الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الخامس : خطبتها علیها السلام في المسجد 4
المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى
1439 ه 2018م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الخامس
خطبتها علیها السلام في المسجد
القسم الأخیر
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أما بعد: فهذا الجزء الخامس من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، وهو خاتمة خطبتها (علیها السلام) الشريفة في المسجد، أسأل الله عزوجل التوفيق والقبول، إنه ولي ذلك.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 5
ص: 6
-------------------------------------------
مسألة: من رذائل الأخلاق الخلود إلى الخفض والدعة والراحة وسعة العيش، فإنه نقطة البداية في سقوط الأمم، ويكون على حسب اختلاف الموارد إما: محرماً أو مكروهاً؛ لأن الإسلام يحب الجد والنشاط والجهد كما نجد ذلك في سيرة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وخليفته الإمام علي(علیه السلام) وسائر الأئمة المعصومين (علیهم السلام).
عن الزهري، قال: دخلت مع علي بن الحسين (علیه السلام) على عبد الملك بن مروان - قال: - فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين (علیه السلام). فقال: يا أبا محمد، لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قريب النسب، وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلا منمضى من سلفك. وأقبل يثني عليه ويطريه.
قال: فقال علي بن الحسين (علیه السلام): «كل ما ذكرته ووصفته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم يا أمير ، كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقف في الصلاة حتى تورم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه. فقيل له: يا رسول الله، ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فيقول (صلی الله علیه و آله): أفلا أكون عبداً شكوراً،الحمد لله على ما أولى وأبلى،وله الحمد في الآخرة والأولى،
ص: 7
..............................
والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلاله بشكر عُشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولايبلغ حدّ نعمة منها عليَّ جميع حمد الحامدين، لاوالله أو يراني الله لايشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا سرّ ولا علانية، ولولا أن لأهلي عليَّ حقاً ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عليَّ حقوقاً لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء، وبقلبي إلى الله، ثم لم أرددهما حتى يقضي الله على نفسي، وهو خير الحاكمين»، وبكى (علیه السلام) وبكى عبد الملك(1).
وفي الحديث:كان النبي (صلی الله علیه و آله) يبكي حتى يُغشى عليه، فقيلله: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»(2).
وروي: أن الأشعث بن قيس دخل عليه - على أمير المؤمنين (علیه السلام) - بصفين وهو قائم يصلي ظهيرة. فقال: قلت: يا أمير المؤمنين، أدءوب بالليل ودءوب بالنهار؟!. قال: فانسل (علیه السلام) من صلاته وهو يقول هذه الأبيات:
اصبر على تعب الإدلاج والسهر *** وبالرواح على الحاجات والبكر
لا تضجرن ولايعجزك مطلبها *** فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني وجدت وفي الأيام تجربة *** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه *** فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر(3)
ص: 8
..............................
قولها (علیها السلام): «ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض»:
الإخلاد: الميل والسكون، والخفض: السعة في العيش. وأصل الخفض عبارة عن: الموضع الواطئ الذي لايُرى عن بُعد فيكون الإنسان الذي فيه في مأمن من الأخطار، فهو من علاقة الحالّ والمحلّ. ثم إن الذي يخلد إلى الخفض كثيراً ما يؤدي به ذلك إلى المحرمات طلباً للخفض، وكسلاً عن الإتيان بالواجب، وعلى كل حال فالخفض مرجوح بين محرم ومكروه كلٌ في مورده.
وسنلحظ إشارة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) لاحقاً إلى الآثار السلبية والخطيرة التي نجمت عن إخلاد القوم إلى الراحة على حساب تضييع الواجبات، وإبعادهم من هو الأحق بالقيادة والخلافة.
كما أنها (علیها السلام) تشير في هذا المقطع إلى أن موقفهم من الخلافة وغصبها وغصب فدك لم يكن نابعاً من قناعة، أو عدم معرفة بالحقيقة، أو عدم علمهم بمن هو أحق بالخلافة، بل كان نابعاً من ضعف النفس وحب الشهوات، والرغبة في الراحة والدعة، إذ قالت (علیها السلام): «قد أخلدتم إلى الخفض».ومن معاني الخفض: ما يقابل الرفع، فبتركهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخلدوا إلى الضعة وعدم الرفع.
ولا يخفى ما في استعمال مادة الخلود هنا من دلالات.
وفي الحديث القدسي:«يا عبادي إني أنا مالك الشفاء، والإحياء والإماتة، والغناء والإفقار، والإسقام والصحة، والرفع والخفض، والإهانة والإعزاز، دونكم ودون سائر الخلق»(1).
ص: 9
..............................
وفي (مصباح الشريعة): عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «إعراب القلوب على أربعة أنواع:رفع وفتح وخفض ووقف. فرفع القلب في ذكر الله، وفتح القلب في الرضا عن الله، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله، ووقف القلب في الغفلة عن الله - إلى أن قال (علیه السلام) - وعلامة الخفض ثلاثة أشياء:العجب والرياء والحرص» الحديث(1).
أما قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «من توكل على الله ذلت لهالصعاب، وتسهلت عليه الأسباب، وتبوأ الخفض والكرامة»(2) فهو إشارة إلى الخفض والراحة الحقيقية كما لا يخفى.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عليك بإدمان العمل في النشاط والكسل»(3).
وفي الدعاء: «اللهم ارزقني فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط»(4).
ولما سوى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصفوف بأحُد قام فخطب الناس فقال:«أيها الناس أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه، من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده، إن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه،
ص: 10
..............................
فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد،والتمسوا بذلك ما وعدكم الله،وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريص على رشدكم، إن الاختلاف والتنازع والتثبط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطي عليه النصر والظفر»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي الرشد، وأصابه ذو الاجتهاد والجد»(2).
وقال (علیه السلام): «ثلاث فيهن النجاة:لزوم الحق، وتجنب الباطل، وركوب الجد»(3).
وقال (علیه السلام): «المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد»(4).
وقال (علیه السلام): «طاعة الله سبحانه لا يحوزها إلا من بذل الجد واستفرغ الجهد»(5).
وقال (علیه السلام): «فالحذر الحذرأيها المستمع، والجد الجد أيها العاقل، ولاينبؤك مثل خبير»(6).
وقال (علیه السلام): «نكد العلم الكذب، ونكد الجد اللعب»(7).
ص: 11
..............................
وقال (علیه السلام): «لا تترك الاجتهاد في إصلاح نفسك، فإنه لا يعينك عليها إلا الجد»(1).
وقال (علیه السلام): «إن كنتم للنجاة طالبين، فارفضوا الغفلة واللهو، والزموا الاجتهاد والجد»(2).
وقال (علیه السلام): «عليك بالجد والاجتهاد في إصلاح المعاد»(3).
وقال (علیه السلام): «عليك بالجدوإن لم يساعد الجد»(4).
وقال (علیه السلام): «من قصر عاب»(5).
وقال (علیه السلام): «من لم يجهد نفسه في صغره لم ينبل في كبره»(6).
وقال (علیه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(7).
وقال (علیه السلام): «الكامل من غلب جده هزله»(8).
وقال (علیه السلام): «قد سعد من جدّ»(9).
وقال (علیه السلام): «من ركب جده قهر ضده»(10).
ص: 12
-------------------------------------------
وقال (علیه السلام): «من أعمل اجتهاده بلغ مراده»(1).
وقال (علیه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(2).
مسألة: من الواجب إعطاء كل ذي حق حقه، ومن مصاديقه:وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتفويض الأدوار لذوي الكفاءات. وبذلك تستقيم أمور الدين والدنيا معاً.
وفي الأحاديث أن من علائم زوال الحكومات: تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل، قال علي (علیه السلام): «يستدل على إدبار الدول بأربع:تضييع الأصول، والتمسك بالغرور، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل»(3).وقال (علیه السلام): «تولي الأراذل والأحداث الدولَ دليل انحلالها وإدبارها»(4).
وورد في تفسير المتقين : «الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفه على أنفسهم»(5).
ص: 13
..............................
وقال علي (علیه السلام): «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل»(1)
وقال (علیه السلام): «رأس الرذائل اصطناع الأراذل»(2).
وقال (علیه السلام): «الأعمال تستقيم بالعمال»(3)
وقال (علیه السلام): «آفة الأعمالعجز العمال»(4)
وقال (علیه السلام): «شر الولاة من يخافه البري ء»(5).
وقال (علیه السلام): «شر الوزراء من كان للأشرار وزيراً»(6)
وقال (علیه السلام): «وزراء السوء أعوان الظلمة وإخوان الأثمة»(7).
مضافاً إلى ما ورد في ذم من تولى الأمر وفي القوم من هو أعلم منه.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ألا ومن أمّ قوماً إمامة عمياء وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر»(8).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع»(9).
ص: 14
..............................
ولقد كان السبب الأول في كافة المحن والمشاكل والرزايا التي تعرض لها المسلمون - من حكام جائرين مستبدين ومن هتك الحرمات ومصادرة الحقوق وضعف الإيمان و.. - على مر التاريخ هو عدم إعطاء المناصب والمسؤوليات لذوي الكفاءات، بدءً من رئيس الحكومة حتى أصغر مدير، وكان أفدح تلك الخطايا على الإطلاق سلب السلطة من الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي كان هو الأكفأ في كل الجهات بشهادة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بمتواتر الروايات، مضافاً إلى كونه (علیه السلام) هو الخلفية المعين من قبل الله عزوجل.
وقد ورد في الزيارة: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَبْدِكَ وَأَخِي رَسُولِكَ، الَّذِي انْتَجَبْتَهُ لِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُ هَادِياً لِمَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ، وَالدَّلِيلَ عَلَى مَنْ بَعَثْتَهُ بِرِسَالاَتِكَ، وَدَيَّانَ الدِّينِ بِعَدْلِكَ، وَفَصْلِ قَضَائِكَ بَيْنَ خَلْقِكَ، وَالْمُهَيْمِنِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»(1).وفي (الوسائل) في باب كيفية الوضوء وجملة من أحكامه: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن العبد إذا توضأ فغسل وجهه تناثرت ذنوب وجهه.. وإن قال في أول وضوئه:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طهرت أعضاؤه كلها من الذنوب، وإن قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً
ص: 15
..............................
وَلِيُّكَ وَخَلِيفَتُكَ بَعْدَ نَبِيِّكَ، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ خُلَفَاؤُكَ وَأَوْصِيَاؤُهُ، تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات أوراق الشجر، وخلق الله بعدد كل قطرة من قطرات وضوئه أو غسله ملكاً يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره ويصلي على محمد وآله الطيبين، وثواب ذلك لهذا المتوضئ، ثم يأمر الله بوضوئه وغسله فيختم عليه بخاتم من خواتيم العزة» الحديث(1).
وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «فأتاني جبرئيل فقال:إن ربك يقول لك: إن علي بن أبي طالب وصيك، وخليفتك على أهلك وأمتك، والذائد عن حوضك، وهو صاحب لوائك يقدمك إلى الجنة»(2).وعن ابن عباس - في حديث المعراج - قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا ابن عباس، إن أول ما كلمني(3) به أن قال: يا محمد انظر تحتك، فنظرت إلى الحجب قد انخرقت، وإلى أبواب السماء قد فتحت، ونظرت إلى علي (علیه السلام) وهو رافع رأسه إليَّ، فكلمني وكلمته وكلمني ربي عزوجل».
فقلت: يا رسول الله، بم كلمك ربك؟.
قال: «قال لي: يا محمد، إني جعلت علياً وصيك ووزيرك، وخليفتك من بعدك، فأعلمه فها هو يسمع كلامك، فأعلمته وأنا بين يدي ربي عزوجل، فقال لي: قد قبلت وأطعت. فأمر الله الملائكة أن تسلم عليه، ففعلت فرد عليهم السلام، ورأيت الملائكة يتباشرون به، وما مررت بملائكة من ملائكة السماء إلا
ص: 16
..............................
هنئوني، وقالوا: يا محمد، والذي بعثك بالحق لقد دخل السرور على جميع الملائكة باستخلاف الله عزوجل لك ابن عمك. ورأيت حملة العرش قد نكسوا رؤوسهم إلى الأرض، فقلت: يا جبرئيل، لم نكس حملة العرش رؤوسهم؟. فقال: يا محمد، ما من ملك من الملائكة إلا وقد نظر إلىوجه علي بن أبي طالب (علیه السلام) استبشاراً به ما خلا حملة العرش فإنهم استأذنوا الله عزوجل في هذه الساعة، فأذن لهم أن ينظروا إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فنظروا إليه. فلما هبطت جعلت أخبره بذلك وهو يخبرني به، فعلمت أني لم أطأ موطئاً إلا وقد كشف لعلي (علیه السلام) عنه حتى نظر إليه».
قال ابن عباس: فقلت: يا رسول الله، أوصني.
فقال: «عليك بمودة علي بن أبي طالب، والذي بعثني بالحق نبياً لايقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو تعالى أعلم، فإن جاء بولايته قبل عمله على ما كان منه، وإن لم يأتِ بولايته لم يسأله عن شي ء ثم أمر به إلى النار. يا ابن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً إن النار لأشد غضباً على مبغض علي منها على من زعم أن لله ولداً. يا ابن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغض علي ولن يفعلوا لعذبهم الله بالنار».
قلت: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟. قال: «يا ابن عباس، نعم يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً. يا ابن عباس، إن منعلامة بغضهم تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق نبياً ما بعث الله نبياً أكرم عليه مني، ولا وصياً أكرم عليه من وصيي علي».
ص: 17
..............................
قال ابن عباس: فلم أزل له كما أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصاني بمودته، وإنه لأكبر عملي عندي - قال ابن عباس - فلما مضى من الزمان ما مضى، وحضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة حضرته، فقلت له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، قد دنا أجلك فما تأمرني؟.
فقال: «يا ابن عباس، خالف من خالف علياً، ولا تكونن لهم ظهيراً ولا ولياً».
قلت: يا رسول الله، فلِمَ لا تأمر الناس بترك مخالفته(1)؟ - قال - فبكى (علیه السلام) حتى أغمي عليه، ثم قال: «يا ابن عباس، قد سبق فيهم علم ربي والذي بعثني بالحق نبياً لا يخرج أحد ممن خالفه من الدنيا وأنكر حقه حتى يغير الله ما به من نعمة. يا ابن عباس، إذا أردت أن تلقى الله وهو عنك راض فاسلك طريقة علي بن أبي طالب، ومل معه حيث مال، وارض به إماماً، وعاد من عاداه،ووال من والاه. يا ابن عباس، احذر أن يدخلك شك فيه، فإن الشك في علي كفر بالله تعالى»(2).
مسألة: يحرم إبعاد من هو الأحق بالبسط والقبض مطلقاً، فإن الحق يجب أن يتبع سواء كان الحق شخصاً أم جهة أم فكراً أم منهجاً، والإمام علي (عليه الصلاة والسلام) كان هو الحق الذي يجب إتباعه بنص القرآن والرسول(صلی الله علیه و آله)، حيث قال تعالى: إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ
ص: 18
..............................
الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق والحق مع علي، يدور حيثما دار»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق والحق مع علي، يميل مع الحق كيفما مال»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «الحق مع علي وعلي مع الحق، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه»(5).
وعن عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله): «الحق لن يزال مع علي وعلي مع الحق لن يختلفا ولن يفترقا»(6).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله يبغض من عباده المائلين عن الحق، والحق مع علي، وعلي مع الحق، فمن استبدل بعلي غيره هلك وفاتته الدنيا والآخرة»(7).
وقال (صلی الله علیه و آله): «علي معالحق وغيره مع الباطل»(8).
ص: 19
..............................
ثم إن إبعاد من هو الأحق بالبسط والقبض(علیه السلام) ظلم من ثلاث جهات، بل أكثر:
1: ظلم للمغصوب حقه.
2: ظلم للناس والجماهير التي حرمت خيراته.
3: ظلم للمنهج والفكر والرسالة.
مضافاً إلى أنه ظلم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي عينه بالنص،وظلم في حق المولى عزوجل الذي عينه وصياً.
مسألة: من أكبر الكبائر إبعاد الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) عن منصب خلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد قال تعالى: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أطاع علياً رشد، ومن عصى علياًفسد»(2). وعن أم سلمة قالت: (كان علي (علیه السلام) على الحق، من اتبعه اتبع الحق، ومن تركه ترك الحق، عهداً معهوداً قبل يومه هذا) (3). وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «علي مع الحق والحق مع علي، وهو الإمام والخليفة من بعدي، فمن تمسك به فاز ونجا، ومن تخلف عنه ضل وغوى»(4).
ص: 20
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «من فارق علياً فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عزوجل»(1). وقال (صلی الله علیه و آله): «من آذى علياً فقد آذاني، أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً»(2).
ومن أكبر الكبائر أيضاً: إبعادسائر المعصومين (علیهم السلام) عن الخلافة والإمامة. والمعين عليه معين على الكبيرة، والراضي بل الساكت عنه آثم، والحكم في زمن الغيبة سارٍ أيضاً، فإن المنصب لهم ولا يجوز التصرف فيه إلا بإذن منهم، بالإذن الخاص(3) أو العام بأن تجتمع في الحاكم الشرعي كل الشرائط حسب المقرر في (الفقه) على ما هو مذكور في كتاب الاجتهاد والتقليد(4).
قولها (علیها السلام): «أحق» يراد به الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وصيغة التفضيل وصف بلا تفضيل، كقوله تعالى: قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ (5)، أو التفضيل على سبيل الفرض حسب نظر القوم أو ما أشبه.
مسألة: يجب بيان ذلك(6) للناس،كسائر ما يرتبط بشؤون العقيدة، في الجملة، بل هذا من أهمها كما لا يخفى، ولذا بيّنت الزهراء (عليها الصلاة والسلام)
ص: 21
..............................
هذا الموضوع للناس، بل تصدت (صلوات الله عليها) لبيان ذلك بكل قوة حتى قضت شهيدة، مكسورة الضلع، مضروبة الخد، مسقطة جنينها (صلوات الله عليهما) ولعنة الله على من ظلمها وظلم بعلها وبنيها.
فإنه داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى أصول الدين، ومن المعلوم أن الدعوة إليها(1) من الواجبات، ويشملها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل أيضاً، وتختلف مراتب الوجوب في هذه الأمور حسب اختلاف المصاديق.
وفي تفسير قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (2): ورد عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري، عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «عن ولاية علي بن أبيطالب»(3).
وفي قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ (4) الذي أمرهم به رسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) (5).
قولها (علیها السلام): «وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض»، أي:بالحكم، وهذا إشارة إلى الخلافة الظاهرية (السلطة) واغتصابها من الإمام علي (عليه الصلاة والسلام).
ص: 22
-------------------------------------------
وخلوتم بالدعة(1)، ونجوتم من الضيق إلى السعة
السعة الشيطانية
مسألة: الخلوة بالدعة والنجاة من الضيق إلى السعة الشيطانية مرجوحة. والمرجوحية هنا بالمعنى الأعم الشامل للمحرم والمكروه كل في مورده، فإن مما يرجح جانب فجور النفس على جانبتقواها(2) الانسياق نحو ملذات الجسد، ومنها الخلوة بالدعة والعيش في السعة.
ولا يخفى أن (الدعة) الوارد في كلامها (صلوات الله عليها) من ودع - والتعبير عرفي إذ ليس ليدع ويذر ماض(3) - كأنه يودع المشاكل نفسياً وبدنياً(4).
و(الضيق): في قبال (السعة) في مختلف شؤون الحياة.
ومن الواضح أن الحياة الجهادية تتنافى مع كل ذلك، بينما حياة الرفاه والترف والبذخ تناسب كل هذه الأمور، وكثير من القوم أصبحوا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كذلك، فقد «استبدلوا الذنابى بالقوادم، والحرون بالقاحم، والعجز بالكاهل» - كما قالت الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) في خطبة أخرى لها(5) - ولو انتهجوا ما قرره الرسول (صلی الله علیه و آله) لأسلممن في الأرض جميعاً في زمان أقل من نصف قرن.
ص: 23
..............................
قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ (1).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحل قلوبكم الحكمة»(4).
وقال علي (علیه السلام): «في مجاهدة النفس كمال الصلاح»(5).
وقال (علیه السلام): «ما من جهاد أفضل من جهاد النفس»(6).
وقال (علیه السلام): «املكواأنفسكم بدوام جهادها»(7).
وقال (علیه السلام): «أقوى الناس من غلب هواه»(8).
وقال (علیه السلام): «جهاد النفس مهر الجنة»(9).
وقال (علیه السلام): «قاوم الشهوة بالقمع لها تظفر»(10).
والفرق بين (قد أخلدتم إلى الخفض) وبين (خلوتم بالدعة) هو أن الثاني مرحلة متطورة عن الأول، والأول مقدمة للثاني، فإن الإخلاد للشيء هو الميل
ص: 24
..............................
والركون إليه، والمرء يميل للشيء أولاً ثم يخلو به ويتمحض فيه، وربما يقال بأن الدعة متقدمة رتبة على الخفض، بلحاظ كونها بمعنى السكينة، فالخفضإشارة للبُعد المادي والجسدي، والدعة للبُعد النفسي والروحي وهي مقدمة كما لايخفى.
قولها (علیها السلام): «وخلوتم بالدعة»، الدعة: الراحة والسكون، أي إنكم ذهبتم إلى الراحة والسكون وتركتم الجهاد وصعوبته لهوى أنفسكم. والخلو بالشيء الانفراد به.
قولها (علیها السلام): «ونجوتم من الضيق إلى السعة»، بمعنى: إن الجهاد وصعوبته كان ضيقاً عليكم، لكنكم الآن ملتم إلى السعة فتوسعتم، ومن يحب السعة لايستعد للجهاد.
وغير خفي أن تعبيرها (علیها السلام) بنجاتهم من الضيق إلى السعة إنما هو بلحاظ فهمهم وتصورهم القاصر، وبلحاظ المدى القريب فقط، وإلا فإن الإعراض عن مناهج الله وعن الجهاد في سبيله - وأن أورد راحة عاجلة إلا أنه - أشد وطئاً وأسوأ حالاً من حيث وخيم العواقب على الإنسان وذريته في الدنيا قبل الآخرة، وقد فصلنا ذلك في بعض كتبنا (1).
قال تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (2).
ص: 25
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من لم يجاهد نفسه لم ينل الفوز»(1).
وقال (علیه السلام) في بعض خطبه: «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي كُرْهٍ، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ، فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً، وَإِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى. وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيداً لها، فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَالْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ، قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ»(2).
وقد ذكرت الصديقة الطاهرة فاطمة (صلوات الله عليها) في كلامها هذا مجموعة من العوامل التي تسير بالأمة نحو الانحطاط، وهي:
1:الميل والركون إلى الراحة وسعة العيش.
2:إبعاد الكفاءات والتخلي عن القيادة المثالية لصالح قيادة مصلحية.
3:التفرغ للسكينة والدعة.
4:الابتعاد من الضيق الناجم عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح السعة الناجمة عن مماشاة الجائرين ومداهنة الغاصبين. إلى غير ذلك.
ص: 26
مسألة: الإيمان على قسمين:مستقر ومستودع، كما في الآية الكريمة والروايات الشريفة.
قال تعالى: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ (2).وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «المستقر الثابت، والمستودع المعار»(3).
وعن البزنطي قال:وعدنا أبو الحسن الرضا (علیه السلام) ليلة إلى مسجد دار معاوية، فجاء فسلم (علیه السلام) فقال:«إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) وأبى الله إلا أن يتم نوره، وقد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن (علیه السلام) فأبى الله إلا أن يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس فاحمدوا الله على ما من عليكم به، إن جعفراً (علیه السلام) كان يقول: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (4)، فالمستقر ما ثبت من الإيمان والمستودع المعار، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس فاحمدوا الله على ما من عليكم به»(5).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله جبل النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبداً، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبداً، وجبل بعض المؤمنين
ص: 27
..............................
على الإيمان فلا يرتدون أبداً، ومنهم من أعير الإيمان عارية فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان»(1).
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قلت: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (2)؟. قال: «ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه؟» قال: قلت: يقولون:مستقر في الرحم ومستودع في الصلب. فقال: «كذبوا، المستقر ما استقر الإيمان في قلبه فلا ينزع منه أبداً، والمستودع الذي يستودع الإيمان زماناً ثم يسلبه، وقد كان الزبير منهم»(3).
وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (علیه السلام): هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (4)، قال: «ما كان من الإيمان المستقر فمستقر إلى يوم القيامة أو أبداً، وما كان مستودعاً سلبه الله قبل الممات»(5).وفي (نهج البلاغة) من خطبة له (علیه السلام): «فَمِنَ الإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»(6).
وعن محمد بن سليمان الديلمي، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت له: جعلت فداك إن شيعتك تقول: إن الإيمان مستقر ومستودع، فعلمني شيئاً إذا قلته استكملت الإيمان؟. قال: «قل في دبر كل صلاة فريضة: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبّاً،
ص: 28
..............................
وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِالْقُرْآنِ كِتَاباً، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِعَلِيٍّ وَلِيّاً وَإِمَاماً، وَبِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَالأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) اللَّهُمَّ إِنِّي رَضِيتُ بِهِمْ أَئِمَّةً، فَارْضَنِي لهمْ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).
وتقرأ في دعاء صلاة عيد الغدير: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَعَلْتَهُ عِنْدَهُمْ وَبِالَّذِي فَضَّلْتَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ جَمِيعاً، أَنْ تُبَارِكَ لَنَا فِي يَوْمِنَا هَذَاالَّذِي أَكْرَمْتَنَا فِيهِ، وَأَنْ تُتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ، وَتَجْعَلَهُ عِنْدَنَا مُسْتَقَرّاً وَلاَ تَسْلُبَنَاهُ أَبَداً، وَلاَتَجْعَلَهُ مُسْتَوْدَعاً فَإِنَّكَ قُلْتَ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (2) فَاجْعَلْهُ مُسْتَقَرّاً وَلاَتَجْعَلْهُ مُسْتَوْدَعاً»(3).
ثم إن الذي يظهر من كلام الصديقة (علیها السلام) أن إيمان هؤلاء القوم كان مستودعاً حيث قالت (علیها السلام): «قد أخلدتم، وأبعدتم، فمججتم ...الخ».
ومن هنا ورد: «ارتد الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(4).
وقال تعالى: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ (5).
مسألة: كلامها (علیها السلام) صريح في اختيارية مجّهم ما وعوا، فهم قد مجوا ما وعوا ودسعوا ما تسوغوا، فالتقسيم الوارد في الروايات للإيمان إلى المستقر
ص: 29
..............................
والمستودع لا ينفي الاختيار، فالمستودع يترك ما وعاه وآمن به بسوء اختياره، وما كتب في اللوح أن فلاناً إيمانه مستودع فالعلم كاشف وليس بعلة كما هو واضح.
مسألة : ومن ذلك يعلم إمكان تكليفهم بعدم المج واللفظ، وكلامها (علیها السلام) واضح الدلالة على حرمة مجهم ما وعوه، فإنهم أولاً: كانوا قد وعوا الإيمان والفضيلة والإخلاص والتقوى وما أشبه ذلك ثم مجوها، كمن يجمع في فمه الماء ثم يمج الماء من فمه ويلفظه إلى الخارج.
قولها (علیها السلام): «فمججتم» أي:رميتم ما وعيتم من لزوم التمسك بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر الأحكام، فكأن النصوص والأحكام التي وعوها من ضرورة التمسك بالإمامة ونصرة المظلوم والدفاع عن الحق وما أشبه قد مجوها فلم يعملوا بها، كمن يقذف بالشيء من فمه.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي مني وأنا من علي، قاتل الله من قاتل علياً، لعن الله من خالف علياً، علي إمام الخليقة بعدي، من تقدم علياً فقد تقدم عليَّ، ومن فارقه فقد فارقني، ومن آثر عليه فقد آثر عليَّ، أنا سلم لمنسالمه وحرب لمن حاربه، وولي لمن والاه وعدو لمن عاداه»(1).
مسألة: تعبير الصديقة (علیها السلام) بالمج يتضمن إشارة دقيقة جداً إلى حقيقة نفسية اجتماعية تاريخية، وهي أن المجتمعات لو تخلت في منعطف مصيري عن الحق وعن الدفاع عن المظلوم، فإنهم سيفتقدون (الوعي) و(السيادة) إلى إشعار
ص: 30
..............................
آخر، بل يكاد يكون من الصعب جداً استرجاع ما خسروا حتى حين.
ويظهر ذلك جلياً من ملاحظة الأدب التصويري المستخدم في كلامها (علیها السلام) وتشبيه المعقول بالمحسوس في هذه الجملة، فإن من يلفظ الماء الذي اجتمع في فمه يصعب عليه جداً أن يسترجعه إلى فمه من جديد! بل لا تكاد ترى أحداً يقدر على ذلك.
وهكذا فإن وضع الرِجل في أول المنحدر سيقود إلى أسفل الوادي بشكل طبيعي، وقد كشفت حركة التاريخ عن دقة تعبيرها (علیها السلام) وما تضمنه منكشف للمستقبل، فإنهم لم يعودوا إلى وعيهم أبداً، وتلاحقت على الأمة الحكومات الجائرة لمئات السنين وإلى يومنا هذا!.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فارق علياً بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة، ومن خالف علياً حرم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار، ومن خذل علياً خذله الله يوم العرض عليه»(1).
مسألة: الوعي في الأفراد وفي الأمم قد يكون متجذراً وقد يكون سطحياً، ويتجلى ذلك في المنعطفات وفي سرعة التراجع عن مقتضيات الوعي والثقافة وعدمها، والذي صرحت به الصديقة الزهراء (علیها السلام) هاهنا يبين لنا بوضوح أن (وعيهم) كان وعياً سطحياً غير متجذر، ولذلك مجّوا ما وعوا عند هذا المنعطف المصيري
ص: 31
..............................
عن المفضل، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم،أنفع له أم ضر». قلت:فبمَ يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟. قال:«من كان فعله لقوله موافقاً فأثبت له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنما ذلك مستودع»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن العبد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين - ثم قال: - فلان منهم»(2)
قولها (علیها السلام): «وعيتم» أي حفظتم، من وعي الشيء إذا حفظه، ومنه (الوعاء) للظرف، لأنه يحفظ ما فيه.
ص: 32
-------------------------------------------
ودسعتهم الذي تسوغتم(1)
الانقلاب الشمولي على الأعقاب
مسألة: الذي يرشد إليه كلام الصديقة (علیها السلام) يدل عليه التاريخ أيضاً، فإن انقلابهم على الأعقاب ومجهم ما وعوا، ودسعهم الذي تسوغوا لم يقتصر على أمر الحكومة فحسب، بل شمل شتى مناحي الحياة، إذ قولها (علیها السلام): «ودسعتم الذي تسوغتم» و«مججتم ما وعيتم» يشير بعمومه أو بإطلاقه إلى أنهم سوغوا أولاً أسلوب الرسول (صلی الله علیه و آله) في مختلف أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية، الشخصية والعائلية، الحكومية والإدارية، القلبية واللسانية والعملية، ثم رأوا ذلك صعباً عليهم ولا يناسب أهواءهم وشهواتهم، ولذا دسعوه ومجوه.
وكان أمر (الحكومة) هو نقطة البدء والانطلاق، فتغيير القيادة الشرعية إلى قيادة شيطانية كان يضمن لهم الاستمرار في الانقلاب على أعقابهم ونبذ تعاليم السماء.
لأن الناس - عادة - على دينملوكهم، كما ورد في الحديث الشريف.
قولها (علیها السلام): «ودسعتم الذي تسوغتم»، الدسع: هو التقيؤ، والتسوغ: هو الشرب بسهولة، فإنهم استوعبوا الإسلام بسهولة ببركة الرسول (صلی الله علیه و آله) لكنهم بعد ذلك ردّوا ما تسوغوه بسهولة، وليس المراد السهولة مطلقاً بل السهولة النسبية بالقياس إلى حجم التغيير الهائل الذي طرأ على كل مناحي حياتهم، حيث إن تركيز الإسلام كان يحتاج إلى أضعاف أضعاف ذلك الجهد، لكنهم ببركة
ص: 33
ف- إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (1)
الرسول (صلی الله علیه و آله) وإتباعه استوعبوا الإسلام في مدة قليلة فنعموا ببركاته، وبعد ذلك لما استولى عليهم الشيطان دسعوا ما استوعبوه.
قال أبو جعفر (علیه السلام): «الناس صاروا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمنزلة من اتبع هارون (علیه السلام) ومن اتبع العجل»(2).ف- إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (3).
مسألة: ما قام به القوم من عدم نصرتهم للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) وظلمهم لها و.. كان بمنزلة كفرهم، وهذا ما يفهم من كلامها (علیها السلام) حيث قالت: «فإن تكفروا».
ويستحب بيان ذلك وقد يجب، فإن كلاً من الاستحباب والوجوب في مورده.
والكفر - هنا - هو الكفر العملي؛ لأن الكفر على قسمين: كفر عقائدي وكفر عملي. فمن أهم أقسام الكفر العملي: الكفر بالمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) وعدم قبول ولايتهم، وقد أشار القرآن الحكيم إلى هذين القسمين من الكفر. أما الأول فواضح، وأما الثاني فقد قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ
ص: 34
..............................
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(1)، وقالتعالى:«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»(2)، إلى غيرهما من الآيات التي هي بهذا الصدد.
ويمكن إرادة الكفر العقائدي باعتبار أنه على أقسام ودرجات من كفر بالله أو بصفاته أو برسله أو بأوصيائهم (علیهم السلام) وهنا يراد به القسم الأخير.
وفي (الفقيه): كان جابر بن عبد الله الأنصاري يدور في سكك الأنصار بالمدينة وهو يقول: (علي (علیه السلام) خير البشر فمن أبى فقد كفر، يا معاشر الأنصار أدّبوا أولادكم على حبّ علي (علیه السلام) فمن أبى فانظروا في شأن أمه)(3).
وعن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «من جالس لنا عائباً، أو مدح لنا قالياً، أو وصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«من زعم أنه يحب النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يحب الوصي فقد كذب، ومن زعم أنه يعرف النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يعرف الوصي فقد كفر»(5).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فضّل أحداً من أصحابي على علي (علیه السلام) فقد كفر»(6).
ص: 35
..............................
وعن حذيفة، عن النبي (صلی الله علیه و آله)، أنه قال: «علي بن أبي طالب خير البشر ومن أبى فقد كفر»(1).
وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (2)؟. فقال: «الأمانة الولاية، من ادعاها بغير حق فقد كفر»(3).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي، إن الله تعالى أمرني أن أتخذك أخاً ووصياً، فأنت أخي ووصيي وخليفتي على أهلي في حياتي وبعد موتي، من اتبعك فقد تبعني، ومن تخلف عنك فقد تخلف عني، ومن كفر بك فقد كفر بي، ومن ظلمك فقد ظلمني»(4).
وسُئل جابر بن عبد الله الأنصاري عن علي (علیه السلام)، فقال: ذاك والله أمير المؤمنين، ومحنة المنافقين، وبوار سيفه على القاسطين والناكثين والمارقين، سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول وإلاّ فصُمتا: «علي بعدي خير البشر من أبى فقد كفر»(5). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي خير البشر فمن أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر»(6).
ص: 36
..............................
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «من حسد علياً فقد حسدني، ومن حسدني فقدكفر»(1).
وعن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: «من شك في أربعة فقد كفر بجميع ما أنزل الله عزوجل، أحدها: معرفة الإمام في كل زمان وأوان بشخصه ونعته»(2).
وجه الربط(3)
وفي استشهاد الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بالآية الكريمة(4) إشارة لطيفة إلى تمحض أهل البيت (علیهم السلام) في الله، وأن كل ما فعلوه - ومنه المطالبة بالخلافة - كان لله وفي الله ومن الله وإلى الله، وليس لمصلحة شخصية أبداً، فمهمتهم هي إبلاغ رسالة الله عزوجل، وحيث إن الله غني عن العالمين ومحمود الفعل والترك فإن إعراض الناس عن أهل البيت (علیهم السلام) - الذي هو إعراض عن الله - لا يضر شيئاً(5) لأن الله هو الغني وهوالمحمود.
عن سعيد، عن ابن عباس: أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علي بن أبي طالب (علیه السلام). فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟. قال: يسبون علياً!.
ص: 37
..............................
قال: قرّبني إليهم. فلما أن وقف عليهم، قال: أيكم الساب الله؟.
قالوا: سبحان الله ومن يسب الله فقد أشرك بالله.
قال: فأيكم الساب رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. قالوا: ومن يسب رسول الله فقد كفر. قال: فأيكم الساب علي بن أبي طالب؟. قالوا: قد كان ذلك. قال: فأشهد بالله وأشهد لله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزوجل»، ثم مضى(1).
مسألة: يستحب بيان أن أهل الأرض لو كفروا جميعاً لا يضرون الله شيئاً وأن اللهلغني حميد، وهكذا بالنسبة إلى إتباع الناس لأهل البيت (علیهم السلام) وتركهم، فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم.
وقد يكون بيان ذلك واجباً، كل حسب مورده، كما ذكرنا مثل ذلك في جملة من البنود السابقة.
وعدم ضرر الله من الوضوح بمكان؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى الكون بأجمعه، فكيف يحتاج إلى بعض من يعصيه من أهل الأرض، وما قدرهم في هذا الكون الواسع الرحب؟. فإن كونه تعالى واجب الوجود معناه الغني المطلق، كما قرر في علم الكلام، وأن الله سبحانه يستحق الحمد في كل فعل وترك وخلق وإفناء إلى غير ذلك؛ لأنه لا يفعل ما يفعل إلا عن مصلحة، ومن المعلوم أن من يفعل الأشياء عن مصلحة - إيجاباً أو سلباً - محمود على كلا الحالين.
ص: 38
..............................
وربما يكون الوجه في الإتيان ب- (حميد) هو بيان أن كفرهم ومن في الأرض جميعاً لا يضر من هو غني بالذات و(محمود) الصفات، فإنه لا قيمة لأهل الأرض بل والعالم كله والممكنات كلها في قبال واجب الوجود، فأية قيمة لكفرهم أو إيمانهم ولحمدهم وثنائهم عليه، وعدمه؟.قولها (علیها السلام): «فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد»، اقتباس من سورة إبراهيم (عليه الصلاة والسلام)(1) فإن الله سبحانه وتعالى لايحتاج إلى شيء من خلقه ولا إلى أحد من عباده، وإنما العباد هم الذين يحتاجون إليه، ومن يخالف أوامر الله فهو الخاسر الذي يخسر نفسه، والله محمود على كل حال، سواء كفر به الناس أم آمنوا به، وسواء أطاعوه أم خالفوه.
ص: 39
-------------------------------------------
مسألة: يستنبط من كلام الصديقة (علیها السلام) هذا قاعدة مهمة، وهي أن الخذلان على قسمين:
1: الخذلان الطارئ.
2: الخذلان المتجذر في الأعماق والمختمر مع النفس.
وفي الصورة الثانية يكون التحرك أصعب؛ لأن النفس هي التي تبعث على الخذلان، وحينئذ لا يسهل النهوض والانبعاث كما هو واضح.
واللازم على القادة وكل من يريد استنهاض الأمة، استكشاف حقيقة الأمر، ومعرفة الخذلان من أي قسم هو، لئلا يبنوا استراتيجيتهم النهضوية دون معرفة بحقيقة قاعدتهم الجماهيرية.
وبما أن الصديقة الزهراء (علیها السلام) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كانا يعلمان بنوعية خذلان الجماهير لهم، لذلك بنيا استراتيجيتهما على أساس: لاحرب ولا قتال ولا انتفاضة، بل حركة تعبوية إعلامية ثقافية وإتمام الحجة، إضافة إلى الحركة الإيمانية التربوية وشبهها.قولها (علیها السلام): «ألا وقد قلت ما قلت هذا»، أي الكلام الذي قلت لكم من استعراض صفاتكم السابقة ومقارنتها بصفاتكم اللاحقة، ومن عتابكم واستنهاضكم و...
قولها (علیها السلام): «على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم»، الخذلة:تركهم نصرتها (علیها السلام) ونصرة بعلها علي (عليه الصلاة والسلام).
ص: 40
..............................
و«خامرتكم» بمعنى:خالطتكم وغشت عليكم، من الخمر الذي يغشي العقول، فكأن الخذلان صار لباساً لهم وغطى على إيمانهم ووعيهم وضمائرهم وعهودهم ومواثيقهم وبيعتهم في يوم الغدير.
مسألة: من أشد المحرمات خذلان أهل البيت (علیهم السلام) وعدم نصرتهم.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله إلى يوم القيامة»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصرمن نصره، واخذل من خذله»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من خذل علياً خذله الله يوم العرض عليه، ومن نصر علياً نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته عند المساءلة»(3).
وعن عمرو بن ثابت، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثة: سلمان والمقداد وأبو ذر الغفاري، إنه لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعة بعدك أبداً. قال:ولِمَ؟. قالوا: إنا سمعنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيك يوم غدير. قال: وتفعلون؟. قالوا: نعم.
ص: 41
..............................
قال:فأتوني غداً محلقين.
قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة.
قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر، فضرب (علیه السلام) يده على صدره ثم قال له: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة، ارجعوا فلا حاجة ليفيكم، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس، فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم»(1).
ثم إنه ورد النهي الشديد عن خذلان مطلق المؤمنين فكيف بأميرهم (صلوات الله عليه).
عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة»(2).
وقال مسلم بن عقيل (علیهما السلام) عند ما أمر ابن زياد (لعنه الله) بضرب عنقه: «اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وخذلونا»(3).
ص: 42
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الغدر مطلقاً، فإن الغدر محرم بكل أنواعه، وإنما كان ما فعله القوم غدراً؛ لأنهم بايعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الدفاع عن علي (علیه السلام) وعن ذريته وأهل بيته (علیهم السلام) في الأمور كافة، فعدم رعايتهم للعهود والمواثيق والبيعة كان من الغدر المحرم، بل هو من أشد أنواع المحرمات؛ لأنه غدر بأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) والذي يرتبط بأصول الدين وأسس العقائد.
وهناك فرق بين الغدر في الفروع والغدر في الأصول كما لا يخفى.
قولها (علیها السلام): «والغدرة التي استشعرتها قلوبكم»، من الشعار كأنهم لبسوا الغدر، فإن (الشعار) عبارة عن: الثوب الذي يلبس على شعر البدن ويلتصق بالجسم، في مقابل (الدثار) الذي هو الثوب الذي يلبس فوق ذلك، فكأن الغدر صار شعاراً لهم.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار، ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخلالنار»(1).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: «يا أيها الناس، لولا كراهية الغدر كنتُ من أدهى الناس، ألا إن لكل غُدرة فُجرة،
ص: 43
..............................
ولكل فجرة كُفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار»(1).
وعن علي (علیه السلام): أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له فيما عهد إليه:
«وإياك والغدر بعهد الله والإخفار لذمته، فإن الله جعل عهده وذمته أماناً أمضاه بين العباد برحمته»(2).
وقال علي (علیه السلام): «آفةالوفاء الغدر»(3).
وقال (علیه السلام): «من علامات اللؤم: الغدر بالمواثيق»(4).
وقال (علیه السلام): «الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله»(5).
وقال (علیه السلام): «الغدر أقبح الخيانتين»(6).
وقال (علیه السلام): «الغدر بكل أحد قبيح، وهو بذي القدرة والسلطان أقبح»(7).
وقال (علیه السلام): «الغدر يعظم الوزر ويزري بالقدر»(8).
وقال (علیه السلام): «إياك والغدر، فإنه أقبح الخيانة، وإن الغدور لمهان عندالله»(9).
ص: 44
..............................
وقال (علیه السلام): «جانبوا الغدر، فإنه مجانب القرآن»(1).
وقال (علیه السلام): «كن عاملاً بالخير، ناهياً عن الشر، منكراً شيمة الغدر»(2).
وقال (علیه السلام): «إياكم وصرعات البغي، وفضحات الغدر، وإثارة كامن الشر المذمم»(3).
وقال (علیه السلام): «غش الصديق والغدر بالمواثيق من خيانة العهد»(4).
وقال (علیه السلام): «لا تدوم مع الغدر صحبة خليل»(5).وقال (علیه السلام): «أسرع الأشياء عقوبة رجل عاهدته على أمر وكان من نيتك الوفاء به ومن نيته الغدر بك»(6).
مسألة: المحطة الأولى للغدر هي القلب، لذا قالت (علیها السلام): «والغدرة التي استشعرتها قلوبكم»، وهو حرام مطلقاً(7) إذا وافقته الجوارح وتجلى عليها، وفي ما يرتبط بأصول الدين خاصة حتى لو لم يظهر. فمن الواجب على الدعاة والقادة رصد القلوب قبل رصد الأفعال وعدم الاغترار بالمظاهر، ومنها
ص: 45
..............................
المظاهرات والشعارات والأبواق الإعلامية والخطب الحماسية، فإنها بكلا طرفيها الايجابي والسلبي لا تعد مؤشراً حقيقياً على اتجاه القلوب.
وقلنا (بكلا طرفيها) إذ تأييد الجماهير الظاهري للطاغوت لا يدل علىحبهم له، ولا على وقوفهم معه ساعة الصفر، وكذا العكس، فإن تأييدهم الظاهري للإمام العادل لا يدل على ثباتهم عليه وتوطين أنفسهم عليه.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء»(1).
وقال علي (علیه السلام): «لا خير في المنظر إلا مع حسن المخبر»(2).
وفي الحديث القدسي: «يا عيسى، قل لهم ... وأقبلوا عليَّ بقلوبكم فإني لستُ أريد صوركم»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر، إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يا أبا ذر، إن التقوى هاهنا، أشار بيده إلى صدره»(4).لا يقال: كيف مدحتهم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) أولاً وذمتهم ثانياً؟.
لأنه يقال:
الأول: كان بياناً لما كانوا عليه قبل استشهاد الرسول (صلی الله علیه و آله).
والثاني: كان وصفاً لما صاروا إليه بعد موته (صلی الله علیه و آله) فلا منافاة بين
ص: 46
..............................
المقامين(1)، وكذلك نرى القرآن الكريم مرة يمدح ومرة يذم، وذلك باعتبار أمرين وحيثيتين، فتارة يمدح الإنسان بقوله: « فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(2)، و«لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(3)، وتارة يذمه بقوله: «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ! إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ! وَإِذامَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً»(4)، وفي آية أخرى: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(5) إلى غيرها.
هذا وقد قال تعالى:«أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(6).
مسألة: يلزم على المؤرخ - إقتداء بما صنعته الصديقة الزهراء (علیها السلام) هاهنا - أن يكون منصفاً وينقل بأمانة الإيجابيات والسلبيات التي اتصفت بها الأمم أو الأفراد وعلى حسب جدولتها الزمنية دون تحكيم حب أو بغض، وسواء كانت السلبيات هي السابقة أم هي اللاحقة.
ومن غير الصحيح ما يصنعه بعض الكتّاب والخطباء والمؤرخين، من أنهم إذا أحبوا قائداً أو أمة صوروه (أو صوروها) للناس وكأنه ملاك سماوي وقطعة
ص: 47
..............................
من المثالية، حتى يتحول إلى صنم يلغي العقول والأفكار ويستبد بالأمور، أوإذا أبغضوا قائداً صوّروه شيطاناً مريداً فعموا وأعموا الناس عن إيجابياته ونقاط قوته الحالية أو السابقة.
وهذا ما أمر به الله تعالى حيث قال: «لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى»(1).
وإذا كان الإنسان منصفاً ومتوازناً في تقييمه كان أحرى بأن يثق به الناس، وبأن يتعامل مع الحدث بكل حكمة، وبأن يضع مخططه على ضوء تقييم متكامل للشخص أو الحدث والحادثة. وقد لاحظنا في خطاب الصديقة فاطمة (علیها السلام) أنها - رغم عتابها الشديد على المسلمين الذين بايعوا الظلم ولم يتمسكوا بولاية أهل البيت (علیهم السلام) - ذكرت وأعلنت عن سلسلة من إيجابياتهم ومواقفهم وصفاتهم المثالية السابقة لتحثهم على نصرة الحق.
قال أبو عبد الله (علیه السلام): «ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزوجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة،ورجل قال بالحق فيما له وعليه»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ألا أخبركم بأشد ما فرض الله على خلقه؟». قلت: بلى. قال: «إنصاف الناس من نفسك» الحديث(3).
ص: 48
..............................
وعنه (علیه السلام) قال: «من أنصف الناس من نفسه رُضي به حكماً لغيره»(1).
وعنه (علیه السلام): «اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الإنصاف زين الإمرة»(3).
وقال (علیه السلام): «عليك بترك التبذير والإسراف، والتخلق بالعدل والإنصاف»(4).وقال (علیه السلام): «الإنصاف عنوان النبل»(5).
وقال (علیه السلام): «الإنصاف شيمة الأشراف»(6).
وقال (علیه السلام): «الإنصاف أفضل الفضائل»(7).
وقال (علیه السلام): «الإنصاف أفضل الشيم»(8).
وقال (علیه السلام): «الإنصاف يألف القلوب»(9).
وقال (علیه السلام): «الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف»(10).
وقال (علیه السلام): «على الإنصافترسخ المودة»(11).
ص: 49
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من كلامها وفعلها (علیها السلام) رجحان نفث المظلوم غيظه، واستجابته لفيضة النفس، وعدم الحيلولة دون تجلي بثة الصدر على الجوارح والأعضاء ومنها اللسان وغيره، وفقاً للموازين الشرعية. وإطلاق الاستحباب يشمل حتى ما لم يكن لنفث الغيظ تأثيراً في استحصال الحق، وكذلك نظائره(1).
وربما يستفاد ذلك أيضاً من بث أمير المؤمنين (علیه السلام) أسراره إلى البئر وأشباه ذلك، فإنه (علیه السلام) كان يكلم البئر والبئر يكلمه(2) والرجحان أعم من الاستحباب.
لا يقال: الفعل لا جهة له.
إذ يقال:
أولاً: الفعل له جهة في الجملة، فإنه يكشف عدم الحرمة وعدمالمرجوحية(3)، بل قد يكشف الأكثر بالقرائن المكتنفة كما في المقام، فتأمل.
وثانياً: ليس المقام فعلاً دون قول، بل لقد شفعت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فعلها بالقول حيث صرحت ب- (ولكنها فيضة النفس..) ومن غير الصحيح التعليل (4) بالمرجوح أو بغير الراجح.
ص: 50
..............................
ويمكن القول بأن ما صنعته (علیها السلام) من فيضة النفس و.. كان محل رضاها دون شك، وبضميمة أن «الله يرضى لرضى فاطمة»(1) يثبت المطلوب(2)، فتأمل.
قولها (علیها السلام): «ولكنهافيضة النفس»، الفيض: سيلان الماء، والمراد ما أفاضته النفس، أي: إني قلتُ ما قلت إظهاراً لما في نفسي من وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويم المعوج، ويحتمل أن يكون المعنى: فيضة النفس بما فيها من آلام وأشجان وأحزان وهموم وغموم، وأصالة التأسيس يرجح الأول وإن كان الثاني لا يلزم منه التكرار بوجه كما لا يخفى.
ومنه يستفاد رجحان بيان مظلوميتها وظلامتها وهمومها وغمومها (علیها السلام) فإن فيه كشفاً للحقيقة.
قولها (علیها السلام): «ونفثة الغيظ»، النفث: عبارة عما يقذفه الإنسان من فمه مما يدل على قرحة في رئته أو حلقه أو ما أشبه ذلك، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، ونفثة المصدور: أي تأوه من له وجع في صدره، فالغيظ الذي كان في صدر الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) نفثته - أو بعضه - بهذه الكلمات المشجية.
قولها (علیها السلام): «وخور القنا»(3)، الخور هو الضعف، والقنا: الرمح،
ص: 51
..............................
أي: ضعف النفس بحيث لا تتمكن أن تتحمل هذه المصائب العظيمة. وقد شبهت (عليها الصلاة والسلام) ما ذكرته في كلامها بالقنا التي ليس لها تلك الصلابة حتى تتحمل.
لا يقال: لقد كانت (علیها السلام) قمة الصبر والتحمل والصمود فكيف تعبر ب- (خور القنا)؟.
إذ يقال: أولاً: المصيبة النازلة كانت أعظم من كل مصيبة في الكون، وهي التعدي على الإمام المعصوم (علیه السلام) وخليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومحور عالم الإمكان، مضافاً إلى أن هذه المصيبة سببت انحراف الكثير من الناس عن الطريق الصحيح والصراط المستقيم إلى يوم الوقت المعلوم.
ف- (خور القنا) بالقياس إلى عِظم المصيبة لا بما هي هي.
وثانياً: إن لذلك العديد من النظائر كقوله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً»(1).
وقوله سبحانه: «وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً»(2).
وقوله تعالى: «طه ! مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَالْقُرْآنَ لِتَشْقى»(3).
وقوله عزوجل: «فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ»(4).
وقوله سبحانه: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ»(5).
ص: 52
..............................
وقوله تعالى: «وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً»(1) إلى غير ذلك.
وثالثاً: هذا تعبير عن عظم المصيبة.
قولها (علیها السلام): «وبثة الصدر»، البث: هو النشر والإظهار، أي: ما يبثه الصدر من الحزن والألم(2).
قولها (علیها السلام): «وتقدمة الحجة» أي: أن هذا إتمام للحجة وإن كان لا ينفع معكم ذلك، لكنه حجة بيني وبينكم إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يجب عليه - في الجملة - أن يلقي الحجة ويتمها لئلا يكون لأحد على الله حجة يوم القيامة، ولكي لاتقول الأمة: إنا كنا عن هذا غافلين.
وغير خفي على المتأمل أن تلك الجمل ليست مترادفة أو كالمترادفة، بل كل منها يفيد مطلباً ومعنى، فإن بثة الصدر هي وليدة الحزن، ونفثة الغيظ وليدة الغضب(3)، وخور القنا هو الضعف، وفيضة النفس ما فاض منها وقد يكون علماً أو حزناً أو غيظاً أو غير ذلك، فهذه أعم(4) والبقية بيان، أو هي مباينة، فقد أشارت (علیها السلام) إلى عدد من حالاتها وصفاتها النفسية تجاه القضية وكان منها الحزن ومنها الغضب.
ص: 53
..............................
ودليل التأسي بها (صلوات الله عليها) يدل على استحباب أن يكون الإنسان كذلك فيحزن ويبث حزنه تجاه غصب الخلافة وما جرى عليها وعلى بعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين).قال الإمام الصادق (علیه السلام): «نفس المهموم لنا المغتَم لظلمنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة»(1).
وقال (علیه السلام): «نفس المهموم لظلمنا تسبيح وهمّه لنا عبادة»(2).
وعن بعض أصحابنا قال: (كان المعلى بن خنيس (رحمة الله)إذا كان يوم العيد خرج إلى الصحراء شعثاً مغبراً في زي ملهوف، فإذا صعد الخطيب المنبر مد يده نحو السماء ثم قال:
اللهم هذا مقام خلفائك وأصفيائك، وموضع أمنائك الذين خصصتهم بها، ابتزوها وأنت المقدر لما تشاء، لا يغلب قضاؤك، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنى شئت، علمك في إرادتك كعلمك في خلقك، حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مستترين، يرون حكمك مبدلاً وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرفة عن جهات شرائعك، وسنن نبيك (صلواتك عليه) متروكة، اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين، والغادين والرائحين، والماضين والغابرين، اللهم والعن جبابرة زماننا وأشياعهم، وأتباعهم وأحزابهم وأعوانهم، إنك علىكل شي ء قدير)(3).
ص: 54
..............................
وقال ابن طاووس (رحمة الله): روي عن آل الرسول (علیهم السلام) أنهم قالوا: «من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه حرم الله وجهه على النار»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا»(3).وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «من دمعت عينه فينا دمعة لدم سفك لنا، أو حق لنا نُقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، بوأه الله تعالى بها في الجنة حقباً»(4).
وقال الرضا (علیه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(5).
ص: 55
..............................
مسألة: يجب - في الجملة - إتمام الحجة وبيان الحق حتى مع العلم بعدم التأثير، وإنما كان تقدمة الحجة لئلا يكون فيهم من لا يزال يجهل الواقع، بالإضافة إلى أن التكرار أو التذكير كثيراً ما يؤثر في بعض الناس ولو في المستقبل، وهذا القدر كاف في الوجوب على ما ذكر في كتاب الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر(1)، أما إذا لم يكن كل ذلك فهو من باب الاستحباب، فالأمر بين واجب ومستحب، قال سبحانه: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(2).
ومن مصاديق إتمام الحجة تلك الاحتجاجات التي احتج بها أمير المؤمنين علي (علیه السلام) عندما غصبوا خلافته وهي مذكورة في كتاب (الاحتجاج)(3)،
ص: 56
..............................
وكذلك ما احتج به أصحابه (رضوان الله عليهم) وهي كثيرة(1) منها:
ما رواه زيد بن وهب قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي بن أبي طالب (علیه السلام) اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار. وكان من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأبيّ بن كعب، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وبريدة الأسلمي. وكان من الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بنحنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان، وغيرهم.
فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره، فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله). وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقال الله عزوجل: وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (2)، ولكن امضوا بنا إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) نستشيره ونستطلع أمره.
فأتوا علياً (علیه السلام)، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ضيّعتَ نفسك وتركتَ حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.
ص: 57
..............................
فقال لهم علي (علیه السلام): «لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم، ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها (صلی الله علیه و آله) والكاذبة على ربها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت لما تعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم للهعزوجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) وإنهم يطالبون بثارات الجاهلية، والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي، وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): "سيا علي، إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر، ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي كذلك أخبرني جبرئيل (علیه السلام) عن ربي تبارك وتعالى"، ولكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أعظم للحجة عليه، وأزيد وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه وخالف أمره».
قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم جمعة، فقالوا للمهاجرين: إن الله عزوجل بدأ بكم في القرآن فقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصارِ (1) فبكم بدأ.وكان أول من بدأ وقام خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية، فقال: يا أبا بكر، اتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي (علیه السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ألا تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لنا ونحن محتوشوه في يوم بني قريظة، وقد أقبل
ص: 58
..............................
على رجال منا ذوي قدر، فقال: «يا معشر المهاجرين والأنصار، أوصيكم بوصية فاحفظوها وإني مؤد إليكم أمراً فاقبلوه، ألا إن علياً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم، أوصاني بذلك ربي، وإنكم إن لم تحفظوا وصيتي فيه وتؤووه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم، واضطرب عليكم أمر دينكم، وولي عليكم الأمر شراركم، ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون أمري القائلون بأمر أمتي، اللهم فمن حفظ فيهم وصيتي فاحشره في زمرتي، واجعل له من مرافقتي نصيباً يدرك به فوز الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنة التي عرضها السماوات والأرض».
فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد، فلست من أهل المشورة ولا ممن يرضى بقوله.فقال خالد: بل اسكت أنت يا ابن الخطاب، فو الله إنك لتعلم أنك تنطق بغير لسانك، وتعتصم بغير أركانك، والله إن قريشاً لتعلم أني أعلاها حسباً، وأقواها أدباً، وأجملها ذكراً، وأقلها غنى من الله ورسوله، وإنك ألأمها حسباً، وأقلها عدداً، وأخملها ذكراً، وأقلها من الله عزوجل ومن رسوله، وإنك لجبان عند الحرب، بخيل في الجدب، لئيم العنصر، ما لك في قريش مفخر.
قال: فأسكته خالد فجلس، ثم قام أبو ذر (رحمة الله عليه) فقال - بعد أن حمد الله وأثنى عليه -: أما بعد، يا معشر المهاجرين والأنصار لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الأمر لعلي (علیه السلام) بعدي، ثم للحسن والحسين (علیهما السلام)، ثم في أهل بيتي من ولد الحسين»، فأطرحتم قول نبيكم، وتناسيتم ما أوعز إليكم، واتبعتم الدنيا وتركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا تهدم بنيانها،
ص: 59
..............................
ولايزول نعيمها، ولا يحزن أهلها، ولا يموت سكانها، وكذلك الأمم التي كفرت بعد أنبيائها بدلت وغيرت، فحاذيتموها حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل،فعما قليل تذوقون وبال أمركم، وما الله بظلام للعبيد.
ثم قال: ثم قام سلمان الفارسي (رحمه الله) فقال: يا أبا بكر، إلى من تستند أمرك إذا نزل بك القضاء، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلم وفي القوم من هو أعلم منك، وأكثر في الخير أعلاماً ومناقب منك، وأقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة وقدمة في حياته، قد أوعز إليكم فتركتم قوله، وتناسيتم وصيته، فعما قليل يصفوا لكم الأمر حين تزوروا القبور، وقد أثقلت ظهرك من الأوزار، لو حملت إلى قبرك لقدمت على ما قدمت، فلو راجعت إلى الحق وأنصفت أهله لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى عملك، وتفرد في حفرتك بذنوبك عما أنت له فاعل، وقد سمعت كما سمعنا، ورأيت كما رأينا، فلم يروعك ذلك عما أنت له فاعل، فالله الله في نفسك فقد أعذر من أنذر.
ثم قام المقداد بن الأسود (رحمة الله عليه) فقال: يا أبا بكر، اربع على نفسك، وقس شبرك بفترك، والزم بيتك، وابك على خطيئتك، فإن ذلك أسلم لك في حياتك ومماتك، ورد هذا الأمر إلى حيث جعله الله عزوجل ورسوله، ولاتركن إلى الدنيا، ولا يغرنك من قد ترى من أوغادها، فعما قليل تضمحل عنك دنياك،ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت أن هذا الأمر لعلي (علیه السلام) وهو صاحبه بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقد نصحتك إن قبلت نصحي.
ثم قام بريدة الأسلمي فقال: يا أبا بكر، نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك، أما تذكر إذ أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسلمنا على علي (علیه السلام) بإمرة المؤمنين
ص: 60
..............................
ونبينا (صلی الله علیه و آله) بين أظهرنا، فاتق الله ربك وأدرك نفسك قبل أن لا تدركها، وأنقذها من هلكتها، ودع هذا الأمر ووكله إلى من هو أحق به منك، ولا تماد في غيك، وارجع وأنت تستطيع الرجوع، فقد نصحتك نصحي، وبذلت لك ما عندي، فإن قبلت وفقت ورشدت.
ثم قام عبد الله بن مسعود فقال: يا معشر قريش، قد علمتم وعلم خياركم أن أهل بيت نبيكم (صلی الله علیه و آله) أقرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منكم، وإن كنتم إنما تدعون هذا الأمر بقرابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقولون إن السابقة لنا، فأهل نبيكم أقرب إلى رسول الله منكم وأقدم سابقة منكم، وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)صاحب هذا الأمر بعد نبيكم، فأعطوه ما جعله الله له، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أبا بكر، لا تجعل لنفسك حقاً جعله الله عزوجل لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخالفه في أهل بيته، واردد الحق إلى أهله تخف ظهرك، وتقل وزرك، وتلقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو عنك راض، ثم يصير إلى الرحمن فيحاسبك بعملك، ويسألك عما فعلت.
ثم قام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال: يا أبا بكر، أ لست تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل شهادتي وحدي، ولم يرد معي غيري؟. قال: نعم. قال: فاشهد بالله أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم».
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا أبا بكر، أنا أشهد على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أقام علياً فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا
ص: 61
..............................
ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) مولاه، فقال (صلی الله علیه و آله): «إن أهل بيتي نجوم أهل الأرض فقدموهم ولا تقدموهم».
ثم قام سهل بن حنيف فقال: أشهد أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال على المنبر: «إمامكم من بعدي علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وهو أنصح الناس لأمتي».
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال: اتقوا الله في أهل بيت نبيكم وردوا هذا الأمر إليهم، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام من نبي الله (صلی الله علیه و آله) أنهم أولى به منكم.
ثم جلس ثم قام زيد بن وهب فتكلم، وقام جماعة من بعده فتكلموا بنحو هذا، فأخبر الثقة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث أتاه عمر بن الخطاب وطلحة والزبير وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح مع كل واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم شاهرين السيوف، فأخرجوه من منزله وعلا المنبر وقال قائل منهم:
والله لئن عاد منكم أحد فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه.فجلسوا في منازلهم ولم يتكلم أحد بعد ذلك(1).
ص: 62
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي بيان حال الخلافة التي اغتصبها القوم حيث أخذوها فكانت لهم دَبرة الظهر نقبة الخُف، فخسروا الدنيا والآخرة بذلك، وخسّروا العالم والأجيال القادمة أيضاً.
قولها (علیها السلام): «فدونكموها»، أي: خذوا هذه الخلافة المغصوبة، أو فدك، أو كليهما.
«فاحتقبوها»، أي: احملوها على ظهوركم، أو احملوا حقائبكم على ظهرها، من: حقب واحتقب إذا شد الرحل على البعير وهيأه للركوب.
قولها (علیها السلام): «دبرة الظهر»، أي:أن ظهر هذه السلطة وفدك دبر، والدبْر عبارة عن: قرحة الدابة تحدث من الرحل ونحوه، كناية عن أن هذه السلطة وفدك لا تسلمان لكم، فإن في غصبهما المشاكل الكثيرة، كما رأوها هم بأنفسهم وبعد ذلك رآها الحكام من بعدهم.
قولها (علیها السلام): «نقبة الخف»، أي: إن خفاف هذه الدابة - وهي الخلافة المغصوبة وفدك - نقبة رقيقة لاتتحمل المسير بكم سيراً صحيحاً مستمراًموصلاً للمقصد.
مسألة: يستفاد من كلام الصديقة (علیها السلام) أن الحكومة الجائرة والسلطة الغاضبة تتصف بالمواصفات التالية، وينبغي بيان ذلك:
ص: 63
..............................
فهي أولاً وثانياً: لا تحظى بالاستقرار ولا تتمتع بالراحة، ومن الواضح أن هاتين الخصلتين لا يتمتع بها راكب الدابة دبرة الظهر، فإن الدابة المجروحة الظهر يؤلمها الجرح أكثر فأكثر بركوب المرء عليها، فلا يتهيأ لراكبها ما يصبو إليه من ركوب مريح ومن استقرار وطمأنينة.
وهذا التنبؤ منها (علیها السلام) - كغيره - أصاب كبد الحقيقة بالنسبة لغاصبي الحكومة من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فإنهم لم يحظوا بالاستقرار والراحة والازدهار أبداً كما يظهر ذلك لمن راجع كتب التاريخ والسير.
وهي ثالثاً: لا تتمتع بالاستمرار، كما الدابة النقبة الخف، ولا توصل للمقصود، ولذلك ورد «الملك يدوم مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم».وهي رابعاً: تستتبع الخزي والعار على مر الأزمنة وتعاقب الأجيال.
وهي خامساً: تستتبع غضب الملك الجبار.
وهي سادساً: تستعقب الشنار في عالم الآخرة.
وهي سابعاً: تستلزم عذاب النار الموقدة.
ص: 64
-------------------------------------------
مسألة: يجب فضح الظالمين والمساهمة في إبقاء عار أفعالهم عليهم، لكي لا يُتخذوا أسوةً، ومن مصاديق ذلك الإخبار عنه، كما أن من مصاديقه الإنذار بذلك، كما صنعت الصديقة الكبرى (علیها السلام) في خطبتها.
والوجوب إنما هو إذا كان سبباً لانقلاع الظالم عن ظلمه - لتخوفه من المتربصين به لفضحه - أو كان سبباً لردع الآخرين عن الظلم، أو عن التأسي به، فإنه يكون واجباً من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، أو إذا كان ذلك مصداقاً لإتمام الحجة الواجبة، أو مصداقاً للانتصار الواجب للمظلوم.
ومن مصاديقه: ما ورد من لعن الظالمين في الأدعية حيث الفضح لهم والعار عليهم.
كما في زيارة عاشوراء(1)، ودعاء صنمي قريش(2)، ودعاء علقمة(3) وغيرها.قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لهمْ عَذاباً مُهِيناً (4).
ص: 65
..............................
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ والْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (1).
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ لهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (2).
وقال سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (3).
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلىرَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (4).
وقال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ والْمُنافِقاتِ والْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (5).
وفي (مستدرك الوسائل): أن رجلاً قال للصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله، إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلاّ البراءة من أعدائكم واللعن، فكيف حالي؟. فقال الصادق (علیه السلام): «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: من ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في صلاته أعداءنا بلَّغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا
ص: 66
..............................
الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه فلعنوا من يلعنه ثم ثنوه، فقالوا: اللهم صلّ على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله تعالى: قد أجبت دعاءكم وسمعت نداءكم، وصليت على روحه فيالأرواح، وجعلته عندي من المصطفين الأخيار»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أربعة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتعزز بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «دخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوباً بالذهب: لا إله إلا الله، محمد حبيب الله، علي بن أبي طالب ولي الله، فاطمة آية الله، الحسن والحسين صفوتا الله، على مبغضيهم لعنة الله»(3)
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خير هذه الأمة من بعدي: علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله»(4)
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «مدمن الخمر كعابد الوثن، والناصب لآل محمد شر منه». قلت: جعلت فداك، ومنأشر من عابد الوثن؟. فقال: «إن شارب الخمر تدركه الشفاعة يوم القيامة، وإن الناصب لو شفع فيه أهل السماوات والأرض لم يشفعوا»(5).
ص: 67
..............................
وعن الريان بن شبيب، عن الإمام الرضا (علیه السلام)، قال: «يا ابن شبيب، إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآله فالعن قتلة الحسين(علیه السلام) »(1).
وعن داود الرقي، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) إذا استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال لي: «يا داود، لعن الله قاتل الحسين (علیه السلام) وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين وأهل بيته ولعن قاتله إلا كتب الله عزوجل له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله عزوجل يوم القيامة ثلج الفؤاد»(2).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم؛ فإنها تلعن قتلة الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) ولعن الله قاتله»(3).
مسألة: يستحب، وقد يجب بيان الكلي، وهو أن العار سيبقى على الظالمين.
كما أن عار اغتصاب الحق من أهل البيت (علیهم السلام) بقي إلى اليوم وسيبقى إلى يوم القيامة على من اغتصب الخلافة وأعان على ذلك ورضي به.
والظاهر أن هذا الكلام إخبار في مقام الإنشاء(4).
ص: 68
موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.
لا يقال: إن (العار) لم يلحقهم، فإن كثيراً من الناس لا ترى ذلك، بل الأكثرية على مر التاريخ اتبعوهم.
إذ يقال: يراد العار عند ذويالبصائر(1)، أو العار ثبوتاً، أو العار شأناً (2)، أو غير ذلك(3)، وذلك كما ورد في العديد من الآيات والروايات مثل:«لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ»(4).
موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.
مسألتان: يلزم الاعتقاد بأن موقف القوم من الصديقة الزهراء (سلام الله عليها) وما ارتكبوه من غصب الخلافة وفدك، كان سبباً لغضب الله عزوجل وأدى بهم إلى النار، ويحرم إنكار ذلك والرد عليه؛ لأنه رد عليها (علیها السلام) حيث صرحت: (موسومة بغضب الجبار...) و (موصولة بنار الله...).مضافاً إلى مسألة رضاها (علیها السلام) ورضا الله سبحانه، وذلك لأن الله يرضى
ص: 69
..............................
لرضا فاطمة (سلام الله عليها) ويغضب لغضبها، كما نص على ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وورد عن الفريقين(1)، أي إن الله يرضى متى مارضيت فاطمة (علیها السلام)
ص: 70
ص: 71
..............................
ويرضى على من رضيتْ عنه، ويرضى بما رضيت به، ويرضى كيف رضيت (سلام الله عليها) و.. وذلك لمكان الإطلاق وحذف المتعلق.
ثم إن حديث: «يرضى لرضا» واضح الدلالة على أن رضا الله يعقب رضاها (علیها السلام) ويترتب عليه، أي أن رضا الصديقة فاطمة (سلام الله عليها) قبل رضا الله، وغضبها قبل غضبه.
لا يقال: كيف يكون رضاه تعالى تابعاً، مع أن المفروض أن يكون رضا الإنسان تابعاً لرضا الله، لا أن يكون رضاه عزوجل تابعاً لرضا الإنسان؟.
ص: 72
..............................
إذ يقال: هناك أمران على ما سيأتي، رضا تابع ورضا متبوع، وما ورد في حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لا ينفي الأمر الآخر، وهذا تكريم من الله لها (علیها السلام)، والرسول (صلی الله علیه و آله) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى(1)، وحديثه واضح الدلالة على ترتيب الله رضاه على رضاها، ولا يصح الاعتراض على الخالق فيما قدروشاء(2)، علماً بأن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لا تنطق ولا تتصرف ولا ترضى ولا تغضب إلا عن تأديب الله عزوجل كما ورد في الحديث: «إن الله أدب نبيه (صلی الله علیه و آله) فلما انتهى به إلى ما أراد قال له: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (3) ففوض إليه دينه»(4)، مضافاً إلى أنهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل كما ثبت في محله(5).
ومن الواضح أن هناك فرقاً بين أن رضا الله من رضا فاطمة (علیها السلام) وبين قول الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام): « رضى الله رضانا أهل البيت»(6)، حيث إنه يبين الأمر الآخر، وكلا الأمرين صحيح باعتبارين، فبما أن الحسين (علیه السلام) كان في يوم الصبر على البلاء رضي بما قدره الله له جعل رضاهتابعاً لرضا الله سبحانه.
ص: 73
..............................
أما الحديث الأول فهو يشير إلى عظمة الزهراء (علیها السلام) ومنزلتها الرفيعة والقريبة عند الله سبحانه، بحيث إنه جعل رضاه تابعاً لرضاها (علیها السلام).
فإن الحيثية تغيّر المقدم والمؤخر حتى في شيء واحد، كما هو واضح.
وقد رووا جميعاً أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «يا فاطمة، إن الله ليغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ» وجاء سندل إلى الصادق (علیه السلام) وسأله عن ذلك؟ فقال:يا سندل ألستم رويتم فيما تروون أن الله تعالى يغضب لغضب عبده المؤمن ويرضى لرضاه؟. قال: بلى. قال: «فما تنكر أن تكون فاطمة مؤمنة يغضب لغضبها ويرضى لرضاها». فقال سندل: الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).
وكان الله يرضى حين ترضى *** ويغضب إن غدت في المغضبينا
مسألة: ربما يقال بأن قولها (علیها السلام): «موسومة بغضب الجبار»يتضمن الإشارة إلى مرحلتين سابقة ولاحقة للغضب الرباني - والذي سيأتي معناه - وكل ما أوجب أياً منهما محرم قطعاً، فهنا يمكن تصور الغضب السابق والغضب اللاحق لله عزوجل، بمعنى ترتب الآثار لا الحالة النفسية كما سيأتي.
فهل المقام مقام غضبها (علیها السلام) الذي استتبع غضب الله، أم العكس، أم كلا الأمرين باعتبارين؟.
فإن غصبهم للخلافة ولفدك وإيذاء الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) محرمة، بل من أشد المحرمات التي فيها غضب الجبار، وهي (علیها السلام) قد غضبت في هذه
ص: 74
..............................
المواطن كلها لله(1)، وبما أن ذلك كله استوجب غضبها (علیها السلام) فغضب الباري جل وعلا لغضبها أيضاً(2)، فللباري غضبان في المقام:
1:غضب سابق، وهو على تلك المعاصي الكبيرة من غصب الخلافة وإيذائها وظلمها (علیها السلام).
2:غضب لاحق على إغضابها (علیها السلام) لغضبها (علیها السلام).فحينئذ يكون العقاب أشد مما لو تجردت تلك الكبائر عن إغضابها (علیها السلام) فرضاً.
مسألة: يحرم إتيان ما يوجب غضب الله تعالى، ويكفي كلامها (علیها السلام) هذا في إثبات حرمة جميع ما قاموا به من التصرفات المرتبطة بغصب الخلافة وفدك وإيذائها (علیها السلام)، ويدل على أنهم قد ارتكبوا أكبر الموبقات.
فإن غضب الله سبحانه وتعالى لا يكون إلا عند مخالفة أوامره ونواهيه، وقد ذكر علماء الكلام: إن المراد بغضب الله آثاره؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ليس محلاً للحوادث، فالغضب يظهر في العذاب الإلهي، وقد أشار إلى ذلك القرآن الحكيم حيث قال:«فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ»(3) حيث إن المقصود من الانتقام: العذاب، وليس مجموع الحالة النفسية الخاصة وترتيب الأثر، والانتقام هو الأثر للغضب، ولا يكون إلا مع النهي والتحريم.
ص: 75
..............................
وفي الرواية: «فلما أن قتل الحسين(صلوات الله عليه) اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض»(1).
وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ له عَذَاباً عَظِيماً (2).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال:«إذا غضب الله تبارك وتعالى على أمة ولم ينزل بها العذاب: غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم تربح تجارها، ولم تزكُ ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحبس عنها أمطارها، وسلط عليها شرارها»(3).
مسألة: يحرم كل ما يقتضي - وإن لم يكن يستلزم(4) - النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
فإن الحرمة بفعل المنهي عنه هي التي تؤدي بالإنسان إلى النار، وإلا فلا حرمة في ما سوى ذلك.وما قام به القوم أوجب لهم النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة وذلك بصريح كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام).
ص: 76
..............................
إن قلت: لماذا خصت النار بالأفئدة مع أنها تحرق الجسم كله؟.
قلنا: لأن الأفئدة هي مركز الحرمة، إذ العقائد الباطلة إنما تنشأ من القلب قال تعالى: «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(1)، وقال عزوجل في مقابل ذلك:«إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(2)، كما أن القلب هو مركز الإرادة للأفعال المحرمة.
إضافة إلى أن الإطلاع على الأفئدة قد يكون إشارة إلى شدة النار التي تتجاوز الظاهرة لتصل إلى الباطن وتحرق الفؤاد.
وقد ذكروا في علم الكلام: إن كل عضو يُعاقب في الآخرة حسب معصية ذلك العضو، وكذلك يُثاب حسب طاعته.
وفي الحديث: إن أيدي الناكثين في النار.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن في جهنم رحى تطحن خمساً، أفلاتسألون ما طحنها؟». فقيل له: فما طحنها يا أمير المؤمنين؟.
قال (علیه السلام): «العلماء الفجرة، والقراء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة، وإن في النار لمدينة يقال لها: الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟». فقيل: وما فيها يا أمير المؤمنين؟. فقال: «فيها أيدي الناكثين»(3).
إلى غيرها ذلك من الروايات التي تفيد ذلك، مثل: روايات عقاب العين، وعقاب الأذن، وعقاب اللسان، وسائر الجوارح، بل والجوانح أيضاً.
وهكذا في ثوابها.
ص: 77
..............................
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من ملأ عينيه حراماً يحشوهما الله تعالى يوم القيامة مسامير من النار»(1).
وقال (علیه السلام): «لكل عضو من ابن آدم حظ من الزنى: فالعين زناه النظر، واللسان زناه الكلام، والأذنان زناهما السمع، واليدان زناهما البطش،والرجلان زناهما المشي، والفرج يصدق ذلك كلهم ويكذبه»(2)
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون يُصب في أذنيه الآنك يوم القيامة»(3).
والآنك:الرصاص المذاب.
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من استمع إلى اللهو يُذاب في أذنه الآنك»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتابة في فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر - ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - النظر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل إيمان عبد إلا بولايته والبراءة منأعدائه»(5).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين
ص: 78
..............................
بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من شهد شهادة زور على رجل مسلم أو ذمي أو من كان من الناس، علق بلسانه يوم القيامة وهو مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(2). وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسان من نار»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدامه يتلهبان ناراً حتى يلهبا جسده ثم يقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين ولسانينيعرف بذلك يوم القيامة»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يؤتى بالزاني يوم القيامة حتى يكون فوق أهل النار فتقطر قطرة من فرجه فيتأذى بها أهل جهنم من نتنها، فيقول أهل جهنم للخزان:ما هذه الرائحة المنتنة التي قد آذتنا؟ فيقال لهم: هذه رائحة زان، ويؤتى بامرأة زانية فتقطر قطرة من فرجها فيتأذى بها أهل النار من نتنها»(5).
وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (6)، قال أبو جعفر الباقر (علیه السلام): «وذلك أن آكل
ص: 79
..............................
مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم»(1).
وقال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُفَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزاءً بِمَا كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ (2).
مسألة: يستحب بيان أوصاف النار، ويتأكد بذكر ما يتجانس مع المقام، كما قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام): «الموقدة التي تطلع على الأفئدة».
وقد يجب، فإن المتعلق إذا كان واجباً وجب، وإن كان مستحباً استحب، وقد أكثر القرآن الحكيم من ذكر أوصاف النار مثل قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (3) إلى غير ذلك.
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم جمعة فقال:.. فتزودوا رحمكم الله اليوم لِيوم الممات، واحذروا أليم هول البيات، فإن عقاب الله عظيم وعذابه أليم، نار تلهب، ونفس تُعذب، وشراب من صديد، ومقامع من حديد، أعاذنا اللهوإياكم من النار»(4).
ص: 80
..............................
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - في قوله: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (1) -: «لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض»(2).
وعن الخدري، عنه (صلی الله علیه و آله): «لو ضرب بمقمعة من مقامع الحديد الجبل لفتت فعاد غباراً»(3).
وفي حديث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لجبرئيل (علیه السلام): «ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟. قال:ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار»(4).
وعن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال: «اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوانُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ، أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ، أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لهزَهُ الْقَتِيرُ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الأَعْنَاقِ، وَنَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ»(5).
ص: 81
..............................
وعن إسحاق بن عمار الصيرفي، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام) - في حديث طويل - يقول فيه: «يا إسحاق، إن في النار لوادياً يقال له: سقر، لم يتنفس منذ خلقه الله، لو أذن الله عزوجل له في التنفس بقدر مخيط لأحرق ما على وجه الأرض، وإن أهل النار ليتعوذون من حر ذلك الوادي ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك الوادي لجبلاً يتعوذ جميع أهل ذلك الوادي من حر ذلكالجبل ونتنه وقذره و ما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك الجبل لشعباً يتعوذ جميع أهل ذلك الجبل من حر ذلك الشعب ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك الشعب لقليباً يتعوذ أهل ذلك الشعب من حر ذلك القليب ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك القليب لحية يتعوذ جميع أهل ذلك القليب من خبث تلك الحية ونتنها وقذرها وما أعد الله في أنيابها من السم لأهلها، وإن في جوف تلك الحية لسبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفة واثنان من هذه الأمة». قال: قلت: جعلت فداك، ومن الخمسة ومن الاثنان؟. قال: «وأما الخمسة: فقابيل الذي قتل هابيل، ونمرود الذي حاج إبراهيم في ربه فقال: أنا أحيي وأميت، وفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، ويهود الذي هوّد اليهود، وبولس الذي نصّر النصارى، ومن هذه الأمة أعرابيان»(1).
قال العلامة المجلسي: (وإنما سماهما بذلك لأنهما لم يؤمنا قط)(2).
ص: 82
..............................
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) أن من عذاب جهنم (الشنار)، وهو من أنواع العقاب النفسي كما لا يخفى.
فإن الشنار يعني:العيب والعار، بل أقبح أنواع العيب.
أي: إن عيب غصب الخلافة وفدك وعاره يبقى إلى الأبد، لا في الدنيا فحسب، بل حتى في الآخرة، في المحشر وفي نار جهنم أيضاً حيث الخلود.
قولها (علیها السلام): «موسومة بغضب الجبار»، الوسم: العلامة التي يعرف بها الشيء، كعلامة تجعل على ظهر الحيوان أو مكان مّا من بدنه، فكأن هذه السلطة والخلافة المغتصبة وكذلك غصب فدك وسمتا بغضب الله سبحانه وتعالى.
والجبار: هو القاهر المسلط، وهذا هو المقصود لا من يجبر الكسر لعدم مناسبته للكلام وللغضب.
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).ومن أذكار السجود: «يَا رَبَّ الأَرْبَابِ، وَيَا مَلِكَ الْمُلُوكِ، وَيَا سَيِّدَ السَّادَاتِ، وَيَا جَبَّارَ الْجَبَابِرَةِ، وَيَا إِلَهَ الآلِهَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ...»(2).
وفي الأدعية: «يَا اللَّهُ يَا قَاهِرُ، يَا اللَّهُ يَا جَبَّارُ»(3).
ص: 83
..............................
و: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَسَيِّدُ السَّادَاتِ، وَجَبَّارُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»(1).
قولها (علیها السلام): «موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة»، بيان للنار التي يوقدها الله سبحانه وتعالى، وأنها كيف تكون في الإيلام والإحراق.
أعاذنا الله من النار بشفاعة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وأبيها وبعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين).ثم إن كلامها (علیها السلام) هذا من الأدلة الواضحة على أن ما فعلوه من أكبر الكبائر حيث الوعيد عليه بالنار الموقدة...
ص: 84
-------------------------------------------
مسألة: ظاهر كلامها (علیها السلام) هذا، وظاهر الكثير من الأدلة النقلية وصريح العقل هو: إن علم الله سبحانه وتعالى هو علم تفصيلي بالكليات والجزئيات، لا أن العلم يتعلق بالجزئيات على الوجه الكلي فقط، كما ذهب إلى ذلك جمع من الفلاسفة، وتفصيل البحث في محله(1).
قال تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (2).
وقال عزوجل: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3). وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (4).وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).
وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْوَاهُمْ وأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (6).
ص: 85
..............................
وعن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (1)؟. قال: «السر ما كتمته في نفسك، وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه»(3).
وعن العبد الصالح موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: «علم الله لا يوصف اللهمنه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله، ولا يبان الله منه، وليس بين الله وبين علمه حد»(4).
وعن أيوب بن نوح: أنه كتب إلى أبي الحسن (علیه السلام) يسأله عن الله عزوجل أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكونها، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوّن عند ما كوّن؟. فوقع (علیه السلام) بخطه: «لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء»(5). وعن حفص قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ (6)؟. قال: «علمه»(7).
ص: 86
..............................
وفي (نهج البلاغة) من خطبة له (علیه السلام): «يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَاخْتِلاَفَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ،وَتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ»(1).
مسألة: يستحب تذكير الناس خاصة الظالمين منهم بأن ما يفعلونه فهو بعين الله، فإن ذلك - بالإضافة إلى كونه حقيقة تكوينية - يوجب الردع الأكثر، كما في عكسه بالنسبة إلى الأفعال الحسنة فإنه يوجب البعث والحث الأكثر، فالله سبحانه وتعالى يسمع كل صوت ويرى كل مرئي لا بالآلات كما هو واضح، ويعلم ما في الصدور كذلك، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، سواء كان ظالماً لنفسه أم ظالماً للناس.
وعلمه لا تشوبه أدنى شائبة، فإنه علم حضوري كما قرر في محله.
قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) لما قُبضت فاطمة الزهراء (علیها السلام) ودفنها سراً وعفا على موضع قبرها، فحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فبعين الله تدفن ابنتك سراً، وتُهضم حقاً، ويُمنعإرثها»(3).
قولها (علیها السلام): «فبعين الله ما تفعلون»، أي: إن الله سبحانه وتعالى يرى سوء أفعالكم وسوف يعاقبكم عليها بأشد العقاب وكفى به رقيباً وحسيباً.
ص: 87
«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» (1)
ولعل السبب في قولها (علیها السلام): «ما تفعلون» لا (ما تقولون) مع أن أقوالهم أيضاً كانت سيئة، كاذبة وخادعة ومضللة، هو أن وقع أفعالهم كان أكثر من وقع أقوالهم، وكانت أفعالهم أساس الانحراف، وأقوالهم عاملاً مساعداً لا العكس، ويمكن القول بأعمية الفعل من القول إلا إذا قيل بأنه خلاف الظاهر.
«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2).
مسألة: يستكشف من تطبيقها (علیها السلام) الآية على القوم أمران:أولهما: إنهم ظلمة جائرون.
وثانيهما: إن لهم في الآخرة أشد العذاب، وسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
ولا يخفى التناسب بين ذكرها (علیها السلام) هذه الآية وبين آية: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(3).
ومن هنا ورد في زيارة علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ، أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ وَأَوَّلُ مَنْ غُصِبَ حَقُّهُ، صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ لَقِيتَ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، عَذَّبَ اللَّهُ قَاتِلَكَ بِأَن-ْ-وَاعِ
ص: 88
..............................
الْعَذَابِ، وَجَدَّدَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ، جِئْتُكَ عَارِفاً بِحَقِّكَ، مُسْتَبْصِراً بِشَأْنِكَ، مُعَادِياً لأَعْدَائِكَ وَمَنْ ظَلَمَكَ، أَلْقَى عَلَى ذَلِكَ رَبِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ»(1).
وفي زيارة أخرى له (علیه السلام) تقول: «وَأَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَشَاهِدُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى عِلْمِهِ، وَخَازِنُ سِرِّهِ، وَمَوْضِعُ حِكْمَتِهِ، وَأَخُو رَسُولِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ دَعْوَتَكُمْ حَقٌّ، وَكُلَّ دَاعٍ مَنْصُوبٍدُونَكُمْ بَاطِلٌ مَدْحُوضٌ، أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ، وَأَوَّلُ مَغْصُوبٍ حَقُّهُ، فَصَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ظَلَمَكَ وَتَقَدَّمَ عَلَيْكَ وَسَدَّ عَنْكَ لَعْناً كَثِيراً، يَلْعَنُهُمْ بِهِ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَكُلُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ مُمْتَحَنٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رُوحِكَ وَبَدَنِكَ»(2).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «يا علي، أنت المظلوم بعدي، من ظلمك فقد ظلمني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن جحدك فقد جحدني، ومن والاك فقد والاني، ومن عاداك فقد عاداني، ومن أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاك فقد عصاني»(3). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): « يا علي، إن الله تعالى أمرني أن أتخذك أخاً ووصياً، فأنت أخي ووصيي وخليفتي على أهلي في حياتي وبعد موتي، من اتبعك فقد تبعني، ومن تخلف عنك فقد تخلف عني، ومن كفر بك فقد كفر بي، ومن ظلمك فقد ظلمني»(4).
ص: 89
..............................
مسألة: يستحب بيان أن القوم قد ظلموا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حيث قالت (علیها السلام): «وسيعلم الذي ظلموا...».
وقد يجب ذلك، وكل من المستحب والواجب في مورده.
وإنما قال سبحانه: «سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا»(1) بصيغة الاستقبال؛ لأن علمهم بمنقلبهم يكون استقبالياً في الغالب(2) والسين لسرعة ذلك، فقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(3) بخلاف (سوف) الدالة على المستقبل البعيد على ما ذكره الأدباء وأهل اللغة.
ثم إن السرعة على أحد وجهين: إما بلحاظ قياس العمر كله إلى مجمل الماضي والمستقبل فلا يعدو العمر (الساعة) بالقياس، أو بلحاظ أنواع الحساب والعقاب الأعم من الدنيوي والأخروي، والأول منه حال في بعض صورهكما سيأتي(4).
عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: دخلت فاطمة (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو في سكرات الموت فانكبت عليه تبكي، ففتح (صلی الله علیه و آله) عينه وأفاق ثم قال (صلی الله علیه و آله): «يا بنية، أنتِ المظلومة بعدي، وأنتِ المستضعفة بعدي،فمن آذاكِ فقد
ص: 90
..............................
آذاني، ومن غاظكِ فقد غاظني، ومن سركِ فقد سرني، ومن بركِ فقد برني، ومن جفاكِ فقد جفاني، ومن وصلكِ فقد وصلني، ومن قطعكِ فقد قطعني، ومن أنصفكِ فقد أنصفني، ومن ظلمكِ فقد ظلمني؛ لأنكِ مني وأنا منك، وأنتِ بضعة مني وروحي التي بين جنبي» - ثم قال (صلی الله علیه و آله): - «إلى الله أشكو ظالميكِ من أمتي»(1).
مسألة: ينبغي تهديد الظالم بوخيمالعاقبة التي تنتظره كما صنعت الصديقة الطاهرة (علیها السلام).
وقد يجب على ما ذكرناه في البنود السابقة، وكذلك في عكسه وهو الفاعل للحسن حيث حثه بحسن العاقبة.
وفي الحديث: «إن لله سبحانه وتعالى ملكاً ينادي كل يوم قائلاً: يا فاعل الخير أكثر، ويا فاعل الشر أقصر»(2).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك، واسعَ في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك؛ فإن نفسك رهينة بعملك»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد»(4).
ص: 91
..............................
وقال (علیه السلام): «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم علىالمظلوم»(1).
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر اللعن والعقاب, والمظلوم ينتظر النصر والثواب»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «لا تنال شفاعتي ذا سلطان جائر غشوم»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ابعدوا عن الظلم، فإنه أعظم الجرائم وأكبر المآثم»(4).
وقال(علیه السلام): «ظلم المرء في الدنيا عنوان شقائه في الآخرة»(5).
وقال(علیه السلام): «هيهات أن ينجو الظالم من أليم عذاب الله وعظيم سطواته»(6).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم والظلم، فإنه يخرب قلوبكم»(7).ثم إن تهديد الظالم على أنواع، ومنها تهديده على رؤوس الأشهاد، فإنه يوجب فضحه أيضاً، كما قامت بذلك الصديقة الطاهرة (علیها السلام).
ص: 92
مسألة: يستفاد من مجموع الروايات أن المحاكم تسعة.
فقولها (علیها السلام): «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(1)، وهي آخر آية في سورة الشعراء بمعنى: إن الذين ظلموا ينقلبون من هذه الدنيا إلى الخسران والعذاب، أو المراد الأعم من الآخرة؛ لأن الإنسان يجُازى في الدنيا كما يجُازى في الآخرة، فالظالم ينقلب في الدنيا إلى سوء المنقلب، بينما المحسن ينقلب إلى حسن المنقلب، كما قال سبحانه:«إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ»(2).
وقد تحقق أن المحاكم التي يجُازى فيها الإنسان هي:
1:محكمة النفس.
2:محكمة البدن.3:محكمة الطبيعة.
4:محكمة المجتمع.
5:محكمة القضاء.
6:محكمة التاريخ.
7:محكمة القبر.
8:محكمة المحشر.
9:محكمة النار أو الجنة.
حيث يجزى المسيء في النهاية بنار جهنم.
ص: 93
..............................
وبعكس ذلك إذا كان محسناً، قال سبحانه: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفى»(1)، ذلك أن جزاء الدنيا جزاء غير أوفى، وجزاء الآخرة هو الجزاء الأوفى فقط، سواء بالنسبة إلى المحسنين أو بالنسبة إلى المسيئين.
ويمكن لمس هذه المحاكم التسعة بالنسبة إلى مغتصبي الخلافة بوضوح في بعضها، وبالتأمل في بعضها الآخر(2).
في (تفسير العياشي): عن الثمالي، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: من جحد إماماً من الله، أو ادعى إماماً من غير الله، أو زعم أن لفلان وفلان في الإسلام نصيباً»(3). وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ادعى الإمامة وليس بإمام فقد افترى على الله وعلى رسوله وعلينا»(4)
وقال أبو عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (5)، قال: «من زعم أنه إمام وليس بإمام»(6).
ص: 94
-------------------------------------------
مسألة: إنذار الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لمن غصب الخلافة ورضيبه لايختص بمن كان في المدينة آنذاك، بل يشمل الأجيال اللاحقة أيضاً في مختلف البقاع، وذلك لعموم الضمير(1) أو للملاك.
ثم إنه ليس الإنذار خاصاً بالظالم، بل كذلك كل عاص رضي به، بل الإنذار لمطلق المعصية، فإن العاصي يعرّض نفسه للعاقبة السيئة، وإن كان ظلم الغير من أشد المحرمات التي عاقبتها أسوء من ظلم الإنسان نفسه إذا ترك صلاة أو صوماً أو شرب خمراً أو ما أشبه ذلك.
أما ظلم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وإيذاؤها فأكبر الكبائر التي يترتب عليه العذاب الشديد، وقد قالت (علیها السلام): «بين يدي عذاب شديد».
مسألة: قد يكون العمل واجباً والانتظار مستحباً، وقد يكونان واجبين، وقد يقال: الانتظار إن قابله اليأس من رَوح الله وجب وإلا استحب في الجملة، فتأمل. هذا في هذا الجانب(2)..
ص: 95
وعكسه في عكسه(1).
وقد ورد في الحديث: «أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله تعالى»(2)، وهو عام يشمل كل فرج مستقبلي، سواء كان ظهور الإمام المهدي (صلوات الله عليه) - وهو أظهر المصاديق - أم غير ذلك مما ينتظره المؤمن من الفرج والخيرات، ورحمة الله ورضوانه، وما أشبه ذلك. قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «انتظروا الفرج ولاتيأسوا من روح الله، فإن أحب الأعمال إلى الله عزوجل انتظار الفرج»(3).
وروي عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنه قال:«ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أما سمعت قول العبد الصالح: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (4)»(5).
وقال علي بن الحسين (علیه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(6)
وعن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال:«تمتدالغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده. يا أبا خالد، إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان؛ لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله(صلی الله علیه و آله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً»(7).
ص: 96
..............................
مسألة: يتأكد الوجوب والاستحباب للإنذار والتبشير في من جمع (الذاتية) و(الامتداد) معاً، فإن اجتماع الجهات الذاتية والعرضية في النذير والبشير يكون سبباً لقوة التأثير، ولذلك كان الانتساب(1) هاهنا في كلامها (علیها السلام) أبلغ في التأثير، وأشد في الإنذار، وأقوى في الحجة، وأدحضلتكذيب المكذبين، فكما أنذر أبي (صلی الله علیه و آله) أنذرتكم أنا، فإن العذاب في المستقبل شديد، واللازم على الإنسان أن يتجنب تلك العقوبات التي لا طاقة له بها.
وربما يشير هذا الانتساب إلى وجه آخر، أي كما أنهم كذبوا أباها (صلی الله علیه و آله) فإنهم سيكذبونها (علیها السلام)، وكما عارضوه (صلی الله علیه و آله) سيعارضونها (علیها السلام)، وكما آذوه (صلی الله علیه و آله) سيؤذونها (علیها السلام).
مسألة: يجب الاستمرار على الطريقة التي أمر الله بها، حيث يستفاد من قولها (علیها السلام): «إنا عاملون» أنها (صلوات الله عليها) والإمام علي (علیه السلام) لم ينقطعا عن العمل، بل استمرا في عملهما للدفاع عن الإسلام والكتاب والسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارعة الظالم قدر المستطاع.
والوجوب هنا في موارده، كما أن الاستحباب في موارده أيضاً.
قولها (علیها السلام): «فاعملوا إنا عاملون» تهديد لهم أي: إنكم تعملون كما
ص: 97
..............................
يروق لكم فتعاقَبون عليها، وإنا نعمل حسب الشريعة، فنرى ماذا يصيبكم ويصيبنا؟.
قولها (علیها السلام): «وانتظروا إنا منتظرون»:
هذا أيضاً تهديد، بمعنى أنه عليكم أن تنتظروا غِبّ أعمالكم، كما ننتظر نتائج أعمالنا الصالحة. وهو اقتباس من القرآن الحكيم في سورة هود حيث قال سبحانه: «وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(1)، وفيه إشارة واضحة إلى عدم إيمانهم، كما سيأتي.
ومن غير البعيد أنها (علیها السلام) أرادت من (إنا منتظرون) كل مصاديق الانتظار(2).
مسألة: يستفاد من استشهاد الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بهذه الآية أنها (علیها السلام) كانت تراهم غيرمؤمنين، وهم كذلك دون ريب، إضافة إلى ما سيأتي من كاشفية العمل عن الشاكلة.
فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر»(3).
وقد سبق أن الكفر هنا كفر عملي.
ص: 98
..............................
وقال أبو جعفر (علیه السلام): «من ادعى مقامنا - يعني: الإمامة - فهو كافر، أو قال: مشرك»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من نازع علياً الخلافة بعدي فهو كافر»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من ناصب علياً للخلافة بعدي فهو كافر»(3).
وفي الروايات عبر عنهما بالأعرابيان، قال العلامة المجلسي (رحمة الله): (وإنما سماهما بذلك لأنهمالم يؤمنا قط) (4). وعن الثمالي، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: قلت له: أسألك عن فلان وفلان؟. قال: «فعليهما لعنة الله بلعناته كلها، ماتا والله وهما كافران مشركان بالله العظيم»(5).
وفي (تفسير القمي): في قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6)، قال: يحملون آثامهم، يعني: الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وهو قول الصادق (علیه السلام):
«واللّه ما أهريقت محجمة من دم، ولا قرع عصا بعصا، ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حله، إلا ووزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العاملين شي ء»(7).
ص: 99
..............................
وفي تفسير قوله تعالى: « يَوْمَتُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ (1)، فإنها كناية عن الذين غصبوا آل محمد حقهم يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ (2)، يعني: في أمير المؤمنين (علیه السلام)، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (3)، وهما رجلان، والسادة والكبراء هما أول من بدأ بظلمهم وغصبهم، وقوله: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ أي: طريق الجنة، والسبيل أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم يقولون: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (4)»(5).
وفي تفسير قوله تعالى: « الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (6)، نزلت في الذين ارتدوا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وغصبوا أهل بيته حقهم، وصدوا عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، وعن ولاية الأئمة (علیهم السلام) أَضَلَّأَعْمَالَهُمْ أي: أبطل ما كان تقدم منهم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الجهاد والنصرة»(7).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «في قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبَارِهِمْ (8) عن الإيمان، بتركهم ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)»(9).
ص: 100
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «في قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ (1)يعني أمير المؤمنين(علیه السلام) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ (2) الأول والثاني والثالث»(3). قال العلامة المجلسي (رحمة الله): (تفسير الإيمان بأمير المؤمنين (علیه السلام) لكونولايته (علیه السلام) من أصوله وكماله فيه، وكونه مروجه ومؤسسه ومبينه غير بعيد، وكذا التعبير عن الثلاثة بالثلاث لكونهم أصلها ومنشأها ومنبتها وكمالها فيهم، وكونهم سبباً لصدورها عن الناس إلى يوم القيامة)(4).
مسألة: العمل يكشف عن شاكلة الإنسان(5) عادة، كما قال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً»(6)، ومن ملاكات الجزاء عقاباً وثواباً هو الشاكلة والنية، وفرعهما العمل.
وإنما ينوي كل ما ناسب طينته ويقتضيه جبلته ثم يعمل وفق شاكلته.
والشاكلة: الطريقة، وشاكلة الإنسان: شكله وناحيته وطريقته.
وورد في تفسير الشاكلة: النية، وذلك إيذان بأن النية تابعة لحالة الإنسان وطريقته.
ص: 101
..............................
قال في (مجمع البيان): (أي كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها)(1).
وعن أبي هاشم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخلود في الجنة والنار؟. فقال: «إنما خلد أهل النار في النار؛ لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة؛ لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء - ثم تلا قوله -: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (2) قال: على نيته»(3).
وفي التفسير: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (4) قال: على نيته فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (5)، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال:«إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يديه فيكون هو الذي يتولى حسابه،فيعرض عليه عمله فينظر في صحيفته، فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه وترتعش فرائصه وتفزع نفسه، ثم يرى حسناته فتقر عينه وتسر نفسه وتفرح روحه، ثم ينظر إلى ما أعطاه الله من الثواب فيشتد فرحه ثم يقول الله للملائكة: هلموا الصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، - قال - فيقرؤونها ثم يقولون: وعزتك إنك لتعلم أنا لم نعمل منها شيئاً. فيقول: صدقتم نويتموها فكتبناها لكم ثم يثابون عليها»(6).
ص: 102
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (1)، قال: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة - ثم قال: - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزوجل، والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل - ثم تلا قوله عزوجل -: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُعَلَى شَاكِلَتِهِ (2)، يعني: على نيته»(3).
وقال الإمام الجواد (علیه السلام): «فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق أشكال ف- كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (4)، والناس إخوان فمن كانت إخوته في غير ذات الله فإنها تحوز عداوة، وذلك قوله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (5)»(6).
ص: 103
-------------------------------------------
مسألة: من الراجح ذكر اسم الخصم أو كنيته أو خصوصياته أو كلها حتى لا يلتبس الأمر فيما بعد، ويستثنى من ذلك موارد التقية وما أشبه.
قال تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (1).
وقال سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (2).
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (3).
وقال سبحانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَإِنَّهُ طَغَى (4).
وقال تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (5).
وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (6).
ص: 104
..............................
وقال تعالى: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (1).
ومن المعلوم أن هذه الكلمة وهي: (فأجابها أبو بكر ..الخ) ليست من تعبير الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام)، بل من الراوي، فيستند في ذلك إلى كون راوي الخطبة هو أحد المعصومين (علیهم السلام) - على بعض الأسناد - وكذلك السيدة زينب (علیها السلام) وذلك كاف في الحجية واستنباط الحكم الشرعي منها (2)، إضافة إلى الاعتضاد بالقرائن العامة.
ص: 105
-------------------------------------------
وقال: يا بنت رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً.
إن عزوناه وجدناه أباكِ دون النساء، وأخا إلْفَكِ(1) دون الأخلاء(2)، آثره(3) على كل حميم(4)، وساعده في كل أمر جسيم(5).
مقتضى السياق عود الضمير إلى ما عاد ضمير الفقرة السابقة إليه، إي: إن الرسول (صلی الله علیه و آله) آثره - أي علياً (علیه السلام) -، والرسول (صلی الله علیه و آله) ساعده في كل أمر جسيم، وهذه شهادة كبرى من معارضي الإمام (علیه السلام).
وربما يقال: بعود الضمير إلى الإمام (علیه السلام)، أي: إن الإمام (علیه السلام) ساعد الرسول (صلی الله علیه و آله) في كل أمر جسيم.وهذه الفقرات هي اعترافات من خصم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بفضلها وفضل بعلها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام).
ص: 106
..............................
قال الشاعر:
ومليحة شهدت لها ضراتها *** والحسن ما شهدت به الضراء
ومناقب شهد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء
وقال آخر:
شهد الأنام بفضله حتى العدا *** والفضل ما شهدت به الأعداء
تلألأت أنواره لذوي النهى *** وتزحزحت عن غيها الظلماء
وقال ثالث:
يروي مناقبهم لنا أعداؤهم *** لا فضل إلا ما رواه حسود
وإذا رواها مبغضوهم لم يكن *** للعالمين على الولاة محيد
ص: 107
-------------------------------------------
لا يحبكم إلا سعيد(1)، ولا يبغضكم إلا شقي بعيد(2)، فأنتم عترة رسول الله الطيبون، والخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا.
يستظهر من هذه العبارات: (لا يحبكم إلا سعيد ..) أن هذه الأمور كانت من المسلّمات عند عامة المسلمين، وإلا لما أطلقه دون أن يشفعه بدليل، بل لما ذكره أصلاً، فالكل يعلم بأن السعيد هو الذي يحب العترة الطاهرة (علیهم السلام)، وأن من أبغضهم فهو شقي بعيد، وأنهم (علیهم السلام) العترة الطيبة والخيرة المنتجبة، وهم أدلة الناس على الخير وقادتهم إلى الجنة.
فالذين غصبوا الخلافة وفدك كانوا على علمٍ تام بمكانة علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) ومع ذلك فعلوا ما فعلوا من الظلم والعدوان.
مسألة: (المعرفة والعلم) مما يتنجز به التكليف، ودرجات المعرفة والعلم مما يزيد في الجزاء والعقاب،فكلما ازدادت معرفة الإنسان بمكانة أهل البيت (علیهم السلام) كلما كان ظلمه لهم أقبح، وكلما كان الجزاء أشد، فكيف بمن يعرف أنهم (الخيرة المنتجبون)! وأنهم (على الخير أدلتنا)! وأنهم قادة الناس إلى الجنة! فيخالفهم ويغصب الخلافة منهم؟!.
ص: 108
..............................
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الثواب والجنة، فإن من الملاكات فيهما: العلم والمعرفة.
قال تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقابِ (1).
وفي (تفسير القمي)، قال: قوله: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ و هم الأئمة (علیهم السلام) إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أصحاب الأنبياء الذين تحزبوا وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يعنيك يقتلوه وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ أي: خاصموا لِيُدْحِضُوا بِهِالْحَقَّ (2) أي: يبطلوه و يدفعوه(3).
ص: 109
-------------------------------------------
وأنت يا خيرة النساء وابنة خيرة الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك.
والله ما عدوت(1) رأي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا عملت إلا بإذنه، والرائد(2) لا يكذب أهله، وإني أشهد الله وكفى به شهيداً، أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول(3): (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة(4)، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر(5) بعدنا أن يحكم فيه بحكمه).وقد جعلنا ما حاولته في الكراع(6) والسلاح يقاتل بها المسلون ويجاهدون الكفار ويجادلون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم أنفرد به وحدي ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك،
ص: 110
لاتُزوى عنك ولا تدخّر دونك(1). وإنكِ أنتِ سيدة أمة أبيكِ، والشجرة الطيبة لبنيكِ، لا يُدفع مالكِ من فضلكِ، ولا يوضع من فرعكِ وأصلكِ(2)، حكمكِ نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك (صلی الله علیه و آله)؟.
مسألة: المغالطة محرمة فيما إذا استلزمت إضاعة الحق وتبرير الظلم والتمويه على الناس.
ومن أنواع المغالطة: ذكر كلي أجنبي لا يرتبط بالمقام وتطبيقه على مصداق كلي آخر، ومنه الانتقال من مقدم إلى تالٍ لا تلازم بينهما.
وهذا ما صنعه ابن أبي قحافة.. حيث إن كون الرسول (صلی الله علیه و آله) بالمؤمنين عطوفاً كريماً ... الخ، لا يستلزم مصادرة حقه هو، فكيف يستلزم مصادرة حق ابنته الصديقة؟، وكونه (صلی الله علیه و آله) عطوفاً كريماً كلي له مصاديقه وليس من مصاديقه إلغاء حكم الله في الإرث أو النحلة كما هو واضح(3).
ثم إن كونه (صلی الله علیه و آله) عطوفاً كريماً على فرض انطباقه على المقام لا ربط له
ص: 111
..............................
بأن يبذل غيره مما ملكه(1) وإن حاولتبرير ذلك في كلامه اللاحق.
كما لا ربط لهذا الكلام بغصب الخلافة ومخالفة النص الوارد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تعيين أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وصياً وخليفة من بعده.
قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (2).
وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (3). وقال تعالى: إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً»(4).
وفي (تفسير القمي): ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ولاية علي (علیه السلام) فَإِنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيها أَبَداً (5)، قال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي، أنت قسيم النار تقول: هذا لي وهذا لكِ». قالت قريش: فمتىيكون ما تعدنا يا محمد من أمر علي والنار؟. فأنزل الله حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ يعني: الموت والقيامة فَسَيَعْلَمُونَ يعني: فلاناً وفلاناً وفلاناً ومعاوية وعمرو بن العاص وأصحاب الضغائن من قريش مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (6)(7).
ص: 112
..............................
مسألة: يجب فضح أساليب الطغاة والظالمين، ومنها أنواع مكرهم وحيلهم وخداعهم، ومن أنواع المكر والتدليس: المجاراة والمسايرة وما يسمى اليوم بسياسة ركوب الموج.
فقد وجد ابن أبي قحافة أن أفضل طريقة للسيطرة على الوضع هو أن يجاري سيدة النساء (علیها السلام) في أسس كلامها ليستثمره في تكريس نتيجة معاكسة للحق والحقيقة، وليأخذ زمام الأمر بيده، فبدأ بالثناء على الرسول (صلی الله علیه و آله) وثنى بمدح الإمام علي (علیه السلام) وثلّث بذكر مزايا الصديقة الزهراء (علیها السلام)والعترة الطاهرة (علیهم السلام). والحيلة في ذلك أن يجده الناس شخصاً منصفاً معتدلاً حكيماً، فلايُكشف كيده في كذبه بتلك الرواية المجعولة وفي قضية فدك وغصب الخلافة!.
قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (1).
وقال سبحانه: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (2).
وبعبارة أخرى إن وصفه الرسول (صلی الله علیه و آله) ب- (عطوفاً كريما..) و(على الكافرين عذاباً أليما..) كان تمهيداً لما أراد تثبيته بعده من: (وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح..).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإني سمعت جبرئيل (علیه السلام) يقول: إن المكر والخديعة في النار»(3).
ص: 113
..............................
وعن الرضا (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «ليس منا من غش مسلماَأو ضره أو ماكره»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار، ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخل النار»(2).
وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: «يا أيها الناس، لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة، ولكل فجرة كفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار»(3).
مسألة: الإقرار بالحق في القضايا الاعتقادية والشرعية واجب في الجملة وربما كان مستحباً، كل في مورده. ومنه ما ورد من التشهد بالشهادات الثلاث وسائر المعتقدات الحقة، وهو كثير في الأدعية والزيارات والصلوات وغيرها.
ثم إن للإقرار بالحق من أهل الباطلومن يعمل في الخندق المعارض للحق، ومن يقود الجبهة المقابلة للحق، أسباباً عديدة، نشير إلى بعضها:
منها: الضغط النفسي، فإن من يعادي الحق - وهو يعرفه - يعاني من آلام نفسية شديدة قد تجد بعض المتنفس لها عبر الإقرار بالحق، وقد يكون من ذلك
ص: 114
..............................
ما قاله عمر: (كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال)(1)..
و: (لولا علي لهلك عمر)(2)..
و: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(3).
وهكذا بالنسبة إلى إقرار معاويةبفضل أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) (4).
ص: 115
ص: 118
..............................
ولذلك أيضاً - ولغيره - كانت تصريحات ابن أبي قحافة هاهنا حيث قال: (لا يحبكم إلا كل سعيد، ولا يبغضكم إلا كل شقي بعيد..).
ومنها: الضغط الجماهيري والرأي العام الضاغط.
ص: 119
..............................
ومنها: ما سبق من المكر والتدليس.
ومنها: سبق الحق على لسانه من دون إرادته، وذلك لأن قلبه يعلم بالحق وإن جحده وخالفه عناداً، فربما سبق اللسان الإرادة وطابق اللسان ما علمه في قلبه، وذلك كاعترافات بعض المشركين بعظمة القرآن وصدق النبي (صلی الله علیه و آله) وما أشبه.
ومنها: غير ذلك.
مسألة: ربما ينبغي للمظلوم أن يسمح للظالم بإدلاء ما يزعم أنه حجته، وذلك إذا كان كلامه فضحاً له وإظهاراً لإتمام حجة المظلوم على الظالم.
ويمكن أن يستدل على هذه الكبرى ببعض الإطلاقات وما أشبه.
أما الاستناد فيه إلى فسحها (علیها السلام) المجال لابن أبي قحافة حتى يتكلم بما يشاء، فربما يورد عليه بأنه لا يتم ذلك إلا على تقدير كونه فعلاً(1) والقول بصحة التمسك بما يعم القول والفعل، فتأمل(2).وريما يقال: بأنه غير دال، لأن الفعل لا دلالة ولا جهة له، إذ قد يكون السبب عدم القدرة على المنع(3)، أو لدفع التهمة(4)، أو لإتمام الحجة، أو لغير ذلك، فلا يستدل بما هو أعم من المدعى.
ص: 120
..............................
ومن مصاديق هذه المسألة(1): ما ورد في كتاب الاحتجاج(2) للعلامة الطبرسي (رحمة الله) حيث كان أهل الباطل يذكرون آراءهم وما يزعمونه من أدلتها، ثم كان المعصوم (علیه السلام) يتصدى للجواب.
مسألة: يجوز في الجملة - كما في مورد القضاء والتصدي للباطل - سماع واستماع الباطل، حيث استمعت الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) إلى كلام ابن أبي قحافة.وإنما قلنا في الجملة، لأنه قد لا يجوز استماع الباطل أو سماعه، فيما إذا تضمن ترويجاً للباطل أو التأثر به أو ما أشبه، قال سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (3).
وقال تعالى:«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ»(4).
وفي (الفقه): أن حضور مجلس الحرام حرام إلا في موارد الاستثناء. نعم قد يكون هنالك جهة مرجحة أو مجوّزة على تفصيل مذكور في محله.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ثم خصّ كل جارحة من جوارحك بفرض
ص: 121
..............................
ونص عليها، ففرض على السمع أن لا تُصغي به إلى المعاصي»(1).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلساً فيه من يصف لسانه كذباً في فتياه، ومجلساً ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رث، ومجلساً فيه من يصد عنا وأنت تعلم»(2). وعن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في حديث قال: «ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلا حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين، فإن تكلموا تكلم الشياطين بنحو كلامهم، وإذا ضحكوا ضحكوا معهم، وإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم، فمن ابتلي من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولاجليسه؛ فإن غضب الله لا يقوم له شيء ولعنته لا يردها شيء - ثم قال(علیه السلام) - فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة»(3).
وعن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال: «إذا ابتليت بأهل النصب ومجالستهم فكن كأنك على الرضف حتى تقوم، فإن الله يمقتهم ويلعنهم، فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم فإن سخط اللهينزل هناك عليهم»(4).
وعن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «من جالس لنا عائباً، أو مدح لنا قالياً، أو واصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(5).
ص: 122
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يُسبّ فيه إمام أو يُغتاب فيه مسلم، إن الله عزوجل يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (1)»(2).
مسألة: قد يكون من الراجح عدم قطعالكلام حتى إذا كان المتكلم على باطل، بل يؤخر الجواب إلى ما بعد إتمام كلامه فيرد عليه.
فإن من الآداب الرفيعة أن لا يقطع الإنسان كلام غيره، إلا إذا كانت هناك جهة ترجح القطع، حيث توجب عدم الاستماع، وقطع الكلام، وحينئذ يكون استثناءً، وإلا فالأصل هو ما ذكرناه.
عن الحلبي رفعه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نجاة المؤمن حفظ لسانه»(3).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «كان أبو ذر رحمه الله يقول: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك»(4).
وجاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، أوصني؟. فقال: «احفظ
ص: 123
..............................
لسانك». قال: يا رسول الله، أوصني؟. قال: «احفظ لسانك». قال: يا رسول الله،أوصني؟. قال: «احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»(1).
وعن عثمان بن عيسى قال: حضرت أبا الحسن (صلوات الله عليه) وقال له رجل: أوصني؟. فقال: «احفظ لسانك تعز، ولا تمكن الناس من قيادك فتذل رقبتك»(2).
وعن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «لايزال الرجل المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(3).
ثم إن هذه الكلمات والاعترافات تكشف - مضافاً إلى القرائن الأخرى - عن مسلّمية مضامينها عند عامة المسلمين، مثل: (آثره على كل حميم، ساعده في كل أمر جسيم، على الخير أدلتنا، إلى الجنة مسالكنا)، حيث القرائن المقامية ويضاف عليها سائر الأدلة، فهي تدل على مطابقة مضمونها للواقع واعتراف الخصم بها ثم العناد في تركها ومخالفتها.
ثم إنه يرد على استدلال ابن أبي قحافة بما نسبه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) من قوله: (نحن معاشر الأنبياء ...) أمور:
منها: إن قرائن الجعل تحف به، فإنهم كانوا في مقام غصب فدك وكان
ص: 124
..............................
خصمهم الصديقة الزهراء (علیها السلام) فاختلقوا حديثاً للتمويه على الناس، مضافاً إلى أن ذيلها واضح الجعل لجهات منها البون الأدبي الشاسع بينه وبين ما قبله.
ومنها: إن ابن أبي قحافة كان هو المدعي وهو الشاهد وهو القاضي، فهو الذي ادعى سماع الحديث وهو الشاهد على السماع، وهو القاضي وفق الحديث في موضوع غصب فدك.
ومنها: إن (لا نورّث) على فرض الصدور، هو بمعنى أنه ليس من شأننا أن نورث، لا فعلية عدم التوريث، كما لو قال التاجر: (إننا معاشر التجار لاندرّس الفقه) فإن معناه ليس من شأننا تدريس الفقه ولا يعني عدم تدريس أحدهم للفقه أبداً.
ومنها: ما ذكرته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من معارضة هذا الحديث بهذا المعنى لصريح الكتاب العزيز.ومنها: عدم استقامة معنى الحديث، إذ الكتاب والحكمة والنبوة والعلم ليس مما يورّث، إذ لا يمكن انتقال العلم والنبوة بالإرث بل لم يدّع أحد ذلك.
ومنها: إنه على فرض صحة الحديث وذيله، فإن (ولي الأمر)، (وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا) هو الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) بدليل الآيات وصريح الروايات.
ومنها: غير ذلك(1).
ص: 125
..............................
هل كلامه هذا: (حكمكِ نافذ فيماملكت يداي) يعد اعترافاً من أبي بكر بولايتها (علیها السلام) التشريعية عليه أو على ممتلكاته، أو ليس إلا تفويضاً - بزعمه - منطلقاً من مكره وخداعه؟. وكذلك قوله قبل ذلك: (وهذه حالي ومالي هي لكِ وبين يديكِ) - إذ ظاهر اللام الملكية وظاهر القرائن الحالية التفويض المكري - احتمالان.
قوله: (وقد جعلنا ما حاولته) يرد عليه أنه «لا يُطاع الله من حيث يُعصى» كما ورد في الحديث الشريف(1)، و إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كما في الآية الكريمة(2)، فكيف يجعل ما قام بغصبه في الكراع والسلاح.
ثم إن تعبيره ب- (حاولته) يشعر بالتعريض بها (علیها السلام) بأنها تطلبه لأمر شخصي، وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) هم الذين آثروا على أنفسهم غيرهم ولو كان على ما بهم من خصاصة، قال تعالى: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (3).
ص: 126
..............................
وقال عزوجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1).
مضافاً إلى عصمتهم (علیهم السلام) وطهارتهم من كل رجس حيث قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).
قال أمير المؤمنين في حديث المناشدة: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يوم بدر بيده فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطه ويقول: ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه وصدقوه فإنه وليكم، غيري؟». قالوا: لا. قال: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد أنزلت فيه هذه الآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3) غيري؟». قالوا: لا(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْوَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (5)،قال:«بينا علي (علیه السلام) عند فاطمة (علیها السلام) إذ قالت له:يا علي، اذهب إلى أبي فابغنا منه شيئاً. فقال: نعم.
فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعطاه ديناراً، وقال له: يا علي، اذهب فابتع به لأهلك طعاماً. فخرج من عنده فلقيه المقداد بن الأسود (رحمه الله) وقاما ما شاء الله أن يقوما، وذكر له حاجته فأعطاه الدينار وانطلق إلى المسجد فوضع رأسه فنام.
ص: 127
..............................
فانتظره رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يأتِ ثم انتظره فلم يأت، فخرج يدور في المسجد فإذا هو بعلي (علیه السلام) نائم في المسجد، فحركه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقعد فقال له: يا علي، ما صنعت؟. فقال: يا رسول الله، خرجت من عندك فلقيني المقداد بن الأسود فذكر لي ما شاء الله أن يذكر فأعطيته الدينار.
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما إن جبرائيل قد أنبأني بذلك وقد أنزل الله فيك كتاباً: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّنَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1)»(2).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: « كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالساً ذات يوم وأصحابه جلوس حوله، فجاء علي (علیه السلام) وعليه سمل ثوب منخرق عن بعض جسده، فجلس قريباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنظر إليه ساعة، ثم قرأ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3)، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): أما إنك رأس الذين نزلت فيهم هذه الآية وسيدهم وإمامهم، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أين حلتك التي كسوتكها يا علي؟. فقال: يا رسول الله، إن بعض أصحابك أتاني يشكو عراه وعرى أهل بيته، فرحمته فآثرته بها على نفسي، وعرفت أن الله سيكسوني خيراً منها. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): صدقت أما إن جبرئيل قد أتاني يحدثني أن الله اتخذ لك مكانها في الجنة حلة خضراء من إستبرق، وصنفتها من ياقوت وزبرجد، فنعم الجواز جواز ربكبسخاوة نفسك، وصبرك على سملتك هذه المنخرقة،
ص: 128
..............................
فأبشر يا علي. فانصرف علي (علیه السلام) فرحاً مستبشراً بما أخبره به رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(1). وفي البحار: (إنه جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء. فقال (صلی الله علیه و آله): «من لهذا الرجل الليلة؟». فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أنا يا رسول الله». فأتى فاطمة (علیها السلام) وسألها: «ما عندكِ يا بنت رسول الله؟». فقالت: «ما عندنا إلا قوت الصبية لكنا نؤثر ضيفنا به». فقال علي (علیه السلام): «يا بنت محمد (صلی الله علیه و آله) نومي الصبية وأطفئي المصباح». وجعلا يمضغان بألسنتهما، فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجد الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلی الله علیه و آله)، فلما سلم النبي (صلی الله علیه و آله) من صلاته نظر إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) وبكى بكاء شديداً، وقال: «يا أمير المؤمنين، لقد عجب الرب من فعلكم البارحة اقرأ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أي مجاعة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (2)(3).
قول ابن أبي قحافة: (وذلك بإجماع...) محاولة ماكرة منه لتأليب المسلمين ضد ما قالته الصديقة الطاهرة (علیها السلام)، ولإيقاع المواجهة بينها (علیها السلام) وبين المسلمين. ويرد على ادعائه الإجماع النقاش صغرى وكبرى.
أما صغرى فإن الإجماع لم يتحقق أبداً لوجوه:
ص: 129
..............................
الأول: إن مسلمي المدينة كانوا الأقلية بالقياس إلى مسلمي سائر البلاد الإسلامية(1). الثاني: إن مسلمي المدينةلم يشهدوا بأجمعهم تلك القضية.
الثالث: إن من شهد منهم القضية انقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم معارض وهم أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسلمان وعمار ومقداد وأبو ذر وغيرهم من خيار أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقسم ساكت خوفاً أو طمعاً، وقسم مؤيد، فقد ظهر أن من وافق أبا بكر على دعواه حول فدك كانوا الأقلية من الأقلية.
وأما كبرى: فإن هذا الإجماع على فرض تحققه ليس بحجة، إذ هو معارض لصريح الكتاب، وهذا ما أشارت إليه الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فيما سيأتي من كلامها، ومن الواضح أن حجية الإجماع باعتباره كاشفاً عن الكتاب والسنة فلو عارضهما بالصراحة كان ساقطاً عن الاعتبار بالبداهة.
لقد حكم ابن أبي قحافة على نفسه بنفسه، وأقر بجعل هذا الحديث وبطلان موقفه قبل إجابتها وبعد الإجابة أيضاً، إذ قد أقر بصدقها (علیها السلام) بقوله: (وأنتِ يا خيرة النساء، صادقة في قولكِ..)، ثم بعد إجابتها (علیها السلام) صرّح بصدقها حيث قال: (صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته، أنتِ ... عين الحجة، لا أبعد صوابكِ ولا أنكر خطابكِ)، وهي (علیها السلام) قد صرحت (علیهاالسلام) بعدم صحة رواية (إنا معاشر الأنبياء..بذيلها).
ولا يستطيع مدافع عنه أن يقول: إنه كان في هذه التصريحات كاذباً، ولو دافع بذلك لكان هروباً من المطر إلى الميزاب كما لا يخفى.
ص: 130
-------------------------------------------
فقالت (علیها السلام): سبحان الله ما كان أبي رسول الله (علیها السلام) عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً!
مسألة: يستحب - وقد يجب - تسبيح الله تعالى، كل في مورده، ومن موارد الوجوب: التسبيحات الواجبة في الصلاة كما في أذكار الركوع والسجود، والركعات الأخيرة من الثلاثية والرباعية على نحو الوجوب التعييني أو التخييري.
و(سبحان الله) بمعنى: أسبح الله تسبيحاً، والتسبيح هو التنزيه والتبرئة من النقائص والعيوب، وربما يقال: بأن (سبحان الله) إشارة إلى الصفات السلبية، و(الحمد لله) إشارة إلى الصفات الثبوتية. وكثيراً ما يستعمل (سبحان الله) في مقام الذكر تعجباً، وهو المراد به في الخطبة الشريفة.
قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).
وعن هشام الجواليقي قال:سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: سُبْحَانَ اللَّهِ (2) ما يُعنى به؟. قال: «تنزيهه»(3).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال:«إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مر برجل يغرس غرساً في
ص: 131
..............................
حائط له فوقف عليه، فقال له: ألا أدلك على غرس أثبت أصلاً وأسرع إيتاءً وأطيب ثمراً وأبقى؟. قال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله. فقال: إذا أصبحت وأمسيت فقل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"، فإن لك بذلك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة، وهن من الباقيات الصالحات - قال: - فقال الرجل: أشهدك يا رسول الله أن حائطي هذه صدقة مقبوضة على فقراء المسلمين من أهل الصدقة. فأنزل الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (1)»(2).وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «ما من عبد يقول إذا أصبح قبل طلوع الشمس: (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيراً، لاَ شَرِيكَ له، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ)، إلا ابتدرهن ملك وجعلهن في جوف جناحه وصعد بهن إلى السماء الدنيا فتقول الملائكة: ما معك؟. فيقول: معي كلمات قالهن رجل من المؤمنين وهي كذا وكذا. فيقولون: رحم الله من قال هؤلاء الكلمات وغفر له - قال: - وكلّما مر بسماء قال لأهلها مثل ذلك. فيقولون: رحم الله من قال هؤلاء الكلمات وغفر له، حتى ينتهي بهن إلى حملة العرش فيقول لهم: إن معي كلمات تكلم بهن رجل من المؤمنين وهي كذا وكذا. فيقولون: رحم الله هذا العبد وغفر له، انطلق بهن إلى حفظة كنوز مقالة المؤمنين، فإن هؤلاء كلمات الكنوز حتى تكتبهن في ديوان الكنوز»(3).
ص: 132
..............................
مسألة: يجب التصدي لأكاذيب الظالم وشبهاته التي يلقيها على الناس بالإجابة، ويلزم الانتقال من صرف التكذيب إلى الاستدلال فيما إذا لم يكف مجرد الرد - كما صنعت الصديقة الطاهرة (علیها السلام)، وينبغي الإعداد المسبق للإجابة المقنعة لمن لم يكن حاضر البديهة، أما المعصوم (علیه السلام) فعلمه لدنيّ كما هو واضح.
والوجوب فيما إذا كان عدم الجواب الإجمالي أو التفصيلي سبباً لوقوع الناس في اللبس والاشتباه، أو كان الجواب تصدياً للبدعة، أو شبه ذلك.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، كما ينفي الكير خبث الحديد»(2).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «صعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)المنبر فتغيرت وجنتاه والتمع لونه، ثم أقبل بوجهه فقال (صلی الله علیه و آله):يا معشر المسلمين، إني إنما بعثت أنا والساعة كهاتين - قال (علیه السلام):ثم ضم (صلی الله علیه و آله) السباحتين - ثم قال:يا معشر المسلمين، إن أفضل الهدي هدي محمد (صلی الله علیه و آله)، وخير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، إلا وكل بدعة ضلالة، ألا وكل ضلالة ففي النار»(3).
ص: 133
..............................
وعن سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) قال: خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: «معاشر الناس، إني راحل عنكم عن قريب، ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً، وإياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة وأهلها في النار»(1).
وعن الرضا (علیه السلام) أنه قال: «من ذكر عنده الصوفية ولم ينكرهم بلسانه وقلبه فليس منا، ومن أنكرهم فكأنما جاهد الكفار بين يدي رسول الله(صلی الله علیه و آله)»(2).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «من رد على صاحب بدعة بدعته فهو في سبيل الله تعالى»(3).
مسألة: يجب دفع التهمة عن المؤمن، ويتأكد وجوب الدفع في التهم والافتراءات إذا كانت موجهة للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) ومنها المفتريات من الأحاديث.
والتأكد لكلتا الجهتين الذاتية والطريقية، لأن(4) فعلهم وقولهم وتقريرهم (علیهم السلام) حجة، فإذا لم يدفع عنهم افتراء المفترين ولم يبين تلك الروايات المخترعة صارت تلك المفتريات من الدين، وذلك بدعة محرمة يجب ردعها.
ص: 134
..............................
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«لا تكذبوا عليّّ؛ فإنه من كذب عليَّ متعمداً يلج النار»(1).
وقال أبو الحسن موسى (علیه السلام): «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، ملعون ملعون من اتهم أخاه، ملعون ملعون من غش أخاه، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه، ملعون ملعون من احتجب عن أخيه، ملعون ملعون من اغتاب أخاه»(2).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث: «أحب الخلق إلى الله أطوعهم لله، وأبغض الخلق إلى الله من اتهم الله»(4).
ومن الواضح أن الافتراء على الرسول (صلی الله علیه و آله) افتراء على الله، لأنه (صلی الله علیه و آله) ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَىاللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (5).
وقال سبحانه: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لايَعْقِلُونَ (6). وقال تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (7).
ص: 135
..............................
وفي تفسير قوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ (1)، «هم هؤلاء الثلاثة»(2).
مسألة: يجب الدفاع عن المؤمن، والدفاع أعم من الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه، والعرض أعم من أمثال التقوّل عليه.
وما سبق من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) يعد من مصاديقه حيثالدفاع عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من افتراء المفترين كما لا يخفى، ودفاعها (علیها السلام) هاهنا كان عن العرض بالمعنى الأعم، وعن المال أيضاً، وقبلهما عن: الشريعة وأحكام الله عزوجل، وعن ولاية أمير المؤمنين (علیها السلام) التي بها كمل الدين وتمت النعمة ورضي الله الإسلام لنا ديناً، حيث قال عزوجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً (3).
ثم إن الذب عن حريم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو ذب عن حريم الله عزوجل.
قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رحمة الله) في علي (علیه السلام): «يا أبا ذر، هذا الإمام الأزهر، ورمح الله الأطول، وباب الله الأكبر، فمن أراد الله فليدخل الباب. يا أبا ذر، هذا القائم بقسط الله، والذاب عن حريم الله، والناصر لدين الله، وحجة الله على خلقه»(4).
ص: 136
..............................
مسألة: الكذب حرام، والكذب على المؤمن أشد حرمة، وعلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) أشد وأشد، هذا في الشؤون العادية فكيف بالأحكام الشرعية، وكيف بأصل من أصول الدين وهي الخلافة والإمامة.
وقد كذب خصمها (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسألة شرعية خطيرة، وهي الإرث، كما كذب - ضمناً - على كل الأنبياء (علیهم السلام) بدعواه عدم توريثهم.
ثم إن الكذب قد يسمعه شخص فينخدع به، وقد يسمعه الألوف فينخدعون، والعقوبة على الأخير أشد بعدد من ضل منذ ذلك الزمن وإلى يوم القيامة. حيث قال (صلی الله علیه و آله) : «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يا بن مسعود إياك أن تسن سنة بدعة، فإن العبد إذا سن سنة سيئة لحقه وزرها ووزر من عمل بها»(2).
وقال أمير المؤمنين علي (صلوات اللهعليه) وهو في الرحبة جالس: «انتدبوا»، وهو على المسير من السواد، فانتدبوا نحو من مائة، فقال: «ورب السماء ورب الأرض لقد حدثني خليلي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن الأمة ستغدر بي من بعده عهداً معهوداً وقضاءً مقضياً، وقد خاب من افترى»(3).
ص: 137
..............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي، من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار»(1). وقال (صلی الله علیه و آله): «من كذب عليَّ متعمداً، أو ردّ شيئاً أمرت به، فليتبوأ بيتاً في جهنم»(2).
وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «يا أخا أهل الشام اسمع حديثنا ولا تكذب علينا، فإنه من كذب علينا في شي ء فقد كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد كذب على الله، ومن كذب على الله عذبه اللهعزوجل»(3).
وفي (تفسير القمي): « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (4) يعني: أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن غصبه حقه، ثم ذكر أيضاً أعداء آل محمد ومن كذب على الله وعلى رسوله وادعى ما لم يكن له فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ (5) يعني: بما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحق وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثم ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ يعني: أمير المؤمنين (علیه السلام) أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (6)»(7).
ص: 138
..............................
مسألة: التهمة تنقسم إلى بسيطة ومركبة. والإثم في المركبة مركب.
وقد كانت التهمة المنسوبة للرسول (صلی الله علیه و آله)(1) مركبة(2) فكان الإثم والعقوبة فيها كذلك.
قولها (علیها السلام): «عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً». الفرق بين الصدف عن كتاب الله وبين مخالفة أحكامه، أن الأول لا يعمل بكتاب الله بينما الثاني يعمل بخلاف ما أمر الله به، فالأول - مثلاً - : لا يصلي، والثاني: يصلي بلا وضوء أو باتجاه الصنم.
والأول مثلاً: كمن لا يلتزم ولا يعمل بمقتضى الأخوة الإسلامية، والثاني: كمن يبرمج ويخطط للقضاء عليها. ومصداق كلا الأمرين دعواه ونسبته تلك الرواية للرسول (صلی الله علیه و آله) فإن (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث) مصداق للأول(3)،و(ما كان لنا من طعمة فلولي الأمر..) مصداق للثاني.
هذا وقد يراد بالمخالفة الأعم من الصدف عن الشيء(4)، وقد يراد بالصادف الأعم(5).
ص: 139
..............................
وعلى الأول فالأمر من باب ذكر العام بعد الخاص، وعلى الثاني فالأمر من قبيل ذكر الخاص بعد العام(1)، أو من قبيل عطف البيان(2).
والرسول (صلی الله علیه و آله) لم يكن صادفاً ولا مخالفاً للكتاب العزيز، كما هو من أوضح الواضحات.
مسألة: الصدف والإعراض عن كتاب الله محرم.والصدف عن الكتاب ربما يراد به الأعم من عدم العمل بأحكامه الشرعية، وعدم الاتعاظ بمواعظه، وعدم الاهتداء بهديه، وعدم مدارسته وقراءته وتلاوته وفهمه وترويجه وما أشبه.
وقد سبق الحديث عن تفصيل ذلك(3).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما بال أقوام غيروا سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعدلوا عن وصيه، لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب - ثم تلا هذه الآية -: ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ»(4) - ثم قال: - نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز يوم القيامة»(5).
ص: 140
..............................
وفي قول الله عزوجل: « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبانِ (1) أبالنيي أم بالوصي تكذبان، نزل في الرحمن»(2).وعن أبي يوسف البزاز قال: تلا أبو عبد الله (علیه السلام) هذه الآية: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ (3) وقال: «أتدري ما آلاء الله؟». قلت:لا. قال: «هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا»(4).
وعن عبد الرحمن بن كثير قال:سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الآية(5) قال: «عنى بها قريشاً قاطبة الذي عادوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصبوا له الحرب وجحدوا وصية وصيه»(6).
قولها (علیها السلام): «ما كان أبي..»، رد على ما أجابها أبو بكر بحديث موضوع قائلاً: إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة، ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه». فأجابته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بقولها:«سبحان الله»، وهذه كلمة تعجب أي: إني أسبح الله وأنزهه عن كل منقصة، ومن النقص أن يكون لله تعالى رسول يصدف عن كتابه
ص: 141
..............................
ويخالف أحكامه، ولذا لم تقتصر على «سبحان الله» بل قالت:«ما كان أبي رسول الله...».
قولها (علیها السلام): «صادفاً»، الصادف عن الشيء: المعرض والصادّ، أي: كيف يمكن أن يتحدث أبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الحديث مع العلم أنه إعراض عن حكم الله سبحانه، ومخالفة لكتابه الذي نطق بإرث الأولاد من الآباء بشكل عام، وصرّح بذكر مصاديق من إرث أولاد الأنبياء (علیهم السلام) بشكل خاص أيضاً.
«ولا لأحكامه مخالفاً»؛ فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يكن يخالف أحكام القرآن، بأن يقول القرآن شيئاً ويقول هو (صلی الله علیه و آله) شيئاً آخر، وحاشاه ذلك.
وبذلك يظهر أن الصادف عن كتاب الله والمخالف لأحكامه هو ابن أبي قحافة ومن اتبعه - لا النبي (صلی الله علیه و آله) - فقد انطبق على الأول عنوانان:
1. عنوان الصدف عن كتاب الله والمخالفة في المسألة الفرعية(الإرث).
2. وعنوان مخالفة الكتاب بشكل عام، بل وغيرها من العناوين أيضاً (1).
مسألة: يعلم من كلامها (علیها السلام) رداً على ابن أبي قحافة، لزوم أن يتحلى القائد الإسلامي بعدم الصدف عن كتاب الله وعدم مخالفته لأحكام الله، وكذلك غير القائد أيضاً لكن الوجوب فيه آكد.
عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) الناس فقال:
ص: 142
..............................
«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجىً، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلاَفٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَسَبَقَتْ لهمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى»(1).
وقال أبو الحسن الأول (علیه السلام): «يا يونس، لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه
كفر»(2).
ص: 143
-------------------------------------------
مسألة: الواجب الإتباع الشمولي للكتاب الكريم، كما على الإنسان أن يتبع أثر القرآن وأن يقفو سوره، وذلك لأن القرآن دستور السماء للبشر، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) أسوة بصريح الكتاب، وكل ما صدر منه (صلی الله علیه و آله) يجب أن يُقتدى به، وقد صرحت الصديقة الزهراء (علیها السلام) بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يتبع أثر القرآن ويقفو سوره، والتاريخ كله دليل على ذلك.
ثم إن إتباعه (صلی الله علیه و آله) أثر القرآن شامل: للعقائد والعبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات والأحكام والتاريخ والأخبار الغيبية والمواعظ والعبر والآداب والسنن وشتى العلوم الطبيعية وغيرها.
ولربما يقول البعض إن ذلك بديهي، فنقول:
أولاً: بداهته نشأت ببركة أمثال هذه الكلمات من بضعته وعترته ونفسه (صلی الله علیه و آله).
ثانياً: أراد البعض أن ينكر حتى البديهيات لكي يستولي على الخلافة،فلم يكن لهم مانع من اتهام رسول الله (صلی الله علیه و آله)، كما قالوا في حقه (صلی الله علیه و آله) (إنه ليهجر)(1) والعياذ بالله.
ثالثاً: إن الكثيرين - مع ذلك - لا يتبعون أثر القرآن، والشواهد كثيرة فجاء التأكيد على ضرورة الإتباع.
ص: 144
..............................
ومنهم(1): من يقول بالشريعة والطريقة، فإنه بهذا التخريج يترك إتباع الأثر ويفر من قفو السور ويقول بعدد من المنكرات.
ومنهم: من يقول بما قاله بعض الفلاسفة من العقول العشرة، وقِدَم العالم، والفيض المنبسط، والواحد لا يصدر منه إلا الواحد، ووحدة الوجود، وشبه ذلك مما هو مخالف لإتباع أثر الكتاب وإعراض عن قفو سوره التي تصرح ب- «خالِقُ كُلِّ شَيْ ء»(2) و «خَلَقَ السَّمَاوَاتِوَالأَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ»(3) و«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ»(4) إلى غيرها من الآيات الكريمة الصريحة، وتفصيل البحث في علم الكلام(5).
ومنهم: من ينكر الشفاعة، والمعاد الجسماني.
ومنهم: من يقول بالتجسيم، وما إلى ذلك من العقائد الفاسدة.
ومنهم: من يقول بأن القرآن أو عدداً من آياته، نزل لزمان خاص أو مكان خاص فلا يكون دستوراً أبدياً.
ولربما تمسك بعض أولئك بآي من الكتاب، إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه غير متبع لأثر القرآن، غير مقتفٍ لأثره، إذ غاية الأمر تمسكه بمتشابه من الكتاب وهو نابع من قلب مريض أو جهل ذريع، قال تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»(6).
ص: 145
..............................
ثم إن توهم الإتباع غير الأتباع، وغير المتبع غير متبع وإن قطع بكونه متبعاً، غايته الجهل المركب.
ولعل الفرق بين إتباع الأثر وقفو السور: أن إتباع الأثر معناه إتباع أحكام القرآن والقول بما قال به من الغيبيات والمواعظ والقصص وغير ذلك. أما قفو السور: ففي قبال التقدم على سور القرآن، حيث قال سبحانه: «لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»(1)، فكما لا يجوز للناس التقدم عليهما، كذلك لا يجوز للرسول (صلی الله علیه و آله) التقدم على الله سبحانه وتعالى، ولعل من مصاديق ذلك أو ما يشابهه قوله سبحانه: لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ (2).
وقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (3).
مسألة: التذكير بهذه الحقيقة وهي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان ديدنه إتباع أثر الكتاب العزيز وقفو سوره، بشكل كامل وشامل لا ينقص حتى في أبسط الجزئيات والمفردات، من الواجبات في الجملة.
قولها (صلوات الله عليها): «بل كان يتبع أثره»، أي: أثر القرآن، فكلما قاله القرآن يقوله (صلی الله علیه و آله)، بالإضافة إلى أنه (صلی الله علیه و آله) يشرحه ويوضحه ويبينه.
ص: 146
..............................
قولها (سلام الله عليها): «ويقفو سوره»، أي: يتبع سور القرآن، فكلما ذكر في سورة من حكم كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتبع تلك السورة في الالتزام بالحكم والعمل بما جاء به القرآن الحكيم في تلك السورة.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «خطب النبي (صلی الله علیه و آله) بمنى فقال:أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(1).ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) هم الذين يعرفون الكتاب وعلومه وأسراره دون غيرهم.
قال أبو عبد اللّه (علیه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزوجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2).
وعن عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «قد ولدني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا أعلم كتاب الله، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبر الجنة، وخبر النار، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كأنما أنظر إلى كفي إن الله يقول: فيه تبيان كل شي ء»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم ونحن نعلمه»(4).
ص: 147
..............................
وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى(علیه السلام) قال:قلت له:أكل شي ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) أو تقولون فيه؟. قال: «بل كل شي ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله)»(1).
وعن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الرضا (علیه السلام): «أما بعد فإن محمداً (صلی الله علیه و آله) كان أمين الله في خلقه فلما قبض (صلی الله علیه و آله) كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق، وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم، نحن النجباء النجاة، ونحن أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء ونحن المخصوصون في كتاب الله عزوجل، ونحن أولى الناس بكتاب الله، ونحن أولى الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن الذين شرع الله لنا دينه فقال في كتابه: شَرَعَ لَكُمْ يا آل محمد مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً قد وصانا بما وصى به نوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَا وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى فقد علمنا وبلغنا علم ما علمنا واستودعنا علمهم نحن ورثة أولي العزم من الرسل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يا آل محمد وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وكونوا على جماعة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ من أشرك بولاية علي مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من ولاية علي إن اللَّهَ يا محمد ... يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2) من يجيبك إلى ولاية علي (علیه السلام)»(3).
ص: 148
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الغدر - كما سبق - وحرمته عقلية قبل أن تكون شرعية؛ لأن الغدر من الظلم القبيح، وإذا فشا ذلك في المجتمع وغدر كل بالآخر انفصمت عروة المجتمع، ويبدأ بالتآكل والتلف، وينعدم التآلف والتآخي، ويظهر الهرج والمرج، ومن الواضح أن انفصام المجتمع واختلال النظام أصل كل شر.
والغدر: ضد الوفاء، وما فعله القوم كان غدراً في حق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعترته الطاهرة (علیهم السلام).
ورد في حديث جنود العقل وجنود الجهل: «والوفاء وضده الغدر»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ثلاث هن شين الدين: الفجور، والغدر، والخيانة»(2). وقال (علیه السلام): «الغدر شيمة اللئام»(3).وقال (علیه السلام): «الغدر يضاعف السيئات»(4).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم: « يا علي، علمت أن جبرئيل (علیه السلام) أخبرني أن أمتي تغدر بك من بعدي، فويل ثم ويل ثم ويل لهم - ثلاث مرات -. قلت: يا رسول الله، وما ويل؟. قال: واد في جهنم أكثر أهله معادوك والقاتلون لذريتك والناكث لبيعتك،فطوبى ثم طوبى ثم طوبى
ص: 149
..............................
- ثلاث مرات - لمن أحبك ووفى لك. قلت: يا رسول الله، وما طوبى؟. قال: شجرة في دارك في الجنة، ليس دار من دور شيعتك في الجنة إلا وفيها غصن من تلك الشجرة تهدل عليهم بكل ما يشتهون»(1).
وفي (نهج البلاغة): «إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِإِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ له فِي الدِّينِ»(2).
وعن ابن نباتة قال: أتى ابن ملجم أمير المؤمنين (علیه السلام) فبايعه فيمن بايع ثم أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) فتوثق منه وتوكد عليه أن لا يغدر ولا ينكث ففعل، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) الثانية فتوثق منه وتوكد عليه أن لايغدر ولا ينكث ففعل، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) الثالثة فتوثق منه وتوكد عليه ألا يغدر ولا ينكث. فقال ابن ملجم: والله يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري؟. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام):
أريد حباءه و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد
امض يا ابن ملجم فوالله ما أرى أن تفي بما قلت»(3).
ص: 150
..............................
مسألة: يحرم الاجتماع على الغدر، وخاصة في الغدر على النبي والوصي والعترة الطاهرة (علیهم السلام).
وفي الحديث: «إن الشياطين اجتمعوا إلى إبليس، فقالوا له: ألم تكن أخبرتنا أن محمداً إذا مضى نكثت أمته عهده ونقضت سنته، وأن الكتاب الذي جاء به يشهد بذلك، وهو قوله: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1)، فكيف يتم هذا وقد نصب لأمته عَلَماً وأقام لهم إماماً؟.
فقال لهم إبليس: لا تجزعوا من هذا، فإن أمته ينقضون عهده ويغدرون بوصيه من بعده، ويظلمون أهل بيته، ويهملون ذلك لغلبة حب الدنيا على قلوبهم، وتمكن الحمية والضغائن في نفوسهم، واستكبارهم وعزهم، فأنزل الله تعالى «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2)»(3).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا علي، إن قريشاً ستظاهر عليك وتجتمع كلمتهم على ظلمك وقهرك، فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك، فإن الشهادة من ورائك، لعن الله قاتلك»(4).
ص: 151
-------------------------------------------
مسألة: يحرم التستر على الغدر بالزور، والذي يعني ذلك(1) الكذب والدجل، وبعبارة أخرى: يحرم جمع الغدر مع الزور فإنهما معصيتان، فإذا اجتمعتا كانت الحرمة أشد، فإن التستر والجمع يزيد المحرمين حرمة(2)، فتأمل.
قال تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار،وكذلك من كتم الشهادة»(5).
وفي رسالة خرجت من أبي عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابه: «فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير، وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان، فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تذلقوا ألسنتكم به، فإن ذلق اللسان فيما يكرهه الله وفيما ينهى
ص: 152
..............................
عنه مرداة للعبد عند الله، ومقت من الله وصمم وبكم وعمى يورثه الله إياه يوم القيامة، فتصيروا كما قال الله: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(1) يعني: لاينطقون «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ»(2) وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه»(3).
مسألة: يمكن أن يستنبط من كلام الصديقة فاطمة (علیها السلام) هاهنا قاعدة شبه مطردة تكشف عن منهجية الطغاة والمنحرفين، وهي أنهم لا يقتصرون على الغدر والخيانة، بل لابد وأن ينساقوا نحو جريمة أخرى هي الزور والدجل، فالغدر والزور متلازمان عادة، وكل طاغية أو غادر يحاول التستر على جريمته بذلك وإضفاء الشرعية الكاذبة عليها.
روى نصر عن عمر بن سعد بإسناده، قال: قال معاوية لعمرو: يا أبا عبد الله، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله! وشق عصا المسلمين، وقتل الخليفة، وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة، وقطع الرحم!. فقال عمرو: من هو؟. قال: علي. قال: والله يا معاوية، ما أنت وعلي بحملي بعير، ليس لك هجرته ولا سابقته، ولا صحبته ولا جهاده، ولا فقهه ولا علمه، ووالله إن له مع ذلك لحظاً في الحرب ليس لأحد غيره، ولكني قد تعودت من الله تعالى إحساناً و بلاءً جميلاً، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه وأنت تعلم ما فيه من
ص: 153
..............................
الغرر والخطر؟. قال: حكمك. فقال: مصرطعمة»(1).
وفي حديث قال معاوية لعمرو بن عاص: يا أبا عبد الله، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال: دعني عنك. قال معاوية: إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لالعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية: ادن مني برأسك أسارك. قال: فدنا منه عمرو يساره فعض معاوية أذنه، وقال: هذه خدعة»(2).
مسألة: يحرم الزور بشكل عام، وخاصة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام)، أي أن حرمته تشتد وتتأكد، والعقوبة تتضاعف وتتغلظ.
والزور: هو الكذب والباطل، وهاهنا بمعنى أن ينسب إليهم ما لم يقولوه، وقد ادعى غاصبو فدك أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال: (نحن معاشر الأنبياء لانورث وما تركناه صدقة)، وهذه النسبةإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) غدر وزور.
قولها (علیها السلام): «أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور»، يمكن أن تقرأ (أ فَتَجْمَعُون...) من الثلاثي المجرد، والمعنى هل تضمون إلى سيئة الغدر سيئة الزور وتجمعونهما؟. حيث جمعوا بين (الغدر) وبين (الاعتلال عليه بالزور والكذب) فيكون (اعتلالاً) مفعولاً ل- (تجمعون).
ص: 154
-------------------------------------------
ويمكن أن تقرأ (أَ فَتُجْمِعُون) من باب الإفعال، من أجمع القوم على الشيء، أي اتفقوا عليه وعزموا، والمعنى هل تتفقون وتعزمون على الغدر وتعتلّون وتستدلون عليه بقول الزور؟. ف- (اعتلالاً) على هذا (حال).
وربما يقوى الأول لمكان (إلى)(1)، فتأمل.
مسألة: يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام):
أولاً: إن الغدر برسول الله (صلی الله علیه و آله) جرى في زمن حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وقد استمر إلى ما بعد وفاته، وأن هناك من كان يبغي للنبي (صلی الله علیه و آله) الغوائل في حياته.
وثانياً: إن التزوير على رسول الله (صلی الله علیه و آله) جرى في حياته، وبعد مماته أيضاً، ولذلك قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «كثرت عليَّ الكذابة»(2).
ومن كلامها (علیها السلام) هذا - والأدلة على ذلك كثيرة - يعرف أن ما يذهب إليه جمع من أبناء العامة من تنزيه الصحابة بأجمعهم خطأ وباطل، فهل من يغدر برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزيه؟. وهل يعقل أن يقول الرسول (صلی الله علیه و آله): (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)؟.
ص: 155
..............................
قال ابن عباس: وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده على صدره فقال: «أنا المنذر»، وأومأ إلى منكب علي (علیه السلام) وقال: «أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي»(1).
وقال العلامة المجلسي (رحمة الله): وبهذه الأخبار يظهر أن حديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" من مفترياتهم، كما اعترف بكونه موضوعاً شارح الشفاء وضعّف رواته، وكذا ابن حزم والحافظ زين الدين العراقي، وسيأتي القول في ذلك إن شاء الله تعالى(2).
وفي (دعائم الإسلام): إنما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الأئمة من أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ولو كان كما قالت العامة: "أصحابي" - وهم كل من رآه و صحبه كما زعموا - لكان هذا القول يبيح قتلهم أجمعين؛ لأنهم قد تحاجزوا بعده واختلفوا وقتل بعضهم بعضاً، ولو أن مقتدياً اقتدى بواحد منهم لحل له قتل الطائفة التي قاتلها علي (علیه السلام) على قولهم، ثم يبدو له فيقتدي بآخر من الطائفة الأخرى فيحل له قتل الطائفة الأولى والطائفة التيهو فيها، ولن يأمر الله عزوجل ولا رسوله (صلی الله علیه و آله) بالإقتداء بقوم مختلفين لا يعلم المأمور بالإقتداء بهم من يقتدي به منهم، وهذا قول بيِّن الفساد ظاهر فساده يغني عن الاحتجاج على قائله(3).
وفي (الصوارم المهرقة) - بعد الإشارة إلى ما رووه من "أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" - قال: وفيه بحث سنداً ومتناً:
ص: 156
..............................
أما أولاً: فلما قال بعض الفضلاء من أولاد الشافعي في شرح كتاب (الشفاء) للقاضي عياض المالكي: إن حديث " أصحابي كالنجوم" أخرجه الدارقطني في (الفضائل)، وابن عبد في (العلم) من طريقه من حديث جابر، وقال: هذا إسناد لا يقوم به حجة؛ لأن في طريقه الحارث بن غضين وهو مجهول. ورواه عبد بن حميد في (مسنده) من رواية عبد الرحيم بن زيد، عن أبيه، عن المسيب، عن عمر، قال البزار: منكر لا يصح. ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي، عن نافع، عن عمر، بلفظ: "بأيهم أخذتم" بدل قوله:"اقتديتم" وإسناده ضعيف؛ لأجل حمزة لأنه متهم بالكذب. ورواه البيهقي في (المدخل) من حديث ابن عباس وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا الباب إسناد. وقال ابن حزم: إنه مكذوب موضوع باطل. وقال الحافظ زين الدين العراقي: وكان ينبغي للمصنف أن لايذكر هذا الحديث بصيغة الجزم لما عرفت حاله عند علماء الفن...
وأما ثانياً: فلأن المخاطبين في متن الحديث بلفظ: "اقتديتم واهتديتم" إن كانوا هم الصحابة أو الصحابة مع غيرهم فلا يستقيم، إذ لا مساغ للفصيح أن يقول لأصحابه أو لهم مع غيرهم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو ظاهر، وإن كانوا غير الصحابة فهو خلاف الظاهر، إذ الظاهر أن كل من خاطبه النبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الخطاب المتبادر منه الخطاب الشفاهي كان بمرأى منه (صلی الله علیه و آله) فكان صحابياً، ولو سلم ذلك لكان الظاهر إخبار راويه بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال لجميع من أسلم غير الصحابة: "أصحابي كالنجوم" إلى آخره، ولما لم يكن في روايتكم شي ء من هذا التخصيص بطل ادعاؤكم في ذلك.
ص: 157
..............................
وأيضاً يلزم على هذا التقدير أن كل من اقتدى بقول بعض الجهال بل الفساق من الصحابة أو المنافقين منهم وترك العمل بقول بعض العلماء الصالحين منهم يكون مهتدياً!، ويلزم أن يكون المقتدي بقتلة عثمان والذي تقاعد عن نصرته تابعا للحق مهتدياً، وأن يكون المقتدي بعائشة وطلحة والزبير الذين بغوا وخرجوا على علي (علیه السلام) وقاتلوه مهتدياً!، وأن يكون المقتول من الطرفين في الجنة!، ولو أن رجلاً اقتدى بمعاوية في صفين فحارب معه إلى نصف النهار ثم عاد في نصفه فحارب مع علي (علیه السلام) إلى آخر النهار لكان في الحالين جميعاً مهتدياً تابعاً للحق!، والتوالي بأسرها باطلة ضرورة واتفاقاً.
والذي يسد باب كون عموم الصحابة كالنجوم ما قال الفاضل التفتازاني في (شرح المقاصد) من أن: ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث عليه الحقد والعناد والحسدواللداد وطلب الملك والرئاسات والميل إلى اللذات والشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي (صلی الله علیه و آله) بالخير موسوماً، إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار، انتهى.
ويتوجه إلى ما ذكره آخراً من تعليل ذكر العلماء المحامل والتأويلات لما وقع
ص: 158
..............................
بين الصحابة بحسن ظنهم فيه: أن بعد العلم بوقوع ما وقع بينهم لا وجه لحسن الظن بالكل إلا التعصب فيهم، وأما من زعموه كبار الصحابة وعنوا به الثلاثة فهم أول من أسس أساس الظلم والعدوان بغصب الخلافة عن أهل البيت (علیهم السلام) والإقدام بكيت وكيت، وإنما صاروا كباراً بغصبهم الخلافة وحكومتهم على الناس بالجلافة، ولهذا قال بعض علماء العامة: كلٌ زينته الخلافة إلاعلي بن أبي طالب (علیه السلام) . روي أنه لما دخل علي (علیه السلام) الكوفة دخل عليه حكيم من العرب فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنتَ الخلافة وما زينتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي كانت أحوج إليك منك إليها، انتهى.
وأما ما ذكره من البشارة لهم بالثواب في دار القرار، فإن أشار به إلى حديث بشارة العشرة فهو موضوع لا يصح إلا في واحد منهم عليه السلام كما سيأتي بيانه، وإن أشار به إلى غيره من الأحاديث فلعل بعد ظهور صحته يكون بشارة الثواب فيه مشروطاً بشروطه...
والحاصل: أنه لا يتحتم بمجرد الصحابية الحكم بالإيمان والعدالة وحسن الظن فيهم واستيهالهم للإقتداء بهم والاستهداء منهم؛ وذلك لأنه لا ريب في أن الصحابي من لقي النبي (صلی الله علیه و آله) مؤمناً به وموته على الإسلام، وأن الإيمان والعدالة مكسبان وليسا طبعيين جبليين، فالصحابي كغيره في أنه لا يثبت إيمانه إلا بحجة، لكن قد جازف أهل السنة كل المجازفة فحكموا بعدالة كل الصحابة من لابس منهم الفتن ومن لم يلابس، وقد كان فيهم المقهورون على الإسلام، والداخلون على غير بصيرة، والشكاك كما وقع من فلتات ألسنتهم كثيراً، وكان فيهم: شاربو الخمر وقاتلو النفس وسارقوالرداء وغيرها من المناكير، بل كان فيهم
ص: 159
..............................
المنافقون كما أخبر به الباري جل ثناؤه ورواه البخاري في (صحيحه) وغيره في غيره، وكانوا في عهده (صلی الله علیه و آله) ساكنين في مدينته يصحبونه ويجلسون في مجلسه ويخاطبهم ويخاطبونه ويدعون بالصحابة ولم يكونوا بالنفاق معروفين ولامتميزين ظاهراً، قال الله سبحانه: «وَلَوْ نَشاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ»(1)، بل كان فيهم من يبتغي له الغوائل ويتربص به الدوائر ويمكر ويسعى في هدم أمره، كما ذكره أبو بكر أحمد البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) حيث قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وذكر الإسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود عن عروة قال:
لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه، فأتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق وأرادوا أن يسلكوه معه، فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)خبرهم فقال: «من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم»، فأخذ النبي (صلی الله علیه و آله) العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر الذين أرادوا المكر به فاستعدوا وتلثموا، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ذكرة القوم من ورائهم قد غشوهم، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر حذيفة أن يردهم فرجعوا متلثمين فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر وأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما أدركه، قال له: «اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار»، فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس،
ص: 160
..............................
فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط والركب أحداَ؟». فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم ملتثمون. فقال (صلی الله علیه و آله): «هل علمتما ما شأن الركب وماأرادوا؟». قالا:لا يا رسول الله (صلی الله علیه و آله). قال: «فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت لي العقبة طرحوني منها». قالا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فنضرب أعناقهم. قال: «أكره أن يتحدث الناس ويقولون: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه». فسماهم لهما ثم قال: «اكتماهم». وفي كتاب أبان بن عثمان، قال الأعمش: وكانوا اثني عشر سبعة من قريش!.
وعلى تقدير ثبوت الإيمان والعدالة يمكن زوالهما كما في بلعم صاحب موسى (علیه السلام) حيث قال سبحانه وتعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1)، وكان بلعم أوتي علم بعض كتب الله، وقيل: يعرف اسم الله الأعظم ثم كفر بآيات الله، وكما وقع من الطامة الكبرى في سبعين ألفاً من بني إسرائيل وأولاد الأنبياء الذين كانوا في دينموسى (علیه السلام) فارتدوا في حياته بمجرد غيبته عنهم مدة قليلة إلى الطور، واستضعفوا وصية هارون النبي (علیه السلام) وكادوا يقتلونه ويدفعونه باليد والرجل واقتدوا بالسامري في عبادة العجل، وإذا كان هذا حال هؤلاء النجباء من أولاد الأنبياء الذين لم يدنسهم سبق الشرك والكفر في حياة نبيهم
ص: 161
..............................
ووجود نبي آخر ووصيه فيهم، فما ظنك بحال جماعة مضى أكثر عمرهم في الكفر والجاهلية، بعد وفاة نبيهم، مع أنه لم يكن يحصل لهؤلاء عن ذلك العجل الحنيذ جاه أو مال عتيد، وكان لمن وافق أبا بكر في غصب خلافة نبينا الحميد من طمع الجاه والمال ما ليس عليه مزيد، فعقدوا لواء السلطنة بسيفهم خالد بن الوليد، وسدوا لسان أبي سفيان بتفويض ولاية الشام إلى ولده يزيد، ودفعوا فتنة زبير بما أراد وأريد، وفوضوا إلى غيرهم كمغيرة وأبا عبيدة حكومة صنعاء وزبيد، إلى غير ذلك مما يطول به النشيد، وإذا كان كذلك فلابد من تتبع أحوالهم وأقوالهم في حياة النبي (صلی الله علیهو آله) وبعد موته، ليعلم من مات منهم على الإيمان والعدالة ومن مات ميتة جاهلية، انتهى(1).
وقد يستفاد من كلامها (علیها السلام) خاصة بلحاظ كلمة (شبيه) أن من بغوا الغوائل له (صلی الله علیه و آله) بعد مماته هم نفس من بغوا له الغوائل في حياته (صلی الله علیه و آله)!
ويدل كلامها (علیها السلام) أيضاً على تعدد بل كثرة الغوائل التي خططوا لها في حياته (صلی الله علیه و آله) بلحاظ الجمع المحلى، وبلحاظ القرائن المقالية والمقامية أيضاً.
فعن محمد بن موسى بن نصر الرازي، قال: حدثني أبي، قال: سُئل الرضا (علیه السلام) عن قول النبي (صلی الله علیه و آله): "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، وعن قوله (صلی الله علیه و آله): "دعوا لي أصحابي"؟. فقال (علیه السلام): «هذا صحيح يريد من لم يغير بعده ولم يبدل». قيل: وكيف يعلم أنهم قد غيروا أوبدلوا؟. قال: «لما يروونه من أنه (صلی الله علیه و آله) قال: "ليذادن برجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا رب أصحابيأصحابي؟. فيقال لي:
ص: 162
..............................
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بُعداً لهم وسحقاً"، أفترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل»(1).
وفي (تفسير العياشي): عن الحسين بن المنذر، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ» القتل أم الموت؟. قال: «يعني أصحابه الذين فعلوا ما فعلوا»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): « ليجيئن قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة مني ليمروا على الصراط، فإذا رأيتهم ورأوني وعرفتهم وعرفوني اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي أصحابي؟. فيقال: ما تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم حيث فارقتهم. فأقول: بُعداً وسحقاً»(3).وفي صحاحهم بإسنادهم إلى ابن عباس قال: خطب رسول الله » فقال: «يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً - ثم قال - «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»(4)»، إلى آخر الآية، ثم قال: «ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصيحابي؟. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: كما قال العبد الصالح: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ»(5). فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا
ص: 163
..............................
مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»(1).
ورووا عن أنس: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا اليَّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب أصيحابي أصيحابي؟. فليقالن لي:إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»(2).
وفي البخاري: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال: هلم. فقلت: أين؟. قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟. قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال: هلم. قلت: أين؟. قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم؟. قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم»(3).
ورووا عن عائشة قالت: سمعت رسول الله » يقول - وهو بين ظهراني أصحابه -: إني على الحوض انتظر من يرد عليَّ منكم، فو الله ليقتطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب مني ومن أمتي. فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم»(4).
ورووا عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إني على
ص: 164
..............................
الحوض حتى انظر من يرد عليَّ منكم، وسيؤخذ ناس من دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي. فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم»(1).
ورووا عن أم سلمة (رضي الله عنها) عن النبي (صلی الله علیه و آله)، أنه قال: «إني لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً»(2).
ورووا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والذي نفسي بيده لأذودن رجالاً عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض»(3).
إلى غير ذلك من الروايات التي رووها وهي تدل على عدم صحة ما ادعوهمن عدالة جميع الصحابة كما هو واضح.
مسألة: كما أن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) خطط وعمل للحاضر وحال حياته وللمستقبل وبعد مماته(4) في قبال تخطيط الأعداء في حياته ولما بعد مماته والذي أشارت إليه هاهنا الصديقة الزهراء (علیها السلام) .. كذلك يجب على المصلح أن يعمل
ص: 165
..............................
ويخطط للمستقبل ولما بعد وفاته، كما يعمل ويخطط للحاضر وفي حال حياته، إذ إن (المسؤولية) و(واجب الأمر والنهي) لا يمُتثل بمجرد الهداية والإرشاد طوال العمر فقط، إذ بالمقدور عبر تأسيس المؤسسات الاستراتيجية وعبر تربية الأفراد وعبر التخطيط المستقبلي: هداية كم أكبر ولمدة أطول وعلى امتداد الأزمان.
وعلى هذا فالواجب لمن يعرف أن العدو يبتغي الغوائل (حسب تعبيرها (علیها السلام)) في زمن حياة المصلحين (وعلى رأسهم سيد المرسلين (صلی اللهعلیه و آله)) وبعد وفاتهم، أن يتخذ الحيطة والحذر، وأن يخطط لإحباط ذلك أو لفضحه على الأقل، كما فعلت الصديقة الكبرى (علیها السلام). وهكذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام).
روي أنه دخل ضرار صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) على معاوية بن أبي سفيان بعد وفاته (علیه السلام) فقال له معاوية: يا ضرار، صف لي علياً؟. قال: أوتعفيني. قال: لا أعفيك. قال: ما أصف منه، كان والله شديد القوى، بعيد المدى، يتفجر العلم من أنحائه، والحكمة من أرجائه، حسن المعاشرة، سهل المباشرة»(1).
مسألة: يستحب بيان ما لقي الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في حياته من الغوائل والمشاكل، ولا يصح التعلل لعدم ذلك بأن فيه فضحاً وتعرية لعدد من الصحابة، إذ أية حرمة لمن يبغي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الغوائل؟.
ص: 166
..............................
وقد يجب بيان ذلك، فإن ذكر ما لاقى الرسول (صلی الله علیه و آله) من المشاكل والمصاعب يوجب الاعتقاد به (صلی الله علیه و آله) والتأسي بوجوده أكثر فأكثر؛ لأن المصلحين الذين يلاقون العنت والإرهاق والشدائد يكونون أسوة للمصلحين الآتين الذين يريدون تغيير المجتمع من السيئ إلى الحسن، أو من الحسن إلى الأحسن.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1).
وقال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ»(2). وقال عزوجل: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ»(3).
وقال سليم: وحدثني علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «كنت أمشي مع رسول الله » في بعض طرق المدينة فأتينا على حديقة. فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة؟. قال: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها.
ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يارسول الله، ما أحسنها من حديقة؟.
قال: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها.
حتى أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول الله، ما أحسنها؟. ويقول: لك في الجنة أحسن منها.
فلما خلا له الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً وقال: بأبي الوحيد الشهيد.
فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟.
ص: 167
..............................
فقال: ضغائن في صدور أقوام لايبدونها لك إلا من بعدي، أحقاد بدر وترات أحُد. قلت: في سلامة من ديني؟.
قال: في سلامة من دينك، فأبشر يا علي فإن حياتك وموتك معي، وأنت أخي، وأنت وصيي، وأنت صفيي ووزيري ووارثي والمؤدي عني، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي عني، وأنت تبرئ ذمتي وتؤدي أمانتي، وتقاتل على سنتي الناكثين من أمتي والقاسطين والمارقين، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ولك بهارون أسوة حسنة، إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه وهم بمنزلة العِجل ومن تبعه، وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعواناًأن يجاهدهم بهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم.
يا علي، ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً، فقتلوهم ليكون أعظم لأجورهم. يا علي، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه، ولا يتنازع في شيء من أمره، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله، ولو شاء عجل النقمة فكان منه التغيير حتى يكذب الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكن جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة دار القرار «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِمَا عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (1).
ص: 168
..............................
فقلت: الحمد لله شكراً على نعمائه وصبراً على بلائه، وتسليماً ورضىً بقضائه»(1).
مسألة: يحرم على الإنسان أن يثير المشاكل ويحيك المؤامرات ضد الرسول (صلی الله علیه و آله)، أو ضد آله الأطهار (علیهم السلام)، أو ضد منهجه ودعوته ورسالته (صلی الله علیه و آله)، في حياته وبعد مماته (صلی الله علیه و آله) وإلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة، وتشمل الحرمة كل من قام بذلك في أي زمن من الأزمان.
قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(2).
وقال عزوجل: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(3).
فإن الواجب هو مناصرة الرسول (صلی الله علیه و آله) لا أن يكون الإنسان حيادياً بالنسبة إليه، فكيف بابتغاء المشاكل عليه (صلی الله علیه و آله)؟! فإنه من أشد المحرمات.
قال سبحانه: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ»(4).وفي (البحار) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال عند توجههما - أي طلحة والزبير - إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليب عليه بعد أن حمد الله تعالى
ص: 169
..............................
وأثنى عليه: «أما بعد، فإن الله عزوجل بعث محمداً » للناس كافة وجعله رحمة للعالمين، فصدع بما أمر به، وبلغ رسالة ربه، فلمّ به الصدع، ورتق به الفتق، وآمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الإحن والعداوة، والوغر في الصدور، والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله إليه حميداً، لم يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة، ولأبلغ شيئاً كان في التقصير عنه القصد، وكان من بعده ما كان من التنازع في الإمرة، فتولى أبو بكر وبعده عمر، ثم تولى عثمان فلما كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: بايعنا. فقلت: لاأفعل. قلتم: بلى. فقلت: لا.وقبضت يدي فبسطتموها،ونازعتكم فجذبتموها، وحتى تداككتم عليَّ كتداكك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى ظننت أنكم قاتليّ، وأن بعضكم قاتل بعض، وبسطت يدي فبايعتموني مختارين، وبايعني فيأولكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، وأن لا يبغيا الأمة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي، ونقضا عهدي، فعجباً لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي، ولست بدون أحد الرجلين، ولو شئت أن أقول لقلت: اللهم اغضب عليهما بما صنعا وأظفرني بهما»(1).
قولها (علیها السلام): «وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته» الغوائل بمعنى: الشرور والدواهي والحوادث المهلكة، وكانت المهالك والمشاكل
ص: 170
..............................
التي أوجدوها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته كثيرة جداً وفي مختلف الشؤون الدينية والدنيوية.
فالمراد أن غدركم وزوركم بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) شبيه بغدركم وزوركم عليه في حال حياته(صلی الله علیه و آله)؛ لأنهم كثيراً ما غدروا به حينذاك خصوصاً في ليلة العقبة، كما زوروا عليه وقالوا عنه ما لم يقله حتى قال (صلی الله علیه و آله): «كثرت عليَّ الكذابة، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(1).
والتعبير ب- (بغي له من الغوائل) يفصح عن محاولاتهم إهلاك الرسول (صلی الله علیه و آله) بخطط خفية، فإن الغائلة هي الحادثة المهلكة والداهية، وغاله: أهلكه وأخذه من حيث لا يدري، فبغي له من الغوائل يعني حاولوا إهلاكه وقتله غيلة وغدراً ومن حيث لا يعلم - حسب زعمهم - كما في العقبتين حيث أرادوا قتل النبي (صلی الله علیه و آله) والوصي(علیه السلام) (2)، وهكذا غدروا وغاولوا إلى أن وصل بهم الأمر أن دسوا السم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقضى مسموماً شهيداً..
ففي (البحار)، عن (تفسير العياشي)، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «تدرون مات النبي (صلی الله علیه و آله)أو قُتل، إن الله يقول: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقابِكُمْ»(3) فسُمّ قبل الموت، إنهما سمتاه». فقلنا: إنهما وأبويهما شر من خلق الله(4).
ص: 171
-------------------------------------------
مسألة: يجب اتخاذ وجعل كتاب الله الحَكَم في المخاصمات، والرجوع إليه في معرفة الحق من الباطل؛ فإنه المصدر الأول لتبيين الحق وهو العدل والفصل، كما يجب الرجوع إلى العترة الطاهرة (علیهم السلام) فإنهم عِدل القرآن.
قال سبحانه: «لّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ»(1). وعن يونس بن عبد الرحمن قال: قلت لأبي الحسن الأول (علیه السلام): بما أوحد الله؟. فقال: «يا يونس، لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه (صلی الله علیه و آله) كفر»(2).
وقال تعالى: «إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَ-َئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3)، والدعوة إلىالله سبحانه وتعالى معناها الدعوة إلى كتابه في أصول الدين وفروعه، وفي حل المنازعات وما أشبه ذلك.
على خلاف غير المؤمنين حيث قال عنهم: «وَيِقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالرّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَ-َئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّعْرِضُونَ»(4).
ص: 172
..............................
روى السدي: أنه لما غنم النبي » بني النضير وقسم أموالهم، قال عثمان لعلي (علیه السلام): ائت النبي » واسأله كذا فإن أعطاك فأنا شريكك، وأنا أسأله فإن أعطاني فأنت شريكي. فسأله عثمان أولاً فأعطاه فأبى أن يشرك علياً، فقاضاه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأبى وقال: إنه ابن عمه فأخاف أن يقضي له. فنزلت «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» - إلى قوله - «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1)، فلما بلغه ما أنزل فيه جاء إلى النبي » وأقربالحق لعلي (علیه السلام) (2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه»(3).
وقال أبو جعفر (علیه السلام): «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله عزوجل»(4). وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(5).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه»(6).
ص: 173
..............................
وعن سليم بن قيس الهلالي، قال: قلت لأمير المؤمنين (علیه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن ومن الرواية عن النبي »، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبي » تخالف الذي سمعته منكم، وأنتم تزعمون أن ذلك باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله » متعمدين ويفسرون القرآن برأيهم؟.
قال: فأقبل عليَّ (علیه السلام) فقال لي: «يا سليم، قد سألت فافهم الجواب. إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وخاصاً وعاماً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله » على عهده حتى قام فيهم خطيباً، فقال: أيها الناس، قد كثرت عليَّ الكذابة، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب عليه من بعده حين توفي رحمة الله على نبي الرحمة وصلى الله عليه وآله، وإنما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله » متعمداً، فلو علم المسلمون أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا: هذاصاحب رسول الله » رآه وسمع منه، وهو لا يكذب ولا يستحل الكذب على رسول الله »، وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبر، ووصفهم بما وصفهم، فقال الله عزوجل: «وإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(1)، ثم بقوا بعده وتقربوا إلى أئمة الضلال
ص: 174
..............................
والدعاة إلى النار بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم من الدنيا، وإنما الناس مع الملوك في الدنيا إلاّ من عصم الله، فهذا أول الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله » شيئاً فلم يحفظه على وجهه، ووهم فيه ولم يتعمد كذباً، وهو في يده يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله ». فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنه وهم فيه لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله » شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لايعلم، أو سمعه نهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علمالمسلمون أنه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله بغضاً للكذب، وتخوفاً من الله وتعظيماً لرسوله »، ولم يوهم بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمعه ولم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.
وإن أمر رسول الله » ونهيه مثل القرآن: ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله » الكلام له وجهان: كلام خاص، وكلام عام. مثل القرآن يسمعه من لا يعرف ما عنى الله به وما عنى به رسول الله »، وليس كل أصحاب رسول الله » كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الطارئ والأعرابي فيسأل رسول الله » حتى يسمعوا منه.
ص: 175
..............................
وكنت أدخل على رسول الله » كل يوم دخلة وفي كل ليلة دخلة، فيخليني فيها أدعه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله » أنه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، وربما كان ذلك في منزلي يأتيني رسول الله »، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه فلميبق غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة (علیها السلام) ولا أحد من ابنيّ (علیهما السلام).
وكنتُ إذا سألته أجابني، وإذا سكتُ أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطي ودعا الله أن يفهمني إياها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها وعلمني تأويلها، فحفظته وأملاه عليَّ فكتبته.
وما ترك شيئاً علمه الله من حلال وحرام، أو أمر ونهي، أو طاعة ومعصية، كان أو يكون إلى يوم القيامة إلاّ وقد علمنيه، وحفظته ولم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً، وفقهاً وحكماً ونوراً، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى.
فقلت له ذات يوم: يا نبي الله، إنك منذ يوم دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً مما علمتني، فلِمَ تمليه عليَّ وتأمرني بكتابته، أتتخوف علي النسيان؟.
فقال: يا أخي، لست أتخوف عليك النسيان ولا الجهل»(1).
ص: 176
..............................
مسألة: في تعارض الخبرين أو الطائفتين من الروايات، يجب الرجوع إلى القرآن الحكيم فهو (المرجع) وليس (المرجّح).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(1).
وعن ابن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به؟. قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإلا فالذي جاءكم به أولى به»(2).
وعن أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لايوافق كتاب الله فهو زخرف»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآنَ فهو زخرف»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «خطب النبي (صلی الله علیه و آله) بمنى فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله
ص: 177
..............................
فلم أقله»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من خالف كتاب الله وسنة محمد (صلی الله علیه و آله) فقد كفر»(2).
مسألة: كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) صريح في حجية ظواهر الكتاب العزيز - إلاّ ما خرج بالدليل-، وصحة بل لزوم التمسك بها، خلافاً لبعض من لايرى ذلك، وقد سبق نظيره.
لا يقال: تمسكها (علیها السلام) بها في المقام هو المتمم، وبه أمكن التمسك كما قال البعض؟.
لأنه يقال: ظاهر (الحَكَمية) غير ذلك، وكذلك ظاهر (ناطقاً فصلاً)(3).
وهذا لا ينافي ضرورة الرجوع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) لمعرفة تفسير القرآن وعلومه، كما أنه لا ينافي ضرورة تأويل مثل قوله تعالى: «يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(4)، وقوله عزوجل: «إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ»(5) لقيام الدليل القطعي على ذلك.
عن عبد الله بن سنان، عن أبيه، قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي
ص: 178
..............................
الباقر (علیه السلام) ودخل عليه رجل من الخوارج. فقال: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟. قال: «الله». قال: رأيتَه؟.قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشبّه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو». قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).
وقال علي بن موسى الرضا (علیه السلام) في قول الله عزوجل: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»(2)، قال: «يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها»(3).
وعن الهروي، قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث "أن المؤمنين يزورون ربهم في منازلهم في الجنة"؟.
فقال (علیه السلام): «يا أبا الصلت، إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمداً » على جميع خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عزوجل: «مَنْ يُطِعِالرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(4)، وقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(5)، وقال النبي »: من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله تعالى. ودرجة النبي » في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنة من منزله فقد
ص: 179
..............................
زار الله تبارك وتعالى».
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله »، فما معنى الخبر الذي رووه "أن ثواب لا إله إلاّ الله النظر إلى وجه الله تعالى"؟.
فقال (علیه السلام): «يا أبا الصلت، من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه (صلوات الله عليهم) هم الذين بهم يتوجه إلى الله عزوجل وإلى دينه ومعرفته، وقال الله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (علیهم
السلام) ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ والإِكْرامِ»(1)، وقال عزوجل: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(2)، فالنظر إلىأنبياء الله تعالى ورسله وحججه (علیهم السلام) في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال النبي »: من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة، وقال: إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني. يا أبا الصلت، إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يُدرك بالأبصار والأوهام...»(3).
وعن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) هل رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربه عزوجل؟. فقال: «نعم بقلبه رآه، أما سمعت الله عزوجل يقول: «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى»(4)، لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد»(5).
ص: 180
..............................
مسألة: يجب العمل على تكريس هذه الحقيقة في أذهان الناس وهي أن القرآن حَكَم وعدل وناطق وفصل.
فالقرآن يحكم بين الأطراف المتنازعة، ويقضي على من عليه الحق لمن له ذلك، وهو عادل في حكمه فلا يجور، كما أن القرآن ناطق فصل، ونطقه هو ظهور مفاده، وليس مثل بعض الآيات الكونية حيث إنها ليست ناطقة بمنزلة نطق القرآن، وإن كانت هي ناطقة أيضاً، بمعنى تسبيحها ودلالتها على وجود الله سبحانه وتعالى وجملة من صفاته.
قال تعالى: «تُسَبّحُ له السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَ-َكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(1).
والقرآن فصل بين الحق والباطل سواء في المنازعات العقائدية أم غيرها، فهو يظهر ويبين جانب الحق، كما أنه يعري جانب الباطل ويكشف زيفه، قال سبحانه: «وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَوَفَصْلَ الْخِطَابِ»(2).
عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «يا سعد، تعلموا القرآن؛ فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق - إلى أن قال - حتى ينتهي إلى رب العزة فيناديه تبارك وتعالى: يا حجتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، كيف رأيت عبادي؟. فيقول: يا رب، منهم من
ص: 181
..............................
صانني وحافظ عليّ ولم يضيع شيئاً، ومنهم من ضيعني واستخف بحقي وكذب بي، وأنا حجتك على جميع خلقك. فيقول الله عزوجل: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأُثيبن عليك اليوم أحسن الثواب، ولأُعاقبن عليك اليوم أليم العقاب»(1).
وقال أبو جعفر (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي»(2).قولها (علیها السلام): «هذا كتاب الله حكماً وعدلاً وناطقاً فصلاً». أي: كيف تنسبون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحديث المكذوب والحال أن كتاب الله حَكَم بيننا وبينكم، وهو يدل على كذب هذا الحديث وعدم صدوره عن الرسول (صلی الله علیه و آله)؟.
ثم إن هذا الحاكم عادل لا يجور، وناطق وفاصل فهو يفصل بين الحق والباطل، ونطقه عبارة عن: ظهور مفاده وخصوصياته وأحكامه.
لا يقال: كيف يكون القرآن ناطقاً فصلاً والحال أننا لا نراه يفصل في كثير من الخصومات العقائدية والفكرية والاجتماعية وغيرها؟.
لأنه يقال: القرآن ناطق فصل بمعنى الاقتضاء، فهو كلمة الله الكاشفة عن الحقيقة ومن شأنه الفصل في الخصومة، لا بمعنى الجبر والقسر في فعليته، بل هذه الكلمة شأنها الفصل لو أراد الناس فصلاً إلهياً. وبعبارة أخرى: القرآن جُعل مقتضياً للفصل وليس علة تامة مما يستلزم الجبر، بل لفاصليته الفعلية شروط
ص: 182
..............................
ومنها قابلية القابل وخضوعه للحق وعدم عناده، قال تعالى: «أَنَزَلَ مِنَالسّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(1)، فالقرآن ناطق فصل تشريعاً، أي شرع هكذا، أما تكويناً وفي مرحلة التطبيق فحسب القابليات وما أشبه.
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - في حديث -: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن؛ فإنه شافع مُشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل، وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تُبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلص من نشب؛ فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص، وقلة التربص»(2).
مسألة: كل القرآن ناطق فصل وحَكَم عدل حتى المتشابه منه؛ فإن المتشابه متشابه ظاهره وواضح الدلالة والمقصود في واقعه، وإن كان لا نعلم به، فوضوحه عند من نزل الكتاب في بيوتهم، وبعبارة أخرى: إن المتشابه متشابه
ص: 183
..............................
عند البعض وليس عند الكل، فهو متشابه على من لم يخاطب به. فيلزم الرجوع إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) لمعرفة المراد من المتشابه منه، وحينئذ يكون فصلاً وحَكَماً.
والفرق بين المحكم والمتشابه:
إن المحكم غير متوقف فهمه إلا على الشروط العامة، مثل أن يكون من أهل اللغة عارفاً بها، وإلا فإن من لا يعرف العربية لا يفهم من المحكم شيئاً إلا بعد الترجمة وما أشبه، كما هو واضح.
والمتشابه يتوقف على شرط إضافي هو لزوم صدور التوضيح ممن نزل القرآن في بيوتهم ومن خوطبوا به. ولتقريب المعنى إلى الذهن نمثل بكلمات رمزية اتفق عليها شخصان؛ فإنها لهما محكمة وللثالث متشابهة، لكنه لو اطلع علىالرمز أضحت لديه محكمة أيضاً. وبعبارة أخرى: يكون التشابه بالعرض وليس بالذات، وذلك لمصحلة رآها الباري عزوجل، ولكي يبين الناس ضرورة الرجوع إلى العترة الطاهرة (علیهم السلام).
قال تعالى: «هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ»(1). وفي تفسير الآية أن الراسخون في العلم: «أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة (علیهم السلام)»(2).
ص: 184
..............................
وفي حديث آخر: «الراسخون في العلم هم آل محمد (علیهم السلام)»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك»(2).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) - في حديث - قال: «والمحكم من القرآن مما تأويله في تنزيله، مثل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرءُوُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»، وهذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله، لا يحتاج تأويله إلى أكثر من التنزيل»(3).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردّوا العلم إلى أهله تؤجروا وتُعذروا عند الله»(4).
ص: 185
-------------------------------------------
يقول: ]يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(1)، ويقول: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ»(2) وبيّن عزوجل فيما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح(3) من حظ الذكران والإناث ما أزاح به علة المبطلين.
مسألة: لكلامها (علیها السلام) عقد إيجاب وعقد سلب، فعقد الإيجاب أن ما وزعه الله من الأقساط على الورثة وشرّعه لهم ينبغي أن يعطى لكل منهم كما وزعه الباري عزوجل وشرّع. وعقد السلب عدم جواز أن يُعطى لغيرهم قسط، وكذلك الفقرتان اللاحقتان، فما فعله ابن أبي قحافة كان مخالفاً لكلا عقدي السلب والإيجاب.
قولها (علیها السلام): «يقول: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(4)، ويقول: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد»(5)». قد تقدم بيان الآيتين وأنهما وردتا في إرث الأنبياء (علیهم السلام)، بالإضافة إلى آيات الإرث العامة المتقدمة.ثم إنه ليس ذكرها (علیها السلام) الآية الثانية الدالة على إرث سليمان النبي (علیه السلام) مجرد بيان مصداق آخر لتأكيد المدعى، بل فيها فوائد أخرى أيضاً، فإن الآية الأولى دعاء وطلب، والثانية إخبار وتحقق(6).
ص: 186
..............................
لا يقال: ما وجه استدلالها (علیها السلام) بإرث سليمان من داود ويحيى من ذكريا (علیهم السلام) مع أن الشريعة الإسلامية ناسخة للأديان السابقة، والاحتجاج في إرثها من الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)؟.
إذ يقال:
أولاً: كلامها (علیها السلام) رد على ابن أبي قحافة حيث استدل بما نسبه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) من الرواية: «إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ...»، وهي معارضة بصريح الكتاب العزيز، بدليل إرث سليمان من داودوغيره من غيره (علیهم السلام).
وثانياً: إن الشريعة الإسلامية لم تنسخ كل ما كان في الشرائع السابقة كما هو بديهي(1) بل بعضه فقط، فما قام الدليل على نسخه نسخ، وإلا كان على ما كان، لاستصحاب الشرائع السابقة، بل للعمومات والاطلاقات وغيرها على ما ذكرناه في (الأصول)(2).
قولها (علیها السلام): «وبيّن عزوجل فيما وزّع من الأقساط»؛ لأن الله سبحانه جعل لكل وارث قسطاً من التركة. والتوزيع: التقسيم، والأقساط: جمع القسط أي الحصة.
ص: 187
..............................
«وشرع من الفرائض والميراث»: فإنه تعالى فرض لكل وارث إرثاً. و(الفرائض): جمع الفريضة، بمعنى الحصة المفروضة والمقدرة.
ولعل الحكمة في مقابلة الميراثبالفرائض - في هذه الخطبة الشريفة - هو أن هناك مواريث فرض ومواريث غير فرض، قال سبحانه: «وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً»(1)، حيث يستحب إعطاؤهم على ما هو مذكور في محله(2).
قولها (علیها السلام): «وأباح من حظ الذكران والإناث»، أي: إن الله سبحانه وتعالى أباح وحلّل التركة للذكران والإناث من الأولاد وغيرهم من الأقرباء بعد ما كان ممنوعاً عليهم في حياة المورّث، أو أن ذلك في قبال الحظر على غيرهم.
والذكران: جمع الذكر، والإناث: جمع الأنثى.
قولها (علیها السلام): «ما أزاح به علة المبطلين»، أي: أزال به علة أهل الباطل، أو الذين يريدون الإبطال فيحكم إعطاء الإرث وعدم منح الورثة حقهم، أو المبدعين في الزيادة والنقيصة عما فرضه الله سبحانه وتعالى.
ص: 188
..............................
ربما يتساءل البعض عن السبب في تشدد الصديقة فاطمة (علیها السلام) في قضية الميراث، ومحاجة القوم أشد المحاجة حولها وهي قضية مادية، وأهل البيت (علیهم السلام) أرفع شأناً من الترافع في القضايا المادية الدنيوية، فكيف بشن معركة وإدارة صراع وتحمل أخطار في ذلك، حيث أدى ذلك إلى ما أدى إليه من ظلم وجور في حقها (صلوات الله عليها)!! إضافة إلى وجود قضية أخرى أهم هي مسألة الخلافة، فربما كان الأحرى التركيز عليها؟.
والجواب:
أولاً: إن القضية كانت مسألة (التلاعب بأحكام الله) - في إرث أولاد الأنبياء (علیهم السلام) وربما الأعم من ذلك - و(محاولة نسف حكم شرعي) قبل أن تكون قضية إرث مادي.
ثانياً: إن القضية كانت بمثابة وضع الحجر الأساس لبدء مسيرة البدعة والتحريف في أحكام الله، والدس والوضع على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومخالفة كتاب الله، وكان بدايتها هذا الحديث المجعول وتضييع آيات الإرث.فكان لابد من التصدي بكل حزم لأية محاولة تحريف، وكان لابد من فضح قادة التحريف ليقفوا عند حدهم، أو (ليتحجموا) على أقل الفروض بعد أن يشاهدوا افتضاح أمرهم من بعد تلك المقاومة من قبل العترة الطاهرة (علیهم السلام) وخاصة من قبل الصديقة الزهراء (علیها السلام).
ثالثاً: إن الرأي العام كان أكثر تقبلاً لطرح ظلامة غصب فدك من طرح
ص: 189
..............................
ظلامة غصب الخلافة(1)، فلذلك كان تأثير الكلام أشد عند طرح القضية الأولى من طرح الثانية.
رابعاً: إن طرح قضية الإرث وإثباتها والمطالبة بها، كان من طرق طرح قضية الخلافة وإثباتها والمطالبة بها.
خامساً: إن فدك - بما كانت تدر من محصول هائل - كانت سلاحاً اقتصادياً كبيراً بيد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكان الغاصبون للخلافة يرمونإلى تجريده (علیه السلام) من هذا السلاح وهذه القوة الاقتصادية، والدفاع عن الحق المالي واجب، فكيف لو كان يرام منه تشييد دعائم الدين ونصرة المظلوم والتصدي للظالم؟.
وإلا فقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري: «وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَكٍ»(2).
مسألة: كلامها (علیها السلام) واضح الدلالة فيما هو الظاهر من آيات الإرث من أن ما يخلفه الميت يقسّم بين الورثة لا غير، فلا يحق للدولة فرض ضريبة على الإرث، ومن يرتكب ذلك فإنه من (المبطلين) حسب كلامها (علیها السلام)، فإنه تعالى قد وزع الأقساط وشرّع من الفرائض والميراث كما ورد في الآيات وصرحت
ص: 190
..............................
(عليها السلام) بذلك في خطبتها، ولم يكن منه الضرائب على الإرث، فهي أمر غير شرعي وغير مباح، فالضرائب على الإرثكما هو في بعض الدول الإسلامية! مما لم يوزعه الله ولم يشرعه ولم يبحه.
مضافاً إلى حرمة مطلق الضرائب إلا ما قرره الشرع من الخمس والزكاة وما أشبه.
و(من) في قولها (علیها السلام): بيانية (1) وليست تبعيضية كما هو واضح.
مسألة: إزاحة علة المبطلين لطف، وهو واجب على الله تعالى في الجملة، - كما قرر في علم الكلام - إلا أن البحث قد يأتي في المصاديق(2) والحدود(3) والتزاحم(4)، وقد يستكشف بالبرهان الإني(5).
قال تعالى: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ»(6).وقال سبحانه: «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ»(7).
ص: 191
..............................
مسألة: يلزم إزاحة علة المبطلين؛ فإن إبطال حجج أهل الباطل والتصدي لها واجب، وهذا هو معنى إزاحة العلة، حتى لا يكون للناس حجة على الله سبحانه وتعالى في أعمالهم الباطلة.
وفي قولها (علیها السلام) إشارة واضحة إلى أن ابن أبي قحافة من المبطلين وأهل الباطل، فإن المبطلين في مقابل المحقين وهم أهل الحق.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «في كل خلف من أمتي عدلاً من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجهال، وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدوا في دينكم وصلواتكم»(1).
وقال تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَالْمُبْطِلُونَ»(2).
وقال سبحانه: «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً»(3).
وقال عزوجل: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَْحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ»(4).
ص: 192
-------------------------------------------
مسألة: يجب إزالة التظني، في الجملة.
وليس المراد من (أزال التظني) الإزالة التكوينية التامة، وإلا لزم تخلف مراده عن إرادته وهو خلف، بل المراد الإزالة بنحو المقتضي، أو الإزالة التشريعية وهي جزء العلة للإزالة التكوينية.
نعم قوله تعالى: «لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) المراد به الإذهاب تكويناً أيضاً، فهو أعم مما هو باختيارهم (علیهم السلام) وما ليس باختيارهم(2).
قولها (علیها السلام): «وأزالالتظني»، التظني: إعمال الظن والأخذ بالشبهة، وأصله التظنن فأبدل من أحدى النونات ياء.
وفي اللغة: التظني: التحري، وهو من التظنن، حذفت النون الأخيرة وجعلوا اشتقاق الفعل على ميزان تفعلي(3).
و«الشبهات»: تشمل الشك والوهم.
ص: 193
..............................
فإنه لولا القرآن الحكيم لكان من الممكن التظني والشبهة بالنسبة إلى الأحكام السابقة والسابقين(1)، فإن الغابر يأتي بمعنى السابق كما يأتي بمعنى اللاحق، وهو من ألفاظ الأضداد - على اصطلاحهم - وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الظاهر في أمثال هذه الألفاظ أن الضدين فيها من باب المصاديق لا من باب وضع اللفظ لأحدهما مرة وللآخر مرة (2).
ويمكن أن يكون المراد من «في الغابرين» أي: في الآتين، وهم الذين يأتون بعد نزول القرآن، فلا يكون لهمتظن وشبهات بالنسبة إلى أحكام الإرث وغيره.
عن محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي والتظني»(3).
ومن أدعية الصحيفة السجادية: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رُوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وَتَدْبِيراً عَلَى عَدُوِّكَ»(4).
مسألة: من الواجب رد الشبهات ودفع الشكوك وإن كانت بالنسبة إلى الغابرين.
أما (إثارة الشبهة) في أذهان الناس فهي محرمة، حتى إذا كانت بحجة إثراء
ص: 194
..............................
البحث وتحريك العقول، فإنها تناقضفلسفة القرآن الكريم الذي جاء «هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ»(1) ومناقض لقولها (علیها السلام) في وصف القرآن: «أزال التظني والشبهات في الغابرين».
نعم إذا كان طرح الشبهة في مقام دفعها تحصيناً وتعليماً وللرد بشروطه كان جائزاً ، ومن الشروط قابلية القابل(2)، وأن يكون الدفع دافعاً للشبهة حقيقة.
ومن الواضح أن إثارة الشبهات مع عدم تحقق الشرطين إضلال.
عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن (علیه السلام) في قول الله عزوجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ»(3)، قال: «يعني من اتخذ دينه رأيه بغير إمام من أئمة الهدى»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا منسبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولايتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(5).
وفي الحديث: «من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنما سعى في هدم الإسلام»(6).
ص: 195
-------------------------------------------
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام)، عن علي (علیه السلام)، قال: «من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام»(1).
وهكذا يجب رد أهل الشبهة والبدعة.
كلا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً
مسألتان: من اللازم استكشاف الدوافع الحقيقية وراء التعليلات الظاهرية التي يتخذها المبطلون، ويحرم الانخداع بالتلبيسات الشيطانية فيما كان اختيارياً ولو باختيارية مقدماته،وقضية فدك من أظهر مصاديق ذلك كما ظهر من كلاماتها (علیها السلام) حيث غصبها القوم إتباعاً للشيطان وهوى النفس.
قولها (علیها السلام): «كلا» أي ليس الأمر كما تزعمون من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال هذا الحديث، «بل سولت لكم أنفسكم أمراً»، أي: أظهرت لكم أنفسكم إظهاراً سوءً في أمر فدك واغتصابها، وبعبارة أخرى زينت لكم أنفسكم أمراً قبيحاً وسهلته لكم، ومعنى ذلك أنه لم تكن مصادرتكم لفدك عن باعث عقلي ولا لدافع شرعي على خلاف ما ادعاه ابن أبي قحافه ونسبه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قوله في الحديث المفترى: «نحن معاشر الأنبياء ...»، وإنما كان ذلك بدافع هوى النفس وحرصاً على الدنيا وطمعاً في لذائذها، وكان سحقاً لحق (أي فدك) وتكريساً لغصب حق آخر ومصادرته وهو الخلافة.
ص: 196
..............................
قولها (علیها السلام): «سولت»، التسويل بمعنى تحسين ما ليس بحسن وتحبيبه إلى الإنسان ليقوم به. وهذا هو عمل إبليس (لعنه الله)، وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمرالدنيا شيئاً، فنخر إبليس نخرة فاجتمع إليه جنوده، فقال: من لي بفلان؟.
فقال بعضهم: أنا.
فقال: من أين تأتيه؟.
فقال: من ناحية النساء.
قال: لست له، لم يجرب النساء.
قال له آخر: فأنا له.
قال: من أين تأتيه؟.
قال: من ناحية الشراب واللذات.
قال: لست له، ليس هذا بهذا.
قال آخر: فأنا له.
قال: من أين تأتيه؟.
قال: من ناحية البر.
قال: انطلق فأنت صاحبه.
فانطلق إلى موضع الرجل فأقام حذاءه يصلي، قال: وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام، ويستريح والشيطان لا يستريح، فتحول إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله.
فقال: يا عبد الله، بأي شي ء قويت على هذه الصلاة؟.
ص: 197
..............................
فلم يجبه ثم أعاد عليه. فقال: يا عبد الله، إني أذنبت ذنباً وأنا تائب منه، فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة.
قال: فأخبرني بذنبك حتى أعملهوأتوب؛ فإذا فعلته قويت على الصلاة.
قال: ادخل المدينة فسل عن فلانة البغية، فأعطها درهمين ونل منها.
قال: ومن أين لي الدرهمين، وما أدري ما الدرهمين؟.
فتناول الشيطان من تحت قدميه درهمين فناوله إياهما، فقام ودخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغية، فأرشده الناس وظنوا أنه جاء يعظها، فجاء إليها بالدرهمين وقال: قومي.
فقامت فدخلت منزلها، وقالت: ادخل، وقالت: إنك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها، فأخبرني بخبرك، فأخبرها.
فقالت له: يا عبد الله، إن ترك الذنب أهون من طلب التوبة، وليس كل من طلب التوبة وجدها، وإنما ينبغي أن يكون هذا شيطاناً مثل لك، فانصرف فإنك لا ترى شيئاً.
فانصرف وماتت من ليلتها فأصبحت وإذا على بابها مكتوب: احضروا فلانة البغية؛ فإنها من أهل الجنة. فارتاب الناس فمكثوا ثلاثاً لا يدفنونها ارتياباً في أمرها، فأوحى الله عزوجل إلى نبي من الأنبياء لا أعلمه إلاّ موسى بن عمران (علیه السلام): أن ائت فلانة فصلّ عليها، وأمر الناس أن يصلوا عليها؛ فإني قد غفرت لها، وأوجبت لها الجنةبتثبيطها عبدي فلاناً عن خطيئته»(1).
ص: 198
..............................
وفي الحديث، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «والشبهة على أربع شعب: على الإعجاب بالزينة، وتسويل النفس، وتأول العوج، ولبس الحق بالباطل»(1).
وعن كميل بن زياد، عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، أنه قال - في كلام له في تسويل الشياطين -: «إِنَّهُمْ يَخْدَعُوكَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا لَمْ تُجِبْهُمْ مَكَرُوا بِكَ وَبِنَفْسِكَ، بِتَحْبِيبِهِمْ إِلَيْكَ شَهَوَاتِكَ، وَإِعْطَائِكَ أَمَانِيَّكَ وَإِرَادَتَكَ، وَيُسَوِّلُونَ لَكَ وَيُنْسُونَكَ، وَيَنْهَوْنَكَ وَيَأْمُرُونَكَ، وَيُحَسِّنُونَ ظَنَّكَ بِاللَّهِ حَتَّى تَرْجُوَهُ، فَتَغْتَرَّ بِذَلِكَ فَتَعْصِيَهُ، وَجَزَاءُ الْعَاصِي لَظَى»(2).
وقال (علیه السلام): «ردع النفس عن تسويل الهوى شيمة العقلاء»(3).وفي الغرر: «ردع النفس عن تسويل الهوى ثمرة النبل»(4).
وقال (علیه السلام): «سلوا الله سبحانه العافية من تسويل الهوى وفتن الدنيا»(5).
ص: 199
-------------------------------------------
مسائل: الصبر صبران: صبر جميل وغيره، ولعل المنصرف من الآيات والروايات الواردة في الأثر الوضعي والجزاء الأخروي على الصبر هو الأول، وربما يقال بأن الأثر والأجر الكاملين هو للجميل منهما وإن كان قسيمه أيضاً لايخلو من شيء، وربما يقال بأن غير الجميل أنواع، بعضها يحبط الأجر كاملاً وبعضها في الجملة.
ثم إن الصبر الجميل له مراتب ودرجات، وما كان أصله واجباً كان الفضل من مراتب الفضل.
أما صبر الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فكان صبراً جميلاً بأعلى درجاته.
والصبر الجميل هو الذي لا يخالطه شكاية ولا جزع ولا ما شابه ذلك، ويقابله الصبر المقرون بالجزع والشكوى وعدم الرضا بالقضاء القدر.
ومن الواضح أن رضاها (علیها السلام) بالقضاء - لا صبرها فحسب - كان في أعلى الدرجات.
وهكذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) والعترة الطاهرة (علیهم السلام).
قال أمير المؤمنين علي (علیهالسلام) يوم ما سموه بالشورى حين عرضوا عليه العمل بسيرة الشيخين: «بل أجتهد برأيي..» وقال: «ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان عَى ما تصفون»(1).
ص: 200
..............................
وقال علي (علیه السلام) لابن عباس: «يا ابن عباس، هداهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته بوحي من الله يأمرهم بموالاتي، فحمل القوم ما حملهم مما حقد على أبينا آدم (علیه السلام) من حسد اللعين له، فخرج من روح الله ورضوانه، وألزم اللعنة لحسده لولي الله، وما ذاك بضاري إن شاء الله شيئاً. يا ابن عباس، أراد كل امرئ أن يكون رأساً مطاعاً تميل إليه الدنيا وإلى أقاربه، فحمله هواه ولذة دنياه وإتباع الناس إليه أن يغصب ما جعل لي، ولولا اتقائي على الثقل الأصغر أن يبيد، فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا، وحبل الله المتين، وحصنه الأمين، ولد رسول الله رب العالمين، لكان طلب الموت والخروج إلى الله عزوجل ألذ عندي من شربة ظمآن ونوم وسنان، ولكني صبرت وفي الصدربلابل، وفي النفس وساوس، «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ»(1)، ولقديماً ظُلم الأنبياء، وقُتل الأولياء قديماً في الأمم الماضية والقرون الخالية، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله أحلف يا ابن عباس، أنه كما فتح بنا يختم بنا، وما أقول لك إلا حقاً. يا ابن عباس، إن الظلم يتسق لهذه الأمة، ويطول الظلم، ويظهر الفسق، وتعلو كلمة الظالمين...»(2)، الحديث.
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إنا صُبَّر»(3).
وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته لعلي (علیه السلام): «يا علي، اصبر على ظلم الظالمين؛ فإن الكفر يقبل والردة
ص: 201
..............................
والنفاق مع الأول منهم، ثم الثاني وهو شر منه وأظلم ثم الثالث، ثم يجتمع لكشيعة تقاتل بهم الناكثين والقاسطين، والمتبعين المضلين، واقنت عليهم هم الأحزاب وشيعتهم»(1).
وفي وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) قرب وفاته: «يا علي، ما أنت صانع لو قد تآمر القوم عليك بعدي وتقدموا عليك، وبعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة، ثم لببت بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً، وبعد ذلك ينزل بهذه الذل؟». قال: فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) صرخت وبكت، فبكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبكائها، وقال: «يا بنية، لاتبكين ولا تؤذين جلساءكِ من الملائكة، هذا جبرئيل بكى لبكائكِ وميكائيل وصاحب سر الله إسرافيل. يا بنية، لا تبكين فقد بكت السماوات والأرض لبكائكِ». فقال علي (علیه السلام): «يا رسول الله، أنقاد للقوم وأصبر على ما أصابني من غير بيعة لهم، ما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم». فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اللهم اشهد»(2).
قولها (علیها السلام): «فصبر جميل»،أي فصبري جميل، أو الصبر الجميل أولى. قالوا: إنما يكون الصبر جميلاً إذا قصد به وجه الله تعالى، وفعل للوجه الذي وجب، ذكره السيد المرتضى(3) (رضوان الله عليه).
ص: 202
-------------------------------------------
وعن علي بن محمد العسكري (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الصادق (علیه السلام): في قول الله عزوجل في قول يعقوب: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ»(1) قال: «بلاشكوى»(2).
مسألة: الاستعانة بالله مستحبة وقد تجب، كل منهما في مورده.
ومعناها: طلب العون من الله تعالى، وهو بالقلب واللفظ، وتشمل كل أفعال الإنسان.
وفي سورة الحمد: «إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ»(3) بحذف المتعلق حيث يفيد العموم.
والفرق بينها وبين التوكل مذكور في محله.
فعلى الإنسان أن يتوكل ويستعين بالله جل وعلا فيما ليس بيده، كما عليه
ص: 203
..............................
ذلك فيما بيده أيضاً، حيث اللازم أن يعمله ويتوكل، فإن دائرة الاستعانة والتوكل غير دائرة العمل والسعي، وإن كان العمل والسعي أيضاً من الله سبحانه وتعالى لأنه عزوجل مسبّب الأسباب، كماسبق شبه ذلك بالنسبة إلى كل ما في دائرة قدرة الإنسان وما ليس في دائرة قدرته، ومنه أيضاً يتضح المراد ب- «الأمر بين الأمرين» الذي ذكره الإمام (عليه الصلاة والسلام) نافياً الجبر والتفويض(1).
قولها (علیها السلام) : «بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون»، اقتباس من الآية المباركة في قصة يوسف (عليه الصلاة والسلام) حيث قال سبحانه: «وَجَآءُوا عَلَىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ»(2).
وفي هذا الاقتباس إشارات ودلالات لمن تدبره.
قال تعالى: «قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ»(3).
وقال الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام): «فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته، والجد والصبر والاستعانة بالله،والخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) »(4).
وفي نهج البلاغة: «وَأَكْثِرِ الاِسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»(5).
ص: 204
..............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وقاطع الأمنيات عند المشاورة للأعمال القبيحة، واستعينوا بالله على أداء واجب حقه، وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه»(1).
مسألة: قد يتساءل عن مراد الصديقة فاطمة (علیها السلام) من الاستعانة بالله، وعن الفائدة المتوخاة فيها، فهل هي استعانة به لاسترجاع فدك؟.
أم هي استعانة به لاستعادة الخلافة المغصوبة؟.أم هي استعانة به لفضح الغاصبين والظالمين؟.
أم هي استعانة به لكي يمنعهم من المزيد من الظلم والجور؟.
أم هي استعانة به عليهم في الآخرة؟.
والجواب: إن استعانتها (علیها السلام) به عزوجل في ما عدا الأولين واضح الوجه، وواضح التحقق والفائدة، أما الاستعانة فيهما فهي وظيفة، فكما لايلزم في الدعاء إحراز الإجابة، بل المطلوب الطلب والدعاء فإنه من مصاديق العبودية، كذلك الاستعانة حتى مع إحراز عدم الإجابة فرضاً، بالشكل الذي طلبه، فإن للاستعانة والدعاء موضوعية أيضاً.
ثم إن الدعاء يجاب حتماً - على ما ذكرناه في بعض كتبنا - وإن كانت الإجابة متأخرة، أو بشكل آخر، أو في زمن دون زمن، أو في عالم دون عالم(2).
ص: 205
..............................
كما أن في نفس الاستعانة بالله عليهم فضحاً للظالمين، إلى غير ذلك من فوائدها.
مسائل: ربما يستنبط من اقتباسها (علیها السلام) الآية الشريفة هاهنا بكاملها أمور:
منها: أن الكثير من الآيات القرآنية كليات وقواعد عامة وإن صيغت في قالب جزئي أو شخصي أو في قالب حكاية تاريخية، ولعل هذا من معاني ما ورد في الروايات من أن القرآن كالشمس(1).
ومنها: أن من الجائز استخدام الآيات الشريفة في المصاديق المشابهة للاستخدام القرآني، كقراءة آية «إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(2) وتطبيقها على طواغيت العصر من باب المصداق.
ومنها: إن الواجب الحذر من تسويل النفس.
ومنها: كفاية كلامها (علیها السلام) هذا في إدانة القوم وأن نواياهم كانت سيئة وعلى غير ما أظهروها، فإنها (صلوات الله عليها) الصديقة التي يرضىلرضاها الرب ويغضب لغضبها - كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)(3) - ولا يعقل في من حالها هذه أن تتهم جمعاً كبيراً من المسلمين بغير الحق.
ص: 206
..............................
ومنها: كفاية كلامها (علیها السلام) هذا وما سبقه ويلحقه في تفسيق القوم.
ومنها: دلالة هذا الكلام ونظائره على كون الذين خاطبتهم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) - وعلى رأسهم ابن أبي قحافة - ظالمين جائرين، وهو كافٍ في إسقاطهم عن صلاحية الخلافة، فلو فرض - وفرض المحال ليس بمحال - أن الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يعهد ولم يوص بالخلافة للإمام علي (علیه السلام) ..ولو فرض أيضاً - من باب التسليم - أنهم جاءوا للخلافة بالشورى واختيار المسلمين - ولم يكن شورى ولا اختيار - فإنهم بشهادتها (علیها السلام) هذه وأنهم كذبوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووضعوا الحديث وغيّروا حكم الله في الإرث و… لا يصلحون للخلافة في علتها المبقية، كما يستكشف عن عدم صلاحيتهم في علتها المحدثة، هذا بالإضافة إلى ما سيأتي في باقي الخطبة الشريفة وغيره في غيرها منعدم صلاحيتهم للخلافة حدوثاً وبقاءً.
قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ»(1).
ص: 207
-------------------------------------------
فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابكِ، ولا أنكر خطابكِ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما تقلّدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.
إلفات: يمكن لمن يعتقدون بأبي بكر أن يكتشفوا من تصريحه هذا مدى مكانة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) في نفوس المسلمين الأوائل، وأنهم كانوا يرونها ركن الدين وعين الحجة ومعدن الحكمة - لا حكيمة فحسب - وموطن الهدى والرحمة ...
ثم إن مثل هذا التصريح - بل الأقل منه بكثير - لم يصدر عن أبي بكر تجاه عائشة وحفصة، ومنه يعلم البون الشاسع حتى في أعين مخالفي الزهراء (علیها السلام) بينها وبين معارضاتها.
إلفات آخر: إن إقرار ابن أبي قحافة بكل ذلك إبطال لنفسه بنفسه، حيث أبطل به كل كلماته السابقة واللاحقة في موضوع فدك وغصب الخلافة، وإقراره هذا يؤخذ به دون معاكساته؛ لأن تلك جرالنار إلى قرصه، ولاحتفافها بقرائن الجعل الأخرى دون هذا الإقرار.
وقوله: (صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته)، تصديق منه لتوارث الأنبياء (علیهم السلام) ودلالة الآيات الشريفة على إرث البنت من أبيها، وأن الأمر كما
ص: 208
..............................
ذكرته الصديقة الطاهرة (علیها السلام).. وأن حديث (نحن معاشر...) الذي رواه كذب.
وقوله: (ركن الدين وعين الحجة)، إقرار بأن الصديقة (علیها السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) قوام الدين فلا دين بدونهم، فإن الشيء لا يقوم بلا ركن، كما هو إقرار بأن الصديقة (علیها السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) لهم الحجة والحجية، فهم حجج الله حقاً، وكلامهم وفعلهم حجة، ومن هنا فإن من يقف في قبال ركن الدين وعين الحجة لا يكون إلا على باطل.
وكذلك قوله: (لا أبعد صوابكِ، ولا اُنكر خطابكِ)، اعتراف صريح بصدق الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وصواب ما قالته، وإقرار بجميع خطابها (علیها السلام) في إرثها وإرث الأنبياء (علیهم السلام) ومسألة الخلافة.قوله: (قلدوني ما تقلدت)، هذا إقرار منه بأن غصبه للخلافة ولفدك لم يكن بأمر من الله ولا من قبل رسوله (صلی الله علیه و آله) ولا طبق الكتاب العزيز، بل من جهة اجتماع هؤلاء القوم على ذلك.
إلفات ثالث: قوله (هم بذلك شهود)، لا دليل على صحته حتى بالنسبة إلى الحاضرين في المسجد، فكانت هذه مجرد دعوى لا دليل عليها، بل الدليل على عدمها.
وأما سكوت جمع منهم عن تكذيبه، فليس دليل على التسليم بكلامه، إذ من الواضح خوف الناس من معارضة الحاكم وتكذيبه، والأدلة التاريخية كثيرة على جو الإرهاب الذي فرض على الناس ساعتئذ، فليراجع في مظانه.
ص: 209
..............................
ثم إن السكوت لا يكفي في مقام الشهادة، كما أنه لايدل على الرضا إلا فيما استثني كما ذكره الفقهاء في باب النكاح ورضا البكر(1).
مسألة: كما أن السكوت على الباطل محرم كذلك الرضا به على ما سبق.
عن معمر بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لعن الله القدرية، لعن الله الحرورية، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة».
قلت: كيف لعنت هؤلاء مرة ولعنت هؤلاء مرتين؟.
فقال: «إن هؤلاء زعموا أن الذين قتلونا كانوا مؤمنين فثيابهم ملطخة بدمائنا إلى يوم القيامة، أما تسمع لقول الله: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» إلى قوله: «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(2) - قال: - وكان بين الذين خوطبوا بهذا القول وبين القاتلين خمسمائة عام، فسماهم الله قاتلين برضاهم بما صنع أولئك»(3).
وعن محمد بن الهيثم التميمي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: «كَانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ». قال: «أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسونمجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وآنسوا بهم»(4).
ص: 210
..............................
لقد حاول أبو بكر أن يبرأ ساحته، وينقل المعركة من معركة بينه وبين الصديقة الزهراء (علیها السلام) إلى معركة بين (المسلمين) - حسب تعبيره - وبينها (علیها السلام)، وهذا من أخطر أنواع المكر.
ثم إن ذلك لا ينفي عنه تجرؤه على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بوضعه الحديث وكذبه على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث وضَعَ تلك الرواية أولاً، ولكنه عندما حاججته الصديقة (علیها السلام) بالقرآن تراجع وقال: (صدقت ابنته..)، وهذا مما يُلزم به هو وأتباعه.
ثم إن استدلاله أضعف من الضعيف، أفهل للمسلمين - على فرض أن كانوا كما قال قد قلدوه ما تقلد ... - أن يحكموا بخلاف القرآن؟.
وهل الإجماع على فرضه حجة في مقابل الكتاب؟. وقد قال تعالى: «فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَيَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً»(1).
أو ما كان الأحرى به أن يلتزم بحكم القرآن ويدعو الناس أيضاً إلى الالتزام به؟!
«كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ»(2).
ص: 211
..............................
قال تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»(1).
وقال سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2).
وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(3).
وقال سبحانه: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(4).
وقال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْكُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(5).
وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»(6).
ص: 212
..............................
وقال تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ»(1).
وقال سبحانه: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(2).
وقال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً»(3).
وقال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خالِدِينَ فِيها أَبَداً لايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ»(4).
وقال تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً»(5).
وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»(6).
ص: 213
..............................
وقال تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»(1).
وقال سبحانه: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»(2). وقال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»(3).
عن عاصم بن حميد، عن أبي إسحاق النحوي، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فسمعته يقول: «إن الله عزوجل أدّب نبيه على محبته فقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(4)، ثم فوّض إليه فقال عزوجل: «وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(5)، وقال عزوجل: «مَنْيُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ»(6) - ثم قال - وإن نبي الله فوض إلى علي (علیه السلام) وائتمنه، فسلّمتم وجحد الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(7).
ص: 214
..............................
وعن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله (علیهما السلام) يقولان: «إن الله عزوجل فوض إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم - ثم تلا هذه الآية -: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1)»(2).
وعن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إن الله عزوجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(3)، ثم فوض إليهأمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عزوجل: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4)، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق فتأدب بآداب الله ... وليس لأحد أن يرخص ما لم يرخصه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فوافق أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر الله عزوجل ونهيه نهي الله عزوجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى»(5).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) دية العين ودية النفس، وحرم النبيذ وكل مسكر». فقال له رجل: وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غير أن يكون جاء فيه شيء(6)؟. فقال: «نعم، ليعلم من يطيع الرسول
ص: 215
..............................
ممن يعصيه»(1).
في نوادر محمد بن سنان قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمة (علیهم السلام)، فقال: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَراكَ اللَّهُ»(2)، وهي جارية في الأوصياء»(3).
وعن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إن الله أدب محمداً (صلی الله علیه و آله) تأديبا ففوض إليه الأمر وقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4)، وكان مما أمره الله في كتابه فرائض الصلب وفرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) للجدّ فأجاز الله ذلك له، وحرم الله في كتابه الخمر بعينها وحرّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل مسكر فأجاز الله ذلك له»(5).
ص: 216
-------------------------------------------
معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل
مسألة: يحرم الإسراع إلى قيل الباطل، فإن الذهاب إلى الباطل محرم، والإسراع إليه أشد حرمة، كما قلنا مثل ذلك في بعض البنود السابقة.
وبما أن أبا بكر أجابها بجواب مضمونه أن المسلمين هم الذين وافقوا على ما فعلت وفوّضوا الأمر إليه، فكان اللازم أن توجّه الصديقة الزهراء (علیها السلام) الخطاب إلى أولئك الذين آزروه على غصبه للخلافة ولفدك، فتقصدهم باللوم والعتاب مباشرة.. ولهذا قالت الصديقة (علیها السلام): «معاشر المسلمين»، وفي بعض النسخ: «معاشر الناس».
(معاشر): جمع معشر، والمعشر بمعنى: الجماعة. ولعل السبب في التعبير ب- (معاشر) دون معشر؛ لأنهم كانوا مجاميع لاعلى قلب واحد، بل لكل هوى وهدف ومصلحة وسبب في معاضدته للباطل أو سكوته عليه، إذ كانوا جماعات أنصار ومهاجرين وفي كل واحدمن هذين جماعات(1) ولو كانوا على قلب واحد وإيمان واحد لكان التعبير بمعشر المسلمين.
(قيل الباطل): أي قول الباطل، فإن القيل والقال في القول الشر والباطل، فهما مصدران أيضاً، وقيل: بأنهما اسما مصدر للقول، أما (قيل) المجهول في قبال (قال) المعلوم فهو من الفعل كما لا يخفى.
ص: 217
..............................
والظاهر أن (المسرعة إلى قيل الباطل) قيد احترازي وليس توضيحياً، فقد قيدت (علیها السلام) ما أطلقه أبو بكر (هؤلاء المسلمين) محاولاً أخذ الشرعية من أنهم أعطوه الصلاحية! فأجابت عن ذلك ضمناً بأن المسلمين المسرعين إلى قيل الباطل المغضين عن الفعل القبيح الخاسر هم الذين أعطوه الصلاحية لا كل المسلمين، فلا إجماع في البين.
لا يقال: كيف تقول الصديقة (علیها السلام): «معاشر المسلمين»، والحال أنهم كانوا الأقلية من الأقلية كماسبق؟.
إذ يقال: أولاً: (معاشر المسلمين) و(معاشر الناس) وغيرها تطلق على من هم طرف الخطاب وإن كانوا مجموعة غير كبيرة مجتمعة في مسجد - كما في هذه الخطبة - أو قاعة أو ما أشبه، ألا ترى صحة أن يخاطب الخطيب أو إمام الجماعة من حضر في مسجده أو مجلسه ب- (معاشر الناس أوصيكم بتقوى الله) وما أشبه؟. هذا وفي بعض النسخ: «معاشر المسرعة» من دون إضافة إلى الناس أو المسلمين.
وثانياً: لقد قلنا إن الذين بايعوا أبا بكر كانوا الأقلية من الأقلية - إذ كانوا مجموعة من أهل المدينة فحسب - وخطابها الآن لهم وللذين غضوا الطرف عن ظلامتها وسكتوا على ظلمها، فلو فرض دلالة خطابها العام على العموم لم يكن دالاً على عمومية البيعة كما هو واضح من أن يخفى.
وثالثاً:لقد ثبت أن من بايع لم يكن بملء اختياره وإرادته،بل كان الأكثر منهم خوفاً ومجموعة منهم طمعاً (1) أما من بايع اقتناعاً فكان (النادر) لا (الأقلية)
ص: 218
..............................
فحسب، وقد قال عمر بن الخطاب: (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها)(1).
ورابعاً: لو فرض دلالة الجملة على جمهرة كثيرة، فإن من غير البعيد أن خطابها (علیها السلام) لمعاشر المسلمين في ذلك الزمن وعلى مر الأزمان ممن تبع أولئك الأوائل ولا يزال مسرعاً إلى قيل الباطل ومغضياً عن الفعل القبيح الخاسر، فلا دلالة إذن على كونهم جمهرة كبيرة في ذلك الزمن.
لا يقال: لماذا استجابتها (علیها السلام) لمحاولته الخدعة بتحويل الصراع بينه وبينها إلى المسلمين معها؟ أي لماذا وجهت خطابها إلى المسلمين ولامتهم بدل أن تعود مرة أخرى لعتابه والإشكال عليه؟.
إذ يقال: لأنها (علیها السلام) أتمت الحجة على أبي بكر فيما سبق من الكلام، فبقي أن تتم الحجة على الناس أيضاً، بل هي إتمام الحجة للجميع على مر الدهور والأزمان، فقد أرادت (علیها السلام) لخطبتها أن تكون مدرسة متكاملة في شتى البحوث ولشتى المستويات، منها الحاكم ومنها المحكومون، ومنها المخاطبون ومنها الآتون فيما بعد، إلى غير ذلك.
مسألة: قد يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ذم ظاهرة اجتماعية قد تكون عامة،وهي أن الناس عادة تسرع إلى الأقاويل الباطلة،ومنها الإشاعات
المغرضة ضد المصلحين، فيتوجب على المرء الانتباه وأن لا يخدعه الجمهور، كما يتوجب على المصلح اليقظة والحذر والتخطيط لتلافي ذلك.
ص: 219
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الإغضاء على الفعل القبيح الخاسر، إذا كان مما استقل العقل بقبحه بحيث يمنعه من النقيض (كالظلم)، أو مما حرّمه الشارع. فإن اللازم على الناس تغيير القبيح لا أن يغضوا الطرف عنه أو يكونوا محايدين بالنسبة إليه، بل يجب النهي عن المنكر.
ونسبة الخسران إلى الفعل القبيح من باب علاقة السبب والمسبب كما قيل في (البلاغة)، وإلا فالإنسان الفاعل للقبيح هو الخاسر، وذلك كقوله تعالى:«فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ»(1) حيث نسبة الربح إلى التجارة من باب السبب.
نعم، ربما يقال بحقيقية النسبة وذلك بلحاظ تجسم الأعمال، فإن العمل يكون خاسراً أو رابحاً كما لا يخفى على المتأمل.
(المغضية): إغضاء البصر بمعنى خفضه والنظر إلى الأرض، وهذا يستدعي عدم رؤية الإنسان أمامه، كما في قوله تعالى: «قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ»(2)، وقال عزوجل: «وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ»(3).
ولعل في قولها (علیها السلام): «القبيح» تنبيهاً إلى أن غصب الإرث وفدك والكذب على الرسول (صلی الله علیه و آله) وغصب الخلافة قبيح عقلاً قبل أن يكون قبيحاً شرعاً، فهو نوع من إثارة دفائن عقولهم، ويتضح ذلك مما لو كان التعبير ب-
ص: 220
..............................
(الفعل المحرم) فهي (علیها السلام) بهذه الكلمة تحاول إثارة عقولهم وفطرتهم،وب- (الخاسر) تحاول ردعهم عبر التنبيه على الآثار.
(الخاسر): صفة الفعل القبيح، أي أن هذا الفعل يوجب الخسارة، فهو من باب وصف الشيء بحال متعلقه، ويحتمل - بعيداً - أن يكون صفة معاشر المسلمين على الإنفراد أي: كل واحد منهم خاسر، أو معشر معشر منهم خاسر، من قبيل: «فَانْظُرْ إِلَىَ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ»(1) أي: لم يتسنه كل واحد منهما.
ثم إن (الفعل الخاسر) أعم من الخسارة الدنيوية والأخروية، فإنهم لو لم يقوموا بتلك الجرائم من غصب الخلافة وغصب فدك وإبعاد أهل البيت (علیهم السلام) عن مقامهم، وسكوتهم على الباطل، كانوا كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَ-َكِن كَذّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ»(2).
مسألة: يستفاد من كلام الصديقة (علیها السلام) ظاهرة اجتماعية أخرى بحاجة إلى إعادة النظر والسعي للقضاء عليها، وهي أن الناس عادةً لا تصطدمبالحكام الظلمة ولا بالطغاة والفراعنة، وبشكل عام فإنها تفضل السكوت على الباطل والإغضاء عن الجرائم والجنايات التي يرتكبها (الكُبّار) أو غيرهم في المجتمع،
ص: 221
..............................
وذلك خوفاً على مصالحهم الشخصية، فإن «الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون»(1).
وهذا التاريخ - بل الحياة المعاصرة - أكبر شاهد على ما نقول.
وقد قال النبي عيسى (علیه السلام) في مواعظه لعبيد الدنيا:
«ويلكم يا عبيد السوء، كيف ترجون أن يؤمنكم الله من فزع يوم القيامة وأنتم تخافون الناس في طاعة الله، وتطيعونهم في معصيته، وتفون لهم بالعهود الناقضة لعهده، بحق أقول لكم لا يؤمن الله من فزع ذلك اليوم من اتخذ العباد أرباباً من دونه.
ويلكم يا عبيد السوء، من أجل دنيا دنية وشهوة رديئة تفرطون في ملك الجنة، وتنسون هول يوم القيامة.ويلكم يا عبيد الدنيا، من أجل نعمة زائلة وحياة منقطعة تفرون من الله وتكرهون لقاءه، فكيف يحب الله لقاءكم وأنتم تكرهون لقاءه، وإنما يحب الله لقاء من يحب لقاءه، ويكره لقاء من يكره لقاءه، وكيف تزعمون أنكم أولياء الله من دون الناس وأنتم تفرون من الموت وتعتصمون بالدنيا...»(2).
ص: 222
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الترك المطلق للتدبر في القرآن الكريم، أي عامة الناس في عامة آياته، فإنه من أجلى مصاديق اتخاذ القرآن مهجوراً، وهو إعراض عن الآيات التي تأمر بالتدبر وتنهى عن الهجر، إلى غير ذلك. قال تعالى: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ»(1).
وقال سبحانه: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً»(2).
وقال تعالى: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(3).
وقال سبحانه: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جََاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ»(4).
لكن هل يحرم على الفرد ترك التدبر مطلقاً بعد عمل العموم به؟.الظاهر ذلك لنفس الأدلة، ولكن لا يلزم التدبر في كل الآيات على مر الأزمنة، بل الواجب بمقدار الصدق العرفي كماً وكيفاً.
والمراد بالتدبر: استخراج أحكامه وفهم الحياة ومعرفة الحق وأخذ العبرة منه - كما في أحوال الأمم السالفة - والاستعداد للآخرة.
ص: 223
..............................
ثم إن التدبر يختلف معناه عن التفسير بالرأي(1) الذي ورد فيه: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(2)، وقد أشرنا إلى الفرق فيما سبق.
قولها: «أفلا تتدبرون» اقتباس من الآية الكريمة : «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْعَلى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(3).
وفي الروايات: إن معنى الآية أفلايتدبرون القرآن فيقضوا بما عليهم من الحق(4).
مسألة: يستحب إرشاد الناس ودعوتهم للتدبر في القرآن، وقد يجب ذلك كل في مورده، ففي مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير الواجب يكون واجباً، فإن عدم التدبر في القرآن كان من أهم أسباب تخلف المسلمين، لآن آياته تكفلت سعادة الدنيا والآخرة «إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(5).
كما أن من الواجب على دعاة النهضة والتغيير، إضافة إلى توجيه الناس للتدبر في القرآن، أن يرشدوهم لضوابطه وقواعده كي يحولوا دون استغلال المستغلين وتحريفات الضالين.
ص: 224
..............................
قولها (علیها السلام): «أفلا تتدبرون...» أي: هل تعجزون عن التدبر والتأمل في القرآن؟ أم أنكم قادرونلكن تأبى أنفسكم ذلك، هذا إذا كان (أم) بمعنى: أحد الأمرين، أما إذا كان بمعنى: الإضراب، فمعناه: بل الأقفال التي على قلوبكم تمنعكم من التدبر.
والمراد بالأقفال هو: الطبع على القلب(1)؛ لأن الإنسان إذا تمادى في المعصية طُبع على قلبه كأن على قلبه القفل، وهذا اقتباس من القرآن أيضاً.
قال سبحانه: «تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ»(2).
وقال تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ»(3).
وقال سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(4).
وقال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُعَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ»(5).
ص: 225
..............................
وقال سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لايَفْقَهُونَ»(1).
مسألة: يستفاد من قول الصديقة الطاهرة(علیها السلام):«أفلا تتدبرون القرآن.. » أن أولئك القوم لم يكونوا من المتدبرين للكتاب عموماً، والمورد لا يخصص الوارد خاصة بعد تأييد قرائن المقام، وكون سيرتهم العملية على عدم التدبر عموماً، فإنهم لو تدبروا لأرعووا ولما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الخسران المبين، ولما حصل حتى حروبهم المسماة بالردة وغيرها.
ويستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً: إن القوم كانوا ممن طبع الله على قلوبهم وكانت الأقفال عليها.
قال تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2).
وقال سبحانه: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِاللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(3).
ص: 226
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن الأعمال السيئة تؤثر على قلب الإنسان فيؤخذ بسمعه وبصره، وقد يجب بيانه كما ذكر في البند السابق، وإنما تؤثر الأعمال السيئة على قلب الإنسان؛ لأنها توحي إلى القلب، كما أن في عكسه: الأعمال الحسنة توحي إلى الملكات الحسنة، وقد ذكرنا في بعض ما سبق أن كلاً من النفس والبدن يؤثر أحدهما على الآخر وفيه، فليس المراد بالقلب: القلب الصنوبري، وإنما يراد به: النفس، وهذا اقتباس من قوله سبحانه وتعالى: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
و(الرين) هو الوسخ الذي يعلو المرآة ونحوها، وهذا تشبيه للمعقول بالمحسوس؛ لأن الإنسان إذا أساء في العمل انحرف قلبه عن جادة الصواب شيئاً فشيئاً فكأنّ هناك غطاء على قلبه. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه وإن زاد زادت، فذلك الرين الذيذكره الله في كتابه: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2)»(3). وفي الغرر قال مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام): «قد قادتكم أزمة الحين، واستغلقت على قلوبكم أقفال الرين»(4).
ص: 227
..............................
وفي نهج البلاغة قال (علیه السلام): «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ وَاسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ»(1).
قال الجوهري: (الرين الطبع والدنس. يقال: ران على قلبه ذنبه يرين ريناً وريوناً، أي: غلب)(2).
وقال بعضهم: الرين الطبع والتغطية.
وقال بعضهم: الرين الصداء.
وقيل: الرين الذنب على الذنب حتىيموت القلب.
وقيل: معنى ران غطى وغشي.
مسألة: الواجب الحذر من السيئات بل من صغارها أيضاً، فإن السيئات بعضها آخذ بعنق بعض، كما أن الحسنات كذلك، على ما ورد في الرواية.
وهذا ما يستفاد من كلامها (علیها السلام) إذ أن سيئتهم الكبرى هذه كانت امتداداً لسيئات سابقة لهم، حيث قالت (علیها السلام): «ما أسأتم من أعمالكم».
ص: 228
..............................
مسألة: هاهنا شهادتان من سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (علیها السلام):
أولاهما: إنهم أساءوا في أعمالهم، أي الكثير من أعمالهم إن لم نقل كلها، لمكان الجمع المضاف، فتأمل.
فيكشف ذلك أن سيئتهم هذه كانت نتيجة لسيئات أخرى كثيرة، وفي ذلك عبرة للعالمين وأية عبرة.
وثانيتهما: إن قلوبهم أيضاً أصبحت ملوثة ومغطاة بالدنس «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(1).
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الله عزوجل يقول: «فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2)، وكيف يهتدي من لم يبصر، وكيف يبصر من لم يتدبر، اتبعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام)، وأقروا بما نزل من عند الله، واتبعواآثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم (علیه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار، والتمسوا من وراء الحجب الآثار، تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم»(3).
وفي التوقيع الشريف من أبي محمد (علیه السلام) لإسحاق بن إسماعيل:
ص: 229
..............................
«يا إسحاق بن إسماعيل، سترنا الله وإياك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، قد فهمت كتابك رحمك الله، ونحن بحمد الله ونعمته أهل بيت نرق على موالينا، ونسر بتتابع إحسان الله إليهم وفضله لديهم، ونعتد بكل نعمة ينعمها الله عزوجل عليهم، فأتم الله عليكم بالحق، ومن كان مثلك ممن قد رحمه وبصره بصيرتك، ونزع عن الباطل، ولم يعم في طغيانه بعمه، فإن تمام النعمة دخولك الجنة، وليس من نعمة وإن جل أمرها وعظم خطرها إلا والحمد لله تقدست أسماؤه عليها يؤدي شكرها، وأنا أقول: الحمد لله مثل ما حمد الله به حامد إلى أبد الأبد بما منّ به عليك من نعمته، ونجاك منالهلكة، وسهل سبيلك على العقبة، وأيم الله إنها لعقبة كئود، شديد أمرها، صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، طويل عذابها، قديم في الزبر الأولى ذكرها. ولقد كانت منكم أمور في أيام الماضي (علیه السلام) إلى أن مضى لسبيله (صلى الله على روحه) وفي أيامي هذه كنتم فيها غير محمودي الشأن، ولا مسددي التوفيق. واعلم يقيناً يا إسحاق أن من خرج من هذه الحياة الدنيا «أَعْمى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً»(1)، إنها يا ابن إسماعيل ليس تعمى الأبصار«وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2) وذلك قول الله عزوجل في محكم كتابه للظالم: «رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً»(3) قالَ الله عزوجل: «كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى»(4)، وأي آية يا إسحاق أعظم من حجة الله عزوجل على خلقه، وأمينه
ص: 230
..............................
في بلاده، وشاهده على عباده، من بعدما سلف من آبائه الأولين من النبيين، وآبائه الآخرين من الوصيين (عليهم أجمعين رحمة الله وبركاته). فأين يُتاه بكم؟! وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم؟! عن الحق تصدفون، وبالباطل تؤمنون، وبنعمة الله تكفرون أو تكذبون، فمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض «فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» ومن غيركم «إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيا»(1) الفانية، وطول عذاب الآخرة الباقية، وذلك والله الخزي العظيم.
إن الله بفضله ومنّه لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليكم، بل رحمة منه لا إله إلا هو عليكم لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلِيَبْتَلِيَ... مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، ولتألفوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج والعمرة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والولاية، وكفى بهم لكم باباً ليفتحوا أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمد (صلی الله علیه و آله) والأوصياء من بعده لكنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل يدخل قرية إلا من بابها، فلما منّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيه قال الله عزوجل لنبيه (صلی الله علیه و آله): «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْدِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»(2)، وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها إليهم ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم، وأموالكم، ومأكلكم، ومشربكم، ويعرفكم بذلك النماء والبركة والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، قال الله عزوجل: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
ص: 231
..............................
إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1). واعلموا أن «مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ» على نفسه وأن الله هو «الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ»(2) لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ... فاعملوا من بعد ما شئتم «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» ثم تردون «إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3)، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والحمد لله كثيراً رب العالمين»(4).
مسألة: الواجب على الإنسان - في إصلاح نفسه - أن يتجه اتجاهين ويتحرك حركتين:
مسألة: الواجب على الإنسان - في إصلاح نفسه - أن يتجه اتجاهين ويتحرك حركتين:
1: حركة إلى الداخل، بتطهير قلبه من الشرك والحسد والحقد والبغضاء والنفاق و...
2: حركة إلى الخارج، بتطهير جوارحه عن اجتراح المعاصي.
ومن ذلك يعرف أن واجب المصلحين هو تطهير المجتمع في كلا البعدين واللازم وضع برامج تفي بكلا الجانبين.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ليخشع لله سبحانه قلبك، فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه»(5).
ص: 232
..............................
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه سُئل ما القلب السليم؟ فقال: «دين بلا شك وهوى، وعمل بلا سمعة ورياء»(1).
وفي تفسير القمي «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(2)، قال: «القلب السليم الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه»(3).وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم؛ لأن سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية لله تعالى في الأمور كلها، قال الله تعالى: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(4)»(5).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا»(6).
وقال (علیه السلام): «طهّروا قلوبكم من درن السيئات تضاعف لكم الحسنات»(7).
ص: 233
..............................
مسألة: هناك ترابط وثيق بين (الإساءة في العمل) وبين (الرين و الطبع على القلب) وبين (تزيين الشيطان)، وكل منها يؤثر في الآخر ويتأثر به أيضاً، وقد أشارت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) إلى الأولين هاهنا وإلى الثالث فيما سبق(1).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من مات قلبه دخل النار»(2).
وقال (علیه السلام): «الرجل بجنانه»(3).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال: «ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، و هو قول الله عزوجل: «كَلاَّ بَلْ رانَعَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»(4)»(5).
كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه»(6).
ص: 234
..............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا أذنب العبد كان نقطة سوداء على قلبه، فإن هو تاب وأقلع واستغفر صفا قلبه منها، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب، والسواد على السواد حتى يغمر القلب فيموت بكثرة غطاء الذنوب عليه، وذلك قوله تعالى: «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1)»(2).
وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(3).وعن النبي (صلی الله علیه و آله): «قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر، وقلب الكافر أسود منكوس»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإن عمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم»(5).
وعن المدائني، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «كان أبي يقول: إن الله قضى قضاءً حتماً لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة»(6).
وهذه بعض آثار الذنوب والتفصيل في مظانه.
ص: 235
-------------------------------------------
مسألة: هل يحرم فعل كل ما يأخذ بالسمع والبصر؟. فمثلاً هل تحرم مجالسة البطالين، أو مجالسة أصدقاء السوء، أو النظر إلى برامج عبثية، أو ما أشبه ذلك؟.
قال الإمام السجاد (علیه السلام):«أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني»(1).
الظاهر أن المحرم هو ما وقع طريقاً إلى المعصية ولو بالواسطة(2)، فإن (حب الشيء يعمي ويصم)، وحينئذ لا يسمع الإنسان الحق ولا يبصر الحق وإنما يسمع ويبصر ما يوافق شهواته وأهواءه.
هذا وربما أمكن القول بحرمة بعض المراتب منها.
أي: أن هذا الرين أخذ بسمع قلوب القوم وأبصارها، فأصبحت لا تسمع ولا تبصر، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالأَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ»(3).
وفي الحديث: قام رجل إلى علي (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الناس وأشباه الناس والنسناس؟.
ص: 236
..............................
قال: فقال علي (علیه السلام): «أجبه يا حسن».
قال: فقال له الحسن (علیه السلام): «سألت عن الناس فرسول الله (صلی الله علیه و آله) الناس؛ لأن الله تعالى يقول: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ»(1) ونحن منه، وسألت عن أشباه الناس فهم شيعتنا وهم منا وهم أشباهنا، وسألت عن النسناس فهم هذا السواد الأعظم وهو قول الله تعالى في كتابه: «إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(2)»(3).
قولها (علیها السلام): «فأخذ بسمعكم وأبصاركم»؛ لأن الذي يرين على قلبه لاتطيعه جوارحه إلى الحق، فيسمع غير الحق، ويبصر غير الحق، ويتكلم بغير الحق، وغير ذلك من حواسه، فإنها كلها تتجه إلى جادة الخطأ.
ص: 237
-------------------------------------------
مسألة: يحرم التأويل الشخصي(1) للأمور الدينية على خلاف ما أمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) به، فإن هذا النوع من التأويل هو إحدى مكائد الشيطان وشباكه وبواباته نحو البدعة والضلالة، ومن ذلك يتضح حرمة كثير من تؤيلات الصوفية والعرفاء والفلاسفة وأضرابهم للآيات والنصوص الشريفة، وكذلك تأويلات الظالمين والطغاة والمستكبرين لها، ومنها ما يحاولون به تثبيت حكومتهم على الناس كوجوب إطاعة ولي الأمر - وهو الحاكم عندهم فاسقاً كان أم عادلاً - مع أن المراد به هو المعصوم (علیه السلام)، إلى غير ذلك.
قال تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ»(2)، ومن أهم مصاديق التحريف هو حمله على غير المراد.
وفي تفسير القمي: «وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْمَواضِعِهِ»(3) قال: من نحّى أمير المؤمنين (علیه السلام) عن موضعه، والدليل على ذلك أن الكلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (4).
قولها (علیها السلام): «ولبئس ما تأولتم» أي: ما تطلبتم من التأويل لإبطال الحق وإحياء الباطل، أو آل إليه أمركم من ذلك.
ص: 238
..............................
مسألة: يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) أن مآل أمر القوم بئيس، حيث قالت: «ولبئس ما تأوّلتم».
ومعنى التأويل ما ينتهي إليه الأمر من (آل يؤول)، كما قال سبحانه: «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(1).
أو المراد: بئس تأويلكم وصرفكم القرآن والأحكام عن واقعها.
أو: بئس تأويلكم وصرفكم الخلافة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى منلايستحقها.
ويؤيده ما بعده من الجمل.
ص: 239
-------------------------------------------
مسألة: تحرم الإشارة بالباطل، ويستحب أن يبين للناس ما ارتكبه الغاصبون من الإشارة المنحرفة، وربما كان واجباً على ما ذكرناه سابقاً.
و(أشار إليه) بمعنى: دل عليه وأرشده إليه، فذكر له بأن الطريق هذا لاذاك، وأن الصراط هذا لا ذاك.
ومن الواضح أن الإشارة إلى الباطل - بالمعنى المذكور - محرمة، كما أن الإشارة إلى الحق واجبة، وربما كانت مستحبة في الحق المستحب كما ذكره الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي قصة الأعرابي الذي سأل عن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرشدوه إلى أبي بكر، فلما عجز عن جوابه جاؤوا به إلى أبي الحسن علي (علیه السلام) فأخذ الجواب، قال الأعرابي: ويحكم يا أصحاب رسول الله والذي أشرتم إليه بالخلافة - يعني ابن أبي قحافة - ليس فيه من هذه الخلال خلة.
فعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (علیه السلام): «أن أعرابياً بدوياً خرجمن قومه حاجاً محرماً، فورد على أدحي نعام فيه بيض فأخذه واشتواه وأكل منه، وذكر أن الصيد حرام في الإحرام، فورد المدينة فقال الأعرابي: أين خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد جنيت جناية عظيمة؟.
فأرشد إلى أبي بكر، فورد عليه الأعرابي وعنده ملأ من قريش فيهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة.
ص: 240
..............................
فسلّم الأعرابي عليهم فقال: يا قوم، أين خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟.
فقالوا: هذا خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
فقال: أفتني.
فقال له أبو بكر: قل يا أعرابي.
فقال: إني خرجت من قومي حاجاً، فأتيت على أدحي فيه بيض نعام فأخذته فاشتويته وأكلته، فماذا لي من الحج وما عليَّ فيه، أحلالاً ما حرم عليَّ من الصيد أم حراماً؟.
فأقبل أبو بكر على من حوله فقال: حواري رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه أجيبوا الأعرابي.قال له الزبير من بين الجماعة: أنت خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنت أحق بإجابته!.
فقال أبو بكر: يا زبير، حب بني هاشم في صدرك؟.
قال: وكيف لا وأمي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
فقال الأعرابي: إنا لله ذهبت فتياي فتنازع القوم فيما لا جواب فيه، فقال: يا أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) استرجع بعد محمد (صلی الله علیه و آله) دينه فنرجع عنه؟.
فسكت القوم، فقال الزبير: يا أعرابي، ما في القوم إلا من يجهل ما جهلت.
قال الأعرابي: ما أصنع؟.
قال له الزبير: لم يبق في المدينة من تسأله بعد من ضمه هذا المجلس إلا صاحب الحق الذي هو أولى بهذا المجلس منهم.
ص: 241
..............................
قال الأعرابي: فترشدني إليه؟.
قال له الزبير: إن إخباري يسر قوماً ويسخط قوماً آخرين.
قال الأعرابي: وقد ذهب الحق وصرتم تكرهونه؟.
فقال عمر: إلى كم تطيل الخطاب ياابن العوام، قوموا بنا والأعرابي إلى علي (علیه السلام) فلا تسمع جواب هذه المسألة إلاّ منه.
فقاموا بأجمعهم والأعرابي معهم حتى صاروا إلى منزل أمير المؤمنين (علیه السلام) فاستخرجوه من بيته وقالوا: يا أعرابي، اقصص قصتك على أبي الحسن (علیه السلام).
فقال الأعرابي: فلِمَ أرشدتموني إلى غير خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟.
فقالوا: يا أعرابي، خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبو بكر! وهذا وصيه في أهل بيته، وخليفته عليهم، وقاضي دينه، ومنجز عداته، ووارث علمه.
قال: ويحكم يا أصحاب رسول الله والذي أشرتم إليه بالخلافة ليس فيه من هذه الخلال خلة.
فقالوا: يا أعرابي، سل عما بدا لك ودع ما ليس من شأنك.
قال الأعرابي: يا أبا الحسن، يا خليفة رسول الله إني خرجت من قومي محرماً.
فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): تريد الحج فوردت على أدحي وفيه بيض نعام فأخذته واشتويته وأكلته.
فقال الأعرابي: نعم يا مولاي.فقال له: وأتيت تسأل عن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرشدت إلى مجلس أبي بكر وعمر، فأبديت بمسألتك فاختصم القوم ولم يكن فيهم من يجيبك على مسألتك؟.
ص: 242
..............................
فقال: نعم يا مولاي.
فقال له: يا أعرابي، الصبي الذي بين يدي مؤدبه صاحب الذؤابة فإنه ابني الحسن (علیه السلام)، فسله فإنه يفتيك.
قال الأعرابي: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات دين محمد (صلی الله علیه و آله) بعد موته وتنازع القوم وارتدوا.
فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): حاش لله يا أعرابي، ما مات دين محمد (صلی الله علیه و آله) ولن يموت.
قال الأعرابي: أفمن الحق أن أسأل خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحواريه وأصحابه فلا يفتوني ويحيلوني عليك فلا تجيبني وتأمرني أن أسأل صبياً بين يدي المعلم، ولعله لا يفصل بين الخير والشر.
فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): يا أعرابي، لا تقف ما ليس لك به علم، فاسأل الصبي فإنه ينبئك.
فمال الأعرابي إلى الحسن (علیه السلام) وقلمه في يده ويخط في صحيفتهخطاً، ويقول مؤدبه: أحسنت، أحسنت، أحسن الله إليك.
فقال الأعرابي: يا مؤدب الحسن الصبي فتعجب من إحسانه وما أسمعك تقول له شيئاً حتى كأنه مؤدبك.
فضحك القوم من الأعرابي وصاحوا به: ويحك يا أعرابي سل وأوجز.
قال الأعرابي: فديتك يا حسن، إني خرجت حاجاً محرماً، فوردت على أدحي فيه بيض نعام فشويته وأكلته عامداً وناسياً؟.
قال الحسن (علیه السلام): زدت في القول يا أعرابي، قولك عامداً لم يكن هذا من مسألتك هذا عبث.
ص: 243
..............................
قال الأعرابي: صدقت ما كنت إلاَّ ناسياً.
فقال له الحسن (علیه السلام) - وهو يخط في صحيفته -: يا أعرابي، خذ بعدد البيض نوقاً فاحمل عليها فنيقاً فما نتجت من قابل فاجعله هدياً بالغ الكعبة؛ فإنه كفارة فعلك.
فقال الأعرابي: فديتك يا حسن، إن من النيق ما يزلقن.
فقال الحسن (علیه السلام): يا أعرابي، إن من البيض ما يمرقن.
فقال الأعرابي: أنت صبي محدق محرر في علم الله مغرق، ولو جاز أن يكون ماأقوله قلته: إنك خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
فقال له الحسن (علیه السلام): يا أعرابي، أنا الخلف من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبي أمير المؤمنين (علیه السلام) الخليفة.
فقال الأعرابي: وأبو بكر ماذا؟.
قال الحسن (علیه السلام): سلهم يا أعرابي.
فكبر القوم وعجبوا مما سمعوا من الحسن (علیه السلام).
فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): الحمد لله الذي جعل فيَّ وفيَّ ابني هذا ما جعله في داود وسليمان إذ يقول الله عز من قائل: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ»(1)»(2).
ص: 244
..............................
..............................
وفي الغرر(1) تحت عنوان (لا تشاور هؤلاء):
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مشاورة الجاهل المشفق خطر».
وقال (علیه السلام): «استشر عدوك العاقل، واحذر رأي صديقك الجاهل».
وقال (علیه السلام): «لا تشاورن في أمرك من يجهل».
وقال (علیه السلام): «لا تشاور عدوك واستره خبرك».
وقال (علیه السلام): «لا تدخلن في مشورتك بخيلاً، فيعدل بك عن القصد، ويعدك الفقر».وقال (علیه السلام): «لا تشركن في رأيك جباناً، يضعفك عن الأمر (الأمور)، ويعظم عليك ما ليس بعظيم».
وقال (علیه السلام): «لا تشركن في مشورتك حريصاً، يهون عليك الشر، ويزين لك الشره».
وقال (علیه السلام): «لا تستشر الكذاب؛ فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك (إليك) القريب».
وقال (علیه السلام): «آفة المشاورة انتقاض الآراء».
وقال (علیه السلام): «إذا ازدحم الجواب نفي الصواب».
وقال (علیه السلام): «شر الآراء ما خالف الشريعة».
ص: 246
..............................
مسألة: ملاك كلامها (علیها السلام) يعطي - وربما بالأولوية(1)- حرمة اتخاذ مستشارين من الكفار فيما إذا ترتب عليه الإضرار بالمسلمين، أو سيطرة الأجانب على البلاد والعباد.
قولها (علیها السلام): «وساء ما به أشرتم»، فإنهم أشاروا إلى خلاف الصواب بسكوتهم على اغتصاب فدك والسلطة.
وبتعبير آخر: إن الذين أشاروا وإن كانوا عدداً محدوداً منهم، إلاّ أن الباقين حيث سكتوا شاركوهم الإثم فصح نسبة الإشارة إليهم بأجمعهم.
والترتيب بين الجملتين على حسب الطبع، فإن التأويل يسبق الإشارة(2) كما لا يخفى.
ص: 247
مسألة: يحرم ما اغتصبوه أو اعتاضوه، أشد الحرمة.
فإن الغصب حرام ولو كان بمقدار مثقال ذرة، فكيف بالغصب الذي هو بهذا الحجم، وفي مثل هذا الموضع، ومن سيدة نساء العالمين (علیها السلام) التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟.
وكيف بغصب الخلافة حيث ترتب عليه أكبر المفاسد من جيل إلى جيل وإلى يوم ينظرون؟.
فإن الغصب بعضه أشد حرمة من بعض، من ناحية الكمّ ومن ناحية الكيف أيضاً، وكذلك من حيث المصاديق والآثار.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل غافر كل ذنب إلاّ رجل اغتصب أجيراً أجره، أو مهر امرأة»(2).
وفي حديث المناهي عن النبي (صلی الله علیه و آله): «من خان جاره شبراً من الأرض جعله الله طوقاً في عنقه من تخومالأرض السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوقاً إلا أن يتوب ويرجع»(3).
وفي نهج البلاغة: «الحجر الغصيب في الدار رهن على خرابها»(4).
ص: 248
..............................
مسألة: قولها (علیها السلام): «وشر ما منه اغتصبتم» يدل على أن ما قام به القوم من اغتصاب الخلافة، واغتصاب فدك، كان شراً عظيماً عليهم بالفعل، لا أنه سيتحول شراً فقط، لظهور العناوين في الفعلية.
ولعل كلمة: (منه) للتبعيض باعتبار أن فدك إنما اغتصبت منها السيطرة والوارد والثمرة وما أشبه؛ لأن الأرض باقية مكانها، وهذا في مقابل الأشياء المنقولة التي تغتصب أعيانها أيضاً وتنقل إلى غير مكانها، فتأمل، لأن غصب كل شيء بحسبه.
وكذلك بالنسبة إلى الخلافة حيث يغتصب الظاهري منها فقط، أما الواقعيوهي الإمامة فباقية لأمير المؤمنين (علیه السلام) وذريته الطاهرين (علیهم السلام).
ويحتمل أن تكون (من) هاهنا بمعنى الابتداء(1)، أي أن ما بدأتم منه الغصب (وهو فدك) شر عظيم، إذ أن غصبهم فدكاً كان بداية لأنواع أخرى من الغصب عديدة وكثيرة، كما ظهر طوال تاريخ الثلاثة والأمويين والعباسيين، فقد غصبوا أموال الناس وأغاروا عليهم، وغصبوا النساء والجواري(2)، وفرضوا الضرائب(3) إلى غير ذلك مما هو كثير وكثير.. ويعدّ هذا المعنى إخباراً منها (صلوات الله عليها) بما سيجري في المستقبل متضمناً كل ذلك في كلمة (مِن).
ص: 249
..............................
وفي بعض النسخ: «وشر ما منه اعتضتم» من الاعتياض وهو أخذ العوض؛ لأنهم باعوا دينهم ودنياهم وأخذوا عوضذلك فدك(1)، كما في قول سبحانه: «لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ»(2).
وفي بعضها: «وشر ما منه اعتصمتم» حيث اعتصموا بالدنيا وتركوا حبل الله الذي أمر الله بالاعتصام به وهو أمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال تعالى:
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ(3).
ص: 250
-------------------------------------------
مسألة: تحذير الطغاة ومن يدور في فلكهم واجب في الجملة، والتحذير أعم من التخويف بالعذاب الأخروي والتخويف بالآثار الدنيوية.
والمراد بالمحمل: الحمل، فهو مصدر ميمي. و(الثقل): إشارة إلى عظيم ما يترتب على فعلهم من الخسران والعذاب الدنيوي والأخروي، ومن الواضح أن مطلق المحرمات محمله ثقيل، إلا أن بعضها أثقل من بعض.
فقولها (علیها السلام) يدل أيضاً على أن أوزار ابن أبي قحافة، وأوزار من دار في فلكه ثقيل في الآخرة.
قال تعالى: «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وأيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتبع، فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزراهم شيء»(2).وقال (صلی الله علیه و آله): «ومن استَنّ شراً فاستُنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم»(3).
والوزر في اللغة: هو الثقل، وإنما سميت الذنوب بأنها أوزار؛ لأنها يثقل كاسبها وحاملها.
ص: 251
..............................
وفي تفسير القمي: قال علي بن إبراهيم(رحمة الله) في قوله: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(1) قال: يحملون آثامهم، يعني الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وهو قول الصادق (علیه السلام): «والله ما أهريقت محجمة من دم، ولا قرعت عصاً بعصا، ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حله، إلا ووزر ذلك في أعناقهما(2) من غير أن ينقص من أوزار العالمين بشيء»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام)- في حديث -: «ورجلان(4) أسسا ذلك لهم، وعليهما مثل جميع أوزار هذه الأمة إلى يوم القيامة»(5).
مسألة: القسم في مثل هذا الموضع واجب إذا توقف عليه النهي عن المنكر أو تأكيده بالقدر الواجب.
وقسم الصديقة (علیها السلام) في هذا الموطن لدفع أدنى شبهة في صحة وصدق كلامها (علیها السلام)، إذ هل يعقل أن تقسم من يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها على باطل؟!
فلا شك في أن الغاصبين لفدك وللخلافة محملهم ثقيل وغبهم وبيل...
ص: 252
-------------------------------------------
مسألة: الغب الوبيل والعاقبة السوء والعذاب الأخروي لمن غصب الخلافة وفدك، ويلزم الاعتقاد بذلك وبيانه للناس.
والغبّ بالكسر: العاقبة والمستقبل،فإن مستقبل هذه المعصية الكبيرة الشديدة وبال وعقاب.
والوبال: الثقل والمكروه الشديد العظيم، ويراد به العذاب الثقيل الشديد.
أي: إن عاقبة اغتصابكم فدك والخلافة وسكوتكم على الباطل سوف يكون شديداً عليكم في الدنيا والآخرة.
ويحتمل أن يكون قولها (علیها السلام): «محمله ثقيلاً» إشارة لحمله في الدنيا، و«غبه وبيلاً» إشارة لعذاب الآخرة.
ثم إن ثقل الحمل في الدنيا نفسي وجسدي وتاريخي، فإن مطلق الغاصب - فكيف بغاصب فدك وغاصب الخلافة - يعيش في أشد أنواع وخز(1) الضمير وتأنيبه وعذاب الوجدان مما يؤثر على أعصابه وجسده، وذلك أيضاً يخلّف له سوء السمعة في الحياة وبعد الممات.
ص: 253
-------------------------------------------
إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون «وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ»(1).
مسألة: ينبغي أن يتذكر الإنسان دائماً يوم يُكشف الغطاء فيه، ويذكّر الآخرين بذلك اليوم خاصة الظلمة وأعوانهم ليرتدعوا وليتم الحجة عليهم.
فإن كشف الغطاء يبدأ بعد الموت ويستمر في عالم البرزخ ثم يوم القيامة، حيث ينكشف العالم الآخر للإنسان ويرى الثواب والعقاب بمجرد الموت، كما قال سبحانه: «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من مات فقد قامت قيامته»(3).
وقال النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله): «فإن أحدكم إذا مات فقد قامت قيامته يرى ما له من خير أو شر»(4).
مسألة: قد يستظهر من قول الصديقة (علیها السلام) هاهنا ما ذهب إليه بعض المتكلمين، وذكرناه في موضع آخر في تفسير قوله تعالى «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌبِالْكَافِرِينَ»(5) بلحاظ أن إطلاقه يقتضي الإحاطة في الدنيا أيضاً إلاّ أن النوافذ نحوها مغلقة.
ص: 254
..............................
فكلامها (علیها السلام): «إذا كشف لكم الغطاء .. وبان... وبدا... » قد يستظهر منه وحدة العالمَين في الجملة إلا أن هنالك غطاء على الحواس قبل الممات، فالأمر ليس انتقالاً بالمعنى الدقيق بل رفع حاجز، وذلك كالأعمى الذي لا يبصر مايحيط به من أزهار وأشجار أو أشواك وأحجار، فمع امتلاكه البصر ينكشف له ماحوله ويبين ويبدو، لا أنه ينتقل لمكان آخر، وكذلك فاقد سائر الحواس بالنسبة إليها. والحديث كله في الجملة ومجرد احتمال كما لا يخفى، فلا ينفي الانتقال في مراحل لاحقة أو أزمنة كذلك(1) بل المراد أصل احتمال أن قسماً من الأمر قد يكون برفع الحاجز.
قولها (علیها السلام): «وبان ما وراءه الضرّاء»، أي: ظهر لكم الضرّاء ورأيتم العذاب بعدما انكشف الغطاء.
مسألة: يظهر من قول الصديقة (علیها السلام): «وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون»، أن عذاب الآخرة فوق كل ما يتخيل أو يتعقل في أقصى درجاتهما كماً وكيفاً، ويظهر أنها (علیها السلام) أخبرت بأن عذاب القوم فوق ما يتصور.. وكذلك الراضي بفعلهم، والساكت عن جرمهم في الأزمنة اللاحقة، لوحدة الملاك مع الساكتين ذلك الزمن، أو للإطلاق كما أشرنا آنفاً.
مسألة: يظهر من قول الصديقة (علیها السلام): «وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون»، أن عذاب الآخرة فوق كل ما يتخيل أو يتعقل في أقصى درجاتهما كماً وكيفاً، ويظهر أنها (علیها السلام) أخبرت بأن عذاب القوم فوق ما يتصور.. وكذلك الراضي بفعلهم، والساكت عن جرمهم في الأزمنة اللاحقة، لوحدة الملاك مع الساكتين ذلك الزمن، أو للإطلاق كما أشرنا آنفاً.
وقولها (علیها السلام): «وبدا لكم...» اقتباس من الآية الكريمة: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»(2).
ص: 255
..............................
مسألة: إن القوم - وعلى رأسهم من غصب الخلافة وفدك - مبطلون وخاسرون، حيث قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام): «وخسر هنالك المبطلون» وهي الآية المباركة من سورة غافر(1)، والمراد بالمبطلين: الذين يستبدلون الحق بالباطل؛ فإن القوم أبطلوا الحق في فدك والخلافة وجعلوا مكانه الباطل.ومن السر في قوله: «هنالك» أي يوم القيامة مع أن المبطلين يخسرون في الدنيا أيضاً، هو أن (الخسارة الحقيقية) والمصداق الأجلى لها هو هنالك، فإن خسارة المبطلين وإن كانت دنيوية أيضاً لكنها قد لا تتحقق ولا تظهر بشكل كامل كيفاً ودائمٍ زمناً في الدنيا، وإنما تتحقق وتظهر في الآخرة كيفا وكماً لجميع الناس.
قال تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَْشْهَادُ»(2).
وفي الدعاء: «ولا تفضحني على رؤوس الأشهاد»(3)؛ لأن الأعمال تنكشف بشكل كامل أمام الناس في الآخرة، قال تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ»(4).
مسألة: يجب بيان أن القوم كانوا مبطلين وأنهم في الآخرة من الخاسرين، وأنهم سيجدون محمل عملهم ثقيلاً وعاقبته وبيلاً و...، ولا ينبغي الإصغاء لمن
ص: 256
..............................
يردع عن ذلك بدعوى أنه مخل بالوحدة إذ:
أولاً: لا تعني (الوحدة) عدم البحث والحوار والدفاع عن المعتقد، بل تعني (التنسيق والتعاون) في قبال العدو المشترك وفي نقاط الاشتراك، بل إن الوحدة المبنية على فتح باب الحوار بحرية تامة ستكون أعمق وأوثق، وستدفع نحو التقارب الثقافي والفكري أكثر فأكثر، وغيرها ليس أكثر من تظاهر ونفاق عادةً، وبعبارة أخرى ينبغي أن تتكامل قيمة الوحدة مع قيمة الحرية لا أن تلغيها.
وثانياً: لو صح ذلك لكان الرسول (صلی الله علیه و آله) أول مخل للوحدة عندما عيّن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام)، وأخذ يؤكد على مناقبه وخلافته - وهو يعلم بأن العديد سوف لا يستجيبون؛ لأن بينهم وبينه ثارات بدر وحنين، ولغير ذلك -.
وثالثاً: نفس كلام الصديقة (علیها السلام) هذا وسائر ما احتجت به عليهم، دليل على أن الوحدة المطلوبة لا يصح أن تمنع الإنسان عن بيان معتقده ورأيه.
ورابعاً: لا يمكن إهمال مثل: «الساكت عن الحق شيطان أخرس»(1)، وأدلة النهيعن المنكر، وتنبيه الغافل وإرشاد الجاهل وما إلى غير ذلك، وتفصيل الكلام في محله.
ومن الواضح أن الوحدة لا تشمل المعتقدات، بل تشمل - في الجملة - الأمور السياسية وما شابهها بحسب الموازين الشرعية.
ص: 257
-------------------------------------------
مسألة: يستحب العطف على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) مطلقاً (1)، كما يستحب العطف على قبور الأنبياء والأوصياء والصلحاء (علیهم السلام) مطلقاً، وذلك للأدلة الكثيرة العقلية والنقلية المذكورة في مظانها، ومنها(2):
لجريان سيرة الصديقة الطاهرة (علیها السلام) على زيارة قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله).. ومن قبله زيارة قبر عمها حمزة (علیه السلام)(3) في أحد.
مضافاً إلى عطفها (علیها السلام) في هذا الموطن على قبر الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ فإن الفعل وإن قالوا بأنه لا جهة له إلا أنه باحتفافهبالقرائن - كالمقام - يفيد الرجحان.
ولما ورد من أن السلام على النبي (صلی الله علیه و آله) في مماته كالسلام عليه في حياته (صلی الله علیه و آله)(4) وفيه نفس الأجر والثواب(5). ولما ورد من فضل زيارة القبور مطلقاً(6).
ولما ورد من أن الإمام السجاد (صلوات الله عليه) وضع خده على قبر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في (زيارة أمين الله) المباركة(7).
ص: 258
..............................
إضافة إلى أن كل ذلك يزيد من محورية الرسل والأوصياء (علیهم السلام) والتأسي بهم (صلوات الله عليهم)، وغير خفي ما لذلك من التأثير الكبير على إصلاح الفرد والمجتمع، وبعثه نحو كل معاني الخير والصلاح.. ومن هنا يعلم السر الشيطاني والحقد الكبير والمغزى الخبيث الكائن وراء الدعوة إلى هدم قبورهم(1) (علیهم السلام)، أو تحريمقصدهم والصلاة عندهم، أو نقل الجنائز إليهم وما أشبه ذلك، فإنهم أرادوا بذلك القضاء على قيم الإسلام وتعاليمه.
قال تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2).
عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «عاشت فاطمة (علیها السلام) بعد أبيها خمسةً وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس، فتقول: هاهنا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله)، هاهنا كانالمشركون»(3).
ص: 259
..............................
وفي رواية أخرى: عن أبي عبد الله (علیه السلام): «أنها (علیها السلام) كانت تصلي هناك وتدعو حتى ماتت (علیها السلام)»(1). وعن يونس، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن فاطمة (علیها السلام) كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت، فتأتي قبر حمزة (علیه السلام) وتترحم عليه وتستغفر له»(2).
وعن محمد بن المفضل، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «جاءت فاطمة (علیها السلام) إلى سارية في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي (صلی الله علیه و آله):
قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فأشهدهم ولا تغب»(3)
عن الحسن بن علي الوشاء، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) يقول: «إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً لما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(4).
وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام): أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من زارني حياً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة»(5).
ص: 260
..............................
وعن ياسر الخادم، قال: قال علي بن موسى الرضا (علیه السلام): «لا تشد الرحال إلى شيء من القبور إلا إلى قبورنا، ألا وإني مقتول بالسُم ظلماً ومدفون في موضع غربة، فمن شد رحله إلى زيارتي استجيب دعاؤه وغفر لهذنوبه»(1).
وفي حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «أتموا برسول الله (صلی الله علیه و آله) حجكم إذا خرجتم إلى بيت الله؛ فإن تركه جفاء وبذلك أمرتم، وأتموا بالقبور التي ألزمكم الله عزوجل حقها وزيارتها، واطلبوا الرزق عندها»(2).
وعن أبي حجر الأسلمي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يعرض ولم يحاسب، ومن مات مهاجراً إلى الله عزوجل حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر»(3).
وقال الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبتاه، ما جزاء من زارك؟. فقال رسول الله (صلیالله علیه و آله): يا بني، من زارني حياً أو ميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك، كان حقاً عليَّ أن أزوره يوم القيامة وأخلصه من ذنوبه»(4).
ص: 261
..............................
وروي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) أنه قال: «من زار جعفراً وأباه (علیهما السلام) لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى»(1). وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «من زارني غفرت له ذنوبه، ولم يمت فقيراً»(2). وعن الحسن بن محمد القمي، قال: قال لي الرضا (علیه السلام): «من زار قبر أبي (علیه السلام) ببغداد كان كمن زار قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقبر أمير المؤمنين (علیه السلام)، إلا أن لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأمير المؤمنين (علیه السلام) فضلهما»(3). إلى غير ذلكمما حث على زيارتهم ودل على أنهم (علیهم السلام) أحياء عند ربهم يرزقون ولا فرق بين حيهم وميتهم.
وهناك الروايات الكثيرة من الفريقين على استحباب زيارة مطلق القبور، نشير إلى بعضها من مصادرنا:
عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في زيارة القبور - قال: «إنهم يأنسون بكم، فإذا غبتم عنهم استوحشوا»(4).
وعن إسحاق بن عمار، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: قلت له: المؤمن يعلم بمن يزور قبره؟. قال: «نعم، ولا يزال مستأنساً به ما دام عند قبره، فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة»(5).
ص: 262
..............................
وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: مررت مع أبي جعفر (علیه السلام) بالبقيع، فمررنا بقبر رجل من أهل الكوفة من الشيعة قال: فوقف عليه (علیه السلام) فقال: «اللهم ارحم غربته، وصل وحدته، وآنسوحشته، وأسكن إليه من رحمتك ما يستغني بها عن رحمة من سواك، وألحقه بمن كان يتولاه»(1).
وقد ورد في الزيارات:
ثم انكب على القبر وقل: «السلام عليك يا حجة الله وابن حجته... »(2).
ثم انكب على الضريح فقبّله وقل: «يا ولي الله إن بيني وبين الله عزوجل ذنوباً كثيرة لا يأتي عليها إلا رضى الله ورضاكم، فبحق من ائتمنكم على سره، واسترعاكم أمر خلقه، وقرن طاعتكم بطاعته، وموالاتكم بموالاته، لما استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي إلى الله تعالى...»(3).
ثم انكب على قبره وقال: «بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين يا حجة الخصام، بأبي أنت وأمي يا باب المقام...»(4).ثم انكب على القبر وقل: «اللهم لرحتمك تعرضت، وبإزاء قبر أخي نبيك وقفت، عائذاً به من النار، فأعذني من نقتمك وسخطك... »(5).
ص: 263
..............................
ثم انكب على القبر فقبّله وقل: «سلام الله وسلام ملائكته المقربين والمسلمين لك بقلوبهم يا أمير المؤمنين... »(1).
ثم اعطف على علي بن الحسين (علیه السلام) وهو عند رجل الحسين (علیه السلام) وقل: «السلام عليك يا ابن رسول الله... »(2).
إلى غيرها وغيرها.
وفي رواية صفوان دلالات على ما ذكرناه من استحباب العطف على قبور المعصومين (علیهم السلام) وزيارتهم والتوسل بهم وبيان بعض ثوابها، إلى غيرها من الروايات الكثيرة الكثيرة وقد نقلنا بعضها في كتاب (الدعاءوالزيارة)(3).
ص: 264
..............................
في (إرشاد القلوب): عن صفوان الجمال، قال: لما وافيت مع مولاي جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) الغري يريد أبا جعفر المنصور. قال لي: «يا صفوان، أنخ الناقة؛ فإن هذا حرم جدي أمير المؤمنين (علیه السلام)». فأنختها، فنزل واغتسل وغير ثوبه وتحفى،وقال لي:«افعل مثل ما أفعل».
ففعلت، ثم أخذ نحو الذكوات وقال لي: «قصّر خطاك وألق عينيك إلى الأرض؛فإن لك بكل خطوة مائة ألف حسنة، وتمحى مائة ألف سيئة، وترفع لك مائة ألف درجة، وتقضى لك مائة ألف حاجة، ويكتب لك ثواب كل صديق وشهيد مات أو قتل».
ص: 265
..............................
ثم مشى ومشيت معه حافياً وعلينا السكينة نسبح الله ونقدسه ونهلله إلى أن بلغنا القبر، فوقف عليه ونظر يمنة ويسرة وخط بعكازته، وقال لي: «اطلب». فطلبت فإذا أثر القبر في الخط، ثم أرسل دمعة وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون». ثم قال:
«السلام عليك أيها الوصي البر التقي، السلام عليك أيها النبأ العظيم، السلام عليك أيها الصديق الشهيد، السلام عليك أيها الرضي الزكي، السلام عليك يا وصي رسول رب العالمين، السلام عليك يا خيرة الله من الخلائق أجمعين، أشهد أنك حبيب الله وخاصة الله وخالصته، السلام عليك يا ولي الله، وموضع سره، وعيبة علمه، وخازن وحيه».
ثم انكب (علیه السلام) على القبر الشريف، وقال: «بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، بأبي أنت وأمي يا نورالله التام، أشهد أنك قد بلغت عن الله تعالى وعن رسوله (صلی الله علیه و آله) ما حملت، ورعيت ما استحفظت، وحفظت ما استودعت، وحللت حلال الله، وحرمت حرام الله، وأقمت أحكام الله، ولم تتعد حدود الله، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين، صلى الله عليك وعلى الأئمة من بعدك».
ثم قام (علیه السلام) فصلّى ركعتين عند الرأس الكريم، ثم قال: «يا صفوان، من زار أمير المؤمنين بهذه الزيارة وصلّى بهذه الصلاة، رجع إلى أهله مغفوراً ذنبه، مشكوراً سعيه، وكتب له ثواب كل من زاره من الملائكة المقربين، وأنه ليزوره في كل ليلة سبعون قبيلة من الملائكة».
قلت: وكم القبيلة؟. قال: «مائة ألف».
ص: 266
..............................
ثم خرج القهقرى وهو يقول: «يا جداه، يا سيداه، يا طيباه، يا ظاهراه، لا جعله الله تعالى آخر العهد من زيارتك، ورزقني العود إليك، والمقام في حرمك، والكون معك ومع الأبرار من ولدك، صلى الله عليك وعلى الملائكة المحدقين بك». فقلت: يا سيدي أ تأذن لي أن أخبر أصحابك من أهل الكوفة؟.
فقال: «نعم». وأعطاني دراهم فأصلحتالقبر(1).
مسألة: يستحب عطف المظلوم على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقصده والالتجاء إليه والتوسل به، وكذلك سائر مراقد الأنبياء والأئمة والأولياء (علیهم السلام)، وهذا مصداق من مصاديق ذلك الأمر العام؛ فإن النبي (صلی الله علیه و آله) في مماته كما هو في حياته، حيّ عند ربه يُرزق، يسمع الكلام ويرد الجواب(2)، ويتمكن من الدعاء للمظلوم والشفاعة له حتى يرفع الله ظلامته.
ويعتبر هذا البحث من العقائد الإسلامية المسلّمة، وقد تحدث عنه العلماء في كتب أصول الدين في بحث الشفاعة والتوسل إلى الله بأوليائه الطاهرين.
مسألة: لا يختص استحباب العطف على الرسول (صلی الله علیه و آله) وزيارته والالتجاء إليه والتوسل به وكذلكالأولياء المعصومين (علیهم السلام) بالظلم الشخصي الفردي، بل هو أعم منه ومن الظلم النوعي على أمة، ومن ذلك يعلم رجحان تشكيل
ص: 267
..............................
لجان وهيئات تهتم بإرسال المظلومين في مجاميع إلى مراقد المعصومين (علیهم السلام).. وكذلك حال المسيرات الجماهيرية الراجلة وغيرها نحو مراقدهم الشريفة عند نزول بلاء عام كحاكم جائر أو فقر أو غلاء أو مرض عام أو ما أشبه..
وقد يلزم كل ذلك على حسب تشخيص الفقيه أو شورى الفقهاء المراجع، وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه التضرعات والتوسلات.
مسألة: يستحب عطف البنت على قبر أبيها مطلقاً، وهكذا الابن، وكذلك قبر الأم، على ما يستفاد من الروايات.
وهذا أيضاً مصداق آخر للكليات الواردة، إضافة إلى أنه تأسٍ بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، فإن عطف البنت أو الولد على قبر الأب أو الجد مما يندب إليه، خصوصاً إذا كان الأب من أولياء الله الصالحين.نعم ربما يستثنى من استحباب ذلك قبر الكافر والمنافق، وربما كان محرماً في بعض المصاديق، قال سبحانه: «وَلاَ تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ»(1).
عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «زوروا موتاكم؛ فإنهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أمه بما يدعو لهما»(2).
ص: 268
..............................
تقول السيدة زينب (علیها السلام) راوية هذه الخطبة الشريفة:
(ثم عطفت - أي الصديقة الطاهرة (علیها السلام) - على قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)).
حيث كانت الخطبة في المسجد النبوي الشريف، وقبر النبي (صلی الله علیه و آله) ملاصق للمسجد؛ لأن القبر الطاهر كان في بيت أمير المؤمنين علي وفاطمة(عليهما الصلاة والسلام) حيث كانت وفاته (صلی الله علیه و آله) في نفس البيت ودفن هناك، كما جاء ذلك في جملة من الأحاديث التي رواها العامة والخاصة بأنه (صلی الله علیه و آله) توفي في بيت فاطمة (علیها السلام).
فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما بنى مسجده بنى حوله بيوتاً صغاراً لنفسه وأزواجه وفاطمة (علیها السلام) وزوجها (علیه السلام) ولأصحابه، وكان من هندسة البيوت أن جعل لكل بيت من تلك البيوتات بابين، باباً إلى المسجد وباباً في الطرف الآخر إلى الشارع، ولما جاء الأمر الإلهي بسد الأبواب كلها إلاّ باب علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) بقي لبيت علي وفاطمة (علیهما السلام) بابان، أما سائر البيوت فلم يبق لها إلا باب واحد إلى الشارع، والقوم عندما هجموا على دار فاطمة وخرجوا بعلي (عليه الصلاة والسلام) إلى المسجد جاءوا به من الباب الذي في الشارع لا الباب الذي كان إلى المسجد.
ص: 269
-------------------------------------------
وقالت: قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنتَ شاهدها لم تكثر الخطب
مسألة: يستحب إنشاد مثل هذا الشعر وإنشاؤه على قبر النبي (صلی الله علیه و آله).
فإن الشعر المكروه هو الشعر الذي ليس بحق، أما شعر الحق فهو بين مستحب ومباح ولربما وجب، ولذا كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) شاعر اسمه حسان(1).
ص: 270
..............................
وكان أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) ينشئ الشعر بنفسه كما في ديوانه المنسوب إليه(1).وكذلك بعض الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) كانوا ينشئون الأشعار(2).
ص: 271
..............................
والإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) في كربلاء أنشأ الشعر مكرراً (1). وهكذا أنشأه جملة من الصالحين بحضور الأئمة(صلوات الله عليهم أجمعين) (2).
ص: 272
..............................
وغير خفي أن هذه الأشعار - التي قالتها الصديقة (علیها السلام) - بكل كلماته حجة، سواء كانت إنشاءً منها (علیها السلام) أو إنشاداً (1).
مسألة: ينبغي أن يخاطب الإنسان النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة والأولياء (علیهم السلام) بعد مماتهم كما يخاطبهم حال حياتهم، كما خاطبت الصديقة الزهراء (علیها السلام) أباها (صلی الله علیه و آله) من حيث الاطمئنان بأنه (صلی الله علیه و آله) يسمع الكلامويرى المقام ويرد الجواب، إذ إنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2).
وقد ورد الأمر بهذا الخطاب كما في الزيارات المأثورة:
جاء في الزيارة الجامعة للأئمة المعصومين (علیهم السلام) ما نصه: «وَأَشْهَدُ أَنَّكُمُ الأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، الْمَعْصُومُونَ الْمُكَرَّمُونَ، الْمُقَرَّبُونَ الْمُتَّقُونَ، الصَّادِقُونَ الْمُصْطَفَوْنَ، الْمُطِيعُونَ لِلَّهِ، الْقَوَّامُونَ بِأَمْرِهِ، الْعَامِلُونَ بِإِرَادَتِهِ، الْفَائِزُونَ بِكَرَامَتِهِ، اصْطَفَاكُمْ بِعِلْمِهِ، وَارْتَضَاكُمْ لِغَيْبِهِ، وَاخْتَارَكُمْ لِسِرِّهِ، وَاجْتَبَاكُمْ بِقُدْرَتِهِ، وَأَعَزَّكُمْ بِهُدَاهُ، وَخَصَّكُمْ بِبُرْهَانِهِ، وَانْتَجَبَكُمْ بِنُورِهِ، وَأَيَّدَكُمْ بِرُوحِهِ، وَرَضِيَكُمْ خُلَفَاءَ فِي أَرْضِهِ، وَحُجَجاً عَلَى بَرِيَّتِهِ، وَأَنْصَاراً لِدِينِهِ، وَحَفَظَةً لِسِرِّهِ، وَخَزَنَةً لِعِلْمِهِ، وَمُسْتَوْدَعاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَرَاجِمَةً لِوَحْيِهِ، وَأَرْكَاناً لِتَوْحِيدِهِ، وَشُهَدَاءَ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَعْلاَماً لِعِبَ-ادِهِ، وَمَنَاراً فِ-ي بِلاَدِهِ، وَأَدِلاَّءَ عَلَى
ص: 273
..............................
صِرَاطِهِ، عَصَمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَآمَنَكُمْ مِنَ الْفِتَنِ، وَطَهَّرَكُمْ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَذْهَبَ عَنْكُمُالرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَطَهَّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).
وجاء في زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) ما نصه: «السلام عليك يا أمير المؤمنين، أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، جئتك زائراً لائذاً بحرمك، متوسلاً إلى الله بك في مغفرة ذنوبي كلها، متضرعاً إلى الله تعالى وإليك لمنزلتك عند الله، عارفاً عالماً إنك تسمع كلامي وترد سلامي، لقوله تعالى: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2). فيا مولاي، إني لو وجدت إلى الله تعالى شفيعا أقرب منك لقصدت إليه، فما خاب راجيكم، ولاضلّ داعيكم، أنتم الحجة والمحجة إلى الله، فكن لي إلى الله شفيعاً، فما لي وسيلة أوفى من قصدي إليك، وتوسلي بك إلى الله، فأنت كلمة الله وكلمة رسوله (صلی الله علیه و آله)، وأنت خازن وحيه، وعيبة علمه، وموضع سرّه، والناصح لعبيد الله، والتالي لرسوله، والمواسي له بنفسه، والناطق بحجته، والداعي إلى شريعته، والماضي على سنته، فلقد بلغت عن النبي (صلی الله علیه و آله) ما حملت، ورعيت ما استحفظت، وحفظت ما استودعت، وحللتحلاله، وحرمت حرامه، وأقمت أحكامه، ولم تأخذك في الله لومة لائم، فجاهدت القاسطين في حكمه، والمارقين عن أمره، والناكثين لعهده صابراً محتسباً، صلّى الله عليك وسلّم أفضل ما صلى على أحد من أصفيائه وأنبيائه وأوليائه إنه حميد مجيد»(3).
ص: 274
..............................
وجاء في زيارة سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ما نصه: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَتْرَ اللَّهِ الْمَوْتُورَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ، وَاقْشَعَرَّتْ له أَظِلَّةُ الْعَرْشِ، وَبَكَى له جَمِيعُ الْخَلاَئِقِ، وَبَكَتْ له السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَنْ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى»(1).
وذكر العلامة أحمد بن فهد(رحمة الله) في (عدة الداعي): روي عن الصادق (علیه السلام): «من كانت له حاجة إلى الله عزوجل فليقف عند رأس الحسين (علیه السلام) وليقل: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ تَشْهَدُ مَقَامِي، وَتَسْمَعُ كَلاَمِي، وَأَنَّكَ حَيٌّعِنْدَ رَبِّكَ تُرْزَقُ، فَاسْأَلْ رَبَّكَ وَرَبِّي فِي قَضَاءِ حَوَائِجِي، فإنها تقضى إن شاء الله تعالى»(2).
وجاء في زيارة الإمام الكاظم (علیه السلام) ما نصه: «أشهد أنك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حق تلاوته، وجاهدت في الله حق جهاده، وصبرت على الأذى في جنبه محتسباً، وعبدته مخلصاً حتى أتاك اليقين، أشهد أنك أولى بالله وبرسوله، وأنك ابن رسول الله حقاً، أبرأ إلى الله من أعدائك، وأتقرب إلى الله بموالاتك، أتيتك يا مولاي عارفاً بحقك، موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، فاشفع لي عند ربك»(3).
ص: 275
..............................
وجاء في زيارة الإمامين العسكريين (علیهما السلام) ما نصه: «السلام عليكما يا وليي الله، السلام عليكما يا حجتي الله، السلام عليكما يا نوري الله في ظلمات الأرض، السلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما، أتيتكما زائراً عارفاً بحقكما، معادياً لأعدائكما، موالياًلأوليائكما، مؤمناً بما آمنتما به، كافراً بما كفرتما به، محققاً لما حققتما، مبطلاً لما أبطلتما، أسأل الله ربي وربكما أن يجعل حظي من زيارتكما الصلاة على محمد وآله، وأن يرزقني مرافقتكما في الجنان مع آبائكما الصالحين، وأسأله أن يعتق رقبتي من النار، ويرزقني شفاعتكما ومصاحبتكما، ويعرف بيني وبينكما، ولا يسلبني حبكما وحب آبائكما الصالحين، وأن لا يجعله آخر العهد من زيارتكما، ويحشرني معكما في الجنة برحمته»(1).
إلى غيرها مما هو كثير.
مسألة: ربما يستفاد من ذلك أيضاً استحباب إقامة مجالس العزاء عند قبور المعصومين (علیهم السلام)، وكان عملها مصداقاً من مصاديقه.
مسألة: ويستفاد - من ملاكه - استحباب إقامة الاحتفالات الدينية بمناسبة مواليدهم (علیهم السلام) عند مراقدهم، مع حفظ الآداب الشرعية.
مسألة: ويستفاد استحباب المطالبة بالحقوق عند مراقدهم (علیهم السلام)، وكذلك عقد الندوات والمؤتمرات وإلقاء المحاضرات حول ذلك.كل ذلك مع حفظ الموازين الشرعية ورعاية الآداب اللازمة.
ص: 276
..............................
مسألة: يستحب للبنت أن ترثي(1) أباها.
وهذا ليس خاصاً بالبنت والأب، بل ما فعلته الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) مصداق من المصاديق العامة، فالأولاد والآباء والأقرباء إذا تحنن بعضهم على بعض كان له الأجر والثواب، وهو نوع صلة رحم وبرّ كما لايخفى.
عن جميل بن دراج، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله جل ذكره: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»(2)؟. قال: فقال: «هي أرحام الناس إن الله عزوجل أمر بصلتها وعظمها ألا ترى أنه جعلها منه»(3).
وعن إسحاق بن عمار، قال: بلغني عنأبي عبد الله (علیه السلام): «أن رجلاً أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، إن أهل بيتي أبوا إلاّ توثباً عليَّ وقطيعة لي فأرفضهم؟.
فقال: إذاً يرفضكم الله جميعاً. قال: فكيف أصنع؟.
قال: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك؛ فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عزوجل عليهم ظهير»(4).
ص: 277
..............................
وعن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن لي ابن عم أصله فيقطعني حتى هممت لقطيعته إياي أن أقطعه؟. قال: «إنك إن وصلته وقطعك وصلكما الله جميعاً، وإن قطعته وقطعك قطعكما الله»(1).
وعن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «لما خرج أمير المؤمنين (علیه السلام) يريد البصرة نزل بالربذة، فأتاه رجل من محارب، فقال: يا أمير المؤمنين، إني تحملت في قومي حمالة وإني سألت في طوائف منهم المواساة والمعونة، فسبقت إليَّ ألسنتهم بالنكد، فمُرهم يا أميرالمؤمنين بمعونتي وحثهم على مواساتي. فقال: أين هم؟. فقال: هؤلاء فريق منهم حيث ترى. قال: فنص راحلته فادلفت كأنها ظليم، فادلف بعض أصحابه في طلبها فلأياً بلأيٍ ما لحقت، فانتهى إلى القوم فسلم عليهم وسألهم ما يمنعهم من مواساة صاحبهم فشكوه وشكاهم. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): وصل امرؤ عشيرته فإنهم أولى ببره وذات يده، ووصلت العشيرة أخاها إن عثر به دهر وأدبرت عنه دنيا؛ فإن المتواصلين المتباذلين مأجورون، وإن المتقاطعين المتدابرين موزورون. قال: ثم بعث راحلته وقال: حل»(2).
مسألة: يجب دراسة التاريخ والتعرف على السلبيات والإيجابيات والعوامل والعلل والنتائج، ومن صغريات ذلك دراسة ما جرى بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) وذلك لشدة ارتباط المستقبل بالماضي وتأثره به، ومن مفردات ذلك المسألة اللاحقة.
ص: 278
..............................
مسألة: يستحب أو يجب بيان أن بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حدثت أنباء وهنبثة، كما قالت الصديقة (علیها السلام)؛ وبيان ذلك يوجب التعرف على المشاكل التي لاقاها المسلمون والفتن التي واجهوها بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإن تلك المشاكل تعتبر الأساس لمشاكل المسلمين إلى هذا اليوم وجذورها وعللها.
إن الانقلاب على أوامر الرسول (صلی الله علیه و آله) والإعراض عن خليفته أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بما يتضمن من إعراض عن مناهجه التي أوضحها خليفته.. لا يزال هو السبب الرئيسي لتخلف المسلمين، كما صرح رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).
ولكن المسلمين لما تركوا الثقلين الكتاب والعترة ضلوا وأضلوا.
عن أبان بن تغلب، عن مسلم، قال: سمعت أبا ذر، والمقداد بن الأسود،وسلمان الفارسي، قالوا: كنا قعوداً عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما معنا غيرنا، إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين. فقال رسول الله: «تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق: فرقة أهل حق لا يشوبونه بباطل، مثلهم كمثل الذهب كلما فتنته بالنار ازداد جودة وطيباً وإمامهم هذا أحد الثلاثة، وهو الذي أمر الله به في كتابه «إِمَاماً وَرَحْمَةً»(2). وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحق، مثلهم كمثل خبث
ص: 279
..............................
الحديد كلما فتنته بالنار ازداد خبثاَ وإمامهم هذا أحد الثلاثة. وفرقة أهل ضلالة مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وإمامهم هذا أحد الثلاثة». قال: فسألتهم عن أهل الحق وإمامهم؟. فقال: «هذا علي بن أبي طالب إمام المتقين»، وأمسك عن الاثنين فجهدت أن يسميهما فلم يفعل(1).
وعن يحيى البكاء، عن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیهو آله): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقون هالكون، والناجون الذين يتمسكون بولايتكم ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم، فأولئك ما عليهم من سبيل»(2).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام»(3).
وعن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «تفرقت أمة موسى (علیه السلام) على إحدى وسبعين ملة [ فرقة « سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى (علیه السلام) على اثنتين وسبعين فرقة إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا بملة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار». قالوا: من هم يا رسول الله؟. قال: «الجماعات الجماعات».
ص: 280
..............................
وقال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) إذا حدث هذا الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلا فيه قرآناً: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ» - إلى قوله - «سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ»(1)، وتلا أيضاً: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(2)، يعني: «أمة محمد (صلی الله علیه و آله)»(3).
وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال لرأس اليهود: «على كم افترقتم؟». فقال: على كذا وكذا فرقة. فقال علي (علیه السلام): «كذبت».
ثم أقبل (علیه السلام) على الناس فقال: «والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم. افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنة وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى (علیه السلام)، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة إحدىوسبعون فرقة في النار وواحدة بالجنة وهي التي اتبعت شمعون الصفا وصي عيسى (علیه السلام)، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت وصي محمد (صلی الله علیه و آله)».
وضرب (علیه السلام) بيده على صدره ثم قال: «ثلاث عشرة فرقة من الثلاث وسبعين فرقة كلها تنتحل مودتي وحبي واحدة منها في الجنة وهي النمط الأوسط واثنتا عشرة في النار»(4).
ص: 281
..............................
وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام): في قوله: ]لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ»(1)، قال: «زرارة، أولم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان»(2).
وعن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «أتزعمون أن رحم نبي الله لا تنفع قومه يوم القيامة، بلى والله إن رحمي لموصولةفي الدنيا والآخرة - ثم قال - يا أيها الناس، أنا فرطكم على الحوض، فإذا جئت وقام رجال يقولون: يا نبي الله، أنا فلان بن فلان. وقال آخر: يا نبي الله، أنا فلان بن فلان. وقال آخر: يا نبي الله، أنا فلان بن فلان. فأقول: أما النسب فقد عرفته ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى»(3).
وعن خير بن نوف أبي الوداك، قال: قلت لأبي سعيد الخدري: والله ما يأتي علينا عام إلا وهو شر من الماضي، ولا أمير إلا وهو شر ممن كان قبله؟! فقال أبو سعيد: سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول ما تقول، ولكن سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «لا يزال بكم الأمر حتى يولد في الفتنة والجور من لايعرف عددها حتى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد يقول: الله، ثم يبعث الله عزوجل رجلاً مني ومن عترتي فيملأ الأرض عدلاً كما ملأها من كان قبله جوراً، وتخرج له الأرض أفلاذ كبدها، ويحثو المال حثواً، ولا يعده عداً، وذلك حين يضرب الإسلام بجرانه»(4).
ص: 282
..............................
وفي الطرائف والعمدة، بإسنادهما إلى صحيحي البخاري ومسلم والجمع بين الصحيحين، بإسنادهم إلى ابن عباس، قال: خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: «يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله عراة حفاتاً غرلاً - ثم تلا - «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»(1) - ثم قال - ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال. فأقول: يا رب أصحابي!! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(2). فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»(3).
مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلی الله علیه و آله) - وهو أعظم قائد رآه العالم - لو كان حياً وحاضراً وشاهداً لما كثر الخطب، ولما ازدادت المحن والمصائب على الصديقة الطاهرة (علیهاالسلام)، وعلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، وعلى أهل البيت الطاهرين (علیهم السلام)، وعلى الأمة الإسلامية جمعاء.
كما يستحب بيان أن بعض القوم كانوا ينتظرون موته (صلی الله علیه و آله) ليغتصبوا الخلافة، كما تنتظر كل أمة متخلفة وكل شريحة ضالة موت القائد أو تغييبه.
ص: 283
..............................
وهذا يكشف عن عظمة الرسول (صلی الله علیه و آله) ومدى منزلته ومكانته وإدارته، وهي مما تحبّبه إلى الناس فيلتفون حوله، وكل ما أوجب الإلتفاف حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر فهو مستحب، بل قد يكون واجباً أيضاً.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: إن ذلك يكشف عن سوء سريرة القوم وإضمارهم الغدر، وأن وجوده (صلی الله علیه و آله) الشريف كان هو المانع، فكان النفاق متأصلاً في بعضهم زمن حياته(صلی الله علیه و آله) وقد تجلّى بعد وفاته، وكان على رأس هؤلاء المنافقين من اغتصب الخلافة وفدك وهجم على دار الصديقة الزهراء (علیها السلام) وأحرق البيت، وضرب بضعة الرسول(صلی الله علیه و آله) حتىأدماها وكسر ضلعها وأسقط جنينها المحسن (علیه السلام). فلذلك تقول الصديقة:«لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب».
لا يقال: ألم يكن الإمام علي (علیه السلام) موجوداً وهو من الرسول (صلی الله علیه و آله) كالنفس من النفس بشهادة «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(1)، وكان المثل الأعلى في الحكمة والإدارة والعلم وغير ذلك؟.
إذ يقال: إن وجود القائد الكفوء والمثالي لايكفي وحده في استتباب الأمر وانتظام الأمور في كثير من الأحيان، كما أن وجود هارون (علیه السلام) خليفة لموسى (علیه السلام) لم يكف في منع السامري والحيلولة دون عبادة العجل، وكما أن وجود آدم (علیه السلام) لم يكف في منع قابيل من قتل هابيل (علیه السلام)، وكما في سائر أنبياء الله (علیهم السلام).. حتى الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة للمنافقين وأضرابهم، بل لابد من قابلية القابل أيضاً.. فكثرت الدواهي رغم وجود الإمام علي (علیه السلام)؛ لأن القوم أعرضوا عنه حسداً وحقداً نتيجة ثارات بدر وحنين وغيرها.
ص: 284
..............................
مسألة: أجلى المصاديق للرواية التالية: «إذا مات العالم - أو المؤمن الفقيه - ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة»(1)، هو وفات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل استشهاده (صلی الله علیه و آله)، الذي ذكرته الصديقة (علیه السلام) إشارة بقولها: «لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب»، فوفاته (صلی الله علیه و آله) الثلمة العظمى التي لا يسدها شيء، ووجود سائر المعصومين (علیهم السلام) أيضاً لا يسد تلك الثلمة، فإن لكل وجود من وجوداتهم المباركة خير في حد ذاته، وهو بركة للمعصوم اللاحق أيضاً، ولذا قالت (علیها السلام): «إنا فقدناك فقد الأرض وابلها».. ولا ريب أن بعض الآثار تحفظ بالمعصوم اللاحق (علیه السلام) إذ بوجود كل منهم (رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)(2)، وتفصيل الكلام في محله.
وقد ورد في حديث الإمام الرضا (علیه السلام):«إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ الدُّنْيَا، وَعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ.
إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلاَمِ النَّامِي، وَفَرْعُهُ السَّامِي.
بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ وَتَوْفِيرُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ، وَإِمْضَاءُ الْحُدُودِ وَالأَحْكَامِ، وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالأَطْرَافِ.
الإِمَامُ يُحِلُّ حَلاَلَ اللَّهِ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللَّهِ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ، وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَيَدْعو إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ.
ص: 285
..............................
الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لاَتَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ.
الإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى وَأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ وَالْقِفَارِ وَلُجَجِ الْبِحَارِ.
الإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَأ، وَالدَّالُّ عَلَى الْهُدَى، وَالْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى.
الإِمَامُ النَّارُ عَلَى الْيَفَاعِ الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَى بِهِ، وَالدَّلِيلُ فِي الْمَهَالِكِ، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ.
الإِمَامُ السَّحَابُ الْمَاطِرُ، وَالْغَيْثُالْهَاطِلُ، وَالشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ، وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، وَالأَرْضُ الْبَسِيطَةُ، وَالْعَيْنُ الْغَزِيرَةُ، وَالْغَدِيرُ وَالرَّوْضَةُ.
الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَالأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ.
الإِمَامُ أَمِينُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللَّهِ.
الإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ، الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الْكَافِرِينَ.
الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ، لاَ يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلاَ يُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلاَ يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلاَ له مِثْلٌ وَلاَ نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ له وَلاَ اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ.
ص: 286
..............................
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ، أَوْ يُمْكِنُهُ اخْتِيَارُهُ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْحُلُومُ، وَحَارَتِ الأَلْبَابُ، وَخَسَأَتِ الْعُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ،وَتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ، وَحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ، وَجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ،وَعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ، أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ.
وَكَيْفَ يُوصَفُ بِكُلِّهِ، أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِهِ، أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيُغْنِي غِنَاهُ، لاَ كَيْفَ وَأَنَّى وَهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمِ مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِينَ، وَوَصْفِ الْوَاِفِينَ.
فَأَيْنَ الاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا، وَأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا، وَأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا، أَ تَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله).
كَذَبَتْهُمْ وَاللَّهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَنَّتْهُمُ الأَبَاطِيلَ، فَارْتَقَوْا مُرْتَقاً صَعْباً دَحْضاً، تَزِلُّ عَنْهُ إِلَى الْحَضِيضِ أَقْدَامُهُمْ، رَامُوا إِقَامَةَ الإِمَامِ بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ بَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ، وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنْهُ إِلاَ بُعْداً قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
وَلَقَدْ رَامُوا صَعْباً، وَقَالُوا إِفْكاً، وَضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً، وَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ إِذْ تَرَكُوا الإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ وَاخْتِيَارِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ:
«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُالْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(1)، وَقَ-الَ عَزَّوَجَ-لَّ:«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ
ص: 287
..............................
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1) الآيَةَ، وَقَالَ: «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صادِقِينَ»(2)، وَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(3)، أَمْ طُبِعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَفْقَهُونَ، أَمْ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»(4)، أَمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ هُوَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ، وَالإِمَامُعَالِمٌ لاَ يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لاَ يَنْكُلُ، مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّسُكِ وَالزَّهَادَةِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، وَنَسْلِ الْمُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ، لاَ مَغْمَزَ فِيهِ فِي نَسَبٍ، وَلاَ يُدَانِيهِ ذُو حَسَبٍ فِي الْبَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالذِّرْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ، وَالْعِتْرَةِ مِنَ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، وَالرِّضَا مِنَ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ، شَرَفُ الأَشْرَافِ، وَالْفَرْعُ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي الْعِلْمِ، كَامِلُ الْحِلْمِ، مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ، نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللَّهِ، حَافِظٌ لِدِينِ اللَّهِ»(5).
ص: 288
..............................
مسألة: لايبعد كون «قد كان بعدك أنباء وهنبثة» إشارة للماضي، أي لما حدث بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) مباشرة، و«لم تكثر الخطب» أعم مما جرى بعد الوفاة ومما سيجري في المستقبل إلى يوم الظهور، فإن (قد كان بعدك) إشارة للأسس و(لم تكثر) إشارة للنتائج على مر الأزمان، أي (لم تكثر الخطب) في هذا الزمن وفي الأزمان اللاحقة.. وهذا إشارة إلى أن كافة المظالم علىمر التاريخ وزرها عليهما ومن آزرهما أو رضي بفعلهما إلى يوم القيامة،كما نصت على ذلك روايات عديدة. عن أبي حمزة،عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله:« «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» يعني: ليستكملوا الكفر يوم القيامة، «وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» يعني: كفر الذين يتولونهم، قال الله: «أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1)»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ، فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ، إِنَّ عَوَازِمَ الأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا»(3).
وقال (علیه السلام): «أظلم الناس من سن سنن الجور ومحا سنن العدل»(4).
وعن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما داع دعا إلى ضلالة واتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعهمن غير أن ينقص من أوزارهم شي ء»(5).
ص: 289
..............................
وعن ميمون القداح، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيما عبد من عباد الله سنّ سنة هدى كان له مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما عبد من عباد الله سنّ سنة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1).
وعن إسماعيل الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «من سنّ سنة عدل فاتبع كان له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن استن بسنة جور فاتبع كان له مثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(2).
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لايتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل أجر من أخذ بها، ولا يتكلم بكلمة ضلال يؤخذ بها إلا كان عليه مثل وزر منأخذ بها»(3).
وعن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «من علّم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً»(4).
وجاء في الحديث:إن سائلاً قام على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) فسأل فسكت القوم. ثم إن رجلاَ أعطاه فأعطاه القوم. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «من استن خيراً فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم،ومن استن شراً فاستن به
ص: 290
..............................
فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم»(1).
وعن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت علياً (علیه السلام) يقول: «يا معشر المسلمين، يا أبناء المهاجرين، انفروا إلى أئمة الكفر وبقية الأحزابوأولياء الشيطان، انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً»(2).
وعن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من يشفع شفاعة حسنة، أو يأمر بمعروف، أو ينه عن منكر، أو دل على خير، أو أشار به فهو شريك. ومن أمر بشر، أو دل عليه، أو أشار به فهو شريك»(3). إلى غيرها من الروايات.
قولها (صلوات الله عليها): «أنباء» جمع نبأ بمعنى الخبر، والمراد بها ما حدث من غصب الخلافة وفدك، والمنازعات والمحاورات والانقلاب على تعاليم السماء.
قولها (علیها السلام): «هنبثة» أي: الأمر الشديد، وربما كانت بمعنى الاختلاط في القول وما أشبه.
قولها (علیها السلام): «شاهدها» أي لو كنتَ حاضراً.
قولها (علیها السلام): «لم تكثر الخطب» أي: لم يستفحل الأمر بهذه الشدة التي وقعت بعدك، فإن (الخطب) في المقام بمعنى: المصيبة العظيمة.ومن المحتمل أن تكون جمع خطبة، أي لم يكثر القيل والقال، بل كان القول قولك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما كان لأحد أن يخالفك.
ص: 291
-------------------------------------------
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا(1)
مسألة: يحرم التشكيك في الآثار والبركات التكوينية للرسول (صلی الله علیه و آله) والمعصومين (علیهم السلام)، بل في الولاية التكوينية لهم أيضاً، والتفصيل في محله.
وقد أشرنا إلى بعض البحث في كتاب البيع(2).
قال تعالى: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ»(3).
وقال سبحانه: «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ»(4).
وقال تعالى: «فَسَخَّرْنَا لَ-هُ الرِّيحَ تَجْرِيبِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ»(5).
وقال سبحانه: «وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ»(6).
ص: 292
..............................
عن محمد، قال: حدثني يونس، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «اجتمعوا أربعة عشر رجلاً أصحاب العقبة ليلة أربع عشرة من ذي الحجة. فقالوا للنبي (صلی الله علیه و آله): ما من نبي إلا وله آية فما آيتك في ليلتك هذه؟.
فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ما الذي تريدون؟.
فقالوا: إن يكن لك عند ربك قدر فأمر القمر أن ينقطع قطعتين!.
فهبط جبرئيل (علیه السلام) وقال: يا محمد، إن الله يقرؤك السلام ويقول لك: إني قد أمرت كل شيء بطاعتك.
فرفع (صلی الله علیه و آله) رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين فانقطع قطعتين، فسجد النبي (صلی الله علیه و آله) شكراً لله وسجد شيعتنا. ثم رفع النبي (صلی الله علیه و آله) رأسه ورفعوا رؤوسهم.
ثم قالوا: يعود كما كان، فعاد كما كان، ثم قالوا: ينشق رأسه. فأمرهفانشق، فسجد النبي (صلی الله علیه و آله) شكراً لله وسجد شيعتنا. فقالوا: يا محمد، حين تقدم سفارنا من الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة، فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنه من ربك، وإن لم يروا مثل ما رأينا علمنا أنه سحر سحرتنا به، فأنزل الله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ»(1) إلى آخر السورة(2).
ص: 293
..............................
روي عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أنه كان يطلب قوماً من الخوارج، فلما بلغ الموضع المعروف اليوم بساباط ... أتاه رجل من شيعته، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا لك شيعة ومحب، ولي أخ وكنت شفيقاً عليه فبعثه عمر في جنود سعد بن أبي وقاص إلى قتال أهل المدائن فقُتل هناك، وكان من وقت مقتله إلى اليوم سنين كثيرة. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فما الذي تريد منه؟». قال: أريد أن تحييه لي. قال علي (علیه السلام): «لا فائدة لك في حياته». قال: لابد من ذلكيا أمير المؤمنين. قال له: «إذا أبيت إلا ذلك فأرني قبره ومقتله». فأراه إياه، فمد (علیه السلام) الرمح وهو راكب بغلته الشهباء فركز القبر بأسفل الرمح، فخرج رجل أسمر طويل يتكلم بالعجمة. فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): «لم تتكلم بالعجمة وأنت رجل من العرب؟». فقال: بلى، ولكن بغضك في قلبي ومحبة أعدائك في قلبي، فانقلب لساني في النار».
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، رده من حيث جاء فلا حاجة لنا فيه. فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): «ارجع»، فرجع إلى القبر وانطبق عليه(1).
عن أسماء بنت واثلة بن الاسقع، قالت: سمعت أسماء بنت عميس الخثعمية تقول: سمعت سيدتي فاطمة (علیها السلام) تقول: «ليلة دخل بي علي بن أبي طالب (علیه السلام) أفزعني في فراشي». قلت: فبما فزعتِ يا سيدة النساء؟.
قالت: «سمعت الأرض تحدثه ويحدثها، فأصبحت وأنا فزعةفأخبرتُ
ص: 294
..............................
والدي (صلی الله علیه و آله) فسجد سجدة طويلة ثم رفع رأسه، وقال: يا فاطمة، أبشري بطيب النسل؛ فإن الله فضل بعلكِ على سائر خلقه وأمر الأرض أن تحدثه بأخبارها وما يجري على وجهها من شرقها إلى غربها»(1).
عن إبراهيم بن منصور، قال: رأيت الحسن بن علي (علیه السلام) وقد خرج مع قوم يستسقون. فقال للناس: «أيما أحب إليكم المطر أم البرد أم اللؤلؤ؟.
فقالوا: يا ابن رسول الله، ما أحببت. فقال: «على أن لا يأخذ أحد منكم لدنياه شيئا بالثلاثة». قال: ورأيناه يأخذ الكواكب من السماء ثم يرسلها فتطير كما تطير العصافير إلى مواضعها(2).
عن محمد بن حجارة، قال: رأيت الحسن بن علي (علیه السلام) وقد مرت به صريمة من الظباء، فصاح بهن، فأجابته كلها بالتلبية حتى أتت بين يديه.
عن محمد بن حجارة، قال: رأيت الحسن بن علي (علیه السلام) وقد مرت به صريمة من الظباء، فصاح بهن، فأجابته كلها بالتلبية حتى أتت بين يديه.
فقلنا: يا ابن رسول الله، هذا وحش فأرنا آية من السماء؟.
فأومأ (علیه السلام) نحو السماء ففتحت الأبواب ونزل نور أحاط بدور المدينة، ونزلت الدور حتى كادت أن تخرب. فقلنا: ردها يا ابن رسول الله؟. فقال: «نحن الأولون والآخرون، ونحن الآمرون، ونحن النور ننوّر الروحانيين بنور الله، ونروحهم بروحه، فينا مسكنه وإلينا معدنه، الآخر منا كالأول، والأول منا
ص: 295
..............................
كالآخر»(1).
عن محمد الكناني، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «خرج الحسين بن علي (علیهما السلام) في بعض أسفاره ومعه رجل من ولد الزبير بن العوام يقول بإمامته، فنزلوا من تلك المنازل تحت نخل يابس قد يبس من العطش، ففرشللحسين (علیه السلام) تحتها والزبيري بإزائه تحت نخل أخرى وليس عليها رطب.
قال: فرفع (علیه السلام) يده فدعا بكلام لم أفهمه، فاخضرت النخلة وصارت إلى حالها وأورقت وحملت رطباً. فقال الجمال الذي اكترى منه: هذا سحر والله!. فقال الحسين (علیه السلام): ويلك ليس بسحر، ولكنها دعوة ابن نبي مستجابة. قال: فصعدوا إلى النخلة حتى حووا منها كلهم»(2).
عن يحيى ابن أم الطويل، قال: كنا عند الحسين (علیه السلام) إذ دخل عليه شاب يبكي. فقال له الحسين (علیه السلام): «ما يبكيك؟». قال: إن والدتي توفيت في هذه الساعة ولم توص ولها مال، وكانت قد أمرتني أن لا أحدث في أمرها شيئاً حتى أعلمك خبرها. فقال الحسين (علیه السلام): «قوموا حتى نصير إلى هذه الحرة».
فقمنا معه حتى انتهينا إلى باب البيت الذي توفيت فيه المرأة وهي مسجاة، فأشرف (علیه السلام) على البيت ودعا الله ليحييها حتى توصي بما تحب من وصيتها،
ص: 296
..............................
فأحياها الله، وإذا المرأة جلست وهي تتشهد ثم نظرت إلى الحسين (علیه السلام)،فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومرني بأمرك. فدخل وجلس على مخدة ثم قال لها: «وصي يرحمكِ الله». فقالت: يا ابن رسول الله، لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا فقد جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمت أنه من مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفاً فخذه إليك فلاحق(1) في المخالفين في أموال المؤمنين، ثم سألته أن يصلي عليها وأن يتولى أمرها، ثم صارت المرأة ميتة كما كانت(2).
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، قال: سمعت عمارة بن يزيد، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، قال: لما كانت وقعة الحرة وأغار الجيش على المدينة وأباحها ثلاثاً، وجه بردعة الحمار صاحبيزيد بن معاوية في طلب علي بن الحسين (علیه السلام) ليقتله أو يسمّه فوجدوه في منزله، فلما دخلوا عليه ركب السحاب وجاء حتى وقف فوق رأسه، وقال: «أيما أحب إليك تكف أو آمر الأرض أن تبلعك؟». قال: ما أردت إلا إكرامك والإحسان إليك. ثم نزل عن السحاب فجلس بين يديه، فقرب إليه أقداحاً فيها ماء ولبن وعسل، فاختار علي بن الحسين (علیهما السلام) لبناً وعسلاً، ثم غاب من بين يديه حيث لا يعلم(3).
ص: 297
..............................
قال أبو جعفر: حدثنا عبد الله بن منير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق الصاعدي وأبو محمد ثابت بن ثابت، قالا: حدثنا جمهور بن حكيم، قال: رأيت علي بن الحسين (علیه السلام) وقد ثبت له أجنحة بريش فطار ثم نزل. فقال: «رأيت الساعة جعفر بن أبي طالب في أعلى عليين». فقلت: وهل تستطيع أن تصعد؟. فقال: «نحن صنعناها فكيف لا نستطيع أن نصعد إلى ما صنعناه، نحن حملة العرش ونحن على العرش، والعرش والكرسي لنا». ثم أعطاني طلعاً في غير أوانه(1).
عن أنس بن مالك، قال: لقيت علي بن الحسين (علیه السلام) وهو خارج إلى ينبع ماشياً. فقلت: يا بن رسول الله لو ركبت؟. فقال: «ههنا ما هو أيسر فانظر»، فحملته الريح وحفت به الطير من كل جانب، فما رأيت مرفوعاً أحسن منه يرفد إلى الطير لتناغيه والريحتكلمه(2).
قال أبو جعفر: وحدثنا أحمد بن منصور الرماني، قال: حدثنا شاذان بن عمر، قال: حدثنا مرة بن قبيصة بن عبد الحميد، قال: قال لي جابر بن يزيد
ص: 298
..............................
الجعفي: رأيت مولاي الباقر (علیه السلام) وقد صنع فيلاً من طين، فركبه وطار في الهواء حتى ذهب إلى مكة عليه وعاد. فلم أصدق ذلك منه حتى رأيت الباقر (علیه السلام)، فقلت له: أخبرني جابر عنك بكذا وكذا فصنع مثله، وركب وحملني معه إلى مكة وردّني(1).
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا أبو محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا حكم بنسعد، قال: لقيت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السلام) وبيده عصا يضرب به الصخر فينبع منه الماء. فقلت: يا بن رسول الله ما هذا؟. قال: «نبعة من عصا موسى التي يتعجبون منها»(2).
عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام). فقلت له: أنتم ورثة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. قال: «نعم». قلت: رسول الله (صلی الله علیه و آله) وارث الأنبياء، علم كل ما علموا؟. قال لي: «نعم». قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرءوا الأكمه والأبرص؟. قال: «نعم بإذن الله». ثم قال لي: «ادن مني يا أبا محمد». فدنوت منه فمسح على وجهي وعلى عيني،فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في البلد، ثم قال لي: «أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً؟».
ص: 299
..............................
قلت: أعود كما كنت. فمسح على عينيفعدت كما كنت.
قال: فحدثت ابن أبي عمير بهذا، فقال: أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق(1).
قال أبو جعفر: وحدثنا أبو محمد، قال: حدثنا عمارة بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: رأيت الصادق (علیه السلام) وقد جيء إليه بسمك مملوح فمسح يده على سمكه فمشت بين يديه، ثم ضرب بيده إلى الأرض فإذا دجلة والفرات تحت قدميه، ثم أرانا سفن البحر، ثم أرانا مطلع الشمس ومغربها أسرع من لمح البصر(2).
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: قال: حدثنا أبو محمد، عن وكيع، عن عبد الله بن قيس، عن أبي قناقب الصدوجي، قال: رأيت أبا عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) وقد سئل عن مسألة، فغضب حتى امتلأ منه مسجد الرسول (صلی الله علیه و آله) وبلغ أفق السماء، وهاجت لغضبه ريح سوداء حتى كادت تقلعالمدينة، فلما هدأ هدأت لهدوئه. فقال (علیه السلام): «لو شئت لقلبتها على من عليها ولكن رحمة الله وسعت كل شيء»(3).
ص: 300
..............................
قال أبو جعفر: وحدثنا عبد الله، قال: حدثنا عمارة بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: قلت للصادق (علیه السلام): أتقدر أن تمسك الشمس بيدك؟.
فقال: «لو شئت لحجبتها عنك». فقلت: افعل. فرأيته قد جرها كما يجر الدابة بعنانها، فاسودت وانكشفت، وذلك بعين أهل المدينة كلهم حتى ردها (1).
عن المفضل بن عمر، قال: وجه المنصور إلى حسن بن زيد - وهو واليه على الحرمين -: أن أحرق على جعفر بن محمد داره.
فألقى النار في دار أبي عبد الله(علیه السلام) فأخذت النار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله (علیه السلام) يتخطى النار ويمشي فيها ويقول: «أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله»(2).
عن رشيق مولى الرشيد، قال: وجه بي الرشيد في قتل موسى بن جعفر (علیه السلام) لأقتله، فهز (علیه السلام) عصا كانت في يده فإذا هي أفعى، وأخذ هارون الحمى ووقعت الأفعى في عنقه حتى وجه إليَّ بإطلاقه فأطلقت عنه(3).
ص: 301
..............................
عن إبراهيم بن الأسود، قال: رأيت موسى بن جعفر (علیه السلام) صعد إلى السماء ونزل ومعه حربة من نور. فقال: «أتخوفوني بهذا - يعني الرشيد - لو شئت لطعنته بهذه الحربة». فأبلغ ذلك الرشيد فأغمي ثلاثاً وأطلقه(1).
قال أبو جعفر: حدثنا سفيان، قال: حدثنا وكيع، قال: رأيت علي بن موسى الرضا (علیه السلام) في آخر أيامه. فقلت: يا ابن رسول الله، أريد أحدث عنك معجزة فأرنيها؟. فرأيته أخرج لنا ماء من صخرة فسقانا وشربت(2).
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا علي بن قنطرة الموصلي، قال: حدثنا سعد بن سلام، قال: أتيت على بن موسى الرضا (علیهما السلام) وقد جاش الناس فيه، وقالوا: لا يصلح للإمامة؛ فإن أباه لم يوص إليه. فقعد منا عشرة رجال فكلموه، فسمعت الجماد الذي من تحته يقول: هو إمامي وإمام كل شيء. وإنه دخل المسجد الذي في المدينة - يعني مدينة أبي جعفر - فرأيت الحيطان والخشب تكلّمه وتسلّم عليه(3).
ص: 302
..............................
عن معبد بن عبد الله الشامي، قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (علیه السلام). فقلت له: قد كثر الخوض فيك وفي عجائبك، فلو شئت أثبت بشيء وأحدثه عنك؟. قال: «وما تشاء؟». قلت له: تحيي لي أبي وأمي. فقال: «انصرف إلى منزلك فقد أحييتهما». فانصرفت وإذا هما والله حيان في البيت، وأقاما عندي عشرة أيام ثم قبضهما الله تعالى إليه(1).
قال أبو جعفر: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد, قال: حدثنا إبراهيم بن سهيل، قال: لقيت علي بن موسى الرضا (علیه السلام) وهو على حماره. فقلت له: من أركبك هذا وتزعم أكثر شيعتك أن أباك لم يوصك ولم يقعدك هذا المقعد، وادعيت لنفسك ما لم يكن لك؟! فقال له: «وما دلالة الإمام عندك؟». قلت: أن يكلم ما وراء البيت، وأن يحيي ويميت. فقال: «أنا أفعل، أما الذي معك فخمسة دنانير، وأما أهلك فإنها ماتت منذ سنة وقد أحييتها الساعة، وأتركها معك سنة أخرى ثم أقبضها إليَّ لتعلم أني إمام بلا خلاف».فوقع عليَّ الرعد. فقال: «أخرج روعك فإنك آمن». ثم انطلقت إلى منزلي فإذا بأهلي جالسة. فقلت لها: ما الذي جاء بكِ؟. فقالت: كنت نائمة إذا أتاني آت ضخم شديد السمرة، فوصفت لي صفه الرضا (علیه السلام) فقال لي: يا هذه قومي وارجعي إلى زوجك؛ فإنك ترزقين بعد الموت ولداً. فرزقت والله(2).
ص: 303
..............................
عن أبي هاشم الجعفري، قال: صليت مع أبي جعفر (علیه السلام) في مسجد المسيب وصلى بنا في موضع القبلة سواء، وذكر أن السدرة التي في المسجد كانت يابسة ليس عليها ورق، فدعا بماء وتهيأ تحت السدرة فعاشت السدرة وأورقت وحملت من عامها(1).
عن حكيم بن حماد، قال: رأيت سيدي محمد بن علي (علیه السلام) وقد ألقى في الدجلة خاتماً، فوقفت كل سفينةصاعداً وهابطاً، وأهل العراق يومئذ يتزايدون، ثم قال لغلامه: «أخرج الخاتم». فسارت الزوارق(2).
قال أبو هاشم الجعفري: جاء رجل إلى محمد بن علي بن موسى (علیه السلام). فقال: يا ابن رسول الله، إن أبي مات وكان له مال ففاجأه الموت، ولست أقف على ماله ولي عيال كثير، وأنا من مواليكم فأغثني.
فقال له أبو جعفر (علیه السلام): «إذا صليت العشاء الآخرة فصل على محمد وآل محمد؛ فإن أباك يأتيك في النوم ويخبرك بأمر المال». ففعل الرجل ذلك فرأى أباه في النوم فقال: يا بني، مالي في موضع كذا فخذه واذهب به إلى ابن رسول الله
ص: 304
..............................
فأخبره أني دللتك على المال. فذهب الرجل فأخذ المال وأخبر الإمام (علیه السلام) بخبر المال، وقال: الحمد لله الذي أكرمك واصطفاك(1).
قال أبو جعفر: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا عمارة بن زيد، قال: قلت لأبي الحسن: أتقدر أن تصعد إلى السماء حتى تأتي بشيء ليس في الأرض حتى نعلم ذلك؟. فارتفع في الهواء وأنا أنظر إليه حتى غاب، ثم رجع ومعه طير من ذهب في أذنيه أشنقة من ذهب وفي منقاره درة،وهو يقول:"لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله". فقال: «هذا طير من طيور الجنة». ثم سيبه فرجع(2).
عن محمد بن يزيد، قال: كنت عند علي بن محمد (علیه السلام) إذ دخل عليه قوم يشكون الجوع، فضرب يده إلى الأرض وكان لهم براً ودقيقاً(3).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: خرجت مع أبي الحسن (علیه السلام) إلى ظاهر سر من رأى يتلقى بعض القادمين فأبطئوا، فطرح لأبي الحسن (علیه السلام) غاشية السرج فجلس عليها،ونزلت عن دابتي وجلست بين يديه وهو يحدثني، فشكوت إليه قصر يدي وضيق حالي، فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً فناولني منه كفاً.
ص: 305
..............................
قال: «اتسع بهذا يا أبا هاشم واكتم ما رأيت». فخبأته معي ورجعنا فأبصرته فإذا هو يتقد كالنيران ذهباً أحمر، فدعوت صائغاً إلى منزلي وقلت له: اسبك لي هذه السبيكة. فسبكها وقال لي: ما رأيت ذهباً أجود من هذا وهو كهيئة الرمل، فمن أين لك هذا، فما رأيت أعجب منه!! قلت: كان عندي قديماً(1).
قال أبو هاشم الجعفري: استؤذن لرجل جميل طويل من أهل اليمن على أبي محمد (علیه السلام) فجلس إلى جنبي. فقلت في نفسي: ليت شعري من هذا؟. فقال أبو محمد: «هذا من ولد الأعرابية صاحبة الحصاة التي طبع آبائي فيها - ثم قال - هاتها»، فأخرج حصاة فطبع في موضع منها أملس. فقلت لليماني: رأيته قط؟. قال: لا والله وإني منذ دهر لحريص على رؤيته حتى كان الساعة أتاني شابلست أراه، فقال: قم فادخل، فدخلت. ثم نهض وهو يقول: رحمة الله وبركاته عليكم منا أهل البيت، ذرية بعضها من بعض. فسألته عن اسمه؟. فقال: اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم ابن أم غانم(2).
قال أبو جعفر: ودخل قوم على الحسن بن علي (علیه السلام) يشكون قلة الأمطار في سواد العراق وكانوا من أهله، فكتب لهم كتاباً فأمطروا، ثم جاءوا يشكون كثرته فختم في الأرض فأمسك المطر(3).
ص: 306
..............................
قال أبو جعفر: رأيت الحسن بن على (علیه السلام) يمشي في أسواق سر من رأى ولا ظل له(1).
قال أبو جعفر: رأيته يأخذ الآسفيجعلها ورقاً، ويرفع طرفه نحو السماء ويده فيردها ملأى لؤلؤاً (2).
إلى غيرها وغيرها مما هو كثير جداً وفي كل عصر وزمان.
مسألة: يمكن استفادة الآثار التكوينية لوجود المعصوم (علیه السلام) من كلامها (صلوات الله عليها) هذا - إضافة إلى سائر الأدلة العقلية والنقلية على ذلك - فإن المجاز لا يصار إليه إلا مع تعذر الحقيقة، والمعنى الحقيقي هنا(3) غير متعذر، بل الأدلة عليه.
ومن ذلك يعلم أن لا حاجة للحصر في المعنوي وللقول بأن للرسول (صلی الله علیه و آله) وابلاً معنوياً وإن كان أهم من الوابل المادي؛ لأن فائدة الوابل المادي إنما تكون بسبب الوابل المعنوي.
ص: 307
..............................
ويتضح ذلك بملاحظة أن الآية التالية: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا»(1) تنطق ب- (الأثر التكويني) الذي جعله الله تعالى للإيمان والتقوى وإنهما في سلسلة العلل، فكيف بوجود سيد الخلائق أجمعين(صلی الله علیه و آله)؟.
وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(2) دليل آخر على وجود الترابط التكويني الذي أقره الله سبحانه بين وجود الرسول (صلی الله علیه و آله) وبين بعض الظواهر الكونية(3).
مسألة: يستحب للأمة أن تشكو ما بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته وبعد وفاته، فإن الشكاية تكون إلى كبير القوم، وحيث إنه لا فرق بين حياته (صلی الله علیه و آله) وموته، فإن مثل هذه الشكوى إليه مستحبة.
وفائدة الشكوى: التظلم أولاً، وفضحالظالم ثانياً، وكشف القناع عن وجه الحق ثالثاً(4)، ثم التوسل به (صلی الله علیه و آله) وطلب الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى الله سبحانه وتعالى - في حياته المعنوية - لحل المشكلة وإرجاع الحق إلى أهله رابعاً.
هذا بالإضافة إلى أن التحريض لبثّ الهم والحزن والشكوى إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وسائر المعصومين (علیهم السلام) يوجب مزيد التلاحم والارتباط النفسي والروحي
ص: 308
..............................
والمعنوي مع القمم السامقة في الفضيلة والتقوى والعلم والجهاد و...
عن أبي معاوية، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من شكا إلى مؤمن فقد شكا إلى الله عزوجل ومن شكا إلى مخالف فقد شكا الله عزوجل»(1).
وخرج الإمام الحسين (علیه السلام) من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جده (صلی الله علیه و آله)، فقال: «السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتنيفي أمتك، فاشهد عليهم يا نبي الله إنهم قد خذلوني وضيعوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك». قال: ثم قام فصفّ قدميه فلم يزل راكعاً ساجداً(2).
وروي: أن أبا بكر وعمر لما أرادا استرضاء فاطمة الزهراء (علیها السلام) فأبت أن تأذن لهما فطلبا من أمير المؤمنين أن يدخلهما عليها: فدخل علي (علیه السلام) على فاطمة (علیها السلام) فقال: «يا بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيتِ، وقد تردد مراراً كثيرة ورددتِهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليكِ». فقالت: «والله لا آذن لهما ولا أكلمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني»(3).
وفي قصة الاسترضاء أيضاً لما دخلا عليها، قالت (علیها السلام): «نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني». قالا: نعم. فرفعت يدها إلى السماء فقالت: «اللهم إنهما قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك، لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتى ألقىأبي
ص: 309
..............................
رسول الله وأخبره بما صنعتما، فيكون هو الحاكم فيكما»(1).
وروي: أن قوماً مشاةً أدركهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فشكوا إليه شدة المشي. فقال لهم: «استعينوا بالنسل»(2).
وسأل معاوية بن عمار أبا عبد الله (علیه السلام)ك عن رجل عليه دين أعليه أن يحج؟. قال: «نعم، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان أكثر من حج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) مشاةً، ولقد مر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد والطاقة والإعياء. فقال: شدوا أزركم واستبطنوا ففعلوا ذلك فذهب ذلك عنهم»(3).
وعن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيالحسن (علیه السلام)، قال: «أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم فشكوا إليه سرعة نفاد طعامهم.فقال(صلی الله علیه و آله): تكيلون أو تهيلون؟ فقالوا: نهيل يا رسول الله،يعنون الجزاف.فقال لهم:كيلوا فإنه أعظم للبركة»(4).
وعن عيسى بن جعفر العلوي، عن آبائه (علیهم السلام): أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «مر أخي عيسى (علیه السلام) بمدينة وإذا في ثمارها الدود فشكوا إليه ما بهِم. فقال: دواء هذا معكم وليس تعلمون، أنتم قوم إذا غرستم الأشجار صببتم التراب وليس هكذا يجب، بل ينبغي أن تصبوا الماء في أصول الشجر ثم تصبوا التراب؛ لكيلا يقع فيه الدود، فاستأنفوا كما وصف فذهب ذلك عنهم»(5).
ص: 310
..............................
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ما مطر قوم إلا برحمته، وما قحطوا إلا بسخطه». وقال (صلی الله علیه و آله): «قال ربي: لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوتالرعد». ووفد قوم إليه (صلی الله علیه و آله) فشكوا إليه القحط. فقال: «اجثوا على ركبكم، وتضرعوا إلى ربكم، واسألوا يسقكم». ففعلوا ذلك فسقوا حتى سألوا أن يكشف عنهم»(1).
وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: « «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ»(2)، فإنها نزلت لما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض، فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنزل الله: «قُلْ» لهم يا محمد «أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ»، أي: إنه لا يصيبكم إلاّ الجهد والضر في الدنيا، فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك لايصيب إلاّ القوم الظالمين»(3).
وروي: أن أهل المدينة مطروا مطراً عظيماً، فخافوا الغرق فشكوا إليه. فقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم حوالينا ولا علينا». فانجابت السحابعن المدينة على هيئة الإكليل لا تمطر في المدينة وتمطر حواليها، فعاين مؤمنهم وكافرهم أمراً لم يعاينوا مثله(4).
وروي: أن رجلاً مات وإذا الحفارون لم يحفروا شيئاً، فشكوا إلى رسول
ص: 311
..............................
الله (صلی الله علیه و آله)، وقالوا: حديدنا لا يعمل في الأرض كما نضرب في الصفا. قال: «ولِمَ، إن كان صاحبكم لحسن الخلق، ائتوني بقدح من ماء». فأدخل يده فيه ثم رشه على الأرض رشاً، فحفر الحفارون فكأنما رمل يتهايل عليهم(1).
وعن جابر بن عبد الله: اشتد علينا في حفر الخندق كدية، فشكوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح الماء على تلك الكدية فعادت كالكندر(2). إلى غيرها من الروايات التي تبين جواز الشكوى إلىرسول الله (صلی الله علیه و آله) وربما رجحانها.
مسألة: هل أن قولها (علیها السلام): «واختل قومك» يكشف عن مصداق لقاعدة كلية هي أن اختلال النظم أو الأمر سنة اجتماعية تحكم المجتمعات - عادة - بعد وفاة القائد المؤسس، أم أنها صغرى جزئية، والجزئي لا يكون كاسباً ولامكتسباً؟. الظاهر: إنها قضية خارجية ولا يمكن التعميم إلا بإلغاء الخصوصية وكشف الملاك، عبر معرفة شتى العوامل التي تؤدي إلى ذلك، نعم ربما يقال: بأنها قضية شبه طبيعية أي من طبيعة المجتمع ذلك، وسيأتي البحث عنه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
قولها (علیها السلام): «فقدناك» الفقد أن يرى الشيء غائباً بعد ما كان حاضراً.
«الوابل»: المطر، بل المطر الشديد الضخم القطر، كما في اللغة(3).
ص: 312
..............................
«اختل قومك»: من الخلل أي تفرقوا عن الحق وحصل فيهم الخلل.«فاشهدهم»: الشهود الحضور، وهو يحمل على المعنى الحقيقي لإمكانه كما سبق، فلا مجال لحصره في الحمل على المعنى المجازي فقط كما لا يخفى.
مسألة: يدل قول الصديقة الطاهرة (علیها السلام) «وقد نكبوا» - مضافا إلى سائر الأدلة - على انحرافهم وعدم عدالة كثير منهم، على خلاف من ادعى عدالة جميع الصحابة. فإن «نكبوا»: أي انحرفوا عن الطريق. و(نكب) بفتح الكاف وكسره كنصر وفرح: أي عدل ومال.
وفي اللغة: نَكَبَ عن الشيءِ وعن الطريق يَنْكُب نَكْباً ونُكُوباً، ونَكِبَ نَكَباً، ونَكَّبَ، وتَنَكَّبَ: عَدَلَ؛ قال الأَزهري: وسمعت العرب تقول: نَكَبَ فلانٌ عن الصواب يَنْكُبُ نُكُوباً، إِذا عَدَل عنه(1).
وعن زيد بن وهب: أن علياً (علیه السلام) قال للناس - وهو أول كلام له بعد النهروان وأمور الخوارج التي كانت - فقال: «يا أيها الناس، استعدوا إلى عدو في جهادهم القربة من الله وطلب الوسيلة إليه، حيارى عن الحق لا يبصرونه، وموزعين بالكفر والجور لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب عنالدين، يعمهون في الطغيان، ويتسكعون في غمرة الضلال، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ»(2)،وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله
ص: 313
..............................
نصيراً»(1).
هذا وفي بعض النسخ: (واختل قومك لما غبت وانقلبوا)، فيكون إشارة إلى قوله تعالى: «أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ»(2).
روى الواقدي وغيره من نقلة أخبارهم: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهودي، فنزل جبرئيل بهذه الآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(3). فقال محمد (صلی الله علیه و آله): «ومن ذو القربى وما حقه؟». قال: فاطمة تدفع إليها فدكاً والعوالي. فاستغلتها حتى توفي أبوها، فلما بويع أبو بكر منعها فكلمته في ردها عليها. وقالت: «إنها لي وإن أبي دفعها إليَّ». فقال أبوبكر: فلا أمنعكِ ما دفع إليكِ أبوكِ. فأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر، وقال: إنها امرأة فطالبها بالبينة على ما ادعت. فأمرها أبو بكر فجاءت بأم أيمن، وأسماء بنت عميس مع علي (علیه السلام) فشهدوا بذلك. فكتب لها أبو بكر(4)، فبلغ ذلك عمر فأخذ الصحيفة ومزقها فمحاها، فحلفت أن لا تكلمهما وماتت ساخطة عليهما(5).
وفي البخاري: أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر وسألته ميراثها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مما أفاء الله عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: لا نورث ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا
ص: 314
..............................
المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن حالها التي كانت عليه. وأبى أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تتكلم معه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلی الله علیهو آله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبو بكر، وصلى عليها علي (علیه السلام) (1).
وروى العلامة المجلسي(رحمة الله) في البحار: قال عمر - حين حضره الموت -: أتوب إلى الله من ثلاث: من اغتصابي هذا الأمر أنا وأبو بكر من دون الناس، ومن استخلافي عليهم، ومن تفضيلي المسلمين بعضهم على بعض. وقال أيضاً: أتوب إلى الله من ثلاث: من ردي رقيق اليمن، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) علينا، ومن تعاقدنا على أهل البيت إن قبض رسول الله أن لا نولي منهم أحداً. ورووا عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: كنت عند عمر وهو يموت فجعل يجزع. فقلت: يا أمير، أبشر بروح الله وكرامته. فجعلت كلما رأيت جزعه قلت هذا، فنظر إليَّ فقال: ويحك فكيف بالممالأة على أهل بيت محمد (صلی الله علیه و آله)(2).
وعن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: قال أبو بكر في مرضه الذي قبض فيه: أما إني لا آسى من الدنيا إلا على ثلاث فعلتها ووددت أني تركتها، وثلاثتركتها ووددت أني فعلتها، وثلاث وددت أني كنت سألت عنهن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما التي وددت أني تركتها: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وإن كان أعلن عليَّ الحرب، ووددت أني لم أكن
ص: 315
..............................
أحرقت الفجاءة وأني قتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة، فكان أميراً وكنت وزيراً. الخبر (1).
وروى أبان عن سليم بن قيس في قصة موت معاذ بن جبل بالطاعون حيث قال معاذ: ويل لي ويل لي ويل لي ويل لي، فلما سُئل عن ذلك قال: لموالاتي عدو الله على ولي الله. فقالوا له: إنك لتهجر. فقال: والله ما أهجر هذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) يقولان: «يا معاذ بن جبل، أبشر بالنار أنت وأصحابك الذين قلتم: إن مات رسول الله أو قتل زوينا الخلافة عن علي فلن يصل إليها» الحديث(2).
مسألة: في بعض النسخ هكذا:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واجتث أهلك مذ غيبت واغتصبوا
وهو يدل على عظيم المصيبة التي حلّ بأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمجرد أن غاب عنهم الرسول (صلی الله علیه و آله) وارتحل إلى ربه عزوجل، ومن المعلوم حرمة ذلك أشد الحرمة.
ص: 316
-------------------------------------------
مسألة: من مصاديق حق الشخص: الحقوق الامتدادية، ومنها حقوقه في ذريته وأهله طولياً وعرضياً(1)، فكل إكرام للأهل عُدّ إكراماً للشخص الواجب الإكرام، واجب في الجملة، إذ (يحفظ المرء في ولده)(2).
وكلامها (علیها السلام) دليل على أن من له منزلة وقرب من الله تعالى فإن شيئاً من منزلته وقربه يترشح على أهله وأقربائه في الجملة عند الله تعالى، ولا عكس في المبعد(3)، وبذلك يحكم العقل، وعليه جرت الشرائع كلها.
ويعدّ كلامها (علیها السلام) من الأدلة على نقض القاعدة الماركسيةالتي تحصر للشخص ما يكتسبه بنفسه فقط -- بل أقل من ذلك(4) -- بالمعنى الضيق الذي فسروه، والتي استندوا إليها في نفي الإرث باعتبار أن الإرث ليس من جهد الشخص فيكون للدولة، فإنها قاعدة لا دليل عليها بل العقل على خلافها، والتفصيل في محله(5).
قولها (علیها السلام): «كل أهل» أي كل جماعة ...
ص: 317
..............................
«قربى»: أي تقرب إلى الله عزوجل بالإيمان والعمل الصالح.
«منزلة»: أي درجة ومرتبة.
«الأدنين»: جمع أدنى أي الأقرب.
وحاصله: إنا أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأقربون إليه فكيف يتعامل معنا هكذا ظلماً وجوراً، وغصباً وهتكاً؟.
فهذا البيت إشارة إلى أن القوم غصبوا ميراثنا مع إنا قربى الرسول (صلی الله علیه و آله) ونستحق ميراثه، وقد تقدم أن المراد بالميراث إماالإرث حقيقة لأن القوم ادعوا أن فدكاً(1) إرث وأن فاطمة (علیها السلام) لا ترث، وأما الإرث بمعناه الأعم مما يتركه الميت سواء بالنحلة أم بالميراث، فيتصرف فيهما الورثة بعده.
ص: 318
-------------------------------------------
أبدت رجال لنا نجوى(1) صدورهم *** لما مضيت(2) وحالت دونك الترب(3)
مسألة: يستحب بيان أن بعض الصحابة أبدوا ما في صدورهم من الضغائن بعد فقد الرسول (علیه السلام).
وهذا الأمر قد يكون مستحباًً، وقد يكون واجباً، حسب اختلاف الموارد، بالإضافة إلى أن بيان مثل ذلك يكون درساًً للأجيال الآتية حتى يعلموا أن القائد إذا مات أو قُتل يختلف الناس بعده - عادة - مما يوجب اتخاذ العُدة للحد من الاختلاف والفتن وسائر المفاسد بالقدر الممكن.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «اتق الضغائن التي لك في صدور من لايظهرها إلا بعد موتي، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون». ثم بكى النبي (صلی الله علیهو آله) فقيل: مم بكاؤك يا رسول الله؟. فقال (صلی الله علیه و آله): «أخبرني جبريل (علیه السلام) أنهم يظلمونه ويمنعونه حقه، ويقاتلونه ويقتلون ولده ويظلمونهم بعده»(4).
وعن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «كنت أمشي مع النبي (صلی الله علیه و آله) في بعض طرق المدينة،فأتينا على حديقة وهي الروضة ذات الشجر. فقلت: يا رسول الله،
ص: 319
..............................
ما أحسن هذه الحديقة!. فقال: ما أحسنها، ولك في الجنة أحسن منها. ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة!. فقال: لك في الجنة أحسن منها. حتى أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول الله، ما أحسنها!. فيقول (صلی الله علیه و آله): لك في الجنة أحسن منها. فلما خلا له الطريق اعتنقني وأجهش باكياً فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟. قال (صلی الله علیه و آله): ضغائن في صدور أقوام لايبدونها إلا بعدي. فقلت: في سلامة من ديني؟.قال (صلی الله علیه و آله): في سلامة من دينك»(1).
وعن زيد بن أرقم، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي بن أبي طالب (علیه السلام): «أنت سيد الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنة، ومن صلب الحسين يخرج الله عزوجل الأئمة التسعة، فإذا متَُ ظهرت لك الضغائن في صدور قوم، ويمنعونك حقك ويتمالون عليك». وبإسناده عن زيد بن أرقم، قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا ببغضهم علي بن أبي طالب وولده (علیهم السلام)(2).
وعن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس، قال: كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ومعنا جماعة من شيعة علي (علیه السلام)، فحدثنا فكان فيما حدثنا أن قال: يا إخوتي، توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا وأجمعوا على الخلاف، واشتغل علي بن أبي طالب (علیه السلام) برسول الله (صلی الله علیه وآله) حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته، ثم أقبل على
ص: 320
..............................
تأليف القرآن(1) وشغل عنهم بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولم يكن همته الملك لما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره عن القوم، فلما افتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين، فلم يبق إلا علي وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير، قال عمر لأبي بكر: يا هذا، إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر، فابعث إليه.
فبعث إليه ابن عم لعمر يقال له: قنفذ.
فقال له: يا قنفذ، انطلق إلى علي فقل له أجب خليفة رسول الله!.
فانطلق فأبلغه، فقال علي (علیه السلام): «ما أسرع ما كذبتم على رسول الله، نكثتم وارتددتم، والله ما استخلف رسول الله غيري، فارجع يا قنفذ فإنما أنت رسول فقل له: قال لك علي: والله ما استخلفك رسول الله، وإنك لتعلم من خليفةرسول الله» الحديث(2).
وفيه إشارة إلى بعض تلك الضغائن التي كانت في صدورهم فأبدوها بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).
مسألة: المخفي من الحقد والضغينة من رذائل الأخلاق لو كان بالنسبة إلى غير المعصومين وما لم يظهر، وأما بالنسبة لهم (علیهم السلام) فإنه من علائم النفاق ومن أشدّ المحرمات، والحاقد عليهم وإن أخفى حقده آثم باعتبار اختيارية الأمر ولو باختيارية المقدمات، ولو أظهره ازداد إثماً.
ص: 321
..............................
مسألة: إن (إبداء القوم نجوى صدورهم) يكشف - بتصريحها (علیها السلام) - عن نفاقهم أولاً، ثم تجاهرهم بالمعصية ثانياً، وهذا البيت شهادة منها بذلك وهي صادقة مصدقة، وعندئذ كيف يمكن إتباع المنافقين والعصاة؟.
وأما السر في تنكيرها كلمة الرجال، فقد يكون لأنه الأبلغ فيالدلالة من التعريف؛ فإن التنكير قد يكشف عن جو التقية والرعب والرهبة الذي كان حاكماً آنذاك على الناس، وقد يكون لغرض دفع المستمعين للتحقيق مما يسبب علوق القضية بأذهانهم أكثر فأكثر، وقد يدفع إلى الفحص في دائرة أوسع نظراً لوجود العلم الإجمالي، وربما يكتشف أمور أخرى أيضاً.
قولها (علیها السلام): «أبدت» بمعنى أظهرت.
«نجوى»: المخفي من الحقد والضغينة - بقرينة المقام - وهو اسم مصدر لنجوته، والمعنى: إن القوم أظهروا ما في صدورهم من الحقد والعداوة.
«لما مضيت»: كناية عن الموت، ومن الواضح أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه إذ كان هذا البعض وغيرهم قد أبدوا في زمان الرسول (صلی الله علیه و آله) أيضاً نجوى صدورهم، ولكن ما أبدوه بعد وفاته كان أشد وأقسى وأكثر وأوضح وأكثر علانية.
«حالت»: الحيلولة هنا ظاهرية وليست واقعية كما هو واضح.
«الترب»: التراب والتربة.
وفي بعض النسخ: «الكثب» جمع كثيب أي: ما اجتمع من الرمل.
ص: 322
-------------------------------------------
مسألتان: يحرم التجهم بأهل البيت (علیهم السلام) كما يحرم الاستخفاف بهم.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، وقاتليهم، والمعين عليهم، ومن سبهم «أُولئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلايَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(3)»(4).
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أبي ليلى، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وتكون عترتي إليه أعز من عترته، ويكون أهلي أحب إليه من أهله، وتكون ذاتي أحب إليه منذاته»(5).
وعن حنان بن سدير، عن سديف المكي، قال: حدثني محمد بن علي (علیه السلام) وما رأيت محمدياً قط يعدله، قال: «حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: نادى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المهاجرين والأنصار فحضروا بالسلاح، وصعد النبي (صلی الله علیه و آله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معاشر المسلمين، من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً. قال جابر: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟!. فقال: وإن شهد أن
ص: 323
..............................
لاإله إلا الله؛ فإنما احتجز من سفك دمه أو يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر. ثم قال (صلی الله علیه و آله): من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً، فإن أدرك الدجال كان معه، وإن هو لم يدركه بعث في قبره فآمن به، إن ربي عزوجل مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الراياتفاستغفرت الله لعلي وشيعته»(1).
وعن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «من لم يعرف سوء ما أتى إلينا من ظلمنا، وذهاب حقنا، وما ركبنا به، فهو شريك من أتى إلينا فيما ولينا به»(2).
وروي: أن العباس شكا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يلقون من قريش من تعبيسهم في وجوههم، وقطعهم حديثهم عند لقائهم. فغضب (صلی الله علیه و آله) غضباً شديداً حتى احمرّ وجهه ودرّ عرق بين عينيه، وقال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله». وفي رواية أخرى قال (صلی الله علیه و آله): «ما بال أقوام إذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني»(3).
وفي البحار عن أبي هريرة، عنه (صلی الله علیه و آله): «ما بال أقوام يؤذون نسبي وذا رحمي، ألا من آذى نسبي وذا رحمي فقد آذاني، ومن آذاني فقدآذى الله عزوجل»(4).
ص: 324
..............................
وعن هشام بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «من جالس لنا عائباً، أو مدح لنا قالياً، أو وصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(1).
وعن ابن عباس، قال: قلت للنبي (صلی الله علیه و آله): أوصني؟. قال: «عليك بمودة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، والذي بعثني بالحق نبياً لا يقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو تعالى أعلم؛ فإن جاءه بولايته قبل عمله على ما كان منه، وإن لم يأت بولايته لم يسأله عن شيء ثم أمر به إلى النار. يا ابن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً إن النار لأشد غضباً على مبغض علي (علیه السلام) منها على من زعم أن لله ولداً. يا ابن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغضه ولن يفعلوا لعذبهمالله بالنار». قلت: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟. قال: «يا ابن عباس، نعم يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً. يا ابن عباس، إن من علامة بغضهم له تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق ما بعث الله نبياً أكرم عليه مني، ولا أوصياء أكرم عليه من وصيي علي». قال ابن عباس: فلم أزل له كما أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصاني بمودته، وإنه لأكبر عملي عندي(2).
وعن ابن عباس: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «المخالف لعلي بعدي كافر،
ص: 325
..............................
والشاك به مشرك مغادر، والمحب له مؤمن صادق، والمبغض له منافق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، والمقتفي لأثره لاحق»(1).
ثم إنه ينبغي ملاحظة أن ما لا يعد تجهماً واستخفافاً بالنسبة إلى شخص قد يكون تجهماً واستخفافاً بالنسبة لشخص آخر، فعدم القيام مثلاً لرجل من عامة الناس قد لا يكون استخفافاً به لكنهبالنسبة إلى عالم كبير يعد استخفافاً.. وبالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) الأمر أدق وأعظم، وبذلك يمكن الاستناد في وجوب إقامة المواليد ومجالس العزاء عليهم - في الجملة - إلى هذا الدليل باعتبار أن تركها استخفاف بشأنهم في الجملة، وكذلك عدم الدفاع عنهم لو تعرضوا لهجوم على صفحات الجرائد أو في مختلف وسائل الإعلام، فإنه قد يكون نوعاً من التجهم أو الاستخفاف بهم وبشأنهم وبحقهم (علیهم السلام).
هذا كله بالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) أما بالنسبة إلى غيرهم من عامة الناس فالحكم يختلف باختلاف الموارد وينقسم إلى الأحكام الخمسة.
قولها (علیها السلام): «تجهمتنا» التجهم: عبارة عن تقطيب الوجه وعدم البشر، والاستقبال بوجه كريه، يقال: تجهمته إذا كلحت في وجهه، ورجل جهم الوجه أي كالح، وتجهمه وتجهم له: إذا استقبله بوجه كريه، وتجهم: أي استقبله بما يكره.
وفي بعض النسخ: (تهجمتنا) أي هجمت علينا.
وفي بعضها: (تهضمتنا) من الهضم أي الظلم.
ص: 326
..............................
مسألة: يستحب بيان أن بعض الصحابة - بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) - تجهموا على أهل البيت (علیهم السلام) واستخفوا بهم.
وهذا من باب الموضوع، وما ذكرناه في البحث الآنف من باب الحكم، فإن التجهم - الذي قام به بعض الصحابة تجاه أهل البيت (علیهم السلام) - كان حراماً بل من أشد المحرمات، وكذلك الاستخفاف بالنسبة إليهم كما لا يخفى.
مسألة: يجوز لصاحب المصيبة أن يرثي فقيده بمثل هذا الرثاء مع رعاية سائر الموازين.
والمقصود من قولها (علیها السلام): «.. وكل الأرض مغتصب»، الأراضي التي كانت منحة من الرسول (صلی الله علیه و آله) إياها (علیها السلام) من العوالي وفدك، ويمكن أن يراد من كل الأرض: أراضي البلاد الإسلامية كلها، فإنها بأجمعها كان المفروض أن تكون تحت سلطة خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي نصبه وعيّنه بأمر السماء وفي يوم الإنذار ويوم غدير خم وفي غيرهما من الأيام، وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام).ويمكن أن يراد باغتصاب الأرض المعنى الكنائي وهو القيادة الإسلامية التي زالت عن موضعها لأنهم (عليهم الصلاة والسلام) هم وراث الأرض بالمعنى الأعم، فسيطرة غيرهم عليها غير جائز، قال سبحانه: «أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(1)، وقال تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُ-ونَ
ص: 327
..............................
مَشَارِقَ الأَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا»(1).
وفي بعض النسخ: (كل الإرث) أي إرث المال وإرث الخلافة.
مسألة: من المحرم تنحية الأكفاء وعزل الكفاءات، وهي سياسة الحكومات الاستبدادية عادة، والديمقراطية أحياناً.
أما الاستبدادية فلأن الكفاءات لا تخضع للمستبد، ولأنها(2) لا تستطيع التعامل إلا مع العبيد والإمعات..
وأما الديمقراطية فلصراع الخطوط ولتعارض المصالح أو للرؤى الحزبيةالضيقة.
وكان الذين أبعدوا أهل البيت (علیهم السلام) مجموعة من المستبدين الذين لم يكونوا يمتلكون الكفاءة الدينية ولا الدنيوية، وقد عبرت عنهم الصديقة الزهراء (علیها السلام) فيما مضى من كلامها ب- «نبغ خامل الأقلين»، و«بئس للظالمين بدلاً»، و«خسر هنالك المبطلون»، و…
وقد صرحوا هم بذلك كما قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت)(3) إلى غير ذلك..
وكما قال الأول: (أقيلوني أقيلوني، فلست بخيركم)(4).
ص: 328
..............................
مسألة: وأشد من ذلك حرمة مضايقة الكفاءات والاستخفاف بهم، وتتأكد الحرمة وتشتد في أهل بيت الرسول(صلی الله علیه و آله)؛ لأن الاستخفاف بهم استخفاف به (صلی الله علیه و آله) وهواستخفاف بالله عزوجل، وإيذائهم إيذاء له (صلی الله علیه و آله) وهو إيذاء الله تعالى، هذا أولا. وثانياً: لأنهم (علیهم السلام) القمة العليا في الكفاءات الأهلية والقرب من الله.. ومن الواضح اشتداد قبح التعدي والاستخفاف واشتداد العقوبة(1) كلما ازداد المعتدى عليه والمستخف به منزلة ومكانة ومقاماً.
مسألة: من كلامها (علیها السلام) هذا وما سبقه ويلحقه، يعلم هل أن القوم امتثلوا أمر الله ورسوله في أهل البيت (علیهم السلام)(2) حيث قال تعالى: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(3)، وقال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللهوعترتي أهل بيتي»(4). قولها (علیها السلام): «استخف» بصيغة المجهول. و«المغتصب» بالفتح أي المغصوب. أي لم يقدرونا بل استخفوا بنا ومنعونا حقنا من الإرث في الخلافة وفدك.
ص: 329
-------------------------------------------
وكنت بدراً ونوراً يستضاء به *** عليك ينزل(1) من ذي العزة الكتب
مسألة: يستحب مخاطبة الرسول (صلی الله علیه و آله) بالألقاب التي خاطبته بها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) كالبدر والنور وما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى سائر المعصومين (علیهم السلام).
وفي القرآن الكريم في وصفه (صلی الله علیه و آله): «وَسِرَاجاً مُنِيراً»(2). ومن شعر العباس عم النبي (صلی الله علیه و آله) في وصفه (صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين) (3):
يا مخجل الشمس والبدر المنير إذا *** تبسم الثغر لمع البرق منه أضا
كم معجزات رأينا منك قد ظهرت *** يا سيداً ذكره يشفي به المرضى
وقال الشاعر لما حملت آمنة بنت وهب (علیها السلام) برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأتوا أهل مكة يهنئونها حيث أضاء النور في وجهها:
يا آمنة بشراكِ *** رب السما هناكِ
بمحمد مناكِ *** سبحان من أعطاكِ
هذا البشير *** هذا النذير
هذا هو البدر المنير *** يا حبذا بشراكِ
صلوا على خير الأنام *** المصطفى بدر التمام
يشفع إلى كل الأنام *** هو سيد الأملاك(4)
ص: 330
..............................
وقال الشاعر في معجزة شق القمر:
والقمر البدر المنير شقه *** فقيل سحر عجب لما رأى(1)
وقال السيد الحميري رحمة الله في مدح أمير المؤمنين (علیه السلام):
علي أميرالمؤمنين وعزهم *** إذا الناس خافوا مهلكات العواقب
علي هو الحامي المرجى فعاله *** لدى كل يوم باسل الشر غاصب
علي هو المرهوب و الذائد الذي *** يذود عن الإسلام كل مناصب
علي هو الغيث الربيع مع الحبا *** إذا نزلت بالناس إحدى المصائب
علي هو العدل الموفق والرضا *** وفارج لبس المبهمات الغرائب
علي هو المأوى لكل مطرد *** شريد ومنحوب من الشر هارب
علي هو المهدي والمقتدى به *** إذا الناس حاروا في فنون المذاهب
علي هو القاضي الخطيب بقوله *** يجيء بما يعيى به كل خاطب
علي هو الخصم القوول بحجة *** يرد بها قول العدو المشاغب
علي هو البدر المنير ضياؤه *** يضيء سناه في ظلام الغياهب
علي أعز الناس جاراً وحامياً *** وأقتلهم للقرن يوم الكتائب
علي أعم الناس حلماً ونائلاً *** وأجودهم بالمال حقاً لطالب
علي أكف الناس عن كل محرم *** وأبقاهم لله في كل جاب
مسألة: (النور) - وهو الرسول (صلی الله علیه و آله) - مقتض للهداية وليس علة تامة، وإلا لزم الجبر كما هو واضح، وعلى ذلك فالواجب على الجميع - كفائياً - توفير شروط الهداية،والمحرم على الجميع إيجاد موانعها،قال تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِ-هِ
ص: 331
..............................
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ»(1)، وقال جل وعلا: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ»(2)، فهو (صلی الله علیه و آله) قائم بالهداية بالمعنى الأول(3) وهو مع ذلك مقتضٍ لها، إذ لا تجب الخوارق لإيصال الرسالة إلى جميع البشرية مع وجود الموانع التي يصنعها الناس، ولذلك سيعرض الحق على القاصر يوم القيامة.
وأما المعنى الثاني للهداية(4) فقد يقال بعدم وجوبها عليه (صلی الله علیه و آله) وإن كان قد قام بما أمكن من باب اللطف.
قولها (علیها السلام): «نوراً» لعل الوجه في استخدامها صفة النور للنبي (صلی الله علیه و آله) لاالضياء الإشارة إلى مرآتيّته (صلی الله علیه و آله) لتعاليم الله وعدم استقلاليته عنه عزوجل، بل هو (الرسول) بمعنى الكلمة - وهذا لا ينافي ما فوض إليه في أمر التشريع والتكوين على تفصيل مذكور في محله - إذ أن الضياء يطلق على (ما منه النور) والنور يطلق على (ما عَبْرَهالنور)، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً»(5)، فهو واسطة الفيض الإلهي هذا كله لو لوحظ منسوباً إلى الله تعالى وإلا - بأن لوحظ منسوباً للعالمين فإنه ضياء وغيره نور - بالقدر الذي استقى منه.
ص: 332
..............................
مسألة: الاستضاءة بالرسول (صلی الله علیه و آله) واجبة، وكذلك بالهداة والدعاة المعصومين (علیهم السلام).
و(يستضاء به) يراد به الفعلية أو الأعم منه ومن الشأنية، ولا يمنعه ما قيل من استعمال المشترك في أكثر من معنى لما ذكرناه في (الأصول).
لا يقال: الرسول (صلی الله علیه و آله) بدر ونور يستضاء به في حياته وبعد مماته، فكيف عبرت (علیها السلام) ب- (كنت)؟.
إذ يقال:
أولاً: من المحتمل تجرد (كان) هاهنا عن الزمن، كما في «وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»(1) ونظائره، فتأمل(2).
ثانياً: يقال: إن الرسول (صلی الله علیه و آله) بوجوده الخارجي نوروبدر، وبوجوده عند الله حياً يرزق نور وبدر، وبكلماته وسيرته نور وبدر، وبامتداده عبر ذريته وغير ذلك نور وبدر، و(كان) بلحاظ فقد الأول فحسب، أو يراد الأعم والمضي بلحاظ الأول فقط.
ص: 333
..............................
مسألة: إرشاد الناس إلى الاستضاءة بنور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقناعهم - عبر السبل العلمية والعاطفية وغيرها - بأنه (صلی الله علیه و آله) (النور) الظاهر بنفسه المظهر لغيره (من الحقائق الأخلاقية والتربوية والاجتماعية والسياسية وغيرها) - في قبال من يطرح بدائل أخرى، وفي مقابل تشكيكات المشككين - واجب.
فإن بيان ذلك وبيان مصاديقه من أحواله (صلی الله علیه و آله) وأخلاقه وحكمه ومواعظه وسلوكه و… تعظيم له وتعريف به مما يوجب التفاف الناس حوله (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر، والتفاف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) واجب؛ لأنه يؤدي إلى الانقياد والطاعة والسعادة في الدارين قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ»(1)، وقال تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ»(2) إلى غير ذلك.
قولها (علیها السلام): «الكتب» أيالسور والآيات؛ لأن جبرئيل (علیه السلام) كان يأتي بها وينزلها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) تارة بعد تارة ومرة بعد أخرى، وربما يكون هذا السبب في الإتيان بصيغة الجمع، والمعنى أنت صاحب القرآن والكتب السماوية والأعرف بأحكام الله، وقد حكمت لنا بالإرث والخلافة، ولكن القوم غيروا الكتاب وبدلوا السنة وغصبوا الخلافة والميراث.
ص: 334
..............................
مسألة: هناك أسرار وحِكَم في النزول التدريجي للقرآن ينبغي الإشارة إليها وبيانها.
وربما يستفاد من قولها (علیها السلام): «عليك ينزل من ذي العزة الكتب» أن المراد بالكتب الأعم من القرآن الكريم، إذ أن ما كان ينزل على الرسول (صلی الله علیه و آله) ينقسم إلى قسمين: (الفرقان) و(الحديث القدسي)، وربما كانت الأقسام الأخرى أكثر قال تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى»(1).عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام): عن القرآن والفرقان؟. قال: «القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون، والفرقان المحكم الذي يعمل به، وكل محكم فهو فرقان»(2).
ثم إن هناك وجوه دقيقة في نزول القرآن على الرسول (صلی الله علیه و آله) بالتدريج خلال ثلاث وعشرين سنة، رغم نزوله عليه (صلی الله علیه و آله) دفعة واحدة ليلة القدر:
منها: إن نزوله الثاني التدريجي كان بلحاظ المقامات المختلفة والتطبيقات وشبه ذلك.
ومنها: إن النزول الثاني ربما تضمن أو تطلب شرحاً وتفسيراً وتوضيحاً.
ومنها:ما ذكر في وجه إطالة موسى (علیه السلام) الجواب في «قَالَ هِيَ عَصَايَ.. »(3).
ص: 335
..............................
ومنها: الترابط المستمر مع الله فإنه لطف منه تعالى به (صلی الله علیه و آله) وعروج له (صلی الله علیه و آله) وأنهحبل ربط مستمر وتكامل له (صلی الله علیه و آله).
ومنها: أن بيان التشريع الجديد وكذلك تطبيقه بحاجة إلى التدرج عادة، إلى غير ذلك.
قال العلامة المجلسي (قدس سره): في قوله: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ» أي: وأنزلنا عليك قرآناً فصلناه سوراً وآيات، أو فرقنا به الحق عن الباطل، أو جعلنا بعضه خبراً وبعضه أمراً وبعضه نهياً وبعضه وعداً وبعضه وعيداً، أو أنزلناه متفرقاً لم ننزله جميعاً إذ كان بين أوله وآخره نيف وعشرون سنة، «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» أي: على تثبت وتؤدة ليكون أمكن في قلوبهم، وقيل: لتقرأه عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء، «وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً»(1) على حسب الحاجة ووقوع الحوادث(2).
وجاء في علة تحريم الخمر عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «إن الله عزوجل إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئاً بعد شيء حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر الله عزوجل ونهيه فيها، وكان ذلك من فعل الله عزوجل على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلىالأخذ بها وأقل لنفارهم منها»(3).
ص: 336
-------------------------------------------
وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا(1) *** فقد فقدت(2) وكلّ الخير محتجب
مسألتان: يجب - عينياً - معرفة العلاقة بين عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) والسماء في الجملة، ويجب - كفائياً - بيان العلاقة للناس، وأما ذكر المفردات والمصاديق، كالمصداق الذي ذكرته الصديقة الكبرى (علیها السلام) هاهنا: (وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا) فهو مستحب.
والظاهر أن أنسهم (علیهم السلام) كان بشيئين: بجبرائيل (علیه السلام) وبالآيات حتى لو كانت الباء هاهنا(3) للسببية لا المعية.
والظاهر من هذا أن أنسهم بجبرائيل (علیه السلام) كان مباشرة لا بالواسطة، إذ كانوا يسمعون الصوت ويحسون بوجوده وإن لم يروا شخصه أحياناً(4) كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهجالبلاغة: «كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعاً ورسول الله (صلی الله علیه و آله) حينئذ صامت ما أذن له بالإنذار والتبليغ»(5).
علماً بأن المعصومين (علیهم السلام) كانوا يرون الملائكة ومنهم جبرئيل في كثير من الأحيان، وهذا لا يعني رؤيته للوحي، فإن الرؤية للوحي المعهود القرآني كان خاصاً بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله).
ص: 337
..............................
مسألة: يستحب أن يؤنس الإنسان غيره - في حدود الشريعة - مطلقاً، وبالآيات بصورة خاصة.
وقد يكون ذلك واجباً، على ما ذكرناه في ما سبق.
وكان أنسهم (عليهم الصلاة والسلام) بالآيات لأنها الرابط بينهم وبين إله العالمين، إضافة إلى أنها كانت ترفع وحشتهم عن مشاكل ومصاعب الحياة، فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا يعانون من شتى المشاكل والمصائب والمحن السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها التي كان يثيرها ضدهم الكفار والمنافقون والحاقدون والجاهلون ومن أشبه، فكانت الآيات خير مؤنس لهم.
مسألة: يستحب بيان أن الخير كله قد احتجب بفقد الرسول (صلی الله علیه و آله).
والمراد بكل الخير: كل الخير المنبعث من وجود رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي انقطع بموته، لا كل خيراتالسماء والأرض التي هي أعم من ذلك، ولا كل خيره (صلی الله علیه و آله) المستمر بعد موته.
وبعبارة أخرى: المحتجب هو (كل الخير)، لا (الخير كله)، أي المجموع هو المحتجب لا الجميع، ويحتمل الإبقاء على الظاهر، من باب المبالغة.
ص: 338
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن البلاد ضاقت على الصديقة فاطمة (علیها السلام) لما لاقته من الظلم والعدوان، وقد صرحت (علیها السلام) بذلك في هذا الشعر وغيره.
وهذا البيت مما ذكره السيد المرتضى(رحمة الله).
أي: إن الأرض ضاقت عليَّ بعد ما كانت رحبة بوجودك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو كناية عن عظم المصائب التي وردت على الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله).
مسألة: يلزم الاعتقاد بمكانة السبطين الحسن والحسين (علیهما السلام) وفي حقهم روايات كثيرة عن الفريقين.
في البحار عن أبي هريرة، قال: قلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إن لكل نبي وصياً وسبطين، فمن وصيك وسبطاك؟. فسكت ولم يرد عليَّ الجواب، فانصرفت حزيناً، فلما حان الظهر. قال: «ادن يا أبا هريرة». فجعلت أدنو وأقول: أعوذبالله من غضب الله وغضب رسوله، ثم قال: «إن الله بعث أربعة آلاف نبي، وكان لهم أربعة آلاف وصي وثمانية آلاف سبط، فو الذي نفسي بيده لأنا خير النبيين، ووصيي خير الوصيين، وإن سبطَي خير الأسباط - ثم قال(صلی الله علیه و آله) - سبطي خير الأسباط الحسن والحسين سبطا هذه الأمة، وإن الأسباط كانوا من ولد يعقوب وكانوا اثني عشر رجلاً، وإن الأئمة بعدي اثنا عشر رجلاً من أهل بيتي، علي أولهم، وأوسطهم محمد، وآخرهم محمد، وهو مهدي هذه الأمة
ص: 339
..............................
الذي يصلي عيسى خلفه، ألا إن من تمسك بهم بعدي فقد تمسك بحبل الله، ومن تخلى منهم فقد تخلى من حبل الله»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حق الحسين (علیه السلام) إذ دخل عليه فأخذه (صلی الله علیه و آله) وقبّله ثم قال: «اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه. يا حسين، أنت الإمام، ابن الإمام، أبو الأئمة، التسعة من ولدك أئمة أبرار»(2).وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرضة فأتته فاطمة (علیها السلام) تعوده، فلما رأت ما برسول الله (صلی الله علیه و آله) من المرض والجهد استعبرت وبكت حتى سالت دموعها على خديها. فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة، إني لكرامة الله إياكِ زوّجتكِ أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً. إن الله تعالى اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة فاختارني منها فبعثني نبياً، واطلع إليها ثانية فاختار بعلكِ فجعله وصياً». فسرت فاطمة (علیها السلام) فاستبشرت.
فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يزيدها مزيد الخير. فقال: «يا فاطمة، إنا أهل بيت أعطينا سبعاً لم يعطها أحد قبلنا ولا يعطاها أحد بعدنا: نبينا أفضل الأنبياء وهو أبوكِ، ووصينا أفضل الأوصياء وهو بعلكِ، وشهيدنا أفضل الشهداء وهو عمكِ، ومنا من جعل الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة وهو ابن عمكِ، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناكِ. والذي نفسي بيده لا بد لهذه الأمة من مهدي وهو والله من ولدكِ»(3).
ص: 340
..............................
وعن ليث بن أبي سليم، قال: أتى النبي (صلی الله علیه و آله) علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) كلهم يقول: «أنا أحب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)». فأخذ (صلی الله علیه و آله) فاطمة مما يلي بطنه، وعلياً مما يلي ظهره، والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، ثم قال (صلی الله علیه و آله): «أنتم مني وأنا منكم»(1).
وعن علي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: «أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيد الحسن والحسين (علیهما السلام)، فقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة»(2).
وعن حنان بن سدير الصيرفي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني محمد بن علي بن الحسين (علیهم السلام)، قال: «كان النبي (صلی الله علیه و آله) جالساً في مسجده، فجاء علي (علیه السلام) فسلم وجلس، ثم جاء الحسن بن علي (علیه السلام) فأخذه النبي (صلی الله علیه و آله) وأجلسه في حجره وضمه إليه وقبله، ثم قال له: اذهب فاجلس مع أبيك، ثم جاء الحسين (علیه السلام) ففعل النبي (صلی الله علیه و آله) مثل ذلك، وقال له: اجلس مع أبيك، إذ دخل رجل المسجد فسلم على النبي (صلی الله علیه و آله) خاصة، وأعرض عن علي والحسن والحسين (علیهم السلام)، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما منعك أن تسلم على علي وولديه، فو الذي بعثني بالهدى ودين الحق لقد رأيت الرحمة تنزل عليه وعلى ولديه»(3).
وعن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإذا علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، فقال: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم»(4).
ص: 341
..............................
وعن أنس قال: اتكأ النبي (صلی الله علیه و آله) على علي. فقال: «يا علي، أما ترضى أن تكون أخي وأكون أخاك، وتكون وليي ووصيي ووارثي، تدخل رابع أربعة الجنة: أنا وأنت والحسن والحسين وذريتنا خلف ظهورنا ومنتبعنا من أمتنا عن أيمانهم وشمائلهم. قال: بلى يا رسول الله»(1).
وعن حذيفة، قال النبي (صلی الله علیه و آله) في خبر: «أما رأيت العارض الذي عرض لي؟».
قلت: بلى.
قال: «ذاك ملك لم يهبط إلى الأرض قبل الساعة، فاستأذن الله تعالى أن يسلم عليَّ ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيده نساء أهل الجنة»(2).
مسألة: يحرم خسف السبطين الحسن والحسين (علیهما السلام) وإرادة الشر بهما كما يحرم إيذاؤهما؛ فإن ذلك إيذاء للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وإيذاؤها إيذاء لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإيذاؤه إيذاء الله عزوجل كما في الروايات(3).
ص: 342
..............................
عن ابن عباس، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «إن علياً وصيي وخليفتي، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولداي، من والاهم فقد والاني ومن عاداهم فقد عاداني، ومن ناوأهم فقد ناوأني، ومن جفاهم فقد جفاني، ومن برهم فقد برني، وصل الله من وصلهم، وقطع الله من قطعهم، ونصر الله من أعانهم، وخذل الله من خذلهم. اللهم من كان له من أنبيائك ورسلك ثقل وأهل بيت فعلي وفاطمة والحسن والحسين أهل بيتي وثقلي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(1).
قولها (علیها السلام): «سبطاك» الحسن والحسين (علیهما السلام)
والنصب: التعب.
أي: أن القوم أرادوا خسف السبطين وهذا ما أوجب تعبي.
ص: 343
-------------------------------------------
مسألة: يجوز إظهار تمني الموت في رثاء الفقيد.
وهذا من باب الرثاء وبيان عظمة المصاب، فيكون تعبيراً مجازياً لبيان شدة المصيبة، وإن كان يجوز ذلك من باب الواقع أيضاً أي بالمعنى الحقيقي إذا كان تمني الموت في مورده، كما في مصاب المعصومين (علیهم السلام)... على عكس الذين لايتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم كما قال سبحانه: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ»(1).
مسألة: تمني الموت بشكل عام مكروه، ولكنه جائز للمظلوم.
وفي المقابل يستحب الدعاء بطول العمر، كما ورد ذلك في المأثور:
عن محمد بن عطية، عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في دعاء كل ليلة من شهر رمضان المبارك - تقول: «اللَّهُمَّإِنِّي أَسْأَلُكَ فِيمَا تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الأَمْرِ الْمَحْتُومِ فِي الأَمْرِ الْحَكِيمِ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لاَ يُرَدُّ وَلاَ يُبَدَّلُ أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الْحَرَامِ الْمَبْرُورِ حَجُّهُمْ، الْمُكَفَّرِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ، الْمَغْفُورِ ذُنُوبُهُمْ، الْمَشْكُورِ سَعْيُهُمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ فِي مَا تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الأَمْرِ الْمَحْتُومِ فِي الأَمْرِ الْحَكِيمِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لاَ يُرَدُّ وَلاَ يُبَدَّلُ أَنْ تُطِيلَ عُمُرِي، وَأَنْ تُوَسِّعَ عَلَيَّ فِي
ص: 344
..............................
رِزْقِي، وَأَنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ، وَلاَ تَسْتَبْدِلْ بِي غَيْرِي»(1).
وفي دعاء بعد صلاة الفجر يوم الفطر: «اللهم إني أسألك أن تجعل فيما شئت وأردت، وقضيت وقدرت، وحتمت وأنفذت، أن تطيل عمري، وتنسئ في أجلي»(2).
وفي دعاء بعد صلاة أربع ركعات في يوم الجمعة: «أن تصلي على محمد وآله وأن تسمع دعائي، وتجيب ندائي، وترحم تضرعي، وتقبل عليَّ، وتقبل توبتي، وتديم عافيتي، وتسهل قضاء حاجتيوديني، وتوسع عليَّ في رزقي، وتصح جسمي، وتطيل عمري، وتغفر ذنبي، وتوفقني لما يرضيك، وتقلبني إلى رضوانك»(3).
وفي دعاء السحر لمولانا علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) الذي رواه أبو حمزة الثمالي: «وأن تجعل فيما تقضي وتقدر أن تطيل عمري، وتوسع رزقي، وتؤدي عني أمانتي وديني، آمين رب العالمين»(4).
عن أبي محمد العسكري (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: «جاء رجل إلى الصادق (علیه السلام). فقال: قد سئمت الدنيا فأتمنى على الله الموت؟.
فقال (علیه السلام): «تمن الحياة لتطيع لا لتعصي؛ فلأن تعيش فتطيع خير لك من
ص: 345
..............................
أن تموت فلا تعصي ولاتطيع»(1).وفي (الأمالي) للشيخ الطوسي، عن أم الفضل، قالت: دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على رجل يعوده وهو شاك فتمنى الموت. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لاتتمن الموت؛ فإنك إن تك محسناً تزدد إحساناً إلى إحسانك، وإن تك مسيئاً فتؤخر تستعتب، فلا تمنوا الموت»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يتمنين أحدكم الموت بضر نزل به»(3).
وقال(صلی الله علیه و آله): «لا يتمنين أحدكم الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة»(4).
مسألة: يجوز تمني الموت في فقد الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وقد يكون مستحباً، والإفراد بالذكر للأهمية كما في بعض أقسام الخاص بعد العام، فإنه من بابأجلى المصاديق لما تقدم.
نعم، أصل تمني الموت مكروه كما سبق، لكنه قد يستحب تمنيه في بعض الأحيان، كما تمنت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) الموت لفقد أبيها (صلی الله علیه و آله)، وتمنته ثانية لكثرة ما ورد عليها من المصائب(5)..
ص: 346
..............................
وكما تمناه أمير المؤمنين (علیه السلام) في قصص عديدة مشهورة، حيث قال(علیه السلام): «أنتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(1).
وقال الإمام السجاد (علیه السلام) في الشعر المنسوب إليه:
«فيا ليت أمي لم تلدني ولم أكن *** يزيد يراني في البلاد أسير»
وكما قالت السيدة زينب (عليها الصلاة والسلام) في يوم كربلاء: «ليت الموت أعدمني الحياة»(2).
وكما تمناه الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) حيث قال: «يَا سَيِّدِي،نَجِّنِي مِنْ حَبْسِ هَارُونَ وَخَلِّصْنِي مِنْ يَدِهِ. يَا مُخَلِّصَ الشَّجَرِ مِنْ بَيْنِ رَمْلٍ وَطِينٍ وَمَاءٍ، وَيَا مُخَلِّصَ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَيَا مُخَلِّصَ الْوَلَدِ مِنْ بَيْنِ مَشِيمَةٍ وَرَحِمٍ، وَيَا مُخَلِّصَ النَّارِ مِنْ بَيْنِ الْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ، وَيَا مُخَلِّصَ الأَرْوَاحِ مِنْ بَيْنِ الأَحْشَاءِ وَالأَمْعَاءِ، خَلِّصْنِي مِنْ يَدِ هَارُونَ»(3).
قولها (علیها السلام) : «الكثب»، أي التراب.
مسألة: يعلم مما سبق حكم الدعاء على النفس بالموت وكراهته في الأصل، إلا أنه قد يستفاد رجحانه في ما كان من قبيل قولها (علیها السلام) : «اللهم عجل وفاتي سريعاً».
ص: 347
-------------------------------------------
إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن من البرية(1) لا عجم ولا عرب
مسألة: يستحب بيان أن مصيبة وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا تعدلها مصيبة إطلاقاً، لأنه لا يعدل الرسول (صلی الله علیه و آله) شيء في الكون كله إطلاقاً، حسب ما دل على ذلك العقل والنقل. وإذا كان كذلك فإن إقامة العزاء على فقده على مر الأزمان أولى من كل مصاب مهما جد وقرب.
والوجه في قولها (علیها السلام): «إنا رزئنا.. » بصيغة الجمع، أن رزية فقده (صلی الله علیه و آله) رزية عامة عمت آثارها جميع المسلمين، بل البشرية جمعاء في ذلك الزمن إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، بل الكائنات بأجمعها، وهو واضح ثبوتاً واثباتاً(2).
أما قولها: «من البرية» الظاهر أنه بيان ل- «ذو شجن»، مع أن ما رزئوابه لم يرزأ به ذو شجن لا من البرية ولا من غيرها(3)، فلأنه محط الحاجة على حسب قابلية القابل.
الرزء: المصيبة بفقد الأعزة.
الشجن: الحزن.
العجم: غير العرب من الفرس والترك والهنود وغيرهم.
ص: 348
-------------------------------------------
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) طهر طاهر مطهر، من طهر طاهر مطهر، وكذلك والديه وأجداده إلى آدم (علیهم السلام) بأجمعهم من المؤمنين الطاهرين، فلم يكن (صلی الله علیه و آله) إلا في صلب طاهر ورحم طاهر. وأنه (صلی الله علیه و آله) كان من أشرف الخلق والأعراق والأنساب.
قال تعالى: «الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(1).
وعن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(2)؟. قال: «يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم (علیه السلام)»(3).
قال الشيخ المفيد (رضوان الله عليه): (اعتقادنا في آباء النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأن أبا طالب كان مسلماً، وأمه آمنة بنت وهب كانت مسلمة. وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لن آدم». وروي أن عبد المطلب كان حجة وأبا طالب كان وصيه)(4).
وقال العلامة المجلسي (قدس سره): (اتفقت الإمامية (رضوان الله عليهم) على أن والدي الرسول (صلی الله علیه و آله) وكل أجداده إلى آدم (علیهم السلام) كانوا مسلمين، بل كانوا من الصديقين إما أنبياء مرسلين، أو أوصياء معصومين، ولعل بعضهم لم يظهر
ص: 349
..............................
الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية. قال أمين الدين الطبرسي (رحمه الله) في (مجمع البيان): قال أصحابنا: إن آزر كان جد إبراهيم (علیه السلام) لأمه أو كان عمه، من حيث صح عندهم أن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى آدم (علیهم السلام) كلهم كانوا موحدين وأجمعت الطائفة على ذلك. ورووا عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية». ولو كان في آبائه (علیهم السلام) كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(1)، ولهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها، انتهى)(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «نزل جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد، إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بنعبد المطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب»(3).
قولها (علیها السلام): «محضا» أي خالصة.
خليقته: أي خُلُقه.
الضرائب: جمع الضريبة وهي الطبيعة.
الأعراق: جمع العرق وهو أصل كل شيء، أي الآباء والأجداد.
ص: 350
-------------------------------------------
مسألة: الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) هو أشرف الخلق وهو خير عباد الله كلهم، ويلزم الاعتقاد بذلك، ويأتي من بعده علي أمير المؤمنين وفاطمة (سلام الله عليهما)، ومن بعدهما الحسن والحسين (علیهما السلام) ثم المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ثم سائر الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) على ما يستفاد من الروايات.
عن أبي هارون العبدي، قال: أتيت أبا سعيد الخدري فقلت له: هل شهدت بدراً؟. قال: نعم. فقلت له: ألاتحدثني بشيء مما سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) وفضله؟. فقال: بلى أخبرك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرض مرضة نقه منها. فدخلت عليه فاطمة (علیها السلام) تعوده وأنا جالس عن يمين رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما رأت ما برسول الله (صلی الله علیه و آله) من الضعف خنقتها العبرة حتى بدت دموعها على خدها، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما يبكيكِ يا فاطمة!. قالت: «أخشى الضيعة يا رسول الله». فقال (صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة، أما علمتِ أن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منهم أباكِ فبعثه نبياً، ثم اطلع ثانية فاختار منهم بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتخذته وصياً، أما علمتِ أنكِ بكرامة الله إياكِ زوجكِ أغزرهم علماً، وأكثرهم حلماً، وأقدمهم سلماً».
فاستبشرت فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يزيدها مزيد الخير كله الذي قسمه الله لمحمد وآل محمد، فقال لها: «يا فاطمة ولعلي ثمانية أضراس - يعني:مناقب - إيمان بالله، ورسوله، وحكمته، وزوجته، وسبطاه الحسن والحسين، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. يا فاطمة، إنا أهل بيت أعطينا ست خصال لم يعطها أحد من
ص: 351
..............................
الأولين ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا: نبينا خير الأنبياء وهو أبوكِ، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلكِ، وشهيدنا خيرنا الشهداء وهو حمزة عم أبيكِ، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناكِ، ومنا مهدي الأمة الذي يصلي عيسى خلفه - ثم ضرب على منكب الحسين (علیه السلام) فقال - من هذا مهدي الأمة»(1).
وعن الأعمش، عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: سألته عن أفضل الخلق بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحقهم بالأمر؟. فقال: «علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وبعده الحسن ثم الحسين سبطا رسول الله وابنا خيرة النسوان، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم من بعده الأئمة الهداة المهديون (علیهم السلام)؛ فإن فيهم الورع، والعفة، والصدق، والصلاح، والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، وطول السجود، وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسنالصحبة، وحسن الجوار»(2).
وعن أصبغ بن نباتة الحنظلي، قال: رأيت أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم افتتح البصرة وركب بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قال: «أيها الناس، ألا أخبركم بخير الخلق يوم يجمعهم الله». فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدثنا؛ فإنك كنت تشهد ونغيب. فقال: «إن خير الخلق يوم يجمعهم الله سبعة من ولد عبد المطلب لا ينكر فضلهم إلا كافر، ولا يجحد به إلا جاحد». فقام عمار بن ياسر (رحمه الله) فقال: يا أمير المؤمنين، سمهم لنا لنعرفهم؟. فقال: «إن خير الخلق يوم يجمعهم الله الرسل، وإن أفضل الرسل محمد (صلی الله علیه و آله)، وإن أفضل
ص: 352
..............................
كل أمة بعد نبيها وصي نبيها حتى يدركه نبي، ألا وإن أفضل الأوصياء وصي محمد (عليه وآله السلام)، ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبانيطير بهما في الجنة لم ينحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره شيء كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله) وشرفه، والسبطان الحسن والحسين والمهدي (علیهم السلام) يجعله الله من شاء منا أهل البيت - ثم تلا هذه الآية: - «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً»(1)»(2).
وعن عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): «منا سبعة خلقهم الله عزوجل لم يخلق في الأرض مثلهم: منا رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد الأولين والآخرين وخاتم النبيين، ووصيه خير الوصيين، وسبطاه خير الأسباط حسناً وحسيناً، وسيد الشهداء حمزة عمه، ومن قد طاف [ طار « مع الملائكة جعفر، والقائم»(3).
وعن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: «سمعت رسول الله (صلی اللهعلیه و آله) يقول: أفضل الكلام قول: لا إله إلا الله، وأفضل الخلق أول من قال: لا إله إلا الله. فقيل: يا رسول الله، ومن أول من قال: لا إله إلا الله؟. قال: أنا، وأنا نور بين يدي الله جل جلاله وأوحده وأسبحه، وأكبره وأقدسه وأمجده، ويتلوني نور شاهد مني. فقيل: يا رسول الله،
ص: 353
..............................
ومن الشاهد منك؟ فقال:علي بن أبي طالب أخي وصفيي، ووزيري وخليفتي ووصيي وإمام أمتي، وصاحب حوضي وحامل لوائي. فقيل له: يا رسول الله، فمن يتلوه؟. فقال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم الأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة»(1).
وعن ابن عباس، قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم وهو آخذ بيد علي (علیه السلام) وهو يقول: «يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد، أنا رسول الله، ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر». فقال قائل: يا رسول الله، هؤلاء معك ركبان يوم القيامة؟. فقال:«ثكلتك أمك، إنه لن يركب يومئذ إلا أربعة أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله، فأما أنا فعلى البراق، وأما فاطمة ابنتي فعلى ناقتي العضباء، وأما صالح فعلى ناقة الله التي عقرت،، وأما علي فعلى ناقة من نوق الجنة زمامها من ياقوت، عليه حلتان خضراوان، فيقف بين الجنة والنار وقد ألجم الناس من العرق يومئذ، فتهب ريح من قبل العرش فتنشف عنهم عرقهم، فيقول الملائكة والأنبياء والصديقون: ما هذا إلا ملك مقرب أو نبي مرسل! فينادي مناد: ما هذا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكنه علي بن أبي طالب أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الدنيا والآخرة»(2).
وعن عمار بن ياسر (رضوان الله عليه)، أنه قال: لما سار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى صفين وقف بالفرات وقال لأصحابه: «أين المخاض؟».
ص: 354
..............................
قالوا: يا مولانا، ما نعلم أين المخاض. فقال لبعض أصحابه: «امض إلى هذا التل وناد: يا جلندى، أينالمخاض؟». قال: فسار حتى وصل إلى التل ونادى: يا جلندى، أين المخاض؟. قال: فأجابه من تحت الأرض خلق كثير فبهت ولم يعلم ما يصنع، فأتى إلى الإمام (علیه السلام) وقال: يا مولاي، جاوبني خلق كثير.
فقال (علیه السلام): «يا قنبر، امض وقل: يا جلندى بن كركر، أين المخاض؟». قال: فمضى قنبر وقال: يا جلندى بن كركر، أين المخاض؟». فكلمه واحد وقال: (ويلكم من عرف اسمي واسم أبي وأنا في هذا المكان قد صرت تراباً وقد بقي قحف رأسي عظماً نخرة رميماً ولي ثلاثة آلاف سنة ما يعلم أين المخاض، فهو والله أعلم بالمخاض مني، ويلكم ما أعمى قلوبكم، وأضعف يقينكم، ويلكم امضوا إليه واتبعوه فأين خاض خوضوا معه؛ فإنه أشرف الخلق على الله بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله)) (1).
قال الشيخ المفيد(رحمة الله): (واعتقاد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وأنه كان الخليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في مقامه، والإمام المقدم على الكافة بعد وفاته، وأنه أفضل الخلق من بعده، وأن الموالاة له موالاة لرسول الله،والمعاداة له معاداة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه كان القائم بالقسط في دين الله بمودته، والبراءة من أعدائه الدائبين بمخالفته. واعتقاد إمامة الحسن والحسين (علیهما السلام) من بعده، وأن الأئمة بعد الحسين (علیه السلام) من ولده بالنص عليهم، والتوقيف على إمامتهم، والدعوة إلى اعتقاد فرض طاعتهم، والقربة إلى الله بولايتهم، والبراءة إليه ممن انطوى على داوتهم، وانتظار دولة الحق في عاقبتهم، والقطع على أنهم
ص: 355
..............................
أفضل من سائر رعيتهم. واعتقاد وجوب ولاية أمير المؤمنين، وعداوة الكافرين، والمودة لأهل الطاعة في الدين، والنصيحة لأهل التوحيد والمعرفة واليقين)(1).
مسألة: يجب الاعتقاد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو أصدق الخلق، فما أخبر به من وحي وحكم وتاريخ وغيب وغيرها صدق صحيح بلا شك.
وفي الحديث: «الصادق المصدق رسولالله (صلی الله علیه و آله)»(2).
وفي (مكارم الأخلاق): «إن رسولك الصادق المصدق قال:...»(3).
وفي (البحار): عن زاذان، عن ابن عمر، قال: حدثنا النبي (صلی الله علیه و آله) وهو الصادق المصدق، قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين نادى مناد بصوت يسمع به البعيد كما يسمع به القريب: أين علي بن أبي طالب (علیه السلام) أين علي الرضا (علیه السلام)؟. فيؤتى بعلي الرضا (علیه السلام) فيحاسبه حساباً يسيراً، ويكسى حلتان خضراوان، ويعطى عصاه من الشجرة وهي شجرة طوبى، فيقال له: قف على الحوض فاسق من شئت وامنع من شئت»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) عند ما أخبر عن مقتل ولده الحسين (علیه السلام) بكربلاء: «والذي نفس علي بيده لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسم (صلی الله علیه و آله) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء يدفن فيها
ص: 356
..............................
الحسين وسبعة عشر رجلاً من ولدي وولد فاطمة، وإنها لفي السماوات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس»(1).
وقال علي (علیه السلام) وهو ينعى نفسه: «إن الصادق المصدق عهد إليَّ لينبعثن أشقاها فليقتلك كما انبعث أشقى ثمود»(2).
ومن دعائهم (علیهم السلام): «اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم إن الصادق المصدق محمداً (صلی الله علیه و آله) قال: إنك قلت: ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته. اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل لوليك الفرج والعافية والنصر، ولا تسؤني في نفسي ولا في أحد من أحبت برحمتك يا أرحم الراحمين.
قالوا (علیهم السلام): من قال ذلك في دبر كل صلاة فريضة عاش حتى ملّ الحياة»(3).
ص: 357
-------------------------------------------
مسألة: يستحب البكاء على فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما عاش الإنسان وما بقيت له عين تسكب، كما قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في هذه الخطبة، وكما بكت هي (صلوات الله عليها) كذلك حتى التحقت بأبيها (صلی الله علیه و آله) فكانت من البكائين.
قال أبو عبد الله (علیه السلام):
«البكاءون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين (علیه السلام) ... أما فاطمة فبكت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى تأذى بها أهل المدينة. فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائكِ. فكانت تخرج إلى المقابر، مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف»(1).
قولها (علیها السلام) «تهمال»: من الهمل كالتكرار، هملت عينه أي فاضت.
سكب الماء: أي صبه.
مسألة: ربما يستفاد من كلامها (علیها السلام) «نبكيك» بصيغة المخاطب مع الغير، أنه يستحب الاجتماع وعقد مجالس الحزن والبكاء على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام)، كما هو المتعارف اليوم بين الشيعة أعزهم الله.
ص: 358
..............................
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟».
قال: نعم جعلت فداك.
قال: «إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحف بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا»(2).
وقال الصادق (علیه السلام): «حدثواعنا ولا حرج، رحم الله من أحيا أمرنا»(3).
ص: 359
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي تنبيه المتولي للظلم بعاقبة أمره وأنه النار، حيث قالت (علیها السلام): «يوم القيامة أنى سوف ينقلب»، أي: في نار جهنم. والمتولي هو المباشر للشيء، وهو إشارة إلى ابن أبي قحافة وابن الخطاب ومن ساندهم من القوم على غصب الخلافة وغصب فدك والظلم على أهل بيت النبوة (علیهم السلام).
قولها (علیها السلام): «حامتنا» حامة الشخص خاصته، والمراد به أهل البيت (علیهم السلام) وفي الحديث المتواتر المروي عن الفريقين: إن النبي (صلی الله علیه و آله) جلل على حسن وحسين وعلي وفاطمة (علیهم السلام) ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي وحامتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(1).
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) حيث قالت: «ظلم حامتنا» ولم تقل (ظلمي) بأن ما فعله القوم كان هوالأساس في ظلم ذريتها والأئمة المعصومين (علیهم السلام) إلى يوم القيامة، وينبغي بيان ذلك للناس.
فالأول والثاني هما من أسس الظلم على أهل البيت (علیهم السلام)، فلولا إحراق بيت فاطمة (علیها السلام) لما تجرأ القوم على حرق خيام الحسين (علیه السلام) في يوم عاشوراء بكربلاء(2)، ولما تجرأ المنصور على حرق دار الإمام الصادق (علیه السلام)(3).
ص: 360
..............................
ولولا ضرب الثاني الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بكعب السيف(1) ولطم الوجه(2) وغير ذلك، لما تجرؤوا على ضرب زينب (سلام الله عليها)(3) ولولا غصبهم الخلافة من علي (علیه السلام) لما تجرأ بنو أمية وبنو العباس على غصب الخلافة من الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين).وقد ورد في الزيارات: «وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ لَكُمْ، وَمَهَّدَتِ الْجَوْرَ عَلَيْكُمْ، وَطَرَّقَتْ إِلَى أَذِيَّتِكُمْ وَتَحَيُّفِكُمْ، وَجَارَتْ ذَلِكَ فِي دِيَارِكُمْ وَأَشْيَاعِكُمْ، بَرِئْتُ إِلَى اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَإِلَيْكُمْ يَا سَادَاتِي وَمَوَالِيَّ وَأَئِمَّتِي مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ»(4).
وفي زيارة عاشوراء المقدسة: «فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها»(5).
وفي الزيارة أيضا: «أشهد أنك حجة الله في أرضه، وأشهد أن الذين خالفوك وأن الذين قتلوك والذين خذلوك وأن الذين جحدوا حقك ومنعوك إرثك ملعونون على لسان النبي الأمي وقد خاب من افترى، لعن الله الظالمين لكم من الأولين والآخرين وضاعف لهم العذاب الأليم، عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين... السلام عليك يا أول مظلوم انتهك دمه، وضيعت فيه حرمة
ص: 361
..............................
الإسلام، فلعن الله أمة أسست أساس الظلموالجور عليكم أهل البيت»(1).
وأيضاً: «لعن الله أمة قتلتك، لعن الله أمة ظلمتك، لعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور والبدعة عليكم أهل البيت»(2).
وعن سعيد بن المسيب: أنه لما ورد نعي الحسين (علیه السلام) المدينة وقتل ثمانية عشر من أهل بيته وثلاث وخمسين رجلا من شيعته وقتل علي ابنه بين يديه بنشابة وسبي ذراريه، خرج عبد الله بن عمر إلى الشام منكراً لفعل يزيد ومستنفرا للناس عليه حتى أتى يزيد وأغلظ له القول، فخلا به يزيد وأخرج إليه طوماراً طويلاً كتبه عمر إلى معاوية وأظهر فيه أنه على دين آبائه من عبادة الأوثان وأن محمداً كان ساحراً غلب على الناس بسحره وأوصاه بأن يكرم أهل بيته ظاهراً ويسعى في أن يجتثهم عن جديد الأرض ولا يدع أحداً منهم عليها... فلما قرأه ابن عمر رضي بذلك ورجع وأظهر للناس أنه محق فيما أتى به ومعذور فيما فعله، ولنعم ما قيل:
ما قتل الحسين (علیه السلام) إلا في يوم السقيفة، فلعنة الله على من أسس أساس الظلم والجور على أهل بيت النبي صلوات الله عليهم أجمعين»(3).
ص: 362
-------------------------------------------
مسألة: الانكفاء قد يدل على الرجوع بدون الوصول إلى المقصد الذي خرج الإنسان لأجله(1)، لذا تقدم منها (عليها الصلاة والسلام): «فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه»، أي: لا يرجع خائباً بل يرجع ظافراً. ولعل هذه الجملة تدل على استحباب الرجوع إذا لم يجد الإنسان ما أراده وكان بقاؤه من أسباب الوهن والضعف.
قولها (علیها السلام): «ثم انكفأت» أي رجعت إلى الدار، والظاهر أن رجوعها كان من طريق الشارع لا من الباب المشرع إلى المسجد.
وانكفأ: أي رجع، من قولهم: كفأت القوم إذا أرادوا وجهاً فصرفتهم عنه إلى غيره، فانكفئوا أي رجعوا.
وربما يدل (ثم) على أن الصديقة (علیها السلام) لم تخرج من المسجد فورانتهاء خطبتها، بل إنها تريثت قليلاً ثم خرجت، ولعل السبب في ذلك حالتها الصحية أثر ما جرى عليها من الظلم والضرب وكسر الضلع وإسقاط الجنين، فكانت حالتها مؤلمة جداً، وقد أنهكتها الخطبة أيضاً، فكانت بحاجة إلى نوع تريث ثم الخروج، فصلوات الله وسلامه عليها، ولعنة الله على من ظلمها وجحد حقها وحق بعلها وبنيها (علیهم السلام).
ص: 363
..............................
مسألة: المواجهة مع الطاغوت قد تتخذ شكل الكر والفر، وربما لزم الانسحاب المؤقت، كما لو كان استمرار الهجوم ناقضاً للغرض، سواء في جبهات القتال، أو في الحرب الإعلامية، أو الحرب السياسية والدبلوماسية، أو غيرها.
وهذا ما يستفاد من مواقف الصديقة الكبرى (علیها السلام) ومنها هذا الموقف، حيث (انكفأت)، إذ لم يكن في البقاء بعدها في المسجد فائدة، وكان لابد من مواصلة الهجوم على الباطل والدفاع عن الحق بعد العودة للمنزل وبطريقة أخرى.
ص: 364
-------------------------------------------
مسألة: ما ذكرناه سابقاً من استحباب ذكر لقب (أمير المؤمنين) عند التحدث عن الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) - كما عبرت في المقام السيدة زينب (علیها السلام) راوية هذه الخطبة الشريفة - لا ينفي استحباب وصفه (علیه السلام) والإشارة إليه بسائر ألقابه أو كناه، فيكون الأمر عندئذ من قبيل تزاحم المستحبات، أو من قبيل الاستحباب التخييري، أو ما أشبه.. والبلاغة تقتضي انتخاب الأنسب بالمقام.
ولا تخفى الدقة والبلاغة في انتخاب السيدة زينب (علیها السلام) لقب (أمير المؤمنين) هاهنا، حيث الكلام عن الخلافة وغصبها ومن هو الأحق بها، فإن هذا اللقب بالإضافة إلى التصريح به في الروايات، منحه رسول الله (صلي الله عليه و آله) لعلي (علیه السلام) حين قال في غدير خم: «سلموا عليه بإمرة المؤمنين»(1).
ثم إن إطلاق هذا اللقب على الإمام (علیه السلام) قد يكون واجباً كما يقالفي مورد الرواية وما يشاركه في الملاك، فتأمل. نعم الاعتقاد بأنه (علیه السلام) أمير المؤمنين واجب كما لا يخفى. ومن المعلوم أن المراد بالمؤمنين: الأعم من المؤمنين بألسنتهم أو بقلوبهم، فإن للمؤمن ثلاثة اطلاقات:
1: إطلاق بالمعنى الخاص(2).
2: وإطلاق بالمعنى الأخص(3).
ص: 365
..............................
3: وإطلاق بالمعنى الأعم(1).
كما لا يخفى على من راجع الآيات والروايات.
عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: ما الإسلام؟. فقال: «دين الله اسمه الإسلام، وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم وبعد أن تكونوا، فمن أقر بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله عزوجل به فهو مؤمن»(2).وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن الإيمان؟. فقال: «شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وما استقر في القلوب من التصديق بذلك». قال: قلت: الشهادة أليست عملاً؟. قال: «بلى». قلت: العمل من الإيمان؟. قال: «نعم، الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه، ولا يثبت الإيمان إلا بعمل»(3).
وعن الوشاء، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شيء أقل من اليقين»(4).
وعن سفيان بن السمط، قال: سأل رجل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما، فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، ثم التقيا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل. فقال له أبو عبد الله(علیه السلام): «كأنه قد أزف منك رحيل؟» فقال: نعم. فقال (علیه السلام): «فالقني في البيت». فلقيه فسأله عن الإسلاموالإيمان ما
ص: 366
..............................
الفرق بينهما؟. فقال (علیه السلام): «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان فهذا الإسلام - وقال: - الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماً وكان ضالاً»(1).
وعن سماعة، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟. فقال: «إن الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان». فقلت: فصفهما لي؟. فقال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلي الله عليه و آله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس. والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، والإسلام لا يشارك الإيمان فيالباطن، وإن اجتمعا في القول والصفة»(2).
وعن خضر بن عمرو، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى لله بشروطه التي شرطها عليه، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وذلك من يَشفع ولايُشفع له، وذلك ممن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة. ومؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة، ويُشفع له وهو على خير»(3).
ص: 367
..............................
وعن الكناني، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أيهما أفضل الإيمان أم الإسلام، فإن من قبلنا يقولون: إن الإسلام أفضل من الإيمان؟. فقال: «الإيمان أرفع من الإسلام». قلت: فأوجدني ذلك؟. قال: «ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمداً؟». قال: قلت: يضرب ضرباً شديداً. قال: «أصبت، فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمداً؟». قلت: يقتل. قال: «أصبت، ألا ترى أنالكعبة أفضل من المسجد وأن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة، وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان»(1).
وعن عبد العزيز القراطيسي، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فذكرت له شيئاً من أمر الشيعة ومن أقاويلهم. فقال: «يا عبد العزيز، الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم له عشر مراقي، وترتقي منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثاية لصاحب الثالثة لست على شيء، حتى انتهى إلى العاشرة - قال - وكان سلمان في العاشرة، وأبوذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبد العزيز، لاتسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملن عليه ما لايطيقه فتكسره؛ فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته»(2).
ص: 368
-------------------------------------------
مسألة: من الواضح أن ذهاب الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) إلى المسجد وإلقاءها الخطبة كان بعلم من أمير المؤمنين (علیه السلام) وبتنسيق معه، وقولها: «وأمير المؤمنين يتوقع رجوعها إليه» و«يتطلع طلوعها عليه» مما يلمح إلى ذلك.
بل كان موقفها (علیها السلام) بأمر من رسول الله (صلي الله عليه و آله) وبحكم من السماء، مضافاً إلى كونها (علیها السلام) وكونهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل ولهم الولاية التشريعية على ما هو مذكور في محله.
والفرق بين (يتطلع) و(يتوقع): أن التوقع يحصل ولو بكون الإنسان في داخل الدار، أما التطلع فالمنصرف منه تكرار الخروج والنظر إلى الطريق بانتظار عودة الغائب، كأنه يلحظه ساعة بعد ساعة، وكأنه يخرج مرة ويدخل أخرى وهكذا كالذي ينتظر إنساناً آتياً.
..............................
قال أبو عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: ]ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ»(1). قال: «أولئك كانوا قوماً بين عيسى ومحمد ينتظرون مجيء محمد (صلي الله عليه و آله)»(2).
وعن أبي الجارود، قال: خرج أبو جعفر (علیه السلام) على أصحابه يوماً وهم ينتظرون خروجه. فقال لهم: «تنجزوا البشرى من الله، ما أحد يتنجز البشرى من الله غيركم»(3).وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «كأني أنظر إلى القائم (علیه السلام) على ظهر النجف، فإذا استوى على ظهر النجف ركب فرساً أدهم أبلق بين عينيه شمراخ، ثم ينتفض به فرسه فلا يبقى أهل بلدة إلا وهم يظنون أنه معهم في بلادهم، فإذا نشر راية رسول الله (صلي الله عليه و آله) انحط إليه ثلاثة عشر ألف ملك وثلاثة عشر ملكاً كلهم ينتظر القائم (علیه السلام)، وهم الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم الخليل (علیه السلام) حيث ألقي في النار، وكانوا مع عيسى (علیه السلام) حيث رفع، وأربعة آلاف مسومين ومردفين، وثلاثمائة وثلاثة عشر ملكاً يوم بدر، وأربعة آلاف ملك الذين هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي (علیه السلام) فلم يؤذن لهم، فصعدوا في الاستئذان وهبطوا وقد قتل الحسين (علیه السلام)، فهم شعث غبر يبكون عند قبر الحسين (علیه السلام) إلى يوم القيامة، وما بين قبر الحسين (علیه السلام) إلى السماء مختلف الملائكة»(4).
ص: 370
..............................
وقال (علیه السلام): «الختم على طين قبر الحسين (علیه السلام) أن يقرأ عليه «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»(1)». وروي: «إذا أخذته فقل: بسم الله اللهم بحق هذه التربة الطاهرة، وبحق البقعة الطيبة، وبحق الوصي الذي تواريه، وبحق جده وأبيه، وأمه وأخيه، والملائكة الذين يحفون به، والملائكة العكوف على قبر وليك ينتظرون نصره (صلى الله عليهم أجمعين)، اجعل لي فيه شفاء من كل داء، وأماناً من كل خوف، وغنى من كل فقر، وعزّاً من كل ذل، وأوسع به علي في رزقي وأصح به جسمي»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا كان المؤمن يحاسب تنتظره أزواجه على عتبات الأبواب كما ينتظرن أزواجهن في الدنيا من الغيبة. قال: فيجيء الرسول فيبشرهن، فيقول: قد والله انقلب فلان من الحساب. قال: فيقلن: بالله!. فيقول: قد والله لقد رأيته انقلب من الحساب. قال: فإذا جاءهن قلن: مرحباً وأهلاً، ما أهلك الذين كنت عندهم في الدنيا بأحق بك منا»(3).
مسألة: انتظار (المعصوم (علیه السلام)) عبادة سواء كان انتظاراً لظهوره، أم للطفه، وسواء كان في زمن الغيبة أم غيرها.
وفي رواية هجرة النبي (صلي الله عليه و آله) إلى المدينة: «لما قدم رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلى قباء فنزل بهم ينتظر قدوم علي (علیه السلام). فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة؛ فإن
ص: 371
..............................
القوم قد فرحوا بقدومك و هم يستريثون إقبالك إليهم، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً فما أظنه يقدم إليك إلى شهر!.
فقال له رسول الله (صلي الله عليه و آله): كلا ما أسرعه، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل وأحب أهل بيتي إليَّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين. قال: فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخله من ذلك حسد لعلي (علیه السلام)، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلي الله عليه و آله) في علي (علیه السلام)، وأول خلاف على رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فانطلق حتى دخل المدينة وتخلف رسول الله (صلي الله عليه و آله) بقباء حتى ينتظر علياً(علیه السلام)»(1).
مسألة: تهيئة المقدمات - وهي من مقومات الانتظار - عبادة أخرى.
وأما في المقام (انتظار قدوم الصديقة (علیها السلام) من المسجد)، فإن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن مأموراً في هذه الفترة بأكثر من ذلك فاكتفى بالانتظار والتطلع، وربما كان يأتي ببعض المقومات لا نعلمها.
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله تعالى»(2).
وفي خبر الشيخ الشامي الذي قدم على أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: فأي الأعمال أحب إلى الله عزوجل؟.
قال (علیه السلام): «انتظار الفرج»(3).
ص: 372
..............................
وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أما سمعت قول العبد الصالح: «وَارْتَقِبُوا إِنِّيمَعَكُمْ رَقِيبٌ»(1) و «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ»(2)، فعليكم بالصبر؛ فإنه إنما يجيء الفرج على اليأس، وقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(3).
وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام). فقلت له: يا ابن رسول الله، أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم وأوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) - إلى أن قال - فقلت: يا ابن رسول الله، ثم يكون ماذا؟. قال (علیه السلام): «ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده يا أبا خالد، إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان؛ لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً - و قال(علیه السلام) - انتظار الفرج من أعظم الفرج»(4).
وعن عمرو بن شمر، عن جابر، قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) ونحن جماعة بعد ما قضينا نسكنا فودعناه، وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله. فقال: «ليعن قويكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم،
ص: 373
..............................
ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا، وما جاءكم عنا فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوا موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، ومن أدرك قائمنا فتقتل معه كان له أجر شهيدين، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرينشهيداً»(1).
مسألة: انتظار الخير عبادة في الجملة، وهو بين واجب ومستحب.
نعم، مطلق الانتظار على أقسام، فمنه - مضافاً إلى ما سبق من الوجوب والاستحباب - ما هو محرم ومكروه ومباح بحسب اختلاف الموارد، على ما ورد في الفقه. قال تعالى: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»(2).
وقال سبحانه: «قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(3).
وقال تعالى: «قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ»(4).
وقال سبحانه: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»(5).
ص: 374
وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن عبد الله، قال: قلت للرضا (علیه السلام): إن أبي حدثني، عن آبائك (علیهم السلام)، أنه قيل لبعضهم: إنفي بلادنا موضع رباط يقال له: قزوين، وعدواً يقال له: الديلم، فهل من جهاد أو هل من رباط؟. فقال: عليكم بهذا البيت فحجوه، ثم قال فأعاد عليه الحديث ثلاث مرات كل ذلك يقول: عليكم بهذا البيت فحجوه - إلى أن قال - فقال أبو الحسن (علیه السلام): «صدق هو على ما ذكر»(1).
وعن منصور بن حازم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل مجوسي أو مشرك من غير أهل الكتاب كانت تحته امرأة فأسلم أو أسلمت؟. قال: «ينتظر بذلك انقضاء عدتها، وإن هو أسلم أو أسلمت قبل أن تنقضي عدتها فهما على نكاحهما الأول، وإن هو لم يسلم حتى تنقضي العدة فقد بانت منه»(2).
وعن أبي عبد الله أو أبي الحسن (علیهما السلام)، قال: قلت له: رجل طلق امرأته، فلما مضت ثلاثة أشهر ادعت حبلاً؟. قال: «ينتظر بها تسعة أشهر»(3).
وعن يونس، عن الرضا (علیه السلام)، في السمك الجلال أنه سأله عنه؟. فقال:«ينتظر به يوم وليلة»(4).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أكرموا الخبز». قيل: يا رسول الله، وما إكرامه؟. قال: «إذا وضع لم ينتظر به غيره»(5).
وعن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل أوصى إلى
ص: 375
..............................
امرأة فأشرك في الوصية معها صبياً؟. فقال: «يجوز ذلك، وتمضي المرأة الوصية ولا ينتظر بلوغ الصبي»(1).
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): ما ترى في رجل ضرب امرأة شابة على بطنها فعقر رحمها وأفسد طمثها، وذكرت أنه قد ارتفع طمثها عنها لذلك، وقد كان طمثها مستقيماً؟. قال: «ينتظر بها سنة، فإن صلح رحمها وعاد طمثها إلى ما كان وإلا استحلفت، وأغرم ضاربها ثلث ديتها لفساد رحمها، وارتفاع طمثها»(2).وكان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «من حبس نفسه على صلاة فريضة ينتظر وقتها فصلاها في أول وقتها، فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها، ثم مجد الله عزوجل وعظمه وحمده، حتى يدخل وقت صلاة أخرى لم يلغ بينهما، كتب الله له كأجر الحاج المعتمر،س وكان من أهل عليين»(3).
وقال أبو عبد اللّه (علیه السلام): «خمسة ينتظر بهم إلا أن يتغيروا: الغريق، والمصعوق، والمبطون، والمهدوم، والمدخن»(4).
وعن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال: سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ الشمس، أيصلي حين يستيقظ أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟.
فقال: «يصلي حين يستيقظ». قلت: يوتر أو يصلي ركعتين؟.
ص: 376
..............................
قال: «بل يبدأ بالفريضة»(1).
وعن حفص بن البختري، قال: «من خرج من مكة أو المدينة أو مسجد الكوفة أوحائر الحسين (صلوات الله عليه) قبل أن ينتظر الجمعة، نادته الملائكة: أين تذهب لا ردك الله»(2).
وفي الغيبة للنعماني: (باب ما روي فيما أمر به الشيعة من الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره)(3).
وعن عبد الرحمن بن كثير، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) يوماً وعنده مهزم الأسدي. فقال: جعلني الله فداك، متى هذا الأمر الذي تنتظرونه فقد طال علينا؟.
فقال (علیه السلام): «يا مهزم، كذب المتمنون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلّمون، وإلينا يصيرون»(4).
هذه بعض مصاديق الانتظار المختلفة في الحكم بين واجب ومستحب ومكروه ومحرم ومباح.
ص: 377
-------------------------------------------
مسألة: هل يستفاد من هذا استحباب أن يتكلم الإنسان بعد الاستقرار، لا في حالة الحركة والاضطراب؟.
لا يبعد ذلك.
وقد يقال: بالعدم(1)؛ لأن فعلها (علیها السلام) أعم من كونه لذلك أو لجهة أخرى(2).
وهناك روايات عديدة في آداب الكلام نشير إلى بعضها:
عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: «إن لسان ابن آدم يشرف كل يوم على جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم؟. فيقولون: بخير إن تركتنا. ويقولون: الله الله فينا. ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب ونعاقب بك»(3).وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(4).
وعن القاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «سمعت أبي يقول: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(5).
ص: 378
..............................
وعن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «الكلام ثلاثة: فرابح وسالم وشاجب، فأما الرابح الذي يذكر الله، وأما السالم فالساكت، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل»(1).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «إياكم وجدال المفتون! فإن كل مفتون ملقى حجته إلى انقضاء مدته، فإذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار»(2).
وجاء في وصية النبي (صلي الله عليه و آله) لأبي ذر (رحمة الله): «يا أبا ذر، إن الله عزوجلعند لسان كل قائل، فليتق الله امرؤ وليعلم ما يقول. يا أبا ذر، اترك فضول الكلام وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك. يا أبا ذر، كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع. يا أبا ذر، ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان»(3).
وعن سليمان بن جعفر الجعفري، قال: سمعت موسى بن جعفر (علیه السلام) يقول: حدثني أبي (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن سيد العابدين علي بن الحسين (علیه السلام) عن سيد الشهداء حسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)، قال: «مر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه ثم قال: يا هذا، إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لايعنيك»(4).
وسئل علي بن الحسين (علیه السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟.
فقال (علیه السلام): «لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام
ص: 379
..............................
أفضل من السكوت». قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟. قال: «لأن الله عزوجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت إنما يبعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «كان المسيح (علیه السلام) يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله؛ فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) - في رسالته إلى أصحابه - قال:
«فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير - إلى أن قال: - وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه، وأكثروا من التهليل والتقديس، والتسبيح والثناء على الله،والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره، ولايبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهلها خلوداً في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها»(3).
ص: 380
..............................
مسألة: لا يبعد أن يراد ب- (فلما استقرت بها الدار) المعنى الحقيقي(1)، حيث إن الجمادات - على عكس ما نتصوره - تشعر وتتفاعل، كما صرح القرآن الكريم بذلك والأحاديث الكثيرة:
قال تعالى: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2).
وقال سبحانه: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا»(3).
وقال تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ»(4).
وقال سبحانه: «يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ»(5).
وما ورد من شهادة أعضاء الإنسان عليه(6) وشهادة مصلاه له(7).إلى غير ذلك.
وعلى هذا فلا يستغرب من إرادة المعنى الحقيقي، وهو أن الدار قد استقرت برجوع الصديقة (علیها السلام) إليها حقيقة بعد أن اضطربت لمغادرتها.
ص: 381
..............................
وأما المعنى المجازي فهو مبني على القلب(1) أي: سكنت، كأنها (علیها السلام) اضطربت بخروجها وخطبتها.
مسألة: ليس هذا الخطاب عتاباً بالمعنى الحقيقي، فإن الحوار بين أمير المؤمنين علي (علیه السلام) والصديقة الزهراء (علیها السلام) بهذا الأسلوب كان بياناً للواقع وأهميته وشدة الظلامة التي جرت عليها، ولم يكن على وجه العتاب المعهود بلا شك ولا إشكال، فقد يبين الإنسان الواقع بشكل مجرد عادي، وقد يبينه في تمثيل وتشيبه وبلاغة وأدب تصويري وفي شكلحوار، مضافاً إلى أنه كان من اللازم أن يعرف الناس سبب صبر الإمام (علیه السلام) حيث كان ذلك بأمر خاص من الله ورسوله (صلي الله عليه و آله) حفظاً للإسلام والمسلمين في تلك الظروف الحرجة.
ولعل ما ورد من حديث الملائكة مع الله سبحانه وتعالى(2) كان من هذا القبيل. وكذلك قصة النبي (صلي الله عليه و آله) في ليلة المعراج حيث راجع الله تعالى مراراً للتخفيف من الصلوات وركعاتها(3).
وإلا فالنبي (صلي الله عليه و آله) «مَا يَنْطِ-قُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى»(4)،
ص: 382
..............................
والملائكة «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ»(1). بل من المحتمل قريباً أن تكون قصة النبي موسى (علیه السلام) والخضر (علیه السلام) من هذاالقبيل(2)..
إذ كيف يمكن حسب المتعارف، أن نبياً من أولي العزم -- بعد أن وطن نفسه على التعلم من غيره، وكان ذلك الغير شخصاً عينه الله لتعليمه وكان أيضاً نبياً من أنبياء الله سبحانه، وبعد أن وعده أن لا يسأله إلا بعد تمام الأمر -- يكرر السؤال والاعتراض؟! إذا لم يكن كل ذلك على سبيل التعليم بهذه الصورة الحوارية.
ومن الاستطراد في الاطراد أن نقول: إن بكاء النبي يعقوب (علیه السلام) على يوسف (علیه السلام) - وهو نبي والنبي أعظم شأناً وأرفع مكانة وأسمى روحاً من كافة البشرية - مدة أربعين سنة، وهو يعلم أن ولده حي، وأن رؤيا يوسف (علیه السلام) سوف تتحقق بعد تلك المدة.. لابد أن يكون لهذا البكاء الطويل معنى حكيم غير ظاهره، بما في ذلك أنه قد يقال إن الله سبحانه أراد أن يجعل للعاطفة والحنان (ينبوعاً) تستقي منه البشرية على مر التاريخ، وإلا لربما كان لقائل أن يقول: إن مثل ذلك لا يفعله حتى الإنسان العادي فكيف بنبي من أنبياء الله. فإن المعنويات كالماديات لها منابع يستقي منها، فكما أن البحر مستقى الماء، والشمسمصدر الطاقة، والهواء محطة للأمواج ومنبع التنفس للإنسان والحيوان والنبات، كذلك الأمر في المعنويات فالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والعاطفة وغيرها من المعنويات يلزم أن يكون لها معادن وينابيع يستقي الناس منها تلك الصفات،
ص: 383
..............................
وينبغي أن يكون لها انموذج وقمم ليتخذها الإنسان أسوة؛ لأن الإنسان - بطبعه - ينظر إلى من هو فوقه ويستقي منه الفضيلة، فأراد الله سبحانه أن يكون النبي يعقوب (علیه السلام) ذلك المستقى العاطفي للناس، والله سبحانه العال..
وربما يكون ذلك أيضاً من علل تجلي بعض الصفات في إمام وتجلي صفات أخرى في إمام آخر، والله العالم.
والحاصل: إن هذا الحوار والخطاب الموجه من الصديقة (علیها السلام) للإمام (علیه السلام) لم يكن للعتاب المعهود قطعاً، بل لجهة أو جهات ذكرت إجمالاً وسيأتي نوع من التفصيل والتوضيح بعد قليل إن شاء الله.
مسألة: كان صبر الإمام علي (علیهالسلام) على ما لاقته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من الظلم، وصبره على غصب الخلافة.. من أكبر أنواع الجهاد في سبيل الله عزوجل، حيث إنه أخذ بتطبيق وتنفيذ ما وصاه رسول الله (صلي الله عليه و آله) في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة بالصبر على كل ذلك، فقد نزل جبرئيل بأمر الله عزوجل وأخذ العهد على ذلك.
فبالإسناد إلى أبي الحسن (علیه السلام)، قلت: ألا تذكر ما في الوصية؟. قال: «ذلك سر الله ورسوله». قلت: أكان فيها خلاف القوم على علي؟. قال: نعم حرفاً حرفاً، والله والله لقد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) لعلي وفاطمة: فهمتما ما شرط ربكما وكتب لكما. قالا: قبلنا وصبرنا على ما ساءنا»(1).
ص: 384
..............................
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا علي، ما أنت صانع إذا قام القوم عليك وتقدموك وبعثوا طاغيتهم إليك يدعوك إلى البيعة، ثم لببت بثوبك تنقاد كما يقاد الشارد من الإبل مخذولاً مذموماً محزوناً مهموماً»؟. فقال علي (علیه السلام): «أنقاد لهم وأصبر على ماأصابني من غير بيعة لهم»(1).
وفي موضع آخر قال جبرائيل لمحمد (صلي الله عليه و آله): «قل لعلي (علیه السلام): إن ربك يأمرك أن تغسل ابن عمك؛ فإنها السنة لا يغسل الأنبياء غير الأوصياء، وهي حجة الله لمحمد على أمته فيما أجمعوا عليه من قطيعة ما أمرهم به». ثم دفع جبرائيل الصحيفة التي كتبها القوم إلى رسول الله (صلي الله عليه و آله) فدفعها النبي (صلي الله عليه و آله) إلى علي (علیه السلام) وقال: «أمسكها فإن فيها الشروط على قطيعتك وذهاب حقك، وما قد أزمعوا عليه من ظلمك تكون عندك توافيني غداً بها وتحاجهم بها»(2).
وفي الحديث: لما ثقل النبي (صلي الله عليه و آله) وخيف عليه الموت دعا بعلي وفاطمة والحسنين، وأخرج من في البيت واستدنى علياً (علیه السلام) وأخذ بيد فاطمة (علیها السلام) بعد بكاء الجميع ووضعها في يد علي. وقال: «هذه وديعة الله ووديعة رسوله عندك فاحفظني فيها فإنك الفاعل، هذه والله سيدة نساء العالمين، هذه مريم الكبرى، والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم فأعطاني. يا علي، أنفذ ما أمرتك به فاطمة فقد أمرتها بأشياء أمرنيبها جبرائيل وهي الصادقة الصدوقة، واعلم أني راض عمن رضيَت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي والملائكة، وويل لمن ظلمها وابتزها حقها، اللهم إني منهم بري ء». ثم سماهم
ص: 385
..............................
ثم ضم الأربعة إليه، وقال: «اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم وزعيم يدخلون الجنة، وحرب لمن عاداهم ولمن شايعهم زعيم أن يدخلوا النار. يا فاطمة، لاأرضى حتى ترضى، ثم والله والله لا أرضى حتى ترضى، ثم والله والله لا أرضى حتى ترضى»(1). وقال علي (علیه السلام): «كنت مسنداً للنبي (صلي الله عليه و آله) إلى صدري. فقال لي: تحول أمامي. فتحولت وأسنده جبرائيل، فقال لي: ضم كفيك بعضها إلى بعض. ففعلت، فقال: قد عهدت إليك وأخذت العهد من أمين ربي جبرائيل وميكائيل، فبحقهما عليك إلا أنفذت وصيتي، وعليك بالصبر والورع ومنهاجي لا طريق فلان وفلان، وخذ ما آتاك الله بقوة. وأدخل يديه مضمومتين فيما بين كفي فكأنه أفرغ بينهما شيئاً. وقال: قد أفرغت بين يديك الحكمة فلا يعزب عنك من أمري شي ء، فإذا حضرتك الوفاة أوص إلى وصيك منبعدك على ما أوصيتك، واصنع هكذا لا كتاب ولا صحيفة»(2).
وعن كتاب (خصائص الأئمة) للسيد الرضي الموسوي (رحمة الله): ثم قال له: «يا أخي، إن القوم سيشغلهم عني ما يريدون من عرض الدنيا وهم عليه قادرون فلا يشغلك عني ما شغلهم، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله علماً، وإنما تؤتى من كل فج عميق وناد سحيق، وإنما أنت العلم علم الهدى، ونور الدين وهو نور الله. يا أخي، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد، ولقد أخبرت رجلاً رجلاً بما افترض الله عليهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، فكل أجاب إليك وسلم الأمر إليك، وإني لأعرف خلاف قولهم، فإذا قبضت
ص: 386
..............................
وفرغت من جميع ما وصيتك به وغيبتني في قبري، فالزم بيتك واجمع القرآن على تأليفه(1)، والفرائض والأحكام على تنزيله، ثم امض ذلك على عزائمه وعلى ما أمرتك به، وعليك بالصبر على ماينزل بك منهم حتى تقدم عليَّ»(2).
وقال علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «دعاني النبي (صلي الله عليه و آله) عند موته، وأخرج من في البيت غيري وفيه: جبرائيل والملائكة أسمع الحس ولا أرى شيئاً، فدفع إليَّ وصية مختومة. وقال لي: أتاني بها جبرائيل الساعة، ففضها واقرأها. ففعلت فإذا فيها كل ما كان النبي (صلي الله عليه و آله) يوصيه لا تغادر حرفاً، وكان في أول الوصية: هذا ما عهد محمد بن عبد الله وأوصى به وأسنده إلى وصيه علي بن أبي طالب، وشهد جبرائيل وميكائيل وإسرافيل على ما أوصى وقبضه وصيه، وضمانه على ما ضمن يوشع لموسى ووصي عيسى والأوصياء من قبلهم، على أن محمداً أفضل النبيين، وعلياً أفضل الوصيين، وقبض على الوصية على ما أوصت الأنبياء وسلمه إليه، وهذا أمر الله وطاعته على أن لا نبوة لعلي ولا لغيره بعد محمد وكفى بالله شهيداً. ثم كان فيما شرط عليه النبي (صلي الله عليه و آله) بأمر جبرائيل بأمر الرب الجليل موالاة أولياء الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله، والصبر وكظم الغيظ على انتهاك الحرمة والقتل،فقبل ذلك. فدعا النبي (صلي الله عليه و آله) بفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) وأعلمهم بذلك فقبلوا كذلك، وختمت الوصية بخواتيم من ذهب لم تمسه النار ودفعت إلى علي (علیه السلام) »(3).
ص: 387
-------------------------------------------
مسألتان: يستفاد استحباب احترام الزوجة لزوجها، ورجحان التكنية له من خطابها (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام) ب- (يا ابن أبي طالب)، فتأمل(1).
وكذلك بالنسبة إلى كل إنسان محترم، فإن الكنية فيها من الاحترام ما ليس في الاسم الصريح.
لعل عناية الصديقة (علیها السلام) بانتخاب هذه الكنية (يا ابن أبي طالب) للتلميح بأن أبا طالب (علیه السلام) هو ذلك الشخص العظيم الشجاع الذي أوقف نفسه للدفاع عن الرسول (صلي الله عليه و آله).. فمن الحري بابنه أن يقوم بنفس الدور أيضاً في هذا اليوم، فيحامي عن بنت الرسول (صلي الله عليه و آله).قال أبو طالب (علیه السلام) وهو يخاطب النبي (صلي الله عليه و آله):
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد دعوت وكنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
ص: 388
..............................
وكان رسول الله » يقول: «لما مات أبو طالب نالت قريش مني من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب»(1).
وقال النبي » أيضاً: «ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»(2).
ولما رأى رسول الله (صلي الله عليه و آله) قريشاً تهجموا على أذيته، قال »: «يا عم، ما أسرع ما وجدت بعدك»(3).
إلى غير ذلك مما يدل على قمة إيمان أبي طالب (علیه السلام) وشدة حمايته عن رسول الله (صلي الله عليه و آله).. على ما ذكرناهفي بعض كتبنا (4).
ص: 389
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن القوم خذلوا الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حتى بلغ من المظلومية أنه اشتمل شملة الجنين، وقعد حجرة الظنين.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ،وَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ، وَعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ»(1).
وقال (علیه السلام): «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَئُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ،وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ»(2).
ولما تظلم (علیه السلام) قال له الأشعث بن قيس: لِمَ لم تقاتل؟.
فأجاب (علیه السلام): «بأن لي أسوة بسنة الأنبياء».
وأجاب (علیه السلام) الأشعث مرة أخرى: «بأنه عهد النبي (صلي الله عليه و آله) إليَّ أن لاأجاهد إلا إذا وجدت أعواناً فلو وجدت أعواناً لجاهدت، وقد طفت على المهاجرين
ص: 390
..............................
والأنصار فلم أجد سوى أربعة، ولو وجدت أربعين يوم بويع لأخي تيم لجاهدتهم»(1).
ومن كتاب معاوية المشهور إلى علي (علیه السلام): (وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ... ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لماحركك وهيجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)(2).
ويقول ابن أبي الحديد: (فأما قوله: لم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، فقول ما زال علي (علیه السلام) يقوله، ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: لو وجدت أربعين ذوي عزم)(3).
وعن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام): «أن علياً (علیه السلام) حمل فاطمة (صلوات الله عليها) على حمار، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة (علیها السلام) الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلناه به!. فقال علي (علیه السلام): أكنت أترك رسول الله (صلي الله عليه و آله) ميتاً في بيته لاأجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه.. وقالت فاطمة(علیها السلام): ما صنع
ص: 391
..............................
أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له،وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه»(1).
وعن سدير، قال: كنا عند أبي جعفر (علیه السلام) فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم (صلي الله عليه و آله) واستذلالهم أمير المؤمنين (علیه السلام). فقال رجل من القوم: أصلحك الله، فأين كان عز بني هاشم وما كانوا فيه من العدد؟!. فقال أبو جعفر (علیه السلام): «ومن كان بقي من بني هاشم إنما كان جعفر وحمزة فمضيا، وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان(2) حديثا عهد بالإسلام عباس وعقيل وكانا من الطلقاء، أما والله لو أن حمزة وجعفراً كانا بحضرتهما ما وصلا إلى ما وصلا إليه، ولو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما»(3).
وعن عمرو بن ثابت، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إن النبي (صلي الله عليه و آله) لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثاً: سلمان، والمقداد، وأبوذر الغفاري. إنه لما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعة بعدك أبداً. قال:ولِمَ؟. قالوا: إنا سمعنا من رسول الله (صلي الله عليه و آله) فيك يوم غدير خم. قال: وتفعلون؟. قالوا: نعم. قال: فأتوني غداً محلقين. قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة. قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره، ثم قال له: ما لك أن تستيقظ من نومه الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم»(4).
ص: 392
..............................
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام)، في قوله عزوجل: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(1). قال: «ذاك والله حين قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير»(2).
وعن عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا؟. فقال: «يا عبد الرحيم، إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزلبخير جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية:
يا سعد أنت المرجى *** وشعرك المرجل
وفحلك المرجم»(3)
مسألة: صبر الإمام (علیه السلام) على تلك الظلامات لم يكن عن رغبة منه، وإليه يلمح قولها (علیها السلام): «اشتملت شملة الجنين»، بل كان الصبر لإرادة قاهرة وأمر جازم، إذ لم يكن له (علیه السلام) خيار آخر، بل كان ذلك خياره الوحيد؛ فإن الجنين: لا مناص له من المشيمة ولا خيار آخر له.
والإمام (علیه السلام) لم يكن راغباً في السكون والقعود إلا أن الأمر الإلهي
ص: 393
..............................
ووصية الرسول (صلي الله عليه و آله) وملاحظة المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، هي التياضطرته لذلك و قيدته وجعلته جليس بيته، وذلك أسمى درجات الإطاعة والانقياد والشجاعة.
قال الشاعر:
قيدته وصية من أخيه *** رب قيد يقيد الضرغاما
علماً بأن ذلك السكون كان هو الذي يحمل في داخله وطياته بذور النمو والتقدم، وحفظ مدرسة الإسلام والقرآن، ونشر تعاليم الرسول (صلي الله عليه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام).. وينبئ عن أن المرحلة مرحلة الوقاية وحفظ الذات، ومرحلة البناء لقطف الثمار في المستقبل.. لا الثورة؛ فإن المشيمة للجنين وقاية وحفظ، وهي له أيضاً العامل الرئيسي للنمو والرشد، وكلامها (علیها السلام) هذا يحمل إدانة للقوم بالتلويح الذي هو أقرب للتصريح، وهو من أرقى أنواع البلاغة.
مسألة: (الثورة) قد تكون واجبة، وقد يكون السكون و(القعود) هو الواجب، وذلك على حسب الشروط والظروف المتعاكسة.. فالثائر ولما تكتمل الشروط عاص، والقاعد وقد اكتملت آثم، ولقد كانت الظروف والشروط بعد استشهاد الرسول (صلي الله عليه و آله) تفرض (القعود) بلأجلى مصاديقه، ويستفاد ذلك من قولها (علیها السلام): (اشتملت...)، فالمراد به تقرير الحالة وإدانة القوم(1) لا الاعتراض عليه (علیه السلام) .
ص: 394
..............................
قولها (علیها السلام): «اشتملت... » يقال: اشتمل الثوب إذا أداره على جسده، والشملة: بالكسر هيئة الاشتمال، وبالفتح ما يشتمل به، وفسر بمطلق الكساء وربما بكساءً خاصً(1)، والمقصود هنا مشيمة الجنين وهي محل استقرار الجنين في الرحم، وهذا تشبيه لجلوسه (عليه الصلاة والسلام) بالجنين الذي في الرحم حيث إنه محاصر من جميع الجهات، ومحدود لا يتمكن من القبض والبسط والحركة وما أشبه ذلك.
فالجنين مشتمل بغطاء مادي، وهو (علیه السلام) مشتمل شملةً معنوية قيدته، كما هو حال الجنين المقيد.
وفي مكارم الأخلاق: «وكان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يلبس الشملة ويأتز بها»(2).وقال ابن عباس: (اسمه في التوراة أحمد الضحوك القتال، يركب البعير، ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه، ومن أسمائه (صلي الله عليه و آله) الماحي)(3).
وروي: «أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلي الله عليه و آله): «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ»(4)، بكى النبي (صلي الله عليه و آله) بكاء شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل (علیه السلام)، ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلمه، وكان النبي (صلي الله عليه و آله) إذا رأى فاطمة (علیها السلام) فرح
ص: 395
..............................
بها. فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها، فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه، وتقول: «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(1)، فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي (صلي الله عليه و آله) وبكائه. فنهضت والتفت بشملة لها خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمانالفارسي (رحمة الله) إلى الشملة وبكى، وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير وابنة محمد (صلي الله عليه و آله) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً. فلما دخلت فاطمة (علیها السلام) على النبي (صلي الله عليه و آله)، قالت: يا رسول الله، إن سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحق ما لي ولعلي (علیه السلام) منذ خمس سنين إلا مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف. فقال النبي(صلي الله عليه و آله): يا سلمان إن ابنتي لفي الخيل السوابق.
ثم قالت: يا أبتِ فديتك، ما الذي أبكاك؟!
فذكر (صلي الله عليه و آله) لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدمتين.
قال: فسقطت فاطمة (علیها السلام) على وجهها وهي تقول: الويل ثم الويل لمن دخل النار»(2).
وعن زاذان خادم سلمان، قال: لما جاء أمير المؤمنين (علیه السلام) ليغسل سلمان وجده قد مات، فرفع الشملة عن وجهه، فتبسم وهم أن يقعد! فقال له أمير المؤمنين (علیهالسلام): «عد إلى موتك»، فعاد(3).
ص: 396
..............................
مسألة: ينبغي للمظلوم - في بعض الأحيان - الاعتكاف في الدار والجلوس في البيت إذا كان ذلك يشكل إدانةً للحكومة الجائرة ويعدّ احتجاجاً واستنكاراً لقراراتها الظالمة، وإذا كان فيه فضحها وتعريتها، أو إذا كان ذلك يسبب الحد من مقدرة الجائر على التحرش والظلم والتحدي.
فإن الجلوس في الدار من أوجه المقاومة السلبية، ومن أشد العوامل الضاغطة على الحكومات، بالإضافة إلى الاعتصامات والمظاهرات السلمية.. وكان جلوس أمير المؤمنين (علیه السلام) في الدار يرمز إلى ذلك ويكشف عن مدى الجور والظلم الذي لحقه فاضطره - وهو باب مدينة علم الرسول (صلي الله عليه و آله) وأسد الله وأسد رسوله (صلي الله عليه و آله) - إلى الاعتزال، كما اعتزل إبراهيم (علیه السلام) قومه، قال تعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا له إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا»(1).
مسألة: إن الكلام - كالعمل والإشارة - له مناح متعددة، وأحكام مختلفة، فقد يقول الإنسان قولاً أو يعمل عملاً بقصد الجد، وقد يكون بقصد التعلم أو التعليم، أو النقد أو الاستيضاح، أو لسان الحال، أو إظهار الانزجار من الغير، وقد يكون لغير ذلك من الدواعي المختلفة في مختلف الموارد.
ص: 397
..............................
فالتعليم كما في قضية الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام) حيث توضئا لتعليم ذلك الشيخ - الجاهل بكيفية الوضوء - فقولهما: «أحكم بيننا»، لم يكن بقصد الجد في أن أيهما أحسن وضوءً(1).
والتعلم كما في قضية السيد عبد العظيم الحسني (علیه السلام) حيث عرض أصول دينه على الإمام (علیه السلام) بقصد أن يتأكد من صحة عقيدته(2)، وفيه التعليم أيضاً.
والاعتراض: كما اعترض الشيطان على الله سبحانه لماذا أمره بالسجود وهو خيرمن آدم؛ لأنه مخلوق من النار وآدم من التراب،والنار - في نظر الشيطان - أفضل وسبب للأفضلية.
والاستيضاح: مثل سؤال الملائكة من الله سبحانه «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»(3).
ولسان الحال: كقول أمير المؤمنين علي (علیه السلام):
«قال الحبيب وكيف لي بجوابكم *** وأنا رهين جنادل وتراب».
وإظهار الانزجار: مثل «وَأَلْقَى الأَْلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ»(4)، حيث إن هذين العملين كانا من موسى (علیه السلام) لإظهار الانزجار من عبدة العجل، ولم يكن إظهاراً للانزجار من الألواح كما هو واضح، أو من أخيه بقصد إهانته كما هو واضح أيضاً، وهذا متعارف فإنك إذا أردت الانزجار من مجلس أو كلام
ص: 398
..............................
أخذت بيد أو كتف أو حتى برأس(1) صديقك وجذبته إليك بانزجار قائلاً له بغضب: تعال لنذهب، مما يوهم الأمر على منيجهل الحال فيتصور أنك غضبت على ذلك الصديق وأنك منزجر منه، كما في كل مجاز لا يعرف الإنسان الآخر قرينة الحال أو المقال فيزعم أن المراد به الواقع والجد والمعنى الحقيقي(2)، كما تصور عمر أن الرسول (صلي الله عليه و آله) - أراد حقيقة قطع لسان السائل فأدركه أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وقال إنه (صلي الله عليه و آله) أراد إعطاءه شيئاً من المال.
روي: أن النبي (صلي الله عليه و آله) لما مدحه شاعر من الشعراء قال لرجل بحضرته: «اقطع لسانه». فذهب ليقطع لسانه بالسكين!، فأدركه أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: «المراد أحسن إليه»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: «جاء شاعر إلى النبي (صلي الله عليه و آله) فسأله وأطراه، فقال لبعض أصحابه: قم معه فاقطع لسانه، فخرج ثم رجع، فقال: يا رسول الله أقطع لسانه؟! قال إنما أمرتك أن تقطع لسانه بالعطاء»(4).إذا عرفت هذا فاعلم أن الحوار الذي دار بين الإمام علي (علیه السلام) والصديقة الزهراء (علیها السلام) كان بهدف بيان الانزجار من القوم، وتعبيراً عن السخط والغضب عليهم، حيث قيدوا أسد الله وأسد رسوله (صلي الله عليه و آله).. إضافة لاحتمال إرادتها الاستيضاح من باب تسائل العارف لكي يعرف الآخرون فلسفة سكوت
ص: 399
..............................
الإمام (علیه السلام) وصبره على ما ارتكبه المخالفون.
أما احتمال الجد أو النقد أو ما أشبه فغير وارد إطلاقاً، بالإضافة إلى أنه يتنافى مع العصمة ومع إخبار الرسول (صلي الله عليه و آله) لهما (علیهما السلام) عن كل تلك القضايا بتفاصيلها وجزئياتها وأخذ الميثاق منهما، ومع علمها (علیها السلام) بأمر الرسول (صلي الله عليه و آله) للإمام علي (علیه السلام) بالصبر - كما سبق -.
مسألة: يلزم أن تلجأ الأمة في شكواها ومحنها وآلامها إلى الإمام المعصوم (علیه السلام) في حال حضوره، وإلى وكلائه حال غيبته (علیه السلام)؛ فإنهم حجج الله على الخلق، قال (علیهالسلام): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(1).
كما يجب على الأمة الاستماع لإرشاداته والالتزام بأوامره، ولو كان ذلك قد تم لسعد الناس وصلح المجتمع، وهذا مما يستفاد من جملة من الأدلة ومما يلمح إليه شكايتها (علیها السلام) هنا للإمام (علیه السلام).. هذا كله في البلايا العامة، وأما الرزايا الخاصة فربما يستحب أن يشكوها، على ما سبق بعض الكلام في ذلك.
عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فيتحاكمان إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟. فقال (علیه السلام): «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد ما أمر الله تعالى أن يكفر به،قال الله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
ص: 400
..............................
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»(1)».
فقال: كيف يصنعان؟. فقال (علیه السلام): «ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، فهو على حد الشرك بالله»(2).
وعن جميل بن دراج، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فاستقبلني رجل خارج من عند أبي عبد الله (علیه السلام) من أهل الكوفة من أصحابنا، فلما دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) قال لي: «لقيت الرجل الخارج من عندي». فقلت: بلى، هو رجل من أصحابنا من أهل الكوفة. فقال: لا قدس الله روحه ولا قدس مثله، إنه ذكر أقواماً كان أبي (علیه السلام) ائتمنهم على حلال الله وحرامه، وكانوا عيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي، هم مستودع سري أصحاب أبي (علیه السلام) حقاً، إذا أراد الله بأهل الأرض سوءًً صرف بهم عنهمالسوء، هم نجوم شيعتي أحياء وأمواتاً، يحيون ذكر أبي (علیه السلام)، بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، وتأول الغالين». ثم بكى.
فقلت: من هم؟. فقال: «من عليهم صلوات الله ورحمته أحياء وأمواتاً: بريد العجلي وزرارة وأبوبصير ومحمد بن مسلم، أما إنه يا جميل سيبين لك أمر هذا الرجل إلى قريب». قال جميل: فو الله ما كان إلا قليلاً حتى رأيت ذلك الرجل ينسب إلى آل أبي الخطاب، قلت: الله يعلم حيث يجعل رسالته، قال
ص: 401
..............................
جميل: وكنا نعرف أصحاب أبي الخطاب ببغض هؤلاء رحمة الله عليهم(1).
وعن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: سألته وقلت: من أعامل وعمن آخذ وقول من أقبل؟. فقال: «العَمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول،فاسمع له وأطع؛فإنه الثقة المأمون». قال: وسألت أبا محمد (علیه السلام) عن مثل ذلك. فقال: «العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعنييؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما؛ فإنهما الثقتان المأمونان»(2).
وعن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابنا. فقال: «قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى بينكم في شيء من الأخذ والعطاء، أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا؛ فإني قد جعلته قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟. قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»(4).
وعن الهروي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) يقول: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا». فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟. قال: «يتعلم
ص: 402
..............................
علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا». قال: قلت: يا ابن رسول الله، فقد روي لنا عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: من تعلم علماً ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار. فقال (علیه السلام): «صدق جدي (علیه السلام)، أفتدري من السفهاء؟».
فقلت: لا يا ابن رسول الله. قال: «هم قصاص مخالفينا، وتدري من العلماء؟». فقلت: لا يا ابن رسول الله. فقال: «هم علماء آل محمد (علیهم السلام) الذين فرض الله طاعتهم وأوجب مودتهم - ثم قال: - وتدري ما معنى قوله: أو ليقبل بوجوه الناس إليه؟». قلت: لا. قال: «يعني والله بذلك ادعاء الإمامة بغير حقها، ومن فعل ذلك فهو في النار»(1).
وعن حمزة بن حمران، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من استأكل بعلمه افتقر». فقلت له: جعلت فداك، إن في شيعتك ومواليك قوماً يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم، فلا يعدمون على ذلك منهم البر والصلةوالإكرام. فقال (علیه السلام): «ليس أولئك بمستأكلين، إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله عزوجل ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا»(2).
مسألة: يستحب للزوجة أن تشكو آلامها إلى زوجها، كما شكت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام).
ص: 403
..............................
وكذلك بالنسبة إلى كل مشكوٍ إليه (في الجملة) إذا كان مؤمناً، فإن الشكاية إلى المؤمن شكاية إلى الله سبحانه وتعالى كما في الروايات(1)، فلا خصوصية للزوج والزوجة من الجهة العامة، وإنما الخصوصية لها مَن جهة إن الرجل قيم عليها، فهو أفضل من تشتكي إليه.
عن يونس بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «أيما مؤمن شكا حاجته وضره إلى كافر أو إلى منيخالفه على دينه فكأنما شكا الله عزوجل إلى عدو من أعداء الله، وأيما رجل مؤمن شكا حاجته وضره إلى مؤمن مثله كانت شكواه إلى الله عزوجل»(2). وعن الحسن بن راشد، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا حسن، إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف ولكن اذكرها لبعض إخوانك؛ فإنك لن تعدم خصلة من خصال أربع: إما كفاية بمال، وإما معونة بجاه، أو دعوة تستجاب، أو مشورة برأي»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من أبدى إلى الناس ضره فقد فضح نفسه، وخير الغنى ترك السؤال، وشر الفقر لزوم الخضوع»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) - في حديث الأربعمائة -: «إذا ضاق المسلم فلايشكون ربه عزوجل وليشتك إلى ربه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها»(5).
ص: 404
..............................
وعن أبي هاشم الجعفري، قال: أصابتني ضيقة شديدة، فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (علیه السلام) فأذن لي، فلما جلست قال: «يا أبا هاشم، أي نعم الله عزوجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟».
قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدر ما أقول له.
فابتدأ (علیه السلام) فقال: «رزقك الإيمان فحرم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل. يا أبا هاشم، إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو إلى من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها»(1).
مسألة: يستحب للزوجة أن تخبر زوجها بما وقع عليها وجرى لها، كما أخبرت الصديقة فاطمة (علیها السلام) بذلك، وربما كان ذلك من صفات الصالحات.
وهناك روايات عديدة في مواصفات الزوجة الصالحة، نشير إلى بعضها:عن إبراهيم الكرخي، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «إن صاحبتي هلكت وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوج. فقال لي: «انظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرك، فإن كنت لابد فاعلاً فبكراً تنسب إلى الخير وإلى حسن الخلق، واعلم أنهن كما قال:
ألا إن النساء خلقن شتى *** فمنهن الغنيمة والغرام
ومنهن الهلال إذا تجلى *** لصاحبه ومنهن الظلام
فمن يظفر بصالحهن يسعد *** ومن يغبن فليس له انتقام
ص: 405
..............................
وهن ثلاث: فامرأة ولود ودود تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته ولاتعين الدهر عليه، وامرأة عقيمة لا ذات جمال ولا خلق ولا تعين زوجها على خير، وامرأة صخابة ولاجة همازة تستقل الكثير ولا تقبل اليسير»(1).
وعن سليمان الجعفري،عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «خير نسائكم الخمس. قيل: وما الخمس؟. قال: الهينةاللينة المؤاتية التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى، وإذا غاب عنها زوجها حفظته في غيبته، فتلك عامل من عمال الله وعامل الله لا يخيب»(2).
وعن عبد الله بن سنان، عن بعض أصحابنا، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنما المرأة قلادة فانظر ما تتقلد، وليس لامرأة خطر لا لصالحتهن ولا لطالحتهن، فأما صالحتهن فليس خطرها الذهب والفضة هي خير من الذهب والفضة، وأما طالحتهن فليس خطرها التراب التراب خير منها»(3).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا جلوساً مع رسول الله (صلي الله عليه و آله)
- قال: - فتذاكرنا النساء وفضل بعضهن على بعض. فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ألا أخبركم بخير نسائكم؟». قالوا: بلى يا رسول الله. فأخبرنا، قال (صلي الله عليه و آله): «إن من خير نسائكم الولود الودود، الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها، الحصان مع غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تبذل له تبذل الرجل»(4).
ص: 406
..............................
وعن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي (علیهم السلام)، عن أبيه علي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «من أعطي أربع خصال أعطي خير الدنيا والآخرة وفاز بحظه منهما: ورع يعصمه من محارم الله، وحسن خلق يعيش به في الناس، وحلم يدفع به جهل الجاهل، وزوجة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة»(1).
وعن حسين بن علوان، عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «حسن البشر نصف العقل، والتقدير نصف المعيشة، والمرأة الصالحة أحد الكاسبين»(2).
وعن ربيعة بن كعب، قال سمعت النبي (صلي الله عليه و آله) يقول: «من أعطي له خمساً لم يكن له عذر في ترك عمل الآخرة: زوجة صالحة تعينه على أمر دنياه وآخرته، وبنون أبرار، ومعيشة في بلده، وحسن خلق يداري به الناس، وحب أهلبيتي»(3).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه، وتطيعه في جميع أحواله»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «سألت أم سلمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) عن فضل النساء في خدمة أزواجهن. فقال (صلي الله عليه و آله): ما من امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلا نظر الله إليها، ومن نظر الله إليه
ص: 407
..............................
لم يعذبه. فقالت أم سلمة (رضوان الله عليها): زدني في النساء المساكين من الثواب بأبي أنت وأمي. فقال (صلي الله عليه و آله): يا أم سلمة، إن المرأة إذا حملت كان لها من الأجر كمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله عزوجل، فإذا وضعت قيل لها: قد غفر لكِ ذنبكِ فاستأنفي العمل، فإذا أرضعت فلها بكل رضعة تحرير رقبة من ولد إسماعيل»(1).وعن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «خير نسائكم الطيبة الريح الطيبة الطعام، التي إذا أنفقت أنفقت بمعروف، وإذا أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك من عمال الله وعامل الله لا يخيب»(2).
ص: 408
مسألة: ربما يجب على الإنسان أن يصبر عن المطالبة بحقه وحق زوجته أو من يتعلق به، وبعبارة أخرى أن يقعد حجرة الظنين المتهم؛ وذلك للمصلحة الأهم وفق موازين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما إذا رأى عدم التأثير واحتمل الضرر الكثير، ولغير ذلك مما هو مذكور في محله.
قولها (علیها السلام): «وقعدت حجرة الظنين»، الحجرة: البيت، والظنين: المتهم، فإن الإنسان إذا كان متهماً في المجتمع يجلس في بيته ولا يخرج حذراً من أن يشار إليه بالسوء. وهذا كناية عن قعود الإمام (علیه السلام) عن حقه وحق زوجته وعدم المطالبة بذلك، فكأنه نزل منزلة الخائف المتهم، وقد أشرنا إلى ما دعا بالإمام (علیه السلام) ليتخذ هذا الموقف الشجاع.
مسألة: ينبغي أن يتسع صدر الزوجلشكاية الزوجة، وذلك مما يقوي الأواصر بينهما، ويزيد الألفة والمحبة بينهما، ويدفع بالعديد من المشاكل والأمراض..
والمشاهد أن بعض الأزواج لا يفسح المجال لزوجته لكي تبث إليه همومها لكن ذلك غير صحيح، والتأسي بالإمام (علیه السلام) يقتضي ذلك.
ص: 409
..............................
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ألا خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي»(1).
وعن مسعدة، قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام): «إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع على أسرائه؛ فإن لم يفعل أوشك أن تزول عنه تلك النعمة»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته؛ فإن الله عزوجل قد ملكه ناصيتها وجعله القيم عليها»(3).
وعن يونس بن عمار، قال: زوجني أبو عبد الله (علیه السلام) جارية كانتلإسماعيل ابنه. فقال: «أحسن إليها». فقلت: وما الإحسان إليها؟. فقال: «أشبع بطنها، واكس جثتها، واغفر ذنبها - ثم قال - اذهبي وسطك الله ما له»(4).
مسألة: يستحب شكاية المظلوم حالته إلى ولي أمره، حيث شكت الصديقة (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام) إذ أن رزيتها كان لها كلا الجانبين العام والخاص، وكذلك بالنسبة إلى وكلاء المعصومين (علیهم السلام) وهم في زمن الغيبة مراجع التقليد، وكذلك من أشبههم ممن جعلهم الله سبحانه وتعالى - بصورة خاصة أو بصورة عامة - مأوى للناس وملجأً لهم؛ فإن الشكاية إليهم نوع رجوع
ص: 410
..............................
ونوع اعتراف بالمرجعية الشرعية(1) فلابد من عدم العدول لغيرهم مهما أمكن.
ثم إنه ليست الشكوى للإمام المعصوم (علیه السلام) خاصة بحال حياته، بلتشمل ما بعد وفاته أيضاً إذ هم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2).
مسألة: يجوز للمظلوم أن يعاتب من يستنصره في الجملة؛ وذلك لبيان شدة الظلم، وإن كان في توجيه العتاب لهم (علیهم السلام) يلزم مراعاة الموازين اللازمة.
وقد يكون من هذا الباب ما ظاهره العتاب كأشعار السيد الحلي(رحمة الله)(3) يخاطب بها الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؛ فإنها بيان لعظم المصيبة وليس المقصود به العتاب الحقيقي كما لا يخفى.
وهكذا ما ظاهره العتاب من الصديقة(علیها السلام) في هذه الخطبة، فقد سبق أنه كان بهدف إبداء التنفّر والانزجار من جرائم المخالفين فقط ولم يكن إلا عتاباً شكلياً لا حقيقياً.
ص: 411
..............................
مسألة: يستحب التأكيد على مدى صبر الإمام (علیه السلام) وشدة مرارته، وقوة إرادته وتحمله(علیه السلام) حفاظاً على الإسلام؛ فإن بيان مثل هذه الأمور له فوائده:
منها: التأسي في مواطن الصبر.
ومنها: إن ذكر صفاتهم (عليهم الصلاة والسلام) مما يوجب التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر.
ومنها: إيضاح الرؤية وتعميق المعرفة بهم (عليهم الصلاة والسلام)، وأنهم كانوا يعملون بما يُؤمرون وما يأمرون، فحيث كانوا يؤمرون بالصبر يصبرون، وكما كانوا يأمرون به كانوا يعملون، وحيث كانوا يأمرون ويؤمرون بالتضحية كانوا يضحون، وهكذا.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبة يذكر فيها آل محمد (صلوات
الله عليهم أجمعين) ويبين فضلهم: «هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ، يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْعِلْمِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَهُمْ دَعَائِمُ الإِسْلاَمِ وَوَلاَئِجُ الاِعْتِصَامِ، بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ، عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَايَةٍ؛ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»(1).
وعن ابن عباس، أنه قال: قال النبي (صلي الله عليه و آله): «من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي،فليوال علياً (علیه السلام) من بعدي،
ص: 412
..............................
وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي؛ فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي، وزقوا فهماً وعلماً، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين منهم صلتي، لاأنالهم الله شفاعتي»(1).
وعن يونس بن يعقوب، قال: أمرني أبو عبد الله (علیه السلام) أن آتي المفضل وأعزيه بإسماعيل، وقال: «أقرئالمفضل السلام وقل له: إنا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا فاصبر كما صبرنا، إنا أردنا أمراً وأراد الله عزوجل أمراً فسلمنا لأمر الله عزوجل»(2).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) - في حديث في الإمامة - قال: «أما لو أن رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان»(3).
وعن زرارة، قال: كنت قاعدًا عند أبي جعفر (علیه السلام). فقال له رجل من أهل الكوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين (علیه السلام): سلوني عما شئتم ولا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به؟.
فقال (علیه السلام): «إنه ليس أحد عنده علم إلا خرج من عند أمير المؤمنين (علیه السلام)، فليذهب الناس حيث شاءوا، فو الله ليأتيهم الأمر من هاهنا» وأشار بيده إلى المدينة(4).
ص: 413
..............................
مسألة: يستحب بيان مدى مظلومية أمير المؤمنين علي (علیه السلام) حيث صبر على الأذى بالرغم من قدرته الكاملة على تصفية خصومه وأخذ حقه بالقوة.
فإن بيان مظلوميته (علیه السلام) أدعى للالتفاف حوله، إذ أن قلوب الناس مع المظلوم، كما سبق ..
وبيانها أيضاً فضح لظالميه وإسقاط لشخصياتهم، وإدانة لمنهجهم، ومحاكمة لفكرهم وتراثهم..
عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين: أن ائت هذا الجبار فقل له: إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فإني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»(1).
مضافاً إلى أن بيان مظلومية علي (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) نوع عبادة في ذاته، حيث ورد أن «نفس المهموم لظلمناتسبيح وهمه لنا عبادة»(2).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام) - في حديث الأربعمائة -: «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منا وإلينا»(3).
ص: 414
..............................
وفي (كتاب الإخوان) بإسناده، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «تجلسون وتحدثون؟». قلت: نعم. قال: «تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج عن عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).
وعن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: من ذكرنا أوذكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»(2).
وعن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، قال: قال الرضا (علیه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(3). وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «كان علي بن الحسين (علیه السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (علیه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه دمعاً حتى تسيل على خده لأذى مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله مبوأ صدق في الجنة، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل دمعه على خديه من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار»(4).
ص: 415
..............................
وعن محمد بن أبي عمارة الكوفي، قال: سمعت جعفر بن محمد (علیه السلام) يقول: «من دمعت عينه فينا دمعة لدم سفك لنا، أو حق لنا نقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، بوأه الله تعالى بها في الجنة حقباً»(1).
مسألة: إنما لم يتعرض الإمام (علیه السلام) لهم عسكرياً، لخوفه من القضاء على الإسلام؛ فإن دولة الإسلام كانت فتية وكان الفرس والروم الإمبراطوريتان القويتان يتربصان بالمسلمين، فإذا وقع بينهم نزاع وتحارب، استغل الفرس أو الروم هذه المحاربة للقضاء على الإسلام، ولعله كان يمُحى من الوجود، كما أشار إلى ذلك الإمام (عليه الصلاة والسلام) حيث قال لفاطمة الزهراء (علیها السلام):
إن أخذت سيفي وحاربتهم لم تسمعي بعدها ذكراً لهذا الاسم - أي: اسم محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله) -.
وقد روي عنه (علیه السلام) أن فاطمة(علیها السلام) حرضته يوماً على النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن:(أشهد أن محمداً رسول الله). فقال لها: «أيسركِ زوال هذا النداء من الأرض؟». قالت: «لا». قال: «فإنه ما أقول لكِ»(2).
إضافة إلى أن الإسلام كان جديداً على النفوس ولم يكن متركزاً في أكثرها فكانت أية معركة داخلية بذلك المستوى تؤدي ربما إلى انهيار داخلي هائل وفتنة لا تطفأ.
ص: 416
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي القضاء على صقور الكفر، وهو بين واجب ومستحب في موارده المذكورة ووفق الموازين الشرعية، كما قام أمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك في حياة رسول الله (صلي الله عليه و آله) حيث نقض قادمة الأجدل.
قولها (علیها السلام) : «نقضت...» النقض: ضد الإبرام، و(القادمة): واحدة القوادم، وهي: مقاديم ريش الطائر القوية، يقال: إن في كل جناح من أجنحة الصقر عشرة من هذه القوادم. و(الأجدل) الصقر، من الجدل بمعنى الاستحكام والقوة وقد سمي الطائر به لقوته.
يعني: إنك تمكنت من صناديد قريش في شتى المواجهات، وفي عشرات الحروب والغزوات فقصصت أجنحة أولئك الطغاة الجبابرة.. فما ذا صار بك؟!.
مسألة: الخيانة سلاح الضعفاء، وكان القوم قد خانوا الله ورسوله (صلي الله عليه و آله) في ابنته (علیها السلام) ووصيه علي (علیه السلام) وينبغي بيان ذلك.
ثم إنها (صلوات الله عليها) لم تقل:(تركت ريش الأعزل) بل أسندت الفعل في الفقرة الأولى (نقضت قادمة الأجدل) إليه (علیه السلام) وفي الفقرة الثانية إلى القوم، تأكيداً على أنه لم يترك التصدي والدفاع، بل كانت هنالك (خيانة) من القوم، والخيانة هي من شيم الضعفاء الجبناء فهم كالريش للطائر الأعزل إلا أن (خيانتهم) هي التي مكنتهم من السيطرة على مقاليد الأمور.
قولها (علیها السلام): «فخانك ريش الأعزل» العزل: الذي لا سلاح له، أو الصقر الذي نقضت قوادمه فلم يبق له إلا الريش الضعيف.
ص: 417
..............................
أي: فكيف بك لم تتمكن من أن تنقض ريش الحيوان الأعزل الذي لاقوة لريشه كقوة القوادم؟!مع أنك تمكنت من قص جناح الصقور أي صناديد قريش.
وربما أريد بالأعزل: أراذل الناس، فيكون المعنى: إنك نازعت الأبطال فغلبتهم واليوم يغلبك هؤلاء الضعفاء!.
وفي هذا إشارة منها (صلوات الله عليها) إلى خيانة القوم، فإنهم لم يتغلبوا على علي (علیه السلام) بالقوة والقدرة والمواجهة، وإلا فالإمام (علیه السلام) كان أقواهم، بل بالمؤامرة والخيانة والحيلة، ولذلك عبرت (علیها السلام)ب- (فخانك ريش الأعزل).
كما دل كلامها (علیها السلام) على شدة قوة إبرازها في بدو الأمر حيث (نقضت) وغاية إخفائها في النهاية حيث (خانك ريش...).
يقول الشاعر:
جمعت في صفاتك الأضداد *** فلهذا عزت لك الأنداد
زاهد حاكم، حليم شجاع *** ناسك فاتك، فقير جواد
شيم ما جمعن في بشر *** قط ولا حاز مثلهن العباد
مسألة: يستحب بيان أن القوم كانوا كريش الأعزل بالنسبة إلى أمير المؤمنين علي(علیه السلام)،فإن معرفة ما كان عليه الإمام (علیه السلام) من الشجاعة الفائقة وما كان يعاني منه أعداؤه المخالفون من الضعف الشديد.. هذه المعرفة ترشدنا إلى عظمة الإمام (علیه السلام) يوم التزم الصبر امتثالاً لأمر الله سبحانه. كما أن هذه المعرفة تدفعنا للتأسي به (علیه السلام) والاهتداء بهديه في الظروف المشابهة، وبذلك يكون الاقتراب إلى الله سبحانه وتعالى أكثر وإطاعة أمره بالنحو الأتم.
ص: 418
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي التصريح باسم الخصم أو كنيته أو لقبه حتى يعرف على مدى التاريخ ويكون أتم للحجة و«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(1).
ولذلك - وربما لغيره أيضاً - كان تصريح الصديقة (علیها السلام) بكنية الغاصب، وإلا فإن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) كان يعلم بذلك.
ولذلك - وربما لغيره أيضاً - كان تصريح القرآن الكريم بأسماء أعداء الله، كفرعون وقابيل وهامان، وكذلك تصريح الرسل والأنبياء والأئمة (علیهم السلام) بأسماء أعدائهم وأعداء الله..
ومن فوائد ذلك أن توجه اللعنة إليهم على مدى الأيام..
ومن الفوائد أن يُعرفوا فيجتنبوا.
وكذلك في كل مورد يكون من هذا القبيل مما يسجل في التاريخ، وتكون فيه فائدة مادية أو معنوية، دينية أو دنيوية.
نعم هناك موارد للتقية ينبغي مراعاتها.
وفي حديث الهجوم على بيت فاطمة(علیها السلام):
(ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة (علیها السلام) فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية: «يا رسول الله، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة!.
ص: 419
..............................
فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، فكادت قلوبهم تتصدع، وأكبادهم تتفطر، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا علياً ومضوا به إلى أبي بكر، فقالوا: بايع.
فقال: «إن أنا لم أفعل فمه؟».
قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك!
قال: «إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله».
فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخا رسوله فلا!، وأبو بكر ساكت لايتكلم)(1).
وفي الخطبة الشقشقية قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدرعني السيل ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى عمر من بعده!، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها» الخطبة(2).
ص: 420
-------------------------------------------
مسألة: الغصب محرم مطلقاً، سواء كان مجرداً عن الابتزاز أم لا، وتتأكد حرمته إذا صاحبه ذلك، وكان ما قام به ابن أبي قحافة ابتزازاً، لا غصباً فقط، كما صرحت الصديقة (علیها السلام) بذلك.
والابتزاز: هو الاستلاب وأخذ الشيءبالقهر والغلبة والتهديد.
مسألة: إن حرمة الغصب تتأكد أيضاً فيما إذا كان متعلقه حقاً لغير واحد، وعلى ذلك تكون العقوبة أشد..
ولم تكن جريمة ابن أبي قحافة مقتصرة على غصبه فدكاً من الصديقة الزهراء (علیها السلام) ولم يكن غصبه تعدياً على حقها فحسب، بل كان تعدياً على رسول الله (صلي الله عليه و آله) أيضاً، وعلى الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام)، وتعدياً على القرآن ورسالة السماء، بل على الباري عزوجل.
ولذلك أشارت الصديقة (علیها السلام) بقولها: «يبتزني نحلة أبي وبلغة ابنيّ...».
ولا يخفى أن الجماعة لم يأخذوا فدكاً والعوالي فحسب، وإنما منعوا أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) حتى من الخمس المقرر لهم، ولعل قولها (عليها الصلاة والسلام): (بلغة ابنيّ) إشارة إلى الأمرين.
قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنا
ص: 421
..............................
عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).
مسألة: كلما تجدد للغصب مصداق - عرضي أو طولي - تجددت للغاصب حرمة وعقوبة.
فلو غصب(2) مالاً من زيد، فمات وورثه أبناؤه استحق الغاصب عقوبة أخرى على غصبه مالهم الذي كان ملكاً للمورّث المغصوب منه.
وذلك نظير «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(3).
ولعل لذلك أشارت الصديقة (علیها السلام) بقولها: «يبتزني.. بلغة ابنيّ» إذ أن النحلة كانت ملكاً لها (علیها السلام) وبعد شهادتها ورثها الحسنان (علیهما السلام) وكان المفروض أن يكون بلغة لهما (علیهما السلام).
مسألة: من الواضح أن هدف الصديقةالزهراء (علیها السلام) لم يكن المادة والدنيا، وينبغي بيان ذلك.
بل كان من أهدافها:
أ: إحقاق الحق وبيان الواقع، أمانة للناس والتاريخ.
ص: 422
..............................
ب: من المحبوب عند الله تعالى عمران الدنيا والآخرة معاً، قال سبحانه: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا»(1).
وقال تعالى: «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا»(2).
فالمطالبة بمتاع الدنيا الحلال لاتخاذه جسراً إلى الآخرة فضيلة مضاعفة، فإن فدك والعوالي كان واردهما كبيراً، إذ كانتا قريتين كبيرتين وفيهما البيوت والأشجار والمزارع وغيرها، حتى ذكر بعض المؤرخين أن واردها كان سبعين ألف دينار ذهباً، فإذا كانت في أيدي الحسن والحسين (عليهما الصلاة والسلام) كانا يقومان بالإنفاق على فقراء المسلمين وحوائجهم، وعلى الدفاع عن المظلومين، وعلى رفع رايةالحق والدين المبين، ونشر تعاليمه وأحكامه، بينما إذا أعوزهما المال انتفى الإنفاق بقدره على الفقراء والمحتاجين، ولم يكن للحق ما يدعمه اقتصادياً.
ج: النهي عن المنكر، لأن السكوت عن الغصب سكوت عن المنكر، والنهي عنه واجب ولو في أدنى مراتبه.
د: إن الحق كان حقاً لابنيها الحسنين (علیهما السلام) أيضاً، إذ كانت فدك بلغة لهما، ولو جاز سكوت المرء عن حقه لم يجز سكوته عن حق من يتعلق به.
ه-: إن فضح غاصبي فدك هو فضح لسائر أعمالهم وممارساتهم ولغصبهم الخلافة أيضاً كما سبق، وهذا هو أهم الأهداف لكي يتبين للأمة الطريق الصحيح
ص: 423
..............................
لرسالة رسول الله (صلي الله عليه و آله) دون المزيفين والذين غصبوا الخلافة وحكموا باسم الدين وباسم الرسول الكريم (صلي الله عليه و آله).
قولها (علیها السلام): «يبتزني نحلة أبي...» (يبتزني): أي يسلبني بالقهر والغلبة ويأخذه مني، و(النحلة): الهبة والعطية، والنُحيلة تصغيرها، وحيث لم يكن هذا في مقامالاحتجاج صرحت (عليها الصلاة والسلام) بأن فدك نحلة.
و(البلغة): ما يبلغ الإنسان به حاجته من العيش ويكتفي به.
والمراد ب- (ابنيَّ): الحسن والحسين (صلوات الله عليهما).
ولا يخفى أن (البلغة) ليست بلغة العيش الشخصي، بل هي بالمعنى الأعم الشامل لما يبلغ به الإنسان هدفه.
لا يقال:لماذا لم تذكر (عليها الصلاة والسلام) البنتين:زينب وأم كلثوم(علیهما السلام).
لأنه يقال:
أولاً: لما ذكرناه من أن الهدف من استرجاع فدك هو القيام بقضاء الحوائج ودعم الخلافة الحقة، وكان القائم بذلك الحسنان (عليهما الصلاة والسلام) بعد أبيهما أمير المؤمنين (علیه السلام).
وثانياً: إن البنت - عادةً - تتزوج وتكون في كفالة الزوج ومسئوليته.
مسألة: إن الله سبحانه لما جعل في عالم التكوين بعض الأمور سبباً وبعضها الآخر مسبباً فلا يتحقق المسبب بغير السبب، ولا يؤثر السبب في غير المسبب، مثلاً النار علة الإحراق فلا غير النار - وما شابهها - يحرق، ولا النار تفعل غير الإحراق، إلا بمشيئته سبحانه..
ص: 424
..............................
كذلك جعل الأمر في عالم التشريع والاعتبار، فلايتحقق النكاح بوضع الرجل يده على رأس من يريد أن يتزوجها، ولا الطلاق برفع اليد مثلاً، بل لابد من اللفظ الشرعي الذي اعتبره الشارع سببا له.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام»(1).
وهذا ما يمكن أن يستفاد من قول الصديقة (علیها السلام): «بلغة ابنيَّ» فليدقق. فإن فدك كان سبباً للبلغة وما أشبه. والمطالبة بها مطالبة بالبلغة.
لا يقال: يصح ذلك في اعتبار العقلاء، فإن أي نحو وضعوا الاعتبار يكون كذلك، كما نرى ذلك في النقود حيث تعتبر الدولة الورقة النقدية الخاصة تعادل كذا، والتي لها لون آخر تعادل مبلغاً آخر، ولها قوة شرائية معينة زيادة أو نقيصة أو مساواة وموازاة، أي لعملة أخرى.
لأنه يقال: (اعتبار خصوصية) قد يكون لخصوصية لا نعلمها، وقد لايكون ذلك لاعتبار خصوصية خاصة، إلا أن اعتبار تلك الخصوصية كان من باب أنهافرد ومصداق، وحيث أريد التنسيق وضرب القانون جعل الفرد الخاص و(اعتبر) هو المقياس حتى لايقع الاضطراب، فإذا كان يكفي في النظافة(2) فرضاً ثلاث مرات من الوضوء، فيصح - بما هو هو - أن يجعل في ثلاثة أوقات مهما كانت، لكن إعطاء اختياره بيد الناس يسبب الاضطراب بأن يتوضأ زيد في الساعة الأولى ويستأنف كل ثمان ساعات، وعمرو في الساعة الثانية وهكذا، وعامر في الساعة الثالثة وهكذا مما يخل بالنظم العام والمظهر الجامع - وهذا المثال
ص: 425
..............................
لتقريب الذهن فقط كما لا يخفى - فالتنسيق منضماً إلى التكوين في النظافة سبباً هذا الجعل الخاص.
وبهذا تبين أن كون الشمس تنير العالم، والمطر يروي الأرض، ليس معناه الإطلاق والعلية التامة، بل بشرطها وشروطها، ومنها عدم الموانع، فإنهما لايؤثران تلك التأثيرات في داخل الكهوف وأعماق البحار، ولا الأماكن المسقفة وما إلى ذلك..
وهكذا يكون حال الدعاء مثل:(اللهم اغن كل فقير) و(أشبع كل جائع)(1) ففي مائة مليون فقير وجائع مثلاً يؤثر هذا الدعاء في الموضع القابل، فإن قابلية القابل شرط، وهي أيضاً - على تقدير وجودها - على درجات كما قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2) فليس الدعاء بلا أثر إطلاقاً، كما وليس مؤثراً بنحو مطلق وعلة تامة، حاله حال التكوين فليس الدواء الفلاني مؤثراً إطلاقاً ولا بدون أثر إطلاقاً، فإن البلاء كالنعمة ينزلان كقطر المطر - كما قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالنسبة إلى البلاء(3) - ففي الموضع القابل يؤثر كل واحد منهما(4) أثره، وهذا ما عبر عنه الحكماء والمتكلمون بفاعلية الفاعل وقابلية القابل..
ومن المعلوم أنه اعتبر - ارتكازاً أو ما أشبه - الشرط والمعد والمانع والقاطع
ص: 426
..............................
في الكليتين المذكورتين، فكون فدك بلغة الحسنين (علیهما السلام) من هذا الباب، فلايقال إنها (علیها السلام) كانت زاهدة ومتوكلة على الله سبحانه فلماذا نطقت بهذا الكلام وطالبت بفدك؟.
مسألة: يستحب للوالدة - وكذا الوالد - الاهتمام ببلغة الأبناء، أي ما يتبلغ به من العيش ويكتفى به، وهو سبب بلوغ العمر إلى الغاية والأجل إلى النهاية.
وهذا من فلسفة توزيع الإرث على الورثة فإنه بلغة لهم.
عن عامر بن سعد، عن أبيه: أنه مرض بمكة مرضة أشفى منها فعاده رسول الله (صلي الله عليه و آله). فقال: يا رسول الله، ليس يرثني إلا البنت، أفأوصي بثلثي مالي؟. فقال: «لا». قال: أفأوصي بنصف مالي؟. - وفي رواية: بشطر مالي؟- فقال: «لا». فقال: أفأوصي بثلث مالي؟. فقال (صلي الله عليه و آله): «بالثلث، والثلث كثير - وقال - إنك أن تدع أولادك أغنياء خيراً من أن تدعهم عالة يتبلبون الناس»(1).
وروى السكوني عن جعفر بن محمد(علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الوصية بالخمس؛ لأن الله عزوجل رضي لنفسه بالخمس - وقال - الخمس اقتصاد، والربع جهد، والثلث حيف»(2).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من لم يحسن عند الموت وصيته كان نقصاً في مروءته وعقله - قال: - وإن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أوصى إلى علي (علیه السلام)، وأوصى علي إلى الحسن، وأوصى الحسن إلى الحسين، وأوصى الحسين
ص: 427
..............................
إلى علي بن الحسين، وأوصى علي بن الحسين إلى محمد بن علي (علیهم السلام) »(1).
وعن علي (صلوات الله عليه) أنه قال: «من أوصى بأكثر من الثلث أو أوصى بماله كله فإنه لايجوز، ويرد إلى المعروف غير المنكر، فمن ظلم نفسه في الوصية وخاف فيها فإنها ترد إلى المعروف،ويترك لأهل الميراث حقهم»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من أوصى ولم يحف ولم يضاد كان كمن تصدق به في حياته - وقال: - ما أبالي أضررت بورثتي أو سرقتهم ذلك المال»(3).
وعن ثوبان، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أفضل دينار: دينار أنفقه الرجل على عياله، ودينار أنفقه على دابته في سبيل الله، ودينار أنفقه على أصحابه في سبيل الله - ثم قال: - وأي رجل أعظم أجراً من رجل سعى على عياله صغاراً يعفهم ويغنيهم الله به»(4).
وعن الحسن بن علي الحلال، عن جده، قال: سمعت الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) يقول: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «ابدأ بمن تعول: أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك فأدناك، - وقال: - لا صدقة وذو رحم محتاج»(5).
ص: 428
مسألة: الإرهاب أحد أهم عوامل تراجع نصرة الناس للمظلوم وهو من أكبر المحرمات، وهذا ما قام به ابن أبي قحافة تماماً (لقد أجهد.. وكان الألد)؛ لأن امتناع القوم من نصرة الصديقة (علیها السلام) كان خوفاً من الحاكم، حيث رأوه أجهد في خصامها وألدّ في كلامها.. ولهذا انسحبوا، كما هو عادة الناس غالباً إذا رأوا أن القوة الحاكمة مصرة على موقفها، فإنهم يتحاشون إغضابها والوقوف بوجهها رعاية لمصالحهم الشخصية وما أشبه.
مسألة: يحرم منع الآخرين عن نصرة المظلوم.
فإن مصادرة الحق وغصبه حرام، ومنع الذين يتمكنون من إرجاع الحق إلى صاحبه حرام آخر.
مسألة: امتناع القوم عن نصرة أهل البيت (علیهم السلام)كان حراماً، بل هومن أشد المحرمات، والأدلة عليها كثيرة، يكفي منها أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) طلب منهم - بأمر من الله عزوجل - كأجر للرسالة مودة أهل البيت (علیهم السلام) والمودة هي إظهار المحبة، قال تعالى: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(2) ويا للعجب
ص: 429
..............................
من كيفية عملهم بوصية رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.
مسألة: ينبغي بيان أن ابن أبي قحافة كان أشد خصوم فاطمة الزهراء(علیها السلام) وأجهدهم في خصامها، وذلك بتصريح الصديقة الصادقة المصدقة (علیها السلام).
وكيف يجوز للأشد عداوة لسيدة النساء (علیها السلام) أن يتصدى لخلافة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وقد قال تعالى: «لاَ يَنَالُعَهْدِي الظَّالِمِينَ»(1) ؟.
قال الإمام الصادق (علیه السلام) في وصف الثاني إنه: «سيئة من سيئات الأول»(2).
قولها (علیها السلام): «خصامي» الخصام مصدر بمعنى المخاصمة، ويمكن أن يكون جمع الخصم.
عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: قلت له: أسألك جعلت فداك عن ثلاث خصال أنفي عني فيه التقية، قال: فقال: ذلك لك، قلت: أسألك عن فلان وفلان؟ قال: فعليهما لعنة الله بلعناته كلها ماتا والله وهما كافران مشركان بالله العظيم»(3).
وقال علي بن إبراهيم: فقال الله عزوجل: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(4) قال: يحملون آثامهم يعني
ص: 430
..............................
الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیهالسلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وهو قول الصادق (علیه السلام): «والله ما أهريقت محجمة من دم، ولا قرع عصاً بعصا، ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حله، إلا ووزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العاملين بشيء»(1).
وقال علي بن إبراهيم: في قوله: («يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» فإنها كناية عن الذين غصبوا آل محمد حقهم، «يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ» يعني في أمير المؤمنين (علیه السلام)، «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ» وهما رجلان، والسادة والكبراء هما أول من بدا بظلمهم وغصبهم، وقوله: «فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ» أي: طريق الجنة، والسبيل أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم يقولون «رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً»(2)(3).
وجاء في تفسير قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ»، قال العالم (علیه السلام): «من الجن، إبليس الذي أشار على قتلرسول الله (صلي الله عليه و آله) في دار الندوة وأضل الناس بالمعاصي، وجاء بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلى فلان فبايعه، ومن الإنس فلان «نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ»(4)»(5).
ص: 431
-------------------------------------------
مسألة: دراسة التاريخ أمر واجب في الجملة، للعديد من الأدلة(1) ومن مصاديقه:
معرفة الشخصيات الفاعلة سلباً وإيجاباً للتأسي بالصالحين منهم وتجنب الضالين، ولذلك ولغيره سلطت الصديقة الزهراء (علیها السلام) الأضواء على شخصية خصمها فقالت: «لقد أجهد.. وألد..».
ويعرف من كلامها (علیها السلام) هذا: إن الرأس والعقل المخطط لكل تلك المؤامرات كان هو ابن أبي قحافة، كما يعرف من كلامها (علیها السلام) أن ما يتصوره البعض من أنه كان ليناً مدارياً على عكس صاحبه حيث كان خشناً،غير صحيح فإنها (علیها السلام) تصرح ب- «لقد أجهد في خصامي.. وألفيته الألد في كلامي».
مسألة: يستفاد من قول الصديقة (علیها السلام): (أجهد) أي بذل غاية الجهد في خصام الزهراء (علیها السلام)، ومنه يعرف أن ما قالوه من كونها (كانت فلتة..) ليس على ظاهره، بل كان أمراً مخططاً دُبر له بليل وعن سابق عمد وإصرار.. مع الالتزام بكل لوازمه بما فيه بذل غاية الجهد في خصام بضعة الرسول (صلي الله عليه و آله) وسيدة
ص: 432
..............................
نساء العالمين (علیها السلام).
كما يعرف أن الأول شحذ كل طاقاته، وحرك كل خيوطه، وقام بكل ما لا يصح من وراء الكواليس، كما كان هو الواجهة أيضاً (أجهد.. ألفيته..)، وإن حاول التستر خلف شخصيات أخرى، وخلف دعوى أن المسلمين هم الذين دفعوه لذلك.
وهذا هو ديدن الحكومات الجائرة، فإنها تحاول القضاء على المصلحين أو تحديدهم بكل الصور وبشتى الأساليب الخفية والظاهرة.
وعلى المصلحين أن يعدوا أنفسهم لذلك، ويعرفوا أن طريق الله صعب، وأن أمرهم (علیهم السلام) مستصعب(1)، فلاتهولنهم مخاوف الدرب، وليتأسوا بالصديقة الكبرى (علیها السلام) في مقارعة الظالمين ومجاهرتهم بكلمة الحق.
مسألة: لو لم يكن لنا من التاريخ ومن الروايات أي خبر وحديث إلا قولها (علیها السلام) هذا عن ابن أبي قحافة، لكفى في الكشف عن حقيقته، وفي معرفة هويته ومدى حجم جنايته وخصامه لبضعة رسول الله (صلي الله عليه و آله).
قولها (علیها السلام): «وألفيته...» أي وجدته، و(الألد): شديد الخصومة، أي وجدت ابن أبي قحافة شديد الخصومة معي.
ص: 433
..............................
مسألة: يحرم خصام الصديقة فاطمة (علیها السلام)؛ فإن من خاصمها خاصم رسول الله (صلي الله عليه و آله)، ومن خاصمه خاصم الله عزوجل على ما يستفاد من الروايات الشريفة.
عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله (صلي الله عليه و آله) أي النساء أحب إليك؟. قال: «فاطمة». قلت: من الرجال؟. قال: «زوجها»(1).
وعن السلامي مسنداً: أن جميعاً التيمي قال: (دخلت مع عمتي على عائشة. فقالت لها عمتي: ما حملكِ على الخروج على علي؟. فقالت عائشة: دعينا، فو الله ما كان أحد من الرجال أحب إلى رسول الله من علي، ولا من النساء أحب إليه من فاطمة)(2).
وقال علي بن إبراهيم القمي: وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(3)، قال: نزلت فيمن غصب أميرالمؤمنين (علیه السلام) حقه وأخذ حق فاطمة (علیها السلام) وآذاها، وقد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «من آذاها في حياتي كمن آذاها بعد موتي، ومن آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي، و من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله»، و هو قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الآية، وقوله: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
ص: 434
..............................
وَالْمُؤْمِنَاتِ» يعني علياً وفاطمة «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً»(1) وهي جارية في الناس كلهم(2).
وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام) عن جده (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(3).
وعن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال (علیه السلام): «إن رسول الله (صلي الله عليه و آله) دخل على ابنتهفاطمة (علیها السلام) وإذا في عنقها قلادة، فأعرض عنها فقطعتها ورمت بها، فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله): أنتِ مني يا فاطمة. ثم جاء سائل فناوله القلادة، ثم قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): اشتد غضب الله على من أهرق دمي وآذاني في عترتي»(4).
وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: سمعت سعد بن مالك - يعني: ابن أبي وقاص - يقول: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «فاطمة بضعة مني، من سرها فقد سرني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعز البرية عليَّ»(5).
وعن الزهري، وابن أبي مليكة، والمسور بن مخرمة: أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «إنما فاطمة شجنة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها»(6).
ص: 435
..............................
وعن مجاهد، قال: خرج رسول الله (صلي الله عليه و آله) وقد أخذ بيد فاطمة (علیها السلام)، وقال: «من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي الذي بين جنبي، فمنآذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(1).
وعن أبي خالد عمرو بن خالد الواسطي، قال: حدثني زيد بن علي (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: حدثني أبي علي بن الحسين (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: سمعت أبي الحسين بن علي (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) وهو آخذ بشعره، قال: «من آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل، ومن آذى الله عزوجل لعنه ملأ السماوات وملأ الأرض، وتلا: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(2)»(3).
ص: 436
مسألتان: يحرم حبس النصرة عن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) كما يحرم حبس صلتها (علیها السلام)، وقد ارتكب القوم هاتين المعصيتين الكبيرتين، فحبست الأنصار نصرها وحبست المهاجرة وصلها.
وصلة الصديقة (علیها السلام) أوجب من صلة الأرحام كما هو واضح، وفي الحديث القدسي أوحى الله إلى موسى (علیه السلام) في المناجاة: «...واقرن مع ذلك صلة الأرحام؛ فإني أنا الله الرحمن الرحيم، والرحم أنا خلقتها فضلاً من رحمتي ليتعاطف بها العباد، ولها عندي سلطان في معاد الآخرة، وأنا قاطع من قطعها وواصل من وصلها، وكذلك أفعل بمن ضيع أمري...»(2).
وعن رسول الله(صلي الله عليه و آله) عن جبرئيل عن الله تعالى: «أنا الرحمن شققت الرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته»(3).قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(4).
وفي (الكافي): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني وهي رحم آل محمد، وهو قول الله عزوجل: «الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
ص: 437
..............................
بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(1)، ورحم كل ذي رحم»(2).
وعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(3)؟.
قال (علیه السلام): «نزلت في رحم آل محمد (صلي الله عليه و آله)»(4).
وعن محمد بن الفضيل، قال: سمعت العبد الصالح (علیه السلام) يقول: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(5)،قال:
«هي رحم محمد وآل محمد (علیهم السلام) معلقة بالعرش، تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني»(6).
وعن ابن مريم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(7)؟. قال: «من ذلك صلة الرحم، وغاية تأويلها صلتك إيانا»(8).
قولها (علیها السلام): «حتى حبستني» (حتى) بمعنى: الغاية، يعني: إن ابن أبي قحافة خاصمني وبلغ في الخصومة درجة حتى أن الصحابة خافوا من نصرتي
ص: 438
..............................
والوقوف إلى جانبي، رغم معرفتهم بمكانتي من رسول الله (صلي الله عليه و آله) وبمنزلتي عند رب السماوات والأرض، وقد قال (صلي الله عليه و آله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(1).و«قيلة» أي: بنو قيلة، وهي اسم أم الأوس والخزرج، وقد تقدم أنهما قبيلتان من الأنصار.
قولها (علیها السلام): «والمهاجرة» أي الطائفة المهاجرة، والمراد بهم: المهاجرون من مكة، أو المهاجرون من مختلف البلاد الذين كانوا قادمين إلى المدينة المنورة في زمان الرسول (صلي الله عليه و آله)..
و«وصلها»: بمعنى عونها، فإنهم امتنعوا عن معونتها وصلتها.
ص: 439
-------------------------------------------
مسألة: اتخاذ موقف الحياد أمام ظلم الظالم محرم، وقولها (علیها السلام): «وغضت الجماعة دوني طرفها» كناية عن وقوف القوم موقف الحياد تجاه الصراع الذي دار بين ابن أبي قحافة وبين الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام)، ويستفاد منه حرمة (غض الطرف عن نصرة المظلوم)(1).
وقد يكون في كلامها (علیها السلام) تلميح إلى ما سيحيق بالقوم، حيث إن من يغض بصره لا يرى أمامه فلا يتخذ التدبير اللازم في مسيره، فيكون للكلام - بهذا اللحاظ - دلالة تحذيرية مما سيترتب على سكوتهم من الآثار السيئة والمخاطر الدنيوية، إضافة للعواقب الأخروية، وذلك كما في (الضبع) التي تنام على طول اللدم(2)؛ فإن من سنن اللهتعالى: أن من يسكت على الظلم يلحقه الذل والعار ويلقى العنتَ في الدنيا قبل الآخرة.
ومن ذلك يعرف أن ما يذهب إليه البعض من التزامهم بالحياد أمام الظالم بتذرع عدم التدخل في السياسة غير صحيح، إذ أنه إضافة إلى حرمته الذاتية، لايجنبهم المخاطر التي منها فروا، بل الأمر بالعكس تماماً.
ص: 440
..............................
قال مولى الموحدين (عليه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(1).
نعم قد تكون هناك ظروف التقية وما أشبه، فيلزم فيها مراعاة الموازين الشرعية.
عن عمرو بن قيس المشرقي، قال: دخلت على الحسين (عليه السلام) أنا وابن عم ليوهو في قصر بني مقاتل. فسلّمنا عليه فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله، هذا الذي أرى خضاب أو شعرك؟!. فقال: «خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل». ثم أقبل علينا فقال: «جئتما لنصرتي؟». فقلت: إني رجل كبير السن، كثير الدَين، كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيع أمانتي. وقال له ابن عمي مثل ذلك. قال (عليه السلام) لنا: «فانطلقا فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً؛ فإنه من سمع واعيتنا، أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يعنا، كان حقاً على الله عزوجل أن يكبه على منخريه في النار»(2).
وروى ابن رياح، قال: لقيت رجلاً أعمى قد حضر قتل الحسين (عليه السلام)، فسُئل عن ذهاب بصره؟. قال: كنت عاشر عشرة غير أني لم أضرب ولم أرمِ، فلما رجعت إلى منزلي وصليت فأتاني آتٍ في منامي، فقال: أجب رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقلت: ما لي وله، فأخذني يقودني إليه. فإذا هو جالس في صحراء حاسر عن ذراعيه آخذ بحربة، وملك قائم بين يديه وفي يده سيف من نار فقتل
ص: 441
..............................
أصحابي، فكلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً. فدنوت وجثوت بين يديه وقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليَّ، ومكث طويلاً ثم رفع رأسه وقال: «يا عبد الله، انتهكت حرمتي وقتلت عترتي ولم ترع حقي»!. فقلت: يا رسول الله، والله ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم. قال: «صدقت ولكنك كثّرت السواد، ادن مني». فدنوت فإذا طشت مملوء دماً، فقال: «هذا دم ولدي الحسين»، فكحلني منه، فانتبهت لا أرى شيئاً(1).
وقال السدي لرجل: أنت تبيع القطران(2)؟!. قال: والله ما رأيتالقطران، إلا أنني كنت أبيع المسمار في عسكر عمر بن سعد في كربلاء. فرأيت في منامي رسول الله » وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يسقيان الشهداء، فاستسقيت علياً (عليه السلام) فأبى، فأتيت النبي » فاستسقيت فنظر إليَّ وقال: «أ لست ممن أعان علينا». فقلت: يا رسول الله، إنني محترق ووالله ما حاربتهم. فقال: «اسقه قطراناً». فسقاني شربة قطران، فلما انتبهت كنت أبول ثلاثة أيام القطران، ثم انقطع وبقيت رائحته(3).
وقال الشعبي: رأيت رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم اغفر
ص: 442
..............................
لي ولا أراك تغفر لي. فسألته عن ذنبه؟. فقال: كنت من الوكلاء على رأس الحسين (عليه السلام) وكان معي خمسون رجلاً، فرأيت غمامة بيضاء من نور وقد نزلت من السماء إلى الخيمة وجمعاً كثيراً أحاطوا بها، فإذا فيهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى (علیهم السلام)، ثم نزلت أخرى وفيها النبي (صلی الله علیه و آله) وجبرائيل وميكائيل وملكالموت (علیهم السلام). فبكى النبي » وبكوا معه جميعاً، فدنا ملك الموت وقبض تسعاً وأربعين فوثب عليَّ فوثبت على رجلي، وقلت: يا رسول الله، الأمان الأمان فو الله ما شايعت في قتله ولا رضيت. فقال: «ويحك وأنت تنظر إلى ما يكون». فقلت: نعم. فقال: «يا ملك الموت، خل عن قبض روحه؛ فإنه لابد أن يموت يوماً». فتركني وخرجت إلى هذا الموضع تائباً على ما كان مني(1).
مسألة: يحرم غض البصر عن نصرة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، كما يحرم عدم نصرة أهل البيت (علیهم السلام).
والمسألة هذه من مصاديق الكلي المتقدم، والإفراد بالذكر للأهمية وللآكدية ولشدة الحرمة؛ فإن المظلوم إذا كان من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فإن غض الطرف عن التهجم عليهم أو التنقيص من قدرهم يكون أكثر حرمة، والنصرة أشد وجوباً، فكيف بالصديقة فاطمة (علیها السلام) وهي حجة الله على أهل البيت (علیهم السلام).قال الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام): «احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في
ص: 443
..............................
اليتيمين - قال: - وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً(1)»(2).
وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: «لما نزلت هذه الآية: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ(3). قال المسلمون: يا رسول الله، ألستَ إمام الناس كلهم أجمعين؟. قال: فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذَّبون ويَظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدّقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء»(4).
وعن زيد بن علي بن الحسين (علیهمالسلام) قال: قرأ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا(5)، ثم قال: «حفظهما ربهما لصلاح أبيهما، فمن أولى بحسن الحفظ منا، رسول الله (صلی الله علیه و آله) جدنا، وابنته سيدة نساء الجنة أُمنا، وأول من آمن بالله ووحّده وصلّى أبونا»(6).
وعن الكلبي ولوط بن يحيى الأزدي: أن ابن قيس بن زرارة الشاذي - فخذ من همدان - قدم على علي (عليه السلام) فأخبره بخروج بُسر. فندب علي (عليه السلام) الناس
ص: 444
..............................
فتثاقلوا عنه، فقال: «أتريدون أن أخرج بنفسي في كتيبة تتبع كتيبة في الفيافي والجبال، ذهب والله منكم أولو النهى والفضل الذين كانوا يُدعون فيجيبون، ويُؤمرون فيطيعون، لقد هممت أن أخرج عنكم فلا أطلب بنصركم ما اختلف الجديدان». فقام جارية بن قدامة فقال: أنا أكفيكهم يا أمير المؤمنين. فقال: «أنت لعمري لميمونالنقيبة، حسن النية، صالح العشيرة». وندب معه ألفين وقال بعضهم ألفا، وأمره أن يأتي البصرة فيضم إليه مثلهم(1).
وفي رواية عن أبي الوداك، قال: قدم زرارة بن قيس فخبر علياً (عليه السلام) بالقدمة التي خرج فيها بسر. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس إن أول فرقتكم وبدء نقصكم ذهاب أولي النهى وأهل الرأي منكم، الذين كانوا يلقون فيصدقون، ويقولون فيعدلون، ويُدعون فيجيبون، وأنا والله قد دعوتكم عوداً وبدءً، وسراً وجهاراً، وفي الليل والنهار، والغدو والآصال، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً وإدباراً. أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة، وإني لعالم بما يُصلحكم ويقيم أودكم، ولكني واللّه لاأصلحكم بفساد نفسي، ولكن أمهلوني قليلاً فكأنكم والله بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذبكم، فيعذبه الله كما يعذبكم. إن مِن ذُلّ المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيُجاب، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار وتدافعون، ما هذا بفعل المتّقين. إن بُسر بن أبي أرطاة وجه إلى الحجاز، وما بُسر (لعنه الله)لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردوه عن سننه، فإنما خرج في ستمائة أو يزيدون».
ص: 445
..............................
قال: فأسكت القوم ملياً لا ينطقون. فقال: «ما لكم مخرسون لاتكلمون»(1).
وفي (نهج البلاغة) لما تواترت الأخبار على أمير المؤمنين (عليه السلام) باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما: عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران، قام (عليه السلام) على المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي، فقال (عليه السلام):
«أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَبِأَدَائِهِمُ الأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ، وَبِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَفَسَادِكُمْ، فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ. اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي. اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْكَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ»(2).
مسألة: لا فرق فيما ذكر من حرمة اتخاذ موقف الحياد، بين الحاضر والماضي وحتى المستقبل (كأخبار الظهور)، كما إذا كان الهجوم تاريخياً، فلا يصح الفرار من النصرة بدعوى أنها قضايا تاريخية أكل الدهر عليها وشرب، إذ:
ص: 446
..............................
أولاً: إن من منهج القرآن الكريم هو التطرق إلى التاريخ وذكر الأنبياء والأولياء (علیهم السلام) الماضين من جهة، وذكر الطغاة والأعداء كذلك وذمهم ولعنهم من جهة أخرى.
ثانياً: لقانون التأسي وعدمه، فالحديث عن الصالحين ليتخذوا أسوة، والحديث عن الفراعنة ليُجتنبوا.
ثالثاً: إن عدم فضح عدو الله والظالم المتستر بلباس الدين، يجعل سائر أقواله وأفعاله حجة وربما استمرتللأجيال القادمة أو مدى الدهر.
رابعاً: القدح والمدح يقعان في سلسلة الأجر والعقاب اللذين قررهما الله تعالى للصالحين والطالحين في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك طلب إبراهيم (عليه السلام) من الله الذكر الحسن: ]وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ»(1)، وقال تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ»(2).
خامساً: المستقبل وليد الماضي بنحو المقتضي(3).
إلى غير ذلك مما هو مذكور في دراسة التاريخ وخاصة ما يرتبط بالمعتقدات.
في الحديث الشريف: «من ورخ مؤمناً فقد أحياه»(4). وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) كما في (نهج البلاغة):
ص: 447
..............................
«أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ، وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا؛ فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ، فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ»(1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه للمفضل: «تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه وينتجه فكره، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه. ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء، ولا تفهم عن مخبر شيئاً. وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين، وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب فيالعلوم والآداب وغيرها»(2).
مسألة: المراد من (الجماعة) في قولها (علیها السلام): «وغضت الجماعة دوني طرفها» الأوس والخزرج والكثير من المهاجرين والأنصار، وليس المراد جميع المسلمين ولا أكثرهم، ولا جميع أهل الحل والعقد ولا أكثرهم، إذ:
ص: 448
..............................
أولاً: كان أكثر المسلمين خارج المدينة المنورة - وقت الحدث - وكان مجموع أهل المدينة أقلية بالقياس إلى كل المسلمين(1).
وثانياً: كان أهل البيت (علیهم السلام) من المعارضين للغاصبين، ومن أشد المناصرين للصديقة الطاهرة (علیها السلام).
وثالثاً: كان العديد من كبار الصحابة من المناصرين للصديقة فاطمة (علیها السلام) كسلمان وعمار وأبي ذروالمقداد وغيرهم (رضوان الله عليهم).
ثم لو فرض أن المراد من (الجماعة) هو عامة المسلمين لكان كلامها (علیها السلام) دليلاً قاطعاً على بطلان ما ذهب إليه العامة من أن جماعة المسلمين معصومة، اللهم إلاّ جماعة المسلمين التي تضم في ضمنها أهل البيت (علیهم السلام) فإنها هي المعنية بقوله (صلی الله علیه و آله): «لا تجتمع أمتي على خطأ»(2)، وذلك(3) هو وجه حجية الإجماع عندنا، إذ المحور هو دخول المعصوم (عليه السلام) بينهم حدساً أو تشرفاً أو حساً ... الخ، فالإجماع ليس دليلاً مستقلاً بل هو كاشف عن السنة على ما ذكره الأصوليون، وتفصيل الكلام في علم الأصول.
قولها (علیها السلام): «وغضّت...» أي كأنهم لم يروني ولم يسمعوا كلامي، وهذه كناية عن عدم الدفاع عنها (علیها السلام) والوقوف إلى جانبها.
وفي (إرشاد القلوب): روي عن الصادق (عليه السلام): «أن أبا بكر لقي أمير المؤمنين (عليه السلام) في سكة من سكك بني النجار فسلّ-م عليه وصافحه. وقال له:
ص: 449
..............................
يا أبا الحسن، أفي نفسك شيء من استخلاف الناس إياي وما كان من يوم السقيفة وكراهيتك للبيعة، والله ما كان ذلك من إرادتي إلا أن المسلمين أجمعوا على أمر لم يكن لي أن أخالفهم فيه؛ لأن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لا تجتمع أمتي على الضلال!.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر، اُمته الذين أطاعوه في عهده من بعده، وأخذوا بهداه، وأوفوا بما عاهدوا الله عليه، ولم يغيروا ولم يبدلوا.
قال له أبو بكر: والله يا علي لو شهد عندي الساعة من أثق به أنك أحق بهذا الأمر سلمته إليك، رضي من رضي وسخط من سخط!.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر، هل تعلم أحداً أوثق من رسول الله وقد أخذ بيعتي عليك في أربعة مواطن، وعلى جماعة منكم وفيهم عمر وعثمان: في يوم الدار، وفي بيعه الرضوان تحت الشجرة يوم جلوسه في بيت أم سلمة، وفي يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، فقلتم بأجمعكم: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله. فقال لكم: الله ورسوله عليكم من الشاهدين. فقلتمبأجمعكم: الله ورسوله علينا من الشاهدين. فقال لكم: فليشهد بعضكم على بعض، وليبلغ شاهدكم غائبكم، ومن سمع منكم فليسمع من لم يسمع. فقلتم: نعم يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقمتم بأجمعكم تهنون رسول الله » وتهنوني بكرامة الله لنا، فدنا عمر وضرب على كتفي وقال بحضرتكم: بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى المؤمنين؟.
فقال أبو بكر: ذكرتني أمراً يا أبا الحسن لو يكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) شاهداً فأسمعه منه.
ص: 450
..............................
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ورسوله عليك من الشاهدين، يا أبا بكر إن رأيت رسول الله » حياً يقول لك: إنك ظالم في أخذ حقي الذي جعله الله ورسوله لي دونك ودون المسلمين أن تسلم هذا الأمر إليَّ وتخلع نفسك منه.
فقال أبو بكر: يا أبا الحسن، وهذا يكون! أن أرى رسول الله » حياً بعد موته فيقول لي ذلك!.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): نعم يا أبا بكر.
قال: فأرني إن كان ذلك حقاً.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): واللهورسوله عليك من الشاهدين إنك تفي بما تقول؟. قال أبو بكر: نعم.
فضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) على يده، وقال: تسعى معي نحو مسجد قبا. فلما ورده تقدّم أمير المؤمنين (عليه السلام) فدخل المسجد وأبو بكر من ورائه، فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في قبلة المسجد، فلما رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشي عليه، فناداه رسول الله (صلی الله علیه و آله): ارفع رأسك أيها الضليل المفتون.
فرفع أبو بكر رأسه وقال: لبيك يا رسول الله، أحياة بعد الموت يا رسول الله!.
فقال: ويلك يا أبا بكر، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1). قال: فسكت أبو بكر وشخصت عيناه نحو رسول الله (صلی الله علیه و آله).
فقال: ويلك يا أبا بكر، أنسيت ما عهدت الله ورسوله عليه في المواطن الأربع لعلي (عليه السلام).
ص: 451
فقال: ما نسيتها يا رسول الله.
فقال: ما بالك اليوم تناشد علياً فيها ويذكرك فتقول نسيت؟.
وقص عليه رسول الله » ما جرى بينه وبين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى آخر،فما نقص منه كلمة وما زاد فيه كلمة.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، فهل من توبة، وهل يعفو الله عني إذا سلمت هذا الأمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)؟.
قال: نعم يا أبا بكر، وأنا الضامن لك على الله ذلك إن وفيت.
قال: وغاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنهما.
فتشبث أبو بكر بعلي (عليه السلام) وقال: الله، الله فيَّ يا علي سر معي إلى منبر رسول الله » حتى أعلو المنبر وأقص على الناس ما شاهدت ورأيت من أمر رسول الله وما قال لي وما قلت له وأمرني به، وأخلع نفسي من هذا الأمر وأسلمه إليك.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا معك إن تركك شيطانك.
فقال أبو بكر: إن لم يتركني تركته وعصيته.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذاً تطيعه ولا تعصيه، وإنما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجة عليك.
وأخذ بيده وخرجا من مسجد قبا يريدان مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبو بكر يخفق بعضه بعضاً ويتلون ألواناً، والناس ينظرون إليه ولا يدرون ما الذي كان حتى لقيه عمر بن الخطاب. فقال له: يا خليفة رسول الله ما شأنك،وما الذي دهاك؟، إلى آخر الحديث(1).
ص: 452
-------------------------------------------
مسألة: خذلان القوم لفاطمة الزهراء (علیها السلام) خذلان لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإن قولها (علیها السلام): «دوني» بضميمة قوله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني» يفيد أن الجماعة خذلوا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن الواضح ما يترتب على خذلانه (صلی الله علیه و آله) من الحرمة والفسق وسوء العذاب.
مسألة: يجب أن يكون هناك دافع ومانع على مر الأزمان، وذلك للدفاع عن حق أهل البيت (علیهم السلام) ومنع الظالمين والغاصبين من مكائدهم. فإن أتباع من ظلم أهل البيت (علیهم السلام) بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يظلمونهم اليوم ويظلمون شيعتهم ويتآمرون عليهم. في (منية المريد) عن التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام):قال محمد بن علي (عليه السلام): «إن من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين بردّ وسواسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم، ليفضلوا عند الله على العابد بأفضل المواقع، بأكثر من فضل السماء على الأرض، والعرش على الكرسي، والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(1).
ص: 453
..............................
وفي (المنية) أيضاً، عن التفسير المنسوب:
وقال علي بن محمد (عليه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك السفينة سكانها، لما بقي أحد إلا ارتد عن دينالله، أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(1).
قولها (علیها السلام): «فلا دافع ولا مانع» أي: لم يكن مانع أمام ابن أبي قحافة يمنعه من اغتصاب فدك، ولا دفعه أحد بعد الغصب حتى يُرجع الحق إلى أهله(2).
ص: 454
-------------------------------------------
مسألة: كما يجب - أو يستحب حسب الموارد - ذكر كلي ظلامة آل الرسول (علیهم السلام)، يجب أو يستحب ذكر الجزئيات والمفردات، ومن ذلك بيان أن الصديقة فاطمة (علیها السلام) خرجت كاظمة.
و(الكاظمة): الممتلئة غيظاً.. الصابرة عليه؛ فإن الإنسان الذي يمتلأ غيظاً ولايُظهِره يكون كاظماً. و(الكظم): هو تجرع الغيظ مع الصبر، وكظم غيضه كظماً: إذا تجرعه وحبسه وهو قادر على إمضائه، يعني أنها (علیها السلام) خرجت من الدار وهي ممتلئة غيظاً لكنها كظمت غيظها وكان خروجها محاولة لاسترجاع فدك وإحقاق الحق حسب الموازين الشرعية.
و(الكاظم) لقب مولانا موسى بن جعفر (عليه السلام).. وفي (المجمع): سمي بذلك لأنه (عليه السلام) كان يعلم من يجحد بعده إمامته ويكظم غيظه عليهم، وقد سقي السم في سبع تمرات ومات في حبس سندي بن شاهك من عمال هارون(1).وجاء في وصف المؤمن: «كظام بسام»(2).
وقال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ(3).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده الله عزوجل عزاً في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزوجل: وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَ-نِ
ص: 455
..............................
النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(1)، وأثابه الله مكان غيظه ذلك»(2).
وروي: أن عبداً لموسى بن جعفر (عليه السلام) قدم إليه صفحة فيها طعام حار فعجل، فصبها على رأسه ووجهه فغضب. فقال له: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ. قال (عليه السلام): «قد كظمت». قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ. قال (عليه السلام) : «قد عفوت». قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(3). قال (عليه السلام): أنتحرّ لوجه الله وقد نحلتك ضيعتي الفلانية»(4).
والوجه في كون الصديقة (علیها السلام) خرجت كاظمة(5) إضافة إلى غصبهم الخلافة وغصبهم فدكاً الموجبين لأشد الغيظ: إن الخروج إلى الأعداء والمحاجة معهم مما يشق على النفس أشد المشقة.. فكيف لو كانت التي خرجت هي سيدة نساء العالمين وريحانة رسول الله »؟ وكيف لو كان الخروج إلى من تعلم أنهم سوف لا ينصفونها بل يزيدونها غماً إلى غم وهماً فوق هم؟.
ولعل الوجه في (كاظمة) أنها (علیها السلام) كان بمقدورها الدعاء عليهم لاستئصال شأفتهم، ولكنها لم تفعل فقد كظمت غيظها من هذه الجهة أيضاً.
ص: 456
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) رجعت بعد محاجة أبي بكر راغمة، وقد يجب بيان ذلك حسب الموارد. و(الراغمة) بمعنى: المرغَمة، والرغام هو التراب، وهذا كناية عن الإنسان الذي يُهان من قبل خصمه ولم يتحقق هدفه ويرجع صفر اليدين عما خرج من أجله.
قولها (علیها السلام): «عدتُ راغمة» يُشكّل إدانة أخرى للقوم، حيث كان الواجب عليهم أن يرضوها حيث إن الله يرضى لرضاها(1) لكنهم لم يرضوها فحسب، بل لم ينصفوها، بل أسخطوها حتى عادت راغمة.
مسألة: يحرم إرجاع المظلوم راغماً مهاناً ذليلاً.
عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كان أبي يقول: اتقوا الظلم؛ فإندعوة المظلوم تصعد إلى السماء»(2).
وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اتقوا الظلم؛ فإنه ظلمات يوم القيامة»(3).
ص: 457
..............................
وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم ودعوة المظلوم؛ فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عزوجل إليها فيقول: ارفعوها حتى أستجيب له. وإياكم ودعوة الوالد؛ فإنها أحدّ من السيف»(1).
وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من الأنبياء في مملكة جبار من الجبابرة: أن ائت هذا الجبار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين؛ فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»(2).وعن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عزوجل»(3).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ما من أحد يظلم مظلمة إلا أخذه الله بها في نفسه وماله، فأما الظلم الذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر له»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل:إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(5)، قال: «قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة»(6).
ص: 458
..............................
هذا وقد كان رسول الله » وأمير المؤمنين » أفضل أسوة للدفاع عن المظلوم والأخذ بحقه، وما أكثر القصص في هذا الباب:
عن عاصم بن حمزة السلولي، قال: سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول: يا أحكم الحاكمين، احكم بيني وبين أمي!.
فقال له عمر بن الخطاب: يا غلام، لم تدعو على أمك؟.
فقال: يا أمير، إنها حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني حولين، فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر، ويميني عن شمالي، طردتني وانتفت مني، وزعمت أنها لا تعرفني.
فقال عمر: أين تكون الوالدة؟.
قال: في سقيفة بني فلان.
فقال عمر: عليَّ بأم الغلام.
قال: فأتوا بها مع أربعة إخوة لها، وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لاتعرف الصبي، وأن هذا الغلام غلام مدعٍ ظلومٌ غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها، وأن هذه جارية من قريش لمتتزوج قط، وأنها بخاتم ربها.
فقال عمر: يا غلام، ما تقول؟.
فقال: يا أمير ، هذه والله أمي حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني حولين، فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر، ويميني من شمالي، طردتني وانتفت مني وزعمت أنها لا تعرفني.
ص: 459
..............................
فقال عمر: يا هذه، ما يقول الغلام؟.
فقالت: يا أمير، والذي احتجب بالنور فلا عين تراه، وحق محمد وما ولد، ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو، وإنه غلام مدعٍ يريد أن يفضحني في عشيرتي، وإني جارية من قريش لم أتزوج قط، وإني بخاتم ربي.
فقال عمر: ألكِ شهود؟.
فقالت: نعم هؤلاء.
فتقدم الأربعون القسامة فشهدوا عند عمر أن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها، وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط، وأنها بخاتم ربها.
فقال عمر: خذوا هذا الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري.
فأخذوا الغلام ينطلق به إلى السجن،فتلقاهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الطريق، فنادى الغلام: يا ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إنني غلام مظلوم.
وأعاد عليه الكلام الذي كلم به عمر، ثم قال: وهذا عمر قد أمر بي إلى الحبس!.
فقال علي (عليه السلام): «ردوه إلى عمر».
فلما ردوه، قال لهم عمر: أمرت به إلى السجن فرددتموه إليَّ.
فقالوا: يا أمير، أمرنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن نرده إليك، وسمعناك وأنت تقول: لا تعصوا لعلي (عليه السلام) أمراً.
فبينا هم كذلك إذ أقبل علي (عليه السلام) فقال: «عليَّ بأم الغلام».
فأتوا بها، فقال علي (عليه السلام): «يا غلام، ما تقول؟».
ص: 460
..............................
فأعاد الكلام، فقال علي (عليه السلام) لعمر: «أ تأذن لي أن أقضي بينهم».
فقال عمر: سبحان الله، وكيف لا وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أعلمكم علي بن أبي طالب.
ثم قال للمرأة: «يا هذه، ألكِ شهود».
قالت: «نعم».فتقدم الأربعون قسامة فشهدوا بالشهادة الأولى. فقال علي (عليه السلام):
«لأقضين اليوم بقضية بينكما هي مرضاة الرب من فوق عرشه علمنيها حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) - ثم قال لها - ألكِ ولي؟».
قالت: نعم هؤلاء إخوتي.
فقال لإخوتها: «أمري فيكم وفي أختكم جائز؟».
فقالوا: نعم يا ابن عم محمد (صلی الله علیه و آله)، أمرك فينا وفي أختنا جائز.
فقال علي (عليه السلام): «أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي، يا قنبر عليَّ بالدراهم». فأتاه قنبر بها فصبها في يد الغلام، قال: «خذها فصبها في حجر امرأتك، ولا تأتنا إلاّ وبك أثر العرس»، يعني: الغسل.
فقام الغلام فصب الدراهم في حجر المرأة، ثم تلببها فقال لها: قومي.
فنادت المرأة: النار النار يا ابن عم محمد، تريد أن تزوجني من ولدي هذا، والله ولدي زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا الغلام، فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه وأطرده، وهذا واللهولدي وفؤادي يتقلى أسفاً على ولدي.
ص: 461
..............................
قال: ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت، ونادى عمر: وا عمراه، لولا علي لهلك عمر»(1).
عن أبان الأحمر، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد بلى ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً.
فقال: يا علي، خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه.
قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنظر إليه.
فقال: يا علي، غير هذا أحب إليَّ، أترى صاحبه يقيلنا؟.
فقلت: لا أدري. فقال: انظر. فجئت إلى صاحبه فقلت: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد كره هذا، يريد ثوباً دونه فأقلنا فيه. فرد عليَّ الدراهم وجئت به إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله)، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما شأنكِ؟.
قالت: يا رسول الله، إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم.
فأعطاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلكِ.
ومضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله، وخرج فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب
ص: 462
..............................
الجنة. فخلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله ورجع إلى منزله، وإذا الجارية قاعدة على الطريق، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لكِ لاتأتين أهلكِ؟.
قالت: يا رسول الله، إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني.
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مري بين يدي ودليني على أهلكِ.فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار. فلم يجيبوه، فأعاد السلام فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني؟.
قالوا: يا رسول الله، سمعنا سلامك فأحببنا أن تستكثر منه.
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.
فقالوا: يا رسول الله، هي حرة لممشاك.
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الحمد لله، ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه، كسا الله بها عريانين وأعتق بها نسمة»(1).
وروي أنه كان الهيثم في جيش، فلما جاء جاءت امرأته بعد قدومه لستة أشهر بولد، فأنكر ذلك منها وجاء إلى عمر وقص عليه،فأمر برجمها!، فأدركها
ص: 463
..............................
علي (عليه السلام) من قبل أن ترجم، ثم قال لعمر: «اربع على نفسك، إنها صدقت إن الله تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً(1)، وقال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ(2)، فالحمل والرضاع ثلاثون شهراً».
فقال عمر: لولا علي لهلك عمر، وخلى سبيلها وألحق الولد بالرجل(3).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) - في خبر -: «أنه أقر رجل بقتل ابن رجل من الأنصار فدفعه عمر إليه ليقتله به، فضربه ضربتان بالسيف حتى ظن أنه هلك، فحمل إلى منزله وبه رمق فبرأ الجرح بعد ستة أشهر، فلقيه الأب وجره إلى عمر فدفعه إليه عمر، فاستغاث الرجل إلى أمير المؤمنين. فقال لعمر: «ما هذا الذي حكمت به على هذا الرجل! ». فقال: النفس بالنفس. قال: «أ لم يقتله مرة». قال: قد قتلته ثم عاش. قال: «فيقتل مرتين! ». فبهت ثم قال: فاقض ما أنت قاض. فخرج (عليه السلام)، فقال للأب: «أ لم تقتله مرة؟». قال: بلى، فيبطلدم ابني!. قال: «لا ولكن الحكم أن تدفع إليه فيقتص منك مثل ما صنعت به، ثم تقتله بدم ابنك». قال: «هو و الله الموت ولابد منه». قال: «لابد أن يأخذ بحقه». قال: فإني قد صفحت عن دم ابني ويصفح لي عن القصاص. فكتب بينهما كتاباً بالبراءة، فرفع عمر يده إلى السماء وقال: الحمد لله أنتم أهل بيت الرحمة يا أبا الحسن - ثم قال - لو لا علي لهلك عمر»(4).
ص: 464
-------------------------------------------
مسألة: ربما يكون الواجب بالعنوان الأولي من أشد المحرمات بالعنوان الثانوي، وكذلك المحرم قد يتحول إلى واجب إذا طرأ العنوان الثانوي عليه، فتعريض النفس للقتل وإلقاؤها في التهلكة حرام.. ولكنه من أعظم القربات في ساحة القتال والجهاد المشروع، والتعرض للأسر والذل محرم إلا أنه يكون من أعظم الطاعات عندما يكون السبب في إعلاء راية الإسلام في الأرض، والسبب في فضح الظالم على مدى الدهر،ولذلك عرّض سيد الشهداء (عليه السلام) أهل بيته (علیهم السلام) وهم حُرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأسر باصطحابهم معه إلى كربلاء.
ولذلك السبب كان موقف أسد الله الغالب علي بن أبى طالب (عليه السلام) من ظالميه وغاصبي حقه ومن ظالمي زوجته الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وغاصبي حقها، فقد «أضرع خده وأضاع حده» وذلك بأمر صريح ووصية واضحة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ما مر، فإن هذا الصبر لهو أكبر الجهاد: أن يصبر المرء على أذى وهو قادر على إزاحته، امتثالاً لأمر الله تعالى.. كما صبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) طوال فترة وجوده في مكة ولم يأذن للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم أو عن أي مظلوم منهم، بل كان يمر هو (صلی الله علیه و آله) عليهم وهم يُعذَبون أشد التعذيب فيأمرهم بالصبر ثم الصبر ثم الصبر..
قال (صلی الله علیه و آله): «صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة»(1).
وهذا الصبر هو أجلى مصاديق الصبر الواجب ذي الأجر العظيم، وقد قال
ص: 465
..............................
تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(1).
ومن ذلك يتضح أن خطاب الصديقة الزهراء (علیها السلام) لبعلها الإمام علي (عليه السلام) ب- «أضرعت خدك يوم أضعت حدك» ليس نقداً له (عليه السلام) وعتاباً - كما قد يتصوره سطحيو التفكير - كيف وهي (علیها السلام) عالمة بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) له وأمره إياه بالصبر وعدم التصدي للقوم بالقوة؟.
بل إن هذا الخطاب منها (علیها السلام) له (عليه السلام) وهو كالعتاب في ظاهر الأمر، لتوضح عظمة الإمام (عليه السلام) وعظمة موقفه حيث ضحى بمكانته ومهابته وحدّه امتثالاً لأمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ولكيلا تمحى كلمة (لا إله إلا الله.. محمد رسول الله) من وجه الأرض.
قولها (عليه السلام): «أضرعت» بمعنى: أذللت، ضرع الرجل: خضع وذل.
و(الخد) كناية عن الشخصية، بالإضافة إلى أن حالة العز والذل تظهر عادة على ملامح الوجه والخد.
و«أضعت حدك» بمعنى: أهملت قدرك، من الإضاعة والضياع.
يعني: إن القوم لم يخافوك ولم يهابوك فلم يردوا عليَّ فدك.وقد سبق أن ذلك منه (عليه السلام) كان من أعظم الجهاد، حيث ضحى بمهابته ومكانته وقدرته على التصدي، التزاماً بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصيته.
قال النبي (صلی الله علیه و آله): «ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى علو العرش»(2).
ص: 466
-------------------------------------------
وقال علي بن الحسين (عليه السلام): «الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام): «من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلی الله علیه و آله)»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من صبر على مصيبة فله من الأجر بوزن جبال الدنيا»(3).افترست الذئاب وافترشت التراب
مسألة: يلزم على المؤمن أن يتصف بالصفات المتضادة(4) في المواقف المتضادة كل بحسبه وامتثالاً أمر الله تعالى، فإن المقياس في الإيمان ليس هو نوعية موقف الإنسان حالة الرخاء فقط، ولا موقفه حالة الشدة فحسب، ولا موقفه في السلم دون الحرب أو العكس، أو موقفه محكوماً إذا غاير موقفه حاكماً.
بل المؤمن هو المسلّم لأمر الله، المتحري رضوانه، في الشدة والرخاء(5)، وفي المنزل وخارجه، وفي السلم والحرب، ومع العدو(6) والصديق، وفي القوة
ص: 467
..............................
والضعف(1)، ففي موطن الحرب أسد باسل لا يخاف من مواجهة الأعداء.. وفي محراب العبادة عبد ذليل خاضع، وهكذا وهلم جراً.
ولقد تجلت تلك الصفات المتضادة - في بدو النظر - أشد التجلي في الإمام علي (عليه السلام) فكان كما قال القائل(2):
جمعت في صفاتك الأضداد *** فلهذا عزت لك الأنداد
زاهد حاكم حليم شجاع *** ناسك فاتك فقير جواد
شيم ما جمعن في بشر*** قط ولا حاز مثلهن العباد
وقد أشارت الصديقة الكبرى (علیها السلام) إلى تجلي صفتين من أعظم تلك الصفات - التي قد تبدو متضادة - في مولى الموحدين وأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت: «افترست الذئاب» و«افترشت التراب».
فعندما كانت مسؤوليته (عليه السلام) الحرب والقتال لم يتوان ولم يضعف، بل (افترس الذئاب).
وعندما كانت مسؤوليته (عليه السلام) الصبروكظم الغيظ لم ينفجر ولم يقاتل، بل (افترش التراب).
وما أندر من استطاع أن يجمع كلتا الصفتين؟.
ولا أحد - غير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - استطاع أن يجمعهما بتلك الدرجة العظيمة.
ص: 468
..............................
مسألة: يستحب التحدث عن شجاعة الإمام علي (عليه السلام) كما قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام): «افترست الذئاب» وقد يجب ذلك، فإن التحدث عن شجاعته (عليه
الصلاة والسلام) تعظيم له وتخليد لذكره، بالإضافة إلى أنه يوجب التفاف الناس حوله؛ لأنهم يحبون ذوي الشجاعة كما يحبون أصحاب الفضائل ويلتفون حولهم، وبذلك يكون بيان الشجاعة تحريضاً على الالتفاف، كما أنه يبعث على التأسي، وعلى تجذر صفة الشجاعة في الناس وتوسع دائرتها. وهكذا كان سائر الأئمة (علیهم السلام) قمة في الشجاعة. عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «نحن في العلم والشجاعة سواء، وفي العطايا على قدرما نؤمر»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أعطينا أهل البيت سبعة لم يعطهن أحد كان قبلنا ولا يعطاهن أحد بعدنا: الصباحة،والفصاحة،والسماحة، والشجاعة، والعلم، والحلم، والمحبة للنساء»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية»(3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الشجاعة زين»(4).
وقال (عليه السلام): «الشجاعة عز حاضر»(5).
ص: 469
..............................
وقال (عليه السلام): «السخاء والشجاعة غرائز شريفة يضعها الله سبحانه فيمن أحبه وامتحنه»(1).وفي يوم الخندق عند ما قال ابن عبد ود في المبارزة:
ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز
إن السماحة والشجاعة *** في الفتى خير الغرائز
أجابه أمير المؤمنين (عليه السلام):
لاتعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى*** ذكرها عند الهزاهز(2)
مسألة: يستحب التأكيد على مظلومية الإمام علي (عليه السلام) وعلى عظيم صبره، وقد يجب ذلك لما سبق ذكره، خاصة أن بيان الظلامة يوجب إثارة عواطف الناس وإنشدادهم - عاطفياً - له (عليه الصلاة والسلام) إضافة للإنشداد العقلي والفكريوالعلمي والعقائدي، فإن الإنشداد العاطفي أقوى في بعض الأحيان، وهو إلى ذلك يعمق ويركز سائر الانتماءات الفكرية والعقائدية.. فإن
ص: 470
..............................
الناس عادةً يتعاطفون مع المظلوم ويجتمعون حوله ويهتفون باسمه؛ لأن المظلومية مقرونة بالمحبوبيّة.
ولذا نرى التفاف الناس حول الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا يوجب الإقتداء بهم والاستعداد للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الله سبحانه.
بالإضافة إلى أن التحدث عن ظلامة أهل البيت (علیهم السلام) يوجب تعرية الظالم وفضحه وكشف القناع المزيف عن وجهه الحقيقي كما سبق.
قولها (علیها السلام): «افترست الذئاب وافترشت التراب»، يعني أنك في السابق كنت تفترس الذئاب فكانوا يخافونك ويهابونك ويحذرون من بأسك، أما اليوم فقد افترشت التراب وقعدت في البيت حتى تجرؤوا عليك وغصبوا نحلة زوجتك، ولعل في الكلام تلميحاً إلى جبن القوم وهشاشتهم حيث إنهم لم يفعلوا ما فعلوا إلا عندما علموا أن الإمام (عليه السلام) قد افترش التراب وأنه مأموربالصبر.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَئُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ»(1).
ص: 471
..............................
وعن إسحاق بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، عن أبيه جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: «خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة بالكوفة، فلما كان في آخر كلامه قال: ألا وإني لأولى الناس بالناس، وما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)».
فقام إليه أشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، لم تخطبنا خطبة منذقدمت العراق إلا وقلت: والله إني لأولى الناس بالناس، فما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ولما ولي تيم وعدي، ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟.
فقال أمير المؤمنين: «يا ابن الخمارة، قد قلت قولاً فاسمع مني، والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبرني وقال لي: يا أبا الحسن، إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى. فقلت: يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك كذلك. فقال: إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكفّ يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً، فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه، ثم آليت يميناً أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن(1)، ففعلت ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم، قالوا: لا حاجة لنا به، ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين (علیهم السلام) ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة فأنشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط: سلمان، وعمار، والمقداد، وأبو ذر، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين اللهمن أهل بيتي، وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل والعباس.
ص: 472
..............................
فقال له الأشعث: كذلك كان عثمان لما لم يجد أعواناً كف يده حتى قتل.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يا ابن الخمارة، ليس كما قست إن عثمان جلس في غير مجلسه، وارتدى بغير ردائه، صارع الحق فصرعه الحق، والذي بعث محمداً » بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهطاً لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري - ثم قال - أيها الناس، إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز»(1).
ولما دفن أمير المؤمنين (عليه السلام) الصديقة فاطمة (علیها السلام) ليلاً وجاءه فلان وفلان فقالا: يا أبا الحسن ما حملك على أن تدفن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم نحضرها؟.
قال (عليه السلام): «ذلك عهدها إليَّ».
فقال الثاني: هذا والله شيء في جوفك.
فثار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخذبتلابيبه ثم جذبه فاسترخى في يده، ثم قال: «والله لولا كتاب سبق وقول من الله، والله لقد فررتَ يوم خيبر وفي مواطن، ثم لم ينزل الله لك توبة حتى الساعة»(2).
وفي الحديث: أن الأول والثاني بعد خطبة الصديقة فاطمة (علیها السلام) في المسجد تآمرا على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلفا خالد بن الوليد بهذه المهمة، فلما جلس الأول في التشهد ندم على ما قال وخاف الفتنة، وعرف شدة علي (عليه السلام) وبأسه، فلم يزل متفكراً لا يجسر أن يسلّم حتى ظن الناس أنه قد سها، ثم التفت إلى خالد فقال: يا خالد لا تفعلن ما أمرتك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ص: 473
..............................
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا خالد، ما الذي أمرك به؟».
فقال: أمرني بضرب عنقك.
قال: «أوكنت فاعلاً»؟.
قال: إي والله لولا أنه قال لي: لا تقتله قبل التسليم لقتلتك.
قال: فأخذه علي (عليه السلام) فجلد به الأرض، فاجتمع الناس عليه وقالوا: يا أبا الحسن، الله الله بحق صاحب القبر. فخلى (عليه السلام)عنه ثم التفت إلى الثاني فأخذ بتلابيبه وقال: «يا ابن صهاك، والله لولا عهد من رسول الله » وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً»، ودخل منزله(1).
في قصة السقيفة وامتناع أمير المؤمنين (عليه السلام) من البيعة لأبي بكر، فقد أرسل أبو بكر عدة من الناس ليأتوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) إليه، فاعترضتهم فاطمة الزهراء (علیها السلام) فعادوا، فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا، فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن. فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء.
ثم أمر أناساً حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابنيهما (علیهم السلام)، ثم نادى الثاني حتى أسمع علياً وفاطمة (علیهما السلام): والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار.
فقالت فاطمة (علیها السلام): «يا فلان، ما لنا ولك».
فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم.
ص: 474
..............................
فقالت: «أما تتقي الله، تدخل على بيتي».
فأبى أن ينصرف ودعا بالنار فأضرمها في الباب، ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة (علیها السلام) وصاحت: «يا أبتاه، يا رسول الله».
فرفع الثاني السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت (علیها السلام): «يا أبتاه»، فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: «يا رسول الله، لبئس ما خلفك فلان وفلان».
فوثب علي (عليه السلام) فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله، فذكر قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما أوصاه به. فقال: «والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك، لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلمت أنك لا تدخل بيتي» الحديث(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم. فقال (عليه السلام): «هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلتمظلوماً»(2).
وروي: أن أعرابياً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو في المسجد فقال: مظلوم. قال (عليه السلام): «ادن مني». فدنا فقال: يا أمير المؤمنين، مظلوم. قال (عليه السلام): «ادن». فدنا حتى وضع يديه على ركبتيه قال: «ما ظلامتك؟». فشكا ظلامته فقال: «يا أعرابي، أنا أعظم ظلامة منك، ظلمني المدر والوبر، ولم يبق بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم، وما زلت مظلوماً حتى قعدت مقعدي هذا، ثم كتب له بظلامته ورحل(3).
ص: 475
..............................
وعن عبد الله بن شريك، عن أبيه، قال: صعد علي (عليه السلام) المنبر يوم جمعة، فقال: «أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يقولها بعدي إلا كذاب، ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقتال الناكثين: طلحة والزبير، والقاسطين: معاوية وأهل الشام، والمارقين: وهم أهل النهروان، ولو أمرني بقتال الرابعة لقاتلتهم»(1).وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن (عليه السلام): «وايم الله يا بني ما زلت مظلوما مبغياً عليَّ منذ هلك جدك صلى الله عليه وآله»(2).
مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان حقيقة القوم وما كانوا عليه من السبعية والضراوة والتوحش، وكفى بوصف الصديقة الزهراء (علیها السلام) لأسلافهم ب- «الذئاب» شاهد صدق على ذلك.
روي أنه أتى رجل إلى عمر فقال: يا أمير ، إن فلاناً ظلمني فأعدني عليه. فرفع في السماء درّته وضرب بها رأسه!، وقال: تدعون عمر وهو معرض
لكم حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني. فانصرف الرجل يتذمر(3).
وذكروا أنه غضب عمر على بعض عماله، فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له، فكلمته فيه، فغضب وقال:وفيم أنتِ من هذا يا عدوة الله، إنما
ص: 476
..............................
أنت لعبة نلعب بكِ وتفركين(1).
وقال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما استشار أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ في أمر الأسارى(2)، غلظ عمر عليهم غلظة شديدة. فقال: يا رسول الله، أطعني فيما أشير به عليك فإني لا آلوك نصحاً، قدّم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك!، وقدّم عقيلاً إلى علي أخيه يضرب عنقه!، وقدّم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله!.
قال: فكره رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك ولم يعجبه(3).
وعن أنس بن مالك، قال: لما ماتت رقية بنت النبي (صلی الله علیه و آله) فبكت النساء عليها، فجاء عمر يضربهن بسوطه، فأخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بيده وقال:
«يا عمر، دعهن يبكين - وقال لهن: - ابكين وإياكن ونعيق الشيطان؛ فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الله ومنالرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان».
فبكت فاطمة (عليه السلام) وهي على شفير القبر، فجعل النبي (صلی الله علیه و آله) يمسح الدمع من عينيها بطرف ثوبه(4).
ص: 477
-------------------------------------------
مسألة: كف الأذى عن الغير واجب في الجملة، إلا إذا كان لأمر أهم، فإنه إذا تعارض أهم ومهم يلزم تقديم الأهم عقلاً وشرعاً..
فبينما يجب كف الأذى عن الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) بل عن كل مظلوم، نرى أن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) - حيث كان مُوصى من قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) - صبر محتسباً لله سبحانه وتعالى.. حيث كان عدم محاربة القوم لأمر أهم كما سبق الإلماع إليه.
قولها (علیها السلام): «ما كففتَ..» أي: ما منعت القائل الذي يقول الباطل، حتى يقف عند حده ولا يتمادى في بطلانه وغيه.
كتب الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله النجاشي - بعدما وصل إليه كتابه يطلب منه نصيحته - فقال: «واعلم أن خلاصك ونجاتك في حقن الدماء وكف الأذى عن أولياء الله والرفق بالرعية»(1).
ص: 478
-------------------------------------------
مسألة: إبطال الباطل واجب في الجملة، وقد يترك لأمر أهم؛ فإن القوم كانوا على باطل في غصبهم للخلافة ولفدك، ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) صبر لأمر أهم كما سبق.
قولها (علیها السلام): «ولا أغنيتَ ..» إغناء الباطل كناية عن إبطاله؛ فإن الإغناء بمعنى الإجزاء والكفاية.
وفي بعض النسخ: «ولا أغنيت طائلاً» كما في رواية السيد (رحمة الله)، وفي اللغة: (هذا أمر لا طائل فيه) أي لا فائدة ولا مزية.
عن عاصم بن حميد، رفعه قال:
جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). فقال: أخبرني عن السنة والبدعة، وعن الجماعة، وعن الفرقة؟.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «السنة ما سن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والبدعة ما أحدث من بعده، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»(1).
ص: 479
-------------------------------------------
مسألة: يحرم فرض (الحصار) على المظلوم بحيث لا يبقى له خيار في استرجاع حقه، وهذه هي سياسة الحكومات الجائرة، فإنهم يضغطون على المظلوم بشتى أنواع الضغط حتى لا يبقى له منفذ يطالب فيه بحقه ويسترجعه..
وقولها (علیها السلام): «لا خيار لي» يستكشف منه أن ابن أبي قحافة لم يكتف بمجرد ظلمها، بل أحكم الحصار حولها حتى لم يبق لها أي خيار.. وهذه الجملة تؤكد مظلوميتها (علیها السلام) وأنها قد بلغت الغاية فيها؛ فإن من لا خيار له وتصب عليه المحن والآلام يكون في غاية الظلامة، إذ ألم (الحصار) والإحساس بالمحاصرة يزيد من ألم الظلم والظلامة.
ثم إن من الواضح أن عدم وجود خيار آخر لها (عليها الصلاة والسلام) إنما هو بالنسبة إلى المعادلات الظاهرية، وإلا فإنهم (علیهم السلام) يمتلكون القدرة على قلب كل المعادلات، مستمدة من قدرة الله سبحانه وتعالى، كما هو مذكور في باب الولاية التكوينية، لكنهم ليسوا مأمورين باستخدام تلك القدرة إلا فيمواضع الإعجاز وما أشبه، كما ثبت ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام).
قولها (علیها السلام): «ولا خيار..» إما تمهيد لقولها (عليها الصلاة والسلام): «ليتني مت قبل هينتي» أو تعقيب لما سبق، والمعنى: لا خيار لي ولا اختيار حتى أتمكن من استرجاع فدك وأكف الباطل وأغني طائلاً.
ص: 480
..............................
مسألة: يجب بذل الوسع في الدفاع عن المظلوم وكذلك لإحقاق الحق؛ فإنه يلزم في ذلك القيام بكل ما يمكن، ولا يسقط التكليف إلا بعد انعدام كل الخيارات.. وهذا هو ما حصل للصديقة الطاهرة (علیها السلام) فإنه مدلول كلامها هذا، حيث بذلت كل ما بوسعها في المطالبة بحقها والدفاع عن بعلها (عليه السلام)، وأن ما قامت به كان غاية ما يمكن أن تقوم به، ولا خيار آخر لها على الإطلاق ولا سبيل ولا مجال.
ولعل في قولها (علیها السلام): «لا خيار لي» نوع اعتذار منه (عليه السلام) حيث إن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان إمامزمانها (علیها السلام) فكان الواجب الدفاع عنه، فهي تقول بأنني قد بذلت قصارى جهدي في الدفاع عن حقك وحقي - الذي هو حقه (عليه السلام) بالمآل - وفي التصدي ل- (الباطل) ولقول (القائل)(1) ولا قدرة لي على الأكثر ولا خيار.. والله العالم.
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) في رسالته إلى جماعة شيعته وأصحابه: «إياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم يدعو الله عليكم ويستجاب له فيكم؛ فإن أبانا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة»(2).
وعن وهب بن عبد ربه وعبيد الله الطويل،عن شيخ من النخع،قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إني لم أزل والياً منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي
ص: 481
..............................
من توبة؟. قال: فسكت، ثم أعدت عليه. فقال: «لا حتى تؤدي إلى كل ذي حقحقه»(1).
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»(2).
وجاء في صحيفة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وكلامه في الزهد قوله: «إياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم»(3).
وروي في حديث: أنه دخل على الصادق (عليه السلام) رجل، فمت له بالإيمان أنه من أوليائه فولى عنه بوجهه، فدار الرجل إليه وعاود اليمين فولى عنه، فأعاد اليمين ثالثة. فقال له (عليه السلام): «يا هذا، من أين معاشك؟». فقال: إني أخدم السلطان وإني والله لك محب. فقال (عليه السلام): «روى أبي عن أبيه عن جده (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من السماء من قبل الله عزوجل: أين الظلمة، أين أعوان أعوان الظلمة، أين من برئ لهم قلماً، أين من لاق لهم دواة، أين من جلس معهم ساعة؟. فيؤتىبهم جميعاً فيؤمر بهم أن يضرب عليهم بسور من نار، فهم فيه حتى يفرغ الناس من الحساب ثم يرمى بهم إلى النار»(4).
ص: 482
-------------------------------------------
مسألة: يجوز تمني الموت عند شدة المصاب أو كثرة المصائب، وقد يرجح في الجملة، وإن كان ذلك بما هو هو مرجوحاً على ما سبق.
وتمني الصديقة (علیها السلام) للموت هاهنا يدل على فداحة الإهانة التي أهينت بها، وشدة الإذلال الذي تعرضت له مما يكشف عن عظيم جرم القوم وخطير وزرهم.
وقد سبق أنه لولا وجود جهة مرجحة كما في المقام فإن الأفضل أن يسأل الإنسان من الله سبحانه وتعالى طول العمر كما في الأحاديث والأدعية: «أن تطيل عمري في خير وعافية»(1).
ومن مصاديق جواز تمني الموت - بالمعنى الأعم أي بما يشمل الرجحان -عند خوف الوقوع في المعاصي - في الجملة -، كما ورد في الدعاء المروي عن مولانا زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) في الصحيفة السجادية، قال (عليه السلام) : «وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ»(2).
وكان أبو ذر الغفاري (رحمة الله) يقول: «اللهم إن كان ما عندك خيراً لي فاقبضني إليك غير مبدل ولا مغير»(3).
ص: 483
..............................
وفي الدعاء: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون برحمتك يا رحمان يا رحيم، يا عزيز يا عليم»(1).
وأيضاً: «اللهم ومُدّ لي في العمر ما دامت الحياة موصولة بطاعتك، مشغولة بعبادتك، فإذا صارت الحياة مرتعة للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبقإليَّ مقتك، ويستحكم عليَّ سخطك»(2).
مسألة: يلزم سلب الشرعية عن الطغاة والظلمة والغاصبين، ولا يخفى الأثر العظيم الذي خلّفه كلام الصديقة (علیها السلام) حيث إنها بأقوالها هذه سلبت الشرعية من ابن أبي قحافة وجردته من القناع الذي كان يتظاهر به بالصلاح، وبيّنت لجميع الناس إلى يوم القيامة مظلوميتها ومظلومية بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام): «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة بالشقشقية:
«أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ،يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ،وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ،وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ،
ص: 484
..............................
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذىً، وَفِي الْحَلْقِ شَجاً، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ - ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى -:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِ-ي جَابِرِ
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالاِعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ، حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ, فَمَارَاعَنِي إِلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(1)، بَل-َ-ى وَاللَّهِ
ص: 485
..............................
لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا، أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عََى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1).
وعن محمد بن عذافر، عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا عذافر، إنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالكإذا نودي بك في أعوان الظلمة» قال: فوجم أبي. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) لما رأى ما أصابه - أي عذافر -: «إنما خوفتك بما خوفني الله عزوجل به». قال محمد: فقدم أبي فلم يزل مغموماً مكروباً حتى مات(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم وأبواب السلطان وحواشيها! فإن أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله تعالى، ومن آثر السلطان على الله تعالى أذهب الله عنه الورع وجعله حيران»(3).
وعن صفوان بن مهران الجمال، قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) فقال لي: «يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً». قلت: جعلت فداك أي شيء؟. قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني: هارون». قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للّهو، ولكني أكريته
ص: 486
..............................
لهذا الطريق - يعني: طريق مكة - ولاأتولاه بنفسي، ولكني أبعث معه غلماني. فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟». قلت: نعم جعلت فداك. قال: فقال لي: «أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟». قلت: نعم. قال: «من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار». قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني. فقال لي: يا صفوان، بلغني أنك بعت جمالك!. قلت: نعم. قال: ولِمَ؟. قلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر. قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟. فقال: دع هذا عنك، فو الله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1).
وعن محمد بن مسلم، قال: كنت قاعداً عند أبي جعفر (عليه السلام) على باب داره بالمدينة، فنظر إلى الناس يمرون أفواجاً. فقال لبعض من عنده: «حدث بالمدينة أمر؟». فقال: جعلت فداك، ولي المدينة والٍ فغدا الناس يهنئونه. فقال: «إن الرجل ليغدى عليه بالأمر تهنأ به وإنه لباب من أبواب النار»(2).وعن سليمان الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): ما تقول في أعمال السلطان؟. فقال: «يا سليمان، الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر الذي يستحق به النار»(3).
ص: 487
..............................
مسألة: من المحرمات إهانة المؤمن وإذلاله، وكذلك المؤمنة، بل ربما قيل بحرمة إهانة مطلق الإنسان وإذلاله في الجملة، ومن أشدها حرمة إهانة أولياء الله والصالحين، وأشدها حرمة إهانة بضعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وسيدة النساء العالمين ومحور الكائنات أجمعين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).
وكلامها (علیها السلام) صريح في أنها أُهينت وأُذلت، فالويل لمن أهانها وأذلها.
وما سبق من كلامها واضح الدلالة علىأن ابن أبي قحافة وابن الخطاب كانا هما اللذان أذلاها وأهاناها بالدرجة الأولى، وسكوت الأصحاب - إلاّ أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار - مشاركة منهم لهما في هذه الإهانة بل هو من مصاديق الإهانة(1).
عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «قال الله عزوجل: ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من حقر مؤمناً فقيراً لم يزل الله عزوجل له حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لقد أسرى ربي بي
ص: 488
..............................
فأوحى إليَّ من وراء الحجاب ما أوحى وشافهني إلى أن قال لي: يا محمد، من أذل لي ولياً فقد أرصدني بالمحاربة،ومن حاربني حاربته. قلت: يا رب، ومن وليك هذا فقد علمت أن من حاربك حاربته. قال لي: ذاك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولذريتكما بالولاية»(1).
وعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من استذل مؤمناً أو مؤمنة أو حقره لفقره أو قلة ذات يده شهره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه»(2). وعن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) «قال الله عزوجل: قد نابذني من أذل عبدي المؤمن»(3).
وعن إسماعيل بن مخلد السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه - إلى أن قال -: «وعليكم بحب المساكين المسلمين؛ فإنه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين الله، والله له حاقر ماقت، وقد قال أبونا رسول الله (صلی الله علیه و آله): أمرني ربي بحب المساكين المسلمين منهم. واعلموا أن من حقر أحداً من المسلمين ألقى الله عليه المقتمنه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتاً، فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين فإن لهم عليكم حقاً أن تحبوهم؛ فإن الله أمر رسوله (صلی الله علیه و آله) بحبهم فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله، ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين»(4).
ص: 489
..............................
مسألة: إن الإهانة والإذلال على أقسام، وكثير مما نشاهده في المجتمع، من مصاديقهما ومن أقسامهما:كاستهزاء البعض بالعلماء، أو استخفافه بالصالحين، وكالتعبير عنهم وعن المؤمنين بمثل (الرجعي) و(المتحجر) وما أشبه ذلك؛ فإن كل ذلك من الحرام.
وربما كان من المصاديق: عدم استجابة بعض أصحاب الأموال لمن يراجعونهم في المشاريع الخيرية في الجملة؛ فإنه نوع إهانة وإذلال إلى غير ذلك.
عن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا إسحاق، كيف تصنعبزكاة مالك إذا حضرت؟». قال: يأتوني إلى المنزل فأعطيهم. فقال لي: «ما أراك يا إسحاق إلاّ قد أذللت المؤمنين، فإياك إياك، إن الله تعالى يقول: من أذل لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة»(1).
وعن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ من الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة؟. فقال: «أعطه ولا تسم له، ولا تذل المؤمن»(2).
وعن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل خلق المؤمن من عظمة جلاله وقدرته، فمن طعن عليه أو ردّ عليه قوله فقد رد على الله»(3).
ص: 490
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - في حديث الأربعمائة -: «لا تحقروا ضعفاء إخوانكم؛ فإنه من احتقر مؤمناً لم يجمع الله عزوجل بينهما في الجنة إلاّ أن يتوب»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين يدفع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبره»(2).
مسألة: يحرم ترك امتثال التكليف الإلهي فراراً مما يسببه للإنسان من المهانة والذلة في الجملة، كما تراه عند كثير من الناس حيث يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حذراً من إهانة الناس لهم والاستهزاء بهم، ويتركون كثيراً من الواجبات(3) أو يقتحمون عدداً من المحرمات(4) خوفاً مما يخيل إليهم من أنه ذل ومهانة.
وغير خفي أن الذل الظاهري والإهانة الدنيوية من شرور هذه الدنيا الدنية التي تصيب المؤمن.. ولكنها لا تسبب له المهانة والذلة الواقعية، بل إن ذلك يزيد المؤمن عزاً وشرفاً وسؤدداً عند الله تعالى، بل وعند الناس أيضاً، وفي محكمة التاريخ كما هو واضح.
وذلك نظير ما جرى للصديقةالكبرى (علیها السلام) في هذه القضية.. وللإمام
ص: 491
..............................
الحسن (عليه السلام) في صلحه.. وللإمام السجاد (عليه السلام) وعقيلة بني هاشم (علیها السلام) في الأسر بعد واقعة كربلاء الدامية.
وقد أقدمت الصديقة الزهراء (علیها السلام) على الخروج للمسجد ومقارعة القوم ومحاججتهم رغم علمها بالمهانة والذلة الظاهرية اللتين ستمنى بهما لما سبق. واليوم نرى العزة لله ولرسوله ولبضعته الطاهرة (علیها السلام) والذل والهوان لأعدائها.
مسألة: يستحب بيان أن القوم عموماً وابن أبي قحانة خصوصاً قد سعى في إهانة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وإذلالها حتى تحقق له ما أراد - من الناحية الظاهرية - فإنه من الواضح أن غصب حقها وعدم تلبية طلبها، ومن ثم إهانة بعلها، وتكذيبها في قولها وكلامها، من أكبر الإذلال لها (عليها الصلاة والسلام). وينبغي التنبيه إلى أن القوم كانوا يبيتون لها الإهانة.. ولم يكن كل ما جرى لمجرد الاستحواذ على فدك والخلافة فقط، بل كانت فيأنفسهم أشياء من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحقاد بدرية وخيبرية وحنينية أفرغوها على ابنته وبضعته (علیها السلام) في أول فرصة سانحة، قال تعالى: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ(1) ف- إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(2) .. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(3) .. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(4).
ص: 492
ولا يخفى أن ما ذكرناه من الاستحباب في جملة من البنود السابقة وهذا البند أيضاً، إنما هو فيما إذا لم يكن الأمر واجباً لموازينه، وإلاّ فهو منه(1)، فكل من الواجب والمستحب - وكذلك الجائز فيما ذكرناه في قولها (علیها السلام): «ليتني مت» - إنما هو بموازينه العامة المذكورة في الفقه.
قولها (علیها السلام): «قبل هينتي» أي مهانتي حتى لا أكون فأهان بمثل هذهالإهانة العظيمة.
و(الهين): الذي لا كرامة له. يقال: أهنت فلاناً وتهاونت به واستهنت به(2).
قولها (علیها السلام): «ودون ذلتي» أي قبل أن أذل بسبب رد ابن أبي قحافة عليَّ مقالي على رؤوس الملأ واغتصابه نحلتي.
ص: 493
-------------------------------------------
مسألتان: يجب الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الناصر - عند توفر النصير وعدمه - فإن الأسباب بيده.
أزمة الأمور طراً بيده *** والكل مستمد من مدده
ويجب الاستنصار بالله تعالى.
والذي يبدو أن معنى قول الصديقة (علیها السلام): «عذيري الله منه» وفي بعض النسخ «منك» أي: نصيري منه هو الله، أو عوضاً عنك وبدلاً منك، فإذا لم تكن أنت قادراً على نصرتي - نظراً لوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) - فإن الله قادر على ذلك. فإن من معاني العذير: النصير. ومن معاني العُذر: الغلبة والنجح.
فإذا كانت النسخة: (عذيري الله منه عادياً ومنك حامياً) كان المعنى أن الله هو نصيري من عدوان ابن أبي قحافة، ونصيري بدلاً عنك وعن حمايتك، فيكون ضمير (منه) راجعاً إلى ابن أبي قحافة، وعادياً من العدوان والاعتداء.
وإن كانت النسخة: (عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً) كان معنى عادياً هو صارفاً، من عدوت فلاناً عن الأمر أي صرفته عنه، فالعادي هو الصارف أينصيري الله بدلاً عنك حالة كونك عادياً أي صارفاً نصرتك عني، وقد سبق أن صرف النصرة كان لأمر من الله ووصية خاصة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصبر والسكوت، وكانت (علیها السلام) تعلم بكل ذلك. وتكون (من) هنا للبدل كما أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآْخِرَةِ(1).
ص: 494
..............................
ثم إنه لو فرض أن (عادياً) في قولها (علیها السلام) من العدوان، فإن المراد به تجاوز الحد في المقام وهو (الحد الظاهري) لا (الحد المأمور به)، إذ لم يتجاوز الإمام (عليه السلام) الحد الذي حده الله له بل التزم به وصبر، فكان تجاوزاً للحد العرفي الذي قد يظن بعض الناس أنه كان عليه أن لا يتجاوزه.
مسألة: لا يجوز إنكار ما فعله القوم من الهجوم على بيت فاطمة (علیها السلام)، وإحراق الدار، وضرب الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وكسرضلعها .. حتى أسقطت جنينها... إلى غيرها من الحقائق التاريخية، لورود النصوص بذلك، ولمتواتر الروايات، ولمختلف القرائن التي تفيد العلم.
ومن ذلك يتضح بطلان ما ربما يقال من استغراب أو إنكار الهجوم على دارها وضربها وإسقاط جنينها.. بدعوى أن ذلك لا يعقل مع وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أسد الله الغالب.. فيكف يصبر (عليه السلام) على ضربهم زوجته سيدة نساء العالمين (علیها السلام)؟.
إذ من الثابت أن الإمام (عليه السلام) كان مأموراً بالصبر، ولولاه لما صبر ولأوقفهم عند حدهم، وذلك نظير صبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) طوال فترة وجوده في مكة وكان يرى أصحابه يُعذبون، بل ويأمر أصحابه بالصبر وعدم القتال.
إضافة إلى أن الأمر لم يكن كما يزعمه هؤلاء من أن علياً (عليه السلام) كان جالساً ينظر إلى زوجته وهي تُضرب ولا يحرك ساكناً، بل إن فاطمة (علیها السلام) كانت خلف
ص: 495
..............................
الباب تكلم القوم وتحذّرهم من مغبة أعمالهم والباب مغلق - ولذلك لم يكنعليها خمار(1) - وإذا بابن الخطاب وصحبه رفسوا الباب بعنف وقسوة فجأة، وعصروها عصرة حتى أسقطت جنينها، كما هاجموا فاطمة (علیها السلام) بالضرب على بطنها ووجهها، ويبدو أنهم أرادوا قتل الزهراء (علیها السلام) حتى لا يبقى للإمام علي (عليه السلام) ناصر ولا معين؛ فإن الصديقة (علیها السلام) كانت أكبر ناصر للإمام (عليه السلام) وهي التي استطاعت أن تسلب شرعيتهم وتبين للعالم إلى يوم القيامة غصبهم للخلافة.
وعند هجوم القوم وثب الإمام (عليه السلام) ومسك بتلابيب الرجل وصرعه، ثم قال: «والذي كرّم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلمتأنك لا تدخل بيتي»(2) ولولا تلك الوصية لقتله، ونظراً لرد فعل الإمام (عليه السلام) السريع والقوي تراجع القوم عن قتل فاطمة وابنيها والإمام (صلوات الله عليهم أجمعين) فإنهم أرادوا ذلك(3).
ص: 496
..............................
هذا وربما يمكن أن يقال في معنى كلام الصديقة (علیها السلام): «عذيري الله...» أو قد قيل في ذلك وجوه أخر نقتصر على ثلاثة منها:
إن قولها (علیها السلام): «عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً» يعني أن الله سبحانه وتعالى ليعذرني منك في كلتا حالتي سكوتك عن المطالبة بحقي وحمايتك لي للأخذ بظلامتي، والمعنى: أنها تطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعذره (عليه السلام) في كلتا الحالتين - كما هو كذلك، إذ أنه (عليه السلام) كان مأموراً بالصبر -والاعتذار عن القصور حسن.
والعذير: العاذر وهو الذي يرفع اللوم والذنب، أي إن الذي يرفع لَوْمي وعتبي عليك هو الله، والمراد به المآل، أي مآل العتب واللوم وليس نفسه، إذ لا عتب ولوم حقيقي منها له (علیهما السلام)، بل هو كناية عن شدة ما جرى عليها كما لايخفى، والمآل هو استرجاع الحق إذ هذا هو ما يقصد من اللوم في نهاية الأمر.
وبعبارة أخرى: كأن الله يعذرها من جهته، فكأنها تطلب من الله إعذارها من جهة موقف بعلها، فتأمل.
إن عذيرك من فلان، يعني هات من يعذرك فيه، فيكون (عذيري) منصوباً (والله) مجروراً بالقسم(1).
ص: 497
..............................
وقيل: منه قول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) حين نظر إلى ابن ملجم (لعنه الله) وقال:
أريد حباءه ويريد قتلي *** عذيرك (1) من خليلك من مراد(2)
ومنه قوله (عليه السلام) حينما خرج طلحة والزبير لقتاله: «عذيري من طلحة والزبير بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث، ثم تلا هذه الآية: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ(3)»(4).
الطلب من الله أن يعذرها (علیها السلام) فيما قالت وفعلت - بالنسبة إليه (عليه السلام) - فكأنها (علیها السلام) تعتذر منه (عليه السلام) لما بدر منها مما ظاهره العتاب.. وهو وإن لم يكن عتاباً واقعاً بل كان لكشف حقائق القوم ومدى ظلمهم، وقد صيغ في شكل عتاب له كناية إلا أنذلك أيضاً استدعى اعتذارها منه ومن الله، إذ هي مضطرة لعدم الرعاية الظاهرية مما يتصوره البعض عتاباً، ومثل هذا الكلام مستحب؛ فإنه يستحب للإنسان أن يطلب من الله أن يعذره في كل قول أو فعل صدر منه.
ص: 498
..............................
لا يقال: إن ما قالت وفعلت كان بين واجب ومستحب وجائز - بل الجائز منه مستحب كما ذكرناه في موطن آخر - وكل ذلك لا يحتاج إلى طلب العذر من الله سبحانه وتعالى؟.
لأنه يقال: كلامها (علیها السلام) ذلك ينبع من عظيم معرفتها بالله وشديد خضوعها له سبحانه وتعالى، وهذا الاعتراف وطلب العذر هو مقتضى العبودية لله عزوجل كما فصل في محله، فكل ما يفعله الإنسان - حتى الواجب - بحاجة إلى الاعتذار من الله سبحانه وتعالى.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إني استغفر الله كل يوم سبعين مرة من غير ذنب»(1)، وذلك لأن مقام الله عظيم جداًوفوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، ومن هنا فإن الأعمال التي يقدمها العبد مهما كانت فإنها لا تناسب شأنه سبحانه وتعالى، فعلى العبد أن يستغفر الله دائماً وأبداً، كما ذكره بعض العلماء في مسألة أدعيتهم التي يعترفون فيها بالذنوب، مثل قول الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) في (دعاء أبي حمزة): «أنا الذي.. أنا الذي.. الخ»(2)، وكذلك أدعية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)(3) وسائر الأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فإن تلك التعابير هي مقتضى العبودية ورعاية لحق الربوبية، لا أنه - والعياذ بالله - صدر من المعصوم ذنب، كما هو واضح.
ولهذه الأدعية وجه آخر ذكر في محله، والله العالم بحقائق الأمور.
ص: 499
..............................
مسألة: عذير المعصوم (عليه السلام) هو الله تعالى فيما يفعله أو يتخذه من موقف،فإن المعصوم (عليه السلام) لا يفعل إلاّ ما أراده الله عزوجل؛ لأنهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل، وقد أمر الباري بطاعتهم (علیهم السلام).
ومن هنا قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1).
وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الباقر (عليه السلام)، قال: «أوصى النبي (صلی الله علیه و آله) إلى علي والحسن والحسين (علیهم السلام) - ثم قال - في قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ(2)، قال: الأئمة من ولد علي وفاطمة (علیهم السلام) إلى أن تقوم الساعة»(3).
وعن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) - وعنده إسماعيل ابنه (عليه السلام) - يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ(4) الآية، قال: فقال:«الملك العظيم افتراض الطاعة»(5).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأنبياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته - ثم قال - إن الله يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ إلى حَفِيظاً(6) أما لو أن رجلاً قام ليله
ص: 500
..............................
وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالة منه إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان - ثم قال - أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضله ورحمته»(1).
وعن أبي إسحاق النحوي، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن الله أدب نبيه على محبته فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(2) - إلى أن قال - وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوض إلى علي (عليه السلام)فائتمنه فسلمتم وجحد الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(3).
عن جعفر بن محمد الفزاري معنعناً، عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية من قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4). قال: «الفتنة الكفار». قال: يا أبا جعفر، حدثني فيمن نزلت؟. قال: «نزلت في رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجرى مثلها من النبي (صلی الله علیه و آله) في الأوصياء في طاعتهم»(5).
وعن بريد العجلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، في قول الله تبارك وتعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. قال: «جعل
ص: 501
-------------------------------------------
منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيفيقرون في آل إبراهيم (عليه السلام) وينكرونه في آل محمد (صلی الله علیه و آله)». قال: قلت: وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً؟. قال: «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم»(1).
ويلاي في كل شارق.. ويلاي في كل غارب..
مسألة: يجوز الإخبار عن الويل الذي تعرض له الإنسان، كما يجوز طلبه (بالمعنى الذي سيأتي)؛ فإنه يجوز للمظلوم والمصاب بمال أو عزيز أو نفس أو ما أشبه أن يقول هذه الكلمة، دلالة على عظيم ما أصابه من المصاب في نفسه، أو ذوي قرابته، أو أحبته وأصحابه، أوما أشبه ذلك.
وهذا لا يعني الجزع، وإن كان الجزع في مصاب أهل البيت (علیهم السلام) جائزاً بل راجحاً.
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكر المصيبة ويصبر حين تفجأه إلا غفر الله له ماتقدم من ذنبه، وكلما ذكر مصيبة فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر له كل ذنب اكتسبه فيما بينهما»(2).
وعن داود بن رزين، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من ذكر مصيبته ولو
ص: 502
..............................
بعد حين فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم آجرني على مصيبتي وأخلف عليَّ أفضل منها، كان له من الأجر مثل ما كان عند أول صدمة»(1).
مسألة: من المستحب بيان ما جرى على الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من المصائب حتى قالت: «ويلاي في كل شارق.. ويلاي في كل غارب».. وقد يجب ذلك.
والذي يظهر أن معنى قولها (علیها السلام): «ويلاي» هو أن البؤس والشدة (وهما معنى الويل) أصبحا ملازمين لي، وذلك نتيجة غصبهم حقي وحق بعلي (عليه السلام) وإهانتي وإيذائي.. وقد كنَّتْ عن الملازمة ب- (كل شارق وغارب) أي كلصباح ومساء..
ومن الواضح أن كلامها هذا إخبار وليس إنشاءً ودعاءً.
ومن معاني الويل: حلول الشر.. ومن معانيه: الهلاك.. فكأنها (علیها السلام) تقول: إن الشر (والمراد به المرض والعنت والهوان بسبب ما لحقها من مواقف وتصرفات القوم وغاصبي الخلافة) يحل بي كل صباح ومساء، وذلك إما كناية عن الدوام كما سبق.. أو إشارة لتجدد آلامها وأحزانها كل صباح ومساء.
وكذلك الهلاك.. فكأنهما قتلاها في كل صباح ومساء، إذ أن الذل والهوان المستمرين قد يكونان أسوأ وأشد وأقسى وأمرّ من أن يقتل المرء مئات المرات.. وكفاهما ذلك إثماً وجرماً.
ص: 503
-------------------------------------------
ومن المحتمل أن تكون (ويلاي) دعاءً فيكون المعنى: إنها تتمنى الموت كل صباح ومساء، إذ إنه أهون وأخف من المهانة الاجتماعية التي ألحقاها بها.
وفي اللغة: الويل: الحزن والهلاك، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل، وفي الندبة يقال: ويلاه.مات العَمَد، ووهن العَضُد
مسألة: لا ينبغي الريب في أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والصديقة الكبرى (علیها السلام) والأئمة (علیهم السلام) والشهداء أحياء بعد موتهم، كما قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(1)، و(الموت) بالنسبة إليهم ليس بالمعنى الذي يفهمه الناس منه من عدم القدرة على التصرف في شؤون هذه الدنيا.
إلاّ أن الفرق بين حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وموته هو:
أولاً: عدم تصرفه (صلی الله علیه و آله) عبر جسده المادي عادةً، إلا فيما خرج بالدليل.
وثانياً: ترتب بعض الآثار على حياته المباركة فحسب، وليس كلها، كما في قوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(2) حيث إن حياته المادية كانت إحدى سببي رفع العذاب، فتأمل.
ص: 504
..............................
فقولها (علیها السلام): «مات العَمَد..»،إشارة إلى فقدانها (علیها السلام) بموته (صلی الله علیه و آله) جانباً (1) من حمايته وتصرفاته التي انقطعت بموته (صلی الله علیه و آله).
و(العَمَد):هو ما يُعتمد عليه في الأمور.
و(العَضُد) للإنسان بمنزلة يده حيث يقبض ويبسط ويدفع ويجذب بسبب اليد.. والعضد هي محور القدرة في كل ذلك.
ومن الواضح أن الرسول (صلی الله علیه و آله) - بالنسبة إلى المسلمين عامة والصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) خاصة - كان عمداً وعضداً.
هذا ويحتمل أن يكون المراد من (العمد): الرسول (صلی الله علیه و آله)، ومن (العضد): الإمام علي (عليه السلام).. ووهنه (عليه السلام) أولاً لفقده أول مدافع عنه وهو الرسول (صلی الله علیه و آله)وثانياً لتقييده بوصيته (صلی الله علیه و آله).. مضافاً إلى تكالب الأعداء عليه وظلمهم له.
قولها (علیها السلام): (مات ..ووهن) تشير به إلى أن ذلك كان هوالسبب في عدم استرجاع الحق في فدك والخلافة.
مسألة: يستحب أن يُتخذ الرسول (صلی الله علیه و آله) عمداً وأمير المؤمنين (عليه السلام) عضداً، وهذا لا يعني الشرك كما هو واضح، بل ابتغاء الوسيلة إلى الله عزوجل حيث قال تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ(2) على ما هو مذكور في العقائد.
وفي الحديث: «إن الشيطان إذا سمع منادياً ينادي: يا محمد، يا علي، ذاب
ص: 505
..............................
كما يذوب الرصاص»(1).
وفي الدعاء: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِمْ، وَعَجِّلِ اللَّهُمَّ فَرَجَهُمْ بِقَائِمِهِمْ، وَأَظْهِرْ إِعْزَازَهُ، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ- اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَانِي، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ انْصُرَانِي فَإِنَّكُمَانَاصِرَانِي، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ احْفَظَانِي فَإِنَّكُمَا حَافِظَانِي، يَا مَوْلاَيَ يَا صَاحِبَ الزَّمَانِ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - الْغَوْثَ، الْغَوْثَ، أَدْرِكْنِي، أَدْرِكْنِي، الأَمَانَ، الأَمَانَ»(2).
وفي بعض الصلوات المستحبة(3): «ثم تضع خدك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرة في سجودك: يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ، اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَايَ، وَانْصُرَانِي فَإِنَّكُمَا نَاصِرَايَ»(4).
وفي بعضها(5): «ثم يقلب خده الأيسر على الأرض ويقول: يَا مُحَمَّدُ، يَا عَلِيُّ، يَا جَبْرَئِيلُ، بِكُمْ أَتَوَسَّلُ إِلَى اللَّهِ، ثم يسجد ويكرر هذا القول ويسأل حاجته»(6).
وفي صلاة الغياث: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا كانت لأحدكم استغاثة إلى الله تعالى فليصلّ ركعتين، ثم يسجد ويقول: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
ص: 506
..............................
يَا عَلِيُّ يَا سَيِّدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، بِكُمَا أَسْتَغِيثُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ أَسْتَغِيثُ بِكُمَا يَا غَوْثَاهُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَ - وَتَعُدُّ الأئِمَّةَ (علیهم السلام) - بِكُمْ أَتَوَسَّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فإنك تُغاث من ساعتك إذ شاء الله تعالى»(1).
وفي حرب أُحُد: كان النبي » يقول: «يا علي رد هذه الكتيبة عني»، «يا علي اكفني هذه الكتيبة»(2)، فكانت تقارب خمسين فارسا وعلي (عليه السلام) راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عن رسول الله »، ثم تجتمع عليه هكذا مراراً... حتى قال جبرئيل (عليه السلام) لرسول الله »: يا محمد إن هذه المواساة!، لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى، فقال رسول الله » : وما يمنعه مني وهو مني وأنا منه، وقال جبرائيل: وأنا منكما، وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى الشخص الصارخ به، ينادي مرارا:
لا فتى إلا علي *** لا سيف إلا ذو الفقار(3)
فإنه لما عصى المسلمون أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركوا الثغرة التي وكلهم بها، ولم يبق فيها سوى نفر قليل، حمل عليهم خالد بن الوليد فقتلهم، بعد أن تراموا بالنبال، وتطاعنوا بالرماح، وتقاتلوا بالسيوف، ثم جاء من ظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يريده، فنظر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في قلّة من أصحابه فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون فشأنكم به.
ص: 507
..............................
وبصرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، فحملوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبل، ورضخاً بالحجارة.
وجعل أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقاتلون عنه حتى قتل منهم سبعون رجلاً، أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبدالله بن جحش، وسائرهم من الأنصار، فانهزم على أثره الباقون، ولم يثبت للقوم إلاّ علي (عليه السلام)، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، يدفعون عن النبي (صلی الله علیه و آله) وقد كثر عليهم المشركون.
فالتفت النبي (صلی الله علیه و آله)إلى علي (عليه السلام)، وقال: «ما صنع الناس يا علي؟».
قال (عليه السلام): «كفروا يا رسول الله وولّوا الدبر من العدو وأسلموك».
قال: «ما لك لاتذهب مع القوم؟».
فقال: «أذهب وأدعك يا رسول الله؟ أكُفرٌ بعد ايمان؟! إنّ لي بك اُسوة والله لا برحت حتى اُقتل، أو ينجز الله لك ما وعدك من النصر»، فثبت معه يدفع عنه الكتائب.
فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لعلي (عليه السلام): «ردّ عني يا علي هذه الكتيبة»، فحمل عليها وفرَّقها، وكلّما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم علي (عليه السلام) فيدفعهم عنه، ويقتلهم حتى تقطّع سيفه ثلاث قطع(1).
ص: 508
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بث الشكوى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) والصالحين في الجملة، أحياءًوأمواتاً، وهذا مما يدل على تأثير وجوده (صلی الله علیه و آله) حتى بعد موته، فإنه لو كانت الشكوى له بعد موته لغواً لما شكت إليه الصديقة الزهراء (علیها السلام) ظلامتها بعد موته ».
واستفادة الاستحباب لأدلة الأسوة وحجية قولها (علیها السلام) وفعلها وتقريرها وما أشبه.
ومنه يعلم أن ما جرت عليه سيرة المؤمنين من اللجوء إلى أضرحة المعصومين والأولياء والصالحين (علیهم السلام) وبث الشكوى لهم هو نوع تضرع إلى الله فإنهم (علیهم السلام) الطريق إليه عزوجل والدليل عليه، قال عزوجل: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ(1).
مضافاً إلى ما تقدم من كونه تأسياً بالصديقة الكبرى(علیها السلام)(2) والأئمة الأطهار (علیهم السلام).. فإن الشكوى إلى الرسول والأئمة الطاهرين والزهراء (صلوات
الله عليهم أجمعين) سبيل إلى الشكوى إلى الله سبحانه، لأنهم شفعاء إلى الله، وهم الوسيلة إليه لقضاء الحوائج وكشف النوائب، بل إن الشكوى إلى هؤلاء بنفسه أيضاً مستحب، لأنهم محل مشيئةالله وأوعية علمه كما ورد في الروايات.
وهناك روايات وقصص كثيرة في الشكوى إلى المعصوم (عليه السلام) منها:
ص: 509
..............................
روى أبو علي بن راشد، عن أبي هاشم الجعفري، قال: شكوت إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) الحاجة، فحك بسوطه الأرض فأخرج منها سبيكة فيها نحو الخمسمائة دينار، فقال: «خذها يا أبا هاشم و أعذرنا»(1).
ودخل أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَيناً عليه. فقال: «يا أبا عمرو - وكان وكيله - ادفع إليه ثلاثين ألف دينار، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار»، فهذه معجزة لا يقدر عليها إلا الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء(2).
وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب بها دَيناً فأعياني.فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وشكوت إليه، فأتيته بنعمي في ضيعته، فخرج إليَّ ومعه غلام معه منسف فيه قديد مجزع ليس معه غيره، فأكل وأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل فلم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليَّ فقال لغلامه: «اذهب فمد يده إليَّ», فدفع صرة فيها ثلاثمائة دينار ثم قام فولى، فقمت فركبت دابتي و انصرفت(3).
وعن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده المعلى بن خنيس إذ دخل عليه رجل من أهل خراسان. فقال: يا ابن رسول الله، أنا من مواليكم أهل البيت تعرف موالاتي إياكم، وبيني وبينكم شقة بعيدة، وقد قلّ ذات يدي ولا أقدر أن أتوجه إلى أهلي إلاّ أن تعينني. قال: فنظر
ص: 510
..............................
أبو عبد الله (عليه السلام) يميناً وشمالاً وقال: «ألا تسمعون ما يقول أخوكم، إنما المعروف ابتداءً، فأما ما أعطيت بعد ما سأل فإنما هو مكافأة لما بذل لك من وجهه - ثم قال - فيبيت ليلة متأرقاً متململاً بين اليأس والرجاء لا يدري أين يتوجهبحاجته، فيعزم على القصد إليك فأتاك وقلبه يجب وفرائصه ترتعد، وقد نزل دمه في وجهه وبعد هذا فلا يدري أينصرف من عندك بكآبة الرد أم بسرور النجح، فإن أعطيته رأيت أنك قد وصلته، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لما يتجشم من مسألته إياك أعظم مما ناله من معروفك». قال: فجمعوا للخراساني خمسة آلاف درهم(1).
وعن اليسع بن حمزة، قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا(عليه السلام) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم. فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك، مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله عليَّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة. فقال له: «اجلس رحمك الله»، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا. فقال: «أتأذنون لي في الدخول». فقال له سليمان: قدم الله أمرك. فقام ودخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد البابوأخرج يده من أعلى الباب، وقال: «أين الخراساني؟». فقال: ها أنا ذا. فقال: «خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في مئونتك ونفقتك وتبرك بها، ولا تصدق بها عني واخرج فلا أراك ولاتراني».
ص: 511
..............................
ثم خرج (عليه السلام) فقال سليمان: جعلت فداك، لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه؟. فقال:«مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له.
أما سمعت قول الأول:
متى آته يوماً أطالب حاجة *** رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه(1)
وعن الحارث الهمداني، قال: سامرت أمير المؤمنين (عليه السلام). فقلت: يا أمير المؤمنين، عرضت لي حاجة. قال: «فرأيتني لها أهلاً؟».
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: «جزاك الله عني خيراً».
ثم قام إلى السراج فأغشاها وجلس ثم قال: «إنما أغشيت السراج لئلا أرىذل حاجتك في وجهك فتكلم؛ فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: الحوائج أمانة من الله في صدور العباد فمن كتمها كتب له عبادة، ومن أفشاها كان حقاً على من سمعها أن يعينه»(2).
ص: 512
-------------------------------------------
مسألتان: ينبغي تهديد الظالم برفع أمره إلى الله عزوجل، كما ينبغي - في مرحلة الثبوت - إيكال الأمر إليه تعالى وإحالة الانتقام من العدو عليه.
قولها (علیها السلام): «عدواي إلى ربي»، أي: أسأل الله أن يقاضي عدوي وأن يجزيه بالعدوان عدواناً.
ويسمى جزاء التعدي بالتعدي للمشاكلة، كما قال سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ(1) ، وهو من أبواب البلاغة، وفي القرآن الحكيم أيضاً عن لسان عيسى (عليه الصلاة والسلام): تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ(2) وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ(3) إلى غير ذلك من أمثلة المشاكلة.
وفي اللغة (العدوى): طلبك إلى والٍليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه(4).
فالمشتكى إليه هو رسول الله (صلی الله علیه و آله) والذي يطلب منه الفصل أخيراً وعقوبة المعتدي هو الله سبحانه وتعالى. فهي (صلوات الله عليها) تقول: إني أذهب بشكواي إلى أبي (صلی الله علیه و آله) وأطلب من الله سبحانه وتعالى أن يرد تعديهم عليَّ.
ص: 513
..............................
مسألة: ينبغي بيان أن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) قد اشتكت من القوم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وطلبت من الله عزوجل أن ينتقم منهم من تلك المظلمة التي ظلموها بها. وهذه هي سيرة الأولياء والأنبياء (علیهم السلام) ، وهناك آيات عديدة وروايات كثيرة في شكوى الأنبياء (علیهم السلام) إلى الله من قومهم وطلب نزول العذاب عليهم: قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً (علیهم السلام) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِراراً (علیهم السلام) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (علیهمالسلام) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (علیهم السلام) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً(1).
وقال سبحانه: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً (علیهم السلام) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً(2).
وقال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (علیهم السلام) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً (علیهم السلام) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً(3).
وقال سبحانه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً(4).
ص: 514
..............................
وقال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (علیهم السلام) فَاسْتَجَبْنَا له فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْرَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرى لِلْعَابِدِينَ(1).
وقال سبحانه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (علیهم السلام) فَاسْتَجَبْنَا له وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (علیهم السلام) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (علیهم السلام) فَاسْتَجَبْنَا له وَوَهَبْنَا له يَحْيى وَأَصْلَحْنَا له زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(2).
وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(3).
وفي البحار: قال رسول الله » لابنته فاطمة (علیها السلام): «يا بنية أنت المظلومة بعدي، وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن سرك فقد سرني، ومن برّك فقد برني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقدظلمني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني وروحي التي بين جنبي، ثم قال »: إلى الله أشكو ظالميك من أمتي»(4).
ص: 515
-------------------------------------------
وقال ابن عباس: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل جنة عدن منزلي، قصباً غرسه ربي عزوجل ثم قال له: كن فكان، فليتول علي بن أبي طالب ولياً، ثم بالأوصياء من ولده؛ فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، إلى الله أشكو أعداءهم من أمتي، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، وايم الله ليقتلن بعدي ابني الحسين لا أنالهم الله شفاعتي»(1).
اللهم إنك أشد منهم قوة وحولاً، وأشد بأساً وتنكيلاً
مسائل: يجب الاستنجاد بالله عزوجلكما استنجدت الصديقة (علیها السلام)، ويجب إيكال الأمر إليه كما فعلت (علیها السلام)، وينبغي الإعلان عن ذلك والجهر به كما صنعت (علیها السلام).
والقوة: عبارة عن القدرة التي يفعل الله سبحانه وتعالى بها ما يشاء.
والحول: عبارة عن تحويله الحال إلى حال آخر، من حسن إلى أحسن، ومن حسن إلى حسن آخر(2)، ومن حسن إلى سيئ، ومن الأحسن إلى الحسن أو السيئ، وكذلك من جانب السوء.
ص: 516
..............................
والبأس: العذاب ونحو العذاب كالخوف الشديد، وربما كان بمعنى العذاب الشديد أيضاً(1). قال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا(2). أي شدة عذابنا. وقال عزوجل:وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(3).
وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْيَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ(4). وقال سبحانه: أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(5).
وقال عزوجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(6).
وقال سبحانه: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(7).
وقال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(8).
والتنكيل: العقوبة بما يظهر أثره، فإنه يسمى قطع الأنف والأذن وما أشبه بالتنكيل. وفي اللغة: تنكيل المولى بعبده بأن يجدع أنفه أو يقطع أذنه ونحو ذلك(9).
ص: 517
..............................
وهذا (1) من باب ضيق اللفظ، وإلاّ فلا تقاس نسبة حول الله وقوته وبأسه وتنكيله بالإنسان إلاّ قياساً يعدّ أبعد من البعيد حتى أضحى كالمجاز مثل قوله: هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(2) وهو أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(3) أو ما أشبه ذلك.
وكأنها (صلوات الله عليها) توجهت في قولها هذا إلى الله سبحانه وتعالى قائلة - في خضوع ودعاء وتضرع - أنت القوي في أخذ حقي ولا قوة أقوى من قوتك، وأنت القادر على تحويل الحال من هذا الحال السيئ إلى الحسن، فكلامها تضرع لله واستنجاد به ودعاء على القوم. وفي بعض النسخ : «وأحدّ بأساً وتنكيلاً» أي: إن بأسك حاد ونافذ كالسكين الحاد الذي ينفذ في اللحم.
لا يقال: لماذا لم يحوّل سبحانه وتعالى الحال ولم ينتقم من القوم، رغم أنه جل وعلا أشد منهم حولاً وقوة وأحد باساً وتنكيلاً؟.
إذ يقال: أولاً: الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ولذلك جرى على الأنبياءوالأوصياء والصالحين (علیهم السلام) ما جرى من الظلم والتعدي حتى وصل الأمر في كثير منهم إلى التعذيب والتنكيل والقتل، والتغيير الإعجازي خلاف فلسفة الامتحان والإمهال(4) والإمداد(5)، إلا فيما خرج بالدليل.
ص: 518
..............................
وثانياً: إن استجابة الله لدعائها (علیها السلام) هي كما في قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ»(1)، وقد فسر ذلك في بعض الأحاديث بزمن ظهور خاتم الأوصياء الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(2).
وثالثاً: ما ذكرناه في مواضع من (الفقه) من أن عقوبة الله - في الدنيا قبل الآخرة وقبل الظهور - تتجلى في العديد من المحاكم منها: محكمة البدن، ومحكمة النفس، ومحكمةالاجتماع، ومحكمة التاريخ، ومحكمة الطبيعة(3)، وما أشبه، وقد حصلت هذه العقوبات وستحصل في مراتب أشد وأكثر.
وفي مستدرك الوسائل: عن الشيخ الكفعمي في (مصباحه)، عن النعماني في كتاب (دفع الهموم والأحزان)، عن علي (عليه السلام):
«أنه من ظُلم ولم يرجع ظالمه عنه فليفضّ الماء على نفسه، ويسبغ الوضوء ويصلي ركعتين، ويقول:
اللَّهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ ظَلَمَنِي وَاعْتَدَى عَلَيَّ، وَنَصَبَ لِي وَأَمَضَّنِي وَأَرْمَضَنِي، وَأَذَلَّنِي وَأَخْلَقَنِي، اللَّهُمَّ فَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُدَّ رُكْنَهُ، وَعَجِّلْ جَائِحَتَهُ، وَاسْلُبْهُ نِعْمَتَكَ عِنْدَهُ، وَاقْطَعْ رِزْقَهُ، وَابْتُرْ عُمُرَهُ، وَامْحُ أَثَرَهُ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وَخُذْهُ فِي مَأْمَنِهِ كَمَا ظَلَمَنِي وَاعْتَدَى عَلَيَّ، وَنَصَبَ لِي وَأَمَضَّ وَأَرْمَضَ، وَأَذَلَّ وَأَخْلَقَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ فَأَعِدْنِي، فَإِنَّكَ
ص: 519
-------------------------------------------
أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً؛ فَإِنَّهُ لاَ يُمْهَلُ إِنْشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثاً»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تعالى يُمهل الظالم حتى يقول: أهملني، ثم إذا أخذه أخذه أخذة رابية»(2).
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا ويل لكِ، بل الويل لشانئكِ
مسألة: يستحب تسلية(3) المظلوم والتخفيف عن آلامه والتفريج عنه، فإنها من مصاديقه، وتفريج كربة المكروب من أفضل القربات.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك»(4).وفي الحديث: «من عزى مصاباً فله مثل أجره، ومن عزى ثكلى كُسِيَ بُرداً في الجنة»(5).
ص: 520
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «من عزى أخاه المؤمن كسي في الموقف حلة»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من عزى مصاباً كان له مثل أجره من غير أن ينقصه الله من أجره شيئاً»(2).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «من عزى أخاه المؤمن من مصيبة كساه الله عزوجل حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة». قيل: يا رسول الله، ما يحبر بها؟. قال: «يغبط بها»(3).
وروي: «أن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه قال: يا رب، فما جزاء من يصبّر الحزين ابتغاء وجهك؟. قال: أكسوه ثوباً منالإيمان يتبوأ بها في الجنة، ويتقى بها من النار»(4).
وروي: «أن داود (عليه السلام) قال: إلهي ما جزاء من يعزّي الحزين على المصاب ابتغاء مرضاتك؟. قال: جزاؤه أن أكسوه رداءً من أردية الإيمان أستره به من النار»(5).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «التعزية تورث الجنة»(6).
وروي أنه: «من عزى حزيناً كسي في الموقف حلة يحبر بها»(7).
ص: 521
..............................
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من عزى الثكلى أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»(1).
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في باب التسلية والتعزية.
وفي الحديث القدسي قال الله عزوجل:«إني تطولت على عبادي بثلاث: ألقيت عليهم الريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حميم حميماً، وألقيت عليهم السلوة بعد المصيبة ولولا ذلك لم يتهن أحد منهم بعيشه، وخلقت هذه الدابة وسلطتها على الحنطة والشعير ولولا ذلك لكنزهما ملوكهم كما يكنزون الذهب والفضة»(2).
مسألة: تسلية المتألم نفسياً، والمتألم جسدياً - كتسلية المظلوم - مستحبة، ومن مصاديقها عيادته والدعاء له؛ فإن إطلاق قوله (صلی الله علیه و آله): «من سلى (عزى) مصاباً له مثل أجره»(3) السابق الذكر كما يشمل المظلوم يشمل غيره، ويعمّ كل (مصاب) ب- (ظلم) أو (مرض) أو (فقر) أو (فقد عزيز) أو ما أشبه ذلك.
والصديقة الزهراء (علیها السلام) كانت مظلومة ومضطهدة ومتألمة نفسياً وجسدياً لشدة ما جرى عليها من المصائب ف- «ما زالت بعد أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) معصبة الرأس، ناحلة الجسم، يُغشى عليها ساعة بعدساعة»(4).
ص: 522
..............................
عن جعفر بن يحيى الخزاعي، عن أبيه، قال: دخلت مع أبي عبد الله (عليه السلام) على بعض مواليه يعوده، فرأيت الرجل يكثر من قول: آه. فقلت له: يا أخي، اذكر ربك واستغث به. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «آه اسم من أسماء الله، فمن قال: آه، استغاث بالله عزوجل»(1).
وعن محمد بن المنكدر، قال: مرض عون بن عبد الله بن مسعود فأتيته أعوده. فقال: أفلا أحدثك بحديث عن عبد الله بن مسعود؟. قال: بلى. قال: قال عبد الله: بينا نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ تبسم. فقلت: ما لك يا رسول الله تبسمت؟. قال: «عجبت من المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب أن لا يزال سقيماً حتى يلقى ربه عزوجل»(2).
وعن الأرقط - وهو ابن أخت أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) - قال: مرضت مرضاً شديداًوأرسلت أمي إلى خالي، فجاء وأمي خارجة في باب البيت - وهي أم سلمة بنت محمد بن علي - وهي تقول: وا شباباه. فرآها خالي فقال: «ضمي عليكِ ثيابكِ ثم ارقي فوق البيت، ثم اكشفي قناعكِ حتى تبرزي شعركِ إلى السماء ثم قولي: ربِ أنت أعطيتنيه وأنت وهبته لي، اللهم فاجعل هبتك اليوم جديدة إنك قادر مقتدر، ثم اسجدي فإنكِ لا ترفعين رأسكِ حتى يبرأ ابنكِ». فسمعت ذلك وفعلته، قال: فقمت من ساعتي فخرجت مع خالي إلى المسجد»(3).
وروي: أن صفوان بن يحيى قال: قال لي العبدي: قالت أهلي: قد طال
ص: 523
..............................
عهدنا بالصادق (عليه السلام)، فلو حججنا وجددنا به العهد. فقلت لها: والله ما عندي شيء أحج به. فقالت: عندنا كسو وحلي فبع ذلك وتجهز به. ففعلت فلما صرنا قرب المدينة مرضت مرضاً شديداً وأشرفت على الموت، فلما دخلنا المدينة خرجت من عندها وأنا آيس منها، فأتيت الصادق (عليه السلام) وعليه ثوبان ممصران، فسلمت عليه فأجابني وسألني عنها، فعرفته خبرهاوقلت: إني خرجت وقد أيست منها، فأطرق ملياً ثم قال: «يا عبدي، أنت حزين بسببها؟». قلت: نعم. قال: «لا بأس عليها، فقد دعوت الله لها بالعافية، فارجع إليها فإنك تجدها قاعدة والخادمة تلقمها الطبرزد». قال: فرجعت إليها مبادراً فوجدتها قد أفاقت وهي قاعدة والخادمة تلقمها الطبرزد. فقلت: ما حالكِ؟. قالت: قد صب الله عليَّ العافية صباً وقد اشتهيت هذا السكر. فقلت: خرجت من عندك آيساً، فسألني الصادق عنكِ فأخبرته بحالكِ، فقال: لا بأس عليها ارجع إليها فهي تأكل السكر. قالت: خرجت من عندي وأنا أجود بنفسي، فدخل عليَّ رجل عليه ثوبان ممصران، قال: ما لكِ؟. قلت: أنا ميتة وهذا ملك الموت قد جاء يقبض روحي. فقال: يا ملك الموت. قال: لبيك أيها الإمام. قال: ألست أُمرت بالسمع والطاعة لنا؟. قال: بلى. قال: فإني آمرك أن تؤخر أمرها عشرين سنة. قال: السمع والطاعة. قالت: فخرج هو وملك الموت فأفقت من ساعتي»(1).
وعن أبي يحيى، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «تمام العيادة أن تضع يدك علىالمريض إذا دخلت عليه»(2).
ص: 524
..............................
وعن موسى بن القاسم، قال: حدثني أبو زيد، قال: أخبرني مولى لجعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: مرض بعض مواليه فخرجنا إليه نعوده ونحن عدة من موالي جعفر، فاستقبلنا جعفر (عليه السلام) في بعض الطريق، فقال لنا: «أين تريدون؟» فقلنا: نريد فلاناً نعوده. فقال لنا: «قفوا». فوقفنا، فقال: «مع أحدكم تفَاحة، أو سفرجلة، أو أترجة، أو لعقة من طيب، أو قطعة من عود بخور؟». فقلنا: ما معنا شيء من هذا. فقال: «أما تعلمون أن المريض يستريح إلى كل ما أدخل به عليه»(1).
وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن من أعظم العواد أجراً عند الله لمن إذا عاد أخاه خفف الجلوس إلا أن يكون المريض يحب ذلك ويريده ويسأله ذلك - وقال - من تمام العيادة أن يضع العائد إحدى يديه على الأخرى أو علىجبهته»(2).
..............................
الطلب ولزيادة الثواب، كعكسه أيضاً(1)، فكونه مصاباً سبب لاستحباب تسليته، فإذا كان المصاب رحماً أو زوجةً تأكد الاستحباب وزاد الثواب لقوله عزوجل: وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ(2)، وقوله سبحانه: هُنَّلِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ(3)، إلى غير ذلك مما يدل على هذه الأولوية في جميع الأبواب.
والصديقة فاطمة (علیها السلام) قد جمعت إلى كل ما سبق كونها بضعة الرسول (صلی الله علیه و آله)، وأم الأئمة النجباء (علیهم السلام)، وسيدة نساء العالمين، والحجة على أهل العالمين بما فيهم أبناؤها الهداة حتى الإمام القائم (عجل الله فرجه الشريف)، كما ورد في الحديث عن العسكري (عليه السلام) (4).
قوله (عليه السلام): «لا ويل لكِ» فإنه لا منافاة بين قول الزهراء (علیها السلام) وقول الإمام علي (عليه السلام) إذ قولها على سبيل المجاز والظاهر، وقوله على سبيل الواقع والحقيقة.
..............................
أما الدعاء على أعداء أهل البيت (علیهم السلام) بالويل والثبور واللعن وشبه ذلك فهو من أعظم القربات إلى الله تعالى وهو بين مستحب وواجب، ويدل عليه الآيات والروايات المتواترة الآمرة باللعن أو الناطقة به، ومنها دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) عليهم هنا حيث قال: «بل الويل لشانئكِ»، والظاهر أنه إنشاء..
ويحتمل كونه إخباراً بأن البؤس والهلاك الحقيقي والشقاء على أعدائها (صلوات الله عليها).
ثم إن إثبات كون الويل للشانئ لا ينفي كونه أيضاً لغير المحب وغير الموالي العارف بهم أو المقصر في معرفتهم، فإن البؤس والشقاء لمن لم يعرف الحق وأهله وإن لم يبغضهم وقد فصلنا الحديث عن ذلك في موضع آخر.
قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً»(1) وإيذاء أهل البيتإيذاء له (صلی الله علیه و آله).
وقال عزوجل: «ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(2).
وقال سبحانه: «أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(3). وقال تعالى: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»(4).
وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(5).
ص: 527
..............................
إلى غيرها مما نزل في أعداء أهل البيت (علیهم السلام) أو كانوا من أبرز مصاديقها، أي كان اللعن على من ظلمهم أو كذبهم أو آذاهم من أبرز المصاديق.
عن النبي (صلی الله علیه و آله): «تصلي ليلة عاشوراء أربع ركعات في كل ركعة الحمد مرةً وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)خمسين مرةً، فإذا سلمت من الرابعة فأكثر ذكر الله تعالى، والصلاة على رسوله، واللعن لأعدائهم ما استطعت»(2).
وعن ذريح المحاربي، قال: قال له الحارث بن المغيرة النصري - أي لأبي عبد الله (عليه السلام) -: إن أبا معقل المزني حدثني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه صلى بالناس المغرب فقنت في الركعة الثانية، فلعن معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري وأبا الأعور السلمي؟. قال الشيخ (عليه السلام): «صدق فالعنهم»(3).
وعن عبد الله بن معقل عن علي (عليه السلام): أنه قنت في الصبح فلعن معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا موسى، وأبا الأعور، وأصحابهم(4).
وروي: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قنت في الصبح ودعا على جماعة وسماهم(5).
وقال الصادق (عليه السلام): «طوبى للذين هم كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. فقال له رجل: يا ابن رسول الله، إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلا البراءة من أعدائكم واللعن عليهم، فكيف حالي؟
ص: 528
..............................
فقال له الصادق (عليه السلام): «حدثني أبي عن أبيه عن جده (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: من ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في خلواته أعداءنا، بلغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه فلعنوا من يلعنه ثم ثنوا فقالوا: اللهم صل على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه، ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله تعالى: قد أجبت دعاءكم، وسمعت نداءكم، وصليت على روحه في الأرواح، وجعلته عندي من المصطفين الأخيار»(1).
وقال الشهيد في (الذكرى): يجوز الدعاء فيه للمؤمنين بأسمائهم والدعاء على الكفرة والمنافقين؛ لأن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا فيقنوته لقوم بأعيانهم وعلى آخرين بأعيانهم، كما روي أنه (صلی الله علیه و آله) قال: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، واشدد وطأتك على مضر ورعل وذكوان»(2).
وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): «إن أشرف أعمالهم - أي المؤمنين - في مراتبهم التي قد رتبوا فيها من الثرى إلى العرش: الصلاة على محمد وآله الطيبين، واستدعاء رحمة الله ورضوانه لشيعتهم المتقين، واللعن للمتابعين لأعدائهم المجاهرين والمنافقين»(3).
وروي عنهم (علیهم السلام)، قال: «إذا أتيت قبر علي بن موسى (عليه السلام) بطوس فاغتسل ... والبس أطهر ثيابك وامش حافياً وعليك السكينة والوقار بالتكبير
ص: 529
..............................
والتهليل والتسبيح والتمجيد وقصّر خطاك - إلى أن قال: - ابتهل في اللعن على قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى قتلة الحسن والحسين (علیهما السلام) وعلىجميع قتلة أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) »(1).
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الويل لأعداء الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ومبغضيها، كما يلزم بيان ذلك للناس، وهو فرع من فروع الإيمان بالله ورسوله(2)، قال تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ»(3) فإن محادتها (علیها السلام) محادة لله ورسوله (صلی الله علیه و آله) للحديث النبوي المجمع عليه بين الشيعة والسنة: «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(4)، و«من أذاها فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله»(5)، وكما قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «الويل لشانئكِ» أي لمبغضكِ؛ فإن الويلالحقيقي هو ويل الدنيا والآخرة حيث العقاب فيهما للإنسان الذي يبغض أهل البيت (علیهم السلام) ويتعدى على حقهم (علیهم السلام).
عن سديف المكي، قال: حدثني محمد بن علي الباقر (عليه السلام) - وما رأيت محمدياً قط يعدله - قال:حدثنا جابر بن عبد الله الأنصاري،قال:خطبنا رسول الله
ص: 530
..............................
(صلی الله علیه و آله) فقال: «أيها الناس، من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً». قال: قلت: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟. فقال: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»(1).
وعن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أبغضنا أهل البيت بعثه الله عزوجل يهودياً. قيل: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن شهد الشهادتين؟. قال: قال: نعم، إنما احتجب بهاتين الكلمتين عند سفك دمه، أو يؤدي إليّ الجزية وهو صاغر - ثم قال: - من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يهودياً. قيل: وكيف يا رسول الله؟. قال:إن أدرك الدجال آمن به»(2).
عن ابن عباس، قال: قلت للنبي (صلی الله علیه و آله): أوصني. قال: «عليك بمودة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي بعثني بالحق نبياً لا يقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو تعالى أعلم؛ فإن جاءه بولايته قبل عمله على ما كان منه، وإن لم يأت بولايته لم يسأله عن شيء ثم أمر به إلى النار. يا ابن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً إن النار لأشدّ غضباً على مبغض علي (عليه السلام) منها على من زعم أن لله ولداً. يا ابن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغضه ولن يفعلوا لعذبهم الله بالنار». قلت: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟. قال: «يا ابن عباس، نعم يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً. يا ابن عباس، إن من علامة بغضهم له تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق ما بعث الله نبياً أكرم عليه مني ولا أوصياء أكرم عليه من وصيي علي». قال ابن عباس: فلم
ص: 531
..............................
أزل له كما أمرني رسول الله (صلی اللهعلیه و آله) وأوصاني بمودته وإنه لأكبر عملي عندي(1).
وقال رسول الله » في حديث: «يا علي ادنُ مني»، فدنا منه فقال: «إن السعيد حق السعيد من أحبك وأطاعك، وإن الشقي كل الشقي من عاداك ونصب لك وأبغضك. يا علي، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك. يا علي، من حاربك فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله عزوجل. يا علي، من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، وأتعس الله جده وأدخله نار جهنم»(2). وعن الربيع بن المنذر، عن أبيه، قال: سمعت محمد بن الحنفية يحدث عن أبيه قال: «ما خلق الله عزوجل شيئاً أشر من الكلب والناصب أشر منه»(3). وعن خالد بن يزيد القسري، قال: حدثني أمي الصيرفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: «برئ الله ممن تبرأ منا، لعن الله من لعننا، أهلك الله من عادانا، اللهم إنك تعلم أنا سبب الهدى لهم وإنما يعادونا لك فكن أنت المنفردبعذابهم»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، وعلى من قاتلهم، وعلى المعين عليهم، وعلى من سبهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم»(5).
ص: 532
-------------------------------------------
مسألة: يستحب الأمر بالصبر مطلقاً، من العالي للداني، وعكسه، وللماثل، وللأعلى، أو الأدنى(1)، وأمره (عليه السلام) لها (علیها السلام) بالصبر المستفاد من قوله «نهنهي» من قبيل الثالث(2).
وقد يجب - على حسب اختلاف حال المتعلق - قال تعالى: «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّوَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ»(3)، وقال سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(4)، ومن الواضح أن كل الأربع صبر إما بلفظه وإما بغيره.
فإن (صابروا) بمعنى المصابرة، أي: صبر بعضهم بعضاً.
و(رابطوا) يتقوم بالصبر أيضاً، فإن الرباط يحتاج إلى الصبر في الليل والنهار، وعلى الحر والبرد، والضيق والخوف والغربة وما أشبه ذلك.
و(اتقوا) عبارة عن الصبر مدى الحياة في شتى الجهات، فصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر في المصيبة حتى لا يجزع، إلى غير ذلك، وقد جاءت مادة الصبر في القرآن الحكيم في أكثر من خمسين موضعاً.
لا يقال: هل يحتاج مثلها (علیها السلام) إلى الوصية بالصبر؟.
ص: 533
..............................
إذ يقال:
أولاً: إن ذلك كأمره سبحانه وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) بالصبر «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَالرُّسُلِ»(1).
ثانياً: الصبر حقيقة تشكيكية ذا مراتب، وعلى حسب عظمة المصيبة تكون درجة الصبر، وعلى حسب مقام الشخص يكون مستوى درجة المأمور به(2) فليدقق.
قوله (عليه السلام): «نهنهي» بمعنى: كفّي، من نهنهت الرجل عن الشيء فتنهنه أي كففته وزجرته فكفّ.
و(الوجد) يأتي بمعنى الغضب، وبمعنى الحزن وهو الأنسب للمقام، خاصة بلحاظ التفريع اللاحق، إضافة إلى أن الأول(3) يتعدى ب- (على).
والمعنى: كفّي عن بث آلامكِ المقرحة للقلب. ويمكن تفسيره بأن مقصوده (عليه السلام) مرحلة الثبوت، أي كفّي وامتنعي عن حزنك المتزايد فإنه اختياري في الجملة.
هذا وفي كتبهم: (ماتت فاطمة وهي واجدة على أبي بكر)(4)، أيغاضبة.
ص: 534
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يكرم الزوج زوجته وأن يبين فضائلها.
فإن تكريم الزوج لزوجته والعكس، وكذلك بيان كل واحد منهما فضائل الآخر من آداب حسن المعاشرة، قال سبحانه: «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ»(1)، وقال تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(2)، وقال عزوجل: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(3).
وهناك روايات عديدة في الآداب الزوجية والمعاشرة بالمعروف، منها:
عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن قوماً أتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله، إنا رأينا أناساً يسجد بعضهم لبعض. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لوأمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(4).
وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل أن يبذل ماله ونفسه حتى يُقتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته»(5).
وفي حديث آخر: «جهاد المرأة حسن التبعل»(6).
ص: 535
..............................
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنةً من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر وقامت، وأعتقت الرقاب، وأنفقت الأموال في سبيل الله، وكانت أول من ترد النار» ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً، ومن صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه الله بكل مرة يصبر عليها من الثواب مثل ما أعطى أيوب على بلائه، وكان عليها منالوزر في كل يوم وليلة مثل رمل عالج، فإن ماتت قبل أن تعتبه وقبل أن يرضى عنها حشرت يوم القيامة منكوسةً مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ومن كانت له امرأة ولم توافقه ولم تصبر على ما رزقه الله وشقت عليه وحملته ما لم يقدر عليه، لم يقبل الله لها حسنةً تتقي بها النار وغضب الله عليها ما دامت كذلك»(1).
وعن يونس بن يعقوب، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع أحواله»(2).
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الطاهرة فاطمة (علیها السلام) هي ابنة الصفوة.
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال له: «يا علي، أوصيك بوصية فاحفظها، فلا تزال بخير ما حفظت وصيتي ... يا علي، إن الله عزوجل أشرف على أهلالدنيا
ص: 536
..............................
فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(1).
وعن مسروق، قالت عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال رسول الله: «مرحباً بابنتي»، فأجلسها عن يمينه وأسر إليها ... ثم قال: «ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين المؤمنين»(2).
والقاضي أبو محمد الكرخي في كتابه، عن الصادق (عليه السلام): «قالت فاطمة (علیها السلام):لما نزلت لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً(3)، هبت رسول الله » أن أقول له: يا أبة، فكنت أقول: يا رسول الله.فأعرض عني مرة واثنتين أوثلاثاً، ثم أقبل عليَّ فقال: يا فاطمة، إنها لم تنزل فيكِ، ولا في أهلكِ، ولا في نسلكِ، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر، قولي: يا أبة؛ فإنها أحيا للقلب، وأرضى للرب»(4).
وعن ابن عباس، قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو يقول: «يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد رسول الله.. ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر».
ص: 537
..............................
فقال قائل: يا رسول الله، هؤلاء معك ركبان يوم القيامة؟.
فقال: «ثكلتك أمك إنه لن يركب يومئذ إلا أربعة: أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله، فأما أنا فعلى البراق، وأما فاطمة ابنتي فعلى ناقتي العضباء، وأما صالح فعلى ناقة الله التي عقرت، وأما علي فعلى ناقة من نوقالجنة»(1).
وعن الثمالي عن الباقر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شي ء أربعة ... واختار من النساء أربعة: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة»(3).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض»(4).
وعن الحسن بن زياد العطار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول رسول الله: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»، أسيدة نساء عالمها؟.
قال: «ذاك مريم، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين».
فقلت: فقول رسول الله (صلی الله علیه وآله): «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟».
قال: «هما والله سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين»(5).
ص: 538
..............................
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الزهراء (علیها السلام) هي بقية النبوة.
قوله (عليه السلام): «بقية النبوة» يدل على أنها (علیها السلام) البقية الباقية من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفته نبياً، وهذا كمال المدح.
وينبغي أن يلاحظ أنه (عليه السلام) لم يعبر ب- (بقية النبي) بل عبر ب- (بقية النبوة) وهذا أدل على المقصود، وإن كان التعبير ب- (بقية النبي) بما هو نبي أي بصفته نبياً يفيد نفس المعنى إلا أن ذاك أوضح وأقوى دلالة، فهي (علیها السلام) ذلك الامتداد الحقيقي للنبوة، وهي خلاصة سائر الأنبياء (علیهم السلام).. وقد يكون إشارة إلى (والسر المستودع فيها). ويحتمل إرادة أنها (صلوات الله عليها) هي الباقية من النبي (صلی الله علیه و آله) في الطبقة الأولى من الوراث.
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): «أن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل عليها علي (عليه السلام) وبه كآبة شديدة. فقالت: ما هذه الكآبة؟. فقال: سألنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنمسألة ولم يكن عندنا جواب لها. فقالت: وما المسألة؟ قال: سألنا عن المرأة ما هي؟. قلنا: عورة. قال: فمتى تكون أدنى من ربها فلم ندر؟. قالت: ارجع إليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها. فانطلق فأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ماذا من تلقاء نفسك يا علي؟. فأخبره أن فاطمة (علیها السلام) أخبرته. فقال: صدقت إن فاطمة بضعة مني»(1).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال: «استأذن أعمى على فاطمة (علیها السلام)
ص: 539
..............................
فحجبته. فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): لم تحجبينه وهو لا يراكِ؟.
قالت: يا رسول الله، إن لم يكن يراني فإني أراه، وهو يشم الريح.
فقال رسول الله »: أشهد أنك بضعة مني»(1).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، وعن جابر الأنصاري: أنه رأى النبي (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) وعليهاكساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال: «يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة». فقالت: يا رسول الله، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فأنزل الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى(2)»(3).
مسألة: يستحب -- عند ذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) -- بيان الفضائل التي تتعلق بالحسب والتي تتعلق بالنسب معاً.
ومن المصاديق استحباب بيان أنها (صلوات الله عليها) ابنة الصفوة وبقية النبوة، فإن كونها (عليها الصلاة والسلام) ابنة الصفوة وبقية النبوة يدل على النسب الأرفع والحسب الأشرف، ورفعتها بنفسها، إذ الولد سرّ أبيه فكيف بها (علیها السلام) وهي بضعة منه (صلی الله علیه و آله) وروحه التي بين جنبيه، فهاتان الجملتان مدح لها ولأبيها (صلوات الله عليهما).
ص: 540
..............................
قال رسول الله »: «إن فاطمة بضعة مني وهي نور عيني وثمرة فؤادي يسوؤني ما ساءها ويسرني ما سرها»(1).
وقال »: «وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الأنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزوجل لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النار»(2).
ص: 541
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأئمة الطاهرين (علیهم السلام)، كما يجب الاعتقاد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والصديقة فاطمة (علیها السلام) والأئمة من ذريتها (علیهم السلام) كانوا في أعلى درجات العصمة الشمولية، فهم معصومون عن المعصية والسهو والخطأ وحتى عن المكروه وحتى عن ترك الأولى.. ومن مصاديق ذلك:
الاعتقاد بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ما ونى عن دينه ولا أخطأ مقدوره بالنسبة إلى ما جرى على الصديقة الطاهرة (علیها السلام)؛ فإن ما عمله (عليه السلام) من السكوت كان عين الدين لما قد وصاه النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك، وذلك مثل صلح الحديبية حيث كان عين الدين، وكذا قعود الإمام الحسن (عليه السلام) (1) إذ إن الله سبحانه وتعالى كان قد أمره على لسان نبيه (صلی الله علیه و آله)بذلك، وكان ذلك مقدوره الشرعي أيضاً(2) وإن كان مقدوره العقلي والبدني فوق ذلك، كما قال الشاعر:
قيدته وصية من أخيه *** ربّ حلم يقيد الضرغاما
مسألة: يجب بيان عصمتهم (علیهم السلام) للناس، فإنه من أكبر عوامل الهداية والإرشاد، إذ أن النموذج كلما كان أسمى وأرفع في نظر الناس كان اهتداؤهم
ص: 542
..............................
بهديه وخضوعهم له أكبر.
كما يلزم على المسلم - رجل دين كان أم تاجراً أم طالباً في المدرسة أم غير ذلك - أن يذكر فضائلهم (علیهم السلام) وأنهم كيف كانوا يأتمرون بأوامر الله سبحانه وتعالى في الشدة والرخاء والراحة والبلاء، وأن صبره (عليه
الصلاة والسلام) ليس أقل من شجاعته (عليه السلام) في ميادين الحرب إن لم يكن أكثر؛ لأنه من أكبر درجات السيطرة على النفس، ومن المعلوم أن السيطرة على النفس هو الجهاد الأكبر في مقابل الحرب الذي هوالجهاد الأصغر حسب تعبير الرسول (صلی الله علیه و آله).
فعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث بسرية فلما رجعوا، قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما الجهاد الأكبر؟. قال: جهاد النفس»(1).
وفي الخبر: «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو مجاهدة النفس»(2).
وفي الغرر: «ردع النفس عن الهوى الجهاد الأكبر»(3).
مسألة: يحرم التقصير في الدين؛ فإنه من أشد المحرمات، بل اللازم أن يسير الإنسان وفق التعاليم الدينية بلا زيادة ولا نقيصة. وعليه أن يتبع حماة الدين وهم أهل البيت (علیهم السلام) لايتقدم عليهم ولا يتأخر، قال (عليه السلام): «المتقدم
ص: 543
..............................
لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق»(1).
وعن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أحب أن يحيا حياة تشبه حياة الأنبياء، ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء، ويسكن الجنان التي غرسها الرحمن، فليتول علياً (عليه السلام) وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعده؛ فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، اللهم ارزقهم فهمي وعلمي، وويل للمخالفين لهم من أمتي، اللهم لا تنلهم شفاعتي»(2).
وعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى يقول: إن من استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية علي واختار ولاية من والى أعداءه، وأنكر فضله وفضل الأوصياء من بعده؛ فإن فضلك فضلهم، وحقك حقهم، وطاعتك طاعتهم، ومعصيتك معصيتهم، وهم الأئمة الهداة من بعدك، جرى فيهم روحك، وروحك ماجرى فيك من ربك، وهم عترتك من طينتك ولحمك ودمك، قد أجرى الله فيهم سنتك وسنة الأنبياء قبلك، وهم خزاني على علمي من بعدك، حقاً عليَّ لقد اصطفيتهم وانتجبتهم، وأخلصتهم وارتضيتهم، ونجا من أحبهم ووالاهم وسلم بفضلهم - ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - ولقد أتاني جبرئيل بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وأحبائهم، والمسلمين لفضلهم»(3).
وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الروح والراحة،والفلج والفلاح،والنجاح والبركة، والعفو والعافية والمعافاة،والبشرى
ص: 544
..............................
والنصرة، والرضا والقرب والقرابة، والنصر والظفر والتمكين، والسرور والمحبة من الله تبارك وتعالى على من أحب علي بن أبي طالب، وحق علي أن أدخلهم في شفاعتي، وحق على ربي أن يستجيب لي فيهم، وهم أتباعي ومن تبعني فإنه مني، جرى فيَّ مثل إبراهيم (عليه السلام) وفي الأوصياء من بعدي؛ لأني من إبراهيم وإبراهيم مني، دينه ديني، وسنته سنتي، وأنا أفضل منه، وفضلي منفضله، وفضله من فضلي، وتصديق قولي قول ربي: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1)»(2).
وعن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث الاستطاعة - قال: «الناس كلهم مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك». قال: قلت: إلا من رحم ربك؟. قال: «هم شيعتنا ولرحمته خلقهم، وهو قوله: وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ(3)، يقول: طاعة الإمام الرحمة التي يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء(4)، يقول: علم الإمام ووسع علمه الذي هو من علمه كل شيء، هم شيعتنا - إلى أن قال: - وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ(5) أخذ العلم من أهله وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ(6) والخبائث قول من خالف»(7).
ص: 545
..............................
وعن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء»(1).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، قال: «أما إنه ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب إلا شيء أخذوه منا أهل البيت، ولا أحد من الناس يقضي بحق ولا عدل إلاّ ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوله وسننه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطئوا، والصواب من قبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا أصابوا»(2).
مسألتان: يجوز - بالمعنى الأعم - أن يدفع الإنسان الشبهة ويدافع عن نفسه، فربما قد يتصور البعض أن الإمام (عليه السلام) ونى عن دينه - والعياذ بالله - أو أخطأ مقدوره، وذلك في قضية الدفاع عن الصديقة الطاهرة (علیها السلام)،فأراد الإمام (عليه السلام) أن يبين صحة موقفه حيث كان مطابقاً للدين كل المطابقة، فهو (عليه السلام) وإن كان يخاطب الزهراء (علیها السلام) ولكنه أراد إفهام الغير، وإلاّ فإنها (علیها السلام) كانت تعلم بصحة موقفه (عليه السلام) قطعاً.
عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قتل دون مظلمته فهو شهيد - ثم قال - يا أبا مريم، هل تدري ما دون مظلمته؟».
ص: 546
..............................
قلت: جعلت فداك الرجل يقتل دون أهله، ودون ماله، وأشباه ذلك. فقال: «يا أبا مريم، إن من الفقه عرفان الحق»(1).
يمكن استفادة عدة نقاط من هاتين الجملتين:
منها: إن قوله (عليه السلام): «فما ونيت عن ديني» سد لباب توهم من قد يتوهم - على مر التاريخ - بأنه (عليه السلام) قد ضعف واستكان في الدفاع عن الصديقة (علیهاالسلام) أو عن حقه في الخلافة، فهو (عليه السلام) يؤكد أن موقفه لم يكن عن ضعف في الدين دون ريب - وهو الصادق المصدق الذي قال عنه الرسول (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق»(2) أي في قوله وفعله وتقريره ومواقفه(3) وحالاته .. «والحق مع علي» كذلك في كل حالاته ومواقفه وأقواله وأفعاله وتقاريره.
ومنها: إن فاء التفريع تدل على أن حزن الصديقة فاطمة (علیها السلام) لم يكن على فدك لما هي هي، بل على غصب الخلافة، فكأنها (علیها السلام) سألت عن عدم تصديه (عليه السلام) لهم وإرجاع الأمر إلى نصابه، فأجاب ب- «فما ونيت عن ديني» فربما يكون هذا هو الأنسب بذاك.
ومنها: إن الأمام (عليه السلام) يشير إلى حقيقتين تكمل إحداهما الأخرى:
الأولى: تتعلق به (عليه السلام) وبفلسفة طريقة تعامله مع الأحداث التي جرت بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).
ص: 547
..............................
والثانية: تتعلق بالتقدير الإلهي العام وتكشف عن معرفته (عليه السلام) والتزامهبه(1).
وقد أشار (عليه السلام) إلى الحقيقة الأولى بقوله: «فما ونيت عن ديني»، وإلى الثانية بقوله: «ولا أخطأت مقدوري».
ومنها: إن قوله (عليه السلام) «ما ونيت عن ديني» ليس إخباراً لها (علیها السلام) بما لاتعلمه، إذ الأمر بديهي بالنسبة لها وهي عالمة بسمو منزلته (عليه السلام) وعالمة بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) له بالصبر، بل من باب (إياك أعني واسمعي يا جاره)(2).
قوله (عليه السلام) : «فما ونيت» بمعنى ما ضعفت، من (ونى يَني ونياً) بمعنى العجز والضعف. وفي اللغة: (ونيت في الأمر: ضعفت وفترت)(3).
مسألة: يشير الإمام (عليه السلام) بقوله: «ولا أخطأت مقدوري» إلى أنه لم يكن في مقدوره الشرعي أكثر من الذي عمله، أي أنه (عليه السلام) قد عرف ما قدره الله له والتزم به ولم يتجاوزه لا قصوراً ولا تقصيراً.فإن القدرة قد يراد بها القدرة العقلية، وقد يراد بها القدرة الشرعية، وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وإن كانت له القدرة العقلية لكن الشرع أمره فائتمر بالصبر حتى لا تحدث الفتنة التي كان يتربصها الأعداء من الفرس والروم وغيرهم للقضاء على الإسلام والمسلمين إذ قد سبق أن بيّنا أن قيامه (عليه السلام) بالأمر وإشهاره
ص: 548
..............................
السلاح كان يوجب وقوع حرب داخلية شعواء لا يمكن السيطرة على نتائجها، فينتهز الفرس والروم الفرصة للانقضاض على الإسلام واقتلاعه من الجذور، إضافة إلى أنه لو تحارب المسلمون في المدينة، ارتدت الجزيرة العربية عن الإسلام لأنه كان جديداً عليهم ولم يتجذر في نفوسهم، ولذا قال (عليه السلام) حينما أرادوا نبش قبر الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) ومنعهم عن ذلك: «أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس»(1).
لا يقال: كيف ذاك(2) وهو (عليه السلام) كانيقول إذا وجدت أربعين شخصاً فسأقوم بالأمر(3) وما أشبه؟.
إذ يقال: لعله (عليه السلام) كان بالأربعين شخصاً يسيطر على الوضع فلا تحدث فتنة ولا هرج ومرج ولا حرب.
هذا ولعله كان جواباً على حسب عقلية السائلين أو من سيصل الجواب إليهم(4)، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»(5).
ص: 549
..............................
هذا كله بعد استشهاد الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى حين، لكن لما قوى الإسلام ولم يكن خوف الارتداد، ولا انقضاض ما بقي من الفرس والروم ككل، قام (عليه السلام) بالأمر واستعد لأن يحارب - دفاعاً - في الجمل والنهروان وصفين.
ومن نافلة القول أن نشير إلى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما نقل الخلافة إلى الكوفة، ولم يرجعها إلى المدينة المنورة؛ لأن المدينة لم تكن حاضرة ذا سوابق تاريخية بحيث يمكن أن تكون مركز ثقل الإسلام بعد توسعه شرقاً وغرباً، نعم هي كانت أفضل مكان لعاصمة الإسلام في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله).
أما الكوفة فقد كانت قريبة من عاصمة الفرس بغداد التي تمرست في الحكم، ولذا نقل الإمام (عليه السلام) عاصمة دولة الإسلام إليها، فإن الحكم وإن أمكن ابتداؤه في مكان غير متمرس إلا أنه لا يمكن دوامه كذلك، ولذا نشاهد أن مركز الحكم انتقل أيضاً من الكوفة - بعد قرن تقريباً - إلى بغداد العاصمة المتمرسة ذات البُنى المؤسساتية، كما أن حكم بني أمية في الشام كان وضعاً للشيء في غير موضعه، وفي المقابل كان من أسباب تمكن العثمانيين في القسطنطينية والاستمرار لعدة قرون أن القسطنطينية كانت عاصمة الروم المتمرسة في الحكم، ولنفس السبب لم تتمكن سامراء من أن تحتوي الحكومة العباسية وتبقى عاصمة ولذا عادت بعدلأيٍ(1) إلى بغداد. وتفصيل البحث في الكتب السياسية وما يرتبط بنظام الحكم وقوام استقرار الدول.
ص: 550
-------------------------------------------
مسألة: يستحب مواساة المظلوم وطمأنته، تأسياً بالإمام (عليه السلام) في كلامه هذا ولسائر الأدلة، ومن مصاديق ذلك أن يبين له بأن رزقه مضمون، هذا بالنسبة إلى المظلوم في رزقه، وأما المظلوم من جهة تعرضه لاعتداء يمس جسده كالضرب، أو روحه كتلويث سمعته أو ما أشبه، فينبغي أن يبيَّن له أن الله سبحانه وتعالى يعوّضه أجراً وثواباً - كما سيأتي - وأنه عزوجل سينتقم من ظالمه، إلى غير ذلك؛ فإنه كله مصداق لقوله تعالى: «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ»(1).
قوله (عليه السلام): «فإن كنتِ تريدين البلغة» يحتمل فيه إرادة الأعم من البلغة الشخصية والبلغة النوعية وإن احتملالانصراف للأول، فإن (البلغة) ما يبلغ به الإنسان مراده، وما يراد بلوغه قد يكون مراداً شخصياً - كضمان وضعه الخاص - وقد يكون نوعياً كخدمة الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم والذب عن حياض الشريعة.
و(الرزق) أيضاً يطلق على كلا النوعين، إذ لا شك أن ما يحصل عليه المرء من مال ليبذله في سبيل الله رزق للإنسان، فقوله (عليه السلام): «فإن كنتِ تريدين البلغة فرزقكِ مضمون» لا يبعد أن يراد به الأعم الشامل للجانبين الشخصي والنوعي وهذا هو الأنسب بمقام الصديقة الطاهرة (علیها السلام).
ص: 551
..............................
ولو فرض أن المراد هو الجانب الشخصي فقط فنقول:
أولاً: إن هذا كمال وليس نقصاً، إذ طلب الرزق من الله ابتغاء من فضله قال تعالى: «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»(1) وهو مطلوب، والمطالبة بالحق الشخصي محبذة شرعاً حتى ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله):
«من قتل دون ماله فهو شهيد»(2).وفي رواية أخرى: «فهو بمنزلة الشهيد»(3).
وفي الرضوي (عليه السلام): «والجهاد واجب مع الإمام العدل، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد»(4).
وفي رواية أخرى: «فقُتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد»(5).
ثانياً: يمكن أن يكون الحوار كله بلحاظ من يبلغهم الخطاب فهو على قدر فهم السامعين(6) إذ أن إثارة الجانب الشخصي قد تكون أشد إثارة للعواطف وأقوى في مقام محاجة القوم، خاصة مع لحاظ أن القوم عزموا على حرمانهم من حقهم في الخلافة، وهو (عليه السلام) قد جمع في حديثه بين الجانب النوعي (فما ونيت عن ديني ...) والشخصي، على فرضه كما سبق.
ثالثاً: القضية الشرطية - كما هو ثابت في المنطق - تصدق حتى مع عدم
ص: 552
..............................
وقوع المقدم بل حتى مع استحالته - كما في «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا»(1) - وعلى هذا فلا دلالة في «وإن كنتِ تريدين البلغة» على إرادتها للبلغة(2) فعلاً، فليتأمل جيداً.
قوله (عليه السلام): «فإن كنتِ تريدين البلغة فرزقكِ مضمون»، البلغة: الكفاية لها ولأولادها، فإنها ما يتبلّغ به من العيش وهو قدر الكفاف والعفاف في المعيشة، وما دام الرزق مضموناً فلا فرق فيه بين رزق الوالدة وأولادها ولذلك لم يذكر (عليه الصلاة والسلام) بلغة الأولاد لأنه يفهم من قوله (عليه السلام) (مضمون).
ص: 553
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي إشاعة وبث وتقوية روح التوكل على الله في الناس عامة، وفي المظلومين خاصة، ومن مصاديقه أن يبّين للمظلوم أن ما أعدّ الله له أفضل مما قطعوا عنه، كما صنع (عليه السلام) في كلامه لها (علیها السلام)؛ فإن من الواضح أن ما أعدّ الله سبحانه وتعالى في الآخرة للمتقين والصابرين والمظلومين خير من الدنيا وما فيها، فكيف بذلك الجزء البسيط الذي قطع عن الإنسان في هذه الدنيا الزائلة؟! ذلك أن الإنسان سيرى في الآخرة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما ورد بذلك النص(1).
وقد فصل في محله أن حالة (التوكل على الله) لا تعني (التواكل) بل هي تضاده وتعاكسه، فلا يقال: إن في ذلك تثبيطاً لهمم المظلومين.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكلأوطناه»(2).
وعن علي بن سويد، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عزوجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ(3)؟. فقال: «التوكل على الله درجات منها: أن تتوكل على الله في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنه لايألوك خيراً وفضلاً،وتعلم أن الحكم في ذلك له فتوكل على الله
ص: 554
..............................
بتفويض ذلك إليه وثق به فيها وفي غيرها»(1).
وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية - ثم قال - أتلوت كتاب الله عزوجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ(2) وقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْلأَزِيدَنَّكُمْ(3) وقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(4)»(5).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ليس شيء إلا وله حد». قال: قلت: جعلت فداك، فما حد التوكل؟. قال: «اليقين». قلت: فما حد اليقين؟. قال: «أن لا تخاف مع الله شيئاً»(6).
وعن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر، إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإن سرّك أن تكون أكرم الناس فاتق الله عزوجل، وإن سرّك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله عزوجل أوثق منك بما في يديك. يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً (علیهم السلام) وَيَرْزُقْهُ مِ-نْ حَيْ-ثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَ-نْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
ص: 555
..............................
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا(1)»(2).
قوله (عليه السلام): «وكفيلكِ مأمون» المراد بالكفيل: هو الله سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون المراد به هو الإمام (عليه السلام) إذ هو المتكفل بشؤونها (علیها السلام) وهو الكفيل لها.
و(المأمون) من لا يحتمل فيه أن يخلف وعده أو يكذب.
أما بالنسبة إلى كلي تكفل الله سبحانه بالأرزاق، فإن المراد به طبيعة الأمر، فلا يقال: فكيف يموت كثير من الناس جوعاً؟.
وذلك كما ورد: أن الدعاء يستجاب كما قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(3) أي طبيعة الدعاء، أو ما يقال: من أن الدواء الفلاني شفاء للمرض الكذائي ونحو ذلك؛ فإنه على نحو المقتضي، ولابد فيه من توفر الشروط وانتفاء الموانع أيضاً وليس على نحو العلية التامة والقضية الخارجية في كل مورد مورد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ص: 556
-------------------------------------------
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن ما أعدّه الله للصديقة فاطمة (علیها السلام) من الأجر والثواب والمقام(1) وما شابه أفضل مما غُصب منها، ويستحب بيان ذلك للناس.
وهذه صغرى من صغريات ما تقدم.
ثم إن فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) لها من الأجر والثواب والفضيلة والكرامة في الآخرة ما لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهما في المرتبة الثانية بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الفضائل والمقامات الأخروية حسب بعض الروايات التي ذكرها السيد البحراني(2) (قدس سره) في (معالمالزلفى)، وغيره في غيره.
ص: 557
..............................
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يامعشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله)»(1).
وفي رواية أخرى: «إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع، غضّوا أبصاركم تمر فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله). فتمر وعليها ريطتان حمراوان»(2).
وعن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «تحشر ابنتي فاطمة (علیها السلام) عليها حلة الكرامة قد عجنت بماء الحيوان، تنظر إليها الخلائق فيتعجبون منها، ثم تُكسى حلة من حلل الجنة، وهي ألف حلة مكتوب على كل حلة بخط أخضر: (أدخلوا ابنة محمد الجنة على أحسن صورة وأحسن كرامة وأحسن منظر) فتزف إلى الجنة كما تزف العروس، ويوكل بها سبعون ألف جارية»(3).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمة الله) يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إذا كان يوم القيامة تقبل ابنتي فاطمة (علیها السلام) على ناقة من نوق الجنة، مدبجة الجنبين،
ص: 558
..............................
خطمها من لؤلؤ رطب، قوائمها من الزمرد الأخضر، ذنبها من المسك الأذفر، عيناها ياقوتتان حمراوان، عليها قبة من نور، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، داخلها عفو الله، وخارجها رحمة الله، على رأسها تاج من نور، للتاج سبعون ركناً، كل ركن مرصع بالدر والياقوت، يضيء كما يضيء الكوكب الدري في أفق السماء، وعن يمينها سبعون ألف ملك، وعن شمالها سبعون ألف ملك، وجبرئيل آخذ بخطام الناقة ينادي بأعلى صوته: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله). فلا يبقى يومئذ نبي ولا رسول، ولا صديق ولا شهيد إلا غضوا أبصارهم حتى تجوز فاطمة (علیها السلام).
فتسير حتى تحاذي عرش ربها جل جلاله فتزج بنفسها عن ناقتها وتقول: إلهي وسيدي، احكم بيني وبين من ظلمني. اللهم احكم بيني وبين من قتل ولدي.
فإذا النداء من قبل الله جل جلاله: يا حبيبتي وابنة حبيبي، سليني تعطى (أعطك)، واشفعي تشفعي، فو عزتي وجلالي لا جازني ظلم ظالم.
فتقول: إلهي وسيدي، ذريتي وشيعتي،وشيعة ذريتي، ومحبي، ومحبي ذريتي.
فإذا النداء من قبل الله جل جلاله: أين ذرية فاطمة وشيعتها، ومحبوها، ومحبو ذريتها؟. فيقبلون وقد أحاط بهم ملائكة الرحمة، فتقدمهم فاطمة (علیها السلام) حتى تدخلهم الجنة»(1).
ص: 559
..............................
وعن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «إذا كان يوم القيامة ووقف الخلائق بين يدي الله تعالى، نادى مناد من وراء الحجاب: أيها الناس، غضوا أبصاركم ونكسوا من رؤوسكم؛ فإن فاطمة بنت محمد (علیها السلام) تجوز على الصراط»(1).
وفي حديث أبي أيوب: «فتمر معها سبعون جارية من الحور العين كالبرق اللامع»(2).
وعن ابن عباس، عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله). فتكون أول من تٌكسى،ويستقبلها من الفردوس اثنا عشر ألف حوراء لم يستقبلن أحداً قبلها ولا أحداً بعدها على نجائب من ياقوت أجنحتها وأزمتها اللؤلؤ، عليها رحائل من درّ، على كل رحالة منها نمرقة من سندس، وركابها زبرجد. فيجزن بها الصراط حتى ينتهين بها إلى الفردوس، فيتباشر بها أهل الجنان. وفي بطنان الفردوس قصور بيض، وقصور صفر من اللؤلؤ من غرز واحد، وإن في القصور البيض لسبعين ألف دار، منازل محمد وآله (صلی الله علیه و آله)، وإن في القصور الصفر لسبعين ألف دار، مساكن إبراهيم وآله (عليه السلام)، فتجلس على كرسي من نور، ويجلسن حولها ويبعث إليها ملك لم يبعث إلى أحد قبلها ولا يبعث إلى أحد بعدها، فيقول: إن ربك يقرؤك السلام ويقول: سليني أعطكِ. فتقول: قد أتم عليَّ نعمته، وهنأني كرامته، وأباحني جنته، أسأله ولدي وذريتي ومن ودّهم بعدي، وحفظهم من بعدي. فيوحي الله إلى الملك من غير أن يزول من مكانه: أن سرها وبشرها أني
ص: 560
..............................
قد شفّعتها في وُلدها ومن ودّهم بعدها وحفظهم فيها. فتقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيأَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ(1)»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة جاءت فاطمة (علیها السلام) في لمة من نسائها، فيقال لها: ادخلي الجنة. فتقول: لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي. فيقال لها: انظري في قلب القيامة. فتنظر إلى الحسين (عليه السلام) قائماً وليس عليه رأس،فتصرخ صرخة وأصرخ لصراخها،وتصرخ الملائكة لصراخها. فيغضب الله عزوجل عند ذلك فيأمر ناراً يقال لها: هبهب، قد أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، لا يدخلها رَوح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً. فيقال: التقطي قتلة الحسين، فتلتقطهم. فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها، وشهقت وشهقوا بها، وزفرت وزفروا بها، فينطقون بألسنة ذلقة طلقة: يا ربنا، فيما أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان؟. فيأتيهم الجواب عن الله تعالى: أن من علم ليس كمن لا يعلم»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة (علیها السلام) قبة من نور، ويقبلالحسين (عليه السلام) ورأسه في يده، فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ بكى لها، فيمثله الله عزوجل لها في أحسن صورة وهو يخاصم قتلته بلا رأس، فيجمع الله عزوجل لها قتلته والمجهزين عليه ومن شركهم في قتله، فأقتلهم حتى آتي على آخرهم، ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ثم ينشرون فيقتلهم الحسن (عليه السلام)، ثم ينشرون فيقتلهم
ص: 561
..............................
الحسين (عليه السلام)، ثم ينشرون فلا يبقى أحد من ذريتنا إلا قتلهم قتلة، فعند ذلك يكشف الغيظ وينسى الحزن». ثم قال الصادق (عليه السلام): «رحم الله شيعتنا، شيعتنا هم والله المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يمثل لفاطمة (علیها السلام) رأس الحسين (عليه السلام) متشحطاً بدمه. فتصيح: وا ولداه، وا ثمرة فؤاداه. فتصعق الملائكة لصيحة فاطمة (علیها السلام)، وينادي أهل القيامة: قتل الله قاتل ولدك يا فاطمة - قال - فيقول الله عزوجل: ذلكأفعل به وبشيعته وأحبائه وأتباعه. وإن فاطمة (علیها السلام) في ذلك اليوم على ناقة من نوق الجنة، مدبجة الجنبين، واضحة الخدين، شهلاء العينين، رأسها من الذهب المصفى، وأعناقها من المسك والعنبر، خطامها من الزبرجد الأخضر، رحائلها در مفضض بالجوهر، على الناقة هودج غشاؤها من نور الله، وحشوها من رحمة الله، خطامها فرسخ من فراسخ الدنيا، يحف بهودجها سبعون ألف ملك بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والثناء على رب العالمين، ثم ينادي مناد من بطنان العرش: يا أهل القيامة، غضوا أبصاركم فهذه فاطمة بنت محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) تمر على الصراط. فتمر فاطمة (علیها السلام) وشيعتها على الصراط كالبرق الخاطف. قال النبي (صلی الله علیه و آله): ويلقى أعداؤها وأعداء ذريتها في جهنم»(2).
وعن ابن عباس، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم على فاطمة (علیها السلام) وهي حزينة. فقال لها: ما حزنك يا بنية؟. قالت: يا أبة، ذكرت المحشرووقوف الناس عراة يوم
ص: 562
..............................
القيامة. قال: يا بنية، إنه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) عن الله عزوجل أنه قال: أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم يبعث الله إليكِ جبرئيل في سبعين ألف ملك، فيضرب على قبركِ سبع قباب من نور، ثم يأتيكِ إسرافيل بثلاث حلل من نور، فيقف عند رأسكِ فيناديكِ: يا فاطمة ابنة محمد، قومي إلى محشركِ. فتقومين آمنة روعتكِ، مستورة عورتكِ، فيناولكِ إسرافيل الحلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفة من ذهب، فتركبينها ويقود روفائيل بزمامها، وبين يديك سبعون ألف ملك، بأيديهم ألوية التسبيح، وإذا جد بك السير استقبلتك سبعون ألف حوراء يستبشرون بالنظر إليكِ، بيد كل واحدة منهن مجمرة من نور يسطع منها ريح العود من غير نار، وعليهن أكاليل الجوهر مرصع بالزبرجد الأخضر فيسرن عن يمينكِ، فإذا مثل الذي سرت من قبركِ إلى أن لقينكِ استقبلتكِ مريم بنت عمران (علیها السلام) في مثل من معكِ من الحور، فتسلم عليك وتسير هي ومنمعها عن يسارك، ثم استقبلتكِ أمكِ خديجة بنت خويلد (علیها السلام) أول المؤمنات بالله ورسوله ومعها سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التكبير، فإذا قربتِ من الجمع استقبلتكِ حواء (علیها السلام) في سبعين ألف حوراء ومعها آسية بنت مزاحم (علیها السلام) فتسير هي ومن معها معكِ، فإذا توسطتِ الجمع وذلك أن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد فيستوي بهم الأقدام، ثم ينادي مناد من تحت العرش يسمع الخلائق: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة الصديقة ابنة محمد (صلی الله علیه و آله) ومن معها. فلا ينظر إليكِ يومئذ إلاّ إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله وسلامه عليه) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويطلب آدم حواء
ص: 563
..............................
فيراها مع أمكِ خديجة أمامكِ، ثم ينصب لكِ منبر من نور فيه سبع مراق، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة بأيديهم ألوية النور، وتصطف الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منكِ عن يساركِ حواء وآسية بنت مزاحم، فإذا صرت في أعلى المنبر أتاكِ جبرئيل (عليه السلام)، فيقول لكِ: يا فاطمة، سلي حاجتك. فتقولين: يا رب، أرني الحسن والحسين (علیهما السلام).فيأتيانك وأوداج الحسين تشخب دماً وهو يقول: يا رب، خذ لي اليوم حقي ممن ظلمني. فيغضب عند ذلك الجليل وتغضب لغضبه جهنم والملائكة أجمعون.
فتزفر جهنم عند ذلك زفرة، ثم يخرج فوج من النار فيلتقط قتلة الحسين وأبناءهم وأبناء أبنائهم. ويقولون: يا رب، إنا لم نحضر الحسين (عليه السلام). فيقول الله لزبانية جهنم: خذوهم بسيماهم بزرقة الأعين وسواد الوجوه، خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار، فإنهم كانوا أشد على أولياء الحسين من آبائهم الذين حاربوا الحسين فقتلوه. فيسمع شهيقهم في جهنم»(1).
وفي الحديث: «ثم يقول جبرئيل (عليه السلام): يا فاطمة، سلي حاجتك.
فتقولين: يا رب شيعتي. فيقول الله: قد غفرت لهم.
فتقولين: يا رب، شيعة ولدي. فيقول الله: قد غفرت لهم.
فتقولين: يا رب، شيعة شيعتي.
فيقول الله: انطلقي فمن اعتصم بكِ فهو معكِ في الجنة.
فعند ذلك يود الخلائق أنهم كانوا فاطميين!، فتسيرين ومعكِ شيعتكِ وشيعة ولدكِ وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) آمنةروعاتهم، مستورة عوراتهم، قد
ص: 564
..............................
ذهبت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، يخاف الناس وهم لا يخافون، ويظمأ الناس وهم لا يظمئون، فإذا بلغتِ باب الجنة تلقتكِ اثنا عشر ألف حوراء لم يتلقين أحداً كان قبلكِ ولا يتلقين أحداً كان بعدكِ، بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور، رحائلها من الذهب الأصفر والياقوت، أزمتها من لؤلؤ رطب، على كل نجيبة نمرقة من سندس منضود، فإذا دخلتِ الجنة تباشر بكِ أهلها، ووضع لشيعتكِ موائد من جوهر على أعمدة من نور، فيأكلون منها والناس في الحساب، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ(1).
فإذا استقر أولياء الله في الجنة زاركِ آدم (عليه السلام) ومن دونه من النبيين (علیهم السلام)، وإن في بطنان الفردوس للؤلؤتان من عرق واحد، لؤلؤة بيضاء ولؤلؤة صفراء فيها قصور ودور، في كل واحدة سبعون ألف دار، البيضاء منازل لنا ولشيعتنا، والصفراء منازل لإبراهيم وآل إبراهيم (علیهم السلام).
قالت: يا أبة، فما كنت أحب أن أرى يومك وأبقى بعدك.قال: يا بنية، لقد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) عن الله أنكِ أول من يلحقني من أهل بيتي، فالويل كله لمن ظلمكِ، والفوز العظيم لمن نصركِ».
قال عطاء: وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحديث تلا هذه الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(2)،(3).
وفي (البحار): عن أبي ذر (رحمة الله عليه) قال: رأيت سلمان وبلالاً يقبلان
ص: 565
..............................
إلى النبي (صلی الله علیه و آله) إذا انكب سلمان على قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقبلها، فزجره النبي (صلی الله علیه و آله) عن ذلك ثم قال له: «يا سلمان، لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد الله آكل مما يأكل العبد وأقعد كما يقعد العبد».
فقال سلمان: يا مولاي، سألتك بالله إلا أخبرتني بفضل فاطمة (علیها السلام) يوم القيامة؟.قال: فأقبل النبي (صلی الله علیه و آله) ضاحكاً مستبشراً ثم قال: «والذي نفسي بيده، إنها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية الله، وعيناها من نور الله، وحطامها من جلال الله، وعنقها من بهاء الله، وسنامها من رضوان الله، وذنبها من قدس الله، وقوائمها من مجد الله، إن مشت سبّحت، وإن رغت قدّست، عليها هودج من نور، فيه جارية إنسية، حورية عزيزة، جمعت فخلقت، وصنعت ومثلت من ثلاثة أصناف، فأولها من مسك أذفر، وأوسطها من العنبر الأشهب، وآخرها من الزعفران الأحمر، عجنت بماء الحيوان، لو تفلت تفلة في سبعة أبحر مالحة لعذبت، ولو أخرجت ظفر خنصرها إلى دار الدنيا يغشى الشمس والقمر، جبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وعلي (عليه السلام) أمامها، والحسن والحسين (علیهما السلام) وراءها، والله يكلؤها ويحفظها، فيجوزون في عرصة القيامة، فإذا النداء من قبل الله جل جلاله: معاشر الخلائق، غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم هذه فاطمة بنت محمد نبيكم، زوجة علي إمامكم، أم الحسن والحسين، فتجوز الصراط وعليها ريطتان بيضاوان، فإذا دخلت الجنة ونظرت إلى ما أعد الله لها من الكرامة قرأت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّرَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (علیهم السلام) الَّذِي أَحَلَّنَ-ا دارَ
ص: 566
..............................
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(1). قال: فيوحي الله عزوجل إليها: يا فاطمة، سليني أعطكِ وتمني عليَّ أُرضكِ. فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تُعذّب محبي ومحبي عترتي بالنار. فيوحي الله إليها: يا فاطمة، وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام أن لا أعذب محبيكِ ومحبي عترتكِ بالنار»(2).
مسألة: ينبغي أن يُبين للمظلوم ما سيعوضه الله تعالى ويعدّه له من الثواب والأجر، وهذا مما يحافظ على نفسية المظلوم ويجعله صابراً مثابراً، وهو سبب أيضاً لعدم إصابته بالإحباط والكآبة وما أشبه من الأمراض النفسية.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناسفيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟. فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟. فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله، ونصبر عن معاصي الله. فيقول الله عزوجل: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قوله عزوجل: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(3) »(4).
وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الصادق (صلوات الله عليهم)
ص: 567
..............................
قال: «ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله تعالى: دعاء الوالد لولده إذا برّه ودعوته عليه إذا عقّه، ودعاء المظلوم على ظالمه ودعاؤه لمن انتصر له منه، ورجل مؤمن دعا لأخ له مؤمن واساه فينا ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه واضطرار أخيه إليه»(1).
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «دعوة المظلوم مستجابة »(2).
وعن الحارث، عن علي (عليه السلام)، قال: قالرسول الله (صلی الله علیه و آله): «يقول الله عزوجل: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري»(3).
وعن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله. فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد»(4).
وعن حسين بن عثمان ومحمد بن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله يبغض الغني الظلوم»(5).
ص: 568
-------------------------------------------
مسألتان: يستحب احتساب المصائب عند الله تعالى، كما يستحب الأمر باحتسابها كذلك. ولا ينبغي أن يتوهم أن قوله لها (علیهما السلام): «احتسبي» طلب لغير الحاصل، إذ هو كقولهم (علیهم السلام) في صلواتهم:«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1) وقد سبق بيان عدة أجوبة عن ذلك(2).
ثم إن الخطاب وإن كان لها (علیها السلام) إلا أنه يعم ويشمل الجميع، كخطابات الكتاب العزيز الموجهة أولاً للرسول (صلی الله علیه و آله) والشاملة لغيره، إلا ما علم اختصاصه به (صلی الله علیه و آله) على ما هو مذكور في بحث الخطابات القرآنية.
وإنما قلنا بالاستحباب، لأن الأمر باحتساب المصائب عند الله سبحانه وتعالى من الأمر بالمعروف المستحب؛ فإن الاحتساب من أفضل درجات الصابرين المسلِّمين أمرهم لله عزوجل وهو مشموللقوله سبحانه: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (علیهم السلام) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(3).
قوله(عليه السلام): «فاحتسبي الله» أي:اجعلي ما ورد عليك من الظلم والعدوان على حساب الله سبحانه وتعالى؛ لأنه بعين الله، والله هو المتكفل بالأمر، وهو الذي سيعوضك بأفضل الجزاء ويعطيك أسنى العطاء.
ص: 569
..............................
لا يقال: لماذا لم يستفد الإمام (عليه السلام) من قدراته الخاصة كعلمه بالاسم الأعظم ودعائه المستجاب وقدرته على الإعجاز وما أشبه؛ وذلك لكشف هذه الغمة وإرجاع الحق إلى نصابه واجتثاث جذور الظلمة فوراً، ولماذا لم يأمرها باستخدام تلك القدرات، بل أمرها (علیها السلام) بالصبر والاحتساب عند الله، كما صبر بنفسه (عليه السلام) (1) مع أنهما (علیهما السلام) مستجابا الدعوة قطعاً؟.إذ يقال:
أولاً: الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وقد خلقها الله على ذلك وأرادها كذلك، ومن هنا نرى قتل الكثير من الأنبياء (علیهم السلام) وأنهم عُذبوا بأشد التعذيب، وكذلك أوصياؤهم (علیهم السلام) على مر الدهور، مع أنه كان بمقدورهم الدعاء المستجاب والطلب من الله لرفع ذلك البلاء والإعجاز لقلب الأمر، ولكنهم لم يستفيدوا من هذه القدرات الإعجازية إلا في أقصى الضرورات وذلك «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»(2)، وقد قال تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (علیهم السلام) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(3)، إلى غيرها(4).
ص: 570
..............................
عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء وما يخص الله عزوجل به المؤمن. فقال: «سئل رسولالله (صلی الله علیه و آله): من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟. فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعدُ على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه»(1).
وعن معاوية بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الله لم يؤمن المؤمن من بلايا الدنيا ولكن آمنه من العمى في الآخرة، ومن الشقاء يعني عمى البصر»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله عزوجل يبتلي المؤمن بكل بلية ويميته بكل ميتة ولا يبتليه بذهاب عقله، أما ترى أيوب (عليه السلام) كيف سلط إبليس على ماله وعلى ولده وعلى أهله وعلى كل شيء منه ولم يسلط على عقله ترك له ليوحد الله به»(3).
وعن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم»(4).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،قال: «إن لله عباداً في الأرض من خالص عباده، ليس ينزل من السماء تحفة للدنيا إلاّ صرفها عنهم إلى غيرهم، ولا ينزل من السماء بلاء للآخرة إلاّ صرفه إليهم،وهم شيعة علي (عليه السلام)
ص: 571
..............................
وأهل بيته»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً، وثجه بالبلاء ثجاً، فإذا دعاه قال: لبيك عبدي، لئن عجلت لك ما سألت إني على ذلك لقادر، ولئن ادخرت لك فما ادخرت لك خير لك»(2).
وعن زيد أبي أسامة الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله الرضا عند الله عزوجل، ومن سخط البلاء فله السخط»(3).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وعك أبو ذر، فأتيت رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقلت: يا رسول الله، إن أبا ذر قد وعك. فقال: امض بنا إليه نعوده. فمضينا إليه جميعاً،فلما جلسنا قال له رسول الله(صلی الله علیه و آله): كيف أصبحت يا أبا ذر؟. قال: أصبحت وعكاً يا رسول الله. فقال: أصبحت في روضة من رياض الجنة، قد انغمست في ماء الحيوان، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك فأبشر يا أبا ذر»(4).
وعن الباقر (عليه السلام)، قال: «إنما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر دينه - أو قال - على حسب دينه»(5).
وروي: «أن نبياً من الأنبياء مر برجل قد جهده البلاء. فقال: يا رب، أما
ص: 572
..............................
ترحم هذا مما به؟. فأوحى الله إليه: كيف أرحمه مما به أرحمه»(1).
ثانياً: كما أنه في عالم التكوينيات والماديات مُعدّ ومقتضٍ وشروط وموانع، كذلك في عالمالمعنويات والماورائيات وعالم التأثيرات الغيبية على الظواهر الطبيعية، فمثلاً في عالم الأمور التكوينية يُعدّ إطلاق الرصاص مؤثراً في قتل الإنسان، إلاّ أنه ليس بعلة تامة، إذ اللازم - بعد أن تتوفر في الآلة القاتلة (كالمسدس مثلاً) كافة الشرائط في حد ذاتها - أن يكون المطلق ذا شأنية ومقدرة على الإطلاق أولاً، وعلى التوجيه نحو الهدف ثانياً، كما يلزم عدم وجود حائل أو مانع مبطل لأثر الطلقة بعد إطلاقها وهي في الطريق والفضاء، كما تبطل الصواريخ في الهواء بسبب صاروخ مضاد - ثالثاً.
كذلك الأمر في عالم التأثيرات الغيبية على الظواهر الطبيعية، مثل تأثير اسم الله الأعظم الذي «إذا دعي به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت...»(2)، إلى آخر (دعاء السمات) في هذا الباب وغيره.
ولمزيد التوضيح نقول: إن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من اسم الله الأعظم، كما يستفاد من بعض الروايات(3)، فهو -ولا مناقشة في الأمثال -: كالرصاص المطلق، لكن الكلام في من يتفوه بالبسملة وينطق بها (4)، وهل هو
ص: 573
..............................
عارف بإصابة الهدف وشرائطها، وهل هنالك حائل بين الأمرين؟، إلى غيرها مما مر ذكرها.
فالنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، والإمام (عليه السلام)، والصديقة الزهراء (علیها السلام)، وسائر الأنبياء والأولياء (علیهم السلام)، المستجابو الدعاء مَثلَهم - على اختلاف في الدرجات - مَثَل المطلِق المستجمع للشرائط، العارف بالتهديف، الخبير بالموانع، حيث إنهم (علیهم السلام) - يعرفون الهدف وشرائط الإصابة وموانعها، مضافاً إلى مقامهم عند الله عزوجل، ولذا إذا دعوا به استجيب لهم، وفي القرآن الحكيم: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ...»(1). ومنهنا نجدهم في بعض الموارد لا يدعون(2)؛ لأنهم أعرف بالمصالح والخصوصيات والشرائط والموانع وبباب التزاحم، حالهم - ولا مناقشة في الأمثال - حال الطبيب الذي يعرف أن هذا المريض لا يبرأ فإنه لا يعطيه الدواء(3) لما يعرف من عدم توفر الشرائط.
وإذا عرفنا ذلك ارتفع ما يتوهم من الإشكال عن عدم التأثير أحياناً في مثل ما ورد من «استجابة الدعاء تحت قبته (عليه السلام)، والشفاء في تربته (عليه السلام) »(4)، وهو ما يجاب به عن التساؤلات حول «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(5) إلى غير ذلك.
وبذلك يجاب أيضاً عن أن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قادراً - بالقدرة
ص: 574
-------------------------------------------
الظاهرية أو القدرة الغيبية الخارقة- على اجتثاث جذور الفتن، وقطع دابر الأعداء، وحل المشاكل التي أثيرت في أيام حكومته (عليه السلام)؛ فإن لم يكن قادراً فكيف وهم (علیهم السلام) أوعية قدرة الله ومشيئته؟ وإن كان قادراً فلماذا لم يفعل؟.
هذا بالإضافة إلى النقض بقدرة الله سبحانه، وقدرة الرسول (صلی الله علیه و آله)، وكل الأنبياء والأولياء (علیهم السلام)، في كل أمثال ذلك(1) ولم يفعلوا، فليدقق.
فقالت: «حسبي الله» وأمسكَت.
مسألة: يستحب - عند ورود المصائب - قول: (حسبي الله) تأسياً بالصديقة الطاهرة (علیها السلام).. ولسائر الأدلة، ويستحب تكرار ذلك في كل المصائب سواء كانت مصائب جسدية كالمرض وما أشبه، أم مالية، أم روحية، أم نفسية(2)، أو في سائر الشؤون المتعلقة بالإنسان، وسواء كانتمما يتعلق بنفسه أم أسرته أم عشيرته أم مجتمعه أم أمته..
ولا فرق بين أن يقول: (حسبي الله) أو (حسبنا الله) أو (الله حسبنا) أو ما أفاد معنى ذلك،باللغة العربية أو بسائر اللغات؛لأن المقصود هو حسبان المشكلة على الله سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه، وإبراز ذلك، وإن كان النطق ب- (حسبنا الله) وما أشبهه مما ورد في القرآن الكريم أو السنة المطهرة بلحاظ وروده أفضل.
ص: 575
..............................
قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(1).
وقال سبحانه: وَلَوْ أنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ(2).
وقال عزوجل: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(3).وقال تعالى:يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(4).
وقال سبحانه: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً(5).
وقال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(6). وقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(7).
ص: 576
..............................
وقال تعالى: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً(1).
وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّشَيْءٍ حَسِيباً(2).
وقال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً(3).
وفي (الكافي)، عن أبي حمزة، قال: استأذنت على أبي جعفر (عليه السلام)، فخرج إليَّ وشفتاه تتحركان، فقلت له. فقال: «أفطنت لذلك يا ثمالي؟». قلت: نعم جعلت فداك. قال: «إني والله تكلمت بكلام ما تكلم به أحد قط إلا كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته». قال: قلت له: أخبرني به. قال: «نعم من قال حين يخرج من منزله: بِسْمِ اللَّهِ، حَسْبِيَ اللَّهُ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ أُمُورِي كُلِّهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته»(4).
وعن محمد بن الفرج، أنه قال: كتب إليّ أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) بهذا الدعاء وعلّمنيه وقال: من دعا به في دبر صلاة الفجر، لم يلتمس حاجة إلا يسرت له، وكفاه الله ما أهمه (بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأُفَوِّضُأَمْرِي إِلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا له وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِ-نَ
ص: 577
..............................
اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لاَ مَا شَاءَ النَّاسُ، مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ كَرِهَ النَّاسُ، حَسْبِيَ الرَّبُّ مِنَ الْمَرْبُوبِينَ، حَسْبِيَ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، حَسْبِيَ الرَّازِقُ مِنَ الْمَرْزُوقِينَ، حَسْبِيَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ حَسْبِي، حَسْبِي مَنْ كَانَ مُنْذُ كُنْتُ حَسْبِي لَمْ يَزَلْ حَسْبِي، حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»(1).
وفي أحاديث نقوش خواتم الأئمة (علیهم السلام) أن «في خاتم الحسن والحسين (علیهما السلام): حسبي الله»(2).
وعن يونس بن عبد الرحمن، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن نقش خاتمه وخاتم أبيه (عليه السلام) قال: «نقش خاتمي: (مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ)،ونقش خاتم أبي: (حَسْبِيَ اللَّهُ)، وهو الذي كنت أختم به»(3).
مسألة: أصل الاعتقاد بأن الله هو كافٍ عبده وهو حسبه واجب، والمستحب هو المراتب اللاحقة؛ لأنه مما يرتبط بأصول الدين الذي منه واجب ومنه مستحب، فالمستحب مثل: الاعتقاد ببعض خصوصيات الجنة والنار والقبر، وبعض خصوصيات الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) مثل معرفة أمهاتهم وأحوالهن وما أشبه، فليس المراد بأصول الدين المستحبة - إذ أطلق
ص: 578
..............................
ذلك(1) - الأصول الخمسة بالمعنى المنصرف إليه، وإلاّ فهي من أوجب الواجبات العقلية والشرعية.
عن المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«أوحى الله عزوجل إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم تكيده السماوات و الأرض ومن فيهن إلاّ جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي واد هلك»(2).
وعن عبد الله بن القاسم، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) عن علي (عليه السلام)، قال: «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو؛ فإن موسى بن عمران (عليه السلام) خرج يقتبس لأهله ناراً فكلمه الله عزوجل فرجع نبياً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزة لفرعون فرجعوا مؤمنين»(3).
مسألة: قد يتأكد الوجوب والاستحباب في بعض المصاديق، فبالنسبة للمظلوم والمصاب والمفجوع يتأكد لزوم ترسيخ الاعتقاد بكفاية الله عبدَه،ويتأكد تلفظه ونطقه بما يدل عليه، وهذا مصداق من مصاديق ما تقدم، فإن احتساب
ص: 579
..............................
الأمور لله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه وما أشبه ذلك عام بالنسبة إلى المظلوم وغير المظلوم، والمصاب وغير المصاب، لكنه في المظلوم والمصاب آكد، إذ هو مأمور به في الشريعة بصورة خاصة، بالإضافة إلى أنه يسبب التخفيف النفسي والترفيه الروحي على ما تقدم. إضافة إلى أن المصاب والمفجوع قد يكون في معرض تزلزل اعتقاده أكثر من غيره، فكان لابد من مزيد العناية والرعاية بلحاظ المقدمية إضافة إلى النفسية(1).
مسألة: يجب إطاعة الإمام (عليه السلام) وقد يجب إظهار ذلك، كما صنعته الصديقة (علیها السلام) حيث امتثلت كلامه (عليه السلام)، فقالت: «حسبي الله».
والوجوب بالنسبة إلى طاعة الإمام (عليه الصلاة والسلام) في ما صدر عنه (عليه السلام) مولوياً على نحو الإلزام، أو في الواجب إرشاداً(2)، كما يستحب أحياناً(3).وهل الأمر هنا من قبيل الواجب أو المستحب حيث امتثلت الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كلامه (صلوات الله عليه) وقالت: «حسبي الله»؟.
احتمالان، ومن المعلوم أن امتثال أمر الإمام (عليه السلام) حتى في الأمور المستحبة مندوب إليه شرعاً.
ص: 580
..............................
عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته - ثم قال - إن الله تبارك وتعالى يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً(1)»(2).
وعن أبي الصباح الكناني، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا الصباح، نحنقوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ(3)»(4).
وعن أبي الصباح، قال: أشهد أني سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أشهد أن علياً إمام فرض الله طاعته، وأن الحسن إمام فرض الله طاعته، وأن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته»(5).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الأئمة (علیهم السلام) هل يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحد؟. قال: «نعم»(6).
وعن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أي شي ء أفضل ما يتقرب
ص: 581
..............................
به العباد إلى الله فيما افترض عليهم؟.فقال: «أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله طاعة الله وطاعة رسوله، وحب الله وحب رسوله (صلی الله علیه و آله) وأولي الأمر»، وكان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: «حبنا إيمان وبغضنا كفر»(1).
وعن أبي سلمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة؛ فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء»(2).
مسألة: يستحب للزوجة امتثال أمر زوجها في شؤون الحياة.
فإن على الزوجة آداباً بالنسبة إلى الزوج واجبة، وآداباً مستحبة، كما ذكره الفقهاء في كتاب النكاح.
عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «جاءت امرأة إلى النبي (صلی الله علیه و آله). فقالت: يا رسول الله، ماحق الزوج على المرأة؟. فقال لها: أن تطيعه ولاتعصيه، ولا تصدق من بيته إلا بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها. فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقاً على
ص: 582
..............................
الرجل؟. قال: والده. فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقاً على المرأة؟. قال: زوجها»(1).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق، لم يتقبل منها صلاة حتى يرضى عنها، وأيما امرأة تطيبت لغير زوجها لم تقبل منها صلاة حتى تغتسل من طيبها كغسلها من جنابتها»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الحج جهاد كل ضعيف، وجهاد المرأةحسن التبعّل»(3).
وعن عمرو بن جبير العزرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟. قال: أكثر من ذلك. قالت: فخبرني عن شيء منه؟. قال: ليس لها أن تصوم إلاّ بإذنه - يعني: تطوعاً - ولا تخرج من بيتها بغير بإذنه، وعليها أن تطيب بأطيب طيبها، وتلبس أحسن ثيابها، وتزين بأحسن زينتها، وتعرض نفسها عليه غدوة وعشية، وأكثر من ذلك حقوقه عليها»(4).
وعن الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) - في حديث المناهي - قال: «نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها؛ فإن خرجت لعنها كل ملك في السماء، وكل شيء تمر عليه من الجن والإنس حتى ترجع إلى بيتها. ونهى أن تتزين لغير زوجها؛ فإن فعلت كان حقاً على الله
ص: 583
..............................
أن يحرقها بالنار»(1).
وفي مسائل علي بن جعفر، قال: سألته (عليه السلام) عن المرأة المغاضبة زوجها هل لها صلاة أو ما حالها؟. قال (عليه السلام): «لا تزال عاصية حتى يرضى عنها»(2).
مسألة: قد يكون من الواجب - فيما كان فعله واجباً - إبراز ذلك بالقول أو غيره، وإظهار الالتزام، بحيث يكون (القول) كاشفاً عن الفعل والالتزام(3)، وقد يكون ذلك(4) مستحباً، وقد لا يكون أياً منهما، وذلك حسب العناوين التي تعرض. وقد يكون من المستحب - فيما كان فعله مستحباً - التجلي على الجوارح، وقد لا يكون كذلك(5).
ويمكن استفادة مطلق رجحان الإبراز والإظهار من قولها (علیها السلام): «حسبي الله» وإمساكها عملياً، ويمكنالقول بأن من الأفضل في الأمور المستحبة أن يظهر أثر ذلك الشيء على مجموع القلب واللسان والجوارح.
كما أن في الأمور الواجبة قد يتعلق الوجوب بالكل الواجب، وقد ينفرد بعضها بمتعلَّقيه الواجب، فيكون عقد القلب فقط مثلاً هو الواجب، أو يكون
ص: 584
..............................
الواجب متعلقاً بأحد الجوارح فقط حسب ما ذكروه في الكتب الفقهية والأصولية والكلامية.
قوله (عليه السلام): «وأمسكت» أي لم تتكلم (علیها السلام) بعد ذلك في هذا الشأن مع أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) وهذا من كمال التسليم وتمام الطاعة.
فصلوات الله وسلامه عليها وعلى بعلها وبنيها عدد ما أحاط به علمه، واللعنة على أعدائها أعداء الله، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي 1414ه-
ص: 585
إلى هنا تم بحمد الله تعالى
المجلد الخامس من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام))
وذلك بتمام الخطبة الشريفة
التي ألقتها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في المسجد
وسيأتي بعده المجلد السادس ويبدأ ب- (خطبة الدار)
التي ألقتها (علیها السلام) على نساء المهاجرين والأنصار
في البيت عند عيادتهن لها
ص: 586