الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام) المجلد 6

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد السادس : خطبتها علیها السلام في الدار 1

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد السادس

خطبتها علیها السلام في الدار

القسم الأول

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أما بعد: فهذا الجزء السادس من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، ويشتمل على خطبة الصديقة (عليها السلام) في دارها على نساء المهاجرين والأنصار، لما جئن لعيادتها، وكان ذلك بعد مرضها الشديد التي توفيت فيها مظلومة شهيدة، حيث هجم القوم عليها أكثر من مرة، وكان القصد قتل فاطمة (سلام الله عليها)؛ لأنها كانت تفضحهم بأقوالها وأفعالها، وحتى ببكائها ليل نهار.

وهذه بعض الكلمات في شرح خطبة الدار، وبعض ما يمكن استنباطه منها من المسائل الشرعية، والله ولي التوفيق.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 5

ص: 6

خطبة الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) في نساء المهاجرين والأنصار

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سويد بن غفلة: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الْمَرْضَةَ الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا، دَخَلَتْ عَلَيْهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يَعُدْنَهَا.

فَقُلْنَ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟.

فَحَمِدَتِ اللهَ وَصَلَّتْ عَلَى أَبِيهَا (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ، لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ، وَسَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ، فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ، وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ الْقَنَاةِ، وَخَتَلِ الآرَاءِ، وَزَلَلِ الأَهْوَاءِ، وَبِئْسَ «مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»(1).

ص: 7


1- سورة المائدة: 80.

لاَ جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا، وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا، وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَاتهَا، فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1).

وَيْحَهُمْ أَنَّى زَعْزَعُوهَا (زحزحوها) عن رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ، وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ، وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، «أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(2).

وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)، نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالاَتِهِ لِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ، وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا، عن الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا، عن قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لاَ يَكْلُمُ حشَاشُهُ، وَلاَ يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلاَ يُمَلُّ رَاكِبُهُ، وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلاَ يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً، وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنْيا بِطَائِلٍ، وَلاَ يَحْظَى مِنَها بِنَائِلٍ، غَيْرَ رَيِّ النَّاهِلِ، وَشُبْعَةِ الكَافِلِ، وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ، وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْكَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3)، «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(4).

ص: 8


1- سورة هود: 44.
2- سورة الزمر: 15.
3- سورة الأعراف: 96.
4- سورة الزمر: 51.

أَلاَ هَلُمَّ فَاسْمَعْ، وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً، «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ»(1)، لَيْتَ شَعْرِي إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا، وَإلى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا، وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا، وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاحْتَنَكُوا، «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»(2) وَ«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا»(3)، اسْتَبْدَلُوا وَاللهِ الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ، وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ، فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»(4)، «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»(5)، وَيْحَهُمْ «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(6).

أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ، ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً مُبِيداً، هُنَالِكَ «يَخْسَرُالْمُبْطِلُونَ»(7)، وَيُعْرَفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أُسِّسَ الأَوَّلُونَ.

ثُمَّ طِيبُوا، عن دُنْيَاكُمْ أَنْفُساً، وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ، وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ، وَبِهَرْجٍ شَامِلٍ، وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ، يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً، وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً، فَيَا حَسْرَةً لَكُمْ، وَأَنَّى بِكُمْ، وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ،

ص: 9


1- سورة الرعد: 5.
2- سورة الحج: 13.
3- سورة الكهف: 50.
4- سورة الكهف: 104.
5- سورة البقرة: 12.
6- سورة يونس: 35.
7- سورة الجاثية: 27.

«أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ» (1) ».

قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها (عليها السلام) على رجالهن. فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكِّم العقدد لما عدلنا عنه إلى غيره.

فقالت (عليها السلام): «إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَلاَ عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ، وَلاَ أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ»(2).

ص: 10


1- سورة هود: 28.
2- بحار الأنوار: ج43 ص159 - 161، كتاب تاريخ فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، الباب7 من أبواب تاريخ سيدة نساء العالمين، ح9.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سويد بن غفلة: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الْمَرْضَةَ الَّتِي...

اشارة

-------------------------------------------

قال سويد بن غفلة: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الْمَرْضَةَ الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا، دَخَلَتْ عَلَيْهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يَعُدْنَهَا.

عيادة المريض

مسألة: يستحب عيادة المريض، ويدل عليه تقرير الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)، وكذلك تقرير بعلها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، إضافة إلى الروايات الكثيرة الدالة على ذلك(1).

ولعل من وجوه الحكمة في الاستحباب - إضافة للتأسي بهم (صلوات

الله عليهم) - أنها إدخال السرور في قلب المؤمن وهو مستحب، وتخفيف الأذى والألم عنه، وأن ذلك مما يوجب تكاتف المجتمع وتؤازره وتماسكه، وأنه من مصاديق «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(2)، ولعله يوجب - تكويناً - خفة المرض، عن المريض وتخفيفه، ويسرع في شفائه ليس فقط نفسياً وعصبياً - وهو ثابت - بل غيبياًأيضاً، إضافة إلى أنه تذكرة للإنسان بضعفه، وتذكرة له بربه، حيث يوجب تجديد تذكر الإنسان للخالق، والالتجاء إليه.

ص: 11


1- راجع الكافي: ج3 ص119، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض.
2- سورة التوبة: 71.

..............................

كما أنه يوجب للإنسان أن يعرف قدر عافيته، ويشكر الله على ذلك.

ومن الطريف الإلفات إلى أنه قد يأتي يوم يقول فيه «السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ»(1): إن عيادة المريض شرك! كما قالوا: إن زيارة القبور شرك، لوحدة الملاك، وحسب مصطلحاتهم: للقياس، بل حتى للاستحسان، أو المصالح المرسلة، أو ما أشبه.

روايات في عيادة المرضى

عن ميسر، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «مَنْ عَادَ امْرَأً مُسْلِماً فِي مَرَضِهِ، صَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِنْ كَانَ صَبَاحاً حَتَّى يُمْسُوا، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً حَتَّى يُصْبِحُوا، مَعَ أَنَّ لَهُ خَرِيفاً فِي الْجَنَّةِ»(2).

وعن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ»(3).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ عَادَ مُؤْمِناً خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ خَوْضاً، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا انْصَرَفَ وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَسْتَرْحِمُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: طِبْتَ وَطَابَتْ

ص: 12


1- سورة البقرة: 142.
2- الكافي: ج3 ص119، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح1.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص415، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2510.

..............................

لَكَ الْجَنَّةُ، إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ غَدٍ. وَكَانَ لَهُ - يَا أَبَا حَمْزَةَ - خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ». قلت: ومَا الْخَرِيفُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟.قال: «زَاوِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِيهَا أَرْبَعِينَ عَاماً»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ عَادَ مُؤْمِناً فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَرَضِهِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكاً مِنَ الْعُوَّادِ يَعُودُهُ فِي قَبْرِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ»(2).

وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ أَبَداً سَبْعِينَ أَلْفاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَغْشَوْنَ رَحْلَهُ، وَيُسَبِّحُونَ فِيهِ، وَيُقَدِّسُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، نِصْفُ صَلاَتِهِمْ لِعَائِدِ الْمَرِيضِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً، وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكاً يَعُودُهُ فِي قَبْرِهِ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَانَ فِيمَا نَاجَى بِهِ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ قال: يَا رَبِّ، مَا بَلَغَ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ مِنَ الأَجْرِ؟. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أُوَكِّلُ بِهِ مَلَكاً

ص: 13


1- الكافي: ج3 ص120، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح3.
2- الكافي: ج3 ص120، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح4.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص414 - 415، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2509.
4- وسائل الشيعة: ج2 ص415 - 416، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2513.

..............................

يَعُودُهُ فِي قَبْرِهِ إِلَى مَحْشَرِهِ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَادَ مَرِيضاً، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ بِاسْمِهِ: يَا فُلاَنُ، طِبْتَ وَطَابَ لَكَ مَمْشَاكَ بِثَوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ضَمِنْتُ لِسِتَّةٍ الْجَنَّةَ، مِنْهُمْ: رَجُلٌ خَرَجَ يَعُودُ مَرِيضاً فَمَاتَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ»(3).

كراهة ترك العيادة

مسألة: يستفاد من بعض الروايات مضافاً إلى استحباب عيادة المريض، كراهة ترك عيادته، وقد عنون صاحب الوسائل الباب بذلك، قال: بَابُ اسْتِحْبَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ الْمُسْلِمِ وَكَرَاهَةِ تَرْكِ عِيَادَتِهِ.

عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «يُعَيِّرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُ: عَبْدِي، مَا مَنَعَكَ إِذَا مَرِضْتُ أَنْ تَعُودَنِي!. فَيَقُولُ:سُبْحَانَكَ! سُبْحَانَكَ! أَنْتَ رَبُّ الْعِبَادِ لاَ تَأْلَمُ وَلاَ تَمْرَضُ. فَيَقُولُ: مَرِضَ أَخُوكَ الْمُؤْمِنُ فَلَمْ تَعُدْهُ، وَعِزَّتِي

ص: 14


1- الكافي: ج3 ص121، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح9.
2- الكافي: ج3 ص121، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح10.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص416-417، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2516.

..............................

وَجَلاَلِي لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، ثُمَّ لَتَكَفَّلْتُ بِحَوَائِجِكَ فَقَضَيْتُهَا لَكَ، وَذَلِكَ مِنْ كَرَامَةِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ»(1).

وقت العيادة

مسألة: لا تختص العيادة بوقت دون وقت، فهي مستحبة في الصباح والمساء وما أشبه. نعم، إن كان يوجب تضييقاً على المريض، فينبغي مراعاة ذلك، بحيث لا يوجب ضجره. فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ تَكُونُ عِيَادَةٌ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا وَجَبَتْ فَيَوْمٌ وَيَوْمٌ لاَ، فَإِذَا طَالَتِ الْعِلَّةُ تُرِكَ الْمَرِيضُ وَعِيَالَهُ»(2).وفي رواية: «وَالْمَرِيضُ فَلاَ تَغِيظُوهُ وَلاَ تُضْجِرُوهُ»(3).

كما يستحب تكرار العيادة.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ عَادَ مُؤْمِناً مَرِيضاً حِينَ يُصْبِحُ شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا قَعَدَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ حَتَّى

ص: 15


1- وسائل الشيعة: ج2 ص417، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2518.
2- الكافي: ج3 ص117، كتاب الجنائز، باب في كم يعاد المريض وقدر ما يجلس عنده وتمام العيادة، ح1.
3- الكافي: ج2 ص509، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ح1.

..............................

يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ مَسَاءً كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ»(1).

دعاء المريض

مسألة: يستحب للعائد أن يلتمس من المريض الدعاء له، وأن يتوقى دعاءه عليه بترك إضجاره.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ عَائِداً لَهُ،فَلْيَسْأَلْهُ يَدْعُو لَهُ؛ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مِثْلُ دُعَاءِ الْمَلاَئِكَةِ»(2).

وقال الصادق (عليه السلام): «ثَلاَثَةٌ دَعْوَتُهُمْ مُسْتَجَابَةٌ: الْحَاجُّ، وَالْغَازِي، وَالْمَرِيضُ. فَلاَ تَغِيظُوهُ وَلاَ تُضْجِرُوهُ»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً فِي اللهِ، لَمْ يَسْأَلِ الْمَرِيضُ لِلْعَائِدِ شَيْئاً إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «عَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)

ص: 16


1- وسائل الشيعة: ج2 ص418 -419، تتمة كتاب الطهارة، الباب11 من أبواب الاحتضار وما يناسبه ح2521.
2- الكافي: ج3 ص117، كتاب الجنائز، باب المريض يؤذن به الناس، ح3.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص420، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2525.
4- وسائل الشيعة: ج2 ص420، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2526.

..............................

سَلْمَانَ فِي عِلَّتِهِ. فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، إِنَّ لَكَ فِي عِلَّتِكَ ثَلاَثَ خِصَالٍ: أَنْتَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذُكْرٍ، وَدُعَاؤُكَ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، وَلاَ تَدَعُ الْعِلَّةُ عَلَيْكَ ذَنْباً إِلاَّ حَطَّتْهُ. مَتَّعَكَ اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ إِلَى انْقِضَاءِ أَجَلِكَ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «عُودُوا مَرْضَاكُمْ وَسَلُوهُمُ الدُّعَاءَ؛ فَإِنَّهُ يَعْدِلُ دُعَاءَ الْمَلاَئِكَةِ»(2).

استحباب قبول العيادة

مسألة: كما يستحب العيادة للعائد، كذلك يستحب قبول العيادة من قبل المريض، ومن يتولى شؤونه أيضاً، إلا إذا كان لأمر أهم، كفضح الظالم وما أشبه. ومن هنا يعلم السر في عدم قبول الصديقة فاطمة (عليها السلام) لعيادة من ظلمها، وإن قبلت بعد ذلك لإتمام الحجة عليهم.

عيادة مرضى النساء

مسألة: يستحب للنساء عيادة المرضى من النساء. وأما مرضى الرجال، فيختلف الحكم باختلاف موارده.

ص: 17


1- وسائل الشيعة: ج2 ص420-421، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه ح2527.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص421، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2528.

..............................

والظاهر أن هذا مصداق للكليالسابق، وليس مجمعاً لعنوانين، ولا دليل على تأكد الاستحباب. والدليل على ذلك عمومات الروايات السابقة، فإنها تشمل الرجل والمرأة، وقد ذكرنا في بعض المباحث أن الأصل هو الاشتراك في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل.

إطلاق الاستحباب

مسألة: عيادة المريض مستحبة مطلقاً، رجلاً كان أو امرأة، كبيراً أو صغيراً، صديقاً أو غريباً، إلا ما خرج بالدليل. لكن هل الاستحباب شامل لما لم يشعر المريض بالزيارة؟.

إطلاق الأدلة(1) يقتضي ذلك، والانصراف بدوي، ولعل الحِكَم الآنفة الذكر وشبهها تساعد على التمسك بالإطلاق.

ص: 18


1- أي الإطلاق الأحوالي.

فَقُلْنَ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

السؤال عن حال المريض

مسألة: يستحب سؤال المريض عن أحواله، وإن علم السائل بحاله، لبعض ما سبق من الِحكَم. ويستفاد الاستحباب هنا من تقرير الصديقة (عليها السلام) لسؤال النسوة، مضافاً إلى العمومات في سائر الأدلة؛ فإن العيادة العرفية تشتمل على السؤال عن صحة المريض، كما لا يخفى.

عن ابن عباس: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في خطبة له -:

«وَمَنْ عَادَ مَرِيضاً، فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ، وَوُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ مَلَكٍ يَعُودُونَهُ فِي قَبْرِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

ص: 19


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص292، كتاب عقاب الأعمال، عقاب مجمع عقوبات الأعمال.

فَحَمِدَتِ اللهَ

اشارة

-------------------------------------------

حمد الله مطلقاً

مسائل: يستحب حمد الله تعالى مطلقاً.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ حَمِدَ اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حُمْلاَنِ مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ بِسُرُجِهَا، وَلُجُمِهَا، وَرُكُبِهَا»(1).

ويتأكد استحباب الحمد عند سؤال الغير عن الحال، كما صنعت الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها).

كما يستحب للمريض أن يحمد ربه مطلقاً، سُئل أو لم يُسأل.

ومن المستحب الجهر بحمد الله عزوجل، ويتأكد في حالات منها هذه الحالة(2)، ولعل تأكد استحباب الجهر بالحمد هنا؛ لكونه أقوى تأثيراً في الشفاء، وفي التذكير بالله تعالى، إلى غير ذلك.

مضافاً إلى أن الباري عزَّ وجل هو الذي لا يحمد على مكروه سواه.

وفي سجدة زيارة عاشوراء: «اَللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، حَمْدَ الشَّاكِرينَ لَكَ عَلى مُصابِهِمْ، اَلْحَمْدُ للهِ عَلى عَظيمِ رَزِيَّتي»(3).

وعن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ

ص: 20


1- الكافي: ج2 ص505، كتاب الدعاء، باب التسبيح والتهليل والتكبير، ح1.
2- أي حالة سؤال المريض عن حاله.
3- المزار، للشهيد الأول: ص184، ذكر زيارات أبي عبد الله (عليه السلام) المخصوصة بالأيام والشهور، زيارة يوم عاشوراء.

..............................

الْمُؤْمِنَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَبِأَفْضَلِ مَكَانٍ ثَلاَثاً، إِنَّهُ لَيَبْتَلِيهِ بِالْبَلاَءِ، ثُمَّ يَنْزِعُ نَفْسَهُ عُضْواً عُضْواً مِنْ جَسَدِهِ، وَهُوَ يَحْمَدُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ»(1).

وعن زيد الزراد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ عَظِيمَ الْبَلاَءِ يُكَافَأُ بِهِ عَظِيمُ الْجَزَاءِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً ابْتَلاَهُ بِعَظِيمِ الْبَلاَءِ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ عِنْدَ اللهِ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ الْبَلاَءَ فَلَهُ عِنْدَ اللهِ السَّخَطُ»(2).

فإن الله عزوجل يعوض المصاب بالأجر العظيم، ما يتمنى أنه كان في الدنيا قد ابتلي بأكثر مما ابتلي؛ لينالعظيم المثوبة.

عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) مَا أَلْقَى مِنَ الأَوْجَاعِ - وَكَانَ مِسْقَاماً - فَقَالَ لِي: «يَا عَبْدَ اللهِ، لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا لَهُ مِنَ الأَجْرِ فِي الْمَصَائِبِ، لَتَمَنَّى أَنَّهُ قُرِّضَ بِالْمَقَارِيضِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لاَ يَبْلُغُهَا عَبْدٌ إِلاَّ بِالاِبْتِلاَءِ فِي جَسَدِهِ»(4).

ص: 21


1- بحار الأنوار: ج64 ص211 - 212، كتاب الإيمان والكفر، الباب12 من أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح15.
2- الكافي: ج2 ص253، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح8.
3- الكافي: ج2 ص255، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح15.
4- وسائل الشيعة: ج3 ص258، تتمة كتاب الطهارة، الباب76 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3570. والوسائل: ج3 ص261، تتمة كتاب الطهارة، الباب77 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3585.

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَتَعَاهَدُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلاَءِ، كَمَا يَتَعَاهَدُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بِالْهَدِيَّةِ مِنَ الْغَيْبَةِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاَءً: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ»(2).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) الْبَلاَءُ، وَمَا يَخُصُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْمُؤْمِنَ. فَقَالَ:

«سُئِلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً فِي الدُّنْيَا؟. فَقَالَ: النَّبِيُّونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَحُسْنِ أَعْمَالِهِ. فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلاَؤُهُ»(3).

وعن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ عَظِيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظِيمِ الْبَلاَءِ، وَمَا أَحَبَّ اللهُ قَوْماً إِلاَّ ابْتَلاَهُمْ»(4).

وعن يونس بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَمْ يَزَالُوا مُنْذُ كَانُوا فِيشِدَّةٍ، أَمَا إِنَّ ذَلِكَ إِلَى مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ وَعَافِيَةٍ

ص: 22


1- بحار الأنوار: ج64 ص213، كتاب الإيمان والكفر، الباب12 من أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح19. والبحار: ج78 ص197، تتمة كتاب الطهارة، الباب1 من أبواب أبواب الجنائز ومقدماتها ولواحقها، ضمن ح53.
2- الكافي: ج2 ص252، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح1.
3- بحار الأنوار: ج64 ص207، كتاب الإيمان والكفر، الباب12 من أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح6
4- وسائل الشيعة: ج3 ص263، تتمة كتاب الطهارة، الباب77 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3593.

..............................

طَوِيلَةٍ»(1).

بين الشكر والحمد

مسألة: الحمد عند البلاء مطلوب ومستحب؛ فإنه للنعمة والبلاء. أما الشكر فهو للنعمة خاصة، إلا إذا أريد به المعنى الأعم، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ»(2).

عن معمر بن خلاد، قال: سمعت أبا الحسن (صلوات الله عليه) يقول: «مَنْ حَمِدَ اللهَ عَلَى النِّعْمَةِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَكَانَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ، فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ، وَحَمِدَ اللهَ ظَاهِراً بِلِسَانِهِ، فَتَمَّكَلاَمُهُ حَتَّى يُؤْمَرَ لَهُ بِالْمَزِيدِ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «شُكْرُ النِّعْمَةِ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَتَمَامُ الشُّكْرِ قَوْلُ الرَّجُلِ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ - وَإِنْ عَظُمَتْ - أَنْ

ص: 23


1- الكافي: ج2 ص255، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح16.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج3 ص288 - 289، سورة إبراهيم: الآية 7، ح5682.
4- تفسير الصافي: ج3 ص80، سورة إبراهيم: الآية 7.
5- الكافي: ج2 ص95، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح10.

..............................

تَحْمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا»(1).

وعن حماد بن عثمان، قال: خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) مِنَ الْمَسْجِدِ وَقَدْ ضَاعَتْ دَابَّتُهُ، فَقَالَ: «لَئِنْ رَدَّهَا اللهُ عَلَيَّ لأَشْكُرَنَّ اللَّهَ حَقَّ شُكْرِهِ». قال: فَمَا لَبِثَ أَنْ أُتِيَ بِهَا، فَقَالَ: «الْحَمْدُ للهِ». فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَ لَيْسَ قُلْتَ: لأَشْكُرَنَّ اللهَ حَقَّ شُكْرِهِ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام):«أَ لَمْ تَسْمَعْنِي قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ»(2).

ص: 24


1- بحار الأنوار: ج68 ص40 - 41، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب61 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح30.
2- الكافي: ج2 ص97، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح18.

وَصَلَّتْ عَلَى أَبِيهَا (صلى الله عليه وآله)

اشارة

-------------------------------------------

تأكد الصلاة على النبي J في مواطن

مسألة: تستحب الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مطلقاً، وتتأكد في المواطن المهمة، كما في الشروع في عمل مهم، أو عند طلب حاجة من الله تعالى، أو عند بدأ عظة ونصيحة، أو في بداية خطبة، كما صنعت الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها)؛ وذلك لأن البدأ في خطبتها هذه بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، إضافة إلى ما له من الأجر بذاته، يسبب قوة التأثير، والسداد، والبركة، وغير ذلك.

كما يتأكد استحباب الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله) في الأزمنة المهمة، كالأسحار، وأيام الجمعة. وكذلك(1) في الأمكنة كذلك(2)، كالمساجد والمشاهد المشرفة، ومنها كربلاء المقدسة وغيرها.

ومن المستحب رفع الصوت بذلك بمايناسب المقام.

أما قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ

ص: 25


1- أي يتأكد استحباب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام).
2- أي المهمة.

..............................

اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1)، فإنه كان رفعاً للصوت بما يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكون إهانة له، ومثله رفع الصوت بالجدال والأمور الدنيوية بمحضر المعصوم (عليه السلام)، وإلا فرفع الصوت بالأذان، والدعاء، وقراءة القرآن، والخطب الدينية، وقصائد المدح، وقراءة العزاء الحسيني، وما أشبه لابأس به، بل هو راجح.

وقد نزلت هذه الآيات الرادعة عما كان يفعله ابن أبي قحافة وابن الخطاب من رفع الصوت، وإيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وندائه من وراء الحجرات.

روى العلامة المجلسي (رحمه الله)، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث طويل في ذكر شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) - قال: «فَلَمَّا أَنْ صُلِّيَعَلَيْهِ، حُمِلَ فَأُدْخِلَ الْمَسْجِدَ. فَلَمَّا أُوقِفَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، بَلَغَ عَائِشَةَ الْخَبَرُ وَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)؛ لِيُدْفَنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَخَرَجَتْ مُبَادِرَةً عَلَى بَغْلٍ بِسَرْجٍ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ رَكِبَتْ فِي الإِسْلاَمِ سَرْجاً. فَوَقَفَتْ فَقَالَتْ: نَحُّوا ابْنَكُمْ، عن بَيْتِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يُدْفَنُ فِيهِ شَيْءٌ، وَلاَ يُهْتَكُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حِجَابُهُ!.

فَقَالَ لَهَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام): قَدِيماً هَتَكْتِ أَنْتِ وَأَبُوكِ حِجَابَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَدْخَلْتِ بَيْتَهُ مَنْ لاَ يُحِبُّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه

ص: 26


1- سورة الحجرات: 2-5.

..............................

وآله) قُرْبَهُ، وَإِنَّ اللهَ سَائِلُكِ عن ذَلِكِ. يَا عَائِشَةُ، إِنَّ أَخِي أَمَرَنِي أَنْ أُقَرِّبَهُ مِنْ أَبِيهِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ لِيُحْدِثَ بِهِ عَهْداً، وَاعْلَمِي أَنَّ أَخِي أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ كِتَابِهِ مِنْ أَنْ يَهْتِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله) سِتْرَهُ؛ لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ»(1)، وَقَدْ أَدْخَلْتِ أَنْتِ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الرِّجَالَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ»(2). وَلَعَمْرِي لَقَدْ ضَرَبْتِ أَنْتِ لأَبِيكِ وَفَاروقِهِ عِنْدَ أُذُنِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمَعَاوِلَ، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى»(3). وَلَعَمْرِي لَقَدْ أَدْخَلَ أَبُوكِ وَفَارُوقُهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقُرْبِهِمَا مِنْهُ الأَذَى، وَمَا رَعَيَا مِنْ حَقِّهِ مَا أَمَرَهُمَا اللهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْوَاتاً مَا حَرَّمَ مِنْهُمْ أَحْيَاءً، وَتَاللهِ - يَا عَائِشَةُ - لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي كَرِهْتِيهِ مِنْ دَفْنِ الْحَسَنِ (عليه السلام) عِنْدَ أَبِيهِ (صلوات الله عليهما) جَائِزاً فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ، لَعَلِمْتِ أَنَّهُ سَيُدْفَنُ وَإِنْ رَغِمَ مَعْطِسُكِ»(4).

ص: 27


1- سورة الأحزاب: 53.
2- سورة الحجرات: 2.
3- سورة الحجرات: 3.
4- بحار الأنوار: ج17 ص31 - 32، الباب14 من تتمة كتاب تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله)، ح13.

..............................

وفي البحار، عن الترمذي، قال: (إِنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَعْمِلْهُ عَلَى قَوْمِهِ.. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ تَسْتَعْمِلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَتَكَلَّمَا عِنْدَ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله) حَتَّى عَلَتْ أَصْوَاتُهُمَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلاَّ خِلاَفِي. فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ. قال: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ»(1)(2).

روايات في استحباب الصلوات والجهر بها

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «ارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ؛ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِالنِّفَاقِ»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَمْحَقُ لِلْخَطَايَا مِنَ الْمَاءِ لِلنَّارِ، وَالسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ رَقَابٍ، وَحُبُّ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَفْضَلُ مِنْ مُهَجِ الأَنْفُسِ - أَوْ قَالَ - ضَرْبِ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(4).

ص: 28


1- سورة الحجرات: 2.
2- بحار الأنوار: ج30 ص279-280، الباب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن.
3- الكافي: ج2 ص493، كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته ح13.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص154، ثواب الصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وآله) وثواب حبه.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَأَكْثِرُوا الصَّلاةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلاةً وَاحِدَةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ أَلْفَ صَلاَةٍ فِي أَلْفِ صَفٍّ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللهُ إِلاَّ صَلَّى عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ؛ لِصَلاَةِ اللهِ عَلَيْهِ وَصَلاَةِ مَلاَئِكَتِهِ، وَلاَ يَرْغَبُ عَنْ هَذَا إِلاَّ جَاهِلٌ مَغْرُورٌ، قَدْ بَرِئَ اللهُ مِنْهُ وَرَسُولُهُ»(1).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، جِئْتُ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ؛ حَتَّى أُثَقِّلَ بِهَا حَسَنَاتِهِ»(2).

وعن عبد السلام بن نعيم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه

السلام): إني دخلت البيت(3)، فلم يحضرني شيء من الدعاء إلا الصلاة على النبي وآله؟. فقال (عليه السلام): «وَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّاخَرَجْتَ»(4).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٍ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: مَنْ

ص: 29


1- بحار الأنوار: ج91 ص57، تتمة كتاب الذكر والدعاء، الباب29 من تتمة أبواب الدعاء، ح32.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص195، تتمة كتاب الصلاة، الباب34 من أبواب الذكر، ح9097.
3- أي الكعبة المشرفة.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص155، ثواب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله).
5- مكارم الأخلاق: ص312، ب10 ف3، في الصلاة على النبي وآله (عليه وعليهم السلام).

..............................

صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِائَةَ حَسَنَةٍ. وَمَنْ قَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ»(1).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام) : «إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، إِنِّي جَعَلْتُ ثُلُثَ صَلاَتِي لَكَ. فَقَالَ لَهُ خَيْراً. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، إِنِّي جَعَلْتُ نِصْفَ صَلاَتِي لَكَ. فَقَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ. قَالَ: قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ صَلاَتِي لَكَ. قَالَ: إِذاً يَكْفِيَكَ اللهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ. فَقَالَلَهُ رَجُلٌ: أَصْلَحَكَ اللهُ، كَيْفَ يَجْعَلُ صَلاَتَهُ لَهُ؟. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): لاَ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئاً إِلاَّ بَدَأَ بِالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم لأمير المؤمنين (عليه السلام): «أَلاَ أُبَشِّرُكَ. فَقَالَ: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ مُبَشِّراً بِكُلِّ خَيْرٍ. فَقَالَ: أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ آنِفاً بِالْعَجَبِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): وَمَا الَّذِي أَخْبَرَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلَّى عَلَيَّ، وَأَتْبَعَ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ أَهْلَ بَيْتِي، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ سَبْعِينَ صَلاَةً، وَإِنْ كَانَ مُذْنِباً خَطَّاءً - وَإِنَّهُ لَمُذْنِبٌ خَطَّاءٌ - ثُمَّ تَتَحَاتُّ عَنْهُ الذُّنُوبُ، كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ.

ص: 30


1- بحار الأنوار: ج91 ص58، تتمة كتاب الذكر والدعاء، الباب29 من تتمة أبواب الدعاء، ح37.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص157، ثواب من جعل ثلث صلاته أو نصف صلاته أو كل صلاته للنبي.

..............................

وَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَبَّيْكَ يَا عَبْدِي وَسَعْدَيْكَ. وَيَقُولُ اللهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: يَا مَلاَئِكَتِي، أَنْتُمْ تُصَلُّونَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلاَةً، وَأَنَا أُصَلِّي عَلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ صَلاَةٍ. وَإِذَا صَلَّى عَلَيَّ وَلَمْ يُتْبِعْ بِالصَّلاَةِ عَلَى أَهْلِبَيْتِي، كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَبْعُونَ حِجَاباً، وَيَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلاَلُهُ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ. يَا مَلاَئِكَتِي، لاَ تُصْعِدُوا دُعَاءَهُ إِلاَّ أَنْ يَلْحَقَ بِنَبِيِّهِ عِتْرَتَهُ. فَلاَ زَالَ مَحْجُوباً حَتَّى يُلْحِقَ بِي أَهْلَ بَيْتِي»(1).

وعن عمار بن موسى الساباطي، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال رجل: اللهم صل على محمد وأهل بيت محمد. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا هَذَا لَقَدْ ضَيَّقْتَ عَلَيْنَا، أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَمْسَةٌ أَصْحَابُ الْكِسَاءِ». فقال الرجل: كيف أقول؟. قال: «قُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَسَنَكُونُ نَحْنُ وَشِيعَتُنَا قَدْ دَخَلْنَا فِيهِ»(2).

وفي تفسير الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى إلى جبل بالمدينة - في حديث طويل - فسأله، فقال: «إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَاهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ، الَّذِينَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ خَفَّفَ اللهُ الْعَرْشَ عَلَى كَوَاهِلِ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَحْرِيكِهِ وَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ- لاَ يَعْرِفُعَدَدَهُمْ غَيْرُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ»(3).

ص: 31


1- الأمالي للصدوق: ص580، المجلس الخامس والثمانون، ح18.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص205، تتمة كتاب الصلاة، الباب42 من أبواب الذكر، ح9121.
3- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص287، معجزة عظيمة من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) باقتراح اليهود.

..............................

وقال الإمام (عليه السلام) - في حديث طويل - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ، خَلَقَ لَهُ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ رُكْنٍ، وَخَلَقَ عِنْدَ كُلِّ رُكْنٍ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَوْ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لأَصْغَرِهِمْ فَالْتَقَمَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ، مَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ لَهَوَاتِهِ إِلاَّ كَالرَّمْلَةِ فِي الْمَفَازَةِ الْفَضْفَاضَةِ.

فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ: يَا عِبَادِي، احْمِلُوا عَرْشِي هَذَا.

فَتَعَاطَوْهُ، فَلَمْ يُطِيقُوا حَمْلَهُ وَلاَ تَحْرِيكَهُ. فَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاحِداً، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُزَعْزِعُوهُ، فَخَلَقَ اللهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرَةً، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُحَرِّكُوهُ، فَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى بِعَدَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ جَمَاعَتِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُحَرِّكُوهُ.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَمِيعِهِمْ: خَلُّوهُ عَلَيَّ، أُمْسِكْهُ بِقُدْرَتِي.

فَخَلَّوْهُ، فَأَمْسَكَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقُدْرَتِهِ.ثُمَّ قَالَ لِثَمَانِيَةٍ مِنْهُمْ: احْمِلُوهُ أَنْتُمْ.

فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، لَمْ نُطِقْهُ نَحْنُ وَهَذَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، فَكَيْفَ نُطِيقُهُ الآنَ دُونَهُمْ.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي أَنَا اللهُ الْمُقَرِّبُ لِلْبَعِيدِ، وَالْمُذَلِّلُ لِلْعَنِيدِ، وَالْمُخَفِّفُ لِلشَّدِيدِ، وَالْمُسَهِّلُ لِلْعَسِيرِ، أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، وَأَحْكُمُ بِمَا أُرِيدُ، أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتٍ تَقُولُونَهَا، يُخَفَّفْ بِهَا عَلَيْكُمْ.

قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَبَّنَا؟.

ص: 32

..............................

قَالَ: تَقُولُونَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ.

فَقَالُوهَا، فَحَمَلُوهُ وَخَفَّ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ، كَشَعْرَةٍ نَابِتَةٍ عَلَى كَاهِلِ رَجُلٍ جَلْدٍ قَوِيٍّ.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِسَائِرِ تِلْكَ الأَمْلاَكِ: خَلُّوا عَلَى كَوَاهِلِ هَؤُلاَءِ الثَّمَانِيَةِ عَرْشِي لِيَحْمِلُوهُ، وَطُوفُوا أَنْتُمْ حَوْلَهُ، وَسَبِّحُونِي وَمَجِّدُونِي وَقَدِّسُونِي؛ فَإِنِّي أَنَا اللهُ الْقَادِرُ عَلَى مَا رَأَيْتُمْ، وَأَنَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

روايات في أوقات الصلوات وأماكنها

سبق أن بعض الأوقات والأماكن يستحب فيها الصلاة على محمد وآل محمد بصورة خاصة، وإن كان مطلقها(2) مستحب في مطلقها(3) ومطلقها(4).

عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِائَةَ صَلاَةٍ، قَضَى اللهُ لَهُ سِتِّينَ حَاجَةً: ثَلاَثُونَ لِلدُّنْيَا، وَثَلاَثُونَ لِلآخِرَةِ»(5).

ص: 33


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ص146-148، أركان العرش وحملته.
2- أي مطلق الصلاة على محمد وآل محمد، بأي صيغة كانت.
3- أي مطلق الأوقات.
4- أي مطلق الأماكن.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص156، ثواب من صلى على النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة مائة صلاة.

..............................

وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَ لاَ أُعَلِّمُكَ شَيْئاً يَقِي اللهُ بِهِ وَجْهَكَ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ». قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: «قُلْ بَعْدَ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، يَقِي اللهُ بِهَا وَجْهَكَ مِنْ حَرِّجَهَنَّمَ»(1).

وعن أبي المغيرة، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ، قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَيْهِ أَوْ يُكَلِّمَ أَحَداً: «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2)، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَذُرِّيَّتِهِ. قَضَى اللهُ لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ: سَبْعِينَ فِي الدُّنْيَا، وَثَلاَثِينَ فِي الآخِرَةِ».

قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا مَعْنَى صَلاَةِ اللهِ وَصَلاَةِ مَلاَئِكَتِهِ، وَصَلاَةِ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «صَلاَةُ اللهِ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، وَصَلاَةُ مَلاَئِكَتِهِ تَزْكِيَةٌ مِنْهُمْ لَهُ، وَصَلاَةُ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ لَهُ. وَمِنْ سِرِّ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الأَوَّلِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الآخِرِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَلإَِ الأَعْلَى، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمُرْسَلِينَ. اللَّهُمَّ أَعْطِ مُحَمَّداً الْوَسِيلَةَ، وَالشَّرَفَ، وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الْكَبِيرَةَ. اللَّهُمَّ إِنِّي آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَلَمْ أَرَهُ، فَلاَ

ص: 34


1- وسائل الشيعة: ج6 ص479، تتمة كتاب الصلاة، الباب25 من أبواب التعقيب وما يناسبه، ح8491.
2- سورة الأحزاب: 56.

..............................

تَحْرِمْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَتَهُ، وَارْزُقْنِي صُحْبَتَهُ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَاسْقِنِي مِنْ حَوْضِهِ مَشْرَباً رَوِيّاً، سَائِغاً هَنِيئاً، لاَ أَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَداً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ كَمَا آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَلَمْ أَرَهُ، فَعَرِّفْنِي فِي الْجِنَانِ وَجْهَهُ. اللَّهُمَّ بَلِّغْ رُوحَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَنِّي تَحِيَّةً كَثِيرَةً وَسَلاَماً؛ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ، هُدِمَتْ ذُنُوبُهُ، وَمُحِيَتْ خَطَايَاهُ، وَدَامَ سُرُورُهُ، وَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ، وَأُعْطِيَ أَمَلَهُ، وَبُسِطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأُعِينَ عَلَى عَدُوِّهِ، وَهِيَ لَهُ سَبَبُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَيُجْعَلُ مِنْ رُفَقَاءِ نَبِيِّهِ فِي الْجِنَانِ الأَعْلَى، يَقُولُهُنَّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ غُدْوَةً، وَثَلاَثَ مَرَّاتٍ عَشِيَّةً»(1).

وعن حماد بن عثمان، أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)، عن أفضل الأعمال يوم الجمعة؟.

قال: «الصَّلاَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَمَا زِدْتَ فَهُوَأَفْضَلُ»(2).

وعن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «إِذَا صَلَّيْتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، الأَوْصِيَاءِ الْمَرْضِيِّينَ بِأَفْضَلِ صَلَوَاتِكَ، وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ بِأَفْضَلِ بَرَكَاتِكَ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. كَتَبَ اللهُ لَكَ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْكَ مِائَةَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ،

ص: 35


1- بحار الأنوار: ج83 ص95 - 96، الباب41 من تتمة كتاب الصلاة، ح3. والبحار: ج91 ص58- 59، تتمة كتاب الذكر والدعاء، الباب29 من تتمة أبواب الدعاء، ح38.
2- المحاسن: ج1 ص59، الباب75 من كتاب ثواب الأعمال، ح96.

..............................

وَقَضَى لَكَ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ حَاجَةٍ، وَرَفَعَ لَكَ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ دَرَجَةٍ»(1).

وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بإسناده، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنه سئل ما أفضل الأعمال يوم الجمعة؟. قال: «لاَ أَعْلَمُ عَمَلاً أَفْضَلَ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(2).

وذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) فيالمقنعة، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «إِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ الْخَمِيسِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، نَزَلَتْ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مَعَهَا أَقْلاَمُ الذَّهَبِ وَصُحُفُ الْفِضَّةِ، لاَ يَكْتُبُونَ إِلاَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ، إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»(3).

وذكر - أيضاً - عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «الصَّدَقَةُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا بِأَلْفِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَلْفٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَ يَحُطُّ اللهُ فِيهَا أَلْفاً مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَيَرْفَعُ فِيهَا أَلْفاً مِنَ الدَّرَجَاتِ. وَإِنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ في لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ يَزْهَرُ نُورُهُ فِي السَّمَوَاتِ إِلَى يَوْمِ السَّاعَةِ، وَإِنَّ مَلاَئِكَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَوَاتِ لَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ»(4).

وعن الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عِنْدَ

ص: 36


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص158، ثواب من صلى على النبي وآله الأوصياء المرضيين يوم الجمعة بعد الصلاة.
2- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: ص454، سورة الأحزاب الآية 56.
3- المقنعة: ص157، كتاب الصلاة، الباب13 من أبواب الصلوات.
4- المقنعة: ص156، كتاب الصلاة، الباب13 من أبواب الصلوات.

..............................

الْعَصْرِ، أَهْبَطَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلاَئِكَةً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، مَعَهَا صَحَائِفُ مِنْ فِضَّةٍ، بِأَيْدِيهِمْ أَقْلاَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، تَكْتُبُ الصَّلاَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ»(1).

دعاء للأب

مسألة: يستحب الدعاء للأب مطلقاً، ويتأكد إذا كان ولياً أو عالماً، فكيف إذا كان نبياً، تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، حيث صلت على أبيها (صلوات الله عليه وآله الطاهرين).

كما يتأكد الاستحباب في أوقات وأمكنة وحالات خاصة، كمرضه، أو حاجته، أو ما أشبه.

مما يستحب للمريض

مسألة: يستحب للمريض أن يصلي على محمد وآله الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام)؛ فإنهم (عليهم السلام) أولياء النعم، وبهم يُستشفى من السقم، فالتوسل بهم والصلاة عليهم لا يردا حتى في يوم القيامة.عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ عَبْداً مَكَثَ فِي النَّارِ

ص: 37


1- محاسبة النفس: ص22، ب3، فصل في فضل الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد العصر من يوم الخميس.

..............................

سَبْعِينَ خَرِيفاً، وَالْخَرِيفُ سَبْعُونَ سَنَةً - قَالَ - ثُمَّ إِنَّهُ سَأَلَ اللهَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ لَمَّا رَحِمْتَنِي. فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَبْرَئِيلَ، أَنِ اهْبِطْ إِلَى عَبْدِي وَأَخْرِجْهُ. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ لِي بِالْهُبُوطِ فِي النَّارِ!. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي أَمَرْتُهَا أَنْ تَكُونَ عَلَيْكَ بَرْداً وَسَلاَماً. قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَعْلِمْنِي بِمَوْضِعِهِ؟. قَالَ: إِنَّهُ فِي جُبٍّ فِي سِجِّيلٍ.

قَالَ: فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَخْرَجَهُ. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عَبْدِي، كَمْ لَبِثْتَ فِي النَّارِ؟. قَالَ: مَا أُحْصِي يَا رَبِّ. فَقَالَ لَهُ: وَعِزَّتِي، لَوْلاَ مَا سَأَلْتَنِي بِهِ لأَطَلْتُ هَوَانَكَ فِي النَّارِ، وَلَكِنِّي حَتَمْتُ عَلَى نَفْسِي أَلاَّ يَسْأَلَنِي عَبْدٌ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إِلاَّ غَفَرْتُ لَهُ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ الْيَوْمَ»(1).

مما يستحب لذوي المريض

مسألة: يستحب لذوي المريض ومن يرتبط به، الصلاة على رسول الله وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) استشفاءً وتبركاً.

وما تعارف عند بعض المؤمنين من تحديد عدد معين كأربعة عشر ألف مرة فله مزيد الفائدة، وإن لم يرد بخصوصه نص(2)،

ص: 38


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص154- 155، ثواب من سأل الله بحق محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته.
2- والتحديد ببعض الأعداد من المجربات.

..............................

فإن في الزيادة استزادة(1)، أما مع ورود نص مطلقاً(2) بعدد، فإن قاعدة التسامح في أدلة السنن تشمله.

نعم، لا يصح الإسناد بمجرد كونه من المجربات، أو للرؤيا، أو ما أشبه.

الصحابيات عالمات بما جرى عليها

كانت نساء المهاجرين والأنصار يعلمن بما جرى على الصديقة فاطمة (عليها

السلام)، وبعلّتها، وشدة مرضها، وما جرى عليها من ظلم القوم لها، حيثاجتمعن عندها وقلن لها: (كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟).

وكانت علّتها بسبب هجوم القوم عليها، وإحراق دارها، وضربها، وعصرها بين الحائط والباب، وإسقاط جنينها المحسن (عليه السلام)، وكسر ضلعها، وغيرها.

ص: 39


1- أي من الأجر والبركات.
2- أي حتى إذا كان ضعيفاً.

ثُمَّ قَالَتْ: أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ،

اشارة

-------------------------------------------

المريض والروحانية

مسألة: يستحب للمريض أن يجيب عمن يسأله عن صحته، بحمد الله أولاً، ثم يبين حالته بما يناسب المقام، تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)؛ فإن ذلك سبب في لطف الله تعالى بالمريض وبزواره، إضافة إلى أنه ينشر جواً من الروحانية في المجتمع، فإن المرضى إذا التزموا بذلك، تغير وجه المجتمع، وعمت الفضيلة بشكل كبير، إضافة إلى كونه تعالى مسبب الأسباب, وعالم الشهود مسخر لعالم الغيب، قال تعالى: «فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا»(1).

ثم إن المريض لو حمد الله تعالى، وقصد بذلك التأسي بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) كان له أجران: أجر الحمد، وأجر تذكرها (عليها السلام) والتأسي بها؛ فإن تذكرها في حد ذاته عبادة، وقصد التأسي بها طاعة.

المظلوم وحمد الله تعالى

مسألة: يستحب للمظلوم أن يجيب من سأله عن حاله بحمد الله أولاً، ثم يبين له حالته، وذلك لما سبق وغيره، ككون ذلك سبباً لفضح الظالم، وكونه موجباً لاطمئنان النفس، فإن بذكر الله تطمئن القلوب.

ص: 40


1- سورة الأنعام: 43.

..............................

عدة مسائل

مسائل: حيث اجتمع فيها (صلوات الله عليها) عنوان المريض، وعنوان المظلوم، بل اجتمعت فيها عناوين عدة: المظلوم، والمريض، وابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأم الحسنين (عليهما السلام)، وزوج الوصي (عليه السلام) و... لذا تترتب أحكام عديدة بعددها(1).

فمثلاً إذا زارها إنسان في حياتها، أو بعد استشهادها، قاصداً عنواناً واحداً حظي بأجره، ولو قصد عنوانين حظي بأجرين، وإذا قصد عدة عناوين حظي بأجرها مضاعفة بما لا يعلمه إلا الله، فإن«الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(2).

لا يقال: مع انطباق العنوانين في المقام: عنوان المريض، وعنوان المظلوم، وقد بدأت (صلوات الله عليها) الجواب بحمد الله، فلا يعلم أن السبب فيه هو انطباق العنوان الأول أو الثاني، فلا يصح استنباط استحباب الحمد في كلتا الحالتين منفردة، أي فيما لو انفك إحداهما عن الأخرى؟.

إذ يقال: الظاهر عرفاً في مثل هذه الموارد هو كفاية كل من العنوانين(3)، ولو بقرينة إلغاء الخصوصية، فلا حاجة بعد ذلك إلى التمسك بالعمومات

ص: 41


1- أي بعدد العناوين.
2- مصباح الشريعة: ص53، الباب الثالث والعشرون في النية.
3- وإن كان يمكن القول بأن وجه المظلومية هو الأرجح.

..............................

الأخرى(1)، حتى يلزم من ذلك عدم التمسك بكلامها (عليها السلام) ههنا، من باب إجمال وجه الفعل أو القول، وعدم حجية العمل بما هو هو، فتأمل.

هذا وهناك آداب ومستحبات للمريض،ذكرنا بعضها في (الآداب والسنن)(2) وما أشبه، ومنها: استحباب أن يتصدق المريض بيده، ويسأل السائل أن يدعو له.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ بِيَدِهِ، وَيَأْمُرَ السَّائِلَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ»(3).

كيف أصبحت

مسألة: يرجح السؤال عن صحة الشخص ب: كيف أصبحت، وما يؤدي مؤداه، وقد ورد مثل ذلك في الروايات الشريفة.

عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مِنْ تَمَامِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ، أَنْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى رَأْسِهِ، وَتَقُولَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ

ص: 42


1- الدالة على استحباب الحمد بشكل عام.
2- من تأليفات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في مدينة قم المقدسة عام 1406ه. ضمن موسوتعة (الفقه)، ويقع الكتاب في أربعة أجزاء قياس24 × 17، وقد تم طبع هذا الكتاب عدة مرات منها: طبعة دار القرآن الحكيم - قم المقدسة، وطبعة مؤسسة الفكر الإسلامي - قم المقدسة، وطبعة دار العلوم - بيروت، عام 1410ه / 1989م.
3- الكافي: ج4 ص3 -4، تتمة كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب فضل الصدقة، ح9.

..............................

وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ. فَإِذَا جَلَسْتَ عِنْدَهُ غَمَرَتْكَ الرَّحْمَةُ، وَإِذَا خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِهِ خُضْتَهَا مُقْبِلاً وَمُدْبِراً، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى حِقْوَيْهِ»(1).

وروى الطبرسي في مكارم الأخلاق، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «تَمَامُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلَهُ: كَيْفَ أَنْتَ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ، وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ، وَتَمَامُ تَحِيَّتِكُمُ الْمُصَافَحَةُ»(2).

وعن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، فَنَظَرَ إِلَى شَابٍّ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَخْفِقُ وَيَهْوِي بِرَأْسِهِ، مُصْفَرّاً لَوْنُهُ، قَدْ نَحِفَ جِسْمُهُ، وَغَارَتْ عَيْنَاهُ فِي رَأْسِهِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلاَنُ؟.

قَالَ: أَصْبَحْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مُوقِناً.

فَعَجِبَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ قَوْلِهِ، وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ يَقِينٍ حَقِيقَةً، فَمَاحَقِيقَةُ يَقِينِكَ؟.

فَقَالَ: إِنَّ يَقِينِي - يَا رَسُولَ اللهِ - هُوَ الَّذِي أَحْزَنَنِي، وَأَسْهَرَ لَيْلِي، وَأَظْمَأَ هَوَاجِرِي، فَعَزَفَتْ نَفْسِي عن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي وَقَدْ نُصِبَ لِلْحِسَابِ، وَحُشِرَ الْخَلاَئِقُ لِذَلِكَ وَأَنَا فِيهِمْ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَتَعَارَفُونَ، وَعَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى

ص: 43


1- الأمالي للطوسي: ص639، المجلس 32، ح1320.
2- مكارم الأخلاق: ص359 -360، ب11 ف1، في عيادة المريض.

..............................

أَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ مُصْطَرِخُونَ، وَكَأَنِّي الآنَ أَسْمَعُ زَفِيرَ النَّارِ يَدُورُ فِي مَسَامِعِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأَصْحَابِهِ: هَذَا عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالإِيمَانِ - ثُمَّ قَالَ لَهُ - الْزَمْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ الشَّابُّ: ادْعُ اللَّهَ لِي - يَا رَسُولَ اللهِ - أَنْ أُرْزَقَ الشَّهَادَةَ مَعَكَ.

فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ هُوَ الْعَاشِرَ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وُعِكَ أَبُو ذَرٍّ (رضوان الله عليه)، فَأَتَيْتُرَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ وُعِكَ.

فَقَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ نَعُودُهُ.

فَمَضَيْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ؟.

قَالَ: أَصْبَحْتُ وَعِكاً يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: أَصْبَحْتَ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، قَدِ انْغَمَسْتَ فِي مَاءِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا يَقْدَحُ مِنْ دِينِكَ، فَأَبْشِرْ يَا أَبَا ذَرٍّ»(2).

وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ، الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ

ص: 44


1- الكافي: ج2 ص53، كتاب الإيمان والكفر، باب حقيقة الإيمان واليقين، ح2.
2- الدعوات للراوندي: ص167- 168، ب3، فصل في صلاة المريض وصلاحه وأدبه ودعائه عند المرض، ح467.

..............................

جَهَنَّمَ، الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ»(1).

المعنى الأعم لأصحبت

ثم إن (كَيْفَ أَصْبَحْتِ): أي على أي حال دخلت في الصباح، وربما كان بمعنى كيفصرتِ، وحينئذٍ ربما يقال بتجرد (أصبحت) عن الدلالة على المعنى الخاص في الزمن الخاص(2)، بل يستخدم في أمثال المقام للدلالة على التحول من حال إلى حال.

لكنه في المقام قد يكشف عن زيارة النسوة لها صباحاً، فابتدأنها بالسؤال: (كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟)، فأجابت (عليها السلام) طبق السؤال.

وقد عقد العلامة المجلسي (رحمه الله) باباً خصه فيما قيل في جواب كيف أصبحت، وذكر فيه الروايات التالية:

قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟.

قَالَ: «أَصْبَحْتُ مَطْلُوباً بِثَمَانِ خِصَالٍ: اللهُ تَعَالَى يَطْلُبُنِي بِالْفَرَائِضِ، وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِالسُّنَّةِ، وَالْعِيَالُ بِالْقُوتِ، وَالنَّفْسُ بِالشَّهْوَةِ، وَالشَّيْطَانُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالْحَافِظَانِ بِصِدْقِ الْعَمَلِ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ بِالرُّوحِ، وَالْقَبْرُ بِالْجَسَدِ،

ص: 45


1- بحار الأنوار: ج78 ص188، تتمة كتاب الطهارة، الباب1 من أبواب الجنائز ومقدماتها ولواحقها، ضمن ح45.
2- فليس في مقابل أمسيت.

..............................

فَأَنَا بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَالِ مَطْلُوبٌ»(1).وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟.

فَقَالَ: «أَصْبَحْتُ وَلِي رَبٌّ فَوْقِي، وَالنَّارُ أَمَامِي، وَالْمَوْتُ يَطْلُبُنِي، وَالْحِسَابُ مُحْدِقٌ بِي، وَأَنَا مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِي، لاَ أَجِدُ مَا أُحِبُّ، وَلاَ أَدْفَعُ مَا أَكْرَهُ، وَالأُمُورُ بِيَدِ غَيْرِي، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَنِي، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، فَأَيُّ فَقِيرٍ أَفْقَرُ مِنِّي»(2).

وقيل لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

فَقَالَ: «كَيْفَ يُصْبِحُ مَنْ كَانَ للهِ عَلَيْهِ حَافِظَانِ، وَعَلِمَ أَنَّ خَطَايَاهُ مَكْتُوبَةٌ فِي الدِّيوَانِ، إِنْ لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَمَرْجِعُهُ إِلَى النِّيرَانِ»(3).

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْماً. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «آكُلُ رِزْقِي».

قَالَ جَابِرٌ: مَا تَقُولُ فِي دَارِ الدُّنْيَا؟.قَالَ: «مَا نَقُولُ فِي دَارٍ أَوَّلُهَا غَمٌّ، وَآخِرُهَا الْمَوْتُ».

قَالَ: فَمَنْ أَغْبَطُ النَّاسِ؟.

ص: 46


1- بحار الأنوار: ج73 ص15، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ح1.
2- بحار الأنوار: ج73 ص15، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ح2.
3- بحار الأنوار: ج73 ص15، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.

..............................

قَالَ: «جَسَدٌ تَحْتَ التُّرَابِ، أَمْنٌ مِنَ الْعِقَابِ وَيَرْجُو الثَّوَابَ»(1).

وَقِيلَ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ مَنْ كَانَ الْمَوْتُ غَايَتَهُ، وَالْقَبْرُ مَنْزِلَهُ، وَالدِّيدَانُ جِوَارَهُ، وَإِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَالنَّارُ مَسْكَنُهُ(2).

وقِيلَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ مَنْ كَانَ اسْمُهُ عَبْداً، وَيُدْفَنُ غَداً فِي الْقَبْرِ وَحْداً، وَيُحْشَرُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ فَرْداً(3).

وعَنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْماً مِنَ الْبَيْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَلْمَانُ.

فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟».

قَالَ: أَصْبَحْتُ فِي غُمُومٍ أَرْبَعَةٍ.

فَقَالَ لَهُ: «وَمَا هُنَّ؟».

قَالَ: غَمُّ الْعِيَالِ يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَالشَّهَوَاتِ، وَالْخَالِقِ يَطْلُبُ الطَّاعَةَ، وَالشَّيْطَانِ يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ يَطْلُبُ الرُّوحَ».

ص: 47


1- بحار الأنوار: ج73 ص16، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.
2- بحار الأنوار: ج73 ص16، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.
3- بحار الأنوار: ج73 ص16، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.

..............................

فَقَالَ لَهُ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ خَصْلَةٍ دَرَجَاتٍ، وَإِنِّي كُنْتُ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ.

فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا عَلِيُّ؟. فَقُلْتُ: أَصْبَحْتُ وَلَيْسَ فِي يَدِي شَيْءٌ غَيْرُ الْمَاءِ، وَأَنَا مُغْتَمٌّ لِحَالِ فَرْخَيَّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام).

فَقَالَ لِي: يَا عَلِيُّ، غَمُّ الْعِيَالِ سِتْرٌ مِنَ النَّارِ، وَطَاعَةُ الْخَالِقِ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ جِهَادٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَغَمُّ الْمَوْتِ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ. وَاعْلَمْ - يَا عَلِيُّ - أَنَّ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، وَغَمَّكَ لَهُمْ لاَ يَضُرُّكَ وَلاَ يَنْفَعُ غَيْرَ أَنَّكَ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ،وَإِنَّ أَغَمَّ الْغَمِّ غَمُّ الْعِيَالِ»(1).

وقِيلَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا رُوحَ اللهِ؟.

قَالَ: «أَصْبَحْتُ وَرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ فَوْقِي، وَالنَّارُ أَمَامِي، وَالْمَوْتُ فِي طَلَبِي، لاَ أَمْلِكُ مَا أَرْجُو، وَلاَ أُطِيقُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ، فَأَيُّ فَقِيرٍ أَفْقَرُ مِنِّي»(2).

وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: «بِخَيْرٍ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُصْبِحْ صَائِماً، وَلَمْ يَعُدْ مَرِيضاً، وَلَمْ يَشْهَدْ جَنَازَةً»(3).

ص: 48


1- بحار الأنوار: ج73 ص16- 17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.
2- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ح3.
3- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.

..............................

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ: لَقِيتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ صَبَاحاً. فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «بِنِعْمَةِ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، مِنْ رَجُلٍ لَمْيَزُرْ أَخاً، وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً».

قُلْتُ: وَمَا ذَلِكَ السُّرُورُ؟.

قَالَ: «يُفَرِّجُ عَنْهُ كَرْباً، أَوْ يَقْضِي عَنْهُ دَيْناً، أَوْ يَكْشِفُ عَنْهُ فَاقَةً»(1).

وقَالَ جَابِرٌ: وَلَقِيتُ عَلِيّاً يَوْماً، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «أَصْبَحْنَا وَبِنَا مِنْ نِعَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ مَا لاَ نُحْصِيهِ، مَعَ كَثِيرِ مَا نُحْصِيهِ، فَمَا نَدْرِي أَيَّ نِعْمَةٍ نَشْكُرُ، أَ جَمِيلَ مَا يَنْتَشِرُ، أَمْ قَبِيحَ مَا يَسْتُرُ»(2).

وَقِيلَ لأَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ؟.

قَالَ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ: بَيْنَ ذَنْبٍ مَسْتُورٍ، وَثَنَاءٍ مَنِ اغْتَرَّ بِهِ فَهُوَ الْمَغْرُورُ(3).

وَقِيلَ لأُوَيْسِ بْنِ عَامِرٍ الْقَرَنِيِّ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَامِرٍ؟.

ص: 49


1- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
2- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
3- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.

..............................

قَالَ: مَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ يَرْحَلُ إِلَى الآخِرَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَرْحَلَةً، لاَ يَدْرِي إِذَا انْقَضَى سَفَرُهُ، أَ عَلَى جَنَّةٍ يَرِدُ أَمْ عَلَى نَارٍ(1).

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّيَّارُ: دَخَلْتُ عَلَى عَمِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) صَبَاحاً وَكَانَ مَرِيضاً، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «يَا بُنَيَّ، كَيْفَ أَصْبَحَ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ، وَيَسْقُمُ بِدَوَائِهِ، وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ»(2).

وَقِيلَ لابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟. قَالَ: «أَصْبَحْنَا غَرْقَى فِي النِّعْمَةِ، مَوْقُورِينَ بِالذُّنُوبِ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْنَا إِلَهُنَا بِالنِّعَمِ، وَنَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنَّا»(3).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا مَارِّينَ فِيأَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ يَوْماً، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ». فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟». قَالَ: «أَصْبَحْتُ وَنَوْمِي خَطَرَاتٌ، وَيَقَظَتِي فَزَعَاتٌ، وَفِكْرَتِي فِي يَوْمِ الْمَمَاتِ»(4).

ص: 50


1- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
2- بحار الأنوار: ج73 ص18، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
3- بحار الأنوار: ج73 ص18، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
4- بحار الأنوار: ج73 ص18، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.

..............................

كيف أصبحت وبيان الظلامة

مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده، بيان الظلامة في جواب كيف أصبحت، وذلك هدايةً للناس إلى الطريق الصحيح، وفضح الظلمة والطغاة، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) في جواب نسوة القوم، وقالت في جواب السيدة أم سلمة (رضوان الله عليها)، وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في جواب المنهال.

في تفسير القمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: لَقِيَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟.قَالَ: «وَيْحَكَ أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفَ أَصْبَحْتُ. أَصْبَحْنَا فِي قَوْمِنَا مِثْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ، يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَنَا، وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَنَا، وَأَصْبَحَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ يُلْعَنُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَصْبَحَ عَدُوُّنَا يُعْطَى الْمَالَ وَالشَّرَفَ، وَأَصْبَحَ مَنْ يُحِبُّنَا مَحْقُوراً مَنْقُوصاً حَقُّهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَزَلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَصْبَحَتِ الْعَجَمُ تَعْرِفُ لِلْعَرَبِ حَقَّهَا بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ لِقُرَيْشٍ حَقَّهَا بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ تَفْتَخِرُ عَلَى الْعَرَبِ بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْعَجَمِ بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحْنَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ لا يُعْرَفُ لَنَا حَقٌّ، فَهَكَذَا أَصْبَحْنَا يَا مِنْهَالُ»(1).

ص: 51


1- تفسير القمي: ج2 ص134- 135، سورة القصص الآيات 1 إلى 6.

..............................

وفي المناقب لابن شهرآشوب: دَخَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام)، فَقَالَتْ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عن لَيْلَتِكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟.

قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وَكَرْبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ، وَظُلِمَ الْوَصِيُّ، وَهُتِكَ وَاللهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مَقْتَصَةً عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُفِي التَّنْزِيلِ، وَسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ، وَتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ، كَانَتْ عَلَيْهَا قُلُوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَةً لإِمْكَانِ الْوُشَاةِ، فَلَمَّا اسْتُهْدِفَ الأَمْرُ، أَرْسَلَتْ عَلَيْنَا شَآبِيبَ الآثَارِ مِنْ مَخِيلَةِ الشِّقَاقِ، فَيَقْطَعُ وَتَرَ الإِيمَانِ مِنْ قِسِيِّ صُدُورِهَا، وَلَبِئْسَ عَلَى مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الرِّسَالَةِ، وَكَفَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ. أَحْرَزُوا عَائِدَتَهُمْ غُرُورَ الدُّنْيَا بَعْدَ اسْتِنْصَارٍ، مِمَّنْ فَتَكَ بِآبَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْكَرْبِ، وَمَنَازِلِ الشَّهَادَاتِ»(1).

كيف أصبحت وبيان الحقائق

مسألة: قد يجاب عن السؤال بكيف أصبحت، ببيان الحقائق، والنصح، وما يفيد الآخرين، وهو راجح بالمعنى الأعم.

وعن حنش بن المعتمر، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَهُوَ فِي الرَّحْبَةِ مُتَّكِئاً. فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: «أَصْبَحْتُ مُحِبّاً لِمُحِبِّنَا، صَابِراً عَلَى

ص: 52


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج2 ص205 - 206، باب ما تفرد من مناقبه (عليه السلام)، فصل في ظلامة أهل البيت (عليهم السلام).

..............................

بُغْضِ مَنْ يُبْغِضُنَا. إِنَّ مُحِبَّنَا يَنْتَظِرُ الرَّوْحَ وَالْفَرَجَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنَّ مُبْغِضَنَا بَنَى بِنَاءً فَ- «أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ»، فَكَأَنَّ بُنْيَانَهُ قَدْ هَارَ «فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(1).

يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ، إِنَّ مُحِبَّنَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْغِضَنَا، وَإِنَّ مُبْغِضَنَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّنَا. إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَبَلَ قُلُوبَ الْعِبَادِ عَلَى حُبِّنَا، وَخَذَلَ مَنْ يُبْغِضُنَا، فَلَنْ يَسْتَطِيعَ مُحِبُّنَا بُغْضَنَا، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ مُبْغِضُنَا حُبَّنَا، وَلَنْ يَجْتَمِعَ حُبُّنَا وَحُبُّ عَدُوِّنَا فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ، «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(2)، يُحِبُّ بِهَذَا قَوْماً، وَيُحِبُّ بِالآخَرِ أَعْدَاءَهُمْ»(3).

وفي الرواية: سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

فقال: «أَصْبَحْتُ وَأَنَا الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، وَالْفَارُوقُ الأَعْظَمُ، وَأَنَا وَصِيُّ خَيْرِ الْبَشَرِ، وَأَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَأَنَا الْبَاطِنُ وَأَنَا الظَّاهِرُ، وَأَنَا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَأَنَا عَيْنُ اللهِ، وَأَنَا جَنْبُ اللهِ، وَأَنَا أَمِينُ اللهِعَلَى الْمُرْسَلِينَ. بِنَا عُبِدَ اللهُ، وَنَحْنُ خُزَّانُ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَأَنَا أُحْيِي، وَأَنَا أُمِيتُ، وَأَنَا حَيٌّ لاَ أَمُوتُ».

فَتَعَجَّبَ الأَعْرَابِيُّ مِنْ قَوْلِهِ.

فقال (عليه السلام): «أَنَا الأَوَّلُ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).

ص: 53


1- سورة التوبة: 109.
2- سورة الأحزاب: 4.
3- الأمالي للمفيد: ص233، المجلس السابع والعشرون، ح4.

..............................

وَأَنَا الآخِرُ: آخِرُ مَنْ نَظَرَ فِيهِ لَمَّا كَانَ فِي لَحْدِهِ.

وَأَنَا الظَّاهِرُ: ظَاهِرُ الإِسْلاَمِ.

وَأَنَا الْبَاطِنُ: بَطِينٌ مِنَ الْعِلْمِ.

وَأَنَا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: فَإِنِّي عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ فَأَخْبَرَنِي بِهِ.

فَأَمَّا عَيْنُ اللهِ: فَأَنَا عَيْنُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَفَرَةِ.

وَأَمَّا جَنْبُ اللهِ: فَ- «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ»(1)، وَمَنْ فَرَّطَ فِيَّ فَقَدْ فَرَّطَ فِي اللهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِنَبِيٍّ نُبُوَّةً حَتَّى يَأْخُذَ خَاتَماً مِنْ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ سَيِّدُ النَّبِيِّينَ وَأَنَا سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ.

وَأَمَّا خُزَّانُ اللهِ فِي أَرْضِهِ: فَقَدْ عَلِمْنَا مَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْلٍ صَادِقٍ.وَأَنَا أُحْيِي: أُحْيِي سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ.

وَأَنَا أُمِيتُ: أُمِيتُ الْبِدْعَةَ.

وَأَنَا حَيٌّ لاَ أَمُوتُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2)»(3).

ص: 54


1- سورة الزمر: 56.
2- سورة آل عمران: 169.
3- بحار الأنوار: ج39 ص347 - 348، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب90 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه) ، ح20.

..............................

الهدفية

مسألة: الهدفية واجبة وقد تكون مستحبة، وهذا مما نستفيده من الصديقة الكبرى (عليها السلام)، حيث إنها وضعت الهدف (وهو إحقاق الحق والدفاع، عن الولاية وعن ولي المؤمنين وأميرهم (عليه السلام))، وكذا (إبطال الباطل، وفضح غاصبي الخلافة) نصب عينيها، فاستغلت حتى مثل هذا السؤال البسيط العرفي العادي، وهو السؤال عن صحتها، لتحويله إلى منبر لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

فالمقصود بالهدفية: أن يسخر الإنسان كل طاقاته، وكل الظروف، وكل الطوارئ - الهام منها والعادي -للوصول إلى الهدف المشروع، وذلك بين واجب ومستحب. وإن أمكن القول بأن الهدف هنا - وهو واجب كفائي بل أكبر واجب(1) - حيث لم يقم به من فيه الكفاية، صار واجباً عينياً.

القسم للمهمات

مسألة: يجوز الحلف لبيان الأمور المهمة، والجواز هنا بالمعنى الأعم، كما قالت (عليها السلام): «أَصْبَحْتُ وَاللهِ».

ص: 55


1- وذلك لقول الإمام الباقر (عليه السلام): (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْوَلَايَةِ. وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ) - الكافي: ج2 ص18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، ح1.

..............................

فإنه قد يكون واجباً إذا توقف إحقاق الحق وإقناع الناس، أو فضح عدو الله وعدو الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعدو أهل البيت (عليهم السلام) عليه.

وغير خفي أنه قسمها (عليها السلام) للتأكيد، وإلا فهي معصومة يجب قبول قولها، فإن القوم لو كانوا يعقلون أو يفقهون حديثاً، فإنها التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيراً من كل دنس، أو خطأ، أو خطل، أو زلة، فكيف بمثلالكذب، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً »(1).

وهي (عليها السلام) التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، في كل الأزمان وفي كل الحالات ... إلى غير ذلك من الأدلة، إلا أن القوم حيث كانوا «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً»(2) اختارت (صلوات الله عليها) القسم، فالقسم للتأكيد ولنزع أية شائبة تشكيك في القلوب، ولمزيد إتمام الحجة، كما في القسم الوارد في القرآن الكريم.

الدنيا المذمومة والممدوحة

مسألة: الدنيا قد تكون مذمومة، وقد تكون ممدوحة، فما حكم الدنيا بما هي هي، أي لا بشرط؟.

ص: 56


1- سورة الأحزاب: 56.
2- سورة النساء: 78.

..............................

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج: «دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا»(1). فعن ابن نباتة، قال:كنت جالساً عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فجاء إليه رجل فشكا إليه الدنيا وذمها. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ عَاقِبَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَتِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ. اكْتَسَبُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، فَلِمَاذَا تَذُمُّهَا! وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِانْقِطَاعِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ بِبَلاَئِهَا إِلَى الْبَلاَءِ، وَشَوَّقَتْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ. رَاحَتْ بِفَجِيعَةٍ، وَابْتَكَرَتْ بِعَافِيَةٍ، تَحْذِيراً وَتَرْغِيباً وَتَخْوِيفاً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَحَمِدَهَا آخَرُونَ، ذَكَّرَتْهُمْ فَذَكَرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا. فَيَا أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُعْتَلُّ بِتَغْرِيرِهَا، مَتَى اسْتَذَمَّتْ إِلَيْكَ الدُّنْيَا وَغَرَّتْكَ، أَ بِمَنَازِلِ آبَائِكَ مِنَ الثَّرَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ مِنَ الْبِلَى، كَمْ مَرَّضْتَ بِكَفَّيْكَ، وَكَمْ عَلَّلْتَ بِيَدَيْكَ، تَبْتَغِي لَهُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُ الأَطِبَّاءَ، لَمْ يَنْفَعْهُ إِشْفَاقُكَ، وَلَمْ تَعُقْهُ طَلِبَتُكَ، مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ، وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ، فَجَدِيرٌ بِكَ أَنْ لاَ يَفْنَى بِهِ بُكَاؤُكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُكَ أَحِبَّاؤُكَ»(2).فالدنيا إن اتخذت مزرعة للآخرة، وطريقاً إلى الجنة، واستثمرت لعمل الصالحات، كانت مطلوبة. وإن اتخذت أداة للشر، وطريقاً إلى النار، كانت

ص: 57


1- نهج البلاغة: قصار الحكم، رقم 127.
2- الزهد: ص47 - 48، باب8 ما جاء في الدنيا ومن طلبها.

..............................

مكروهة، هذا بالنسبة إلى الشخص نفسه.

وكذا بالنسبة إلى الآخرين، فإن كانت الدنيا مسخرة للظلمة، يعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل، فإنها دار لا يريدها المؤمن، ويسأل الله منها الخلاص.

وذلك هو ما أشارت إليه الصديقة الكبرى فاطمة (صلوات الله عليها)، حيث قالت: (أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ)، فالدنيا أصبحت مكروهة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد غصب حق الولي المرتضى.. بعد أن كانت محبوبة بوجود الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وتحت قيادته ورايته.

فكره الصديقة فاطمة (عليها السلام) للدنيا لا بما هي هي، بل لما دارت السنين، وانقلب القوم على أعقابهم، وحكم أئمة الجور والضلال.

* قولها (عليها السلام) : «عَائِفَةً» من عاف الشخص الطعام يعافه عيافاً إذا كرهه، أي: إني أكره دنياكن؛ فإن هذه الدنيا التي يكون فيها إبطال الحق وإحياءالباطل، هي دنيا مكروهة.

ص: 58

..............................

كره الدنيا

مسألة: يستحب التأسي بالصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) في كرهها للدنيا، بعدما حكمها الظالمون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل قد يقال بوجوبه في الجملة(1).

وكما يستحب أو يجب كره تلك الدنيا بتلك الخصوصيات، وبلحاظ حكم الظالمين والغاصبين فيها، يستحب أو يجب كره أي دنيا في أي زمن آخر يحكم فيه الطغاة.

ولعل لذلك وصف المؤمن في الدنيا بأنه غريب، قال (عليه السلام): «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»(2).

وفي الحديث: «إِنَّ الْقَلْبَ إِذَا صَفَا ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ حَتَّى يَسْمُوَ»(3).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَرَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِجَدْيٍ أَسَكَّ، مُلْقًى عَلَى مَزْبَلَةٍ مَيْتاً. فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: كَمْ يُسَاوِي هَذَا؟. فَقَالُوا: لَعَلَّهُ لَوْ كَانَ حَيّاً لَمْ يُسَاوِ دِرْهَماً. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

ص: 59


1- إذا انطبق عليه عنوان التبري من أعداء الله بمرتبة وجوبه، أو بلحاظ ما سيأتي منه (رحمه الله) بعد صفحة تحت عنوان (لدنياكن): (لأن كرهها للدنيا مساوق لغضبها على من يحبها...).
2- المحاسن: ج1 ص272، كتاب مصابيح الظلم، باب37 تصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتسليم له، ح366.
3- الكافي: ج2 ص130، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ضمن ح10.

..............................

لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْجَدْيِ عَلَى أَهْلِهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِضْرَاراً بِالآخِرَةِ، وَفِي طَلَبِ الآخِرَةِ إِضْرَاراً بِالدُّنْيَا، فَأَضِرُّوا بِالدُّنْيَا؛ فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالإِضْرَارِ»(2).

وعن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «فِيمَا نَاجَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى (عليه السلام): يَا مُوسَى، لاَ تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا رُكُونَ الظَّالِمِينَ، وَرُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا أَباً وَأُمّاً. يَا مُوسَى، لَوْ وَكَلْتُكَ إِلَى نَفْسِكَ لِتَنْظُرَ لَهَا، إِذاً لَغَلَبَ عَلَيْكَ حُبُّ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا. يَامُوسَى، نَافِسْ فِي الْخَيْرِ أَهْلَهُ وَاسْتَبِقْهُمْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ كَاسْمِهِ، وَاتْرُكْ مِنَ الدُّنْيَا مَا بِكَ الْغِنَى عَنْهُ، وَلاَ تَنْظُرْ عَيْنُكَ إِلَى كُلِّ مَفْتُونٍ بِهَا، وَمُوكَلٍ إِلَى نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فِتْنَةٍ بَدْؤُهَا حُبُّ الدُّنْيَا، وَلاَ تَغْبِطْ أَحَداً بِكَثْرَةِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ مَعَ كَثْرَةِ الْمَالِ تَكْثُرُ الذُّنُوبُ لِوَاجِبِ الْحُقُوقِ. وَلاَ تَغْبِطَنَّ أَحَداً بِرِضَى النَّاسِ عَنْهُ، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَاضٍ عَنْهُ. وَلاَ تَغْبِطَنَّ مَخْلُوقاً بِطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ؛ فَإِنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لَهُ، وَاتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ هَلاَكٌ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ»(3).

ص: 60


1- بحار الأنوار: ج70 ص55، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب122 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح27.
2- الكافي: ج2 ص131، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح12.
3- بحار الأنوار: ج70 ص73، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب122 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح37.

..............................

الزهد في الدنيا أو كرهها

مسألة: كون الإنسان زاهداً في الدنيا أمر، وكونه عائفاً وكارهاً لها أمر آخر، وقد أشارت الصديقة (صلوات الله عليها) ههنا إلى الأمر الثاني، وأنها أصبحت عائفة لدنياهن.

والأول مستحب بالنظر إلى الدنيا بما هي هي.

والثاني مستحب أو واجب بالنظر إلىالدنيا لا بما هي هي، بل بما هي دنيا الظالمين، ودنيا اتخذت طريقاً للمعاصي والظلم والشر.

وقد ورد في الحديث في معنى الزهد ما مضمونه: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): «مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: تَنَكُّبُ حَرَامِهَا»(1).

وعن السكوني، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلاَ بِتَحْرِيمِ الْحَلاَلِ، بَلِ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لاَ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(2).

وعن أبي جعفر الثاني، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال:

ص: 61


1- معاني الأخبار: ص251، باب معنى الزهد، ح1.
2- بحار الأنوار: ج67 ص310، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب58 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح4.

..............................

«سُئِلَ الصَّادِقُ (عليه السلام) عن الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: الَّذِي يَتْرُكُ حَلاَلَهَا مَخَافَةَ حِسَابِهِ، وَيَتْرُكُ حَرَامَهَا مَخَافَةَعَذَابِهِ»(1).

وعن حفص، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا حَدُّ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؟. فَقَالَ: «فَقَدْ حَدَّهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(2). إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللهِ أَخْوَفُهُمْ بِاللهِ، وَأَخْوَفَهُمْ لَهُ أَعْلَمُهُمْ بِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِهِ أَزْهَدُهُمْ فِيهَا»(3).

وفي رواية: سَأَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) عَنْ تَفْسِيرِ الزُّهْدِ؟. قال: «الزَّاهِدُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ خَالِقَهُ، وَيُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُ خَالِقَهُ، وَيَتَحَرَّجُ مِنْ حَلاَلِ الدُّنْيَا، وَلاَ يَلْتَفِتُ إِلَى حَرَامِهَا؛ فَإِنَّ حَلاَلَهَا حِسَابٌ، وَحَرَامَهَا عِقَابٌ، وَيَرْحَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ، وَيَتَحَرَّجُ مِنَ الْكَلاَمِ كَمَا يَتَحَرَّجُ مِنَ الْمَيْتَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَدَّ نَتْنُهَا، وَيَتَحَرَّجُ عَنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا كَمَا يَتَجَنَّبُ النَّارَ أَنْ يَغْشَاهَا، وَأَنْ يُقَصِّرَ أَمَلَهُ وَكَأَنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَجَلَهُ»(4).وقال الصادق (عليه السلام): «الزُّهْدُ مِفْتَاحُ بَابِ الآخِرَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ تَرْكُكَ كُلَّ شَيْءٍ يَشْغَلُكَ عَنِ اللهِ مِنْ غَيْرِ تَأَسُّفٍ عَلَى فَوْتِهَا، وَلاَ إِعْجَابٍ

ص: 62


1- معاني الأخبار: ص287، باب معنى الزاهد في الدنيا، ح1.
2- سورة الحديد: 23.
3- بحار الأنوار: ج67 ص311، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب58 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح8.
4- معاني الأخبار: ص261، باب معنى التوكل على الله عز وجل والصبر والقناعة والرضا والزهد والإخلاص واليقين، ح1.

..............................

فِي تَرْكِهَا، وَلاَ انْتِظَارِ فَرَجٍ مِنْهَا، وَلاَ طَلَبِ مَحْمَدَةٍ عَلَيْهَا، وَلاَ عِوَضٍ مِنْهَا، بَلْ تَرَى فَوْتَهَا رَاحَةً، وَكَوْنَهَا آفَةً، وَتَكُونُ أَبَداً هَارِباً مِنَ الآفَةِ، مُعْتَصِماً بِالرَّاحَةِ. وَالزَّاهِدُ الَّذِي يَخْتَارُ الآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَالذُّلَّ عَلَى الْعِزِّ، وَالْجَهْدَ عَلَى الرَّاحَةِ، وَالْجُوعَ عَلَى الشِّبَعِ، وَعَاقِبَةَ الآجِلِ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَاجِلِ، وَالذِّكْرَ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا وَقَلْبُهُ فِي الآخِرَةِ»(1).

فوائد الزهد وكره الدنيا

ثم إن فوائد الزهد أكثر من أن تحصى، على ما هو مذكور في كتب الأخلاق، وقد ألمعنا في (الفضيلة الإسلامية)(2)إلى طرف من ذلك.

وأما كره الدنيا إذا كانت دنيا باطلة، ففوائدها جمة، منها: تمحيص الإنسان من الاغترار والانجرار ونحوها.

ص: 63


1- مصباح الشريعة: ص137، الباب الرابع والستون في الزهد.
2- هذا الكتاب من تأليفات الإمام الشيرازي (رحمه الله) بتوصية من والده المعظم آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) في مدينة كربلاء المقدسة. وقد طبع في أجزاء مستقلة في العراق وإيران قياس 20×14، كما قامت بطبعه مؤسسة الوفاء - بيروت/ لبنان في مجلد واحد يقع في (501) صفحة عام 1402ه، وأعادت طبعه لجنة أهل البيت (عليهم السلام) الخيرية - الكويت في مجلد واحد. وقد كتب الإمام الشيرازي (رحمه الله) في الخاتمة ما هذا نصه: «وقد فكرت ذات مرة إن كان للوقت متسع وللتوفيق سعة، لكان بالإمكان إنهاء أجزاء الكتاب إلى الخمسين؛ لما للفضيلة من عرض عريض، كما لا يخفى لمن راجع "الوسائل"، و"المستدرك"، و"البحار"، و"جامع السعادات"، و"مكارم الأخلاق"، وغيرها».

..............................

ومنها: إن القلب الذي كره هذه الدنيا يذوق حلاوة العبادة، ويدرك بعض درجات لذة المناجاة مع الله، حسب درجات كرهه لدنيا الظلم والضلال.. ولهذا بحث طويل نتركه لمظانه.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا تَخَلَّى الْمُؤْمِنُ مِنَ الدُّنْيَا سَمَا، وَوَجَدَ حَلاَوَةَ حُبِّ اللهِ، وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُقَدْ خُولِطَ، وَإِنَّمَا خَالَطَ الْقَوْمَ حَلاَوَةُ حُبِّ اللهِ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِهِ»(1).

وقال (عليه السلام): «إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): إِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ، مَا أَلْيَنَ مَسَّهَا وَفِي جَوْفِهَا السَّمُّ النَّاقِعُ. يَحْذَرُهَا الرَّجُلُ الْعَاقِلُ، وَيَهْوِي إِلَيْهَا الصَّبِيُّ الْجَاهِلُ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا كَمَثَلِ دُودَةِ الْقَزِّ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً، كَانَ أَبْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ، حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً»(4).

ص: 64


1- الكافي: ج2 ص130، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ضمن ح10.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص17، تتمة كتاب الجهاد، الباب63 ح20845.
3- بحار الأنوار: ج70 ص79، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب122 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح40.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص19 - 20، تتمة كتاب الجهاد، الباب64 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20853.

..............................

ما هي الدنيا المكروهة

مسألة: هنا التفاتة لطيفة حيث إنها (صلوات الله عليها) لم تقل: (أصبحت عائفة للدنيا) بل قالت: (أصبحت عائفة لدنياكن).

فالمكروه هو (دنياهن) وليست الدنيا بما هي هي، كما سبق.

والمقصود ب (دنياكن) هو: الدنيا التي ألفنها، وأنسن بها، ورضين بها، أو استسلمن لها، وهي دنيا الخضوع للسلطان الجائر، ودنيا السكوت، أو تأييد غصب الخلافة، ودنيا الإعراض عن خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودنيا تحكيم الإرهاب ومنطق القوة على قوة المنطق، ودنيا الإعراض عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحريات، والعدل، وعدم الإثرة، والإحسان، والأخوة الإسلامية... إلى غير ذلك مما أكدت عليه الآيات الكريمة والروايات النبوية الشريفة.

إنها (صلوات الله عليها) تكره هذه الدنيا، فيجب علينا - كما سبق - أن نكره أيضاً تلك الدنيا؛ لأن كرهها لها مساوق لغضبها لها ولمن يحبها، وغضبها مساوق لغضب الله، حيث قال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَىلِرِضَاهَا»(1).

ص: 65


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.

..............................

نساء زاهدات

مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده، أن تتأسى مجموعة من النساء في كل جيل، بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الزهد بالدنيا وفي كره الدنيا، وأن يسعينَ ليكنَّ أسوة للأخريات في ذلك، ولو قصدن في ذلك - أي في الزهد والكره للدنيا بما يستلزم ذلك من مظاهره - إضافة إلى كونه مطلوباً لذاته، لحاظ أنه تأسٍ بالزهراء (صلوات الله عليها) ولحاظ أن يكنَّ أسوة، كان الأجر مضاعفاً.

قد يقال: إن لحاظ أن يكنَّ أسوة للأخريات من النساء لا حاجة إليه، إذ الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أسوة، وأية أسوة إنها في القمة، فلا حاجة لغيرها ولا مجال لغيرها ليتأسى بها؟.

لكن فيه: أن لا مانعة جمع، فإن بعضاً من الناس لا يتأسى بالعظيم ويتأسى بمن دونه؛ إما لأنه يراه ويعاشره، وإما لأنه يراه في مستوى يقارب مستواه، فيشجعه ذلك على التأسي به، دون العظيم حيث يرى الفارق بينه وبينه، و يحدث له الشيطان وشبهه بعدم التأسي بهم، لأن أولئك معصومون فأيننحن منهم؟ وأننا لا نقدر على التأسي بهم؟ وبذلك يمكر الشيطان بالبعض لمنعه من الاقتداء بهم، فكما فتح الله باب التأسي بأولئك الأطهار (عليهم السلام)، كذلك فتح باب التأسي بالمؤمنات الصالحات ممن يكن في طريقهم ليغلق على الشيطان بابه.

ص: 66

..............................

القدوة في ترك الدنيا

مسألة: ينبغي لمن هو في مقام الأسوة، كالحاكم والعالم، أن يكون عائفاً للدنيا وكارهاً لها.

وفوائد تحلي القيادة بذلك كبيرة جداً وهامة، ولهذا البحث مكان آخر وتكفي ههنا الإشارة، فإن منها ما يعود إلى النفس، ومنها ما يعود إلى الروح، ومنها ما يعود إلى الجسد، ومنها ما يعود إلى المجتمع والشعب، ومنها ما يعود إلى دنياه، ومنها ما يعود إلى آخرته.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ الرَّاكِبِ رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَقَالَ(1) تَحْتَهَا ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»(2).

وفي دعاء الندبة: «بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا، فَشَرَطُوا لَكَذَلِكَ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ، وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ، وَالثَّنَاءَ الْجَلِيَّ، وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلاَئِكَتَكَ، وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرَائِعَ إِلَيْكَ، وَالْوَسِيلَةَ إِلَى رِضْوَانِكَ»(3).

ص: 67


1- أي نام القيلولة وهي نصف النهار، أو استراح عندها وإن لم يكن معها نوم.
2- الكافي: ج2 ص134، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ضمن ح19.
3- إقبال الأعمال (الطبعة القديمة): ج1 ص295، الباب37 من أبواب أحكام شهر رمضان، دعاء آخر بعد صلاة العيد ويدعى به في الأعياد الأربعة.

..............................

تربية الناس على كره الدنيا

مسألة: يستحب لمن هو في مقام الأسوة كالحاكم والعالم، أن يربي الناس على كره الدنيا بما هي دار غرور، ودنيا في مقابل الآخرة كما سبق، لا الدنيا التي هي مزرعة الآخرة. كما كانت (صلوات الله عليها) كارهة للدنيا عائفة لها.

وذلك يتوقف - فيما يتوقف - على أن يكون هو التجسيد الحقيقي لذلك في مخبره ومظهره.

فقولها (عليها السلام): (أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ) يتضمن توجيهاً وتربية.

المريض وترك الدنيا

مسألة: يستحب للمريض خاصة أن يكون عائفاً للدنيا، فإن من حكمة الله تعالى أن خلق الأمراض؛ لما فيها من إرجاع الإنسان إلى الله؛ وإحساسه بحاجته إليه؛ وتضرعه له مما يسبب سعادته في الدنيا والآخرة، ولما فيها من عبرة وعظة؛ وصرف للإنسان عن العجب والغرور.

وفي الحديث قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لَوْلاَ ثَلاَثَةٌ فِي ابْنِ آدَمَ مَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ شَيْءٌ: الْمَرَضُ، وَالْمَوْتُ، وَالْفَقْرُ، وَكُلُّهُنَّ فِيهِ وَإِنَّهُ مَعَهُنَّ لَوَثَّابٌ»(1).

ص: 68


1- الدعوات: ص171، الباب3، فصل في صلاة المريض وصلاحه وأدبه ودعائه عند المرض، ح479.

..............................

وبعبارة أخرى: إن في المرض تذكيراً للإنسان بضعفه، وبربه، وبآخرته، وهو أفضل صارف للإنسان - لو اعتبر - عن الغرور والطغيان.

ولذلك ينبغي للمريض خاصة أن يكون كارهاً للدنيا، ولو لم يكن كذلك فعليه أن يذكر نفسه ويلفتها ويلقنها بذلك حتى تكون كذلك.

ولو لم يفعل كان الندم أكبر والخزي - لو ترتب محرم - أشد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لِلْمَرِيضِأَرْبَعُ خِصَالٍ: يُرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَيَأْمُرُ اللهُ الْمَلَكَ فَيَكْتُبُ لَهُ كُلَّ فَضْلٍ كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ، وَيَتَّبَّعُ مَرَضُهُ كُلَّ عُضْوٍ فِي جَسَدِهِ فَيَسْتَخْرِجُ ذُنُوبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ مَاتَ مَغْفُوراً لَهُ، وَإِنْ عَاشَ عَاشَ مَغْفُوراً لَهُ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا مَرِضَ الْمُسْلِمُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ، وَتَسَاقَطَتْ ذُنُوبُهُ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ الشَّجَرِ»(2).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه تبسَّم فسئل عن تبسمه؟. فقال: «عَجِبْتُ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَجَزَعِهِ مِنَ السُّقْمِ، وَلَوْ يَعْلَمُ مَا لَهُ فِي السُّقْمِ مِنَ الثَّوَابِ، لأَحَبَّ أَنْ لاَ يَزَالَ سَقِيماً حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا رَجُلٍ اشْتَكَى فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ،

ص: 69


1- مكارم الأخلاق: ص358، ب11 ف1، في ثواب المريض.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص402، تتمة كتاب الطهارة، الباب1 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2468.
3- الأمالي للصدوق: ص501، المجلس الخامس والسبعون، ح14.

..............................

كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ أَجْرَ أَلْفِ شَهِيدٍ»(1).

وعن الرضا (عليه السلام)، قال: «الْمَرَضُ لِلْمُؤْمِنِ تَطْهِيرٌ وَرَحْمَةٌ، وَلِلْكَافِرِ تَعْذِيبٌ وَلَعْنَةٌ، وَإِنَّ الْمَرَضَ لاَ يَزَالُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ»(2).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) - فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام) - قال: «يَا عَلِيُّ، أَنِينُ الْمُؤْمِنِ تَسْبِيحٌ، وَصِيَاحُهُ تَهْلِيلٌ، وَنَوْمُهُ عَلَى الْفِرَاشِ عِبَادَةٌ، وَتَقَلُّبُهُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنْ عُوفِيَ مَشَى فِي النَّاسِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ»(3).

بين ترك الدنيا والمطالبة بالحق

مسألة: يستحب للمظلوم خاصة أن يكون عائفاً للدنيا، أي كارهاً لها، كما كانت (صلوات الله عليها). وذلك لا يعني عدم المطالبة بحقه كما سيأتي توضيحه، كما صنعت (صلوات الله عليها) أيضاً.والمظلوم أعم من المظلوم في ماله، أو فكره، أو دينه، أو عرضه الأعم من ماء الوجه. والمظلومية هي داع إضافي لكره الدنيا المذمومة، فإن المظلوم يمكنه أن يزيد كره الدنيا - دنيا الغرور، والضلال، و... - في قلبه عندما يتأمل مظلوميته وحاله، ويستمد منها العون لإخراج حتى الذرة من حب الدنيا من قلبه.

ص: 70


1- طب الأئمة (عليهم السلام): ص71، باب استحباب احتساب المرض والصبر عليه.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص193، ثواب المرض.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص364، باب النوادر، ح5762.

وهذا - كما ذكر - لا ينافي التصدي للمطالبة بحقه، إذ المطالبة بالحق واجب شرعاً في الجملة، وهو ليس دنياً بل هو آخرة.

والكره للدنيا يتعلق بالقلب، ويتجلى على الجوارح بعدم التشبث بزخارف الحياة الدنيا ولهوها وباطلها، أما السعي وراء الدنيا كالمال والسلطة، لأجل الآخرة فهو آخرة وليس دنيا.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1).

وقال (عليه السلام) في خطبته عند خروجه لقتال أهل البصرة، ما رواه عبد الله بن العباس، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ، وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ. فَقَالَ لِي: «مَا قِيمَةُ هَذِهِ النَّعْلِ؟». فَقُلْتُ: لاَ قِيمَةَ لَهَا. قَالَ: «وَاللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»(2).

ومما سبق يتضح خطأ مفهوم الانتظار السلبي أيضاً.

ضرورة نبش التاريخ

مسألة: يستحب وقد يجب بيان أن الصديقة الكبرى (عليها السلام) قد كرهت الدنيا؛ لما ورد عليها من المصاب، ولما رأت من خيانة الأصحاب، حيث قالت: «أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ».

ص: 71


1- نهج البلاغة: الخطب رقم3، ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
2- نهج البلاغة: الخطب رقم33، ومن خطبة له (عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.

..............................

ولا ينبغي الالتفات لما يقوله بعض الجهلة: من أن هذا تاريخ قد مضى، ولا يستحسن إثارة ما مضى وقته ولزم أجله، مما يثير الأحقاد، ويزرع البغضاء في قلوب الناس.

إذا التاريخ يعيد نفسه، فلو لم يدرس ويمحص، ويدان الطغاة؛ لتكررتالمآسي من جديد، وعاد الظلم والإرهاب، ولذلك ترى القرآن الكريم يذكر قصص الأمم الماضية، ويدين العتاة والمستكبرين والظلمة بالاسم، كفرعون وهامان وقابيل و...، قال تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَديدُ الْعِقابِ»(1).

وقال سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(2).

ثم إن القول بالسكوت عن غاصبي حق الزهراء (عليها السلام)، هو كمن يقول: لنسكت عن جرائم هتلر والشيوعيين ومن أشبههم من الطغاة؛ لأنها تاريخ قد مضى، ويجب أن لا نثير الأحقاد، ونزرع البغض في قلوب الناس!.

مع الفارق الكبير، حيث إن جرائم أعداء الزهراء (عليها السلام) هي الأساس لكل جرائم العالم إلى يوم القيامة.

ص: 72


1- سورة الأنقال: 52.
2- سورة القصص: 4.

..............................

ثم إن من الواضح أن الدين قائم على التولي والتبري معاً، ورفض التبري يعني رفض القرآن الكريم، بل نسفالدين كله، وذلك بدءً من كلمة التوحيد، حيث إنه سلب وإيجاب (لا إله إلا الله)، والآيات القرآنية مليئة بالتبري من أعداء الله والرسل والأنبياء والصالحين، وبالتشهير بهم وإدانتهم، والتحذير منهم والتهديد لهم.

ولعل في هذا كفاية لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كُلُّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَمْ يُبْغِضْ عَلَى الدِّينِ، فَلاَ دِينَ لَهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْطِيَ فِي اللهِ، وَتَمْنَعَ فِي اللهِ»(2).

وعن فضيل بن يسار، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، أَ مِنَ الإِيمَانِ هُوَ؟. فقال: «وَهَلِ الإِيمَانُ إِلاَّ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ - ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ - «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ»(3)»(4).

ص: 73


1- الكافي: ج2 ص127، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح16.
2- الزهد: ص17، باب الأدب والحث على الخير.
3- سورة الحجرات: 7.
4- وسائل الشيعة: ج16ص170، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلق به، الباب15 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، ح21264.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْمُؤْمِنِ: عِلْمُهُ بِاللهِ، وَمَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ يُبْغِضُ»(1).

المرأة والزهد في الدنيا

مسألة: يستحب للمرأة أن تكون عائفة للدنيا، زاهدة فيها، كما يستحب ذلك للرجل.

ويدل عليه العمومات والإطلاقات التي تشمل الذكر والأنثى، فإن الأصل في الأحكام الإلزامية وغيرها الاشتراك بينهما إلا ما خرج بالدليل، وليس ما نحن فيه منه. قال الله تعالى: «أَنِّي لَا أُضيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ»(2).

وقال سبحانه: «إِنَّ

الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرينَ وَ الصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقِاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظِاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثيراً وَالذَّاكِرِاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةًوَأَجْراً عَظيماً»(3).

ص: 74


1- المحاسن: ج1 ص263، كتاب مصابيح الظلم، الباب34 الحب والبغض في الله، ح332.
2- سورة آل عمران: 195.
3- سورة الأحزاب: 35.

..............................

وقال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ»(1).

وقال سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدِّقينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَريمٌ»(3).

المريض والحمد أولاً

مسألة: يستحب للمريض أن يجيب عمن يسأله عن صحته بحمد الله أولاً، ثم يبين حالته.

فإنه مضافاً إلى عمومات الحمد وإطلاقاته، يدل على ذلك ما قالته الصديقة (عليها السلام) من الحمد أولاً،حينما سُئلت عن صحتها.

ص: 75


1- سورة التوبة: 71.
2- سورة الحديد: 12.
3- سورة الحديد: 18.

..............................

المظلوم والحمد أولاً

مسألة: يستحب للمظلوم أن يجيب عمن يسأله، عن حاله بحمد الله أولاً ثم يبين حالته.

فإنه مضافاً إلى عمومات الحمد وإطلاقاته، يدل على ذلك ما قالته الصديقة (عليها السلام) من الحمد أولاً حينما سئلت عن ظلامتها.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «وَتَمَامُ الشُّكْرِ قَوْلُ الرَّجُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَغْتَمُّ بِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(2).

ص: 76


1- الكافي: ج2 ص95 باب الشكر ح10.
2- الكافي: ج2 ص97 باب الشكر ح19.

قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ

اشارة

-------------------------------------------

غضب الصديقة على بعض الصحابة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الزهراء (عليها السلام) كانت تبغض بعض الرجال، كما قالت (صلوات الله عليها): «قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ».

و(القالية) بمعنى المبغضة، من القِلَى: البغض، وقَلَيْتُهُ أَقْلِيهِ قِلىً: أبغضته(1)، كما قال تعالى: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلى»(2).

ومن أبغضته الصديقة فاطمة (عليها السلام) كان من أهل النار، ولا يمكن أن يتولى أمر الأمة.

قال تعالى: «فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِين»(3).

قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) في اعتقاداته: (وأما فاطمة (صلوات الله عليها) فاعتقادنا فيها أنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأن الله يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها، وأنها خرجت من الدنيا ساخطة على ظالميها،وغاصبيها، ومانعي إرثها.

ص: 77


1- كتاب العين: ج5 ص215، مادة (قلي).
2- سورة الضحى: 3.
3- سورة الحشر: 17. وانظر في تأويل الآية: بحار الأنوار: ج28 ص193 ب4.

..............................

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ غَاظَهَا فَقَدْ غَاظَنِي، وَمَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي».

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا».

واعتقادنا في البراءة أنها واجبة من الأوثان الأربعة، ومن الأنداد الأربعة، ومن جميع أشياعهم وأتباعهم، وأنهم شر خلق الله، ولا يتم الإقرار بالله وبرسوله وبالأئمة إلاّ بالبراءة من أعدائهم)(1).

وروى الشيخ المفيد (رحمه الله) بسنده: عن عروة بن الزبير، قال: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، خَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهَا، وَقَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ حَضَرُوا أَسْوَأَ مَحْضَرٍ، تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ (صلى

الله عليه وآله) جِنَازَةً بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَاسْتَبَدُّوابِالأَمْرِ دُونَنَا»(2).

ونقل العلامة المجلسي (رحمه الله) ما رواه أبو محمد بن مسلم بن قتيبة - من أعاظم علماء المخالفين ومؤرخيهم - في تاريخه المشهور: عن أبي عفير، عن أبي عون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، قصة السقيفة بطولها نحواً مما رواه ابن أبي الحديد من كتاب السقيفة - إلى أن قال: - فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة؛ فإنَّا قد أغضبناها. فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما. فأتيا علياً (عليه السلام) فكلماه، فأدخلهما عليها.

ص: 78


1- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105- 106 ب38.
2- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح5.

..............................

فلما قعدا عندها، حوَّلت وجهها إلى الحائط، فسلَّما عليها، فلم ترد عليهما السلام.

فتكلم أبو بكر، فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وإنكِ لأحب إليَّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده، أ فتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقكوميراثك من رسول الله، إلاّ أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركناه فهو صدقة(1).

فقالت: «أَرَأَيْتَكُمَا إِنْ حَدَّثْتُكُمَا حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَتَعْرِفَانِهِ وَتَعْقِلاَنِهِ؟». قالا: نعم. فقالت: «نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ، أَ لَمْ تَسْمَعَا مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: رِضَا فَاطِمَةَ مِنْ رِضَايَ، وَسَخَطُ فَاطِمَةَ مِنْ سَخَطِي، وَمَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَرْضَى فَاطِمَةَ فَقَدْ أَرْضَانِي، وَمَنْ أَسْخَطَ فَاطِمَةَ فَقَدْ أَسْخَطَنِي». قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله). قالت: «فَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، أَنَّكُمَا أَسْخَطْتُمَانِي وَمَا أَرْضَيْتُمَانِي، وَلَئِنْ لَقِيتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لأَشْكُوَنَّكُمَا إِلَيْهِ». قال أبو بكر: عائذاً بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر باكياً، يكاد نفسه أن تزهق وهي تقول: «وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ اللهَ عَلَيْكَ فِي كُلِّ صَلاِةٍ أُصَلِّيهَا»(2).

ص: 79


1- وهذا دليل مكرهم في قصة العيادة، فإنهم حتى في محضرها كذبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فألزمتهم الصديقة (عليها السلام) بحديث آخر وأعلنت غضبها عليهم.
2- بحار الأنوار: ج28 ص357، الباب4 من كتاب الفتن والمحن، تبيين، ح69.

..............................

درجات البغض لله

مسألة: بغض الصديقة (عليها السلام) لرجالهن له درجات، فإنه تابع لدرجة وعمق سوء السريرة، كما أنه تابع لنوع الجريمة التي ارتكبوها، وحجمها وتأثيرها.

ثم إن من الواضح أن هذا البغض كان لله تعالى، فإن «اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1).

أصحابي كالنجوم

مسألة: كان الواجب المؤكد على الأصحاب أن يغيروا ما هم عليه من الخذلان تجاه العترة الطاهرة (عليهم السلام)، عندما علموا بموقف الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) وبعتبها عليهم، بل قليها لهم، إلا أن أكثرهم لم يحرك ساكناً، فكانوا بحق من المنقلبين على الأعقاب، قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(2).وهذا مما يثبت مجعولية مثل: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)،

ص: 80


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
2- سورة آل عمران: 144.

..............................

و(العشرة المبشرة بالجنة)، حيث كان العديد منهم ممن خذل الزهراء (عليها السلام)، وقام بظلمها، وشمله غضبها، كما شمله دعاؤها عليهم، فكيف يرضى الله عنهم ويدخلهم الجنة!.

بغض من أبغضت الزهراء (عليها السلام)

مسألة: ومن ذلك يتضح أننا لابد أن نبغض أولئك الذين أبغضتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام)؛ تأسياً بها (صلوات الله عليها)، وطلباً لرضاها، ورضى الله جل وعلا، لأنه يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

هذا والبغض ينبغي أن يتجلى على الجوارح أيضاً: لعناً، وكتابةً، وإقامةً لمجالس التبري وفرحة الصديقة (عليها السلام) مع حفظ الموازين الشرعية والتي منها التقية في مواردها، وأيضاً إقامة معارض دائمة ودورية لظلامات الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، وكذلك سائر أهل البيت (عليهم السلام) ولجنايات أعدائهم، وما إلى ذلك.عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ، أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْطِيَ فِي اللهِ، وَتَمْنَعَ فِي اللهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: «أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ؟. فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ:

ص: 81


1- الكافي: ج2 ص125، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح2.

..............................

الصَّلاَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الزَّكَاةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الصِّيَامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَجُ وَالْعُمْرَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْجِهَادُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لِكُلِّ مَا قُلْتُمْ فَضْلٌ وَلَيْسَ بِهِ، وَلَكِنْ أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ، وَتَوَالِي أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَالتَّبَرِّي مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْمُؤْمِنِ: عِلْمُهُ بِاللهِ، وَمَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ يُبْغِضُ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحِبُّكُمْ وَمَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُدْخِلُهُ اللهُ الْجَنَّةَ بِحُبِّكُمْ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُبْغِضُكُمْ وَمَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُدْخِلُهُ اللهُ بِبُغْضِكُمُ النَّارَ»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيْراً، فَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ، وَيُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَفِيكَ خَيْرٌ وَاللهُ يُحِبُّكَ. وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ، وَيُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَلَيْسَ فِيكَ خَيْرٌ وَاللهُ يُبْغِضُكَ. وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كُلُّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَمْ يُبْغِضْ عَلَى الدِّينِ، فَلاَ دِينَ لَهُ»(5).

ص: 82


1- الكافي: ج2 ص125- 126، كتاب الإيمان والكفر باب الحب في الله والبغض في الله، ح6.
2- الكافي: ج2 ص126، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح9.
3- الكافي: ج2 ص126، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح10.
4- الكافي: ج2 ص126- 127، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح11.
5- الكافي: ج2 ص127، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح16.

..............................

معركة دائمة

مسألة: يستحب أو يجب على المظلوم - حتى وهو على فراش مرض الموت، وفي حالة الاحتضار - أن يبث شكواه، ويفضحالظالمين.

لا يقال: ما الفائدة من ذلك؟. لأنه يقال: الفائدة

أولاً: فضح الظالم.

وثانياً: إنه جزء العلة المعدة، وتراكم أمثال ذلك؛ رادع لأصل الظلم، أو لكميته، أو كيفيته، ولو بمرور الزمان، ولو بالنسبة للأجيال اللاحقة، كما نجد ذلك واضحاً في تظلم الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذا، وفي تظلم ابنتها السيدة زينب (عليها السلام) ، وكذلك الإمام السجاد (عليه السلام) في مجلس يزيد، وإلى آخر عمره الشريف في كل يوم، إلى غير ذلك.

وثالثاً: الثواب والأجر، ودرجات منه.

ورابعاً: إتماماً للحجة، قال تعالى: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1).

وخامساً: وعلى أقل الفروض «مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ»(2).

ص: 83


1- سورة النساء: 165.
2- سورة الأعراف: 164، وتمام الآية: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَديداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون».

..............................

وإلى ذلك يشير الشاعر بقوله:

عَلَى الْمَرءِ أَنْ يَسْعَى بِمِقْدَارِ جُهْدِهِ *** وَلَيْسَ عَلَيهِ أَنْ يَكُونَ مُوَفَقاً

نظرية عدالة الصحابة

مسألة: يدل كلام الصديقة فاطمة (عليها السلام) على عدم صحة نظرية عدالة جميع الصحابة، وعدم صحة ما يقال من أنه لا يجوز الخدش في بعضهم حتى الذين آذوا الله ورسوله!.

فإن (رجالهن) كانوا كلهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك أبغضتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وفضحتهم، وخدشت فيهم، ودعت عليهم.

وذلك كما فضحهم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) من قبل في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله)، في سورة (المنافقون) و(التوبة) وغيرهما.

وكما صرح به الرسول (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) في عشرات الروايات بل مئاتها، الدالة مطابقةً، أو تضمناً، أو التزاماً، أو بدلالة الاقتضاء، أو الإشارة، أو ما أشبه.

فإن عدداً من الفرق بدأت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وكانوا من أصحابه، بل من مشاهيرهم، وكانوا - حسب نص الرسول (صلى الله عليه وآله) - منأصحاب النار.

ص: 84

..............................

عن أبي ذر والمقداد وسلمان، قالوا: كنا قعوداً عند النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ أقبل ثلاثة من المهاجرين. فقال (صلى الله عليه وآله): «تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق: فرقة أهل حق لا يشوبونه بباطل، مثلهم كالذهب، كلما فتنته النار زاد جودة وطيباً، وإمامهم هذا - وأشار إلى أحد الثلاثة - وهو الذي أخبر الله به في كتابه: «إِماماً وَرَحْمَةً»(1). وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحق، مثلهم كخبث الحديد، كلما فتنته النار زاد خبثاً، وإمامهم هذا». فسألتهم عن أهل الحق وإمامهم. فقالوا: علي بن أبي طالب إمام المتقين. وأمسكوا عن الآخرين، فجهدت في الآخرين أن يسموهما، فلم يفعلوا(2).

وعن الباقر (عليه السلام)، قال: «لما نزل قوله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍمُبِينٍ»(3).

قيل: يا رسول الله هو التوراة والإنجيل أو القرآن. فقال (صلى الله عليه وآله): لا. فأقبل علي (عليه السلام)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): هذا هو الإمام المبين، الذي أحصى الله فيه كل شيء»(4).

ص: 85


1- سورة هود: 17.
2- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: ج1 ص269 - 270، الباب الثامن فيما جاء في تعيينه من كلام ربه.
3- سورة ياسين: 12.
4- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: ج1 ص270، الباب الثامن فيما جاء في تعيينه من كلام ربه.

..............................

وعن علي (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَالْبَاقُونَ هَالِكُونَ، وَالنَّاجُونَ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِوَلاَيَتِكُمْ، وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ عِلْمِكُمْ، وَلاَ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»، الحديث(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَة»(2).وعن علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالْبَاقُونَ فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، (صلى الله عليه وآله) وَمَا النَّاجِيَةُ؟. فَقَالَ: الْمُتَمَسِّكُ بِمَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُكَ»(3).

ص: 86


1- وسائل الشيعة: ج27 ص49 - 50، كتاب القضاء، الباب6 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33180.
2- بحار الأنوار: ج28 ص30، الباب1 من كتاب الفتن والمحن.
3- نهج الحق وكشف الصدق: ص331، ما جاء في كتب القوم من المطاعن، المطلب الخامس، تألم علي (عليه السلام) من الصحابة.

لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ،

اشارة

-------------------------------------------

لماذا كرهتهم الزهراء (عليها السلام)

مسألة: يلزم أن يكره الإنسان من كرهتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) من الأصحاب، حيث قالت: «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ»، واللفظ بمعنى: أن ترمي بشيء كان في فيك، والفعل لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظاً. والأرض تَلْفِظُ الميت أي ترمي به، والبحر يَلْفِظُ الشيء يرمي به إلى الساحل، والدنيا لاَفِظَة ترمي بمن فيها إلى الآخرة(1).

و(العَجْمُ: عَضٌّ شديدٌ بالأَضراس دُون الثّنايا. وعَجَم الشيءَ يَعْجُمُه عَجْماً وعُجوماً: عَضّه ليَعْلَم صلابَتَه من خَوَرِه، وقيل: لاكَه للأَكْل أَو للخِبْرة... وعَجمْتُ العُودَ إذا عَضَضْتَه لِتَنْظُرَ أَصُلْبٌ أَم رخْوٌ)(2).

والمعنى: إنني عجمت رجالكن واختبرتهم، ولما رأيتهم أهل غدر ومكر ونكث بيعة، غير وافين بالوعد، ولاملتزمين بالدين، لفظتهم أي: أعرضت عنهم وتركتهم، ورميت بهم، ولا يعني ذلك عدم الاعتناء بهم، فحسب بل كرههم أيضاً، وذلك مما يدل عليه المقام والسياق بل وحتى لفظة «لَفَظْتُهُمْ».

قولها (عليها السلام): «عَجَمْتُهُمْ»؛ لأنها اختبرتهم مراراً عديدة، وقد خذلوها

ص: 87


1- كتاب العين: ج8 ص161، حرف الظاء، باب الثلاثي الصحيح، باب الظاء واللام والفاء معهما، لفظ.
2- لسان العرب: ج12 ص390، حرف الميم، فصل العين المهملة، عجم.

..............................

في كل مرة وسقطوا في الامتحان أي سقوط، ومن تلك المرات عندما مرت على بيوتهم طالبة النصرة، فأعرضوا عنها وردوها متألمة غاضبة.

ومنها عندما استنجدت بهم في المسجد حين الخطبة.

إلى غير ذلك من الموارد العديدة.

وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: (يقال: إنه (عليه السلام) لما استنجد بالمسلمين، عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه، وكان يحمل فاطمة (عليها السلام) ليلاً على حمار، وابناها بين يدي الحمار، وهو (عليه السلام) يسوقه، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً، فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يوافه منهم إلاّ أربعة: الزبير، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان. ثم أتاهممن الليل فناشدهم، فقالوا: نصبحك غدوة. فما جاءه منهم إلا أربعة، وكذلك في الليلة الثالثة)(1).

لا يجوز اتباع هؤلاء

مسألة: لا يجوز اتباع من لفظتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) من الأصحاب، بل يلزم اتباع علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإن غيرهم لا يتمتع بالشرعية، وذلك للفظهم من قبل الصديقة (عليها

ص: 88


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج11 ص14، تتمة باب الخطب والأوامر، 198- ومن كلام له (عليه السلام) كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة.

..............................

السلام)، وفي اتباعهم مخالفة لسيرة الرضية المرضية (عليها السلام)، وهذا ما ينافي رضا الله عز وجل، فإن رضاها (عليها السلام) رضاه (عز وجل).

قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1).وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ غَاظَهَا فَقَدْ غَاظَنِي، وَمَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي»(2).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا»(3).

وعن عروة بن الزبير، قال: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، خَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهَا، وَقَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ حَضَرُوا أَسْوَأَ مَحْضَرٍ، تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ (صلى الله عليه وآله) جِنَازَةً بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَاسْتَبَدُّوا بِالأَمْرِ دُونَنَا»(4).

ص: 89


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
2- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105، ب38.
3- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105، ب38.
4- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح5.

..............................

لا للعقوبة قبل الجناية

مسألة: ربما يستفاد من قولها (عليها السلام): «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ»، عدم جواز العقوبة قبل الجناية، على ما هو المقرر في القوانين الجزائية في الإسلام، وقد ذكره الفقهاء في كتاب الحدود والقصاص والديات.

فإنها (عليها السلام) رغم أنها كانت تعرف - بإخبار الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبعمود النور، وبالنكت في القلب، والنقر في الأسماع، والعلم اللدني، وما أشبهها مما حباهم الله به للعلم بالغيب - أنهم سيصنعون ما صنعوا، وسيخذلون وسينقلبون على الأعقاب، إلا أنها (عليها السلام) رغم ذلك لم تلفظهم إلا بعد أن عجمتهم.

عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) رُوِّينَا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «إِنَّ عِلْمَنَا غَابِرٌ وَمَزْبُورٌ، وَنَكْتٌ فِي الْقُلُوبِ، وَنَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ». فقال: «أَمَّا الْغَابِرُ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِنَا، وَأَمَّا الْمَزْبُورُ فَمَا يَأْتِينَا، وَأَمَّا النَّكْتُ فِي الْقُلُوبِ فَإِلْهَامٌ، وَأَمَّا النَّقْرُ فِي الأَسْمَاعِ فَأَمْرُالْمَلَكِ»(1).

ومن ذلك يمكن أن يستفاد أن منهج الحكومات الجائرة، بل حتى الكثير من الناس، من الأخذ بالعقوبة - فكيف بالقصاص - قبل الجناية، أمر خاطئ، وحكم جائر، لا يجوزه الشرع.

ولعل ذلك من حِكَم إخفاء الله المستقبل على الناس، إذ أنهم لو علموا ما

ص: 90


1- الكافي: ج1 ص264، كتاب الحجة، باب جهات علوم الأئمة (عليهم السلام)، ح3.

..............................

سيصير إليه حال بعضهم، لما استقر حجر على حجر، ولما قام لهم سوق، ولتفكك المجتمع، بل انهار ولسادت الفوضى والهرج والمرج.

وإنما أعطى الله علم الغيب للأنبياء، والأئمة الطاهرين، والصديقة الطاهرة، وبعض الأولياء (عليهم السلام)، ودرجات معرفة الغيب مختلفة حسب درجاتهم، لعلمه بأنهم (عليهم

السلام) يتحملون ذلك، ولا يستخدمون علومهم على خلاف الظواهر، إلا فيما إذن لهم الله عز وجل، وذلك مما يفسر به شرب الإمام (عليه السلام) للسم المقدّم إليه مثلاً، إذ كان غير مكلف بالعمل بعلمه الغيبي، بل كان مكلفاًبعدم العمل به، ولذلك أجوبة أخرى مذكورة في علم الكلام، وقد أشرنا إلى ذلك في بعض كتبنا الكلامية والتاريخية.

الإيمان مستقر ومستعار

مسألة: الإيمان مستقر ومستعار، وهؤلاء الذين لفظتهم الزهراء (عليها السلام) بعد أن عجمتهم كانوا فريقين: فريق إيمانه مستعار، ثم زال بامتحان واحد وبالتمحيص. وفريق لم يكن مؤمناً أصلاً، بل كان كافراً أو منافقاً، وقد كشفت الأحداث والامتحانات والمواقف، عن ذلك.

توضيح ذلك:

إن الإيمان المستقر هو ما يبقى مع الإنسان إلى القبر، والمستعار ما كان متحققاً في النفس ثبوتاً، إلا أنه زال بعد ذلك في تقلب الأحوال، كفتنة أو

ص: 91

..............................

امتحان، ومنه كان إيمان بلعم بن باعوراء، قال تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُآَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا»(1).

والقسم الثالث: هو من لا إيمان له ثبوتاً بل تظاهر بالإيمان، ثم تكشف الأحداث، أو يكشف الله يوم القيامة عن ذلك. وهذا القسم لا إيمان له، لا أنه مؤمن إيماناً مستعاراً أو غير مستقر.

وقد كان الأول والثاني من القسم الثالث، كما في صريح الروايات الواردة، عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وقد لفظت الصديقة الزهراء (عليها السلام)، القسم الثاني (من له إيمان مستعار)، والقسم الثالث (ما لم يكن له إيمان)، وعلينا أن نلفظهم أيضاً، وهذا دليل على حرمة اتباعهم، والاعتقاد بولايتهم، وخلافتهم كما سبق.

عن زيد بن الجهم الهلالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «لَمَّا نَزَلَتْ وَلاَيَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَكَانَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): سَلِّمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ.

فَكَانَ مِمَّا أَكَّدَ اللهُ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ - يَا زَيْدُ - قَوْلُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا: قُومَا فَسَلِّمَا عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالاَ: أَمِنَ اللهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟.

فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله):مِنَ اللهِ وَمِنْ رَسُولِهِ.

فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ

ص: 92


1- سورة الأعراف: 175.

..............................

اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»(1)، يَعْنِي بِهِ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا، وَقَوْلَهُمَا: أَمِنَ اللهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ» (2) الحديث.

ولاية الشيطان

مسألة: عندما لفظتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام) بعد أن خرجوا من ولاية الله، وولاية رسوله (صلى الله عليه وآله)، وولاية العترة الطاهرة (عليهم السلام)، دخلوا في ولاية الشيطان وصاروا من حزب إبليس، وبذلك استحقوا مزيداً من العقوبة.

وذلك كمن يعصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم يفتح له الرسول (صلى الله عليه وآله) باب العودة والتوبة، ويبعث من يسترجعه، ولكنه يصر ويكابر ويعاند، فإنه يستحق عقوبة أشد وأكثر مما قبل ذلك.ومثله في العرف، حال الأب مع ابنه لو كابر وعاند، وكذلك بناء العقلاء في حال الحكومة مع الخارج عليها، مع قطع النظر عن شرعية الحكومة وعدمها، وشرعية فعلها وعدمها.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ قُلْتَ لِنَبِيِّكَ (صلى الله عليه وآله) - فِيمَا أَخْبَرْتَهُ بِهِ مِنْ دِينِكَ -: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ عَطَّلَ حَدّاً مِنْ حُدُودِي فَقَدْ عَانَدَنِي،

ص: 93


1- سورة النحل: 91.
2- الكافي: ج1 ص292، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ح1.

..............................

وَطَلَبَ مُضَادَّتِي»(1).

وعن عمر الحلال، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عمن عاندك ولم يعرف حقك من ولد فاطمة، هو وسائر الناس سواء في العقاب؟. فقال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: عَلَيْهِمْ ضِعْفَا الْعِقَابِ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ عَانَدَ الْحَقَّ لَزِمَهُ الْوَهْنُ»(3).وعن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الصُّدُودُ لأَوْلِيَائِي. فَيَقُومُ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَحْمٌ - قَالَ - فَيُقَالُ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ، وَنَصَبُوا لَهُمْ، وَعَانَدُوهُمْ، وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ - قَالَ - ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «كَانُوا وَاللهِ لاَ يَقُولُونَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ حَبَسُوا حُقُوقَهُمْ، وَأَذَاعُوا عَلَيْهِمْ سِرَّهُمْ»(4).

وعن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي مَنْ آذَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ، وَلْيَأْمَنْ غَضَبِي مَنْ أَكْرَمَ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَلْقِي فِي الأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ مَعَ إِمَامٍ عَادِلٍ، لاَسْتَغْنَيْتُ بِعِبَادَتِهِمَا عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقْتُ فِي أَرْضِي، وَلَقَامَتْ سَبْعُ سَمَاوَاتٍ وَأَرَضِينَ بِهِمَا، وَلَجَعَلْتُ لَهُمَا مِنْ

ص: 94


1- المحاسن: ج2 ص310، كتاب العلل، ح23.
2- الكافي: ج1 ص377، كتاب الحجة باب فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر، ح2.
3- تحف العقول: ص95، باب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، خطبته المعروفة بالوسيلة.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص257، عقاب من آذى المؤمنين ونصب لهم وعاندهم.

..............................

إِيمَانِهِمَا أُنْساً لاَ يَحْتَاجَانِ إِلَى أُنْسِسِوَاهُمَا»(1).

الامتحان لكشف الحقائق

مسألة: حكمة الله في الكون اقتضت - رغم علمه تعالى بحقائق الناس وبواطنهم، وما ستؤول إليه أحوالهم، ومن سيثبت على الطريقة، ومن سينقلب على عقبيه، ومن سينجح في الامتحان ومن سيسقط - أن يعرّض الناس للامتحان ثم يجازيهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال عزوجل في سورة طه: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»(2).

وقال تعالى في سورة القصص: «وَ لَوْلَا أَنْ تُصيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ»(3)،(4).

ص: 95


1- الكافي: ج2 ص350، كتاب الإيمان والكفر، باب من آذى المسلمين واحتقرهم، ح1.
2- سورة طه: 134.
3- سورة القصص: 47.
4- قال الإمام المؤلف (قدس سره) في تفسيره تبيين القرآن: «مُصِيبَةٌ» عقوبة «بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر والمعاصي... لولا هذا القول منهم حال عقابهم لم نرسلك؛ لأنا نعلم عنادهم.

..............................

وبقولها (عليها السلام): «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ»، تمت عليهم الحجة في الدنيا والآخرة، فاستحقوا الخزي والعار في الدنيا، والعقاب والنار في الآخرة.

مما يستحب بيانه

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لفظتهم بعد أن عجمتهم، وأنهم سقطوا في الامتحان.

وهي (صلوات الله عليها) تشير بقولها: «لَفَظْتُهُمْ... » إلى أن ذلك(1)، لم يكن ارتجالاً ولا تجنياً - حاشاها (عليها السلام) من ذلك، وهي التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيراً، وهي التي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها بإطلاقه الأزماني والأحوالي - بل كان عن اختبار دقيق، وتمحيص شديد، وعلم قاطع.

استخدام الكنايات والمجازات

مسألة: ينبغي استخدام المجاز والكناية في الخطاب، على ما هو مذكور في علم البلاغة، كما قالت (عليها السلام): «لَفَظْتُهُمْ»، وقد سبق الحديث عن ذلك فيمجلدات سابقة.

ص: 96


1- أي موقفها من الأول والثاني ومن سائر المناصرين لهما.

..............................

لا للتعجل في الحكم

مسألة: ينبغي عدم التعجل في الحكم على الناس، أو اتخاذ موقف منهم، بل ينبغي أن يكون ذلك بعد العجم والاختبار؛ تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، فإن في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة، وذلك من الحكمة والاتقان، وهو سبب صيانة الحقوق.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال:

«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام) أَنِ اتَّخِذْ وَصِيّاً مِنْ أَهْلِكَ...

فَأَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى دَاوُدَ أَنْ لاَ تَعْجَلْ دُونَ أَنْ يَأْتِيَكَ أَمْرِي. فَلَمْ يَلْبَثْ دَاوُدُ (عليه السلام) أَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ فِي الْغَنَمِ وَالْكَرْمِ، فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ أَنِ اجْمَعْ وُلْدَكَ، فَمَنْ قَضَى بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَأَصَابَ، فَهُوَ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ... »، الحديث(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):«أَشَدُّ النَّاسِ نَدَامَةً، وَأَكْثَرُهُمْ مَلاَمَةً، الْعَجِلُ النَّزِقُ، الَّذِي لا يُدْرِكُهُ عَقْلُهُ إِلاَّ بَعْدَ فَوْتِ أَمْرِهِ»(2).

ص: 97


1- الكافي: ج1 ص278-279، كتاب الحجة، باب أن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود من واحد إلى واحد (عليهم السلام)، ح3.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص266، ب2 ف4، العجلة، ح5769.

وقال (عليه السلام): «لاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ»(1).

وقال (عليه السلام): «مَنْ رَكِبَ الْعَجَلَ أَدْرَكَ الزَّلَلَ»(2).

وقال (عليه السلام): «ذَرِ الْعَجَلَ؛ فَإِنَّ الْعَجِلَ فِي الأُمُورِ لا يُدْرِكُ مَطْلَبَهُ، وَلاَ يُحْمَدُ أَمْرُهُ»(3).

ص: 98


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص266، ب2 ف4، العجلة، ح5774.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص267، ب2 ف4، العجلة، ح5778.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص267، ب2 ف4، العجلة، ح5791.

وَسَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

خبث جوهرهم

مسألة: يدل على خبث جوهرهم ما قالته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في هذه الخطبة: «وَسَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ»، وسَئِمْتُهُ أي ضَجِرْتُهُ ومَلِلْتُهُ، والسبر بمعنى الاختبار، وسبر الماء أو الجرح: امتحن غوره ليعرف مقداره، وسبر الأمر: اختبره وجربه.

ف (سَبَرْتُهُمْ) يعني اكتشفتُ عمقهم وجوهرهم وباطنهم.

فالمعنى: ضجرتهم ومللتهم بعد امتحانهم، وكشف واقعهم وخبثهم، وأنهم لا ينتهون عن المنكر، ولا يأتمرون بالمعروف، ويخذلون الحق، وينصرون الباطل، طمعاً في دنيا زائلة.

ولعل الفرق بين الجملتين: «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ» و«سَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ»، أن الأولى: عبارة عن شناعة أمرهم الظاهري، والثانية: عبارة عن خبث سرائرهم الباطنة.

الصديقة سئمتهم

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) سئمت رجال القوم بعد أنسبرتهم، وقد يجب.

ويكفي في استحباب ذلك، أن فيه إدخالاً للسرور على قلبها المبارك (صلوات الله عليها)، والوجوب من باب المقدمية أو غيرها، كما سبق في مواضع أخرى.

ص: 99

..............................

بطلان مسلك حب الجميع

مسألة: يستحب أو يجب أن يشنأ المؤمن ويبغض كل من شنأته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وسئمت منه.

ومن ذلك يعرف أن بعض المبطلين(1) الذين يرفعون عناوين كعنوان: "حب الجميع" و"وحدة جوهر الأديان" و"المساواة المطلقة"، مخطئون أو مغرضون.

وذلك كمن يتسلح بسلاح "حب الجميع"؛ للدعوة إلى حب السراق، والقتلة، والسفاكين، وهتاكي الأعراض والحرمات.

فإن ذلك إضافة إلى كونه خلافاً للفطرة، وكونه خلاف الحقيقة، إذ «وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ»(2)؛ فإنه يمهد الطريق للإضلال، والانحراف الفكري،والعقيدي، والعملي.

ووحدة الجوهر - لو فرض، إذ لا يوجد في مثل عابد الصنم - لا ينفي تباين الأفعال أو المظهر، ولذا كان هابيل المقتول حرياً بالحب، وقابيل القاتل حرياً بالبغض.. وهكذا الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وفي قبالها أعداؤها ممن هجموا عليها، وغصبوا حقها، وأسقطوا جنينها... فلا يجتمع حبها (صلوات الله عليها) وحب من غصب حقها.

ص: 100


1- كالبهائية.
2- سورة فاطر: 19-22.

..............................

فالمساواة بقول مطلق، وبالنسبة إلى الجميع بما يوجب إبطال الحقوق باطلة، والصحيح العدالة، وقد ألمعنا إلى ذلك في العديد من كتبنا.

قال تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَطَّلِعُ عَلَى قَلْبِ عَبْدٍ، فَأَعْلَمُ فِيهِ حُبَّ الإِخْلاَصِ لِطَاعَتِي لِوَجْهِي وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي، إِلاَّ تَوَلَّيْتُ تَقْوِيمَهُ وَسِيَاسَتَهُ، وَتَقَرَّبْتُ مِنْهُ»(2).وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، في قوله: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(3)، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): «لاَيَجْتَمِعُ حُبُّنَا وَحُبُّ عَدُوِّنَا فِي جَوْفِ إِنْسَانٍ؛ إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، فَيُحِبُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا. فَأَمَّا مُحِبُّنَا فَيُخْلِصُ الْحُبَّ لَنَا كَمَا يُخْلَصُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ لاَ كَدَرَ فِيهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَم حُبَّنَا فَلْيَمْتَحِنْ قَلْبَهُ، فَإِنْ شَارَكَهُ فِي حُبِّنَا حُبُّ عَدُوِّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُ، وَاللهُ عَدُوُّهُمْ وَجَبْرَئِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَاللهُ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ»(4).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث طويل: «وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ... جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مُنَافِقِي عَسْكَرِهِ، يُرِيدُ التَّضْرِيبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

ص: 101


1- سورة الأحزاب: 4.
2- مصباح الشريعة: ص92، الباب الواحد والأربعون في السجود.
3- سورة الأحزاب: 4.
4- تفسير القمي: ج2 ص171-172، سورة الأحزاب: الآيات 4 إلى 5.

..............................

(عليه السلام)، وَإِفْسَادَ مَا بَيْنَهُمَا. فَقَالَ لَهُ: بَخْ بَخْ، أَصْبَحْتَ لاَ نَظِيرَ لَكَ فِي أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ وَصَحَابَتِهِ، هَذَا بَلاَؤُكَ، وَهَذَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ نُورُكَ.

فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: يَا عَبْدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُفْرِطْ فِي الْمَقَالِ، وَلاَ تَرْفَعْنِي فَوْقَ قَدْرِي؛فَإِنَّكَ للهِ بِذَلِكَ مُخَالِفٌ، وَبِهِ كَافِرٌ، وَإِنِّي إِنْ تَلَقَّيْتُ مَقَالَتَكَ هَذِهِ بِالْقَبُولِ لَكُنْتُ كَذَلِكَ. يَا عَبْدَ اللهِ، أَلاَ أُحَدِّثُكَ بِمَا كَانَ فِي أَوَائِلِ الإِسْلاَمِ وَمَا بَعْدَهُ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمَدِينَةَ وَزَوَّجَهُ فَاطِمَةَ (عليهما السلام)، وَوُلِدَ لَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهما السلام).

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ لِي شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ حَتَّى تَبَنَّانِي لِذَلِكَ، فَكُنْتُ أُدْعَى: زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، إِلَى أَنْ وُلِدَ لِعَلِيٍّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهما السلام)، فَكَرِهْتُ ذَلِكَ لأَجْلِهِمَا، وَقُلْتُ لِمَنْ كَانَ يَدْعُونِي: أُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَنِي زَيْداً مَوْلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُضَاهِيَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (عليه السلام)، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَتَّى صَدَّقَ اللهُ ظَنِّي، وَأَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله): «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(1)، يَعْنِي قَلْباً يُحِبُّ مُحَمَّداً وَآلَهُ وَيُعَظِّمُهُمْ، وَقَلْباً يُعَظِّمُ بِهِ غَيْرَهُمْ كَتَعْظِيمِهِمْ، أَوْ قَلْباً يُحِبُّ بِهِ أَعْدَاءَهُمْ، بَلْ مَنْ أَحَبَّ أَعْدَاءَهُمْ فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَلاَ يُحِبُّهُمْ، وَمَنْ سَوَّى بِهِمْ مَوَالِيَهُمْ، فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَلاَ يُحِبُّهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: «وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا

ص: 102


1- سورة الأحزاب: 4.

..............................

جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ» إلى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ» يَعْنِي الْحَسَنُ (عليه السلام) وَالْحُسَيْنُ (عليه السلام) أَوْلَى بِبُنُوَّةِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي كِتَابِ اللهِ وَفَرْضِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا» إِحْسَاناً وَإِكْرَاماً لاَ يَبْلُغُ ذَلِكَ مَحَلَّ الأَوْلاَدِ «كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا»(1)، فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: زَيْدٌ أَخُو رَسُولِ اللهِ. فَمَا زَالَ النَّاسُ يَقُولُونَ لِي هَذَا وَأَكْرَهُهُ، حَتَّى أَعَادَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).

ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنَّ زَيْداً مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، كَمَا هُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَلا تَجْعَلْهُ نَظِيرَهُ، وَلاَ تَرْفَعْهُ فَوْقَ قَدْرِهِ، فَتَكُونَ كَالنَّصَارَى لَمَّا رَفَعُوا عِيسَى (عليه السلام) فَوْقَ قَدْرِهِ، فَكَفَرُوا بِاللهِ الْعَلِيِ الْعَظِيمِ»(2).

مسألتان:

الأولى: ينبغي أن يكون الشنآن بعد السبر والتمحيص، وهذا يدعونا إلى التثبت قبل اتخاذ القرار.

ص: 103


1- سورة الأحزاب: 4 - 6.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص642- 645، وجه تسمية شعبان.

..............................

الثانية: سوء الظن بالمؤمنين أو الناس مرجوح أو محرم، وينبغي السبر أولاً ثم البناء على مؤداه، ولا يكفي الفحص العادي التسامحي في مثل هذه الأمور، بل لابد أن يبلغ مرحلة السبر واستجلاء العمق... كما أشارت (عليها السلام): «بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ».

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لاَ تَدَعِ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ، وَالْمَكْشُوفَ بِالْخَفِيِّ، وَلاَ تَحْكُمْ مَا لَمْ تَرَهُ بِمَا تُرَوَّى عَنْهُ. قَدْ عَظَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَ الْغِيبَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِإِخْوَانِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ بِالْجُرْأَةِ عَلَى إِطْلاَقِ قَوْلٍ، وَاعْتِقَادِ زُورٍ وَبُهْتَانٍ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ƒتَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ‚(1)، وَمَا دُمْتَ تَجِدُ إِلَى تَحْسِينِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فِي غَيْبَتِك َ وَحَضْرَتِكَ سَبِيلاً، فَلاَ تَتَّخِذْ غَيْرَهُ»(2).وقَالَ الإمام الصَّادِقُ (عليه السلام): «لاَ يُعَظِّمُ حُرْمَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ مَنْ قَدْ عَظَّمَ اللهُ حُرْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَانَ أَبْلَغَ حُرْمَةً للهِ وَرَسُولِهِ كَانَ أَشَدَّ تَعْظِيماً لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنِ اسْتَهَانَ لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ هَتَكَ سِتْرَ إِيمَانِهِ.

وقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللهِ إِعْظَامَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الإِيمَانِ.

ص: 104


1- سورة النور: 15.
2- مصباح الشريعة: ص67-68، الباب التاسع والعشرون في معرفة الصحابة.

..............................

وقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيراً، وَلاَ يُوَقِّرْ كَبِيراً فَلَيْسَ مِنَّا، وَلاَ تُكَفِّرْ مُسْلِماً تُكَفِّرُهُ التَّوْبَةُ، إِلاَّ مَنْ ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ƒإِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‚(1)، وَاشْتَغِلْ بِشَأْنِكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ مُطَالَب»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا اتَّهَمَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ، انْمَاثَ الإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»(3).وعن أَبَي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قال: «مَنِ اتَّهَمَ أَخَاهُ فِي دِينِهِ فَلاَ حُرْمَةَ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ عَامَلَ أَخَاهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ النَّاسَ، فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا يَنْتَحِلُ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: «ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ، وَلاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلاً»(5).

ص: 105


1- سورة النساء: 145.
2- مصباح الشريعة: ص69، الباب الثلاثون في حرمة المؤمنين.
3- الكافي: ج2 ص361، باب التهمة وسوء الظن، ح1.
4- الكافي: ج2 ص361، باب التهمة وسوء الظن، ح2.
5- الكافي: ج2 ص362، باب التهمة وسوء الظن، ح3.

فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ

اشارة

-------------------------------------------

القبح لأعداء الصديقة (عليها السلام)

مسألة: القبح لأعداء الزهراء (صلوات الله عليها)، ولمن خذلها ولم ينصرها.

والظاهر أن (قبحاً) مفعول فعل مقدر، أي قبحهم الله قبحاً لفلول حدهم.

والفلّ: هو الكسر أو الثلمة في حد السيف، فكما أن السيف الذي كسر حده لا يستفاد منه، كذلك هؤلاء الرجال الذين لا حد لهم بدفع الأعداء، فإن حد الرجل هو بأسه وشدته وتصلبه في إظهار الحق وإبطال الباطل.

بل إن السيف الذي كسر حده أو انثلم ليس فقط لايستفاد منه، بل إنه خطر ومضر، إذ يخدع صاحبه فيورده المهالك وهو يظن أن بيده ما يحصنه ويحميه.. وهذا هو حال المنقلبين على الأعقاب.

وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية: «وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1)، فَأَنْتَ وَشُرَكَاؤُكَ - يَا مُعَاوِيَةُ - الْقَوْمُ الَّذِينَ انْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَارْتَدُّوا، وَنَقَضُوا الأَمْرَ وَالْعَهْدَ فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَوَلَمْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً»(2).

ص: 106


1- سورة آل عمران: 144.
2- الغارات: ج1 ص197، كتاب علي (عليه السلام) الى معاوية.

..............................

الحسن والقبح العقليان

مسألة: العقل يحكم بانقسام الأفعال الاختيارية إلى حسن وقبيح، وكلام الصديقة (عليها السلام) هنا يشير إلى ذلك، فإن (فلول الحد) - وكان اختيارياً منهم - قبيح، وليس (قبحاً) مبنياً على (الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه) حتى يقال إن تقبيحها (عليها السلام) هو الذي جعل فلول حدهم قبيحاً، بل إن تقبيحها (عليها السلام) كشف عن القبح الواقعي لا أنه حققه.

تقبيح القبيح

مسألة: يستحب أو يجب تقبيح القبيح، فإنه نوع ردع، كما يجب أو يستحب تركه في الجملة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «جِمَاعُ الدِّينِ فِي إِخْلاَصِ الْعَمَلِ، وَتَقْصِيرِ الأَمَلِ، وَبَذْلِ الإِحْسَانِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْقَبِيحِ»(1).

وقال (عليه السلام): «قَدْ كَثُرَ الْقَبِيحُحَتَّى قَلَّ الْحَيَاءُ مِنْهُ»(2).

وقال (عليه السلام): «أَحْسَنُ الْفِعْلِ الْكَفُّ عَنْ الْقَبِيحِ»(3).

ص: 107


1- عيون الحكم والمواعظ: ص223، ب5، ح4339.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص366، ب21 ف1، ح6139.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص122، ب1 ف9، ح2770.

..............................

وقال (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَفِعْلَ الْقَبِيحِ؛ فَإِنَّهُ يُقَبِّحُ ذِكْرَكَ، وَيُكْثِرُ وِزْرَكَ»(1).

وقال (عليه السلام): «مَنْ أَقْبَلَ عَلَى النَّصِيحِ، أَعْرَضَ عَنْ الْقَبِيحِ»(2).

وقال (عليه السلام): «لَمْ يُوَفَّقْ مَنِ اسْتَحْسَنَ الْقَبِيحَ، وَأَعْرَضَ عَنْ قَوْلِ النَّصِيحِ»(3).

وقال (عليه السلام): «الْحَيَاءُ يَصُدُّ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ»(4).

من الأدلة على انحراف القوم

مسألة: يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ»، دليل جديد على إنحراف العديد من الأصحاب، عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو عبارة أخرى عن قوله تعالى: «انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(5).

ثم هل هو إخبار أم إنشاء(6)؟.

الظاهر إنه إنشاء، ولا مانع من الجمع، فإن كلامهم (صلوات الله عليهم) كآيات

ص: 108


1- عيون الحكم والمواعظ: ص95، ب1 ف5، ح2202.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص461، ب24 ف1، ح8372.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص414، ب23 ف5، ح7024.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص74، ف1، ح1435.
5- سورة آل عمران: 144.
6- أي: هل أنها (عليها السلام) تخبر عن تقبيح الله لهم، أم تدعو عليهم بذلك.

..............................

القرآن فيه أكثر من معنى(1).

تقبيح أفعالهم

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) قبحت أفعالهم، فإن هذا البيان هو امتداد لبيانها، وتحقيق لبعض غرضها وهدفها، واستجابةلصرختها (صلوات الله عليها).

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(2)، والاستجابة للصديقة فاطمة (عليها السلام) استجابة لله عزوجل وللرسول (صلى الله عليه وآله) كما لا يخفى، فإن « فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي»(3)، و«إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(4)، و«إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(5).

ص: 109


1- يرى الإمام المؤلف (قدس سره) أنه لا مانع من استعمال اللفظ وإرادة أكثر من معنى، على تفصيل ذكره في (الأصول).
2- سورة الأنفال: 24.
3- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105، ب38.
4- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
5- سورة الأحزاب: 33.

..............................

سقوط الأمم

مسألة: يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ»، أنه سنة من سنن الله عبر التاريخ، وهي: سقوط الأمم بعوامل تعود إليهم.

قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ»(1).

وقال عزوجل: «وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ»(2).

وقوله سبحانه: «أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا»(3).

وقد وضح القسم الأول من الآيات القسم الثاني منها، وأن إرادة الله السوء بقوم هو لما قاموا به بأنفسهم، وبعبارة أخرى: «وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً» مؤطر بإطار «حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، والكلام بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، فتأمل.

وهناك أجوبة أخرى مذكورة في التفاسير وكتب الكلام.

وقد نهض الرسول (صلى الله عليه وآله) بالأمة وكانوا في صعود مستمر ما داموا تحت قيادته الحكيمة (صلى الله عليه وآله)، إلا أنهم بدؤوا بالسقوط السريع عند

ص: 110


1- سورة الرعد: 11.
2- سورة الرعد: 11.
3- سورة الإسراء: 16.

..............................

ما انقلبوا عن قيادته، حيث عين (صلى الله عليه وآله) الأمام علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة من بعده وقائداً على الأمة، ولكنهم خالفوه.

ولا يزال السقوط مستمراً - باستثناءبعض الفترات التي عادوا فيها إلى قيادة أهل البيت (عليهم السلام) - إلاّ أن يعودوا إلى قيادتهم الشرعية واتباع أهل البيت (عليهم السلام)، أو أن يظهر ولي الله المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»(1)، وذلك يكون «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ»(2)، «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»(3)، حسب الروايات الكثيرة الموضحة لبطون الآيات.

بين الحكم والإرشاد

مسألة: هل يستفاد مِن «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ» الحرمة، أم أنه إرشاد؟.

فإن الالتزام بالحرمة ليس مبنياً على أنه إخبار أم إنشاء، إذ يمكن استفادة الحرمة على كلا المسلكين على ما بين في (الأصول)، والظاهر ولو بقرينة المقام وأهمية الأمر: الحرمة.

ص: 111


1- سورة التوبة: 33.
2- سورة إبراهيم: 48.
3- سورة الزمر: 69.

..............................

بداية السقوط

مسألة: مسيرة السقوط تبدأ ب «فُلُولِ الْحَدِّ»، ثم تستمر حتى تصل إلى الانقلاب على الأعقاب، وإلى توجيه الحراب والسيوف للأصدقاء والأعوان بدل الأعداء.

ففلول الحد له حرمته الذاتية، وهو محرم طريقياً أيضاً على القول بحرمة المقدمة كوجوبها، على تفصيل مذكور في (الأصول).

علامات الانقلاب على الأعقاب

مسألة: الأمم المنقلبة على الأعقاب لها مظاهر وعلامات، ولانقلابها نُذُر وشواهد ودلالات.

منها: فلول الحد، ومنها اللعب بعد الجد.

ويلزم على الباحثين أن يدرسوها بدقة في كل مجتمع؛ ليستنبطوا العبر والدروس كي لا تقع الأمة فيها، ولا يقع التجمع أو الحزب أو الدولة أو من أشبه أو ما أشبه فيها.

قال تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(1).

وفي الحديث، عن أبي جعفر (عليه السلام): «وَإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ الْعِلْمَ جَهْلاً،

ص: 112


1- سورة الحشر: 2.

..............................

وَلَمْ يَكِلْ أَمْرَهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لاَ إِلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلاَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ فَقَالَ لَهُ: قُلْ كَذَا وَكَذَا. فَأَمَرَهُمْ بِمَا يُحِبُّ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَكْرَهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَ خَلْقِهِ بِعِلْمٍ، فَعَلِمَ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَصْفِيَاءَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَصْفِيَاءِ».

إلى أن قال: «وَلِوُلاَةِ الأَمْرِ اسْتِنْبَاطُ الْعِلْمِ وَلِلْهُدَاةِ - ثم قال - فَمَنِ اعْتَصَمَ بِالْفُضَّلِ، انْتَهَى بِعِلْمِهِمْ وَنَجَا بِنُصْرَتِهِمْ. وَمَنْ وَضَعَ وُلاَةَ أَمْرِ اللهِ، وَأَهْلَ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِهِ، فِي غَيْرِ الصَّفْوَةِ مِنْ بُيُوتَاتِ الأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ، وَجَعَلَ الْجُهَّالَ وُلاَةَ أَمْرِ اللهِ، وَالْمُتَكَلِّفِينَ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللهِ، فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَرَغِبُوا عَنْ وَصِيِّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَضَعُوا فَضْلَ اللهِ حَيْثُ وَضَعَهُ اللهُ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

إلى أن قال في قوله تعالى: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ»(1): فَإِنَّهُ وَكَّلَ بِالْفُضَّلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالإِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنْ تَكْفُرْ بِهِأُمَّتُكَ، فَقَدْ وَكَّلْتُ أَهْلَ بَيْتِكَ بِالإِيمَانِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ، فَلاَ يَكْفُرُونَ بِهِ أَبَداً، وَلاَ أُضِيعُ الإِيمَانَ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ مِنْ بَعْدِكَ عُلَمَاءِ أُمَّتِكَ، وَوُلاَةِ أَمْرِي بَعْدَكَ، وَأَهْلِ اسْتِنْبَاطِ الْعِلْمِ، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كَذِبٌ، وَلاَ إِثْمٌ، وَلاَ زُورٌ، وَلاَ بَطَرٌ، وَلاَ رِيَاءٌ، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ. إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ طَهَّرَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ (عليهم السلام)، وَسَأَلَهُمْ أَجْرَ الْمَوَدَّةِ، وَأَجْرَى لَهُمُ الْوَلايَةَ، وَجَعَلَهُمْ أَوْصِيَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ، ثَابِتَةً بَعْدَهُ فِي أُمَّتِهِ.

ص: 113


1- سورة الأنعام: 89.

..............................

فَاعْتَبِرُوا - يَا أَيُّهَا النَّاسُ - فِيمَا قُلْتُ، حَيْثُ وَضَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَيَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ وَاسْتِنْبَاطَ عِلْمِهِ وَحُجَجَهُ، فَإِيَّاهُ فَتَقَبَّلُوا، وَبِهِ فَاسْتَمْسِكُوا، تَنْجُوا بِهِ وَتَكُونُ لَكُمُ الْحُجَّةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَطَرِيقُ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَزَّ، وَلاَ تَصِلُ وَلاَيَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بِهِمْ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُكْرِمَهُ وَلاَ يُعَذِّبَهُ، وَمَنْ يَأْتِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُذِلَّهُ، وَأَنْ يُعَذِّبَهُ»(1).

ص: 114


1- الكافي: ج8 ص117-120، كتاب الروضة، حديث آدم (عليه السلام) مع الشجرة.

وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ

اشارة

-------------------------------------------

اللعب بعد الجد

مسألة: يكره أو يحرم اللعب بعد الجد؛ وذلك لما قد يكون في اللعب من تضييع الحقوق، وإضاعة الواجبات، وعندئذٍ يحرم وإلا كان مكروهاً، إلا ما دخل منه في دائرة المباح أو المستحب، مما هو واضح من الشريعة، وعندئذٍ قد لا يصدق عليه (اللعب) موضوعاً أو حكماً، كالسباحة وسباق الخيل وما أشبه، فهو استثناء منقطع على بعض الاحتمالات، فتأمل.

واللعب بعد الجد كأنه كناية، عن استخفافهم بالدين وحماته، بل استهزاؤهم بهما.

قال الإمام الكاظم (عليه السلام): «لاَ نَسْتَحِبُّ شَيْئاً مِنَ اللَّعِبِ غَيْرَ الرِّهَانِ وَالرَّمْيِ»(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَشْغُولٌ عَنِ اللَّعِبِ»(2).وفي حديث المناهي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الضَّرْبِ بِالدَّفِّ وَالرَّقْصِ وَعَنِ اللَّعِبِ كُلِّهِ»(3).

ص: 115


1- وسائل الشيعة: ج17 ص315، كتاب التجارة، الباب100 من أبواب ما يكتسب به، ح22639.
2- بحار الأنوار: ج76 ص230 - 231، تتمة كتاب الروضة، الباب98 من أبواب المعاصي والكبائر وحدودها، ح4.
3- غوالي اللألئ: ج1 ص260، ف10، ح41.

..............................

وفي نهج البلاغة: «وَاللهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ»(1).

وفي النهج أيضاً: «فَإِنَّهُ وَاللهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ، أَسْمَعَ دَاعِيهِ، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ، فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ، وَحَذِرَ الإِقْلاَلَ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ يَثُوبُ الْعَقْلِ مَعَ اللَّعِبِ»(3).

وقال (عليه السلام): «نَكَدُ الْعِلْمِ الْكَذِبُ، وَنَكَدُ الْجِدِّ اللَّعِبُ»(4).وقال (عليه السلام): «لاَ يَرْأَسُ مَنْ خَلاَ عَنْ الأَدَبِ، وَصَبَا إِلَى اللَّعِبِ»(5).

وقال (عليه السلام): «احْذَرِ الْهَزْلَ وَاللَّعِبَ، وَكَثْرَةَ الْمَزْحِ وَالضَّحِكِ وَالتُّرَّهَاتِ»(6).

وقال (عليه السلام): «شَرُّ مَا ضُيِّعَ فِيهِ الْعُمُرُ اللَّعِبُ»(7).

ص: 116


1- نهج البلاغة: باب الخطب، 84: ومن خطبة له (عليه السلام) في ذكر عمرو بن العاص.
2- نهج البلاغة: باب الخطب، 132: ومن خطبة له (عليه السلام) يعظ فيها ويزهد في الدنيا.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص537، ب28، ف2، ح9866.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص499، ب25، ف2، ح9196 و9197.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص790، ف86، ح438.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص162، ف4، ح25.
7- عيون الحكم والمواعظ: ص294، ب13، ف2، ح5240.

..............................

اللعب بعد اللعب

مسألة: يقبح أمران، وقد يحرمان:

1: اللعب بعد الجد، وهو ما ذكرته الصديقة (صلوات الله عليها) ههنا.

2: واللعب بعد اللعب.

إلا أن قبح الأول أشد بشهادة الوجدان، فإن الكافر بعد إيمان أسوأ من المستمر على كفره.

وكذلك هؤلاء القوم، الذين آمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أظهروا الإيمان، ثم خانوه وانقلبوا على أعقابهم.

وكذلك كل أمة تبدأ النهوض وتحارب الأعداء، ثم رغم ما لمسته من آثار وتقدم، تتراجع القهقرى وتخذل المجاهدين في سبيل الله، وتبتعد عن الجادة، وتركن إلى الدعة والكسل.

قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً»(1).

الرجوع القهقرى

مسألة: ينبغي بيان أن القوم تراجعواالقهقرى بدل أن يتقدموا، وأحجموا بعد أن يقدموا، وتنازلوا بدل أن يتكاملوا، وانشغلوا باللعب بدل أن يجدوا،

ص: 117


1- سورة إبراهيم: 28.

..............................

فكانوا مصداق «وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرّاً مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ»(1).

عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً كَئِيباً حَزِيناً. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): مَا لِي أَرَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ كَئِيباً حَزِيناً؟. فَقَالَ: وَكَيْفَ لاَ أَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ أَنَّ بَنِي تَيْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ وَبَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي هَذَا، يَرُدُّونَ النَّاسَ عن الإِسْلاَمِ الْقَهْقَرَى. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟. فَقَالَ: بَعْدَ مَوْتِكَ»(2).

وفي الفقيه: (أُرِيَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي مَنَامِهِ بَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرَهُ مِنْ بَعْدِهِ، يُضِلُّونَ النَّاسَ عن الصِّرَاطِ الْقَهْقَرَى. فَأَصْبَحَ كَئِيباً حَزِيناً، فَهَبَطَعَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي أَرَاكَ كَئِيباً حَزِيناً؟. قال: يَا جَبْرَئِيلُ، إِنِّي رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي مِنْ بَعْدِي، يُضِلُّونَ النَّاسَ عن الصِّرَاطِ الْقَهْقَرَى. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ. ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ بِآيٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُؤْنِسُهُ بِهَا: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ»(3)، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»(4)، جَعَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ

ص: 118


1- إرشاد القلوب إلى الصواب: ج1 ص73، الباب الثامن عشر وصايا وحكم بليغة.
2- الكافي: ج8 ص345، كتاب الروضة، حديث إسلام علي (عليه السلام)، ح543.
3- سورة الشعراء: 205 -207.
4- سورة القدر: 1 - 3.

..............................

لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّة»(1).

وفي البحار، قال (صلى الله عليه وآله): «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَحِمَ رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله) لا يَنْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. بَلَى وَاللهِ، إِنَّ رَحِمِي لَمَوْصُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنِّي - أَيُّهَا النَّاسُ - فَرَطُكُمْعَلَى الْحَوْضِ، فَإِذَا جِئْتُمْ قَالَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ. فَأَقُولُ: أَمَّا النَّسَبُ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بَعْدِي وَارْتَدَدْتُمُ الْقَهْقَرَى»(2).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَلَيُقْطَعَنَّ بِرِجَالٍ دُونِي. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي أَصْحَابِي!. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمُ الْقَهْقَرَى»(3).

وفي البحار، عن البخاري، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، قال: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ عَلَى الْحَوْضِ، إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ، خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلُمَّ. قُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟. قال: إِلَى النَّارِ وَاللهِ. فَقُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟!. قال: إِنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ الْقَهْقَرَى. ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ أُخْرَى حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ، خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟. قال:

ص: 119


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص157، كتاب الصوم، باب الغسل في الليالي المخصوصة في شهر رمضان، ح2022.
2- بحار الأنوار: ج23 ص165، كتاب الإمامة، الباب7 من أبواب جمل أحوال الأئمة الكرام (عليهم السلام).
3- أمالي الشيخ المفيد: ص37 - 38، المجلس الخامس، ح4.

..............................

إِلَى النَّارِ وَاللهِ. قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟!. قال: إِنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ. فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَم»(1).

وفي رواية أخرى: «إنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ رَأَى رِجَالاً مِنْ نَارٍ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نَارٍ، وَيَرُدُّونَ النَّاسَ عَلَى أَعْقَابِهِمُ الْقَهْقَرَى، وَلَسْنَا نُسَمِّي أَحَداً»(2).

وفي رواية سلام الجعفي، عنه (عليه السلام)، أنه قال: «إِنَّا لاَ نُسَمِّي الرِّجَالَ بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَأَى قَوْماً عَلَى مِنْبَرِهِ يُضِلُّونَ النَّاسَ بَعْدَهُ عن الصِّرَاطِ الْقَهْقَرَى»(3).

وسُئِلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» سورة الإسراء: 60. فقال: «إِنِّي رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلاَلِ، يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي وَيَنْزِلُونَ، يَرُدُّونَ أُمَّتِي عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى، فِيهِمْ رَجُلَيْنِ مِنْ حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مُخْتَلِفَيْنِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْ بَنِيأُمَيَّةَ، وَسَبْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ بَنِي أَبِي الْعَاصِ إِذَا بَلَغُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً، جَعَلُوا كِتَابَ اللهِ دَخَلاً، وَعِبَادَ اللهِ خَوَلاً»(4).

ص: 120


1- بحار الأنوار: ج28 ص27، الباب1 من أبواب كتاب الفتن والمحن، ضمن ح370.
2- تفسير العياشي: ج2 ص298، سورة الإسراء الآية 60، ح96.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج3 ص543، سورة الإسراء الآية 60، ح6415.
4- بحار الأنوار: ج58 ص169، تتمة كتاب السماء والعالم، الباب44 ح24.

وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ الْقَنَاةِ،

اشارة

-------------------------------------------

إضاعة الوقت

مسألة: يحرم أو يكره إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته، أو فيما ينتج عكس المأمور به، كقارع الصفاة.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الاِشْتِغَالُ بِالْفَائِتِ تَضْيِيعُ الْوَقْتِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «احْذَرِ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَالْهَزْلَ، وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ وَالْمَزْحِ وَالتُّرَّهَاتِ»(2).

وقال (عليه السلام): «عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ وَالتَّقْوَى فَالْزَمُوهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَالاَتِ الْبَاطِلِ وَالتُّرَّهَاتِ»(3).

وقال (عليه السلام): «عَلَيْكُمْ بِمُوجِبَاتِ الْحَقِّ فَالْزَمُوهَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَالاتِ التُّرَّهَاتِ»(4).

وعن رقية بنت إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، عن أبيها، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَشَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَه، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنَا

ص: 121


1- مجموعة ورام: ج2 ص107.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص104، ب1 ف7، ح2350.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص340 - 341، ب8 ف5، ح5810.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص341، ب8 ف8، ح5834.

أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).

وعن جميل بن صالح، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لاَ يَغُرُّكَ النَّاسُ مِنْ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ دُونِهِمْ. وَلاَ تَقْطَعِ النَّهَارَ بِكَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَعَكَ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْكَ. وَلَمْ أَرَ شَيْئاً قَطُّ أَشَدَّ طَلَباً وَلا أَسْرَعَ دَرَكاً مِنَ الْحَسَنَةِ لِلذَّنْبِ الْقَدِيمِ. وَلاَ تُصَغِّرْ شَيْئاً مِنَ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّكَ تَرَاهُ غَداً حَيْثُ يَسُرُّكَ. وَلاَ تُصَغِّرْ شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ؛ فَإِنَّكَ تَرَاهُ غَداً حَيْثُ يَسُوؤُكَ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ»(2)»(3).

بين طريق الردى والهدى

مسألة: يحرم الاتجاه والسير في طريق الردى والعماية بدل طريق الهدىوالولاية.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَثِيرٌ»(5).

ص: 122


1- أمالي الشيخ الصدوق: ص39، المجلس العاشر، ح9.
2- سورة هود: 114
3- بحار الأنوار: ج68 ص181 - 182، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب64 ح37.
4- نهج البلاغة: باب الخطب، 201، ومن كلام له (عليه السلام) يعظ بسلوك الطريق الواضح.
5- بحار الأنوار: ج2 ص266، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب32 من تتمة أبواب العلم، ح26.

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «فِي الْقَلْبِ نُورٌ لاَ يُضِيءُ إِلاَّ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَقَصْدِ السَّبِيلِ، وَهُوَ نُورٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الأَنْبِيَاءِ، مُوَدَّعٌ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْفَتَهْلِكُوا»(2).

قول الصديقة (عليها السلام): «وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ الْقَنَاةِ» أو «وَخَوْرِ الْقَنَاةِ»: قرع الباب أي دقه، وقرع رأسه بالعصاة أي ضربه بها، وقرع صفاته أي عابه وتنقصه.

والصفاة: الحجر الضخم الصلد، و(فلان لا تقرع له صفاة) أي لا يناله أحد بسوء.

والصدع: الشق في شيء صلب، و(صدع الشيء): شقّه ولم يفترق، و(صدع القومَ): فرقهم.

والقناة: الرمح.

أما (خور) فبمعنى: ضعف وفتر، وكذا: انكسر.

ص: 123


1- بحار الأنوار: ج2 ص265، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب32 من تتمة أبواب العلم، ح20.
2- نهج البلاغة: باب الخطب، 97، ومن خطبة له (عليه السلام) في أصحابه وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

..............................

ف «قَرْعِ الصَّفَاةِ» يعني إنهم حيث أخطأوا طريق الهدى والولاية، ومالوا إلى طريق الردى والعماية، فهم كقارع الحجر الصلد الضخم لا يجني شيئاً ولاينتفع بشيء.. بل لا يحصد إلا التعب والنصب.

وهذا كناية، عن أن حكومتهم لا خير فيها ولا نفع، وأنهم خسروا دنياهموآخرتهم بالاستحواذ عليها، وإبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عنها، كمن يضرب ويقرع الصفاة والحجر الصلد، فإن وقته يضيع هباءً، وبدنه يتعب، وعمره ينقضي، ولا يحصل على شيء.

ويتضح ذلك أكثر إذا لاحظنا الزارع، فإنه لو بدأ بدل حرث الأرض بضرب الصخور الصلدة الصماء الضخمة؛ ليزرع فيها الأشجار والنخيل، فإنه أضاع حظه، وأتلف عمره عادة.

تقبيح عمل القوم

مسألة: هناك احتمال آخر في معنى «وَقَرْعِ الصَّفَاةِ»، وهو أن الصديقة (عليها السلام) كنَّت، عن أهل البيت (عليهم السلام) ب (الصفاة)، فقبَّحت عمل القوم الظالمين بحقهم، حيث حاولوا قرع أهل البيت (عليهم السلام)، وظلمهم وضربهم، ظاهراً وباطناً، معنوياً ومادياً.

فأولئك الأشرار المنقلبين على الأعقاب، بدل أن يكونوا لأهل البيت (عليهم السلام) عضداً وسنداً، انقلبوا عليهم وقرعوا صفاتهم.

ص: 124

..............................

والكناية لها وجه آخر لطيف، وهو أن أهل البيت (عليهم السلام) أقوى وأسمىوأعلى، من أن يحط من قدرهم انقلاب الناس عليهم، وإنكارهم لفضلهم ومواقعهم، إذ هم تلك البيوت التي «أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ»(1)، فالضارب صفاتهم هو الخاسر الفاشل دنياً وأخرى، وإن توهم الناس عكس ذلك، لقصور نظرهم وشدة جهلهم.

قال تعالى: «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»(2)، وذلك كما أشار إليه الشاعر بقوله:

زَعَمُوا بِأَنْ قَتَلَ الْحُسَينَ يَزِيدُهُمْ *** لَكِنَّمَا قَتَلَ الْحُسَينُ يَزَيدَا

فأهل البيت (عليهم السلام) هم أوتاد الأرض، و(بيمنهم رزق الورى، وبوجودهم ثبتت الأرض والسماء)(3)، سواء انقلب الناس عليهم أم لا، فالقارع صفاتهم هو الخاسر الأكبر، ولا يضرهم ذلك شيئاً، بل يزيدهم علواً وارتفاعاً، وسمواً ومنزلةً، ومقاماً عند الله تعالى، وفي الكون كله.

وهناك احتمال ثالث في قولها (عليها السلام): «فَقُبْحاً لِ-»، و«قَرْعِ الصَّفَاةِ»، وهو: أن قرع صفاته يأتي بمعنى عابه وتنقصه.

ص: 125


1- سورة النور: 36.
2- سورة المجادلة: 21.
3- هذا النص مأخوذ مما جاء في دعاء العديلة الكبير، حول الإمام المنتظر المهدي (عليه السلام): «وَبِيُمْنِهِ رُزِقَ الْوَرَى، وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ». زاد المعاد، للعلامة المجلسي: ص423، دعاء العديلة الكبير.

وفي (الصفاة) إشارة أيضاً إلى سموهم (عليهم السلام)، عن أن يعابوا أو ينتقصوا، فالعائب لهم كالقارع للصفاة، الضارب للحجر الصلد الكبير الذي لا يتأثر.

ومن قولها (عليها السلام) هذا نشير للمسألة التالية:

تعييب الآخرين

مسألة: يحرم عيب الآخرين والتنقيص من شأنهم، وأما عيب أولياء الله فهو أشد حرمة، وأعظم جرماً، وبالنسبة إلى الأئمة المعصومين وأهل البيت (عليهم السلام)، فهو من أكبر الكبائر التي يستحق عليها النار وبئس القرار.

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثُ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَ فِي ظِلِّ عَرْشِ اللهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: رَجُلٌ أَعْطَى النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ سَائِلُهُمْ، وَرَجُلٌ لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلاً وَلَمْ يُؤَخِّرْ رِجْلاً حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلهِ رِضًا، وَرَجُلٌ لَمْ يَعِبْ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِعَيْبٍ حَتَّى يَنْفِيَ ذَلِكَ الْعَيْبَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَنْفِي مِنْهَا عَيْباً إِلاَّ بَدَا لَهُ عَيْبٌ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ شُغُلاً بِنَفْسِهِ عَنِ النَّاسِ»(1).وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ أَسْرَعَ الْخَيْرِ ثَوَاباً الْبِرُّ، وَإِنَّ أَسْرَعَ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُعَيِّرَ النَّاسَ بِمَا لاَ يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(2).

ص: 126


1- الكافي: ج2، ص147، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح16.
2- الكافي: ج2 ص459 - 460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح1.

..............................

وعن أبي حمزة، قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ عُيُوبِ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، أَوْ يَعِيبَ عَلَى النَّاسِ أَمْراً هُوَ فِيهِ لاَ يَسْتَطِيعُ التَّحَوُّلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(2).وعن أبي جعفر وعلي بن الحسين (صلوات الله عليهما)، قالا: «إِنَّ أَسْرَعَ الْخَيْرِ ثَوَاباً الْبِرُّ، وَأَسْرَعَ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يَنْظُرَ فِي عُيُوبِ غَيْرِهِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، أَوْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا لاَ يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ»(3).

تحويل القوة إلى الضعف

قول الصديقة (عليها السلام): «وَصَدْعِ الْقَنَاةِ» إشارة إلى أن القوم كانوا أشداء على الكفار، فكانوا كالرمح القوية تعين حاملها ومستخدمها على الأعداء.. إلا أنهم صاروا بخذلانهم لأهل البيت (عليهم السلام) كالرمح المتصدعة المتشققة التي لا تنفع صاحبها، بل إنها تشكل خطراً عليه أيضاً، إذ يظنها معينة

ص: 127


1- الكافي: ج2 ص460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح2.
2- الكافي: ج2 ص460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح3.
3- الكافي: ج2 ص460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح4.

..............................

نافعة فيستند إليها لقتال الأعداء فتخذله ساعة النزال.

ومن قول الصديقة (عليها السلام) هذا نشير للمسألة التالية:

مسألة: يحرم تحويل القوة إلى ضعف فيأمثال هذا الموطن، بل ذلك في أمثاله من أشد المحرمات، وهو من مصاديق «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارِ»(1).

والمصاديق لذلك(2) كثيرة، تشمل: قوة العلم، وقوة التعاون، وقوة السلاح، وقوة الاجتماع، وقوة التنظيم، وألف قوة وقوة.

ومن مصاديق تحويلها إلى ضعف: التنازع، قال تعالى: «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3).

ومن مصاديق تحويل القوة إلى ضعف أيضاً: حرف القوة - علماً كانت أم سلاحاً أم تنظيماً أم غير ذلك - إلى غير الحق، أي اتخاذها وسيلة للباطل(4)، كما صنع القوم المنقلبون على الأعقاب الذين أدانتهم الزهراء (عليها السلام) ههنا بقولها: «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ، وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ

ص: 128


1- سورة إبراهيم: 28 - 29.
2- أي تحويل القوة إلى ضعف.
3- سورة الأنفال: 46.
4- فإن حرف القوة لتأييد الباطل وإن توهم أنه قوة إلا أنه في جوهره ضعف، فهو ك« خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» وهو طريق سريع لزوال هذه القوة. (منه قدس سره).

..............................

الْقَنَاةِ».

وفي نسخة: «وَخَوْرِ الْقَنَاةِ»، والخور كما سبق: الضعف والفتور، وقد يطلق على الانكسار.

وهذا أوضح دلالةً على المقصود من النسخة الأخرى «وَصَدْعِ الْقَنَاةِ»، وإن كان الثاني أبلغ من حيث الكناية، ولكل وجه، والله العالم.

ص: 129

وَخَتَلِ الْآرَاءِ

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الدجل والخداع

قول الصديقة (عليها السلام): «خَتَلِ الْآرَاءِ» أو «خَطَلِ الْآرَاءِ».

الختل: الخداع، والمخاتلة: المخادعة، وختله: خدعه، وتخاتلوا: تخادعوا.

والخَطَل: المنطق الفاسد المضطرب، كما في المجمع(1).

ويقال: (خطل في منطقه): أخطأ، و(خطل في كلامه): أتى بكلام كثير فاسد.

والخطل أيضاً بمعنى الحمق والخفة.

ومعنى كلامها (عليها السلام) بناءً على كونه «خَتَلِ الْآرَاءِ»، أي قبحاً لآرائكم المخادعة والماكرة .. فإنهم حاولوا إلباس خيانتهم وخذلانهم لأهل البيت (عليهم السلام) وخاصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لباساً من المكر والخداع، ليوهموا بأن موقفهم كان له وجه وجيه أو عذر مقبول، وكان من تلك الوجوه الماكرة(2): أننا بايعنا ابنأبي قحافة، ولو كان كلامك قبل البيعة لما صنعنا ما صنعنا، وكان منها: أننا اضطررنا إلى ذلك، وكان منها: إن المصلحة كانت في عدم تولي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الخلافة(3).

ص: 130


1- مجمع البحرين: ج5 ص364، كتاب اللام، باب ما أوله الخاء، خطل.
2- بلسان الحال والقال أو أحدهما، قبل الخطبة هذه أو بعدها. (منه قدس سره).
3- لأن فيه دعابة.. أو لأن قريش تطلبه بثارات بدر وحنين، أو ما أشبه ذلك.

..............................

وربما يكون «خَتَلِ الْآرَاءِ» بمعنى المخاتلة أيضاً، إذ قد خدع بعضهم بعضاً، وهذا حال المبطلين إذ يصطنع كل منهم مبرراً لباطله كي يبرر باطله أمام صاحبه وبالعكس، وذلك يعد نوعاً من محاولة إسكات الضمير وخداع الوجدان والتغطية على النفس اللوامة، فكلما صرخ الوجدان ولامتهم أنفسهم كلما استند بعضهم إلى بعض في اختلاق العذر والمبرر.

ومن كلامها (عليها السلام) هذا نشير إلى المسألة التالية:

الدجل والخداع

مسألة: يحرم الدجل والخداع في أصول الدين، ويحرم في فروع الدين أيضاً، كما يحرم في المعاملات والعقود والإيقاعات، فإن فيه فوت الحق وإقامةالباطل.

فالخداع في أصول الدين: كمحاولة إقامة الأدلة على خلاف الحقيقة، في الله وصفاته وأفعاله، أو في شؤون النبوة والإمامة أو المعاد، كالمغالطة في عدم كونه عادلاً، أو كونه جسماً، أو عدم إمامة الأئمة الأثني عشر، أو عدم المعاد، أو إنكار خصوص الجسماني منه.

وفي الفروع: كمحاولات الكثيرين للختل والخداع لتحريم حلال الله، وتحليل حرامه، كالشطرنج والاستبداد، ولو كان بلباس الفقيه وبأعذار دينية.

وفي المعاملات: كالتدليس في الأسعار أو شبهها(1).

ص: 131


1- كتدليس الماشطة بما يكون حراماً.

..............................

وفي نسخة: (خَطَلِ الْآرَاءِ).

والخطل في الرأي هو: الفساد والاضطراب والخطأ فيه، وربما يكون الخطل قد أشرب معنى الكثرة أيضاً، أي الآراء الكثيرة المضطربة الفاسدة.

وكل رأي وكل منهج وكل طريق غير الحق فهو فاسد مضطرب، فيقض سماؤه أرضه وعاليه سافله.

والقوم عند ما أعرضوا، عن علي(عليه السلام) وقعوا في خطل وفساد واضطراب هائل في آرائهم في الكليات والجزئيات.

فساد الرأي

مسألة: يحرم الخطل والفساد في الرأي، فيما يرتبط بحقوق الله أو حقوق الناس.

لا يقال: الخطل في الرأي غير اختياري.

لأنه يقال: بل هو اختياري، فإن التأني وعدم التعجل والاستشارة وشبهها من مقومات سداد الرأي كلها اختيارية، ولا تنفي الصعوبة أحياناً اختياريتها.

ولو فرض وصول الأمر في فساد الرأي واضطرابه إلى حالة لا اختيارية، فإنه أيضاً يستحق العقاب، لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، إذ المقدمات اختيارية.

ص: 132

..............................

مقدمات سداد الرأي

مسألة: يجب بالوجوب المقدمي، تهيئة مقدمات لسداد الرأي في العقائد وفي الفروع، وفي سائر الشؤون كالسياسة والاقتصاد وغيرها.

فإن من لم يدرس ولم يطالع ولميتأمل، وكذلك من لم يتخذ مستشاراً في السياسة والاقتصاد وغيرها، فإنه يرتطم عادة بخطل الرأي وفساده واضطرابه مما يعود عليه بالوبال إذا كان أمراً شخصياً، أو عليه وعلى عائلته، أو عليه وعلى منظمته، أو عليه وعلى مجتمعه أو حكومته، حسب نوع المطلب.

ص: 133

وَزَلَلِ الْأَهْوَاءِ

اشارة

-------------------------------------------

اتباع الهوى

كلام الصديقة (عليها السلام) صريح في أن كل ما قام به أولئك الصحابة من انقلاب على وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن ملزوماته وملازماته ولوازمه، فإنما هو ضلال في ضلال، وفساد في الرأي، وأهواء متبعة فاسدة ضالة، وزلل كبير.

مسألة: يحرم اتباع الهوى ويحرم - مقدمياً - أن يجعل الإنسان نفسه في معرض الزلل الأهوائي، فإن «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى أُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»(1).

ثم إن الهوى المحرم إتباعه هو الهوى المحظور شرعاً، وليس مطلقاً ما صدق عليه عرفاً هوى محرماً، ولا حقيقة شرعية في هذا المصطلح، بل أي هوى صدق عليه عنوان محرم(2) كان حراماً، وما عداه فإنه مذموم، وذلك كهوى تملك مالكثير، فإنه بما هو هو رذيلة، ولو كانت مقدمة للاحتكار مثلاً حرم عقلاً، أو عقلاً وشرعاً حسب الخلاف في حرمة المقدمة.

قال تعالى: «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَ فَلَا

ص: 134


1- انظر: وسائل الشيعة: ج27 ص167، كتاب القضاء، الباب12 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33507.
2- كالزنا واللواط وشرب الخمر.

..............................

تَذَكَّرُونَ»(1).

وقال سبحانه: «وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ»(2).

وقال تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصيرٍ»(3).

وقال سبحانه: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(4).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّااتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»(5).

وعن أبي محمد الوابشي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «احْذَرُوا أَهْوَاءَكُمْ كَمَا تَحْذَرُونَ أَعْدَاءَكُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْدَى لِلرِّجَالِ مِنِ اتِّبَاعِ

ص: 135


1- سورة الجاثية: 23.
2- سورة ص: 26.
3- سورة البقرة: 120.
4- سورة القصص: 50.
5- نهج البلاغة: باب الخطب والرسائل، رقم42 ومن كلام له (عليه السلام) وفيه يحذر من اتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا.

..............................

أَهْوَائِهِمْ، وَحَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَكِبْرِيَائِي، وَنُورِي وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَاهُ عَلَى هَوَايَ إِلاَّ شَتَّتُّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا، وَلَمْ أُؤْتِهِ مِنْهَا إِلاَّ مَا قَدَّرْتُ لَهُ. وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَنُورِي، وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ إِلاَّ اسْتَحْفَظْتُهُ مَلاَئِكَتِي، وَكَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ رِزْقَهُ، وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(2).وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): «اتَّقِ الْمُرْتَقَى السَّهْلَ إِذَا كَانَ مُنْحَدَرُهُ وَعْراً - قال - وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: لاَ تَدَعِ النَّفْسَ وَهَوَاهَا؛ فَإِنَّ هَوَاهَا فِي رَدَاهَا، وَتَرْكُ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى أَذَاهَا، وَكَفُّ النَّفْسِ عَمَّا تَهْوَى دَوَاهَا»(3).

فضح القوم

مسألة: يجب أو يستحب كشف حقيقة القوم وفضحهم وأنهم قد زلوا زللاً كبيراً في أهوائهم، وأخطأوا خطأ جسيماً في آرائهم.

ص: 136


1- الكافي: ج2 ص335، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح1.
2- الكافي: ج2 ص335، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح2.
3- الكافي: ج2 ص335 - 336، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح4.

وَبِئْسَ «مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»

اشارة

-------------------------------------------

وَبِئْسَ «مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»(1).

مسائل عديدة مستفادة من الآية الكريمة

ويستفاد من استشهاد الصديقة (صلوات الله عليها) بهذه الآية الشريفة أمور ومسائل عديدة.منها: إن ما فعله القوم بحق الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) هو بئس ما قدموه لأنفسهم ليوم الحسرة والقيامة، وأنهم يحاسبون عليه أشد الحساب.

ومنها: إنه يستحب - وقد يجب - بيان ذلك للناس على مر الأزمان والدهور.

ومنها: إن ما فعله القوم ظلماً بحقها (صلوات الله عليها) سبب سخط الله عليهم.. وأن سخط الله يتجلى في الدنيا بأنحاء، وفي الآخرة يكون له التجلي الأكبر بالعذاب الخالد، قال تعالى: «وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ»(2).

ومنها: إن من سخط الله عليه ساقط عن العدالة.

ومنها: إنه بشكل أولى لا يليق بالإمامة والخلافة.

ومنها: إن من تقمصها لم يكن ظالماً فيما مضى فحسب بعبادته الصنم،

ص: 137


1- سورة المائدة: 80.
2- سورة الحج: 11.

..............................

بل لم تفارقه صفة الظلم، فلا ينحصر إثبات عدم أهليته للخلافة بإثبات أن المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ والمنقضي عنه المبدأ، أوبإثبات أن الظلم آناً ما كاف في عدم الصلاحية أبداً، نظراً لجلالة منصب الإمامة، وإن قلنا بأن المشتق مجاز في المنقضي، كما لا ينحصر بإثبات استمرار عبادته للصنم، بل يكفي في عدم الصلاحية هذا الوجه أيضاً(1)، وإن كان كل واحد مما ذكر كافياً.

ومنها: إن ما فعله القوم ظلماً لها (عليها السلام) ولبعلها علي (عليه السلام) سبب خلودهم في العذاب.

وأي كلام أعظم من كتاب الله عز وجل، حيث استشهدت بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) بالآية القرآنية على أن أولئك الصحابة الذين انقلبوا على الأعقاب هم خالدون في النار.

ومنها: إن حديث العشرة المبشرة بالجنة كذب محض، وافتراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكيف يكون صحيحاً وعدد منهم هم من المنقلبين على الأعقاب الذين استشهدت الصديقة فاطمة (عليها السلام) بهذه الآية على أنهم من الخالدين في النار؟.

إضافة إلى عدم معقولية صحة هذاالحديث؛ لأن العشرة قاتل بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وقُتل بسبب قتالهم الآلاف من المسلمين، فهل يعقل أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة؟ كيف وقد خرج بعضهم على إمام زمانه؟

ص: 138


1- وهو: أنهم مغضوب عليهم بالفعل من الله، وأنه ساخط عليه بتصريح الطاهرة الزهراء (عليها السلام) التي أجمع المسلمون على أنها صديقة، وقد قال القرآن الكريم بعصمتها في آية التطهير وغيرها.

..............................

وتفصيل الحديث موكول إلى محله من كتب الكلام والعقائد والمناظرات والتاريخ وما أشبه(1).

ومنها: جواز لعن أولئك الصحابة الذين انقلبوا على أعقابهم، كونهم قد سخط الله عليهم وخلَّدهم في عذابه.

ومنها: إنه يستحب أو يجب - حسب اختلاف المواطن - بيان ما سبق(2)؛ وذلك لبيان الله تعالى، وبيان الصديقة الزهراء (عليها السلام) له، ولعموم أدلة النهي عن المنكر، والتبري من الطاغوت، والدفاع عن أهل البيت (عليه السلام)، بل عن مطلق المظلوم، فكيف بهم (صلوات الله عليهم).

ومنها: إنه يحرم فعل ما يوجب سخط الله تعالى.ومنها: إنه يحرم فعل ما يوجب العذاب والخلود فيه.

وهل لهذين حرمة نفسية مستقلة عن حرمة نفس المحرمات المعنونة في الآيات والروايات، كالقتل والجرح وسائر أنواع الظلم كغصب الخلافة وغصب الممتلكات كفدك وغيرها؟.

الظاهر انطباق هذين الكليين(3) على تلك العناوين. نعم قد ينفكان عنها، كما لو زوحم الواجب بواجب أهم، وكان القيام به موجباً لتفويت الأهم، فإن

ص: 139


1- للتفصيل، عن هذه الأمور راجع كتاب (ليالي بيشاور)، و(النص والاجتهاد)، و(الغدير)، و(المراجعات)، وغيرها.
2- من سخط الله عليهم وأنهم في العذاب خالدون.
3- أي ما يوجب سخط الله وما يوجب العذاب والخلود فيه.

..............................

الواجب المهم قد يكون عندئذٍ مما يوجب القيام به سخط الله؛ لأنه فوت الأهم كإنقاذ النفس المحترمة، فتأمل.

مسألة: يفهم ارتداد القوم من استشهادها (صلوات الله عليها) بهذه الآية، فإنه يعد دليلاً على ارتدادهم وانقلابهم، فإن الآية جاءت في سياق الآيات الدالة على ارتداد بعض بني إسرائيل من قوم موسى (عليه السلام) وارتداد بعض قوم عيسى (عليه السلام)، ثمإن صدرها شاهد أيضاً، فلنلاحظ الآيات مزجاً مع ما ذكرناه في تبيين القرآن:

قال تعالى: «لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرَائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ» لعنهم داود (عليه السلام) حين اعتدوا في السبت فمسخوا قردة «وَ» لسان «عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» حين كفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير «ذَلِكَ» اللعن «بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ»... «تَرَى» يا رسول الله «كَثيرًا مِنْهُمْ» من أهل الكتاب «يَتَوَلَّوْنَ» يوالون ويصادقون «الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ» إلى الآخرة من العقاب «لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ» بسبب كفرهم وعصيانهم «وَ فِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»(1).

ص: 140


1- تبيين القرآن: ص133، سورة المائدة 78 - 80.

..............................

بين العدالة والخلود

مسألة: قد ذكرنا في مباحث أصول الدين أن الخلود لا ينافي العدالة الربانية، إذ العذاب يكون بقدر العمل السيء، لقوله سبحانه: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ»(1) أما بقاؤهم إلى الأبد بالنسبة إلى البعض فربما يكون نتيجة العناد، إذ يظل قسم منهم مصراً معانداً حتى وهو في نار جهنم، وربما يكون في البعض بحيث لا يحس بالعذاب إلا بقدر استحقاقه للعذاب، وقد يؤيده قوله: «وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُون»(2) فتأمل، إذ ذكرنا في التبيين: «لَهُمْ فِيهَا زَفيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ»(3) أي كلاماً حسناً أو شيئاً لشدة العذاب(4).

وفي بعض الروايات: إنهم يغشى عليهم من شدة العذاب أزمنة طويلة، فلا منافاة بين الخلود وبين كون حسهم وشعورهم بالعذاب بقدر استحقاقهم.وقد ذكر العلامة المجلسي (رحمه الله) وغيره أن الخلود من ضروريات الدين، (والمقصود الخلود الحقيقي لا النسبي) وتفصيله في مباحث الكلام.

هذا كله بالنسبة إلى المعصية بشكل عام، أما معصية ظلم الصديقة الزهراء

ص: 141


1- سورة الشورى: 40.
2- سورة الأنبياء: 100.
3- سورة الأنبياء: 100.
4- تبيين القرآن: ص342، سورة الأنبياء: 100.

..............................

(عليها السلام) وغصب الخلافة فلم تكن معصية وقتية فحسب، بل ترتب عليها جميع الآثام والانحرافات إلى يوم القيامة، فمرتكبوها يستحقون أشد العقوبات وأطولها والخلود في أشد النار، مضافاً إلى استمرارهم في اللجاج والعناد حتى في الآخرة، إضافة إلى خبث الطوية وقاعدة السنخية(1) إلى غير ذلك، والتفصيل في علم الكلام وما يرتبط به.

ص: 142


1- فإن سنخهم ناري كما أن سنخ بعض الموجودات نوري.. وفي مباحث تجسم الأعمال .. وأخبار الطينة والمعادن وغيرها ما يفي بالمقصود، فليراجع البحار وغيره.

لَا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا،

اشارة

-------------------------------------------

الجزاء من سنخ العمل

(لا جرم) كلمة تأتي لتحقيق شيء وتأكيده، كأنك قلت: لا شك أو لابد أو لا محالة أو حقاً.

وكأن ما بعدها معلول لما قبلها، فقد قلدوا ربقتها، أي حملوا وزرها، من جهة ضعفكم ووهنكم وإعراضكم عن الحق، وزلل أهوائكم وخطل آرائكم، فمن أجل ذلك كله قلدتم ربقتها، والضمير راجع إلى الحكومة والسلطة أو إلى فدك، أو إلى مجموع حقوقهم التي غصبت ومنها ذانك الحقان.

وبعبارة أخرى: جعلت آثام هذه الجرائم لازمة لرقابهم كالقلادة المطوقة للجيد.

و(الرِبقة) بكسر الراء وسكون الباء، وقد تفتح الراء: حبل مستطيل فيه عرى (جمع عروة أي عقدة) تربط فيه صغار البهم، توضع في أعناقها أو يدها لتمسكها، عن الفرار أو الضياع.

فهذا الحبل العقود فيه عدة عقد قد وضع في أعناقهم، بسبب زلل أهوائهم وخطل آرائهم، وهو إشارة إلى أن هذا الحبل هو حبل يقودهم إلى النار، كما أنه حبل العبودية للطاغوت، وهو حبلالذلة، وهو حبل يستتبع الدمار والعار في الدنيا قبل الآخرة.

والعقد فيه ترمز إلى أنواع تجبرهم وطغيانهم وأهوائهم، أو إلى أنواع العقد والمشاكل والمصاعب التي ستقضي مضاجعهم وتحطم مستقبلهم، كما حدث

ص: 143

..............................

ذلك تماماً.

ومن كلام الصديقة (عليها السلام) هذا يمكن الإشارة إلى المسائل التالية:

مسألة: الجزاء هو من سنخ العمل، فإن ما لحق (لا جرم) هو نتيجة طيبيعة لما سبقها.

قال تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(1).

وقال تعالى: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(2).

وقال الشاعر: (لا يجتني الجاني من الشوك العنب)(3).مسألة: الجزاء ليس خاصاً بالآخرة، بل يتلقى الإنسان جزاء سيئاته أو بعضه في الدنيا أيضاً.

مسألة: قد يكون بعض الجزاء بنحو الأثر الوضعي على دنيا الشخص أو دينه أو على نسله وذريته.

ص: 144


1- سورة النساء: 9.
2- سورة الكهف: 49.
3- مثل عربي ورد هكذا: (إنك لا تجني من الشوك العنب)، ويضرب هذا المثل لمن يرجو المعروف من غير أهله، أو لمن يعمل الشر فينتظر من ورائه الخير، أو لمن يحاول إصلاح شخص خسيس الأصل سيء التربية، وأصل القصة أن صبياً رأى والده يغرس شجراً في البستان، وبعد عدة أشهر ظهرت ثماره عنباً حلواً لذيذاً، فظن الصبي أن كل ما يغرسه يخرج عنباً، وذات يوم وجد شجرة شوك فغرسها، وانتظر مدة فوجد الشوك يظهر في أغصانها، فقال له أبوه: (إنك لا تجني من الشوك عنباً) فلا تنتظر الشيء من غير أصله.

..............................

والأثر الوضعي لازم للإنسان حتى لو أنكره أو أنكر مسبباته(1)، مضافاً إلى أنه قد يقال بلزومه للشخص في الجملة حتى لو تاب واستغفر، فإن التوبة ترفع العذاب، أما الأثر الوضعي فربما لا يرتفع كله بالتوبة والندم إلا في بعض مراتبه أو مصاديقه، ولهذا المبحث مجال آخر.

ص: 145


1- أي الجريمة التي ارتكبها.

وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا،

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الخيانة

مسألة: الخيانة محرمة ولها أوق وشؤم.

(الأوق) الثقل والشؤم، مثلاً يقال: ألقى عليه أوقه أي ثقله، وبه أوق أي شؤم.

فإن الخيانة لها ثقل ولها شؤم أيضاً، ومن يخون الأمانة ستثقل على قلبه كما ستثقل عليه حياته الدنيوية ثم الأخروية أيضاً، وسيتبعه وسيلزمه شؤمها إلى يوم القيامة.

والقوم قد خانوا أعظم أمانة، إذ زحزحوا الخلافة، عن رواسي الرسالة، وحولوها إلى مداحض الشياطين.

مسألة: يجب إتمام الحجة وإفهام الناس أن الخيانة وكذا سائر المعاصي لها وزر وثقل، وأنها تحول حياة الإنسان إلى جحيم قبل آخرته، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ»(1).

مسألة: يجب إفهام الناس بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) جاء لكي «يَضَعُ

عَنْهُمْ إِصْرَهُمْوَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2)، والإصر هو الحمل الثقيل.

ص: 146


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة الأعراف: 157.

..............................

مسألة: يجب إفهام الناس بأن أولئك الصحابة الذين انقلبوا على الأعقاب أرجعوا الناس - قدر ما استطاعوا - إلى الإصر والأغلال.

مسألة: وأن ذلك الإصر والأغلال ستستمر - بدرجة أو أخرى - إلى يوم ظهور القائم المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) حيث ترتفع بشكل كلي لعودة الحق كله في الأرض كلها إلى نصابه.

وأما قبل ظهوره (عليه السلام) فالأمر له درجات، فكلما تمسك أهل منطقة أو دولة بأهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم، وكلما اتبعت الحكومة بما ورد في الكتاب والسنة الشريفة المؤكدة على الثقلين، كلما قل الإصر وزالت الأغلال أو انمحت بالنسبة في تلك المنطقة، أما العدل الشامل الكلي ورفع الأغلال والآصار كلها من على وجه الأرض كله، فلا يكون إلا بظهور ولي الله الأعظم، عجل الله تعالى له الفرج، وسهل له المخرج، وجعلنا من أنصاره وأعوانهوالمستشهدين بين يديه، إنه سميع مجيب.

مسألة: ولقد حملتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام) المسؤولية والوزر والثقل على مر الأزمان والدهور، فهو ظاهر إطلاق كلامها (عليها السلام) وظاهر قرينة المقام، وليس تحميلها المسؤولية خاصاً بذلك الجيل أو تلك الحقبة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

ص: 147


1- تفسير نور الثقلين: ج1 ص73، سورة البقرة الآيات 40 إلى 44، ح163.

..............................

مسألة: وزر الخيانة والمعصية يزداد بتحميل الخائن المسؤولية من جانب ولي من أولياء الله، فكيف إذا كانت سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ومحور أصحاب الكساء (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

فقول الصديقة (عليها السلام): «لا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا، وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا»، يزيدهم ثقلاً على ثقل، وعاراً على عار، ومسؤوليةً على مسؤولية.

وتوضيح ذلك بالمثال:إن شخصاً لو سرق، فواجهه أبوه أو الحاكم بالسرقة، وحمله عارها ووزرها، فإنه من الواضح أن ذلك يثقل على قلبه أي إثقال(1)، ثم إنه لو لم يرتدع بعد ذلك، لكان وزره أعظم وجرمه أكبر؛ لأن الحجة عليه أتم، ولأن عدم ارتداعه هتك جديد للحرمة.

ص: 148


1- وكذلك في مجتمعه، فإن شأنه ينحط أكثر من مجرد ما لو علم الناس بسرقته، دون معاقبة الحاكم له.

وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَاتهَا،

اشارة

-------------------------------------------

التوقي من غضب أولياء الله

شن الغارة عبارة، عن الهجوم الصاعق من الجوانب المختلفة، وكأن القوم مهاجمون من إدانتها وكلماتها (عليها السلام)، بحيث لا يجدون مفراً أو عذراً أو رداً أو تخلصاً، فهم مجرمون لا يجدون أدنى عذر، أو حيلة للدفاع أو التخلص، قال تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(1).

وكأن هذا الكلام مقتبس من جوهر قوله تعالى: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ»(2).

وحيث «إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(3)، وحيث إن الرضا والغضب حقائق مشككة ذات مراتب، فإن هجومها (صلوات الله عليها) الشديد والصاعق عليهم بهذه الكلمات القوية، دليل على أن غضبها قد بلغ الذروة النهائية، وأن غضب الله تعالى عليهم بلغ كذلك الذروة النهائية، فهم أكبر الخاسرين:«قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4)،

ص: 149


1- سورة القيامة: 14-15.
2- سورة البقرة: 279.
3- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
4- سورة الزمر: 15.

..............................

وتنطبق عليهم كل آثار غضب الله الشديد المشار إليها في القرآن الكريم.

قال تعالى: «فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرينَ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

وقال سبحانه: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ»(3).

وقال سبحانه: «وَالَّذينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»(4).

وقال تعالى: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْمَصِيرًا»(5).

ص: 150


1- سورة البقرة: 90.
2- سورة المائدة: 60.
3- سورة الأعراف: 152.
4- سورة الشورى: 16.
5- سورة الفتح: 6.

..............................

ولا يبقى بعد ذلك أي عذر لأي إنسان في أن يشكك في فسق وضلالة أولئك المنقلبين على الأعقاب.

مسألة: يجب الحذر والتوقي من غضب أولياء الله تعالى.

مسألة: يجب الحذر والتوقي بأشد درجاته من إغضاب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، والصديقة فاطمة (عليها السلام)، والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، سواء في حياتهم أم بعد استشهادهم، إذ «أَشْهَدُ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلاَمِي، وَتَشْهَدُ مَقَامِي»(1)؛ فإنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون»(2).

مسألة: يحرم انتخاب النار على العار، كما صنع الثاني حيث قال: (النار ولا العار).

والحرمة هذه يمكن أن تكون إرشادية(3)، ويمكن أن تكون مولوية.مسألة: اختيار العار محرم إذا كان مصداقه محرماً، وإلا بأن كان عاراً عرفاً فقد يحرم من باب الشهرة(4)، أو إذا شجع على الفاحشة(5)، أو انطبق عليه عنوان محرم أو ما أشبه.

ص: 151


1- المزار الكبير لابن المشهدي: ص211، ق3، ب13، زيارة اخرى لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
2- سورة آل عمران: 169.
3- أي إرشاد إلى حكم العقل بتجنب النار.
4- كما في لباس الشهرة على القول بحرمته.
5- كجلوس من له شأن مع الفسقة بدون وجود ما يبرر ذلك ما يشجع الشباب على معاشرتهم ومن ثم الانجراف معهم.

..............................

أما المقام وهو الإعراض عن خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحقيقي، وتهديد ابنته الطاهرة (عليها السلام)، بل ضربها ولطمها وكسر ضلعها وقتل جنينها المحسن (عليه السلام)، فهو أشد أنواع العار المحرم لذاته، وبلحاظات أخر أيضاً.

مسألة: الظالم سوف يحيط به عار جريمته وظلمه في الدنيا قبل الآخرة، وليس الأمر منوطاً بعلمه فقد يعلم وقد لا يعلم، فإن الثبوت لا يلازم الإثبات كما لا يخفى.

في الكافي: عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث وقد تلا: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ»(1) - قال (عليه السلام): «فَلاَ تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ إِلاَّ ذَلِيلاً، أَوْ مُفْتَرِياً عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ (عليهم السلام) إِلاَّ ذَلِيلاً»(2).

ص: 152


1- سورة الأعراف: 152.
2- الكافي: ج2 ص16، كتاب الإيمان والكفر، باب الإخلاص، ح6.

فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»

اشارة

-------------------------------------------

فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1)

الدعاء على الظالم

الجدع: قطع الأنف. والعقر: الجرح، وضرب قوائم البعير أو الفرس أو غيرهما بالسيف ونحوه، قال تعالى: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ»(2)، ثم توسع فيه واستعمل في مطلق القتل والهلاك.

«فَجَدْعاً وَعَقْراً» تشبيهاً لهم بالدابة التي يجدع أنفها وتعقر بضرب أرجلها، فهي مشوهة الظاهر وعاجزة، عن الحركة وآيلة إلى الهلاك، فهم كذلك تماماً، الظاهر قبيح مشوه، والباطن أقبح وأدهى وأمر.

وفي بعض النسخ: (وسحقاً للقوم الظالمين).

والسحق: البعد والابتعاد، وسحقه الله سحقاً: أي أبعده من رحمته، والسحيق: البعيد، وسحقه سَحقاً: أي أهلكه وكذا أسحقه: أهلكه.

وهذا منها (صلوات الله عليها) دعاء شديد عليهم، بأن ينتقم الله منهم، وينكل بهم، ويضرب عاليهم وسافلهم، وظاهرهم وباطنهم، ويبعدهم عن الخير، ويطردهمعن الرحمة، كما طرد إبليس من رحمته، قال تعالى: «فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ»(3).

ص: 153


1- سورة هود: 44.
2- سورة الأعراف: 77.
3- سورة الحجر: 34.

..............................

مسألة: يجوز بالمعنى الأعم الدعاء على الظالم، وعلى من أعانه ورضي بفعله، كما قالت (صلوات الله عليها): «فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (1)».

مسألة: الدعاء على القوم الظالمين قد يكون واجباً لذاته(2)، وقد يجب عقلاً أو عقلاً وشرعاً لمقدميته، وذلك كما لو كان مقدمة لإزالة باطلهم، أو إحدى العلل المعدة لذلك، أو طريقاً لفضحهم، أو وسيلة لهداية غيرهم، أو ما أشبه.

ثم إن آثار الدعاء على الظالم لا تنحصر في الآثار الأخروية، بل تشمل الدنيا أيضاً، فإن أمثال هذا الدعاء زلزل عروش الظالمين ونقص من سلطانهم كماً وكيفاً وجهةً، ولولا هذا الدعاء وأمثاله، لكان الظلم والبغي قد ازداد بشكل غريب، ولكان العالم كله في كلمناطقه، وعلى مر الأيام يعيش تحت حكومة مثل: الحجاج وصدام، بل لازداد سوءاً عن حكومة هذين أيضاً.

مسألة: يجب أو يستحب بيان أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) قد دعت على القوم الذين ظلموها، وظلموا بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام).

مسألة: يجوز الدعاء على الظالم بإنزال أنواع البلاء عليه، سواء كان البلاء أخروياً أم دنيوياً، كأن يدعو عليه بعمي عينه، أو جدع أنفه، أو صلم أذنه، أو ما أشبه.

ص: 154


1- سورة هود: 44.
2- فإنه مصداق للتبري من أعداء الله.

..............................

ودعاؤها (عليها السلام) بالجدع والعقر وإن كان الظاهر أنه كناية، إلا أنه يستفاد منه بالملاك أو الأولوية جواز ذلك.

مسألة: الإنسان له ظاهر به يتعامل مع الآخرين، وبه يقدرونه ويحترمونه، وأجدع الأنف قبيح المنظر ومشوه الطلعة، لذلك لا يقدر أن يقيم علاقات سوية مع الآخرين عادة، ودعاؤها (عليها

السلام) عليهم بالجدع قد يشير إلى هذا الجانب، وأن ما أسسوه من الباطل مشوه وقبيح المنظر، بل نقول إن هذاالتشويه هو سبب ابتعاد الناس عن الإسلام، فعليهم يقع وزر أن الملايين بل مئات الملايين من الناس على مر الأزمان لم يدخلوا في الإسلام لما رأوه من التشويه فيه، حيث ظنوا أولئك الصحابة هم وجه الإسلام والممثلون له(1).

ثم إن الإنسان له أدوات يستعين بها على حوائجه، ومن أبرزها الرجلين، فربما كان كلامها (صلوات الله عليها) دعاء عليهم كناية بأن لا تمشي أمورهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، سواء كانوا في الحكم أم خارجه، وذلك إشارة إلى حقيقة خارجية، كما هو دعاء عليهم بذلك.

فكما أن الناقة التي عقرت لا تستطيع المشي، بل تبقى في مكانها إلى أن تهلك، كذلك أولئك الطغاة الذين غصبوا الخلافة من أمير المؤمنين علي بن أبي

ص: 155


1- ومن الأمثلة الواضحة لذلك: بعض أصحاب صحاحههم ومن أشبه حيث يعرضون صورة مشوهة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنفر الناس، مثل: رواية بوله (صلى الله عليه وآله) في الطريق أمام أحد الأصحاب، ورواية استماعه مع عائشة لغناء القيان والنظر إلى رقص الأحباش، وروايتهم بأنه (صلى الله عليه وآله) هو الذي عبس وتولى، وغير ذلك مما يتنافى مع كرامة وشأن الإنسان العادي، فما بالك برسول رب العالمين!!

..............................

طالب (عليه السلام)، فإنهم كمثل الناقة دون أرجل، أو القارب دون محرك ودون مجاديف(1)، لا يمكن أن تصل على المقصد، فكيف بأن توصل الغير إليه.

مسألة: حيث وصفتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بالقوم الظالمين تشملهم الآيات التالية:

قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(2).

وقال سبحانه: «وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»(3).

وقال تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إَيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(4).

وقال سبحانه: «وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ»(5).

وقال تعالى: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَمِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»(6).

ص: 156


1- مجاديف: جمع مجداف، خشب طويل في رأس كل منها لوح عريض، تُدفع بها القوارب.
2- سورة البقرة: 124.
3- سورة آل عمران: 57 و140.
4- سورة آل عمران: 86.
5- سورة آل عمران: 151.
6- سورة المائدة: 29.

..............................

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1).

وقال تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ»(2).

وقال سبحانه: «وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3).

وقال تعالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ»(4).

وقال سبحانه: «وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»(5).

وقال تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى

ص: 157


1- سورة المائدة: 51، سورة الأنعام: 144، سورة القصص: 50، سورة الأحقاف: 10.
2- سورة الأنعام: 33.
3- سورة الأنعام: 129.
4- سورة الأعراف: 41.
5- سورة الأعراف: 44.

..............................

الظَّالِمِينَ»(1).

وقال سبحانه: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ»(3).

وقال سبحانه: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(4).

وقال تعالى: «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(5).

وقال سبحانه: «أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ في عَذَابٍ مُقِيمٍ»(6).

وقال تعالى: «فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»(7).

ص: 158


1- سورة هود: 18.
2- سورة هود: 44.
3- سورة إبراهيم: 22، سورة الشورى: 21.
4- سورة مريم: 72.
5- سورة غافر: 52.
6- سورة الشورى: 45.
7- سورة الحشر: 17.

..............................

لعن الظالمين

مسألة: من هذا الدعاء «وَسُحْقًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» يتبين أنه يجوز لعن الظالمين، وخاصة من ظلم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وغصب حقها، وحق زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهجم على دارها، وكسر ضلعها، وأسقط جنينها، وكذلك من ظلم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسائر أهل بيته الطاهرين والأئمة المعصومين (عليهم السلام).

وذلك أن اللعن هو بمعنى السحق والطرد، كما سبق شرحه.

قال في لسان العرب: (اللعن: الإبعاد والطرد من الخير. وقيل: الطرد والإبعاد من الله)(1)، والثاني مصداق الأول كما لا يخفى بل أبرز مصاديقه.

وقال في مجمع البحرين: (اللعن الطرد من الرحمة ... واللعن: الإبعاد، وكانت العرب إذا تمرد الرجل منهم أبعدوه منهم وطردوه لئلا تلحقهم جرائره فيقال: لعن بني فلان)(2).وقد سبق أن السحق له معنيان:

الأول: البعد والإبعاد عن رحمة الله، وهو على هذا مرادف للعن.

الثاني: الإهلاك، وهو على هذا من أظهر مصاديق اللعن.

ص: 159


1- لسان العرب: ج13 ص387، حرف النون، فصل اللام، مادة (لعن).
2- مجمع البحرين: ج6 ص309، كتاب النون، باب ما أوله اللام، مادة (لعن).

وَيْحَهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

استخدام كلمة ويح

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - استخدام كلمة (ويحهم) و(ويحه) و(ويحها) وما أشبه بالنسبة للقوم الظالمين.

مسألة: يجب أو يستحب بيان أنها (صلوات الله عليها) خاطبتهم وقرعتهم وواجهتهم بهذه الكلمة.

ثم إن «وَيْحَهُمْ» كلمة تستعمل تارة في الترحم، وأخرى في التعجب، وثالثة في التوجع، ورابعة في التقبيح.

عن سيبويه (كما في مجمع البحرين): (ويح: زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل لمن وقع فيها)(1).

وبعض اللغويين يستعمل كلاً من (ويح)و(ويل) مكان الآخر.

والواضح أن استخدام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كلمة (ويح) هنا أتت بمعنى: ويلهم، إذ قد وقعوا في الهلكة، حيث (زحزحوها، عن رواسي الرسالة...)، ولا مانع من أن تكون - ولو بقرينة المقام - قد أشربت معاني التوجع والتعجب والتقبيح، فإن استخدام ويح في مثل المقام يدل على توجع المتكلم، وتعجبه الشديد من الفعلة النكراء غير المتوقعة عادةً، وعلى تقبيحه لهم على دعائه عليهم.

ص: 160


1- مجمع البحرين: ج2 ص425، كتاب الحاء، باب ما أوله الواو، مادة (ويح).

أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ

اشارة

-------------------------------------------

أَنَّى زَحْزَحُوهَا(1) عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ

زحزحة الخلافة

(أنّى) تأتي استفهامية بمعنى كيف، وتأتي ظرفية زماناً بمعنى متى، ومكاناً بمعنى أين.

وزحزحه، عن مكانه: أي باعده أو أزاله عنه، وزحه، عن مكانه: نحّاه ودفعه، وكأن زحزح أشرب معنى التحريك الصعب البطيء.

«أَنَّى زَحْزَحُوهَا» أي: أبعدوا الخلافة وحولوها من مكانها اللائق بها والمتعين لها، وهو الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) إلى الغاصبين الظالمين.

(رواسي) الرواسي من الجبال: الرواسخ الثوابت، ورسى رسوا ورُسّوا: ثبت ورسخ، ورست السفينة: وقفت على المرساة.

و(قواعد) البيت: أُسسه.

وههنا نقاط:

الأولى: لعل السبب في استخدام الصديقة (صلوات الله عليها) الجمع: (رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ)، هو الإشارة إلى سائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ لأن الأئمة الاثني عشر هم رواسي الرسالة وقواعد النبوة على مر الأزمان والدهور، فتنحية الإمام علي (عليه السلام) عن الخلافة كان تنحية للأئمة الاثني عشر كلهم واحداً بعد الآخر،

ص: 161


1- وفي بعض النسخ: زعزعوها.

..............................

أي كان سبباً لزحزحة الخلافة عن خلفاء الرسول الأثني عشر (عليهم السلام) جميعاً كما حدث ذلك في التاريخ.

فكلامها (عليها السلام) يتضمن كشفاً عن المستقبل، ونبوءة صادقة تستند إلى علم إلهي أودعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدرها الطاهر (صلوات الله عليها).فكما أن كلامها (عليها السلام) هذا: «أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ» يتضمن تحميلهم كل الآثام والمعاصي والشرور التي نشأت من حكومات بني أمية وبني العباس وبني عثمان وغيرهم، وكل الآثام التي لا تزال ترتكب في مختلف الدول من مختلف الحكومات الجائرة.

الثانية: هناك دقة كبيرة في استخدامها (عليها السلام) كلمة (رواسي) للرسالة، وكلمة (قواعد) للنبوة، ويتضح ذلك من ملاحظة الفرق بين الرسول والنبي، والفرق بين القواعد والرواسي، فتأمل.

الثالثة: يتضح من كلامها (عليها السلام) أيضاً: إن للرسول (صلى الله عليه وآله) ثلاث مراتب: مرتبة النبوة، ومرتبة الرسالة، ومرتبة الدلالة. وكما أنه ليس كل نبي رسولاً، كذلك ليس كل دال ودليل إلى الحق والهدى بنبي أو رسول، فالدلالة أعم من النبوة والرسالة. نعم، دلالة الرسول ودلالة النبي أقوى وأتم، وهي محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ»(1).

ص: 162


1- سورة الصف: 10.

..............................

فجناية أولئك الأصحاب المنقلبين على الأعقاب، جناية بحق مقام النبوة، ومقام الرسالة، ومقام الدلالة أيضاً.

ويحتمل أن تكون (الدلالة) إشارة إلى دلالته على الله تعالى، كما ورد في زيارتهم (عليهم السلام): «الْأَدِلَّاءِ عَلَى اللهِ»(1)، و«الْأَدِلَّاءِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ»(2).

مسألة: تحرم زحزحة الخلافة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة، وهم أهل بيت النبوة والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، وذلك بالقيام بأي شيء يسبب إبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن حقهم الإلهي في الخلافة.

عدة مسائل

مسألة: لهذه الحرمة عرض عريض، فإنها تنبسط بانبساط شعاع الخلافة وتتسع باتساعها.

وبعبارة أخرى: الخلافة أصل تتفرعمنه ملايين الفروع، فمن ساهم في زحزحة الخلافة، عن رواسيها فقد اشترك في آثام كل تلك الفروع والمصاديق إلى يوم القيامة.

ومثاله: ما لو سرق شخص فيلحقه إثمها، وقد يُعلّم شخصاً طريقة السرقة

ص: 163


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص608، كتاب الحج، باب ما يجزي من القول عند زيارة جميع الأئمة (عليهم السلام)، ح3212.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص96، الباب46 من كتاب المزار، ح1.

..............................

فيسرق طوال سنوات آلاف المرات، فإن المعلّم شريك في آثام كل تلك السرقات، فإن «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

مسألة: لأولئك (الويل) و(الويح) بعدد كل ما ترتب على زحزحة الخلافة عن رواسيها.

مسألة: وليس ذلك خاصاً بمن عاصروا فترة غصب الخلافة وشاركوا في تلك الزحزحة، بل كل من يشارك في الزحزحة إلى زمن الظهور، فإن كل من يفعل ما يسبب طول الغيبة فإن الويل والثبور له، وكذا كل من يسبب عدم تعرف الناس على الحق وعلى أئمة الهدى من العترة الطاهرة (عليهم السلام).

مسألة: ويشمل أيضاً كل من يشارك فيزحزحة نواب الأئمة (عليهم السلام) الخاصين، وكذلك النواب العامين وهم مراجع التقليد الجامعين للشرائط، عن التصدي لهداية الناس والأخذ بزمام الأمور، فإن زحزحة النائب انتهاك لأمر المنوب ولحقه وتجاوز لصلاحيته وولايته.

مسألة: وكما يحرم على عامة الناس زحزحة نائب الإمام عن الأخذ بزمام الأمور، كذلك يحرم على أحد النواب أن يزحزح سائر النواب عن ذلك، ومن هنا دعونا إلى (شورى الفقهاء المراجع) على تفصيل ذكرناه في بعض الكتب.

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن القوم قد زحزحوا الخلافة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة.

وأصل بيان المطلب واجب، وأما بيانه بهذه الكيفية التي عبرت عنها

ص: 164


1- تفسير نور الثقلين: ج1 ص73، سورة البقرة الآيات 40 إلى 44، ح163.

الصديقة الطاهرة (عليها السلام)(1) فهو مستحب.

مسألة: ويستحب بيان أن الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) كانوا رواسي الرسالة دون غيرهم، ويجب الاعتقاد بذلك، وبيانه واجب لو توقفإحقاق الحق عليه.

قواعد النبوة

مسألة: إن حكمة الله كما اقتضت في عالم التكوين أن تكون للبيوت - مثلاً - قواعد، وكلما كان البناء أعلى وأضخم كانت القواعد أعمق وأمتن، ولو لم يكن ذلك لتعرض البناء لخطر الانهيار، كذلك فإنه جعل للنبوة قواعد، ولأن النبوة هي أسمى حقيقة وأثقل أمانة، فإن القواعد يجب أن تكون أقوى القواعد وأمتنها بحيث لا يأتيها الباطل من بين أيديها ومن خلفها، وبحيث تتحمل ثقل هذا الحمل الهائل.

والقواعد بنص الصديقة الطاهرة ههنا هم خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحق، وهم علي (عليه السلام) وأبناؤه الطاهرون: الحسن المجتبى (عليه السلام)، ثم الحسين سيد الشهداء (عليه السلام)، ثم علي السجاد (عليه السلام)، ثم محمد الباقر (عليه السلام)، ثم جعفر الصادق (عليه السلام)، ثم موسى الكاظم (عليه السلام)، ثم علي الرضا (عليه السلام)، ثم محمد الجواد (عليه السلام)، ثم علي الهادي (عليه السلام)، ثم الحسن العسكري (عليه السلام) ثم المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ص: 165


1- أي بعبارة الزحزحة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة.

..............................

وكما أن قاعدة البيت تسبب بقاءه، كذلك النبوة تحتاج إلى القاعدة التي تمنحها البقاء والاستمرارية. وعلى هذا فحامل النبوة هو محمد المصطفى وهو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وقواعده هم أهل بيته الأطهار (عليه الصلاة والسلام).

ومن هنا يتبين عمق إجرام أولئك الأشرار حيث حاولوا زعزعة تلك القواعد التي أرسى الله دعائم النبوة عليها، وهي البيوت التي قال عنها تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ»(1)، وقال: «رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(2).

رواسي الرسالة

مسألة: وكما اقتضت حكمة الله أن تكون للسفينة مرساة أو مراسٍ(3)، تحفظها من الأمواج الهادرة والتيارات الهائلة، كذلك اقتضت حكمته أن تكون للرسالة مراس كالجبال الشامخات تحفظها، عن الأعداء والغارات والأخطار.وبعبارة أخرى: كما أن الجبال الشامخات رواسٍ للأرض تحفظها عن الاضطراب والتزحزح، وعن أن تموج بأهلها وتسيح بهم.

قال تعالى: «وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا»(4)، كذلك هؤلاء الأئمة الأطهار (عليهم

ص: 166


1- سورة النور: 36.
2- سورة هود: 73.
3- وهي ما تسمى بأنجر أو أنكر معربة (لنكَر) بالفارسية.
4- سورة النبأ: 7.

..............................

السلام) كانوا رواسي شامخات في عالم النبوة والرسالة والولاية.

وهذا وجه من وجوه قوله (صلى الله عليه وآله): «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ»(1).

ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»(2).

والحديث في هذا الجانب طويل يترك لمظانه.

مسألة: يلزم للرسالة أن تكون ذاترواس، فكما «إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا»(3) بأسباب قررها(4) هو جل وتعالى لحكمته البالغة، التي اقتضت أن يجعل الكون مبنياً على الأسباب والمسببات، كذلك بالنسبة إلى الرسالة.

قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(5)، وذلك بأسباب قررها هو جل وعلا، فقرر أن تكون للرسالة (رواسي) كما قرر أن

ص: 167


1- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج2 ص127، باب تاريخ الإمام الحسين وفضله، فصل في فضائل الإمام الحسين ومناقبه.
2- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج1 ص233، باب تاريخ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كلامه (عليه السلام) في أهل البدع والقول بالرأي ومخالفة الحق.
3- سورة فاطر: 41.
4- مثلاً القوة الطاردة والجاذبة نحو المركز.
5- سورة الحجر: 9.

..............................

تكون للنبوة (قواعد)، وقرر أن تكون لبيته الحرام (قواعد): «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ»(1).

الإمامة استمرار للنبوة

مسألة: الخلافة والإمامة هي استمرار للنبوة والرسالة، وعلة مبقية لها، وبها تصل الرسالة لعلتها الغائية.

رُوِيَ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) مَرَّ يَوْماًفِي أَزِقَّةِ الْكُوفَةِ، فَانْتَهَى إِلَى رَجُلٍ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَلَمْ يَرْضَ بِقَولِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ فَحُمِلَ إِلَى قَبْرِهِ. فَلَمَّا دُفِنَ جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَعَ جَمَاعَةٍ إِلَى قَبْرِهِ، فَدَعَا اللهَ ثُمَّ رَفَسَهُ بِرِجْلِهِ، فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: الرَّادُّ عَلَى عَلِيٍّ كَالرَّادِّ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ. وَقَالَ لَهُ: عُدْ فِي قَبْرِكَ. فَعَادَ فِيهِ فَانْطَبَقَ الْقَبْرُ عَلَيْهِ»(2).

وعن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - أَنَّهُ قَالَ لِلزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّ الأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ - قَالَ: «إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً صَانِعاً مُتَعَالِياً عَنَّا، وَعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ وَلاَ يُلاَمِسُوهُ، فَيُبَاشِرَهُمْ وَيُبَاشِرُوهُ، وَيُحَاجَّهُمْ وَيُحَاجُّوهُ، ثَبَتَ أَنَّ

ص: 168


1- سورة البقرة: 127.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص174، الباب الثاني في معجزات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ح6.

..............................

لَهُ سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ، يُعَبِّرُونَ عَنْهُ إِلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَا بِهِ بَقَاؤُهُمْ، وَفِي تَرْكِهِ فَنَاؤُهُمْ. فَثَبَتَ الآمِرُونَ وَالنَّاهُونَ عَنِالْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فِي خَلْقِهِ، وَالْمُعَبِّرُونَ عَنْهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام) وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، حُكَمَاءَ مُؤَدَّبِينَ بِالْحِكْمَةِ، مَبْعُوثِينَ بِهَا، غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّرْكِيبِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِالْحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وَزَمَانٍ، مِمَّا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَ الْبَرَاهِينِ؛ لِكَيْلاَ تَخْلُوَ أَرْضُ اللهِ مِنْ حُجَّةٍ، يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ»(1).

وعن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ اللهَ أَجَلُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ، بَلِ الْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِاللهِ.

قال (عليه السلام): «صَدَقْتَ».

قلت: إِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبّاً، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّبِّ رِضًا وَسَخَطاً، وَأَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ رِضَاهُ وَسَخَطُهُ إِلاَّ بِوَحْيٍ أَوْ رَسُولٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِهِ الْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الرُّسُلَ، فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ الْحُجَّةُ، وَأَنَّ لَهُمُ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ.

وقلت للناس: تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ مِنَ اللهِ عَلَىخَلْقِهِ.

قالوا: بَلَى.

ص: 169


1- الكافي: ج1 ص168، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح1.

..............................

قلت: فَحِينَ مَضَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ كَانَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ؟.

فقالوا: الْقُرْآنُ.

فَنَظَرْتُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ الْمُرْجِئُ وَالْقَدَرِيُّ وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لاَ يَكُونُ حُجَّةً إِلاَّ بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقّاً.

فقلت لهم: مَنْ قَيِّمُ الْقُرْآنِ؟.

فقالوا: ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ، وَعُمَرُ يَعْلَمُ، وَحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ.

قلت: كُلَّهُ؟.

قالوا: لاَ.

فَلَمْ أَجِدْ أَحَداً يُقَالُ إِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلاَّ عَلِيّاً (عليه السلام)، وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَوْمِ. فَقَالَ: هَذَا لاَ أَدْرِي، وَقَالَ: هَذَا لاَ أَدْرِي، وَقَالَ: هَذَا لاَ أَدْرِي، وَقَالَ: هَذَا أَنَا أَدْرِي. فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ قَيِّمَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً، وَكَانَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَنَّ مَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ.فقال (عليه السلام): «رَحِمَكَ اللهُ»(1).

وعن يونس بن يعقوب، قال: كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ،

ص: 170


1- الكافي: ج1 ص168-169، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح2.

..............................

وَالطَّيَّارُ، وَجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ شَابٌّ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا هِشَامُ، أَ لاَ تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَكَيْفَ سَأَلْتَهُ؟».

فقال هشام: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُجِلُّكَ وَأَسْتَحْيِيكَ، وَلاَ يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا».

قال هشام: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَجُلُوسُهُ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ وَدَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وَشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا،وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ.

فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ، إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ.

فقال لي: نَعَمْ.

فقلت له: أَ لَكَ عَيْنٌ؟.

فقال: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وَشَيْءٌ تَرَاهُ كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْهُ!.

فقلت: هَكَذَا مَسْأَلَتِي.

فقال: يَا بُنَيَّ، سَلْ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ.

قلت: أَجِبْنِي فِيهَا.

قال لي: سَلْ.

ص: 171

..............................

قلت: أَ لَكَ عَيْنٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟.

قال: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ وَالأَشْخَاصَ.

قلت: فَلَكَ أَنْفٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟.

قال: أَشَمُّ بِهِ الرَّائِحَةَ.

قلت: أَ لَكَ فَمٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟.قال: أَذُوقُ بِهِ الطَّعْمَ.

قلت: فَلَكَ أُذُنٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟.

قال: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قلت: أَ لَكَ قَلْبٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟.

ص: 172

..............................

قال: أُمَيِّزُ بِهِ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْحَوَاسِّ.

قلت: أَ وَ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟.

فقال: لاَ.

قلت: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟.

قال: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْهُ، أَوْ رَأَتْهُ، أَوْ ذَاقَتْهُ، أَوْ سَمِعَتْهُ، رَدَّتْهُ إِلَى الْقَلْبِ، فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ، وَيُبْطِلُ الشَّكَّ.

قال هشام: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّمَا أَقَامَ اللهُ الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: لاَبُدَّ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِلاَّ لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟.

قال: نَعَمْ.

فقلت له: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَاللهُ تَبَارَكَوَتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً، يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ، وَيَتَيَقَّنُ بِهِ مَا شُكَّ فِيهِ، وَيَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وَشَكِّهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ، لاَ يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً، يَرُدُّونَ إِلَيْهِ شَكَّهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ، وَيُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ، تَرُدُّ إِلَيْهِ حَيْرَتَكَ وَشَكَّكَ؟.

قال: فَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟.

فقلت: لاَ.

قال: أَ مِنْ جُلَسَائِهِ؟.

قلت: لاَ.

ص: 173

..............................

قال: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟.

قال: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.

قال: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ.

ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْهِ، وَأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِهِ، وَزَالَ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَمَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قال: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، وَقَالَ: «يَا هِشَامُ، مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟».

قلت: شَيْءٌ أَخَذْتُهُ مِنْكَ وَأَلَّفْتُهُ. فقال (عليه السلام): «هَذَا وَاللهِ مَكْتُوبٌ فِي «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(1)»(2).

الفقهاء المراجع

مسألة: يجب تأييد ومساندة الفقهاء المراجع الذين اجتمعت فيهم الشروط الشرعية، فإنهم الوكلاء - بالوكالة والنيابة العامة - لخلفاء الرسول والأئمة المعصومين (عليهم السلام) على استمرارية منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلى تحقق العلة الغائية للرسالة، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): «الراد عليهم كالراد علينا، والراد علينا كالراد على الله».

ص: 174


1- سورة الأعلى: 19.
2- الكافي: ج1 ص169- 171، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح3.

..............................

عن عمر بن حنظلة، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وَإِلَى الْقُضَاةِ، أَيَحِلُّ ذَلِكَ؟.

قَالَ (عليه السلام): «مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً، وَإِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً؛ لأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْأُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» (1) ».

قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟.

قَالَ (عليه السلام): «يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ، مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، وَنَظَرَ فِي حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللهِ وَعَلَيْنَا رَدَّ، وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللهِ، وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللهِ»(2).

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاَهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ»(3).

ص: 175


1- سورة النساء: 60.
2- الكافي: ج1 ص67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح10.
3- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص300، سورة البقرة: الآيات 78 إلى 79.

..............................

وعن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رَجُلٌ رَاوِيَةٌ لِحَدِيثِكُمْ - إلى أن قال - فقال (عليه السلام): «الرَّاوِيَةُ لِحَدِيثِنَا يَشُدُّ بِهِ قُلُوبَشِيعَتِنَا، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ»(1).

وعن أبي خديجة، قال: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى أَصْحَابِنَا, فَقَالَ: «قُلْ لَهُمْ: إِيَّاكُمْ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَكُمْ خُصُومَةٌ، أَوْ تَدَارَى فِي شَيْءٍ مِنَ الأَخْذِ وَ الْعَطَاءِ، أَنْ تَحَاكَمُوا إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ الْفُسَّاقِ. اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ رَجُلاَ قَدْ عَرَفَ حَلاَلَنَا وَحَرَامَنَا؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ قَاضِياً، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يُخَاصِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ»(2).

ص: 176


1- وسائل الشيعة: ج27 ص137، كتاب القضاء، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33417.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص139، كتاب القضاء، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33421.

وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ

اشارة

-------------------------------------------

بيت الزهراء (عليها السلام) مهبط الوحي

(مهبط) هنا اسم مكان، والمراد به هنا بيت علي وفاطمة (صلوات الله عليهما)، وذلك باعتبار كثرة تواجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه حين نزول الوحي، فكان جبرئيل يهبط على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) في الكثير من الأحيان.

وبعبارة أخرى: كان منزلهما هو المكان المفضل لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما تدل على ذلك التواريخ والروايات. وهذا دليل على شدة العلاقة التي كانت تربط رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلي وفاطمة (عليهما السلام).

ثم إن بيتهما - الذي أحرقت بابه، وهاجمه أولئك الطغاة الظلمة - هو نفس ذلك البيت الذي كان جبرائيل (عليه السلام) يكثر النزول فيه على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن بيت علي وفاطمة وأهل البيت (عليهم السلام)، كان مهبط الروح الأمين (عليه السلام). قال تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِالصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»(1).

ص: 177


1- سورة النور: 36 - 37.

..............................

ارتباط الأوصياء بالسماء

مسألة: يجب أن يكون خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرتبطاً بالسماء.

وارتباطه على أنحاء متعددة، منها كما في الروايات:

عمود النور، والنكت في القلب، والنقر في الأذن، وسماع الصوت - أي صوت جبرائيل - دون رؤيته شخصاً، وربما مع رؤيته، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط هو الذي يرى رسول الوحي جبرائيل (عليه السلام) بما هو رسول الوحي(1).

ومنها أيضاً: اللعاب المبارك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو الإمام السابق بالنسبة للاحقه، حيث إن مص لسانه (صلى الله عليه وآله) سبب لنقل ما لا يتصور من العلوم إلى الوصي (عليه السلام).. ولذلك تفصيل يطلب من محله.ومنها: العلم اللدني بإفاضة الباري عز وجل، وقد تكون هناك طرق أخرى للارتباط بالسماء.

ص: 178


1- أي بما أنه ينزل الوحي فإنه ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقط، أما نزوله ورؤيته لا للوحي القرآني فلا مانع منه للأولياء (عليهم السلام).

..............................

منزلة جبرائيل (عليه السلام)

مسألة: يجب الاعتقاد بأن جبرئيل (عليه السلام) أمين على الوحي.

مسألة: يحرم الاعتقاد أو القول بكون جبرئيل (عليه السلام) عدواً، كما قالته اليهود.

قال تعالى: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنينَ»(1).

وقال سبحانه: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ»(2).

قال الطوسي (رحمه الله): (رُوِيَ أَنَّ ابْنَ صُورِيَا وَجَمَاعَةً مِنْ يَهُودِ فَدَكَ، أَتَوُا النَّبِيَّ (صلى

الله عليه وآله)، فَسَأَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ فَأَجَابَهُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ صُورِيَا: خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ إِنْ قُلْتَهَا آمَنْتُ بِكَ وَاتَّبَعْتُكَ، أَيُّ مَلَكٍ يَأْتِيكَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ؟. قَالَ: فَقَالَ: جَبْرَئِيلُ. قَالَ: ذَلِكَ عَدُوُّنَا، وَيَنْزِلُ بِالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ وَالْحَرْبِ، وَمِيكَائِيلُ يَنْزِلُ بِالْيُسْرِ وَالرَّخَاءِ، فَلَوْكَانَ مِيكَائِيلُ هُوَ الَّذِي يَأْتِيكَ لآمَنَّا بِكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ»)(3).

ص: 179


1- سورة البقرة: 97.
2- سورة البقرة: 98.
3- بحار الأنوار: ج56 ص148، تتمة كتاب السماء والعالم، الباب23 من أبواب الملائكة.

..............................

اتهامات وافتراءات

مسألة: من أشد التهم ومن أكبر المحرمات، الإتهامات الحاقدة على شيعة العترة الطاهرة (عليهم السلام)، بأنهم يقولون بخيانة جبرئيل (عليه السلام) في نزول الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث اتُهِمُوا بأنهم قالوا: كان قد قرر الله أن ينزل جبرئيل على علي (عليه السلام) بالنبوة، لكنه خان ونزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)! فإنه بهتان عظيم، وسيعلم هؤلاء الظالمون المتهمون أي منقلب ينقلبون.

مسألة: يلزم السعي لدفع مختلف التهم المغرضة عن كل مظلوم، وخاصة ما يرتبط بالعقيدة الصحيحة، كما في أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وإيضاح الصورة المشرقة لهم لمختلف الناس؛ فإنه من طرق الهداية.

مسألة: يحرم إنكار أن جبرئيل (عليه السلام) كان هو وسيط الوحي بين الله تعالى وبين رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله).

عن حذيفة بن اليمان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في حديث - أنه قال: «إن الله عز وجل اختارنا: أنا، وعلياً، وحمزة، وجعفر، يوم بعثني برسالته، وكنت نائماً بالأبطح، وعليٌ نائم عن يميني، وحمزة عن يساري، وجعفر عند رجلي، فما انتبهت إلاّ بحفيف أجنحة الملائكة، فنظرت فاذا أربعة من الملائكة، وأحدهم يقول لصاحبه: يا جبرائيل، إلى أي الأربعة أُرسلت؟. فرفسني برجله وقال: إلى هذا.

ص: 180

..............................

قال: ومن هذا؟.

قال: محمد سيد المرسلين.

قال: ومن هذا عن يمينه؟.

قال: علي سيد الوصيين.

قال: ومن هذا عن يساره؟.

قال: حمزة سيد الشهداء.

قال: ومن هذا عند رجليه؟.

قال: جعفر الطيار في الجنة»(1).

ص: 181


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج1 ص120، علي (عليه السلام) أمير المؤمنين والوصي والخليفة، ح46.

وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ

اشارة

-------------------------------------------

المعصوم هو الفطن الحاذق

الطبين: هو الفطن الحاذق، وطَبَن وطَبِن أي فطن.

مسألة: يجب الاعتقاد بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان هو الفطن الحاذق بأمور الدنيا والدين، بل كان هو الطبين والفطن والعالم والعارف الأول بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون العالمين.

فإن ذلك هو مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ والحكمة فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا»(1).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ»(2).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «أَعْلَمُكُمْعَلِيُّ»(3).

إلى غيرها من متواتر الروايات الدالة على أنه (عليه السلام) كان خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومستودع علمه، والمنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن كونه بديهياً لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شيهد، وذلك يعترف به كل مسلم، سنياً كان أم شيعياً، باستثناء بعض النواصب،

ص: 182


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1 ص233، باب23 ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة و الأمة، ح1.
2- بحار الأنوار: ج40 ص87، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب91 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه).
3- الكافي: ج7 ص424، كتاب القضاء والأحكام، باب النوادر، ح6.

..............................

وذلك - إلى جانب سائر الصفات والمواصفات - هو السبب في أن الله جعله خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

لا تقديم على المعصوم

مسألة: يحرم تفضيل الآخرين على الإمام علي (عليه السلام) من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل ذلك من أكبر الكبائر، وتفضيل غيره عليه سواء كان علماً أم حكماً أم إعلاماً أم تصدياً لأمور الخلافة أم غيرها، فإنه (عليه السلام) الأفضل علىالإطلاق من بعد النبي (صلى الله عليه وآله).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - وهو يتحدث عن مناقبه التي لم يشركه فيها أحد: «وَأَمَّا السَّابِعَةُ وَالثَّلاَثُونَ: فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ خَصَّنِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) بِعِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَذَلِكَ مِمَّا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ وَعَلَى رَسُولِهِ. وَقَالَ لِيَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُدْنِيَكَ وَلاَ أُقْصِيَكَ، وَأُعَلِّمَكَ وَلاَ أَجْفُوَكَ، وَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أُطِيعَ رَبِّي، وَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَعِيَ»(1).

وعن فطر بن خليفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يَقُولُ: كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) يَقُوُ: (لَقَد كَاَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب (عليه السلام) مِنَ

ص: 183


1- الخصال: ج2 ص576، أبواب السبعين و ما فوقه، لأمير المؤمنين (عليه السلام) سبعون منقبة لم يشركه فيها أحد من الأئمة، ح1.

..............................

السَّوَابِقِ مَا لَوْ أَنَّ سَابِقَةً مِنْهَا قُسِمَتْ بَيْنَ الْخَلاَئِقِ لأَوْسَعَتْهُمْ خَيْراً)(1).وعن ابن عباس، قال: (دَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَقَدَّمُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؛ لأَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُمْ)(2).

الدين والدنيا معاً

مسألة: يلزم الاهتمام بأمور الدنيا والدين معاً، فإن الله أراد من الإنسان أن يهتم بكلا الجانبين، فلا يجوز إهمال شؤون الدنيا، ولذا كان تعلم الصناعات والعلوم واجباً كفائياً، كما لا يجوز إهمال شؤون الآخرة، فإن ذلك هو الخسران المبين.

قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(3).

ومن يقتصر على شؤون الدنيا دون الآخرة، أو العكس، مثله كمثل طائر يريد الطيران بجناح واحد، أو طائرة تطير بجناح واحد، فلابد أن تسقط وتتحطم، فمن ينكمش عن السياسة الصحيحة، والاقتصاد الإسلامي، وسائر

ص: 184


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص28، ف1، قول أحمد بن حنبل البغدادي، ح10.
2- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص33، ف2، ح16.
3- سورة البقرة: 201.

..............................

شؤون الحياة؛ فإنه ترك جانباً مهماً من مسؤولياته، إلا إذا لم يكن قادراً على الجمع.

ولذلك نجد أن القرآن الكريم مليء بشؤون الآخرة، كما هو مليء بشؤون الدنيا، حتى الشؤون الطبية والعسكرية، مثلاً:

قوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا»(1).

وقوله سبحانه: «وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ»(2).

ومن هنا ورد التأكيد على القرآن الكريم كما ورد ذلك في العترة الطاهرة (عليهم السلام). عن (كتاب الوصية) لأبي الضرير عيسى بن المستفاد من أصحاب الكاظم (عليه

السلام)، عنه (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام) - في حديث -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لِلأَنْصَارِ أَيَّامَ وَفَاتِهِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ إِلَيْهِمْ: «كِتَابَ اللهِ وَأَهْلَ بَيْتِي؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ الْحُجَّةُ وَالنُّورُ وَالْبُرْهَانُ، كَلاَمُ اللهِ غَضٌّ جَدِيدٌ طَرِيٌّ، شَاهِدٌ وَحَكَمٌ عَادِلٌ، قَائِدٌ بِحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ وَأَحْكَامِهِ، بَصِيرٌ بِهِ، قَاضٍ بِهِ، مَضْمُومٌفِيهِ، يَقُومُ غَداً فَيُحَاجُّ بِهِ أَقْوَاماً، فَتَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ»(3)، الخبر.

ص: 185


1- سورة الأعراف: 31.
2- سورة الأنفال: 60.
3- مستدرك الوسائل: ج4 ص237، تتمة كتاب الصلاة، الباب2 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4588.

..............................

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ، كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَلَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ، وَقَلْبٌ فِيهِ قُرْآنٌ وَإِيمَانٌ، وَقَلْبٌ فِيهِ قُرْآنٌ وَلَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ، وَقَلْبٌ لاَ قُرْآنَ فِيهِ وَلاَ إِيمَانَ. فَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ إِيمَانٌ وَلَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ، كَالثَّمَرَةِ طَيِّبٌ طَعْمُهَا لَيْسَ لَهَا رِيحٌ. وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ قُرْآنٌ وَلَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ، كَالأُشْنَةِ طَيِّبٌ رِيحُهَا خَبِيثٌ طَعْمُهَا. وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ إِيمَانٌ وَقُرْآنٌ، كَجِرَابِ الْمِسْكِ إِنْ فُتِحَ فُتِحَ طَيِّباً، وَإِنْ وَعَى وَعَى طَيِّباً. وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي لاَ قُرْآنَ فِيهِ وَلاَ إِيمَانَ، كَالْحَنْظَلَةِ خَبِيثٌ رِيحُهَا خَبِيثٌطَعْمُهَا»(2).

وعن معاذ بن جبل، قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي سَفَرٍ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنَا بِمَا لَنَا فِيهِ نَفْعٌ؟.

فقال (صلى الله عليه وآله): «إِنْ أَرَدْتُمْ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ، وَالنَّجَاةَ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَالظِّلَّ يَوْمَ الْحَرُورِ، وَالْهُدَى يَوْمَ الضَّلالَةِ، فَادْرُسُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ كَلاَمُ الرَّحْمَنِ، وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُجْحَانٌ فِي الْمِيزَانِ»(3).

ص: 186


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص237، تتمة كتاب الصلاة، الباب2 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4589.
2- مستدرك الوسائل: ج4 ص231 - 232، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4568.
3- مستدرك الوسائل: ج4 ص232، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4570.

..............................

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، وَتَعَلَّمُوا غَرَائِبَهُ، وَغَرَائِبُهُ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ وُجُوهٍ: حَلاَلٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ. فَاعْمَلُوا بِالْحَلاَلِ وَدَعُوا الْحَرَامَ، وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ وَدَعُوا الْمُتَشَابِهَ، وَاعْتَبِرُوابِالأَمْثَالِ»(1).

المؤمن فطن حاذق

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان فطناً حاذقاً في شؤون وأمور الدنيا، بل يجب في بعضها مما يحتاجه المجتمع، أو يتوقف عليه عز الإسلام كالسياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية...

وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمن اعترض عليه عند ما وجده (عليه السلام) يماكس حين شرائه البضاعة: «إِنَّ الْمَغْبُونَ لاَ مَحْمُودٌ وَلاَ مَأْجُورٌ»(2)، ومحمود يشير إلى الدنيا، أو عند الناس، و(مأجور) يشير إلى الآخرة أو عند الله تعالى.

إعداد الخبراء

مسألة: يجب أن تهتم الدولة الإسلامية والمنظمات الدينية والعلماء والشخصيات، بإعداد سيل من الخبراء في أمور الدنيا والدين، بحيث يكون

ص: 187


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص234، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4575.
2- الكافي: ج4 ص496، كتاب الحج، باب البدنة والبقرة عن كم تجزئ، ح3.

..............................

للمسلمين العدد الوافي من الخبراء الحاذقين الفطنين في الفقه والعقائد والكلام والأصول، كما في الفلك والرياضيات والسياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق وغيرها.

وبذلك يحكم العقل والنقل، وفي ذلك عزة الأمة والإسلام والمسلمين.

ولو أن الناس كانوا سلموا زمام الأمور للإمام علي (عليه السلام) الطبين بأمور الدنيا والدين، كما قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، لسعدوا في الدنيا وفازوا أكبر الفوز في الآخرة.

قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(1).

وقال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ قَطُّ أَمْرَهَا رَجُلاً وَفِيهِمْ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّىيَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا، فَمَا الْوِلايَةُ غَيْرَ الإِمَارَةِ عَلَى الأُمَّةِ»(3).

ص: 188


1- سورة المائدة: 65.
2- سورة الأعراف: 96.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص651، الحديث الحادي عشر.

..............................

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «من تولى شيئاً من أمور المسلمين، فولى رجلاً شيئاً من أمورهم وهو يعلم مكان رجل هو أعلم منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»(1).

وعن ابن عباس، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، وَهُوَ الإِمَامُ وَالْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَازَ وَنَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ضَلَّ وَغَوَى»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنِّي لأَعْلَمُ بِالتَّوْرَاةِ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ بِالإِنْجِيلِ مِنْ أَهْلِ الإِنْجِيلِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُبِالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ»(3).

وفي الشورى قال ابن الخطاب لابنه عبد الله: «إِنْ بَايَعُوا أَصْلَعَ بَنِي هَاشِمٍ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَقَامَهُمْ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ»(4).

ص: 189


1- التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة: ص59، الفصل السادس في أغلاطهم في علم الإمام.
2- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص20 - 21، باب ما جاء عن عبد الله بن العباس.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص942، الحديث الثامن والسبعون.
4- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص652، الحديث الحادي عشر.

..............................

المسائل التي يبتلى بها

مسألة: يجب الاهتمام بأمور الدين في المبتلى به، أما غير المبتلى به فيستحب، وقد يجب إذا كان لتعليم الغير أو حفظ الشريعة وما أشبه، في صورة التوقف عليه مثلاً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثَلاَثٌ بِهِنَّ يَكْمُلُ الْمُسْلِمُ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ»(1).

وقال (عليه السلام): «لاَ يَذُوقُ الْمَرْءُ مِنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ، حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَحُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي الْمَعَاشِ»(2).

وعن سفيان بن عيينة، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي أَرْبَعٍ: أَوَّلُهَا أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ،وَالثَّالِثَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ»(3).

ص: 190


1- بحار الأنوار: ج1 ص210، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح3.
2- بحار الأنوار: ج1 ص210، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح4.
3- بحار الأنوار: ج1 ص212، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح6.

..............................

وعن إسحاق بن عمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَيْتَ السِّيَاطَ عَلَى رُؤوسِ أَصْحَابِي حَتَّى يَتَفَقَّهُوا فِي الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «حَدِيثٌ فِي حَلاَلٍ وَحَرَامٍ تَأْخُذُهُ مِنْ صَادِقٍ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «تَفَقَّهُوا فِي الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ؛ وَإِلاّ فَأَنْتُمْ أَعْرَابٌ»(3).

الزمان والاهتمام الأكبر بالدين

مسألة: أمور الدين الواجب الاهتمام بها في هذا الزمان قد تكون أوسع دائرة من بعض الأزمان السابقة، فالواجب الاهتمام بها أجمع، ومن أسباب الأوسعية: تجدد موضوعات كثيرة، أو تجدد تأثير موضوعات صرفة على جوانب دينية، أو التطور العلمي والصناعي، أو غير ذلك، فلابد للإنسان من تقسيم أوقاته بشكل يفي بمسؤولياته.

ص: 191


1- بحار الأنوار: ج1 ص213، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح12.
2- بحار الأنوار: ج1 ص214، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح13.
3- بحار الأنوار: ج1 ص214، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح14.

..............................

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لِدِينِهِ وَدِينَهُ لِدُنْيَاهُ»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «اجْتَهِدُوا أَنْ يَكُونَ زَمَانُكُمْ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ: سَاعَةً مِنْهُ لِمُنَاجَاتِهِ، وَسَاعَةً لأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَسَاعَةً لِمُعَاشَرَةِ الإِخْوَانِ الثِّقَاتِ وَالَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ وَيَخْلُصُونَ لَكُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَسَاعَةً تَخْلُونَ فِيهَا لِلَذَّاتِكُمْ، وَبِهَذِهِ السَّاعَةِ تَقْدِرُونَ عَلَىالثَّلاَثِ السَّاعَاتِ»(2).

التفقه في الدين

مسألة: يستحب وقد يجب إن يكون الإنسان حاذقاً فطناً في أمور الدين. ومن مصاديق ذلك أن يعرف الإنسان المداخل والمخارج الشرعية، والعلاج الشرعي للمسائل التي هي مورد الابتلاء، كالرباء وغيره.

من صفات القائد

مسألة: يجب أن يكون القائد - بصورة عامة - عارفاً بأمور الدنيا والدين، والمراد بالمعرفة: معرفته بشخصه بالمقدار المحتاج إليه، ومعرفته ولو بواسطة المستشارين فيما لا يتوقف إدارة البلاد على معرفته المباشرة، بل يكتفي بقدرته ولو عبر المستشارين على التشخيص الصحيح والإدارة التامة.

ص: 192


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص337، باب89 حق النفوس.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص337، باب89 حق النفوس.

..............................

نعم، دلت الأدلة الكثيرة على اشتراط الأعلمية المطلقة، والأفضليةالمطلقة في خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما دلت الأدلة على اشتراط الاجتهاد إلى جانب سائر الشروط في حاكم الدولة الإسلامية في غياب المعصوم (عليه السلام).

أما ما عدا ذلك فلا دليل عليه، فيكتفى بالاجتهاد مثلاً في الحاكم زمن الغيبة مع المقدرة على الإدارة بواسطة المستشارين الأكفاء.

من شروط الإمامة

مسألة: يجب أن يكون الخليفة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عارفاً بأمور الدنيا والدين، وذلك لأنه الحجة من الله على الخلق في البعدين، ولأنه الوسيط لكليهما، فلابد من المعرفة الكاملة وإلاّ دل على العجز أو الجهل أو الظلم أو عدم الحكمة، تعالى عنه ذلك علوا كبيراً.

وأما من غصب الخلافة، فكان من الواضح جهلهم حتى بكثير من الأوليات، قال: (كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتُ فِي الْبُيُوتِ)(1).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ، الْبَخِيلُ؛ فَتَكُونَ فِي

ص: 193


1- راجع بحار الأنوار: ج30 ص655، الباب23من تتمة كتاب الفتن و المحن، السادس، وفيه: (وَقَالَ - عمر - : مَنْ غَالَى فِي مَهْرِ ابْنَتِهِ أَجْعَلْهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِشُبْهَةِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) زَوَّجَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ وَنَبَّهَتْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطًاَرًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا» - سورة النساء: 20- عَلَى جَوَازِ الْمُغَالاَةِ. فَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتِ فِي الْبُيُوتِ).

..............................

أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ. وَلاَ الْجَاهِلُ؛ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ. وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ. وَلاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ؛ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ. وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ؛ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ. وَلاَ الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ؛ فَيُهْلِكَ الأُمَّة»(1).

وعن عبد العزيز بن مسلم، قال: كُنَّا مَعَ الرِّضَا (عليه

السلام) بِمَرْوَ، فَاجْتَمَعْنَا فِي الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَدْءِ مَقْدَمِنَا، فَأَدَارُوا أَمْرَ الإِمَامَةِ، وَذَكَرُوا كَثْرَةَ اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِيهَا. فَدَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي (عليه السلام) فَأَعْلَمْتُهُ خَوْضَ النَّاسِ فِيهِ، فَتَبَسَّمَ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ: «يَا عَبْدَالْعَزِيزِ، جَهِلَ الْقَوْمُ وَخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيهِ الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ، وَالْحُدُودَ وَالأَحْكَامَ، وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ كَمَلاً، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، وَ أَنْزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - وَهِيَ آخِرُ عُمُرِهِ (صلى الله عليه وآله) -: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلًامَ دِينًا»(3)، وَأَمْرُ الإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ، وَلَمْ يَمْضِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى بَيَّنَ لأُمَّتِهِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَأَقَاَ لَهُمْ عَلِيّاً (عليه السلام) عَلَماً وَإِمَاماً، وَمَا تَرَكَ لَهُمْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ

ص: 194


1- نهج البلاغة: باب الخطب والرسائل: 131-ومن كلام له (عليه السلام)، وفيه يبين سبب طلبه الحكم، ويصف الإمام الحق.
2- سورة الأنعام: 38.
3- سورة المائدة: 3.

..............................

الأُمَّةُ إِلاَّ بَيَّنَهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ، فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ، وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ.

هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ. إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً، مِنْأَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ.

إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَالْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا، وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا». فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي». قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(1).

فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ، فَقَالَ: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صالِحينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»(2).

فَلَمْ تَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ، يَرِثُهَا بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ، قَرْناً فَقَرْناً، حَتَّى وَرَّثَهَا اللهُ تَعَالَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ جَلَّ وَتَعَالَى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ

ص: 195


1- سورة البقرة: 124.
2- سورة الأنبياء: 72 - 73.

..............................

لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمؤْمِنِينَ»(1).فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، فَقَلَّدَهَا (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَسْمِ مَا فَرَضَ اللهُ، فَصَارَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِ الأَصْفِيَاءِ، الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ»(2). فَهِيَ فِي وُلْدِ عَلِيٍّ (عليه السلام) خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِذْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلاَءِ الْجُهَّالُ.

إِنَّ الإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِرْثُ الأَوْصِيَاءِ. إِنَّ الإِمَامَةَ خِلاَفَةُ اللهِ، وَخِلاَفَةُ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)، وَمَقَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَمِيرَاثُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام).

إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ الدُّنْيَا وَعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلاَمِ النَّامِي، وَفَرْعُهُ السَّامِي. بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَتَوْفِيرُ الْفَيْءِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَإِمْضَاءُ الْحُدُودِ وَالأَحْكَامِ، وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالأَطْرَافِ.

الإِمَامُ يُحِلُّ حَلاَلَ اللهِ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللهِ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ. الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ، الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَالِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الأُفُقِ، بِحَيْثُ لاَتَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ. الإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ،وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ

ص: 196


1- سورة آل عمران: 68.
2- سورة الروم: 56.

..............................

الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى، وَأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ وَالْقِفَارِ، وَلُجَجِ الْبِحَارِ.

الإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَأِ، وَالدَّالُّ عَلَى الْهُدَى، وَالْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى. الإِمَامُ النَّارُ عَلَى الْيَفَاعِ الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَى بِهِ، وَالدَّلِيلُ فِي الْمَهَالِكِ، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ. الإِمَامُ السَّحَابُ الْمَاطِرُ، وَالْغَيْثُ الْهَاطِلُ، وَالشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ، وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، وَالأَرْضُ الْبَسِيطَةُ، وَالْعَيْنُ الْغَزِيرَةُ، وَالْغَدِيرُ وَالرَّوْضَةُ.

الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَالأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ. الإِمَامُ أَمِينُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَالدَّاعِي إِلَى اللهِ، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللهِ.

الإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ، الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الْكَافِرِينَ. الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ، لاَ يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلاَيُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلاَ يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلاَ لَهُ مِثْلٌ وَلاَ نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ، مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ لَهُ وَلاَ اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ، أَوْ يُمْكِنُهُ اخْتِيَارُهُ.

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْحُلُومُ، وَحَارَتِ الأَلْبَابُ، وَخَسَأَتِ الْعُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ، وَتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ، وَحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ، وَجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ، وَعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ، أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ.

ص: 197

..............................

وَكَيْفَ يُوصَفُ بِكُلِّهِ، أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِهِ، أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيُغْنِي غِنَاهُ. لاَ كَيْفَ وَأَنَّى وَهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمُ مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِينَ، وَوَصْفِ الْوَاصِفِينَ، فَأَيْنَ الاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا، وَأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا، وَأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا.

أَ تَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، كَذَبَتْهُمْ وَاللهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَنَّتْهُمُ الأَبَاطِيلَ، فَارْتَقَوْا مُرْتَقًى صَعْباً دَحْضاً، تَزِلُّ عَنْهُ إِلَى الْحَضِيضِ أَقْدَامُهُمْ. رَامُوا إِقَامَةَ الإِمَامِ بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ بَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ، وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْيَزْدَادُوا مِنْهُ إِلاَّ بُعْداً «قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(1).

وَلَقَدْ رَامُوا صَعْباً، وَقَالُوا إِفْكاً، وَ«ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا»(2)، وَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ، إِذْ تَرَكُوا الإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ، «وَزَيَّنَ لَهمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ»(3). رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللهِ، وَاخْتِيَارِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمُ الْخيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(4)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَاكَانَ لِمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ

ص: 198


1- سورة التوبة: 30.
2- سورة النساء: 167.
3- سورة العنكبوت: 38.
4- سورة القصص: 68.

..............................

لَهمُ الْخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1) الآيَةَ، وَقَالَ: «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُواصَادِقِينَ»(2)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «أَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُها»(3)، أَمْ «طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ»(4)، أَمْ «قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»(5)، أَمْ «قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا»(6)، بَلْ هُوَ «فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(7).

فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ، وَالإِمَامُ عَالِمٌ لاَ يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لاَ يَنْكُلُ، مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّسُكِ وَالزَّهَادَةِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ

ص: 199


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة القلم: 36 - 41.
3- سورة محمد: 24.
4- سورة التوبة: 93.
5- سورة الأنفال: 21 - 23.
6- سورة البقرة: 93.
7- سورة الجمعة: 4.

..............................

الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)، وَنَسْلِ الْمُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ، لاَ مَغْمَزَ فِيهِ فِي نَسَبٍ، وَلاَ يُدَانِيهِ ذُو حَسَبٍ، فِي الْبَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالذِّرْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ، وَالْعِتْرَةِ مِنَ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)، وَالرِّضَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،شَرَفُ الأَشْرَافِ، وَالْفَرْعُ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي الْعِلْمِ، كَامِلُ الْحِلْمِ، مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللهِ، حَافِظٌ لِدِينِ اللهِ.

إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ (صلوات الله عليهم أجمعين) يُوَفِّقُهُمُ اللهُ، وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ وَحِكَمِهِ مَا لاَ يُؤْتِيهِ غَيْرَهُمْ، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ الزَّمَانِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»(2)، وَقَوْلِهِ - فِي طَالُوتَ -: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(3)، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»(4)،

وَقَالَ فِي الأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ (صلى الله عليه وآله):

ص: 200


1- سورة يونس: 35.
2- سورة البقرة: 269.
3- سورة البقرة: 247.
4- سورة النساء: 113.

..............................

«أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا»(1).

وَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأُمُورِ عِبَادِهِ، شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلاَ يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ، فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ، مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ، قَدْ أَمِنَ مِنَ الْخَطَايَا وَالزَّلَلِ وَالْعِثَارِ، يَخُصُّهُ اللهُ بِذَلِكَ؛ لِيَكُونَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَ«ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(2).

فَهَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَيَخْتَارُونَهُ، أَوْ يَكُونُ مُخْتَارُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُقَدِّمُونَهُ، تَعَدَّوْا وَبَيْتِ اللهِ الْحَقَّ وَنَبَذُوا «كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(3)، وَفِي كِتَابِ اللهِ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ، فَنَبَذُوهُ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَذَمَّهُمُ اللهُ وَمَقَّتَهُمْ وَأَتْعَسَهُمْ، فَقَالَ جَلَّ وَتَعَالَى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ»(4)،

ص: 201


1- سورة النساء: 54 - 55.
2- سورة الجمعة: 4.
3- سورة البقرة: 101.
4- سورة القصص: 50.

..............................

وَقَالَ: «فَتَعْسًا لَهمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهمْ»(1)، وَقَالَ: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(2)، وَصَلَّى اللهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً»(3).

وعن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (عليه السلام) وصفاتهم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْضَحَ بِأَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ، وَأَبْلَجَ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ مِنْهَاجِهِ، وَفَتَحَ بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلْمِهِ، فَمَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَاجِبَ حَقِّ إِمَامِهِ، وَجَدَ طَعْمَ حَلاَوَةِ إِيمَانِهِ، وَعَلِمَ فَضْلَ طُلاَوَةِ إِسْلاَمِهِ؛ لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَصَبَ الإِمَامَ عَلَماً لِخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ مَوَادِّهِ وَعَالَمِهِ، وَأَلْبَسَهُ اللهُ تَاجَ الْوَقَارِ، وَغَشَّاهُ مِنْ نُورِ الْجَبَّارِ، يُمَدُّ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ، لاَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَوَادُّهُ، وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بِجِهَةِ أَسْبَابِهِ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِ.

فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ مُلْتَبِسَاتِ الدُّجَى، وَمُعَمَّيَاتِ السُّنَنِ، وَمُشَبِّهَاتِ الْفِتَنِ. فَلَمْ يَزَلِ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىيَخْتَارُهُمْ لِخَلْقِهِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُلِّ إِمَامٍ، يَصْطَفِيهِمْ لِذَلِكَ وَيَجْتَبِيهِمْ، وَيَرْضَى بِهِمْ لِخَلْقِهِ وَيَرْتَضِيهِمْ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ، نَصَبَ لِخَلْقِهِ مِنْ عَقِبِهِ إِمَاماً، عَلَماً بَيِّناً، وَهَادِياً نَيِّراً, وَإِمَاماً قَيِّماً, وَحُجَّةً عَالِماً، أَئِمَّةً مِنَ اللهِ «يَهْدُونَ بِالْحقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(4).

ص: 202


1- سورة محمد: 8.
2- سورة غافر: 35.
3- الكافي: ج1 ص198- 203، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.
4- سورة الأعراف: 181.

..............................

حُجَجُ اللهِ وَدُعَاتُهُ، وَرُعَاتُهُ عَلَى خَلْقِهِ، يَدِينُ بِهَدْيِهِمُ الْعِبَادُ، وَتَسْتَهِلُّ بِنُورِهِمُ الْبِلاَدُ، وَيَنْمُو بِبَرَكَتِهِمُ التِّلاَدُ. جَعَلَهُمُ اللهُ حَيَاةً لِلأَنَامِ، وَمَصَابِيحَ لِلظَّلاَمِ، وَمَفَاتِيحَ لِلْكَلاَمِ، وَدَعَائِمَ لِلإِسْلاَمِ، جَرَتْ بِذَلِكَ فِيهِمْ مَقَادِيرُ اللهِ عَلَى مَحْتُومِهَا.

فَالإِمَامُ هُوَ الْمُنْتَجَبُ الْمُرْتَضَى، وَالْهَادِي الْمُنْتَجَى، وَالْقَائِمُ الْمُرْتَجَى، اصْطَفَاهُ اللهُ بِذَلِكَ، وَاصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ، فِي الذَّرِّ حِينَ ذَرَأَهُ، وَفِي الْبَرِيَّةِ حِينَ بَرَأَهُ، ظِلاًّ قَبْلَ خَلْقِ نَسَمَةٍ عَنْ يَمِينِ عَرْشِهِ. مَحْبُوّاً بِالْحِكْمَةِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، اخْتَارَهُ بِعِلْمِه،ِ وَانْتَجَبَهُ لِطُهْرِهِ، بَقِيَّةً مِنْ آدَمَ (عليه السلام)، وَخِيَرَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَمُصْطَفًى مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلاَلَةً مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَصَفْوَةً مِنْ عِتْرَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله).لَمْ يَزَلْ مَرْعِيّاً بِعَيْنِ اللهِ، يَحْفَظُهُ وَيَكْلَؤُهُ بِسِتْرِهِ، مَطْرُوداً عَنْهُ حَبَائِلُ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، مَدْفُوعاً عَنْهُ وُقُوبُ الْغَوَاسِقِ، وَنُفُوثُ كُلِّ فَاسِقٍ، مَصْرُوفاً عَنْهُ قَوَارِفُ السُّوءِ، مُبْرَأً مِنَ الْعَاهَاتِ، مَحْجُوباً عَنِ الآفَاتِ، مَعْصُوماً مِنَ الزَّلاَّتِ، مَصُوناً عَنِ الْفَوَاحِشِ كُلِّهَا، مَعْرُوفاً بِالْحِلْمِ وَالْبِرِّ فِي يَفَاعِهِ، مَنْسُوباً إِلَى الْعَفَافِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، مُسْنَداً إِلَيْهِ أَمْرُ وَالِدِهِ، صَامِتاً عَنِ الْمَنْطِقِ فِي حَيَاتِهِ.

فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ وَالِدِهِ إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهِ مَقَادِيرُ اللهِ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَجَاءَتِ الإِرَادَةُ مِنَ اللهِ فِيهِ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَبَلَغَ مُنْتَهَى مُدَّةِ وَالِدِهِ (عليه السلام) فَمَضَى، وَصَارَ أَمْرُ اللهِ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَلَّدَهُ دِينَهُ، وَجَعَلَهُ الْحُجَّةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَيِّمَهُ فِي بِلاَدِهِ، وَأَيَّدَهُ بِرُوحِهِ، وَآتَاهُ عِلْمَهُ، وَأَنْبَأَهُ فَصْلَ بَيَانِهِ، وَاسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، وَانْتَدَبَهُ لِعَظِيمِ

ص: 203

..............................

أَمْرِهِ، وَأَنْبَأَهُ فَضْلَ بَيَانِ عِلْمِهِ، وَنَصَبَهُ عَلَماً لِخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ عَالَمِهِ، وَضِيَاءً لأَهْلِ دِينِهِ، وَالْقَيِّمَ عَلَى عِبَادِهِ، رَضِيَ اللهُ بِهِ إِمَاماً لَهُمُ، اسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، وَاسْتَحْفَظَهُ عِلْمَهُ، وَاسْتَخْبَأَهُ حِكْمَتَهُ، وَاسْتَرْعَاهُ لِدِينِهِ، وَانْتَدَبَهُ لِعَظِيمِ أَمْرِهِ،وَأَحْيَا بِهِ مَنَاهِجَ سَبِيلِهِ، وَفَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ.

فَقَامَ بِالْعَدْلِ عِنْدَ تَحَيُّرِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَتَحْيِيرِ أَهْلِ الْجَدَلِ، بِالنُّورِ السَّاطِعِ وَالشِّفَاءِ النَّافِعِ بِالْحَقِّ الأَبْلَجِ، وَالْبَيَانِ اللاَّئِحِ مِنْ كُلِّ مَخْرَجٍ عَلَى طَرِيقِ الْمَنْهَجِ، الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ الصَّادِقُونَ مِنْ آبَائِهِ (عليه السلام).

فَلَيْسَ يَجْهَلُ حَقَّ هَذَا الْعَالِمِ إِلاَّ شَقِيٌّ، وَلاَ يَجْحَدُهُ إِلاَّ غَوِيٌّ، وَلاَ يَصُدُّ عَنْهُ إِلاَّ جَرِيٌّ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ»(1).

بين الدين والدنيا

مسألة: لا انفكاك بين الدنيا والدين، بل «الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ»(2).

قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ»(3).

ص: 204


1- الكافي: ج1 ص203- 205، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح2.
2- مجموعة ورام: ج1 ص183، بيان ما يحمد من الجاه.
3- سورة البقرة: 201.

..............................

لا رهبانية في الإسلام

مسألة: لا رهبانية في الإسلام، ومن قال بها فإنه ممن (يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض)(1)، ولذلك قالت (صلوات الله عليها): «وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ».

وههنا أمور:

منها: قولها (عليها السلام): «الطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ»، فيه عناية من حيث تقديم الدنيا على الدين.

ومنها: أن إضافة (أمور) إلى (الدنيا) وإلى (الدين) تفيد عموم علمه (عليه السلام) بكل أمور الدنيا، الأعم من السياسة والاقتصاد والطب والفلك وعلم طبقات الأرض(2) وغيرها، وكذلك كل أمور الدين، فإن الجمع المضاف يفيد العموم.

ومنها: أن كلاً من (الدين) و(الدنيا) مفرد محلى بأل، وهو يفيدالإطلاق أو العموم، وقد ذكرنا في (الأصول): إن الظهور في المطلق لا يحتاج إلا إلى عدم القرينة على الخلاف، وليس بحاجة إلى مقدمات الحكمة(3).

ص: 205


1- مقتبس من قوله تعالى: «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» سورة البقرة: 85.
2- المسمى حالياً ب (الجيولوجيا).
3- راجع (الأصول): ص561، بحث مقدمات الحكمة.

..............................

الخسران الأعظم

مسألة: حيث أبعد أولئك الصحابة المنقلبون على الأعقاب، علياً (عليه السلام) عن الخلافة وعن تولي الأمور، خسروا الدين والدنيا معاً، وإن تصوروا أنهم ربحوا الدنيا، لكن ذلك لم يكن إلا وهماً أو سراباً، فإنهم لو أسلموا القياد لعلي (عليه السلام) «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ»(1)، ولتحولت الدنيا إلى جنة، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2).

ولذلك قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(3).

رعاية الأمور البلاغية

مسألة: ينبغي التأكيد والإلفات والتنبيه بمثل (ألا) إذا كان الأمر مهماً.قال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ

ص: 206


1- سورة المائدة: 66.
2- سورة الأعراف: 96.
3- سورة الزمر: 15.

..............................

آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَريبٌ»(1).

وعن أبي عبد اللهِ (عليه السلام) قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَلاَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ»(2).

وعن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَلاَ وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ. إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ، وَضَمِنَهُ وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلاَأُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ»، وفي رواية أخرى: «أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لاَ فِقْهَ فِيهَا، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي نُسُكٍ لاَ وَرَعَ فِيهِ»(4).

ص: 207


1- سورة البقرة: 214.
2- الكافي: ج1 ص30 كتاب فضل العلم باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح1.
3- الكافي: ج1 ص30 كتاب فضل العلم باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح4.
4- الكافي: ج1 ص36، كتاب فضل العلم، باب صفة العلماء، ح3.

..............................

وعن حسين الصيقل، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ، وَلاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ، فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ مَعْرِفَةَ لَهُ، أَلاَ إِنَّ الإِيمَانَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّ الْقَائِمَإِذَا قَامَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْكُوفَةِ، نَادَى مُنَادِيهِ: أَلاَ لاَ يَحْمِلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً، وَيَحْمِلُ حَجَرَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ أ وَهُوَ وِقْرُ بَعِيرٍ - فَلاَ يَنْزِلُ مَنْزِلاً إِلاَّ انْبَعَثَ عَيْنٌ مِنْهُ، فَمَنْ كَانَ جَائِعاً شَبِعَ، وَمَنْ كَانَ ظَامِئاً رَوِيَ، فَهُوَ زَادُهُمْ حَتَّى يَنْزِلُوا النَّجَفَ مِنْ ظَهْرِ الْكُوفَةِ»(2).

بين الزحزحة والخسارة

مسألة: إن زحزحة الخلافة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عاقبتها هي الخسران المبين؛ وذلك لأن نجاح وفشل، وتقدم وتأخر، وسعادة وشقاء أية أُمة، مرهونة أساساً بالقائد والحاكم. فإن كان عالماً صالحاً حكيماً، ازدهرت البلاد، وآمنت العباد، وساد العدل والإنصاف، وانكمش الظلم والإجحاف. وإن كان جاهلاً، أو فاسداً، أو أحمق، أو سفيهاً - إدارياً أو مالياً أو سياسياً أو ما أشبه - أفسد العباد والبلاد.

ص: 208


1- الكافي: ج1 ص44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم ، ح2.
2- الكافي: ج1 ص231، كتاب الحجة، باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء (عليهم السلام)، ح3.

..............................

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي: الأُمَرَاءُ وَالْقُرَّاءُ»(1).

وفي رواية: «الْفُقَهَاءُ وَالأُمَرَاءُ»(2).

وفي رواية: «الأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ»(3).

وقد بعث الله في مقابل الطغاة كفرعون ونمرود ومن أشبه، الأنبياء (عليهم السلام) كإبراهيم وموسى (عليهما السلام)، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تتحدث عن (الملأ) و(المستكبرين) وما أشبه.

قال تعالى: «قَالَ الْملَأُ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذينَ اسْتُضْعِفُوا لِمنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ»(4).

وقال سبحانه: «قَالَ الْملَأُ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ»(5).

ص: 209


1- الأمالي، للصدوق: ص366، المجلس الثامن والخمسون، ح10.
2- تحف العقول: ص50، وروي عنه (صلى الله عليه وآله) في قصار هذه المعاني.
3- إرشاد القلوب، للديلمي: ج1 ص70، الباب السادس عشر في أشراط الساعة و أهوالها.
4- سورة الأعراف: 75.
5- سورة الأعراف: 88.

..............................

وقال تعالى: «قَالَ الْملَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذالَسَاحِرٌ عَليمٌ»(1).

وقال سبحانه: «وَقَالَ الْملَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَقَالَ الْملَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَا تَشْرَبُونَ»(3).

وقال سبحانه: «وَانْطَلَقَ الْملَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ»(4).

وقال تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا»(5).

وقال سبحانه: «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا»(6).

إلى غيرها من الآيات والروايات.

ص: 210


1- سورة الأعراف: 109.
2- سورة الأعراف: 127.
3- سورة المؤمنون: 33.
4- سورة ص: 6.
5- سورة القصص: 4.
6- سورة الأعراف: 65، سورة هود: 50.

..............................

والتاريخ شاهد على ذلك، كما أن الوجدان والفطرة دليل عليه، فإن هتلر وصدام وستالين وأشباههم دمروا بلادهم وحطموا كل شيء، وكذلك عمل الذينانقلبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحّوا خليفته المنصوص من قبله الإمام علي (عليه السلام)، ولذلك قالت (صلوات الله عليها): «وَيْحَهُمْ أَنَّى زَعْزَعُوهَا عن رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ... «أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(1)». و(المبين): بمعنى الواضح البين.

تنبيه:

ربما يسأل البعض عن استخدامها (عليها السلام) كلمة (المبين) لذلك، أي لغصب الخلافة، فهل هو مبين وبين وواضح، وعند من يكون بيناً؟.

والجواب: إن غصب الخلافة خسران مبين عند أهل الإنصاف، وعند أهل التحقيق، وعند أولياء الله، وعند جنود الله كالملائكة والربانيين، وعند الأنبياء والمرسلين، وقبل ذلك كله عند إله العالمين، فهو إذن خسران مبين ثبوتاً دون غبار، وخسران مبين إثباتاً عند أهل الإنصاف والتحقيق.

نعم، يستثنى من ذلك السفهاء من الناس، قال تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتي كَانُوا عَلَيْهَا»(2).

ص: 211


1- سورة الزمر: 15.
2- سورة البقرة: 142.

..............................

وقال سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

إذن: إنكار أولئك وجحدهم لحق علي (عليه السلام) في الخلافة خسران مبين ثبوتاً وإثباتاً، يقول تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(2)، وقال عزوجل: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(3).

ولو فرض وجود من طبع الله على قلبه بحيث كان سفيهاً حقاً وجاهلاً واقعاً، قصوراً أو تقصيراً، فإن ذلك لا يخلّ بكون خسرانه خسراناً مبيناً، إذ المبين كما سبق بمعنى الواضح، ولا يخلّ جهل البعض بالوضوح الثبوتي، بل حتى بالوضوح الإثباتي، إذ المعيار هو الصدق من الله والرسل والملائكة والمنصفين والمحققين، ولذلك صح القول بالبديهيات رغم إنكار السوفسطائيين، بل لو فرض تحولهم إلى أكثرية، فإن ذلك لا يخل ببداهة البديهي، ولكي يتضح نمثل بالشمس، فإنها بينة وإن لم يعلم بها أو أنكرها الأعمى، أو من يعيش فيالغار أو من أشبه، والمثال الآخر القرآن الكريم فإنه (كتاب مبين) بنص العزيز العليم، وإن أنكره من أنكره جهلاً قصورياً أو تقصيرياً.

ص: 212


1- سورة البقرة: 13.
2- سورة القيامة: 14 - 15.
3- سورة النمل: 14.

..............................

عدة مسائل

مسألة: يجب الاعتقاد بأن إبعاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن الخلافة وزحزحته عنها هو الخسران المبين.

مسألة: يستحب بيان أن ما فعله القوم كان من أجلى مصاديق الخسران المبين بل من أجلى أجلاها.

مسألة: يحرم فعل ما يسبب الخسران بله الخسران المبين في الدنيا أو الآخرة، سواء كان ما يسبب بنحو المقتضي أم الشرط أم المعد، وسواء كان سبباً قريباً أم بعيداً، وذلك بحكم العقل أو هو والشرع معاً حسب الخلاف في أمر المقدمة.

وهل يعد منه ما كان سبباً بعيداً جداً بحيث لا يعد عرفاً واقعاً في طريقه، وجهان: من أن الأحكام صبت مصباً عرفياً، ومن أن المقدمية حكم عقلي وهو أمردقي، فتأمل.

قال تعالى: «فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْليهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(1).

وقال سبحانه: «مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُو

ص: 213


1- سورة الزمر: 15.

..............................

الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(1).

وفي الرواية الشريفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) - عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ» - قَالَ: «إِنَّ الآيَةَ تَنْزِلُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونُ فِي أَتْبَاعِهِ». قَالَ: قُلْتُ: كُلُّ مَنْ نَصَبَ دُونَكُمْ شَيْئاً فَهُوَ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ؟. فَقَالَ: «نَعَمْ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْضاً»(2).

تنبيه آخر

قول الصديقة (عليها السلام): «أَلَا ذَلِكَ هُوَالْخسْرَانُ الْمبِينُ» (3)، إشارة للخسران حقاً، فإن الخسران ذو مراتب، وخسران من غصب حق علي (عليه السلام)، أو أعان، أو رضي به، هو الخسران حقاً بما للكلمة من معنى، فطبيعة الخسران بأعلى درجاتها هي المقصودة هنا، حتى كان هذا هو الخسران ولا غير لشدته وضعف غيره بالقياس إليه، ولذلك ورد «وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ»(4).

وقال الشاعر(5) مستلهماً من الروايات الصحيحة:

ص: 214


1- سورة الحج: 11.
2- الكافي: ج2 ص397- 398، كتاب الإيمان والكفر، باب الشرك، ح4.
3- سورة الزمر: 15.
4- الكافي: ج2 ص18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، ح1.
5- الفيلسوف نصير الدين محمد بن محمد الطوسي، وهناك من ينسب هذه الأبيات إلى الناصر العباسي كما في "النصائح الكافية لمن يتولى معاوية"، والله العالم بحقيقة الحال.

..............................

لَوْ أَنَ عَبْداً أَتَى بِالصَّالِحاتِ غَداً *** وَوُدِ كُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَوَلِي

وَقَامَ مَا قَامَ قَوَّاماً بِلا كَسَلٍ *** وَصَام مَا صَام صَوَّاماً بِلَا مَلَلِ

وَحَجَّ مَا حَجَّ مِنْ فَرْضٍ وَمِنْ سُنَنِ *** وَطَافَ بَالْبَيْتِ حَافٍ غَيْرَ مُنْتَعَلِ

وَطَارَ فِي الْجوِ لا يَأْوِي إِلَى أَحَدٍ *** وَغَاصَ فِي الْبَحْرِ مَأْمُوناً مِنَ الْبِلَلِ

وَعَاشَ فِي النَّاسِ آلَافاً مُؤَلَفَةً *** خِلْواً مِنَ الذَّنْبِ مَعْصَوماً مِنَ الزَّلَلِ

يَكْسُو الَيْتَامَى مِنْ الدِّيبَاجِ كُلِّهُمُ *** وَيُطْعِمُ الْبَائِسِينَ الْبُّرَ بِالْعَسَلِ

مَا ذَلِكَ فِي الْحشْرِ عِنْدَ اللهِ مُنْتَفِعاً *** إِلاّ بِحُبِّ أَمِيرِ الْمؤمِنِينَ عَلِي(1)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أُمِرَ النَّاسُ بِمَعْرِفَتِنَا، وَالرَّدِّ إِلَيْنَا، وَالتَّسْلِيمِ لَنَا - ثم قال - وَإِنْ صَامُوا، وَصَلَّوْا، وَشَهِدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَجَعَلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ لاَ يَرُدُّوا إِلَيْنَا، كَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ»(2).

أي حيث أطاعوا الشيطان، والطاعة هي للرحمان فقط.

وقال أبو عبد الله (عليه السلام):

«لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَحَجُّوا الْبَيْتَ، وَصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْءٍ صَنَعَهُ اللهُ، أَوْ صَنَعَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله)، أَلاَّ صَنَعَ خِلاَفَ الَّذِي صَنَعَ، أَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ - ثم تلا هذه الآية -:

ص: 215


1- الأربعون حديثاً في إثبات إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) - الشيخ سليمان الماحوزي البحراني: ص98، ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في محبة أهل بيته.
2- الكافي: ج2 ص398، كتاب الإيمان والكفر، باب الشرك، ح5.

..............................

«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(1).

ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ»(2).

ص: 216


1- سورة النساء: 65.
2- الكافي: ج2 ص398، كتاب الإيمان والكفر، باب الشرك، ح6.

وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)

اشارة

-------------------------------------------

النقمة على الأولياء

وفي بعض النسخ: «وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحسَنِ».

مسألة: تحرم النقمة على أولياء الله من حيث هم أولياء الله.

مسألة: تحرم النقمة على الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من كل الجهات:

فتحرم النقمة عليه لذاته.

كما تحرم النقمة عليه لفعله.

كما تحرم النقمة عليه لقوله.

كما تحرم النقمة عليه لتقريره.

وحرمة النقمة عليه لأفعاله أو لأقواله أو لتقريراته عامة، شاملة لما إذا كره فعلاً من أفعاله بما هو هو، أو بما هو مستند إليه، إذ أفعاله (عليه السلام) كلها وأقواله وتقريراته كذلك محض الحق، والنقمة عليه بما الفعل مستند إليه أشد حرمة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، لاَ يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ»(1).وقال (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْث

ص: 217


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص206، المجلس الثامن، ح353-3.

..............................

مَا دَارَ»(1).

وعن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهما السلام) - في قول الله جلَّ وعزَّ - «بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» سورة البقرة: 81 - قال: «إِذَا جَحَدَ إِمَامَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» سورة البقرة: 81»(2).

وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله): (واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده (عليهم السلام) أنه بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء)(3).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) خِصَالاً، لَوْ كَانَتْوَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، لاَكْتَفَوْا بِهَا فَضْلاً». قَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مِنِّي كَنَفْسِي، طَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَتِي». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «حَرْبُ عَلِيٍّ حَرْبُ اللهِ، وَسِلْمُ عَلِيٍّ سِلْمُ اللهِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «وَلِيُّ عَلِيٍّ وَلِيُّ اللهِ، وَعَدُوُّ عَلِيٍّ عَدُوُّ اللهِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ حُجَّةُ اللهِ، وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ».

ص: 218


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج3 ص387، الفصل الثاني عشر، ح164.
2- الكافي: ج1 ص429، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح82.
3- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص104، باب38 الاعتقاد في الظالمين.

..............................

وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «حُبُّ عَلِيٍّ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُ كُفْرٌ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «حِزْبُ عَلِيٍّ حِزْبُ اللهِ، وَحِزْبُ أَعْدَائِهِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُ، لاَ يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ قَسِيمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ فَارَقَ عَلِيّاً فَقَدْ فَارَقَنِي، وَمَنْ فَارَقَنِي فَقَدْ فَارَقَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «شِيعَةُ عَلِيٍّ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).ثم إن حرمة النقمة تعم النقمة عليه من أية جهة تتعلق به (عليه السلام)، كذريته الأطهار مثلاً.

ونقم من فلان - بفتح القاف وكسرها - يراد به: كرهه غاية الكره وعابه وعاقبه، وكذا نقم على فلان، وغير خفي أن نقم ليس مرادفاً لكره أو عاب، بل ذكر هذين المعنيين تقريباً للذهن إلى معناه، إذ هو أقوى في الدلالة من كره أو عاب.

أي ما الذي كرهوه من أبي الحسن (عليه السلام)؟!.

أو ما الذي عابوه منه؟!. وظاهر السياق هو الأول، ويمكن إرادة كل المعنيين، وليس من الضروري أن يكون بمعنى استعمال اللفظ في أكثر من معنى بلحاظ واحد، بل بمعنى الاستعمال في الجامع أو بلحاظين أو أكثر، وإن كان قد بين في الأصول أنه لا مانع منه.

ص: 219


1- الخصال: ج2 ص496، أبواب الثلاثة عشر، ثلاث عشرة خصلة من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ح5.

..............................

النقمة القلبية

مسألة: إن حرمة النقمة على أولياء الله - وخاصة المعصومين (عليهم السلام) - لاتخص ما إذا ظهر ذلك على الجوارح، بل الحرمة عامة للأمر القلبي المحض حتى وإن لم يظهر، فإنه من الواضح الحرمة مطلقاً بالنسبة إلى المعصومين (عليهم السلام)، وعلى رأسهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مولانا أبو الحسن المرتضى (عليه السلام)، فإن حبه إيمان وبغضه نفاق(1)، و«حُبُّ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ، وَخَيْرُ الْعِبَادَةِ مَا كُتِمَتْ»(2).

وأما إشكال اللا اختيارية فمدفوع باختيارية المقدمات، كما سبق في موضع آخر. والظاهر حرمة النقمة وإن لم يعقد قلبه عليها، إذ الإيمان والكفر والحب والبغض أمر، وعقد القلب عليه أمر إضافي، قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(3).

وعلى هذا فإذا وجد شخص من نفسه نقمة على أبي الحسن (عليه

السلام) والعياذ بالله، أو على أحد المعصومين (عليهم السلام)، ولو على فعل من أفعالهم، أو قول من أقوالهم، وجب عليه أن يطهر نفسه فوراً، وأن يتوب إلى ربه، وأن يملأ قلبه إيماناً ورضاً وحباً وتسليماًبكل ما قالوه أو عملوه (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 220


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص206، المجلس الثامن، ح3.
2- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج2 ص86، ظاهر الفضل بن دكين التشيع وله بيتان فى ذلك.
3- سورة النمل: 14.

..............................

وذلك كما في أفعال الله تعالى حيث الرضا بها واجب، والنقمة عليها حرام.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَا النَّاسُ، عَظِّمُوا أَهْلَ بَيْتِي فِي حَيَاتِي وَمِنْ بَعْدِي، وَأَكْرِمُوهُمْ وَفَضِّلُوهُمْ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ لأَحَدٍ، إِلاَّ لأَهْلِ بَيْتِي. إِنِّي لَوْ أَخَذْتُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَجَلَّى لِي رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَسَجَدْتُ وَأُذِنَ لِي بِالشَّفَاعَةِ، لَمْ أُوثِرْ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي أَحَداً.

أَيُّهَا النَّاسُ، انْسُبُونِي مَنْ أَنَا.

فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ. أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنِ الَّذِي آذَاكَ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ؛ حَتَّى نَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَلْيُبَرْ عِتْرَتُهُ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام): «أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَاتَ ابْنٌ لَهَا فَأَقْبَلَتْ. فَقَالَ لَهَا الثَّانِي: غَطِّي قُرْطَكِ؛ فَإِنَّ قَرَابَتَكِ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لاَ تَنْفَعُكِ شَيْئاً. فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ لِي قُرْطاً يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ. ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَىرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ وَبَكَتْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَنَادَى الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ قَرَابَتِي لاَ تَنْفَعُ، لَوْ قَدْ قَرُبْتُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لَشَفَعْتُ فِي أَحْوَجِكُمْ، لاَ يَسْأَلُنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَاهُ إِلاَّ أَخْبَرْتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟. فَقَالَ: أَبُوكَ غَيْرُ الَّذِي تُدْعَى لَهُ، أَبُوكَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ. فَقَامَ آخَرُ،فَقَالَ:مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟

ص: 221


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص687 - 688، الحديث الرابع عشر.

..............................

فَقَالَ: أَبُوكَ الَّذِي تُدْعَى لَهُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَا بَالُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ قَرَابَتِي لاَ تَنْفَعُ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ أَبِيهِ!. فَقَامَ إِلَيْهِ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، اعْفُ عَنِّي عَفَا اللهُ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» إلى قوله «ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ» »(1).

وعن علي بن إبراهيم - في قوله: «أَ لَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ» - قال: «نَزَلَتْ فِي الثَّانِي؛ لأَنَّهُ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَيَكْتُبُ خَبَرَ رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليهوآله). فَأَنْزَلَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: «أَ لَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ»، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): رَأَيْتُكَ تَكْتُبُ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ!. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَتَبْتُ عَنْهُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَتِكَ. وَأَقْبَلَ يَقْرَأُ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ غَضْبَانُ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَيْلَكَ! أَ مَا تَرَى غَضَبَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَلَيْكَ. فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ؛ إِنِّي إِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ لِمَا وَجَدْتُ فِيهِ مِنْ خَبَرِكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا فُلانُ، لَوْ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ فِيهِمْ قَائِماً، ثُمَّ أَتَيْتَهُ رَغْبَةً عَمَّا جِئْتَ بِهِ، لَكُنْتَ كَافِراً بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً» أَيْ: حِجَاباً بَيْنَهُمْ وَبَيْن

ص: 222


1- تفسير القمي: ج1 ص188، سورة المائدة: الآيات 96 إلى 105.

..............................

الْكُفَّارِ، وَإِيمَانُهُمْ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وخَوْفاً مِنَ السَّيْفِ، وَرَفْعَ الْجِزْيَةِ»(1).

ويذكر المؤرخون: إِنَّ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ وَادَعَ قُرَيْشاً فِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَاباً، عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِ لَمْيَرُدُّوهُ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدُّوهُ إِلَيْهِمْ. فَغَضِبَ الثَّانِي وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَرُدُّ النَّاسَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.

ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: أَ لَسْتَ بِرَسُولِ اللهِ حَقّاً؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «بَلَى». قَالَ: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ حَقّاً؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «بَلَى». قَالَ: وَهُمُ الْكَافِرُونَ؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «بَلَى». قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا أَعْمَلُ بِمَا يَأْمُرُنِي بِهِ اللهُ رَبِّي، إِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا إِلَيْهِمْ رَاغِباً فَلاَ خَيْرَ لَنَا فِي مَقَامِهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَمَنْ رَغِبَ فِينَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً وَمَخْرَجاً».

فَقَالَ الثَّانِي: وَاللهِ مَا شَكَكْتُ فِي الإِسْلاَمِ إِلاَّ حِينَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ!!.

وَقَامَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مُتَسَخِّطاً لأَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، غَيْرَ رَاضٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي فِي النَّاسِ، وَيُؤَلِّبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَيَعْرِضُ بِهِ وَيَقُولُ: وَعَدَنَا بِرُؤْيَاهُ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ رَآهَا يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَقَدْ صُدِدْنَا عَنْهَا وَمُنِعْنَا مِنْهَا، ثُمَّ نَنْصَرِفُ الآنَ وَقَدْ أَعْطَيْنَاهُ الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا!. وَاللهِ لَوْ أَنَّ مَعِي أَعْوَاناً مَا أَعْطَيْتُ الدَّنِيَّةَ أَبَداً.فَقَدْ كَانَ أُعْطِيَ الأَعْوَانَ،وَقِيلَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ:

ص: 223


1- تفسير القمي: ج1 ص357 - 358، سورة المجادلة: الآيات 14 إلى 16.

..............................

قَاتِلْ، وَيَوْمَ خَيْبَرَ، فَفَرَّ بِأَعْوَانِهِ، وَبَلَغَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي قَوْلُكَ، فَأَيْنَ كُنْتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ؟! وَأَنْتُمْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي آخِرِكُمْ؟!».

فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ مِمَّا كَانَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كَانَ الشَّيْطَانُ رَكِبَ عُنُقِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ»(1).

النقمة والعلم بالسبب وعدمه

مسألة: لا فرق في حرمة النقمة على أبي الحسن (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام)، بين أن يعلم الكاره الناقم وجه تصرفهم - كمساواته (عليه السلام) في العطاء عندما تولى الخلافة الظاهرية مما أسخط وجوه القوم كطلحة والزبير، وكأمره بإجراء الحد على فلان وفلان، وبين أن لا يعلم، وبين أن يقتنع بعدم صحته لجهله المركب.

قال تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الْأمْرِمِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2).

وقال سبحانه: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا»(3).

ص: 224


1- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام): ص536 - 538، ب9، تحريم عمر المتعتان وحي على خير العمل، ح213.
2- سورة النساء: 83.
3- سورة النساء: 65.

..............................

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(1).

كما ينبغي أن يقال لمن اقتنع جهلاً بعدم صحة تصرف من تصرفاتهم (عليهم

السلام)، كما قال سبحانه: «وَمَا نَقَمُوَاْ إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ»(2). فكل ما يتوهمه المرء مما يوجب النقمة - في عقله القاصر - على الله ورسوله والمعصومين (عليهم

السلام)، فهو في الحقيقة خير له أو لغيره، وفيه الصلاح لو كانوا يعقلون. وقد ذكرنا في (التبيين): «وَمَا نَقَمُوَاْ» أي ما أنكروا من الرسول (صلى الله عليه وآله) «إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» بالغنائم بعد أن كانوا فقراء، أي لميصبهم من الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا الخير، لا ما يوجب النقمة «فَإِنْ يَتُوبُوا» عن نفاقهم «يَكُ» رجوعهم وتوبتهم «خَيْرًا لَهمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا» يعرضوا عن التوبة «يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا» مؤلماً «فِي الدُّنْيا» بالقتل والإهانة «وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ» يلي أمورهم «وَلَا نَصيرٍ» ينصرهم من عذاب الله(3).

ص: 225


1- سورة النساء: 59.
2- سورة التوبة: 74.
3- تبيين القرآن: ص211، سورة التوبة: آية 74.

..............................

خطاب الزوجة زوجها

مسألة: يستحب للزوجة أن تذكر زوجها بالكنية في أمثال المقام، كما ذكرت (عليها السلام) زوجها بالكنية في أمثال المقام، وفيه نوع احترام كما لا يخفى، وقد مر نظيره في حديث الكساء وغيره، وهكذا يستحب تكني الأولاد وسائر الأرحام، بل عموم المؤمنين.

عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: «إِنَّا لَنُكَنِّي أَوْلاَدَنَا فِي صِغَرِهِمْ؛ مَخَافَةَ النَّبَزِ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ»(1).

وعن زرارة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ يَغْشَى عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَكَانَ يُكَنَّى: أَبَا مُرَّةَ. فَكَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ يَقُولُ: أَبُو مُرَّةَ بِالْبَابِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): بِاللهِ إِذَا جِئْتَ إِلَى بَابِنَا فَلاَ تَقُولَنَّ أَبُو مُرَّةَ»(2).

وفي الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: «فَإِذَا وُلِدَ لَكَ مَوْلُودٌ، فَأَذِّنْ فِي أُذُنِهِ الأَيْمَنِ، وَأَقِمْ فِي أُذُنِهِ الأَيْسَرِ، وَحَنِّكْهُ بِمَاءِ الْفُرَاتِ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْعَسَلِ سَاعَةَ يُولَدُ، وَسَمِّهِ بِأَحْسَنِ الاسْمِ، وَكَنِّهِ بَأَحْسَنِ الْكُنَى، وَلاَ يُكَنَّى بِأَبِي عِيسَى، وَلاَ بِأَبِي الْحَكَمِ، وَلاَ بِأَبِي الْحَارِثِ، وَلاَ بِأَبِي الْقَاسِمِ إِذَا كَانَ الاسْمُ مُحَمَّداً،...»(3).

ص: 226


1- الكافي: ج6 ص20، كتاب العقيقة، باب الأسماء والكنى، ح11.
2- الكافي: ج6 ص21، كتاب العقيقة، باب الأسماء والكنى، ح17.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص239، باب العقيقة.

..............................

وعن محمد بن الحنفية، عن أبيه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنْ وُلِدَ لَكَ غُلاَمٌ، فَسَمِّهِ بِاسْمِي، وَكَنِّهِ بِكُنْيَتِي، وَهُوَ لَكَ رُخْصَةٌ دُونَ النَّاسِ»(1).وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «السُّنَّةُ وَالْبِرُّ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ بِاسْمِ أَبِيهِ»(2).

وعن جابر، قال: أَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) الرُّكُوبَ إِلَى بَعْضِ شِيعَتِهِ لِيَعُودَهُ. فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، الْحَقْنِي». فَتَبِعْتُهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الدَّارِ، خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مَا اسْمُكَ؟». قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: «فَبِمَا تُكَنَّى؟». قَالَ: بِعَلِيٍّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لَقَدِ احْتَظَرْتَ مِنَ الشَّيْطَانِ احْتِظَاراً شَدِيداً؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا عَلِيُّ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، حَتَّى إِذَا سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي بِاسْمِ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَائِنَا، اهْتَزَّ وَاخْتَالَ»(3).

بيان الحق حتى عند الموت

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب والاستحباب - بيان الحق

ص: 227


1- بحار الأنوار: ج101 ص131، تتمة كتاب العقود والإيقاعات، الباب من أبواب أبواب الأولاد وأحكامهم، ح23.
2- بحار الأنوار: ج101 ص131، تتمة كتاب العقود والإيقاعات، الباب من أبواب أبواب الأولاد وأحكامهم، ح30.
3- الكافي: ج6 ص20، كتاب العقيقة، باب الأسماء والكنى، ح12.

..............................

حتى وإن كان على فراش الموت.

ومن هنا نرى الصالحين يوصون أولادهم وذراريهم ومن يتعلق بهم - بل وكل الناس - بالخير، والعمل الصالح، وهم على فراش الموت.

عن عبد الله بن العباس، قال: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، جَمَعَ كُلَّ مُحْتَلِمٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ قَدْ عَقَلَ، فَجَمَعَهُمْ جَمِيعاً، فَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ إِلاَّ الزُّبَيْرُ؛ فَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ لِمَكَانِ صَفِيَّةَ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»، وَقَالَ: «أُسَامَةُ مَوْلاَنَا وَمِنَّا»، إلى أن قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى

الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «يَا أَخِي، أَقْعِدْنِي». فَأَقْعَدَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام)، وَأَسْنَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اتَّقُوا اللهَ وَاعْبُدُوهُ، «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»(1)، وَلاَ تَخْتَلِفُوا، إِنَّ الإِسْلاَمَ بُنِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، عَلَى: الْوَلاَيَةِ، وَالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ. فَأَمَّا الْوَلاَيَةُ: فَلِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، «الَّذِينَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّحِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»(2)»(3).

ومن وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أوصى بها الحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله)، قال: «أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ، وَأَلاَّ تَبْغِيَا الدُّنْيَا

ص: 228


1- سورة آل عمران: 103.
2- سورة المائدة: 55 - 56.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص905 - 906، الحديث الحادي و الستون.

..............................

وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ لِلأَجْرِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً.

أُوصِيكُمَا - وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي - بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ.

اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ؛ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ؛ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا. وَاللهَ اللهَ فِيالْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ. لاَ تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلاَ تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»(1).

ص: 229


1- نهج البلاغة، باب رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام): 47-ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

..............................

ومن كلام له (عليه السلام) قاله قبل موته على سبيل الوصية، لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله): «وَصِيَّتِي لَكُمْ: أَلاَّ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ. أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ، وَخَلاَكُمْ ذَمٌّ.

أَنَا بِالأَمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌلَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ. إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا «أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ»(1).

وَاللهِ، مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ، وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِبٍ وَرَدَ، وَطَالِبٍ وَجَدَ، «وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ»(2)»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) الْوَفَاةُ، ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي (عليه السلام) حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اللهَ»(4).

ص: 230


1- سورة النور: 22.
2- سورة آل عمران: 98.
3- نهج البلاغة، باب رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام): 23 - ومن كلام له (عليه السلام) قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).
4- الكافي: ج2 ص331،كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح5.

..............................

الدفاع عن الولاية حتى عند الموت

مسألة: يجب أو يستحب الدفاع عن ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى وإن كان على فراش الموت، وقد سبق ذلك.

وكان ميثم التمار (رضوان الله عليه) مصداقاً للدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى آخر لحظة، حيث كان يبين للناس فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مصلوب على النخلة، فأمر ابن زياد بقطع لسانه وطعنه فقُتل رضوان الله عليه.

وكان ميثم عبد امرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين (عليه السلام) منها فأعتقه، فقال له: ما اسمك؟. فقال: سالم. قال: فأخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن اسمك الذي سماك به أبواك في العجم ميثم. قال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين. قال: فارجع إلى اسمك الذي سماك به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودع سالماً، فرجع إلى ميثم، واكتنى بأبي سالم.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات يوم: إنك تؤخذ بعدي وتصلب لجذعة، فإذا كان يوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فتخضب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث، أنت عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، وأراه النخلة التي يصلب على جذعها.وكان ميثم يأتيها فيصلي عندها ويقول: بوركت من نخلة، لك خلقت، ولي غذيت، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت،وكان يلقي عمرو بن حريث فيقول

ص: 231

..............................

له: إني مجاورك فأحسن جواري، وهو لا يعلم ما يريد.

وحج في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم سلمة. فقالت: من أنت؟. فقال: أنا ميثم. فقالت: والله لربما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بك علياً (عليه السلام) في جوف الليل. فسألها عن الحسين (عليه السلام). فقالت: هو في حائط له. قال: فأخبريه أنني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله تعالى، فدعت بطيب وطيبت لحيته وقالت: أما إنها تخضب بدم. فقدم ميثم الكوفة فأخذه عبيد الله بن زياد، وقال: ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟. قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهرة.

قال: لنخالفنه. قال: كيف تخالفه، فو الله ما أخبرني إلا عن النبي (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله عز وجل، وكيف تخالف هؤلاء، ولقد عرفت الموضع الذي أصلب عليه أين هو منالكوفة، وأنا أول خلق الله ألجم في الإسلام.

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة. فقال ميثم للمختار: إنك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين (عليه السلام)، فتقتل هذا الذي يقتلنا، فلما دعا عبيد الله المختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد يأمره بتخلية سبيله فخلاه، وأمر بميثم أن يصلب. فأخرج فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم. فتبسم وقال - وهو يومئ إلى النخلة -: لها خلقت ولي غذيت. فلما رفع على الخشبة، اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث. قال عمرو: قد كان والله يقول لي: إني مجاورك. فلما صلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره.

ص: 232

..............................

فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: فضحكم هذا العبد. قال: ألجموه. فكان أول خلق الله ألجم في الإسلام.

وكان مقتل ميثم قبل قدوم الحسين بن علي (عليه السلام) إلى العراق بعشرة أيام، فلما كان اليوم الثالث من صلبه طعن ميثم بالحربة، فكبر ثم انبعث فيآخر النهار أنفه وفمه دماً(1).

ص: 233


1- إعلام الورى: ص172-174، الركن الثاني، الباب الثالث.

نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ

اشارة

-------------------------------------------

القسم وأحكامه

النكير فعيل بمعنى منكر، وهو من إضافة الصفة إلى موصوفه، أي: (سيفه المنكر)، فسيفه (عليه السلام) هو منكر عند أعداء الحق، قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهمْ»(1). وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمُ الْهدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهمْ وَأَمْلَىَ لَهمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْملَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهمْ»(2).

وقال تعالى: «بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(3).

وقال سبحانه: «وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ»(4).

وقال تعالى: «لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحقِّ وَلَ-َكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(5).

ص: 234


1- سورة محمد: 9.
2- سورة محمد: 25-28.
3- سورة المؤمنون: 70.
4- سورة الأنفال: 5.
5- سورة الزخرف: 78.

..............................

مسألة: القسم بعنوانه الأولي مكروه حتى في مثل استرجاع حق مادي، أما في مثل المقام مما يراد به إحقاق الحق وإبطال الباطل، وهو من أعظم المقامات حيث إنه إحقاق حق الإمام المعصوم (عليه السلام) واستمرار لرسالات السماء، فإنه يدور أمره بين الواجب والمستحب، وقد سبق تفصيل الكلام عنه.

استحباب الشجاعة

مسألة: الشجاعة مستحبة، وقد تكون واجبة، بمعنى لزوم تهيئة المقدمات التي تؤدي إلى أن يكون الإنسان شجاعاً، من إيجاء ذاتي وتلقين وممارسة وتمرين ودعاء وتوسل وإيمان وغير ذلك.

مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) كان أشجع الناس بل في قمة الشجاعة، وكان نكير السيف لأعداء الله ورسوله، فإنه لا يصل إليه أحد في الشجاعة إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله).

لكن يلزم أن لا يساء استغلال ذلك من قبل الجهلة والمغرضين حيث أطلق بعضهم شعار: (عدالة فلان وشجاعة علي (عليه السلام))، فإن علياً (عليه

السلام) كان القمة التي لا تجارى في العدالة والشجاعة والعلم والتقوى، وكلالفضائل على اختلاف رتبها ودرجاتها، أما غيره ممن انقلب على عقبيه فكان قمة في الظلم والجور والخوف والجبن وغيرها من الرذائل.

يقول الشاعر:

ص: 235

..............................

بآل محمد عرف الصواب *** وفي أبياتهم نزل الكتاب

هم الكلمات والأسماء لاحت *** لآدم حين عز له المتاب

وهم حجج الإله على البرايا *** بهم وبحكمهم لايستراب

وأنوار ترى في كل عصر *** لإرشاد الورى فهم شهاب

ولا سيما أبوحسن علي *** له في الحرب مرتبة تهاب

علي الدر والذهب المصفى *** وباقي الناس كلهم تراب

كأن سنان ذابله ضمير *** فليس عن القلوب له ذهاب

وصارمه كبيعته بخم *** معاقدها من القوم الرقاب

إذا لم تبر من أعداء علي *** فما لك في محبته ثواب

هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن جد الضراب

هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الخطاب

فهو (صلوات الله عليه) عين العدالة التي لا تشوبها شائبة باطل أبداً، قال (عليه

السلام): «وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِيلَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا»(1).

إلى غيرها من الروايات الشريفة.

ص: 236


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.

..............................

شجاعة الزهراء (عليها السلام)

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت القمة في الشجاعة والتضحية في سبيل الله، وخطبتها هذه، وفي المسجد، وتصديها للعصابة الحاكمة بالظلم واستبداد، في مواطن شتى، من الأدلة الواضحة على ذلك.

إضافة إلى أن ذلك هو مقتضى أفضليتها (عليها السلام) من كل الخلائق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي كفو لبعلها أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما نصت على ذلك الروايات الشريفة.

روايات في فضلها

عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَوْلاَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِفَاطِمَةَ (عليهما السلام) مَا كَانَ لَهَا كُفْؤٌ عَلَى الأَرْضِ»(1).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَوَقَفَ الْخَلاَئِقُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى، نَادَى مُنَادٍ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: أَيُّهَا النَّاسُ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ،وَنَكِّسُوا مِنْ رُءُوسِكُمْ؛ فَإِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ - وفي حديث أبي أيوب - فَيَمُرُّ مَعَهَا سَبْعُونَ جَارِيَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَالْبَرْقِ

ص: 237


1- أمالي الشيخ الطوسي: ص43، المجلس الثاني، ح15.

..............................

اللاَّمِعِ»(1).

وعن سنان الأوسي، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا زَوَّجَ فَاطِمَةَ عَلِيّاً (عليهما السلام) أَمَرَ رِضْوَانَ، فَأَمَرَ شَجَرَةَ طُوبَى، فَحَمَلَتْ رِقَاعاً لِمُحِبِّي أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَمْطَرَهَا مَلائِكَةً مِنْ نُورٍ بِعَدَدِ تِلْكَ الرِّقَاعِ، فَأَخَذَ تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ الرِّقَاعَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَاسْتَوَتْ بِأَهْلِهَا، أَهْبَطَ اللهُ الْمَلاَئِكَةَ بِتِلْكَ الرِّقَاعِ، فَإِذَا لَقِيَ مَلَكٌ مِنْ تِلْكَ الْمَلاَئِكَةِ رَجُلاً مِنْ مُحِبِّي آلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، دَفَعَ إِلَيْهِ رُقْعَةَ بَرَاءَةٍ مِنَ النَّارِ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَوَّلُشَخْصٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَاطِمَةُ»(3).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي: «هَلْ تَدْرِي لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ؟».

قال علي: «لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟». قال: «لأَنَّهَا فُطِمَتْ هِيَ وَشِيعَتُهَا مِنَ النَّارِ»(4).

ص: 238


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص326، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.
2- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص328، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.
3- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص329، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.
4- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص329-330، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.

..............................

شجاعة النساء

مسألة: يستحب تربية النساء ومنها البنات على الشجاعة، كما كانت الصديقة فاطمة (عليها السلام) والسيدة زينب (عليها السلام) وسائر حرائر النبوة وربائبها كذلك.

والمراد بالشجاعة في مقابل ما يهدد الدين، أو عند الدفاع الواجب شرعاً، وليس الشجاعة التي تعرضها لخطر غير مبرر المسمى بالتهور، أو ما لا يكون وفق الموازين الشرعية، كما لايخفى.

روى ابن طيفور في (بلاغات النساء) قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الزهري وسهل بن أبي سهل التميمي، عن أبيه، قالا: لما قُتِلَ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي فراغ منه، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد، فحبسها في سجن دمشق سنتين.

ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية - وهو أول رأس حمل في الإسلام - فلما أتى معاوية الرسول بالرأس، بعث به إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه إليَّ، واطرح الرأس في حجرها.

ففعل هذا، فارتاعت له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها، وقالت: واحزني لصغره في دار هوان، وضيق من ضيمة سلطان، نفيتموه عني طويلاً،

ص: 239

..............................

وأهديتموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له اليوم غير ناسية. ارجع به أيها الرسول إلىمعاوية فقل له - ولا تطوه دونه -: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك.

فرجع الرسول إلى معاوية، فأخبره بما قالت. فأرسل إليها فأتته، وعنده نفر فيهم: إياس بن حسل، أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه، لعظم كان في لسانه، وثقل إذا تكلم.

فقال لها معاوية: أ أنتِ يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني؟!.

قالت: نعم، غير نازعة عنه، ولا معتذرة منه، ولا منكرة له. فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وإن الحق لمن وراء العباد، و ما بلغت شيئاً من جزائك، وإن الله بالنقمة من ورائك.

فأعرض عنها معاوية، فقال إياس: اقتل هذه يا أمير، فو الله ما كان زوجها أحق بالقتل منها.

فالتفتت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين، ثقيل اللسان، قالت: تباً لك، ويلك بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي، كما قتل زوجي بالأمس، «إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمصْلِحِينَ»(1).

فضحك معاوية، ثم قال: للهِ دركِ،اخرجي ثم لا أسمع بكِ في شيء من الشام.

ص: 240


1- سورة القصص: 19.

..............................

قالت: وأبي لأخرجن، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام، فما الشام لي بحبيب، ولا أعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديتي، وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة، ولا حيث كنت بحامدة.

فأشار إليها ببنانه: اُخرجي، فخرجت وهي تقول: وا عجبي لمعاوية يكف عني لسانه، ويشير إليَّ الخروج ببنانه. أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد، أوجع من نوافذ الحديد، أو ما أنا بابنة الشريد.

فخرجت وتلقاها الأسود الهلالي، وكان رجلاً أسود أصلع أسلع أصعل، فسمعها وهي تقول ما تقول. فقال: لمن تعني هذه، أ للأمير تعني، عليها لعنة الله؟.

فالتفتت إليه، فلما رأته قالت: خزياً لك وجدعاً، أ تلعنني واللعنة بين جنبيك، وما بين قرنيك إلى قدميك. اخسأ يا هامة الصعل، ووجه الجعل، فأذلل بك نصيراً، وأقلل بك ظهيراً.

فبهت الأسلع ينظر إليها، ثم سأل عنها فأُخْبِرَ، فأقبل إليها معتذراً خوفاًمن لسانها.

فقالت: قد قبلت عذرك، وإن تعد أعد، ثم لا أستقيل ولا أراقب فيك.

فبلغ ذلك معاوية، فقال: زعمت يا أسلع أنك لا تواقف من يغلبك، أما علمت أن حرارة المتبول ليست بمخالسة نوافذ الكلام، عند مواقف الخصام، أفلا تركت كلامها قبل البصبصة منها، والاعتذار إليها.

ص: 241

..............................

قال: إي والله يا أمير!، لم أكن أرى شيئاً من النساء يبلغ من معاضيل الكلام ما بلغت هذه المرأة، حالستها فإذا هي تحمل قلباً شديداً، ولساناً حديداً، وجواباً عتيداً. وهالتني رعباً، وأوسعتني سباً.

ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس، فقال: ابعث لها ما تقطع به عنا لسانها، وتقضي به ما ذكرت من دينها، وتخف به إلى بلادها. وقال: اللهم اكفني شر لسانها.

فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية، قالت: يا عجبي لمعاوية، يقتل زوجي ويبعث إليَّ بالجوائز!. فليت أبي كرب سد عني حره صلة خذ من الرضعة ما عليها. فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة، فمرت بحمص فقتلها الطاعون.فبلغ ذلك الأسلع، فأقبل إلى معاوية كالمبشر له. فقال له: أفرخ روعك يا أمير، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد، وقد كفيت شر لسانها.

قال: وكيف ذلك؟. قال: مرت بحمص فقتلها الطاعون.

فقال له معاوية: فنفسك فبشر بما أحببت، فإن موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك. ولعمري ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً.

فقال الأسلع: ما أصابني من حرارة لسانها شيء، إلا وقد أصابك مثله أو أشد منه(1).

* وروى ابن طيفور في (بلاغات النساء) قال: روى ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: دخلت أروى

ص: 242


1- بلاغات النساء: ص87-89، كلام آمنة بنت الشريد.

..............................

بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم، وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال: مرحباً بك يا عمة.

قالت: كيف أنت يا ابن أخي؟، لقد كفرت بعدي بالنعمة، وأسأت لابن عمكالصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، بغير بلاء كان منك، ولا من آبائك في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله)، فأتعس الله منكم الجدود، وأصعر منكم الخدود، حتى رد الله الحق إلى أهله، وكانت «كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا»(1)، ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله) هو المنصور على من ناوأه «وَلَوْ كَرِهَ الْمشْرِكُونَ»(2)، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظاً ونصيباً وقدراً، حتى قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) مغفوراً ذنبه، مرفوعاً درجته، شريفاً عند الله مرضياً، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، حيث يقول: «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي»(3)، ولم يجمع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنا شمل، ولم يسهل لنا وعر، وغايتنا الجنة، وغايتكم النار.

قال عمرو بن العاص: أيتها العجوز الضالة، أقصري من قولكِ، وغضي من طرفكِ.

ص: 243


1- سورة التوبة: 40.
2- سورة التوبة: 33.
3- سورة الأعراف: 150.

..............................

قالت: ومن أنت لا أم لك؟!.

قال: عمرو بن العاص.

قالت: يا ابن اللخناء النابغة، أ تكلمني اربع على ظلعك، وأعن بشأن نفسك. فو الله، ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك ستة من قريش كله يزعم أنه أبوك. ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر، فأتم بهم فإنك بهم أشبه.

فقال مروان بن الحكم: أيتها العجوز الضالة، ساخ بصركِ مع ذهاب عقلكِ، فلا يجوز شهادتكِ.

قالت: يا بني، أ تتكلم فو الله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم، وإنك لشبهه في زرقة عينيك، وحمرة شعرك، مع قصر قامته، وظاهر دمامته. ولقد رأيت الحكم ماد القامة، ظاهر الأمة، سبط الشعر، وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب، فاسأل أمك عما ذكرت لك، فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.

ثم التفتت إلى معاوية، فقالت: واللهِ ما عرضني لهؤلاء غيرك، وإن أُمك القائلة في أُحُد في قتل حمزة (رحمة الله عليه):

نحن جزيناكم بيوم بدر *** والحرب يوم الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر *** أبي وعمي وأخي وصهري

شفيت وحشي غليل صدري *** شفيت نفسي وقضيت نذري

فشكر وحشي عليَّ عمري *** حتى تغيب أعظمي في قبري

ص: 244

..............................

فأجبتها:

يا بنت رقاع عظيم الكفر *** خزيت في بدر وغير بدر

صبحك الله قبيل الفجر *** بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري *** حمزة ليثي وعلي صقري

إذ رام شبيب وأبوك غدري *** أعطيت وحشي ضمير الصدر

هتك وحشي حجاب الستر *** ما للبغايا بعدها من فخر

فقال معاوية لمروان وعمرو: ويلكما، أنتما عرضتماني لها، وأسمعتماني ما أكره.

ثم قال لها: يا عمة، اقصدي قصد حاجتك، ودعي عنك أساطير النساء.

قالت: تأمر لي بألفي دينار، وألفي دينار، وألفي دينار.

قال: ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟!.

قالت: أشتري بها عيناً خرخارة، في أرض خوارة، تكون لولد الحارث بنالمطلب. قال: نِعْمَ الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟!.

قالت: أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.

قال: نِعْمَ الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟!.

قالت: أستعين بها على عسر المدينة، وزيارة بيت الله الحرام.

قال: نِعْمَ الموضع وضعتها، هي لك نعم وكرامة، ثم قال: أما والله لو كان علي (عليه السلام) ما أمر لك بها.

ص: 245

..............................

قالت: صدقت إن علياً (عليه السلام) أدى الأمانة، وعمل بأمر الله وأخذ به، وأنت ضيعت أمانتك، وخنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لايستحقه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبينها، فلم تأخذ بها، ودعانا - أي علي (عليه السلام) - إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا، فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، وما سألتك من مالك شيئاً فتمن به، إنما سألتك من حقنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقنا. أ تذكر علياً (عليه السلام)، فض الله فاك، وأجهد بلاءك.

ثم علا بكاؤها، وقالت:

ألا يا عين ويحك أسعدينا *** ألا وابكي أميرالمؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال أو احتذاها *** ومن قرأ المثاني والمئينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين *** رأيت البدر راع الناظرينا

ولا والله لاأنسى علياً *** وحسن صلاته في الراكعينا

أ في الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير الناس طراً أجمعينا

قال: فأمر لها بستة آلاف دينار، وقال لها: يا عمة، أنفقي هذه فيما تحبين، فإذا احتجتِ فاكتبي إلى ابن أخيكِ، يحسن صفدكِ ومعونتكِ إن شاء الله(1).

ولا يخفى أن معاوية كان يضطر أحياناً لبذل مثل هذه الأموال - وهي أموال المسلمين - خوفاً من الفتنة على حكمه، ولم يكن ذلك كرماً منه.

ص: 246


1- بلاغات النساء: ص43 - 46، كلام أروى بنت الحارث بن عبد المطلب.

..............................

نكير السيف على الأعداء

مسألة: يجب أن يكون المؤمن كمولانا علي (عليه السلام)، نكير السيف على أعداء الله والرسول (صلى الله عليه وآله) والمعصومين (عليهم السلام)، وفق الموازين الشرعية المذكورة في باب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.قال تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(1).

وقال سبحانه: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَم يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَاَ الْمؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(2).

وقال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجنَّةَ وَلَمَا يَعْلَمِ اللهُ الَّذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي السَّيْفِ، وَتَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ، وَلاَ يُقِيمُ النَّاسَ إِلاَّ السَّيْفُ،

ص: 247


1- سورة المائدة: 54.
2- سورة التوبة: 16.
3- سورة آل عمران: 142.

..............................

وَالسُّيُوفُ مَقَالِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لِلْجَنَّةِ بَابٌ يُقَالُ لَهُ: بَابُ الْمُجَاهِدِينَ، يَمْضُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مَفْتُوحٌ، وَهُمْ مُتَقَلِّدُونَ بِسُيُوفِهِمْ،وَالْجَمْعُ فِي الْمَوْقِفِ، وَالْمَلاَئِكَةُ تُرَحِّبُ بِهِمْ - ثُمَّ قَالَ - فَمَنْ تَرَكَ الْجِهَادَ أَلْبَسَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذُلاًّ، وَفَقْراً فِي مَعِيشَتِهِ، وَمَحْقاً فِي دِينِهِ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَغْنَى أُمَّتِي بِسَنَابِكِ خَيْلِهَا، وَمَرَاكِزِ رِمَاحِهَا»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالإِسْلاَمِ إِلَى النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا حَتَّى أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ، فَالْخَيْرُ فِي السَّيْفِ، وَتَحْتَ السَّيْفِ، وَالأَمْرُ يَعُودُ كَمَا بَدَأَ»(3). أي أمره بالقتال الدفاعي، أما قبله فكان المشركون يعتدون على من يسلم بتعذيبه وقتله ولم يؤمر المسلمون بالقتال.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ رَجُلاً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مَا أَفْضَلُ الإِسْلاَمِ؟. قَالَ: الإِيمَانُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ. قَالَ:ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ

ص: 248


1- الكافي: ج5 ص2، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح1.
2- الكافي: ج5 ص2، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح2.
3- الكافي: ج5 ص7، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح7.
4- الكافي: ج5 ص56، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.

..............................

قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيُّ الأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ؟. قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نَلْقَى أَهْلَ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»(2).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ».

فقيل له: وَمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ؟!.

قال: «الَّذِي لاَ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ»(3).

حرمة موادة الأعداء

مسألة: يحرم موادة أعداء الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام).

قال تعالى: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَ-َئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

ص: 249


1- الكافي: ج5 ص58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح9.
2- الكافي: ج5 ص58 - 59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح10.
3- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح15.

..............................

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَ-َئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمفْلِحُونَ»(1).

قوله: يوادون أي يحبون ويوالون، نعم أصل محبة الوالدين لكونهما والديه وهكذا من أشبه من الأقارب جائز وإن كانوا كفاراً، والحرام منه ما يكون تأييداً وتقوية للظلم والكفر.

عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «لاَ لُؤْمَ عَلَى مَنْ أَحَبَّ قَوْمَهُ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً» الحديث(2).

وعن ابن فضال، قال: سَمِعْتُ الرِّضَا(عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ وَاصَلَ لَنَا قَاطِعاً، أَوْ قَطَعَ لَنَا وَاصِلاً، أَوْ مَدَحَ لَنَا عَائِباً، أَوْ أَكْرَمَ لَنَا مُخَالِفاً، فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُ»(3).

وعن ابن فضال، عن الإمام الرضا (عليه السلام)، أنه قال: «مَنْ وَالَى أَعْدَاءَ اللهِ فَقَدْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللهِ فَقَدْ عَادَى اللهَ، وَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(4).

ص: 250


1- سورة المجادلة: 22.
2- بحار الأنوار: ج65 ص390، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح7.
3- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح11.
4- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ضمن ح11.

..............................

وعن الوشاء، عن الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: «إِنَّ مِمَّنْ يَتَّخِذُ مَوَدَّتَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، لَمَنْ هُوَ أَشَدُّ فِتْنَةً عَلَى شِيعَتِنَا مِنَ الدَّجَّالِ».

فقلت: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، بِمَاذَا؟!.

قال (عليه السلام): «بِمُوَالاةِ أَعْدَائِنَا، وَمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِنَا، إِنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَاشْتَبَهَ الأَمْرُ، فَلَمْيُعْرَفْ مُؤْمِنٌ مِنْ مُنَافِقٍ»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «مَنْ أَشْبَعَ عَدُوّاً لَنَا فَقَدْ قَتَلَ وَلِيّاً لَنَا»(2). أي أشبعه مع جوع الموالي وعدم وجود مزاحم في ذلك، أو كان الإشباع تقويةً لغيّه لا سبيلاً لإرشاده أو إرشاد أمثاله.

وعن عجلان أبي صالح، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَوْقِفْنِي عَلَى حُدُودِ الإِيمَانِ؟.

فقال (عليه السلام): «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَالإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَصَلاَةُ الْخَمْسِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِجُّ الْبَيْتِ، وَوَلاَيَةُ وَلِيِّنَا، وَعَدَاوَةُ عَدُوِّنَا، وَالدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِينَ»(3).

ص: 251


1- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ضمن ح11.
2- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ضمن ح11.
3- بحار الأنوار: ج65 ص330، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب27 من تتمة أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح4.

..............................

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، عَلَى: الصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْوَلاَيَةِ».

قال زرارة: فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟.

قال (عليه السلام): «الْوَلاَيَةُ أَفْضَلُ؛ لأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، وَالْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ»(1).

فسق القوم

مسألة: قولها (عليها السلام): «نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ»، دليل على فسق أولئك القوم، وقد يستشم من بعض مقاطع كلامها الدلالة على كفر بعضهم، من حيث إن النقمة كانت ل «تَنَمُّرَهِ فِي ذَاتِ اللهِ»، وهذا من الأدلة على بطلان دعوى عدالة جميع الصحابة.

روى الشيخ المفيد (رحمه الله) بسنده، قال: لَمَّا بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليه) صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ إِلَى الْخَوَارِجِ.

قالوا له: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مَعَنَا فِي مَوْضِعِنَا، أَتَكُونُ مَعَهُ؟.

قال: نَعَمْ.

قالوا: فَأَنْتَ إِذاً مُقَلِّدٌ عَلِيّاً دِينَكَ، ارْجِعْ فَلاَ دِينَ لَكَ.

ص: 252


1- بحار الأنوار: ج65 ص332، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب27 من تتمة أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح10.

..............................

فقال لهم صعصعة: وَيْلَكُمْ! أَلاَ أُقَلِّدُ مَنْ قَلَّدَ اللهَ فَأَحْسَنَ التَّقْلِيدَ، فَاضْطَلَعَ بِأَمْرِ اللهِ صَدِيقاً لَمْ يَزَلْ، أَ وَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ قَدَّمَهُ فِي لَهَوَاتِهَا، فَيَطَأُ صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَيُخْمِدُ لَهَبَهَا بِحَدِّهِ، مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللهِ، عَنْهُ يَعْبُرُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَالْمُسْلِمُونَ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ! وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ! وَإِلَى مَنْ تَرْغَبُونَ! وَعَمَّنْ تَصْدِفُونَ! عَنِ الْقَمَرِ الْبَاهِرِ، وَالسِّرَاجِ الزَّاهِرِ، وَصِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَحَسَّانِ الأَعَدِّ الْمُقِيمِ، قَاتَلَكُمُ اللهُ أَنَّى تُؤْفَكُونَ. أَفِي الصِّدِّيقِ الأَكْبَرِ، وَالْغَرَضِ الأَقْصَى تَرْمُونَ، طَاشَتْ عُقُولُكُمْ، وَغَارَتْ حُلُومُكُمْ، وَشَاهَتْ وُجُوهُكُمْ، لَقَدْ عَلَوْتُمُ الْقُلَّةَ مِنَ الْجَبَلِ، وَبَاعَدْتُمُ الْعَلَّةَ مِنَ النَّهَلِ. أَتَسْتَهْدِفُونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات

الله عليه) وَوَصِيَّ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، لَقَدْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ خُسْرَاناً مُبِيناً، فَبُعْداً وَسُحْقاً لِلْكَفَرَةِ الظَّالِمِينَ، عَدَلَ بِكُمْ عَنِ الْقَصْدِ الشَّيْطَانُ، وَعَمِيَ لَكُمْ عَنْ وَاضِحِالْمَحَجَّةِ الْحِرْمَانُ(1).

من أسباب الانقلاب على الحق

مسألة: يجب البيان للناس أن انقلاب القوم على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - ألا وهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - لم يكن للأسباب التي حاولوا اختلاقها، كما قالوا: (إن فيه دعابة) وما أشبه، بل السبب كان كما قالت الصديقة

ص: 253


1- الإختصاص: ص121- 122، طائفة من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم وغيرهم، حديث علي (عليه السلام) مع الخوارج وإرسال صعصعة بن صوحان إليهم.

..............................

الزهراء (عليها السلام): « نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ... وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ»، إضافة إلى الحسد، وحب الرئاسة، والتخطيط للقضاء على الإسلام، وتعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله)، وما أشبه.

عن سعيد بن كلثوم، قال: كُنْتُ عِنْدَ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَذَكَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه

السلام) فَأَطْرَاهُ، وَمَدَحَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَالدُّنْيَا حَرَاماً قَطُّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ قَطُّ هُمَا للهِ رِضًى، إِلاَّ أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَمَا نَزَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَازِلَةٌ قَطُّ، إِلاَّ دَعَاهُ ثِقَةً بِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ رَجُلٍ كَأَنَّ وَجْهَهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَرْجُو ثَوَابَ هَذِهِ وَيَخَافُ عِقَابَ هَذِهِ، وَلَقَدْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ مَمْلُوكٍ فِي طَلَبِ وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، مِمَّا كَدَّ بِيَدَيْهِ، وَرَشَحَ مِنْهُ جَبِينُهُ، وَأَنَّهُ كَانَ لَيَقُوتُ أَهْلَهُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْعَجْوَةِ، وَمَا كَانَ لِبَاسُهُ إِلاَّ الْكَرَابِيسَ، إِذَا فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ يَدِهِ مِنْ كُمِّهِ دَعَا بِالْجَلَمِ فَقَصَّهُ، وَلاَ أَشْبَهَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلاَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقْرَبُ شَبَهاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وَفِقْهِهِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)».

وَلَقَدْ دَخَلَ ابْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ السَّهَرِ، وَرَمِضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْبُكَاءِ، وَدَبِرَتْ جَبْهَتُهُ، وَانْخَرَمَ أَنْفُهُ مِنَ السُّجُودِ، وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): فَلَمْ أَمْلِكْ حِينَ رَأَيْتُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ الْبُكَاءَ، فَبَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُ، وَإِذَا هُوَ يُفَكِّرُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مِنْ دُخُولِي، وَقَاَ: يَا بُنَيَّ،

ص: 254

..............................

أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا عِبَادَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَعْطَيْتُهُ فَقَرَأَ فِيهَا شَيْئاً يَسِيراً، ثُمَّ تَرَكَهَا مِنْ يَدِهِ تَضَجُّراً، وَقَالَ: مَنْ يَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»(1).

وقال العلامة الديلمي في إرشاده: رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه

السلام) كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُ فِي صَلاَتِهِ أَزِيزٌ، كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ خَوْفِ اللهِ تَعَالَى فِي صَدْرِهِ، وكان سيدنا رسول الله (صلى

الله عليه وآله) كذلك، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا قال: « «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»(2)»، يتغير وجهه، ويصفر لونه، فيعرف ذلك في وجهه من خيفة الله تعالى، وأعتق ألف مملوك من كد يمينه، وكان يغرس النخل ويبيعها، ويشتري بثمنها العبيد ويعتقهم، ويعطيهم مع ذلك ما يغنيهم عن الناس. وَأَخْبَرَهُ بَعْضُ عَبِيدِهِ، أَنَّهُ قَدْ نَبَعَ فِي بُسْتَانِهِ عَيْنٌ، فَيَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْهَا مِثْلُ عُنُقِ الْبَعِيرِ. فَقَالَ: «بَشِّرِ الْوَارِثَ، بَشِّرِ الْوَارِثَ، بَشِّرِ الْوَارِثَ». ثُمَّ أَحْضَرَ شُهُوداً،فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ أَوْقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، وَقَالَ: «إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ؛ لِيَصْرِفَ اللهُ عَنْ وَجْهِيَ النَّارَ». وَأَعْطَى مُعَاوِيَةُ لِلْحَسَنِ (عليه السلام) فِيهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. فَقَالَ: «مَا كُنْتُ لأَبِيعَ شَيْئاً أَوْقَفَهُ أَبِي فِي سَبِيلِ اللهِ». وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ إِلاَّ عَمِلَ بِأَشَدِّهِمَا طَاعَةً، وكان إذا سجد سجدة الشكر غشي عليه من خشية الله تعالى»(3).

ص: 255


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص85، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، وثبتت له الإمامة من وجوه.
2- سورة الأنعام: 79.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص105، الباب 28 في الخوف من الله تعالى.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أَمَا وَاللهِ، لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَاماً عَلَى عَهْدِ خَلِيلِي رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِنَّهُمْ لَيُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ شُعْثاً غُبْراً خُمْصاً، بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ كَرُكَبِ الْمِعْزَى، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَقْدَامِهِمْ وَجِبَاهِهِمْ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ وَيَسْأَلُونَهُ فَكَاكَ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ مَعَ هَذَا وَهُمْ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: «وَاللهِ، إِنْ كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لَيَأْكُلُ أَكْلَالْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ لَيَشْتَرِي الْقَمِيصَيْنِ السُّنْبُلَانِيَّيْنِ، فَيُخَيِّرُ غُلاَمَهُ خَيْرَهُمَا، ثُمَّ يَلْبَسُ الآخَرَ، فَإِذَا جَازَ أَصَابِعَهُ قَطَعَهُ، وَإِذَا جَازَ كَعْبَهُ حَذَفَهُ. وَلَقَدْ وَلِيَ خَمْسَ سِنِينَ مَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَلاَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ أَقْطَعَ قَطِيعاً، وَلاَ أَوْرَثَ بَيْضَاءَ وَلاَ حَمْرَاءَ، وَإِنْ كَانَ لَيُطْعِمُ النَّاسَ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالزَّيْتَ وَالْخَلَّ، وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ كِلاَهُمَا للهِ رِضًا، إِلاَّ أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَى بَدَنِهِ. وَلَقَدْ أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدِّ يَدِهِ، وَتَرِبَتْ فِيهِ يَدَاهُ، وَعَرِقَ فِيهِ وَجْهُهُ. وَمَا أَطَاقَ عَمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ لَيُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ شَبَهاً بِهِ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَمَا أَطَاقَ عَمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَعْدَهُ»(2).

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج1 ص87، الباب20 من أبواب مقدمة العبادات، ح206.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص88 - 89، الباب20 من أبواب مقدمة العبادات، ح209.

وَقِلَّةَ مُبَالَاتِهِ لِحَتْفِهِ

اشارة

-------------------------------------------

قلة المبالاة بالموت في سبيل الله

مسألة: من الفضائل قلة المبالاة بالحتف في سبيل الله عزوجل.

وقلة المبالاة كناية عن عدم الحرص على الحياة الدنيا، ولا يقصد المعنى الحرفي للقلة، فلا يراد به ما يقابل مقابل (عدم مبالاته بحتفه)، فإنه (عليه السلام) لم يكن مبالياً بحتفه أصلاً، حيث قال كما في نهج البلاغة: «وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْموْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ»(1).

وفي البحار: «فَوَ اللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْموْتِ مِنَ الطِّفْلِ إِلَى مَحَالِبِ أُمِّهِ» (2).

أو يقال في معنى (قلة مبالاته بحتفه): إن هذا هو ما تلقاه الناس، أي إشارة لمرحلة الإثبات لا الثبوت، إذ إنه (عليه السلام) كان عديم المبالاة بالحتف مطلقاً في سبيل الله.أو يقال: إن القلة بالقياس إلى كلي المواطن، فإن أكثرها يقتضي عدم المبالاة كمواطن الجهاد، وبعضها ما يقتضي الحذر والاحتياط، فلحاظ مجموع المواضع يوحي ب (قلة مبالاته بحتفه)، فتأمل.

ص: 257


1- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)،الرقم 5، ومن خطبة له (عليه السلام) لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة.
2- بحار الأنوار: ج29 ص141، الباب11 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح30.

..............................

وربما كان التعبير بالقلة عرفياً، حيث يعبر عن عدم المبالاة بقلته.

أو يقال: إنه (عليه السلام) في عين حال كونه في الحروب مقداماً شجاعاً فإنه كان حذراً أيضاً، ولذا كان يتلفت حوله في المعركة دوماً، عكس حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) في زمانه، الذي من هنا استطاع وحشي أن يغتاله، وهذا المجموع هو الذي سبب صحة ودقة إطلاق (قلة مبالاته بحتفه)، فتأمل.

بين إهلاك النفس وقلة المبالاة بالحتف

مسألة: يظهر مما ذكر الفرق بين إلقاء النفس في التهلكة الذي هو محرم، وبين قلة مبالاته بحتفه في سبيل الله التي هي فضيلة.فإن الأصل هو «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(1)، فيحرم الانتحار بكل أشكاله، ومن المحرم أيضاً العمليات الانتحارية التي يسمع بها في زماننا هذا حتى ضد الأعداء، فإنها من مصاديق العنف المحرم.

وكذا يحرم تعريض النفس للخطر لأمر باطل، كالتقاتل لغير الحق، أو في غير جبهة الحق، وأما القتال وتعريض النفس للخطر دفاعاً عن الدين أو النفس أو العرض أو المال - في بعض صوره - فإنه بشروطه المذكورة في كتاب الجهاد واجب وخارج عن (التهلكة) إما موضوعاً(2) أو حكماً.

ص: 258


1- سورة البقرة: 195.
2- حيث لا يعد من يخوض ساحات القتال مجاهداً في سبيل الله ممن ألقى بنفسه في التهلكة إذ لا تعد هذه تهلكة عرفاً ولا شرعاً ولا عقلاً.

..............................

قال تعالى: «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبيلِ اللهِ وَالْمسْتَضْعَفينَ»(1).

والظاهر أن الخروج الموضوعي في أمثال ذلك، إذ قد أخذ في مفهوم مادة (هلك) بمشتقاتها ومنها (التهلكة): كونها ميتة سوء أو باطل، كما صرح بهعدد من أهل اللغة، وكما هو المتفاهم عرفاً، وكما عليه الاستعمال القرآني:

قال تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَا ظَلَمُوا»(2).

وقال سبحانه: «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ»(3).

وقال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحرْثَ وَالنَّسْلَ»(4).

وعن زيد بن وهب، قال: كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ جُلُوسَهُ فِي الْخِلاَفَةِ، وَتَقَدُّمَهُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَبُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ.

وَكَانَ مِنَ الأَنْصَارِ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَغَيْرُهُمْ.

ص: 259


1- سورة النساء: 75.
2- سورة يونس: 13.
3- سورة الأنعام: 6، سورة الأنفال: 54.
4- سورة البقرة: 205.

..............................

فَلَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، تَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْفِي أَمْرِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلاَّ نَأْتِيهِ فَنُنَزِّلَهُ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَعَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، وَلَكِنِ امْضُوا بِنَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، نَسْتَشِيرُهُ وَنَسْتَطْلِعُ أَمْرَهُ.

فَأَتَوْا عَلِيّاً (عليه السلام)، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ضَيَّعْتَ نَفْسَكَ، وَتَرَكْتَ حَقّاً أَنْتَ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ الرَّجُلَ، فَنُنْزِلَهُ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنَ الْحَقَّ حَقُّكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِالأَمْرِ مِنْهُ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُنْزِلَهُ مِنْ دُونِ مُشَاوَرَتِكَ.

فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ (عليه السلام): «لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، مَا كُنْتُمْ إِلاَّ حَرْباً لَهُمْ، وَلاَ كُنْتُمْ إِلاَّ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، أَوْ كَالْمِلْحِ فِي الزَّادِ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ التَّارِكَةُ لِقَوْلِ نَبِيِّهَا، وَالْكَاذِبَةُ عَلَى رَبِّهَا.

وَلَقَدْ شَاوَرْتُ فِي ذَلِكَ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَبَوْا إِلاّ السُّكُوتَ؛ لِمَا تَعْلَمُونَ مِنْ وَغْرِ صُدُورِ الْقَوْمِ، وَبُغْضِهِمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ (عليهم السلام)، وَإِنَّهُمْ يُطَالِبُونَ بِثَارَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَاللهِ، لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى قَهَرُونِي، وَغَلَبُونِي عَلَى نَفْسِيوَلَبَّبُونِي، وَقَالُوا لِي: بَايِعْ وَإِلاَّ قَتَلْنَاكَ!. فَلَمْ أَجِدْ حِيلَةً إِلاَّ أَنْ أَدْفَعَ الْقَوْمَ عَنْ نَفْسِي، وَذَاكَ أَنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ نَقَضُوا أَمْرَكَ، وَاسْتَبَدُّوا بِهَا دُونَكَ،وَعَصَوْنِي فِيكَ،فَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ حَتَّى يَنْزِلَ الأَمْرُ، أَلاَ وَإِنَّهُمْ سَيَغْدِرُونَ بِكَ

ص: 260

..............................

لاَ مَحَالَةَ، فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلاً إِلَى إِذْلاَلِكَ وَسَفْكِ دَمِكَ؛ فَإِنَّ الأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ بَعْدِي، كَذَلِكَ أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عَنْ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَكِنِ ائْتُوا الرَّجُلَ فَأَخْبِرُوهُ بِمَا سَمِعْتُمْ مِنْ نَبِيِّكُمْ، وَلاَ تَجْعَلُوهُ فِي الشُّبْهَةِ مِنْ أَمْرِهِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَأَزْيَدَ، وَأَبْلَغَ فِي عُقُوبَتِهِ إِذَا أَتَى رَبَّهُ، وَقَدْ عَصَى نَبِيَّهُ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ»(1).

من فضائل الإمام

مسألة: يستحب بيان أن الإمام علياً (عليه السلام) كان قليل المبالاة بحتفه في سبيل الله. وهذا البيان هو نوع عبادة في حد ذاته؛ لأنه ذكر لفضيلة من بحارفضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إضافة إلى أنه يبعث في الناس الشجاعة والتضحية في سبيل الله، فإن بيان أمثال هذه القضايا من أهم طرق تربية الناس على الشجاعة، واستنهاض المسلمين للتضحية في سبيل الله، لأن للأسوة تأثيرها الكبير في الإنسان بما يفوق التصور.

استحباب التضحية

مسألة: تستحب التضحية في سبيل الله وقلة المبالاة بالموت في طريقه، هذا في غير ما يتوقف عليه الواجب من الدفاع عن الدين وما أشبه، إذا توقف على قلة المبالاة، وإلاّ وجب.

ص: 261


1- الخصال: ج2 ص461 - 462، أبواب الاثني عشر، ح4.

..............................

عن أبي حيان التيمي، عن أبيه - وكان مع علي (عليه السلام) يوم صفين - قال: بَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يُعَبِّئُ الْكَتَائِبَ يَوْمَ صِفِّينَ، وَمُعَاوِيَةُ مُسْتَقْبِلُهُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يَتَأَكَّلُ تَحْتَهُ تَأَكُّلاً، وَعَلِيٌّ (عليه السلام) عَلَى فَرَسِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُرْتَجِزِ، وَبِيَدِهِ حَرْبَةُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ ذُو الْفَقَارِ.

فقال رجل من أصحابه: احْتَرِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَغْتَالَكَهَذَا الْمَلْعُونُ.

فقال (عليه السلام): «لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، إِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى دِينِهِ، وَإِنَّهُ لأَشْقَى الْقَاسِطِينَ، وَأَلْعَنُ الْخَارِجِينَ عَلَى الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَكِنْ كَفَى بِالأَجَلِ حَارِساً، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ وَمَعَهُ مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ، يَخْفَظُونَهُ مِنْ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، أَوْ يَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ، أَوْ يُصِيبَهُ سُوءٌ، فَإِذَا حَانَ أَجَلُهُ، خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُصِيبُهُ. وَكَذَلِكَ أَنَا، إِذَا حَانَ أَجَلِي، انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَخَضَّبَ هَذِهِ مِنْ هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ - عَهْداً مَعْهُوداً، وَوَعْداً غَيْرَ مَكْذُوبٍ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قَدَّرَ اللهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(2).

وعن جعفر بن محمد، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)

ص: 262


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص367 - 368، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح5.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص368، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح7.

..............................

قَالَ: «دَخَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام)عَلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَ أَبَاكَ عَلَى أَنْ قَتَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ دَارَ عَشِيّاً فِي طُرُقِهِمْ فِي ثَوْبَيْنِ؟.

فَقَالَ (عليه السلام): حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ عِلْمُهُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. قَالَ: صَدَقْتَ.

وقَالَ: وَقِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) - لَمَّا أَرَادَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ -: لَوِ احْتَرَزْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ (عليه السلام):

أَيَّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمْتِ أَفِرُّ *** أَ يَوْمَ لَم يُقْدَرْ أَمْ يَوْمَ قُدِر

يَوْمَ مَا قُدِّرَ لَا أَخْشَى الرَّدَى *** وَ إِذَا قُدِّرَ لَم يُغْنِ الْحذَر(1)

وعن يحيى بن أبي كثير، قال: قِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَلاَ نَحْرُسُكَ؟.

قال (عليه السلام): «حَرَسُ كُلِّ امْرِئٍ أَجَلُهُ»(2).

وعن سعيد بن وهب قال: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ بِصِفِّينَ لَيْلاً، وَالصَّفَّانُ يَنْظُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، حَتَّى جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَنَزَلْنَا عَلَى فِنَائِهِ.

فقال له سعيد بن قيس: أَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَ مَا خِفْتَشَيْئاً!.

ص: 263


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص374 - 375، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح19.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص379، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح25.

..............................

قال (عليه السلام): «وَأَيَّ شَيْءٍ أَخَافُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَمَعَهُ مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بِهِ أَنْ يَقَعَ فِي بِئْرٍ، أَوْ تَضُرَّ بِهِ دَابَّةٌ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْقَدَرُ، فَإِذَا أَتَى الْقَدَرُ خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ»(1).

وعن الزهري، قال: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، أَ بِقَدَرٍ يُصِيبُ النَّاسَ مَا أَصَابَهُمْ أَمْ بِعَمَلٍ؟.

فقال (عليه السلام): «إِنَّ الْقَدَرَ وَالْعَمَلَ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَالرُّوحُ بِغَيْرِ جَسَدٍ لاَ تُحَسُّ، وَالْجَسَدُ بِغَيْرِ رُوحٍ صُورَةٌ لاَ حَرَاكَ بِهَا. فَإِذَا اجْتَمَعَا قَوِيَا وَصَلُحَا، كَذَلِكَ الْعَمَلُ وَالْقَدَرُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَدَرُ وَاقِعاً عَلَى الْعَمَلِ، لَمْ يُعْرَفِ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَكَانَ الْقَدَرُ شَيْئاً لاَ يُحَسُّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ بِمُوَافَقَةٍ مِنَ الْقَدَرِ، لَمْ يَمْضِ وَلَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنَّهُمَا بِاجْتِمَاعِهِمَا قَوِيَا، وَللهِ فِيهِ الْعَوْنُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - ثم قال (عليه السلام) - أَلاَ إِنَّ مِنْ أَجْوَرِ النَّاسِ مَنْ رَأَى جَوْرَهُ عَدْلاً، وَعَدْلَ الْمُهْتَدِي جَوْراً.أَلاَ إِنَّ لِلْعَبْدِ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ، عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا أَمْرَ آخِرَتِهِ، وَعَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا أَمْرَ دُنْيَاهُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً، فَتَحَ لَهُ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي قَلْبِهِ، فَأَبْصَرَ بِهِمَا الْعَيْبَ. وَإِذَا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ، تَرَكَ الْقَلْبَ بِمَا فِيهِ - ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى السَّائِلِ عَنِ الْقَدَرِ - فَقَالَ: هَذَا مِنْهُ، هَذَا مِنْهُ»(2).

ص: 264


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص379، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح26.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص366 - 367، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح4.

وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ

اشارة

-------------------------------------------

شدة الوطأة على الأعداء في الجملة

الوطئ والوطئة: الأخذ الشديد، وأصله السحق بالقدم، فكأنما يطأ الشيء بقدمه فقد استقضى في هلاكه وإهانته وإذلاله.

وكان الإمام علي (عليه السلام) شديد الوطئة على الكفار المحاربين لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وللإسلام، فكان شديداً في إذلالهم وإهانتهم ومنعهم عن النيل من الإسلام والمسلمين، فيما كان الأمر يقتضي الشدة.

مسألة: يستحب وقد يجب أن يكون الإنسان شديد الوطئة على أعداء الله، كما قال تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ»(1). ففف

وغير خفي أن شدة الوطئة على أعداء الله والدين والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) في موضع الشدة، وهذا لا يتنافى مع أصالة الرحمة والعطف واللين والأخلاق وما أشبه التي هي الأصل في الإسلام، فإن لكل أصل استثناء بشرائطه، محدد بلسان الشرعأو بحكم العقل.

فالإرهابي أو الخارجي مثلاً إذا رفع السلاح على الأبرياء، فإنه يجب أن يواجه بشدة بعد اليأس عن المحاولات الأخرى، لكنه إذا وضع السلاح فإنه يعامل وفق الأصل أي الرفق والأخلاق، كما في الخوارج في زمن علي (عليه السلام) حيث إنهم بعد وضع السلاح عاملهم الإمام (عليه السلام) برفق وعفو

ص: 265


1- سورة الفتح: 29.

وتسامح وأجرى لهم العطاء من بيت المال.

وكذا الكفار فإن الأصل بالنسبة إليهم الرفق أيضاً، إلا إذا واجهونا بالحرب، أما إذا طلبوا الصلح والإصلاح، أو كانوا على حياد، أو على معاهدة، أو ما أشبه فالمسألة تختلف، قال تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ»(1). فلكل من الشدة واللين موطن، والأصل اللين والرفق حتى مع الأعداء، قال تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(2).

وقد ذكرنا تفصيل الكلام في الفقه(3).

حرمة الشدة في غير محلها

مسألة: يحرم أن يستخدم الشدة في موطن الرحمة واللين، أو أن يستخدم اللين واللطف في موطن لزوم الشدة، إذ كثيراً ما يحدث أن الإنسان يخلط أهواءه الشخصية وعواطفه وإحساساته، فيتخذ موقفاً من الشدة أو اللين على غير ما يقتضيه المقام والعقل والدين، وذلك كما في قضية حاطب بن أبي بلتعة.

وقد روي: أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، سَأَلَ اللهَ جَلَّ اسْمُهُ أَنْ يُعْمِيَ أَخْبَارَهُ عَلَى قُرَيْشٍ لِيَدْخُلَهَا بَغْتَةً، وَكَانَ (صلى الله عليه وآله) قَدْ بَنَى الأَمْرَ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهَا عَلَى الاِسْتِسْرَارِ بِذَلِكَ.

ص: 266


1- سورة الأنفال: 61.
2- سورة الممتحنة: 8.
3- للتفصيل انظر كتاب (الفقه: السلم والسلام) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِعَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى فَتْحِهَا، وَأَعْطَى الْكِتَابَ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ وَرَدَتِ الْمَدِينَةَ تَسْتَمِيحُ النَّاسَ وَتَسْتَبِرُّهُمْ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلاً أَنْ تُوصِلَهُ إِلَى قَوْمٍ سَمَّاهُمْ لَهَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ.

فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِذَلِكَ، فَاسْتَدْعَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَقَالَ لَهُ: «إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِي قَدْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبَرِنَا، وَقَدْ كُنْتُ سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ أَخْبَارَنَاعَلَيْهِمْ، وَالْكِتَابُ مَعَ امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَخَذَتْ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، فَخُذْ سَيْفَكَ وَالْحَقْهَا وَانْتَزِعِ الْكِتَابَ مِنْهَا، وَخَلِّهَا وَصِرْ بِهِ إِلَيَّ».

ثُمَّ اسْتَدْعَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَقَالَ لَهُ: «امْضِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذَا الْوَجْهِ». فَمَضَيَا وَأَخَذَا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ فَأَدْرَكَا الْمَرْأَةَ، فَسَبَقَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرُ فَسَأَلَهَا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي مَعَهَا، فَأَنْكَرَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ مَعَهَا وَبَكَتْ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا أَرَى يَا أَبَا الْحَسَنِ مَعَهَا كِتَاباً، فَارْجِعْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نُخْبِرْهُ بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهَا.

فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يُخْبِرُنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّ مَعَهَا كِتَاباً وَيَأْمُرُنِي بِأَخْذِهِ مِنْهَا، وَتَقُولُ أَنْتَ: إِنَّهُ لاَ كِتَابَ مَعَهَا».

ثُمَّ اخْتَرَطَ (عليه السلام) السَّيْفَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا فَقَالَ: «أَمَا وَاللهِ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجِي الْكِتَابَ لأَكْشِفَنَّكِ، ثُمَّ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ».

فَقَالَتْ: إِذَا كَانَ لاَبُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَعْرِضْ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ بِوَجْهِكَ عَنِّي،

ص: 267

..............................

فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهَا، فَكَشَفَتْ قِنَاعَهَا وَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْ عَقِيصَتِهَا، فَأَخَذَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه

السلام)، وَصَارَ بِهِإِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى: الصَّلاَةَ جَامِعَةً، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى امْتَلأَ بِهِمْ، ثُمَّ صَعِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِلَى الْمِنْبَرِ وَأَخَذَ الْكِتَابَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي كُنْتُ سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْفِيَ أَخْبَارَنَا عَنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّ رَجُلاً مِنْكُمْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبَرِنَا، فَلْيَقُمْ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَإِلاَّ فَضَحَهُ الْوَحْيُ». فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَقَالَتَهُ ثَانِيَةً، وَقَالَ: «لِيَقُمْ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَإِلاَّ فَضَحَهُ الْوَحْيُ».

فَقَامَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ يَرْعُدُ كَالسَّعَفَةِ فِي يَوْمِ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَمَا أَحْدَثْتُ نِفَاقاً بَعْدَ إِسْلاَمِي، وَلاَ شَكّاً بَعْدَ يَقِينِي.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «فَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى أَنْ كَتَبْتَ هَذَا الْكِتَابَ؟!».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي أَهْلاً بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ لِي بِهَا عَشِيرَةٌ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ تَكُونَ دَائِرَةٌ لَهُمْ عَلَيْنَا، فَيَكُونُ كِتَابِي هَذَا كَفّاً لَهُمْ عَنْ أَهْلِي، وَيَداً لِي عِنْدَهُمْ، وَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ لِلشَّكِّ فِي الدِّينِ.

فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ مُنَافِقٌ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَعَلَّ اللهَ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَغَفَرَ لَهُمْ، أَخْرِجُوهُ مِنَ الْمَسْجِدِ».

ص: 268

..............................

قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْفَعُونَ فِي ظَهْرِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ، وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لِيَرِقَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اله عليه وآله) بِرَدِّهِ، وَقَالَ لَهُ: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَعَنْ جُرْمِكَ، فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ وَلا تَعُدْ بِمِثْلِ مَا جَنَيْتَ»(1).

وكما فيما أشار إليه تعالى بقوله: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(2).

وعلى هذا فيجب أن يتجرد الإنسان من أهوائه بينه وبين الله عند اتخاذه المواقف من الناس، أصدقاءً كانوا أم أعداءً. قال تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى»(3).

وكذلك كان الإمام علي (عليه السلام)حيث كان كما وصفته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) شديد الوطأة على أعداء الله والرسول، وإن كان يعلم بأن ذلك يضر به وبمستقبله أكبر الضرر، ويؤدي إلى اضطهاده وضرب ثم قتل حليلته الصديقة فاطمة (عليها السلام) وابنه المحسن الشهيد (عليه السلام).. وهذا ما حدث، حيث قام المنافقون والصحابة المنقلبون على الأعقاب بانقلاب على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في (سقيفة بني ساعدة) وتنحيته عن الخلافة، وغصبوا حقه

ص: 269


1- بحار الأنوار: ج21 ص119- 121، تتمة كتاب تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله)، تتمة أبواب أحواله (صلى الله عليه وآله) من البعثة إلى نزول المدينة، ب26 فتح مكة، ح18، عن الإرشاد.
2- سورة المجادلة: 22.
3- سورة المائدة: 8.

..............................

وأحرقوا داره وضربوا زوجته وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها محسناً، وجرى كل الذي جرى لأنه (عليه السلام) كان لا يهادن في الحق، ولا يحيد عن الصدق، ولا يراوغ ولا يمالئ الباطل، ولا يلين في مواطن الشدة، ولا يشتد في مواطن اللين.

التأسي بالإمام (عليه السلام)

مسألة: يجب بيان ما سبق من أن علياً (عليه السلام) كان شديداً وطأته، نكالاً وقعته في مواردهما، ويجب التأسي به في كل ذلك، فإنه (عليه السلام) كان شديداًفي موضع الشدة، ورؤوفاً وعطوفاً في موضع العطف، ولذا تعامل مع الخوارج بمنتهى اللطف لما وضعوا السلاح.

وهذه صفة من صفات الباري عزَّ وجل التي يجب تعلمها حيث ورد في الحديث: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِ اللهِ» (1)، فإنه جل وعلا «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ الْمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النَّكَالِ وَالنَّقِمَةِ»(2)، وهو «شَدِيدُ الْعِقَابِ»(3) في موضعه، وهو «أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ»(4) في موضعه.

ص: 270


1- بحار الأنوار: ج58 ص129، تتمة كتاب السماء والعالم، الباب42 من تتمة أبواب الإنسان والروح والبدن وأجزائه وقواهما وأحوالهما، تتميم.
2- تهذيب الأحكام: ج3 ص108،ب5، دعاء أول يوم من شهر رمضان، ح38.
3- سورة البقرة: 196، واثنا عشر موضعاً آخر من القرآن الكريم.
4- سورة الأعراف: 151، وثلاثة مواضع أخرى من القرآن الكريم.

..............................

مسألة: يجب أن يكون الإنسان كعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) في التنكيل بالأعداء حيث اقتضى الأمر ذلك.

و(النكال) هو أن يصنع به صنيعاً يحذر به غيره، ويجعله عبرة له،والنكال: العقوبة، ونكَّل بفلان: صنع به ما يحذر به غيره عند رؤيته أو السماع عنه. قال تعالى: «فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا»(1)، أي جعلنا قرية أهل السبت عبرة لما بين يديها من القرى وما خلفها ليتعظوا بها.

وإلى ذلك أشارة الصديقة (عليها السلام) في صفة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت: «وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ».

والوقعة: الصدمة في الحرب ونحوها، ووقعة السيف: نزوله بالضربة، أي إن علياً (عليه السلام) كان ينكل بهم في الحروب دفاعاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن دين الله و«لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ»(2).

قال تعالى: «يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(3).

وقال سبحانه: «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ»(4).

ص: 271


1- سورة البقرة: 66.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص127، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في الاستنابة والولاية.
3- سورة المائدة: 54.
4- سورة الأنفال: 57.

..............................

وهذا الصنيع الذي يشرد به من خلفهم واجب، لأنه يدفع ضرراً أكبر، إذ يحول دون أن يعاود الكفار الهجوم فتقع حرب أخرى وسيل من القتلى والجرحى.

وواضح أن كل ذلك في إطار العدل والحد المسموح في الحرب، بل إن ذلك كان كله في إطار (الإحسان إلى العدو)، ولذا نجد الإمام علي (عليه السلام) سمح لجيش معاوية بالشرب من النهر لما ملكه، رغم أنهم منعوه وجيشه من الشرب عندما ملكوا النهر(1).

وكذلك صنع الإمام الحسين (عليه السلام) مع جيش الحر، حيث سقاهم الماء بل أمر (عليه السلام) بترشيف خيولهم، قال: «وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفاً»(2).

فالشدة ونكال الوقعة كانت بقدر الضرورة القصوى فقط، وما عداه كان كله لطف وإحسان وعفو وصفح وهو الأصل في الإسلام كما بينا.

وكذلك منَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)على أهل مكة(3)، ومنَّ علي (عليه السلام) على أهل البصرة(4)، وفتح المجال للمعارضة السياسية والعقائدية بأوسع الأبواب، كما ذكرنا بعض تفصيله في كتاب (الإمام علي (عليه السلام) شمس في

ص: 272


1- بحار الأنوار: ج32 ص443، تتمة كتاب الفتن والمحن، الباب11 من أبواب ما جرى بعد قتل عثمان من الفتن والوقائع والحروب وغيرها، ح393.
2- وقعة الطف - أبو مخنف: ص168، خروج الحسين (عليه السلام) من مكة، منازل الطريق، ذو حسم.
3- الكافي: ج3 ص513، كتاب الزكاة، باب أقل ما يجب فيه الزكاة من الحرث، ح2.
4- تفسير فرات الكوفي: ص111- 112، سورة النساء الآيات 69 إلى 70، ح113.

..............................

أفق البشرية) (1) وفي كتاب (الصياغة) (2) وغيرهما(3).

تقييم التاريخ

مسألة: يجب إعادة النظر في التاريخ على ضوء خطبة الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وكلمات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وخطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وروايات سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويجب عرض كل مقطع تاريخي على سيرتهم (عليهم السلام)؛ ليعرف مدى صوابه أو خطئه، ويعرف مدى التزام الأشخاص بها وتخلفهم عنها.

ص: 273


1- طبع الكتاب باللغة الفارسية تحت عنوان (أمير المؤمنين عليه السلام خورشيدي در أفق بشريت).
2- واسمه الكامل: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، وهو من تأليفات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في قم المقدسة. يقع الكتاب في 736 صفحة قياس 24×17. طبع كراراً في إيران ولبنان.
3- انظر كتاب: (ولأول مرة في تاريخ العالم ج1 و2)، وكتاب (من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله)، و(من حياة أمير المؤمنين عليه السلام) للإمام المؤلف (قدس سره).

وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ

اشارة

-------------------------------------------

التنمر في ذات الله

يقال: تنمَّر فلان، أي تغير وتنكر وأوعد؛ لأن النمر لا تلقاه عادة إلا متنكراً غضباناً.

وأما (في ذات الله) فمعناه يتضح بعد التدقيق في معنى (ذات) فإن الذات تطلق على:

ألف: الشيء نفسه، تقول: شاهدته بذاته أي بعينه ونفسه، وتقول: رأيت الشيء ذاته أو بذاته أي بنفسه.

ب: الحقيقة، تقول: وما أدراني بذاته؟ أي بحقيقته وواقعه.

ج: الخلقة والبنية أو الطينة، تقول: فلان صالح في ذاته أو طالح في ذاته، أي في خلقته وطينته، أي إنه مجبول على الخير.

د: وقد يراد بالذات الأحوال المتعلقة بالشيء أو ما يتضمن الشيء، قال سبحانه: «إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(1)، أي بالمضمرات التي في صدور الناس.

وقال تعالى: «وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ»(2)، أيالحالة التي بينكم فلا تفسدوها، أي علاقاتكم وروابطكم، وهي من الأحوال المتعلقة بالإنسان.

ص: 274


1- سورة الأنفال: 43.
2- سورة الأنفال: 43.

..............................

وللذات معان أخر ليس هنا محل ذكرها(1).

والمقصود من كلامها (عليها السلام): «وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ» أي في مختلف الشؤون التي تتعلق بالله جل وعلا، فكل ما يرتبط بالعقيدة أو الشريعة، وبالأنبياء والرسل والأوصياء، وبأوامره ونواهيه، وفيما يتلقاه الناس في الأمور العامة أم الأحوال الشخصية، و على مختلف الأصعدة السياسية منها أو العبادية أو الاقتصادية أو ما أشبه، فإنه (عليه السلام) متنمر في الدفاع عما يرتبط بالله عز وجل، و(لا تأخذه في الله لومة لائم).

مسألة: يستحب وقد يجب التنمر في ذات الله.

ولا فرق في ذلك بين شؤون العقيدة وشؤون الشريعة، ولا بين ما يتصوره الناس صغيراً أو كبيراً، قال تعالى:«وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظيمٌ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ»(3).

وقال تعالى: «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(4).

ص: 275


1- مثلاً قوله تعالى: «وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ» أي طرفه وجهته، سورة الكهف: 18.
2- سورة النور: 15.
3- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) الرقم354.
4- سورة البقرة: 85.

..............................

ومن أهم مصاديق ما يجب له التنمر في الله، ما إذا تعرض أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله) لهجوم أو نقد، أو تقليل من شأنهم، أو إنكار لأحقيتهم بالخلافة، أو إنكار لأي حق من حقوقهم كفدك، أو التهوين من أمر الظلم الذي وقع عليهم، أو ما أشبه، فإن الواجب أن يبذل الإنسان جهده ليلاً ونهاراً في الدفاع عنهم، باللسان والقلم والمال والفكر وما أشبه ذلك.

التنمر لله عز وجل لا للهوى

مسألة: يلزم أن يكون التنمر لله، وليسلهوى النفس أو شهرة أو رياسة أو جلب منفعة أو دفع مضرة، ولو تطابق ذلك فإن نية الإنسان ينبغي أن تكون لله، لا لما طابقه من شهرة أو رياسة، وإلا فإنه لا يؤجر على ذلك.

قال تعالى في الحديث القدسي : «أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، مَنْ عَمِلَ لِي وَلِغَيْرِي، فَهُوَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ دُونِي»(1).

هذا لو تطابق العمل لله مع ما فيه الشهرة والرياسة أو ما أشبه مما يتطابق مع الأهواء، أما لو تطابق مع جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قصد بهما الآخرة أيضاً فلا إشكال(2).

ص: 276


1- تفسير العياشي: ج2 ص353، سورة الكهف: آية 110، ح95.
2- كما لو شارك في معركة ضد الكفار تنمراً في ذات الله، ولأجل أن يحصل على الغنائم أيضا لينفقها في سبيل الله كبناء مسجد، «أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ» سورة البلد: 14 - 16.

..............................

وإن لم يقصد بهما الآخرة أو القربة بل بما هما، فإن كان بنحو الداعي على الداعي لم يضر بصحة العمل وقبوله إن كان قصده الأول هو الله، وإلا فلم يؤجر، وإن كان تعبدياً في الأخير بطل.عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَنِيَّةُ الْفَاجِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، وَكُلُّ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ»(1).

وعن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ زَادَ اللهُ فِي رِزْقِهِ»(2).

وعن إسحاق بن عمار ويونس، قالا: سَأَلْنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»(3)، أَقُوَّةٌ فِي الأَبْدَانِ أَوْ قُوَّةٌ فِي الْقَلْبِ؟. قال (عليه السلام): «فِيهِمَا جَمِيعاً»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْزُقْنِي؛ حَتَّى أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبِرِّ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، فَإِذَا عَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ، إِنَّ اللهَ وَاسِعٌكَرِيمُ»(5).

ص: 277


1- المحاسن: ج1 ص260، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح315.
2- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح318.
3- سورة البقرة: 63 و93، سورة الأعراف: 171.
4- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح319.
5- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح320.

..............................

وعن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، قال: سَأَلَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللهِ الْقُمِّيُّ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ: مَا الْعِبَادَةُ؟. فقال (عليه السلام): «حُسْنُ النِّيَّةِ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُطَاعُ اللهُ مِنْهُ».

وفي حديث آخر، قال (عليه السلام): «حُسْنُ النِّيَّةِ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ»(1).

وعن الحكم بن عيينة، قال: لَمَّا قَتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) الْخَوَارِجَ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، طُوبَى لَنَا إِذْ شَهِدْنَا مَعَكَ هَذَا الْمَوْقِفَ، وَقَتَلْنَا مَعَكَ هَؤُلاَءِ الْخَوَارِجَ.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَقَدْ شَهِدَنَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أُنَاسٌ لَمْ يَخْلُقِ اللهُ آبَاءَهُمْ وَلاَ أَجْدَادَهُمْ بَعْدُ».فقال الرجل: وَكَيْفَ شَهِدَنَا قَوْمٌ لَمْ يُخْلَقُوا؟!.

قال (عليه السلام): «بَلَى قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يَشْرَكُونَنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لَنَا، فَأُولَئِكَ شُرَكَاؤُنَا فِيمَا كُنَّا فِيهِ حَقّاً حَقّاً»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3).

ص: 278


1- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح321.
2- المحاسن: ج1 ص261 -232، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح322.
3- المحاسن: ج1 ص262، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح325.

..............................

من أوصاف الأمير (عليه السلام)

مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) كان متنمراً في ذات الله، كما وصفته الصديقة فاطمة (عليها السلام).

والفرق بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره أن تنمره في ذات الله كان في أعلى المراتب، كيفاً وجهةً وكماً، فكان في جميع الأحوال وفي جميع الأزمان كذلك، وكان في أعلى درجات ذلك في الصور والحالات والأزمنة كلها.

وقد ورد في وصف آخر له (عليه السلام): «مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللهِ»(1)، أي من بلغه الكد والتعب والأذى في سبيل الله.

وفي وصف آخر: «لَخشِنٌ فِي ذَاتِ اللهِ»(2)، أي لا يداهن في دين الله عزوجل.

إلى غير ذلك من متواتر الروايات والقصص والأحداث، مما يدل على تنمَّره(عليه السلام) في ذات الله، كعدم قتله عمرو بن عبدود فوراً؛ حيث تفل في وجه الإمام (عليه السلام) (3)، ومبيته في الفراش ليلة المبيت، وقصة يوم الإنذار،

ص: 279


1- الإختصاص: ص121، طائفة من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم وغيرهم، حديث علي (عليه السلام) مع الخوارج وإرسال صعصعة بن صوحان إليهم.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص110، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.
3- روي أنه لَمَّا أَدْرَكَ علي (عليه السلام) عَمْرَو بْنَ عَبْدَ وُدٍّ لَمْ يَضْرِبْهُ، فَوَقَعُوا فِي عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَرَدَّ عَنْهُ حُذَيْفَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَهْ يَا حُذَيْفَةُ، فَإِنَّ عَلِيّاً سَيَذْكُرُ سَبَبَ وَقْفَتِهِ».◄ ►ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَهُ، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «قَدْ كَانَ شَتَمَ أُمِّي، وَتَفَلَ فِي وَجْهِي، فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفْسِي، فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ مَا بِي، ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللهِ». مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وفي خيبر، وغيرها وغيرها(1).

فضائل الزوج

مسألة: يستحب للزوجة بيان فضائل زوجها، وقد يجب كما في مثل المقام، أي فيما كان إحقاقاً للحق ودفعاًللباطل وتوقف على ذلك.

وهذا مما يدل أيضاً على اهتمام الإسلام بإسعاد الحياة الزوجية، وهناك تعاليم أخرى مذكورة في محلها.

وعن أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ قَوْماً أَتَوْا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله), فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا رَأَيْنَا أُنَاساً يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَوْ أَمَرْتُ أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»(3).

ص: 280


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1 و2، وكتاب (من حياة أمير المؤمنين عليه السلام) للمؤلف (قدس سره).
2- الكافي: ج5 ص507، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح4.
3- الكافي: ج5 ص507 - 508، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح6.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ؟. قَالَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: فَخَبِّرْنِي عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ؟. فَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَصُومَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ - يَعْنِي تَطَوُّعاً - وَلاَ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ طِيبِهَا، وَتَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا، وَتَزَيَّنَ بِأَحْسَنِ زِينَتِهَا،وَتَعْرِضَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ حُقُوقُهُ عَلَيْهَا»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَتْ: مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ؟. فَقَالَ: أَنْ تُجِيبَهُ إِلَى حَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى قَتَبٍ، وَلاَ تُعْطِيَ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ فَعَلَيْهَا الْوِزْرُ وَلَهُ الأَجْرُ، وَلاَ تَبِيتَ لَيْلَةً وَهُوَ عَلَيْهَا سَاخِطٌ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ظَالِماً؟. قَالَ: نَعَمْ».(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للنساء: «لاَ تُطَوِّلْنَ صَلاَتَكُنَّ لِتَمْنَعْنَ أَزْوَاجَكُنَّ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لِبَعْضِ الْحَاجَةِ. فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّكِ مِنَ الْمُسَوِّفَاتِ.

قَالَتْ: وَمَا الْمُسَوِّفَاتُ يَا رَسُولَ اللهِ؟.

ص: 281


1- الكافي: ج5 ص508، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح7.
2- الكافي: ج5 ص508، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح8.
3- الكافي: ج5 ص508، كتاب النكاح، باب كراهية أن تمنع النساء أزواجهن، ح1.

..............................

قَالَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي يَدْعُوهَا زَوْجُهَا لِبَعْضِ الْحَاجَةِ، فَلاَ تَزَالُ تُسَوِّفُهُ حَتَّى يَنْعُسَ زَوْجُهَا وَيَنَامَ، فَتِلْكَ لاَ تَزَالُ الْمَلاَئِكَةُ تَلْعَنُهَا حَتَّى يَسْتَيْقِظَ زَوْجُهَا»(1).

ص: 282


1- الكافي: ج5 ص508 - 509، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح2.

وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ لَاعْتَلَقَهُ

اشارة

-------------------------------------------

وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ لَاعْتَلَقَهُ(1)

وجوب التكاف

وفي نسخة: «وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا عَنِ قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا».

وبناءً على النسخة الأولى، فإن التكاف: تفاعل من الكف، أي لو كف بعضهم بعضاً عن غصب الخلافة، وعن التعرض للزمام الذي سلَّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(2)، بأن لم يهجموا عليه، ولم يتعاونوا على غصب وسلب ذلك الزمام عن علي (عليه السلام)، بل كان يبقى الزمام بيد الإمام (عليه السلام)، لرأوا كيف يسير بهم الإمام (عليه السلام) سيراً مريحاً لا عوج فيه ولا أمتاً.

مسألة: التكاف واجب بالنسبة للمنكرات، وهو أكثر من عدم التعاون والمعونة، إذ هو إيجابي، وهذا سلبي.وأما قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(3)، فإن أُريد من «وَلَا تَعَاوَنُوا» عدم إعانة بعضهم بعضاً فقط،

ص: 283


1- هذه الفقرة موجودة في بعض نسخ الخطبة.
2- سورة المائدة: 67.
3- سورة المائدة: 2.

..............................

فإن (التكاف) منهي عنه ومحرم بالأولوية القطعية، وإن أُريد منه الأعم كان شاملاً له(1)، وإن كانت الحرمة والعقوبة أشد بحكم العقل.

ويستفاد من قولها (عليها السلام): «وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا» أن التكاف واجب، ويفهم ذلك من السياق ومن الغاية(2).

وعلى ذلك، فلو ظهر منكر في المجتمع واتجه إليه الناس، وجب على كل منهم إضافة إلى كف نفسه أن يكف الآخرين أيضاً، ومن أمثلة ذلك: مسارعة الناس إلى تأييد الحكومات الباطلة، أو التهافت على بعض البرامج التلفزيونية الفاسدة، أو الذهاب إلىالسينما الفاسدة، أو الترويج لشخص ضال أو فئة ضالة، خصوصاً عند ما تطبل لها وسائل الإعلام وتزمر، أو ما أشبه ذلك.

قال أبو جعفر (عليه السلام): «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الآخِرَةِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً إِلَى الْجَنَّةِ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً إِلَى النَّارِ أَهْلُ الْمُنْكَرِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ بَعَثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاً يُقَالُ لَهُ: أَرْمِيَا. فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: مَا بَلَدٌ بِنَفْسِهِ مِنْ كِرَامِ الْبُلْدَانِ، وَغُرِسَ فِيهِ مِنْ

ص: 284


1- أي إن أريد من قوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» الأعم من مجرد عدم التعاون ومن التعاون على الإثم والعدوان، كان قوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا» شاملاً له أي للتكاف الذي يعني أن يكف بعضهم بعضاً.
2- الغاية هي ما ذكرته (صلوات الله عليها): «لاعْتَلَقَهُ»، و«لَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً».
3- الزهد: ص30 - 31، باب المعروف والمنكر، ح77.

..............................

كِرَامِ الْغُرُوسِ، وَنَقَّيْتُهُ نَفْسَهُ مِنْ كُلِّ غَرْسَةٍ غَرِيبَةٍ، فَأَخْلَفَ فَأَنْبَتَ خُرْنُوباً. فَضَحِكُوا مِنْهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَشَكَاهُمْ إِلَى اللهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ الْبَلَدَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ، وَالْغَرْسَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، نَقَّيْتُهُمْ مِنْ كُلِّ غَرِيبَةٍ، وَنَحَّيْتُ عَنْهُمْ كُلَّجَبَّارٍ، فَأَخْلَفُوا فَعَمِلُوا بِمَعَاصِيَّ، فَلأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ فِي بَلَدِهِمْ مَنْ يَسْفِكُ دِمَاءَهُمْ، وَيَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ، وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْ بُكَاءَهُمْ، وَإِنْ دَعَوْا لَمْ أَسْتَجِبْ دُعَاءَهُمْ، فَشِلُوا وَفَشِلَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَلأُخَرِّبَنَّهَا مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ لأَعْمُرَنَّهَا.

قَالَ: فَلَمَّا حَدَّثَهُمْ جَزِعَتِ الْعُلَمَاءُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا ذَنْبُنَا نَحْنُ وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ بِعَمَلِهِمْ، فَعَاوِدْ لَنَا رَبَّكَ. فَصَامَ سَبْعاً فَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ، فَأَكَلَ أَكْلَةً ثُمَّ صَامَ سَبْعاً، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ وَالْعِشْرُونَ يَوْماً، أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: لَتَرْجِعَنَّ عَمَّا تَصْنَعُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فِي أَمْرٍ قَدْ قَضَيْتُهُ، أَوْ لأَرُدَّنَّ وَجْهَكَ عَلَى دُبُرِكَ. ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ: أَنْ قُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ رَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ تُنْكِرُوهُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَ نَصَّرُ، فَفَعَلَ بِهِمْ مَا قَدْ بَلَغَكَ»(1).

وعن حبشي، قال: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنَ عَمِّهِ مُحَمَّداً (صلى

الله عليه وآله) فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِحَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي، نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ، فَمُرُوابِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ.

ص: 285


1- الزهد: ص105، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح287.

..............................

وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لاَ يُقَرِّبَانِ أَجَلاً، وَلاَيَقْطَعَانِ رِزْقاً، فَإِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، إِلَى كُلِّ نَفْسٍ مَا قَدَّرَ اللهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، فَإِنْ أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فِي أَهْلٍ وَمَالٍ وَنَفْسٍ، وَرَأَى عِنْدَ أَخِيهِ عُقُوبَةً، فَلاَ يَكُونَنَّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ، يَنْتَظِرُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا دَاعٍ إِلَى اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا الرِّزْقُ مِنَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَالْبَنُونَ لِحَرْثِ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لِحَرْثِ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعَهُمَا اللهُ لأَقْوَامٍ»(1).

وعن أبي شيبة الزهري، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «وَيْلٌ لِقَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ اللهَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وَيْلٌ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمُنْكَرِ، وَيَنْهَى عَنِالْمَعْرُوفِ»(3).

زمام الخلافة

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن زمام الخلافة قد نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإنه الإمام والخليفة من بعده، بمتواتر النصوص والأدلة، كما في حادثة الإنذار والطائر المشوي والغدير وخيبر وغيرها.

ص: 286


1- الزهد: ص105- 106، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح288.
2- الزهد: ص106، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح289.
3- الزهد: ص106، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح290.

..............................

قول الصديقة (عليها السلام): «زِمَامٍ نَبَذَهُ».

الزمام: ما يزم به الشيء، أي ما يشد به ويمسكه لئلا يتحرك اعتباطاً، والقائد في يده زمام الأمر، أي لو تركوا له أن يحكم ويقضي بما شاء.

و(الزمام) يطلق على مقود الدابة، وقد شبه أمر الخلافة بزمامها، حيث إن الإنسان الذي بيده الزمام يوجه الدابة حيث شاء.

و(النبذ): الرمي والإلقاء، وهو رمي الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، وهذا كناية عن عدم أهمية الخلافة له (عليه السلام) إلا أن يقيم حقاً ويبطل باطلاً.

وربما يكون في استخدامها (عليها السلام) كلمة (نبذ) إشارة إلى أن الخلافة بما هي هي ليست بذات شأن عندها وعند الإمام (عليه السلام) فليس اعتراضها ومطالبته (عليه السلام) حرصاً على الدنيا، كما هو بديهي، إلا أن الجهلة يعمون حتى عن نور الشمس، بل المطالبة والاعتراض إنما هو لأجل أن الخلافة أمانة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألقاها إليه (عليه السلام).

فكلامها (عليها السلام) هذا عبارة أخرى عن قوله (عليه السلام) : (لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)(1).

ص: 287


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم3 ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

..............................

وجه آخر:

وربما يكون وجه التعبير ب «زِمَامٍنَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ» أن ذلك هو ما يصور الواقع الذي جرى حقيقة وبالدقة، إذ لم تقل (صلوات الله عليها): (زمام سلمه إليه رسول الله) بل (نبذه)، والنبذ قد يوحي بما فيه من مشقة وزحمة عكس سلّم أو أعطى.

قال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا»(1).

وقد يكون الوجه في (نبذه) دون (سلمه) أن الخلافة الظاهرية - وليس الواقعية إذ هي محققه له (عليه السلام) ثبوتاً ومبرهنة له إثباتاً - نبذها إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمر (صلى الله عليه وآله) بتسليمها له (عليه السلام) من بعده، والقوم عصوا وخالفوا واغتصبوا الخلافة، إذ لم يكن تسليم وتسلم من الناحية الظاهرية بل النبي (صلى الله عليه وآله) نبذها ورماها وألقاها إليه (عليه السلام) ولكن القوم سرقوها واغتصبوها في وسط الطريق ولما تصل إليه، فتأمل.

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد نبذ زمام الخلافة إلى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والاعتقاد بالعدم بل عدم الاعتقاد كلاهما محرم.

ص: 288


1- سورة مريم: 16.

..............................

تعيين الخليفة بيد الله

مسألة: خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الأمة من بعده، يجب:

أولاً: أن يكون معيناً من قبله (صلى الله عليه وآله) وليس للناس أن يعينوه.

وثانياً: أن يكون بأمر الله سبحانه.

وكلاهما مبرهن في كتب الكلام والعقائد، ويشعر بهما كلامها (صلوات الله عليها) حيث قالت: «زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ»، فقد نبذه إليه (عليه السلام) بما هو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا لم تقل (صلوات الله عليها): نبذه إليه أبي أو محمد أو ما أشبه، وهذا نظير ما قالوا في تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية.

ومن الأدلة على ذلك أن الخليفة هو حجة الله على الأرض، وكما لا يستطيع الناس اختيار النبي والرسول، لا يستطيعون اختيار وصيه وخليفته ليكون حجة الله على الأرض، فإنهم يجهلون بواطن الأشخاص، ثم هم يجهلون مستقبل الأشخاص، وهل يعقل أن يفوض الله دينه وخلافته على الأرض إلى انتخاب أناس لا يعرفون بواطن من ينتخبون ولا مستقبلهم، وأن إيمانهم مستقر أو مستودع؟.وإذا كان موسى النبي (عليه السلام) وهو من الأنبياء أولي العزم، لا يستطيع اكتشاف البواطن، قال تعالى: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ» أي من قومه «سَبْعينَ رَجُلًا لِميقَاتِنَا فَلَمَّا» جاءوا قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله عياناً ف «أَخَذَتْهُمُ

ص: 289

..............................

الرَّجْفَةُ» أي الزلزلة جميعاً فماتوا «قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا» وهو السبعون الذي طلبوا رؤية الله «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ»(1).

أقول: إذا كان موسى النبي (عليه السلام) ينتخب من يصرح هو لاحقاً بأنهم سفهاء، فكيف بعامة الناس؟.

قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهمُ الْخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(2).

وقال سبحانه: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمُ الْخيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(3).

وقال العلامة القمي (رحمه الله) في تفسير الآية المباركة أعلاه: (يختار الله الإمام،وليس لهم أن يختاروا)(4).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أَ مَا تَرَى اللهَ يَقُولُ: «مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا»(5)، يَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَنْصِبُوا إِمَاماً مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُم،

ص: 290


1- سورة الأعراف: 155.
2- سورة الأحزاب: 36.
3- سورة القصص: 68.
4- تفسير القمي: ج2 ص143، سورة القصص: آية 68.
5- سورة النمل: 60.

..............................

تُسَمُّونَهُ مُحِقّاً بِهَوَى أَنْفُسِكُمْ وَإِرَادَتِكُمْ - ثم قال الصادق (عليه السلام) - ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: مَنْ أَنْبَتَ شَجَرَةً لَمْ يُنْبِتْهُ اللهُ، يَعْنِي مَنْ نَصَبَ إِمَاماً لَمْ يَنْصِبْهُ اللهُ، أَوْ جَحَدَ مَنْ نَصَبَهُ اللهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لِهَذَيْنِ سَهْماً فِي الإِسْلاَمِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمُ الْخيَرَةُ»(1)»(2).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الإِمَامَةِ، وَمَحَلَّهَا مِنَ الأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ. إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّقَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً، مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ. إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) - بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ - مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا، وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(3)، فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ»(4).

هذا مع قطع النظر عن الأدلة الدالة على أن الإمامة أعلى من مقام النبوة

ص: 291


1- سورة القصص: 68.
2- تحف العقول: ص328 - 329، وروي عن الإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد (صلوات الله عليه) في طوال هذه المعاني.
3- سورة البقرة: 124.
4- الكافي: ج1 ص199، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.

..............................

أي الرسالة، ومنها قوله تعالى لإبراهيم النبي (عليه السلام): «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»(1)، فكيف يفوض الله الأعلى لمن لم يفوض إليهم الأدنى.والحديث طويل والأدلة كثيرة يراجع فيها مظانها.

عن الجعفري، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «الأَئِمَّةُ خُلَفَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَرْضِهِ»(2).

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الأَوْصِيَاءُ هُمْ أَبْوَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي يُؤْتَى مِنْهَا، وَلَوْلاَهُمْ مَا عُرِفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِهِمُ احْتَجَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ»(3).

وعن عبد الله بن سنان، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ جَلاَلُهُ: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(4)؟. قَالَ (عليه السلام): «هُمُ الأَئِمَّةُ»(5).

* قول الصديقة (عليها السلام): «لاَعْتَلَقَهُ»، من علق بمعنى أن علياً (عليه السلام)

ص: 292


1- سورة البقرة: 124.
2- الكافي: ج1 ص193، كتاب الحجة، باب أن الأئمة (عليهم السلام) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح1.
3- الكافي: ج1 ص193، كتاب الحجة، باب أن الأئمة (عليهم السلام) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح2.
4- سورة القصص: 55.
5- الكافي: ج1 ص193- 194، كتاب الحجة، باب أن الأئمة (عليهم السلام) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح3.

..............................

كان يأخذ ذلك الزمام ويعلق به، وذلك لأنه مكلف به ومأمور من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) فكان تعلقه به امتثالاً لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولإحقاق الحق وإبطال الباطل.

الزهد في عوامل القوة

مسألة: لا يجوز ترك عوامل القوة التي بها يتحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعللاً بالزهد في الدنيا، فهي المقدمات الوجودية للواجب.

قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ»(1).

وقالت الصديقة الزهراء (عليها السلام) في هذه الخطبة: «وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ لاَعْتَلَقَه».

ف (السلطة) و(المال) و(القوة) و(العلاقات الاجتماعية) وغيرها، يلزم تحصيلها ولا يجوز الإعراض عنها إذا كانت مطية لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ووسيلة للفوز في الآخرة، وإصلاح شأنالناس في الدارين.

وكلها مكروهة إذا كانت مطلوبة لذاتها ولأغراض دنيوية مذمومة، أو محرمة إذا استحصلت من غير حلها أو أنفقت في غير ما حلله الشارع.

وقد تكون بما هي هي مباحة.

وتعرضها لسائر الأحكام الأربعة فحسب الغاية منها.

ص: 293


1- سورة الأنفال: 60.

وبذلك يجمع بين الروايات الدالة على ذم الرئاسة والداعية لها، فإن «مَلْعُونٌ مَنْ تَرَأَّسَ»(1) المراد به من طلب الرئاسة هوىً وشهوةً، واستخدمها في الحرام، أما من أراد بها رفع راية الإسلام وراية أهل البيت (عليهم السلام) فإنه مثاب ومأجور أكبر الأجر والثواب.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ النَّاسَ لاَ يُصْلِحُهُمْ إِلاَّ إِمَامٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ، فَإِنْ كَانَ بَرّاً فَلِلرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فَاجِراً عَبَدَ الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِيهَا، وَعَمِلَ فِيهَا الْفَاجِرُ إِلَى أَجَلِهِ»(2).

وعن معمَّر بن خلاَّد، عن أبي الحسن (عليه السلام)، أنه ذكر رجلاً، فقال: إِنَّهُيُحِبُّ الرِّئَاسَةَ. فقال (عليه السلام): «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ فِي غَنَمٍ قَدْ تَفَرَّقَ رِعَاؤُهَا، بِأَضَرَّ فِي دِينِ الْمُسْلِمِ مِنَ الرِّئَاسَةِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ طَلَبَ الرِّئَاسَةَ هَلَكَ»(4).

وعن عبد الله بن مسكان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَهَؤُلاَءِ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ يَتَرَأَّسُونَ، فَوَ اللهِ مَا خَفَقَتِ النِّعَالُ خَلْفَ رَجُلٍ إِلاَّ هَلَكَ وَأَهْلَكَ»(5).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَلْعُونٌ مَنْ تَرَأَّسَ، مَلْعُونٌ مَنْ هَمَّ بِهَا، مَلْعُونٌ مَنْ حَدَّثَ بِهَا نَفْسَهُ»(6).

ص: 294


1- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح4.
2- الغارات: ج2 ص438، قدوم عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران على علي (عليه السلام) بالكوفة.
3- الكافي: ج2 ص297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح1.
4- الكافي: ج2 ص297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح2.
5- الكافي: ج2 ص297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح3.
6- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح4.

..............................

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَالرِّئَاسَةَ! وَإِيَّاكَ أَنْ تَطَأَ أَعْقَابَ الرِّجَالِ».

قلت: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَمَّا الرِّئَاسَةُ فَقَدْ عَرَفْتُهَا، وَأَمَّا أَنْ أَطَأَ أَعْقَابَ الرِّجَالِ، فَمَا ثُلُثَا مَا فِي يَدِي إِلاَّ مِمَّا وَطِئْتُ أَعْقَابَ الرِّجَالِ؟!.

فقال لي: «لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِيَّاكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلاً دُونَ الْحُجَّةِ، فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ»(1).

وعن أبي الربيع الشامي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال لي: «وَيْحَكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ، لاَ تَطْلُبَنَّ الرِّئَاسَةَ، وَلاَ تَكُنْ ذِئْباً، وَلاَ تَأْكُلْ بِنَا النَّاسَ فَيُفْقِرَكَ اللهُ، وَلاَ تَقُلْ فِينَا مَا لاَ نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا؛ فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ وَمَسْئُولٌ لاَ مَحَالَةَ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً صَدَّقْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً كَذَّبْنَاكَ»(2).

وعن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَتَرَى لاَ أَعْرِفُ خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، بَلَى وَاللهِ، وَإِنَّ شِرَارَكُمْ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوطَأَ عَقِبُهُ، إِنَّهُ لاَبُدَّ مِنْ كَذَّابٍ أَوْ عَاجِزِ الرَّأْيِ»(3).

ص: 295


1- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح5.
2- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح6.
3- الكافي: ج2 ص299، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح8.

..............................

منع حق الوصي

مسألة: كلام الصديقة (صلوات الله عليها) دليل آخر على أن الإمام علياً (صلوات الله عليه) لم يجلس في البيت اختياراً، بل إنه مُنع ودُفع عن حقه، ولم يكن له خيار إلا الجلوس في البيت والاشتغال بمثل الزراعة وما أشبه، وكذلك تربية من أمكنه من الأصحاب.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) بِقَضِيَّةٍ مَا قَضَى بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَفْضَى الأَمْرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَ شَرِبْتَ الْخَمْرَ؟. فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَلِمَ شَرِبْتَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ؟. فَقَالَ: إِنَّنِي لَمَّا أَسْلَمْتُ وَمَنْزِلِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأَجْتَنِبُهَا. قَالَ: فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا حَفْصٍ فِيأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟. فَقَالَ: مُعْضِلَةٌ وَأَبُو الْحَسَنِ لَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا غُلاَمُ، ادْعُ لَنَا عَلِيّاً. قَالَ عُمَرُ: بَلْ يُؤْتَى الْحَكَمُ فِي مَنْزِلِهِ. فَأَتَوْهُ وَمَعَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ، فَاقْتَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لأَبِي بَكْرٍ: ابْعَثْ مَعَهُ مَنْ يَدُورُ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَمَنْ كَانَ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِالرَّجُلِ مَا قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

ص: 296

..............................

فَقَالَ سَلْمَانُ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): لَقَدْ أَرْشَدْتَهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَدِّدَ تَأْكِيدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيَّ وَفِيهِمْ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)»(2).

مآخذ خطيرة على الفتوحات

لا يقال: لو كان الأمر كذلك لما فتح القوم تلك الفتوحات الهائلة التي أدخلت الناس في الإسلام بهذا الحد الكبير مما ذكره المؤرخون؟.

لأنه يقال:

أولاً: إذا تركوا الأمر على النهج الذي نهجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تنصيب علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده الطاهرين المعصومين (عليهم السلام) لكان للعالم اليوم وجه آخر، فكان الناس جميعاً مسلمين، وكان الجميع يتمتع ويتنعم بالسعة والغنى والعلم والرفاه والصحة والأمان من دون حاجة إلى تلك الفتوحات، كما قال الشاعر(3):

ولو قلدوا الموصى إليه زمامها *** لزمت بمأمون عن الخطرات

ص: 297


1- سورة يونس: 35.
2- الكافي: ج7 ص247، كتاب الحدود، باب من زنى أو سرق أو شرب الخمر بجهالة لا يعلم أنها محرمة، ح4.
3- دعبل بن علي الخزاعي، والبيت من فصيدته التائية المعروفة التي قالها في حضرة الإمام الرضا (عليه السلام) بخراسان.

..............................

فلو كانت القيادة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) بيد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لسار على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولدخل الناس الإسلام والإيمان أفواجاً .

ثانياً: إن الإيجابيات في تلك الفتوحات كانت ببركة الاندفاع الكبير الذيأوجده رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسلمين، فكانت امتداداً لروح الجهاد التي أوجدها في أمته، والأمة - كما هو معلوم في علم الاجتماع - إذا نهضت وتحركت استمرت نهضتها إلى فترة طويلة، وإذا ركدت استمر ركودها فترة طويلة.

فالفتوحات كانت لذلك لا لما صنعه الأولان، بل لو كانا تركا الأمر كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من إيجاد الاندفاع، بإضافة عدم الابتداء بالهجوم، لكانت الفتوحات شاملة كاملة، ولعمت الكرة الأرضية كلها.

ومثال ذلك: ما لو أوجد القائد السابق بنية اقتصادية أو زراعية قوية للبلد، ثم مات قبل استثمار ذلك كاملاً، فإن الحاكم الجديد يظهر وكأن الانجاز له، والحال إنه منتفع من مائدة غيره، لو كانوا يعلمون.

ثالثاً: إن فتوحاتهم لم تكن لنشر الإسلام، بل كانت للرئاسة والتسلط، ف «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(1).

ومثله لو قام صدام بفتح بلد كافر، فإنه ليس فقط لا يمدح عليه، بل يذم لأنالغاية هي الهوى والرئاسة وليست الغاية لله والمستضعفين.

ومآل الجواب الأول والثاني: إلى القبح الفعلي لتلك الفتوحات، ومآل الجواب الثالث إلى القبح الفاعلي لها وإن فرض الحسن الفعلي.

ص: 298


1- مصباح الشريعة: ص53، الباب الثالث والعشرون في النية.

..............................

قال تعالى: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَبَاءً مَنْثُورًا»(1)

وقال سبحانه: «أَعْمَالُهمْ كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَم يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحسَابِ»(2).

ورابعاً: إن الله لا يخدع عن جنته، كما في الرواية(3)، فالعمل لو فرض كبيراً فإنه يحبط بما شمله ولحقه من المعاصي والظلم المختلط به والتالي له، وما أعظم الظلم الذي خلطوه بتلك الفتوحات، فكم قُتِلَ من أبرياء، وكم صودرت من أموال، وكم هتكت من أعراض؟.

عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن رجلمن أصحابه، قال: قَرَأْتُ جَوَاباً مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ ضَمِنَ لِمَنِ اتَّقَاهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَخَافُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَيَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُخْدَعُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ»(4).

ص: 299


1- سورة الفرقان: 23.
2- سورة النور: 39.
3- الكافي: ج8 ص49، كتاب الروضة، حديث موسى (عليه السلام)، ح9.
4- الكافي: ج8 ص49، كتاب الروضة، حديث موسى (عليه السلام)، ح9.

..............................

سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله)

مسألة: من مقومات نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أشرنا إليه كان الأمور التالية:

الأول: عدم الابتلاء بالهجوم، بل كان يكتفي بالدفاع، وهكذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله) في كافة حروبه، وألمعنا إلى ذلك في كتاب (في ظل الإسلام)، فإن من المعلوم أن الحكومات لم تكن تتحمل تقدم الإسلام وميلان شعوبها إليه، فكانت تشن حرباً ضد المسلمين، فيقومون بدورالدفاع، فيتصف الإسلام والمسلمون بالمظلومية والحكومات بالظالمية، مما يوجب التفاف الناس حول الإسلام أكثر فأكثر، كما حدث ذلك في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله).

أما بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد بدأ من غصب الخلافة بالهجوم مما شوه سمعة الإسلام والمسلمين وصورتهم، وسبب وصف الكفار المسلمين بالمعتدين، ووصف الإسلام بأنه قام بالسيف، مما أوجب نفرة كثير من الناس من الإسلام إلى هذا اليوم، وإن كان هذا الوصف ليس تاما أبداً، كما ذكره ذلك المسيحي الذي فيه مسحة من الإنصاف في كتابه (الدعوة إلى الإسلام).

الثاني: العفو والتسامح، وقاعدة (عفا الله عما سلف)، و(اذهبوا فأنتم الطلقاء) مما زخرت به سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) على عكس ما قام به من غصب الخلافة.

الثالث: زهد القيادة وواقعيتها، وعدالتها وعدم قوميتها، وعدم استبدادها، بل استشاريتها، ورعايتها الأبوية لجميع الأمة على مختلف أشكالها،

ص: 300

..............................

وتطبيق سائر قوانين الإسلام السمحاء على الرعية بأجمعهم.

إلى غير ذلك مما لم يكن يفسح المجال لأمثال معاوية ويزيد والحجاج وهارون والمتوكل وغيرهم من الظلمة والمستبدين الذي ملئوا الدنيا بالمخازي والموبقات وظلم الناس وتضييع الحقوق، فسببوا تنفير الناس عن الإسلام إلى اليوم.

الرابع: تطبيق كافة قوانين الإسلام في السياسة والاقتصاد والأراضي وغيرها، مثل: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضِ»(1) و«الأَرْضَ للهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا» (2)، وعدم الضرائب، وعدم السجون، وعدم الكبت والإرهاب، إلى غير ذلك مما ذكرنا تفصيله في: (الفقه: السياسة)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الحقوق)، وغيرها.

ص: 301


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص396 - 397، المجلس الرابع عشر، ح879/27.
2- الكافي: ج5 ص279، كتاب المعيشة، باب في إحياء أرض الموات، ح2.

وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا عن قَبُولِ الْحُجَّةِ...

اشارة

-------------------------------------------

وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا عن قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا

مراقبة الأتباع

(المحجة): هي جادة الطريق، أي وسطه، ووجه تسميتها بذلك أنها تقصد ويحج إليها.

(اللائحة): أي الظاهرة.

مسألة: يجب على القائد أن يراقب أتباعه كي لا ينحرفوا عن الطريق، سواء كان قائداً لأسرة، أم لقبيلة، أم لمنظمة، أم لشعب، أم لدولة.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»(1).

وقال سبحانه: «وَ تَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر»(2)

وقال تعالى: «وَأَمَرُوا بِالْمعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمنْكَرِ»(3).

وقال سبحانه: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(4).

وقال تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحكْمَةِوَالْموْعِظَةِ الْحسَنَةِ»(5).

ص: 302


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة العصر: 3.
3- سورة الحج: 41.
4- سورة التوبة: 122.
5- سورة النحل: 125.

..............................

ورُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ الْعَالِمَ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً»(1)؟. قال (عليه السلام): «يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ، فَإِنْ أَطَاعُوا كَانَ قَدْ وَقَاهُمْ، وَإِنْ عَصَوْهُ كَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ»(2).

وعن جابر، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «دَخَلَ عَلَى أَبِي (عليه السلام) رَجُلٌ. فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ أُحَدِّثُ أَهْلِي؟. قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحجَارَةُ»(3)، وَقَالَ: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(4)»(5).

وعن أبي عبد الله (صلوات الله عليه) قال: «لاَيَزَالُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يُورِثُ أَهْلَ بَيْتِهِ الْعِلْمَ وَالأَدَبَ الصَّالِحَ، حَتَّى يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ جَمِيعاً، حَتَّى لاَ يَفْقِدَ مِنْهُمْ صَغِيراً وَلاَ كَبِيراً، وَلاَ خَادِماً وَلاَ جَاراً. وَلاَ يَزَالُ الْعَبْدُ الْعَاصِي يُورِثُ أَهْلَ بَيْتِهِ الأَدَبَ السَّيِّئَ، حَتَّى يُدْخِلَهُمُ النَّارَ جَمِيعاً، حَتَّى لاَ يَفْقِدَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ صَغِيراً وَلاَ كَبِيراً، وَلاَ خَادِماً وَلاَ جَاراً»(6).

ص: 303


1- سورة التحريم: 6.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص375 باب104 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- سورة التحريم: 6.
4- سورة طه: 132.
5- الأصول الستة عشر: ص70، كتاب جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي، أخبار حميد بن شعيب عن جابر الجعفي، ح265/61.
6- دعائم الإسلام: ج1 ص82، مقدمة في أصول الدين، ذكر الرغائب في العلم ...

وعنه (صلوات الله عليه)، أنه قال: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»(1). قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نَقِي أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا؟.

قَالَ: اعْمَلُوا الْخَيْرَ وَذَكِّرُوا بِهِ أَهْلِيكُمْ، فَأَدِّبُوهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَلاَ تَرَى أَنَّ اللهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(2)، وَقَالَ: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا»(3)»(4).وعن جعفر بن محمد (عليه السلام): «أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ رَحًى تَطْحَنُ، أَفَلاَ تَسْأَلُونِّي مَا طَحِينُهَا. فَقِيلَ: وَمَا طَحِينُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟. فَقَالَ: الْعُلَمَاءُ الْفَجَرَةُ، وَالْقُرَّاءُ الْفَسَقَةُ، وَالْجَبَابِرَةُ الظَّلَمَةُ، وَالْوُزَرَاءُ الْخَوَنَةُ، وَالْعُرَفَاءُ الْكَذَبَةُ. وَإِنَّ فِي النَّارِ لَمَدِينَةً يُقَالُ: الْحَصِينَةُ. أَوَ لاَ تَسْأَلُونِّي مَا فِيهَا. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا فِيهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟. قَالَ: فِيهَا بَعْضُ أَيْدِي النَّاكِثِينَ»(5).

ص: 304


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة طه: 132.
3- سورة مريم: 54 - 55.
4- دعائم الإسلام: ج1 ص82، مقدمة في أصول الدين، ذكر الرغائب في العلم والحض عليه وفضائل طالبيه.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص254، عقاب العلماء الفجرة والقراء الفسقة والجبابرة الظلمة والوزراء الخونة والعرفاء الكذبة والناكثين.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بَيْنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) فِي سِيَاحَتِهِ، إِذْ مَرَّ بِقَرْيَةٍ، فَوَجَدَ أَهْلَهَا مَوْتَى فِي الطَّرِيقِ وَالدُّورِ. فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ مَاتُوا بِسَخَطٍ، وَلَوْ مَاتُوا بِغَيْرِهَا تَدَافَنُوا. قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَدِدْنَا تُعَرِّفُنَا قِصَّتَهُمْ؟. فَقِيلَ لَهُ: نَادِهِمْ يَا رُوحَ اللهِ. فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ. فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ مِنْهُمْ: لَبَّيْكَ يَا رُوحَ اللهِ. قَالَ: مَا حَالُكُمْ وَمَا قِصَّتُكُمْ؟!. قَالَ: أَصْبَحْنَا فِيعَافِيَةٍ، وَبِتْنَا فِي الْهَاوِيَةِ. فَقَالَ: مَا الْهَاوِيَةُ؟. فَقَالَ: بِحَارٌ مِنْ نَارٍ، فِيهَا جِبَالٌ مِنَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَلَغَ بِكُمْ مَا أَرَى؟!. قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَعِبَادَةُ الطَّاغُوتِ. قَالَ: وَمَا بَلَغَ بِكُمْ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا؟. قَالَ: كَحُبِّ الصَّبِيِّ لأُمِّهِ، إِذَا أَقْبَلَتْ فَرِحَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ حَزِنَ. قَالَ: وَمَا بَلَغَ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الطَّاغُوتَ؟. قَالَ: كَانُوا إِذَا أَمَرُونَا أَطَعْنَاهُمْ. قَالَ: فَكَيْفَ أَجَبْتَنِي مِنْ دُونِهِمْ؟!. قَالَ: لأَنَّهُمْ مُلْجَمُونَ بِلُجُمٍ مِنْ نَارٍ، عَلَيْهِمْ مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ، وَإِنَّنِي كُنْتُ فِيهِمْ وَلَمْ أَكُنْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَصَابَهُمُ الْعَذَابُ أَصَابَنِي مَعَهُمْ، فَأَنَا مُعَلَّقٌ بِشَعْرَةٍ أَخَافُ أَنْ أَنْكَبَّ فِي النَّارِ. قَالَ: فَقَالَ عِيسَى (عليه السلام) لأَصْحَابِهِ: النَّوْمُ عَلَى دُبُرِ الْمَزَابِلِ، وَأَكْلُ خُبْزِ الشَّعِيرِ، يَسِيرٌ مَعَ سَلاَمَةِ الدِّينِ»(1).

وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْتَأْذَنْ بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(2).

ص: 305


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص254، عقاب حب الدنيا وعبادة الطاغوت.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص177،الباب80 من كتاب الجهاد وسيرة الإمام (عليه السلام)، ح7.

..............................

سيرة الوصي وسياسته

مسألة: يجب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان على عكس الثلاثة، فكان (صلوات الله عليه) رقيباً أميناً على شريعة الله وحلاله وحرامه، وإنه كلما رأى زللاً وزيغاً وانحرافاً حاول ردهم إلى جادة الحق والصواب، أما أولئك الثلاثة فقد كانوا أساس الميل عن المحجة اللائحة، وأساس الرفض للحجة الواضحة، وكانوا يجارون الناس في باطلهم، ويجرونهم معهم نحو الخسران المبين، بل كانوا هم الأساس للجور والباطل.

للتفصيل يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للمرحوم شرف الدين العاملي، و(الغدير) للعلامة الأميني (رضوان الله عليهما)، وغيرهما.

في (قُوتُ الْقُلُوبِ): قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): إِنَّكَ خَالَفْتَ فُلاَناً فِي كَذَا؟. فَقَالَ (عليه السلام): «خَيْرُنَا أَتْبَعُنَا لِهَذَا الدِّينِ»(1).وَضَافَهُ رَجُلٌ ثُمَّ خَاصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاً. فَقَالَ (عليه السلام): «تَحَوَّلْ عَنَّا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَهَانَا أَنْ نُضِيفَ رَجُلاً إِلاَّ وَأَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ»(2).

أي فيما يحتاج إلى الحكم بينهما وما أشبه.

ص: 306


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص146، باب درجات أمير المؤمنين (عليهم السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص146، باب درجات أمير المؤمنين (عليهم السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

وَنَوَّشَهُ - استضافه - الْحَارِثُ الأَعْوَرُ. فَقَالَ (عليه السلام): «قَدْ أَجَبْتُكَ عَلَى أَنْ تَضْمَنَ لِي ثَلاَثَ خِصَالٍ: لاَ تُدْخِلْ عَلَيْنَا شَيْئاً مِنْ خَارِجٍ، وَلاَ تَدَّخِرْ عَنَّا شَيْئاً فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تُجْحِفْ بِالْعِيَالِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن الخطاب: «ثَلاَثٌ إِنْ حَفِظْتَهُنَّ وَعَلِمْتَهُنَّ كَفَتْكَ مَا سِوَاهُنَّ، وَإِنْ تَرَكْتَهُنَّ لَمْ يَنْفَعْكَ شَيْءٌ سِوَاهُنَّ».

قال: وَمَا هُنَّ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟.قال (عليه السلام): «إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْحُكْمُ بِكِتَابِ اللهِ فِي الرِّضَا وَالسَّخَطِ، وَالْقَسْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ».

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَوْجَزْتَ وَأَبْلَغْتَ(2).

وعن زرارة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «أُقِيمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ يُضْرَبَ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ يَضْرِبُهُ، حَتَّى قَامَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِنِسْعَةٍ مَثْنِيَّةٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا أَرْبَعِينَ»(3).

وعن زرارة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ

ص: 307


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص146، باب درجات أمير المؤمنين (عليهم السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

حِينَ شُهِدَ عَلَيْهِ شُرْبُ الْخَمْرِ. قَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ أَنْيُضْرَبَ بِسَوْطٍ لَهُ شُعْبَتَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً»(1).

وَأَخَذَ (عليه السلام) رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسَدٍ فِي حَدٍّ، فَاجْتَمَعَ قَوْمُهُ لِيُكَلِّمُوا فِيهِ، وَطَلَبُوا إِلَى الْحَسَنِ أَنْ يَصْحَبَهُمْ. فَقَالَ (عليه السلام): «ائْتُوهُ فَهُوَ أَعْلَى بِكُمْ عَيْناً». فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوهُ. فَقَالَ (عليه السلام): «لاَ تَسْأَلُونِّي شَيْئاً أَمْلِكُ إِلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ». فَخَرَجُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْجَحُوا، فَسَأَلَهُمْ الْحَسَنُ فَقَالُوا: أَتَيْنَا خَيْرَ مَأْتِيٍّ. وَحَكَوْا لَهُ قَوْلَهُ، فَقَالَ (عليه السلام): «مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ إِذَا جُلِدَ صَاحِبُكُمْ فَاصْنَعُوهُ». فَأَخْرَجَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَحَدَّهُ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَاللهِ لَسْتُ أَمْلِكُهُ»(2).

وفي "تهذيب الأحكام": أَنَّهُ أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ حَبَسَهُ لَيْلَةً، ثُمَّ دَعَا بِهِ مِنَ الْغَدِ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطاً. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ضَرَبْتَنِي ثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذِهِ الْعِشْرِينَ مَا هِيَ؟!.قَالَ (عليه السلام): «هَذَا لِتَجَرِّيكَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ»(3).

ص: 308


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ هَجَاهُ، فَدَسَّ قَوْماً شَهِدُوا عَلَيْهِ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَأَخَذَهُ عَلِيٌّ فَحَدَّهُ، فَغَضِبَ جَمَاعَةٌ عَلَى عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، مِنْهُمْ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّهْدِيُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كُنَّا نَرَى أَنَّ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَهْلَ الْفُرْقَةِ وَالْجَمَاعَةِ، عِنْدَ وُلاَةِ الْعَقْلِ وَمَعَادِنِ الْفَضْلِ سِيَّانِ فِي الْجَزَاءِ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِكَ بِأَخِي الْحَارِثِ - يَعْنِي النَّجَاشِيَّ - فَأَوْغَرْتَ صُدُورَنَا، وَشَتَّتَّ أُمُورَنَا، وَحَمَّلْتَنَا عَلَى الْجَادَّةِ الَّتِي كُنَّا نَرَى أَنْ سَبِيلَ مَنْ رَكِبَهَا النَّارُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (صلوات الله عليه): « «إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ»(1). يَا أَخَا بَنِي نَهْدٍ، هَلْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَكَ حُرْمَةً مِنْ حُرَمِ اللهِ، فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّهَا، زَكَاةً لَهُ وَتَطْهِيراً. يَا أَخَا بَنِي نَهْدٍ، إِنَّهُ مَنْ أَتَى حَدّاً فَأُقِيمَ كَانَ كَفَّارَتَهُ. يَاأَخَا بَنِي نَهْدٍ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2)». فَخَرَجَ طَارِقٌ وَالنَّجَاشِيُّ مَعَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ(3).

وعن مطر الوراق وابن شهاب الزهري - في خبر -: إِنَّهُ لَمَّا شَهِدَ أَبُو زَيْنَبَ الأَسَدِيُّ وَأَبُو مُزَرِّعٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُنَيْسٍ الأَزْدِيُّ وَعَلْقَمَةُ بْنُ زَيْدٍ الْبَكْرِيُّ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَمَرَ عُثْمَاَ بِإِقَامَةِ

ص: 309


1- سورة البقرة: 45.
2- سورة المائدة: 8.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147 - 148، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

الْحَدِّ عَلَيْهِ جَهْراً وَنَهَى سِرّاً، فَرَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، قَامَ وَالْحَسَنُ مَعَهُ لِيَضْرِبَهُ. فَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللهَ وَالْقَرَابَةَ. قَالَ (عليه السلام): «اسْكُتْ أَبَا وَهْبٍ، فَإِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِتَعْطِيلِهِمُ الْحُدُودَ». فَضَرَبَهُ وَقَالَ: «لَتَدْعُونِي قُرَيْشٌ بَعْدَ هَذَا جَلاَّدَهَا»(1).

شمولية الحجة

مسألة: الحجة الواضحة والمحجة اللائحة ليست خاصة بشؤون العبادات، بل تشمل العقيدة والشريعة بشتى شعبها من أحوال شخصية وسياسة واقتصاد وحقوق وغيرها.

قال العرباض بن سارية: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَوْعِظَةً ذَرَفَتِ الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟. قَالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ بَعْدَهَا إِلاَّ هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمُ مِنْ سُنَّتِي بَعْدِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَعَضُّوا عَلَيْهِمْ بِالنَّواجِدِ، وَأَطِيعُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ عَبْداً حَبَشِيّاً؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الأَلُوفِ حَيْثُ مَا قِيدَ اسْتَقَادَ»(2).

ص: 310


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص148، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- إرشاد القلوب إلى الصواب للديلمي: ج1 ص37، الباب الخامس في التخويف والترهيب.

..............................

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعبد الله بن عمر - في قضية الشورى -: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ، مَا قَالَ لَكَ حِينَ خَرَجْنَا؟». فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَمَّا إِذْ نَاشَدْتَنِي، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ بَايَعُوا أَصْلَعَ بَنِي هَاشِمٍ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَقَامَهُمْ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ»(1).

وقال ابن الخطاب مخاطباً أمير المؤمنين (عليه السلام) - في قضية الشورى -: وَأَمَّا أَنْتَ يَا عَلِيُّ، فَوَ اللهِ لَوْ وُزِنَ إِيمَانُكَ بِإِيمَانِ أَهْلِ الأَرْضِ لَيَرْجِحُهُمْ. فَقَامَ عَلِيٌّ مُوَلِّياً. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ، إِنِّي لأَعْلَمُ لَكُمْ مَكَانَ رَجُلٍ لَوْ وَلَّيْتُمُوهَا إِيَّاهُ؛ لَحَمَلَكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ. قَالُوا: مَنْ هُوَ؟. قَالَ: هَذَا الْمُوَلِّي مِنْ بَيْنِكُمْ. قَالُوا: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ؟!. قَالَ: لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ(2).

وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَإِنْ تُوَلُّوا عَلِيّاً (عليه السلام) تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً، يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَالْمُسْتَقِيمَ»(3).

وعن اليمان - مولى مصعب بن الزبير - قال: قال ابن الخطاب: مَنْ تَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ الأَمْرَ غَداً؟. قَالُوا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قَالَ: فَأَيْنَ هُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يَحْمِلُهُمُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ(4).

وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا عَلِيّاً،

ص: 311


1- كتاب سُليم بن قيس الهلالي: ج2 ص652، الحديث الحادي عشر.
2- تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي: ص349، القسم الثاني في المثالب، وأما الأحداث الواقعة من عمر بن الخطاب في ولايته، ومنها: شويرة الشورى.
3- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص83، سورة الفاتحة: آية 6، ح101.
4- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص84، سورة الفاتحة: آية 6، ح103.

..............................

فَهَادٍ مُهْتَدٍ، يُقِيمُكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1).

وعن الحافظ أبي نعيم - بثلاثة طرق - عن حذيفة بن اليمان، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنْ تَسْتَخْلِفُوا عَلِيّاً - وَمَا أَرَاكُمْ فَاعِلِينَ - تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً، يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ»(2).

دفع الانحراف ورفعه

مسألة: يجب دفع الانحراف كما يجب رفعه، فإن القائد لو رأى ميلاً عن المحجة اللائحة وعن قبول الحجة الواضحة، وجب أن يردهم إليها، ولو احتمل أو علم أنه سيحدث ميل وجب عليه الحيلولة دون حصوله مقدمة، وهو ما يصطلح عليه بالدفع.

لا يقال: لماذا عبرت الصديقة (عليها السلام) ب «لَوْ مَالُوا ... لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا» وهو ظاهر في الرفع، فأين الدفع؟.

إذ يقال:

أولاً: ربما كان ذلك إشارة للدفع، فإن الميل نحو الباطل مقدمة له، أي قبل الارتطام فيه، بل بصرف مجرد الميل الذي سيؤدي إليه لو لم يكن مانع أو رادع.

ص: 312


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص84 - 85، سورة الفاتحة: آية 6، ح104.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج3 ص83، باب تعريف باطنه (عليه السلام)، فصل في أنه النور والهدى والهادي.

..............................

ثانياً: على فرض إرادة الرفع فربما يكون السبب أن ذلك هو ما كانت تتحمله عقولهم.

وبعبارة أخرى: اقتصرت على ما لا مجال للنقاش فيه أو الاعتراض عليه، وقد يكون لذلك وجود آخر، فتأمل.قال في الدعائم: وَرُوِّينَا عَنْهُ (صلوات الله عليه)، أنه خطب الناس بعد أن بايعوه فقال - في خطبته -: «أَلاَ وَكُلُّ قِطْعَةٍ أَقْطَعَهَا عُثْمَانُ، أَوْ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لاَ يُذْهِبُهُ الْبَاطِلُ. وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَتَفَرَّقَ فِي الْبُلْدَانِ، لَرَدَدْتُهُ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لَكُمْ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ بِهِ الْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ بِهِ أَضْيَقُ»(1).

وقال علي (عليه السلام): «أُحَاجُّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتِسْعٍ: بِإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ، وَالْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَشْبَاهِهِ»(2).

وعن ابن مردويه، أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ مِنَ الْيَمَنِ، تَعَجَّلَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ الَّذِينَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَعَمَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ،فَكَسَا كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي كَانَ مَعَ عَلِيٍّ. فَلَمَّا دَنَا جَيْشُهُ، خَرَجَ

ص: 313


1- دعائم الإسلام: ج1 ص396، كتاب الجهاد، ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص 107، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.

..............................

عَلِيٌّ لِيَتَلَقَّاهُمْ، فَإِذَا هُمْ عَلَيْهِمُ الْحُلَلُ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ مَا هَذَا؟!». قَالَ: كَسَوْتُهُمْ؛ لِيَجْمُلُوا بِهِ إِذَا قَدِمُوا فِي النَّاسِ. قَالَ: «وَيْلَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). قَالَ: فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنَ النَّاسِ، وَرَدَّهَا فِي الْبَزِّ، وَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شِكَايَةً لِمَا صَنَعَ بِهِمْ (1).

ومن كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي؛ لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ. فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وَهَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ فَتَكَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَعَمِّكَ آسَيْتَ، وَلاَ الأَمَانَةَ أَدَّيْتَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ، رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ - لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ - حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ

ص: 314


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص 110، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.

..............................

فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ، أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الأَلْبَابِ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الإِمَاءَ، وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلاَدَ.

فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ، لأُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلأَضْرِبَنَّكَبِسَيْفِي، الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلا دَخَلَ النَّارَ. وَوَاللهِ، لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا.

وَأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي. فَضَحِّ رُوَيْداً، فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، «وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ»(1)»(2).

ص: 315


1- سورة ص: 3.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم41 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله.

وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً

اشارة

-------------------------------------------

السير السمح بالناس

(سجح) على وزن (عنق) يأتي بمعنى اللين والسهل، ورجل سجح أي حسن الخلق.

ويقال: في عقله رجاحة وفي خلقه سجاحة أي سهولة.

والإسجاح: حسن العفو، يقال: إذا ملكت فاسجح، أي أحسن العفو وسهل.

كما أن من معانيه: الوسط، فالسجح من الطريق وسطه.

ومن معانيه: القدر، يقال: بيوتهم على سجح واحد، أي على قدر واحد.

والمعنى الأول هو الأظهر، وإن كان يمكن توجيه النص بما يوافق الأخيرين أيضاً.

أي: إنه (عليه الصلاة والسلام) كان يسير بهم سيراً سهلاً، يبعدهم فيه عن المآسي، والمشاق والجرائم، والمحن والمصاعب، والفقر والجهل، والرذيلة والانحطاط، والفساد الأخلاقي والإداري والمالي وشبه ذلك، وكان منهجه (عليه السلام) منهج العفو بل حسن العفو.

وينقل عن بعض علماء العامة، أنه قال: رأيت في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام). فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين في يوم الطف ما تم؟!.

ص: 316

..............................

فقال (عليه السلام): أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا.

فقلت: لا.

فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار (حيص بيص) فخرج إليَّ، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله بأن كانت خرجت من فمي أو خطى إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، ثم أنشدني الأبيات:

ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا عن الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح

عن أبي مطر البصري: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَرَّ بِأَصْحَابِ التَّمْرِ، فَإِذَا هُوَ بِجَارِيَةٍ تَبْكِي. فَقَالَ: «يَا جَارِيَةُ، مَا يُبْكِيكِ؟». فَقَالَ: بَعَثَنِي مَوْلاَيَ بِدِرْهَمٍ، فَابْتَعْتُ مِنْ هَذَا تَمْراً، فَأَتَيْتُهُمْ بِهِ فَلَمْ يَرْضَوْهُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِهِ أَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. قَالَ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ اللهِ،إِنَّهَا خَادِمٌ وَلَيْسَ لَهَا أَمْرٌ، فَارْدُدْ إِلَيْهَا دِرْهَمَهَا، وَخُذِ التَّمْرَ». فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَلَكَزَهُ. فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَبَا الرَّجُلُ وَاصْفَرَّ، وَأَخَذَ التَّمْرَ وَرَدَّ إِلَيْهَا دِرْهَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ارْضَ عَنِّي. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا أَرْضَانِي عَنْكَ إِنْ أَصْلَحْتَ أَمْرَكَ - وفي "فضائل أحمد - إِذَا وَفَيْتَ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ»(1).

ص: 317


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص112 - 113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وَدَعَا (عليه السلام) غُلاَماً لَهُ مِرَاراً فَلَمْ يُجِبْهُ، فَخَرَجَ فَوَجَدَهُ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا حَمَلَكَ عَلَى تَرْكِ إِجَابَتِي؟!». قَالَ: كَسِلْتُ عَنْ إِجَابَتِكَ، وَأَمِنْتُ عُقُوبَتَكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنِي مِمَّنْ تَأْمَنُهُ خَلْقُهُ، امْضِ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ»(1).

وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ. فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ - مِنْ خَلْفِهِ -: «وَلَقَدْأُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»(2). فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ تَعْظِيماً لِلْقُرْآنِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ، ثُمَّ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ، ثُمَّ أَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ الآيَةَ، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ أَيْضاً ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ أَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ: « «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ»(3)»، ثُمَّ أَتَمَّ السُّورَةَ وَرَكَعَ(4).

وَبَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى لَبِيدِ بْنِ الْعُطَارِدِ التَّيْمِيِّ فِي كَلاَمٍ بَلَغَهُ، فَمَرَّ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَنِي أَسَدٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ نُعَيْمُ بْنُ دَجَاجَةَ الأَسَدِيُّ فَأَفْلَتَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَأَتَوْهُ بِهِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُضْرَبَ. فَقَالَ لَهُ

ص: 318


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- سورة الزمر: 65.
3- سورة الروم: 60.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

نُعَيْمٌ: وَاللهِ إِنَّ الْمُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ، وَإِنَّ فِرَاقَكَ لَكُفْرٌ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ: «قَدْ عَفَوْنَا عَنْكَ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ»(1). أَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْمُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ فَسَيِّئَةٌ اكْتَسَبْتَهَا، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ فِرَاقَكَ لَكُفْرٌ فَحَسَنَةٌ اكْتَسَبْتَهَا، فَهَذِهِ بِهَذِهِ»(2).

ومَرَّتْ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هَنَاتِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيَلْمَسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَةٍ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: قَاتَلَهُ اللهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ. فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ»(3).

وَجَاءَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ يُكَلِّمُ فِيهِ، وَأَسْمَعَهُ فِي الْيَوْمِ الْمَاضِي، وَسَأَلَهُ حَوَائِجَهُ فَقَضَاهَا، فَعَاتَبَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنِّي لأَسْتَحْيِي أَنْيَغْلِبَ جَهْلُهُ عِلْمِي، وَذَنْبُهُ عَفْوِي، وَمَسْأَلَتُهُ جُودِي»(4).

ص: 319


1- سورة المؤمنون: 96.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وفي (العقد الفريد) و(نُزْهَةِ الأَبْصَارِ): قَالَ قَنْبَرُ: دَخَلْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَحَبَّ الْخَلْوَةَ. فَأَوْمَى إِلَيَّ بِالتَّنَحِّي، فَتَنَحَّيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَعَلَ عُثْمَانُ يُعَاتِبُهُ، وَهُوَ مُطْرِقٌ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، فَقَالَ: مَا لَكَ لاَ تَقُولُ؟!. فَقَالَ (عليه السلام): «لَيْسَ جَوَابُكَ إِلاَّ مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إِلاَّ مَا تُحِبُّ»، ثُمَّ خَرَجَ قَائِلاً:

وَلَوْ أَنَّنِي جَاوَبْتُهُ لَأَمَضَّهُ *** نَوَاقِدُ قَوْلِي وَاحْتِضَارُ جَوَابِي

وَلَكِنَّنِي أُغْضِي عَلَى مَضَضِ الْحشَا *** وَلَوْ شِئْتُ إِقْدَاماً لَأُنْشِبُ نَابِي (1)

وَأَسَرَ مَالِكٌ الأَشْتَرُ يَوْمَ الْجَمَلِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَعَاتَبَهُ (عليه السلام) وَأَطْلَقَهُ(2).

وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَوْمَ الْجَمَلِ: مَلَكْتَفَأَسْجِحْ. فَجَهَّزَهَا أَحْسَنَ الْجَهَازَ، وَبَعَثَ مَعَهَا بِتِسْعِينَ امْرَأَةً أَوْ سَبْعِيْنَ، وَاسْتَأْمَنَتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَآمَنَهُ، وَآمَنَ مَعَهُ سَائِرُ النَّاسِ(3).

وَجِيءَ بِمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ: «قُلْ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ: «اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَمَا وَجَدْتَ لَكَ

ص: 320


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

فِي عَسْكَرِنَا مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ فَخُذْهُ، وَاتَّقِ اللهَ فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ أَمْرِكَ، وَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِذَا أَخَذَ أَسِيراً فِي حُرُوبِ الشَّامِ، أَخَذَ سِلاَحَهُ وَدَابَّتَهُ، وَاسْتَحْلَفَهُ أَنْ لاَ يُعِينَ عَلَيْهِ»(2).وعن عرفجة، عن أبيه، قالا: لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَصْحَابَ النَّهَرِ، جَاءَ بِمَا كَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ شَيْئاً أَخَذَهُ، حَتَّى بَقِيَتْ قَدْرٌ، ثُمَّ رَأَيْتُهَا بَعْدُ قَدْ أُخِذَتْ(3).

وقال الطبرِي: لَمَّا ضَرَبَ عَلِيٌّ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيَّ بَرَكَهُ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟». قَالَ (عليه السلام): «إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي اللهَ وَالرَّحِمَ حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَاسْتَحْيَيْتُهُ»(4).

وَلَمَّا أَدْرَكَ عَمْرَو بْنَ عَبْدَ وُدٍّ لَمْ يَضْرِبْهُ، فَوَقَعُوا فِي عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَرَدَّ عَنْهُ حُذَيْفَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَهْ يَا حُذَيْفَةُ، فَإِنَّ عَلِيّاً سَيَذْكُرُ سَبَبَ

ص: 321


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114 - 115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وَقْفَتِهِ». ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَهُ، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «قَدْ كَانَ شَتَمَأُمِّي، وَتَفَلَ فِي وَجْهِي، فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفْسِي، فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ مَا بِي، ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللهِ»(1).

وَرُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا طَالَبُوهُ بِالْبَيْعَةِ، قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: بَايِعْ. قَالَ (عليه السلام): «فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ». قَالَ: وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ نَضْرِبُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَالْتَفَتَ عَلِيٌّ إِلَى الْقَبْرِ، فَقَالَ: «يَا «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي»(2)»(3).

وقال الجاحظ في (البيان والتبيين): إِنَّ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَوْلُهُ: «قَدْ مَضَتْ أُمُورٌ لَمْ تَكُونُوا فِيهَا بِمَحْمُودِي الرَّأْيِ، أَمَا لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ، وَلَكِنْ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ، سَبَقَ الرَّجُلاَنِ، وَقَامَ الثَّالِثُ كَالْغُرَابِ هِمَّتُهُ بَطْنُهُ. يَا وَيْلَهُ، لَوْ قُصَّ جَنَاحُهُ، وَقُطِعَ رَأْسُهُ، لَكَانَ خَيْراً لَهُ»(4).ونَظَرَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى امْرَأَةٍ عَلَى كَتِفِهَا قِرْبَةُ مَاءٍ، فَأَخَذَ مِنْهَا الْقِرْبَةَ، فَحَمَلَهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، وَسَأَلَهَا عَنْ حَالِهَا. فَقَالَتْ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَاحِبِيإِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَقُتِلَ، وَتَرَكَ عَلِيٌّ صِبْيَاناً يَتَامَى، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ،

ص: 322


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- سورة الأعراف: 150.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

فَقَدْ أَلْجَأَتْنِي الضَّرُورَةُ إِلَى خِدْمَةِ النَّاسِ. فَانْصَرَفَ وَبَاتَ لَيْلَتَهُ قَلِقاً، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَمَلَ زِنْبِيلاً فِيهِ طَعَامٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْطِنِي أَحْمِلْهُ عَنْكَ. فَقَالَ (عليه

السلام): «مَنْ يَحْمِلُ وِزْرِي عَنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَأَتَى وَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ (عليه السلام): «أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي حَمَلَ مَعَكِ الْقِرْبَةَ، فَافْتَحِي فَإِنَّ مَعِي شَيْئاً لِلصِّبْيَانِ». فَقَالَتْ: رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَحَكَمَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَدَخَلَ وَقَالَ: «إِنِّي أَحْبَبْتُ اكْتِسَابَ الثَّوَابِ، فَاخْتَارِي بَيْنَ أَنْ تَعْجَنِينَ وَتَخْبِزِينَ، وَبَيْنَ أَنْ تُعَلِّلِينَ الصِّبْيَانَ لأَخْبِزَ أَنَا. فَقَالَتْ: أَنَا بِالْخُبْزِ أَبْصَرُ، وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، وَلَكِنْ شَأْنَكَ وَالصِّبْيَانَ، فَعَلِّلْهُمْ حَتَّى أَفْرُغَ مِنَ الْخَبْزِ. فَعَمَدَتْ إِلَى الدَّقِيقِ فَعَجَنَتْهُ، وَعَمَدَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى اللَّحْمِ فَطَبَخَهُ، وَجَعَلَ يُلْقِمُ الصِّبْيَانَ مِنْ اللَّحْمِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِ، فَكُلَّمَا نَاوَلَ الصِّبْيَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، قَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ عَلِيَّ بْنَأَبِي طَالِبٍ فِي حِلٍّ مِمَّا مَرَّ فِي أَمْرِكَ». فَلَمَّا اخْتَمَرَ الْعَجِينُ، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ، سُجِرَ التَّنُّورُ. فَبَادَرَ لِسَجْرِهِ، فَلَمَّا أَشْعَلَهُ وَلَفَحَ فِي وَجْهِهِ، جَعَلَ يَقُولُ: «ذُقْ - يَا عَلِيُّ - هَذَا جَزَاءُ مَنْ ضَيَّعَ الأَرَامِلَ وَالْيَتَامَى». فَرَأَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِفُهُ، فَقَالَتْ: وَيْحَكِ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَبَادَرَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تَقُولُ: وَا حَيَايَ مِنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ (عليه السلام): «بَلْ وَا حَيَايَ مِنْكِ يَا أَمَةَ اللهِ فِيمَا قَصَّرْتُ فِي أَمْرِكِ»(1).

ص: 323


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115- 116، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

أفضل تشريع وأفضل قيادة

مسألة: يجب وجوباً كفائياً إيضاح هذه الصورة المشرقة التي أشارت إليها الصديقة فاطمة (عليها السلام) عن حكومة الإمام علي (عليه السلام) للناس، وأن الناس لو سلموا إليه الزمام وانقادوا له لتحولت الأرض إلى جنة، كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

وذلك بديهي بعد ملاحظة أن أفضل تشريع لو ضم إلى أفضل قيادة، فإنه ينتج أفضل سعادة، وأفضل حكومة، وأفضل اقتصاد واستقرار وازدهار.

وكان ذلك هو ما أراده الله للبشر، إلا أنهم - وقد منحهم الاختيار - أعرضوا عن كتابه الصامت وكتابه الناطق، فاستحقوا الضنك في الدنيا قبل عقاب الآخرة.

قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(2). وقال سبحانه: «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَعَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ»(3).

ص: 324


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة الروم: 41.
3- سورة هود: 52.

..............................

وقال سبحانه: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَكْثِرُوا الاِسْتِغْفَارَ تَجْلِبُوا الرِّزْقَ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي لأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَكَفَتْهُمْ، «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ»(3) الآيَةَ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا وَيُعِيدُهَا»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): « «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»(5)، أَيْ: يُبَارِكُلَهُ فِيمَا آتَاهُ»(6).

وعن علي (عليه السلام): «مَنْ أَتَاهُ اللهُ بِرِزْقٍ لَمْ يَخْطُ إِلَيْهِ بِرِجْلِهِ، وَلَمْ يَمُدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَشُدَّ إِلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، كَانَ مِمَّنْ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ فِي كِتَابِهِ: «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ»(7) الآيَةَ»(8).

ص: 325


1- سورة نوح: 10 - 12.
2- الخصال: ج2 ص615، باب الواحد إلى المائة، علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، ح10.
3- سورة الطلاق: 2.
4- بحار الأنوار: ج67 ص281، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق.
5- سورة الطلاق: 3.
6- بحار الأنوار: ج67 ص281، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق.
7- سورة الطلاق: 2.
8- بحار الأنوار: ج67 ص281، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق.

..............................

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اتَّقَى اللهَ عَاشَ قَوِيّاً،وَسَارَ فِي بِلاَدِ عَدُوِّهِ آمِناً»(1).

ورُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ قَالَ: «خَصْلَةٌ مَنْ لَزِمَهَا، أَطَاعَتْهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ، وَرَبِحَ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ». قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «التَّقْوَى، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَعَزَّ النَّاسِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ - ثُمَّ تَلاَ - «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَيَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»(2)»(3).

وعن الحسن بن علي (عليه السلام): أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعَهُ بَعْضُ حُجَّابِهِ، وَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ ذُو مَالٍ، وَلاَ يُولَدُ لِي، فَعَلِّمْنِي شَيْئاً لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُنِي وَلَداً. فَقَالَ (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِالاسْتِغْفَارِ». فَكَانَ يُكْثِرُ الاِسْتِغْفَارَ، حَتَّى رُبَّمَا اسْتَغْفَرَ فِي الْيَوْمِ سَبْعَمِائَةِ مَرَّةٍ، فَوُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: هَلاَّ سَأَلْتَهُ مِمَّ قَالَ ذَلِكَ؟. فَوَفَدَهُ وَفْدَةً أُخْرَى عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَ لَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ عَزَّ اسْمُهُ فِي قِصَّةِ هُودٍ (عليه السلام): «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ»(4)، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ (عليه السلام): «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ»(5)»(6).

ص: 326


1- بحار الأنوار: ج67 ص283 تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 ح5.
2- سورة الطلاق: 2 - 3.
3- بحار الأنوار: ج67 ص285 تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 ح7.
4- سورة هود: 52.
5- سورة نوح: 12.
6- مكارم الأخلاق: ص226، ب8 ف6، في طلب الولد.

..............................

القائد كالأب الرحيم

مسألة: يجب أن يكون القائد كالأبالرحيم للأُمة، كما كان الإمام علي (عليه السلام)، أما من غصب الخلافة فإنهم كانوا نقمةً على الأُمة.

ولذلك نجده (عليه السلام) يقول: «مَنَنْتُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، كَمَا مَنَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ» (1)، رغم أنهم أثاروا حرباً عسكرية شعواء، وأثاروا انشقاقاً كبيراً في الأمة الاسلامية، إلا أنه (عليه السلام) بمجرد الانتصار تعامل معهم كالأب الرحيم، فلم يعف فحسب، بل كان حسن العفو، كما مر في معنى الإسجاح.

وكان من ذلك أن أكرم عائشة وبعث لحمايتها أربعين امرأة ملثمة بلثام الرجال من البصرة إلى المدينة، وانتخب (عليه السلام) أربعين امرأة حفظاً لكرامتها إلى هذه الدرجة، وكن لابسات ملابس الرجال وملثمات كالرجال كي لا يطمع طامع أو يغير مغير على عائشة استصغاراً لشأن حماتها باعتبارهن نسوة، وذلك هو القمة في الحكمة والرحمة.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُالشَّفِيقُ، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَالأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ. الإِمَامُ أَمِينُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَالدَّاعِي إِلَىاللهِ،

ص: 327


1- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام): ص393، ب5، مناشدته (عليه السلام) مع الخوارج.

..............................

وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللهِ»(1).

قلة السجون في الإسلام

مسألة: لا سجون في الإسلام إلاّ في موارد قليلة جداً، ولا مصادرة للأموال، ولا سحق للحقوق، ولا منع للسفر أو الإقامة أو الزواج أو التملك بدعوى أنه من بلد آخر، فإن ذلك كله مقتضى «وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً»، وقد ذكرنا تفصيلها في (فقه الحريات) و(الصياغة الجديدة) وغيرهما، وفي الحديث: «الرِّفْقُ بِالأَتْبَاعِ مِنْ كَرَمِ الطِّبَاعِ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الرِّفْقُنِصْفُ الْعَيْشِ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً: فَقَّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَرَزَقَهُمُ الرِّفْقَ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَالْقَصْدَ فِي شَأْنِهِمْ»(4).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ رِفْقَ بِهِ»(5).

ص: 328


1- الكافي: ج1 ص200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13075.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13061.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13062.
5- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13063.

..............................

الأصل الرفق واللين

مسألة: الأصل في التعامل مع الناس هو السير بهم سيراً سجحا ليناً، وإن كانت له بعض العوارض والسلبيات، كما قال علي (عليه السلام): «إِنْ كَانَتِ الرَّعَايَا قَبْلِي لَتَشْكُو حَيْفَ رُعَاتِهَا، وَإِنَّنِي الْيَوْمَ لأَشْكُو حَيْفَ رَعِيَّتِي، كَأَنَّنِي الْمَقُودُ وَهُمُ الْقَادَةُ، أَوِ الْمَوْزُوعُ وَهُمُ الْوَزَعَةُ»(1)، إلاّأنه هو الأصح والأسلم.

ف (السلم والسلام أحمد عاقبة) كما ذكرنا تفصيله في كتاب (السبيل)(2).

وعلى ذلك يجب على الحاكم السير بالناس برفق ولين، وأن يعفو عن مسيئهم عفواً حسناً، وإن سبّب ذلك تجرء بعض الناس على الحاكم، أو الانتقاص من شأنه، أو نقده علناً في المحافل والمجالس والجرائد والمجلات، فإن كل ذلك من الحكمة، ومن بعد النظر، ومن أسباب دوام الحكم والذكر الحسن على مر التاريخ.

فإن حبل الظلم والاستبداد قصير وإن طال، وإن حبل العدل والإحسان والسير السجح اللين الرفيق متين قوي طويل مستمر وإن تعرض للإساءات.

وقد ورد «إِنَّ اللهَ يُمْهِلْ وَلاَ يُهْمِلْ» (3).

ص: 329


1- نهج البلاغة: حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام) الرقم261، ومن كلامه (عليه السلام) لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار.
2- السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص147، القسم الأول، الأساس الرابع، السلام أحمد عاقبة.
3- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج3 ص120 شرح الدعاء السادس عشر.

..............................

وقال تعالى: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1)، ولسيتالعاقبة للمتقين في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً، وليس ذلك فقط في زمن ظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف وفرج به عنا وعن المؤمنين أجمع)، وإن كان لو لم يكن غيره لكفى بل وزاد أيضاً.

ألا ترى أن معاوية ويزيد وأضرابهما أضحيا في مزبلة التاريخ، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) أضحى له على مر ألوف السنين الحكومة العليا على قلوب الناس، بل حتى ابنته الصغيرة السيدة رقية (سلام الله عليها) أضحى لها مزار مهيب في الشام يقصده الناس من أكناف الأرض ليأخذوا حوائجهم، وقبر معاوية مزبلة من مزابل الشام!.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ، فَمَنْ أُعْطِيَ الرِّفْقَ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُعْطِي الثَّوَابَ، وَيُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(3).وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ»(4).

ص: 330


1- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13064.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص293، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13066.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص293، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13065.

..............................

وقال (صلى الله عليه وآله): «الرِّفْقُ يُمْنٌ، وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ»(1).

وعن هشام بن الحكم، عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، أنه قال: «يَا هِشَامُ، عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ؛ فَإِنَّ الرِّفْقَ خَيْرٌ، وَالْخُرْقَ شُؤْمٌ. إِنَّ الرِّفْقَ وَالْبِرَّ وَحُسْنَ الْخُلُقِ، يَعْمُرُ الدِّيَارَ، وَيَزِيدُ فِي الرِّزْقِ»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنَه قال لولده الحسين (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، رَأْسُ الْعِلْمِ الرِّفْقُ، وَآفَتُهُ الْخُرْقُ»(3).وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «كَانَ آخِرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْخَضِرُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِذَنْبٍ؛ فَإِنَّ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَى اللهِ ثَلاَثَةٌ: الْقَصْدُ فِي الْجِدَةِ، وَالْعَفْوُ فِي الْمَقْدُرَةِ، وَالرِّفْقُ بِعِبَادِ اللهِ. وَمَا أَرْفَقَ أَحَدٌ بِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلاَّ رَفَقَ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «مَا ارْتَجَّ امْرُؤٌ، وَأَحْجَمَ عَلَيْهِ الرَّأْيُ، وَأَعْيَتْ بِهِ الْحِيَلُ، إِلاَّ كَانَ الرِّفْقُ مِفْتَاحَهُ»(5).

ص: 331


1- مستدرك الوسائل: ج11ص293، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13067.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13070.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13071.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13072.
5- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13073.

..............................

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ. اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي، فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:«الرِّفْقُ يُيَسِّرُ الصِّعَابَ، وَيُسَهِّلُ الأَسْبَابَ»(2).

الشيعة والسير السجح

مسألة: ينبغي على أتباع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وشيعته أن يسيروا مع أهلهم وأصدقائهم وشركائهم بل وحتى منافسيهم وأعدائهم سيراً سجحاً ليناً، عكس ما يسير عليه أتباع من غصب الخلافة، ولذا نرى النواصب والإرهابيين قطعة من الخشونة والعنف والخرق والجريمة.

وعن شعيب العقرقوفي، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: «اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً، مُتَحَابِّينَ فِي اللهِ، مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وَتَلاَقَوْا وَتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وَأَحْيُوهُ»(3).

وعن كليب الصيداوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «تَوَاصَلُوا، وَتَبَارُّوا، وَتَرَاحَمُوا، وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»(4).

ص: 332


1- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13074.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13075.
3- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح1.
4- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح2.

..............................

وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «تَوَاصَلُوا وَتَبَارُّوا، وَتَرَاحَمُوا وَتَعَاطَفُوا»(1).

وعن أبي المغراء، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الاِجْتِهَادُ فِي التَّوَاصُلِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى التَّعَاطُفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لأَهْلِ الْحَاجَةِ، وَتَعَاطُفُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَكُونُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(2)، مُتَرَاحِمِينَ مُغْتَمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ مَعْشَرُ الأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(3).

تحري رضا العامة

مسألة: يجب أن يتحرى الحاكم رضا عامة الناس، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: «وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِيالْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ»(4).

ف «لَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً» يراد به بعامة الناس وبخاصتهم أيضاً، إلاّ لدى التعارض، فإن رضا العامة مقدم.

ص: 333


1- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح3.
2- سورة الفتح: 29.
3- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح4.
4- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر.

..............................

وأغلب الحكام يرجحون - جهلاً أو ضعفاً أو خبثاً أو هوىً أو ما أشبه - رضا الخاصة على رضا العامة، فيوردون أنفسهم وشعبهم المهالك، « فَباءُو بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ»(1).

قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَالسَّخَطُ، فَمَنْ رَضِيَ أَمْراً فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ سَخِطَهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ»(2).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «شِرَارُ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ،وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ يُعِينُ عَلَى الْمَظْلُومِ»(4).

العدل والإحسان

مسألة: يستحب أن يسير القائد بالناس سيراً سجحاً ليناً سهلاً، وهو أمر زائد على العدل، فهو من مصاديق الإحسان، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(5).

ص: 334


1- سورة البقرة: 90.
2- المحاسن: ج1 ص262، كتاب مصابيح الظلم، باب33 النية، ح323.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص109، تتمة كتاب الجهاد، الباب80 ح13653.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص109، تتمة كتاب الجهاد، الباب80 ح13654.
5- سورة النحل: 90.

..............................

وقد ذكرنا في موضع أنه لا يبعد وجوب الإحسان في الجملة، ومما يمكن أن يستشهد به لذلك هذه الآية، لوحدة السياق، ووقوع الإحسان متعلقاً لمادة الأمر، فتأمل.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ، وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ،وَأُولِي الأَمْرِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، قال: «إِنَّ الإِمَامَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِرَجُلٍ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَحِلْمٌ يَمْلِكُ بِهِ غَضَبَهُ، وَحُسْنُ الْخِلاَفَةِ عَلَى مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ كَالْوَالِدِ الرَّحِيمِ»(2).

وعن عمرو بن عثمان التيمي القاضي، قال: خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ الْمُرُوءَةَ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ». قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ؟!. فَقَالَ (عليه السلام): «فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(3). فَالْعَدْلُ الإِنْصَافُ، وَالإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَعْدَلُ النَّاسِ مَنْ رَضِيَ لِلنَّاسِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ،وَكَرِهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ»(5).

ص: 335


1- الكافي: ج1 ص85، كتاب التوحيد، باب أنه لا يعرف إلا به، ح1.
2- الإمامة والتبصرة من الحيرة: ص138، حول إمامة القائم (عليه السلام)، ب36، ح156.
3- سورة النحل: 90.
4- معاني الأخبار: ص257، باب معنى المروءة، ح1.
5- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 ح1.

..............................

وفي خبر الشيخ الشامي، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يَا شَيْخُ، ارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ، وَآتِ إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَحِبُّوا لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّونَ لأَنْفُسِكُمْ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ رُضِيَ بِهِ حَكَماً لِغَيْرِهِ»(3).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليهوآله): «مَنْ وَاسَى الْفَقِيرَ، وَأَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ، فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حَقّاً»(4).

وعن معاوية بن وهب، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَا نَاصَحَ اللهَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِي نَفْسِهِ، فَأَعْطَى الْحَقَّ مِنْهَا، وَأَخْذَ الْحَقَّ لَهَا، إِلاَّ أُعْطِيَ خَصْلَتَيْنِ: رِزْقاً مِنَ اللهِ يَقْنَعُ بِهِ، وَرِضًى عَنِ اللهِ يُنْجِيهِ»(5).

ص: 336


1- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح2.
2- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح3.
3- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح4.
4- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح5.
5- بحار الأنوار: ج72 ص25 - 26، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح6.

..............................

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَتُهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدَيْهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بِشَعِيرَةٍ، وَرَجُلٌ قَالَ الْحَقَّ فِيمَا عَلَيْهِ وَلَهُ»(1).

الرفق واللين في كل شيء

مسألة: يستحب الرفق واللين في كل شيء، وقد يجب ذلك، وفي الحديث: «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»(2)، سواء كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غير ذلك، وكذلك في العائلة والشركة والمنظمة والدائرة وغيرها.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً: أَرْشَدَهُمْ لِلرِّفْقِ وَالتَّأَنِّي، وَمَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَدْتَ أَمْراً فَعَلَيْكَ بِالرِّفْقِ وَالتُّؤَدَةِ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكَ مِنْهُ فَرَجاً»(4).

ص: 337


1- بحار الأنوار: ج72 ص26، تتمة كتاب العشرة، الباب35 ح7.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13064.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص293 - 294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13069.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13069.

..............................

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا»(1).

شمولية الرفق واللين زمناً

مسألة: استحباب الرفق واللين غير خاص بزمن دون آخر، بل هو مستحب في كل الأزمنة والحالات.

قال تعالى: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ»(2).

فسواء كان الإنسان في صحة أم مرض، في شدة أو رخاء، في سراء أو ضراء، تابعاً أو متبوعاً... عليه أن يتخذ الرفق والإسجاح ديدناً، وقد ذكرنا تفصيل ذلك وغيره في بعض كتبنا(3).

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّلِكُلِّ شَيْءٍ قُفْلاً، وَقُفْلُ الإِيمَانِ الرِّفْقُ»(5).

ص: 338


1- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13069.
2- سورة الشورى: 37.
3- انظر: (اللاعنف في الإسلام)، و(اللاعنف منهج وسلوك)، و(الفقه: السلم والسلام)، وغيرها من مؤلفات الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج15 ص269، كتاب الجهاد، الباب27 ح20478.
5- وسائل الشيعة: ج15 ص269، كتاب الجهاد، الباب27 ح20479.

..............................

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «مَنْ قُسِمَ لَهُ الرِّفْقُ قُسِمَ لَهُ الإِيمَانُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ أُعْطُوا حَظَّهُمْ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، وَالرِّفْقُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعِيشَةِ خَيْرٌ مِنَ السَّعَةِ فِي الْمَالِ، وَالرِّفْقُ لاَ يَعْجِزُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالتَّبْذِيرُ لاَ يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَوْ كَانَ الرِّفْقُ خَلْقاً يُرَى، مَا كَانَ مِمَّا خَلَقَ اللهُ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ»(3).

وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال:«الرِّفْقُ نِصْفُ الْعَيْشِ»(4).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنَّ فِي الرِّفْقِ الزِّيَادَةَ وَالْبَرَكَةَ، وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخيْرَ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا زُوِيَ الرِّفْقُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلاَّ زُوِيَ عَنْهُمُ الْخيْرُ»(6).

ص: 339


1- وسائل الشيعة: ج15 ص269، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20480.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص270، كتاب الجهاد، الباب27 ح20481.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص270، كتاب الجهاد، الباب27 ح20482.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص270، كتاب الجهاد، الباب27 ح20483.
5- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 ح20486.
6- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20487.

..............................

وعن هشام بن أحمر، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قال لي - وَجَرَى بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ كَلاَمٌ - فَقَالَ لِي: «ارْفُقْ بِهِمْ؛ فَإِنَّ كُفْرَ أَحَدِهِمْ فِي غَضَبِهِ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ كُفْرُهُ فِي غَضَبِهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌيُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلاَّ كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللهِ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ»(3).

وعن الفضيل بن عثمان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ كَانَ رَفِيقاً فِي أَمْرِهِ، نَالَ مَا يُرِيدُ مِنَ النَّاسِ»(4).

ص: 340


1- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20488.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20489.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص271-272، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20490.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص272، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20492.

لاَ يَكْلُمُ حِشَاشُهُ

اشارة

-------------------------------------------

لاَ يَكْلُمُ حِشَاشُهُ(1)

بين الحزم والرفق

مسألة: يجب في القائد أن يجمع بين الضبط وبين اللين والرفق، وهو ما يسمى بالحزم(2).

فالضبط بأن يضع ضوابط وقواعد ورقابة ومحاسبة.

واللين والرفق بأن لا يستخدم ذلك بالشدة والعنف، كما قالت (عليها السلام): «لاَ يَكْلُمُ خِشَاشُهَ»، كما في بعض النسخ، أي هنالك خشاش به تتم السيطرة على الوضع وضبط الأمور، لكن برفق وحكمة حتى لا يكلم ولا يجرح.

و(الكلم): الجرح.

و(الخشاش): ما يجعل في أنف البعير ويشد به زمامه ليكون أسرع في الانقياد.

كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) في مدح مالك الأشتر: «وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا - وَعَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا - مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِالأَشْتَرَ، فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعَا، وَاجْعَلاَهُ دِرْعاً وَمِجَنّاً؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ، وَلاَ سَقْطَتُهُ، وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ، وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ»(3).

ص: 341


1- وفي بعض النسخ: خشاشه.
2- عرف الحزم بأنه شدة في لين، والمقصود قوة في لين.
3- نهج البلاغة: الرسائل، الرقم13 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أميرين من أمراء جيشه.

..............................

ومن كتاب كتبه الإمام الصادق (عليه السلام) يسدي فيه النصيحة إلى عبد الله النجاشي لما ابتلي بوِلاية الأهواز،قال: «وَاعْلَمْ أَنِّي سَأُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ، إِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ بِهِ تَخَلَّصْتَ مِمَّا أَنْتَ مُتَخَوِّفُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَلاَصَكَ وَنَجَاتَكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ فِي حَقْنِ الدُّنْيَا، وَكَفِّ الأَذَى عَنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَالتَّأَنِّي وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، مَعَ لِينٍ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَمُدَارَاةِ صَاحِبِكَ، وَمَنْ يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ رُسُلِهِ، وَارْتُقْ فَتْقَ رَعِيَّتِكَ، بِأَنْ تُوقِفَهُمْ عَلَى مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَإِيَّاكَ وَالسُّعَاةَ وَأَهْلَ النَّمَائِمِ، فَلاَ يَلْتَزِقَنَّ مِنْهُمْ بِكَ أَحَداً، وَلاَ يَرَاكَ اللهُ يَوْماً وَلَيْلَةً وَ أَنْتَ تَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً، فَيَسْخَطَ اللهُ عَلَيْكَ وَيَهْتِكَ سِتْرَكَ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانُ خِصَالٍ: وَقُورٌ عِنْدَ الْهَزَاهِزِ، صَبُورٌ عِنْدَ الْبَلاَءِ، شَكُورٌ عِنْدَ الرَّخَاءِ، قَانِعٌ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ، لاَ يَظْلِمُ الأَعْدَاءَ، وَلاَ يَتَحَامَلُ لِلأَصْدِقَاءِ، بَدَنُهُ مِنْهُ فِي تَعَبٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. إِنَّ الْعِلْمَ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ، وَالْحِلْمَ وَزِيرُهُ، وَالصَّبْرَ أَمِيرُ جُنُودِهِ، وَالرِّفْقَ أَخُوهُ، وَاللِّينَ وَالِدُهُ»(2).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «الْمُؤْمِنُ يَصْمُتُ لِيَسْلَمَ، وَيَنْطِقُ لِيَغْنَمَ، لاَ يُحَدِّثُ أَمَانَتَهُ الأَصْدِقَاءَ، وَلاَ يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ مِنَ الْبُعَدَاءِ، وَلاَ يَعْمَلُ شَيْئاً مِن الْخَيْرِ رِيَاءً، وَلاَ يَتْرُكُهُ حَيَاءً، إِنْ زُكِّيَ خَافَ مِمَّا يَقُولُونَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ لِمَا

ص: 342


1- كشف الريبة: ص87 - 88، الحديث العاشر.
2- الكافي: ج2 ص230 - 231، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح2.

..............................

لاَيَعْلَمُونَ، لاَ يَغُرُّهُ قَوْلُ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَخَافُ إِحْصَاءَ مَا عَمِلَهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«الْمُؤْمِنُ لَهُ قُوَّةٌ فِي دِينٍ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَحِرْصٌ فِي فِقْهٍ، وَنَشَاطٌ فِي هُدًى، وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ، وَعِلْمٌ فِي حِلْمٍ، وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ، وَسَخَاءٌ فِي حَقٍّ، وَقَصْدٌ فِي غِنًى، وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ، وَعَفْوٌ فِي قُدْرَةٍ، وَطَاعَةٌ للهِ فِي نَصِيحَةٍ، وَانْتِهَاءٌ فِي شَهْوَةٍ، وَوَرَعٌ فِي رَغْبَةٍ، وَحِرْصٌ فِي جِهَادٍ، وَصَلاَةٌ فِي شُغُلٍ، وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ، وَفِي الْهَزَاهِزِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ، وَلاَ يَغْتَابُ، وَلاَ يَتَكَبَّرُ، وَلاَيَقْطَعُ الرَّحِمَ، وَلَيْسَ بِوَاهِنٍ، وَلاَ فَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ يَسْبِقُهُ بَصَرُهُ، وَلاَيَفْضَحُهُ بَطْنُهُ، وَلاَ يَغْلِبُهُ فَرْجُهُ، وَلاَ يَحْسُدُ النَّاسَ، يُعَيَّرُ وَلاَ يُعِيِّرُ، وَلاَيُسْرِفُ، يَنْصُرُ الْمَظْلُومَ، وَيَرْحَمُ الْمِسْكِينَ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، لاَ يَرْغَبُ فِي عِزِّ الدُّنْيَا، وَلاَ يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، لِلنَّاسِ هَمٌّ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَلَهُ هَمٌّ قَدْ شَغَلَهُ، لاَ يُرَى فِي حُكْمِهِ نَقْصٌ، وَلاَ فِي رَأْيِهِ وَهْنٌ، وَلاَ فِي دِينِهِ ضَيَاعٌ، يُرْشِدُ مَنِ اسْتَشَارَهُ، وَيُسَاعِدُ مَنْ سَاعَدَهُ، وَيَكِيعُ عَنِ الْخَنَا وَالْجَهْلِ»(2).

وعن صفوان الجمال، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ مِنْ حَقٍّ، وَإِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ، وَإِذَا قَدَرَلَمْ يَأْخُذْ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ»(3).

ص: 343


1- الكافي: ج2 ص231، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح3.
2- الكافي: ج2 ص231، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح4.
3- الكافي: ج2 ص233، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح11.

..............................

وعن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يَا سُلَيْمَانُ، أَ تَدْرِي مَنِ الْمُسْلِمُ؟».

قلت: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَنْتَ أَعْلَمُ.

قال (عليه السلام): «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

ثم قال (عليه السلام): «وَتَدْرِي مَنِ الْمُؤْمِنُ؟».

قال: قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ.

قال (عليه السلام): «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَنِ ائْتَمَنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَظْلِمَهُ، أَوْ يَخْذُلَهُ، أَوْ يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعَنِّتُهُ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي إِثْمٍ وَلاَ بَاطِلٍ، وَإِذَا سَخِطَ لَمْ يُخْرِجْهُ سَخَطُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ، وَالَّذِي إِذَاقَدَرَ لَمْ تُخْرِجْهُ قُدْرَتُهُ إِلَى التَّعَدِّي إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ»(2).

وعن أبي البختري رفعه، قال: سَمِعْتُهُ (عليه السلام) يَقُولُ: «الْمُؤْمِنُونَ هَيْنُونَ لَيْنُونَ، كَالْجَمَلِ الأَنِفِ إِذَا قِيدَ انْقَادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ»(3).

ص: 344


1- الكافي: ج2 ص233 - 234، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح12.
2- الكافي: ج2 ص234، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح13.
3- الكافي: ج2 ص234، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح14.

..............................

اللامركزية الإدارية

مسألة: من هذا التعبير الدقيق للصديقة الطاهرة (عليها السلام): «لاَ يَكْلُمُ خِشَاشُهَ» يمكن استكشاف قاعدة مهمة في علم الإدارة، وهي أن اللامركزية بقول مطلق باطلة، كما هو الحال بالنسبة للمركزية، واللازم هو الوسط والاعتدال. بأن تكون هنالك كما سبق: ضوابط وقواعد وسلطة حتى لا تكون الأمور منفلتة، لكن في ظل حرية جيدة لحركة الأشخاص والمؤسسات، بحيث تنطلق قدراتهم الإبداعية وقواهم الذاتية وكفاءاتهم.

وبعبارة أخرى يجمع بين الآيات التالية: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1)، و«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(2).

وبين: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ»(3)، و«أَنْذِرْ»(4)،و«وَأَنْزَلْنَا الْحدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ»(5)، و«وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْميزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(6).

ص: 345


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة البقرة: 256.
3- سورة التحريم: 6.
4- سورة الأنعام: 51، سورة إبراهيم: 44، سورة الشعراء: 214.
5- سورة الحديد: 25.
6- سورة الحديد: 25.

وَلاَ يَكِلُّ سَائِرُهُ

اشارة

-------------------------------------------

لا إثقال على الناس

مسألة: يجب تأسياً بأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكما وصفته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بأنه يسير بالناس سيراً لا يكل سائره، أن لا يثقل الإنسان على الناس بما ينفرهم من الدين.

وتلك الرواية معروفة حيث اهتدى كتابي على يد مسلم لكنه ارتد عند ما ضغط عليه المسلم بالعبادة ليل نهار.

ِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ رَجُلٍ(1)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) - فِي حَدِيثٍ - أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ قَوْمٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَنَبْرَأُ مِنْهُمْ، إِنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ مَا نَقُولُ.

قَالَ: فَقَالَ: «يَتَوَلَّوْنَا وَلاَ يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ، تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ!».

قُلْتُ: نَعَمْ.قَالَ: «فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ - إلى أن قال - فَتَوَلَّوْهُمْ وَلاَ تَبْرَءُوا مِنْهُمْ. إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَهُ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ، وَلاَ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الثَّلاَثَةِ، وَلاَ صَاحِبُ الثَّلاَثَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الأَرْبَعَةِ،

ص: 346


1- في المصدر: عن رجل من أصحابنا سراج، وكان خادماً لأبي عبد الله (عليه السلام).

..............................

وَلاَ صَاحِبُ الأَرْبَعَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ، وَلاَ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السِّتَّةِ، وَلاَ صَاحِبُ السِّتَّةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّبْعَةِ، وَسَأَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً.

إِنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ جَارٌ - وَكَانَ نَصْرَانِيّاً - فَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَزَيَّنَهُ لَهُ فَأَجَابَهُ، فَأَتَاهُ سُحَيْراً، فَقَرَعَ عَلَيْهِ الْبَابَ.

فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟.

قَالَ: أَنَا فُلاَنٌ.

قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟.

قَالَ: تَوَضَّأْ، وَالْبَسْ ثَوْبَيْكَ، وَمُرَّ بِنَا إِلَى الصَّلاَةِ.

قَالَ: فَتَوَضَّأَ، وَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ، وَخَرَجَمَعَهُ.

قَالَ: فَصَلَّيَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ صَلَّيَا الْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَا حَتَّى أَصْبَحَا. فَقَامَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيّاً يُرِيدُ مَنْزِلَهُ.

فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَيْنَ تَذْهَبُ! النَّهَارُ قَصِيرٌ، وَالَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الظُّهْرِ قَلِيلٌ.

قَالَ: فَجَلَسَ مَعَهُ إِلَى أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ - ثُمَّ قَالَ - وَمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَلِيلٌ.

فَاحْتَبَسَهُ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ - قَالَ - ثُمَّ قَامَ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِهِ.

فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا آخِرُ النَّهَارِ، وَأَقَلُّ مِنْ أَوَّلِهِ، فَاحْتَبَسَهُ حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِهِ.

ص: 347

..............................

فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بَقِيَتْ صَلاَةٌ وَاحِدَةٌ - قَالَ - فَمَكَثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ثُمَّ تَفَرَّقَا. فَلَمَّا كَانَ سُحَيْراً، غَدَا عَلَيْهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْبَابَ.

فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ: أَنَا فُلاَنٌ.

قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟. قَالَ: تَوَضَّأْ، وَالْبَسْ ثَوْبَيْكَ، وَاخْرُجْ فَصَلِّ.

قَالَ: اطْلُبْ لِهَذَا الدِّينِ مَنْ هُوَ أَفْرَغُ مِنِّي، وَأَنَا إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَدْخَلَهُ فِي شَيْءٍ أَخْرَجَهُ مِنْهُ - أَوْ قَالَ - أَدْخَلَهُمِنْ مِثْلِ ذِهْ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا»(1).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ. إِنَّ الْمُنْبَتَّ - يَعْنِي الْمُفْرِطَ - لاَ ظَهْراً أَبْقَى، وَلاَ أَرْضاً قَطَعَ، فَاعْمَلْ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَمُوتَ هَرِماً، وَاحْذَرْ حَذَرَ مَنْ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَمُوتَ غَدا»(3).

وهذه ضابطة عامة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

ص: 348


1- وسائل الشيعة: ج16 ص160 - 161، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلق به، الباب14 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، ح21242.
2- المجازات النبوية: ص244، المجاز 207.
3- الكافي: ج2 ص87، كتاب الإيمان والكفر، باب الاقتصاد في العبادة، ح6.

..............................

الاحتياطات الزائدة

مسألة: يعرف مما ذكر أن الإثقال على الناس بالاحتياطات الزائدة في الرسائل العملية وما أشبه غير وجيه، ولذا وصى صاحب الجواهر (رحمه الله) الشيخ الأنصاري (قدس سره) بقوله: (يا شيخ، قلل من احتياطاتك)(1).

وقد ورد في الروايات - حتى في شأن العبادات - أنه يلزم أن لا يُثقل الإنسان على نفسه بحيث يؤثر سلباً عليه، بل متى ما رأى إقبالاً في نفسه أقبل على العبادة.

في الكافي: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً،فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَتَنَفَّلُوا، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَعَلَيْكُمْ بِالْفَرِيضَةِ»(2).

وفي نهج البلاغة: عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً

ص: 349


1- بعد وفاة الشيخ حسن كاشف الغطاء (رحمه الله)، انتقلت المرجعية العليا للشيخ صاحب الجواهر (قدس سره)، وبعد أربع سنوات مرض صاحب الجواهر، فأمر بتشكيل مجلس يحوي جمعاً من العلماء، ولما تم الاجتماع قال صاحب الجواهر: أين الشيخ المرتضى؟. فبحثوا عنه ووجدوه في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعو لصاحب الجواهر بالشفاء، فقالوا له: أجب صاحب الجواهر. ولما حضر الشيخ الأنصاري، أجلسه صاحب الجواهر على فراشه، وأخذ بيده ووضعها على قلبه، وقال: الآن طاب لي الموت - ثم قال للحاضرين - هذا مرجعكم من بعدي. ثم قال للشيخ: قلل من احتياطاتك؛ فإن الشريعة سمحة وسهلة. فاستلم الشيخ الأنصاري (رحمه الله) زعامة الشيعة ومرجعيتها، وله من العمر اثنان وخمسون سنة.
2- الكافي: ج3 ص454، كتاب الصلاة، باب تقديم النوافل وتأخيرها وقضائها وصلاة الضحى، ح16.

..............................

وَإِدْبَاراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، وَنَشَاطاً وَفُتُوراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ بَصُرَتْ وَفَهِمَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ كَلَّتْ وَمَلَّتْ، فَخُذُوهَا عِنْدَ إِقْبَالِهَا وَنَشَاطِهَا، وَاتْرُكُوهَا عِنْدَ إِدْبَارِهَا وَفُتُورِهَا»(2).

ومنه يعلم عدم صحة ما يقوم به بعض الأزواج من الضغط الزائد على زوجاتهم في الخروج والدخول والمأكل والملبسوما أشبه على خلاف القدر الذي هو مصداق لقوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمعْرُوفِ»(3).

ص: 350


1- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم312.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: ص129، لمع من كلام الإمام الرضا أبي الحسن على بن موسى بن جعفر (عليهم السلام)، ح15.
3- سورة النساء: 19.

وَلا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ

اشارة

-------------------------------------------

وَلا يُتَعْتَعُ (1) رَاكِبُهُ

الإمام وحقوق الخلافة

التعتعة بمعنى الإقلاق والإزعاج، وتعتعه: أي حركه بعنف وقلقله.

وقولها (عليها السلام) يعني أن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون كآخذ زمام البعير إذا ركبه إنسان، فإنه لا يؤذي البعير «لا يكلم خشاشه»، ولا يزعج الراكب «وَلَا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ».

هذا وربما يكون «وَلَا يُكَلُّ سَائِرَهُ» إشارة للصنف الثالث وهو القائد أو السائق للجمل، وإن كان السائر يطلق على الراكب أيضاً، وذلك كناية عن أنه (عليه السلام) لو تسلم زمام الأمور فإنه كان يؤدي للخلافة حقها، كما كان يعطي للناس حقوقهم أيضاً.

فإن للخلافة حقوقاً يجب على الخليفة أن يؤديها، وإلاّ كان خائنا للأمانة، كما خان الثلاثة الأمانة أصلاً وفرعاً، أما أصلاً فبغصب الخلافة، وأما فرعاً فبتضييع واجباتها وارتكاب محرماتها.

ومن حقوق الخلافة على الخليفة: أن ينزهها من الظلم، ومن اتخاذ الحواشيالظلمة، ويبعد الأمور عن غير الأكفاء.

فقد جاء في العهد الذي كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، قوله: «وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ: الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ.

ص: 351


1- في بعض النسخ: ولا يملّ.

..............................

فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ، وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ: أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ، يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.

أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ؛ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.

وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ: بَخِيلاً، يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.

إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّلَكَ بِطَانَةً؛ فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ، مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاتِكَ.

ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ، مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ.

ص: 352

..............................

وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ.

وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(1).

تعتة الراكب

مسألة: يحرم تعتعة الراكب وإقلاقه بكلا المعنيين الحقيقي والمجازي؛ لإنه إيذاء وتصرف في الغير دون إذنه، ولغير ذلك.

وفي بعض النسخ: «وَلَا يُمَلُّ رَاكِبُهُ»، والفرق بين (يمل) و(يكل) أن الكلل يطلق على الجسماني منه، إذ (كلّ) بمعنى تعب وأعيى، و(الملل) يطلق على النفسي منه. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ»(2).

وقال (عليه السلام): «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»(3).

ص: 353


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم10.
3- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم12.

..............................

وعن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، قال: «قَامَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلٌ بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنِ الإِخْوَانِ؟.

فَقَالَ: الإِخْوَانُ صِنْفَانِ: إِخْوَانُ الثِّقَةِ، وَإِخْوَانُ الْمُكَاشَرَةِ. فَأَمَّا إِخْوَانُ الثِّقَةِ: فَهُمْ كَالْكَفِّ وَالْجَنَاحِ، وَالأَهْلِ وَالْمَالِ، فَإِذَا كُنْتَ مِنْ أَخِيكَ عَلَى ثِقَةٍ، فَابْذُلْ لَهُ مَالَكَ وَيَدَكَ، وَصَافِ مَنْ صَافَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَاكْتُمْ سِرَّهُ، وَأَعِنْهُ، وَأَظْهِرْ مِنْهُ الْحَسَنَ، وَاعْلَمْ أَيُّهَا السَّائِلُ أَنَّهُمْ أَعَزُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُ الْمُكَاشَرَةِ: فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهُمْ لَذَّتَكَ فَلاَ تَقْطَعَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلاَ تَطْلُبَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِهِمْ، وَابْذُلْ لَهُمْ مَا بَذَلُوا لَكَ مِنْ طَلاَقَةِ الْوَجْهِ، وَحَلاَوَةِ اللِّسَانِ»(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «عَظِّمُوا أَصْحَابَكُمْ وَوَقِّرُوهُمْ، وَلاَ يَتَهَجَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَضَارُّوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا»(2).

وقال لقمان لابنه: «اتَّخِذْ أَلْفَ صَدِيقٍ وَأَلْفٌ قَلِيلٌ، وَلا تَتَّخِذْ عَدُوّاً وَاحِداًوَالْوَاحِدُ كَثِيرٌ»(3).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أَكْثِرُوا مِنَ الأَصْدِقَاءِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُمْ يَنْفَعُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(4).

ص: 354


1- وسائل الشيعة: ج12 ص13، تتمة كتاب الحج، الباب3 ح15515.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5، ص136، الكتاب الثامن، الباب الأول، المقدمة العاشرة، ح850.
3- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5، ص137،ح854.
4- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5، ص137، ح855.

..............................

توفير الرفاهية

مسألة: سبق حرمة تعتة الراكب وإقلاقه، لكن هل عكسه واجب؟. أي: هل يجب على الحاكم بالنسبة لشعبه، أو الأب بالنسبة لأسرته، ومن أشبه، توفير الرفاهية والترفيه للناس أو للأسرة، بحيث لا يملوا أو لا يكلوا؟.

لا دليل على وجوب ذلك. نعم، إنه مستحب من باب إدخال السرور في قلب المؤمن، أو قضاء حاجته، أو ما أشبه. وأما الوجوب فلا، إلاّ إذا فرضت المقدمية كي لا يميلوا إلى الباطل مثلاً، خاصة الشباب في مثل هذا الزمن، حيث إنهم إذا لم يراعوا، ولم يحتووا، ولم توفر لهم وسائل الترفيه والرفاهية، والتطور والتقدم، وماأشبه، فإن كثيراً منهم يقع في مصائد الفرق الضالة، أو الأديان الباطلة، أو ما أشبه.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «احْرِصُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ»(1).

وعن محمد بن جمهور، قال: كَانَ النَّجَاشِيُّ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الدَّهَاقِينِ - عَامِلاً عَلَى الأَهْوَازِ وَفَارِسَ. فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ عَمَلِهِ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ فِي دِيوَانِ النَّجَاشِيِّ عَلَيَّ خَرَاجاً، وَهُوَ مُؤْمِنٌ يَدِينُ بِطَاعَتِكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكْتُبَ لِي إِلَيْهِ كِتَاباً.

ص: 355


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص339، باب89 حق النفوس.

..............................

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، سُرَّ أَخَاكَ يَسُرَّكَ اللهُ».

قَالَ: فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ، فَلَمَّا خَلاَ نَاوَلَهُ الْكِتَابَ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام).فَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟.

قَالَ: خَرَاجٌ عَلَيَّ فِي دِيوَانِكَ.

فَقَالَ لَهُ: وَكَمْ هُوَ؟.

قَالَ: عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ.

فَدَعَا كَاتِبَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَدَائِهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَنْ يُثْبِتَهَا لَهُ لِقَابِلٍ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: سَرَرْتُكَ.

فَقَالَ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ.

ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَرْكَبٍ، وَجَارِيَةٍ، وَغُلاَمٍ، وَأَمَرَ لَهُ بِتَخْتِ ثِيَابٍ، فِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ: هَلْ سَرَرْتُكَ؟.

فَيَقُولُ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ.

فَكُلَّمَا قَالَ نَعَمْ زَادَهُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: احْمِلْ فُرُشَ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي كُنْتُ جَالِساً فِيهِ حِينَ دَفَعْتَ إِلَيَّ كِتَابَ مَوْلايَ الَّذِي نَاوَلْتَنِي فِيهِ، وَارْفَعْ إِلَيَّ حَوَائِجَكَ.

قَالَ: فَفَعَلَ، وَخَرَجَ الرَّجُلُ فَصَارَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَدَّثَهُ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى جِهَتِهِ، فَجَعَلَ يُسَرُّ بِمَا فَعَلَ.

ص: 356

..............................

فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، كَأَنَّهُ قَدْ سَرَّكَ مَا فَعَلَ بِي؟!.فَقَالَ: «إِي وَاللهِ، لَقَدْ سَرَّ اللهَ وَرَسُولَهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ مَشَى لاِمْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي حَاجَتِهِ فَنَصَحَهُ فِيهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ سَيِّئَةً، قُضِيَتِ الْحَاجَةُ أَوْ لَمْ تُقْضَ. فَإِنْ لَمْ يَنْصَحْهُ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَصْمَهُ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ انْتَخَبَ قَوْماً مِنْ خَلْقِهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ فُقَرَاءَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (عليه السلام)؛ لِيُثِيبَهُمْ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ سَبْعِينَ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، وَكُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قال - وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُؤْمِنٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، يَسَّرَ اللهُ لَهُ حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَةً، سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ سَبْعِينَ عَوْرَةً مِنْ عَوْرَاتِهِ الَّتِي يُخَلِّفُهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ- قال - وَإِنَّ اللهَ لَفِي عَوْنِ الْمُؤْمِنِ، مَا كَانَ الْمُؤْمِنُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، فَانْتَفِعُوا فِي الْعِظَةِ، وَارْغَبُوا فِي الْخَيْرِ»(4).

ص: 357


1- الكافي: ج2 ص190 - 191، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح9.
2- المؤمن: ص46، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه، ح107.
3- المؤمن: ص46، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه، ح108.
4- المؤمن: ص46 - 47، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه، ح109.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَقَدْ سَرَّنِي، وَمَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اللهَ»(1).

وعن مسمع، قال: سَمِعْتُ الصَّادِقَ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الآخِرَةِ، وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ ثَلِجُ الْفُؤَادِ»(2).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «تَبَسُّمُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِ أَخِيهِ حَسَنَةٌ، وَصَرْفُ الْقَذَى عَنْهُ حَسَنَةٌ، وَمَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَىالْمُؤْمِنِ»(3).

وعن عبيد الله بن الوليد الوصافي، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِيمَا نَاجَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَبْدَهُ مُوسَى (عليه السلام)، قَالَ: إِنَّ لِي عِبَاداً أُبِيحُهُمْ جَنَّتِي وَأُحَكِّمُهُمْ فِيهَا. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ تُبِيحُهُمْ جَنَّتَكَ وَتُحَكِّمُهُمْ فِيهَا؟. قَالَ: مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً - ثُمَّ قَالَ - إِنَّ مُؤْمِناً كَانَ فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ، فَوَلَعَ بِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى دَارِ الشِّرْكِ، فَنَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَأَظَلَّهُ وَأَرْفَقَهُ وَأَضَافَهُ. فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لَوْ كَانَ لَكَ فِي جَنَّتِي مَسْكَنٌ لأَسْكَنْتُكَ فِيهَا، وَلَكِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى مَن مَاَ بِيمُشْرِكاً، وَلَكِنْ يَا نَارُ هِيدِيهِ وَلاَ تُؤْذِيهِ. وَيُؤْتَى بِرِزْقِهِ طَرَفَيِ

ص: 358


1- المؤمن: ص47، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن ... ح114.
2- المؤمن: ص47، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن ... ح115.
3- الكافي: ج2 ص188، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح2.

..............................

النَّهَارِ». قُلْتُ: مِنَ الْجَنَّةِ؟. قَالَ (عليه السلام): «مِنْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ»(1).وعن علي بن الحسين (صلوات الله عليه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): إِنَّ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِي لَيَأْتِينِي بِالْحَسَنَةِ فَأُبِيحُهُ جَنَّتِي. فَقَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟. قَالَ: يُدْخِلُ عَلَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ سُرُوراً وَلَوْ بِتَمْرَةٍ. قَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، حَقٌّ لِمَنْ عَرَفَكَ أَنْ لاَ يَقْطَعَ رَجَاءَهُ مِنْكَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ يَرَى أَحَدُكُمْ إِذَا أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً أَنَّهُ عَلَيْهِ أَدْخَلَهُ فَقَطْ، بَلْ وَاللهِ عَلَيْنَا، بَلْ وَاللهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(4).

ص: 359


1- الكافي: ج2 ص188 - 189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح3.
2- الكافي: ج2 ص189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح4.
3- الكافي: ج2 ص189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح5.
4- الكافي: ج2 ص189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح6.

وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلاَ يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ

اشارة

-------------------------------------------

جنة الدنيا في ظل حكم الإمام

(المنهل): المورد أو خصوص ما كان منه على الطريق، وهو محل ورود الإنسان والحيوان إلى الماء، سواء كان نهراً أم بئراً أم عيناً أم غيرها.

(النمير): الماء العذب، وقيل: الزاكي والناجع من الماء عذب أو لم يعذب، والناجع أي المريء الهنيء.

(الروي): التام المشبع.

(تطفح): تمتلئ حتى تفيض.

(ضفتا النهر): جانباه وطرفاه، حيث يقصدهما الوارد لأخذ الماء.

(الترنق): التكدر من طين وغيره.

مسألة: قول الصديقة (عليها السلام): «لأَوْرَدَهُمْ»، الضمير يعود لا إلى الصحابة في ذلك الزمان فحسب، بل إلى كل الناس، وعلى مر الأزمان والأجيال، ورجوعه الظاهري لأولئك من باب الحاجة إلى طرف خطاب، كآيات الكتاب، وذلك لايحتاج إلى مزيد برهان.

وقدرته (عليه السلام) على أن يورد كل البشر على مر الأزمان وتتالي الدهور«مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً...» رغم فترته البسيطة، تنبع من شيئين:

1: إنه (عليه السلام) كان يحكم بمنهج القرآن ومنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحكم، وهو المنهج الذي يكفل للبشرية السعادة بأكمل صورها.

ص: 360

..............................

2: ومن أنه (عليه السلام) كان سيسلم الحكومة من بعده إلى خير القيادة وأفضل خلق الله، وهم باقي خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فمن بعده: الحسن المجبتى (عليه السلام)، ثم الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، فلو لم يغتصب أولئك المنقلبون على الأعقاب الخلافة من وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكانت بيد أهلها إلى يوم القيامة، ولكانت الدنيا جنة وأية جنة! ولذلك ورد في الروايات أن كل إثم وظلم وغصب إلى آخر الزمن، فإنه في عنق الأول والثاني؛ لأنهما حرّفا مسيرة الأمة إلى يوم ظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

عن محمد بن أبي كثير الكوفي، قال: كُنْتُ لاَ أَخْتِمُ صَلاَتِي وَلاَ أَسْتَفْتِحُهَا إِلاَّ بِلَعْنِهِمَا، فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي طَائِراً مَعَهُتَوْرٌ مِنَ الْجَوْهَرِ، فِيهِ شَيْءٌ أَحْمَرُ شِبْهُ الْخَلُوقِ، فَنَزَلَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُحِيطِ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ أَخْرَجَ شَخْصَيْنِ مِنَ الضَّرِيحِ، فَخَلَّقَهُمَا بِذَلِكَ الْخَلُوقِ فِي عَوَارِضِهِمَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الضَّرِيحِ، وَعَادَ مُرْتَفِعاً. فَسَأَلْتُ مَنْ حَوْلِي مَنْ هَذَا الطَّائِرُ؟. وَمَا هَذَا الْخَلُوقُ؟. فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ يَجِيءُ فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ يُخَلِّقُهُمَا، فَأَزْعَجَنِي مَا رَأَيْتُ، فَأَصْبَحْتُ لاَ تَطِيبُ نَفْسِي بِلَعْنِهِمَا، فَدَخَلْتُ عَلَى الصَّادِقِ (عليه السلام)، فَلَمَّا رَآنِي ضَحِكَ وَقَالَ: «رَأَيْتَ الطَّائِرَ؟». فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا سَيِّدِي. فَقَالَ: «اقْرَأْ: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ»(1)، فَإِذَا رَأَيْتَ شَيْئاً تَكْرَهُ فَاقْرَأْهَا. وَاللهِ مَا هُوَ بِمَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِهِمَا لإِكْرَامِهِمَا، بَلْ هُو

ص: 361


1- سورة المجادلة: 10.

..............................

مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِمَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، إِذَا قُتِلَ قَتِيلٌ ظُلْماً أَخَذَ مِنْ دَمِهِ فَطَوَّقَهُمَا بِهِ فِي رِقَابِهِمَا؛ لأَنَّهُمَا سَبَبُ كُلِّ ظُلْمٍ مُذْ كَانَا»(1).

وعن الورد بن زيد، قال: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه

السلام): جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، قَدِمَالْكُمَيْتُ. فَقَالَ: «أَدْخِلْهُ». فَسَأَلَهُ الْكُمَيْتُ عَنِ الشَّيْخَيْنِ؟. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مَا أُهْرِيقَ دَمٌ، وَلاَ حُكِمَ بِحُكْمٍ غَيْرِ مُوَافِقٍ لِحُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) وَحُكْمِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، إِلاَّ وَهُوَ فِي أَعْنَاقِهِمَا». فَقَالَ الْكُمَيْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، حَسْبِي حَسْبِي(2).

وعن سُلَيْمٍ، قال: سَمِعْتُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يُؤْتَى بِإِبْلِيسَ مَزْمُوماً بِزِمَامٍ مِنْ نَارٍ، وَيُؤْتَى بِزُفَرَ مَزْمُوماً بِزِمَامَيْنِ مِنْ نَارٍ. فَيَنْطَلِقُ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ فَيَصْرَخُ وَيَقُولُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مَنْ أَنْتَ! أَنَا الَّذِي فَتَنْتُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَنَا مَزْمُومٌ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ، وَ أَنْتَ مَزْمُومٌ بِزِمَامَيْنِ؟!. فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتُ فَأُطِعْتُ، وَأَمَرَ اللَّهُ فَعُصِيَ(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِم عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَم أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا»(4) قَالَ: «يَقُولُ الأَوَّلُ لِلثَّانِي»(5).

ص: 362


1- بحار الأنوار: ج30 ص236 - 237، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح104.
2- بحار الأنوار: ج30 ص240، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح107.
3- بحار الأنوار: ج30 ص241، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح109.
4- سورة الفرقان: 27 - 28.
5- بحار الأنوار: ج30 ص245، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح112.

..............................

وعن الكميت بن زيد، قال: لَمَّا أَنْشَدْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) مَدَائِحَهُمْ، قَالَ لِي: «يَا كُمَيْتُ، طَلَبْتَ بِمَدْحِكَ إِيَّانَا لِثَوَابِ الدُّنْيَا أَوْ لِثَوَابِ آخِرَةٍ؟». قَالَ: قُلْتُ: لاَ وَاللهِ مَا طَلَبْتُ إِلاَّ ثَوَابَ الآخِرَةِ. فَقَالَ: أَمَا لَو قُلْتَ ثَوَابَ الدُّنْيَا، قَاسَمْتُكَ مَالِي حَتَّى النَّعْلَ وَالْبَغْلَ». قَالَ: قُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْهُمَا؟. قَالَ: «مَا أُهَرِيقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ ظُلْماً، وَلاَ رُفِعَ حَجَرٌ لِغَيْرِ حَقِّهِ، وَلاَ حُكم بَاطِلٌ إِلاَّ وَهُوَ فِي أَعْنَاقِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». قَالَ: قُلْتُ: أَبْعَدَهُمَا اللهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِي الشِّعْرِ فِيكُمْ؟. قَالَ: «لَكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: لَنْ يَزَالَ مَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ مَا دُمْتَ تَمْدَحُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).

وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره - فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(2) - قال: يَحْمِلُونَ آثَامَهُمْ - يَعْنِي الَّذِينَ غَصَبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه

السلام) وآثَامَ كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّادِقِ (عليه السلام): «وَاللهِ، مَا أُهْرِيقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَلاَ قُرِعَ عَصًا بِعَصًا، وَلاَ غُصِبَ فَرْجُ حَرَامٍ، وَلاَ أُخِذَ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، إِلاَّ وَوِزْرُ ذَلِكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ الْعَامِلِينَ بِشَيْءٍ»(3).

ص: 363


1- الأصول الستة عشر: ص304 - 305، المجموعة الثانية، كتاب عبد الملك بن حكيم، ح458/5.
2- سورة النحل: 25.
3- تفسير القمي: ج1 ص383، سورة النحل: الآيات 1 الى 36.

..............................

وعن حنان بن سدير، عن أبيه، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه

السلام) عَنْهُمَا. فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَا تَسْأَلُنِي عَنْهُمَا، فَوَ اللهِ مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، وَمَا مِنَّا الْيَوْمَ إِلا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، يُوصِي بِذَلِكَ الْكَبِيرُ مِنَّا الصَّغِيرَ. إِنَّهُمَا ظَلَمَانَا حَقَّنَا، وَمَنَعَانَا فَيْئَنَا، وَكَانَا أَوَّلَ مَنْ رَكِبَ أَعْنَاقَنَا، وَبَثَقَا عَلَيْنَا بَثْقاً فِي الإِسْلاَمِ، لاَ يُسْكَرُ أَبَداً حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا، أَوْ يَتَكَلَّمَ مُتَكَلِّمُنَا - ثُمَّ قَالَ - أَمَا وَاللهِ لَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا، أَوْ تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمُنَا لأَبْدَى مِنْ أُمُورِهِمَا مَا كَانَ يُكْتَمُ، وَلَكَتَمَ مِنْ أُمُورِهِمَا مَا كَانَ يُظْهَرُ. وَاللهِ مَا أُسِّسَتْ مِنْ بَلِيَّةٍ، وَلاَ قَضِيَّةٍ تَجْرِي عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إِلاَّ هُمَا أَسَّسَا أَوَّلَهَا، فَعَلَيْهِمَا لَعْنَةُ اللهِوَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(1).

تلويث البيئة

مسألة: تلويث المياه حرام في الجملة، وذلك فيما إذا عد فساداً في الأرض، أو إخلالاً باقتصاد البلاد، أو تضييعاً لحق الناس، أو ضرراً كبيراً على البشر، أو ما أشبه، قال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»(2).

وقد ذكرنا تفصيل ذلك في (فقه البيئة).

قال تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(3).

ص: 364


1- الكافي: ج8 ص245، كتاب الروضة، حديث القباب، ح340.
2- سورة البقرة: 205.
3- سورة الأنبياء: 30.

..............................

وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «الْمَاءُ سَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنهقال: «مَنْ تَلَذَّذَ بِالْمَاءِ فِي الدُّنْيَا، لَذَّذَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَشْرِبَةِ الْجَنَّةِ»(2).

وعن الحسين بن علوان، قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ طَعْمِ الْمَاءِ؟. فَقَالَ: «سَلْ تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، طَعْمُ الْمَاءِ طَعْمُ الْحَيَاةِ»(3).

وعن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا»(4)- قَالَ: «لَيْسَ مِنْ مَاءٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ وَقَدْ خَالَطَهُ مَاءُ السَّمَاءِ»(5).

وعن حكيم بن جبير، قال: سَمِعْتُ سَيِّدَنَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ مَلَكاً يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، مَعَهُ ثَلاَثَةُ مَثَاقِيلَ مِسْكاً مِنْ مِسْكِ الْجَنَّةِ، فَيَطْرَحُهَا فِي الْفُرَاتِ، وَمَا مِنْ نَهَرٍ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَلاَ غَرْبِهَا أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ»(6).

ويُرْوَى أنه (صلى الله عليه وآله) قاليوماً لأصحابه: «كَيفَ تَقُولَوَ لَيْس

ص: 365


1- الكافي: ج6 ص380، كتاب الأشربة، باب فضل الماء، ح1.
2- الكافي: ج6 ص381، كتاب الأشربة، باب فضل الماء، ح6.
3- الكافي: ج6 ص381، كتاب الأشربة، باب فضل الماء، ح7.
4- سورة ق: 9.
5- الكافي: ج6 ص387، كتاب الأشربة، باب ماء السماء، ح1.
6- الكافي: ج6 ص389، كتاب الأشربة، باب ماء السماء، ح6.

..............................

الطِّيبُ إِلاَّ الْمشْكَ! لَيْسَ الطِّيبُ إِلاَّ الْماءَ»(1).

الأمن المائي

مسألة: توفير الأمن المائي واجب في الجملة، ويظهر ذلك أكثر - من باب المقدمة - لو علمنا أن العلماء يتوقعون أن حروب المستقبل سيكون قسم كبير منها على المياه، وأن الاستعمار قد يستغل ذلك لايقاع الفتنة بين المسلمين، كما نرى النزاع الدائم بين العراق وسوريا وتركيا على مياه الفرات.

وحسب تصريح الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لو أن أولئك الصحابة المنقلبين على الأعقاب لم يغصبوا الخلافة، لكان الناس يردون - وعلى مر الأزمان كما سبق - المناهل الصافية الروية، ولتوفر (الأمن المائي) على مر التاريخ.عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالْكَلإِ وَالنَّارِ(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المسلمون شركاء في ثلاث، في: الكلأ، والماء، والنار». وقال: «ثلاث لا يمنعن: الماء، والكلأ، والنار». وقال: «لا حمى إلا لله ولرسوله»(3).

ص: 366


1- كتاب الماء: ج1 ص31 - 32، الماء.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص20، كتاب البيوع والأحكام فيها، فصل2 ذكر ما نهي عن بيعه، ح33.
3- راجع: صحيح البخاري: ج3 ص141، سنن أبي داود: ج2 ص101، ابن ماجة: ج2 ص94، كتاب الأم للشافعي: ج3 ص207، التاج الجامع للأصول: ج2 ص237.

..............................

وسُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ مَاءِ الْوَادِي؟. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ شُرَكَاءُ فِي: الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلاَءِ»(1).

وروي: «مَنِ اسْتَخْرَجَ مَاءً فَهُوَ لَهُ»(2).

وروي: «أَنَّ مَانِعَ الْمَاءِ الْمُنْتَابِمَلْعُونٌ»(3)، والمنتاب أي بالنوبة.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قَاتَلْتُ النَّاكِثِينَ، وَهَؤُلاَءِ الْقَاسِطِينَ، وَسَأُقَاتِلُ الْمَارِقِينَ». ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَقَصَدَهُ فِي تِسْعِينَ أَلْفاً. وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفاً يَتَقَدَّمُهُمْ مَرْوَانُ، وَقَدْ تَقَلَّدَ بِسَيْفِ عُثْمَانَ، فَنَزَلَ صِفِّينَ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى شَرِيعَةِ الْفُرَاتِ. وَمَنَعُوا عَلِيّاً وَأَصْحَابَهُ الْمَاءَ، فَأَنْفَذَ عَلِيٌّ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الرِّيَاحِيَّ وَصَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ، فَقَالاَ فِي ذَلِكَ لُطْفاً وَعُنْفاً. فَقَالُوا: أَنْتُمْ قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ عَطَشاً. فَقَالَ (عليه السلام): «أَرْوُوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تُرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ خَيْرٌ مِنْ الْحَيَاةِ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ». وَحَمَلاَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ، حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَفَرَّقَ بَعْضَهُمْ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ (عليه السلام) أَنْ لاَ يَمْنَعُوهُمُ الْمَاءَ»(4).

ص: 367


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج8 ص261، الكتاب الخامس، 5-المسلمون شركاء في الماء والكلاء والنار، ح10.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج8 ص261، الكتاب الخامس ح11.
3- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج8 ص261، الكتاب الخامس، 5-المسلمون شركاء في الماء والكلاء والنار، ح12.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج3 ص167 - 168، باب مختصر من مغازيه (صلوات الله عليه)، فصل في حرب صفين.

..............................

وعن أبي جعفر وزيد بن الحسن، قَالاَ: فَنَادَى الأَشْعَثُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ، خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَوَ اللهِ لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَتَأْخُذُنَا وَإِيَّاكُمُ السُّيُوفُ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللهِ، لاَ نُخَلِّي عَنْهُ حَتَّى تَأْخُذَنَا السُّيُوفُ وَإِيَّاكُمْ، فَيَعْلَمَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ أَيُّنَا أَصْبَرُ الْيَوْمَ. فَتَرَجَّلَ الأَشْعَثُ وَالأَشْتَرُ وَذَوُو الْبَصَائِرِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَتَرَجَّلَ مَعَهُمَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً، فَحَمَلُوا عَلَى عَمْرٍو وَأَبِي الأَعْوَرِ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَزَالُوهُمْ عَنِ الْمَاءِ حَتَّى غُمِسَتْ خَيْلُ عَلِيٍّ (عليه السلام) سَنَابِكُهَا فِي الْمَاءِ. قَالَ نَصْرٌ: فَرَوَى لَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ ذَاكَ الْيَوْمَ: «هَذَا يَوْمٌ نُصِرْتُمْ فِيهِ بِالْحَمِيَّةِ». قَالَ نَصْرٌ: فَحَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَوْمَ الْمَاءِ. فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ بَدَءُوكُمْ بِالظُّلْمِ، وَفَاتَحُوكُمْ بِالْبَغْيِ، وَاسْتَقْبَلُوكُمْ بِالْعُدْوَانِ، وَقَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ حَيْثُ مَنَعُوكُمُ الْمَاءَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةِ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ، وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلَ نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَالْمَنِيَّةِ»(1).

ص: 368


1- بحار الأنوار: ج32 ص442، تتمة كتاب الفتن والمحن، الباب11 من أبواب ما جرى بعد قتل عثمان من الفتن والوقائع والحروب وغيرها، ح393.

..............................

جانب الدين والدنيا

مسألة: يلزم أن يراعي الإنسان جانبي الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(1)، وكما يستظهر من قولها (عليها السلام): «وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً»، حيث إن فيه إشارة إلى أن كل ذلك النعيم والهناء والتقدم، إنما هو طريق للآخرة، فالدنيا وكل ما يوفر فيها لصالح البشرية يلاحظ فيه جانب الطريقية للآخرة.

وذلك ما يستظهر من استخدامها (صلوات الله عليها) كلمة (منهل)، إذ المنهل المورد الذي على الطريق،

ولو قلدوا الموصى إليه زمامها *** لزمت بمأمون عن الخطرات(2)

و(الخطرات) تشمل الدنيوية والأخروية.

فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان سيوردهم «منهلاً نميراً» قد لوحظ فيهجانب الدنيا والآخرة معاً، فهو هنيء مريء دنياً وأخرى، أي يعطي الرضا للناس والنعيم الدنيوي، وهو يعد في طريق الآخرة لأنه من حله وفي محله فيتخذ سُلماً لنعيم الآخرة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْن

ص: 369


1- سورة البقرة: 201.
2- قائل البيت هو: دعبل بن علي الخزاعي، والبيت من فصيدته التائية المعروفة التي قالها في حضرة الإمام الرضا (عليه السلام) بخراسان.

..............................

مِنْ هَاشِمٍ، لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ»(1).

وعن أبي ذر، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لاَ تُضَادُّوا عَلِيّاً (عليه اسلام) فَتَكْفُرُوا، وَلاَ تُفَضِّلُوا عَلَيْهِ فَتَرْتَدُّوا»(2).

وعن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن جده عمار، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أُوصِي مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي بِوَلاَيَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. مَنْ تَوَلاَّهُ فَقَدْ تَوَلاَّنِي، وَمَنْ تَوَلاَّنِيفَقَدْ تَوَلَّى اللهَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ، وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(3).

من ميزات المنهج الإسلامي

مسألة: الأوصاف المذكورة في كلامها (سلام الله عليها): «مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلاَ يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ»، إشارة مجازية دقيقة وعميقة وشاملة للمنهج والطريقة والأسلوب والوسيلة في الحكومة التي كان الإمام علي (عليه السلام) سيسير بها وسيتعامل بها مع الناس في شتى المناحي السياسية والاقتصادية

ص: 370


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم144 ومن خطبة له (عليه السلام).
2- بحار الأنوار: ج38 ص29، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب57 من تتمة أبواب النصوص الدالة على الخصوص على إمامة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) من طرق الخاصة والعامة، ضمن ح2.
3- بحار الأنوار: ج38 ص31، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب57 من تتمة أبواب النصوص الدالة على الخصوص على إمامة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) من طرق الخاصة والعامة، ضمن ح8.

..............................

والاجتماعية والثقافية والعبادية وغيرها.

فإن منهجه (عليه السلام) هو منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو الإسلام الحقيقي الشمولي المتكامل، فإن المنهج الإسلامي يتميز بالمواصفات التالية:فهو (منهل) ومورد يرده الظمآن، وليس سراباً، وليست نتائجه على عكس المدعى، فالاقتصاد الإسلامي مثلاً هو المنهل وليس الاقتصاد الشيوعي أو الرأسمالي أو التوزيعي أو غيره، مما ذكرنا تفصيلها في (الفقه: الاقتصاد) مما يزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنى.

وكذلك حال السياسة والحقوق وغيرها.

وهو (نمير) يوفر السعادة للإنسان دنيا وآخرة، إذ هو ناجع نافع هنيء مري. وهو (صاف) لا تشوبه المكدرات والمنغصات، أي ظاهره ومنظره رائق صاف زاه وباطنه طاهر طيب.

وهو (روي) يشبع كل حاجات الإنسان الجسمية والروحية والفكرية وغيرها، لا كالغرب المادي الذي يهمل حاجات الروح ويلبي بعض حاجات الجسد وبطريقة فاسدة ومفسدة أيضاً.

وهو (فضفاض) (1) فيه سعة دون ضيق، ووفرة وكثرة في الأرزاق والمعيشة والعلاقات وحرية السفر والحضر والإقامة والتجارة والإعلام وغير ذلك.

وهو (تطفح ضفتاه) إذ قد بلغ من النعيم غايته، ومن الآمال قمتها، ومن الأحلام أجملها وأكملها وأجلاها.

ص: 371


1- في بعض النسخ: (منهلاً نميراً فضفاضاً).

..............................

فهناك وفرة في الأجهزة والصناعة، ووفرة في الأرزاق، ووفرة في سبل التعليم والتعلم، ووفرة في كل شيء.

(ولا يترنق جانباه) فهو الجنة على الأرض دون شك.

هكذا كانت وستكون حكومة الإمام (عليه السلام) لو أفسحوا له المجال ولم يغصبوا الخلافة منه، ثم لم يشاكسوا ولم يخربوا ضده فترة حكومته الظاهرية، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

والحديث التفصيلي عن هذه الصفات التي ذكرتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) يحتاج إلى مجلد ضخم وربما مجلدات.

من واجبات القائد

مسألة: يجب على القائد أن يورد الرعية والناس منهلاً نميراً صافياً روياً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه، وذلك لا يمكن إلا بمعرفة الحاكم التفصيلية بقوانين الإسلام في السياسةوالاقتصاد والحقوق والاجتماع وما أشبه، وإلا بالعمل بالمنهج الإسلامي من شورى وحرية وتعددية وغير ذلك، وإلاّ بالامتثال للقادة المعصومين (عليهم السلام)، وفي غير المعصوم بانتخاب القادة الأكفاء الذين جمعوا التقوى وسعة الصدر والحكمة والحزم من جهة، والخبرة

ص: 372


1- سورة الأعراف: 96.

..............................

والتخصص من جهة أخرى، والمعرفة بروايات أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم من جهة ثالثة، قال تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأمِينُ»(1).

وقد أشرنا إلى تفاصيل هذا البحث في بعض كتبنا(2).

التخلص من مآسي العالم

مسألة: يستحب وقد يجب، بيان أن الإمام علياً (عليه السلام) لو أخذ بزمام الأمور لأوردهم منهلاً نميراً صافياً روياًفضفاضاً... وهذا عام لجميع البشر، شيعة وسنة، مسلمين وكفاراً، فإن الكل كان يتنعم بعدله وإحسانه، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(3).

كما يستحب - وقد يجب - بيان أن ما عاناه البشر منذ غصب الخلافة، ويعانيه إلى يوم ظهور قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من خيرة أنصاره وأشياعه والذابين عنه والمستشهدين بين يديه) من المشاكل والمآسي والفقر والحرمان والظلم والاستبداد فهو من جراء ما فعله القوم وظلمهم الإمام علياً وفاطمة الزهراء وسائر أهل البيت (عليهم السلام) وتنحيتهم عن مسند الخلافة الظاهرية.

ص: 373


1- سورة القصص: 26.
2- راجع من موسوعة الفقه: (الإدارة) و(الحقوق) و(القانون) و(السياسة) و(الاقتصاد) وغيرها.
3- سورة النحل: 90.

..............................

وكان الغاصبون للخلافة يفقدون مقومات الإمامة من النص والعصمة وسائر صفات الإمام المذكور في الروايات.

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ صِفَاتِ الإِمَامِ: الْعِصْمَةُ، وَالنُّصُوصُ، وَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَتْقَاهُمْ للهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْوَصِيَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكُونَ لَهُ الْمُعْجِزُ وَالدَّلِيلُ، وَتَنَامَ عَيْنُهُ وَلاَيَنَامَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَكُونَ لَهُ فَيْءٌ، وَيَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»(1).

وعن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: «لِلإِمَامِ عَلاَمَاتٌ: يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْكَمَ النَّاسِ، وَأَتْقَى النَّاسِ، وَأَحْلَمَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَسْخَى النَّاسِ، وَأَعْبَدَ النَّاسِ، وَيُولَدُ مَخْتُوناً، وَيَكُونُ مُطَهَّراً، وَيَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، وَإِذَا وَقَعَ إِلَى الأَرْضِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَقَعَ عَلَى رَاحَتَيْهِ، رَافِعاً صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلاَ يَحْتَلِمُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَيَكُونُ مُحَدَّثاً، وَيَسْتَوِي عَلَيْهِ دِرْعُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلاَ يُرَى لَهُ بَوْلٌ، وَلاَ غَائِطٌ؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَكَّلَ الأَرْضَ بِابْتِلاَعِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَتَكُونُ رَائِحَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، وَيَكُونُ أَوْلَى بِالنَّاسِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَيَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ آخَذَ النَّاسِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَأَكَفَّ النَّاسِ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ، وَيَكُونُ

ص: 374


1- الخصال: ج2 ص428، باب العشرة، عشر خصال من صفات الإمام (عليه السلام)، ح5.

دُعَاؤُهُ مُسْتَجَاباً، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ دَعَا عَلَى صَخْرَةٍ لاَنْشَقَّتْ بِنِصْفَيْنِ، وَيَكُونُعِنْدَهُ سِلاَحُ رَسُوِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَسَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ، وَتَكُونُ عِنْدَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا

..............................

أَسْمَاءُ شِيعَتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَحِيفَةٌ فِيهَا أَسْمَاءُ أَعْدَائِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ عِنْدَهُ الْجَامِعَةُ - وَهِيَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً - فِيهَا جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وُلْدُ آدَمَ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ الْجَفْرُ الأَكْبَرُ وَالأَصْفَرُ، إِهَابُ مَاعِزٍ، وَإِهَابُ كَبْشٍ، فِيهِمَا جَمِيعُ الْعُلُومِ حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ، وَحَتَّى الْجَلْدَةُ، وَنِصْفُ الْجَلْدَةِ، وَثُلُثُ الْجَلْدَةِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)»(1).

ص: 375


1- بحار الأنوار: ج25ص116 - 117، تتمة كتاب الإمامة، الباب4 من أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه وما ينبغي أن ينسب إليه وما لا ينبغي، ح1.

تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلَا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ

اشارة

-------------------------------------------

ميزات أخرى للحكومة الإسلامية

مسألة: هناك ميزات للحكومة الإسلامية، وربما تشير الصفات السابقة: «نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً فضفاضاً»، إلى صفات الذات وإلى الجوهر في الحكومة الإسلامية، وتشير هاتان الصفاتان الأخيرتان إلى الأعراض، وبعبارة أخرى: الحواشي والأطراف.

فإن الدار مثلاً قد تكون كاملة البناء جيدة التصميم، إلا أن أطرافها كالساحة المحيطة بها أو الحديقة تكون ناقصة مشوهة، وكذلك الحكومة والإدارة، إذ قد توفر الحاجات الأساسية للناس لكنها تفشل في الكماليات والثانويات، فلا رفاهية ولا دعة ولا سعة في العيش.

أما الحكومة الإسلامية فإنها لو كانت سلمت لوصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقاً، لكان الجوهر والمظهر، والصميم والحواشي، والأساسيات والكماليات، كلها قمة في الكمال والجمال وتلبية الحاجات.

ومن الأساسيات: الأمن، والطعام، والصحة، والسكن، وغيرها من الحاجات الضرورية.

ومن الكماليات: كل وسائل الراحةوالرفاهية من الدار الواسعة والقدرة على السفر للنزهة والزيارة وما أشبه.

ومنها حكومة فضائل الأخلاق المستحبة كالإحسان، فضلاً عن الواجبة كالعدل.

ص: 376

..............................

عن محمد بن أبي حمزة، عن رجل بلغ به أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: مَرَّ شَيْخٌ مَكْفُوفٌ كَبِيرٌ يَسْأَلُ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَا هَذَا؟!». فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَصْرَانِيٌّ. قَالَ: فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اسْتَعْمَلْتُمُوهُ، حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَعَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ. أَنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ»(1).

وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَفْضَلُ حَالٍ أُعْطِيَ لِلرَّجُلِ؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): الْخُلُقُ الْحَسَنُ. إِنَّ أَدْنَاكُمْ مِنِّي وَأَوْجَبَكُمْ عَلَيَّ شَفَاعَةً، أَصْدَقُكُمْ حَدِيثاً، وَأَعْظَمُكُمْ أَمَانَةً، وَأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً»(2).

وروى البلاذري نقلاً عن المدائني،قال: كَانَتْ غُلَّةُ عَلَيٍّ (عليه السلام) أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا صَدَقَةً. وَبَاعَ (عليه السلام) سَيْفَهُ وَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي عِشَاءً مَا بِعْتَهُ . وَأَعْطَتْهُ الْخَادِمُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي قَطِيفَةً، فَأَنْكَرَ دِفَأَهَا. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا هَذِهِ؟!». قَالَتِ الْخَادِمُ: هَذِهِ مِنْ فَضْلِ الصَّدَقَةِ. فَأَلْقَاهَا وَقَالَ (عليه السلام): «أَصْرَدْتُمُونَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا»(3).

وقال العلامة ابن شهر آشوب: وَقَدِمَ عَلَيْهِ عَقِيلٌ. فَقَالَ (عليه السلام) لِلْحَسَنِ: «اكْسُ عَمَّكَ». فَكَسَاهُ قَمِيصاً مِنْ قَمِيصِهِ، وَرِدَاءً مِنْ أَرْدِيَتِهِ, فَلَمَّا حَضَرَ الْعَشَاءُ، فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ وَمِلْحٌ. فَقَالَ عَقِيلٌ: لَيْسَ مَا أَرَى!. فَقَالَ (عليه السلام):

ص: 377


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص293، كتاب القضايا والأحكام، الباب92 من الزيادات في القضايا والأحكام، ح18.
2- الجعفريات: ص150، كتاب السير والآداب، باب التقوى وحسن الخلق.
3- أنساب الأشراف: ج2 ص117، نبذة من أقوال علي بن أبي طالب وسيرته، ح68.

..............................

«أَوَ لَيْسَ هَذَا مِنْ نِعْمَةِ اللهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَثِيراً». فَقَالَ: أَعْطِنِي مَا أَقْضِي بِهِ دَيْنِي، وَعَجِّلْ سَرَاحِي حَتَّى أَرْحَلَ عَنْكَ. قَالَ (عليه

السلام): «فَكَمْ دَيْنُكَ يَا أَبَا يَزِيدَ؟». قَالَ: مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ (عليه السلام): «وَاللهِ، مَا هِيَ عِنْدِي وَلاَ أَمْلِكُهَا، وَلَكِنْ اصْبِرْ حَتَّى يَخْرُجَ عَطَايَ فَأُوَاسِيَكَهُ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ لاَبُدَّ لِلْعِيَالِ مِنْ شَيْءٍ لأَعْطَيْتُكَ كُلَّهُ». فَقَالَ عَقِيلٌ: بَيْتُ الْمَالِ فِي يَدِكَ، وَأَنْتَتُسَوِّفُنِي إِلَى عَطَائِكَ، وَكَمْ عَطَاؤُكَ، وَمَا عَسَى يَكُونُ، وَلَوْ أَعْطَيْتَنِيهِ كُلَّهُ. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا أَنَا وَأَنْتَ فِيهِ إِلاَّ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ فَوْقَ قَصْرِ الإِمَارَةِ، مُشْرِفِينَ عَلَى صَنَادِيقِ أَهْلِ السُّوقِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): «إِنْ أَبَيْتَ يَا أَبَا يَزِيدَ مَا أَقُولُ، فَانْزِلْ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّنَادِيقِ، فَاكْسِرْ أَقْفَالَهُ وَخُذْ مَا فِيهِ». فَقَالَ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّنَادِيقِ؟. قَالَ (عليه السلام): «فِيهَا أَمْوَالُ التُّجَّارِ». قَالَ: أَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَكْسِرَ صَنَادِيقَ قَوْمٍ قَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ، وَجَعَلُوا فِيهَا أَمْوَالَهُمْ!. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْتَحَ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأُعْطِيَكَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَأَقْفَلُوا عَلَيْهَا. وَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتَ سَيْفَكَ وَأَخَذْتُ سَيْفِي، وَخَرَجْنَا جَمِيعاً إِلَى الْحِيرَةِ، فَإِنَّ بِهَا تُجَّاراً مَيَاسِيرَ، فَدَخَلْنَا عَلَى بَعْضِهِمْ فَأَخَذْنَا مَالَهُ». فَقَالَ: أَوَ سَارِقٌ جِئْتُ!. قَالَ (عليه السلام): «تَسْرِقُ مِنْ وَاحِدٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَسْرِقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعاً». قَالَ لَهُ: أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ». قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى سَفَرِي هَذَا. قَالَ (عليه السلام): «يَا حَسَنُ، أَعْطِ عَمَّكَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ».فَخَرَجَ عَقِيلٌ وَهُوَ يَقُولُ:

ص: 378

..............................

سَيُغْنِينِي الَّذِي أَغْنَاكَ عَنِّي *** وَيَقْضِي دَيْنَنَا رَبٌّ قَرِيبٌ (1)

وَذَكَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، أَنَّ عَقِيلاً لَمَّا سَأَلَ عَطَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «تُقِيمُ إِلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ». فَأَقَامَ فَلَمَّا صَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْجُمُعَةَ، قَالَ لِعَقِيلٍ: «مَا تَقُولُ فِيمَنْ خَانَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعِينَ؟». قَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ ذَاكَ. قَالَ (عليه السلام): «فَأَنْتَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَخُونَ هَؤُلاَءِ وَأُعْطِيَكَ (2).

ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وَاللهِ، لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً، لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا.

وَاللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ، حَتَّىاسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي.

فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا. فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ، أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا

ص: 379


1- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص108 - 109، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.
2- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص109، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام) ...

..............................

لِغَضَبِهِ! أَ تَئِنُّ مِنَ الأَذَى، وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى»(1).

وروى الحاكم النيسابوري في "المستدرك" بسنده، عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، قال: قَالَ نَبِيُّ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَنْزِلُ بِأُمتَِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَلاَءٌ شَدِيدٌ مِنْ سُلْطَانِهِم، لَمْ يُسْمَعُ بَلاَءٌ أَشَدَّ مِنْهُ حَتَّى تَضِيقُ عَنْهُمُ الأَرْضَ الرَّحْبَةَ، وَحَتَّى يَمْلأُ الأَرْضَ جَوْراً وَظُلْماً، لاَ يَجِدُ الْمؤْمِنُ مَلْجَأً يَلْتَجِئُ إِلَيهِ مِنَالظُّلْمِ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلاً مِنْ عِتْرَتِي، فَيَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الأَرْضِ، لاَ تَدَّخِرُ الأَرْضُ مِنْ بَذْرِهَا شَيْئاً إِلاَّ أَخْرَجَتْهُ، وَلاَ السَّمَاءُ مِنْ قَطْرِهَا شَيْئاً إِلاَّ صَبَّهُ اللهُ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً، يَعِيشُ فِيهُمُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ، تَتَمَنَى الأَحْيَاءُ الأَمْوَاتَ مِمَّا صَنَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ الأَرْضِ مِنُ خَيْرِهِ»(2).

وعن أبي سعيد، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَبْشِرُوا بِالْمَهْدِيِّ - قَالَ ثَلاَثاً - يَخْرُجُ عَلَى حِينِ اخْتِلاَفٍ مِنَ النَّاسِ، وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، يَمْلأُ قُلُوبَ عِبَادِهِ عِبَادَةً، وَيَسَعُهُمْ عَدْلُهُ»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - في حديث الأربعمائة : «لَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا لأَنْزَلَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا، وَلأَخْرَجَتِ الأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَلَذَهَبَتِ الشَّحْنَاءُ مِنْ قُلُوبِ

ص: 380


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم224 ومن كلام له (عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
2- المستدرك على الصحيحين: ج4 ص465، ذكر خروج المهدي (عليه السلام).
3- الغيبة للشيخ الطوسي: ص179، فصل1 في الكلام في الغيبة، الكلام على الواقفة.

..............................

الْعِبَادِ، وَاصْطَلَحَتِ السِّبَاعُ وَالْبَهَائِمُ،حَتَّى تَمْشِيَ الْمَرْأَةُ بَيْنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ لاَ تَضَعُ قَدَمَيْهَا إِلاَّ عَلَى النَّبَاتِ، وَعَلَى رَأْسِهَا زِينَتُهَا، لاَ يُهَيِّجُهَا سَبُعٌ وَلاَ تَخَافُهُ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - في خطبة البيان -: «وَبَعْدَ ذَلِكَ يَمْلُكُ الْمهْدِيُ مَشَارِقَ الأَرْضِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ وَمَغَارِبِهَا، وَيَفْتَحُهَا مِنْ جَابَرْقَا إِلَى جَابَرْصَا، وَيَسْتَتِمُ أَمْرَهُ، وَيَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى تَرْعَى الشَّاةُ مَعَ الذِّئْبَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَتَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْحيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَلاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَذْهَبُ الشَّرُ وَيَبْقَى الْخيْرُ. وَيَزْرَعُ الرَّجُلُ الشَّعِيرَ وَالْحنْطَةَ، فَيخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَنٍّ مِائَةُ مَنٍّ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: «فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمنْ يَشَاءُ»(2). وَيَرْتَفِعُ الزِّنَا، وَالرِّبَا، وَشِرْبُ الْخمْرِ، وَالْغِنَاءُ، وَلاَ يَعْمَلَهُ أَحَدٌ إِلاَّ وَقَتَلَهُ الْمهْدِيُ، وَكَذَا تَارِكُ الصَّلاَةِ. وَيَعْتَكِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِفونَ النَّاسُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْخشُوعِ، وَالدِّيَانَةِ. وَكَذَا تَطُولُ الأَعْمَارُ، وَتَحْمِلُ الأَشْجَارُ الأَثْمَارَ فِي كُلِّسَنَةٍ مَرَّتَينِ»(3).

ص: 381


1- الخصال: ج2 ص626، علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، ح10.
2- سورة البقرة: 261.
3- إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب: ج2 ص172، الغصن الثامن، الفرع الرابع، الريحان الأول: في الخطبة التي خطبها في البصرة المعروفة بخطبة البيان.

..............................

أقسام التكدر

مسألة: التكدر على قسمين:

التكدر الديني، كالارتطام بالربا وبيع الكالي بالكالي، وارتكاب المحرمات في المعاملات وغيرها.

والتكدر الدنيوي، كأمراض البيئة.

ولو سلّموا الموصى إليه زمامها، لأنقذ الناس من كلا النوعين رفعاً لما هو موجود، ودفعاً لما يوجد فيما بعد(1).

وقولها (عليها السلام): « وَلا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ» أعم من كلا النوعين من التكدر.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّبَا رِبَاءَانِ: رِبًا يُؤْكَلُ، وَرِبًا لاَ يُؤْكَلُ. وَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي يُؤْكَلُ: فَهُوَ هَدِيَّتُكَ إِلَى رَجُلٍ يُطْلَبُ الثَّوَابُ أَفْضَلُمِنْهُ. فَأَمَّا الَّذِي لا يُؤْكَلُ: فَهُوَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ. فَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إِلَى رَجُلٍ عَشَرَ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَهُوَ الرِّبَا الَّذِي نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا»(2) الآيَةَ، عَنَى بِذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ الْفَضْلَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ»(3).

ص: 382


1- أي بعد غصب الخلافة.
2- سورة البقرة: 278.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص258، الباب38 الربا والسلم والدين والعينة.

..............................

وعن عبد الله بن الفضيل، عن أبيه، قال: سَمِعْتُ أَبَا خَالِدٍ الْكَابُلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ: الْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ، وَالزَّوَالُ عَنِ الْعَادَةِ فِي الْخَيْرِ وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَكُفْرَانُ النِّعَمِ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(1).

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُورِثُ النَّدَمَ: قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ»(2)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيقِصَّةِ قَابِيلَ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ فَعَجَزَ عَنْ دَفْنِهِ: فَسَوَّلَتْ «لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ»(3) فَقَتَلَهُ «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ»(4)، وَتَرْكُ صِلَةِ الْقَرَابَةِ حَتَّى يَسْتَغْنُوا، وَتَرْكُ الصَّلاَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْتُ وَيَنْغَلِقَ اللِّسَانُ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ: عِصْيَانُ الْعَارِفِ بِالْبَغْيِ، وَالتَّطَاوُلُ عَلَى النَّاسِ، وَالاِسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَالسُّخْرِيَّةُ مِنْهُمْ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَدْفَعُ الْقِسَمَ: إِظْهَارُ الاِفْتِقَارِ، وَالنَّوْمُ عَنِ الْعَتَمَةِ وَعَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، وَاسْتِحْقَارُ النِّعَمِ، وَشَكْوَى الْمَعْبُودِ عَزَّ وَجَلَّ.

ص: 383


1- سورة الرعد: 11.
2- سورة الإنعام: 151.
3- سورة المائدة: 30.
4- سورة المائدة: 31.

..............................

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَمَ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَاللَّعِبُ بِالْقِمَارِ، وَتَعَاطِي مَا يُضْحِكُ النَّاسَ مِنَ اللَّغْوِ وَالْمِزَاحِ، وَذِكْرُ عُيُوبِ النَّاسِ، وَمُجَالَسَةُ أَهْلِ الرَّيْبِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاَءَ: تَرْكُ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَتَرْكُ مُعَاوَنَةِ الْمَظْلُومِ، وَتَضْيِيعُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُدِيلُ الأَعْدَاءَ:الْمُجَاهَرَةُ بِالظُّلْمِ، وَإِعْلاَنُ الْفُجُورِ، وَإِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ، وَعِصْيَانُ الأَخْيَارِ، وَالاِنْطِبَاعُ لِلأَشْرَارِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ، وَالأَقْوَالُ الْكَاذِبَةُ، وَالزِّنَاءُ، وَسَدُّ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَادِّعَاءُ الإِمَامَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَقْطَعُ الرَّجَاءَ: الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالثِّقَةُ بِغَيْرِ اللهِ، وَالتَّكْذِيبُ بِوَعْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُظْلِمُ الْهَوَاءَ: السِّحْرُ وَالْكِهَانَةُ، وَالإِيمَانُ بِالنُّجُومِ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَكْشِفُ الْغِطَاءَ: الاِسْتِدَانَةُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الأَدَاءِ، وَالإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْبُخْلُ عَلَى الأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذَوِي الأَرْحَامِ، وَسُوءُ الْخُلُقِ، وَقِلَّةُ الصَّبْرِ، وَاسْتِعْمَالُ الضَّجَرِ وَالْكَسَلِ، وَالاِسْتِهَانَةُ بِأَهْلِ الدِّينِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَرُدُّ الدُّعَاءَ: سُوءُ النِّيَّةِ وَخُبْثُ السَّرِيرَةِ، وَالنِّفَاقُ مَعَ الإِخْوَانِ، وَتَرْكُ التَّصْدِيقِ بِالإِجَابَةِ، وَتَأْخِيرُ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ حَتَّى تَذْهَبَ أَوْقَاتُهَا، وَتَرْكُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْبَذَاءِ وَالْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَحْبِس غَيْثَ السَّمَاءِ: جَوْرُ الْحُكَّامِ فِي الْقَضَاءِ، وَشَهَادَةُ

ص: 384

..............................

الزُّورِ، وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْمَاعُونِ، وَقَسَاوَةُ الْقُلُوبِ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَظُلْمُ الْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ، وَانْتِهَارُ السَّائِلِ وَرَدُّهُ بِاللَّيْلِ»(1).

وعن إسحاق بن عمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ، وَتُقَرِّبُ الآجَالَ، وَتُخْلِي الدِّيَارَ، وَهِيَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ، وَتَرْكُ الْبِرِّ»(2).

وقال أبو عبد اللهِ (عليه السلام): «إِذَا فَشَا أَرْبَعَةٌ ظَهَرَتْ أَرْبَعَةٌ: إِذَا فَشَا الزِّنَا ظَهَرَتِ الزَّلْزَلَةُ، وَإِذَا فَشَا الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ احْتَبَسَ الْقَطْرُ، وَإِذَا خُفِرَتِ الذِّمَّةُ أُدِيلَ لأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، وَإِذَا مُنِعَتِ الزَّكَاةُ ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ»(3).

وعن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كَانَ مِنْ دُعَائِهِ يَقُولُ:«يَا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يَا أَوَّلَ الأَوَّلِينَ، وَيَا آخِرَ الآخِرِينَ، يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ، اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُحِلُّ النِّقَمَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاَءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُدِيلُ الأَعْدَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَقْطَعُ الرَّجَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُظْلِمُ الْهَوَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَكْشِفُ الْغِطَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَرُدُّ الدُّعَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَرُدُّ غَيْثَ السَّمَاءِ»(4).

ص: 385


1- معاني الأخبار: ص270 - 271، باب معنى الذنوب، ح2.
2- الكافي: ج2 ص448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب، ح2.
3- الكافي: ج2 ص448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب، ح3.
4- الكافي: ج2 ص589 - 590، كتاب الدعاء، باب دعوات موجزات ... ح29.

وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً

اشارة

-------------------------------------------

الاهتمام بالاقتصاد

مسألة: يجب على الدولة الإسلامية والقائد الإسلامي الاهتمام البالغ الأكيد بالاقتصاد بشتى أبعاده، فإنه مسؤول عن دين الناس ودنياهم معاً.

قال تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(1).وقال سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْميزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(2).

و(البطان): أي ممتلئ البطن من الشبع، أي امتلاؤه طعاماً، ومثله (البطنة) وقد تمثل أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول الأعشى:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ (3)

ويقال: فلان عريض البطان، أي غني أو رخي البال.

ف «أَصْدَرَهُمْ بِطَاناً»، كناية عن توفر كافة حاجاتهم المادية.

ولا يمكن للقائد الإسلامي أن يحقق العدل الاقتصادي، وأن يصل إلى

ص: 386


1- سورة قريش: 3 - 4.
2- سورة الحديد: 25.
3- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.

..............................

«أَصْدَرَهُمْ بِطَاناً» كما وصفت الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، إلا بتطبيق قوانين الإسلام الاقتصادية في التجارة والزراعة، ومنها:«دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضِ»(1).

و: «الأَرْضَ للهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا»(2).

و: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ»(3).

فكل إنسان حر في أن يزرع ويبني ويرعى في أي مقدار شاء من الأراضي، بدون حاجة لإجازة من الدولة أو رخصة أو دفع رسوم أو ما أشبه من التعقيد الإداري، إذ «الأَرْضَ للهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا» وهذا من بديهيات أحكام الإسلام.

وكان من أسرار سقوط المسلمين الإعراض عن هذا القانون وغيره من القوانين الإسلامية، فصار الزمام بيد الغرب الذي أخذ هو بجانب من قوانين الإسلامية فتقدم نسبياً، فإن قوانينه الكابتة للحريات أقل من القوانين الموجودة اليوم في بلادنا، وبهذا المقدار تقدم علينا.

وقد حذر من ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث قال: « اللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِلاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ»(4)، مما ذكرنا تفصيله في: (فقه الاقتصاد)، و(فقه الحريات)، و (فقه الحقوق)، و (فقه القانون)، وكذلك في (الصياغة)،

ص: 387


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص396 - 397، المجلس الرابع عشر، ح879/27.
2- الكافي: ج5 ص279، كتاب المعيشة، باب في إحياء أرض الموات، ح2.
3- تذكرة الفقهاء: ج2 ص403، المقصد الحادي عشر في إحياء الموات، حكم المعادن.
4- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم47 ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام)، لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

..............................

و(السبيل)، و(الممارسة)، وغيرها.

حرمة إفقار الشعب

مسألة: يحرم كل ما يؤدي إلى أن يعيش الشعب حالة الفقر والجوع والحرمان، كسن القوانين الكابتة للحريات، ووضع الآصار والأغلال في أيدي الناس من الضرائب والمكوس وقوانين الجمارك، وتقييد حرية السفر والإقامة والحضر والبناء والتجارة وغيرها.

مقومات أخرى للقائد الإسلامي

مسألة: سبق أنه لا يمكن للقائد أن يحقق العدالة الاقتصادية ويطبق (إصدار الناس بطاناً) إلا بالعمل بقوانين الإسلام، وينبغي بالإضافة إلى ذلك لكييتحقق العدل الاقتصادي، أن يتخذ الحاكم بنفسه الزهد في حياته الشخصية، كما عليه من جانب آخر أن يستعين بالخبراء الزمنيين، وأن يشكل لجنة من الحوزة والجامعة مشتركة تضع السبل والآليات الكفيلة بتحقيق ذلك.

فإن زهد الحاكم، عامل محرك هائل يؤثر على المجتمع كله، ويحول بأثره الوضعي والنفسي والإعلامي وغيرها دون طغيان الولاة وكبار المسؤولين والموظفين وظلمهم، كما يؤثر على التجار فيجعلهم أقرب للعدل والإحسان وأبعد من الجشع، فإن «النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلَوكِهِمْ»(1).

ص: 388


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص21، ذكر الإمام الثالث أبي عبد الله الحسين الزكي (عليه السلام)، السادس في علمه وشجاعته وشرف نفسه.

..............................

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ»(1).

وقال (عليه السلام): «وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْهَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(2).

وأما الاستعانة بالخبراء الزمنيين وتكوين لجنة مشتركة من العلماء والخبراء، كخبراء الاقتصاد والزراعة والتجارة ومن أشبه، فلأن المفروض أن تتطابق الآليات والقوانين مع الشريعة، ولا يعرف ذلك إلا الفقهاء، وأن يستفاد من العلوم الحديثة والتطور العلمي ولا يعرف ذلك إلا الخبراء.

عن محمد بن سنان - رفعه - قال: قال عيسى ابن مريم (عليه السلام): «يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةٌ اقْضُوهَا لِي. قَالُوا: قُضِيَتْ حَاجَتُكَ يَا رُوحَ اللهِ. فَقَامَ فَغَسَلَ أَقْدَامَهُمْ. فَقَالُوا: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا يَا رُوحَ اللهِ. فَقَالَ: «إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِدْمَةِ الْعَالِمُ، إِنَّمَا تَوَاضَعْتُ هَكَذَا؛ لِكَيْمَا تَتَوَاضَعُوا بَعْدِي فِي النَّاسِ كَتَوَاضُعِي لَكُمْ - ثُمَّ قَالَ عِيسَى (عليه السلام) - بِالتَّوَاضُعِ تُعْمَرُ الْحِكْمَةُ لاَ بِالتَّكَبُّرِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعُ لاَ فِي الْجَبَلِ»(3).

وعن سُلَيْمِ بن قيس، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: قَالَ

ص: 389


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.
2- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم3 ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
3- الكافي: ج1 ص37، كتاب فضل العلم، باب صفة العلماء، ح6.

..............................

رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ دُنْيَا، وَطَالِبُ عِلْمٍ. فَمَنِ اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ سَلِمَ، وَمَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُرَاجِعَ. وَمَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ نَجَا، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَهِيَ حَظُّهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ لِمَنْفَعَةِ الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ. وَمَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرَ الآخِرَةِ، أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّاً لِدُنْيَاهُ، فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْ ءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ. وَقَالَ (صلوات

الله عليه): أَوْحَى اللهُ إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): لاَ تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا، فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ قُطَّاعُ طَرِيقِ عِبَادِيَ الْمُرِيدِينَ. إِنَّ أَدْنَى مَا أَنَا صَانِعٌبِهِمْ، أَنْ أَنْزِعَ حَلاَوَةَ مُنَاجَاتِي عَنْ قُلُوبِهِمْ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟!. قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ

ص: 390


1- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح1.
2- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح2.
3- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح4.
4- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح5.

..............................

يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. إِنَّ الرِّئَاسَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لأَهْلِهَا»(1).

كراهة الفقر أو حرمته

مسألة: يكره أن يعيش الإنسان حالة الفقر، ويستحب أن يسعى للغنى، فإنهنعم العون على الدين والتقوى(2).

أما إذا كان الفقر سبباً لتضييع الحقوق الواجبة - كنفقة واجبي النفقة - فإنه محرم.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) - فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(3) «- رِضْوَانُ اللهِ وَالْجَنَّةُ فِي الآخِرَةِ، وَالْمَعَاشُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ فِي الدُّنْيَا»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «سَلُوا اللهَ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا وَالْعَافِيَةَ، وَفِي الآخِرَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ»(5).

ص: 391


1- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح6.
2- إشارة إلى قوله (عليه السلام): «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللهِ الْغِنَى». الكافي: ج5 ص71، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح1.
3- سورة البقرة: 197.
4- الكافي: ج5 ص71، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح2.
5- الكافي: ج5 ص71، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح4.

..............................

وعن عمرو بن جُمَيْعٍ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «لاَ خَيْرَ فِي مَنْ لاَ يُحِبُّ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حَلاَلٍ: يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ، وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، وَيَصِلُ بِهِرَحِمَهُ»(1).

وعن القاسم بن الربيع في وصيته للمفضل بن عمر، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «اسْتَعِينُوا بِبَعْضِ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ، وَلاَ تَكُونُوا كُلُولاً عَلَى النَّاسِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَلْعُونٌ مَنْ أَلْقَى كَلَّهُ عَلَى النَّاسِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ: الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى الآخِرَةِ الدُّنْيَا»(5).

وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قَالَ رَجُلٌ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): وَاللهِ إِنَّا لَنَطْلُبُ الدُّنْيَا وَنُحِبُّ أَنْ نُؤْتَاهَا. فَقَالَ:«تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَ بِهَا مَا ذَا؟». قَالَ: أَعُودُ بِهَا عَلَى نَفْسِي وَعِيَالِي، وَأَصِلُ بِهَا، وَأَتَصَدَّقُ بِهَا، وَأَحُجُّ وَأَعْتَمِرُ. فَقَالَ (عليه السلام): «لَيْسَ هَذَا طَلَبَ الدُّنْيَا، هَذَا طَلَبُ الآخِرَةِ»(6).

ص: 392


1- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح5.
2- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح6.
3- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح7.
4- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح8.
5- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح9.
6- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح10.

..............................

وعن أحمد بن محمد بن خالد - رفعه - قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «غِنًى يَحْجُزُكَ عَنِ الظُّلْمِ، خَيْرٌ مِنْ فَقْرٍ يَحْمِلُكَ عَلَى الإِثْمِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُصْبِحُ الْمُؤْمِنُ أَوْ يُمْسِي عَلَى ثَكَلٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُصْبِحَ أَوْ يُمْسِيَ عَلَى حَرَبٍ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْحَرَبِ»(2).

وعن أبي البختري - رفعه - قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بَارِكْ لَنَا فِي الْخُبْزِ وَلاَ تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَلَوْلاَ الْخُبْزُ مَا صَلَّيْنَا، وَلاَ صُمْنَا، وَلاَ أَدَّيْنَافَرَائِضَ رَبِّنَا»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ: الدُّنْيَا عَلَى طَلَبِ الآخِرَةِ»(4).

الحكومات مسؤولة عن فقر الناس

مسألة: المسؤول عن فقر الناس وجوعهم بالدرجة الأولى هم الحكام، ثم سائر طبقات الناس والاستعمار، ولكل نصيبه من الإثم.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَادَ

ص: 393


1- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح11.
2- الكافي: ج5 ص72 - 73، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح12.
3- الكافي: ج5 ص73، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح13.
4- الكافي: ج5 ص73، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح14.

..............................

الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ،وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ؛ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى، وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ. فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إِنِّي رَجُلٌ مُنْقَطِعٌ إِلَيْكُمْ بِمَوَدَّتِي، وَقَدْ أَصَابَتْنِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّبْتُ بِذَلِكَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِي وَقَوْمِي، فَلَمْ يَزِدْنِي بِذَلِكَ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً. قَالَ: «فَمَا آتَاكَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا أَخَذَ مِنْكَ». قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، ادْعُ اللهَ أَنْيُغْنِيَنِي عَنْ خَلْقِهِ». قَالَ:

ص: 394


1- الكافي: ج2 ص307، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح4.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وكان عامله على البصرة - وقد بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.

..............................

«إِنَّ اللهَ قَسَمَ رِزْقَ مَنْ شَاءَ عَلَى يَدَيْ مَنْ شَاءَ، وَلَكِنِ اسْأَلِ اللهَ أَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَضْطَرُّكَ إِلَى لِئَامِ خَلْقِهِ»(1).

لا فقر في حكم المعصوم

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن علياً (عليه الصلاة والسلام) لو أخذ بزمام الأمور لم يبق فقير ولا جائع على وجه الأرض، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً».

وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ»(2)، رغم أنه لم يمض على حكمه (عليه السلام) إلا أقل من أربعة سنين،ورغم كل المشاكل والحروب التي أثاروها ضده خلال هذه الفترة الوجيزة.

غصب الخلافة سبب رئيس للفقر

مسألة: يلزم إعلام الناس بأن المسؤول الأول عن فقر الشعوب والأفراد وجوعهم إلى زمن الظهور، هم الذين غصبوا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 395


1- بحار الأنوار: ج69 ص4، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب94 تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح2.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وكان عامله على البصرة - وقد بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.

..............................

قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1).

ولولا غصب الثلاثة لما وجدت الحكومات الاستعمارية على مر التاريخ، ولما وجد حكام ظلمة أو جائرين، وتفصيل البحث في محله.

عن عمار بن مروان، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الْغُلُولِ؟. فَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ غُلَّ مِنَ الإِمَامِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ سُحْتٌ. وَالسُّحْتُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا أُصِيبَ مِنْ أَعْمَالِ الْوُلاَةِ الظَّلَمَةِ، وَمِنْهَا: أُجُورُ الْقُضَاةِ، وَأُجُورُ الْفَوَاجِرِ، وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ وَالْمُسْكِرِ، وَالرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ. فَأَمَّا الرِّشْوَةُ - يَا عَمَّارُ - فِي الأَحْكَامِ فَإِنَّذَلِكَ الْكُفْرُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَرَسُولِهِ»(2).

وعن يزيد بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنِ السُّحْتِ؟. فَقَالَ: «الرِّشَا فِي الْحُكْمِ»(3).

وعن الأصبغ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا وَالٍ احْتَجَبَ عَنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَنْ حَوَائِجِهِ، وَإِنْ أَخَذَ هَدِيَّةً كَانَ غُلُولاً، وَإِنْ أَخَذَ الرِّشْوَةَ فَهُوَ مُشْرِكٌ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِ

ص: 396


1- سورة الروم: 41.
2- معاني الأخبار: ص211، باب معنى الغلول والسحت، ح1.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص93، كتاب التجارة، الباب5 من أبواب ما يكتسب به، ح22060.
4- وسائل الشيعة: ج17 ص94، كتاب التجارة، الباب5 من أبواب ما يكتسب به، ح22066.

..............................

مَنْ يَظْلِمُهُ، فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ، وَلَمْ يَأْجُرْهُ اللهُ عَلَى ظُلاَمَتِهِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَا انْتَصَرَ اللهُ مِنْ ظَالِمٍ إِلاَّ بِظَالِمٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُعَزَّ وَجَلَّ: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضًا»(2)»(3).

وعن أبي بصير، قال: دَخَلَ رَجُلاَنِ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي مُدَارَاةٍ بَيْنَهُمَا وَمُعَامَلَةٍ، فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ كَلاَمَهُمَا، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ مَا ظَفِرَ أَحَدٌ بِخَيْرٍ مِنْ ظَفَرٍ بِالظُّلْمِ، أَمَا إِنَّ الْمَظْلُومَ يَأْخُذُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ مَالِ الْمَظْلُومِ - ثُمَّ قَالَ - مَنْ يَفْعَلِ الشَّرَّ بِالنَّاسِ فَلاَ يُنْكِرِ الشَّرَّ إِذَا فُعِلَ بِهِ، أَمَا إِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُدُ ابْنُ آدَمَ مَا يَزْرَعُ، وَلَيْسَ يَحْصُدُ أَحَدٌ مِنَ الْمُرِّ حُلْواً، وَلاَ مِنَ الْحُلْوِ مُرّاً، فَاصْطَلَحَ الرَّجُلاَنِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَا»(4).

العودة للأسس الحيوية

مسألة: يجب أن تعود الأمة إلى الأسس كلما رأت فقراً وجوعاً وجريمةً وتخلفاً واستعماراً.

والأسس هي أولاً: القيادة الصحيحة المتمثلة بأهل البيت الأطهار (عليهم

السلام)، أولهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وآخرهم المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) وفي زمن الغيبة وكلاؤهم ممنجمع العدالة والاجتهاد وسائر الشرائط.

ص: 397


1- الكافي: ج2 ص334، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح18.
2- سورة الأنعام: 129.
3- الكافي: ج2 ص334، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح19.
4- الكافي: ج2 ص334، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح22.

..............................

وثانياً: المنهج الإسلامي الصحيح في السياسة والإدارة والاقتصاد وغير ذلك، التي صرحت بها الآيات الحيوية في القرآن الكريم، ومنها:

آية الشورى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(1).

وآية الحرية: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(2).

وآية التعددية: «وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمتَنَافِسُونَ»(3).

وآية الأخوة: «إِنَّمَا الْمؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(4).

وآية الأمة الواحدة: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(5).

وآية العدل والإحسان: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(6).

إلى سائر الآيات.عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه قال - في حديث له -: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُولُ: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي فِي أُمَّتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ فِي قَوْمِهِ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَرَكَهَا غَرِقَ، وَمَثَلِ بَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ»(7).

ص: 398


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة البقرة: 256.
3- سورة المطففين: 26.
4- سورة الحجرات: 10.
5- سورة المؤمنون: 52.
6- سورة النحل: 90.
7- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص937، الحديث الخامس والسبعون.

..............................

وعن علي بن فضَّال، قال: كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَعْلَمُ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، لَمْ يُعَلِّمِ اللهُ رَسُولَهُ شَيْئاً إِلاَّ وَقَدْ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَلَّمَ رَسُولَهُ الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ وَالتَّأْوِيلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَعَلَّمَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) ذَلِكَ كُلَّهُ»(2).

وعن سماعة، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ أُنَاساً مِنْ أَصْحَابِنَا قَدْ لَقُوا أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَسَمِعُوامِنْهُمَا الْحَدِيثَ، فَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْءُ يَبْتَلِي بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُفْتِيهِ، وَعِنْدَهُمْ مَا يُشْبِهُهُ، يَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالْقِيَاسِ؟. فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِلاَّ وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ»(3).

وعن محمد بن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: تَفَقَّهْنَا فِي الدِّينِ وَرُوِّينَا، وَرُبَّمَا وَرَدَ عَلَيْنَا رَجُلٌ قَدِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ صَغِيرٍ، الَّذِي مَا عِنْدَنَا فِيهِ بِعَيْنِهِ شَيْءٌ، وَعِنْدَنَا مَا هُوَ يُشْبِهُهُ مِثْلَهُ، أَ فَنُفْتِيهِ بِمَا يُشْبِهُهُ؟.

قَالَ: «لاَ، وَمَا لَكُمْ وَالْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ! هَلَكَ مَنْ هَلَكَ بِالْقِيَاسِ».

قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَتَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَا يَكْتَفُوَ

ص: 399


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص291، ب10 ح5.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص292، ب10 ح12.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص302، ب15 ح3.

..............................

بِهِ؟.

قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَا اسْتَفْتَوْا بِهِ فِي عَهْدِهِ، وَبِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

قَالَ: قُلْتُ: ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ؟.قَالَ: «لاَ، هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ»(1).

***

إلى هنا انتهى الجزء السادس.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 400


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص302، ب15 ح4.

الفهرس

المقدمة 5

خطبة الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) في نساء المهاجرين والأنصار 7

عيادة المريض.. 11

روايات في عيادة المرضى. 12

كراهة ترك العيادة 14

وقت العيادة 15

دعاء المريض.. 16

استحباب قبول العيادة 17

عيادة مرضى النساء 17

إطلاق الاستحباب.. 18

السؤال عن حال المريض.. 19

حمد الله مطلقاً 20

بين الشكر والحمد 23

تأكد الصلاة على النبي J في مواطن. 25

روايات في استحباب الصلوات والجهر بها 28

روايات في أوقات الصلوات وأماكنها 33

دعاء للأب.. 37

مما يستحب للمريض.. 37

مما يستحب لذوي المريض.. 38

ص: 401

الصحابيات عالمات بما جرى عليها 39

المريض والروحانية 40

المظلوم وحمد الله تعالى. 40

عدة مسائل. 41

كيف أصبحت؟.. 42

المعنى الأعم لأصحبت.. 45

كيف أصبحت وبيان الظلامة 51

كيف أصبحت وبيان الحقائق. 52

الهدفية 55

القسم للمهمات.. 55

الدنيا المذمومة والممدوحة 56

كره الدنيا 59

الزهد في الدنيا أو كرهها 61

فوائد الزهد وكره الدنيا 63

ما هي الدنيا المكروهة 65

نساء زاهدات.. 66

القدوة في ترك الدنيا 67

تربية الناس على كره الدنيا 68

المريض وترك الدنيا 68

بين ترك الدنيا والمطالبة بالحق. 70

ضرورة نبش التاريخ. 71

المرأة والزهد في الدنيا 74

المريض والحمد أولاً. 75

المظلوم والحمد أولاً. 76

غضب الصديقة (عليها السلام) على بعض الصحابة 77

ص: 402

درجات البغض لله. 80

أصحابي كالنجوم 80

بغض من أبغضت الزهراء (عليها السلام) 81

نظرية عدالة الصحابة 84

لماذا كرهتهم الزهراء (عليها السلام) 87

لا يجوز اتباع هؤلاء 88

لا للعقوبة قبل الجناية 90

الإيمان مستقر ومستعار 91

ولاية الشيطان. 93

الامتحان لكشف الحقائق. 95

مما يستحب بيانه 96

استخدام الكنايات والمجازات.. 96

لا للتعجل في الحكم 97

خبث جوهرهم 99

الصديقة (عليها السلام) سئمتهم 99

بطلان مسلك حب الجميع 100

مسألتان. 103

القبح لأعداء الصديقة (عليها السلام) 106

الحسن والقبح العقليان. 107

تقبيح القبيح. 107

من الأدلة على انحراف القوم 108

تقبيح أفعالهم 109

سقوط الأمم 110

بين الحكم والإرشاد 111

بداية السقوط. 112

ص: 403

علامات الانقلاب على الأعقاب.. 112

اللعب بعد الجد 115

اللعب بعد اللعب.. 117

الرجوع القهقرى. 117

إضاعة الوقت.. 121

بين طريق الردى والهدى. 122

تقبيح عمل القوم 124

تعييب الآخرين. 126

تحويل القوة إلى الضعف.. 127

حرمة الدجل والخداع. 130

الدجل والخداع. 131

فساد الرأي. 132

مقدمات سداد الرأي. 133

اتباع الهوى. 134

فضح القوم 136

مسائل عديدة مستفادة من الآية الكريمة 137

بين العدالة والخلود 141

الجزاء من سنخ العمل. 143

حرمة الخيانة 146

التوقي من غضب أولياء الله. 149

الدعاء على الظالم. 153

لعن الظالمين. 159

استخدام كلمة (ويح) 160

زحزحة الخلافة 161

عدة مسائل. 163

ص: 404

قواعد النبوة 165

رواسي الرسالة 166

الإمامة استمرار للنبوة 168

الفقهاء المراجع 174

بيت الزهراء (عليها السلام) مهبط الوحي. 177

ارتباط الأوصياء بالسماء 178

منزلة جبرائيل (عليه السلام) 179

اتهامات وافتراءات.. 180

المعصوم هو الفطن الحاذق. 182

لا تقديم على المعصوم 183

الدين والدنيا معاً 184

المؤمن فطن حاذق. 187

إعداد الخبراء 187

المسائل التي يبتلى بها 190

الزمان والاهتمام الأكبر بالدين. 191

التفقه في الدين. 192

من صفات القائد 192

من شروط الإمامة 193

بين الدين والدنيا 204

لا رهبانية في الإسلام 205

الخسران الأعظم 206

رعاية الأمور البلاغية 206

بين الزحزحة والخسارة 208

تنبيه 211

عدة مسائل. 213

ص: 405

تنبيه آخر 214

النقمة على الأولياء 217

النقمة القلبية 220

النقمة والعلم بالسبب وعدمه 224

خطاب الزوجة زوجها 226

بيان الحق حتى عند الموت.. 227

الدفاع عن الولاية حتى عند الموت.. 231

القسم وأحكامه 234

استحباب الشجاعة 235

شجاعة الزهراء (عليها السلام) 237

روايات في فضلها 237

شجاعة النساء 239

نكير السيف على الأعداء 247

حرمة موادة الأعداء 249

فسق القوم 252

من أسباب الانقلاب على الحق. 253

قلة المبالاة بالموت في سبيل الله. 257

بين إهلاك النفس وقلة المبالاة بالحتف.. 258

من فضائل الإمام 261

استحباب التضحية 261

شدة الوطأة على الأعداء في الجملة 265

حرمة الشدة في غير محلها 266

التأسي بالإمام (عليه السلام) 270

تقييم التاريخ. 273

التنمر في ذات الله. 274

ص: 406

التنمر لله عز وجل لا للهوى. 276

من أوصاف الأمير (عليه السلام) 279

فضائل الزوج. 280

وجوب التكاف.. 283

زمام الخلافة 286

تعيين الخليفة بيد الله. 289

الزهد في عوامل القوة 293

منع حق الوصي. 296

مآخذ خطيرة على الفتوحات.. 297

سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله) 300

مراقبة الأتباع. 302

سيرة الوصي وسياسته 306

شمولية الحجة 310

دفع الانحراف ورفعه 312

السير السمح بالناس. 316

أفضل تشريع وأفضل قيادة 324

القائد كالأب الرحيم 327

قلة السجون في الإسلام 328

الأصل الرفق واللين. 329

الشيعة والسير السجح. 332

تحري رضا العامة 333

العدل والإحسان. 334

الرفق واللين في كل شيء 337

شمولية الرفق واللين زمناً 338

بين الحزم والرفق. 341

ص: 407

اللامركزية الإدارية 345

لا إثقال على الناس. 346

الاحتياطات الزائدة 349

الإمام وحقوق الخلافة 351

تعتة الراكب.. 353

توفير الرفاهية 355

جنة الدنيا في ظل حكم الإمام 360

تلويث البيئة 364

الأمن المائي. 366

جانب الدين والدنيا 369

من ميزات المنهج الإسلامي. 370

من واجبات القائد 372

التخلص من مآسي العالم. 373

ميزات أخرى للحكومة الإسلامية 376

أقسام التكدر 382

الاهتمام بالاقتصاد 386

حرمة إفقار الشعب.. 388

مقومات أخرى للقائد الإسلامي. 388

كراهة الفقر أو حرمته 391

الحكومات مسؤولة عن فقر الناس. 393

لا فقر في حكم المعصوم 395

غصب الخلافة سبب رئيس للفقر 395

العودة للأسس الحيوية 397

الفهرس. 401

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.