سَجَدَ، وكَانَ أَثَرُ السُّجُودِ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ سُجُودِهِ فَسُمِّيَ السَّجَّادَ لِذَلِك»(2).
رُوِيَ عَنْ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ قَالَ: حَجَجْتُ فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَيْتُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) سَاجِداً،فَجَلَسْتُ حَتَّى مَلِلْتُ، ثُمَ قُلْتُ: لَأُسَبِّحَنَّ مَا دَامَ سَاجِداً، فَقُلْت: سُبْحَانَ رَبِّي وبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ رَبِّي وأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ ونَيِّفاً وسِتِّينَ مَرَّةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ نَهَضَ فَاتَّبَعْتُهُ وأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: إِنْ أُذِنَ لِي فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ
ص: 141
قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنْتُمْ تَصْنَعُونَ هَكَذَا فَكَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى الْبَابِ خَرَجَ إِلَيَّ مُصَادِفٌ فَقَالَ لِيَ: ادْخُلْ يَا مَنْصُورُ، فَدَخَلْتُ فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: يَا مَنْصُورُ إِنَّكُمْ إِنْ أَكْثَرْتُمْ أَو أَقْلَلْتُمْ فَواللَّهِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْكُم»(1).
قَالَ الثَّوْبَانِيُّ: كَانَتْ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً كُلَّ يَوْمٍ سَجْدَةٌ بَعْدَ انْقِضَاضِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَكَانَ هَارُونُ رُبَّمَا صَعِدَ سَطْحاً يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الْحَبْسِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) فَكَانَ يَرَى أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) سَاجِداً فَقَالَ لَلرَّبِيعِ: يَا رَبِيعُ مَا ذَاكَ الثَّوْبُ الَّذِي أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ مَا ذَاكَ بِثَوْبٍ وإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَجْدَةٌ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، قَالَالرَّبِيعُ: فَقَالَ لِي هَارُونُ: أَمَا إِنَّ هَذَا مِنْ رُهْبَانِ بَنِي هَاشِمٍ، قُلْتُ: فَمَا لَكَ قَدْ ضَيَّقْتَ عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ، قَالَ: هَيْهَاتَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ(2).
وفي كتاب الإرشاد: وكَانَ أَبُوالْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) أَعْبَدَ أَهْلِ زَمَانِهِ وأَفْقَهَهُمْ وأَسْخَاهُمْ كَفّاً وأَكْرَمَهُمْ نَفْساً، ورُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَوَافِلَ اللَّيْلِ ويَصِلُهَا بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ يُعَقِّبُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ويَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِداً فَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الدُّعَاءِ والتَّمْجِيدِ حَتَّى يَقْرُبَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وكَانَ يَدْعُو كَثِيراً فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، والْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ، ويُكَرِّرُ ذَلِكَ، وكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: عَظُمَ الذَّنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنِ الْعَفْومِنْ عِنْدِكَ، وكَانَ يَبْكِي
ص: 142
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى تَخْضَلَّ لِحْيَتُهُ بِالدُّمُوع (1).
مسألة: يستحب بيان أن الله قد فضّل علياً (عليه السلام) على سائر خلقه ما عدا الرسول (صلى
الله عليه وآله)، حيث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أفضل الخلق على الإطلاق، ثم من بعده علي (عليه الصلاةوالسلام)، كما أشرنا إلى ذلك في بعض مواضع هذا الكتاب وغيره.
وبيان مثل ذلك يوجب التفاف الناس حول المعصومين (عليهم السلام) أكثر فأكثر، لما ينفع دينهم ودنياهم كما تكرر الإلماع إلى ذلك.
مسألة: يستحب بيان أن المعصوم (عليه السلام) يعلم أخبار الأرض وما يجري عليها من شرقها إلى غربها وغير ذلك بإذن الله تعالى.
وقد أشير إليه في القرآن الحكيم بقوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَدا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ»(2)، فمن الواضح أن الرسول (صلى الله عليه وآله) من باب المثال الأجلى، وإلاّ فكل من أراد الله عزوجل له علم الغيب فإنه يعلمه بإذنه الله سبحانه
ص: 143
.
هذا إضافة إلى احتمال إرادة (الرسول) بالمعنى الأعم(1).
مسألة: يستحب التوجه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وإلى أهل بيته (عليهم السلام) عند الفزع، لأنهم (عليهم السلام) واسطة الفيض، وهم قادرون على حل المشاكل بإذن الله سبحانه، فهُم في المعنويات مثل ما يراجع المريض الطبيب في الماديات، بل أقوى وأعلا درجة.
ولذا نجد الصديقة فاطمة (عليها السلام) ذهبت إلى أبيها (صلى الله عليه وآله) إذ فزعت وأخبرته بالسبب، نعم قد يقال بأن فزعها (عليها السلام)كان صورياً لإرادة التعليم وإظهار الحقائق وبيان فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله).
مسألة: يجب على المؤمن تحمل المسؤولية الشرعية، في مختلف الظروف والحالات، فإنه لا وقت ولا حد للمسؤولية، فإن الإنسان المؤمن مسؤول، كما قال (صلى الله عليه وآله): «كلكم راعوكلكم مسؤول عن رعيته»(2).
ص: 144
سواء كان رجل دين أم لا، كالكاسب والطالب والزارع والموظف وغير ذلك، وسواء كان في محل عمله أم في منزله، وسواء كان في عطلة أم نزهة أم لا.
فإن المسؤولية في بعض مصاديقها واجب عيني، وفي بعضها كفائي ولكنه لم يقم بها من فيه الكفاية في زماننا، بل في غالب الأزمنة، وربما يقال لم يوجد زمان قام بالمسؤولية - من هداية العباد وإرشادهم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك - من فيه الكفاية.
وفي هذا الحديث تشير الصديقة الزهراء (عليها السلام) إلى أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) استمر في حديثه مع الأرض واستمرت الأرض في نقل الأخبار له حتى في ليلة الزفاف.
ص: 145
عن فاطمة (عليها السلام) قالت:
«أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، ففزع الناس إلى أبي بكر وعمر، فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي (عليه السلام)، فتبعهما الناس إلى أن أنتهوا إلى باب علي (عليه السلام)، فخرج إليهم علي (عليه السلام) غير مكترث لما هم فيه، فمضى واتّبعه الناس حتى انتهى إلى تلعة، فقعد عليها وقعدوا حوله وهم ينظرون إلى حيطان المدينة ترتجّ جائية وذاهبة».
-------------------------------------------
- أقول: ولعل الزلزلة كانت مكررة، كما قد يتفق حيث تستقر الأرض ثم تتزلزل مرة أخرى، لأنها طالت تلك المدة - .
فقال لهم علي (عليه السلام): كأنكم قد هالكم ما ترون؟
قالوا: وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قط. قالت: فحرك شفيته، ثم ضرب الأرض بيده، ثم قال: ما لك، اسكني، فسكنت. فعجبوا من ذلك أكثر من تعجبهم أولاً حيث خرجوا إليه. قال لهم: فإنكم قد عجبتم من صنعتي؟ قالوا: نعم. قال: «أنا الرجل الذي قال الله: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالها * وقال الْإِنْسانُ ما لَها»(1)، فأنا الإنسان الذي يقول لها ما لك، «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَهَا»(2) تحدث».
-------------------------------------------
ص: 146
أقول: يحتمل أنه يكون كلامه (عليه السلام) تأويلاً للآية المباركة، إذ الآيةوردت في شأن زلزلة القيامة، والظاهر أنه لا حاجة للقول بالتأويل، إذ الإمام (عليه السلام) فسر (الإنسان) في الآية الشريفة بأنه هو المقصود، فتكون (أل) فيه للعهد، ولم يفسر تلك الزلزلة ويطبق عليها الآية الكريمة ليقال إنه تأويل.
وربما يقال المراد بالإنسان في الآية الأعم، وأل للجنس أو الاستغراق، وعلى هذا فإن تفسيرها به (صلوات الله عليه) تفسير بأظهر المصاديق.
وكم من آية أو سورة نزلت فيهم (عليهم السلام).
كما قال (عليه السلام) في كثير من الآيات: «نزلت فينا»(1).
وقال (عليه السلام): «نزلت فينا خاصة»(2).وقال (عليه السلام): «نزلت فينا أهل البيت»(3).
ص: 147
وقال (عليه السلام): «نزلت فينا وفي شيعتنا»(1).
وقال (عليه السلام): «سورة الرحمن نزلت فينا، من أولها إلى آخرها»(2).وقال موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ»(3)، قال: «نزلت فينا خاصة في أمير المؤمنين وذريته وما ارتكب من أمر فاطمة عليها السلام»(4).
مسألة: يستحب بيان أن ما في الكون كله مطيع للمعصومين (عليهم السلام) بإذن الله تعالى، ويلزم الاعتقاد بذلك، فإنه مقتضى حكمة الله تعالى، إذ جعل وسائط الفيض ووسائط التدبير وغيرهما، قال تعالى: «فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً»(5).
وقال سبحانه: «تَنَزَّلُ
المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»(6).
ص: 148
وقال تعالى: «وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1).إلى غير ذلك مما ذكر في علم الكلام والعقائد.
وقد ورد في الزيارة: (وأَشْهَدُ أَنَّكُمُ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، وأَنَ طَاعَتَكُمْ عَلَيْنَا وعَلَى كُلِّ الْخَلْقِ مَفْرُوضَةٌ، وأَنَّ قَوْلَكُمُ الصِّدْقُ، وأَنَّكُمْ دَعَوْتُمْ فَلَمْ تُجَابُوا، وأَمَرْتُمْ فَلَمْ تُطَاعُوا، وأَنَّكُمْ دَعَائِمُ الدِّينِ وأَرْكَانُ الْأَرْض)(2).
وفي الرواية: (ولَقَدْ كَانَتْ (صلوات الله عليها) طَاعَتُهَا مَفْرُوضَةً عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيْرِ، والْبَهَائِمِ، والأَنْبِيَاءِ، والمَلائِكَةِ) (3).
مسألة: يستحب السعي في رفع الخوف والقلق والاضطراب عن الناس، وقد يكون واجباً، سواء بواسطة الأمور الغيبية كالدعاء والصدقة عنهم، أم بالأمور المادية والأسباب الطبيعية.
فإن تفريج الكرب عن الإنسان مستحب،وقد يكون واجباً فيما كما إذا كان من مصاديق دفع الضرر الكثير، وقد قال عيسى (عليه الصلاة والسلام) ما مضمونه: التارك مداواة الجريح كالجارح له.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: «مَنْ أَصْبَحَ
ص: 149
لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، ومَنْ سَمِع رَجُلًا يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»(1).
على تفصيل ذكرناه في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من (الفقه)(2).
وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) قال:
«مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مَلْهُوفاً فِي طَرِيقٍ بِمَرْكُوبٍ لَهُ قَدْ سَقَطَ وَهُوَ يَسْتَغِيثُ فَلَا يُغَاثُ، فَأَغَاثَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى مَرْكُوبِهِ وَسَوَّى لَهُ إِلَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: كَدَدْتَ نَفْسَكَ وَبَذَلْتَ جُهْدَكَ فِي إِغَاثَةِ أَخِيكَ هَذَا الْمُؤْمِنِ، لَأَكُدَّنَّ مَلَائِكَةً هُمْ أَكْثَرُ عَدَداً مِنْ خَلَائِقِ الإِنْسِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ، وَأَعْظَمُ قُوَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حَمْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ،لِيَبْنُوا لَكَ الْقُصُورَ وَالْمَسَاكِينَ وَيَرْفَعُوا لَكَ الدَّرَجَاتِ، فَإِذَا أَنْتَ فِي جِنَانِي كَأَحَدِ مُلُوكِهَا الْفَاضِلِينَ.
وَمَنْ دَفَعَ عَنْ مَظْلُومٍ قُصِدَ بِظُلْمٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ، خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُرُوفِ أَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِ أَفْعَالِهِ وَسُكُونِهَا أَمْلَاكاً بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مِائَةَ أَلْفِ مَلَكٍ، كُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُونَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ لِإِغْوَائِهِ فَيُثْخِنُونَهُمْ ضَرْباً بِالْأَحْجَارِ الدَّافِعَةِ، وَأَوْجَبَ اللَّهُ بِكُلِّ ذَرَّةِ ضَرَرٍ دَفَعَ عَنْهُ وَبِأَقَلِّ قَلِيلِ جُزْءِ أَلَمِ الضَّرَرِ الَّذِي كَفَّ عَنْهُ، مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ خُدَّامِ الْجِنَانِ وَمِثْلَهُمْ مِنَ الْحُورِ الْحِسَانِ، يَدُلُّونَهُ هُنَاكَ وَيُشَرِّفُونَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا بِدَفْعِكَ عَنْ فُلَانٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ»(3).
ص: 150
مسألة: يستحب للإنسان أن يرد الإساءة بالإحسان، والتعامل السيء بالتعامل الإنساني، فإنها من أعظم السجايا الخلقية، كما تعامل علي (عليه السلام) مع الناس الذين ظلموه ولم يدافعوا عنه، فدَفَع البلاء عنهم.
قال تعالى: «ادْفَع بِالَّتي هِيَ أَحْسَن»(1).
وقَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): «عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ» (2).
وقَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): «ضادّوا الاساءة بالاحسان» (3).
وجَنَى لَهُ (إي للإمام الحسين عليه السلام) غُلَامٌ جِنَايَةً تُوجِبُ الْعِقَابَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُضْرَبَ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ والْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، قَالَ: أَخْلُوا عَنْهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ والْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، قَالَ: يَا مَوْلايَ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِولَكَ ضِعْفُ مَا كُنْتُ أُعْطِيكَ(4).
ص: 151
مسألة: يلزم على الإنسان أن يعرف قدره وحدوده ومقامه فلا يتعداها، ولا يغصب مكانة لا تليق به.
فمن ليس أهلاً للخلافة أو القيادة أو المرجعية، لا يجوز له التصدي لها، ومن لا يتمكن من حل مشاكل الناس المادية منها والمعنوية، لا ينبغي أن يتصدى لقيادتهم، ففي الحديث عن أمير المؤمنين: «رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعد طوره»(1).
أما إذا لم يعرف الإنسان قدر نفسه ولم يلتزم بحدوده، فإنه يكون أسوأ من البهيمة، قال سبحانه: «إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً»(2).
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَمَّ قَوْماً وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ أَفْقَهُ، لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ إِلَى سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).
قال الله عزوجل: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَأَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(4).
وعن أبي ذر (رحمه الله) قال: «إن إمامك شفيعك إلى الله تعالى، فلا تجعل شفيعك إلى الله سفيها ولا فاسقاً»(5).
ص: 152
مسألة: يستحب رواية هذا الحديث وهذه الكرامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما نقلتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام).
فإن ذكر فضائل علي (عليه الصلاة والسلام) يوجب:
أولاً: التفاف الناس حوله مما ينفع دينهم ودنياهم، كما سبق.
وثانياً: بيان نفس الأمر واقعه الذي خلق الله سبحانه الكون عليه.
وثالثاً: يبين حق أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة، وزيف من غصبها.
مسألة: يستحب أو يجب الفزع إلى علي (عليه السلام) وإلى سائر المعصومين (عليهم السلام)، فإنهم السبيل إلى الله عزوجل والوسيلة إليه، ولا فرق في الفزع حال حياتهم أم بعد استشهادهم، وسواء حال حضورهم أم في غيبتهم، وذلك عند مختلف المحن والمشاكل، فإن الرجوع إلى غيرهم (عليهم السلام) لا يفيد، وربما لا يجوز.
وكان من أكبر الأخطاء رجوع البعض لابن أبي قحافة وابن الخطاب في هذهالنازلة أو غيرها من النوازل.
ولا فرق في الفزع إلى المعصومين (عليهم السلام) بين الفزع إلى أشخاصهم أو إلى قبورهم ومشاهدهم، أو إلى ما يتعلق بهم وينتسب إليهم، كذراريهم وأوليائهم وعلمائهم الصالحين.
ص: 153
وإنما قلنا بالاستحباب أو الوجوب، لأنه إذا كان رفع ضرر كبير وجب، وإذا لم يكن كذلك كان مستحباً.
وأما أن الرجوع إلى غيرهم لا ينفع، فلأن الله تعالى جعل المعصومين (عليهم السلام) الواسطة دون غيرهم، كما قال سبحانه: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ»(1).
لا يقال: ربما نجد غيرهم نافعاً في رفع الفزع أو أسبابه؟
لأنه يقال: الفزع إلى غيرهم وإن نفع أحياناً، إلا أن ضرره المقارن أو المستقبلي أكبر وأكثر، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى»(2)، وإن كان المعرض بحسب الظاهر له معيشة واسعة، ولكن الواقع أن من أعرض عن ذكر الله وعن المعصومين (عليهم السلام) في ضنك وشقاء من العيش، وذلك كما يلجأ الفاسق إلى الربا مثلاً، فإنه وإن ربح ظاهراً، إلا أنه يخسر دينهورضا الله أولاً.
ويخسر حب الناس ويستجلب عداوتهم وبغضهم ثانياً.
وكثيراً ما يخسر أولاده وأهله بتحولهم إلى مجرمين أو سراق أو قتلة أو ضُلال أو ما أشبه ثالثاً.
كما أن الله يمحق البركة من ماله، قال عزوجل: «يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ»(3)، فيتضرر حتى في دنياه واقتصاده رابعاً.
مضافاً إلى أن الربا من أهم عوامل اضطراب المجتمع وثورته ضد الأغنياء
ص: 154
والحكومات، مما يسبب مصادرة أموالهم كلها أو قتلهم أو ما أشبه، كما يشاهد ذلك كثيراً في الثورات الكبرى خامساً.
وفي المقابل الإيمان والالتزام بطاعة الباري عزوجل موجب للبركة والسعادة، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
وفي الروايات: إن الأمر لو كان أعطي لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكان الناس في نعمة ونعيم.
وفي كتاب سليم بن قيس، في حديث أن أمير المؤمنين (عليه
السلام) قال: «يَاطَلْحَةُ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عِنْدِي بِإِمْلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَطِّي بِيَدِي، وَتَأْوِيلَ كُلِّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَكُلَّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ حُكْمٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الأُمَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عِنْدِي مَكْتُوبٌ بِإِمْلاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَطِّي بِيَدِي حَتَّى أَرْشَ الْخَدْشِ». قال طلحة: كُلُّ شَيْ ءٍ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍ أَوْ كَانَ أَوْ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ؟
قال (عليه السلام): نَعَمْ وَ سِوَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَسَرَّ إِلَيَّ فِي مَرَضِهِ مِفْتَاحَ أَلْفِ بَابٍ فِي الْعِلْمِ يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ، وَلَوْ أَنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَ قَبْضِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) اتَّبَعُونِي وَأَطَاعُونِي لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ»(2).
ص: 155
وقال: (لولا علي لهلك عمر) (1).
فإن ذكر ذلك يوجب أن يفزع الإنسان إلى ولي الله وحجته، علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) في مشاكله، فإنه لا فرق بين حياة المعصومين (عليهم السلام) وموتهم، وقد قال سبحانه: «وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2).
مسألة: يستحب الطمأنينة وثبات النفس حتى عند المصائب.
فإن الطمأنينة والثبات النفسي عند المصائب، وكذلك في الأفراح الكبيرة من أفضل ما يلقّنه الإنسان نفسه ويعمل به، فإن الثبات النفسي مبعث كل خير، بخلاف الاضطراب والشك، فإن كلاً منهما يوجب إفراطاً أو تفريطاً في الحياة.
ص: 157
قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(1).
وقد خرج الإمام (عليه السلام) غير مكترث لما همّ فيه، بل إنه بقي داخل داره فترة الزلزلة ولم يخرج حتى جاءه الناس، نعم لعل بقاءه حكم خاص به لعلمه أن لا يصيبه مكروه، وإلا فاللازم دفع مثل هذا الضرر المحتمل والخروج عند الزلزال إلى مكان آمن مع الإمكان.
مسألة: ينبغي رفع تعجب الناس من غرائب التشريع والتكوين وبيان ما يمكن أن يفهموه في وجه الأمر.
فإن التعجب وما يتبعه قد يكونخروجاً عن منهج الحياة، فإن للحياة نظاماً وقواعد ومنهجاً قرره الله سبحانه، فإذا تعجب الإنسان كشف ذلك عادة عن عدم اطلاعه على النظام والمنهج.
أما قوله سبحانه: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ»(2)، فالمراد التعجب الظاهري، أو التعجب حسب ظواهر الأمور لا حسب علمه الواقعي، أو أن المطلب من شأنه التعجب، يعني أنه من غير المألوف لعامة الناس لا له بالخصوص، إذ التعجب يكون لأمر غير مألوف على ما ذكره علماء الأخلاق وعلماء النفس.
ص: 158
مسألة: يستحب بيان أن سورة الزلزلة نزلت في شأن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكذلك سائر السور والآيات التي نزلت في حقهم (عليهم السلام).
فإنه إذا علم الإنسان تلك الفضائل ازداد تعلقاً بأهل البيت (عليهم السلام) مما ينفع الدنيا والآخرة.
وشأن النزول هو من لطائف حكم الله تعالى، حيث جمع القرآن الكريم بذلك بين الثابت والمتغير، فإن الآية من جهة عامة تجري كما يجري الشمس والقمر كما في الروايات، ومن جهة أخرى هي خاصة بأرز المصاديق ومن نزلت في شأنهم، فتفيد التاريخ والمستقبل، وتفيد الأصول والفروع، وتفيد الكلي والمصداق، وتفيد الحكم والعلل، وغيرها من الفوائد.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَيَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا»(1).وعن فضيل بن يسار، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مَا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَ لَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، فَقَالَ: «ظَهْرُهُ تَنْزِيلُهُ، وَبَطْنُهُ تَأْوِيلُهُ، مِنْهُ مَا قَدْ مَضَى وَمِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ، يَجْرِي كَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كُلَّمَا جَاءَ تَأْوِيلُ شَيْ ءٍ مِنْهُ يَكُونُ عَلَى الأَمْوَاتِ كَمَا يَكُونُ عَلَى الأَحْيَاءِ، قَالَ اللَّهُ: «وَما
ص: 159
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(1) نَحْنُ نَعْلَمُهُ»(2).
مسألة: يستحب إجابة الناس وقضاء حوائجهم مطلقاً، سواء كانوا مؤمنين أم لا، مسلمين أم كفاراً، عدولاً أم فسقة، بل حتى المنافقين، هذا فيما إذا لم تكن تلك الحوائج غير مشروعة.
فإن قضاء حوائج الناس ولو كانوا كفرةً أو فسقةً أو منافقين مما درّبنا عليه الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) والرسول (صلى الله عليه وآله) والصديقة الزهراء (عليها السلام).
وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله)حاجة عبد الله بن أُبيّ(3).
وكذلك فعل علي (عليه السلام) بالنسبة إلى من خرج عليه في صفين فسقاهم الماء(4).
وفعله الحسين (عليه الصلاة والسلام) في فاجعة كربلاء(5).
وكذلك الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) حيث كانوا يزورون مختلف الناس حتى المبغضين وغير الموالين ويقضون حوائجهم، فإن ذلك من التخلّق بأخلاق
ص: 160
الله سبحانه حيث أنعم على جميع البشر من مؤمن أو غيره، وقد ورد في الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله»(1).
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَنْ غَزَا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي صِفِّينَ وقَدْ أَخَذَ أَبُو أَيُّوبَ الأَعْوَرُ السُّلَمِيُّ الْمَاءَ وحَرَزَهُ عَنِ النَّاسِ فَشَكَا الْمُسْلِمُونَ الْعَطَشَ، فَأَرْسَلَ فَوَارِسَ عَلَى كَشْفِهِ فَانْحَرَفُوا خَائِبِينَ فَضَاقَ صَدْرُهُ، فَقَالَ لَهُ وَلَدُهُ الْحُسَيْنُ (عليه السلام): أَمْضِيإِلَيْهِ يَا أَبَتَاهْ، فَقَالَ: امْضِ يَا وَلَدِي، فَمَضَى مَعَ فَوَارِسَ فَهَزَمَ أَبَا أَيُّوبَ عَنِ الْمَاءِ وبَنَى خَيْمَتَهُ وحَطَّ فَوَارِسَهُ وأَتَى إِلَى أَبِيهِ وأَخْبَرَهُ، فَبَكَى عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وهَذَا أَوَّلُ فَتْحٍ بِبَرَكَةِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَقَالَ: ذَكَرْتُ أَنَّهُ سَيُقْتَلُ عَطْشَاناً بِطَفِّ كَرْبَلاءَ حَتَّى يَنْفِرَ فَرَسُهُ ويُحَمْحِمَ ويَقُولَ الظَّلِيمَةَ الظَّلِيمَةَ لِأُمَّةٍ قَتَلَتِ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهَا(2).
مسألة: ينبغي للمربي والموجه والخطيب والقائد ومن أشبه حين التوجيه والخطاب أن يجلس أو يقف على موضع مرتفع إذا توقف التوجيه الأفضل على
ص: 161
ذلك، وقد خرج الإمام علي (عليه السلام) حتى انتهى إلى قلعة فقعد عليها .
كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيغدير خم صنع مرتفعاً من الحُدُوج(1)، ومن الكور(2)، وارتقى عليه ورفع علياً (عليه السلام) وعينه خليفة وإماماً من بعده.
مسألة: ينبغي الاستفادة من التقرير في الاستدلال(3)، فإنه قد يكون أقوى في الحجة وأتم في الإقناع، وأردع للخصم والمعاند، كما صنع علي (عليه السلام) إذ قال لهم: «كأنكم قد هالكم ما ترون».
ص: 162
عن فاطمة بنت محمد (عليها السلام) قالت: «خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية عرفة فقال: إن الله باهى بكم وغفر لكم عامة ولعلي (عليه السلام) خاصة، وإني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليكم غير محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني: أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً (عليه السلام) في حياته وبعد وفاته».
-------------------------------------------
مسألة: المعصوم (عليه السلام) لا يصدر منه الذنب والخطأ إطلاقاً، ومعنى الغفران بالنسبة إليه هو ستر ما يستلزمه الإمكان من لوازم غير اختيارية وإن لم تكن معصية ولا مكروهاً ولا ترك أولى، فإن الممكن لا يمكنه أداء حق الله تعالى كما هو أهله وإن شكر بما يمكنه وبذل أقصى وسعه وطاقته وجهده، كما أشرنا إلى ذلك في بعض المباحث.
والستر بشكل مطلق، قد يكون عن فعل أو عيب إرادي عمدي، وهذا جار في غير المعصوم (عليه السلام)، وقد يكون عن شيء هو لازم أو ملازم كونه إمكانياً، فإن الإمكان يسبب المحدودية وأن لا يكونالإنسان كالواجب تعالى في
ص: 163
الكمالات(1)، كما أن الممكن مهما بلغ من الكمال لا يمكنه أن يحيط بالله تعالى علماً وخبراً وأداءً لشكره وما أشبه، من هنا ورد أنه «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَتُوبُ إلى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ»(2).
وفي هذا الحديث الشريف تصريح بالغفران لعلي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وحيث إنه معصوم لا تصدر منه خطيئة ولا مكروه ولا ترك أولى، فالمراد بالغفران عن لوازم الإمكان، لا الغفران لفعل أو عيب عمدي إرادي وما أشبه، كما هو واضح.
ولتقريب المعنى نذكر المثال التالي:
فمَن لم يتمكن من إنقاذ غريقين، وأنقذ أحدهما وغرق الآخر بسبب محدوديته الإمكانية لا بتقصير منه، فإنه مع ذلك يطلب العفو عن القصور والعجز اللا إرادي، وطلب العفو من مثله عبارة عن إظهار حالته الإمكانية، وكذلك لو فرضنا أن إنساناً كان عاجزاًعن نصرة مولاه فإنه يطلب منه الغفران لا لأنه مذنب، وإنما أراد تكميل هذا الجانب الناقص منه بسبب طلب العفو والغفران.
نعم يحتمل في طلب المعصومين (عليهم السلام) المغفرة من الله تعالى، وفي غفرانه لهم، أن يراد به الغفران عما يراه المجتمع نقصاً أو معصيةً، لا عن النقص الواقعي، إذ لا نقص واقعي لهم، كما لا معصية ولا مكروه ولا ترك أولى واقعي منهم، نظير ما ذكر في قوله تعالى: «إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا
ص: 164
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»(1).
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن السعادة في حب المعصومين (عليهم السلام) أحياءًوأمواتاً، أي في حياتهم ومماتهم، ويستحب بيان ذلك.
وإنما كان ذلك سعادة لأن الله أمر به، ومن أطاع الله سبحانه وتعالى سعد في الدنيا والآخرة.
كما أن من الواضح أن حبهم (عليهم السلام) يسوق إلى العمل بنهجهم والتأسي بهم، ولا ريب أن نهجهم هو النهج السليم والمنقذ الوحيد للناس.
وفي الزيارة: (سَعِدَ مَنْ وَالاكُمْ، وهَلَكَ مَنْ عَادَاكُمْ، وخَابَ مَنْ جَحَدَكُمْ، وضَلَّ مَنْ فَارَقَكُمْ، وفَازَ مَنْ تَمَسَّكَ بِكُمْ، وأَمِنَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْكُمْ، وسَلِمَ مَنْ صَدَّقَكُمْ، وهُدِيَ مَنِ اعْتَصَمَ بِكُمْ، مَنِ اتَّبَعَكُمْ فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ، ومَنْ خَالَفَكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ)(2).
وفي الزيارة أيضاً: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا سُفُنَ النَّجَاة) (3).
ص: 165
وقوله (صلى الله عليه وآله): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(1).
مسألة: يستحب تخصيص العظيم بالذكر والثناء والعطاء والامتيازات المناسبة له التي تقتضيها الحكمة، وإن شمله العام بشموله للجميع، كما قال (صلى الله عليه وآله): «ولعلي خاصة».
والاستحباب لأنه نوع تعظيم ورعاية وأداء لحق المعظَّم بالفتح، ومن المعلوم أن أداء الحق بين واجب ومستحب، فإن كان مانعاً من النقيض كان واجباً، وإن لم يكن مانعاً منه كان مستحباً.
مسألة: يستحب بيان أن من بركات الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أن حبّه يوجب السعادة، كما أن حب الأنبياء والمرسلين وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام) وكذلك خديجة ومريم البتول ومن أشبههن (صلوات
الله عليهم أجمعين) كذلك، وذلك لأن الحب عمل قلبي، وكما أن العمل الجوارحي يوجب السعادة فكذلك العملالجوانحي.
ص: 166
والظاهر أن حبهم (عليهم السلام) من الأمور الارتباطية، فلو أحب أحدهم وأبغض الآخر لم يقبل منه، قال تعالى: «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ»(1).
نعم كما أنهم (صلوات الله عليهم) على درجات، فإن حبهم قد يكون على درجات، وربما كان حب بعضهم كحب الخمسة الطيبة والتسعة من ذراريهم (عليهم السلام) بدرجاته أسرع في إحراز رضا الله وأقوى في تحصيل السعادة، وأدعى للدخول إلى الجنة والفوز بدرجاتها العاليات، وأحرى بلطف الله وأكمل في الميزان. ولولا حبهم (صلوات الله عليهم) لما قبل الله الأعمال.
روى سلام بن سعيد المخزومي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قلت: لا يصعد عملهم إلى اللّه ولا يقبل منهم عملا، فقال: «لا، من مات وفي قلبه بغض لنا أهل البيت ومن تولى عدونا لم يقبل اللّه له عملا»(2).
وعن على بن الحسين (عليهما السلام) قال: قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: ما بال اقوامإذا ذكر عندهم آل إبراهيم وآل عمران فرحوا واستبشروا، وإذا ذكر عندهم آل محمد اشمأزت قلوبهم، والذي نفس محمد بيده لو أن عبداً جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً ما قبل اللّه ذلك منه حتى يلقى اللّه بولايتي وولاية أهل بيتي»(3).
وعن أبي حمزة قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك يا بن رسول اللّه قد يصوم الرجل النهار ويقوم الليل ويتصدق ولا يعرف منه إلا
ص: 167
خيراً إلاّ أنه لا يعرف الولاية، قال: فتبسم أبو جعفر (عليه السلام) وقال: «يا ثابت إنا في أفضل بقعة على ظهر الأرض لو أن عبداً لم يزل ساجداً بين الركن والمقام حتى يفارق الدنيا لم يعرف ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وعَنِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وعَنِ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ، وعَنِ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ، وعَنْ وَلَايَتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِوَلَايَتِنَا ثُمَّ مَاتَ عَلَيْهَا قُبِلَتْ مِنْهُ صَلَاتُهُ وصَوْمُهُ وزَكَاتُهُ وحَجُّهُ، وإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِوَلَايَتِنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ»(2).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: «نَزَلَ جَبْرَئِيلُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، السَّلَامُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ويَقُولُ: خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ ومَا فِيهِنَّ والْأَرَضِينَ السَّبْعَ ومَنْ عَلَيْهِنَّ ومَا خَلَقْتُ مَوْضِعاً أَعْظَمَ مِنَ الرُّكْنِ والْمَقَامِ، ولَو أَنَّ عَبْداً دَعَانِي هُنَاكَ مُنْذُ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ والْأَرَضِينَ ثُمَّ لَقِيَنِي جَاحِداً لِوَلَايَةِ عَلِيٍّ لَأَكْبَبْتُهُ فِي سَقَرَ»(3).
ص: 168
مسألة: تحصيل السعادة واجب في الجملة، فإن السعادة على درجات، كما أنها تتنوع إلى أنواع.
والسعادة الواجبة هي فيما إذا كانت مانعة من النقيض، أما إذا لم تكن مانعة منه كالسعادة الكمالية فمن المستحب تحصيلها، كما أن العكس كذلك، فعدم التحصيل بين حرام ومكروه حسب تقسيم الأحكام إلى الخمسة مما ذكر تفصيله في الأصول.
كما أن الشقاء على عكس السعادة، بين حرام ومكروه.
قال تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»(1).
ويمكن الاستناد في وجوب تحصيل السعادة وحرمة تحصيل الشقاء إلى هذه الآيات الكريمة، إذ السعادة هي مقدمة موصلة للجنة، والشقاء مقدمة موصلة إلى النار، ومقدمة الواجب واجبة عقلاًسواء قلنا بوجوبها الشرعي أم لا، كما أن مقدمة الحرام حرام كذلك.
ص: 169
وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «الْحَقُّ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَالصَّوَابُ وَالْحِكْمَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَصَلَ حَبْلَهُ بِحَبْلِهِ، وَالشَّقِيُّ الْهَالِكُ مَنْ خَرَجَ عَنْ جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَ الْمُطِيعِينَ لَه».
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ أَنْتَ هَادِي أُمَّتِي، أَلَا إِنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّكَ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِكَ، أَلَا إِنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ مَنْ خَالَفَكَ وَ رَغِبَ عَنْ طَرِيقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «هَذَا جَبْرَئِيلُ يُخْبِرُنِي أَنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ حَقَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّ عَلِيّاً فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ حَقَّ الشَّقِيِّ مَنْ أَبْغَضَ عَلِيّاً فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ»(2).
مسألة: يستحب بيان زمان وقوع الخبر، فيما لم تكن هناك جهة راجحة تقتضي الكتمان، كما قالت (عليها السلام): «عشية عرفة». فإن معرفة أن الله تعالى
يباهي بالمؤمن الملائكة عشية عرفة، وأنه تعالى يغفر للمؤمنين عشيتها، يكون باعثاً للناس للذهاب إلى الحج ومحرضاً لهم للاهتمام بعرفة أكثر فأكثر.
فإن معرفة الزمان والمكان كثيراً ما لها مدخلية في وضوح القصة، مثلاً قال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام): «الكر ألف ومائتا رطل»، فإذا عرفنا أن المكان الذي قاله الإمام (عليه الصلاة والسلام) هو بغداد أو الكوفة، عرفنا أن المراد الرطل
ص: 170
العراقي، بينما إذا قال هذا الكلام في المدينة المنورة عرفنا أن المراد بالرطل المدني، أو إذا قاله في مكة كان المراد المكي(1)، وكذلك في الزمان، فإذا قال الإمام (عليه الصلاة والسلام): «يكره أكل الجبن وحده» وكان زمان صدور الكلام وقت الإفطار نهاراً، عرفنا أن الكراهة فيالنهار لا في الليل، وإذا قال ذلك في الليل عرفنا أن الكراهة في الليل لا في النهار، إلاّ إذا فهم العرف عدم الخصوصية الزمانية أو المكانية، كما لا يخفى على من له تتبع في الروايات.
عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَجَابَنِي، وإِنْ فَنِيَتْ مَسَائِلِي ابْتَدَأَنِي، فَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ فِي لَيْلٍ ولَا نَهَارٍ ولَا سَمَاءٍ ولَا أَرْضٍ ولَا دُنْيَا ولَا آخِرَةٍ ولَا جَنَّةٍ ولَا نَارٍ ولَا سَهْلٍ ولَا جَبَلٍ ولَا ضِيَاءٍ ولَا ظُلْمَةٍ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وأَمْلَاهَا عَلَيَّ وكَتَبْتُهَا بِيَدِي، وعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وتَفْسِيرَهَا ومُحْكَمَهَا ومُتَشَابِهَهَا وخَاصَّهَا وعَامَّهَا، وكَيْفَ نَزَلَتْ وأَيْنَ نَزَلَتْ، وفِيمَنْ أُنْزِلَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، دَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْماً وحِفْظاً فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ولَا عَلَى مَنْ أُنْزِلَتْ إِلَّا أَمْلَاهُ عَلَيَّ»(2).
وعن يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) بِمَكَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ لَتُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ تَسْمَعْبِهِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه
ص: 171
السلام): «عَلَيْنَا نَزَلَ قَبْلَ النَّاسِ، ولَنَا فُسِّرَ قَبْلَ أَنْ يُفَسَّرَ فِي النَّاسِ، فَنَحْنُ نَعْرِفُ حَلَالَهُ وحَرَامَهُ، ونَاسِخَهُ ومَنْسُوخَهُ، وسَفَرِيَّهُ وحَضَرِيَّهُ، وفِي أَيِّ لَيْلَةٍ نَزَلَتْ كَمْ مِنْ آيَةٍ، وفِيمَنْ نَزَلَتْ، وفِيمَا نَزَلَتْ، فَنَحْنُ حُكَمَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وشُهَدَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ويُسْئَلُونَ»(1)، فَالشَّهَادَةُ لَنَا والْمَسْأَلَةُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَهَذَا عِلْمُ مَا قَدْ أَنْهَيْتُهُ إِلَيْكَ وأَدَّيْتُهُ إِلَيْكَ مَا لَزِمَنِي فَإِنْ قَبِلْتَ فَاشْكُرْ، وإِنْ تَرَكَتْ ف «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(2)»(3).
مسألة: يستحب التأكيد في الأمور المهمة، وخاصة ما يرتبط بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث قال (عليه السلام): «إن السعيد كل السعيد حق السعيد..».فإن الأمور المهمة إذا أكّدت عرف الناس لزوم الاهتمام بها ورسخت في الأذهان والنفوس، وكانت أقوى في الحجة على المخالف، قال سبحانه مكرراً: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان»(4)،
ص: 172
وقال تعالى : «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر»(1)، إلى غير ذلك.
مسألة: حب علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) واجب على كل مسلم ومسلمة، في حياتهم ومماتهم (صلوات الله عليهم).
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2).
وعن جابر أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا يعرفون طيب مولدأبنائهم من خبثه بإيقافهم على طريق الإمام علي (عليه السلام) وإراءتهم له وسؤالهم هل يحبون هذا الرجل، فإن قال الطفل: إنه يحبه، عرفوا طيب مولده، وإن قال: لا، عرفوا خبث ولادته(3).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمِنًى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذْ بَصُرْنَا بِرَجُلٍ سَاجِدٍ وَرَاكِعٍ وَمُتَضَرِّعٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ صَلَاتَهُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ أَبَاكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَمَضَى إِلَيْهِ
ص: 173
عَلِيٌّ (عليه السلام) غَيْرَ مُكْتَرِثٍ فَهَزَّهُ هَزَّةً أَدْخَلَ أَضْلَاعَهُ الْيُمْنَى فِي الْيُسْرَى وَالْيُسْرَى فِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: لَنْ تَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، مَا لَكَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَوَ اللَّهِ مَا أَبْغَضَكَ أَحَدٌ إِلَّا سَبَقَتْ نُطْفَتِي إِلَى رَحِمِ أُمِّهِ قَبْلَ نُطْفَةِ أَبِيهِ، وَلَقَدْ شَارَكْتُ مُبْغِضِيكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(1)، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): صَدَقَ يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا سِفَاحِيٌّ، وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَّا يَهُودِيٌّ، وَلَا مِنَ الْعَرَبِ إِلَّادَعِيٌّ، وَلَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا شَقِيٌّ، وَلَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا سَلَقْلَقِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَحِيضُ مِنْ دُبُرِهَا، ثُمَّ أَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ اعْرِضُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَحَبَّةِ عَلِيٍّ، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَكُنَّا نَعْرِضُ حُبَّ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَى أَوْلَادِنَا، فَمَنْ أَحَبَّ عَلِيّاً عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِنَا، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيّاً انْتَفَيْنَا مِنْهُ»(2).
وفي الرواية، قال جبرئيل (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُحْشَرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً إِلَّا شِيعَةَ عَلِيٍّ وَ يُدْعَى النَّاسُ بِأَسْمَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ مَا خَلَا شِيعَةَ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، فَقُلْتُ: حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ وَكَيْفَ ذَاكَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ أَحِبُّوا عَلِيّاً فَطَابَ مَوْلِدُهُمْ»(3).
فإن حبهم (عليهم السلام) مع قطع النظر عن أمر الله سبحانه وتعالى به، وأمره واجب الإطاعة، يوجب التفاف الناس حولهم والأخذ منهم مما ينفع دين
ص: 174
الإنسان ودنياه منفعة لا يجوز تركها.
مسألة: المحاباة بالباطل محرمة، فإنها عنوان آخر للباطل نفسه، وبغيره مكروهة أو مباحة، أما المحاباة بالحق فبين واجبة ومستحبة.
وقوله (صلى الله عليه وآله): «غير محاب لقرابتي» أي ليس محاباة بالباطل، بل قد يقال بالخروج الموضوعي للمحاباة بالحق عن صدق (المحاباة) عرفاً عليه.
مسألة: المباهاة بالحق وبالمحق مستحب وقد تكون واجبة، فإن بها إعزاز الحق وتكريم المحق، وتحريضاً على العمل بالحق، وقد تكرر في الروايات مباهاة الله تعالى ببعض عباده الصالحين وأوليائه المكرمين، وهذه الرواية منها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَيُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِالْعَبْدِ يَقْضِي صَلَاةَ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إلى عَبْدِي يَقْضِي مَا لَمْ أَفْتَرِضْهُ عَلَيْهِ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِزَائِرِ الْحُسَيْنِ وَ الْوَافِدِ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ وَ حَمَلَةَ عَرْشِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ أَ مَا تَرَوْنَ زُوَّارَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) أَتَوْهُ شَوْقاً إِلَيْهِ وَ إِلَى فَاطِمَةَ وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي وَ عَظَمَتِي
ص: 175
لَأُوجِبَنَّ لَهُمْ كَرَامَتِي (وَلأُحِبَّنَّهُمْ لِمَحَبَّتِي) الْحَدِيثَ وَ فِيهِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِالطَّائِفِينَ»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): «أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه، فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه و بين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه، ثم ظل أو رقد على فراشه يقيه بمهجته، اهبطا إلى الأرض جميعاًفاحفظاه من عدوه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه و ميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي به الملائكة، فأنزل الله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ»(3)»(4).
ص: 176
مسألة: يستحب طلب الزيادة في حب أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) إذ كلما ازداد الإنسان حباً له (عليه السلام) ازداد رتبةً وقرباً وثواباً.
والظاهر أن قوله (صلى الله عليه وآله): «إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياته وبعد وفاته»، المراد به هو الحب الكامل الذي يستجلب الأعمال الصالحة والطاعات ويجنبه المعاصي والسيئات.
وأما غيره من المحبين محبة غير كاملة، فهو سعيد بنفس مقدار حبه.
ويحتمل إرادة أصل الدخول في الجنة والنجاة من النار، وأنها بحبه (عليه السلام)، وقد اعتبرت حق السعادة أو كل السعادة لأهميتها وكونها الأساس، فتأمل.
وقد جاء في معاني الأخبار، باب معنى قول أمير المؤمنين (عليه
السلام) للذي قال له: إني أحبك، أعد للفقر جلباباً، عن أحمد بن المبارك، قال: قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): حديث يروى أن رجلا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني أحبك، فقال له: أعد للفقرجلباباً، فقال: ليس هكذا قال، إنما قال له: أعددت لفاقتك جلباباً يعني يوم القيامة»(1).
ص: 177
عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «أما إنك يا علي وشيعتك في الجنة».
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأن المعصومين (عليهم السلام) وشيعتهم في الجنة، ويستحب بيان ذلك، وإذا توقفت الهداية عليه وجب البيان.
ثم إن الشيعي له درجات، ومن شروطه أن يكون مطيعاً لله تعالى غير عاص له، فإن الله سبحانه خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً، كما ورد بذلك الأحاديث(1)، ودل عليه
ص: 178
العقلوالإجماع، وقبلهما القرآن الحكيم.
ومن المعلوم أن شيعة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) هم الذين يوافقونهم عقيدةً وعملاً ويطيعون الله تعالى، ولذا يكون محلّهم الجنة، نعم الظاهر أن سيد الطاعات هو إطاعة الله تعالى في أمر الإمامة والولاية، ولذا قال عزوجل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً»(1).
عن خيثمة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «أَبْلِغْ شِيعَتَنَا أَنَّهُ لَنْ يُنَالَ مَا
ص: 179
عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَأَبْلِغْ شِيعَتَنَا أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ»(1).
نعم إن حب علي (صلوات الله عليه) والاعتقاد بولايته ينقذ الإنسان من النار كما في متواتر الروايات.
قال أبو جعفر (عليه السلام) قال: رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «أتاني جبرئيل فقال: إن اللّه يأمرك أن تحب علياً وأن تأمر بحبه وولايته فإني معط أحباء علي الجنة خلداً بحبهم إياه، ومدخل أعدائهوالتاركين ولايته النار جزاءً بعداوتهم إياه وتركهم ولايته»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحِبُّكُمْ ومَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِحُبِّكُمْ وإِنَّ الرَّجُلَ لَيُبْغِضُكُمْ ومَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ بِبُغْضِكُمُ النَّارَ»(3).
وقال الصادق (عليه السلام): «وَنِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ وأَهْلُ بَيْتِهِ، حُبُّهُمْ إِيمَانٌ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وبُغْضُهُمْ كُفْرٌ ونِفَاقٌ يُدْخِلُ النَّارَ»(4).
مسألة: التشيّع واجب كما أن الإسلام واجب، وكما أن الكفار مكلفون بالفروع وبالإسلام، كذلك المخالفون مكلفون بالأحكام وبالتشيع، وكما أن
ص: 180
دفع الضرر العظيم بالإسلام واجب، كذا دفع الضرر العظيم بالتشيع واجب، وذلك لأن الشيعة هم الفرقة الناجية كما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1)، ومن الواضحوجوب دفع الضرر العظيم.
وأي ضرر أعظم من الضرر الأخروي باستيجاب عقاب الله وعذابه بعدم قبول الولاية والإمامة التي لولاها لما ارتضى الله لنا الإسلام ديناً، كما هو صريح الآية الكريمة «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ» الآية(2).
بل نقول إن الضرر العظيم الدنيوي كالأخروي لا يُدفع إلا باتباع علي وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولذا ورد في الروايات وجوب التشيّع واتباع علي (عليه سلام الله).
هذا كله من جهة دفع الضرر المحتمل، وأما جلب المنفعة العظيمة فكذلك، فإن جلب المنفعة العظيمة الأخروية بل والدنيوية أيضا لا يمكن إلا بالتشيع.
ثم إن المشهور بين أرباب الكلام أن دفع الضرر واجب، لكنهم اختلفوا في وجوب جلب المنفعة، والظاهر أن المعيار في الأمرين واحد، فكما يجب دفع الضرر يجب جلب النفع أيضاً فيما إذا كان الضرر عظيماً والنفع عظيماً، فتأمل، نعم لا يجب جلب النفع غير العظيم كما لا يجب دفع الضرر غير العظيم، وقد ذكرنا في بعض المباحثالسابقة في هذا الكتاب أقسام الضرر وأن بعضها محرم وبعضها غير محرم.
عن أبي ذر، عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: «مثل أهل بيتي مثل سفينة
ص: 181
نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»، قال: وهذا بيان الفرقة الناجية(1).
وعن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، وهي التي تتبع وصيّي عليّاً»(2).
وعن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) أنه قال في حديث: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقي في النار، فقال علي (عليه السلام): يا رسول اللّه ومن الفرقة الناجية؟ فقال (صلّى اللّه عليه وآله): ما أنت عليه وأصحابك»(3).
مسألة: إعلام العالم قد يكون مستحباً، وقد يكون واجباً وذلك متى ما توقفت عليه فوائد عظيمة أخرى، والمقام من هذا القبيل، فإن علياً (عليه السلام) كان عالماً بأنه وشيعته في الجنة قطعاً، ومع ذلك خاطبه الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: (أما أنك يا علي وشيعتك في الجنة).
ومن فوائده إتمام الحجة على من لا يقبل إلاّ كلام الرسول (صلى الله عليه وآله).
ص: 182
عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن أم سلمة قالت: كانت ليلتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عندي، فجاءت فاطمة (عليها السلام) وتبعها علي (عليه السلام)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي أبشر أنت وأصحابك في الجنة، أبشر يا علي أنت وشيعتك في الجنة».
-------------------------------------------
مسألة: يستحب قول «أبشر» ونحوه قبل ذكر الخبر المسر.
فهو من إدخال السرور في قلب المؤمن المستحب، الذي دلت عليه الروايات الكثيرة، وفي القرآن الحكيم في وصف النبي (صلى الله عليه وآله): «بَشِيراً وَنَذِيراً»(1)، بالإضافة إلى دلالة العقل على ذلك.
عن أبي سعيد الخدري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وآله) يَقُولُ لِعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ أَبْشِرْ وَبَشِّرْ، فَلَيْسَ عَلَى شِيعَتِكَ حَسْرَةٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا وَحْشَةٌ فِي الْقُبُورِ، وَلَا حُزْنٌ يَوْمَ النُّشُورِ، وَلَكَأَنِّي بِهِمْ يَخْرُجُونَ مِنْ جَدَثِ الْقُبُورِ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْرُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ، يَقُولُونَ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
ص: 183
الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ»(1)»(2).
مسألة: يستحب نقل الرواية عن طرق مختلفة، كما نقلت الصديقة فاطمة (سلام الله عليها) هذا الخبر عن طرق مختلفة، ففي الخبر السابق نقلته مباشرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي هذا الخبر بواسطة أم سلمة، وفي الخبر الآتي أيضاً عن الرسول (صلى الله عليه وآله). وربما كانت روايات مختلفة.
فإن نقل الرواية الواحدة من طرق مختلفة يوجب تأكيدها، والتأكيد موجب لعمق معرفة الإنسان، وشدة اطمئنانه، فإن المعرفة كسائر الصفات النفسية والعقلية قابلة للتأكيد والشدة والقوة، مثل الشجاعة والجبن والكرم والبخل وما أشبه، فلا يقال: إن العلم والمعرفة إما موجود وإما غير موجود فلا معنى للتأكيد فيه، وقد ذكر العلماء مراتبللعلم: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين (3).
ص: 184
مسألة: حق القسم للزوجة لا يتنافى مع ممارسة الزوج مختلف أعماله الطبيعية في تلك الليلة، فإن حق القسم حسب المشهور هو المبيت عند الزوجة الدائمة ليلة من كل أربع ليال، وإن كان لا يبعد عدم وجوب ذلك خصوصاً لمن له زوجة واحدة فقط، وعلى أي فإن المبيت عرفي، ولذا نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ليلة مبيته عند أم سلمة استقبل ابنته فاطمة والإمام علياً (عليهما السلام) وحادثهما.
ص: 185
عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت:
إن أبي (صلى الله عليه وآله) نظر إلى علي (عليه السلام) وقال: «هذا وشيعته في الجنة».
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده وفي مناسبة إثر أخرى، إعلام الآخرين بفضائل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنزلته عند الله تعالى ومكانته في الآخرة.
فإن النبي (صلى الله عليه وآله) من شأنه الهداية وبيان سُبُل السعادة في الدنيا والآخرة، ولا تكون السعادة إلا بولاية علي (صلوات الله عليه) فالهداية قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة، فالواجبة - فيما كانت مانعة من النقيض، والمستحبة فيما لم تكن، وما نحن فيه من الواجب، وتكراره مستحب، وحيث إن النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة، فاللازم الإقتداء به لزوماً واجباً أو مستحباً حسب ما ذكر من التقسيم. قال سبحانه:«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1).
ص: 186
وقال تعالى:«واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(1).
مسألة: يستحب إعلام الآخرين بفضيلة ذي الفضل، ولو بغير صورة الخطاب إليه.
فإنه لا فرق فيه بين كونه بصورة الخطاب أو بغيرها، باللفظ أو بالإشارة أو بالكتابة، وذلك للأدلة العامة الشاملة لجميعها.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِأَخِي عَلِيٍّ فَضَائِلَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ، ومَنْ كَتَبَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا بَقِيَ لِتِلْكَ الْكِتَابَةِ رَسْمٌ، ومَنِ اسْتَمَعَ إِلَى فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالاسْتِمَاعِ، ومَنْ نَظَرَ إِلَى كِتَابٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ» ثُمَّ قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى عَلِيٍّ عِبَادَةٌ، وذِكْرُهُ عِبَادَةٌ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِيمَانَ عَبْدٍ إِلَّا بِوَلَايَتِهِ والْبَرَاءَةِ مِنْأَعْدَائِه»(2).
ص: 187
مسألة: يستحب النظر إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه حسب نص هذه الرواية.
ولا يخفى أن النظر إليه أعم من النظر إلى وجهه المبارك فيشمل شخصه الكريم، وما ورد من: «النظر في وجه علي (عليه الصلاة والسلام) عبادة»(1)، لا ينفي الأعم، فإن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، إلا أن يقال النظر إليه (عليه السلام) منصرف إلى النظر إلى وجهه الشريف، فتأمل.
ووجه كونه عبادة أنه يذكر الإنسان بالله سبحانه وبأوليائه المقربين، وفيه فائدة التقوي على الالتزام بأوامر الله والتقرب إليه.
ومن هنا أيضا ورد: «النظر إلى الكعبة عبادة»(2).
و: «النظر إلى الوالدين عبادة»(3).و: «النظر إلى المصحف عبادة»(4).
وما أشبه(5).
ص: 188
ومن الواضح أن العبادة درجات ومراتب، فلا يتساوى النظر إلى الكعبة أو إلى الوالدين مع النظر إلى وجه علي (عليه سلام الله)، لأن المؤمن أشرف عند الله من الكعبة، فكيف بسيد الأوصياء ووارث علم الأنبياء وأفضل الخلائق بعد رسول الله (صلى الله عليهما وآلهما الطاهرين).
مسألة: تجب الصراحة في إبلاغ رسالة الله، ويجب الجهر بالحق إن توقفت الهداية على ذلك، وتحرم المجاملات العرفية على حساب الحق إذا كانت مفوتة ومضيعة للحقوق الواجبة.
قال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاَّ اللهَ وَكَفَى باللهِ حَسِيباً»(1).وقال عزوجل: «وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ»(2).
ص: 189
عن فاطمة (عليها السلام) بنت محمد (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لما عرج بي إلى السماء سرت إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذاناً مثنى مثنى، وإقامة وتراً وتراً، فسمعت منادياً ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضى وحملة عرشي، اشهدوا أني لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا.
قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي، بأن محمداً عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا.
قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي، بأن علياً وليي وولي رسولي وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا».
-------------------------------------------
أقول: كون الإقامة في أول التشريع وتراً وتراً لا ينافي التغيير من بعده.
قوله: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»(1) كناية عن مقام القرب المعنوي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والترديد هنا من أساليب البلاغة، وقد قال تعالى حكاية عن نبيه (صلى الله عليه وآله): «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىًأَوْ في ضَلالٍ
ص: 190
مُبينٍ»(1)، فإن مثل هذا الترديد أقرب إلى الإنصاف وعدم الإنكار، وإن كان القائل يعلم أنه على أية كيفية منهما.
مسألة: إن الأذان كان مثنى مثنى، والإقامة وتراً وتراً، وفي الروايات كيفيات مختلفة للأذان والإقامة(2) وقد صار الفقهاء فيها إلى الكيفية المتعارفة المذكورة في الرسائل العملية والكتب الاستدلالية، وإن احتملنا أن كلها جائز، فهي من باب التخيير لا التعيين(3)، هذا إضافة إلىأنه لا تلازم بين كون الإقامة هناك وتراً، وبين تشريعها لنا كما هو المتعارف.
ص: 191
مسألة: قد سبق أن الأقوى كون الشهادة بولاية علي (عليه السلام) جزءاً من الأذان والإقامة، ويؤيده هذا الحديث، وتفصيل الأدلة في (الفقه).
وهو وفق القاعدة، فإن الشهادة بالنبوة والرسالة لا تتم إلاّ بالشهادة بالولاية، كما دل على ذلك الأدلة العامة والخاصة، ومنها قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ...» (1)، من هنا ذكر جمع من الفقهاء(2) أن الشهادة بالولاية لعلي(عليه الصلاة والسلام) جزء من الأذان والإقامة، نعم ذكر جماعة آخرون أنه أمر
ص: 192
خارج عنهما لكنه ينبغي ذكره في الأذان للأدلة العامة وربما لزم.
مسألة: يستحب بيان حديث المعراج وتفاصيله بالمقدار المذكور في الروايات الشريفة، فإن معرفة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عُرج به إلى السماء وما جرى له وما سمعه أو قاله أو شاهده، إضافة إلى كونه كمالاً في حد ذاته، يوجب مزيد الاعتقاد بنبوته (صلى الله عليه وآله) وبالجنة والنار وغيرها من الحقائق مما هو مرتبط بباب العقائد، كما هو مؤثر في باب الأعمال والأقوال، فإن الإيمان قول باللسان واعتقادبالجنان وعمل بالأركان، كما في الروايات الشريفة.
عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ قَالَ: كَتَبْتُ مَع عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ إلى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الْإِيمَانِ مَا هُو، فَكَتَبَ إِلَيَّ مَع عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ: «سَأَلْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ، والْإِيمَانُ هُو الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وعَقْدٌ فِي الْقَلْبِ وعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، والْإِيمَانُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وهُو دَارٌ وكَذَلِكَ الْإِسْلَام دَارٌ والْكُفْرُ دَارٌ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ مُسْلِماً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِناً، ولَا يَكُونُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ مُسْلِماً، فَالْإِسْلَام قَبْلَ الْإِيمَانِ، وهُويُشَارِكُ الْإِيمَانَ، فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ كَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي أَو صَغِيرَةً مِنْ صَغَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَنْهَا كَانَ خَارِجاً مِنَ الْإِيمَانِ، سَاقِطاً عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وثَابِتاً عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَام، فَإِنْ تَابَ واسْتَغْفَرَ عَادَ إلى دَارِ الْإِيمَانِ، ولَا يُخْرِجُهُ إلى الْكُفْرِ إِلَّا الْجُحُودُ والِاسْتِحْلَالُ، أَنْ يَقُولَ لِلْحَلَالِ هَذَا حَرَام ولِلْحَرَام هَذَا حَلَالٌ، ودَانَ بِذَلِكَ فَعِنْدَهَا يَكُونُ خَارِجاً مِنَ الْإِسْلَام والْإِيمَانِ دَاخِلًا فِي الْكُفْرِ، وكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ دَخَلَ
ص: 193
الْكَعْبَةَ وأَحْدَثَ فِي الْكَعْبَةِ حَدَثاً فَأُخْرِجَ عَنِ الْكَعْبَةِ وعَنِ الْحَرَمِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وصَارَإلى النَّارِ»(1).
مسألة: يستحب بيان أهمية ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد يجب ذلك، فإن الله تعالى استشهد الملائكة بها، كما استشهد سكان السماوات والأرض حملة العرش أيضاً.
ويدل ذلك على أهمية الشهادة بالتوحيد والنبوة أيضاً، وهذا يكشف أن ولايته (عليه السلام) مطروحة على مستوى الكون كله، بل ولايته ظاهرة كونية مؤثرة على الكون كله كما أشرنا إليه سابقاً(2).
ثم إن ولايته (عليه الصلاة والسلام) توجب السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، ومثل هذا يستحب بيان أهميته وقد يجب.
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تبارك وتعالى لا يُرى، لاستلزام رؤيته كونَهجسماً ومحدوداً وفي حيز وغير ذلك من اللوازم الفاسدة، ويستحب بيان ذلك، ومن الأدلة على ما ذكر:
أن أشرف الخلق (صلى الله عليه وآله) وفي أقرب منزلة منه لم يره، ولذا قال
ص: 194
(صلى الله عليه وآله): «فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني».
وهذا من الأدلة اللفظية، وهناك أدلة عقلية ذكرها العلامة الحلي (قدس سره) في شرح التجريد، كما ذكرت في سائر الكتب الكلامية والحكمية.
وقول بعض العامة بالرؤية بالعين لبعض الظواهر اللفظية المحمولة على المجاز، غير صحيح كما لا يخفى، فإن الظواهر اللفظية لو خالفت الأحكام العقلية القطعية، تحمل على المجاز، أي يكون الحكم القطعي العقلي قرينة على إرادة المجاز من تلك الظواهر، كما في قوله تعالى: «وَمَنْ كانَ في هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبيلاً»(1).
مسألة: يستحب التأكيد في الموارد المهمة لئلا يلتبس الأمر، كما أكد (عليه السلام) الرؤية القلبية دون البصريةبقوله: «ولم أره بعيني».
بل قد ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربما كان يعطي الجواب مرة ومرة ومرة حتى يتضح للسائل، إلى غير ذلك.
وأما (المتشابهات) فلها فلسفة أخرى كما بيناه في محله(2).
ص: 195
مسألة: تجب طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) كما تجب طاعة الله عزوجل وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ووجوب محاربة أعدائه (عليه السلام) كذلك.
فإن علياً (عليه الصلاة والسلام) خيرة الله في خلقه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، فحبه حب الله، وبغضه بغض الله، وسلمه سلم الله، وحربه حرب الله، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وبالنسبة إلى سائر الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وكذلك الصديقة فاطمة (عليها السلام).
ولا مجال لاستغراب ذلك أو استبعاده، فإنه إذا كانت الملائكة هكذا فالأنبياء والأئمة والصديقة فاطمة (عليهم السلام) هم كذلك بطريق أولى، لأنهم أفضل من الملائكة، قال سبحانه: «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنين»(1) إلى قوله تعالى: «مَنْ كانَ عَدُوًّا للهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْريلَ وَ ميكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرينَ»(2)، حيث ذكر الله سبحانه الرسول (صلى الله عليه وآله) وجبريل وميكال والملائكة في عداد نفسهالمقدسة في حرمة المعاداة.
ص: 196
مسألة: يستحب تأكيد الشهادة بالحق باتباعها بالإقرار وما أشبه، كما صنعت الملائكة وسكان السماوات والأرض وحملة العرش حيث قالوا: «شهدنا وأقررنا».
ولعل الفرق أن الشهادة بالجوارح والإقرار بالجوانح، فالشهادة باللسان مثلاً والإقرار بالجنان.
عن الفتح، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ، فَقَالَ: الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ولَا شِبْهَ لَهُ ولَا نَظِيرَ، وأَنَّهُ قَدِيمٌ مُثْبَتٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ فَقِيدٍ، وأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ خِصَالٍ، الْإِقْرَارَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وخَلْع الْأَنْدَادِ، وأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ»(2).
مسألة: تستحب الشهادة للإمام علي (عليه السلام) بالولاية، وقد تجب، مع تنويع المضاف إليه بأن يشهد بأنه ولي الله، ثميشهد بأنه ولي رسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم يشهد بأنه ولي المؤمنين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).
ص: 197
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ وعِنْدَهُ حُمْرَانُ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا عِكْرِمَةُ فِي الْمَوْتِ وكَانَ يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ وكَانَ مُنْقَطِعاً إلى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقَالَ لَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَنْظِرُونِي حَتَّى أَرْجِع إِلَيْكُمْ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَمَا لَبِثَ أَنْ رَجَع فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَو أَدْرَكْتُ عِكْرِمَةَ قَبْلَ أَنْ تَقَع النَّفْسُ مَوْقِعَهَا لَعَلَّمْتُهُ كَلِمَاتٍ يَنْتَفِع بِهَا، ولَكِنِّي أَدْرَكْتُهُ وقَدْ وَقَعَتِ النَّفْسُ مَوْقِعَهَا، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ ومَا ذَاكَ الْكَلَام، قَالَ: هُو واللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَلَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والْوَلَايَةَ»(1).
مسألة: يستحب تكرار الشهادة بوحدانية الله ونبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإمامة علي (عليه السلام)، فإنها في حد ذاتها عبادة، ولمكان التلقين والإيحاء ولغير ذلك.
وفي دُعَاءُ عَلِيٍّ (عليه السلام) لِأَهْلِالْقُبُورِ:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَيْفَ وَجَدْتُمْ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اغْفِرْ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، واحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَلِيٌ وَلِيُ اللَّهِ»، فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ:
ص: 198
«مَنْ قَرَأَ هَذَا الدُّعَاءَ أَعْطَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ثَوَابَ خَمْسِينَ سَنَةً، وكَفَّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِ خَمْسِينَ سَنَةً ولِأَبَوَيْهِ أَيْضاً»(1).
ورَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): هَؤُلاءِ يَرْوُونَ حَدِيثاً فِي مِعْرَاجِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَأَى عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوباً: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ!!.
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ غَيَّرُوا كُلَّ شَيْ ءٍ حَتَّى هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ كَتَبَ عَلَيْهِ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْمَاءَ كَتَبَ فِي مَجْرَاهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْكُرْسِيَّ كَتَبَ عَلَى قَوَائِمِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ اللَّوْحَ كَتَبَ فِيهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ كَتَبَ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ جَبْرَئِيلَ كَتَبَ عَلَى جَنَاحَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ السَّمَاوَاتِ كَتَبَ فِي أَكْنَافِهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْأَرَضِينَ كَتَبَ فِي أَطْبَاقِهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْجِبَالَ كَتَبَ فِي رُءُوسِهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الشَّمْسَ كَتَبَ عَلَيْهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْقَمَرَ
ص: 199
كَتَبَ عَلَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وهُوَ السَّوَادُ الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْقَمَرِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلْيَقُلْ: عَلِيٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليهالسلام)»(1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ذات يوم راكباً وخرج علي (عليه السلام) ماشياً، فقال: يا أبا الحسن إمّا أن تركب وإمّا أن تنصرف، فإنّ اللّه أمرني أن تركب إذا ركبت، وتمشي إذا مشيت، وتجلس إذا جلست، إلّا أن يكون حداً من حدود اللّه لا بدّ لك من القيام والقعود لي فيه، ما أكرمني اللّه بكرامة إلاّ أكرمك مثلها»(2).
ص: 200
عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من درة بيضاء مجوّفة، وعليها باب مكلل بالدر والياقوت، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي، فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي القوم، وإذا مكتوب على الستر: بخ بخ مَن مثلُ شيعة علي.
فدخلته فإذا أنا بقصرٍ من عقيق أحمر مجوف، وعليه باب من فضة مكلل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر، فرفعت رأسي، فإذا مكتوب على الباب: محمد رسول الله، علي وصي المصطفى، وإذا على الستر مكتوب: بشّر شيعة علي بطيب المولد.
فدخلته فإذا أنا بقصر من زمرد أخضر مجوف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مكللة باللؤلؤ وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر: شيعة علي هم الفائزون.
فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذا؟
فقال: يا محمد لابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة إلاّ شيعة علي (عليه السلام) ، ويدعى الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا شيعة علي (عليه السلام) فإنهم يدعون بأسماء آبائهم.
ص: 201
فقلت: حبيبي جبرئيل وكيف ذاك؟
قال: لأنهم أحبوا علياً (عليه السلام) فطاب مولدهم.
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن حب علي (عليه السلام) علامة طيب المولد، وأن من يحب علياً (عليه السلام) طاب مولده.
ثم إن طيب المولد قد يكون في قبال ولد الزنا، وقد يكون في قبال ولد الشبهة، وقد يكون في قبال ولد الحيض، وقد يكون في قبال انعقاد النطفة من لقمة حرام أو شبهة، وقد يكون بمعنى إشراك الشيطان نفسه حين انعقاد النطفة، وقد يكون في قبال عدم كمال الطيب، ولا منافاة بين كونه ولداً حلالاً أي ليس بابن زنا حسب الموازين الشرعية، ومع ذلك لا طيب مولد له، بالمعنى الأخير أو بعض ما سبقه.
قال تعالى: «وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً»(1).
وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَيَّ شَيْ ءٍ يَقُولُالرَّجُلُ مِنْكُمْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَيَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَنْ يَقُولَ شَيْئاً، فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ مَا تَقُولُ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ: "بِكَلِمَاتِ
ص: 202
اللَّهِ اسْتَحْلَلْتُ فَرْجَهَا، وَفِي أَمَانَةِ اللَّهِ أَخَذْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ قَضَيْتَ لِي فِي رَحِمِهَا شَيْئاً فَاجْعَلْهُ بَارّاً تَقِيّاً، وَاجْعَلْهُ مُسْلِماً سَوِيّاً، وَلَا تَجْعَلْ فِيهِ شِرْكاً لِلشَّيْطَانِ" قُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْ ءٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ، قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ ابْتَدَأَ هُوَ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ»(1).
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجِي ءُ حَتَّى يَقْعُدَ مِنَ الْمَرْأَةِ كَمَا يَقْعُدُ الرَّجُلُ مِنْهَا، وَيُحْدِثُ كَمَا يُحْدِثُ، وَيَنْكِحُ كَمَا يَنْكِحُ، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْ ءٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ، قَالَ: بِحُبِّنَا وَبُغْضِنَا، فَمَنْ أَحَبَّنَا كَانَ نُطْفَةَ الْعَبْدِ، وَمَنْ أَبْغَضَنَا كَانَ نُطْفَةَ الشَّيْطَانِ»(2).
وعن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِي ءٍ، قَلِيلِ الْحَيَاءِ لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ لَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَتَّشْتَهُ لَمْ تَجِدْهُ إِلَّا لِغَيَّةٍ أَوْ شِرْكِ شَيْطَانٍ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي النَّاسِ شِرْكُ شَيْطَانٍ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَمَا تَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(3)، الحديث(4).
وعن عبد الله بن عباس، قال: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) جَالِسٌ إِذَا نَظَرَ إِلَى حَيَّةٍ كَأَنَّهَا بَعِيرٌ، فَهَمَّ عَلِيٌّ أَنْ يَضْرِبَهَا بِالْعَصَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّهُ إِبْلِيسُ وَإِنِّي قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِ شُرُوطاً مَا يُبْغِضُكَ مُبْغِضٌ إِلَّا شَارَكَ فِي
ص: 203
رَحِمِ أُمِّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(1)»(2).
وقال ابن عباس: كُنْتُ أَنَا وَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ شَخْصٌ عَظِيمٌ مِمَّا يَلِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ كَفِيلٍ، فَتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَالَ: لُعِنْتَ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَوَ مَا تَعْرِفُهُ، ذَاكَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، فَوَثَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَأَخَذَ بِنَاصِيَتِهِ وَخُرْطُومِهِ وَجَذَبَهُ فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَمَا عَلِمْتَ يَاعَلِيُّ أَنَّهُ قَدْ أُجِّلَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، فَتَرَكَهُ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ وَقَالَ: يَا عَلِيُّ دَعْنِي أُبَشِّرْكَ، فَمَا لِي عَلَيْكَ وَلَا عَلَى شِيعَتِكَ سُلْطَانٌ، وَاللَّهِ مَا يُبْغِضُكَ أَحَدٌ إِلَّا شَارَكْتُ أَبَاهُ فِيهِ كَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(3)، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): دَعْهُ يَا عَلِيُّ فَتَرَكَهُ»(4).
وعن ابن عباس في قوله: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(5)، أَنَّهُ جَلَسَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يَأْكُلَانِ الرُّطَبَ، فَقَالَ يَزِيدُ: يَا حَسَنُ إِنِّي مُذْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ، قَالَ الْحَسَنُ: اعْلَمْ يَا يَزِيدُ أَنَّ إِبْلِيسَ شَارَكَ أَبَاكَ فِي جِمَاعِهِ فَاخْتَلَطَ الْمَاءَانِ فَأَوْرَثَكَ ذَلِكَ عَدَاوَتِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ»، وَشَارَكَ الشَّيْطَانُ حَرْباً عِنْدَ جِمَاعِه
ص: 204
فَوُلِدَ لَهُ صَخْرٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ يُبْغِضُ جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)» (1).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ شِرْكِالشَّيْطَانِ قَوْلِهِ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»، قال: «مَا كَانَ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ فَهُوَ شِرْكُ الشَّيْطَانِ، قَالَ: وَيَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ حَتَّى يُجَامِعُ فَيَكُونُ مِنْ نُطْفَتِهِ وَنُطْفَةِ الرَّجُلِ إِذَا كَانَ حَرَاماً»(2).
مسألة: يجب السعي في سبيل هداية من لا يحب علياً (عليه السلام) حتى يحبه، ولزوم السعي هنا شرعي وعقلي، أما شرعاً فلما دل على وجوب حب علي (عليه الصلاة والسلام)، والأمر به من أهم مصاديق الأمر بالمعروف الواجب، والسعي إليه من السعي نحو الواجب المطلق.
وأما عقلاً فلأن العقل يلزم الإنسان بلزوم دفع الضرر الكثير بل حتى المحتمل منه، وفي عدم حبه (صلوات الله عليه) أكبر الضرر الأخروي والدنيوي كما لا يخفى.
مسألة: يستحب رواية هذا الحديث كما روته الصديقة فاطمة (عليها السلام). فإنهم (عليه
الصلاة والسلام) أسوة في كل ما قالوا وعملوا واعتقدوا إذا عرفنا
ص: 205
اعتقاداتهم القلبية، كما دلت على ذلك جملة من الآيات والروايات.
قال تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الله»(1).
فإذا عرفنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم واعتقد بوحدانية الله تعالى، وبأن الله ليس بجسم، وأنه يثيب المحسن ويعاقب المسيء، لا كما قالته الأشاعرة، وأنه خالق العالم من عدم، لا كما قاله بعض الفلاسفة من قدم العالم، وجب علينا أيضاً اتباعه في كل ذلك، وإذا كان هذا العلم متوقفاً على مقدمات وجب تحصيل تلك المقدمات للوصول إلى النتيجة.
ومن الواضح أن البرهان العقلي دل على كل ذلك، ولو فرض أن شخصاً لم تتم عنده البراهين العقلية، وجب عليه الإيمان بما يعتقده النبي (صلى الله عليه وآله) ويقوله، بمقتضى البراهين النقلية بعد إيمانه بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) حق مرسل من قبل الله، فحتى إن لم يطمئن إلى المعاد الجسماني والعروج الجسماني أو ما أشبه لزم أن يعتقد بها إذا ثبت أنه (صلى الله عليه وآله) كان معتقداً بها.
مسألة: يستحب بيان أوصاف الجنة ولطائف ما فيها وغرائبها، فإن بيانها يوجب شوق الإنسان إليها فيطيع الله تعالى ويصلح دنياه وآخرته، وكذلك بيان أوصاف النار بما يوجب تنفر الإنسان عنها، فلا يعصي الله كي لا يعذب بها، وقد أكثر القرآن الحكيم من ذكر الجنة والنار وأوصافهما، وكذلك الروايات الشريفة(2).
ص: 206
قال (عليه السلام) فِي وَصْفِ النَّارِ: «غَمْرٌ قَرَارُهَا، مُظْلِمَةٌ أَقْطَارُهَا، حَامِيَةٌ قُدُورُهَا، فَظِيعَةٌ أُمُورُهَا»(1).
وقال (عليه السلام) فِي وَصْفِ النَّارِ: «نَارٌ شَدِيدٌ كَلَبُهَا، عَالٍ لَجَبُهَا، سَاطِع لَهَبُهَا، مُتَأَجِّجٌ سَعِيرُهَا، مُتَغَيِّظٌ زَفِيرُهَا، بَعِيدٌ خُمُودُهَا، ذَاكٍ وَقُودُهَا، مُتَخَوِّفٌ وَعِيدُهَا»(2).
وفِي كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إلى أَهْلِ مِصْرَ فِي وَصْفِ النَّارِ: «قَعْرُهَا بَعِيدٌ، وحَرُّهَا شَدِيدٌ، وشَرَابُهَا صَدِيدٌ، وعَذَابُهَا جَدِيدٌ، ومَقَامِعُهَا حَدِيدٌ، لَا يَفْتُرُعَذَابُهَا، ولَا يَمُوتُ سَاكِنُهَا، دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ، ولَا تَسْمَع لِأَهْلِهَا دَعْوَةٌ»(3) الْخَبَرَ.
مسألة: يستحب بيان فضائل الشيعة ومناقبهم ومنزلتهم عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله) وأوليائه، فإن ذكر فضائلهم يوجب تشيع الناس وهدايتهم إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، مما يوجب لهم خير الدنيا والآخرة.
قال أبو جعفر (عليه السلام): «شيعتنا أولو الألباب»(4).
ص: 207
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إنه ليس أحد من شيعتنا يبتلى ببلية أو يشتكي فيصبر على ذلك إلا كتب الله له أجر ألف شهيد»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنَا مِنْ عِلِّيِّينَ، وَخَلَقَ أَرْوَاحَنَا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ، وَخَلَقَ أَرْوَاحَ شِيعَتِنَا مِنْ عِلِّيِّينَ، وَخَلَقَ أَجْسَادَهُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، فَمِنْأَجْلِ ذَلِكَ الْقَرَابَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ تَحِنُّ إِلَيْنَا»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «شِيعَتُنَا أَهْلُ الْهُدَى وَأَهْلُ التُّقَى وَأَهْلُ الْخَيْرِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَأَهْلُ الْفَتْحِ وَالظَّفَرِ»(3).
مسألتان: يلزم التأكيد على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى إمامة الوصي علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك بكثرة التكرار وغيره، فإن التأكيد على الأمور المهمة مؤثر جداً.
ومن الواضح أن ولاية علي (عليه الصلاة والسلام) ممتدة إلى ولاية سائر المعصومين من بعده (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولذا قال العلماء في قوله سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُون»(4)، إن الحصر غير مناف لولاية أولاده المعصومين (عليهم الصلاة
ص: 208
والسلام)، لأن ولاية سائر الأئمة (عليهم السلام)امتداد لولايته (عليه السلام).
ويمكن أن يقال: بأن «وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ...» شامل لسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بالعموم، لا بصرف كونهم امتداداً، وذلك لأن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) كلهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وهم راكعون، كما وردت بذلك الروايات، فالآية من جهة خاصة لأنها ليست لغيرهم(1)، ومن جهة عامة لأنها تشمل سائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
عن المفضل، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا» قال: «هم الأئمة عليهم السلام»(2).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَ: «وما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(3)، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْظَمُ وأَعَزُّ وأَجَلُّ وأَمْنَع مِنْ أَنْ يُظْلَمَ ولَكِنَّهُ خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظُلْمَهُ ووَلَايَتَنَا وَلَايَتَهُ حَيْثُ يَقُولُ«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا»(4) يَعْنِي الْأَئِمَّةَ مِنَّا، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِع آخَرَ: «وما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ(5).
ص: 209
مسألة: يجب الاعتقاد بأن شيعة علي (عليه السلام) هم الفائزون فحسب، ويستحب بيان ذلك وبيان أنه مكتوب في الجنة.
فإن هذا الاعتقاد يوجب أن لا ينحرف الإنسان عن اتباع علي (عليه الصلاة والسلام) إلى سائر الطرق والمذاهب.
لا يقال: فما بال أقوام الأنبياء السابقين؟
إذ يقال:
أولاً: الحصر إضافي بالقياس إلى أُمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وثانياً: ذهب بعض العلماء إلى أن ذلك عام لكل الأمم، وأنهم تُعرض عليهم في الآخرة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن أنكرها منهم لم يدخل الجنة، كما دلت على ذلك الروايات.
ثم إن الكتابة في الجنة تدل على أنه لا يدخل الجنان إلاّ من اعتقد بهذه المعتقدات وتحلى بهذه الصفات، دون من أنكرها، فهو من قبيل الشعار الدال على مؤداه.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُوقَفُ أَنَا وعَلِيٌ عَلَى الصِّرَاطِ، فَمَا يَمُرُّ بِنَا أَحَدٌ إِلَّا سَأَلْنَاهُ عَنْ وَلَايَةِ عَلِيٍّ، فَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ وإِلَّاأَلْقَيْنَاهُ فِي النَّارِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: «وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون»(1)»(2).
ص: 210
وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ونُصِبَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ مَعَهُ جَوَازٌ فِيهِ وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ»(1) يَعْنِي عَنْ وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»(2).
مسألة: يستحب تزيين الحياة وما فيها من الشوارع والحدائق وسائر المرافق العامة وغيرها بلافتات وملصقات وجداريات فيها أسماء أهل البيت (عليهم السلام) مع حفظ الموازين والشؤون التي تناسب هذه الأسماء الطاهرة، وكذلك كتابة أسمائهم وصفاتهم وكلماتهم ومواعظهم على جدران المكتبات والمدارس والمعامل والشركات والوزارات والمنازل والدوائر وغيرها،وكذا على ما يناسب من الملابس والأردية والأغطية، كما زين الله الجنة بأساميهم المباركة.
وقد وردت في روايات متواترة استحباب التسمية بأسمائهم (عليهم الصلاة والسلام)، ذكرنا جملة منها في كتاب «الفقه النكاح» في أحكام الأولاد.
وكذلك تستحب تسمية الجامعات والمدارس والمؤسسات والمساجد والحسينيات والمكتبات والشوارع المناسبة بأسمائهم الطيبة الطاهرة، وكم لذلك من أثر وضعي، وكم له من ثواب أخروي.
ص: 211
مسألة: يستحب في الجملة نداء المؤمن بكلمة (حبيبي) كما قال (صلى الله عليه وآله): «حبيبي جبرائيل».
فإن لفظ (الحبيب) وما أشبه يوجب تقارب القلوب أكثر فأكثر، ومن الواضح أن تقارب القلوب في المؤمنين يوجب التعاون وقوة السير في طريق الله سبحانه مما يوجب خير الدنيا وسعادة الآخرة.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِذَا أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَأَخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَثْبَتُ لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَكُمَا»(1).
وعَنْ نَصْرِ بْنِ قَابُوسَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِذَا أَحْبَبْتَ أَحَداً مِنْ إِخْوَانِكَ فَأَعْلِمْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) قَالَ: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»(2)»(3).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَحَبَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ فَإِنَّهُ أَصْلَحُلِذَاتِ الْبَيْن»(4).
ص: 212
مسألة: يستحب بيان كيفية حشر الناس وأنهم عراة حفاة، إلا شيعة علي (عليه السلام).
ولعل وجه أن الناس يحشرون حفاة عراة هو أن يكون الإنسان مجرداً عن كل العلائق والخصوصيات والمزايا وما إليه يستند وما به يتميز، فيحاسب بلا استناد إلى جهة أو شيء يتقوى به بزعمه.
قال تعالى: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»(1).
فعلى الإنسان أن يفكر دائماً في يوم المحكمة الكبرى، وأنه سيوقف ويسأل ويحاسب حساباً عسيراً أو يسيراً على حسب نوع أعماله واعتقاداته، فيراقب جوارحه وجوانحه كي لا ينحرف يميناً أو شمالاً فيهلك.
أما أن شيعة علي (عليه الصلاة والسلام) ليسوا حفاة، فلأنهم عملوا في الدنيا أعمالاً صالحةً، واعتقدوا اعتقادات صحيحة مما وقاهم عن حشرهم حفاة عراة.وهناك أعمال صالحة توجب الأمان في يوم القيامة.
قال (عليه السلام): «المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة»(2).
ص: 213
وعن الصادق (عليه السلام) قال: «بَيْنَمَا مُوسَى (عليه السلام) يُنَاجِي رَبَّهُ إِذْ رَأَى رَجُلًا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ أَظَلَّهُ عَرْشُكَ، قَالَ: هَذَا كَانَ بَارّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَمْشِ بِالنَّمِيمَةِ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ وَرِيَاشُهُمْ مِنْ نُورٍ، جُلُوسٌ عَلَى كَرَاسِيَّ مِنْ نُورٍ، إلى أن قال: «فَيُنَادِي مُنَادٍ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا يُيَسِّرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيُنْظِرُونَ الْمُعْسِرَ حَتَّى يُيَسَّرَ»(2).
وعن علي (عليه السلام) إنه قال: «تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فَأَسْبَغَ الطُّهْرَ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فَهَلَكَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ قَامَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ بَعْدَ مَا هَدَأَتِ الْعُيُونُ فَأَسْبَغَ الطُّهْرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ فَهَلَكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ»(3).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ خَرَجَ ضَارِباً فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَكُفُّ بِهِ نَفْسَهُ وَيَعُودُ عَلَى عِيَالِهِ»(4).
ص: 214
مسألة: يستحب بيان أنه يدعى الناس يوم القيامة بأسماء أمهاتهم إلا شيعة علي (عليه السلام) فإنهم يدعون بأسماء آبائهم، وذلك لطيب مولدهم بحبهم علياً (عليه السلام).
وهذا لا ينافي «لكل قوم نكاح»(1)، مما يقتضي طيب ولادتهم أي عدم كونهم ولد زنا، إما لأنه حكم ظاهري، أو لأن أمثال هذا الحديث في صدد بيان المبغضين في قبال المحبين، لا الذين هم بمعزل عن الحب والبغض مما يعبر عنهم بالمستضعفين، أو لتحقق أقسام من خبث المولد، فتأمل.
مسألة: يستحب بشارة شيعة علي (عليه السلام) كما بشرهم جبرئيل: «وبشر شيعة علي...».
فإن البشارة توجب عادة بقاء الإنسان على دينه ومعتقده، وقوة قلبه ورسوخ قدمه، وسروره وفرحه، كما أن الإنذار يوجب العكس، وقد ورد في صفةرسول الله (صلى الله عليه وآله) كونه بشيراً ونذيراً، وقد أكثر القرآن الحكيم من البشارة والإنذار.
قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً»(2).
ص: 215
وقال سبحانه: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً وَنَذيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»(1).
مسألة: يستحب أن يكون على الباب ستر، كما ورد في هذا الحديث، فإن ذلك وإن كان في الجنة إلا أن الكلي يستفاد من القرائن وسائر الأدلة.
هذا إذا لم يكن هنالك مزاحم أهم، كما روي عن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) حيث قلعت الستر وأرسلته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والحكمة في الاستحباب أنه يوجب الستر عما لا ينبغي رؤيته أو لما يجب ستره، كما هو واضح.
مسألة: دلت الروايات الكثيرة، ومنها هذه الرواية على أن الجنة وكذا النارمخلوقة منذ زمن طويل، لا أنها ستخلق فيما بعد.
ومنها ما دل على خلق الجنة من نور الإمام السحن والحسين (عليهما السلام).
ومنها روايات المعراج.
ومنها هذه الرواية، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه دخل الجنة ورأى كذا وكذا.
كما يمكن الاستناد في ذلك إلى أمثال قوله تعالى: «وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ
ص: 216
بِالْكَافِرِينَ»(1)
مسألة: الظاهر استحباب كتابة الشهادة بالتوحيد وبالنبوة والإمامة على الأبواب، للإطلاقات، بل ولدلالة مثل هذه الرواية على الرجحان الذاتي لذلك، أو بإلغاء الخصوصية.
مسألة: الظاهر استحباب الكتابة على الستر بما يذكر بالآخرة، أو بالرسول وأوصيائه (عليه
وعليهم السلام) أو بمكارمالأخلاق، أو بالنُذُر، أو بالبشائر، أو بأحداث التاريخ مما فيه عبرة أو ما أشبه.
وفي هذه الرواية: (وإذا مكتوب على الستر: بخ بخ من مثل شيعة علي).
وقد يستظهر أن مثل هذه الكلمات المكتوبة تفيد توثيق الارتباط بأمير المؤمنين (عليه السلام) وزيادة حبه وكثرة تذكره حتى في الجنة، فإن الظاهر أن فيها أيضاً الأسباب والمسببات، وإن كانت من نوع أعلى وأسمى بما لا تقاس به الدنيا.
ص: 217
مسألة: الظاهر أرجحية ذكر اسم الرسول والوصي (عليهما السلام) لدى الشهادة بالنبوة والإمامة، على ذكر الكنية دفعاً للتوهم، وقد يجب، كما في الأذكار المقررة في الفرائض المكتوبة(1)، أو حتى المستحبة إذا قصد الورود كما في الأذان.
مسألة: ينبغي ذكر مختلف جوانب الحادثة أو القضية ومختلف فوائد الشيء، خاصة إذا كان ذكر بعضها لا يغني عن ذكر بعض.
وفي مختلف الروايات ما يدل على أن الإمام علياً (عليه السلام): (ولي القوم) وهو (وصي المصطفى)، وهما أمران يتبع أحدهما الآخر(2) حسب الأدلة، وإن أمكن الانفكاك بالنظر لذاتهما، ومن هنا جاء التصريح بهما معاً في حقه (عليه السلام).
و(بخ بخ من مثل شيعة علي) و(بشّرشيعة علي بطيب المولد) و(شيعة علي هم الفائزون) ولعل هذه الثلاثة(3) متسلسلة فإن طيب المولد يتبعه كونهم الفائزين فيتبع ذلك المباهاة بهم.
ص: 218
مسألة: ينبغي - مع حفظ الموازين الشرعية - الفحص والتطلع والتنقيب عن المجهول وما لا يعلمه الإنسان، فإن في كشف ذلك عادة العبرة، وما يدل على عظمة الخالق وما يفيد معرفةً وعلماً نافعاً.
وفي هذه الرواية: (فرفعت رأسي ...) ثلاث مرات.
قال تعالى: «قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدير»(1).
وقال سبحانه: «قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكين»(2).
وقال عزوجل: «قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمين»(3).
مسألة: ربما يستحب وربما يجب قرن ذكر النسب بذكر الحسب، وذكر الصفة المكتسبة بالصفة اللازمة، وفي هذه الرواية يقول جبرئيل (عليه السلام): «لابنعمك ووصيك علي بن أبي طالب».
ص: 219
قال الراوي لفاطمة (عليها السلام): يا سيدتي إني سائلك عن مسألة تتلجلج في صدري؟
قالت: سل.
قلت: هل نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل وفاته على علي (عليه السلام) بالإمامة؟
قالت: واعجباه أنسيتم يوم غدير خم؟!
قلت: قد كان ذلك، ولكن أخبريني بما أسر إليك؟
قالت: أُشهد الله تعالى لقد سمعته (صلى الله عليه وآله) يقول: «علي خير من أخلفه فيكم، وهو الإمام والخليفة بعدي، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة».
قلت: يا سيدتي فما باله قعد عن حقه؟
قالت: لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مثل الإمام مثل الكعبة إذ تُؤتَى ولا تأتي» أو قالت: «مثل علي».
ثم قالت: «أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه لما اختلف في الله اثنان، ولورثها سلف عن سلف، وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله، حتى إذا ألحدوا
ص: 220
المبعوث، وأودعوه الجدث المجدوث، واختاروا بشهوتهم،وعملوا بآرائهم، تباً لهم، أو لم يسمعوا الله يقول: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ»(1)، بل سمعوا ولكنهم كما قال الله سبحانه: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2)، هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم ونسوا آجالهم، «فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ»(3)، أعوذ بك يا رب من الحور بعد الكور.
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وذلك لمتواتر النصوص، وهذا الوجوب وجوب عيني وليس كفائياً، تعييني وليس تخييرياً، كما أنه نفسي وليس غيرياً، فإن التعلم في الشؤون الاعتقادية واجب نفسي، وكذا الاعتقاد بها، فإنه في حد ذاته مطلوب وليست مطلوبيته مترشحة من غيره، وهو العمل المترتب على الاعتقاد مثلاً.
وقد ذكرنا في بعض الكتب أن هناك خصوصية للاثني عشر ليست في العدد الأكثر أو الأقل، وقد قال سبحانه: «وَبَعَثْنامِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقيباً»(4)، وقال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً في كِتابِ اللهِ»(5)، وما أشبه،
ص: 221
تطبيقاً للتكوين مع التشريع، وكذلك العكس.
مسألة: يجب الذهاب إلى الإمام والخليفة والأعلم والمرجع والمعلم ومن أشبه ذلك، دون انتظار المجيء منه.
فإن الأفضل يُزار ولا يزور، والمصداق الأظهر لذلك هو ما ذكر بالنسبة إلى علي (صلوات الله عليه) فإنه يجب على الناس أن يأتوه ويتعلموا من علمه ويطيعوه.
نعم هذا بيان وظيفة الناس وواجبهم، وأما الطرف الآخر فإن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع توفر الشروط لا يسقط بخذلان الناس وتقاعسهم، نعم لو دعى فلم يُجَب ويئس من الاستجابة سقط التكليف، وكذا في موارد التقية وما أشبه.
وكذلك فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث دعى الناس مراراً فخذلوه، حتى لم يجد احتمال التأثير في نهيه عن منكر غصبهم للخلافة، ومع ذلك لميترك التنبيه على ذلك والتذكير مرة إثر أخرى.
والظاهر أن كلام الصديقة (عليها السلام) كان لبيان جانب وظيفة الناس، أو كان جواباً على قدر قابلية القابل، أو أنه جواب إسكاتي، فتدبر.
ص: 222
مسألة: يستحب بيان قدرة الأئمة (عليهم السلام) من حيث الفكر والعمل والإدارة والمنهج والأخلاق والورع والزهد والعدل والحكمة، بحيث لو كانوا يحكمون لما كان يختلف في الله اثنان.
والمراد من (في الله) الأعم من حكم الله ومن معرفة الله وغير ذلك.
وأما أنهم لماذا لم يحكموا بأجمعهم، فلأن الله سبحانه خلق الدنيا دار امتحان، ومن المعلوم أن في دار الامتحان المجال مفتوح للحق والباطل، كما قال سبحانه: «كُلاً نُمِدُّ هَؤلاءِ وَهَؤلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ»(1)، وهكذا كان حال أنبياء الله ورسله (عليهم السلام) حيث لم يحكموا إلاّ قليلاً أو نادراً(2).وقوله (صلى الله عليه وآله): «إلى يوم القيامة»، إما يراد به القيامة الحقيقية، حيث إن بعد ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) أيضاً تبقى الدنيا دار امتحان ولو بنسبة، حيث بعض الاختلاف كما يظهر من الأحاديث الشريفة، أو أن المراد إلى يوم القيامة مجازاً ومبالغةً، أي يراد به الامتداد الطويل، لأن الإمام المهدي (عجل
ص: 223
الله فرجه) إذا ظهر «يَكُون الدّينُ كُلُّهُ للهِ»(1)، وكذلك في رجعة المعصومين (عليهم السلام) بعده.
ولا يخفى أن لحُسن الحكومة التأثير البالغ في تقليل الاختلافات في الله تعالى، فإن حسن الإدارة يوجب ائتلاف الناس وقلة الاختلاف بينهم، وإن كان الإنسان خلق من حيث طبيعته مختلفاً مما يوجب الاختلاف في الجملة.
ثم إن الاختلافات في الله سبحانه، مسبَّبة غالباً عن أمرين: عدم الوعي، وفساد الحكومات وإفسادها، فإن الحكومة إذا كانت فاسدةً سببت قلة الوعي بل وسببت الفرقة والاختلاف والتنازع حتى بين العلماء والواعين،بما تبذله لبعضهم من السلطة والمال والجاه فتغريه على الصالحين منهم، بينما أن الحكومة إذا كانت صالحة سبّبت الوعي وجمع الكلمة وتحكيم المنطق فيكون الاختلاف قليلاً.
مسألة: يستحب خطاب الصديقة فاطمة (عليها السلام) بكلمة (سيدتي)، وذلك لتقريرها (عليها السلام) ما ذكره الراوي، فإن التقرير حجة.
والظاهر أنه لا فرق بين كلمة (سيدتي) و(سيدتنا) و(يا سيدتي) وما أشبه ذلك وفي كل اللغات.
والظاهر أيضا استحباب خطابها (عليها السلام) بأية كلمة أخرى أفادت هذا المعنى أو ما يقرب منه، مثل (يا مولاتي) مما كان صواباً ومناسباً.
ص: 224
مسألة: يستحب الاستئذان للسؤال، كما استأذن الراوي من الصديقة فاطمة (عليها السلام) وأقرته على ذلك.
والاستئذان قد يكون خاصاً لكل سؤال سؤال، وقد يكون عاماً باستئذان واحد لجملة أسئلة، كما في التلميذ والطالب في الجملة.
والقول بالاستحباب لأنه أدب ونوع احترام وتوقير للمؤمن أو العالم، فيشمله أدلة الآداب والاحترام المطلقة، بالإضافة إلى ما دل على عموم الاستئذان في الآيات المباركة والروايات الشريفة، ولو بالملاك في بعضها، إلى غيرهما.
مسألة: يستحب إعطاء الإذن في السؤال ونظائره(1) لمن يستأذن، فيما إذا لم يكن محذور، كما أذنت الصديقة (عليها السلام) لهذا السائل بالسؤال بقولها: «سل».وإنما نقول بالاستحباب لا الإباحة، لأنه قضاء حاجة المؤمن وتلبية طلبه ونحوهما، وذلك من المستحبات.
ص: 225
مسألة: يستحب السؤال والاستفهام عما يتلجلج في الصدر، فإنه نوع تعلم، ورفع للشك والحيرة والوسوسة الشيطانية.
قال سبحانه: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون»(1).
ولما دل على استحباب السؤال عن كل شيء التزاماً أو تضمناً أو مطابقةً إلاّ ما خرج بالدليل، ولذا قالوا: اسأل عن كل شيء حتى يقال لك: مجنون.
مسألة: ينبغي إظهار العجب والاستغراب عن نسيان أمر عظيم كقضية الغدير، فإنه نوع إنكار للمنكَر، إذ نسيان مثل الغدير من أكبر المنكرات إذا كان لإهمال وشبهه، وإلاّ فمثل هذه القضية الكبرى الاستثنائية كيف تنسى، نعم قد يكون هناك التناسي.
ثم إن بيان التعجب في مثله يوجب تأكيد ذلك الأمر، والتأكيد في الأمور المهمة الشرعية مطلوب للشارع، ومنهنا نرى في القرآن الحكيم والسنة المطهرة التأكيد المكرر على الولاية والصلاة وسائر الفروض.
ولعل ذلك من أسباب إظهار الصديقة (صلوات الله عليها) العجب والاستغراب من نسيان الراوي حادثة الغدير، أو من تعامله معها تعامل الناسي، على أن إظهارها التعجب قد يكون تقريعاً للآخرين لا للسائل نفسه، إذ يحتمل
ص: 226
أن يكون ذاكراً غير ناس لكنه أراد بالسؤال أن يسمع غيره ممن تجاهل الغدير جوابها (عليها السلام) لتكون حجة جديدة عليهم.
مسألة: يستحب بل يجب بيان قصة الغدير.
كل في مورده، فإذا كانت القضية معروفة كان من المستحب بيانها تكراراً وتأكيداً، وإذا لم تكن معروفة للبعض وجب بيانها، لأن ذلك يرجع إلى أصول الدين وشؤون الإمامة.
قال تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر»(1) .
وفي آداب يوم الغدير: «وإِذَا تَلَاقَيْتُمْ فَتَصَافَحُوا بِالتَّسْلِيمِ وتَهَانَوُاالنِّعْمَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، ولْيُبَلِّغِ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ والشَّاهِدُ الْبَائِن»(2).
ورُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) أَنَّهُ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ وقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! أَنْصِتُوا لِمَا أَقُولُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَيُّهَا النَّاسُ! بَايَعْتُمْ أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وأَنَا واللَّهِ أَوْلَى مِنْهُمَا وأَحَقُّ مِنْهُمَا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَأَمْسَكْتُ، وأَنْتُمُ الْيَوْمَ تُرِيدُونَ تُبَايِعُونَ عُثْمَانَ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ وسَكَتُّ، واللَّهِ مَا تَجْهَلُونَ فَضْلِي ولَا جَهِلَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، ولَوْلا ذَلِكَ قُلْتُ مَا لَا تُطِيقُونَ دَفْعَهُ.
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: تَكَلَّمْ يَا أَبَا الْحَسَنِ!
ص: 227
إلى أن قال (عليه السلام): أَمْ هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِهِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، ولْيُبَلِّغِ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ، فَهَلْ كَانَ فِي أَحَدٍ غَيْرِي؟(1).
مسألة: يستحب التأكيد والحلف والاستشهاد بالله تعالى في أمر ولاية علي (عليه السلام)، وكذا في كل أمر مهم، كما قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (أشهد الله تعالى لقد سمعته)، وهي تعني: أجعل الله شاهداً وشهيداً علي.
ثم إن شهادة الله قد تكون عملية لا لفظية، فإن الكذب في الاستشهاد يوجب نقمة الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إياكم واليمين الفاجرة فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع»(2).
وهكذا بالنسبة إلى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى باللهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ»(3)، ولا يمكن للنبي والرسول (عليه الصلاة والسلام) أن يكذب - والعياذ بالله - على الله في رسالته، فإنه تعالى ينتقم عاجلاً، كما قرر في علم الكلام، وفي الآية الشريفة: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ
ص: 228
مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ»(1).
مسألة: يجب الاعتقاد بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) هو خير من خلّفه الرسول (صلى الله عليه وآله) في الناس، ويستحب بيان ذلك، فإن ما يرتبط بشؤون الإمامة مستحب في مقام الاستحباب وواجب في مقام الوجوب.
والذين خلّفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم الأئمة الطاهرون (عليهم الصلاة والسلام) ومن بعدهم العلماء الراشدون، قال (صلى الله عليه وآله): «اللهم ارحم خلفائي»، قيل: يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي»(2).
والمراد بقوله (صلى الله عليه وآله): (أخلفه فيكم) الفعلية، أي إن علياً (عليه السلام) الذي خلفته فيكم فعلاً، هو خيركم.
ويحتمل إرادة الإخبار المستقبلي والشأنية، فعلي (عليه السلام) خير من يخلف أو يمكن أن يخلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمته، ومثل هذه الجملة تدل على فعلية الاستخلاف أيضاً، لأن ما كان خيراً فقد فعله الرسول (صلى
الله عليهوآله) دون شك، والوجه الأول أظهر، كما لا يخفى.
ص: 229
مسألة: الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) واجب ارتباطي، فيجب الاعتقاد بأن علياً (عليه السلام) هو الإمام والخليفة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، ثم السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام) ثم التسعة المعصومين من صلب الحسين (عليهم السلام)، ولا يكفي الاعتقاد ببعضهم دون بعض، ويستحب بيان ذلك وقد يجب، والوجوب والاستحباب كل في مورده كما ذكرناه في المباحث الآنفة.
وقد تواترت الروايات بالنص عليهم.
عن فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ لِعَلِيٍّ عليه السلام: يَا عَلِيُّ أَنْتَ الْإِمَامُ والْخَلِيفَةُ بَعْدِي وأَنْتَ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَيْتَ فَابْنُكَ الْحَسَنُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الْحَسَنُ فَابْنُكَ الْحُسَيْنُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الْحُسَيْنُ فَابْنُكَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى جَعْفَرٌ فَابْنُهُ مُوسَى أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُوسَى فَابْنُهُ عَلِيٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَلِيٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ الْحَسَنُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الْحَسَنُ فَالْقَائِمُ الْمَهْدِيُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْحَقِّ، وأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ، مَنْصُورٌ مَنْ
ص: 230
نَصَرَهُمْ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُمْ»(1).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله): «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَمَنْ أُولُو الْأَمْرِ مِنْكُمْ الَّذِينَ قَرَنَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ بِطَاعَتِكَ.
فَقَالَ (عليه السلام): «خُلَفَائِي وأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ فِي التَّوْرَاةِ بِالْبَاقِرِ، وسَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُفَإِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ سَمِيِّي وكَنِيِّي حَجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وبَقِيَّتُهُ فِي عِبَادِهِ، ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ذَلِكَ الَّذِي يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى يَدِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، ذَلِكَ الَّذِي يَغِيبُ عَنْ شِيعَتِهِ وأَوْلِيَائِهِ غَيْبَةً لَا يَثْبُتُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ إِلَّا مَنِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ».
قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ لِشِيعَتِهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ.
فَقَالَ (عليه السلام): «والَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُمْ لَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ ويَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ إِنْ سَتَرَهَا سَحَابٌ، يَا جَابِرُ هَذَا مِنْ مَكْنُونِ سِرِّ اللَّهِ ومَخْزُونِ عِلْمِ اللَّهِ فَاكْتُمْهُ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ».
قَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ: فَدَخَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه
ص: 231
السلام) فَبَيْنَا يُحَدِّثُهُ إِذْ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (عليه السلام) مِنْ عِنْدِ نِسَائِهِ وعَلَى رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ وهُوَ غُلَامٌ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ جَابِرٌ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ وقَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ عَلَى جَسَدِهِ ونَظَرَ إِلَيْهِ مَلِيّاً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا غُلامُ أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، فَقَالَ جَابِرٌ: شَمَائِلُ رَسُولِاللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ورَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَامَ فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ يَا غُلامُ، قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: ابْنُ مَنْ، قَالَ: ابْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ فِدَاكَ نَفْسِي فَأَنْتَ إِذًا الْبَاقِرُ، قَالَ: نَعَمْ فَأَبْلِغْنِي مَا حَمَّلَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله).
قَالَ جَابِرٌ: يَا مَوْلَايَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بَشَّرَنِي بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ أَلْقَاكَ وقَالَ لِي: إِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَرَسُولُ اللَّهِ يَا مَوْلايَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): يَا جَابِرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلامُ مَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ وعَلَيْكَ يَا جَابِرُ بِمَا بَلَغَّتَ السَّلامَ.
فَكَانَ جَابِرٌ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ ويَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَنْ شَيْ ءٍ فَقَالَ جَابِرٌ: واللَّهِ لا دَخَلْتُ فِي نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّكُمُ الْأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بَعْدَهُ وأَحْكَمُ النَّاسِ صِغَاراً وأَعْلَمُ النَّاسِ كِبَاراً، فَقَالَ: لا تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): صَدَقَ جَدِّي (صلى
الله عليه وآله) إِنِّي أَعْلَمُ بِمَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ واللَّهِ أُوتِيتُ الْحُكْمَ وذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِعَلَيْنَا ورَحْمَتِهِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).
ص: 232
مسألة: يجب اتباع أهل البيت (عليهم السلام) في القضايا الدينية، كما يجب اتباعهم في القضايا السياسية والاقتصادية وغيرها، فإنهم (صلوات الله عليهم) هادون مهديون وهم حجج الله تعالى في جميع الأمور.
ولا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية.
أما الفقيه فرأيه حجة في الحكمية دون الموضوعية البحتة، نعم يحتج برأيه من باب كونه أهل خبرة في الموضوعات لو كان كذلك، لا من باب الفقاهة والمرجعية.
ومعنى الاتباع: أن يأتمر الإنسان بأوامرهم (عليهم السلام) وينتهي عن نواهيهم في كل شيء، ويعتقد بولايتهم وإمامتهم (عليهم السلام) وأنهم حجج الله تعالى.
مسألة: يحرم مخالفة أهل البيت (عليهم السلام).
فإن وجوب الاتباع يستلزم حرمة المخالفة، كما أن حرمة اتباعالمخالفين يوجب وجوب مخالفتهم، وهناك أدلة على الجانبين وجوباً وحرمةً.
وقد ذكروا في الأصول أن هناك حكماً واحداً إيجابياً أو سلبياً يلزمه الطرف الآخر، فما يذكر في الطرف الآخر فهو إرشاد إلى الأول، وقد ألمعنا إلى ذلك في بعض مباحث الكتاب.
ص: 233
نعم ربما يقال بوجود الملاك في الجانبين، فتأمل.
مسألة: يستحب بيان أنه لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه (صلى الله عليه وآله) وامتثلوا أمر الله في علي (عليه السلام) لما اختلف في الله تعالى اثنان، ولورثها من عينه الله تعالى سلفاً عن سلف... إلخ.
وربما وجب ذلك، وكل من الاستحباب والوجوب في مورده، فإذا توقف الاعتقاد عليه وجب لأنه من شؤون الإمامة.
ومن الواضح أن الناس إن اتبعوا الحق كانت لهم الحسنى في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
مسألة: يستحب ذكر القائم من آل محمد (عليهم السلام) والحديث عنه ووصفه بأنه التاسع من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) كما صنعت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).
وقد يجب على ما ذكرناه في المباحث الآنفة.
عن الورد بن الكميت، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث أنه أنشده أبياتاً إلى أن قال: فلما بلغت إلى قولي: «متى يقوم الحق فيكم متى» «يقوم
ص: 234
مهديكم الثاني» فقال: «سريعاً إن شاء اللّه»، ثم قال: «إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين، لأن الأئمة بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر؛ الثاني عشر هو القائم» قلت: يا سيدي فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ فقال: «أولهم علي بن أبي طالب وبعده الحسن وبعده الحسين، وبعد الحسين علي بن الحسين، وأنا، ثم بعدي هذا، ووضع يده على كتف جعفر»، قلت: فمن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه علي، وبعد علي ابنه محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراًوظلماً»(1).
وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): فَذَكَرَ الْمَهْدِيَّ الْقَائِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، واللَّهِ لَيَغِيبَنَّ حَتَّى يَقُولَ الْجُهَّالُ: مَا بَقِيَ لِلَّهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ يَطْلُعُ طُلُوعَ الْبَدْرِ فِي وَقْتِ تَمَامِهِ والشَّمْسِ فِي وَقْتِ إِشْرَاقِهَا فَتَقَرُّ عُيُونٌ وتَعْمَى عُيُونٌ»(2).
وعَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وقَدْ ذَكَرَ الْقَائِمَ (عليه السلام) فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي سُهُولَةٍ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَمْسَحُوا الْعَلَقَ والْعَرَقَ»(3).
ص: 235
مسألة: يحرم تأخير من قدمه الله تعالى.
والمراد بالتأخير: إما جعله في المرتبة المتأخرة، كما جعل أبناء العامة علياً (عليه السلام) رابع الخلفاء، وإما إلغاء دوره في التصدي.
وكذلك لا يجوز تقديم الإمام اللاحق على الإمام السابق في الإمامة، كما لا يجوز تقديم غير الأئمة على الأئمة (عليهم السلام)، كتقديم زيد بن علي (عليه السلام) على الإمام الباقر (عليه السلام)، وتقديم إسماعيل (عليه السلام) على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام).
وكذلك بالنسبة إلى الواقفة حيث لم يعترفوا بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام)، فكل إنكار لمن عينه الله تعالى فهو حرام.
والمرتبة تشمل المنصب والموقع والأدوار والاعتبار وما أشبه.
مسألة: يحرم تقديم من أخّره الله تعالى.
وهنا يأتي أيضاً ما ذكر في المباحث السابقة من أنه هل هذان حكمان في طرفين، أو حكم واحد وتأكيد، فإذا لميمكن جعل الحكمين لابد من أن ينظر إلى لسان الدليل حتى يعرف هل هو حكم إيجابي واجب أو حكم سلبي محرم، وفي كلا الحالين يلزمه الطرف الآخر لا أنه حكم مستقل، وإلاّ لزمه إنشاءان وثوابان وعقابان وما أشبه مما الدليل على خلافه.
ص: 236
نعم في مثل المقام من المحتمل وجود حكمين لأهمية الطرفين سلباً وإيجاباً، فتأمل.
مسألة: يكره أو يحرم اختيار الشهوات واتباعها، فإن الشهوات المباحة والمكروهة مكروه فعلها أو مباح، والشهوات المحرمة محرم ارتكابها.
وتقديم الشهوات حتى المباح منها في أمر الإمامة وما أشبه من أكبر المحرمات كما لا يخفى.
نعم هناك شهوات أمر بها الإسلام من طرقها المشروعة، كالزواج فهو مستحب.
وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:
«رَأْسُ التَّقْوَى تَرْكُ الشَّهْوَةِ».
و: «رَدُّ الشَّهْوَةِ أَقْضَى لَهَا وقَضَاؤُهَا أَشَدُّ لَهَا».و: «طَاعَةُ الشَّهْوَةِ تُفْسِدُ الدِّينَ».
و: «طَاعَةُ الشَّهْوَةِ هُلْكٌ ومَعْصِيَتُهَا مُلْكٌ».
و: «ظَفِرَ الهَوَى بِمَنِ انْقَادَ لِشَهْوَتِهِ».
و: «لَيْسَ فِي الْمَعَاصِي أَشَدُّ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ فَلَا تُطِيعُوهَا فَيَشْغَلَكُمْ».
و: «مِنْ مُطَاوِعَةِ الشَّهْوَةِ تُضَاعَفُ الْآثَامُ»(1).
ص: 237
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ، وأَقْبَلَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ وإِيَّاكَ أَنْ تَخْتَلِجَ دُونَهُ بِزَهْرَةِ رَغَبَاتِ الدُّنْيَا وغَضَارَةِ نَعِيمِهَا وبَائِدِ سُرُورِهَا وزَائِلِ عَيْشِهَا»، فَقَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَيْسَرُ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ ذَلِكَ الطَّرِيقُ، قَالَ: «السَّهَرُ الدَّائِمُ والظَّمَأُ فِي الْهَوَاجِرِ، وكَفُّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ وتَرْكُ اتِّبَاعِ الْهَوَى واجْتِنَابُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا» الْخَبَر(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ فِيمَا وَعَظَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى (عليه السلام) أَنْ قَالَ لَهُ: وافْطِمْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّهَوَاتِالْمُوبِقَاتِ، وكُلَّ شَهْوَةٍ تُبَاعِدُكَ مِنِّي فَاهْجُرْهَا»(2).
مسألة: يحرم الاجتهاد في مقابل النص، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): (عملوا بآرائهم).
فإن العمل بالرأي في مقابل النص محرم، سواء كان العمل عن اجتهاد وتبرير وتعليل، أو عن غير اجتهاد كتقليد وهوى، قال سبحانه: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً»(3).
ص: 238
إلى غير ذلك مما دل على الحرمة كتاباً وسنةً وإجماعاً وعقلاً.
قال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُون»(1).
وقال سبحانه: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَنْ يَعْصِ اللهَورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً»(2).
وقال أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ فَقَالَ: «وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(3) ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4) وقَالَ عَزَّ وجَلَّ: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ»(5) قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «وإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ فَوَّضَ إِلَى عَلِيٍّ وائْتَمَنَهُ، فَسَلَّمْتُمْ وجَحَدَ النَّاسُ، فَوَ اللَّهِ لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا، وأَنْ تَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، ونَحْنُ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلَافِ أَمْرِنَا»(6).
وقال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «لا واللَّهِ مَا فَوَّضَ اللَّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ
ص: 239
إِلَّا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الْأَئِمَّةِ، قَالَ عَزَّ وجَلَّ: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ»(1) وهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْأَوْصِيَاءِ (عليهمالسلام)» (2).
ولا فرق في حرمة الاجتهاد في مقابل النص بين كونه عن استحسان أو قياس أو غيرهما، كما نجد أن الكثيرين يطرحون النص لمجرد استغراب أو استبعاد أو استيحاش من الناس أو شبه ذلك.
كما لا فرق في حرمته بين تعارضه مع النص بالمباينة أو العموم من وجه أو العموم المطلق، فإن الاجتهاد بهذا المعنى لا يخصص عمومات الكتاب والسنة كما هو واضح.
مسألة: يستحب الذم والتقريع والدعاء على من خذل الحق وخالف الرب بالخسران والهلاك والنقصان، وقد يجب، كما قالت الصديقة (عليها السلام): (تباً لهم).
وهو تقريع ودعاء عليهم بنقص أرزاقهم وآجالهم، بل بخسران كل ما يملكوه بالهلاك في العاجل قبل الآجل، فإن (التب) ورد بكل تلك المعاني.
ص: 240
قال تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ»(1)، أيخسرت يداه وخسر هو.
وقال سبحانه: «وَمَا زادُهُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ»(2)، أي غير نقصان وخسران.
وقال عزوجل: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ في تَباب»(3).
و(تباً لك) منصوب بإضمار فعل واجب حذفه، ومعناه: ألزمك الله خسراناً وهلاكاً.
فإن ذلك كله قد يكون من صغريات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون واجباً، وربما كان مستحباً، كل في مورده، على ما ذكر تفصيله في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مسألة: يستحب الاستشهاد بالآيات الشريفة، فإن فيه اتباع القرآن الحكيم والأخذ به، وذلك بين واجب ومستحب، على ما قرر في (الفقه) ودل عليه النص والفتوى.
كما يستحب (الاقتباس) من الآيات الكريمة، وقد استشهدت (صلوات الله
ص: 241
عليها) بآيتين ثم اقتبست آية(1).
مسألة: بسط الآمال في الدنيا مرجوح، وهو بين مكروه وحرام، وهذا ما يستفاد من متواتر الآيات والروايات، وقد قال النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه وعلى آله الصلاة والسلام): «إنما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»(2)، إلى غير ذلك.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ صَلَاحَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ وَالْأَمَلِ»(3).
وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيَ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، أَمَّا الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ»(4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):«مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ»(5).
وقال (عليه السلام) في نهج البلاغة: «مَنْ جَرَى فِي عِنَانِ أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ»(6).
ص: 242
مسألة: يكره أو يحرم نسيان الأجل، أي تناسيه، أو فعل ما يوجب النسيان، فإن أكثر معاصي الإنسان أو وهنه عن العبادة وعن العمل الصالح يرجع إلى عدم التفكير بالأجل، وعدم استحضار الموت أمام العين طول الوقت.
والحرمة فيما إذا كان نسيان يوجب خوض المحرمات، وإلاّ كان مكروهاً، فتأمل.
وفي نهج البلاغة: فيمَا كتب أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليه) إلى مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ:
«عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ مِنْهُ فَوْتٌ، فَاحْذَرُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَإِنَّكُمْ طَرْدُ الْمَوْتِ، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ، وإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، وهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ، الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ، والدُّنْيَا تُطْوَى خَلْفَكُمْ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ عِنْدَ مَا تُنَازِعُكُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَثِيراً مَا يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ، حَائِلٌ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الشَّهَوَاتِ.
يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَنْ لَمْيُغْفَرْ لَهُ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ: الْقَبْرَ، فَاحْذَرُوا ضِيقَهُ وضَنْكَهُ وظُلْمَتَهُ وغُرْبَتَهُ، إِنَّ الْقَبْرَ يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ والْهَوَامِّ، والْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا دُفِنَ قَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: مَرْحَباً وأَهْلًا، لَقَدْ كُنْتَ مِمَّنْ أُحِبُّ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِي، فَإِذَا وُلِّيتُكَ
ص: 243
فَسَتَعْلَمُ كَيْفَ صُنْعِي بِكَ، فَتَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ الْبَصَرِ. وإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا دُفِنَ قَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: لَا مَرْحَباً ولَا أَهْلًا، لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَإِذَا وُلِّيتُكَ فَسَتَعْلَمُ كَيْفَ صُنْعِي بِكَ، فَتَضُمُّهُ حَتَّى تَلْتَقِيَ أَضْلَاعُهُ»(1).
وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ ومُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ ودَاعِيَ الشَّتَاتِ»(2).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وآله): أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فِي ضِيقٍ وَسَّعَهُ عَلَيْكُمْ فَرَضِيتُمْ بِهِ فَأُجِرْتُمْ، وإِنْ كُنْتُمْ فِي غِنًى بَغَّضَهُ إِلَيْكُمْ فَجُدْتُمْ بِهِ فَأُثِبْتُمْ، إِنَّ الْمَنَايَا قَاطِعَاتُ الْآمَالِ، واللَّيَالِي مُدْنِيَاتُ الْآجَالِ... إِنَّ الْعَبْدَ عِنْدَ خُرُوجِنَفْسِهِ وحُلُولِ رَمْسِهِ يَرَى جَزَاءَ مَا قَدَّمَ، وقِلَّةَ غَنَاءِ مَا خَلَّفَ، ولَعَلَّهُ مِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ ومِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ»(3).
وَكَانَ مِنْ دُعَاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إِذَا نُعِيَ إِلَيْهِ مَيِّتٌ، أَوْ ذَكَرَ الْمَوْتَ:
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، واكْفِنَا طُولَ الْأَمَلِ، وقَصِّرْهُ عَنَّا بِصِدْقِ الْعَمَلِ، حَتَّى لَا نُؤَمِّلَ اسْتِتْمَامَ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ، ولَا اسْتِيفَاءَ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، ولَا اتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ، ولا لُحُوقَ قَدَمٍ بِقَدَمٍ، وسَلِّمْنَا مِنْ غُرُورِهِ، وآمِنَّا مِنْ شُرُورِهِ، وانْصِبِ الْمَوْتَ بَيْنَ أَيْدِينَا نَصْباً، ولَا تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبّاً، واجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ عَمَلًا نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصِيرَ إِلَيْكَ، ونَحْرِصُ لَهُ عَلَى وَشْكِ اللَّحَاقِ بِكَ، حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذِي نَأْنَسُ بِهِ، ومَأْلَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ
ص: 244
إِلَيْهِ، وحَامَّتَنَا الَّتِي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا، فَإِذَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا وأَنْزَلْتَهُ بِنَا فَأَسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً، وآنِسْنَا بِهِ قَادِماً، ولَا تُشْقِنَا بِضِيَافَتِهِ، ولَا تُخْزِنَا بِزِيَارَتِهِ، واجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِكَ، ومِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيحِ رَحْمَتِكَ، أَمِتْنَا مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ، طَائِعِينَ غَيْرَ مُسْتَكْرِهِينَ، تَائِبِينَ غَيْرَ عَاصِينَ ولَا مُصِرِّينَ، يَا ضَامِنَ جَزَاءِالْمُحْسِنِينَ، ومُسْتَصْلِحَ عَمَلِ الْمُفْسِدِينَ»(1).
وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): حَدِّثْنِي مَا أَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ ذِكْرَهُ إِنْسَانٌ إِلَّا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا»(2).
مسألة: يستحب أن يتعوذ الإنسان بالله تعالى كما قالت الصديقة (عليها السلام): (أعوذ بك).
فإنه التجاء إليه سبحانه في أن يكفيه المكروه من أمور الدين والدنيا، وقد أمر الله تعالى بذلك، قال تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»(3).
وقال عزوجل: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ»(4).
وقال سبحانه: «وَقُلْ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ»(5).
ص: 245
إلى غير ذلك.أما قول الصديقة (عليها السلام) : (أعوذ بك يا رب من الحِوَر بعد الكِوَر) فيعني من فساد الأمور الدينية أو الدنيوية بعد صلاحها، أو من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة والتمام، وأصله من حور العمامة أي نقضها، وكورها هو دور العمامة، فإن كل دور هو كَور، تقول: حار عمامته إذا نقضها.
ثم إن التعوذ بالله من أهم الأسباب الغيبية للحفظ عن الحرام، لكن توجد أسباب ظاهرية أيضاً على الإنسان رعايتها كي يُصان، ومنها: الابتعاد عن مظان المعاصي، فإن (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(1).
قال تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ» (2).
وقال سبحانه: «فَاسْتَعِذْ باللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ» (3).
وقال عزوجل: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليم» (4).
وَكَانَ مِنْ دُعَاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْمَكَارِهِ وسَيِّئِ الْأَخْلَاقِ ومَذَامِّ الْأَفْعَالِ:
«اللَّهُمَّ إِنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَانِ الْحِرْصِ، وسَوْرَةِ الْغَضَبِ، وغَلَبَةِ
ص: 246
الْحَسَدِ، وضَعْفِ الصَّبْرِ، وقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ، وشَكَاسَةِ الْخُلُقِ، وإِلْحَاحِ الشَّهْوَةِ، ومَلَكَةِ الْحَمِيَّةِ، ومُتَابَعَةِ الْهَوَى، ومُخَالَفَةِ الْهُدَى، وسِنَةِ الْغَفْلَةِ، وتَعَاطِي الْكُلْفَةِ، وإِيثَارِ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ، والْإِصْرَارِ عَلَى الْمَأْثَمِ، واسْتِصْغَارِ الْمَعْصِيَةِ، واسْتِكْبَارِ الطَّاعَةِ، ومُبَاهَاةِ الْمُكْثِرِينَ، والْإِزْرَاءِ بِالْمُقِلِّينَ، وسُوءِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا، وتَرْكِ الشُّكْرِ لِمَنِ اصْطَنَعَ الْعَارِفَةَ عِنْدَنَا، أَوْ أَنْ نَعْضُدَ ظَالِماً، أَوْ نَخْذُلَ مَلْهُوفاً، أَوْ نَرُومَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، أَوْ نَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ونَعُوذُ بِكَ أَنْ نَنْطَوِيَ عَلَى غِشِّ أَحَدٍ، وأَنْ نُعْجِبَ بِأَعْمَالِنَا، ونَمُدَّ فِي آمَالِنَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ السَّرِيرَةِ، واحْتِقَارِ الصَّغِيرَةِ، وأَنْ يَسْتَحْوِذَ عَلَيْنَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَنْكُبَنَا الزَّمَانُ، أَوْ يَتَهَضَّمَنَا السُّلْطَانُ، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ تَنَاوُلِ الْإِسرَافِ، ومِنْ فِقْدَانِ الْكَفَافِ، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، ومِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْأَكْفَاءِ، ومِنْ مَعِيشَةٍ فِي شِدَّةٍ، ومِيتَةٍ عَلَى غَيْرِ عُدَّةٍ، ونَعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَسْرَةِ الْعُظْمَى، والْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى، وأَشْقَى الشَّقَاءِ، وسُوءِ الْمَآبِ، وحِرْمَانِ الثَّوَابِ، وحُلُولِ الْعِقَابِ، اللَّهُمَّصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِرَحْمَتِكَ وجَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(1).
وعن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْمُتَوَضَّإِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النِّجْسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، اللَّهُمَّ أَمِطْ عَنِّي الْأَذَى وأَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم»(2).
ص: 247
وسُئِلَ الصَّادِقُ (عليه السلام): عَنِ التَّعَوُّذِ مِنَ الشَّيْطَانِ عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ يَفْتَحُهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(1).
وَقَالَ الإمام الْعَسْكَرِيُّ (عليه السلام): «أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي نَدَبَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ وأَمَرَكَ بِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، والِاسْتِعَاذَةُ هِيَ مَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِمُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَفَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، ومَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ، أَدَّاهُ إِلَى الْفَلَاحِ الدَّائِمِ»(2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَعْصِيَةِ بِالاسْتِعَاذَةِ، وافْتَحُوا أَبْوَابَ الطَّاعَةِ بِالتَّسْمِيَة»(3).
مسألة: يحرم الجور بمختلف أنواعه وأشكاله، وتشتد الحرمة والعقوبة حسب متعلقه والمضاف إليه وغير ذلك، وأما (المقام) (4) فإن الجور فيه يعتبر من أشد أنواع الجور حرمةً وعقوبةً وقبحاً.
وقد دلت الأدلة الأربعة على حرمة الجور مطلقاً، كثيراً أم قليلاً.
كما يحرم الجور حتى على الحيوان كما ذكرناه في بعض كتبنا، بل وحتى الزرع في الجملة، والتفصيل في الفقه(5).
ص: 248
قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كما في نهج البلاغة:
«وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ»(1).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ»(2).
نعم في مثل (جُلب الشعيرة) فالمراد بعصيان الله سبحانه مخالفته في الأمر المكروه، فإنه ليس ذلك من المحرم في شيء.
مسألة: كما يحرم الخلاف في العقيدة الحقة، ويجب القبول بالعقائد الصحيحة المتعلقة بأصول الدين، يجب رفع الاختلاف منها.فإن العقائد الحقة لا تكون إلاّ عقيدة واحدة إذ لا يعقل حقية النقيضين أو الضدين أو السلب والإيجاب، كما حقق في المنطق، أما المادية الديالكتيكية التي يعبر عنها بالمادية الجدلية فقد ثبت عدم صحتها كما ذكرناه في بعض كتبنا(3).
ص: 249
مسألة: يحرم التشكيك في العقائد الحقة، وعلى من يفعل ذلك إثم من يضل ويزل وينحرف، والملاحظ أن منهج الأنبياء (عليهم السلام) والصالحين هو تثبيت الناس على العقائد الصحيحة، بل هو من أمر الله تعالى: «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمينَ وَ يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاء»(1)، وأما منهج المنحرفين والأبالسة والشياطين ومن شاكلهم فهو الوسوسة والتشكيك وإلقاء الشبهات.
قال سبحانه: «وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون»(2).
وقَالَتْ زَيْنَبُ (عليها السلام): «فَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ مُلْجَمٍ (لَعَنَهُ اللَّهُ) أَبِي (عليه السلام) ورَأَيْتُ عَلَيْهِ أَثَرَ الْمَوْتِ مِنْهُ، قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَيْمَنَ بِكَذَا وكَذَا، وقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ الْحَدِيثُ كَمَا حَدَّثَتْكِ أُمُّ أَيْمَنَ، وكَأَنِّي بِكِ وبِنِسَاءِ أَهْلِكِ سَبَايَا بِهَذَا الْبَلَدِ أَذِلَّاءَ خَاشِعِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَصَبْراً صَبْراً، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا لِلَّهِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَلِيٌّغَيْرُكُمْ وغَيْرُ مُحِبِّيكُمْ وشِيعَتِكُمْ، ولَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ أَخْبَرَنَا بِهَذَا الْخَبَرِ: إِنَّ إِبْلِيسَ (لَعَنَهُ اللَّهُ) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَطِيرُ فَرَحاً فَيَجُولُ الْأَرْضَ كُلَّهَا بِشَيَاطِينِهِ وعَفَارِيتِهِ فَيَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ الشَّيَاطِينِ قَدْ أَدْرَكْنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ
ص: 250
آدَمَ الطَّلِبَةَ، وبَلَغْنَا فِي هَلَاكِهِمْ الْغَايَةَ، وأَوْرَثْنَاهُمُ النَّارَ إِلاّ مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ، فَاجْعَلُوا شُغُلَكُمْ بِتَشْكِيكِ النَّاسِ فِيهِمْ، وحَمْلِهِمْ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وإِغْرَائِهِم بِهِمْ وأَوْلِيَائِهِمْ، حَتَّى تَسْتَحْكِمُوا ضَلَالَةَ الْخَلْقِ وكُفْرَهُمْ، ولا يَنْجُو مِنْهُمْ نَاجٍ. ولَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وهُوَ كَذُوبٌ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ مَعَ عَدَاوَتِكُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ ولا يَضُرُّ مَعَ مَحَبَّتِكُمْ ومُوَالاتِكُمْ ذَنْبٌ غَيْرُ الْكَبَائِرِ»، قَالَ زَائِدَةُ: ثُمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ: «خُذْهُ إِلَيْكَ مَا لَوْ ضَرَبْتَ فِي طَلَبِهِ آبَاطَ الْإِبِلِ حَوْلًا لَكَانَ قَلِيلًا»(1).
وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرَاغِيِّ قَالَ: وَرَدَ تَوْقِيعٌ عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ الْعَلَاءِ، وذَكَرَ تَوْقِيعاً شَرِيفاً يَقُولُ فِيهِ: «فَإِنَّهُ لا عُذْرَ لأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي التَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا، قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّانُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا ونُحَمِّلُهُمْ إِيَّاه اليهم»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاكاً، واتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، ودَبَّ ودَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ ونَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ، فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ، ونَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِه»(3).
ص: 251
عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: «أنسيتم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟! وقوله (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى»؟!.
-------------------------------------------
مسألة: يجب موالاة علي (عليه السلام) والاعتقاد بإمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه كان منه بمنزلة هارون من موسى (عليهم السلام) إلاّ أنه لا نبي بعده، فمن كان يؤمن بموسى ولا يؤمن بهارون لم يكن إيمانه كاملاً بل ليس بإيمان صحيح، وكذلك من آمن بالرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يؤمن بعلي (عليه الصلاة والسلام).
وكما أن موالاة الرسول (صلى الله عليه وآله) واجبة، كذلك تجب موالاة علي (عليه السلام)، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).
ص: 252
وقد سبق أن الإيمان بالرسول وبوصيه (عليهما السلام) معاً من الحقائق الارتباطية، فكما لا تصح الصلاة بركوع دون سجود أو العكس، كذلك لا يقبل ولا يصح إيمان بولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) دون ولاية وصيه (عليه السلام).
عَنْ أَبِي شِبْلٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) ابْتِدَاءً مِنْهُ:
«أَحْبَبْتُمُونَا وأَبْغَضَنَا النَّاسُ، وصَدَّقْتُمُونَا وكَذَّبَنَا النَّاسُ، ووَصَلْتُمُونَا وجَفَانَا النَّاسُ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَحْيَاكُمْ مَحْيَانَا ومَمَاتَكُمْ مَمَاتَنَا، أَمَا واللَّهِ مَا بَيْنَ الرَّجُلِ وبَيْنَ أَنْ يُقِرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُهُ هَذَا الْمَكَانَ».
وأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ فَمَدَّ الْجِلْدَةَ ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ، فَوَ اللَّهِ مَا رَضِيَ حَتَّى حَلَفَ لِي فَقَالَ:
واللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَحَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) بِذَلِكَ يَا أَبَا شِبْلٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُصَلُّوا ويُصَلُّوا فَيُقْبَلَ مِنْكُمْ ولَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُزَكُّوا ويُزَكُّوا فَيُقْبَلَ مِنْكُمْ ولَا يُقْبَلَمِنْهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَحُجُّوا ويَحُجُّوا فَيَقْبَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ مِنْكُمْ ولَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ، واللَّهِ مَا تُقْبَلُ الصَّلَاةُ إِلَّا مِنْكُمْ ولَا الزَّكَاةُ إِلَّا مِنْكُمْ ولَا الْحَجُّ إِلَّا مِنْكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّكُمْ فِي هُدْنَةٍ وأَدُّوا الْأَمَانَةَ، فَإِذَا تَمَيَّزَ النَّاسُ فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ كُلُّ قَوْمٍ بِهَوَاهُمْ وذَهَبْتُمْ بِالْحَقِّ مَا أَطَعْتُمُونَا، أَلَيْسَ الْقُضَاةُ والْأُمَرَاءُ وأَصْحَابُ الْمَسَائِلِ مِنْهُمْ».
قُلْتُ: بَلَى، قَالَ (عليه السلام): «فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا هَاهُنَا وهَاهُنَا وإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ حَيْثُ أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ اخْتَارَ مِنْ عِبَادِهِ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) فَاخْتَرْتُمْ خِيَرَةَ
ص: 253
اللَّهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى الْأَسْوَدِ والْأَبْيَضِ وإِنْ كَانَ حَرُورِيّاً وإِنْ كَانَ شَامِيّاً»(1).
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى الْمَوْقِفِ والنَّاسُ فِيهِ كَثِيرٌ، فَدَنَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ لَكَثِيرٌ، قَالَ: فَصَرَفَ بِبَصَرِهِ فَأَدَارَهُ فِيهِمْ ثُمَّ قَالَ: «ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ غُثَاءٌ يَأْتِي بِهِ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، لَا واللَّهِ مَا الْحَجُّ إِلَّا لَكُمْ، لَا واللَّهِ مَايَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِلَّا مِنْكُمْ»(2).
مسألة: يجب تذكير الناس بما نسوه أو تناسوه من أصول الدين وفروعه.
فإن قول الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام): «أنسيتم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ...» خير دليل على ذلك، هذا بالإضافة إلى الأدلة العقلية والشرعية الأخر التي تدل على لزوم تذكير الناس بما نسوه كما يلزم تعليمهم ما جهلوه.
ولا يخفى أن (التذكير) لا ينحصر بالكلام، بل يعم الكتابة والإشارة والنُصُب والرسم وغيرها، كما أن التذكير يعم من كان بالمباشرة وما كان بواسطة أو وسائط، والواسطة أعم من كونها عاقلة أو غير عاقلة كالآلة(3).
ص: 254
قال تعالى: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَا تَصَدَّقَالنَّاسُ بِصَدَقَةٍ مِثْلَ عِلْمٍ يُنْشَرُ»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَرْءُ عِلْماً ثُمَّ يُعَلِّمُهُ أَخَاهُ»(3).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَا أَهْدَى الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ إِلَى أَخِيهِ هَدِيَّةً أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ حِكْمَةٍ يَزِيدُهُ اللَّهُ بِهَا هُدًى ويَرُدُّهُ عَنْ رَدًى»(4).
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الجواد (عليه السلام): «إِنَّ مَنْ تَكَفَّلَ بِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدٍ الْمُنْقَطِعِينَ عَنْ إِمَامِهِمْ، الْمُتَحَيِّرِينَ فِي جَهْلِهِمْ، الْأُسَرَاءِ فِي أَيْدِي شَيَاطِينِهِمْ، وفِي أَيْدِي النَّوَاصِبِ مِنْ أَعْدَائِنَا، فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهُمْ، وأَخْرَجَهُمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ، وقَهَرَ الشَّيَاطِينَ بِرَدِّ وَسَاوِسِهِمْ، وقَهَرَ النَّاصِبِينَ بِحُجَجِ رَبِّهِمْ، ودَلِيلِ أَئِمَّتِهِمْ، لَيُفَضَّلُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَابِدِ بِأَفْضَلِ الْمَوَاقِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَضْلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، والْعَرْشِ والْكُرْسِيِّ والْحُجُبِ عَلَى السَّمَاءِ، وفَضْلُهُمْ عَلَى هَذَا الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَخْفَى كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ»(5).وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام): يُقَالُ لِلْعَابِدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نِعْمَ الرَّجُلُ كُنْتَ هِمَّتُكَ ذَاتُ نَفْسِكَ، وكَفَيْتَ النَّاسَ مَئُونَتَكَ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. ألا إنَّ
ص: 255
الْفَقِيهَ مَنْ أَفَاضَ عَلَى النَّاسِ خَيْرَهُ، وأَنْقَذَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، ووَفَّرَ عَلَيْهِمْ نِعَمَ جِنَانِ اللَّهِ، وحَصَلَ لَهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُقَالُ لِلْفَقِيهِ: يَا أَيُّهَا الْكَافِلُ لِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدِ، الْهَادِي لِضُعَفَاءِ مُحِبِّيهِ ومَوَالِيهِ قِفْ حَتَّى تَشْفَعَ لِكُلِّ مَنْ أَخَذَ عَنْكَ أَوْ تَعَلَّمَ مِنْكَ. فَيَقِفُ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ومَعَهُ فِئَاماً وفِئَاماً حَتَّى قَالَ عَشْراً، وهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ عُلُومَهُ، وأَخَذُوا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْظُرُوا كَمْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) من الرسول (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) فهو (عليه السلام) الوصي من بعده (صلى الله عليه وآله).
فإن ذكر فضائل علي (عليه الصلاة والسلام) مطلقاً من المستحب، وربما يكون واجباً إذا كان مقدمةً لتصحيح العقيدة، وحديثالمنزلة حديث متواتر رواه العامة والخاصة(2).
ص: 256
مسألة: الظاهر من عموم الموصول في قوله (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه ...» شمول ولايته (صلى الله عليه وآله) وولاية علي (عليه السلام) لجميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وغيرهم ممن هو مكلف، ولو ادعي الانصراف للبشر فهو بدوي كما لا يخفى على من لاحظ الأدلة المصرحة بالتعميم، وعدم ذكر (ما) أي الولاية على ما لا يعقل، لكون الغرض الأهم من الكلام هو (الولاية على من يعقل) وإلا فولايتهم (عليهم السلام) عامة لمن ولما.
مسألة: الظاهر أن قوله (صلى الله عليه وآله) : «بمنزلة هارون...» أعم من الوضع والتكليف، فالوضع كالقرب والمنصب والخلافة وما أشبه، والتكليف كلزوم الاتباع وغيره.
عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى
الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، قَالَ: (اسْتَخْلَفَهُ بِذَلِكَواللَّهِ عَلَى أُمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ وبَعْدَ وَفَاتِهِ، وفَرَضَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ، فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ بِالْخِلَافَةِ فَهُوَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(1).
ص: 257
قال الصدوق (قدس الله روحه): (أجمعنا وخصومنا على نقل قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي». فهذا القول يدل على أن منزلة علي منه (عليهما السلام) في جميع أحواله بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) في جميع أحواله إلا ما خصه به الاستثناء الذي في نفس الخبر، فمن منازل هارون من موسى أنه كان أخاه ولادةً والعقل يخص هذه ويمنع أن يكون النبي (صلى
الله عليه وآله) عناها بقوله، لأن علياً لم يكن أخاً له ولادة، ومن منازل هارون من موسى أنه كان نبياً معه، واستثناء النبي يمنع من أن يكون علي (عليه
السلام) نبياً، ومن منازل هارون من موسى بعد ذلك أشياء ظاهرة وأشياء باطنة، فمن الظاهرة أنه كان أفضل أهل زمانه وأحبهم إليه وأخصهم به وأوثقهم في نفسه، وأنه كان يخلفه على قومه إذاغاب موسى (عليه السلام) عنهم، وأنه كان بابه في العلم، وأنه لو مات موسى وهارون حي كان هو خليفته بعد وفاته، والخبر يوجب أن هذه الخصال كلها لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)، وما كان من منازل هارون من موسى باطناً وجب أن الذي لم يخصه العقل منها كما خص أخوة الولادة فهو لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى
الله عليه وآله) وإن لم نحط به علماً لأن الخبر يوجب ذلك، وليس لقائل أن يقول: إن يكن النبي (صلى الله عليه وآله) عنى بعض هذه المنازل دون بعض فيلزمه أن يقال عنى البعض الآخر دون ما ذكرته فيبطل جميعاً حينئذ أن يكون عنى معنى بتة ويكون الكلام هذراً والنبي لا يهذر في قوله، لأنه إنما كلمنا ليفهمنا ويعلمنا (عليه السلام) فلو جاز أن يكون عنى بعض منازل هارون من موسى دون بعض ولم يكن في الخبر تخصيص ذلك لم يكن أفهمنا بقوله قليلا ولا كثيراً، ولما لم يكن ذلك وجب أنه قد عنى كل منزلة كانت لهارون من موسى مما لم يخصه العقل ولا الاستثناء في
ص: 258
نفس الخبر، وإذا وجب ذلك فقد ثبتت الدلالة على أن علياً عليه السلام أفضل أصحاب رسول الله وأعلمهم وأحبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوثقهم في نفسه، وأنه يجب له أن يخلفه على قومهإذا غاب عنهم غيبة سفر أو غيبة موت، لأن ذلك كله كان في شرط هارون ومنزلته من موسى)(1).
مسألة: يستحب التنويع في ذكر الأحاديث الدالة على المطلب الحق، وليس الاقتصار على حديث واحد وإن كان في حد ذاته كافياً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُريكُمْ دارَ الْفاسِقينَ»(2)
ص: 259
عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: إن النبي (عليه الصلاة والسلام) قال: «من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه».
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان مقام علي (عليه السلام) وأنه كالنبي (صلى الله عليه وآله) في كونه إماماً وولياً، فهو الإمام على كل من كان (صلى الله عليه وآله) إمامه ووليه، والأدلة دلت على أنه يساويه مطلقاً إلاّ فيما خرج، وذلك لظهور الكلام في تساويهما (صلوات الله عليهما) إلا فيما استثني كالنبوة، ومنه يستفاد أن علياً (عليه السلام) هو الولي والإمام من بعده (صلى الله عليه وآله) لمن كان النبي (صلى الله عليه وآله) وليه وإمامه.
بالإضافة إلى ما دل على أنهم (صلوات الله عليهم) نور واحد، فالولاية والإمامة ووجوب الطاعة وحرمة المخالفة وما أشبه، كلها مشتركة بينهما (صلوات الله عليهما)، كما أنها كذلك بالنسبة إلى سائر المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) مع حفظ مراتبهم في الفضل.وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أفضل الخلق، ومن
ص: 260
بعده علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) سواء، ومن بعدهما الحسن (عليه السلام) ثم الحسين (عليه السلام) ثم القائم (عليه الصلاة والسلام) فإنه أفضل من الأئمة الثمانية قبله، ثم الأئمة من الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى الإمام العسكري (عليه السلام) في مرتبة الفضل سواء، كما يستفاد ذلك من بعض النصوص.
مسألة: الظاهر أن مراتبَ من الولاية هي لعلي (عليه السلام) في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي في طول ولايته، وأما الولاية العظمى فله (عليه السلام) بعد رحيله (صلى الله عليه وآله)، وكذا الحال في كل إمام يلي إماماً (صلوات الله عليهم أجمعين).
عَنِ الرِّضَا (عليه السلام): «فَإِنْ قَالَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ: لِعِلَلٍ، مِنْهَا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَخْتَلِفُ فِعْلُهُ وتَدْبِيرُهُ، والِاثْنَيْنِ لَا يَتَّفِقُ فِعْلُهُمَا وتَدْبِيرُهُمَا، وذَلِكَ أَنَّا لَمْ نَجِدِ اثْنَيْنِ إِلَّا مُخْتَلِفَيِ الْهِمَمِ والْإِرَادَةِ فَإِذَا كَانَا اثْنَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَمُّهُمَا وإِرَادَتُهُمَا وتَدْبِيرُهُمَا وكَانَا كِلَاهُمَا مُفْتَرَضَيِ الطَّاعَةِلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَكَانَ يَكُونُ اخْتِلَافُ الْخَلْقِ والتَّشَاجُرُ والْفَسَادُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ أَحَدٌ مُطِيعاً لِأَحَدِهِمَا إِلَّا وهُوَ عَاصٍ لِلْآخَرِ فَتَعُمُّ الْمَعْصِيَةُ أَهْلَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ السَّبِيلُ إِلَى الطَّاعَةِ والْإِيمَانِ ويَكُونُونَ إِنَّمَا أُتُوْا فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الصَّانِعِ الَّذِي وَضَعَ لَهُمْ بَابَ الِاخْتِلَافِ والتَّشَاجُرِ إِذْ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُخْتَلِفَيْنِ.
ومِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِمَامَانِ لَكَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى غَيْرِ مَا
ص: 261
يَدْعُو إِلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي الْحُكُومَةِ ثُمَّ لايَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يُتَّبَعَ مِنْ صَاحِبِهِ فَتَبْطُلُ الْحُقُوقُ والْأَحْكَامُ والْحُدُودُ.
ومِنْهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنَ الْحُجَّتَيْنِ أَوْلَى بِالنُّطْقِ والْحُكْمِ والْأَمْرِ والنَّهْيِ مِنَ الْآخَرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَبْتَدِئَا بِالْكَلَامِ ولَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْبِقَ صَاحِبَهُ بِشَيْ ءٍ إِذَا كَانَا فِي الْإِمَامَةِ شَرَعاً وَاحِداً، فَإِنْ جَازَ لِأَحَدِهِمَا السُّكُوتُ جَازَ السُّكُوتُ لِلْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وإِذَا جَازَ لَهُمَا السُّكُوتُ بَطَلَتِ الْحُقُوقُ والْأَحْكَامُ وعُطِّلَتِ الْحُدُودُ وصَارَ النَّاسُ كَأَنَّهُمْ لَا إِمَامَ لَهُمْ»(1).
وعَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) هَلْ يُتْرَكُ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ، قَالَ: «لا»، قُلْتُ: فَيَكُونُ إِمَامَانِ، قَالَ: «لَا إِلَّا وأَحَدُهُمَا صَامِتٌ»(2).
وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَامِتاً مَأْمُوماً لِصَاحِبِهِ، والْآخَرُ نَاطِقاً إِمَاماً لِصَاحِبِهِ، وأَمَّا أَنْ يكونا إِمَامَيْنِ نَاطِقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا»(3).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَ:
ص: 262
«وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وقَصْرٍ مَشِيدٍ»(1)، فَقَالَ: «الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ الْإِمَامُ الصَّامِتُ، والْقَصْرُ الْمَشِيدُ الْإِمَامُ النَّاطِقُ»(2).
وعَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه
السلام) قَالَ: «لَا يَكُونُ إِمَامَانِ إِلَّا وأَحَدُهُمَا صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يَمْضِيَالْأَوَّلُ»(3).
ص: 263
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «كأنكم لم تعلموا ما قال (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء، ليقطع منكم منها الرجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة».
-------------------------------------------
مسألة: يجب الدفاع عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وإمامته، وربما كان باللسان أو بالموقف أو ما أشبه.
فإن الدفاع عن الحق واجب في نفسه عقلاً وشرعاً، ودفاع الصديقة (عليها الصلاة والسلام) مصداق من أهم مصاديق هذا الكلي، بل هو أهمها على الإطلاق ولا يدانيه إلاّ الدفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونبوته.
وكذلك الحكم في الدفاع عن سائر المعصومين (عليهم السلام)، وهي (صلوات الله عليها) أسوة فاللازم الاقتداء بها في الدفاع عن الولاية.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي شَافِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ ولَوْ جَاءُوا بِذُنُوبِأَهْلِ الدُّنْيَا، رَجُلٌ نَصَرَ ذُرِّيَّتِي، ورَجُلٌ بَذَلَ مَالَهُ لِذُرِّيَّتِي عِنْدَ الْمَضِيقِ، ورَجُلٌ أَحَبَّ ذُرِّيَّتِي بِاللِّسَانِ
ص: 264
وبِالْقَلْبِ، ورَجُلٌ يَسْعَى فِي حَوَائِجِ ذُرِّيَّتِي إِذَا طُرِدُوا أَوْ شُرِّدُوا»(1).
ومن أهم مصاديق نصرة الذرية نصرتهم (عليهم السلام) في ولايتهم.
وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ تَمَسَّكَ بِنَا لَحِقَ، ومَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِنَا غَرِقَ، لِمُحِبِّينَا أَفْوَاجٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، ولِمُبْغِضِينَا أَفْوَاجٌ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ»، وقَالَ عليه السلام: «مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ وأَعَانَنَا بِلِسَانِهِ وقَاتَلَ مَعَنَا أَعْدَاءَنَا بِيَدِهِ فَهُمْ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا، ومَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ وأَعَانَنَا بِلِسَانِهِ ولَمْ يُقَاتِلْ مَعَنَا أَعْدَاءَنَا فَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ بِدَرَجَةٍ، ومَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ ولَمْ يُعِنَّا بِلِسَانِهِ ولَا بِيَدِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، ومَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ وأَعَانَ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ ويَدِهِ فَهُوَ مَعَ عَدُوِّنَا فِي النَّارِ، ومَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ ولَمْ يُعِنْ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ ولَا بِيَدِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ»(2).
وفي الحديث: دَخَلَ عَلَى أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَطِئَ أَحَدُهُمَا عَلَى حَيَّةٍ فَلَدَغَتْهُ، ووَقَعَ عَلَى الْآخَرِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ حَائِطٍ عَقْرَبٌ فَلَسَعَتْهُ وسَقَطَا جَمِيعاً، فَكَأَنَّهُمَا لِمَا بِهِمَا يَتَضَرَّعَانِ ويَبْكِيَانِ، فَقِيلَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام). فَقَالَ: «دَعُوهُمَا فَإِنَّهُ لَمْ يَحِنْ حِينُهُمَا، ولَمْ تَتِمَّ مِحْنَتُهُمَا»، فَحُمِلَا إِلَى مَنْزِلَيْهِمَا، فَبَقِيَا عَلِيلَيْنِ الِيمَيْنِ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ شَهْرَيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَعَثَ إِلَيْهِمَا فَحُمِلَا إِلَيْهِ، والنَّاسُ يَقُولُونَ: سَيَمُوتَانِ عَلَى أَيْدِي الْحَامِلِينَ لَهُمَا. فَقَالَ لَهُمَا: «كَيْفَ حَالُكُمَا»، قَالا: نَحْنُ بِأَلَمٍ عَظِيمٍ، وفِي عَذَابٍ شَدِيدٍ.
قَالَ لَهُمَا: «اسْتَغْفِرَا اللَّهَ مِنْ كُلِ ذَنْبٍ أَدَّاكُمَا إِلَى هَذَا، وتَعَوَّذَا بِاللَّهِ مِمَّا
ص: 265
يُحْبِطُ أَجْرَكُمَا، ويُعْظِمُ وِزْرَكُمَا». قَالا: وكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَلِيٌ (عليه
السلام): «مَا أُصِيبَ وَاحِدٌ مِنْكُمَا إِلَّا بِذَنْبِهِ: أَمَّا أَنْتَ يَا فُلَانُ - وأَقْبَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا - فَتَذْكُرُ يَوْمَ غَمَزَ عَلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (رَحِمَهُ
اللَّهُ) فُلَانٌ، وطَعَنَ عَلَيْهِ لِمُوَالاتِهِ لَنَا، فَلَمْ يَمْنَعْكَ مِنَ الرَّدِّ والِاسْتِخْفَافِ بِهِ، خَوْفٌ عَلَى نَفْسِكَ ولَا عَلَى أَهْلِكَ ولَا عَلَى وُلْدِكَ ومَالِكَ، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَهُ، فَلِذَلِكَ أَصَابَكَ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ مَا بِكَ، فَاعْتَقِدْ أَنْ لا تَرَى مُزْرِئاً عَلَى وَلِيٍّ لَنَا تَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ بِظَهْرِالْغَيْبِ إِلَّا نَصَرْتَهُ، إِلَّا أَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ أَهْلِكَ أَوْ وُلْدِكَ أَوْ مَالِكَ».
وَقَالَ لِلآخَرِ: «فَأَنْتَ، أَفَتَدْرِي لِمَا أَصَابَكَ مَا أَصَابَكَ».
قَالَ: لا.
قَالَ: «أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ أَقْبَلَ قَنْبَرٌ خَادِمِي، وأَنْتَ بِحَضْرَةِ فُلَانٍ الْعَاتِي، فَقُمْتَ إِجْلَالًا لَهُ لِإِجْلَالِكَ لِي، فَقَالَ لَكَ: وتَقُومُ لِهَذَا بِحَضْرَتِي! فَقُلْتَ لَهُ: ومَا بَالِي لَا أَقُومُ ومَلَائِكَةُ اللَّهِ تَضَعُ لَهُ أَجْنِحَتَهَا فِي طَرِيقِهِ، فَعَلَيْهَا يَمْشِي، فَلَمَّا قُلْتَ هَذَا لَهُ، قَامَ إِلَى قَنْبَرٍ وضَرَبَهُ وشَتَمَهُ، وآذَاهُ، وتَهَدَّدَهُ وتَهَدَّدَنِي، وأَلْزَمَنِي الْإِغْضَاءَ عَلَى قَذًى، فَلِهَذَا سَقَطَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْحَيَّةُ. فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا، فَاعْتَقِدْ أَنْ لَا تَفْعَلَ بِنَا، ولَا بِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا بِحَضْرَةِ أَعْدَائِنَا مَا يُخَافُ عَلَيْنَا وعَلَيْهِمْ مِنْهُ.
أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ مَعَ تَفْضِيلِهِ لِي، لَمْ يَكُنْ يَقُومُ لِي عَنْ مَجْلِسِهِ إِذَا حَضَرْتُهُ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِبَعْضِ مَنْ لَا يُعَشِّرُ مِعْشَارَ جُزْءٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ إِيجَابِهِ لِي، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ بَعْضَ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَلَى مَا يَغُمُّهُ ويَغُمُّنِي ويَغُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وقَدْ كَانَ يَقُومُ لِقَوْمٍ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ ولا عَلَيْهِمْ
ص: 266
، مِثْلَ مَا خَافَ عَلَيَّلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِي»(1).
مسألة: يحرم قطع الأسباب بين الأمة وبين النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو كناية عن عدم اتباعه فكيف بمخالفته، وكيف بالجهر بعصيانه، ثم كيف بتأليب الناس ضده؟.
فإن كل ذلك من أشد الحرمات، ويدخل في قائمة الإضلال والبدع وتخريب عقائد الناس، ومنه ما يدخل في قائمة الإفساد في الأرض ومحاربة الله ورسوله، قال تعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيم»(2).
ولقد قطعوا الأسباب بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) بقولهم: (إنه ليهجر) و(غلبه الوجع) وما أشبه، ثم بانقلابهم على الأعقاب، وتنحيتهم من نصبه الله إماماً وخليفة، وغصبهم حقه، وضربهم بضعته الزهراء (عليها السلام) وكسر ضلعها وإسقاط جنيها المحسن (عليهالسلام) ومصادرة فدك، إلى غيرها من أنواع الظلم وقطع الأسباب بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ»(3) الآيَةَ
ص: 267
، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ هَكَذَا: «وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» يَعْنِي وَلايَةَ عَلِيٍّ «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ» آلَ مُحَمَّدٍ «نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا» »(1).
قوله (نزلت هكذا) أي هكذا في تفسيرها ومعناها، لا نزول ألفاظها، كما يدل عليه قوله (عليه السلام) (يعني).
وعن أَبي الْحَسَنِ الْمَاضِي (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(2): «إِنَّ اللَّهَ أَعَزُّ وأَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُظْلَمَ وأَنْ يَنْسُبَ نَفْسَهُ إِلَى ظُلْمٍ ولَكِنَّ اللَّهَ خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظُلْمَهُ ووَلَايَتَنَا وَلَايَتَهُ»(3).وقد تواتر من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يدل على ظلاماته:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ، وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي، ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ نَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَه»(4).
وقال (عليه السلام): «مَا زِلْتُ مَظْلُوماً مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا»(5).
وقال (عليه السلام): «اللهم اخْزِ قريشاً فإنها منعتني حقي وغصبتني
ص: 268
أمري»(1).
وقال (عليه السلام): «فجزى قريشاً عني الجوازي، فإنهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي»(2).
وقال (عليه السلام): «أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى»(3).
وقال (عليه السلام): «أَرَى تُراثِينَهْباً»(4).
وقال (عليه السلام): «أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا»(5).
وقال (عليه السلام): «إِنَّ لَنَا حَقّاً إِنْ نُعْطَهُ نَأْخُذْهُ، وَإِنْ نُمْنَعْهُ نَرْكَبْ أَعْجَازَ الْإِبِلِ وَإِنْ طَالَ السُّرَى»(6).
وقال (عليه السلام): «إِنِّي كُنْتُ لَمْ أَزَلْ مَظْلُوماً مُسْتَأْثِراً عَلَى حَقِّ»(7).
وقال (عليه السلام): «مَا زِلْتُ مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مَدْفُوعاً عَمَّا أَسْتَحِقُّهُ وَأَسْتَوْجِبُه»(8).
وقال (عليه السلام): «لقد ظلمت عدد الحجر والمدر»(9).
ص: 269
وعَنْ مُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا عَلِيٌّ (عليه السلام) يَخْطُبُ وأَعْرَابِيٌّ يَقُولُ: وَا مَظْلِمَتَاهْ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «ادْنُ فَدَنَا» فَقَالَ: لَقَدْ ظُلِمْتُ عَدَدَ الْمَدَرِ والْوَبَرِ»(1).وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ يَتَخَطَّى فَنَادَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَظْلُومٌ، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَيْحَكَ وأَنَا مَظْلُومٌ ظُلِمْتُ عَدَدَ الْمَدَرِ والْوَبَرِ»(2).
وعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ حَدَّثَنِي وَالِدِي: أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) لَمْ يَقُمْ مَرَّةً عَلَى الْمِنْبَرِ إِلاّ قَالَ فِي آخِرِ كَلامِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ: مَا زِلْتُ مَظْلُوماً مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله)»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَأْتُونِي غَداً بِالدُّنْيَا تَزِفُّونَهَا زَفّاً ويَأْتِي أَهْلُ بَيْتِي شُعْثاً غُبْراً مَقْهُورِينَ مَظْلُومِينَ تَسِيلُ دِمَاؤُهُم»(4).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَقْبَلَ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا نَزَالُ نَرَى فِي وَجْهِكَ شَيْئاًنَكْرَهُهُ؟ قَالَ: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي
ص: 270
سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وتَطْرِيداً وتَشْرِيداً»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِلَى اللَّهِ أَشْكُو الْمُنْكِرِينَ لِفَضْلِهِمْ، والْمُسْتَنْقِصِينَ لِحُرْمَتِهِمْ بَعْدِي، وكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا ونَاصِراً لِعِتْرَتِي وأَئِمَّةِ أُمَّتِي ومُنْتَقِماً مِنَ الْجَاحِدِينَ لِحَقِّهِمْ، وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون»(2).
وعن عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قَالَ لِي جَبْرَئِيلُ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَخَاكَ مُضْطَهَدٌ بَعْدَكَ مَغْلُوبٌ عَلَى أُمَّتِكَ مَتْعُوبٌ مِنْ أَعْدَائِك»(3).
مسألة: يستحب التوكل على الله تعالى، لأن الأمور كلها بيده عزوجل، وهو المعاقب والمثيبب والرقيب والحسيب.
ومعنى التوكل: أن يعتقد الإنسان بقلبه ويبني على أن يكل أمره إلى الله، ومورد التوكل عليه سبحانه فيما ليس بيد الإنسان من الأسباب، بل حتى فيما بيده من الإسباب، إذ عليه مع توفيرها أن يتوكل أيضاً، لأنها أسباب ظاهرية لا
ص: 271
غير، فإن الله عزوجل قسّم أمور الكون إلى قسمين: قسم للإنسان التصرف فيه، وقسم ليس للإنسان أن يتصرف فيه:
فما كان للإنسان التصرف فيه، يعمله بنفسه بما منحه الله من القدرة والاختيار، غير ناس أن ذلك حدوثاً وبقاءً وتوفيقاً وإقداراً بيد الله تعالى، وإنما قدرة العبد وتصرفاته في طول قدرة الله وبإذنه.
وما لم يكن له تصرّف فيه يكله إلى الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: «وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى»(1).
وقال سبحانه: «أَأَنْتُم تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُالزّارِعُونَ»(2).
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) جمع الأمرين في كلمة جميلة هي فصل الخطاب، حيث قال لمن ترك بعيره دون أن يعقله: «اعقل وتوكل»(3).
مسألة: يلزم بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يترك في يوم الغدير عذراً لأحد، بالنسبة إلى ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا يُقبل عذر أحد في ذلك بعد قصة الغدير والعلم به.
فإن الأحكام الإلهية لا يقبل فيها العذر في غير القاصر، أما القاصر فإنه
ص: 272
ليس بمكلف عقلاً ولا شرعاً، أما قول جماعة من الأصوليين بأنه مكلف غير منجز عليه(1) فقد ناقشه البعض بعدم تمامية الكلام، إذ لا فائدة في التكليف والحال هذه، فتأمل.عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاهُ» قَامَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْفِهْرِيُّ فَقَالَ: هَذَا شَيْ ءٌ قُلْتَهُ مِنْ عِنْدِكَ أَوْ شَيْ ءٌ أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ.
قَالَ: «لا، بَلْ أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي».
فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا بَلَغَ رَحْلَهُ حَتَّى جَاءَهُ حَجَرٌ فَأَدْمَاهُ فَخَرَّ مَيِّتاً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»(2)،(3).
ورَوَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ الْكَرَاجُكِيُّ فِي كِتَابِهِ كَنْزِ الْفَوَائِدِ حَدِيثاً مُسْنَداً يَرْفَعُهُ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فِي مَسْجِدِهِ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ فِي الْحَجِّ وغَيْرِهِ، فَلَمَّا أَجَابَهُ قَالَ لَه: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ حَجِيجَ قَوْمِي مِمَّنْ شَهِدَ ذَلِكَ مَعَكَ أَخْبَرَنَا أَنَّكَ قُمْتَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بَعْدَ قُفُولِكَ مِنَ الْحَجِّ ووَقَفْتَهُ بِالشَّجَرَاتِ مِنْ خُمٍّ فَافْتَرَضْتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَاعَتَهُ ومَحَبَّتَهُ وأَوْجَبْتَ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً وَلَايَتَهُ وقَدْ أَكْثَرُوا عَلَيْنَا مِنْ
ص: 273
ذَلِكَ، فَبَيِّنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذَلِكَ فَرِيضَةٌ عَلَيْنَا مِنَ الْأَرْضِ لِمَا أَدْنَتْهُ الرَّحِمُ والصِّهْرُ مِنْكَ، أَمْ مِنَ اللَّهِافْتَرَضَهُ عَلَيْنَا وأَوْجَبَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى
الله عليه وآله): بَلِ اللَّهُ افْتَرَضَهُ وأَوْجَبَهُ مِنَ السَّمَاءِ وافْتَرَضَ وَلَايَتَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وأَهْلِ الْأَرْضِ جَمِيعاً، يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) هَبَطَ عَلَيَّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ وقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ويَقُولُ لَكَ: إِنِّي قَدِ افْتَرَضْتُ حُبَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ومَوَدَّتَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وأَهْلِ الْأَرْضِ فَلَمْ أَعْذَرْ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَداً فَمُرْ أُمَّتَكَ بِحُبِّهِ، فَمَنْ أَحَبَّهُ فَبِحُبِّي وحُبِّكَ أُحِبُّهُ، ومَنْ أَبْغَضَهُ فَبِبُغْضِي وبُغْضِكَ أُبْغِضُهُ، أَمَا إِنَّهُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَاباً ولَا خَلَقَ خَلْقاً إِلَّا وجَعَلَ لَهُ سَيِّداً، فَالْقُرْآنُ سَيِّدُ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ، وشَهْرُ رَمَضَانَ سَيِّدُ الشُّهُورِ، ولَيْلَةُ الْقَدْرِ سَيِّدَةُ اللَّيَالِي، والْفِرْدَوْسُ سَيِّدُ الْجِنَانِ، وبَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامِ سَيِّدُ الْبِقَاعِ، وجَبْرَئِيلُ عليه السّلام سَيِّدُ الْمَلَائِكَةِ، وأَنَا سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ، وعَلِيٌّ سَيِّدُ الْأَوْصِيَاءِ، والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ولِكُلِّ امْرِئٍ مِنْ عَمَلِهِ سَيِّدٌ، وحُبِّي وحُبُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَيِّدُ الْأَعْمَالِ ومَا تَقَرَّبَ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، يَا أَعْرَابِيُّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نُصِبَ لِإِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) مِنْبَرٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، ونُصِبَ لِي مِنْبَرٌ عَنْ شِمَالِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يُدْعَى بِكُرْسِيٍّ عَالٍ يَزْهَرُ نُوراً فَيُنْصَبُ بَيْنَ الْمِنْبَرَيْنِ، فَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى مِنْبَرِهِ، وأَنَا عَلَى مِنْبَرِي، ويَكُونُ أَخِيعَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْكُرْسِيِّ، فَمَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ حَبِيباً بَيْنَ خَلِيلَيْنِ، يَا أَعْرَابِيُّ مَا هَبَطَ عَلَيَّ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) إِلَّا وسَأَلَنِي عَنْ عَلِيٍّ، ولَا عُرِجَ إِلَّا وقَالَ: اقْرَأْ عَلَى عَلِيٍّ مِنِّي السَّلَامَ»(1).
ص: 274
وفي رواية قال علي (عليه السلام): «يَا هَؤُلَاءِ أَ كُنْتُ أَدَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُسَجًّى لا أُوَارِيهِ وأَخْرُجُ أُنَازِعُ فِي سُلْطَانِهِ، واللَّهِ مَا خِفْتُ أَحَداً يَسْمُو لَهُ ويُنَازِعُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِيهِ ويَسْتَحِلُّ مَا اسْتَحْلَلْتُمُوهُ، ولَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) تَرَكَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ لِأَحَدٍ حُجَّةً ولَا لِقَائِلٍ مَقَالًا، فَأَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ يَقُولُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ واخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، أَنْ يَشْهَدَ بِمَا سَمِع»(1).
مسألة: يجب العدول إلى الحق فوراً، لوكان قد توهّم العذر ثم علم، لأن «الْحَقّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَع»(2).
ولو فرض أن هناك عذراً أو توهمه فإنه يرتفع بالفحص والسؤال والتدبر، فلا يبقى مجال للعذر.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «لَيْسَ مِنْ بَاطِلٍ يَقُومُ بِإِزَاءِ حَقٍّ إلاّ غَلَبَ الْحَقُّ الْبَاطِلَ، وذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «بلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ»(3)»(4).
ص: 275
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «عَوْدُكَ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ تَمَادِيكَ فِي الْبَاطِل»(1).
وقال (عليه السلام): «لِيَكُنْ مَرْجِعُكَ إِلَى الْحَقِّ، فَمَنْ فَارَقَ الْحَقَّ هَلَك»(2).
مسألة: يجب قطع الطريق على الضالين والمفسدين بما أمكن من السبلالمشروعة، كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قضية غدير خم، حيث إنه رغم تصريحه بولاية علي (عليه السلام) وخلافته له في الكثير الكثير من المواطن، مع ذلك أتم الحجة يوم الغدير بأبلغ بيان وأقوى حجة وبأكثر الطرق تأثيراً، كما هو بين لمن لاحظ خصوصيات (الغدير)، كل ذلك ليقطع منهم الرجاء، إلا أنهم حادوا الله ورسوله وشاقوه وأبوا إلا التآمر والانقلاب على الأعقاب، كما صنع قوم عيسى (عليه السلام) معه حيث أرادوا قتله، وكما صنع قوم موسى (عليه السلام) حيث عبدوا العجل، «وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(3).
وهناك مسائل أخرى مستفادة من هذا الحديث الشريف ذكرنا بعضها سابقاً فلا نعيدها، كوجوب التأكيد على قصة الغدير وما أشبه.
ص: 276
قالت فاطمة (عليها السلام): يا رسول الله قد قطعت قلبي وأحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيين من الأولين والآخرين، ويا أمين ربه ورسوله ويا حبيبه ونبيه، من لولدي بعدك ولذلّ أهل بيتك بعدك، من لعلي أخيك وناصر الدين، من لوحي الله؟ ثم بكت وأكبت على وجهه (صلى الله عليه وآله) فقبلته.
-------------------------------------------
مسألة: يستحب قبلة البنت لأبيها.
فإن القبلة من علامات الحب، وإظهاره في الحلال منه مستحسن عقلاً وشرعاً، إلاّ فيما ردع الشارع عنه.
وهذه المسألة لا تخص البنت وإنما ذكرناها في هذه المسألة باعتبار المورد، فيسري ذلك إلى كل الأرحام المحارم، ومن الواضح اشتراط ذلك بالشروط الشرعية من عدم الريبة وما أشبه.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى العلماء والعظماء بالعظمة الدينية، وكان الناس يقبّلون يد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقيل إنهم كانوا يقبّلون رجله (صلى الله عليه وآله) أيضاً.
ص: 277
ومنه يعرف استحباب تقبيل العتبة المباركة في المشاهد المشرّفة مع قطع النظر عن ورود بعض ما يدل على ذلك بالخصوص.
روي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان إذا قدم من سفر قبّل ابنته فاطمة (عليها السلام)(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ لَكُمْ لَنُوراً تُعْرَفُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ قَبَّلَهُ فِي مَوْضِعِ النُّورِ مِنْ جَبْهَتِهِ»(2).
وعَنِ السَّكُونِيِّ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى رَجُلٍ لَهُ ابْنَانِ فَقَبَّلَ أَحَدَهُمَا وتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «فَهَلَّا وَاسَيْتَ بَيْنَهُمَا»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: مَا قَبَّلْتُ صَبِيّاً لِي قَطُّ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): هَذَا رَجُلٌ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»(4).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَبَّلَ وُلْدَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً»(5).
وقَالَ (عليه السلام): «أَكْثِرُوا مِنْ قُبْلَةِ أَوْلَادِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ قُبْلَةٍ دَرَجَةً فِي
ص: 278
الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ»(1).
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يُقَبِّلُ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهما السلام)، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ أَحَداً مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ»(2).
وفي المزار في زيارة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «ثُمَّ قَبِّلِ الْعَتَبَةَ وقَدِّمْ رِجْلَكَ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وادْخُل...»(3).
مسألة: يستحب أن يقول الإنسان ما يظهرمواساته لمن يبكي، كأن يقول له: «قد قطعت قلبي وأحرقت كبدي لبكائك» إذا كان بالفعل كذلك، وإلا فيقول ما هو مواساة وليس بكذب.
وإنما يستحب مثل ذلك لأن المواساة مستحبة مطلقاً، ومن مصاديقه ما ذكرناه.
ومعنى (قطعت قلبي وأحرقت كبدي) الكناية، من قبيل (كثير الرماد) و(طويل النجاد)، وهو من تشبيه المعنويات بالماديات مثل: (أثلجت صدري) و(بردت فؤادي)، إلى غير ذلك.
ص: 279
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى مُصَاباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ الْمُصَابِ شَيْئاً»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي الْمَوْقِفِ حُلَّةً يُحَبَّرُ بِهَا»(2).
وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ عَزَّى الثَّكْلَى أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِيَوْمَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّهُ»(3).
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «التَّعْزِيَةُ تُورِثُ الْجَنَّةَ»(4).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «الْأَعْمَالُ ثَلاثٌ إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، ومُوَاسَاةُ الأَخِ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ»(5).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَصْدَقُ الْإِخْوَانِ مَوَدَّةً أَفْضَلُهُمْ لِإِخْوَانِهِ فِي السَّرَّاءِ وفِي الضَّرَّاءِ مُوَاسَاةً»(6).
ص: 280
مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) سيد النبيين من الأولين والآخرين (عليهم السلام) وأنه أمين ربه ورسوله وحبيبه ونبيه(1)، كما يجب الاعتقاد بذلك.
وربما وجب البيان أيضاً إذا كان من الشؤون الاعتقادية الواجبة، كما ذكرناه سابقاً، والاستحباب في غير مورد الوجوب، فإنه من عمومات بيان فضائلهم (عليهم الصلاة والسلام) وهو من أفضل القربات.
ولا يخفى أن تلك الصفات التي ذكرتها الصديقة (عليها السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) بينها العموم من وجه، إلاّ أنها اجتمعت في النبي (صلى الله عليه وآله) بالضرورة.
مسألة: يستحب للبنت بيان فضائل أبيها، وذلك فيما إذا كان للأب فضائل، وكذلك بالنسبة إلى غير البنت وغيرالأب من الأرحام، فإن الملاك في الجميع واحد، وذلك لأنها نوع احترام وتوقير، ونوع شكر للنعمة في الجملة، وربما كان نوعاً من صلة الرحم، وللتأسي بالصديقة الطاهرة (عليها السلام) في كل مدح للأب بالحق وبما هو أهله.
ص: 281
مسألة: يستحب للوالدين أن يكونا في ذكر أولادهما من بعدهما، أو من بعد من يلوذون به، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «من لولدك بعدك»، فإنه نوع صلة رحم، ومن الواضح أن صلة الرحم بين واجب ومستحب، والاستحباب إنما يكون فيما إذا لم يكن مانعاً من النقيض.
نعم الظاهر من قول الصديقة (صلوات الله عليها): (من لولدي بعدك) أنه نوع تفجع وتوجع وإظهار ظلامة وليس استفهاماً حقيقياً.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «صِلُوا أَرْحَامَكُمْ ولَوْ بِالتَّسْلِيمِ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: «وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»(1)،(2)».
مسألة: يستحب بيان مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)ومظلومية علي (عليه السلام) بالخصوص، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «ولذل أهل بيتك بعدك، من لعلي أخيك».
فإن بيان مظلوميتهم (عليهم الصلاة والسلام) نوع إحقاق حق لهم، ونوع إبطال باطل لأعدائهم، كما أنه يوجب التفاف الناس حولهم، وتحريك المشاعر
ص: 282
والعواطف إلى جانبهم، مما ينفع دين الإنسان ودنياه، مضافاً إلى أنه يوجب ابتعاد الناس عن أعدائهم أعداء الله تعالى.
ومن هنا ورد في الروايات التأكيد على ذلك، قال (عليه السلام): «وَارْحَمْ تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا، وَارْحَمِ الصَّرْخَةَ الَّتِي كَانَتْ لَنَا»(1).
وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَفَسُ الْمَهْمُومِ لَنَا الْمُغْتَمِّ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لِأَمْرِنَا عِبَادَةٌ»(2).
وقال الصادق (عليه الصلاة والسلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(3).ثم إنه قد سبق في الكتاب: أن المراد من (الذل) في مثل هذا الموضع هو الذل الظاهري لا الذل الواقعي، أي الذل عند الناس وبنظرهم، أو مظاهر الذل ونتائجه لا واقعه، إذ الذل الواقعي يتضمن معنى الحقارة والضعة النفسية وما شابهها، وحاشاهم (عليهم السلام) من مثل ذلك.
قال تعالى: «وللهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنين»(4).
ومنه يفهم ما كان يتعرض له أنبياء الله والأولياء والمؤمنون من قبل الأعداء كثيراً، حيث إنهم سجنوا وعذبوا وهجّروا وطردوا وأهينوا وقتلوا، فإنها لا تنافي عزتهم التي منحها الله عزوجل.
ص: 283
قال الإمام الحسين (عليه السلام): «مَوْتٌ فِي عِزٍّ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي ذُلٍّ»(1).
وَأَنْشَأَ (عليه السلام) يَوْمَ قُتِلَ:
الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ *** وَ الْعَارُ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ
وَ اللَّهِ مَا هَذَا وهَذَا جَارِي(2)
مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) أخ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وناصر للدين.
هذا فيما إذا لم يكن من شؤون الأصول الواجبة بالوجوب المطلق، فتجب مقدمة لها، وقد ذكرنا وجه الاستحباب في غير صورة الوجوب فيما سبق.
قَالَ سُلَيْمٌ: فَكَانَ فِيمَا نَاشَدَهُمُ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) وذَكَّرَهُمْ أَنْ قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ كَانَ أَخَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَآخَى بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ وقَالَ: أَنْتَ أَخِي وأَنَا أَخُوكَ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ ...
قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) نَصَبَهُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍ فَنَادَى لَهُ بِالْوَلَايَةِ وقَالَ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وآله) قَالَ لَهُ فِي
ص: 284
غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى وأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي» قَالُوا: اللَّهُمَّنَعَمْ.
قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ دَعَا النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَمْ يَأْتِ إلاّ بِهِ وبِصَاحِبَتِهِ وابْنَيْهِ» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ: لَأَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ ويُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ كَرَّارٌ غَيْرُ فَرَّارٍ يَفْتَحُهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ».
قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بَعَثَهُ بِبَرَاءَةَ وقَالَ: لا يُبَلِّغْ عَنِّي إلاّ أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنِّي»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ تَنْزِلْ بِهِ شِدَّةٌ قَطُّ إلاّ قَدَّمَهُ لَهَا ثِقَةً بِهِ وأَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُ بِاسْمِهِ قَطُّ إلاّ أَنْ يَقُولَ: يَا أَخِي وادْعُوا لِي أَخِي»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ ...
قَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وأَهْلَ بَيْتِي فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ»(1) الحديث.
ص: 285
مسألة: يستحب البكاء على المصيبة.
وذلك للأدلة النقلية المتضافرة، وقد ورد في الأحاديث استحباب البكاء على مصيبة كل مؤمن فكيف بما ورد عليهم (عليهم الصلاة والسلام) من المصاب، ولسيرة المتشرعة بل وسيرة العقلاء، ولأنه نوع مواساة ومشاركة وجدانية وهي راجحة عقلاً.
ومن الواضح أن البكاء شيء، وعدم الرضا بما قدره الله شيء آخر.
قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «حَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ وإِنَّا لَصَابِرُونَ، يَحْزَنُ الْقَلْبُ وتَدْمَعُ الْعَيْنُ ولا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ»(1).
هذا مع قطع النظر عما في البكاء من تخفيف الضغط على القلب، والتنفيس عن الأعصاب، وعما في الدموع من المنافع.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْيَرْزُقَهُ ابْنَةً تَبْكِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ»(2)..
وفي البحار عن مُسَكِّنُ الْفُؤَادِ: «لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَسْمَاءَ فَقَالَ لَهَا: أَخْرِجِي لِي وُلْدَ جَعْفَرٍ،
ص: 286
فَأُخْرِجُوا إِلَيْهِ، فَضَمَّهُمْ إِلَيْهِ وشَمَّهُمْ ودَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): نَعَمْ أُصِيبَ الْيَوْمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أَحْفَظُ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمِّي فَنَعَى لَهَا أَبِي ونَظَرْتُ إِلَيْهِ وهُوَ يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِي ورَأْسِ أَخِي وعَيْنَاهُ تُهْرِقَانِ الدُّمُوعَ حَتَّى تَقْطُرُ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَراً قَدْ قَدِمَ إِلَى أَحْسَنِ الثَّوَابِ فَاخْلُفْهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلَفْتَ أَحَداً مِنْ عِبَادِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَسْمَاءُ إلاّ أُبَشِّرُكِ، قَالَتْ: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ»(1).
وَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مِنْ أُحُدٍ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ لَقِيَتْهُ خَمِيسَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فَنَعَى لَهَا النَّاسُ أَخَاهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ واسْتَغْفَرَتْ لَهُ،ثُمَّ نَعَى لَهَا خَالَهَا فَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نَعَى لَهَا زَوْجَهَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَصَاحَتْ ووَلْوَلَتْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ لِمَا رَأَى صَبْرَهَا عَلَى أَخِيهَا وخَالِهَا وصِيَاحَهَا عَلَى زَوْجِهَا.
ثُمَّ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى دُورٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ والنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ وبَكَى ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى دُورِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بُكَاءَهُنَّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ إِلَيْهِنَّ وهُنَّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ
ص: 287
يَبْكِينَ، فَقَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): ارْجِعْنَ يَرْحَمُكُنَّ اللَّهُ فَقَدْ وَاسَيْتُنَّ بِأَنْفُسِكُنَّ»(1).
مسألة: يستحب رثاء المؤمن، وخاصة رثاء أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «من لولدك، من لعلي (عليه السلام) ثم بكت».وذلك للروايات الكثيرة، ولأن الرثاء نوع إثارة للعواطف مما توجب التفاف الناس حولهم (عليهم الصلاة والسلام)، كما فيه بيان للمظلومية وفضح الظلمة، بل هو نوع نهي عن المنكر دفعاً ورفعاً.
مسألة: يستحب البكاء لبكاء النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) وكذا لبكاء مرجع التقليد، وكذا الأم والأب والمعلم ومن أشبه، كما بكت الصديقة (عليها السلام) لبكاء أبيها (صلى الله عليه وآله)، وذلك نوع مواساة.
وقولها (عليها السلام): «ولذل أهل بيتك بعدك» أي من يرفع الذل إذا ذلوا بعدك، فالنبي (صلى الله عليه وآله) كان يرفع ذلك في حياته إذا قام الأعداء بذل أهل بيته وإيذائهم، لكنه إذا قُبض لم يكن أحد قادراً حسب الموازين الظاهرية على رفع مثل هذا الظلم الكبير.
وأما الإمام علي (عليه السلام) فقد كان مأموراً بالصبر، إذ (قيدته وصية من
ص: 288
أخيه)(1)، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مأموراً بالصبر في مكة المكرمةقبل الهجرة.
عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لِي أَبِي (عليه السلام): قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «لَمَّا قَرَأْتُ صَحِيفَةَ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِذَا فِيهَا: يَا عَلِيُّ غَسِّلْنِي ولا يُغَسِّلْنِي غَيْرُكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أَنَا أَقْوَى عَلَى غُسْلِكَ وَحْدِي، قَالَ: بِذَا أَمَرَنِي جَبْرَئِيلُ وبِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى غُسْلِكَ وَحْدِي فَأَسْتَعِينُ بِغَيْرِي يَكُونُ مَعِي، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُغَسِّلَ ابْنَ عَمِّكَ فَإِنَّ هَذَا السُّنَّةُ لا يُغَسِّلُ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ الْأَوْصِيَاءِ، وإِنَّمَا يُغَسِّلُ كُلَّ نَبِيٍّ وَصِيُّهُ مِنْ بَعْدِهِ وهِيَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمَّتِهِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَةِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، واعْلَمْ يَا عَلِيُّ إِنَّ لَكَ عَلَى غُسْلِي أَعْوَاناً نِعْمَ الْأَعْوَانُ والْإِخْوَانُ، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، فَقَالَ: جَبْرَئِيلُ ومِيكَائِيلُ وإِسْرَافِيلُ ومَلَكُ الْمَوْتِ وإِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَعْوَانٌ لَكَ، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِداً وقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي إِخْوَاناً وأَعْوَاناً هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وآله): أَمْسِكْ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَتَبَهَا الْقَوْمُ وشَرَطُوافِيهَا الشُّرُوطَ عَلَى قَطِيعَتِكَ وذَهَابِ حَقِّكَ ومَا قَدْ أَزْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ تَكُونُ عِنْدَكَ لِتُوَافِيَنِي بِهَا غَداً وتُحَاجَّهُمْ بِهَا...» (2).
ص: 289
مسألة: الانكباب على المحتضر، لأمر عقلائي كمناجاته أو تقبيله، لا إشكال فيه، ويستفاد ذلك من فعلها (صلوات الله عليها)، نعم لو أدى ذلك إلى إيذائه لم يجز إلاّ مع رضاه.
مسألة: الانكباب على قبور المعصومين (عليهم السلام) وأضرحتهم لتقبيلها أو التبرك بها، لا إشكال فيه، بل هو راجح مثاب عليه، فإنه نوع تعظيم لأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أيضاً تعظيم لشعائر الله.
مسألة: يلزم على جمع من أهل التحقيق إعادة كتابة التاريخ مستندين إلى الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فإن المتتبع في الروايات الكلامية والفقهية والتفسيرية والتاريخية، ومنها كلمات الصديقة الزهراء (عليها السلام) سيكشف في ثناياها الكثير جداً مما يلقي الضوء على أنه كيف سارت الأمور، ولم سارت كما سارت، وما الذي أنتج كذا وكذا، وغير ذلكمما يرتبط بفلسفة التاريخ(1).
ص: 290
لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة بكى ... فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تبكين يا بنية»، فقالت: «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكن أبكي لفراقك»(1).
-------------------------------------------
مسألة: يستحب البكاء لموت الأب، بل دلت بعض الأحاديث على استحباب البكاء لموت أي مؤمن، فكيف لو اجتمع فيهعنوانان(2) أو أكثر، والدلالة على بعضها بالمطابقة وبعضها بالالتزام.
ص: 291
ولا فرق في أصل الاستحباب بين أن يكون البكاء للموت قبل الموت، أو بعد الموت.
قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ، قَالَ: الَّذِي يَبْكِي لِفَقْدِ الصَّالِحِينَ كَمَا يَبْكِي الصَّبِيُّ عَلَى فَقْدِ أَبَوَيْه»(1).
ورُوِيَ: «أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ نَادَتْ بِقَاعَ الْأَرْضِ بَعْضُهَا بَعْضاً: مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ، فَبَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والْأَرْضُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُمَا: ومَا يُبْكِيكُمَا عَلَى عَبْدِي وهُو أَعْلَمُ، فَيَقُولَانِ: يَا رَبِّ لَمْ يَمْشِ فِي نَاحِيَةِ مِنْهَا إلاّ وهُو يَذْكُرُكَ»(2).
وعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَنَاحَ عَلَيْهَا سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ فَنَاحَ عَلَيْهِ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ إِسْمَاعِيلُ فَجَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعاً شَدِيداً فَقَطَعَ النَّوْحَ، قَالَ: فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَيُنَاحُ فِي دَارِكَ، فَقَالَ:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لَمَّا مَاتَ حَمْزَةُ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ»(3).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ (عليه السلام) سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ ابْنَةً تَبْكِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ»(4).
ص: 292
ورُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) بَكَى عَلَى أَوْلادِهِ وجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ»(1).
وعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الْبَكَّاءُونَ خَمْسَةٌ، آدَمُ ويَعْقُوبُ ويُوسُفُ وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهم السلام»(2).
مسألة: يستحب أن يقول الإنسان للباكي:«لا تبك» تسلية له وليس زجراً ونهياً بالمعنى الحقيقي.
فإن التسلية مطلقاً مستحبة، وما نحن فيه من مصاديقها، من غير فرق بين أن يكون قبل الموت أو بعد الموت، وهذا لا ينافي استحباب البكاء، فالنهي للتسلية، ومن هنا روي عن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) خطاباً لابنته سكينة (عليها السلام):
«لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني»(3).
فإن قوله (عليه السلام) ليس ذماً للبكاء كما يزعمه البعض، بل كان من التسلية ومن إظهار التعاطف المستحبين.
وإلا فالبكاء على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) قبل استشهاده وبعده
ص: 293
من أفضل العبادات وأقرب القربات، ووقد بكاه الأنبياء والمرسلون (عليهم السلام) قبل مولده الشريف، وكذلك بكاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته، وبكاه أمير المؤمنين والصديقة فاطمة (عليهما السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) في حياته (صلوات الله عليه وعليهم)، فكيف بالبكاء بعد مقتله الشريف، وقد روي عنه (عليه السلام):
« فإذا قتلت فأنت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان»(1).
ثم إن البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) إقامة للشعائر وإحياء لذكره وذكراه ونهضته، وفضح ليزيد وأتباعه من الطغاة على مر التاريخ.
وقال بعض بأن البكاء قبل موته (عليه الصلاة والسلام) يوم المعركة كان موجباً لشماتة الأعداء، فلذا نهى الإمام (عليه الصلاة والسلام) عنه وأجاز بعده، ولكن الأصح أن النهي لم يكن إلاّ تسليةً وعطفاً كما ذكرناه.
مسألة: البكاء لبكاء الغير مواساةً مستحب.
والظاهر أن قول الصديقة (عليها السلام) : «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك»، لا يراد به النفي المطلق، بل نفي كون خصوص هذا البكاء هكذا، ويحتمل أنه ليس نفياً حتى لهذا المورد إلاّ على نحو المصبيّة، إذ قد يكون المصبّ أمراً ويكون إلى جواره تابع، أوقد يكون الداعي أمراً والداعي على الداعي أمر
ص: 294
آخر.
وبعبارة عرفية المعنى: ليس السبب الأصلي لبكائي الآن هو ما يصنع بي من بعدك، فلا ينفي كونه سبباً تابعاً لاحقاً، فتأمل.
عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) في حديث: «ولَكِنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْوَرَعِ الْوَرَعِ الْوَرَعِ، والْمُوَاسَاةِ الْمُوَاسَاةِ الْمُوَاسَاةِ لِإِخْوَانِكُمْ»(1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْمُوَاسَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ»(2).
وروي: «...فَلَمَّا رَأَتْ فاطمة (عليها السلام) رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) انْكَبَّتْ عَلَيْهِ وبَكَتْ وبَكَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِبُكَائِهَا وضَمَّهَا إِلَيْه»(3).
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نُصِبَ لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) قُبَّةٌ مِنْ نُورٍ ويُقْبِلُالْحُسَيْنُ (عليه السلام) ورَأْسُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا رَأَتْهُ شَهَقَتْ شَهْقَةً، فَلا يَبْقَى فِي الْمَوْقِفِ مَلَكٌ ولا نَبِيٌّ إلاّ بَكَى لِبُكَائِهَا»(4).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ سِنِينَ خَرَجَتْ بِهِ إِلَى أَخْوَالِهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِالْمَدِينَةِ تَزُورُهُمْ بِهِ وَ مَعَهُ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ وَهُمْ عَلَى بَعِيرَيْنِ، فَنَزَلَتْ بِهِ فِي دَارِ النَّابِغَةِ فَأَقَامَتْ بِهِ عِنْدَهُمْ شَهْراً، وَ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْتَلِفُونَ وَيَنْظُرُونَ، قَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَسَمِعْتُ أَحَدَهُمْ يَقُولُ هُوَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ هَذِهِ دَارُ
ص: 295
هِجْرَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ فَقَبَرَهَا هُنَاكَ، فَرَجَعَتْ بِهِ أُمُّ أَيْمَنَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْأَبْوَاءِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَأَصْلَحَهُ وَبَكَى عِنْدَهُ وَبَكَى الْمُسْلِمُونَ لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: «أَدْرَكَتْنِي رَحْمَةُ رَحْمَتِهَا فَبَكَيْتُ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) كانت تعلم بما يجري عليها من الظلم والجور من قبل القوم.
فإن أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) يعلمون بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الروايات المستفيضة، وفي خصوص فاطمة (عليها الصلاة والسلام) روايات تدل على ذلك، مضافاً إلى العمومات والإطلاقات الشاملة لها (عليها السلام).
كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرها بما يجري عليها في تلك اللحظات الأخيرة.
والإخبار بعد العلم، وكذا الإخبار بعد الإخبار تترتب عليه فوائد عديدة، منها صحة التعبير والإسناد، ومنها صحة الإخبار بتعدد السند، أو تعدد الوقت أو المكان أو خصوصيات النسبة أو ما أشبه.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قُلْنَا يَوْماً:
ص: 296
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنِ الْخَلِيفَةُ بَعْدَكَ حَتَّى نَعْلَمَهُ؟ قَالَ لِي: «يَا سَلْمَانُ أَدْخِلْ عَلَيَّ أَبَا ذَرٍّ والْمِقْدَادَ وأَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ» وأُمُّ سَلَمَةَ زَوْجَةُ النَّبِيِّ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: «اشْهَدُوا وافْهَمُوا عَنِّي إِنَّ عَلِيَّبْنَ أَبِي طَالِبٍ وَصِيِّي ووَارِثِي وقَاضِي دَيْنِي وعِدَاتِي، وهُو الْفَارُوقُ بَيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ، وهُو يَعْسُوبُ الْمُسْلِمِينَ وإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ والْحَامِلُ غَداً لِوَاءَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وهُو ووَلَدَاهُ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ ابْنِي أَئِمَّةٌ تِسْعَةٌ هُدَاةٌ مَهْدِيُّونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَشْكُو إِلَى اللَّهِ جُحُودَ أُمَّتِي لِأَخِي وتَظَاهُرَهُمْ عَلَيْهِ وظُلْمَهُمْ لَهُ وأَخْذَهُمْ حَقَّهُ».
قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ويَكُونُ ذَلِكَ؟
قَالَ: «نَعَمْ، يُقْتَلُ مَظْلُوماً مِنْ بَعْدِ أَنْ يُمْلَأَ غَيْظاً ويُوجَدُ عِنْدَ ذَلِكَ صَابِراً».
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ فَاطِمَةُ (عليها السلام) أَقْبَلَتْ حَتَّى دَخَلَتْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وهِيَ بَاكِيَةٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّةِ»؟
قَالَتْ: «سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِي ابْنِ عَمِّي ووُلْدِي مَا تَقُولُ».
قَالَ: «وأَنْتِ تُظْلَمِينَ وعَنْ حَقِّكِ تُدْفَعِينَ، وأَنْتِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقاً بِي بَعْدَ أَرْبَعِينَ، يَا فَاطِمَةُ أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكِ، وحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكِ، أَسْتَوْدِعُكِ اللَّهَ وجَبْرَئِيلَ وصَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ».
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ؟قَالَ: «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»(1).
ص: 297
مسألة: ربما يقال بأنه ينبغي عدم بكاء الإنسان على ما يجري على نفسه من المحن والمصائب والمشاكل، إلاّ في مورد يكون البكاء أهم(1)، فإن الصبر هو المستحب وإن كان البكاء لا ينافيه، كما مر، وقد قالت (عليها السلام): «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك».
فإن النفوس الكبيرة لا تهتم بما يجري عليها، بل هي راضية بقضاء الله وقدره، وهي مهتمة بالأمر الأهم وتعمل بالواجب الشرعي.
ثم إن حكم عدم البكاء حينئذ، هل هو مستحب أو مباح، فذلك مما يفهم من المقارنات وسائر الأدلة.
وأما بكاء الصديقة (عليها السلام) بعد شهادته (صلى الله عليه وآله) فكان فضحاً للغاصبين والظالمين، إضافة إلى كونه بكاءً على فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل قتله.
مسألة: يستحب البكاء لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه من صغريات قوله (عليه الصلاة والسلام): «يحزنون لحزننا»(2) وما أشبه، بالإضافة إلى
ص: 298
الأسوة وغيرها من العناوين المتعددة.
ولا فرق بين البكاء عليه (صلى الله عليه وآله) زمن حياته أو بعد شهادته.
رَوَى الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ فِي مُسَكِّنِ الْفُؤَادِ: «أَنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) نَاحَتْ عَلَى أَبِيهَا وأَنَّهُ أَمَرَ بِالنَّوْحِ عَلَى حَمْزَةَ»(1).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قُلْتُلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِنِّي لا أَكَادُ أَلْقَاكَ إلاّ فِي السِّنِينَ فَأَوْصِنِي بِشَيْ ءٍ آخُذُ بِهِ قَال: «... وَإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ الْخَلْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ (صلى الله عليه وآله) قَطُّ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(3).
ص: 299
مسألة: البكاء في الجملة فضيلة، ويدل عليه بكاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في هذه الرواية وغيرها.
إن قيل: إنه علامة ضعف.
قلنا: البكاء قد يكون لرقة وعاطفة محمودة، وقد يكون من خشية الله تعالى، فليست علامة ضعف مطلقاً، ثم إنه لو كان علامة ضعف كالبكاء من هول الموت وخوف المطلع فإنه لا دليل على كونه مرجوحاً، لأن ضعف الإنسان حق، وتوهم عكسه كبر وتكبر وغرور، نعم ربما يكون البكاء أمام العدو لا لوجه صحيح، مرجوحاً إذا عدّ علامة ضعف وسبب شماتة، وربما كان البكاء أمام العدو سبباً لهدايتهم وبياناً للمظلومية وما أشبه فيكون راجحاً أيضاً.
مسألة: لا فرق في استحباب البكاء في صوره المستحبة، بين كونه على أمر ماض أو حاضر أو مستقبل، كما لا فرق بين كونه على أمر محتمل أو مظنون أو مقطوع، وكذلك الحال في صورة مرجوحيته.وهناك روايات تبين فضائل الدمعة وتشجع عليها
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَا مِنْ شَيْ ءٍ إلاّ ولَهُ كَيْلٌ ووَزْنٌ إلاّ الدُّمُوعُ، فَإِنَّ الْقَطْرَةَ تُطْفِئُ بِحَاراً مِنْ نَارٍ، فَإِذَا اغْرَوْرَقَتِ الْعَيْنُ بِمَائِهَا لَمْ يَرْهَقْ وَجْهاً قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ، فَإِذَا فَاضَتْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، ولَوْ أَنَّ بَاكِياً بَكَى فِي أُمَّةٍ
ص: 300
لَرُحِمُوا»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ:
«مَا مِنْ عَيْنٍ إلاّ وهِيَ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاّ عَيْناً بَكَتْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، ومَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِمَائِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إلاّ حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ سَائِرَ جَسَدِهِ عَلَى النَّارِ، ولا فَاضَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَهِقَ ذَلِكَ الْوَجْهَ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ، ومَا مِنْ شَيْ ءٍ إلاّ ولَهُ كَيْلٌ ووَزْنٌ إلاّ الدَّمْعَةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُطْفِئُ بِالْيَسِيرِ مِنْهَا الْبِحَارَ مِنَ النَّارِ، فَلَوْ أَنَّ عَبْداً بَكَى فِي أُمَّةٍ لَرَحِمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ بِبُكَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاّ ثَلَاثَة، عَيْنٌ غُضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وعَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِاللَّهِ»(3).
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَخَّصَ فِي الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وقَالَ: النَّفْسُ مُصَابَةٌ، والْعَيْنُ دَامِعَةٌ، والْعَهْدُ قَرِيبٌ، وقُولُوا مَا أَرْضَى اللَّهَ ولا تَقُولُوا الْهُجْر»(4).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَسَاوَةَ الْقَلْبِ، فَقَالَ لَهُ: «عَلَيْكَ بِالْعَدَسِ، فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ ويُسْرِعُ الدَّمْعَةَ وقَدْ
ص: 301
بَارَكَ عَلَيْهِ سَبْعُونَ نَبِيّاً»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ (عليهم السلام) قَالَ: «أَكْلُ الْعَدَسِ يُرِقُّ الْقَلْبَ ويُسْرِعُ الدَّمْعَةَ»(2).
ص: 302
روي: أن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت:
«يا أبتاه مِن ربّه ما أدناه ..
يا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه ..
يا أبتاه جنة الفردوس مأواه».
وفي رواية: «كَانَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تَقُولُ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَتَاهْ جَبْرَئِيلُ إِلَيْنَا يَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مِن رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ، يَا أَبَتَاهْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهْ أَجَابَ رَبّاً دَعَاهُ»(1).
-------------------------------------------
مسألة: يجوز الرثاء(2) على الميت، والمراد به الأعم من البكاء عليه والنوح له ومدحه وما أشبه.
ويشترط في جوازه أن يكون صدقاً، أو لسان حال يقتضيه الحال على ما
ص: 303
ذكره الفقهاء، أما لسان حال لا يقتضيه الحال ولم يكن صدقاً فلا يجوز.
ومن لسان الحال الجائز بل المستحب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في فراق الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) حيث قال عن لسان حالها:
قال الحبيب فكيف لي بجوابكم *** وأنا رهين جنادل وترابِ
أكل التراب محاسني فنسيتكم *** وحجبت عن أهلي وعن أترابي
فعليكم مني السلام تقطعت *** عني وعنكم خلة الأحباب(1).
ومن الواضح أن (الأمثال تضرب ولا تقاس) فلا يراد بها الخصوصيات بل الجامع، وقد لا يراد بها الحقيقة بل المجاز، فلا يتوهم الإشكال بقوله: (أكل التراب محاسني) مع القطع بكونهم (عليهم السلام) محفوظين مطلقاً.
عن عبد الله بن العباس قال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وآله) تَوَلَّى غُسْلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) والْعَبَّاسُ مَعَهُ والْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مِنْ غُسْلِهِ كَشَفَ الإِزَارَعَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي طِبْتَ حَيّاً وطِبْتَ مَيِّتاً، انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ أَحَدٍ مِمَّنْ سِوَاكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ، خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولَوْلا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ، ولَكِنْ مَا لا يُرْفَعُ كَمَدٌ وغُصَصٌ مُحَالِفَانِ وهُمَا دَاءُ الْأَجَلِ وقَلَّا لَك،َ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ واجْعَلْنَا مِنْ هَمِّكَ، ثُمَّ
ص: 304
أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَ وَجْهَهُ ومَدَّ الإِزَارَ عَلَيْه»(1).
وقال (عليه السلام) فِي الْمَرْثِيَةِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ (صلى الله عليه وآله):
مَا غَاضَ دَمْعِي عِنْدَ نَائِبَةٍ *** إلاّ جَعَلْتُكَ لِلْبُكَاءِ سَبَباً
وَإِذَا ذَكَرْتُكَ سَامَحَتْكَ بِهِ *** مِنِّي الْجُفُونُ فَغَاضَ وانْسَكَبَا
إِنِّي أُجِلُّ ثَرَى حَلَلْتَ بِهِ *** عَنْ أَنْ أَرَى لِسِوَاهُ مُكْتَئِبا(2)
روي أنه لما وضع الحسن (عليه السلام) في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبو عبد اللّه الحسين (عليه السلام):
أَأَدْهُنُ رَأْسِي أَمْ تَطِيبُ مَجَالِسِي *** وَ رَأْسُكَ مَعْفُورٌ وَ أَنْتَ سَلِيبٌ
أَوْ أَسْتَمْتِعُ الدُّنْيَا لِشَيْ ءٍ أُحِبُّهُ *** إِلَى كُلِّ مَا أَدْنَا إِلَيْكَ حَبِيبٌ
فَلَا زِلْتُ أَبْكِي مَا تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ *** عَلَيْكَ وَ مَا هَبَّتْ صَباً وَ جَنُوبٌ
وَمَا هَمَلَتْ عَيْنِي مِنَ الدَّمْعِ قَطْرَةً *** وَ مَا اخْضَرَّ فِي دَوْحِ الْحِجَازِ قَضِيبٌ
بُكَائِي طَوِيلٌ وَ الدُّمُوعُ غَزِيرَةٌ *** وَ أَنْتَ بَعِيدٌ وَ الْمَزَارُ قَرِيبٌ
غَرِيبٌ وَ أَطْرَافُ الْبُيُوتِ تَحُوطُهُ *** إلاّ كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ غَرِيبٌ
وَلا يَفْرَحُ الْبَاقِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى *** وَ كُلُّ فَتًى لِلْمَوْتِ فِيهِ نَصِيبٌ
ص: 305
فَلَيْسَ حَرِيبٌ مَنْ أُصِيبَ بِمَالِهِ *** وَ لَكِنَّ مَنْ وَارَى أَخَاهُ حَرِيبٌ
نَسِيبُكَ مَنْ أَمْسَى يُنَاجِيكَ طَيْفُهُ *** وَ لَيْسَ لِمَنْ تَحْتَ التُّرَابِ نَسِيبٌ (1)
مسألة: يستحب كون الرثاء بمن وبما يرتبط بالله سبحانه، فإن الرثاء قسمان، رثاء مادي ورثاء معنوي.
ويدل عليه العقل بالمعنى الأعم، مضافاً إلى الملاك في مثل رثائها (عليها الصلاة والسلام) وما أشبه.
وفي حديث: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحن لحنين صفيّة حيث كانت تحن على أخيها حمزة سيد الشهداء (عليهالسلام) ويأن لأنينها.
روي أن صفية لما جاءت حالت الأنصار بينها وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «دعوها» فجلست عنده فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإذا نشجت (2) ينشج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعلت فاطمة (عليها السلام) تبكي، فلما بكت بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: لن أصاب بمثل حمزة أبداً، ثم قال (صلى الله عليه وآله) لصفية وفاطمة: أبشرا أتاني جبرائيل (عليه السلام) فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله»(3).
ص: 306
مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) ما أدناه من ربه، وأن جبرئيل الأمين (عليه السلام) قد نعاه، وأن جنة الفردوس مأواه.
فهذه مصاديق جلية تدل على عظمته (صلى الله عليه وآله) الموجبة لالتفاف الناس حوله، مما يفيد دينهم ودنياهم كما سبق، فإنه كلما كان الإنسان ملتفاً حول الرسول وآله (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين)، يكون أسعد في الحياتين.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ (صلى الله عليه وآله) إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَتَمْشِي فِي مَكَانٍ مَا مَشَى عَلَيْهِ بَشَرٌ، فَكَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ»(1) فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَبِ «والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بالله»(2)، فَقَالَ اللَّهُ: «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً»(3) الآيَةَ، فَقَالَ: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا»(4) السُّورَةَ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ خَلَّفْتَ لِأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِيطَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ويُقَالُ أَعْطَاهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَرْبَعَةً، رَفَعَ عَنْهَا عِلْمَ الْخَلْقِ فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ، والْمُنَاجَاةَ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ، والسِّدْرَةَ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ، وإِمَامَةَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وقَالُوا: الْمِعْرَاجُ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ فَالْمِيمُ مَقَامُ الرَّسُولِ عِنْدَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى، والْعَيْنُ عِزُّهُ عِنْدَ شَاهِدِ كُلِّ نَجْوَى،
ص: 307
والرَّاءُ رَفْعَتُهُ عِنْدَ خَالِقِ الْوَرَى، والأَلِفُ انْبِسَاطُهُ مَعَ عَالَمِ السِّرِّ وأَخْفَى، والْجِيمُ جَاهُهُ فِي مَلَكُوتِ الْعُلَى»(1).
ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها يصف اللّه تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم وأهل بيته (عليه وعليهم السلام):
«... حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وأَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وأُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ، وشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وثَمَرٌ لا يُنَالُ، فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وشِهَابٌ سَطَعَنُورُهُ، وزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وكَلَامُهُ الْفَصْلُ، وحُكْمُهُ الْعَدْلُ، أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ، وغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَم»(2).
وعَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم
السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي ولا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي»، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْتَ أَفْضَلُ أَوْ جَبْرَئِيلُ»، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وفَضَّلَنِي عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ، والْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ ولِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ، وإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَخُدَّامُنَا وخُدَّامُ مُحِبِّينَا، يَا عَلِيُ «الَّذِينَ
ص: 308
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(1) بِوَلَايَتِنَا، يَا عَلِيُّ لَوْ لا نَحْنُ مَا خَلَقَ آدَمَ ولا حَوَّاءَ ولا الْجَنَّةَ ولا النَّارَ ولا السَّمَاءَ ولا الْأَرْضَ، فَكَيْفَ لا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، وقَدْ سَبَقْنَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وتَسْبِيحِهِ وتَهْلِيلِهِ وتَقْدِيسِهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ أَرْوَاحَنَا فَأَنْطَقَنَا بِتَوْحِيدِهِ وتَحْمِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَفَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمُوا أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا، ونَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا، فَلَمَّا شَاهَدُوا عِظَمَ شَأْنِنَا هَلَّلْنَا، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لا إِلَهَ إلاّ اللَّهُ، وأَنَّا عَبِيدٌ ولَسْنَا بِآلِهَةٍ يَجِبُ أَنْ نُعْبَدَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ، فَقَالُوا: لا إِلَهَ إلاّ اللَّهُ، فَلَمَّا شَاهَدُوا كِبَرَ مَحَلِّنَا كَبَّرْنَا، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُنَالَ عِظَمَ الْمَحَلِ إلاّ بِهِ، فَلَمَّا شَاهَدُوا مَا جَعَلَهُ لَنَا مِنَ الْعِزِّ والْقُوَّةِ قُلْنَا: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاّ بِاللَّهِ، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لا حَوْلَ لَنَا ولا قُوَّةَ إلاّ بِاللَّهِ، فَلَمَّا شَاهَدُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا وأَوْجَبَهُ لَنَا مِنْ فَرْضِ الطَّاعَةِ قُلْنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ مَا يَحِقُّ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِنَ الْحَمْدِ عَلَى نِعَمِهِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَبِنَا اهْتَدَوْا إِلَى مَعْرِفَةِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وتَسْبِيحِهِ وتَهْلِيلِهِ وتَحْمِيدِهِ وتَمْجِيدِهِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فَأَوْدَعَنَا صُلْبَهُ، وأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَعْظِيماً لَنَا وإِكْرَاماً، وكَانَ سُجُودُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عُبُودِيَّةً ولآِدَمَ إِكْرَاماً وطَاعَةً لِكَوْنِنَا فِي صُلْبِهِ، فَكَيْفَ لا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلائِكَةِ وقَدْ سَجَدُوا لآِدَمَ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، وإِنَّهُ لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ أَذَّنَجَبْرَئِيلُ مَثْنَى مَثْنَى وأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى
ص: 309
ثُمَّ قَالَ لِي: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا جَبْرَئِيلُ أَتَقَدَّمُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى مَلَائِكَتِهِ أَجْمَعِينَ، وفَضَّلَكَ خَاصَّةً، فَتَقَدَّمْتُ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ ولا فَخْرَ.
فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى حُجُبِ النُّورِ قَالَ لِي جَبْرَئِيلُ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ وتَخَلَّفَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُفَارِقُنِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَ انْتِهَاءَ حَدِّيَ الَّذِي وَضَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، فَإِنْ تَجَاوَزْتُهُ احْتَرَقَتْ أَجْنِحَتِي بِتَعَدِّي حُدُودِ رَبِّي جَلَّ جَلَالُهُ، فَزُخَّ بِي فِي النُّورِ زَخَّةً حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى حَيْثُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُلُوِّ مُلْكِهِ، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وسَعْدَيْكَ تَبَارَكْتَ وتَعَالَيْتَ، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ عَبْدِي وأَنَا رَبُّكَ فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ وعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، فَإِنَّكَ نُورِي فِي عِبَادِي ورَسُولِي إِلَى خَلْقِي وحُجَّتِي فِي بَرِيَّتِي، لَكَ ولِمَنِ اتَّبَعَكَ خَلَقْتُ جَنَّتِي، ولِمَنْ خَالَفَكَ خَلَقْتُ نَارِي، ولِأَوْصِيَائِكَ أَوْجَبْتُ كَرَامَتِي، ولِشِيعَتِهِمْ أَوْجَبْتُ ثَوَابِي.
فَقُلْتُ: يَا رَبِّ ومَنْ أَوْصِيَائِي، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ أَوْصِيَاؤُكَ الْمَكْتُوبُونَ عَلَى سَاقِ عَرْشِي، فَنَظَرْتُ وأَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي جَلَّ جَلَالُهُ إِلَى سَاقِ الْعَرْشِ، فَرَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ نُوراً فِي كُلِّ نُورٍ سَطْرٌ أَخْضَرُ عَلَيْهِ اسْمُوَصِيٍّ مِنْ أَوْصِيَائِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وآخِرُهُمْ مَهْدِيُّ أُمَّتِي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ أَوْصِيَائِي مِنْ بَعْدِي، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَائِي وأَوْصِيَائِي وأَصْفِيَائِي وحُجَجِي بَعْدَكَ عَلَى بَرِيَّتِي وهُمْ أَوْصِيَاؤُكَ وخُلَفَاؤُكَ وخَيْرُ خَلْقِي بَعْدَكَ، وعِزَّتِي وجَلَالِي لأُظْهِرَنَّ بِهِمْ دِينِي، ولأُعْلِيَنَّ بِهِمْ كَلِمَتِي، ولأُطَهِّرَنَّ الْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي، ولَأُمَكِّنَنَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، ولَأُسَخِّرَنَّ لَهُ الرِّيَاحَ، ولأُذَلِّلَنَّ لَهُ السَّحَابَ الصِّعَابَ، ولَأُرَقِّيَنَّهُ فِي الأَسْبَابِ، ولَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، ولأُمِدَّنَّهُ
ص: 310
بِمَلَائِكَتِي، حَتَّى تَعْلُوَ دَعْوَتِي وتَجْمَعَ الْخَلْقُ عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، ولَأُدَاوِلَنَّ الْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).
مسألة: يستحب نعي المؤمن للناس، وعدم إهماله وتركه غريباً منسي الذكر، ويتأكد الاستحباب كلما كان المؤمن أعظم منزلة، فكيف إذا كان المعصوم عليه السلام.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) جَاءَهُمْجَبْرَئِيلُ (عليه السلام) والنَّبِيُّ مُسَجًّى وفِي الْبَيْتِ عَلِيٌّ وفَاطِمَةُ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (عليهم السلام) فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، ومَا الْحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، ودَرَكاً لِمَا فَاتَ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، هَذَا آخِرُ وَطْئِي مِنَ الدُّنْيَا، قَالُوا: فَسَمِعْنَا الصَّوْتَ ولَمْ نَرَ الشَّخْصَ»(2).
ص: 311
مسألة: يستحب نعي المؤمن للملائكة، وكذا لمن في هو عالم الغيب في الجملة، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذ نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جبرئيل، والملاك في سائر الملائكة موجود، وفي غيره (صلوات الله عليه) أيضاً، وإن كان الاختلاف في الدرجات والمنازل بما لا يقاس.
هذا حسب بعض النسخ.
وفي بعضها: (يا أبتاه جبرئيل إلينا ينعاه)(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «نَعَى جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) الْحُسَيْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) وجَبْرَئِيلُ عِنْدَهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا تَقْتُلُهُ أُمَّتُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَرِنِي مِنَ التُّرْبَةِ الَّتِي يُسْفَكُ فِيهَا دَمُهُ، فَتَنَاوَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) قَبْضَةً مِنْ تِلْكَ التُّرْبَةِ فَإِذَا هِيَ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ»(2).
مسألة: يجوز الإخبار عن الغيب في الجملة فيما يقطع به، كما أخبرت الصديقة (صلوات الله عليها) ب (جنة الفردوس مأواه).
كما يجوز الإخبار عنه في المظنون منه بالظن المعتبر كذلك، وعلى هذا يجوز
ص: 312
الإخبار عن دخول هذا المؤمن الميت الجنة، ودخول هذا الكافر النار، ما دام قد ثبت إيمانه ووفاته على الإيمان، أو كفره ووفاته على الكفر.
وقولها (عليها السلام): (ما أدناه) يحتمل إرادة القرب من الله تعالى، لما له من المنزلة الرفيعة عنده، ويحتمل إرادة الدنو من الموت والرحيل، فإن الموت من وجه يقرب الإنسان إلى لقاء ربه(1).
وفي نهج البلاغة: «مَا كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، ولا ضَلَلْتُ ولا ضُلَّ بِي»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ (جَلَّ ذِكْرُهُ) أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كِتَاباً بَيَّنَ فِيهِ مَا كَانَ ومَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ، فِي قَوْلِهِ: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وهُدىً ورَحْمَةً وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ»(3)، وَفِي قَوْلِهِ: «كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»(4)، وَفِي قَوْلِهِ: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ»(5)، وَفِي قَوْلِهِ: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ والْأَرْضِ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ»(6)، وَأَوْحَى اللَّهُ (تَعَالَى) إِلَى نَبِيِّهِ (عليه السلام) أَنْ لا يُبْقِيَ فِي غَيْبِهِ وسِرِّهِ ومَكْنُونِ عِلْمِهِ شَيْئاً إلاّ يُنَاجِي بِهِ عَلِيّا»(7).
وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لَوْ كَانَ لأَلْسِنَتِكُمْ أَوْكِيَةٌ لَحَدَّثْتُ كُلَّ امْرِئٍ
ص: 313
بِمَا لَهُ وعَلَيْهِ»(1).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): مَنْ لَنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا كَمَا كَانَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ بِأَيَّامِهِمْ وتِلْكَ الْمُعْضِلاتِ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ فِيكُمْ مِثْلَهُ أُولَئِكَ كَانَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَوْكِيَةٌ»(2).
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) لأمير المؤمنين علي (صلى الله عليه وآله): «فكيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أما كان في صدوركم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الرحمة؟ أما كان معلم الخير؟.
قال (عليه السلام): بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذي لا مرد له.
فجعلت (عليها السلام) تبكي وتندب وتقول: يا أبتاه الآن انقطع جبريل (عليه السلام)، وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء»(3).
ص: 314
مسألة: يجوز إثارة الحزن وتهييجه وتجديده بذكر مصائب الفقيد مرة تلو الأخرى، فيما كان الفقيد مستحقاً لذلك.
ويتأكد الاستحباب وربما وجب ذلك في الجملة، في مصاب النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد عنهم (عليهم الصلاة والسلام): «يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا».
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا، واخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، ويَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، ويَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وإِلَيْنَا»(1).
بالإضافة إلى أنه نوع مواساة وهي مستحبة شرعاً وعقلاً.
ولعل قول الصديقة (عليها السلام): (أما كان في صدوركم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الرحمة) تعريض بأولئك الذين آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته وظلموه وأهل بيته حتى جرعوه الغصص وسقوه السم.روي أنه أَشْرَفَ مَوْلًى لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) وهُوَ فِي سَقِيفَةٍ لَهُ سَاجِدٌ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: يَا مَوْلَايَ يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضِيَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وقَالَ: «وَيْلَكَ» أَوْ «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، واللَّهِ لَقَدْ شَكَا يَعْقُوبُ إِلَى رَبِّهِ فِي أَقَلَّ مِمَّا رَأَيْتَ حَتَّى قَالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ، إَنَّهُ فَقَدَ ابْناً وَاحِداً وأَنَا رَأَيْتُ
ص: 315
أَبِي وجَمَاعَةَ أَهْلِ بَيْتِي يُذْبَحُونَ حَوْلِي»، قَالَ: وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَمِيلُ إِلَى وُلْدِ عَقِيلٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُكَ تَمِيلُ إِلَى بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ دُونَ آلِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: «إِنِّي أَذْكُرُ يَوْمَهُمْ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فَأَرِقُّ لَهُمْ»(1).
وروي أنه (عليه السلام) لَقَدْ بَكَى عَلَى أَبِيهِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عِشْرِينَ سَنَةً، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بَكَى، حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضِيَ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ ابْناً فَغَيَّبَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحِداً مِنْهُمْ فَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ عَلَيْهِ وشَابَ رَأْسُهُ مِنَ الْحُزْنِ واحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ مِنَ الْغَمِّ وكَانَ ابْنُهُ حَيّاً فِي الدُّنْيَا وأَنَانَظَرْتُ إِلَى أَبِي وأَخِي وعَمِّي وسَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَقْتُولِينَ حَوْلِي فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي»(2).
مسألة: يجب تنفيذ أمر الله سبحانه، وهذا الوجوب ليس أمراً وراء وجوب امتثال كل واجب واجب، كما سبق، وإلا لزم استحقاق عقابين بالمخالفة وما أشبه.
والوجوب في الأوامر الواجبة، أما المستحبة فالتنفيذ مستحب، كما أن
ص: 316
نواهي الله سبحانه وتعالى يجب الانتهاء عنها بالنسبة إلى المحرمات، ويكره إتيانها في النواهي المكروهة.
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْويلاً»(1).
مسألة: يستحب أن يكون الإنسان رحيماً.
واستحبابه لاختيارية مقدماته عادة،فلا يتوهم عدم الإمكان، ولو سلم فالاستحباب حكم المقدمات، فيأتي الإنسان بمقدمات الرحمة حتى تزرع في صدره، والصفات النفسية إن لم تكن بيد الإنسان كانت مقدماته بيده.
وهكذا في غيرها من الأفعال، فالزراعة يأتي بها الإنسان والإنتاج يكون من الله سبحانه، قال تعالى: «ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(2)، والزراعات النفسية والمعنوية كالزراعات الخارجية المادية.
مضافاً إلى إمكان إرادة مظاهر الرحمة، وحينئذ يكون المستحب الإتيان بمصاديق الرحمة ومظاهرها.
عَنْ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ
ص: 317
لِأَصْحَابِهِ: «اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً مُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وتَلاقَوْا وتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وأَحْيُوهُ»(1).
وعَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ رَحِيمٌ يُحِبُ كُلَّ رَحِيمٍ»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ:«تَوَاصَلُوا وتَبَارُّوا وتَرَاحَمُوا، وكُونُوا إِخْوَةً أَبْرَاراً كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ»(3).
وعن أَمِيرَ الْمُؤْمِنِين (عليه السلام) في حديث إنه قال: «يَا نَوْفُ، ارْحَمْ تُرْحَم»(4).
مسألة: يستحب أن يكون الإنسان معلم الخير.
ولا فرق بين الناس في ذلك مهما كانت وظائفهم وأعمالهم ومواقعهم، فكل إنسان يمكن أن يكون بقدره معلم خير.
هذا في الخير المستحب، أما في الواجب منه فيجب أن يكون الإنسان معلماً للخير الواجب.
ثم إن تعليم الخير قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالتقرير، وقد كان (قولهم وفعلهم وتقريرهم (عليهم السلام) حجة).
ص: 318
كما أن الخير أعم من الخير الدنيوي والأخروي، والمادي والمعنوي، فإن معلم الطب أو الهندسة معلم للخير.
والظاهر أنه لا حقيقة شرعية للخير، نعم قد يقال بالانصراف لشؤون الآخرة،لكنه بدوي، ويؤيده أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان معلم كلا القسمين من الخير.
كما أن الخير أعم من شؤون أصول الدين وفروعه، وكذلك الآداب والأخلاق والحكم والمواعظ وغيرها.
قال تعالى: «وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون»(1).
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَجْوَدِ الأَجْوَادٍ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَجْوَدُ الْأَجْوَادِ اللَّهُ، وأَنَا أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ، وأَجْوَدُهُمْ بَعْدِي رَجُلٌ عَلِمَ بَعْدِي عِلْماً فَنَشَرَهُ ويُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً، ورَجُلٌ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ»(2).
وَعَنْهُ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ عَلَّمَ عِلْماً فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة»(3).
وَقَالَ (عليه السلام): «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَلْتَمِسُ بَاباً مِنَ الْعِلْمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ويُعَلِّمَهُ غَيْرَهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِبَادَةَ أَلْفِ سَنَةٍ صِيَامَهَا وقِيَامَهَا،وحَفَّتْهُ
ص: 319
الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وصَلَّى عَلَيْهِ طُيُورُ السَّمَاءِ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ ودَوَابُّ الْبَرِّ، وأَنْزَلَهُ اللَّهُ مَنْزِلَةَ سَبْعِينَ صِدِّيقاً، وكَانَ خَيْراً لَهُ أَنْ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَهُ فَجَعَلَهَا فِي الْآخِرَة»(1).
وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلَّمَ بَاباً مِنَ الْعِلْمِ لِيُعَلِّمَهُ النَّاسَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ سَبْعِينَ نَبِيّا»(2).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ عَلَّمَ خَيْراً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ».
قُلْتُ: فَإِنْ عَلَّمَهُ غَيْرَهُ يَجْرِي ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: «إِنْ عَلَّمَهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَرَى لَهُ»، قُلْتُ: فَإِنْ مَاتَ، قَالَ: «وإِنْ مَاتَ»(3).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ مُعَلِّمَ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ دَوَابُّ الأَرْضِ، وحِيتَانُ الْبَحْرِ، وكُلُّ ذِي رُوحٍ فِي الْهَوَاءِ، وجَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وإِنَّ الْعَالِمَ والْمُتَعَلِّمَ فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ، يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِكَفَرَسَيْ رِهَانٍ يَزْدَحِمَانِ»(4).
ص: 320
وقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَا أَهْدَى الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ هَدِيَّةً أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ حِكْمَةٍ تَزِيدُهُ هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى»(1).
وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «نِعْمَ الْعَطِيَّةُ ونِعْمَ الْهَدِيَّةُ الْمَوْعِظَةُ»(2).
وفي الرواية: وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى (عليه السلام): «تَعَلَّمِ الْخَيْرَ وعَلِّمْهُ مَنْ لا يَعْلَمُهُ، فَإِنِّي مُنَوِّرٌ لِمُعَلِّمِي الْخَيْرِ ومُتَعَلِّمِيهِ قُبُورَهُمْ حَتَّى لا يَسْتَوْحِشُوا بِمَكَانِهِم»(3).
مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان معلم الخير.
قال تعالى: «لَقَدْ مَنّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَوَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ»(4).
فإن بيان أنه (صلى الله عليه وآله) معلّم الخير يوجب اغتراف الناس من ذلك المعين الصافي الذي ينفع الدين والدنيا.
قال تعالى: «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ
ص: 321
مُبينٍ»(1).
وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «كَانَ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِلِسَانِكُمْ وكُنْتُمْ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِفُونَ وَجْهَهُ وشُعَبَهُ وعِمَارَتَهُ، فَعَلَّمَكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والْفَرَائِضَ والسُّنَّةَ وأَمَرَكُمْ بِصِلَةِ أَرْحَامِكُمْ وحَقْنِ دِمَائِكُمْ وصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، و«أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها»(2)، وأَنْ تُوفُوا بِالْعَهْدِ، «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها»(3)، وأَمَرَكُمْ أَنْ تَعَاطَفُوا وتَبَارُّوا وتَبَاذَلُوا وتَرَاحَمُوا، ونَهَاكُمْ عَنِ التَّنَاهُبِ والتَّظَالُمِ والتَّحَاسُدِ والتَّقَاذُفِ والتَّبَاغِي، وعَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وبَخْسِ الْمِكْيَالِ ونَقْصِ الْمِيزَانِ، تَقَدَّمَ إِلَيْكُمْفِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ إلاّ تَزْنُوا ولا تَرْبُوا ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً، و«أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها»(4)، «ولا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»(5)، «ولا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُ المُعْتَدِينَ»(6)، وكُلُّ خَيْرٍ يُدْنِي إِلَى الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ أَمَرَكُمْ بِهِ وكُلُّ شَرٍّ يُبَاعِدُ مِنَ الْجَنَّةِ ويُدْنِي مِنَ النَّارِ نَهَاكُمْ عَنْه»(7).
ص: 322
مسألة: يستحب البكاء والندبة على مصاب الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
وقد ذكرنا أن من فوائد ذلك التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر، فإنه سبب لمعرفة الناس بهم والأخذ من علومهم (صلوات الله عليهم أجمعين)، هذا مضافاً إلى أن مثل البكاء والندبة يوجب رقة النفس في قبال القسوة، ورقة النفس من أفضل الصفات النفسية.
وقد يجب البكاء والندبة وجوباً كفائياً لكونه من شعائر الله وحفظها واجب، كما يجب إذا توقف إحقاق الحق أو إبطال الباطل عليه ولو بالوجوب المقدمي العقلي، أو باعتبار كونه أحد مصاديق إحياء ذكرهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وحفظه عن الاندراس، فوجوبه تخييري على هذا، فتأمل.
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عِنْدَ دَفْنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله):
«إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إلاّ عَنْكَ، وإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إلاّ عَلَيْكَ، وإِنَّ الْمُصَابَ بِي عَلَيْكَ لَجَلِيلٌ، وإِنَّهُ قَبْلَكَ وبَعْدَكَ لَجَلَلٌ»(1).
مسألة: يجوز التفجع والتوجع وإظهار الحزن من غير كفران، على فقدان النعم الكبيرة، سواء كان فقدها لأمر اختياري أم لا.
ص: 323
وذلك استناداً إلى ما صنعت الصديقة الكبرى (صلوات الله عليها) حيث قالت: (يا أبتاه .. الآن انقطع جبرئيل) إلى غيره.
وعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الْبَكَّاءُونَ خَمْسَةٌ، آدَمُ ويَعْقُوبُ ويُوسُفُ وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهم السلام).
فَأَمَّا آدَمُ فَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ حَتَّى صَارَ فِي خَدَّيْهِ أَمْثَالُ الْأَوْدِيَةِ.
وأَمَّا يَعْقُوبُ فَبَكَى عَلَى يُوسُفَ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ، وحَتَّى قِيلَ لَهُ: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ.
وأَمَّا يُوسُفُ فَبَكَى عَلَى يَعْقُوبَ حَتَّى تَأَذَّى بِهِ أَهْلُ السِّجْنِ فَقَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تَبْكِيَ اللَّيْلَ وتَسْكُتَ بِالنَّهَارِ وإِمَّا أَنْ تَبْكِيَ النَّهَارَ وتَسْكُتَ بِاللَّيْلِ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَمَّا فَاطِمَةُ فَبَكَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى تَأَذَّى بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا لَهَا: قَدْ آذَيْتِنَا بِكَثْرَةِ بُكَائِكِ،فَكَانَتْ تَخْرُجُ إِلَى الْمَقَابِرِ مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ فَتَبْكِي حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا ثُمَّ تَنْصَرِفُ.
وأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَبَكَى عَلَى الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، مَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بَكَى، حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ، قالَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، إِنِّي مَا أَذْكُرُ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إلاّ خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ»(1).
ص: 324
مسألة: يستحب الإخبار عن النعمة في الجملة، فإنه نوع شكر لها، وقد قالت (صلوات الله عليها): «وكان جبرئيل (عليه السلام) يأتينا بالوحي من السماء».
مسألة: يستحب وقد يجب الإخبار عن بعض شؤون العقائد، وإن كان موجباً لإنكار بعض الناس أو سخريتهم، إذ لا يوجد حق يظهره المؤمن إلاّ كانوا به يستهزؤون.
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا تُمْسِكْ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِ إِذَا وَجَدْتَ لَهُ أَهْلًا»(1).
فإذا وجد الأهل لابد من إظهار الحق وإن استهزأ به آخرون.
ومما يستند إليه في ذلك قول الصديقة (صلوات الله عليها) في هذه الرواية: (وكان جبرئيل يأتينا بالوحي من السماء).
فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يرى جبرئيل (عليه
السلام) ويسمع صوته، وعلي وفاطمة (عليهما السلام) كانا يسمعان صوتهكما في الروايات، وهل كان ذلك دائماً أو في بعض أنواع الوحي، الله العالم.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ مُحَدَّثَةً، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُنَادِيهَا كَمَا تُنَادِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَتَقُولُ: يَا
ص: 325
فَاطِمَةُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، يَا فَاطِمَةُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، فَتُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ: أَلَيْسَتِ الْمُفَضَّلَةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَكِ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِكِ وَعَالَمِهَا وَسَيِّدَةَ نِسَاءِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ»(1).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بَاتَ آلُ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) بِأَطْوَلِ لَيْلَةٍ حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لا سَمَاءَ تُظِلُّهُمْ ولا أَرْضَ تُقِلُّهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَتَرَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبْعَدِينَ فِي اللَّهِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ آتٍ لا يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍوَنَجَاةً مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ وَدَرَكاً لِمَا فَاتَ «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ»(2) إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَكُمْ وَفَضَّلَكُمْ وَطَهَّرَكُمْ وَجَعَلَكُمْ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَاسْتَوْدَعَكُمْ عِلْمَهُ وَأَوْرَثَكُمْ كِتَابَهُ وَجَعَلَكُمْ تَابُوتَ عِلْمِهِ وَعَصَا عِزِّهِ وَضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ نُورِهِ وَعَصَمَكُمْ مِنَ الزَّلَلِ وَآمَنَكُمْ مِنَ الْفِتَنِ فَتَعَزَّوْا بِعَزَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْزِعْ مِنْكُمْ رَحْمَتَهُ وَلَنْ يُزِيلَ عَنْكُمْ نِعْمَتَهُ، فَأَنْتُمْ أَهْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ بِهِمْ تَمَّتِ النِّعْمَةُ وَاجْتَمَعَتِ الْفُرْقَةُ وَائْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ، وَأَنْتُمْ أَوْلِيَاؤُهُ فَمَنْ تَوَلَّاكُمْ فَازَ، وَمَنْ ظَلَمَ حَقَّكُمْ زَهَقَ
ص: 326
، مَوَدَّتُكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ فِي كِتَابِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ اللَّهُ عَلَى نَصْرِكُمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، فَاصْبِرُوا لِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ، قَدْ قَبِلَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ وَدِيعَةً وَاسْتَوْدَعَكُمْ أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَدَّى أَمَانَتَهُ آتَاهُ اللَّهُ صِدْقَهُ، فَأَنْتُمُ الْأَمَانَةُ الْمُسْتَوْدَعَةُ، وَلَكُمُ الْمَوَدَّةُ الْوَاجِبَةُ وَالطَّاعَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَدْ أَكْمَلَ لَكُمُ الدِّينَ، وَبَيَّنَ لَكُمْ سَبِيلَ الْمَخْرَجِ، فَلَمْ يَتْرُكْ لِجَاهِلٍ حُجَّةً، فَمَنْ جَهِلَ أَوْ تَجَاهَلَ أَوْ أَنْكَرَ أَوْ نَسِيَ أَوْ تَنَاسَى فَعَلَى اللَّهِ حِسَابُهُ وَاللَّهُ مِنْوَرَاءِ حَوَائِجِكُمْ وَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَسَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام): مِمَّنْ أَتَاهُمُ التَّعْزِيَةُ، فَقَالَ: مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(1).
ص: 327
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «يا أنس أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التراب ورجعتم».
-------------------------------------------
مسألة: يجوز الرثاء بما يوجب تسلّي النفس.
ولا يخفى أن الرثاء(1) إنشاء، ولا يأتي في الإنشاء الصدق والكذب، إلاّ إذا جُعل الإنشاء طريقاً إلى الإخبار، كما إذا قال الفقير: (أعطني شيئاً) والمخاطب يعلم بأنه غني، فيقول إنه يكذب، فإن تكذيبه ليس راجعاً إلى إنشائه بطلبه، وإنما راجع إلى المقصود بالإنشاء من الإخبار بأنه فقير.
أو إذا قال: ادخل الدار، والمأمور أو السامع يعلم أن القائل لا يريد دخوله، فيقول: إنه يكذب، ومراده أن الإرادة المنكشفة بالأمر ليست على حقيقتها وجديتها فهي لا تطابق واقعه، وهكذا.
ولذا يلزم في لسان الحال أن يطابقلسانُ حاله حالَه، أي مقامه وشأنه وحالته، والمراد به ما يقتضيه المقام، فإذا قال لصاحب المنبر والمحراب بعد فوته: من للمنبر والمحراب كان من الرثاء الصحيح، أما إذا قال لفاسق لا يرتقي المنبر ولا
ص: 328
يصلي في المحراب: من للمنبر والمحراب؟ كان رثاءً غير صحيح، لأنه لا يقتضيه الحال، فهو كاذب لما يتضمنه أو يستلزمه هذا الإنشاء من الإخبار.
ومن الرثاء الصادق المستحب، رثاء الأولياء:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فِي رثاء أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام):
أَبَا طَالِبٍ عِصْمَةَ الْمُسْتَجِيرِ *** وَ غَيْثَ المُحُولِ ونُورَ الظُّلَمِ
لَقَدْ هَدَّ فَقْدُكَ أَهْلَ الْحِفَاظِ *** فَصَلَّى عَلَيْكَ وَلِيُّ النِّعَمِ
وَلَقَّاكَ رَبُّكَ رِضْوَانَهُ *** فَقَدْ كُنْتَ لِلْمُصْطَفَى خَيْرَ عَمّ (1)
* وروي أَنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا مَاتَتْ أَنْشَأَ عَلِيٌّ (عليهما السلام):
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ *** يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَاتِ
لا خَيْرَ بَعْدَك فِي الْحَيَاةِ وإِنَّمَا *** أَبْكِي مَخَافَةَ أَنْ تَطُولَ حَيَاتِي»(2)
* ولمّا دفن (صلى الله عليه وآله) قالت فاطمة ابنته (عليها السلام):
اغبرّ آفاق السماء وكوّرت *** شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبيّ كئيبة *** أسفا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها *** و لتبكه مضر وكلّ يمان
وليبكه الطود المعظم جوّه *** و البيت ذو الأستار والأركان
ص: 329
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه *** صلّى عليك منزّل القرآن»(1)
مسألة: يحرم أن تطيب نفس الإنسان بفقد المعصوم (عليه السلام) ودفنه، بمعنى: الفرح بموته واستشهاده، وكذلك بفقد العالم الصالح وموت المؤمن.
أما إذا كان طيب النفس بمعنى الرضا بقضاء الله وقدره وبأمره التشريعي والتكويني، فيرضى بما قد أداه من تكليفه الشرعي الذي أمره الله سبحانه به كدفن الميت مثلاً، فإن ذلك من لوازم الإيمان.
روي إنّ ابن زياد جلس في القصر للناس، وأذن إذناً عامّاً، وجي ء برأسالحسين (عليه السلام) فوضع بين يديه، وادخل نساء الحسين (عليه السلام) وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت عليّ (عليهما السلام) متنكّرة، فسأل عنها، فقيل: هذه زينب بنت عليّ. فأقبل عليها فقال: الحمد للّه الذي فضحكم وأكذب احدوثتكم!.
فقالت: إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فقال ابن زياد (لعنه اللّه): كيف رأيت صنع اللّه بأخيك وأهل بيتك؟
فَقَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ إلاّ جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وتُخَاصَمُ فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ
ص: 330
يَوْمَئِذٍ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَة»(1).
مسألة: يستحب البقاء عند قبر الميت شيئاً بعد دفنه، وعدم الذهاب بسرعة، فإن في البقاء نوع مواساة لذوي الميت، بل للميت نفسه، وفيه عبرةواعتبار، وهو نوع وفاء أيضاً، ولعل قول الصديقة (صلوات الله عليها): (أطابت أنفسكم... ورجعتم) إشارة إلى ذلك.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عِنْدَ قَبْرِ الْمَيِّتِ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ، ويَقْبِضَ عَلَى التُّرَابِ بِكَفَّيْهِ ويُلَقِّنَهُ بِرَفِيعِ صَوْتِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كُفِيَ الْمَيِّتُ الْمَسْأَلَةَ فِي قَبْرِهِ»(2).
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى سارية(3) في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي (صلى الله عليه وآله):
ص: 331
قَدْ كَانَ بَعْدَكَ أَنْبَاءٌ وهَنْبَثَةٌ(1) *** لَوْ كُنْتَ شَاهِدَهَا لَمْ يَكْثُرِ الْخَطْبُ
إِنَّا فَقَدْنَاكَ فَقْدَ الْأَرْضِ وَابِلَهَا *** وَاخْتَلَّ قَوْمُكَ فَاشْهَدْهُمْ ولا تَغِب (2)
مسألة: يجب إحياء ظلامات أهل البيت (عليهم السلام) وبيانها، ولا يجوز تركها تندرس أو تنسى، ومنه ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام): (جاءت فاطمة إلى ...).
ويشمله أيضاً قوله (عليه السلام): «أحيوا أمرنا»(3)، الظاهر في الوجوب.
وفي الآية الشريفة: «يُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم»(4).
والوجوب كفائي، وإذا لم يقم به من فيه الكفاية وجب على الجميع.
عن أَبُي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ وأَنَا حَاضِرٌ: «اتَّقُوا اللَّهَ، وكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً مُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وتَلَاقَوْا وتَذَاكَرُوا وأَحْيُوا أَمْرَنَا»(5).
وَقَالَ الإمام الباقر (عليه السلام): «أَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا»(6).
ص: 332
مسألة: ينبغي القيام بمحاسبة الأُمة وبتقييم حركتها بين فترة وأخرى، بقصد تصحيح مسيرتها، وقد يجب ذلك، ووجوبه كفائي على الجميع، ويتأكد في قادة الأُمة وسادتها، وقد قامت السيدة الصديقة (عليها السلام) بذلك في هذه الرواية والروايات اللاحقة.
عَنِ الصَّادِقِينَ (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالُوا: «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُلِبَ نُورَ الْإِيمَانِ»(1).
وقَالَ أميرالمؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، ولَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا، وتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا، وأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، والنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ والْمَغِيبِ، والإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُم»(2).
مسألة: ليس النقد البناء ولا التظلم والجهر بمثالب الطغاة من الغيبة المحرمة في شيء، سواء كان النقد لشخص أو جماعة أو أمة، كما سبق ذلك في أجزاء الكتاب.
ص: 333
وقد قالت الصديقة (صلوات الله عليها): (قد كان بعد أنباء وهنبثة) و(واختل قومك...)، فإن في ذلك إبطالاً للباطل، ونهياً عن المنكر، ورفعاً له، وربما كان دفعاً أيضاً.
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهُمْ حُرْمَةٌ، صَاحِبُ هَوًى مُبْتَدِعٌ، والْإِمَامُ الْجَائِرُ، والْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِالْفِسْقِ»(1).
وعَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) قَالَ: «إِذَا جَاهَرَ الْفَاسِقُ بِفِسْقِهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ ولا غِيبَةَ»(2).
مسألة: يجوز التحسر والتألم على الأمر وإن علم أنه مما لا بد منه، بل التحسر على مثل فقد النبي (صلى الله عليه وآله)مستحب.
لا يقال: يلزم الرضا بالقضاء والقدر.
لأنه يقال: التألم والبكاء ونظائرهما من قضاء الله أيضاً، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وفاة ابنه إبراهيم (عليه السلام): «يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما لا يرضي الرب»(3)، كما قال أمير المؤمنين (عليهالسلام): «من قضاء
ص: 334
الله إلى قدره»(1).
عَنِ النَّائِبِ بْنِ بُرَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ الطَّاهِرُ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَكَيْتَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْعَيْنَ تَذْرِفُ، وإِنَّ الدَّمْعَ يَغْلِبُ، وإِنَّ الْقَلْبَ يَحْزَنُ، ولا نَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وجَل»(2).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ
ص: 335
اللَّهِ (عليه السلام) وَجْداً وَجَدْتُهُ عَلَى ابْنٍ لِي هَلَكَ حَتَّى خِفْتُ عَلَى عَقْلِي، فَقَالَ: «إِذَا أَصَابَكَ مِنْ هَذَا شَيْ ءٌ فَأَفِضْ مِنْ دُمُوعِكَ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْكَ»(1).
وقَالَ الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْدٍ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيُفِضْ مِنْ دُمُوعِهِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْهُ»(2).
مسألتان: يجوز خطاب الميت والتكلم معه وإخباره بما جرى بعده من الأنباء والقضايا وإن لم تكن راجعة إلى نفس الراثي.
كما يجوز خطاب الغائب كذلك، وليس ذلك لغواً ولا عبثاً، لأن الميت يسمع في الجملة، ومثل النبي (صلى الله عليه وآله) يسمع مطلقاً، أما من لا يسمع فالفائدة إسماع الأحياء بهذه الطريقة.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): نَزُورُ الْمَوْتَى، فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَيَسْمَعُونَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَاهُمْ، قَالَ: إِي واللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ بِكُمْ ويَفْرَحُونَ بِكُمْ ويَسْتَأْنِسُونَ إِلَيْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيَّ شَيْ ءٍ نَقُولُ إِذَا أَتَيْنَاهُمْ، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جُنُوبِهِمْ، وصَاعِدْ إِلَيْكَ أَرْوَاحَهُمْ، ولَقِّهِمْ مِنْكَ رِضْوَاناً، وأَسْكِنْ إِلَيْهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ مَا تَصِلُ بِهِ وَحْدَتَهُمْ، وتُؤْنِسُ بِهِ وَحْشَتَهُمْ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».
ص: 336
وَمِنْ كِتَابِ مَدِينَةِ الْعِلْمِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ بَابَوَيْهِ أَيْضاً، بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثٍ قَال:َ قُلْتُ يَعْنِي لِأَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام): هَلْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ تَسْلِيمَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ يَسْمَعُأُولَئِكَ وهُمْ كُفَّارٌ ولا يَسْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ».
وقال ابن طاووس: وقوله (عليه السلام) يسمع أولئك وهم كفار، لعله أراد الكفار الذين خَاطَبَهُمُ النَّبِيُّ (عليه السلام) لَمَّا قَتَلَهُمْ بِبَدْرٍ ورَمَوْهُمْ فِي الْقَلِيبِ، فَإِنَّهُ (عليه السلام) قَالَ لَهُمْ: «قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً» ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُون»(1).
وروي فيما وقع بعد واقعة الجمل: ..ثُمَّ مَشَى (أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلامُ) قَلِيلًا فَمَرَّ بِكَعْبِ بْنِ سُورٍ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي خَرَجَ عَلَيْنَا فِي عُنُقِهِ الْمُصْحَفُ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَاصِرُ أُمِّهِ، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَا فِيهِ وهُوَ لا يَعْلَمُ مَا فِيهِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ فَ- «خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»(2)، أَمَا إِنَّهُ دَعَا اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَنِي فَقَتَلَهُ اللَّهُ، أَجْلِسُوا كَعْبَ بْنَ سُورٍ، فَأُجْلِسَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): يَا كَعْبُ لَقَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّاً.
ثُمَّ قَالَ: أَضْجِعُوا كَعْباً، ومَرَّ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا النَّاكِثُ بَيْعَتِي والْمُنْشِئُ الْفِتْنَةَ فِي الْأُمَّةِ والْمُجْلِبُ عَلَيَّ والدَّاعِي إِلَى قَتْلِي وقَتْلِ عِتْرَتِي.أَجْلِسُوا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأُجْلِسَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: «يَا طَلْحَةُ قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّاً» ثُمَّ قَالَ:
ص: 337
أَضْجِعُوا طَلْحَةَ، وسَارَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُكَلِّمُ كَعْباً وطَلْحَةَ بَعْدَ قَتْلِهِمَا، فَقَالَ: «أَمَ واللَّهِ لَقَدْ سَمِعَا كَلَامِي كَمَا سَمِعَ أَهْلُ الْقَلِيبِ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ بَدْرٍ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان أنباء وهنبثة.
وقد يجب ذلك إذا كان سبباً لوضوح الحق واتباعه، والنفرة عن الظالمين والطغاة والغاصبين للخلافة، والالتفاف حول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وذويه (صلوات الله عليهم أجمعين).
قال تعالى: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ اللهُ سَميعاً عَليماً»(2).
مسألة: يلزم انتخاب المكان والزمان الأكثر تأثيراً والأوصل للناس، للدفاع عن المظلوم وإدانة الظلام.
والظاهر أن الصديقة (صلوات الله عليها) لذلك جاءت إلى سارية المسجد
ص: 338
وخاطبت النبي (صلى الله عليه وآله) عندها، ولعل مجيئها للسارية لكي تستر بها قدر المستطاع مع إتمام الحجة بوجودها بشخصها، فقد جمعت بين الأمرين والحقين بذلك.
كما يحتمل أن يكون مجيؤها (عليها السلام) لسارية المسجد لكي تتكأ عليها حين كلامها، وإتماماً للحجة، بعد أن أنهكها التعب والمرض لما أصابها من كسر الضلع وإسقاط الجنين المحسن (عليه سلام الله، وعلى ظالميها لعائن الله والملائكة والناس أجمعين).
قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «كُنْ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً ولِلظَّالِمِ خَصْماً»(1).
مسألة: يجوز الإجمال في بيان المظالم وإدانة الظالم، كما يجوز التفصيل، كلحسب موقعه، وقد قالت (صلوات الله عليها): (قد كان بعدك أنباء وهنبثة) أي أمر شديد مختلط.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اضمنوا لي ستّ خصال أضمن لكم الجنّة، لا تظالموا عند قسمة مواريثكم، وأنصفوا النّاس من أنفسكم، ولا تجبنوا عند قتال عدوّكم، ولا تغلوا غنائمكم، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم»(2).
وقَالَ أميرالمؤمنين (عليه السلام): «والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ إلاّ
ص: 339
يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز»(1).
مسألة: ينبغي محاسبة الأُمة كما ينبغي الرقابة عليها في الجملة، وذلك كي لا تزيغ عن الطريق القويم والصراط المستقيم، ضمن الأطر الشرعية، بما لا يكون تجسساً على الناس ولا تضييقاًلحرياتهم المشروعة وما أشبه.
قَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): «زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»(2).
وعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَا أَقَرَّ قَوْمٌ بِالْمُنْكَرِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لا يُغَيِّرُونَهُ إلاّ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»(3).
مسألة: ينبغي القيام بتقييم حركات الأُمة بين فترة وأخرى بقصد تصحيح مسيرتها، وقد يجب ذلك، وهو واجب كفائي على الجميع، ويتأكد في قادة الأمة وسادتها.
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ« قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي طَرِيقِ
ص: 340
الْمَدِينَةِ فَقَالَ: «مَنْ ذَا، أَحَارِثٌ» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَا لأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ» ثُمَّ مَضَى فَأَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَدَخَلْتُ فَقُلْتُ: لَقِيتَنِي فَقُلْتَ لَأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: «نَعَمْ مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ ومَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهِ الْأَذَى أَنْ تَأْتُوهُ فَتُؤَنِّبُوهُ وتُعَذِّلُوهُ وتَقُولُوا لَهُ قَوْلًا بَلِيغاً» فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِذاً لا يُطِيعُونَّا ولا يَقْبَلُونَ مِنَّا، فَقَالَ: «اهْجُرُوهُمْ واجْتَنِبُوا مَجَالِسَهُمْ»(1).
وقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) لِقَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «إِنَّهُ قَدْ حَقَّ لِي أَنْ آخُذَ الْبَرِي ءَ مِنْكُمْ بِالسَّقِيمِ، وكَيْفَ لا يَحِقُّ لِي ذَلِكَ وأَنْتُمْ يَبْلُغُكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمُ الْقَبِيحُ فَلَا تُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ولا تَهْجُرُونَهُ ولا تُؤْذُونَهُ حَتَّى يَتْرُكَ»(2).
مسألة: يجب التأكيد على ارتباط أهل البيت (عليهم السلام) بعالم الغيب، بل على الارتباط الخاص الوثيق بينهما، وعلى خصوص ارتباط الصديقة (صلوات الله عليها) بأنحاء عديدة بعالم الغيب، ومنه قولها (عليها السلام): (وكان جبرئيل روح القدس زائرنا)، فإن ظاهر قولها (كان ... زائرنا) هو الديمومة والاستمراروالتكرار، وإلاّ لاكتفت بالفعل الماضي وقالت: (وزارنا جبرئيل).
سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ، فَقَالَ: «هُوَ جِلْدُ
ص: 341
ثَوْرٍ مَمْلُوٍّ عِلْماً»، فَقَالَ لَهُ: مَا الْجَامِعَةُ، فَقَالَ: «تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ فِيهَا كُلَّمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ ولَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إلاّ وفِيهَا أَرْشُ الْخَدْشِ»، قَالَ لَهُ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وعَمَّا لا تُرِيدُونَ، إِنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً وقَدْ كَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا وكَانَ جَبْرَئِيلُ يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاهَا عَلَى أَبِيهَا ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِهِ ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ يَكْتُبُ ذَلِكَ فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ»(1).
وعَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَةَ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ، وذَلِكَ لِأَنِّي نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ قَالَ: فَقُلْتُ ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ(عليها السلام) مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الْحُزْنِ مَا لا يَعْلَمُهُ إلاّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي عَنْهَا غَمَّهَا ويُحَدِّثُهَا فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ لَهَا: إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكَ فَسَمِعْتِ الصَّوْتَ فَقُولِي لِي، فَأَعْلَمْتُهُ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ كُلَّمَا سَمِعَ حَتَّى أَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ والْحَرَامِ ولَكِنْ فِيهِ عِلْمُ مَا يَكُونُ»(2).
وعَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ: تَوَجَّهْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا طَيْبَةُ، فَدَخَلَهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا مُعَتِّبُ إِنِّي صَلَّيْتُ إِلَى
ص: 342
ضَيْعَةٍ لَهُ مَعَ أَبِي الْفَجْرَ ذَاتَ يَوْمٍ فَجَلَسَ أَبِي يُسَبِّحُ اللَّهَ، فَبَيْنَا هُوَ يُسَبِّحُ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ طَوِيلٌ جَمِيلٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ واللِّحْيَةِ فَسَلَّمَ عَلَى أَبِي وشَابٌّ مُقْبِلٌ فِي أَثَرِهِ فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ فَسَلَّمَ عَلَى أَبِي وأَخَذَ بِيَدِ الشَّيْخِ وقَالَ: قُمْ فَإِنَّكَ لَمْ تُؤْمَرْ بِهَذَا، فَلَمَّا ذَهَبَا مِنْ عِنْدِ أَبِي قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ وهَذَا الشَّابُّ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ هَذَا واللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ وهَذَا جَبْرَئِيلُ»(1).
مسألة: يجب الإيمان بنزول الكتب من الله تعالى على رسوله محمد (صلى الله عليه وآله)، والمراد بالكتب إما القرآن الكريم فإنه وإن كان كتاباً واحداً باعتبار ما بين الدفتين إلاّ أنه كُتب عديدة بلحاظ آخر.
أو المراد القرآن وغيره مما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما يسمى بالحديث القدسي(2) وغيره.
وربما أريد به كتب التشريع والتكوين.
ولو أريد به المعنى الأخص لشمل قول الصديقة (عليها السلام): (كتب) غيرها أيضاً(3).
قال تعالى: «وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وبِالْآخِرَةِ
ص: 343
هُمْ يُوقِنُون»(1).
وقال سبحانه: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وما يَكْفُرُ بِها إلاّ الْفاسِقُون»(2).
وقال تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وما أُنْزِلَ إِلَيْنا وما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهيمَ وإِسْماعيلَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ والْأَسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون»(3).
وقال سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإِلَيْكَ المَصير»(4).
وقال تعالى: «وَهَذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون»(5).
وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «ثُمَّ وَصَفَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ فَقَالَ: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ»(6) يَا مُحَمَّدُ «وما أُنْزِلَ مِنْ
ص: 344
قَبْلِكَ» عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ، كَالتَّوْرَاةِ والْإِنْجِيلِ والزَّبُورِ، وصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، بِأَنَّهَا حَقٌّ وصِدْقٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْعَزِيزِ، الصَّادِقِ، الْحَكِيمِ»(1).
مسألة: يجب الجهر بالحق وفضح الظالم،وإن سبب ذلك الاختلاف بين الناس، ولا يصغى إلى ما يقال من أن الوحدة مقدمة على قول الحق.
قال الله تعالى: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ ومَا اخْتَلَفَ فيهِ إلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ واللهُ يَهْدي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيم»(2).
ولذلك جهر الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بالحق، وفضحوا الظلمة، مع أن ذلك سبّب انشقاق الأمة والاختلاف الشديد في الناس.
قالت الصديقة (عليها السلام): (واختل يومك) في الحديث السابق، وقالت في هذا الحديث: (رزئنا بما لم يرزء ذو شجن).
ص: 345
مسألة: يجرد الفعل الماضي عن معنى المضي إذا نسب إلى ما لا يتعقل فيه ذلك، وهو الله تعالى.
وكذلك إذا نسب إلى ما يعلم عدم المضي فيه.
وعليه يحمل قول الصديقة (عليها السلام): (وكنت بدراً ونوراً يستضاء به)، مع العلم أنه (صلوات الله عليه) كان ولا يزال وسيبقى نوراً يستضاء به، نعم قد يحمل هذا الإخبار على مرتبة خاصة من الإنارة أو على نوع معين منها.
وقد ورد في الزيارة: «كُنْتَ نُوراً فِي الْأَصْلَابِ الشَّامِخَةِ، ونُوراً فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، ونُوراً فِي الْهَوَاءِ، ونُوراً فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، كُنْتَ فِيهَا نُوراً سَاطِعاً لا يُطْفَأُ»(1).
وعَنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ سَأَلَ الصَّادِقَ (عليه السلام): مَا كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والْأَرَضِينَ؟ قَالَ: «كُنَّا أَنْوَاراً حَوْلَ الْعَرْشِ نُسَبِّحُ اللَّهَ ونُقَدِّسُهُ حَتَّى خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ»(2) الخبر.
ص: 346
في المناقب لابن شهر آشوب: أنشدت الزهراء (عليها السلام) بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله):
وَقَدْ رُزِئْنَا بِهِ مَحْضاً خَلِيقَتَهُ *** صَافِي الضَّرَائِبِ وَالأَعْرَاقِ وَالنَّسَبِ (1)
وَ كُنْتَ بَدْراً وَ نُوراً يُسْتَضَاءُ بِهِ *** عَلَيْكَ تَنْزِلُ مِنْ ذِي الْعِزَّةِ الْكُتُبُ
وَكَانَ جَبْرَئِيلُ رُوحُ الْقُدُسِ زَائِرَنَا *** فَغَابَ عَنَّا وَ كُلُّ الْخَيْرِ مُحْتَجِبٌ
فَلَيْتَ قَبْلَكَ كَانَ الْمَوْتُ صَادَفَنَا *** لَمَّا مَضَيْتَ وَ حَالَتْ دُونَكَ الْحُجُبُ
إِنَّا رُزِئْنَا بِمَا لَمْ يُرْزَ ذُو شَجَنٍ *** مِنَ الْبَرِيَّةِ لا عُجْمٍ وَ لا عُرْبٍ
ضَاقَتْ عَلَيَّ بِلَادٌ بَعْدَ مَا رَحُبَتْ *** وَ سِيمَ سِبْطَاكَ خَسْفاً فِيهِ لِي نَصَبٌ
فَأَنْتَ وَ اللَّهِ خَيْرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ *** وَأَصْدَقُ النَّاسِ حَيْثُ الصِّدْقُ وَ الْكَذِبُ
فَسَوْفَ نَبْكِيكَ مَا عِشْنَا وَ مَا بَقِيَتْ *** مِنَّا الْعُيُونُ بِتِهْمَالٍ لَهَا سَكْب (2)
ص: 347
مسألة: يجوز التعبير بما جرى العرف على التعبير به في الجملة، وإن كان في ظاهره غير مطابق للواقع، فالمراد يكون مجازاً.
ومنه قول الصديقة (صلوات الله عليها): (وحالت دونك الحجب) مع علمنا بأنه (صلى الله عليه وآله) لا تحول دونه الحجب.
أو يقال: إن المراد من (حالت) أي ظاهراً.
وكذلك قولها (عليها السلام): (وكل الخير محتجب)، المنزل منزلة المبالغة الجائزة بل الراجحة شرعاً أحياناً.
مسألة: التألم لمصاب العظيم وإن لم يكن معصوماً فكيف به (عليه السلام) مطلوب وراجح، أما الجزع فيختلف باختلاف الموارد وهو مطلوب في المعصومين (عليهم السلام).
وقول الصديقة (عليها السلام): (إنا رزئنا) تألم وإخبار، بل وإدانة للظالم أيضاً، وليس جزعاً مرجوحاً كما هو واضح.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍقَالَ: «كُلُ الْجَزَعِ والْبُكَاءِ مَكْرُوهٌ سِوَى الْجَزَعِ والْبُكَاءِ عَلَى الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ»(1).
ص: 348
وَقَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: «إِنَّ حُزْنَنَا عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِه»(1).
مسألة: الضيق نفسي وجسمي، وكما يحرم التضييق على شخص بحبسه مثلاً، أو منعه من السفر، كذلك يحرم التضييق النفسي عليه، كأن يهدده بما يجعله في ضيق.
وأما التضييق على المعصوم (عليه السلام) ومنه ما فعله القوم من ظلمها، كما قالت: (ضاقت علي بلاد بعد ما رحبت) فهو من أشد المحرمات الموجبة لدخول النار.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بعضة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(2).وقال أبو ذر (رحمة الله عليه): دَخَلَتْ فاطمة (عليها
السلام) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) انْكَبَّتْ عَلَيْهِ وبَكَتْ، وبَكَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِبُكَائِهَا وضَمَّهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا فَاطِمَةُ لا تَبْكِيِنَّ فِدَاكِ أَبُوكِ، فَأَنْتِ أَوَّلُ مَنْ تَلْحَقِينَ بِي مَظْلُومَةً مَغْصُوبَةً، وسَوْفَ يَظْهَرُ بَعْدِي حَسِيكَةُ النِّفَاقِ وسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّينِ وأَنْتِ أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ قَالَتْ: يَا أَبَهْ أَيْنَ أَلْقَاكَ، قَالَ: تَلْقَيْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ وأَنَا أَسْقِي شِيعَتَكِ ومُحِبِّيكِ
ص: 349
وأَطْرُدُ أَعْدَاءَكِ ومُبْغِضِيكِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْحَوْضِ، قَالَ: تَلْقَيْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ، قَالَتْ: يَا أَبَهْ وإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ، قَالَ: تَلْقَيْنِي عِنْدَ الصِّرَاطِ وأَنَا أَقُولُ: سَلِّمْ سَلِّمْ شِيعَةَ عَلِيٍّ»، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَسَكَنَ قَلْبُهَا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّهَا بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، إلاّ إِنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وبَعْلَهَا سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ وابْنَيْهَا الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وإِنَّهُمْ إِمَامَانِ إِنْ قَامَا أَوْ قَعَدَا، وأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا، وسَوْفَ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الْحُسَيْنِ تِسْعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَعْصُومُونَ قَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ» قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَمِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَكَ، قَالَ: عَدَدَ نُقَبَاءِ بَنِيإِسْرَائِيلَ»(1).
قال الكراجكي في كتابه(2): ومن العجب: اعترافهم بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها»(3).
وقال: «فاطمة بضعة منّي يؤلمني ما يؤلمها»(4).
وقال: «من آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه»(5).
ص: 350
ثمّ إنّهم يعلمون ويتّفقون أنّ ابن أبي قحافة أغضبها وآلمها وآذاها، فلا يقولون: هو هذا إنّه ظلمها، ويدّعون أنّها طلبت باطلا، فكيف يصحّ هذا؟ ومتى يتخلّص ابن أبي قحافة من أن يكون ظالماً وقد أغضب من يغضب لغضبه اللّه، وآلم هو بضعةً لرسول اللّه، ويتألّم لألمها،وآذى من في أذيّته أذيّة اللّه ورسوله، وقد قال اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً»(1)، وهل هذا إلاّ مباهتة في تصويب الظالم، وتهوّر في ارتكاب المظالم، ومن العجب قول بعضهم أيضا: إنّ ابن أبي قحافة كان يعلم صدق الطاهرة فاطمة (عليها صلوات اللّه) فيما طلبته من نحلته من أبيها، لكنّه لم يكن يرى أن يحكم بعلمه، فاحتاج في إمضاء الحكم لها إلى بيّنة تشهد بها.
مسألة: تشتد الحرمة والعقوبة بظلم يتعدى عن المظلوم إلى غيره، وإن كان غير مباشر.
ومنه ما أشارت إليه الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب).
ومن ذلك يظهر أن عقوبة الظالم في الآخرة تشتد، بسجنه الأب مثلاً ظلماً، لما ينال أبناء وزوجة ذلك المظلوم من الأذى والنصب والعناء والتعب.
ص: 351
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):«الجور تبعات»(1).
وقال(عليه السلام): «الظُّلْمُ تَبِعَاتٌ مُوبِقَاتٌ»(2).
وقال (عليه السلام): «مَنْ ظَلَمَ يَتِيماً عَقَّ أَوْلادَهُ»(3).
وقال (عليه السلام): «ظُلْمُ الْيَتَامَى وِالأَيَامَى يُنْزِلُ النِّقَمَ ويَسْلُبُ النِّعَمَ»(4).
مسألة: يستحب مدح الميت بما فيه من الصفات الحسنة، ولا ينبغي وربما لا يجوز ذكره بالصفات السيئة، إلاّ إذا كان لجهة أهم، فإنه من القدح في الميت، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اذكروا موتاكم بالخير»(5).
ولا فرق في ذلك - مستثنى ومستثنى منه - بين الميت الواحد أو المتعدد، وبين شخص مات أو قوم قضوا نحبهم.قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ»(6).
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «لا تَقُولُوا فِي مَوْتَاكُمْ إلاّ خَيْراً»(7).
ص: 352
وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَمْوَاتِكُمْ وكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِم»(1).
وهكذا وردت الشهادة للمؤمن الميت بالخير في الصلاة عليه والدعاء له.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «تُكَبِّرُ ثُمَّ تَشَهَّدُ ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ الْمَوْتِ والْحَيَاةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِهِ، جَزَى اللَّهُ عَنَّا مُحَمَّداً خَيْرَ الْجَزَاءِ بِمَا صَنَعَ بِأُمَّتِهِ وبِمَا بَلَّغَ مِنْ رِسَالاتِ رَبِّهِ، ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتُهُ بِيَدِكَ خَلَا مِنَ الدُّنْيَا واحْتَاجَ إِلَى رَحْمَتِكَ وأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَعْلَمُ مِنْهُ إلاّ خَيْراً وأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِناً فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ وتَقَبَّلْ مِنْهُ، وإِنْ كَانَ مُسِيئاً فَاغْفِرْ لَهُ ذَنْبَهُ وارْحَمْهُ وتَجَاوَزْ عَنْهُ بِرَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِنَبِيِّكَ وثَبِّتْهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا وبِهِ سَبِيلَ الْهُدَى واهْدِنَا وإِيَّاهُ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، اللَّهُمَّ عَفْوَكَ عَفْوَكَ»(2).
وعَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) مَا أَقُولُ إِذَا أَدْخَلْتُ الْمَيِّتَ مِنَّا قَبْرَهُ، قَالَ: قُلِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ فُلَانٌ وابْنُ عَبْدِكَ، قَدْ نَزَلَ بِكَ وأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وقَدِ احْتَاجَ إِلَى رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ ولا نَعْلَمُ مِنْهُ إلاّ خَيْراً وأَنْتَ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ، ونَحْنُ الشُّهَدَاءُ بِعَلَانِيَتِهِ، اللَّهُمَّ فَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، ولَقِّنْهُ حُجَّتَهُ، واجْعَلْ هَذَا الْيَوْمَ خَيْرَ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْهِ، واجْعَلْ هَذَا الْقَبْرَ خَيْرَ بَيْتٍ نَزَلَ فِيهِ، وصَيِّرْهُ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ، ووَسِّعْ لَهُ فِي مَدْخَلِهِ، وآنِسْ وَحْشَتَهُ
ص: 353
، واغْفِرْ ذَنْبَهُ، ولا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، ولا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ»(1).
مسألة: القسم بالله تعالى مرجوح في حد ذاته، إلاّ أنه قد يكون راجحاً، بل ربما وجب إذا توقف إحقاق الحق عليه.
وقد تكرر القسم في القرآن الكريموفي الأحاديث الشريفة لذلك وغيره، وقد سبق البحث عن ذلك في مطاوي الكتاب.
قال تعالى: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّاً * فَالزَّاجِراتِ زَجْراً * فَالتَّالِياتِ ذِكْراً»(2).
وقال سبحانه: «وَالْكِتابِ المُبينِ»(3).
وقال تعالى: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً * فَالْحامِلاتِ وِقْراً * فَالْجارِياتِ يُسْراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً»(4).
وقال عزوجل: «لعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون»(5).
وكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَحْكِي لَهُ شَيْئاً، فَكَتَبَ (عليه السلام) إِلَيْهِ: «واللَّهِ مَا كَانَ ذَلِكَ، وإِنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ واللَّهِ عَلَى حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ
ص: 354
ولَكِنَّهُ غَمَّنِي أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يَكُنْ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «اجْتَمَعَ الْحَوَارِيُّونَ إِلَى عِيسَى (عليه السلام) فَقَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ أَرْشِدْنَا، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ أَمَرَكُمْ أَنْ لا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ، وأَنَا آمُرُكُمْ أَنْ لا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ ولا صَادِقِينَ»(2).
مسألة: البكاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) مستحب على امتداد العمر، ولا يتوقف عند حد، فإن شؤون العاطفة كشؤون العقل، تتوقف عليها استقامة حياة الإنسان وسلامتها، بل يتوقف عليها معاً تطور الحياة وازدهارها.
وقد ورد استحباب أن يتذكر المصاب مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنها أعظم المصائب.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(3).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِنْ أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِكَ أَوْ فِي مَالِكَ أَوْ فِي وُلْدِكَ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ الْخَلائِقَ لَمْ
ص: 355
يُصَابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(1).
وقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِيفَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(2).
وقد أَنْشَأَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):
الْمَوْتُ لاوَالِداً يُبْقِي ولا وَلَداً *** هَذَا السَّبِيلُ إِلَى أَنْ لا تَرَى أَحَداً
هَذَا النَّبِيُّ ولَمْ يَخْلُدْ لِأُمَّتِهِ *** لَوْ خَلَّدَ اللَّهُ خَلْقاً قَبْلَهُ خَلَدَا
لِلْمَوْتِ فِينَا سِهَامٌ غَيْرُ خَاطِئَةٍ *** مَنْ فَاتَهُ الْيَوْمَ سَهْمٌ لَمْ يَفُتْهُ غَدا (3)
وقالت الصديقة الزهراء (عليها السلام):
إِذَا مَاتَ يَوْماً مَيِّتٌ قَلَّ ذِكْرُهُ *** وَ ذِكْرُ أَبِي مُذْ مَاتَ واللَّهِ أَزْيَدُ
تَذَكَّرْتُ لَمَّا فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَنَا *** فَعَزَّيْتُ نَفْسِي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْمَمَاتَ سَبِيلُنَا *** وَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي يَوْمِهِ مَاتَ فِي غَد(4)
مسألة: كما يستحب أصل البكاء على مصائب أهل البيت (عليهم السلام) يستحب أيضاً بعض خصوصياته، ككونه (بِتَهْمالٍ لَهَا سَكْبٌ) كما إشارت إليه الصديقة الطاهرة (عليها السلام) ههنا.
ص: 356
وككونه بصوت عال، كما ورد فيالرواية المعتبرة: «وَارْحَمْ تِلْكَ الصَّرْخَةَ الَّتِي كَانَتْ لَنَا»(1).
وفي دعاء الندبة: «ويضج الضاجون، ويعج العاجون، أين الحسن أين الحسين، أين أبناء الحسين، صالح بعد صالح ...» (2).
مسألة: يحرم نسبة النقص والسوء ومطلق ما يشين خَلقاً أو خُلقاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه (صلى الله عليه وآله) كان (محضاً خليقته) كما ذكرت الصديقة (عليها السلام).
ومما يفيده أيضاً قوله تعالى: «إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(3).
وبذلك يظهر حرمة ما نسبته العامة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من جهله بأوضح ما كان يعرفه حتى الزرّاع في المدينة حيث أضرّهم بمشورته، كما فيبعض مصادرهم وصحاحهم(4).
ص: 357
ذلك(1)، مما تجرح نسبته إلى سيد خلائق الله قلبَ كل مؤمن.
فإن نسبة ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أقبح القبائح وأشد المحرمات وأعظم الآثام.
مسألتان: يستحب التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) مهما أمكن، في أحسن السجية، كما يستحب التخير للأولادباختيار العرق الأصلح.
قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيراً»(2).
ص: 359
وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِالدَّيْنِ واقْتَفَى أَثَرَ النَّبِيِّينَ»(1).
وقال (عليه السلام): «مَا أَعْظَمَ فَوْزَ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ النَّبِيِّين»(2)
وقال (عليه السلام): «أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) والْمُقْتَصُّ أَثَرَه»(3).
وقال (عليه السلام): «اقْتَدُوا بِهُدَى نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَصْدَقُ الْهُدَى واسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ»(4).
ص: 360
وقالت الصديقة فاطمة (عليه السلام) في رثاء أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله):
قُلْ لِلْمُغَيَّبِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى *** إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتِي ونِدَائِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا *** صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا
قَدْ كُنْتُ ذَاتَ حِمًى بِظِلِّ مُحَمَّدٍ *** لا أَخْشَ مِنْ ضَيْمٍ وكَانَ حِمًا لِيَا
فَالْيَوْمَ أَخْشَعُ لِلذَّلِيلِ وأَتَّقِي *** ضَيْمِي وأَدْفَعُ ظَالِمِي بِرِدَائِيَا
فَإِذَا بَكَتْ قُمْرِيَّةٌ فِي لَيْلِهَا *** شَجْناً عَلَى غُصْنٍ بَكَيْتُ صَبَاحِيَا
فَلأَجْعَلَنَّ الْحُزْنَ بَعْدَكَ مُؤْنِسِي *** وَ لأَجْعَلَنَّ الدَّمْعَ فِيكَ وِشَاحِيَا
مَا ذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ *** أَنْ لايَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا(1)
مسألة: يصح خطاب المجهول، كما يصح خطاب المعلوم.
ويصح أيضاً أن يجرد الخطاب منهما فلا يكون خطاباً لشخص بل رمزاً(2)،
ص: 361
ولعل منه قولها (عليها السلام): «قل للمغيب...» إلاّ أن الأول أظهر.
مسألة: يجوز تشبيه المعقول بالمحسوس في الجملة وإن تضمن المبالغة، بل ربما كان من مصاديق المستحب أو الواجب بالمعنى الأعم، فيما كان مقدمة لإبطال الباطل وإحقاق الحق الواجب، فتأمل.
وقد ذكرنا في في الإيصال:
(وما اشتهر في ألسنة بعضهم، من أن المعصوم لا يبالغ، يراد به المبالغة التى ليست من طريقة البلغاء، وإلا فهي من محسنات الكلام. نعم المبالغة التي هي خارجة عن أسلوب البلغاء، لا مجال له في كلام المعصوم. كما أن المجاز الّذي ليس من طريقتهم، لا مجال له في كلامهم (عليهم السلام)، فإن كلاً من المجاز والمبالغة - وهو فرع من المجاز - إذا لم يرد بهما معناهما البلاغي، بل أريد بهما المعنى الحقيقي كان كذبا، والعادل لا يكذب، فكيف بالمعصوم عليه السلام)(1).
والظاهر أن قول الصديقة (صلوات الله عليها): (صبت .. لو أنها ...) ليس فيهمن المبالغة شيء، فإنه إذا لوحظت فداحة الجريمة بذاتها ومقارناتها ولوازمها، ولوحظت عظمة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لعرفنا أن هذا الكلام لا مبالغة فيه بوجه أبداً.
وهكذا كانت المصائب التي ترد على الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).
ص: 362
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر»(1).
وقال الصادق (عليه السلام): «العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا»(2).
وقال (عليه السلام): «إنّ اللّه سبّق بين المؤمنين كما يسبّق بين الخيل يوم الرّهان ثمّ فضّلهم على درجاتهم في السبق إليه»(3).
وقال (عليه السلام): «الصبر رأس الإيمان»(4).
إلى غيرها من الروايات، وكذلك الآيات.
مسألة: تجوز بالمعنى الأعم المقارنة بين فضائل الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) كما تجوز المقارنة بين ماجرى عليهم من المصائب، وذلك لإبراز أفضلية بعضهم على بعض بما فضله الله، ولذا قالت (صلوات الله عليها): (إنا رزئنا ..).
ص: 363
فائدة:
(إن) الشرطية قد تستخدم للدلالة على التحقق أو على معنى المطلوبية سواء مع تجريدها عن معنى الشرط أم لا.
فمن الأول: قولها (صلوات الله عليها) ههنا: (إن كنت تسمع صرختي وندائيا) فإنه لا شك في سماعه (صلى الله عليه وآله) لها (عليها السلام) بل وشهوده على الخلائق.
ومن الثاني:
(إذا شئت النجاة فزر حسيناً لكي تلقى الإله قرير عين).
وقول الإمام الحسن (عليه السلام): «وإِذَا أَرَدْتَ عِزّاً بِلا عَشِيرَةٍ وهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ فَاخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ»(1).
ولعل منه قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني»(2)، فتأمل.
ص: 364
مسألة: الصدق مستحب وقد يكون واجباً كما مر سابقاً.
ثم إن الصدق على درجات ومراتب كيفاً، كما أنه قد يكون أوسع دائرةً أو أضيق كماً.
وبذلك يظهر بعض معنى قول الصديقة (صلوات الله عليها): «وأصدق الناس حيث الصدق والكذب»، ولعل المراد من الصدق ههنا معنى أوسع وأعمق من المطابقة للواقع أو للاعتبار.
مسألة: يأثم كل من كان المباشر للظلم والمعين عليه بواسطة أو بوسائط وإن كانت بعيدة، والمصائب التي صبت على الصديقة (صلوات الله عليها) يشترك في إثمها المخططون والمنفذون، وحتى من شارك بتكثير السواد، بل ومن رضي بذلك وإن جاء بعده بأجيال.
ومنه يعلم أن من شارك في (السقيفة) بأي نحو كان ولو من بعيد أو بسكوت أو بالرضا فإنه يتحمل وزر المصائب التي وردت على الصديقة الطاهرة (عليها السلام) ولو بنسبة.فإن اللاحقين إذا رضوا بظلم السابقين شاركوهم في الآثام، كما دلت على ذلك الروايات.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الْعَامِلُ بِالظُّلْمِ والْمُعِينُ لَهُ والرَّاضِي بِهِ
ص: 365
شُرَكَاءُ ثَلاثَتُهُمْ»(1).
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ ومَنْ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ رَبَطَ كِيساً أَوْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةَ قَلَمٍ فَاحْشُرُوهُمْ مَعَهُمْ»(2).
وعن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قول الله: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(3) وقد علم أن هؤلاء لم يقتلوا، ولكن فقد كان هواؤهم مع الذين قتلوا، فسماهم الله قاتلين، لمتابعة هوائهم ورضاهم لذلك الفعل»(4).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «لعن الله القدرية، لعن الله الحرورية، لعن اللهالمرجئة، لعن الله المرجئة»، قلت له: جعلت فداك كيف لعنت هؤلاء مرة، ولعنت هؤلاء مرتين، فقال: «إن هؤلاء زعموا أن الذين قتلونا مؤمنين، فثيابهم ملطخة بدمائنا إلى يوم القيامة، أما تسمع لقول الله: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا إلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» إلى قوله «صادِقِينَ»(5) قال: فكان بين الذين خوطبوا بهذا القول، وبين القاتلين خمسمائة عام، فسماهم الله قاتلين برضاهم بما صنع
ص: 366
أولئك»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(2) وقد علم أن قالوا: والله ما قتلنا ولا شهدنا، قال: وإنما قيل لهم ابرءوا من قتلتهم فأبوا»(3).
وعن محمد بن الأرقط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لي: «تنزل الكوفة»، قلت: نعم، قال: «فترون قتلة الحسين عَلَيْهِ السَّلَامُ بين أظهركم»، قال: قلتجعلت فداك ما رأيت منهم أحداً، قال: «فإذاً أنت لا ترى القاتل إلاّ من قتل أو من ولي القتل، أ لم تسمع إلى قول الله: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(4) فأي رسول قبل الذي كان محمد (صلى الله عليه وآله) بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى (عليه السلام) رسول، إنما رضوا قتل أولئك فسموا قاتلين»(5).
ص: 367
مسألة: يستحب التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) في كونه حمى للصديقة الطاهرة (عليها السلام) فيما يمكننا القيام به الآن.
قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثيراً»(1).
وعَنْ عِيسَى الضَّرِيرِ، عَنِ الْكَاظِمِ (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: فَمَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: فَقَالَ: ثُمَّ دَعَا عَلِيّاً وفَاطِمَةَ والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهم السلام) وقَالَ لِمَنْ فِي بَيْتِهِ: اخْرُجُوا عَنِّي، وقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: كُونِي عَلَى الْبَابِ فَلَا يَقْرَبْهُ أَحَدٌ، فَفَلَعَتْ.
ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ ادْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَأَخَذَ بِيَدِ فَاطِمَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى صَدْرِهِ طَوِيلًا وأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْكَلَامَ غَلَبَتْهُ عَبْرَتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ بُكَاءً شَدِيداً وعَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (عليهم السلام) لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله).
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَطَعْتَ قَلْبِي وأَحْرَقْتَ كَبِدِي لِبُكَائِكَ يَا سَيِّدَالنَّبِيِّينَ مِنَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ ويَا أَمِينَ رَبِّهِ ورَسُولَهُ، ويَا حَبِيبَهُ ونَبِيَّهُ مَنْ لِوُلْدِي بَعْدَكَ، ولِذُلٍّ يَنْزِلُ بِي بَعْدَكَ، مَنْ لِعَلِيٍّ أَخِيكَ ونَاصِرِ الدِّينِ مَنْ لِوَحْيِ اللَّهِ وأَمْرِهِ، ثُمَّ بَكَتْ وأَكَبَّتْ عَلَى وَجْهِهِ فَقَبَّلَتْهُ وأَكَبَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) فَرَفَعَ رَأْسَهُ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِمْ ويَدُهَا فِي يَدِهِ
ص: 368
فَوَضَعَهَا فِي يَدِ عَلِيٍّ، وقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ هَذِهِ وَدِيعَةُ اللَّهِ ووَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ فَاحْفَظِ اللَّهَ واحْفَظْنِي فِيهَا وإِنَّكَ لِفَاعِلُهُ، يَا عَلِيُّ هَذِهِ واللَّهِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ هَذِهِ واللَّهِ مَرْيَمُ الْكُبْرَى أَمَا واللَّهِ مَا بَلَغَتْ نَفْسِي هَذَا الْمَوْضِعَ حَتَّى سَأَلْتُ اللَّهَ لَهَا ولَكُمْ فَأَعْطَانِي مَا سَأَلْتُهُ، يَا عَلِيُ انْفُذْ لِمَا أَمَرَتْكَ بِهِ فَاطِمَةُ فَقَدْ أَمَرْتُهَا بِأَشْيَاءَ أَمَرَ بِهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، واعْلَمْ يَا عَلِيُّ أَنِّي رَاضٍ عَمَّنْ رَضِيَتْ عَنْهُ ابْنَتِي فَاطِمَةُ، وكَذَلِكَ رَبِّي ومَلَائِكَتُهُ، يَا عَلِيُّ وَيْلٌ لِمَنْ ظَلَمَهَا ووَيْلٌ لِمَنِ ابْتَزَّهَا حَقَّهَا ووَيْلٌ لِمَنْ هَتَكَ حُرْمَتَهَا ووَيْلٌ لِمَنْ أَحْرَقَ بَابَهَا ووَيْلٌ لِمَنْ آذَى خَلِيلَهَا ووَيْلٌ لِمَنْ شَاقَّهَا وبَارَزَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي مِنْهُمْ بَرِي ءٌ وهُمْ مِنِّي بُرَآءُ.
ثُمَّ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وضَمَّ فَاطِمَةَ إِلَيْهِ وعَلِيّاً والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهم السلام) وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَهُمْ ولِمَنْ شَايَعَهُمْ سِلْمٌ، وزَعِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَالْجَنَّةَ، وعَدُوٌّ وحَرْبٌ لِمَنْ عَادَاهُمْ وظَلَمَهُمْ وتَقَدَّمَهُمْ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ وعَنْ شِيعَتِهِمْ، زَعِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ واللَّهِ يَا فَاطِمَةُ لا أَرْضَى حَتَّى تَرْضَى ثُمَّ لا واللَّهِ لا أَرْضَى حَتَّى تَرْضَى ثُمَّ لا واللَّهِ لا أَرْضَى حَتَّى تَرْضَى»(1).
ص: 369
مسألة: يحرم هتك حريم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وسائر أهل البيت (عليهم السلام) في حياتهم وبعد مماتهم.
ومن أظهر مصاديق الهتك: هدم قبورهم ومشاهدهم المشرفة، كما أن من مصاديقه هتك زوارهم وإيذاءهم ومنعهم من زيارتهم أو التبرك بأضرحتهم المنورة (عليهم السلام).
ومن المحرم على الحكومات أن تمنع الزوار بحجة لزوم أخذ التأشيرة وما أشبه، كما أنه من الحرام أخذ الضرائب والرسومات من الزوار(1)، بل يجب على الحكومات أن تسهل الزيارة بتوفير الخدمات اللازمة اللائقة بالزوار، كماأنه يجب على الحكومات أن تستضيف الزوار الفقراء من سائر أنحاء العالم وتدفع لهم كامل النفقة من الزاد والراحلة والسكن وما أشبه.
ص: 370
فإن احترام الزائر وإكرامه احترام للمزور (عليه السلام) وهو من أهم الواجبات، وهتكه من أشد المحرمات.
عن الشيخ عيسى، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْوَفَاةُ دَعَا الأَنْصَارَ وقَالَ:
«... مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ إلاّ فَاسْمَعُوا ومَنْ حَضَرَ، إلاّ إِنَّ فَاطِمَةَ بَابُهَا بَابِي وبَيْتُهَا بَيْتِي، فَمَنْ هَتَكَهُ فَقَدْ هَتَكَ حِجَابَ اللَّهِ» قَالَ عِيسَى: فَبَكَى أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) طَوِيلاً وقَطَعَ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ وَقَالَ: «هُتِكَ واللَّهِ حِجَابُ اللَّهِ، هُتِكَ واللَّهِ حِجَابُ اللَّهِ، هُتِكَ واللَّهِ حِجَابُ اللَّهِ، يَا أُمَّهْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا»(1).
مسألة: يجوز وقد يجب وصف أعداء أهل البيت بما هم أهله، كقول الصديقة(عليها السلام): (لذليل).
فإن من غصب الخلافة كانوا كما وصفهتم الزهراء (عليها السلام) أذلاء عند الله والملائكة وصالح المؤمنين وفي أنفسهم أيضاً، على العكس من المؤمنين إذ قال فيهم ربهم تعالى: «وَللهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنين»(2).
ص: 371
مسألة: يستحب شم تربة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتربة سائر المعصومين (عليهم السلام)، لدلالة عدد من الروايات عليه ولو تضمناً أو التزاماً أو ما أشبه، كدلالة الإيماء والإشارة والاقتضاء، ومنه المقام(1).
رُوِيَ أَنَّهَا (عليها السلام) أَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ (صلى الله عليه وآله) فَوَضَعَتْهَا عَلَى عَيْنَيْهَا وأَنْشَدَتْ تَقُولُ:
مَا ذَا عَلَى مَنْ شَمَ تُرْبَةَ أَحْمَدَ *** أَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا *** صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا(2)
عَنْ صَفْوَانَ الْجَمَّالِ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ الصَّادِقِ (عليه السلام) مِنَ الْمَدِينَةِ أُرِيدُ الْكُوفَةَ فَلَمَّا جُزْنَا بِالْحِيرَةِ قَالَ: يَا صَفْوَانُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: تُخْرِجُ الْمَطَايَا إِلَى الْقَائِمِ جِدَّالطَّرِيقَ إِلَى الْغَرِيِّ، قَالَ صَفْوَانُ: فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى قَائِمِ الْغَرِيِّ أَخْرَجَ رِشَاءً مَعَهُ دَقِيقاً قَدْ عُمِلَ مِنَ الْكِنْبَارِ ثُمَّ أَبْعَدَ مِنَ الْقَائِمِ مَغْرِباً خُطًى كَثِيرَةً ثُمَّ مَدَّ ذَلِكَ الرِّشَاءَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ وَقَفَ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخْرَجَ مِنْهَا كَفّاً مِنْ تُرَابٍ فَشَمَّهُ مَلِيّاً ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَوْضِعِ الْقَبْرِ الْآنَ ثُمَّ ضَرَبَ
ص: 372
بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ إِلَى التُّرْبَةِ فَقَبَضَ مِنْهَا قَبْضَةً ثُمَّ شَمَّهَا ثُمَّ شَهَقَ شَهْقَةً حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ فَارَقَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: هَاهُنَا واللَّهِ مَشْهَدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)(1).
عَنْ هَرْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) غَزْوَةَ صِفِّينَ فَلَمَّا نَزَلْنَا بِكَرْبَلَاءَ صَلَّى بِنَا صَلَاةً، فَلَمَّا سَلَّمَ رَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ تُرْبَتِهَا فَشَمَّهَا ثُمَّ قَالَ: «وَاهاً لَكِ أَيَّتُهَا التُّرْبَةُ، لَيُحْشَرَنَّ مِنْكِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ»(2).وعَنْ أَبِي بَكَّارٍ قَالَ: أَخَذْتُ مِنَ التُّرْبَةِ الَّتِي عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فَإِنَّهَا طِينَةٌ حَمْرَاءُ فَدَخَلْتُ عَلَى الرِّضَا (عليه السلام) فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ فَأَخَذَهَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ شَمَّهَا ثُمَّ بَكَى حَتَّى جَرَتْ دُمُوعُهُ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ تُرْبَةُ جَدِّي»(3).
وفي رواية: ثمّ أخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) تلك القبضة الّتي جاء بها الملك
ص: 373
فشمّها وهو يبكي ويقول في بكائه: «اللّهمّ لا تبارك في قاتل الحسين ولدي، وأصله نار جهنّم».
ثمّ دفع القبضة إلى أمّ سلمة وأخبرها بمقتل الحسين (عليه السلام) على شاطئ الفرات وقال: «يا أمّ سلمة، خذي هذه التربة إليك فإنّها إذا تغيّرت وتحوّلت دما عبيطاً فعند ذلك يقتل ولدي الحسين»(1).
مسألة: يجوز وقد يرجح إخبار الميت(2)بما يجري على الأحياء من بعده من المشاكل والأحزان والهموم والآلام.
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: «دَخَلَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَقْبَرَةً ومَعَهُ أَصْحَابُهُ فَنَادَى: يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، ويَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، ويَا أَهْلَ الْخُمُودِ، ويَا أَهْلَ الْهُمُودِ، أَمَّا أَخْبَارُ مَا عِنْدَنَا فَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ قَدْ قُسِمَتْ، ونِسَاؤُكُمْ قَدْ نُكِحَتْ، ودُورُكُمْ قَدْ سُكِنَتْ، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وقَالَ: أَمَا واللَّهِ لَوْ يُؤَذَنُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَقَالُوا لَمْ يُتَزَوَّدْ مِثْلَ التَّقْوَى زَادٌ خَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى»(3).
وعَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ بِمَنْ يَزُورُ قَبْرَهُ، قَالَ: «نَعَمْ ولا يَزَالُ مُسْتَأْنِساً بِهِ مَا زَالَ عِنْدَهُ، فَإِذَا قَامَ وانْصَرَفَ مِنْ قَبْرِهِ
ص: 374
دَخَلَهُ مِنِ انْصِرَافِهِ عَنْ قَبْرِهِ وَحْشَةٌ»(1).
مسألة: يستحب بيان أن المصائب التي صُبت على الزهراء (عليها السلام) كانت بحيث لو صُبت على الأيام صرن لياليا،بل من الواجب بيان مظلوميتها (صلوات الله عليها) في الجملة.
وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس كما سبقت نظائره، وكما أن المحسوسات على أقدار مختلفة كذلك المعقولات، قال سبحانه: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2)، فإن الأقدار المادية تختلف وكذلك المعنوية، ولذا يقال: فلان بحر لا ينزف وبئر لا تفرغ وشمس مضيئة وقمر منير، وما أشبه ذلك.
روي أنه دَخَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَتْ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عَنْ لَيْلَتِكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَتْ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وكَرَبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وظُلِمَ الْوَصِيُّ وهُتِكَ واللَّهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مُقْتَصَّةً عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ فِي التَّنْزِيلِ، وسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيلِ، ولَكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ كَانَتْ عَلَيْهَا قُلُوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَة»(3).
ص: 375
مسألة: تداعي المعاني الاختياري جائز، وقد يرجح برجحان ما يقصد له، ولعله منه قول الصديقة (عليها السلام): (فإذا بكت... بكيت صياحيا).
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَارَةَ الْكُوفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «مَنْ دَمَعَتْ عَيْنُهُ فِينَا دَمْعَةً لِدَمٍ سُفِكَ لَنَا، أَوْ حَقٍّ لَنَا نُقِصْنَاهُ، أَوْ عِرْضٍ انْتُهِكَ لَنَا، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ شِيعَتِنَا، بَوَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي الْجَنَّةِ حُقُباً»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «يَا فُضَيْلُ فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْلُ مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ ولَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ»(2).
مسألة: الوفاء بالوعد راجح، وقد يلزم، وربما وجب، ومنه قول الصديقة(عليها السلام): (فأجعلن الحزن بعدك..).
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَفِ إِذَا وَعَدَ»(3).
ص: 376
وقَالَ الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَرَى وَعْدَنَا عَلَيْنَا دَيْناً كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله»(1).
وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «من تمام المروّة إنجاز الوعد»(2).
وقال (عليه السلام): «إِنْجَازُ الْوَعْدِ مِنْ دَلائِلِ الْمَجْدِ»(3).
مسألة: الأصل في المؤمن أن يحزن لحزن العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم) ويفرح لفرحهم، لكن هل يستحب جعل الحزن مؤنساً للمرء أبد دهره، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها).
الظاهر أن الأمر تابع لصدق العنوانالثانوي وعدمه.
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا، واخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا ويَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، ويَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا أُولَئِكَ مِنَّا وإِلَيْنَا»(4).
وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَفَسُ الْمَهْمُومِ لَنَا الْمُغْتَمِّ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لِأَمْرِنَا عِبَادَةٌ، وكِتْمَانُهُ لِسِرِّنَا
ص: 377
جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(1).
وقَالَ الرِّضَا (عليه السلام): «مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا وبَكَى لِمَا ارْتُكِبَ مِنَّا كَانَ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ومَنْ ذُكِّرَ بِمُصَابِنَا فَبَكَى وأَبْكَى لَمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي الْعُيُونُ، ومَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يُحْيَا فِيهِ أَمْرُنَا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ»(2).
مسألة: المجاز بالمشارفة والمجاز بالأوْل كلاهما صحيح وجائز، وقد يرجح لاعتبارات خارجية، ومنه قول الصديقة (صلوات الله عليها): (إذا مات يوماً ميت)، فإن المراد من الميت من يوشك على الموت أو من يوول أمره إليه.
ومن أمثلة المجاز بالمشارفة: قول النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُه»(3).
وقوله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلَا يَقِيلُ إلاّ فِي قَبْرِهِ»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكاً إِلَى أَوْجَعِ أَهْلِهِ فَمَسَحَ عَلَى قَلْبِهِ فَأَنْسَاهُ لَوْعَةَ الْحُزْنِ وَ لَوْلا ذَلِكَ لَمْ تُعْمَرِ الدُّنْيَا»(5).
ص: 378
وقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ حَلَّ مَا لَهُ وَ مَا عَلَيْهِ»(1).
مسألة: الحصر الإضافي جائز وليس من أقسام الكذب، بل هو الصدق بعينه ما دام إضافياً، وما أكثره في الروايات وفي لسان العرب وغيرهم، ولعل منه المقام لو فرض أن ذكر شخص ما - كالإمام الحسين (عليه السلام) - هو أكثر من سائر المعصومين (عليه وعليهم السلام)، فتأمل.
مسألة: يستحب السعي لزيادة ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد يجب.
وربما يكون منه تسمية الأولاد بأسمائه (صلى الله عليه وآله).
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّهْقَانِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) فَقَالَ لِي: «مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»(2) فَقُلْتُ: كُلَّمَا ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قَامَ فَصَلَّى، فَقَالَ لِي: لَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا شَطَطاً، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَكَيْفَ هُوَ، فَقَالَ: كُلَّمَا ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(3).وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اللَّه عليه وآله): «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ، وَلَمْ يُسَمِّ
ص: 379
أَحَدَهُمْ مُحَمَّداً، فَقَدْ جَفَانِي»(1).
وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ وُلِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدَهُمْ بِاسْمِي فَقَدْ جَفَانِي»(2).
مسألة: يجب اتقاء الظلم ودفع الظالم بما أمكن من المشروع، ولذا قالت الصديقة (صلوات الله عليها): (وادفع ظالمي بردائيا).
في وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام): اللَّهَ اللَّهَ فِي ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكُمْ فَلَا يُظْلَمُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ وبَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ وأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهُم»(3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله): «ومَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مَلْهُوفاً فِي طَرِيقٍ بِمَرْكُوبٍ لَهُ قَدْ سَقَطَ، وهُوَ يَسْتَغِيثُ ولا يُغَاثُ فَأَغَاثَهُ وحَمَلَهُ عَلَى مَرْكُوبِهِ، وسَوَّى لَهُ، إلاّ قَالَ اللَّهُعَزَّ وجَلَّ:
كَدَدْتَ نَفْسَكَ، وبَذَلْتَ جُهْدَكَ فِي إِغَاثَةِ أَخِيكَ هَذَا الْمُؤْمِنِ، لَأَكُدَّنَّ مَلَائِكَةً هُمْ أَكْثَرُ عَدَداً مِنْ خَلَائِقِ الْإِنْسِ كُلِّهِمْ، مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ، وأَعْظَمُ قُوَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حَمْلُ السَّمَاوَاتِ والْأَرَضِينَ، لِيَبْنُوا لَكَ الْقُصُورَ والْمَسَاكِنَ ولِيَرْفَعُوا لَكَ الدَّرَجَاتِ، فَإِذَا أَنْتَ فِي جَنَّاتِي كَأَحَدِ مُلُوكِهَا الْفَاضِلِينَ.
ص: 380
وَمَنْ دَفَعَ عَنْ مَظْلُومٍ قُصِدَ بِظُلْمٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ، خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنْ حُرُوفِ أَقْوَالِهِ، وحَرَكَاتِ أَفْعَالِهِ، وسُكُونِهَا، أَمْلَاكاً بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مِائَةَ أَلْفِ مَلَكٍ، كُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُونَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ لِإِغْوَائِهِ، فَيَشُجُّونَهُمْ ضَرْباً بِالْأَحْجَارِ الدَّامِغَةِ، وأَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِكُلِّ ذَرَّةِ ضَرَرٍ دَفَعَ عَنْهُ، وبِأَقَلَّ قَلِيلِ جُزْءِ أَلَمِ الضَّرَرِ الَّذِي كَفَّ عَنْهُ، مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ خُدَّامِ الْجِنَانِ، ومِثْلَهُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ الْحِسَانِ، يُدَلِّلُونَهُ هُنَاكَ ويُشَرِّفُونَهُ ويَقُولُونَ: هَذَا بِدَفْعِكَ عَنْ فُلَانٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ»(1).
مسألة: يجب على القادر على دفع الظلمعنه، عدم دفعه إذا كان لدفعه ظلم أكثر وفساد أعظم، فلو علم المظلوم أنه لو هرب من السجن مثلاً فإنهم سيقتلون أهله ويهتكون عرضه لم يجز.
وهذا من مصاديق قانون الأهم والمهم.
ولذلك سكت أمير المؤمنين (عليه السلام) عن إرجاع حقه بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ربه، ولذا قالت الصديقة (عليها السلام): (فاليوم أخشع للذليل) واكتفاؤها بدفع ظالمها بردائها كناية.
هذا إضافة إلى أنهم (عليهم السلام) لم يكونوا مكلفين باستخدام قدرتهم الغيبية، كما أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا كذلك، وإلاّ لقضوا على الجبارة والطغاة بلحظة، وهذا ليس من شأن دنيا الامتحان.
ص: 381
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فِي خُطْبَةِ الشِّقْشِقِيَّةِ: «وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ مِنْهُ السَّيْلُ، ولا يَرْقَى إِلَيْهِ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَيْكَ أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى،وَفِي الْحَلْقِ شَجاً أَرَى تُرَاثِي نَهْباً»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ الْمُهِمِّ قَدْ ضَيَّعَ الأَهَمَ»(2).
ص: 382
وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):
إِذَا مَاتَ يَوْماً مَيِّتٌ قَلَ ذِكْرُهُ *** وَ ذِكْرُ أَبِي مُذْ مَاتَ واللَّهِ أَزْيَدُ
تَذَكَّرْتُ لَمَّا فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَنَا *** فَعَزَّيْتُ نَفْسِي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْمَمَاتَ سَبِيلُنَا *** وَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي يَوْمِهِ مَاتَ فِي غَدٍ (1)
مسألة: يستحب تعزية المرء نفسه بالمعصومين (عليهم السلام) وبما جرى عليهم من المصاب.
فإذا سجن المظلوم فليعز نفسه بالإمام الكاظم (عليه السلام)، وأن سجن الإمام كان أشد بل في قمة الشدة خاصة إذا لوحظت عظمة مقامه وصبره رغم قدرته على الإعجاز.
وإذا صادر الظالم حق شخص عزى نفسه بمصيبة الزهراء (عليها السلام) بمصادرة فدك وغيرها.
وإذا ضُرب شخص عزى نفسه بضرب الصديقة فاطمة (عليها السلام) حتى صار في عضدها كمثل الدملج، وحتى أسقطت جنينها المحسن (عليه السلام).
ص: 383
وإذا فقد إنسان عزيزاً عزى نفسه بمصاب الصديقة (عليها السلام) حيث فقدت أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ مِنْ بَعْدِي فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَداً مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي»(1).
مسألة: يجوز القسم في الرثاء، كما يجوز في المدح، بل هو جائز في كل ما أشبه ذلك من الدعاء والضراعة والمناجاة ونحوها، بل في الخطب والمحاججات الهامة.
مثل قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ»(2).
وكما في الرجز لأبي الفضل العباس (عليه السلام):
والله إن قطعتم يميني *** إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الأمين (3)
ص: 384
مسألة: يستحب تذكير النفس بالموت وأنه سيبل كل حي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَحَبَّهُ اللَّهُ»(1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي جَنَّتِهِ»(2).
وفِي كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وأَهْلِ مِصْرَ قَالَ: «وأَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ عِنْدَ مَا تُنَازِعُكُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَثِيراً مَا يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ حَائِلٌ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الشَّهَوَاتِ»(3).وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): حَدِّثْنِي بِمَا أَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ إِنْسَانٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إلاّ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا»(4).
ص: 385
مسألة: يستحب بيان أن ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) يزداد يوماً بعد يوم.
فإن من طبيعة البشر أن لا يقدّر العظيم في حياته، بل يتم بعض التقدير بعد مماته، كما نشاهد ذلك في العلماء الذين هم بين الناس حيث لا يُقدرون بما يستحقونه، ولكن لما ماتوا قدّروا أكثر.
وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).
ويكون قولها (عليها السلام) أيضاً إخباراً عن المستقبل حيث انتشار الدين الإسلامي.
نعم هناك بعض الأحكام قد تختلف في حياتهم وبعد مماتهم، فمثلاً جواز أنيكون في بيت النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) موضع للتخلي، بينما لا يجوز ذلك بالنسبة إلى مراقدهم الشريفة كالمساجد، إلى غير ذلك.
وقاعدة (حرمته ميتاً كحرمته حياً) المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1) تفيد التساوي كأصل عام، وإن كانت هناك استثناءات، فقطع رأس الحي يوجب الدية كاملة بينما قطع رأس الميت يوجب عشر الدية، إلى غير ذلك، فالقاعدة العامة التساوي إلاّ ما خرج زيادة أو نقيصة.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي رَجُلٍ قَطَعَ رَأْسَ الْمَيِّتِ، قَالَ: «عَلَيْهِ
ص: 386
الدِّيَةُ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ وهُوَ حَيٌّ»(1).
مسألة: يستحب تعزية الآخرين، ومنه تذكيرهم بالموت وأن من لم يمت اليوم يموت غداً.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم
السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليهوآله): «مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي الْمَوْقِفِ حُلَّةً يُحَبَّرُ بِهَا»(2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ عَزَّى مُصَاباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ الْمُصَابِ شَيْئاً»(3).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «كَانَ فِيمَا نَاجَى بِهِ مُوسَى (عليه السلام) رَبَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ مَا لِمَنْ عَزَّى الثَّكْلَى، قَالَ: أُظِلُّهُ فِي ظِلِّي يَوْمَ لا ظِلَ إلاّ ظِلِّي»(4).
ص: 387
قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):
اغبرّ آفاق السماء وكوّرت *** شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبيّ كئيبة *** أسفاً عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلادذوغربها *** ولتبكه مضر وكلّ يمان
وليبكه الطود المعظم جوّه *** ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه *** صلّى عليك منزّل القرآن (1)
مسألة: يجوز المجاز بتشبيه المعقول بالمحسوس، أو تشبيه المحسوس بالمعقول، وكذا سائر أقسام المجازات المقبولة، فإنه في مورده المناسب ليس من الكذب، أما في غير مورده فهو كذب، كما إذا قال للبخيل: أنه بحر، وللجبان أنه أسد، وما أشبه، إلا إذا كان من باب حمل النقيض على النقيض، أو الضد على الضد.
ومن المجاز في الروايات:
ص: 388
قوله (عليه السلام): «إِنَّ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قُفْلًاوَ قُفْلُ الإِيمَانِ الرِّفْقُ»(1).
وقوله (عليه السلام): «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل»(2).
قوله (عليه السلام): «سواد الليل يمحوه النهار وكذلك السيئة يمحوها الحسنة»(3).
ولا يخفى أنه يمكن إبقاء ما ذكرته الصديقة (عليها السلام) في هذا الشعر على ظاهره بإرادة معاني هذه الجمل الحقيقية، بأن تكون آفاق السماء قد اغبرت حقيقة، وتكورت شمس النهار، وأظلم العصران واقعا، ولا مجاز، إذ أي بعد في ذلك، بل له نظائر، غاية الأمر أن يحمل على رؤيتهم (صلوات الله عليهم) ما لا نراه.
وهناك مسائل عديدة يمكن استنباطها من هذه الأبيات، وقد أشير إلى بعضها في ما سبق من هذا الكتاب، مثل: استحباب البكاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسائر المعصومين (عليهم السلام)، واستحباب الأمر بالبكاء عليهم،واستحباب الرثاء عليهم، واستحباب الصلاة عليهم، وما أشبه.
ص: 389
وقالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):
كنت السواد لمقلتي *** يبكي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر(1)
ونسبت هذه الأبيات لأمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2).
مسألة: يجوز المبالغة المعقولة في الرثاء، فإنه خرج من الكذب أمور، منها التورية والمبالغة والإغراق(3).
ص: 390
والإغراق غاية المبالغة فيحدودها المقبولة عند العقلاء.
فقد يكون للتقليل وربما كان بعكسه للتكثير، كقول الشاعر:
ثلاثة تشفق الدنيا لبهجتها *** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فإن تشبيه أبي إسحاق بالشمس والقمر من الإغراق، ومع ذلك فإن مثله مقبول عند العقلاء.
ومن الواضح أن قولها (عليها السلام): «من شاء بعدك فليمت»، ليس طلباً لموت الآخرين، بل هو بيان لعظمة المصيبة بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كأن الحياة لا قيمة لها بعده.
مسألة: ينبغي أن يكون المعصومون (عليهم السلام) بالنسبة للإنسان الأحب إليه والأعز عليه، حتى كأنهم السواد لمقلته، كما قالت الصديقة (صلوات الله عليها).
عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، ويَكُونَ عِتْرَتِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ عِتْرَتِهِ، ويَكُونَ أَهْلِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، ويَكُونَذَاتِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ ذَاتِهِ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ
ص: 391
وأَهْلِهِ ومَالِهِ ووُلْدِه»(1).
وعن أَبَي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قال: «لَا يُمَحِّضُ رَجُلٌ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وأَبِيهِ وأُمِّهِ ووُلْدِهِ وأَهْلِهِ ومَالِهِ ومِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ»(2).
مسألة: ينبغي تربية النفس لتهون عليها كافة مصائبها بالقياس إلى المصاب برسول الله وأهل بيته الأطهار (عليه وعليهم السلام).
ومن هنا يعلم أن إظهار الحزن والعزاء عليهم (صلوات الله عليهم) ينبغي أن يكون أكثر مما يفعله المرء بفقدان أي عزيز عليه.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍقَالَ: «وإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ الْخَلْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(3).
ص: 392
مسألة: يجب الحذر على المعصوم (عليه السلام) وحفظه في كل الجهات، في نفسه وأهله وماله وحقه ومطلق ما يتعلق به.
ولا فرق في ذلك بين حال حياته (عليه السلام) وبعد مماته فيما يمكن حفظه فيه.
ولعله من وجوه قوله (عليه السلام): «فاطمة أم أبيها»(1)، هو كونها (عليها السلام) كانت كما قالت: (فعليك كنت أحاذر)، إذ كانت الصديقة (صلوات الله عليها) تحاذر على أبيها حذر الأم على ابنها، وقد وردت روايات عديدة تدل على ذلك، ومنها مسارعتها لإفشال مخطط المشركين لقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وكما في ليلة المبيت: حيث روى تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ»(2)، وبِالْإِسْنَادِ الْمُقَدَّمِ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ خَلَّفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بِمَكَّةَ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وبِرَدِّ الْوَدَائِعِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ وأَمَرَهُ لَيْلَةَخَرَجَ إِلَى الْغَارِ وقَدْ أَحَاطَ الْمُشْرِكُونَ بِالدَّارِ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ اتَّشِحْ بِبُرْدِيَ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، ثُمَّ نَمْ عَلَى فِرَاشِي فَإِنَّهُ لَا يَخْلُصُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مَكْرُوهٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ (عليه السلام) فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إِلَى جَبْرَئِيلَ ومِيكَائِيلَ عليهما
ص: 393
السلام: أَنِّي قَدْ آخَيْتُ بَيْنَكُمَا وجَعَلْتُ عُمُرَ أَحَدِكُمَا أَطْوَلَ مِنَ الْآخَرِ فَأَيُّكُمَا يُؤْثِرُ صَاحِبَهُ بِالْحَيَاةِ فَاخْتَارَ كِلَاهُمَا الْحَيَاةَ.
فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إِلَيْهِمَا: أَلا كُنْتُمَا مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ آخَيْتُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ يَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ ويُؤْثِرُهُ بِالْحَيَاةِ، اهْبِطَا إِلَى الأَرْضِ فَاحْفَظَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ.
فَنَزَلا فَكَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عِنْدَ رَأْسِهِ ومِيكَائِيلُ (عليه السلام) عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام): بَخْ بَخْ مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ يُبَاهِي اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) وهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ»(1) الآيَةَ(2).
وكما ورد ذلك في يوم عاشوراءبالنسبة الإمام زين العابدين (عليه السلام):
حيث روي أنه التفت الحسين (عليه السلام) عن يمينه فلم ير أحداً من الرجال، والتفت عن يساره فلم ير أحداً، فخرج علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وكان مريضاً لا يقدر أن يقل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه يا: بني ارجع، فقال: «يَا عَمَّتَاهْ ذَرِينِي أُقَاتِلْ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ» فَقَالَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام): «يَا أُمَّ كُلْثُومٍ خُذِيهِ لِئَلَّا تَبْقَى الْأَرْضُ خَالِيَةً مِنْ نَسْلِ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله»(3).
ص: 394
وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):
أنعَتْ نفسَك الدنيا إلينا وأسرعت *** ونادت ألا جدّ الرحيل وودّعت(1)
مسألة: يجوز التكلم بلسان الدنيا ونحوها حسب الضوابط المذكورة في باب لسان الحال.
وهل من ذلك ما ورد من تكلم القبر وما أشبه، احتمالان.
والظاهر أنها حقيقة، فإن كل شيء يسبح بحمد ربه، وكل شيء يتكلم وإن كنا لا نسمع ذلك.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْقَبْرَ يَقُولُ لِلْمَيِّتِ إِذَا وُضِعَ فِيهِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي، أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وبَيْتُ الدُّودِ وبَيْتُ الْآكِلَةِ مَا كَانَ غَرَّكَ بِي، إِذْ كُنْتَ فَوْقِي فَدَّاداً، والْفَدَّادُ الَّذِي يُقَدِّمُ رِجْلاً ويُؤَخِّرُ
ص: 395
أُخْرَى»(1)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ لِلْقَبْرِ كَلَاماً فِي كُلِّ يَوْمٍ يَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا الْقَبْرُ، أَنَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»(2).
قال تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ إِنَّهُ كانَحَليماً غَفُوراً»(3).
يقول الشاعر:
أرى دنياي تؤذن بانطلاق *** مشمرة على قدم وساق
فلا الدنيا بباقية لحي *** ولا حي عن الدنيا بباق
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أن توسم البهائم في وجوهها، وأن يضرب وجوهها فإنها تسبح بحمد ربها»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من طير يصاد في بر ولا بحر، ولا شي ء يصاد من الوحش، إلا بتضييعه التسبيح»(5).
ص: 396
مسألة: يجب الحذر من مضي العمر دون التجهز للآخرة بالعمل الصالح، والحذر من فوات الفرصة دون اغتنامها كما ينبغي، فإن الدنيا قد (نادت: ألا جدّ الرحيل وودعت).
وعلي أي، فإنه لا بُعد في نعي الدنيا بعض الأنفس للناس، كما لا بعد في ندائها الحقيقي ب (ألا جد الرحيل) والروايات المشابهة لهذه الأبيات عديدة.
عن رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) قال: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكاً يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُنَادِي: يَا أَبْنَاءَ الْعِشْرِينَ جِدُّوا واجْتَهِدُوا، ويَا أَبْنَاءَ الثَّلَاثِينَ لا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، ويَا أَبْنَاءَ الْأَرْبَعِينَ مَا ذَا أَعْدَدْتُمْ لِلِقَاءِ رَبِّكُمْ، ويَا أَبْنَاءَ الْخَمْسِينَ أَتَاكُمُ النَّذِيرُ، ويَا أَبْنَاءَ السِّتِّينَ زَرْعٌ آنَ حَصَادُهُ، ويَا أَبْنَاءَ السَّبْعِينَ نُودِيَ لَكُمْ فَأَجِيبُوا، ويَا أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وأَنْتُمْ غَافِلُونَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَوْلا عِبَادٌ رُكَّعٌ، ورِجَالٌ خُشَّعٌ، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وأَنْعَامٌ رُتَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبّاً»(1).وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلا فَاعْمَلُوا والْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، والأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ، والأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ، والْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ، والْمَجَالُ عَرِيضٌ، قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ، وحُلُولِ الْمَوْتِ، فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ حُلُولَهُ وانْتَظِرُوا تَعْجِيلَ قُدُومِهِ»(2).
ص: 397
وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «الْفُرْصَةُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَطِيئَةُ الْعَوْدِ»(1).
مسألة: ينبغي أن يكرر الإنسان بينه وبين نفسه ما فيه الموعظة، كقراءة هذا البيت المروي عن الصديقة (صلوات الله عليها)، لما فيه من الموعظة وتهذيب النفس وللتأسي بها (عليها السلام).
عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ قَلْبِهِ، وزَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِينٌ مُرْشِدٌ، اسْتَمْكَنَ عَدُوُّهُ مِنْ عُنُقِهِ»(2).
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (عليهماالسلام) يَقُولُ: «ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ، ومَا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ لَهَا مِنْ هَمِّكَ، ومَا كَانَ الْخَوْفُ لَكَ شِعَاراً، والْحُزْنُ لَكَ دِثَاراً، إِنَّكَ مَيِّتٌ ومَبْعُوثٌ ومَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَأَعِدَّ جَوَاباً»(3).
ص: 398
إيثار الضيف.. 5
إكرام الضيف.. 6
رضا الطفل المميز 6
إضافة 8
أبوا هذه الأمة 9
من مسؤوليات الوالدين. 9
روايات في مسؤولية الوالدين: 10
حرمة الإسخاط. 11
اشتراك الأئمة في الفضائل. 13
الأبوان والأكثر 16
بين الطاعة والموافقة 17
أبوا هذه الأمة 18
إقامة الأود 19
إنقاذ الأمة 20
إباحة النعيم. 21
أبوا كل أُمة 22
لا نجاة إلا بالطاعة 23
الفوز بالنعيم الدائم. 27
حرمة مخالفة النبي والوصي. 28
ص: 399
الفقهاء آباء أيضاً 29
حقوق الأبوة 31
دفع وهم: 32
أبوا الدين. 33
أبوا هذه الأُمة 33
الوالدان نسباً 34
عدة مسائل: 34
رضاهم يقدّم 36
رضا وسخط الغير. 38
إرضاؤهم واجب.. 41
حرمة إسخاطهما 41
ثواب الطاعة 42
معصية إسخاط النبي. 42
التعامل على الحق. 43
شمولية الخطاب.. 43
منزلة علي وفاطمة 45
التنويع في أساليب الهداية 50
التفاخر بالحق. 51
إبداء الحق ودور الكلام 53
الانتساب.. 54
شجرة النسب.. 55
نسب الصديقة 56
من فضائل الوصي. 57
ص: 400
جبرائيل خادمهم. 58
خطبة الزواج. 60
توزيع المسؤوليات.. 60
شجاعة عرض الحقائق. 60
مولد الإمام 61
الزواج في الرفيع الأعلى. 62
أقرب الناس لرسول الله. 63
الحلف بالموصول. 63
المسارة والمناجاة 63
وحتى اللحظات الأخيرة 64
الأقرب المطلق. 66
التكرار المفيد. 66
نساء النبي المؤمنات.. 67
شجار الملائكة واختيارهم حكماً 68
الملائكة وشبه الاختصام 68
المعصوم أفضل من الملائكة 69
حل المشاجرات.. 75
مرجعية الكفاءات.. 75
عالم الملائكة 76
الحكم العدل. 82
المعروف بعدله عند الملائكة 82
قبول الحكمية 82
من حق المتشاجرين. 83
ص: 401
استحباب اختيار الأفضل. 83
الحَكَم في التشاجر 85
التحاور 86
التشاجر الصوري. 86
من فضائل أمير المؤمنين. 87
خير الأُمة 87
مما يوجب التفاضل. 89
اختيار الزوج. 89
الأعلم بعد النبي. 90
استحباب التعلّم. 92
استحباب الحلم. 94
في زواج البنت.. 95
بيان فضائل الزوج. 96
فضائل أمير المؤمنين. 97
الأكثر حلماً 97
البنت واختيار الزوج. 98
أبوك وزوجك.. 99
الأفضل في المهام الرسالية 99
الزوج الفاضل. 100
من اختارهم الله. 101
حكمة الباري تعالى. 102
الإضافة التشريفية 102
زدني يا أبتاه 105
ص: 402
الغضب الصوري. 107
علي مني وأنا من علي. 108
زيادة رغبة الزوجة في زوجها 110
حرمة إغضاب النبي. 110
حسن الخلق. 112
سلام من السلام 113
الأكرم من هارون. 116
بيان الأسباب.. 118
التعليل وبيان الحِكَم. 118
حقانية النبوة 119
النظر في وجه علي. 119
من بركات النظر 121
السلام على الوصي. 122
الرضا بالربوبية والنبوة والإمامة 123
إجابة الطلب.. 124
التنوع في الخطاب.. 124
النظم والترتيب.. 125
الأرض تحدّث علياً 126
الأرض تكلمهم. 126
سجدة الشكر 130
بشارة المؤمن. 131
النسل الطيب.. 132
العلم ركن في القيادة 133
ص: 403
ضبط النفس.. 135
السجدة الطويلة 137
سجود المعصومين. 140
سجود النبي. 140
سجود أمير المؤمنين. 140
سجود الإمام زين العابدين. 141
سجود الإمام الصادق. 141
سجود الإمام الكاظم. 142
أفضل الخلق. 143
سعة علم المعصوم 143
التوجه إلى المعصوم 144
تحمل المسؤولية 144
الزلزلة 146
الولاية التكوينية 148
خوف الناس واضطرابهم. 149
رد الإساءة بالإحسان. 151
الإنسان وقدره 152
رواية الحديث.. 153
الفزع إلى المعصوم 153
ملجأ الصحابة والأمة 156
استحباب الطمأنينة 157
رفع التعجب.. 158
سورة الزلزلة 159
ص: 404
إجابة الناس وقضاء حوائجهم. 160
المكان والتوجيه الأفضل. 161
التقرير 162
فضل حب الأمير. 163
معنى الغفران في حق المعصوم 163
حب المعصوم سعادة 165
تخصيص العظيم. 166
من بركات الإمام 166
تحصيل السعادة 169
التوقيت.. 170
تأكيد المهم وخاصة الولاية 172
حب الوصي. 173
المحاباة بالباطل. 175
المباهاة بالحق. 175
زيادة حب الوصي. 177
علي وشيعته في الجنة 178
الجنة وأهلها 178
التشيع واجب.. 180
إعلام العالِم. 182
أبشر يا علي. 183
قول أبشر 183
الرواية والطرق المختلفة 184
حق القسم. 185
ص: 405
هذا وشيعته 186
فضائل الوصي. 186
بيان الفضائل. 187
النظر إلى علي. 188
الصراحة في الحق. 189
ليلة المعراج والولاية 190
القرب المعنوي. 190
الأذان والإقامة 191
الشهادة بالولاية في الأذان. 192
بيان حديث المعراج. 193
أهمية الولاية 194
نفي الرؤية 194
استحباب التأكيد. 195
طاعة الوصي ومحاربة أعدائه 196
الإقرار بالشهادة 197
الشهادة بالولاية 197
تكرار الشهادة 198
أبواب الجنة وما كتب عليها 201
علامة طيب المولد. 202
هداية من لا يحب الأمير. 205
رواية الحديث.. 205
أوصاف الجنة 206
فضائل الشيعة 207
ص: 406
التأكيد على الرسالة 208
من هم الفائزون؟ 210
التزيين بالأسماء الطاهرة 211
النداء بكلمة: حبيبي. 212
بيان الحشر والنشر 213
كيف يدعى الناس يوم القيامة 215
بشارة الشيعة 215
ستر الباب.. 216
متى خلقت الجنة والنار 216
كتابات مستحبة 217
الكتابة على الستر. 217
ذكر الاسم في الشهادة 218
ذكر التفاصيل. 218
الفحص والتنقيب.. 219
النسب والحسب.. 219
الولاية يوم الغدير 220
الاعتقاد بالائمة الاثني عشر 221
العظيم يُزار 222
لو حكم الأئمة 223
يا سيدتي. 224
الاسئذان للسؤال. 225
الإذن لمن استأذن. 225
استحباب الاستفهام 226
ص: 407
إظهار العجب.. 226
بيان قصة الغدير 227
وفي خصوص الولاية 228
خير من أخلف.. 229
الإمام والخليفة 230
اتباع أهل البيت.. 233
حرمة مخالفتهم. 233
لو أطاع الناس أئمتهم. 234
القائم من آل محمد. 234
تأخير المتقدم 236
تقديم المتأخر 236
لا لتقديم الشهوات.. 237
الاجتهاد في قبال النص.. 238
تباً لهم. 240
الاستشهاد بالآيات.. 241
بسط الآمال الدنيوية 242
نسيان الأجل. 243
التعوذ بالله تعالى. 245
الجور حرام 248
العقائد الحقة 249
التشكيك في العقائد. 250
من كنت مولاه فعلي مولاه 252
وجوب الولاية 252
ص: 408
تذكير الناس. 254
حديث المنزلة 256
الولاية على جميع المخلوقات.. 257
الوضع والتكليف.. 257
الأحاديث والتنويع. 259
من كنت وليه وإمامه 260
مقام علي. 260
مراتب من الولاية 261
عقد الولاء يوم الغدير 264
الدفاع عن الولاية 264
حرمة قطع الأسباب.. 267
التوكل على الله. 271
لا عذر لأحد بعد يوم الغدير 272
العدول إلى الحق. 275
الضالون والمفسدون. 276
في وداع النبي. 277
قبلة البنت لأبيها 277
مواساة الباكي. 279
سيد الأنبياء 281
فضائل الأب.. 281
من لولدك بعدك. 282
الظلامة بعد النبي. 282
ناصر الدين وأخ الرسول. 284
ص: 409
استحباب البكاء 286
استحباب الرثاء 288
البكاء لبكاء الإمام 288
الانكباب على المحتضر 290
الانكباب على قبور المعصومين. 290
إعادة كتابة التاريخ. 290
أبكي لفراقك.. 291
البكاء لموت الأب.. 291
لا تبك.. 293
البكاء مواساة 294
العلم بما يحدث.. 296
البكاء على الغير. 298
البكاء لفراق النبي. 298
فضل البكاء 300
ظرف المبكي عليه 300
رثاء النبي وتأبينه 303
جواز الرثاء 303
عليّ يرثي النبي. 304
الحسين يرثي أخاه الحسن. 305
الرثاء المعنوي. 306
مقام الرسول. 307
نعي المؤمن. 311
النعي للملائكة 312
ص: 410
الإخبار عن الغيب.. 312
كيف طابت أنفسكم؟ 314
إثارة الحزن. 315
تنفيذ أمر الله. 316
الإنسان الرحيم. 317
معلم الخير. 318
من صفات الرسول. 321
البكاء والندبة 323
التوجع على فقدان النعمة 323
الإخبار عن النعمة 325
شؤون عَقَدية 325
في مصاب الرسول. 328
الرثاء وحكمه 328
حرمة طيب النفس بفقد المعصوم 330
من آداب الدفن. 331
من نظم الصديقة 331
ظلامات العترة 332
محاسبة الأمة 333
من مستثنيات الغيبة 333
التحسر والتألم. 334
إخبار الميت وخطاب الغائب.. 336
ما جرى بعد النبي. 338
المكان والزمان المناسبان. 338
ص: 411
الإجمال والتفصيل. 339
المحاسبة والرقابة 340
تقييم الأُمة 340
أهل البيت وعالم الغيب.. 341
نزول الكتب.. 343
الحق واختلاف الناس. 345
التجرد عن الماضي. 346
ليتنا متنا قبلك.. 347
تعابير العرف.. 348
التألم في المصاب.. 348
الضيق النفسي والجسمي. 349
الظلم الساري. 351
مدح الميت.. 352
أحكام القسم. 354
استحباب البكاء 355
خصوصيات البكاء 356
تنزيه الرسول. 357
التأسي واختيار العرق. 359
صبت علي مصائب.. 361
خطاب المجهول. 361
تشبيه المعقول بالمحسوس. 362
الروايات وتشبيه المعقول بالمحسوس. 363
مقارنة الفضائل. 363
ص: 412
إن الشرطية 364
الصدق. 365
الظلم والآثمين فيه 365
حمى الصديقة 368
حرمة هتك الطاهرين. 370
حرمة أخذ التأشيرة والرسوم من الزوار 370
روايات في حرمة العترة 371
وصف الأعداء 371
شم تربة المعصوم 372
شم تربة الرسول. 372
شم تربة أمير المؤمنين. 372
شم تربة سيد الشهداء 373
ما يجري على الأحياء 374
مصاب الزهراء 375
تداعي المعاني. 376
الوفاء بالوعد. 376
الحزن لحزنهم. 377
استعمال المجاز 378
الحصر الإضافي. 379
زيادة ذكر الرسول. 379
اتقاء الظلم ودفع الظالم. 380
دفعاً للظلم الأكثر 381
إن الممات سبيلنا 383
ص: 413
تعزية الإنسان نفسه 383
الرثاء والقسم. 384
التذكير بالموت.. 385
الزيادة يوماً بعد يوم 386
تعزية الآخرين. 387
أظلم العصران. 388
استعمال المجازات.. 388
مسائل أخرى. 389
يبكي عليك الناظر 390
حكم المبالغة 390
حب المعصومين. 391
تحمل المصاب.. 392
حفظ المعصوم 393
جد الرحيل. 395
لسان حال الدنيا 395
استعد لآخرتك.. 397
أبيات الموعظة 398
الفهرس. 399
ص: 414