الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الثالث : خطبتها علیها السلام في المسجد 2
المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى
1439 ه 2018م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الثالث
خطبتها علیها السلام في المسجد
القسم الثاني
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فهذا الجزء الثالث من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، أسأل الله سبحانه التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 5
ص: 6
-------------------------------------------
مسألة: ربما يقال بأنه ينبغي نداء الناس في مطلع كل حديث مهم، وقد خاطب الله سبحانه الناس بقوله: «يا أيها الناس»(1) و«يا أيها الذين آمنوا»(2) في كثير من آيات الذكر الحكيم(3)، كما خاطب أيضا بقوله تعالى :«يا بني آدم» فإنه ذكر خمس مرات فيالقرآن الكريم(4).
وجاء في بعض الآيات: «قل يا أيها الناس»(5).
وكذلك الأمر في كثير من الأحاديث القدسية(6) و الروايات التي تبدأ ب (يا ابن آدم) أو شبهه.
ص: 7
..............................
وشواهد الرجحان وأدلة الأسوة قد تدل على الاستحباب وإن احتمل كون ذلك جريا على العادة الجارية في العرف، فليس من المستحب بل من المباح، لكن الأول أقرب(1)، فتأمل.
قال تعالى:«يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون» (2).وقال سبحانه: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً»(3).
وقال تعالى: «قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله»(4).
وقال سبحانه: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم»(5).
وقال تعالى: «وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير»(6).
وقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان»(7).
ص: 8
..............................
وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل»(1).
وقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوالاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين»(2).
وفي الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى: «يا بن آدم اطعني فيما أمرتك ولاتعلمني ما يصلحك»(3).
ص: 9
..............................
مسألة: هناك أحكام وآداب ترتبط بالنداء مذكورة في محلها، فمن النداء ما هو واجب ومنه مستحب ومنه حرام ومكروه ومباح، كل في مورده، قال تعالى: «ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون»(1).
وقال تعالى: «ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم»(2).
وقال سبحانه: «وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين»(3).
وقال تعالى: «ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون»(4).
وقال سبحانه: «إن الذين ينادونك منوراء الحجرات أكثرهم لايعقلون»(5).
وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً وسلمان وأبا ذر بأن ينادوا بأعلى أصواتهم أنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه
ص: 10
..............................
فنادوا بها ثلاثا»(1).
وفي شعر حسان بن ثابت يوم الغدير:
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالنبي مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هنالك التعاديا
إليك مولانا وأنت ولينا *** ولا تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
هناك دعا اللهم وال وليه *** وكن للذي عادى علياً معاديا(2)
وسئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن الصدقات، فقال (علیه السلام): «أقسمها فيمن قال الله عزوجل ولا تعط من سهم الغارمين الذين ينادون بنداء الجاهلية شيئاً، قلت: وما نداء الجاهلية، قال: هو الرجل يقول يالبني فلان، فيقع بينهما القتل والدماء»(3).
وفي الحديث: إن من أسماء فاطمة الزهراء (علیها السلام): (محدثة) لأن الملائكة كانوا ينادونها يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، وتحدثهم(4).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:
«يمثل لفاطمة رأس الحسين (علیه السلام) متشحطاً بدمه، فتصيح واولداه، واثمرة
ص: 11
..............................
فؤاداه، فتصيح الملائكة لصيحة فاطمة (علیها السلام) وينادون أهل القيامة: قتل الله قاتل ولدك يا فاطمة..
قال: فيقول الله عزوجل: أفعل به…»الحديث (1).
وقولها (2) صلوات الله عليها: (ثم)(3) لا يقصد به وجود فاصل زمني بين الكلامين بل الفصل الرتبي، حيث كان الكلام حتى هذا المقطع يدور حول الأصول والفروع، والكلام من هنا يبدأ حول قضية حقها المسلوب حيث جاءت (علیها السلام) إلى المسجد لإثبات الحق وإحقاقه.
ص: 12
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يعرف الإنسان نفسه للناس إذا كان فيه الفائدة، ولذا عرف الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) نفسه في يوم كربلاء، حيث قال بأعلى صوته: «أنشدكم الله هل تعرفونني.. أنشدكم بالله هل تعلمون أن جدي رسول الله… أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب… أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى.. وان جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاما… وأن حمزة سيد الشهداء عم أبي.. وأن جعفراً الطيار عمي..»(1).
وقال (علیه السلام):
أنا الحسين بن علي *** أحمي عيالات أبي
آليت أن لا أنثني *** أمضي على دين النبي(2)
وكذلك الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) في المسجد الجامع في الشام،حيث قال (علیه السلام): «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا بن محمد المصطفى..»(3).
ص: 13
..............................
وعن أبي ذر أنه قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: علي (علیه السلام) قائد البررة، علي قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، ملعون من جحد ولايته» الحديث(1).
من غير فرق بين أن يكون التعريف بالاسم أو بالوصف، وقد جاء في القرآن الحكيم: «إني رسول الله إليكم جميعاً»(2) وما أشبه ذلك(3).ومن هذا الباب ما ورد من حديث المفاخرة بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وولده الحسين (علیه السلام) وما أشبه، فقد ورد:
«إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان جالساً ذات يوم وعنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فدخل الإمام الحسين (علیه السلام) فأخذه النبي (صلی الله علیه و آله) وأجلسه في حجره…
فقال علي (علیه السلام): يا رسول الله أيّنا أحب إليك؟…
فقال الحسين: يا أبتي من كان أعلى شرفاً كان أحب إلى النبي.
قال علي (علیه السلام) لولده: أتفاخرني يا حسين.
قال: نعم يا أبتاه إن شئت.
ص: 14
..............................
فقال علي (علیه السلام): أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين، أنا وزير المصطفى… أنا قائد السابقين إلى الجنة… أنا حبل الله المتين الذي أمر الله تعالى خلقه أن يعتصموا به في قولهتعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعاً»(1)..
أنا نجم الله الزاهر… أنا الذي قال الله سبحانه فيه: «بل عباد مكرمون Q لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(2)، أناعروة الله التي لا انفصام لها، أنا باب الله الذي يؤتى منه.. أنا بيت الله من دخله كان آمناً، فمن تمسك بولايتي ومحبتي أمن من النار…
أنا «عم يتساءلون»(3) عن ولايتي يوم القيامة… أنا النبأ العظيم…
أنا حي على الصلاة، أنا حي على الفلاح، أنا حي على خير العمل…
- إلى أنا قال (علیه السلام): - أنا قسيم الجنة والنار.
فعندها سكت علي (علیه السلام) فقال النبي (صلی الله علیه و آله) للحسين (علیه السلام):
أسمعت يا أبا عبد الله ما قاله أبوك وهو عشر عشير معشار ما قاله من فضائله ومن ألف ألف فضيلة، وهو فوق ذلك أعلى…
فقال الحسين (علیه السلام): يا أبت أنا الحسين بن علي بن أبي طالب، وأميفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وجدي محمد المصطفى سيد بني آدم أجمعين، لا ريب فيه، يا علي إن أمي أفضل من أمك عند الله وعند الناس أجمعين،
ص: 15
..............................
وجدي خير من جدك وأفضل عند الله وعند الناس أجمعين…
- إلى أن قال: - يا علي أنت عند الله تعالى أفضل مني، وأنا أفخر منك بالآباء والأمهات والأجداد» الحديث(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يفتخر يوم القيامة آدم بابنه شيث وافتخر أنا بعلي بن أبي طالب»(2).
وفي كتاب سليم عن أبي ذر وسلمان والمقداد قالوا: «إن رجلاً فاخر علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي: أي أخي فاخر العرب فأنت أكرمهم ابن عم وأكرمهم أباً وأكرمهم أخاً وأكرمهم نفساً وأكرمهم نسباً وأكرمهم زوجة وأكرمهم ولداً وأكرمهم عماً وأعظمهم عناءً بنفسكومالك»(3).
كما يستحب الانتساب إلى الأب أيضا، ولذا قالت (عليها الصلاة والسلام): (وأبي محمد).
وهكذا نجد في كلام الإمام الحسين (علیه السلام) المتقدم وكلام غيرهما. وقبل ذلك قال تعالى: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها»(4) و..
أما تعريف النفس لا بالقصد المذكور بل لأغراض شيطانية، فمن الرذائل.
ص: 16
..............................
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي لينتهين أقوام يفخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم»(1).
وفي الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام):
أيها الفاخر جهلاً بالنسب *** إن الناس لام ولأب
هل تراهم خلقوا من فضة *** أم حديد أم نحاس أم ذهب
هل تراهم خلقوا من فضلهم *** هل سوى لحم وعظم وعصب
إنما الفخر لعقل ثابت *** وحياء وعفاف وأدب (2)
وأيضا:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً *** يغنك محموده عن النسب
فليس يغني الحسيب نسبته *** بلا لسان له ولا أدب
ان الفتى من يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي(3)
وأيضا:
ولا تمشين في منكب الأرض فاخراً *** نعماً قليل يحتويك ترابها(4)
قولها (علیها السلام): (اعلموا أني فاطمة) تعريف بنفسها الشريفة، كي لايبقى أي مجال للتشكيك بشخصية المتحدث، سواء لدى كل فرد فرد من الجمهور
ص: 17
..............................
الغفير الحاضر في المسجد، أو عند الغائبين الذين يصلهم هذا الحديث والاحتجاج في المدينة المنورة وسائر البلدان، في ذلك الجيل أو الأجيال اللاحقة..
وبذلك فإنها (علیها السلام) قد قطعت الطريق على أية محاولة تشكيكيةبصدور هذا الحديث الصاخب منها.
فلا يمكن بعد ذلك للطغاة ومرتزقتهم من ذوي الأقلام المسمومة وأصحاب الضمائر المنحرفة أن (يجهضوا) مفعول ذلك الحديث عبر سلاح (التكذيب) و(الإنكار): فمن قال إن هذا الحديث لفاطمة ؟
أو من قال: إنها فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله)؟ (1).
ص: 18
-------------------------------------------
قولها (علیها السلام): (وأبي محمد (صلی الله علیه و آله))، حيث إن المسلمين كانوا قد سمعوا الرسول (صلی الله علیه و آله) يقول كراراً: (فاطمة بضعة مني)(1).
ويقول (صلی الله علیه و آله): «هي نور عيني وثمرة فؤادي»(2).
ويقول (صلی الله علیه و آله): «هي مني وأنا منها»(3).
ويقول (صلی الله علیه و آله): «إنما سميت فاطمة فاطمة لأن الله تعالى فطم منأحبها من النار»(4).
وفي حديث: «لأنها فطمت هي وشيعتها من النار»(5).
ويقول (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل»(6).
ص: 19
..............................
ويقول (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني يسخطها من يسخطني ويرضيني ما أرضاها»(1).
وفي حديث: «فمن أغضبها فقد أغضبني»(2).
وفي حديث: «من سرها فقد سرني ومنساءها فقد ساءني»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «فاطمة أعز البرية عليّ»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله) وهو آخذ بيد فاطمة (علیها السلام): «من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من المقربين وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين» الحديث(6).
إلى عشرات الأحاديث الأخرى، فكانفي الإشارة إلى ذلك(7) إلفاتاً إلى
ص: 20
..............................
حقيقة توجب لكلماتها (علیها السلام) وقعاً اكبر في النفوس، فهي (علیها السلام) بنت ذلك النبي الذي أنقذكم من الظلمات إلى النور ومن أسفل درجات الذلة إلى أرفع درجات العزة، وكلماتها امتداد لتلك المسيرة، وكما ضل من ضل بإعراضه عن كلامه (صلی الله علیه و آله) سيضل من سيعرض عن كلماتها (علیها السلام).
ولذلك(1) وجه آخر أيضا: فالإشارة إلى هذه العلاقة السببية يثير عادة في النفوس عاطفة أقوى - خاصة والنبي (صلی الله علیه و آله) قد توفي منذ فترة قصيرة والعواطف شديدة التأجج والالتهاب - مما يدفع الناس إلى تقبّل أقوى لمواعظها وإنذارها(2).
ص: 21
مسألة: يستحب التأكيد والتكرار بشكل تفصيلي أو بنحو إجمالي للمطالب المهمة، لما يتضمن من التأثير الأكبر في تقبل المستمع للموعظة والإنذار، كما قالت (علیها السلام): (عودا وبدوا). ومن هذا الباب بعض التكرار في القرآن الكريم وان كان لدى الدقة غير الأول.
ومنه أيضا ما كرره رسول الله (صلی الله علیه و آله) من التأكيد على ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه الخليفة من بعده وذلك في أماكن عديدة وفي مناسبات مختلفة، كما في حجة الوداع حيث جمع الصحابة وكرر عليهم (ألست أولى بكم من أنفسكم) ثلاثاً وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي (علیه السلام) وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعادمن عاداه وأحب من أحبه وابغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار)(2).
ومنه أيضا ما كرره (صلی الله علیه و آله) عند ما أمر أصحابه بتجهيز جيش أسامة حيث قال: «أنفذوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه» وكرر ذلك(3).
ص: 22
..............................
وكذلك ما ورد في تكرار بعض الأدعية مثل قوله (علیه السلام): «من كان به علة فليقل عليها في كل صباح أربعين مرة مدة أربعين يوماً: بسم الله الرحمن الرحيم…» الحديث(1).
وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا حدث الحديث أو سئل عن الأمر كرره ثلاثاً ليفهم ويفهم عنه»(2).
ثم إنه لا فرق في التكرار بين: التكرار باللفظ كقول ابن مالك:(كالضيغم الضيغم يا ذا السادي).
أو بالمعنى.. أو ما يدل على التكرار، كقولها (عليها الصلاة والسلام): (عودا وبدوا). وإنما قدمت (عودا) مع أن الأول أسبق في الأسلوب والتسلسل الخارجي(3) لأن الكلام مكان العود وما هو المكان له يقدم كما ذكره علماء البلاغة(4)، كأنها (علیها السلام) تريد أن تقول: إني أقول مكرراً، ثم قالت: (وبدوا) تصريحا بما يدل عوداً عليه تلويحاً.
قولها (علیها السلام): (عودا وبدوا) أي: أولا وآخرا، أي إن كلامي الأخير هو ذات كلامي الأول، لا أن أقول شيئا ثم أتكلم بما يناقضه ويعارضه كما هو شأن كثير من السياسيين وأرباب السلطات ومن أشبههم.
ص: 23
-------------------------------------------
مسألة: إن كلامها (علیها السلام) هذا مضافاً إلى سائر الأدلة(1) يدل على عصمتها(علیها السلام)، فإن المعصوم لا يخطأ ولا يغلط ولا يشطط، والشطط هو الابتعاد عن الحق.
والفرق بين القول والفعل واضح، والكلام وان كان في القول هنا لكنها (علیها السلام) ذكرت الفعل أيضا تأكيداً من باب الأولوية العرفية فمن لا يكون فعله شططا لا يكون قوله غلطاً. وهناك وجه آخر وهو أن (القول) لدى الدقة من مصاديق (الفعل)(2).
قولها (علیها السلام): (ولا أقول ما أقول غلطا) أي أن كلامي لم يصدر إلا عن بصيرة وحكمة وهو مطابق للواقع، إذ كثيراً ما يقول القائل شيئا ثم إذا رأى المحذور فيه قال إنه أخطأ فيكلامه، وتنازل عن مقالته بهذه الحجة.
ص: 24
..............................
هنا مسألتان:
أ: القول الغلط قد يكون حراما.
وقد يكون مرجوحا لا يمنع عن نقيضه.
وقد يكون غير ذلك(1).
إذ أن الغلط قد يقصد به العمد، وقد يراد به السهو، والقول الغلط إذا أريد به العمد(2) قد يكون محرما كما في الأحكام الشرعية أو الأمور العقائدية أو ما أشبه ذلك، وقد يكون مرجوحا، كما إذا كان فيما لم ير الشارع لمعرفته موضوعية(3) ولا تترتب على الغلط فيه محذور ولا انطبق عليه عنوان محرم كالكذب، فتأمل.
وأما القول الغلط - إذا أريد به السهو - فهو تابع في حكمه للتقصير في مقدماته.ب: وكذلك الأمر في كل فعل شط عن الصواب وابتعد وكان من مصاديق الظلم للنفس أو للغير، عمداً أو سهواً كما سبق.
ص: 25
..............................
و(شططا) أي: ظلماً وابتعاداً عن الحق، والمراد من الفعل في قولها (علیها السلام): (ولا أفعل ما أفعل) هو مجيئها المسجد ومناصرتها علياً (عليه الصلاة والسلام)، والفعل يشمل الكلام أيضا، كما أن القول يشمل الفعل أيضا، وإن كان ذاك على نحو الحقيقة وهذا على نحو المجاز.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المستبد متهور في الخطأ والغلط»(1).
وقال (علیه السلام): «من كثر مراؤه لم يأمن الغلط»(2).
وفي الحديث عنه (علیه السلام): «انه قضى في امرأة تزوجها رجل على حكمها فاشتطت عليه، فقضى أن لها صداقمثلها لا وكس ولا شطط»(3).
وفي القرآن الكريم: «وانه كان يقول سفيهنا على الله شططا»(4).
وقال تعالى: «فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا»(5).
وقال سبحانه: «إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط»(6).
ص: 26
-------------------------------------------
مسألة: يلزم في حكم العقل ومن باب قاعدة اللطف أن يكون النبي من البشر، وقد قال سبحانه: «لقد جاءكم رسول منأنفسكم»(1) أي مثلكم في الخلقة.
وقال تعالى: «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون»(2).
وذلك لان البشر في مظان أن يكون أسوة وقدوة للناس(3) ، أما الملك فلا ، إذ الناس يقولون انه ملك وهو مجرد من دواعي المعصية وله قوى لا نملكها وله أحكام غير أحكامنا فلا يكون لنا قدوة، وكذلك إذا كان من الجن، أو من جنس آخر. ويمكن القول بان جعله بشراً من باب اللطف ولكن ليس كل لطف واجبا، فليس سبحانه ملزما بذلك، إذ الإلزام - فيما الزم به تعالى نفسه - إنما يكون في اصل تبليغ الرسالة، سواء كان بسبب البشر أم بسبب غير البشر، كما قرر في علم الكلام.
ص: 27
-------------------------------------------
مسألة: يلزم أن يكون القائد بحيث يعز عليه ويشق عليه ما عنت وشق وصعب على رعيته، كما يعز على الأب ما يجري على ابنه، إذ القائد هو الأب الروحي، ولأنه إذا لم يكن يهتم برعيته حتى يشق عليه ما يشق عليهم لا يصلح ان يكون ذلك الذي يقود سفينة الرعية نحو شاطئ السلام في خضم التيارات وأمواج الفتن وأعاصير البلاء.
ولمكانة (ما) يدل على عزة ذلك على الرسول (صلی الله علیه و آله) ولو كان من أدنى درجات العنت، لان الطبيعة سارية من الصغيرة الى الكبيرة، كما قرر في علم المنطق.
قولها (علیها السلام): (ما عنتم) أي ما عنتكم أي ما صعب وشق عليكم، فإنه (صلی الله علیه و آله) كان يشق عليه كل ما شق على أمته في حال حياته وبعد مماته، ولذا قال (صلی الله علیه و آله) لعزرائيل (علیه السلام) عند حضوره لقبض روحه : (شدد عليَّ وخفف على أمتي)، على عكس الحكام الدنيويين وطلاب القوة والسلطة الذين لا يهمهم إلا أمر أنفسهم وإلا المزيد من الأموال والقدرة والشهوات، وان كان كل ذلكعلى حساب الأمة واقتطاعا من أقواتها وحقوقها.
وهكذا كان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) فقد ورد أنه (علیه السلام) نظر إلى فقير انخرق كم ثوبه، فخرق كم قميصه وألقاه إليه(1).
ص: 28
-------------------------------------------
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان علي بن أبي طالب ليطعم الناس خبز البر واللحم، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل»(1).
مسألة: يلزم أن يكون القائد والراعي - في أية درجة ومنزلة كان،وسواء اتسعت دائرة رعيته أم تضيقت(2) - حريصا على شؤون أتباعه ورعيته. ومعنى الحرص عليهم الحرص على هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة وتقدمهم في شتى الأبعاد الجسمية والروحية، المادية والمعنوية، وذلك لان حذف المتعلق يفيد العموم.
ومن الواضح إن الحرص - وهو شدة الاهتمام والتمسك والتعلق بشيء - على الخيرات حسن ممدوح، كما قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «المؤمن على الطاعات حريص وعن المحارم عفيف»(3).
ص: 29
..............................
أما المذموم فهو الحرص على الدنيا الفانية وشهواتها الدنية.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أربع من علامات النفاق قساوة القلب وجمود العين والإصرار على الذنب والحرص على الدنيا»(1).
وقال (علیه السلام): «هلاك الناس فيثلاث: الكبر والحرص والحسد»(2).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «وإياكم والحرص فإن آدم (علیه السلام) حمله الحرص على أن أكل من الشجرة»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيته لابنه الحسين (علیه السلام): «أي بني الحرص مفتاح التعب ومطية النصب… الحرص علامة الفقر»(4).
وقال (علیه السلام): «خير الناس من أخرج الحرص من قلبه»(5).
هذا وفي بعض الروايات الواردة في تأويل الآية المباركة أنه (علیه السلام) تلا هذه الآية: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» قال: (من أنفسنا)، قال: «عزيز عليه ما عنتم» قال: ما عنتنا، قال: «حريص عليكم» قال: علينا، «بالمؤمنين رؤوف رحيم» قال: بشيعتنا رؤوف رحيم، فلنا ثلاثة أرباعهاولشيعتنا ربعها(6).
ص: 30
-------------------------------------------
مسألة: يلزم أن يكون القائد رؤوفا رحيما، والفرق بينهما أن الصفة الأولى تتعلق بالعمل والجوارح، والثانية ترتبط بالقلب والجوانح، في قبال الفظّ الذي يعكس خشونة الأفعال وهي حالة خارجية، وغليظ القلب وهي حالة داخلية، كما في الآية الكريمة: «ولو كنت فظا غليظ القلب»(1)..
أما «الرحمن الرحيم» في قوله تعالى:«بسم الله الرحمن الرحيم»(2) فالأول خارجي يتعلق بالظواهر والمظاهر، والثاني قلبي، وكلاهما من مادة الرحمة وبمعنى واحد، لا أن لهما معنيين كما قاله بعض المفسرين. ولذا يقال: فلان رحيم القلب، ولايقال: رحمان القلب،وربما يقال بإطلاق كل منهما على الآخر لو انفرد كما قالوا بذلك في (المسكين والفقير) و(الظرف والجار والمجرور) والتفصيل في المفصلات.
فالمراد: ظاهره رحيم وباطنه رحيم، لا كبعض الناس حيث ترى الغلظة في ظاهره وباطنه، أو في ظاهره فقط، أو في باطنه فقط، فإن الغلظة إذا كانت في الظاهر لا تنفع معها - عادة - الرقة الباطنية، وإذا كانت الغلظة في الباطن كان الظاهر الرقيق تصنعا لاواقعية له، والتصنع قد ينفع في خداع الناس لفترة، إلا أنه
ص: 31
..............................
ليس بدائمي ولا شمولي إذ إن الجوهر يصنع ما يصنع، ففي الخلوات - مثلاً - تصنع الغلظة صنعتها في تلك المؤامرات التي تحاك خفية والخطط الشيطانية التي سرعان ما تنكشف للناس فتفضح تلك السريرة الشريرة وتلك الضمائر الخبيثة.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علم… فجعل العلم نفسه والفهم روحه والزهد رأسه والحياء عينيه والحكمة لسانه والرأفة همهوالرحمة قلبه» الحديث(1).
وفي الدعاء: «الذي أوجبته على نفسك من الرأفة والرحمة»(2).
وأيضا: «يا معروفاً بالإحسان والرأفة والرحمة»(3).
وأيضا: «وأسألك باسمك الذي خلقت به ملائكة الرأفة والرحمة»(4).
قولها (علیها السلام): (بالمؤمنين) تخصيصهم بالذكر من جهة أن الصفتين السابقتين(5) كانتا تشملان المؤمن والمنافق، فالرسول (صلی الله علیه و آله) ما كان يريد حتى عنت المنافقين، وكان حريصاً على إيمانهم وهدايتهم وإنقاذهم وكان يقول حتى بالنسبة إلى الكافرين: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)(6)، أما رأفته ورحمته فمصبها (المؤمنون).
ص: 32
مسألة: يجب التعرف على الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، والقضية الشرطية في كلامها (علیها السلام) وان كانت صحتها لا تتوقف على صدق المقدم بل ولا على إمكانه، إلا أن حكم المقدم هنا يستفاد من الخارج، كما هو بيّن لدى الالتفات.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد بيان لزوم معرفة الله وحدوده: «وبعده معرفة الرسول (صلی الله علیه و آله) والشهادة له بالنبوة، وأدنى معرفة بالرسول الإقرار بنبوته وان ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك عن الله عز وجل…» الحديث(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «لم يبعث الله نبياً يدعو إلى معرفة ليس معها طاعة، وإنما يقبل الله عزوجل العمل منالعباد بالفرائض التي افترضها عليهم بعد معرفة من جاء بها من عنده ودعاهم إليه فأول ذلك معرفة من دعا إليه وهو الله الذي لا إله إلا هو وحده والإقرار بربوبيته، ومعرفة الرسول الذي بلغ عنه وقبول ما جاء به، ثم معرفة الوصي (علیه السلام) ثم معرفة الأئمة بعد الرسل الذي افترض الله طاعتهم في كل عصر وزمان على أهله…»(3).
وعنه (علیه السلام): «من زعم انه يحل الحلال ويحرم الحرام بغير معرفة النبي (صلی الله علیه و آله)
ص: 33
..............................
لم يحل لله حلالاً ولم يحرم له حراماً…»(1).
قولها صلوات الله عليها: (تعزوه) أي تنسبوه بذكر النسب منه وإليه.
و(تعرفوه) تعرفون شخصه ونسبه، بالمعنى الأعم من النسبة إليه، حتى يعرفوا أن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) منسوبة إليه (صلى الله عليه وآله).
و(أبي) تمهيد لكون فدك لها، لأن فدك حتى إذا لم تكن نحلة - فرضاً -تكون إرثاً ، لأن فاطمة (علیها السلام) هي ابنته التي ترثه.
لا يقال: إذا كانت فدك إرثا كانت للزوجات حصة أيضا؟
لأنه يقال: الزوجات كن يعترفن بأن فدك ليست لهن فلم يبق إلا هي (صلوات الله عليها). كما إذا مات زيد وكان في حوزته كتاب، واعترف الأبناء بأنه ليس لهم وادعاه أحدهم فقط فإنه يصبح له وحده، فهذه الجملة(2) كالتمهيد على حسب كلام البلغاء.
ثم إن قولها (علیها السلام): (تجدوه أبي دون نسائكم) هل يدل على أنها (صلوات الله عليها) هي البنت الوحيدة للرسول (صلی الله علیه و آله)؟
قال بذلك بعض.
ص: 34
..............................
مسألة: يستحب لذرية الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يبينوا نسبهم للناس ولا شك أن النسب والقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضيلة عظيمة في الدنيا والآخرة، والاستحباب إنما يكون إذا لم يتوقف حكم شرعي على ذلك وإلا وجب البيان، كما بالنسبة الى المرأة الهاشمية القرشية حيث إنها تبلغ سن اليأس في الستين من العمر وغيرها في الخمسين(1).
وكذلك يجب بيان النسب فيما يتعلق بشؤون الخمس والزكاة - سلباً وإيجاباً - وغير ذلك، وهناك أحكام كثيرة ترتبط بالنسب مذكورة في الفقه.
وقد انتسب الإمام السجاد (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في خطبته أمام يزيد(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«ما بال أقوام يقولون أن رحم رسول الله لا ينفع يوم القيامة، بلى والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة»(3).
ثم إنه لا منافاة بين ما ذكرناه وما ورد من قوله (علیه السلام): «حسب الأدب أشرف من حسب النسب»(4).
ص: 35
-------------------------------------------
وقال (علیه السلام): «نعم النسب حسن الأدب»(1).
وقال (علیه السلام): «فخر المرء بفضله لا بأصله (بأهله)»(2).
وقال (علیه السلام): «ليست الأنساب بالآباء والأمهات لكنها بالفضائل المحمودات»(3).
مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) أخ للرسول (صلی الله علیه و آله) دون غيره. وفي ذلك تكريس لنفس الغرض الذي من أجله اتخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أخاً، وقد يكون بيان ذلك واجباً (4).
وإذا كان النظر إلى وجه علي (علیه السلام) عبادة (5) وذكره (علیه السلام) عبادة (6)
ص: 36
..............................
فالخوض في فضائله (علیه السلام) عبادة وبشكل أولى.
قولها (علیها السلام): (وأخا) أي أن علياً (عليه الصلاة والسلام) مخصوص بالاخوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأنه ابن عم فاطمة (علیها السلام)، ولعله تمهيد لكونه (علیه السلام) وصيه (علیه السلام) دون غيره، لأن الأخ يقوم مقام أخيه.
أو أن الجملتين لمزيد التعريف بهما ولوجود من قد يجهل الأصل أو الاختصاص(1).
وفي الحديث عن زيد بن علي (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن علي (علیه السلام) قال: «كان لي عشر من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يعطهن أحد قبلي ولا يعطاهن أحد بعدي، قال لي: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة، وأنت أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة، ومنزلي ومنزلك في الجنة متواجهان كمنزل الأخوين، وأنت الوصي، وأنت الولي، وأنت الوزير، عدوك عدوي وعدوي عدو الله، ووليك وليي ووليي ولي الله عز وجل»(2).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي بن أبي طالب(علیه السلام) ذات يوم وهو في مسجد قباء والأنصار مجتمعون: «يا علي أنت أخي وأنا أخوك، يا علي أنت وصيي وخليفتي من وإمام أمتي بعدي» الحديث.(3).
ص: 37
..............................
وفي كشف الغمة: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بين المسلمين ثم قال: يا علي أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي»(1).
وفي الحديث المروي عن الفريقين: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) آخى بين الناس وترك علياً (علیه السلام) حتى بقي آخرهم لا يرى له أخاً، فقال: يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني، قال: إنما تركتك لنفسي أنت أخي وأنا أخوك، فإن ذاكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله (صلی الله علیه وآله) لا يدعيها بعدك إلا كذاب»(2).
مسألة: يستحب ذكر فضائل أمير المؤمنين علي (علیه السلام) للناس، وفي الخطاب بصورة خاصة ويلحق به كتابتها.
فإن ذكر فضائله (علیه السلام) حسنة، وقد يكون واجباً إذا كان المورد من اللازم ذكره ومعرفته، ذاتا أو طريقاً(3).
وإنما قلنا باستحبابه في الخطاب بصورة خاصة، لأن الخطاب يفيد الغير، على عكس ما إذا لم يكن هناك خطاب وإنما حديث وتذاكر لما يعلمه.
ص: 38
..............................
والحاصل إن الخطاب أخص من أصل المذاكرة، سواء علم الجميع أم اقتصرالعلم على المتكلم وإن كان الأمر في صور عدم علم المخاطبين آكد، فهي مراتب من الاستحباب - وربما وجب - حسب ما يفهم من الروايات والموازين العقلائية.
وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه محمد بن علي (علیه السلام) عن آبائه الصادقين (علیهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله تبارك وتعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب (علیه السلام) فضائل لا يحصي عددها غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقراً بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين، ومن كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): النظر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل إيمان عبدإلا بولايته والبراءة من أعدائه»(1).
هذا وقد أصر الأعداء على كتمان فضائل علي أمير المؤمنين (علیه السلام) وعاقبوا على ذلك ولكن «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون»(2).
ص: 39
..............................
وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: «وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي (علیه السلام) وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول عن أبي زينب!»(1).
وعن ابن عباس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:«لو أن الغياض أقلام، والبحار مداد، والجن حسّاب والأنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام)» (2).وقال (صلی الله علیه و آله) يوم الغدير في خطبته: «معاشر الناس إن فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) عند الله عز وجل وقد أنزلها في القرآن أكثر من أن يحصيها في مقام واحد، فمن أنبأكم بها وعرفها فصدقوه»(3).
ص: 40
-------------------------------------------
مسألة: يستحب ان يفتخر الإنسان بانتسابه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) (1)، كما قالت (علیها السلام): (تجدوه أبي) و(ولنعم..) والائمة (علیهم السلام) - كما سبق - كانوا يفتخرون بالانتساب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفعلهم حجة ومحط أسوة(2).
وهذا من الفخر المستحب لا المذموم كما هو واضح، وفي الروايات أن جبرائيل كان يفتخر على الملائكة ويقول: «من مثلي وأنا سادس الخمسة الطيبة»(3).ومن انتسابهم (علیهم السلام) إلى جدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما ورد كثيراً عنهم من قولهم: «سمعت جدي رسول الله»(4).
ص: 41
..............................
وقال الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء: «و أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله»(1).
وقال الإمام الحسن (علیه السلام) لمعاوية: «أيها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة» الحديث(2).
وكان الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء، يرتجز ويقول:
أنا ابن علي الخير من آل هاشم *** كفاني بهذا مفخر حين أفخر
وجدي رسول الله أكرم من مشى *** ونحن سراج الله في الخلق تزهر
وفاطمة أمي سلالة أحمد *** وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر
وفينا كتاب الله أنزل صادقاً *** وفينا الهدى والوحي والخير يذكر
ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا *** بكاس رسول الله ما ليس ينكر
وشيعتنا في الناس أكرم شيعة *** ومبغضنا يوم القيامة يخسر(3)
ومن الواضح أن المستحب هو الافتخار بالانتساب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا كان من باب «وأما بنعمة ربك فحدث»(4) أو لأجل إلفات أنظار وشد القلوب اكثر فأكثر إلى رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله) أو ما أشبه ذلك.
ص: 42
..............................
ولا يخفى أن المنتسب إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) ثواب طاعته أكثر، وعقاب عصيانه أكثر، بدليل العقل والنقل، ومنه مقتضى آية نساء النبي (صلی الله علیه و آله) حيث قال سبحانه: «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء»(1) الآية، ورواية الإمام الصادق (علیهالسلام) في قصة شارب الخمر وقوله (علیه السلام): (إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح وإنه منك أقبح لمكانك منا)(2).
قولها (علیها السلام): (ولنعم المعزي إليه) أي المنسوب إليه، فإن الإنسان يفتخر بنسبته إلى الكبار، وهذا من تتمة الكلام السابق، والفخر - في الإنسان الصحيح - في محله إذ وشائج القربى تؤثر في التسامي والارتفاع.
ص: 43
-------------------------------------------
مسألة: يجب تبليغ الرسالة.والوجوب شامل حتى لمفرداتها المندوبة وشبهها.
والدليل على وجوب تبليغ الرسالة بأحكامها الخمسة والأحكام الوضعية أيضا - إذا قلنا بأنها غير الأحكام التكليفية لا أنها منتزعة منها - وان كان من تبليغ المستحب والمكروه والمباح: هو ان تبليغ الرسالة إيصال أحكام الله سبحانه وتعالى إلى العباد، من غير فرق بين أقسام الاحكام، وقد قال سبحانه: «يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك»(1).
وقال تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله»(2).
وقال سبحانه: «فإنما عليك البلاغ»(3).
وقال تعالى: «فاعلموا انما علىرسولنا البلاغ المبين»(4).
وقال سبحانه: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم»(5).
ص: 44
..............................
وقال تعالى: «أبلغكم رسالات ربي»(1).
وقال سبحانه: «وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي»(2).
وقال تعالى: «فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم»(3).
وقال عز وجل: « وأبلغكم ما أرسلت به»(4).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات في هذا الباب، ولا منافاة بين ان يكون العمل - كالنوافل - مندوبا وإبلاغ ذلك للعباد واجباً كما هو واضح، كما لا منافاة بين ما ذكرناه وما ذكروه في المستحب من باب الأمر بالمعروف والنهيعن المنكر.
قال علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله عزوجل بعث محمداً(صلی الله علیه و آله) للناس كافة ورحمة للعالمين فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه»(5).
ونقرأ في زيارته (صلی الله علیه و آله): «أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك»(6).
قولها (علیها السلام): (فبلغ) تعقيب لقوله تعالى: «لقد جاءكم»(7)..
ولعلها (صلوات الله عليها) إنما ع،ادت إلى أوصاف الرسول (صلی الله علیه و آله) لتكميل
ص: 45
..............................
الأوصاف، أو أنها (علیها السلام) ذكرت ما ذكرت بين طائفتي الأوصاف، لئلا يستلزم التكثير في الصفات في نسق واحد ملالة السامع، كما هو مقتضى البلاغة في الفصل بما يحافظ على قوةالحديث وجاذبيته.
ص: 46
-------------------------------------------
مسألة: يستحب الصدع بالإنذار، بل يجب أحيانا، وأصل الصدع يفيد معنى الكسر.
قال تعالى: «والأرض ذات الصدع»(1).
وقال سبحانه: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله»(2).
فإن الذين يبلغون رسالات الله سبحانه بالنسبة لغير المستعدين لقبولها يصّدعون في التبليغ..
قال تعالى: «فاصدع بما تؤمر واعرض عن الجاهلين»(3).فعلى الإنسان أن يصدع بالحق وإن كان في مجتمع لا يتقبل كلمة الحق ومنهجه بل يتقبل بعضهم فقط، بل وحتى إذا لم يتقبل ولا واحد منهم، لأن على العالم أن يبلغ الرسالة سواء قبلها الجاهل أو لم يقبل، كما ورد في الحديث
ص: 47
..............................
الشريف: (إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يبين علمه وإلا فعليه لعنة الله)(1).
وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فان لم يفعل سلب منه نور الإيمان»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم واكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وناهبوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم،يكتب الله لكم بذلك الحسنات وترفع لكم بها الدرجات في الآخرة»(3).
وقال سبحانه: «وما على الرسول إلا البلاغ»(4).
وذلك أن شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختلف عن شرائط وجوب التبليغ، فقد يكون الهدف من الإبلاغ إتمام الحجة فقط(5)..
قال تعالى: «فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب»(6).
ص: 48
..............................
وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من كتم علماً نافعاً ألجمه الله يوم القيامةبلجام من نار»(2).
قولها (علیها السلام): (صادعا) أي منذراً ومظهراً للإنذار، إشارة إلى قوله سبحانه «فاصدع بما تؤمر»(3)، وقلنا بأن أصل الصدع الكسر، كأنه يكسر حاجز الخوف، أو حجاب السكوت، أو سلسة الخرافات والضلالات.
ص: 49
مسألة: يجب الميل عن طريقة المشركين والكفار، ولذا وصف إبراهيم الخليل (علیه السلام) بالحنيف، لان الحنيف عبارة عن المائل ، فقد كان الناس على طريقة واحدة وجاء إبراهيم (علیه السلام) ووضع المناهج والبرامج مائلا عن طريقتهم، قال تعالى: «ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين»(2). وكذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهكذا بالنسبة إلى الأنبياء السابقين (صلوات الله عليهم أجمعين).
وقد ورد في سلمان عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان منالمشركين»(3).
وفي الحديث عن أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «فاقم وجهك للدين حنيفاً»(4) قال (علیه السلام): «هي الولاية».(5)
ص: 50
..............................
وقال سبحانه: «اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا الله واعرض عن المشركين»(1).
وقال تعالى: «ولا تتبع سبيل المفسدين»(2).
مسألة: التشبه بالكفار مرجوح في الجملة، وقد يكون حراما، ولربما استفيد من هذه الجملة ذلك، باعتباراستفادة الإطلاق من إضافة المفرد(3) أو بلحاظ أن المقام بمنزلة النكرة في سياق النفي وهي تفيد العموم(4)، كما ورد في الحديث القدسي (…أعدائي)(5).
قولها (علیها السلام): (مدرجة) أي ما درجوا عليه، أي الطريقة والمسلك، فلم يسلك (صلى الله عليه وآله) سلوكهم في مختلف أبعاد الحياة(6)، حيث إنهم انحرفوا عن طريقة الأنبياء (علیهم السلام) وعن فطرتهم.
ص: 51
-------------------------------------------
مسألة: بناء على التأسي به (صلی الله علیه و آله) فالأصل في المعارك الدائرة على جبهات الكفر والإيمان أن يركز الضربات على (أئمة الكفر) ورؤوس الضلال، وهو أمر عقلي قبل أن يكون نقلياً، إذ أن دعائم الكفر لو تقوضت تقوض ما يقوم بها دون العكس عادة، وعليه أيضا أن يضرب على الوتر الحساس ويأخذ بخناقهم ويصيبهم في مقاتلهم دون أن يشغل نفسه بالهامشيات وبما لا يبلغ منهم مقتلاً.
ومن الواضح إن ذلك هو الأصل والقدرة من الشرائط(1).
قال تعالى: «فقاتلوا أئمة الكفر»(2).
قولها (علیها السلام): (ضاربا ثبجهم) هو وسط الشيء ومعظمه، حتىلايتمكنوا من القيام بعد أن ضرب ثبجهم.
وفي كلام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالنسبة إلى خيمة معاوية في صفين: (عليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب فاضروا ثبجه فان الشيطان راكد في كسره، نافج حضنه مفترش ذراعيه)(3).
ص: 52
..............................
و(بأكظامهم) الكظم مخرج النفس، حتى لا يتمكنوا من التنفس بالباطل.
مسألة: ينبغي بيان طريقة الرسول (صلی الله علیه و آله) في التصدي لأعداء الدين(1)، ومن الضروري القيام بدراسات تخصصية مستوعبة حول طريقة تصديه لأعداء الإسلام سياسيا وإعلاميا وعسكريا وفكريا واجتماعيا وغير ذلك، في المخططات بعيدة المدى والقصيرة الأمدأيضا(2).
قال تعالى: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»(3).
وهناك تأكيد كبير على التصدي للأعداء والجهاد كما رسمه القرآن وطبقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام):
قال (صلی الله علیه و آله): «إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «للجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم، فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً في نفسه وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه، إن الله تبارك وتعالى
ص: 53
..............................
أعز أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»(1).هذا ولا يخفى أن الجهاد والحرب في الإسلام على أنظف صورة عرفها البشر كما فصلناه في بعض كتبنا(2).
وسئل النبي (صلی الله علیه و آله): «أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند إمام ظالم»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»(4).
وفي بعض الأحاديث: «عند سلطان جائر»(5).
وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «الجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء»(6).
مسألة: يستحب استعراض قوة الإسلام ومقومات تقدمه ونجاحه وقد يجب، وبالعكس فانه يحرم التخذيل والتثبيطفي مختلف الأبواب الإسلامية وفروعها ولذا لايعطى - في باب الجهاد - للمخذل أي سهم، على ما قرر في الفقه.
ص: 54
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة»(1).
وقال (علیه السلام): «ليحذر أحدكم أن يثبط أخاه عن الحج أن تصيبه فتنة في دنياه مع ما يدخره له في الآخرة»(2).
وفي الدعاء: «وأعذني اللهم بكرمك من الخيبة والقنوط والأناة والتثبيط»(3).
ص: 55
-------------------------------------------
مسألة: يجب أن تكون الدعوة إلى الدين ب(الحكمة) و(الموعظة الحسنة) وأن يكون الجدال بالتي هي أحسن، في بعض الصور والمراتب، ويستحب في بعضها الآخر. ثم إن (الحكمة) بمعناها الأعم - وهو وضع الأشياء مواضعها - مقسم للموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن، وبمعناها الأخص قسيم لها.
فعلى التقدير الأول: يكون ذكرها بعدها للتأكيد من باب ذكر الخاص بعد العام لأهميته.
وعلى التقدير الثاني: يكون ذكرها تأسيسا، فيكون الأمر بحاجة إلى تحديد المراد بكل منهما.
فقد يقال بأن المراد بالحكمة: استخدام البراهين القطعية، وبالموعظة الحسنة: الخطابة، وبالمجادلة بالتي هي أحسن(1): الإلزام بالمقدمات المسلمة والمشهورة، والأولى للخواص وقد تكون للعوام أيضا، والثانية للعامة وقدتنفع الخواص أيضا، والثالثة للمعاندين.
وربما يمكن القول بأن المراد بالحكمة - على التقدير الأخص -: مراعاة شرائط الزمان والمكان وما يرتبط بالتأثير على المستمع وفي الجانب المعنوي، وأما الموعظة والجدال فترتبط بالجانب اللفظي وما يتعلق به، ويكون المراد بالموعظة:
ص: 56
..............................
ما يتضمن الإيلام القولي، لكن ذلك الإيلام الحسن الذي يحث النفس ويحرضها دون استفزاز، أو يقال المراد بالموعظة الحسنة: الغرس لكن على الوجه الحسن كما يمزج الدواء المر ببعض الاشربة و الروائح الطيبة كي يستسيغه المريض، أو يغلف بما يستر مرارة الدواء وحدَّته، ونظرا لان الحكمة تشمل كل ذلك - بالاعتبار الأول(1) - وحملا عليه ربما كان عدم إكمالها (علیها السلام) للآية بذكر القسم الثالث، حيث قال سبحانه:«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(2). وفي الحديث عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «من عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار»(3).
وقال (علیه السلام): «عليك بالحكمة فإنها الحلية الفاخرة»(4).
وقال (علیه السلام): «من لهج بالحكمة فقد شرف نفسه»(5). وقال (علیه السلام): «بالحكمة يكشف غطاء العلم»(6). وفي القرآن الكريم: «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا»(7). وفي زيارة الرسول (صلی الله علیه و آله): «أشهد يا رسول الله… أنك… دعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الجميلة»(8).
ص: 57
مسألة: يجب القضاء على الأصنام وكل ما يعبد من دون الله، مما اتخذها المشركون، حتى يقطع صلتهم بها، فان كان القضاء عليها يتحقق بالكسر - كما في الأصنام - وجب الكسر، وان كان على نحو الهدم وجب، وان كان صورة مرسومة على الحائط - مثلا - وجب محوها أو تغييرها.
وقد كسر النبي إبراهيم (علیه السلام) الأصنام في قصة معروفة(3).
وأمير المؤمنين (علیه السلام) ارتقى كتف النبي (صلی الله علیه و آله) وكسر الأصنام التي كانت على الكعبة(4).
ويظهر من الروايات أن علياً (علیه السلام) كسر أصنام الكعبة مرتين، مرة حين فتح مكة، ومرة قبل الهجرة، ففي الحديث عنه (علیه السلام) قال:
«دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمنزل خديجة ذات ليلة فلما صرت إليه قال: اتبعني يا علي.فما زال (صلی الله علیه و آله) يمشي وأنا خلفه ونحن نخرق دروب مكة حتى أتينا الكعبة
ص: 58
..............................
وقد أنام الله تعالى كل عين، فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يا علي.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: اصعد على كتفي.
ثم انحنى النبي (صلی الله علیه و آله) فصعدت على كتفه فقلبت الأصنام على رؤوسها ونزلت وخرجنا من الكعبة حتى أتينا منزل خديجة، فقال (صلی الله علیه و آله) لي: أول من كسر الأصنام جدك إبراهيم (علیه السلام) ثم أنت يا علي آخر من كسر الأصنام.
فلما أصبح أهل مكة وجدوا الأصنام منكوسة مكبوبة على رؤوسها، فقالوا: ما فعل هذا بآلهتنا إلا محمد وابن عمه»(1).
وفي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن اسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في صحف إبراهيم: الماحي… قيل: فما تأويل الماحي، فقال: الماحي صورة الأصنام وماحي الأوثان والأزلام وكلمعبود دون الرحمن»(2).
مسألة: يجب القضاء على (أئمة الضلال) كما فعل (صلی الله علیه و آله)، فإن (ينكث الهام) أي يضرب الرؤوس أي (رؤوس أئمة الضلال وقادتهم) حتى ينفصل الاتباع عنهم، فيتمكنوا من تقرير مصير أنفسهم بأنفسهم، فيتركوا وشأنهم - أي من دون ارتباط بقادة الضلال - ليختاروا ما هو مقتضى عقولهم وفطرتهم.
ص: 59
..............................
إضافة إلى ان ضرب الرؤوس مما يوجب تفكك الترابط بين أجزاء جيش الضلال والظلام، فيكون ادعى لانهزام الإذناب وأسرع في القضاء على الجمع.
وفي ذكرها (علیها السلام): (يكسر الأصنام وينكث الهام) نكتة لطيفة وهي أن القضاء على الأديان والمذاهب الباطلة يتم بركنين:
أحدهما: القضاء على (الرمز المقدس) و(المحور والقطب) الذي تدور عليه رحى معتقداتهم وأفكارهم.والثاني: القضاء على حملة تلك الراية وعلى الدعاة إليها.
مسألة: يستحب تخليد ذكر القائد الديني وإحياء أمره، من خلال بيان إنجازاته وما قام به من أعمال حسنة وخطوات حميدة، عبر كتابة الكتب وما أشبه ذلك، وقد يجب ذلك، كما بالنسبة إلى المعصومين (عليهم افضل الصلاة والسلام)، وذلك بلحاظ الحق(1) أولا، وبلحاظ ما لذلك من التأثير على (تأسي) الناس بالقادة واستضاءتهم بأنوارهم وهدايتهم ثانياً.
قال الإمام الرضا (علیه السلام): «من جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2).
ص: 60
..............................
وعن الهروي عن الإمام الرضا (علیهالسلام) قال: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: فكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «تجلسون وتتحدثون، قال الراوي: قلت نعم جعلت فداك، قال: تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا»(2).
وقال (علیه السلام): «تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(3).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحف بكم الملائكة رحم الله من أحيا أمرنا»(4).
ص: 61
-------------------------------------------
مسألة: تجب مواصلة المعركة مع الملحدين والمشركين حتى الهزيمة الكاملة، كما قال تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»(1)..
وكما صنع (صلی الله علیه و آله) حيث واصل (حتى انهزم الجمع وولوا الدبر) و(حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه) ول «يكون الدين كله لله»(2).
فإن انهزام الجمع الباطل يوجب تبدده وتفرقه وعدم قيام عمود له حتى يقابل الحق، وما أكثر من يترك مسيرة الجهاد في منتصف الطريق تعباً أو كسلاً أو خوفاً أو طمعاً، وفي الكثير من المجاهدين الذين تركوا مسيرة الجهاد ليتحولوا إلى مصفقينيسيرون في ركاب السلاطين الشاهد الكبير والإنذار الأكبر على ذلك أيضا.
قولها (علیها السلام): (الجمع) أي جمع الكفار (وولوا الدبر) تأكيد لأن المنهزم الشديد الانهزام يولي دبره إلى طرف هازمه بخلاف غيره حيث يمكن أن يهرب فيعطى هازمه طرفه لا ظهره.
ص: 62
..............................
وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر، وما رأيته في القتلى…
فحملت على القوم فاخرجوا فإذا أنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) قد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إلي وقال: ما صنع الناس يا علي؟
فقلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر من العدو وأسلموك.
فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة.
فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالا حتى ولوا الأدبار..
فقال لي النبي (صلی الله علیه وآله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء.. إن ملكاً يقال له رضوان(1) ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي»(2).
مسألة: يجب أن يتصدى الدعاة ل(بيان الحقيقة) كاملة للناس، ولكشف القناع عن كل زيف وضلالة، فإن كثيراً من المبلغين والمؤمنين يخشى أن يقول
ص: 63
..............................
الحق كل الحق ويكتفي ببيان بعضه ويحاول إرضاء وجدانه بذلك البعض فحسب!
ولعل الكثير منهم يتعلل - لإرضاء وجدانه وإسكات خلاّنه - بأنه قد قام بجانب من الأمر، وأنه قد أنار بعض الظلم وجلّى بعض البهم وكفى!.
لكن ذلك شرعاً محرم، قال تعالى:«أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض»(1)..
ف(إذا ظهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله، أو سلب منه نور الإيمان)(2)..
وقد واصل الرسول (صلی الله علیه و آله) ببيان كل صغيرة وكبيرة وتعرض لكل ما يقرب إلى الجنة ويباعد من النار، في العقائد والأعمال، في العقود والإيقاعات والأحكام و… (حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه).
وفي المحاسن عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبته في حجة الوداع:
«أيها الناس اتقوا الله، ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به»(3).
قال تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل
ص: 64
..............................
فما بلغت رسالته»(1) فإن الإسلام كل لا يتجزأ والمؤمنون «يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم»(2) وليرجف المرجفون بعد ذلك وليرقد البعض وليحدث ما يحدث.
إذن يجب العمل حتى يظهر محض الحق بدون شوب بالباطل، فان الحق قد يظهر لكنه مشوب بالباطل، مما يسبب ضلال الناس، فيجب أن يعمل الإنسان جاهداً حتى يظهر محض الحق، كي يتبعه من شاء أن يتبعه..
قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن
بينة»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي والحقيقة أحوالي»(4).
وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «هلك من باع اليقين بالشك والحق بالباطل»(5).وقال (علیه السلام): «رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق»(6).
وقال (علیه السلام): «الكيس صديقه الحق وعدوه الباطل»(7).
ص: 65
..............................
وقال (علیه السلام): «ليكن مرجعك إلى الحق فمن فارق الحق هلك»(1).
وقال (علیه السلام): «من استحيى من قول الحق فهو أحمق»(2).
وقال (علیه السلام): «لا خير في السكوت عن الحق»(3).
قولها (علیها السلام): (تفرى) انشق، والمراد بالليل ظلام الكفر والشرك والانحراف، و(صبحه) أي صبح الحق بالقرينة، أو صبح الليل، لأن وراء كل ليل صبح.
قولها (علیها السلام): (أسفر الحق) كشف وأضاء، (محضه) الضمير عائد إلى الحق، أي محض الحق الذي لا يشوبهباطل، ولعل المراد بهذه الجملة: الشريعة، وبالأولى العقيدة.
ص: 66
-------------------------------------------
مسألة: يجب العمل حتى يفسح المجال لزعيم الدين كي يبلغ الرسالة وينطق بما أمره الله عزوجل، فان زعماء الدين - والزعيم هو السيد - إذا أتيحت لهم فرصة النطق والبيان بدون محذور، تمكن طلاب الحقيقة ومن يريد الدين ان يلتفوا حولهم. فإن الكفار غالباً يحولون دون نطق زعيم الدين، كما قال سبحانه: «فردوا أيديهم في أفواههم»(1)..
وتارة بمنع الناس عن الإنصات لهم كما كان أقطاب مشركي مكة يجعلون القطن في آذان من يريد دخول المسجد الحرام، حتى لا يستمع إلى كلام النبي (صلی الله علیه و آله) أو يجعلون أصابعهم في آذانهم(2). وتارة بإيجاد حاجز نفسي وأغطية وغشاوة فكرية تحول دون تفهم الحقيقة ورؤيتها كما هي.
والمراد ب : (زعيم الدين) فيكلامها (علیها السلام) هو الرسول (صلی الله علیه و آله)، بناء على كون الإضافة لامية، وهو كناية عن تفوق كلمة الحق وسقوط كلمة الباطل، ويحتمل أن تكون الإضافة بيانية(3) وقد يؤيده السياق، ولمكان حتى.
ص: 67
-------------------------------------------
مسألة: يجب العمل على أن تخرس شقاشق الشياطين.
قال تعالى: «إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا»(1).
وقال سبحانه: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «صافوا الشيطان بالمجاهدة»(3).
وقال (علیه السلام): «الشهوات مصائد الشيطان»(4).
قولها (علیها السلام): (خرست) أي صارت خرساء، والخرس: عدم القدرة على التكلم. و(شقاشق) جمع شقشقة، وهي الزبد الذي يخرج من فم البعير عند هياجه، وهذا تشبيه بأن الباطل كان عن ثورة وجهل، وبدون واقعية، قالسبحانه: «فأما الزبد فيذهب جفاءً»(5)، أما وجه الشبه في قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (تلك شقشقة هدرت ثم قرت)(6) فبهدرها لا بعدم الواقعية كما هو واضح.
ص: 68
..............................
والمراد من (الشياطين):
إما زعماء الشرك، تشبيهاً وتنزيلاً .
أو الشياطين حقيقةً، حيث كانت لهم الكلمة نتيجة تعاضد عوامل عديدة منها: الزعماء الفاسدون، وعدم وضوح الطريق والصراط المستقيم، وعدم وجود القائد والدليل الرائد، إضافة إلى وجود القيود الكابتة والعادات والتقاليد الجاهلية السائدة.
وههنا سؤال ربما يكثر في الأذهان اختلاجه وهو:
إن الإذاعات والصحف الشرقية والغربية التي تتبع أسلوباً صريحاً أو ذكياً لزلزلة عقائد المؤمنين هل يجب (إسكاتها وإخراسها) عبر إغلاقها - فيما إذا كانت في دائرة سلطة المؤمنين - أو عبر التشويش عليهابالأجهزة الحديثة فيما إذا كانت خارج الدائرة، أم غير ذلك؟
وكإشارة نقول:
أفضل طريقة للتصدي لها هي:
صنع البديل الأكفأ الأنفع فيلتف الناس حوله طبيعياً، ويكون من إسكات الشياطين بالطريقة الإيجابية(1)، فإذا كانت الإذاعة والتلفزيون والصحف الإسلامية أغنى وأقوى وأكثر عطاءً وروعة من غيرها اجتذب الناس إليها دون شك، خاصة مع مطابقتها لمتطلبات الفطرة.
ص: 69
..............................
أما إغلاقها وسائر ما يستلزمه من تضييق على العاملين بها أو سجنهم أو ملاحقتهم، فهو - مع أنه غير مقدور في كثير من الموارد (1)- قد يكون مما ضرره أكثر من نفعه، نظراً لاستخدامالأعداء هذه مادة جديدة لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين.
ولذلك نرى الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) تركا للمشركين والكفار الحرية في التحدث والدفاع الفكري عن عقائدهم وقارعوهم بالحجة لابغيرها، وتفصيل الكلام في محله.
ص: 70
مسألة: النفاق - ببعض معانيه - من أشد المحرمات، والقضاء عليه واجب، وذلك مما يستفاد من أدلة عديدة، عقلية ونقلية، ومنها: وقوعه في كلامها (علیها السلام) ههنا نتيجة وغاية لذلك الواجب المسلّم(2) ولذلك نرى أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بإحراق ذلك المسجد الذي اتخذ ضراراً حيث كان مركزاً أو مجمعاً للمنافقين والضرر والإضرار بالمسلمين(3).
وهناك روايات كثيرة في ذم النفاقوبيان أقسامه وأبوابه وما أشبه، ففي الدعاء المروي عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «اللهم طهر لساني من الكذب وقلبي من النفاق»(4).
وعن أبي جعفر (علیه السلام): «ان الخصومة تمحق الدين وتدرسه وتحبط العمل وتورث النفاق»(5).
ص: 71
..............................
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولامتثاقلاً فإنها من خلل النفاق»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الكذب باب من أبواب النفاق»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «حب المال والشرف ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«الإيمان بريء من النفاق»(4).
وقال (علیه السلام): «النفاق توأم الكفر»(5).
وقال (علیه السلام): «احذروا أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون»(6).
قولها (علیها السلام): (طاح) أي سقط (وشيظ) السفلة الذين ينشطون عند ذهاب الحق وعموم الظلام. والمراد بالنفاق: إما معناه الاصطلاحي أي المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، حيث إنهم سقطت كلمتهم وأخذ الرسول (صلی الله علیه و آله) بمسارب الحياة عليهم وهذا هو المنصرف. أو معناه اللغوي وهو التلون بألوان مختلفة ووجوه متعددة في شتى المسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، لأن الأمم الفاسدة تفتقد مكارم الأخلاق ويروج فيها النفاق وتتكون لها وجوه متعددة إلى جانب المساوئ الأخرى.
ص: 72
-------------------------------------------
مسألتان: تحرم مشاقة الرسول (صلی الله علیه و آله) والمؤمنين، ويجب السعي لفصم العرى التي تربط المشركين بعضهم ببعض، أي القضاء على أي مركز تجمع لهم يخشى خطره على الإسلام والمسلمين، وذلك بالأسلوب الذي اتبعه رسول الله (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (علیهم السلام).
والشقاق غير الكفر، فإن المراد بالشقاق أن يكون الحق في شق، والباطل في شق آخر، وإن كانا يشتركان في الجامع، وهو (إظهار الإسلام)، قال سبحانه: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا»(1).
وفي الحديث: «اجتنبوا أهل الشقاق وذرية النفاق»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المؤمن منزه عن الزيغ والشقاق»(3).
قولها (علیها السلام): (وانحلت عقدالكفر) فلا مراكز لهم يلجئون إليها ويتقون بها ويستظهرون بها على الإسلام والمسلمين.(انحلت..) أي الجبهة المقابلة للإسلام كلا أو للإسلام الصحيح انحلت، فلم يبق لها ملجأ و مجمع، كما هو الشأن في كل حق يظهر، حيث إن الباطل ينزوي ولا يتمكن أن يثبت وجوده كقوة فاعلة متركزة، وإن بقي أشلاء متناثرة وأعضاء متفرقة لا حول لها ولا قوة.
ص: 73
-------------------------------------------
وههنا مسائل:
1: النطق بكلمة الإخلاص واجب في الجملة، وبعض مصاديقه مستحب.
2: وكما يجب على المؤمن يجب ذلك على الكافر أيضا، لضرورة الاشتراك في التكليف.
3: وبعض مراتب الإعلان والتجاهر بهذه الكلمة واجب، ويجب في الجملة الجهاد لأجل ذلك.
والمراد من (فهتم):
إما معناها الظاهري وهو النطقومجرد التفوه بكلمة الإخلاص.
وإما: الإظهار والإعلان والتجاهر أيضاً.
و(كلمة الإخلاص) هي (لا إله إلا الله) وتسمى بالإخلاص لأن المفروض فيها(1) أن يخلص الإنسان العقيدة له سبحانه من غير شريك، ثم إن العطف بالواو وإن كان الأصل فيه أصل العطف لا الترتيب - على المشهور - إلا أنه قد يستخدم في موارد الترتيب بقرينة مقامية، كما في المقام، فإن إظهار الشهادتين عموماً وإظهار الإخلاص لله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى المؤمنين كان تحققه عادة
ص: 74
..............................
بعد إسقاط كلمة الكفر والنفاق والشقاق، وقد جاءت السيدة الزهراء (عليها صلوات الله) بهذه الجملة عقيب الجملة السابقة، وهذا قد يدل على ما ذكرناه.
وفي الروايات: «القول الصالحشهادة أن لا إله إلا الله»(1).
وفي حديث سلسلة الذهب عن الإمام الرضا (علیه السلام) عن الله عزوجل قال: «كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي، فلما مرت الراحلة نادانا (علیه السلام): بشروطها وأنا من شروطها» (2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً ما استقر الكرسي والعرش ولا دار الفلك ولا قامت السماوات والأرضون إلا بعد أن كتب الله عليها: لاإله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله»(3).
قولها (علیها السلام): (فهتم) من فاه أي تكلم، بكلمة الإخلاص، ثم إن من المعلوم أن التفوه بها مخلصاً يستتبع العمل ويقتضيه ويوجب سلوك الدرب الصحيح، ورفض المشركين التفوه بهذه الكلمة المباركة لم يكن لمجرد أنها كلمة عابرة، بل لأن التفوه بهذه الكلمة كان عنوانا للخروج من ولاية الشيطان والدخول في ولاية الرحمن، فهورمز وشعار وعلامة أولا(4)، ثم الاعتراف بالإله الواحد يقتضي أن يسلك الطريق إلى آخر فرع من فروع الدين ثانياً.
ص: 75
مسألة: هذه الكلمات منها (صلوات الله عليها) توحي بأهمية الزهد والعمل والتقوى ومقوميتها للتقدم، كما تشير إلى بعض صفات القادة الأسوة أيضا.
قولها (علیها السلام): (نفر) أي جماعة.
(البيض) أي صحيفتهم بيضاء ونقية عن الآثام والموبقات.
والمراد بهم: أما أجلى المصاديق وهم أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، حيثإن المسلمين التحقوا بهم، ويدل عليه ما جاء في بعض النسخ: (في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)، أو مطلق الذين أخلصوا لله فصارت صحيفتهم بيضاء وإن كانت قبل ذلك - لبعضهم - سوداء.
(الخماص): خميص البطن أي خاليه.
وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو اخماصاً وتروح بطانا»(2) فإن الطير إذا لم يطر لم يحصل
ص: 76
..............................
على رزقه، نعم لابد من توفر الحرية التي أمر بها الإسلام للإنسان حتى ينشط في العمل ويخطو خطوات واسعة في مجال التقدم والتفوق كالطير الحر، وإلا كان نصف البشر أو أكثره فقيراً، وإن عمل وكد وجد واجتهد، كما نراه في عالم اليوم حيث السيطرة لغير الإسلام(1).
والمراد بالخماص إما المعنى الحقيقي كما سبق، أو المجازي أيالذين لاعلاقة لهم بالدنيا، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، ومن المعلوم أن مثل هؤلاء الأشخاص المهذبين الذين لا يعيرون الدنيا اهتماماً هم الذين يتمكنون من صرف كل أوقاتهم في سبيل الله، وبالفعل كانوا كذلك حتى تمكنوا من تقدم الإسلام إلى الأمام.
قال تعالى في الحديث القدسي: «إني وضعت العلم والحكمة في الجوع»(2).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نور الحكمة والمعرفة الجوع، والتباعد من الله الشبع»(3).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها، هي زينة الأبرار عند الله تعالى: الزهد في الدنيا»(4).
ص: 77
..............................
وقال (علیه السلام): «غاية الزهدالورع»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم الرجل قد أعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه، فإنه يلقي الحكمة»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر إن أهل الورع والزهد في الدنيا هم أولياء الله تعالى حقاً»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنما العالم من دعاه علمه إلى الورع والتقى والزهد في عالم الفناء والتوله بجنة المأوى»(4).
وقال (علیه السلام): «الزهد سجية المخلصين»(5).
ص: 78
-------------------------------------------
مسألة: حيث إن مما يحمل الإنسان على معرفة قدر النعم الإلهية ويبعثه على شكرها القولي والعملي: تذكر الأخطار والأهوال والظروف التعيسة التي كان يعيش هو فيها، أو التي كان يمكن أن يعيش فيها لولا اللطف الإلهي وجهاد الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام)..
لذلك فإن من المستحب أن يتذكر الإنسان ماضيه وماضي أسرته وأمته - التحقيقي أو التقديري (1)- قال تعالى: « ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى»(2).
ومن المستحب تذكير الناس بذلك أيضا، وكلامها (عليها الصلاة والسلام) ينطلق من هذا المنطلق وغيره.
قال تعالى: «قل سيروا في الأرض ثمانظروا كيف كان عاقبة المكذبين»(3).
وقال سبحانه: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين»(4).
ص: 79
..............................
وقال تعالى: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين»(1).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألف الله بين قلوبهم، وبنا أنقذهم الله من الشرك والمعاصي، وبنا جعلهم الله إخوانا، وبنا هداهم الله، فهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعمة التي أنعم عليهم، وهو النبي وعترته»(2).
ومن فوائد دراسة الماضي معرفة المستقبل إجمالا حيث قال (صلی الله علیه و آله): «كلما كان في الأمم السالفة يكون في هذه الأمة، مثله حذو النعلبالنعل والقذة بالقذة»(3).
وإنما قالت (علیها السلام): (على شفا حفرة من النار) اقتباساً من الآية الكريمة(4)، والتعبير ب (كنتم على شفا حفرة) نظراً لأنهم كانوا أحياء، ولم يسقطوا بعد في نار جهنم. وإن كانت النار - بالمعنى الآخر - محيطة بهم كما قال سبحانه: «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين»(5)، فقد ذكرنا في كتاب (الآداب والسنن)(6) وغيره
ص: 80
..............................
إن الدنيا التي نعيش فيها لها وجوه: وجه ظاهر وهو الملموس بالحواس الخمس، ووجهان واقعيان،هما الجنة والنار، كما يظهر من الآيات والروايات، فقد قال سبحانه: «يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا»(1).وقال جل وعلا: «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين»(2).
وقال تعالى: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة)(4) وما أشبه ذلك مما هو كثير في الروايات(5).
مسألة: يجب - عقلاً وشرعاً - إنقاذ من يكون على شفير حفرة من النار.
إذ كما يتحمل الإنسان مسؤولية نفسه، كذلك يتحمل مسؤولية أسرته، قال تعالى: «قوا أنفسكم وأهليكم ناراً»(6) ويتحمل مسؤولية مجتمعه أيضا، فليست مسؤولية الهداية والإرشاد خاصة برجال الدين فحسب، إذ «كلكم راع
ص: 81
..............................
وكلكم مسؤول عن رعيته»(1) وإن كانت مسؤولية رجال الدين آكد، قال تعالى: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»(2) والعلماء هم الذين يرابطون على الثغر الذي يلي إبليس.
وهذا من غير فرق بين نار الدنيا أو نار الآخرة، وإن كان وجوب الثاني آكد وأشد، فإن نار الدنيا زائلة ونار الآخرة باقية دائمة، إلا من خرج منها بلطفه سبحانه، ومع ذلك فإن نار الدنيا أهون مراتب ومرات من تلك النار الآخرة ولو كانت مؤقتة، وفي دعاء كميل: (.. فكيف احتمالي لبلاء الآخرة …)(3).
قولها (علیها السلام): (شفا) أي شفير (حفرة) لأن النار في حفرة جهنم، بخلاف الجنة حيث هي درجات، بينماالنار دركات، (من النار) نار الآخرة لكفرهم وفسادهم عقيدة وأخلاقا وشريعة، فإذا مات أحدهم سقط في جهنم. ومن المعلوم أن نار الآخرة إنما هي لمن بلغه الحق فأعرض عنه، أما الجاهل القاصر فإنه يمتحن في الآخرة، كما ورد في الحديث.
والتعبير ب (كنتم على شفا) نظراً لأن حياة الإنسان مهما طالت فهي قصيرة تمضي كلمح بالبصر خاصة إذا ما قيست بالحياة الآخرة، وإذا ما قيست بماضي الدنيا أيضا، قال تعالى: «اقتربت الساعة»(4).
ص: 82
..............................
وربما يعترض بأنهم قبل إرسال الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يكونوا ممن بلغتهم الحجة، فكيف يعاقبون؟
والجواب:
أولا: (لله حجتان، باطنة وظاهرة) كما في الحديث الشريف(1)، وهؤلاء كانوا قد خالفوا صريح حكم العقل والفطرة فيسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسحق الحقوق، فتأمل.
وثانياً: لم تكن الجزيرة خالية من أوصياء الأنبياء وتعاليم الأنبياء (علیهم السلام) قبل الرسول (صلی الله علیه و آله)، فقد كان فيهم أمثال عبد المطلب وأبي طالب (علیهما السلام).
ص: 83
-------------------------------------------
مسألة: يحرم إذلال المؤمن نفسه - في بعض مراتبه(1) - ولو بالتسبيب أو بترك تمهيد المقدمات التي توجب إخراجه من الذلة.
فإن الله لم يفوض له إذلال نفسه.
قال (علیه السلام): «إن الله فوض إلى المؤمن أمره كله ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً أما تسمع قول الله عز وجل:«ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(2) فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل، إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه بشيء»(3).
وقال (علیه السلام): «المؤمن لايكون ذليلاً ولا يكون ضعيفاً»(4).
وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «من استنجد ذليلاً ذل»(5).
وكذلك الأمر في التجمعات: كالهيئات والنقابات والتنظيمات والأحزاب
ص: 84
..............................
والأمم، فإن المحرم أن تذل أنفسها بالتمسح على أعتاب الشرق والغرب، أو بالنزاعات والمهاترات، أو حتى بترك ما ينبغي لمثلها أن تكون عليه - في الجملة - أي بكل ما يسبب أن تكون الأمة مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، أي أن تكون ضعيفة كماً أو كيفاً وفي جميع مجالات الحياة.
قال سبحانه: «وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين»(1).وقال (صلی الله علیه و آله): (إن الله يحب الرجل الشجاع ولو بقتل حية).
وفي الروايات: إن الشجاعة من خصال الأنبياء (علیهم السلام)(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الشجاعة عز حاضر»(3).
وقال (علیه السلام): «الشجاعة أحد العزَّين»(4).
وقال (علیه السلام): «الشجاع والشجاعة غرائز شريفة يصنعها الله سبحانه فيمن أحبه وامتحنه»(5).
ص: 85
..............................
بل يجب على المؤمن والتجمعات الإيمانية والأمة الإسلامية أن تمهد من الأسباب ما يوجب عزتها ومزيداً من كرامتها ورفعتها إجمالا، فإن« لله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(1)..وقد قال سيد الشهداء (علیه السلام): (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..)(2).
وقال (علیه السلام): (من استوى يوماه فهو مغبون)(3).
وقال (علیه السلام): (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(4).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لمن ترك التجارة منصرفاً إلى العبادة: (اغد إلى عزك) (5).
ص: 86
..............................
وغير ذلك من الآيات والروايات التي يستفاد منها رجحان أو وجوب العزة - في بعض مراتبها أو بالقياس إلى بعض الجهات أو في عدد من الحالات - مطابقة أو تضمنا أو التزاماً، أو بدلالة الاقتضاء.
قولها (علیها السلام): (مذقة) من المذاق، أي كنتم أذلاء حتى أنكم كنتم كالذي يمذقه ممن يشرب الماء حيث المذقة لا قيمة لها(1).
(نهزة) أي محل الانتهاز، فالذي يطمع فيكم يتمكن من ان ينتهز الفرصة ليأخذكم ويسلبكم ويستولي على نسائكم، فقد كانوا كذلك، أموالهم منهوبة ونساؤهم مخطوفات، فلا دين ولا دنيا ولا قانون ولا شرف يمنعهم عن السرقة والضرب والجرح والقتل وانتهاك سائر المحرمات كزنا بعضهم بنساء بعض.
(قبسة العجلان): فكما أن الإنسان - إذا كان على عجل في طريقه - يقتبسشيئاً من النار المشتعلة ويذهب لحاجته دون أن يمنعه أحد من الاقتباس، لعدم قيمة النار المقتبسة، كذلك كنتم انتم لا قيمة لكم ولا اعتبار، فكان بعضهم يستعبد بعضاً بالقوة بلا رادع ولا مانع.
(موطئ): إن الأقدام تطأ الأشياء الخسيسة التي لا قيمة ولا أهمية لها، كذلك كنتم في الجاهلية فاقدين لكل شخصية واعتبار، فالقوي يطارد الضعيف والغني يستخف بالفقير، وكل إنسان يسحق من دونه.
ولقد جاءت هاتان الجملتان: (وكنتم على شفا..) و(مذقة الشارب..) بحيث ترسم الصورة المتكاملة لحالتهم في الدنيا والآخرة، ف (كنتم على شفا حفرة
ص: 87
..............................
من النار) تكشف عن مصيرهم في ذلك العالم، و(مذقة الشارب..) تدل على حالتهم المعيشية في هذه الدار، فكانوا مصداق من خسر الدنيا مع الآخرة، ومن لامعاش له لا معاد له.
مسألة: ما ذكر في المسألة السابقة من الحكم شامل للعزة والذلة اقتصادياًوسياسياً واجتماعياً وعسكرياً وغير ذلك من شؤون الحياة، فينبغي بل قد يجب أن يكون المؤمنون في كلها ذوي العزة، بل أن يكونوا هم الأعز، قال تعالى: «ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين»(1).
فالوهن والضعف منهي عنه، ولزوم كونهم (الأعلون) هو مقتضى تعليقه على الشرط(2) مشفوعا بقرينة السياق، وبما سيق الكلام لأجله، إضافة إلى إطلاق ما سبق من الآيات والروايات.
وقال (صلی الله علیه و آله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)(3).
إضافة إلى لحاظ جانب الطريقية والمقدمية في مراتب العزة، إذ كلما كان المؤمنون أعز كانوا أقدر على إرشاد الناس واجتذابهم للدين المبين، وكلما كانوا أعز كانت مكانتهم في نفوس سائر الملل والنحل أقوى، إذ الغالب في الناس
ص: 88
..............................
الانشداد نفسياً والتأثر فكرياً والاقتداء عملياً بذوي العزة والجاه والمنزلة علمياً أو اقتصادياً أو غير ذلك، وقد يكون ذلك كله من مصاديق (كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم)(1) وهذا من أسرار تأثر كثير من المسلمين بالحضارة الغربية.
مسألة: يستحب، وقد يجب إرشاد الأمة لمواطن الضعف في حياتها ومسيرتها الماضية والحالية..
كما يلزم - بالمعنى الأعم - تحذيرها مما قد يعتريها في مستقبل الأيام، للتلازم بين الأمرين، كما ألمع إليه في بعض البنود السابقة(2).
وفي الحديث قال (علیه السلام): «أحب أخواني إليّ من أهدى إليّعيوبي»(3).
مسألة: يحرم أن تستسلم الأمة لاستعمار الآخرين، وأن ترزخ تحت نير المستعمرين،من غير فرق بين أنحاء الاستعمار،كالاستعمار العسكري والاقتصادي
ص: 89
..............................
والثقافي وغيرها، ولا فرق في الآخرين بين أن يكونوا من أهل الكتاب أو غير أهل الكتاب، بل إن الله تعالى يحرم مطلق الاستعمار حتى من كافر لكافر وربما أوجب القتال لأجل استنقاذه.
قال سبحانه: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين»(1).
وقال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»(2).
والاستعمار خلاف مقتضى كرامة الإنسانبما هو إنسان.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا»(3).
ولا يخفى ما في شفع (مذقة الشارب ونهزة الطامع..) في كلامها (علیها السلام) ب(وكنتم على شفا حفرة من النار) من الدلالة على شدة مبغوضية أن تكون الأمة مستعمرة للآخرين، مغلوبة على أمرها، فاقدة لاستقلاليتها، فقد قرنت (صلوات الله عليها) ذكر حالتهم الأخروية بهذه الحالة الدنيوية في تصويرها لأسوأ ما منوا به.
وكان تعبيرها (علیها السلام) بما سيأتي من (فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد) دليلاً ساطعاً على أن من أعظم ما حققه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ومن أكبر المنن عليهم: إنقاذهم من الاستعمار كما أنقذهم من حر النار.
ص: 90
-------------------------------------------
مسألة: يكره شرب الطرق، فإن شرب الماء المطروق يضر الإنسان صحياً، والإسلام يأمر بالتزام المناهج الصحية للجسم، وقد قال (عليه الصلاة والسلام): (إن لبدنك عليك حقاً)(1).
بالإضافة إلى أن شرب الماء الذي تطرقه الحيوانات يتنافى مع الحديث النبوي (صلی الله علیه و آله): (النظافة من الإيمان)(2) فاللازم على المسلمين أن تكون مياه شربهم نظيفة وأن ينتهجوا النظافة في جميع مجالات الحياة(3)، وهناك آداب كثيرة في شرب الماء ذكرناها في الفقه(4).
ولم نقل بحرمة شرب الطرق نظراً لأنالأصل الحل والإباحة، نعم يحرم شربه إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، أو فيما إذا أصبح مضراً ضرراً بالغاً، وكذا الحال في المياه الآسنة وشبهها.
قولها (علیها السلام): (الطرق) أي الماء القليل الذي ترده وتطرقه الكلاب والحيوانات، وحيث كانوا في بلاد جافة في الجزيرة كان شربهم من هذه المياه
ص: 91
..............................
المخلوطة بالأبوال والأرواث.
والملاحظ أنها (صلوات الله عليها) بدأت بذكر مآلهم وسوء عاقبتهم، ثم ثنت بوصف حالتهم السياسية والاجتماعية المأسأوية، وثلثت بذكر حالتهم الاقتصادية المزرية، ثم عادت لتشير إلى حالتهم النفسية والاجتماعية أيضا (أذلة .. من حولكم)..
وكانت إشارتها (علیها السلام) إلى كل تلك الجوانب أبدع إشارة، حيث اعتصرت كل تلك الجوانب في كلمات قليلة جسدت فيها الواقع في أدب تصويري رائع.
ص: 92
مسألة: يكره أكل القد والورق - كما في بعض النسخ - فإن أكل أوراق الأشجار والقد كثيراً ما يوجب أمراضا، كما ذكر في علم الطب.
ولا يبعد أن يستفاد من قوله تعالى:«ويحل لهم الطيبات»(2) أن الأطيب هو الأفضل، ومن قوله سبحانه: «ويحرم عليهم الخبائث» (3) أنه كلما كان أخبث كان أسوأ، للملاك، ولأن للأحكام درجات في جانبي السلب والإيجاب.
قولها (علیها السلام): (القد) القديد وهو اللحم والجلد الذي يجفف في الشمس، وعادة تكثر فيه الديدان والتعفن، وقد كان اللحم الذي يأكلونه هو هذا، وكثيراً ما كانوا لايجدون حتى هذا فيأكلون أوراق الأشجار، وكل ذلك لعدم اهتداء الجاهليين للمناهجالحيوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و.. التي أمر بها الإسلام والتي تصلحهم في دينهم ودنياهم، فكان كل شيء منهم في غاية التخلف والتأخر والانحطاط.
ومن الثابت أن نوعية الطعام تؤثر على الإنسان وتفكيره وعلى عواطفه
ص: 93
..............................
ومشاعره وعلى حالته النفسية والروحية والمعنوية، وحتى على أولاده أيضا - عند انعقاد النطفة وفترة الحمل والرضاع - ولذلك وردت أحاديث كثيرة في الأطعمة والأشربة مما ذكر الفقهاء تفصيلها في كتاب (الأطعمة والأشربة) (1) وفي كتب طب المعصومين (علیهم السلام) وغيرها.
ولقد كان من علل قساوة الجاهليين وغلظتهم وتحجر عواطفهم هو ذلك المأكل والمشرب السيئ الرديء.
ص: 94
-------------------------------------------
مسألة (1): يجب السعي لنجدة الذليل فرداً كان أم أمة، واستخراجه من ذلته في الجملة، بكلا معنيي الذلة، إذ:
الذلة تارة تكون حالة نفسية يعيشها الإنسان في ذاته وداخله، كمن يشعر بعقدة الحقارة، وهي قد تصيب الأمم فيبهرها كل ما تأتي به سائر الحضارات.
وقد تكون معادلة اجتماعية سياسية، حيث قد تتغلب أمة على أمة، أو دولة على دولة، أو فرد على فرد، حيث يعيش المغلوب ذلة عملية باعتبار كونه محكوماً مكبلاً وإن كان هو الأفضل والأكفأ والأعلم.
والى هذا القسم الثاني يشير الشاعر حيث يقول عن لسان الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام):من الزنج عبد غاب عنه نصير
أقاد ذليلاً في دمشق كأنني
أو ما ورد من: (وبعد العز مذللات)(2).
أو قوله تعالى: «ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة»(3).
ص: 95
..............................
فاللازم أن يسعى الإنسان ليكون عزيزاً وليحقق العزة بسائر أبناء ملة الإسلام أيضا، فإن كانت ذلته داخلية فعليه أن يعالج أسبابها ويزيل مقتضياتها، إذ قد تكون لجهل أو فقر أو تلقين أو ما أشبه.
وإن كانت خارجية - أي مظلومية - وجب أيضا أن يتحداها ويواجهها بالفكر والمنطق، أو بالإعلام والدعاية، كما قامت به السيدة زينب (علیها السلام) في مجلس ابن زياد(1) ويزيد(2)وغيرهما..
وهكذا الإمام السجاد (علیه السلام) في مجلس يزيد(3) وغيره..
وكبكائه (علیه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة(4) على مقتل أبيه الحسين (صلوات الله عليه).
وكما قامت به فاطمة الزهراء (علیها السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) (5).
ص: 96
..............................
وكما قام به الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من قبل لمدة طويلة في مكة المكرمة حيث لم يكن قد أذن له بالجهاد بعد.
أو بالمواجهة العسكرية، كحروب النبي (صلی الله علیه و آله) (1).
أو بالنهضة والتضحية بالغالي والنفيس كثورة الإمام الحسين (علیه السلام)، ف (الحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين)(2).
أو بأسلوب المقاومة السلبية، كما قام به الإمام الحسن (علیه السلام) وعدد آخر من أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، حيث كانت هي الطريقة الوحيدة لفضح معاوية وأشباهه وكشف القناع عن زيفه ودجله وخداعه.ويستفاد ذلك الحكم من كلامها (علیها السلام) من اعتبارها (أذلة) من أسوأ ما مني به الجاهليون قبل النبي (صلی الله علیه و آله) واقترانه بما سبق ولحق، والامتنان عليهم أكبر الامتنان بإنقاذه تعالى إياهم من تلك الحالات بأبيها محمد (صلی الله علیه و آله)، وبحكم العقل ودليل التلازم والأسوة يثبت ما سبق.
فتحصل مما سبق مسائل:
ص: 97
..............................
أنه يحرم الإذلال - حدوثاً - للفرد والتجمعات والأمة، داخلية كانت أم خارجية، ويجب الخروج منها بالنسبة إلى الذليل نفسه، كما أنه يجب على الآخرين الحيلولة دون ذلة إنسان (دفعاً) وإذا وقع في الذلة وجب عليهم إخراجه منها (رفعاً) فهي محرمة حدوثاً وبقاءً ، بالنسبة للنفس أو الغير.
قولها (علیها السلام): (أذلة) أذلاء جمع ذليل (خاسئين) مطرودين، وقد جاء في التاريخ أن أهل الجزيرة كانوا يستغيثون بكسرى وقيصر كي يشملهم بحكمه وينقذ بعضهم من يد بعض، فما كانا يستجيبان لهم لذلتهم وحقارتهم.
مسألة: يحرم - في الجملة - انتهاج منهج الجاهليين في عاداتهم وطقوسهم، فإن الجاهلية تشمل العقائد والآداب والأخلاق والسلوك والأمور المرتبطة بالجسم، لأن كل انحطاط جاهلي، وكل ارتفاع علمي، فإن العلم يوجب ارتفاع الإنسان في مختلف أبعاد الحياة «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»(1).
وقد أشير إلى ذلك في جملة من آيات القرآن الحكيم والروايات:
مثل قوله سبحانه: «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية»(2).
ص: 98
..............................
وقوله تعالى: «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى»(1).
وقال سبحانه: «افحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللهحكماً»(2) إلى غير ذلك.
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «وأمت أمر الجاهلية إلا ما سنه الإسلام)(4).
وفي الدعاء الوارد في غيبة الإمام القائم (عجل الله فرجه الشريف): «اللهم لاتمتني ميتة جاهلية»(5).
وفي علل الشرائع عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من مات وهو يبغضك يا علي مات ميتة جاهلية»(6).
ومن مصاديق ذلك الحكم الكلي(7) إحياء آثار وذكرى الفراعنة والقياصرة والجبابرة، عبر وضع النصب والتماثيل لهم أو حفر صورهم وأسمائهم في الجدران
ص: 99
..............................
وغير ذلك. وكذلك اتباعهم في اعتقادهم بالخرافات والسحرة والكهنة والتنجيم، وكذلك في المأكل والمركب والملبس وشبه ذلك مما يعد عرفاً اتباعاً لهم وأحياءً لذكراهم.
ولا فرق في ذلك بين جاهلية القرون السابقة، أو جاهلية القرن العشرين، حيث حكمت الجاهلية باسم الحضارة والتمدن في شتى مناحي الحياة(1).
فما دام المسلمون بعيدين عن مناهج الله، متمسكين بعادات وتقاليد الجاهلية الأولى أو الجاهلية المعاصرة، فإنهم سيبقون - والعياذ بالله - (أذلة خاسئين).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في هذه الآية: «ولا تبرجن تبرج الجاهليةالأولى»(2) قال: أي سيكون جاهلية أخرى»(3).
ص: 100
-------------------------------------------
مسألة: يجب توفير الضمانات التي تؤمن مستقبل الأفراد والأمة وتضمن لهم عدم تعرضهم لأي خطر يداهمهم على حين غرة، فإن مقدمة الواجب واجبة عقلاً، و(المؤمن كيس فطن حذر) (1) وقد ورد في وصف أمير المؤمنين (علیه السلام): (كان والله بعيد المدى)(2).
أما الخوف فهو بالقياس إلى ما يضاف إليه قد يكون قبيحاً أو محرماً، وقد يكون حسناً أو واجباً:
فالخوف الناجم عن تقصير في المقدمات والمصحوب بتخاذل عن محاولة العلاج واتباع الطرق والحلول التي بينها الله تعالى في القرآن الحكيم وعلى لسان المعصومين (علیهم السلام) رذيلة، كما في الخوف الذي أشارت إليه (صلوات
اللهعليها) بالنسبة للجاهليين، وكما في التخوف الذي يعيشه الكثير من المسلمين - حكاماً أو أفراداً - من أن تتخطفهم الدول الاستعمارية أو الجائرة من حولهم تخطفا عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ما أشبه فلايعملون بوظائفهم.
أما المؤمنون العاملون الملتزمون بالأوامر الإلهية السائرون على منهج رسل الله (علیهم السلام) في الجهاد والتضحية، فقد قال تعالى في حقهم:
ص: 101
..............................
«ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»(1).
وقال سبحانه: «بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون»(2).
والحزن عادة يطلق بالنسبة إلى الحال، والخوف بالنسبة إلى الاستقبال، وذلك لأن أولياء الله سبحانه وتعالى لارتباطهم بالله لا يخافون غيره ولا يحزنون لفوت شيء من الدنيا ونحوها.
ولذا فالخوف والحزن الحقيقيانمنتفيان عنهم وإن كانوا خائفين بمعنى آخر كما قال سبحانه: «يدعوننا رغباً ورهباً»(3) وهم محزونون لأنهم لايعرفون هل أن الله سيعاملهم بعدله أم بفضله.
وفي الدعاء: (اللهم عاملنا بفضلك ولاتعاملنا بعدلك).
فالخوف من الله هو الفضيلة كما قال (علیه السلام): (خف الله كأنك تراه فإن كنت لاتراه فإنه يراك)(4)..
وهكذا الخوف من مغبة الأعمال الطالحة، والخوف من نتائج التقصير والقصور السابق المشفوع بالعمل لرأب ما انصدع وجبر ما انكسر، هو المطلوب، وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله):
«يا بن مسعود خف الله في السر والعلانية فإن الله تعالى يقول:
ص: 102
..............................
«ولمن خاف مقام ربه جنتان» (1)»(2).
أما الخوف من قوى الشيطان بتصور سلطانها على قوى الرحمن أو بتصور صدقإلقاءاتها عن مغبة اتباع أوامر الرسل هو الآخر مرفوض ومحرم، قال عزوجل: «إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين»(3).
وفي الدعاء:
«اللهم واستغفرك لكل ذنب حملني على الخوف من غيرك أو دعاني إلى التواضع لأحد من خلقك أو استمالني إليه الطمع فيما عنده…»(4).
وقال الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): «يا بن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظاً من نفسك، وما كان الخوف شعارك والحزن دثارك، ابن آدم إنك ميت ومحاسب فأعد الجواب»(5).
وقال سيد العابدين (علیه السلام):
«ليس الخوف من بكى وجرت دموعه مالم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله، وإنما ذلك خوف كاذب»(6).
ص: 103
..............................
وقال (علیه السلام): «المؤمن بينمخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يمسي إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عند الخوف يحسن العمل»(2).
وقال (علیه السلام): «غاية العلم الخوف من الله سبحانه»(3).
وقال (علیه السلام): «خير الأعمال اعتدال الخوف والرجاء»(4).
وقال (علیه السلام): «الخوف سجن النفس عن الذنوب ورادعه عن المعاصي»(5).
وقال (علیه السلام): «الخوف أمان»(6).
هذا كله في الخوف الممدوح.
وقد ورد في الخوف المذموم: «لاينبغي للعاقل أن يقيم على الخوف إذا وجد إلى الأمن سبيلا»(7).
ص: 104
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ثلاثة تنقص النفس: الفقر والخوف والخزن، وثلاثة تحييها: كلام العلماء ولقاء الأصدقاء ومر الأيام بقلة البلاء»(1).
قولها (علیها السلام): (تخافون) إشارة إلى الآية الكريمة: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون»(2) فإنهم كانوا في خوف دائم من أن يغير عليهم مغير فيستولي عليهم ويسلبهم ويجعلهم عبيداً وإماءً، كما كانت عادة الجاهليين فإن حال الأمم المستضعفة هكذا حتى في هذا العصر، مع اختلاف من حيث الزيادة والنقصان، والمد والجزر،والنوعية والكيفية(3).
ص: 105
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الاختطاف وأخذ الرهائن كما كان متعارفاً في ذلك الزمن، وكما هو متعارف في زماننا هذا..
وهكذا يحرم جميع مصاديق العنف والإرهاب، مما يوجب إيذاء الناس أو تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، سواء من الحكومة للقوى المعارضة ولو تحت عنوان الاعتقال، أو من المعارضة لأركان السلطة، فإن كل شيء يسلب الناس حريتهم الممنوحة من الله سبحانه وتعالى لهم محرم، وكل مصادرة لحق من حقوق الناس محرمة.
نعم في كل مورد حكمت الشريعة الإسلامية فيه بالسجن - وهي قليلة جداً بالنسبة إلى موارد السجن في عالم اليوم كما ذكرنا تفصيله في الفقه(1) - جاز ذلك مع رعاية جميع حقوقالسجين(2)، وهو بالدليل الخاص، لأنه على خلاف قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)(3).
كما أن كل مورد عين الشرع فيه حصة من المال لبيت المال (كالخمس
ص: 106
..............................
والزكاة) أيضا يكون تخصيصا لهذه الكلية التي جزء منها حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (1)، وجزء منها مستفاد من قوله تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(2) فإن كونه أولى دليل على ثبوت الولاية للإنسان على نفسه، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أولى منه إذا تعارضت الولايتان، أو مطلقاً كما لا يخفى.
وشيوع حالة الاختطاف في المجتمعدليل على جاهلية ذلك المجتمع، أو على وجود قوانين كابتة وظلامات وحقوق مصادرة تسبب تفجر فئات من الناس ضد الوضع بهذه الطريقة السلبية.
وهذا ما نشاهده واضحاً إثر سيطرة الحضارة الغربية التي أرست دعائمها على استعمار الشعوب الأخرى عسكريا أو اقتصادياً وحتى فكرياً وثقافياً، كما هو منهج الاستعمار في الفترة الأخيرة عبر الأقمار الصناعية وسيل من الكتب والمجلات والجرائد والأفلام وغيرها.
وكلامها (صلوات الله عليها) وإن كان إخباراً عن واقع معين في زمن معين، إلا أنه يكشف عن قوانين كلية وسنن اجتماعية وسياسية جارية على مر السنين، تصلح كمؤشر لتشخيص حالة المجتمع صحة ومرضاً، قوة وضعفاً.
ص: 107
..............................
مسألة: يلزم على الإنسان أن لا يجعل نفسه عرضة لأن يتخطفه إنسان أو شيطان، ويكون على حذر من ذلك، وهناك روايات في أسلوب خطف الشيطان للإنسان بنفسه أو بإنسان آخر وما يلزم في مواجهته.
فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بينما موسى بن عمران (علیه السلام) جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلما دنا من موسى خلع البرنس وأقبل إلى موسى فسلم عليه، فقال له موسى: من أنت؟
فقال: أنا إبليس. قال: أنت، فلا قربك الله.
قال: جئت لأسلم عليك لمكانك من الله.
قال موسى: فما هذا البرنس؟ قال: به اختطف قلوب بني آدم.
قال موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه بني آدم استحوذت عليه؟
قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه»(1).وقال (علیه السلام): «النظر سهم من سهام إبليس وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة»(2).
وقال (علیه السلام): «الحسد مقنصة إبليس الكبرى»(3).
ص: 108
وقال (علیه السلام): «الكبر مصيدة إبليس العظمى»(1).
وسئل الإمام الصادق (علیه السلام): «يا بن رسول الله ما الذي يباعد عنا إبليس؟ قال: الصوم يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ثلاثة معصومون من إبليس وجنوده: الذاكرون لله، والباكون من خشية الله، والمستغفرون بالأسحار»(3).
وقال (علیه السلام): «تحرز منإبليس بالخوف الصادق»(4).
وقال (علیه السلام): «إن صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم»(5).
وعن جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) قال: «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعوهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(6).
ص: 109
-------------------------------------------
إنقاذ المسلمين(1)
مسألة: يجب إنقاذ المسلمين في زماننا هذا من جاهليتهم وذلتهم وضعفهم، تأسياً برسول الله (صلی الله علیه و آله) واقتداءً به، وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (فليتأس متأس بنبيه وإلا فلا يأمنن الهلكة)(2) ولحكم العقل والنقل، ولأن جاهليتهم وذلتهم وضعفهم من أشد المحرمات، إذ هي جماع لشتى خصال الشر والفساد(3).وقد قال سبحانه: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «الإسلام يعلو…»(5).
إلى غير ذلك مما ذكرناه في البنود السابقة.
ص: 110
ومن الواضح إن الإنقاذ لا يتحقق - عادة - دفعة واحدة، بل يتحقق تدريجيا، فيجب العمل للإنقاذ خطوة خطوة، كل حسب إمكانه.. مادياً ومعنوياً وفي مختلف أبعاد الحياة.
وحيث إن الأفعال والأحداث تسند إلى السبب الأول أو العامل الرئيسي وهو القائد والعقل المخطط، لذلك قالت (صلوات الله عليها): (فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله)) رغم وجود المسلمين الأشداء في الإيمان والعمل من حوله كما قال عز وجل: «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفاررحماء بينهم»(1).
مسألة: يجب الإيمان بأن الإنقاذ لا يتحقق إلا بإذن تكويني من الله تعالى، وبالتزام تشريعي بأوامره الصادرة عبر رسوله الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام).
كما قال تعالى: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»(2).
وقال سبحانه: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى»(3).
فقد جعل الله تعالى الكون عالم الأسباب والمسببات، والنصر الإلهي أيضا
ص: 111
..............................
ضمن هذه الدائرة، قال تعالى: «وأعدوالهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم»(1).
وقال سبحانه: «ثم اتبع سبباً»(2).
وقال تعالى: «وابتغوا إليه الوسيلة»(3).
وورد في الحديث الشريف: (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها)(4).
وعلى هذا فإن (التواكل والتخاذل) محرم، إذ هو خلاف الإعداد واتباع الأسباب.
والتقوى والإيمان وذكر الله - والمراد به القرآن الكريم - كما في الآيتين السابقتين هي الطرق التكوينية لنصرة الله للإنسان، فلو التزم بها الإنسان نصره الله بإمداد غيبي أيضا، ولذلك كان «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين»(5) فالصبر شرط تكويني تليهنصرة الله التي تجعل الواحد غالباً على العشرة.
وهكذا نجد أن كل ما دخل في دائرة إرادة الإنسان فإن له عاملين طوليين:
1: إذن الله تعالى وتمهيده الأسباب والعلل وجعلها في متناول الإنسان،
ص: 112
..............................
كالحياة والعلم والقدرة.
2: إرادة الإنسان وتمهيده سائر الأسباب - كإعداده ما استطاع من قوة وتخطيطه وصبره واستقامته وما أشبه ذلك - وهو في هذه أيضا حدوثاً وبقاءً محتاج إلى الله تعالى. وقد قال سبحانه: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»(1).
وقال تعالى: «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون»(2).
وقال عز وجل: «أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون»(3).
وقال سبحانه: «واتقوا الله ويعلمكمالله»(4).
وقد ذكرنا ذلك في علم الكلام في مبحث الجبر والتفويض(5)، فما ليس في دائرة عمل الإنسان فهو من الله، وما في دائرة عمل الإنسان فعليه أن يسعى، قال سبحانه: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»(6).
وقال تعالى: «كل امرء بما كسب رهين»(7).
وقال سبحانه: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»(8).
ص: 113
..............................
وقال تعالى: « إنما تجزون ما كنتم تعملون»(1) إلى غيرها من الآيات والروايات.
وقد قالت (علیها السلام): (فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد) فإن الله هوالمنقذ الحقيقي ولكن بواسطة النبي محمد (صلی الله علیه و آله)، فهو تعالى علة العلل، وهو (صلی الله علیه و آله) واسطة الفيض، فإنه جاء إليهم بالعقيدة الصحيحة والشريعة الكاملة والدين الأغر والأخلاق الرفيعة حتى تحولوا من أذلة صاغرين إلى أعزة عظماء.
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (أيّها الناس! إنّ الله عزوجل بعث نبيه محمداً (صلی الله علیه و آله) بالهدى، وأنزل عليه الكتاب بالحقّ وأنتم أميّون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومَن أرسله، أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من البرم، وعمى عن الحقّ، وانتشار من الخوف، واعتساف من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظّي من الحروب.
وعلى حين اصفرار من رياض جنات الدنيا، ويبوس من أغصانها، وانتشار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها، فقد درست أعلام الهدى، وظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجّمة في وجود أهلها، مكفهرّة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، قد مزّقتم كلّ ممزّق، فقد أعمت عيون أهلها،وأظلمت عليهم أيّامها.
قد قطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من
ص: 114
..............................
أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهيّة خوط، لا يرجون من الله ثواباً، ولايخافون الله عقاباً، حيّهم أعمى نجس، ميّتهم في النار ملبس.
فجاءهم النبي (صلی الله علیه و آله) بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال وبيان الحرام، وذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه أنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفون، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأني أعلكم) (1).
هذا وقد دامت العزة للمسلمين إلى ما قبل مائة سنة - ولو في بعض أبعادها(2)- وعندما تركوا شيئاً فشيئاً مما تبقى من أحكام الإسلام عادت إليهم الذلة الجاهلية والعبودية للشرقوالغرب، حتى أصبحوا ألعوبة بيد الكفار فأشعلوا في بلادهم النيران على طول الخط، وساعد بعضهم بعضها على الحرب والسلب والنهب ومناصرة الأجانب في ضرب المسلمين. وإني أذكر منذ خمسين سنة حتى الآن ورحى الحرب تدور في بلاد الإسلام(3)..
وفي الحال الحاضر هناك حروب دامية في أذربيجان والعراق والخليج وكشمير وإرتريا والهرسك والبوسنة ومورو ولبنان وفلسطين وغيرها. والسبب في ذلك هو أن المسلمين تركوا العمل بمناهج الله التي صرح بها في القرآن الحكيم من:
ص: 115
..............................
(الأمة الواحدة) و(الأخوة الإسلامية) و(الشورى) و(الحرية) و(التنافس الإيجابي) وسائر أحكام الإسلام المنقذة، وإلا فقد قال تعالى: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(1)، نسأل الله الفرج والمخرج.
مسألة: يستجب تنبيه الناس إلى أن سعادتهم طوال قرون وقرون كانت ببركة الله والرسول (صلی الله علیه و آله)، وقد يجب ذلك.
قال سبحانه: «واذكروا إذ انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون»(2).
وقال تعالى: «لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين»(3).
وقال عز وجل: «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك»(4).
ص: 116
..............................
وقال سبحانه: «وما بكم من نعمة فمن الله»(1).ومن المعلوم - كما قلنا - أن مراتب(2) من سعادة الإنسان والتي هي ببركة الله والرسول (صلی الله علیه و آله)، لا تتحقق إلا بتطبيق أوامرهما، كما أن شفاء المريض يتحقق باستعمال الأدوية التي عينها له الطبيب في نسخته.
وقد سبق أن المسلمين في يومنا هذا حيث تركوا أوامر الله سبحانه وتعالى ابتلوا بالضنك الذي ذكره الله عز وجل(3) فإنهم تركوا:
قوله سبحانه:« إن هذه أمتكم أمة واحدة»(4). في الأمة الواحدة.
وقول تعالى: «إنما المؤمنون أخوة»(5). في الأخوة الإسلامية.
وقول سبحانه: «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانتعليهم»(6). في الحريات الإسلامية.
بالإضافة إلى انهم تركوا الشورى، والتنظيم، فقد قال تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»(7)..
ص: 117
..............................
وقال سبحانه: «من كل شيء موزون»(1)..
وفي كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): (نظم أمركم) (2)..
وقد فصلنا جملة من ذلك في جملة من كتبنا (3).
بل إن سعادة البشرية والجوانب الإيجابية في عالم اليوم(4) كلها ببركةالنهضة الإنسانية التي قام بها الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام)، ضد رذائل الأخلاق وضد المحرمات: من الجهل والمرض والفقر ووأد البنات وغير ذلك، كما اعترف بذلك الغربيون أنفسهم حيث صرحوا بأن المسلمين هم آباء العلم الحديث(5) حيث تتلمذ الغرب على أيديهم إبان القرون الوسطى - وقبلها - في الأندلس وغيرها.
ص: 118
-------------------------------------------
مسألة: يلزم على الإنسان أن يطلب المخرج من المشاكل والمخلص من المحن والفتن لا أن يستسلم لها، إذ قال (علیه السلام): «المؤمن كيس فطن حذر»(1).
وقال (علیه السلام): «والمؤمن كيس عاقل»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا زبر له، وقال هو الذي لا ينهى عن المنكر»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن اللهليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «مثل المؤمن القوي كالنخلة ومثل المؤمن الضعيف كخامة الزرع»(6).
ص: 119
..............................
وقال تعالى: «ثم أتبع سببا»(1).
وقال (علیه السلام): «كن في الفتنة كابن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب»(2). وقيل: (الحرب خدعة)(3). وهنالك في الفقه باب خاص باسم (باب الحيل الشرعية)(4).
قولها (علیها السلام): (بعد اللتيا والتي) بلحاظ ما سبقه والقرينةالمقامية (5)، فيه إشعار وإشارة إلى لزوم أن يطلب الإنسان المخرج من المشاكل ومن شتى العوامل والبواعث الإفراطية والتفريطية.
فإن الإنسان المقدام في ميادين الحق يبتلى بمتشددين ومتساهلين في شتى المسائل الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها(6).
ص: 120
..............................
فاللازم عليه أن يعالج الأمر حتى يتمكن من تطبيق الحق الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، قال سبحانه: ]وكذلكجعلناكم أمة وسطاً»(1).
وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها)(2).
وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق»(3)..
فإن الإفراط والتفريط بين محرم وبين مرجوح.
قولها (علیها السلام): (بعد اللتيا)، يقال تزوج رجل امرأة قصيرة فناله منها ما ناله من الأذى ثم طلقها، وتزوج امرأة طويلة القامة فناله منها ما ناله فطلقها، فقيل له تزوج بأخرى، فقال بعد اللتيا والتي؟! وصار مثلا ً يضرب لمن ابتلى في سابق أمره بالمشكلات والدواهي الصعبة أو المتكررة أو الدواهي الكبيرة والصغيرة.
ثم إن عرب الجزيرة أنقذهم الرسول (صلی الله علیه و آله) من مشاكلهم الفردية والاجتماعية والسياسيةوالاقتصادية وغيرها، فهل من التعقل أن يعودوا إلى مثل حالتهم السابقة من الفوضى والتخلف بعد إرسال الرسول وانزال الكتاب والتعب والجهاد المستمر؟
وفي تذكيرهم بذلك تمهيد لإفهامهم بأن تنحيتهم الخليفة الذي عينه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، سيعود بهم إلى كثير من البلايا والرزايا والمحن.
ص: 121
..............................
فإن قال قائل: إن التاريخ سجل لهم التقدم والانتصارات، فكيف يقال إنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من المحن والرزايا وحتى الذلة أيضاً؟.
قلنا: لو كانوا تمسكوا بأحكام الإسلام كما أنزلها الله سبحانه، ولو التزموا بتعاليم الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، ولو اتبعوا خليفته الحقيقي وهو الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لم يكونوا يقعون في المشاكل التي وقعوا فيها من الحروب الطاحنة التي دارت بينهم مما امتلأت بها صفحات التاريخ، ومن سيطرة حكام مستبدين وطغاة جبابرة «اتخذوا مال اللهدولاً وعباده خولا»(1) بما تضمن ذلك من قتل الأنفس المحترمة في شرق البلاد والإسلامية وغربها طوال حكومة الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن سبقهم(2) ومصادرة حقوق وأموال الناس(3) وسجن وتعذيب الملايين في ظلم المطامير(4) إلى غير ذلك.
إضافة إلى أن تقدمهم لم يكن ليتحدد بذلك الحد - جغرافياً ومعنوياً - بل كانوا يسودون العالم والبشرية أجمع، ولكن اليوم وبعد خمسة عشر قرنا، ترى ثلاثة أرباع العالم غير مسلمين، والمسلمون هم الربع، وكثير منهم الأذل الأقل فإنا لله فإنا إليه راجعون.
ص: 122
-------------------------------------------
مسألة: يجب - انطلاقاً من شمولية قاعدة «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة»(1) للقوة كماً وكيفاَ، سلاحا وعلما وعملا و… إذ كلها مصاديق للقوة، والانصراف للقوة العسكرية إن كان فبدوي - الاستعداد لمقابلة المبهمين من الرجال وذؤبانهم.
وقولها (علیها السلام): (بعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب) تنبيه على أن صاحب المبادئ الرفيعة، عليه تأسياً به (صلی الله علیه و آله) أن يستعد لمواجهة الرجال المبهمين الذين لا يعرف واقعهم. فلهم واقع غامض لا يدرى كيف يقابل معهم، أو أنهم من شدة بأسهم لا يدرى من أين يأتون(2) ولذا يسمون ببهم الرجال من المبهم الذي لايعرف واقعه(3).
ومن المحتمل أن يكون (بهم الرجال) إشارة إليهم من غير العرب من الفرس والروم في قبال (ذؤبان العرب).
ص: 123
..............................
أما (ذؤبان العرب) فإن الذئب من طبيعته التوحش والتوثب والحيلة والتحرك باتجاهات مختلفة طلبا للفريسة، وكان عرب الجاهلية من هذا النوع، ولذا قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام): (كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات)(1). وقال الشاعر:
(........(2) بهز الكف متنه *** فيه كما عسر الطريق ذهاب)
ولعل من وجوه وصفهم ب (ذؤبان العرب) إن الذئب إذا وقع في القطيع لايبقي ولا يذر فهو يفتك لمجرد الفتك، شهوة في الفتك، وهو المصداق الجلي للوحش الضاري الذي لا يفتك لحاجة، بللحاجة ودون حاجة تلذذا من السطو والاعتداء ومنظر الدماء، وقد كان أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) كذلك، فهم كانوا كالذئاب الضارية الشرسة يغيرون ويفتكون ويفعلون ما يفعلون تعوداً منهم على الفتك وتلذذا منهم بالجريمة ودلعاً منهم بالدماء.
مسألة: من المذموم اتصاف الإنسان بالصفات السبعية، واللازم أن يتحلى قلبه بالرحمة والإنصاف وحب الآخرين، بل المواساة والإيثار، ويدل على ذلك مختلف الآيات والروايات:
قال تعالى: «ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد
ص: 124
..............................
قسوة»(1).
وقال (علیه السلام): «ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب»(2).
وقال (علیه السلام): «من علاماتالشقاء جمود العين وقسوة القلب»(3).
وعن الإمام أبي جعفر (علیه السلام) قال: «أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك»(4) الحديث.
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الإنصاف يستديم المحبة»(5).
وقال (علیه السلام): «الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الايتلاف»(6).
وقال (علیه السلام): «ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواع والرجوع إلى قلب سليم»(7).
وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام): «لكنا نأمركم بالورع الورع الورع، والمواساة المواساة المواساة لإخوانكم»(8).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«الإيثار أعلى المكارم»(9).
ص: 125
-------------------------------------------
مسألة: يجب أن يعد حملة المبدأ الصحيح العدة المناسبة لمواجهة طوائف ثلاثة تتصدى عادة لحملة راية الحق، كل منها بشكل يتناسب مع الوسائل والأسلحة التي تستخدمها، فإن من السنن الإلهية الجارية في المجتمعات على مر التاريخ: إن المبادئ القويمة ودعاة الإصلاح ورواد الحقيقة يواجهون عادة بطوائف من المعارضين، منها:
أ: علماء سوء يعرفون الحقيقة ويكابرون عنها، يمثلون الجانب العلمي والوجه الثقافي للمعارضة.
ب: وأبطال شجعان يجسدون قمة القوة المادية لجبهة الباطل.
ج: أراذل وأوباش وصعاليك من سفلة القوم يعدون بمنزلة الرتل الخامس لجيش العدو.
وإلى القسم الأول أشارت (علیهاالسلام) بقولها: (مردة أهل الكتاب).
وإلى القسم الثاني بقولها: (بهم الرجال).
وإلى القسم الثالث أشارت بقولها: (وذؤبان العرب) إذا كان المراد به: الصعاليك واللصوص.
وربما يقال: إن المراد بذؤبان العرب: أولئك الذين غلب عليهم طابع الوحشية والشراسة والتعطش للدماء، وحينئذ فيكون هذا القسم هو الضلع
ص: 126
..............................
الثالث في مثلث الأعداء، فقولها (علیها السلام): (وبعد أن مني ببهم … ومردة أهل الكتاب) إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة وإن كل مبدأ صحيح يبتلى عادة بعلماء سوء يكابرون الحقيقة، كما يبتلى بجهال مبهمين وصعاليك أوباش أو متوحشين، قال سبحانه : «ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا»(1).
ولا يخفى أن هذا الكلي ليس خاصا بالمبادئ الصحيحة - وإنما المبدأ الصحيح في مقابله هذه الطوائف المنحرفة - بل كل مبدأ وكل مسلكيواجه بهذه الفئات عادة، فإن كان المبدأ باطلاً كان الذين يعارضونهم من العلماء والجهال على حق في هذا الجانب، وإن كان المبدأ صحيحاً كانت جبهتا العلماء والجهال المعارضين له، على ضلال.
مثلاً: النبي (صلی الله علیه و آله) الصحيح المبدأ ابتلي بهما، كما أن (علي محمد الباب)(2) الباطل المبدأ واجهه علماء مسلمون هم حق كما واجهه غير العلماء من المسلمين الذين كانوا أيضا على حق.
وعلى أي، فاللازم أن يستعد حملة المبدأ الصحيح لمقابلة هؤلاء كما قال تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…»(3).
ص: 127
..............................
فعلماء السوء: يواجهون بتوعية الناس عبر المحاضرات والكتب وسائر وسائل الإعلام وعبر كشف زيفهم للناس.وبهم الرجال: عبر أبطال أكفاء يواجهونهم بأسلحتهم، فيتسلحون بالتنظيمات والتكتلات والنقابات والأحزاب وغيرها، ويوجهون بتكوين تنظيمات وتجمعات إسلامية تحافظ على الشباب وتفشل مخططاتهم.
والسفلة والصعاليك: يواجهون بمثلهم أيضا، إذ لا يفل الحديد إلا الحديد، وقد ورد في الحديث الشريف: (هلك من ليس له حكيم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده)(1).
ويجب أن لا يثبط دعاة الحق عن تبليغ الرسالة وجود حشد من المشاكل، سواء كانت مشاكل الإفراط والتفريط، أو مشاكل بهم الرجال وذؤبانهم، أو مشاكل مردة أهل الكتاب وأذنابهم، كما قال تعالى:
«فاستقم كما أمرت ومن تاب معك» (2).
قولها (سلام الله عليها): (مردة) جمع مارد، وهو العاتي المتكبر الذي لا يرضخ للحق، ومردة أهل الكتاب منصرف إلى علمائهم الذين عتوا على الحق وتكبروا عن الرضوخ له، وإن كان اعم لغة من ذلك.قال الإمام الصادق (علیه السلام): «ولا تكونوا علماء جبارين»(3).
ص: 128
..............................
وعن عيسى (علیه السلام) قال: «مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «شر الناس علماء السوء»(2).
مسألة: كلماتها (علیها السلام) في استعراض نماذج من المصاعب التي واجهت الرسول (صلی الله علیه و آله) ومن الأعداء الذين مني بهم، حكاية وشكاية وهداية، والثالث بين واجب ومستحب، والأولان - بما هما هما - يقعان متعلقين للأحكام الخمسة.فحكايتها (علیها السلام) لتلك الحال، تذكير لهم بعظيم فضله (صلی الله علیه و آله) عليهم من جهة، وبعظيم جهاده (صلی الله علیه و آله) واستقامته وصبره وصموده وتحمله الأذى في ذات الله من جهة أخرى، وبكبير جرمهم في التصدي له (صلی الله علیه و آله) من جهة ثالثة.
قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3).
والأول: يقتضي شكر النعمة.
والثاني: يقتضي التأسي به (صلی الله علیه و آله) واتباعه وانتهاج منهجه.
والثالث: يقتضي تكفير الذنب عبر التعويض بالتفاني في الذب عن تعاليمه
ص: 129
..............................
(صلی الله علیه و آله) وأوامره، وعلى رأسها الدفاع عن من عينه خليفة له واتباعه وهو الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام).
وهي حكاية تتضمن شكاية منهم على ما مضى، وشكاية أخرى على ما جرى - ما مضى حين البعثة وبعدها، وما جرى بعد استشهاده (صلی الله علیه و آله) - وهيأيضا شكاية تتبعها شكاية.
وهذه الشكاية هي من دواعي الهداية ومن مصاديق النهي عن المنكر ومن مصاديق إتمام الحجة، وهي أيضا - في الجملة - دفع ورفع: رفع لما قد جرى ودفع لما سيجري، وأيضا دفع بالنسبة لما يستقبل من الأجيال ورفع بالنسبة للحاضر من الرجال.
ص: 130
-------------------------------------------
مسألة: يحرم نفسياً ومقدميا إشعال نار الحرب ضد أهل الحق، فإن مطلق العمل ضد الحق حرام فكيف بإشعال نار الحرب، بل مطلق إشعال نارها بغير الحق حرام(1).
وإطفاؤها بالنسبة للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) - كما يشير إليه كلامها (علیها السلام) بنحو القضية الخارجية - وبالنسبة لعموم المؤمنين في عموم الأزمنة أيضاً واجب، وقد وعد الله النصر في ذلك.
قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنتنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»(2).
وقال سبحانه: «أوفوا بعهدي أوف بعهدكم»(3).
ص: 131
..............................
أما إشعال نار الحرب في الحروب الابتدائية الجهادية في سبيل الله والمستضعفين على شروطها فلا إشكال فيها - على تفصيل ذكرناه في كتاب (الجهاد) من الفقه(1) -.
وكذلك بالنسبة إلى الحروب الدفاعية وحروب البغاة، قال سبحانه: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا»(2).
وإنما قلنا بالحرمة النفسية - أو الذاتية - نظرا لما فيها من المفسدة العظيمة، فوزانها كشرب الخمر والكذب وشبههما - بل أعظم منها - مما حرمتهنفسية لاشتمالها على المفسدة وإن وجبت إذا وقعت مقدمة للأهم، كالكذب للإصلاح الذي لولاه لحدثت فتنة عظيمة، وشرب الخمر لمن انحصرت نجاته من الهلاك عطشاً بشربه، والحرب في سبيل الله والمستضعفين.
ثم إن الضمير في (أوقدوا) يعود للكفار وأهل الكتاب كما لا يخفى.
..............................
فإن المرء كلما تمكن من إطفاء نار الحرب الباطلة وجب عليه ذلك، سواء تمكن من الإطفاء كليا أو الإطفاء في الجملة إذ هو محقق للغرض في الجملة.
ومن الواضح عدم كونه ارتباطياً، قال سبحانه: «فاتقوا الله ما استطعتم»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله):«الميسور لا يسقط بالمعسور»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(3).
إلى غير ذلك مما يدل على أن كل إنسان مكلف بقدر إمكانه، قال سبحانه: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(4).
وفي آية أخرى قال تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها»(5).
ومن غير فرق بين أن يكون الإطفاء بالإعلام أو المال أو السلاح أو غير ذلك من أقسام الإطفاء والردع، على نحو مانعة الخلو حسب الاصطلاح المنطقي.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أنا مخمد نار الحرب»(6).
ص: 133
..............................
مسألة: لا يجوز التعلل بعدم التدخل لإطفاء الحرب الدائرة بين طائفتين من المؤمنين أو حرب الكفار ضد فئة أو دولة إسلامية أو ما أشبه ذلك: بالجغرافية أو باختلاف اللغة أو اللون أو ما أشبه ذلك، عقلا ونقلا، وذلك للإطلاقات والعمومات والنصوص، ولما دل على عدمها.
قال تعالى: «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما»(1).
وعن أحدهما (علیهما السلام): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا سقط منه شيء تداعى سائر الجسد»(2).
وقال (علیه السلام): «ان المؤمنين في ايثارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى سائره بالسهر»(3).وقال (صلی الله علیه و آله): «لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود، إلا بالتقوى»(4).
وقال تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»(5).
ص: 134
..............................
مسألة: ربما يستفاد من هذا الحديث - إضافة إلى الأدلة الدالة على ذلك - كون الأصل في الإسلام السلم لا الحرب، فإن شعار الإسلام: السلام.
وتحية المسلم إذا لقي أخاه: (سلام عليكم).
وتقول في نهاية الصلاة: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». وحتى في التعامل مع الجهلة: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً»(1).
وقد قال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولاتتبعواخطوات الشيطان»(2).
وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «السلم علة السلامة وعلامة سبب الاستقامة»(3).
وقال (علیه السلام): «لا عاقبة أسلم من عواقب السلم»(4).
وقال (علیه السلام): «السلم ثمرة الحلم»(5).
وقال (علیه السلام): «الرفق يؤدي إلى السلم»(6).
ص: 135
..............................
مسألة: لم يبتدأ الرسول (صلی الله علیه و آله) بحرب وهكذا كان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) بل كل حروبهما (صلوات الله عليهما) كانت دفاعية.
ومن هنا قالت (علیها السلام) فيهذه الخطبة: (كلما أوقدوا)(1) فالكفار والمشركون هم الذين كانوا يوقدون نار الحرب، لكن الله ورسوله ووصيه كانوا يطفئونها.
ولعل من أسباب عدم ابتداء الرسول (صلی الله علیه و آله) بحرب حيث كانت حروبه كلها دفاعية هو كون الأصل السلم وعدم الحرب كما مر(2)، فالحرب ضرورة لا تجوز إلا في الموارد المقررة الشرعية من صور الاستثناء عن السلم والسلام(3).
وقد روي عن علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «انه خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت علي (علیه السلام)، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه، قال (علیهالسلام): كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لانمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولانمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع
ص: 136
..............................
أيدينا، ولانبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به»(1).
وعن حذيفة بن اليمان قال: «فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام): لا يبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم، قال: فرموا فينا، فقلنا: يا أمير المؤمنين قد رمينا، فقال: كفوا، ثم رموا فقتلوا منا، قلنا: يا أمير المؤمنين قد قتلونا، فقال: احملوا على بركة الله»(2).
وهكذا كان في حرب النهروان فإنه: «لما واقفهم علي (علیه السلام) بالنهروان قال: لا تبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوكم، فحمل منهم رجل على صف علي (علیه السلام) فقتل منهم ثلاثة، ثم قال:
أقتلهم ولا أرى علياً *** ولو بدا أوجرته الخطيا
فخرج إليه علي (علیه السلام) فضربه فقتله»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «نبأني رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: فإذا أتيتهم فأنت عليهم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدؤوك، والقهم واسمع منهم ولايجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة»(4).
وقد أرسل أمير المؤمنين (علیه السلام) مالك الأشتر في وقعة صفين وأمره أن لا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم ويدعوهم ويعذر إليهم إن شاء الله(5).
ص: 137
..............................
وفي يوم عاشوراء عندما تجاسر شمر على الإمام الحسين (علیه السلام) وقال له: «يا حسين تعجلت النار قبل يوم القيامة!، رام مسلم بن عوسجة أنيرميه بسهم، فمنعه الإمام الحسين (علیه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فانه الفاسق من عظماء الجبارين وقد أمكن الله منه، فقال له الحسين (علیه السلام): لا ترمه فاني أكره أن أبدأهم»(1).
مسألتان: يجب الإيمان بأن جميع الأمور بيد الله سبحانه وتعالى وانه هو المؤثر الحقيقي، ويلزم الفات الناس إلى ذلك وتنبيههم عليه، كما قالت صلوات الله عليها (أطفأها الله)، فإن الله سبحانه هو مسبب الأسباب، وقد ورد في الدعاء: «يا مسبب الأسباب ويا مفتح الأبواب»(2).
و: «يا مسبب يا مغيث»(3).
و: «اللهم رب الأرباب ومسبب الأسباب»(4).
و: «يا سبب كل ذي سبب، يا مسببالأسباب من غير سبب»(5).
ص: 138
..............................
و: «اللهم إني أسألك باسمك يا مسبب يا مرغب»(1).
و: «يا مسبب الأسباب سبب لنا سببا»(2).
و: «يا مرتب يا مسبب يا محبب..»(3).
و: «يا رازق الفرج يا مسبب الفرج يا مغيث الفرج»(4).
و: «يا تواب يا أواب يا مسبب الأسباب»(5).
و: «يا صاحب الأصحاب ومسبب الأسباب وسابق الأسباق»(6).
وقال عزوجل: «إنا مكنا له في الأرضوآتيناه من كل شيء سببا»(7).
وقال تعالى: «قل من بيده ملكوت كل شيء»(8).
وقال سبحانه: «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير»(9).
ص: 139
..............................
وقد ألمعنا إلى مثل ذلك فيما سبق وقلنا: إنه لا يلزم منه الجبر، وإنما المراد إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعمل حتى في خارج إطار إمكانية الإنسان ولكنه قد ترك حرية التصرف للإنسان في داخل حدود قدرته وإمكانياته فأعطاه الاختيار، وإنما يجب - وجوبا تشريعياً لا تكوينياً - على الإنسان العمل في إطار إمكانياته بما أمره الباري عزوجل، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، كما في الحديثالشريف(1).
وكما قال (علیه السلام): «أنا لا أقول جبراً ولا تفويضاً»(2).
وفي الدعاء: «اللهم اني استغفرك من كل ذنب قوي عليه بدني بعافيتك أو نالته قدرتي بفضل نعمتك أو بسطت إليه يدي بسابغ رزقك… لم تدخلني يارب فيه جبراً ولم تحملني عليه قهراً ولم تظلمني فيه شيئاً…»(3).
وفي تفسير قوله تعالى: «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون» قال (علیه السلام): «خلقهم للأمر والنهي والتكليف، وليس خلقتهم جبراً ان يعبدون ولكن خلقتهم اختياراً ليختبرهم بالأمر والنهي، ومن يطيع ومن يعصي»(4).
فإن الأمور والأعمال موزعة:
1: بين ما هي في دائرة قدرة الإنسان وحيطة تصرفه واختياره.
ص: 140
..............................
2: وبين ما هي خارج عنه بالمرة.
وحيث إن ما في دائرة قدرة الإنسان هو أيضاً يستند إلى الله تعالى إذ انه عزوجل هو الذي أعطاه القدرة والاختيار وهو الذي أوجد الأسباب ومهدها وبمقدوره في أي آن أن يسلب قدرته واختياره، ولذلك كرر في القرآن الحكيم نسبة الأشياء إلى الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»(1).
وقال تعالى: «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون»(2).
وما أشبه ذلك من الآيات.
فلولا أن الله تعالى أعطى الإنسان وجوده وحياته ثم زوده بالعضلات والقوى والإدراك والعلم والإرادة وما أشبه، ولولا أنه خلق المعادن والآلات والأدوات وما أشبه، ولولا أنه … لما أمكن للإنسان أن يرمي نبلاً أو يزرع بقلاً - بكامل حريته واختياره - .
ص: 141
-------------------------------------------
مسألة: يجب إعداد العدة للمواجهة عندما ينجم قرن الشيطان.
قولها (علیها السلام): (أو نجم قرن للشيطان) نجم بمعنى: ظهر، ولذا يسمى النجم نجماً لأنه يظهر في الأفق، و(قرن الشيطان) كناية عن أول فتنته، يعني: إنه كلما ظهرت بوادر فتنة قذف (صلی الله علیه و آله) أخاه (علیه السلام) في لهواتها.
فأول كل ظاهر من شيء قرن، ولذا يقال: قرن الشمس، حين تظهر بعض أجزاءها ابتداءً ثم تظهر البقية.
والسبب في كون قرن الحيوان هو أول ما يرى من البعيد: أن الأرض كروية وفي المحل الكروي إنما يظهر أعلى الشيء ابتداء كما يشاهد ذلك بالنسبة إلى البحار، فإن الإنسان أول ما يشاهد من السفينة الصواري ثم تظهر شيئاً فشيئاً، حتى تظهر بأجمعها، وكما هو المشاهد لمن كان حديد البصر وواقفاً في الأرضيشاهد الأفق من بعيد.
ص: 142
..............................
مسألة: تجب المبادرة للتصدي للفتن بمجرد أن ينجم قرنها، كما كان (صلی الله علیه و آله) يصنع، تأسياً به (صلی الله علیه و آله)، ولأنه من إحكام الأمر وإتقانه، وقد ورد في الحديث: (رحم الله امرأ عمل عملا فأتقنه)(1) ولما فيه من درء المفاسد الكثيرة التي تترتب على التأخير.
ومن البين إن ذلك يتوقف - فيما يتوقف - على بعد النظر والرؤية المستقبلية كي يتنبأ الإنسان مسبقاً بما سيجري ويعرف أن هذه مقدمة بعيدة لذاك، وما يجري هو لبنة في بناء مستقبلي كذائي، وقد ورد في وصف أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً، ويحكم عدلاً…»(2).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام):«رحم الله امرئ رأى حقاً فأعان عليه ورأى جوراً فرده وكان عوناً بالحق على صاحبه»(3).
وقال (علیه السلام): «رحم الله امرئ أحيى حقاً وأمات باطلاً وادحض الجور وأقام العدل»(4).
ص: 143
..............................
مسألة: يجب الترصد الدائم والتفحص الحثيث عن أية فتنة قد تحدث، كما أشارت إلى ذلك (علیها السلام) في قولها: (كلما … نجم … أو فغرت... قذف أخاه…) حيث كان (صلی الله علیه و آله) دائم اليقظة والحذر.
وفي الحديث الشريف عنه (صلی الله علیه و آله): «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فانه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة وهو معي فيالسماء الأعلى وهو الفاروق بين الحق والباطل». وهذه الرواية نقلها العامة أيضاً (1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسك بالعروة الوثقى، فقيل: يا رسول الله وما العروة الوثقى؟
قال: ولاية سيد الوصيين، قيل: يا رسول الله ومن سيد الوصيين، قال: أمير المؤمنين، قيل: يا رسول الله ومن أمير المؤمنين، قال: مولى المسلمين وإمامهم من بعدي، قيل: يا رسول الله ومن مولى المسلمين وإمامهم من بعدك، قال: أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من فتنة
ص: 144
..............................
الشيطان فقال: «يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة»(1)»(2).
وقال تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»(3).
وعلى ذلك فإنه من غير الصحيح اعتزال الناس، والابتعاد عن الخوض في البحوث السياسية والاقتصادية وشبهها مما يعرف الإنسان على خطط الاستعمار وبرامجهم، ومن أين ينفذون؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن هم عملاؤهم؟ وغير ذلك.
ومن الخطأ توهم أن ذلك الانعزال والابتعاد فضيلة بل الأمر بالعكس تماما، فإن «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأبي ذر (رحمة الله): «وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه»(5).
أما أخبار الاعتزال فالمقصود بهاشيء آخر كما بيناه في بعض كتبنا(6).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى فمن نصرهما أعزه الله تعالى ومن خذلهما خذله الله تعالى»(7).
ص: 145
..............................
قال (علیه السلام): «فضل العالم على العابد بسبعين درجة، بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عاما، وذلك أن الشيطان يصنع البدعة فيبصرها العالم فينهي عنها، والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه لها ولا يعرفها»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «فضل العالم على العابد كفضلي على سائر الأنبياء»(2).
وقال (علیه السلام): «ساعة من عالم يتكئ على فراشه ينظر في علمه خير منعبادة العابد سبعين عاما»(3).
وربما يتوهم إن (أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين) و(قذف أخاه في لهواتها) خاص بشؤون الحرب، لكن الظاهر شمولية ذلك لكل فتنة ومشكلة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أمنية أو اجتماعية أو غيرها، وذلك لأن الأصل في العطف ذلك(4). وفي الواقع الخارجي خير شاهد ودليل على ذلك(5) إضافة إلى ظهور (نجم قرن الشيطان…أو فغرت ...) فيه.
ص: 146
-------------------------------------------
مسألة: يجب أن يتخذ الإنسان الموقف المناسب إذا فغرت فاغرة من المشركين.
قولها (سلام الله عليها): (أو فغرت فاغرة من المشركين) يقال: فغر فاه أي: فتحه، والمراد به تجمع المشركين لأجل محاربة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
وهناك فرق بين (نجم) و(فغر)، فالنجم: الأول، والفغر: التهيؤ والاستعداد، فإنه بعد ظهور القرن يظهر الفم الذي يهدف التهام الحق، ولا يراد بذلك الفم حقيقة وإنما هو نوع تشبيه، للذين يريدون إبطال الحق وإزهاقه بالفم الذي يهم بقضم الطعام والتهامه.
قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ما رأيت منذ بعث الله محمداً (صلی الله علیه و آله) رخاء والحمد لله، والله لقد خفت صغيراً وجاهدت كبيراً، أقاتل المشركين وأعادي المنافقين حتى قبض الله نبيه (صلی الله علیه و آله) فكانت الطامة الكبرى، فلم أزل حذرا - إلىأن قال: - والله مازلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً، وأنه ليصبرني على ما أنا فيه ان ذلك كله في الله ورسوله»(1).
ص: 147
..............................
مسألة: من الراجح - في الدعوة والتبليغ والإرشاد - استخدام أسلوب (الأدب التصويري) كما استخدمت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) هذا الأسلوب (الأدب التصويري) في مقاطع شتى من هذه الخطبة، وفي هذه المقطع حيث تقول:
(كلما أوقدوا ناراً للحرب... أو نجم قرن الشيطان … أو فغرت فاغرة … قذف … في لهواتها…يطأ جناحها بأخمصه…ويخمد لهبها…الخ).
وهذا الأسلوب هو من أساليب القرآن الكريم من قبل كما في قوله سبحانه: «كزرع أخرج شطأه فازره فاستغلظ فاستوىعلى سوقه»(1).
وقوله تعالى: «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كانها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور»(2).
وقوله سبحانه: «ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا»(3).
وقوله تعالى: «وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم
ص: 148
..............................
وقرا»(1).
ثم إنه هل التشبيه والتمثيل من أصناف الأدب التصويري فهو مقسم لها، أم أنه مختص بتنزيل حقيقة منزلة أخرى (كالمعنوية منزلة المادية) دون استخدام أداة تشبيه؟ مبحث يرتبط بعلم البلاغة.
ص: 149
-------------------------------------------
مسألتان: تنقسم الصفات التي تحلى بها الإمام علي ابن أبي طالب (علیه السلام) إلى ما تجب معرفته ويجب التعريف به والإعلان عنه، وإلى ما يستحب معرفته والتعريف به.
فإمامته وخلافته من القسم الأول وهو واجب عيني في معرفته، ونصرته للإمام والمسلمين وشده أزر الرسول الأعظم في المواطن الصعبة حيث كان منهجه (صلی الله علیه و آله) (أن يقذف أخاه في لهواتها) من القسم الأول أيضا في الجملة، ومعرفة كثير من صفاته والتعريف بها مستحب بما هي هي، إلا فيما لو وجدت جهة المقدمية(1) فتجب عندئذ عينا أو كفاية(2). وفي التاريخإن رجلاً قال لابن عباس:«سبحان الله ما أكثر مناقب علي وفضائله، إني لأحسبها ثلاثة آلاف منقبة، قال ابن عباس: أو لا تقول انها إلى ثلاثين ألف أقرب»(3).
نعم إن فضائله (علیه السلام) اكثر من أن تحصى ومن أن يعرفها أحد، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك حق
ص: 150
..............................
معرفتك غير الله وغيري»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «جعل الله لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى»(2).
وفي حديث آخر: «لا تحصى عددها كثرة»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي بن أبي طالب (علیه السلام): «لا يتقدمك بعدي إلا كافر ولا يتخلف عنكبعدي إلا كافر وإن أهل السماوات السبع يسمونك أمير المؤمنين بأمر الله تعالى»(4).
مسألة: يحرم إلقاء النفس في التهلكة، ولكن ليس من مصاديقه: التضحية بالنفس في سبيل الله، فهي خارجة موضوعاً عن التهلكة كما لا يخفى(5)، فليس قذف (صلی الله علیه و آله) أخاه في لهواتها خارجاً بالتخصيص بل بالتخصص.
قال تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»(6).
وقال الإمام الرضا (علیه السلام) عندما فرض عليه قبول ولاية العهد: «اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة وقد أشرفت من قبل عبد الله المأمون على
ص: 151
..............................
القتل متى لم أقبل ولاية عهده وقدأكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال إذ قبل كل واحد منهما الولاية لطاغية زمانه، اللهم لا عهد لي إلا عهدك، ولاولاية لي إلا من قبلك، فوفقني لاقامة دينك وإحياء سنة نبيك، فانك أنت المولى والنصير، نعم المولى أنت ونعيم النصير»(1).
وفي تفسير العياشي عن حذيفة قال: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» : «هذا في التقية»(2).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي انك ستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك، فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، فقاتل من خالفك بمن وافقك فإن لم تجد أعواناً فاصبر واكفف يدك ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى ولك بهارون أسوة حسنة، إنه قال لأخيه موسى «إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني»(3) »(4).
وعن أسلم قال: «غزونا نهاوند أوقال غيرها، واصطفينا والعدو صفين لم أر أطول منهما ولا أعرض، والروم قد الصقوا ظهورهم بحائط مدينتهم، فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: لا إله إلا الله، ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما تؤولون هذه الآية على أن حمل هذا الرجل يلتمس الشهادة، وليس كذلك، إنما نزلت هذه الآية فينا، لأنا كنا قد
ص: 152
..............................
اشتغلنا بنصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركنا أهالينا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلح ما فسد منها فقد ضاعت بتشاغلنا عنها فانزل الله إنكارا لما وقع في نفوسنا من التخلف عن نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لإصلاح أموالنا، «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»(1) معناه إن تخلفتم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة وسخط الله عليكم فهلكتم، وذلك رد علينا فيما قلنا وعزمنا عليه من الإقامة، وتحريض لنا على الغزو وما أنزلت هذه الآية في رجل حمل على العدو ويحرض أصحابه أنيفعلوا كفعله، أو يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة»(2).
هذا وقد ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»: «لا تعدلوا عن ولايتنا فتهلكوا في الدنيا والآخرة»(3).
مسألة: تجب التضحية بالحياة فيما لو توقف حفظ الإسلام عليها كما ضحى الإمام الحسين (علیه السلام) بنفسه وأولاده وأصحابه في يوم عاشوراء، وتفصيل الكلام في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4).
فإن التضحية واجبة بشتى صورها حتى (بالانتحار) فيما لو توقف حفظ الإسلام عليه، وذلك مثل أن يلقي بنفسه في مدخنة سفينة العدو، حيث يوجب
ص: 153
..............................
احتراقه وبالتالي غرق السفينة، بسببإطفاءها، كما حدث مثل ذلك في الحرب العالمية الثانية، وكشد شريط من المتفجرات حول جسده والانبطاح مثلاً أمام دبابات العدو. وتشخيص الصغريات والمصاديق في هذا الباب بيد شورى الفقهاء، وإلا فالفقيه العادل الجامع للشرائط، وإن لم يكن فعدول المؤمنين، وإن لم يكونوا فللمكلف نفسه لو قطع بذلك.
قال تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم»(1).
وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «أفضل ما توسل به المتوسلون: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله» الحديث(2).
وقال (علیه السلام): «الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم»(3).
مسألة: هل اللازم - على الإنسان - في الواجبات الكفائية (كالصناعات والعلوم والتصدي لأعداء الإسلام) التخصص كما هو مقتضى الإتقان أم التنويع والشمولية، كما صنع الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بالنسبة لأمير المؤمنين علي (علیه السلام)
ص: 154
..............................
حيث (كلما … نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة، من المشركين قذف أخاه في لهفاتها) فتأمل؟ وهل الأصل هذا أم ذاك، أم يقال بالتفصيل؟
وجوه، والظاهر إن الأمر يختلف باختلاف الأفراد، قوة وضعفاً، ومن حيث تنوع القابليات والقدرات و… والظروف والحاجات وغيرها.
مسألة: يجب التصدي للفتن بسرعة وقوة كما هو المستفاد من عمله (صلی الله علیه و آله) ومن قولها (علیها السلام): (قذف أخاه…)، ومن البين أن القذف هو الرمي بقوة وشدة، والسرعة تستفاد من السياق (كلما…قذف) ومن مادة (قذف)أيضاً (1).
وهي من مصاديق (المسارعة) الواجبة كتاباً (2) وسنة وعقلا في الجملة، وإن كان بعض مصاديقها مستحبة.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من ارتقب الموت سارع في الخيرات»(3).
وقال (علیه السلام): «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات»(4).
ص: 155
-------------------------------------------
مسألة: لا تجوز التضحية بالأهم مع كفاية المهم، ولذلك كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقذف أخاه في لهواتها، وكان أمير المؤمنين علي (علیه السلام) يبادر لوقاية رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، كما في ليلة المبيت.
وقد روى الفريقان أنه «لما أراد النبي (صلی الله علیه و آله) الهجرة خلف علياً (علیه السلام) لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال: يا علي اتشح ببردي الحضرمي ثم نم على فراشي…
فأوحى الله عزوجل إلى جبرئيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟
فاختار كل منهما الحياة.
فأوحى الله عزوجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبينمحمد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.
فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند قدميه، وجبرئيل يقول (علیه السلام): بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك ملائكته!.
فأنزل عزوجل على رسوله (صلی الله علیه و آله) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن
ص: 156
..............................
أبي طالب (علیه السلام): «ومن الناس من يشري نفسه»(1) الآية»(2).
وكذلك في يوم أحد حيث قال جبرئيل: «يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي (علیه السلام)، قال (صلی الله علیه و آله): لأنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله، ثم قال: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي»(3).
مسألة: يجب على القادر كفائياً، التركيز على مركز الفساد وعين الفتنة وقطب رحى الأعداء، كما صنع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث (قذف أخاه في لهواتها) تركيزا عليها، وقد سبق ما يدل على ذلك.
مسألة: يجب الإيثار والتضحية بكل شيء حتى أحب الأشياء وأعز الأشخاص - فيما لو توقف واجب أهم كحفظ بيضة الإسلام عليه - كما قالت (سلام الله عليها): (قذف أخاه…).
فإن الإنسان يجب عليه أن يضحي بنفسه وبأعز ما لديه حتى ينتصر الحق، وقد قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): - كما في نهج البلاغة - (فلما علم الله منا
ص: 157
..............................
الصدق أنزل علينا النصر).(1)
وإنما كان الرسول (صلی الله علیه وآله) لا يباشر الحرب بنفسه محافظة منه على القيادة كما هو واضح، وقذف أخاه في لهواتها رغم انه خليفته، لعدم وجود البديل، وأما في الحروب الثلاثة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنه (علیه السلام) كان يقود الحرب، وكان يقتحم صفوف الأعداء بنفسه أيضاً إما تشجيعاً، وإما لتوقف شحذهم الجيش، وبالتالي الانتصار على نزوله شخصيا لساحة المعركة، أو لاطمئنانه بالغلبة وعدم مقدرتهم على قتله لو أقتحم، فتأمل.
مسائل: يجب انتخاب الأكفاء للمواقع الحساسة ويجب عليهم وجوبا كفائيا القبول، كما صنع (صلی الله علیه و آله) وكما فعل (علیه السلام).
ويحرم فيها تحكيم (الروابط) على (الضوابط).
وأما انتخاب غير الأكفاء للمواقع غير الحساسة فهو بين محرم - كما لو كان فيه إضاعة حق، أو عد تفريطا في الأمانة، أو كان على خلاف مرتكز أو شرط الموكل، أو ما أشبه ذلك - ومكروه.
ولو دار الأمر بين الكفوء والأكفأ في المواقع الحساسة كان من تعددالمطلوب، وربما وجب.
وما ذكرناه من أدلة لزوم شورى الفقهاء، فإن الشورى أكثر كفاءة من
ص: 158
..............................
الفرد كما لا يخفى.
ويحرم أن يتصدى غير الكفوء لمنصب لا يليق به، ولذلك وردت روايات كثيرة في ذم من يتصدى لشؤون المسلمين وفيهم من هو أعلم منه.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أم قوماً وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة»(1).
وفي حديث: «وفيهم من أعلم منه وأفقه»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة»(3).وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا ومن أم قوماً إمامة عمياء وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر»(4).
وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا»(6).
ص: 159
..............................
والإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) قام على المنبر حين اجتمع الناس مع معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلا، وكذب معاوية أنا أولى الناس في كتاب الله عزوجل وعلى لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أقسم بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها والأرض ببركتهاولما طمعت فيها يا معاوية وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما ولت أمة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ملة عبدة العجل وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون ان هارون خليفة موسى (علیه السلام)»(1).
وقال (علیه السلام): «من دعا إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو ضال مكلف»(2).
وروي عن العالم (علیه السلام): «من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضال»(3).
وعن أبي ذر (رحمة الله): «إن إمامك شفيعك إلى الله تعالى فلا تجعل شفيعك إلى الله سفيهاً ولا فاسقا»(4).
ص: 160
..............................
مسألة: يستحب ذكر الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) كلما ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله) كما شفعت (صلوات الله عليها) ذكره (علیه السلام) بذكره (صلی الله علیه و آله).
فقد ذكرت (علیها السلام) الرسول (صلی الله علیه و آله) بصفات جمة كما تقدم، وهكذا ذكرت أمير المؤمنين عليا (عليه الصلاة والسلام) بصفات جمة تعريفا به (عليه الصلاة والسلام) ولإفادة أن علياً (علیه السلام) له من المكانة الرفيعة ما يستحق بها الخلافة والقيادة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل: علي أمير المؤمنين»(1). وعنه (علیه السلام) قال: «الكلم الطيب(2) قول المؤمن: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي اللهوخليفة رسول الله»(3).
وفي الحديث أنه: «كان نقش خاتم آدم (علیه السلام): لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله»(4).
وقال (علیه السلام): «من صاغ خاتماً من عقيق فنقش فيه: محمد نبي الله وعلي ولي الله، وقاه الله ميتة السوء ولم يمت إلا على الفطرة»(5).
ص: 161
..............................
وعن ابن عباس قال حدثنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «لما عرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، والحسن والحسين سبطا رسول الله، وفاطمة الزهراء صفوة الله، وعلى ناكرهم وباغضهم لعنة الله تعالى»(1).
وفي حديث عنه (صلی الله علیه و آله) قال: «أما أبواب الجنة، فعلى الباب الأول مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسولالله، علي ولي الله»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً ما استقر الكرسي والعرش ولا دار الفلك ولا قامت السماوات والأرضون إلا كتب الله عليها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن العبد إذا قال في أول وضوئه أو غسله من الجنابة: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك على خلفيتك، وان أولياءه وأوصياءه خلفاؤك، تحاتت عنه ذنوبه كلها كما يتحات ورق الشجر، وخلق الله بعدد كل قطرة من قطرات وضوئه أو غسله ملكاً يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره ويصلي على محمد وآله الطيبين وثواب ذلك
لهذا المتوضئ» الحديث(4).
ص: 162
..............................
مسألة: ونظراً لهذا الكلي ولروايات عديدة(1) التزمنا تبعا لعدد من الفقهاء(2) باستحباب الشهادة الثالثة (أشهد أن عليا ولي الله) في الأذانوالإقامة بل وجزيتها أيضا(3)، وقد ذهب البعض إلى وجوبها - من باب الشعارية - كما لايخفى.
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إنا أول أهل بيت نوه الله بأسمائنا، إنه لما خلق الله السماوات والأرض أمر منادياً فنادى: أشهد أن لا إله إلا الله ثلاثاً، أشهد أن محمداً رسول الله ثلاثاً، اشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً ثلاثاً»(4).
ص: 163
..............................
قولها (علیها السلام): (قذف أخاه في لهواتها) أي: قذف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخاه عليا (عليه الصلاة والسلام) في فم تلك الحرب، فإن اللهوات جمع (لهات) ولهات عبارة عن: اللحمة في أقصى الفم، فكان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) يغوص في عمق الجيش، يقتلهم ويقاتلهم حتى يبيدهم.
وفي التاريخ أن صعصعة خاطبالخوارج في النهروان وقال: «أولم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا اشتدت الحرب قدمه - أي علياً (علیه السلام) - في لهواتها فيطؤ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بحده، مكدوداً في ذات الله، عنه يعبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمون، فانى تصرفون وأين تذهبون»(1).
والحاصل أنه كلما عرضت مشكلة أو داهية أو حرب بعث الرسول (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين عليا (علیه السلام) لدفعها وعرّض عليا (علیه السلام) للمهالك وكان علي (علیه السلام) مقدماً على ذلك ومبادراً إلى كل ذلك.
والإتيان ب (لهوات) بصيغة الجمع لأن للحرب لهات من اليمين واليسار والخلف والأمام والقلب، ولذا يسمى الجيش بالخميس، لأنه ذو جوانب خمسة، كما كانت العادة في تنظيم الجيوش سابقاً وهي مستمرة إلى الآن وإن تغيرت وسائل الهجوم أو الدفاع من الوسائل البدائية إلى الوسائل المعقدة كالأسلحة النارية ونحوها.
ص: 164
مسألة: ينبغي للإنسان أن لا يتراجع من الأمر حتى يكمله، قال تعالى: ]لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم»(2) وقد يجب ذلك فيما إذا كان مانعا عن النقيض.
وفي الحديث الشريف: «رحم الله امرأ عمل عملا فأتقنه»(3).
فالفم توطأ والقرن يقطع، وهاتان الجملتان إشارة إلى الجملتين السابقتين وقد قدمت (علیها السلام) ما يرجع إلى الجملة الثانية(4)حيث قالت (علیها السلام): هاهنا (حتى يطأ)وأخرت ما يرجع(5) إلى الجملة السابقة حيث قالت هنالك: (أو نجم) من باب اللف والنشر المشوش، وله جمال خاص، كما أنه في عكسه أي في اللف والنشر المرتب جمال من نوع آخر أيضاً.
قولها (علیها السلام): (فلا ينكفئ) أي لا يرجع، من (انكفئ) بالهمزة بمعنى الرجوع، أي أن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) كان لا يرجع منهزماً وخائباً
ص: 165
..............................
وخائفاً كما كان بعض الصحابة كذلك(1)، ولهذه الجملة إطلاقها الأحوالي والأزماني البين كما لا يخفى.
هذا وقد سمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين علياً (علیه السلام): كراراً غير فرار في حديث خيبر وغيره(2)، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه، فدعا بعلي (علیه السلام) فجيء به وكان أرمد، فبصق في عينيه فبرأتا وأعطاه الراية فمضى وكان الفتح»(3).
مسألة: الفتنة وأشباهها قد تكون بنحو الأقل والأكثر الإرتباطيين وقد تكون بنحو الاستقلاليين.
وبإطفائها وإخمادها نهائياً يكون المكلف قد أدى واجبه فيهما.
وبإخمادها في الجملة - في بعض مراحلها أو مراتبها - يكون في الاستقلاليين قد امتثل في الجملة، وفي الإرتباطيين لا يكون ممتثلا أصلاً(4)، ولعلذلك من
ص: 166
..............................
أوجه (حبط الأعمال) أو شبيها به.(1)
وقولها (عليها الصلاة والسلام): (فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه) يشير بإطلاقه إلى أنه (عليه الصلاة والسلام) كان - في كلا القسمين - دائم الامتثال وكامله، فهو لا يرجع ولا يتراجع حتى ينهي المهمة على أكمل وجه و(حتى يطأ جناحها باخمصه).
..............................
يدخل تحت عنوان الإيذاء فمشكل، نظرا لعدم القول بحلية مطلق إيذاء الكافر.
وربما قيل بأن مراتب منه(1) محللة كما في وصفها (علیها السلام) للإمام علي (علیه السلام) هاهنا حيث قالت: (فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه)، ومراتب منه مشكوكة، ومراتب محرمة، فليتأمل. فان الحكم في الحرب وغيره يختلف..
وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن علياً (علیه السلام) صاحب رجلاً ذمياً، فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟
قال: أريد الكوفة. فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه علي (علیه السلام)، فقال الذمي له: أليس زعمتتريد الكوفة.
قال: بلى.
فقال له الذمي: فقد تركت الطريق.
فقال له: قد علمت.
فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟
فقال له علي (علیه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا.
فقال له: هكذا. قال: نعم.
فقال له الذمي: لا جرم انما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة وانما انا أشهدك اني على دينك، فرجع الذمي مع علي (علیه السلام) فلما عرفه أسلم»(2).
ص: 168
..............................
مسألة: هل يستفاد من (فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه) جواز أو رجحان إذلال رؤوس الفتنة وعناصرها (1)؟
ربما يقال باستفادة ذلك عرفا من هذه الجملة مع لحاظ قوله تعالى: «ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه»(2) وما أشبه ذلك.
وبلحاظ أن السيرة وبناء العقلاء على ذلك من باب المقدميّة(3) أو المقابلة بالمثل أو العقوبة أو مطلقا أو لأنه (قد أقدم)(4) فتأمل.
قولها(علیها السلام) حسب بعضالنسخ:(حتى يطأ صماخها بأخمصه)، الصماخ بمعنى ثقبة الأذن كما يعبر بالصماخ عن الأذن نفسها، ومعنى ذلك: أن أمير المؤمنين عليا (عليه الصلاة والسلام) كان يسحق تلك الفتن والحروب برجله، فإن الأخمص عبارة عما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي، وهذا التعبير كناية عن غاية تمكنه من الفتنة وسيطرته عليها وإذلال القائمين بها بحيث لا تقوم لهم قائمة بعدها أبداً.
ص: 169
-------------------------------------------
مسألة: يجب إخماد لهب نيران الحرب كما سبق، وقولها (سلام الله عليها): (ويخمد لهبها بسيفه) يعني: ان أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) كان يخمد لهيب تلك الفتن والحروب بسيفه دفاعاً عن الإسلام.
وأصل اللهيب عبارة عن لهيب النار، فشبهت لهيب الحرب بلهيب النار، وشبهت السيف بالماء الذي يصب على النار فتخمد.
وهذه الجمل السابقة واللاحقة إشارةإلى جهاد أمير المؤمنين (علیه السلام) وبلائه بلاءً حسناً مستمراً في كل القضايا الكبرى التي حولها له الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، فهو الذي يستحق أن يكون خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) دون غيره، إذ انه الذي خرج من كل الامتحانات الكبرى ظافراً منتصرا في أدوار شديدة الأهمية، فرآه الرسول (صلی الله علیه و آله) وحده فقط المؤهل للتصدي لها على مر السنين.
هذا ويمكن القول بأن (حتى يطأ جناحها بأخمصه) إشارة للجانب المعنوي والاعتباري للفتنة، و(يخمد لهبها بسيفه) إشارة للجانب المادي والحسي لها، نظرا لأن للفتنة عوامل مادية محسوسة: من عدة وسلاح ورجال وأموال، وعوامل غير مادية: من تفكير وتخطيط ومؤامرات وإشاعات تهدف إضعاف معنوية جند الإسلام، إلى غير ذلك.
ص: 170
..............................
مسألة: كما يجب تدوين علم الرجال وعلم الحديث وشبههما مما هو مقدمة لتحصيل الأحكام الشرعية، كذلك يجب -وجوباً كفائياً في الجملة - تسجيل وقائع التاريخ وتوثيقها ومدارستها وتعليمها وجرحها وتعديلها، لكون الكثير منها يقع أيضا مقدمة لتحصيل الأحكام (1)، وأكثر من ذلك ما يقع مقدمة ل (الفقه الأكبر)(2) ولمعرفة الحق من الباطل في الأمور العقائدية.
وقد رد في الحديث الشريف عنه (صلی الله علیه و آله): (من ورخ مؤمنا فكأنما أحياه)(3) إذ ]لقد كان في قصصهم عبرة»(4) ولأنها تكشف عن (سنة الله) التي لن تجدلها تبديلا ولا تحويلا(5)..
فالمستقبل هو الوجه الآخر للتاريخ وسيصنع على ضوء ما يعرفه المرء من
ص: 171
..............................
الماضي وعلى حسب كيفية رؤيته له إجمالا (1).
وذلك هو منهج القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) في سرد قصص الأنبياء (علیهم السلام) والأمم السابقة وأحوالهم وما لهم وما عليهم.
وكلماتها (علیها السلام) في هذه الخطبة تعد من أهم المصادر التاريخية التي تكشف جانبا مما جرى يومذاك، وترسم الصورة الدقيقة للوقائع وتضع أدق الأوصاف لأهم الأحداث.
فإذا أردنا وصف مولى الموحدين (علیه السلام) - مثلا- فلا أدقّ من كلماتها في وصفه مما تجد بعضا منها في هذه الصفحات.
وإذا أردنا وصف حال الجاهليينومعاناة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) فلا تجد أروع وأجمل وأعمق من تعابيرها وكلماتها (عليها الصلاة والسلام)، وهكذا وهلم جراً.
فمن اللازم أن يكتب التاريخ على ضوء كلماتها (علیها السلام) ومستمدّا من هديها، ومقتفياً أثرها، وأن تعتبر كلماتها الحكم في أي تعارض بين كلمات المؤرخين، وأن تقيم مدى صدق وصحة التواريخ المكتوبة على ميزان كلماتها (صلوات الله عليها وأزكى السلام) فإنها الصديقة الكبرى.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الصديقة الكبرى ابنتي»(2).
وقال الصادق (علیه السلام): «لفاطمة تسعة أسماء عند الله عزوجل: فاطمة
ص: 172
..............................
والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والرضية والمرضية والمحدثة والزهراء»(1).وفي الحديث عن علي بن جعفر (علیه السلام) عن أخيه أبي الحسن (علیه السلام) قال: «إن فاطمة (علیها السلام) صديقة شهيدة»(2).
وجاء في الزيارة: «السلام على ابنتك الصديقة الطاهرة»(3).
و: «السلام عليك يا بن الصديقة الطاهرة»(4).
و: «وصلِّ على الصديقة الطاهرة الزهراء فاطمة»(5).
و: «السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة»(6).
ص: 173
مسألة: الكد بما هو هو قد لا يكون حسنا ولا قبيحا ولا مما يؤجر عليه الإنسان، بل (الجهة) هي التي تكسبه حسنا أو قبحا، أو وجوبا أو استحبابا أو حرمة أو ما أشبه.
قال تعالى: «لمثل هذا فليعمل العاملون»(2).
وقال سبحانه: «إنما يتقبل الله من المتقين»(3).
وقال تعالى: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا»(4).
وقال عزوجل: «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل منأحدهما ولم يتقبل من الآخر»(5).
و: «إنما الأعمال بالنيات»(6).
ص: 174
..............................
و: «لكل امرئ ما نوى»(1).
و: (لو أن عبداً أتى بالصالحات …)، إلى غير ذلك.
ولعل ذلك من جهات كون (نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل)(2).
ولذلك لم تطلق (سلام الله عليها) (مكدودا) في وصفه (علیه السلام) بل قيدته بها هو كالفصل للجنس حيث قالت: (في ذات الله) وبما هو قوام قيمته ومحبوبيته.
ومن ذلك يعرف أن (الأصل) ليس هو (العمل) بل هو (كيفية العمل)، وقد ورد في الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكمونياتكم) (3).
وقال (علیه السلام): «ان الله خص محمداً بالنبوة واصطفاه بالرسالة وأنبأه الوحي فأنال الناس وأنال، وعندنا أهل البيت معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الأمر، فمن يحبنا ينفعه إيمانه ويتقبل عمله، ومن لا يحبنا لا ينفعه إيمانه ولا يتقبل عمله وان دأب الليل والنهار»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا يقل مع التقوى عمل، وكيف يقل ما يتقبل»(5).
ص: 175
..............................
وقال (علیه السلام): «افترق الناس كل فرقة واستشيعوا كل شيعة فاستشيعتم مع أهل بيت نبيكم، فذهبتم حيث ذهب الله واخترتم ما اختار الله وأحببتم من أحب الله وأردتم من أراد الله، فابشروا ثم ابشروا، فانتم والله المرحومون، المتقبل من محسنكم والمتجاوز عن مسيئكم، من لم يلق الله بمثل ما أنتم عليه لم يتقبلالله منه حسنة ولم يتجاوز عنه سيئة»(1).
وعن أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قلت له بمكة أو بمنى: يا بن رسول الله ما أكثر الحاج! قال: ما أقل الحاج، ما يغفر الله إلا لك ولأصحابك ولا يتقبل إلا منك ومن أصحابك»(2).
وقال ابن عباس: «يا رسول الله، ان توصيني بشيء، قال: يا ابن عباس، اعلم أن الله عزوجل لا يتقبل من أحد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب، وهو أعلم بذلك، فإن كان من أهل ولايته قبل عمله على ما كان فيه…»(3). وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «امح الشر من قلبك تتزك نفسك ويتقبل عملك»(4).
وقال (علیه السلام): «إنك لن يتقبل من عملك إلا ما أخلصت فيه ولم تشبه بالهوى وأسباب الدنيا»(5).
ص: 176
..............................
مسألة: يستحب الكدّ في ذات الله سبحانه.
ومعنى (في ذات الله) أن يكون لأجل الله عزوجل وحده خالصا مخلصا له، لايشوبه رياء ولا سمعة ولا شك ولا شرك ولا ما أشبه ذلك، ف (مكدودا في ذات الله) في قبال الكسالى وفي قبال العاملين الذين لا يكدون، وفي قبال من يكد لكنه ليس لذات الله وحده.
وقد ورد في الزيارة: «وصبرت في ذات الله»(1).
وقال (علیه السلام): «ولعمري ما الإمام إلا الحاكم القائم بالقسط الدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله»(2).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما ابتلى المؤمن بشيء أشد من المواساة في ذات الله عزوجل والإنصاف من نفسه وذكرالله كثيراً»(3).
ولا يخفى أن كلمة (في) بمعنى النسبة في أمثال هذه المقامات، كما قالوا: (الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية) وتتصور الظرفية أيضا بلحاظ التنزيل.
ص: 177
..............................
مسألة: وجه الاستدلال فيما وصفته (صلوات الله عليها) من الصفات على كون أمير المؤمنين علي (علیه السلام) هو الأحق بالخلافة:
1: بلحاظ مجموع هذه الصفات من حيث المجموع.
2: بلحاظ كل واحدة واحدة من الصفات من حيث مرتبتها التشكيكية - بلحاظ الإطلاق والسياق والقرينة المقامية- .
3: بلحاظ انتخاب الرسول (صلی الله علیه و آله) له (علیه السلام) في بعض تلك الصفات من حيث كاشفيته عن الأصلح أو عن الانحصار فيه، في مراتب لا تصل بأهمية الخلافة فكيف بالأرقى وهو الخلاقة، أي فيما لا يرقى الى درجة الخلافة في الخطورة والاهمية.
قولها (علیها السلام): (مكدوداً) أي: أن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) كان يكد نفسه ويتعبها غاية التعب.
(في ذات الله) أي في أمر الله وما يرتبطبه جل شأنه، وحده مخلصا لا يشرك في ذلك أحدا.
وكان (علیه السلام) لا يريد بذلك مالا ولا جاها ولا امرأة كما كان بعض الصحابة يريدون ذلك، ولهذا سمي أحدهم ب (شهيد الحمار) لما قتل في الحرب مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد كان خروجه لأجل حمار أحد المشركين يريد اقتناءه،
ص: 178
..............................
وسمي الآخر ب (شهيد أم جميل) لأنه كان يريد بحربه أن ينال امرأة جميلة في جيش الأعداء تسمى بأم جميل، وهكذا، فلم يكن أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) يريد شيئا من ذلك أبداً ، وإنما يريد الله وحده وحده، كما ورد في شأنهم (علیهم السلام): «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا»(1).
وربما يقال: إن قولها (علیها السلام): (مكدودا في ذات الله) بإطلاقه الأحوالي والأزماني(2) يشير إلى نفس ما صرح به سيد الموحدين (علیه السلام) حيث قال :(ما عبدتك خوفا من نارك و لا شوقاً إلى جنتك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(3).
ص: 179
-------------------------------------------
مسألة: الأصل في كل صفة تذكر للمعصومين (عليهم الصلاة والسلام): (الأسوة)، فقولها (علیها السلام): (فلا ينكفئ حتى يطأ … ويخمد … مكدوداً في ذات الله … مجتهداً في أمر الله .. الخ) يقتضي لزوم الإتباع في الجملة، ورجحانه مطلقا، وما خرج خرج بالدليل، ومن ذلك يستفاد رجحان الاجتهاد في أمر الله عزوجل.
ثم إن الإتباع في كل بحسبه وعلى درجة تعقله وتحمله، إذ «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(1) و«إلا ما آتها»(2).
ومن هنا قال الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(3) ولهذا المبحث تفصيل نتركه لمجال آخر.ولعل الفرق بين (الكد) و(الاجتهاد) أن الأول عملي والثاني علمي، حيث قالت (سلام الله عليها): (في أمر الله)، لأن أمر الله يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج فتأمل.
ص: 180
..............................
ثم إن الاجتهاد في كلامها (علیها السلام) لا يراد به الاجتهاد المعروف عند الفقهاء - المصطلح عليه بالوضع التعيني لاحقا - فإن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) عالم بكل الأحكام لا عن الاجتهاد ، بل بإلهام من الله تعالى وعطاء من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعبر النكت في القلب والنقر في الأسماع ورؤية عمود النور ، وشبه ذلك مما تجد تفصيله في الأخبار، بل المراد بالاجتهاد بذل غاية الجهد بالنسبة للأحكام الإلهية وأوامره (1).
ويمكن أن يقال في الجملتين، غير هذا الذي ذكرناه، إذ من المحتمل أن يراد ب (مكدودا …) الإشارة إلى ماتوجه نحوه (علیه السلام) من ضغوط ومتاعب وأذى، وب (مجتهدا .. ) ما حمّل نفسه من جهد وعناء في سبيل الله، وهما كاللازم والملزوم(2).
وبعبارة أخرى: فإن (المتنمر في ذات الله) - كما وصف عليه السلام به - يواجه صعوبتين:
الأولى: نابعة من صميم طبيعة الاجتهاد والتنمر كحرمان المرء نفسه من شتى اللذائذ الحسية كالنوم والمأكل والملبس والمركب الفاره وغير ذلك مما يقتضيه الاجتهاد والجهاد.
ص: 181
..............................
والثانية: نابعة من طبيعة رد فعل المجتمع تجاه ذلك المتنمر المجتهد، حيث أنهم يتألبون ضده ويتربصون به الدوائر ويحيكون ضده المؤامرات ويثير فيهم حسدا وكراهية، لكونه يهدد مصالحهم (وما نقموا من أبي الحسن إلاشدة تنمره في ذات الله)(1).
وكما قالوا لولده الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عاشوراء : (نقتلك بغضا منا لأبيك).
فأشارت (علیها السلام) للجهة الأولى بقولها: (مجتهدا في أمر الله)، وللثانية ب: (مكدودا في ذات الله).
مسألة: على القائد أن يكون في كد واجتهاد دائمين، ويدل عليه سيرة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) وسائر أهل البيت (علیهم السلام) كما على سائر المؤمنين أيضاً - وجوبا أو استحبابا - تأسيّا ونظراً لقوله (صلی الله علیه و آله): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).
ولقوله سبحانه: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك» (3) أي يلزم أن يستمر الكدح الذي جهته «إلى ربك»،بناء على كونها جملة خبرية في مقام
ص: 182
..............................
الإنشاء حتى يصل الإنسان إلى دار حقه(1) فيموت، ولغير ذلك، إلا أن الأمر في القائد آكد والحكم له ألزم كما لا يخفى.
والمراد بالكدح في الآيات: الأعم من الكد والاجتهاد، إذ أنهما إذا ذكر كل واحد منهما منفردا شمل كليهما، وإذا ذكرا معا كان لكل معنى في قبال الآخر، ذلك أنهما كالظرف والجار والمجرور: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)(2).
وفي الزيارة: «أشهد أنك أديت عن الله وعن رسوله صادقاً وقلت أميناً ونصحت لله ولرسوله مجتهداً»(3).
والاجتهاد كل ما يكون فيه جهد على النفس ومشقة لها.
وفي الحديث عن النبي (صلی الله علیهو آله) قال:
«من اجتهد من أمتي بترك شهوة من شهوات الدنيا فتركها من مخافة الله آمنه الله من الفزع الأكبر وأدخله الجنة»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):
«من اجهد نفسه في إصلاحها سعد»(5).
وفي الحديث عنه (علیه السلام) قال:
ص: 183
..............................
«خلق الله تعالى ملكاً تحت العرش يسبحه بجميع اللغات المختلفة فإذا كان ليلة الجمعة أمره أن ينزل من السماء إلى الدنيا ويطلع إلى أهل الأرض ويقول: … يا أبناء الأربعين جدوا واجتهدوا» الحديث (1).
وقال (علیه السلام): «اجتهدوا في العمل فان قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي» (2).
وعنهم (علیهم السلام): «جدوا واجتهدوا وان لم تعملوا فلا تعصوا»(3).
ص: 184
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أو يجب - حسب اختلاف الموارد - أن يسعى الإنسان ليكون قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل شؤونه وفي جميع أموره: في الفكر والعمل، والقلب والقالب، في مأكله ومشربه، وملبسه ومنكحه، ويقظته ومنامه وغير ذلك، كما كان أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) كذلك، حيث وصفته السيدة الزهراء (علیها السلام) ههنا بقولها: (قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله))، وهي إحدى أهم فضائله (علیه السلام).
هذا إذا أريد ب(قريباً) معنى القرب العملي، أي قريبا (في أعماله) أو (من حيث العمل) منه (صلی الله علیه و آله)، وأما إذا أريد ب (قريبا): القرب النسبي أي (ذو قرابة) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فهو أيضا بيان لإحدى فضائله (عليه الصلاة والسلام) حيث أن القريب يرث - بالمعنى الأعموالأخص(1) أيضا - قريبه إذا كان مؤهلا(2) للإرث
ص: 185
..............................
ولم يكن ثمة مانع.
وقد ورد في الحديث: (لن تشذ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحمته).
ويمكن أن يراد بكلمة (قريبا): الجامع بين كلا المعنيين فهما مصداقان لذلك الكلّي.
وهل يستحب طلب القرابة النسبية أو السببية؟
يحتمل ذلك، قال (صلی الله علیه و آله): «كل حسب ونسب منقطع يومالقيامة إلا حسبي ونسبي»(1).
ويحتمل أن يراد من قولها (علیها السلام): (قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه كان أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حروبه بل مطلقا.
أو تعني (علیها السلام) - كما سبق - أنه (علیه السلام) من أقرب أقرباء الرسول (صلی الله علیه و آله) لأنه ابن عمه بينما العباس لم يكن كذلك، لأن عليا (علیه السلام) أبوينيّ، والعباس أبي فقط(2) وإذا كان المراد (الجامع) بين المعنيين، كان انحصار القرب فيه (علیه السلام) أجلى وأوضح.
قال تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى»(3).
وعن أبي حمزة عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما
ص: 186
..............................
رجالاً كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا »(1) قال: «قرابة الرسول (صلی الله علیه و آله) وسيدهم أمير المؤمنين (علیه السلام)، أمروا بمودتهم فخالفوا ما أمروا به»(2).
وقد اعترفوا بأن علي بن أبي طالب (علیه السلام) أول الناس في الإسلام سبقاً وأقرب الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) (3).
وفي حديث احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) على أبي بكر بثلاث وأربعين خصلة قال (علیه السلام): «… فأنشدك بالله، أنت الذي سبقت له القرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أم أنا»(4).وعن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «وإن القرابة التي أمر الله بصلتها وعظم من حقها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب الله حقنا على كل مسلم»(5).
ص: 187
مسألة: سبق أن ذكر فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) فضيلة وعبادة، وهي من المستحبات النفسية، وبعض مصاديقه من الواجبات النفسية، فيستحب - وقد يجب - ذكر فضائله مطلقا، فإن ما ذكرته (عليها الصلاة و السلام) إنما هو من باب المصداق لا من باب الحصر أو الخصوصية(2)، كما هو واضح، نعم ما ذكرته كان من المصاديق البارزة جدا في حياته (عليه الصلاة و السلام).
ولا يخفى أن الذكر أعم من اللفظ والكتابة والإشارة وما أشبه ذلك.
و(ولي الله) هو الذي يطيعه ولا يخالفه ويجتهد في امتثال أوامره.
مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام) (سيدا في أولياء الله) أو (سيد أولياء الله) وجوب احترامه (علیه السلام) وتعظيمه والذب عنه واطاعة أوامره، فإن ذلك هو مقتضى (السيادة على الإطلاق)(3) بل مقتضى مطلق (السيادة) - في الجملة -.
ص: 188
..............................
وقد كان (صلوات الله عليه) (سيدا على الإطلاق) واستفادة ذلك على تقدير كون النسخة (سيد أولياء الله) - بناء على قراءته بالنصب - واضحة، أما على تقدير كونها (سيدا في أولياء الله) فالأمر كذلك بلحاظ السياق والمقام(1)، بل بلحاظ الجملة بذاتها إذ تعني كان (علیه السلام) (في أولياء الله سيدهم) كما هو المستفيد عرفا عند إطلاق هذه الجملة كما فيما لو قلت (رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد في أنبياء الله).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي سيد الأوصياء ووصي سيد الأنبياء»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «علي سيد العرب.. والسيد من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا سيد النبيين وعلي سيد الوصيين وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي أنت سيد هذه الأمة بعدي وأنت إمامها وخليفتي
ص: 189
..............................
عليها، من فارقك فارقني يوم القيامة ومن كان معك كان معي يومالقيامة»(1).
وعن سليم عن سلمان قال: «كان الحسين (علیه السلام) على فخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقبله ويقول: أنت السيد، ابن السيد، أبو السادة، أنت الإمام، ابن الإمام، أبو الأئمة، أنت الحجة، ابن الحجة، أبو الحجج، تسعة من صلبك وتاسعهم قائمهم»(2).
وعن أنس بن مالك قال:
«بينما أنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الآن يدخل سيد المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وأولى الناس بالنبيين، إذ طلع علي بن أبي طالب»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين»(4).
ص: 190
..............................
مسألة: ربما يقال: كما أن (يعيد صلاته) إخبار في مقام الإنشاء، كذلك هذه الصفات المذكورة في كلامها (علیها السلام) وصفا للإمام (علیه السلام) تعد إخبارا في مقام الإنشاء، بفارق أن ذلك إنشاء الأمر لمن وقع مخبرا عنه وهذا إنشاء الأمر لغير من وقع مخبرا عنه(1).
وربما يقال: باستفادة ذلك عرفا في كل ما هو أمثال المقام(2)، حيث إن قوام الإنشاء بالمقصد والمبرز، وهما مما يرى العرف تحققهما في أمثال المقام، نظرا للقرائن المقامية، وإلا فمنالممكن القول بأن ذلك من البطون، فتأمل.
ص: 191
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يكون الإنسان مشمّرا دائما لأجل الله سبحانه، وهذا مما يستفاد من كلامها (علیها السلام) كما سبق، ومن الآيات والروايات بالدلالة المطابقية أو الالتزامية أو غيرها كقوله تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم»(1).
وقوله سبحانه: «فاستبقوا الخيرات»(2).
والتشمير: عبارة عن جمع الثياب من الرجلين واليدين كي لا تكن عائقا عن الحركة، وهو كناية عن الاستعداد الدائم للتحرك والانطلاق في مختلف الأبعاد لاجل نصرة دين الله، دون عائق ومانع.
ثم إنه هل يعد من مصاديق التشمير ما جاء في بعض الروايات من (تخففواتلحقوا)(3)؟
الظاهر ذلك، فيشمل إذن كل ما يعوق الإنسان عن الحركة ويسبب أن يكون كما قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل»(4).
ص: 192
..............................
ومن ذلك تملك الدور والعقار أكثر من الاحتياج، وكذلك القصور والرفاهية في العيش وشبه ذلك، ولذلك عاتب الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أحد أصحابه بالبصرة وهو العلاء بن زياد الحارثي لما دخل عليه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: «ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة»(1).
وهكذا المخلصون لله والمجاهدون فيسبيله (مشمّرون أبداً) و(متخففون دائماً).
ويؤمي إليه ما ذكره التاريخ من قصة سلمان وأبي ذر ووقوفهما على الصخرة المحماة.
مسألة: يستحب النصح لله وقد يجب، فان النصح واجب في مقام الوجوب ومستحب في مقام الاستحباب، وهو - في أحد معنييه - عبارة عن التوجيه إلى الخير بكل جد وإخلاص(2).
ص: 193
..............................
وحيث حُذِفَ (المتعلق) منه، فإنه يفيد كلا معنيي النصح، إذ النصح قد يكون للإنسان وقد يكون لأمر الله سبحانه وتعالى(1).فيقال: (نَصحهُ) في الأول، و: (نَصَحَ له) في الثاني - غالبا -، ويمكن استفادة ذلك(2) بضميمة دليل الأسوة.
قال سبحانه: «ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حَرَج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم»(3).
وقال تعالى: «وأنا لكم ناصح أمين»(4).
ف (ناصحا) أي لكم على الاحتمال الأول، أو (ناصحا) أي لله على الاحتمال الثاني.
والنصح لله، أي خلوص النية و العمل له وخلوها من كل شرك ورياء وسمعة وما أشبه.
والنصح للناس: ارشادهم، وهو مشرب بمعنى الخلوص، أي إرشادهم إرشادا غير مشوب بمصلحة أو غش أو خداع، أي إرشادهم خالصا مخلصا وبقصد الهداية لا غير.
ص: 194
..............................
قولها (علیها السلام): (مشمرا ناصحا) أي أن أمير المؤمنين عليا (عليه الصلاة والسلام) كان مشمرا ثيابه دائما في سبيل تقديم الإسلام إلى الأمام، والمراد به الجد والاهتمام والمضي والنفوذ، وكان مع ذلك ناصحا وليس ككثير من الناس حيث يجدون ويكدحون لكنهم لا يريدون النصح(1)وإنما يريدون لأنفسهم جاهاً ومالاً و عزةً ورفاهاً وما أشبه ذلك، أو أنهم يجدّون ويكدحون لكن يمزجون ذلك بالغش والخداع، فالتشمير هو المظهر والنصح هو المخبر، وذاك فعل وهذا (2) صفة، وهذا واضح على المعنى الثاني للنصح(3)ومتضمنٌّ في المعنى الاول(4).
قال (علیه السلام): «ثلاثة لا يعذر المرء فيها: مشاورة ناصح ومداراة حاسد والتحبب إلى الناس»(5).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«اقبلوا نصيحة ناصح متيقظ وقفوا عندما أفادكم من التعليم»(6).
وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش، وستردون إلى الله جميعاً فتعلمون»(7).
ص: 195
..............................
وقال (علیه السلام): «فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الموعظة نصيحة شافية»(2).
وقال (علیه السلام): «من أعرض عن نصيحة الناصح أحرق بمكيدة الكاشح»(3).
وقال (علیه السلام): «اتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله»(4).
وقال (علیه السلام): « ألا إن الفضائل عشرة: صدق الحديث، وصدقالمودة، ونصيحة الناس…» الحديث(5).
وقال (علیه السلام): «وحق الناصح أن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك…»(6).
وفي الزيارة: «السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن بن علي الولي الناصح»(7).
وفي زيارة الإمام الحجة (علیه السلام): «اللهم صل على حجتك في أرضك… المرتقب الخائف والولي الناصح…»(8).
ص: 196
..............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك العاقل الناصح فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل والمحدثالذي لا يكذب»(2).
وقال (علیه السلام): «ليكن أحب الناس إليك المشفق الناصح»(3).
وقال (علیه السلام): «لا شفيق كالودود الناصح»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «عليك بعلي (علیه السلام) فإنه الهادي المهدي الناصح لأمتي، المحيي لسنتي وهو إمامكم بعدي»(5).
ص: 197
-------------------------------------------
الجد والكدح(1)
مسألة: يستحب التأكيد على الجدّ والكدح، وبيانها (علیها السلام) المطلب بعبارات قد يترائى أنها مترادفة للأهمية، ولكن: لا يخفى الفرق بين الجدّ والاجتهاد والكدّ والكدح، كما يعرف ذلك المتأمل في فقه اللغة، وكما هو شأن لغة العرب حيث إن اللفظ يتضمن دلالة لا توجد في اللفظ المشابه له وإن عبّر عنه بالمرادف.
وقد ألمعنا في (الأصول) إلى أنه لا يوجد (ترادف) حقيقي في لغة العرب، فالأسد يطلق عليه: الأسد والهزبر والليث والضرغام وغير ذلك، كل واحد منها بلحاظ حالة من حالاته أو جهة من جهاته، وهكذا وهلمّ جرّا.
قولها (علیها السلام): (مجدّاً كادحاً) أي أن عليا أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان مجدّاً في أمر الله تعالى، في جهاده وحروبه وعبادته وسائر شؤونه كلها.و(كادحاً): الكدح أشدّ التعب(2)، قال سبحانه: «يا أيها الإنسان إنك
ص: 198
..............................
كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»(1).
يعني: إن الإنسان في أشد التعب و النصب إلى أن يلاقي ربه.
وفي الخطبة الشقشقية:
«ويكدح فيها قلب المؤمن حتى يلقى به»(2).
وعلي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان هكذا، غير أن الفرق أن الإنسان:
تارة: تحيط به المشاكل والهمومويقع في تعب ونصب بدون اختياره(3).
وتارة: يكدُّ ويكدح ويبذل قصارى جهده ويحمّل نفسه قصوى طاقاتها بملأ اختياره، وذلك في سبيل الله عزوجل.
وثالثة: يكون ذلك كله، لكن لأجل لذة عابرة أو هوى متبع.
والآية الشريفة تشمل الأقسام الثلاثة تفسيرا، و القسم الثاني بلحاظ (إلى ربك)(4) أو أنه أجلى المصاديق وأكملها.
وفي أدعية شهر رمضان: «وارزقنا في هذا الشهر الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط..»(5).
ص: 199
..............................
وفي دعاء كميل: «وهب لي الجد في خشيتك»(1).
وقال (علیه السلام): «لا يدرك الحق إلا بالصدق والجد»(2).وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي وأصابه ذو الاجتهاد والجد»(3).
وقال (علیه السلام): «المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد»(4).
وقال (علیه السلام): «طاعة الله لا يحوزها إلا من بذل الجد واستفرغ الجهد»(5).
وقال (علیه السلام): «ان كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللهو وألزموا الاجتهاد والجد»(6).
وقال (علیه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(7).
وقال (علیه السلام): «اللهو يفسد عزائم الجد»(8).
ص: 200
-------------------------------------------
مسألة: هل يستفاد من كلامها (علیها السلام) أن الرفاهية والدعة والفكاهة والأمن مذمومة بما هي هي؟
الظاهر:لا، إذ من الواضح أن الذم لهذه الصفات بالعرض لا بالذات كما يفيده منحى الكلام ومصبه وسياقه، إذ أن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) كان (مكدوداً.. مجتهداً.. مشمّرا…) والحال كنتم (أنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون) فكون الجملة حالية، ولحوقها ب (تتربصون بنا الدوائر) خير شاهد على ذلك.
وبعبارة أخرى:
الإشكال على القوم هو: أنكم مع كون الإسلام في خطر رهيب، والرسول (صلی الله علیه و آله) في صراع مرير، وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) في مواجهة صعبة، لكنكم كنتم تعيشون وادعين فاكهين آمنين!
بل الأدلة العامة والخاصة تدل على مطلوبية الأمن، وعدم كراهة الرفاهية والدعة - ولو في الجملة - قال تعالى:«فليعبدوا ربّ هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»(1).
ص: 201
..............................
وقال سبحانه: «وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً»(1).
وقال عز وجل: «قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق»(2).
مسألتان: كما يذم العقلاء ويحكم العقل بقبح أن يعيش الأب في راحة ودعة وهناء وأبناؤه في خوف وقلق ومشاكل وهو لا يمد لهم يد العون ولا يشاركهم جشوبة العيش، كذلك العكس، فإنه أيضاً قبيح ومذموم.
وكما يكره(3) - عقلاً وعرفاً - أن يعيش القائد في بحبوحة من العيش وشعبه يتضور جوعا، أو يعيش آمناوشعبه وجِل خائف، كذلك العكس بأن يلقي الشعب كل العبء على كاهل الدولة أو القائد، لينصرف إلى حياته اليومية وملذاته الجسدية.
وربما كان ذلك بين محرّم و مكروه.
يقول الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(4).
ص: 202
..............................
وكلامها (صلوات الله عليها) إشارة إلى الصورة الثانية كما لا يخفى.
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في حث قومه على المسير إلى الشام لقتال معاوية:
«اتقوا الله عباد الله وأطيعوه وأطيعوا إمامكم فان الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وان الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصباً لما في يديه من حقي، ناكثاً لبيعتي، طاغياً في دين الله عزوجل وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس فجئتموني راغبين إلي في أمركم حتى استخرجتموني من منزليلتبايعوني… فبسطت لكم يدي يا معشر المسلمين وفيكم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان فأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق لتقرن لي ولتسمعن لأمري ولتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كل باغ علي أو مارق إن مرق… فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث وأصحابه القاسطين الناكثين واسمعوا ما أتلوا عليكم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل لتتعظوا فإنه والله أبلغ عظة لكم فانتفعوا بموعظة الله وازدجروا عن معاصي الله فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه (صلی الله علیه و آله) «ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين»(1) اتقوا الله عباد الله
ص: 203
..............................
وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم، فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كثير منكم»(1).
ومن كلامه (علیه السلام) ما اشتمل على التوبيخ لأصحابه على تثاقلهم عن قتال معاوية: «أيها الناس اني استنفرتكم لجهاد هؤلاء فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا شهوداً بالغيب، أتلو عليكم الحكمة فتعرضون عنها وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها… وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا تضربون الأمثال وتنشدون الأشعار وتجسسون الأخبار… ونسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأضاليل، فالعجب كل العجب، وكيف لا أعجب عن اجتماع قوم على باطلهم وتخاذلكم عن حقكم… إمامكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وإمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه»(2).
وبشكل عام فإن عدم مشاطرة الشعبللقائد والدولة همومها وغمومها، قد يكون لنقصٍ في الشعب، وقد يكون لنقص في القائد (كما في الحاكم المستبد الجائر) وقد يكون في الاثنين معاً.
ولا ريب أن كلام السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في خطبتها من الشق الأول
ص: 204
..............................
كما هو أوضح من أن يخفى(1).
ولهذه الأقسام الثلاثة مباحث كثيرة ذكرناها في الفقه (2).
قولها (علیها السلام): (وأنتم في رفاهية من العيش)، إذ الغالب أنهم كانوا لا يعملون عمل أمير المؤمنين علي (عليه
الصلاة والسلام) من الجد والاجتهاد والكدح ونحو ذلك، بل يعيشون عيشةرفاه حقيقي أو نسبي، ولعلّ السيدة الزهراء (علیها السلام) كانت تقصد أولئك الذين سيطروا على الأمور وقد كان همّهم لذّات الحياة ورفاهية العيش.
وإلا فلا شك أن كثيرا من المسلمين أيضا كانوا يجتهدون ويجاهدون، وإن كانت النسبة بين جهادهم وجهودهم وجهاد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وجهوده كنسبة الثرى إلى الثريّا بل أكثر، وكأن كلامها تعريض بهم في قبال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).
فهل يصلح للخلافة من كان (في رفاهية من العيش فكهاً آمناً وادعاً) وهو يرى الأخطار تحيط بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) عن كل حدب و صوب.
وهل يصلح لرعاية الأمة ودرء الأخطاء عنها من كان في حياة الرسول (صلی الله علیه و آله) كذلك؟
ص: 205
..............................
أو ليس الأمر متعينا في الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وهو الوحيد الذي انطبقت عليه تلك الصفات وفي أعلى الدرجات.
قال تعالى: «فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا فيالحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون»(1). وقال سبحانه: «وإذا أُنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين»(2). وقال عز وجل: «لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة…»(3).
قولها (علیها السلام): (وادعون فاكهون)، أي: هم في دعة وفراغ بال فيتفكهون بالأحاديث وبأنواع الأطعمة وغيرها.
(آمنون) من الخطر والخوف، لأن الذي لا يحارب الأعداء يأمن منهم عادة، فإذا غَلَبه المسلمون فهم مع الغالبين، وإذا غُلِبَ المسلمون فالأعداء قد لايضرونهم لأنهم لم يكونوا من المحاربين(4) وحتى لو اشتركوا في الحروب فإن مشاركتهم هامشية ولم تكن عن جد وواقعية، بل كانت لبعضهم صداقات مع الكفار وعلاقات أو عهود ومواثيق كما هو مذكور فيالتواريخ.
ص: 206
-------------------------------------------
مسألة: الواجب على القائد أن لا يصدّه عن العمل بالحق لوم اللائمين، فلا تأخذه في الله لومة لائم، كما ورد بالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) وجدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله).
فإنه إذا كان على العكس من ذلك انحرف عن الطريق، وكل انحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى ولو بمقدار شعرة يجرّ إلى مشاكل دنيوية قبل المشاكل الأخروية، فان الله عزوجل جعل قوانينه في التشريع مثل قوانينه في التكوين، فكما أن كل انحراف عن قوانين الله التكوينية يوجب عطبا وخبالا ويجر إلى مآسي وويلات، كل بقدره، كذلك كل انحراف عن القوانين التشريعية يوجب ذلك، حتى وإن لم يظهر أثره فوراً، فإن الأعمال كالبذور والنوى تظهر نتائجها بعد مدّة قريبة أو بعيدة.
قال تعالى: «يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه منيشاء والله واسع عليم»(1).
وعن محمد بن أبي عمير قال: «ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم طول صحبتي له شيئاً أحسن من هذا الكلام في عصمة الإمام (علیه السلام)…
ص: 207
..............................
- إلى أن قال: - فإن الله عزوجل قد فرض عليه (أي على الإمام) إقامة الحدود وأن لا تأخذه في الله لومة لائم»(1).
وعن أبي ذر (رحمة الله) قال: «أوصاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبع… وأوصاني أن لاأخاف في الله لومة لائم»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «لا تخف في الله لومة لائم»(3).
وقال علي (علیه السلام) في وصيته لابنيه الحسن والحسين (علیهما السلام): «أوصيكما بتقوى الله… ولا تأخذكما في اللهلومة لائم»(4).
ثم إنه على القائد أن يجعل رضى الله هو المقياس لا كلام الناس وتقييمهم ولومهم وعتابهم، وعليه أن يكون أقوى من (الملامة) لا مستسلما لها.
قال تعالى: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير»(5).
وقال سبحانه: «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد»(6).
ص: 208
..............................
وقال تعالى: «أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير»(1).
وقال سبحانه: «ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبطأعمالهم»(2).
وعن الإمام الصادق عن أبيه عن جده (علیهم السلام) قال: «ان رجلاً من أهل الكوفة كتب إلى أبي الحسين بن علي (علیه السلام) يا سيدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب (علیه السلام):
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فان من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من طلب رضى مخلوق بسخط الخالق، سلط الله عزوجل عليه ذلك المخلوق»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما أعظم وزر من طلب رضى المخلوقين بسخط الخالق»(5).
ص: 209
..............................
وقال (علیه السلام): «من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق»(1).وقال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): «إن من اليقين ألا ترضوا الناس بسخط الله عزوجل»(2).
وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله» (3).
وإطلاق كلامها (علیها السلام) يشمل الملامة على الالتزام بالواجبات (كالجهاد والعدل وإنصاف الناس من النفس) وترك المحرمات (كموادة من حارب الله، ومداهنتهم، والرشوة و..).
ثم إن الملامة قد توجه للإنسان لالتزامه بمكارم الأخلاق، كسعة الصدر، والإغضاء عن السيئة، والعفو عند المقدرة، والإيثار، وانهاك البدن في طاعة الله، وفي قضاء حوائج الناس و.. كما لا يخفى.
والقائد - بل مطلق المؤمن - عليه أن لا يصدّه عن كل ذلك لوم اللائمين وعتابهم، فإن إحراز رضى الخالق جل وعلا أولى من إحراز رضى المخلوق، ولوم العاجلة أهون من لوم الآخرة.
ولقد عدّت السيدة الزهراء (علیهاالسلام) هذه الصفة في طليعة السمات البارزة للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، لأنه كان الذي لا تأخذه في الله لومة لائم بشكل
ص: 210
..............................
مطلق، وفي كل الازمنة، وبالنسبة لمختلف الأفراد، وفي مختلف الحالات، وفي مؤازرته للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في أشد الظروف، في مكة و المدينة، وفي تعامله مع أخيه عقيل (علیه السلام) ومساواته في العطاء.
وفي قوله (علیه السلام) : «أنا فقئت عين الفتنة وما كان أحد ليجترئ عليها غيري»(1) و.. و.. أكبر شاهد ودليل.
والجدير بالذكر أن الذي يسبب (أن لا تأخذ الإنسان في الله لومة لائم) هو: الإيمان والشجاعة والإخلاص لله، وكلما كانت درجتها أشد كان أقرب إلى المطلق في عدم الاعتناء بالملامة، وقد كانت القمة في الإمام (علیه السلام).
ص: 211
-------------------------------------------
مسألة: تربص الدوائر بالمؤمن - فكيف بأهل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) - محرّم إن اقترن بالفعل الخارجي، وإن اقتصر على الحالة النفسية، فان استلزم سلب الإيمان والاعتقاد، كان حراماً طريقيا بالنسبة إلى غير المعصومين (علیهم السلام)، ومحرم نفسي بالنسبة لهم (علیهم السلام).
وقد يقال: بحرمة مطلق تربص دائرة السوء بالنسبة لمطلق المؤمنين، بل سيأتي إن (الرضى) بظلم المؤمن حرام فكيف بتربص ذلك به.
من الواضح أن خطابها (علیها السلام) في هذه الجملة وأشباهها موجّه إلى جماعة من الصحابة لا إلى جميعهم لوجود بعضهم المخلصين في أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) وكأنها ذكرت هذا الجمل تمهيدا لما تريد أن تقوله من انفضاضهم عن أهل البيت (علیهم السلام) بعد ذلك وغصبهم الخلافة والسلطة وفدكوغير ذلك.
فعن أبي جعفر (علیه السلام) قال في تفسير قوله تعالى: «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور»(1).
ص: 212
..............................
قال: «أما انها نزلت فينا وفي شيعتنا وفي الكفار، أما انه إذا كان يوم القيامة وحبس الخلائق في طريق المحشر ضرب الله سوراً من ظلمة فيه باب باطنه فيه الرحمة يعني النور، وظاهره من قبله العذاب، يعني الظلمة، فيصيرنا الله وشيعتنا في باطن السور الذي فيه الرحمة والنور ويصير عدونا والكفار في ظاهر السور الذي فيه الظلمة، فيناديكم عدونا وعدوكم من الباب الذي في السور من ظاهره: ألم نكن معكم في الدنيا، نبينا ونبيكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجنا وحجكم واحد، قال: فيناديهم الملك من عند الله: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم بعد نبيكم ثمتوليتم وتركتم اتباع من أمركم به نبيكم وتربصتم به الدوائر وارتبتم فيما قال فيه نبيكم وغرتكم الأماني…»(1).
قولها (علیها السلام): (تتربصون بنا الدوائر) التربص: بمعنى الانتظار(2).
والدوائر عبارة عن صروف الزمان وحوادث الأيام والشدائد، لأن الزمان له حالة دورانية أخذاً من دوران الفلك(3).
والتاريخ أيضا له حالة دورانية ولو في الجملة(4).
ص: 213
..............................
أي: كنتم تنتظرون نزول البلاء علينا وزوال النعمة عنّا، وأن ينتصرالكفار وينهزم المسلمون، لأن كثيرا منهم كانوا كذلك حقدا على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) وحسداً، أو لأن ثقل الجهاد - بما يستلزم من تضحيات وهجرة وقلق وخوف وعدم استقرار نفسي واقتصادي و.. - يؤذيهم.
وهكذا حال كثير من المجاهدين على مرّ العصور حيث إنهم في الظاهر يجاهدون، ولكنهم في الباطن يريدون التخلص من الجهاد وتبعاته، كيما يرجعوا إلى حالتهم العادية ويعيشوا هادئين مطمئنين في بلدهم وفي أحضان أسرتهم.
ص: 214
مسائل: هنالك ثلاثة عناوين: التجسس و التحسس وتوكف الأخبار.
فالتجسس على الرعية - من قبل الدولة - حرام.
وتجسس المؤمن على المؤمن حرام.
نعم يجوز التجسس على الكفار الحربيين لأجل صدّ تعديهم وبغيهم، كما يجوز التجسس على المسؤولين من قبل الدولة كي لا يظلموا الرعية كذلك(2).
قال تعالى: «ولا تجسسوا»(3).
وقال في كشف الريبة: «ومعنى التجسس أن لا تترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف لك ما لو كان مستوراً عنك كاناسلم لقلبك ودينك»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر من آمن بلسانه ولم يصل الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المؤمنين ولا تذموا المسلمين، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عوراته، ومن تتبع الله عوراته، فضحه في
ص: 215
..............................
جوف بيته»(1).
أما التحسس بشكل مطلق(2)، فقد يكون راجحاً كما هو في قوله تعالى عن لسان يعقوب (علیه السلام): «يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه»(3).
وأما توكف الأخبار، والمراد به في أشباه المقام: انتظار وتوقع الأخبار السلبية ضد المؤمنين، فإنه مذموم وقد يكون حراماً كما لا يخفى، وفي غير أشباه المقام جائز بالمعنى الأعم.
ولو اقترن التوكف والتوقع والترصدللأخبار السلبية ضد المؤمنين بما يقترن به عادة، من العمل بمجرد سمع الخبر على إشاعته ونشره، مما يسبب ضعف جبهة المؤمنين وإضعاف معنوياتهم والشد من أزر الكافرين والأعداء، فإنه بهذه الجهة محرم.
قولها (علیها السلام): (وتتوكفون الأخبار) التوكف عبارة عن التوقع، و المراد: انهم كانوا يجلسون في بيوتهم(4)ويتوقعون وصول أنباء وأخبار المحن والفتن والمصائب على النبي وآل النبي (صلوات الله عليهم أجمعين) والمؤمنين المخلصين، كما تشير إلى ذلك جملة من آيات سورة التوبة(5) والسور الأخرى أيضاً، والتواريخ
ص: 216
..............................
مليئة بالقصص والشواهد على ذلك.
وكلامها (علیها السلام) يكشف عن انهم كانوا بعيدين عن التصديوالانسياق مع حركة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعن العمل والجهاد والاجتهاد بل كانوا بمعزل عن كل ذلك، وهم - إلى جوار كل ذلك - (يتوكفون الأخبار) وينتظرون ويتوقعون ويتصيدون الأخبار السلبية.
والجدير بالذكر أن سورة التوبة هي من تلك السور السياسية التي تبين نوعاً ما، ما عاناه الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) والمخلصون من أيدي ضعفاء الإيمان ومن أيدي المنافقين.
ص: 217
-------------------------------------------
مسألة: يحرم النكوص عند النزال، وقد كان كثير من ضعفاء الإيمان والمنافقين يتثاقلون عن الجهاد ويتراجعون عن الحرب.
قولها (علیها السلام): (وتنكصون عند النزال) أي تحجمون عن الإقدام في الحروب، ونكص بمعنى أحجم.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا لقيتم عدوكم في الحرب فاقلوا الكلام واكثروا ذكر الله عزوجل ولا تولوهم الأدبار فتسخطوا الله ربكم وتستوجبوا غضبه»(1).
وقال (علیه السلام): «أيها الناس إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء القوم فلم تنفروا… نسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأباطيل»(2).
وقال (علیه السلام): «معالجةالنزال تظهر شجاعة الأبطال»(3).
و(النزال) المصطلح من باب المصداق، إذ إن كل نكوص وتراجع وإحجام عن أي (نزال) بين جبهة الحق وجبهة الباطل في أي بعد من الأبعاد السياسية
ص: 218
..............................
والثقافية وما أشبه - كالعسكرية - مذموم ومحرم فيما إذا لم يقم به من فيه الكفاية، في غير ما يعلم عدم حرمته ولو من باب العنوان والمحصّل، فليدقق.
قال تعالى: «قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون»(1).
مسألة: استنادا إلى قولها (علیها السلام) وفعلها، وكلاهما حجة، يجوز - بالمعنى الأعم - للمعارضة فضح الأكثرية أو شبهها فيما إذا جارت في الحكم أو عدلت عن الصواب، كما يجوز فضح المتصدين للحكومة والرئاسة، بذكر دوافعهم الحقيقية للقرار المتّخذ، والتنويه إلى مواقفهم وضلالاتهمالماضية، باعتبار أنها تكشف مخططهم الحالي والمستقبلي.
بل بما هي هي، كي لا يتخذوا أسوة و قدوة - وهي على هذين من طرق النهي عن المنكر-.
بل لمجرد أن يتحقق تميز الحق من الباطل، والخبيث من الصالح كما قال عزوجل: «ليميز الله الخبيث من الطيب»(2).
أو لمجرد التظلم حيث قال تعالى: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم»(3).
ص: 219
..............................
ويجوز - بالمعنى الأعم - (فضحهم) عبر شتى وسائل الإعلام من الصحف والجرائد والراديو والتلفزيون وعلى رؤوس الأشهاد.
ولذلك نجدها (عليها الصلاة والسلام) تستعرض مواقفهم السابقة، وحالاتهم الماضية وأسلوبهم على رؤوس الأشهاد والى يوم القيامة: (وانتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال..).وكما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم واكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وناهبوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام وتحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات وترفع لكم بها الدرجات في الآخرة»(1).
وقد قال (علیه السلام): «لا ينتصر المظلوم بلا ناصر»(2).
ص: 220
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الفرار من القتال، فإن الفرار من الزحف من أشد الكبائر ومن الموبقات كما ورد في مستفيض الروايات.
وذلك غير الفرار لأجل إقامة الحق، أما فيه فقد يكون واجباً - على ما سيأتي - كما قال سبحانه وتعالى بالنسبة إلى موسى (عليه الصلاة والسلام): «ففررت منكم لمّا خفتكم»(1).
وكما في فرار الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من محاولة اغتياله ليلة المبيت وهجرته إلى المدينة، قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ولي بمحمد (صلی الله علیه و آله) أسوة حين فر من قومه ولحق بالغار من خوفهم وأنامني على فراشه…»(2).
وقال (علیه السلام): «الفرار فيوقته ظفر»(3).
وقال (علیه السلام): «فروا كل الفرار من اللئيم الأحمق»(4).
وقال (علیه السلام): «فروا كل الفرار من الفاجر الفاسق»(5).
ص: 221
..............................
وقال (علیه السلام): «الفرار في أوانه يعدل الظفر في زمانه»(1).
وكما في قول الشاعر:
(خرج الحسين من المدينة خائفا كخروج موسى خائفا يترقب)
فالفرار قد يكون من الزحف وهو حرام «إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الكبائر سبع فينا نزلت ومنا استحلت فأولها الشرك بالله العظيم وقتل النفس التي حرم الله قتلها وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين وقذف المحصنةوالفرار من الزحف وإنكار حقنا…» الحديث (3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الفرار أحد الذلين»(4). وقال (علیه السلام): «استحيوا من الفرار فانه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب»(5).
وقال الأشتر في حرب صفين: «فإن الفرار من الزحف فيه سلب العز والغلبة على الفيء وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة»(6).
وقد يكون الفرار في غيره، كما في التآمر على المصلح لقتله غدرا وغيلة فيجب عليه هنا الفرار.
ص: 222
..............................
والجامع أن (الفرار) قد يكون خوفا وجبنا، وقد يكون حكمة ومصلحة، فإن انسحاب أي قائد من المعركة إذا رآها غير متكافئة حفاظا على جيشه كي يعد العدة لمعركة أخرى بشرائط افضل، هومن الحكمة و يشمله ملاك «إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة»(1).
مع وضوح أن الآية الكريمة تشير إلى الفارين من المعركة رغم قرار القيادة بالاستمرار فيها، ولا يحق للفرد هنا أن يعلل انسحابه بالمصلحة مع وجود الأمر من القيادة بالمواصلة وإلا لزم الهرج والمرج وغير ذلك من المحاذير وتفصيل البحث في محله(2).
وفي تبكيتها (علیها السلام) المسلمين بفرارهم من القتال - (وهو أسوأ أنواع الفرار إذ كان فرارا من الزحف جبنا، أو لعدم الاعتقاد بها أولا، وكان على خلاف أمر الرسول (صلی الله علیه و آله) الصريح بالاستمرار ثانيا، وكان يشكل خطرا على حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بنفسه ثالثا، وعلى الإسلام ككل رابعا، لذلك كان فرارهم من اعظم الكبائر) - إشارة لطيفة ودقيقة إلى انه كيف يصلحهكذا أناس للخلافة(3)؟ أو لترشيح شخص للخلافة؟ حتى مع قطع النظر عن وجود نص الهي بتعيين الخليفة فرضا؟، ثم كيف يؤمن عليها من كان دأبه التفريط بها؟
قولها (علیها السلام): (وتفرون عند القتال) والفرق بين هذا وبين سابقه:
ص: 223
..............................
أن (النكوص) معناه الرجوع من منتصف الطريق، كما حدث في خيبر، وغزوة ذات السلاسل وغيرهما(1)، والنزال وإن كان يطلق على الحرب توسعا لكنه - دقة - قد يكون مرحلة ما قبل الحرب لان هذا ينزل إلى الميدان وذلك ينزل أيضا (2) فتأمل.
مسألة: يستحب بيان نواقص الفرد والأمة لهدف الإصلاح..، مع حفظ الموازين الإسلامية، سواء كانت نواقص قصورية أو تقصيرية، وقد يجب ذلك لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشادالضال وتنبيه الغافل، كل حسب الموازين الفقهية المذكورة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه.
وفي الصحيفة السجادية: «وامنحني حسن الإرشاد»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا عبيد الدنيا والعاملين لها، إذا كنتم في النهار تبيعون وتشترون، وفي الليل على فروشكم تتقلبون وتنامون، وفيما بين ذلك عن الآخرة تغفلون وبالعمل تسوفون، فمتى تفكرون في الإرشاد، ومتى تقدمون الزاد ومتى تهتمون بأمر المعاد»(4).
وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (علیه السلام): «ثم حق رعيتك بالعلم فان
ص: 224
..............................
الجاهل رعية العالم»(1). ووجوب بيان النقص القصوري - والحيلولة دون تحققه - في بعض أقسامه، إما لانطباق عنوان(المنكر) عليه عرفا ولبا (2)، واما لكونه مما علم من الشرع إرادة عدم تحققه في الخارج، فكما أن الطبيب عليه أن يبين للمريض مرضه وعلاجه، وكما على المريض أن يستجيب، كذلك على كل واحد من المصلحين - بل على الكل ممن اجتمعت فيه الشرائط - أن يبين للناس مرضهم وعلاجهم، وعليهم التقبل والاستجابة لا العناد والمقاطعة.
مسألة: يجوز للقائد أن يعاتب الأمة، وللأمة أيضاً معاتبة القائد، وكذلك عتاب الفرد أو الجماعة كالحزب والجمعية والهيئة وما أشبه ذلك.
والجواز هنا بالمعنى الأعم، من الوجوب والاستحباب، كل في مورده، وإن استلزم ذلك إيذاء بعضهم أو جلهم أو كلهم - مراعياً الموازين الشرعية - ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان وإن استلزما ذلك في الجملة(3).هذا إذا كان العتاب من مصاديقهما، وان لم يكن كذلك فانه جائز إن كان
ص: 225
..............................
مما بنى عليه الطرفان - ولو ارتكازا - كما في كثير من الحقوق التي يسقطها أصحابها من باب التواضع(1) والتقابل، وإن لم يكن كذلك أيضا فلا دليل على حرمته مطلقا إذ لا دليل على حرمة حتى هذه المرتبة من الإيذاء في هكذا موارد، نعم البالغ منه لا يجوز.
ثم (العتاب) قد يكون مستحبا وإن لم يكن من مصاديق الأمر والنهي المستحبين(2) لوقوعه مقدمة وطريقا إلى أشباه ما ذكرته الرواية الشريفة: (العتاب حياة المودة)(3). وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «العتاب مفتاحالمقال والعتاب خير من الحقد»(4). وقد يكون العتاب أو كثرته مكروها، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تكثرن العتاب فانه يورث الضغينة»(5). وقال (علیه السلام): «كثرة العقاب تؤذن بالارتياب»(6). وقال (علیه السلام): «لا تعاتب الجاهل فيمقتك وعاتب العاقل يحبك»(7).
وأما الفرار فهو فرارهم عند القتال كما حصل في (أحد) وكما حصل في (حنين) وفي غيرهما(8).
ص: 226
-------------------------------------------
مسألة: يلزم النظر إلى معادلة الدنيا والآخرة بلحاظ أنها مراحل فيمسار التكامل، فكما أن الدنيا بالنسبة لمرحلة (الكون في الأرحام) مرحلة متقدمة ومسيرة تكاملية،كذلك الآخرة بالنسبة للدنيا (1)قال تعالى: «وإن الدار الآخرة لهي الحَيَوَان»(2). وهذا بالنسبة لأولياء الله الصالحين، فكيف برسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو سيد الخلائق أجمعين.
والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تشير بقولها (اختار الله لنبيه..)(3) إلى حقيقة هامة هي أن قبضه (صلی الله علیه و آله) إلى ربه كان خيرا له، فإنه سير له (صلی الله علیه و آله) إلى ربه، وتكامل، وراحة (فمحمد (صلی الله علیه و آله) من تعبهذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار)(4).
ص: 227
..............................
وإن كان ذلك بالقياس إلى الأمة خسارة وضررا كبيراً.
ففي تعبيرها (علیها السلام) ب (اختار) إلفات إلى هذا الأمر، فقد استخلصه الله لنفسه، واصطفاه لرحمته، وأنقذه من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن سجن المادة إلى عالم الملكوت، ومن أمواج الفتن واثقال الرزايا والمحن إلى فسيح جنانه، وانقذه (منكم) بما أضمرتم وأظهرتم من تخاذل وتواكل وعداء، وبقينا نحن أهل بيته نواجه فيكم كل أحقادكم و ضغائنكم.
وقد أشار القرآن الحكيم إلى حقيقة إيذائهم للرسول (صلی الله علیه و آله) في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: «لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور»(1).
وقوله سبحانه: «ومنهم من يلمزك فيالصدقات»(2).
وقوله تعالى: «ومنهم الذين يؤذون النبي»(3).
وقوله سبحانه: «ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم»(4).
وقوله تعالى: «والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً لمن حارب الله ورسوله»(5).
وقوله عزوجل: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا
ص: 228
..............................
والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا» (1).
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الإحياء والإماتة بيد الله تعالى لا غيره، فان الإماتة والإحياء انما هما باختيار الله سبحانه وتعالى، من غير مدخلية اختيارالإنسان إلا بالنسبة إلى بعض المقدمات في الجملة، واختيارية تلك المقدمات أيضا إنما هي بلطفه سبحانه وجعله كما لا يخفى، وذلك كالاتجار الذي يؤدي إلى سعة الرزق، وكالانتحار المؤدي إلى الهلاك، وكالمقاربة المؤدية إلى تكون الجنين، وغير ذلك. قال تعالى: «والله يحيي ويميت»(2).
وقال سبحانه: «وهو الذي يحيي ويميت»(3).
وقال عزوجل: «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون»(4). وقال تعالى: «لا إله إلا هو، يحيي ويميت، ربكم ورب آبائكم الأولين»(5).
نعم كان اختيار الله سبحانه و تعالى لموت الرسول (صلی الله علیه و آله) برضاه (صلی الله علیه و آله) وإذنه تكريما له، كما ورد في الأحاديث.
ص: 229
مسألة: إطلاق كلامها (علیها السلام) يشمل الأقسام الأربعة للنفاق.
فإن النفاق قد يكون في أصول الدين، وقد يكون في الفروع، اعتقادا(2) أو أداءً (3).
والأول كفر.
والثاني قد يستلزمه(4).
والثالث من المحرمات.
وهناك نفاق رابع بالنسبة للأشخاص(5)فإنه رذيلة خلقية وقد يكون بعض أقسامه حراما.
وقد كان في أصحاب الرسول (صلی الله علیه و آله) منافقون من الأقسام الأربعة.
ومن الأول: ما أشار إليه تعالى بقوله :«إذا جاءك المنافقون قالوا
ص: 230
..............................
نشهد إنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون»(1).
وكأمثال من قال للإمام (علیه السلام): «بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة»(2).
ومن الثاني: ما أشار إليه سبحانه بقوله: «إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قامواكسالى يراءون الناس»(3).
وقوله عزوجل: «وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم إلا انهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون»(4).
وقد اجتمعت هذه الأنواع الأربعة من النفاق في عدد من أعداء الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) واتّصف بعضهم ببعضها فقط، والتفصيل في كتب التاريخ(5).
هذا وقد جعل الله عزوجل الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) علماً بين الإيمان والنفاق وميزاناً لذلك، وجعل حبه (علیه السلام) علامة للإيمان وبغضه علامة للنفاق،
ص: 231
..............................
وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوملأصحابه: معاشر أصحابي إن الله جل جلاله يأمركم بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) والاقتداء به فهو وليكم وإمامكم من بعدي لا تخالفوه فتكفروا ولاتفارقوه فتضلوا، إن الله جل جلاله جعل علياً علماً بين الايمان والنفاق فمن أحبه كان مؤمناً ومن أبغضه كان منافقاً»(1).
مسألة: يحرم إظهار النفاق(2) كما يحرم أصل النفاق، ولهذا قالت (علیها السلام): (ظهر)، فإن بعض الصفات إظهاره حرام دون إبطانه وإضماره كالحسد، وبعض الصفات يحرم إبطانه وإظهاره كالكفر والنفاق والرضا بما يحل بأنبياء الله وأوليائه (علیهم السلام) من المشاكل والمحن.
ولا يخفى أن الرضا هاهنا ليس بنية السوء موضوعاً وحكماً، إذ قد ورد أنّ نيّة السوء لا تكتب، وقد ورد في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام):«ولعن اللهأمة سمعت بذلك فرضيت به»(3).
وقال (علیه السلام): (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)(4).
ص: 232
..............................
ويدل على ذلك(1)جملة من الأحاديث، ذكرنا بعضها في باب التجري.
وقد فصله الشيخ المرتضى (قدس سره) في التقريرات، وكلامها (علیها السلام) هنا يعد أحد الأدلة على حرمة النفاق(2).
لا يقال: إذا اظهر النفاق لم يعد نفاقا.
فإنه يقال: أولا: قد يظهر النفاق لغير من نافقه، كما في قوله تعالى:«وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا انا معكم إنما نحن مسهتزءون»(3).
وثانيا: قد يتجلى النفاق في مصاديق أخرى - رغم تكتمه عليه -(4) كما سيأتي بعد قليل.
وثالثا: الإضافة في قولها (علیها السلام): (حسيكة النفاق) أما بيانية أو لامية.
وعلى الأول: فيجاب أيضا بالظهور بعد الخفاء(5).
ص: 233
وعلى الثاني: لا مانعة جمع بين خفاء النفاق وظهور عداوته.
وهناك روايات عديدة في النفاق وأبوابه وأسبابه:
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):
«أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر: استماع اللهو، والبذاء، وإتيان بابالسلطان، وطلب الصيد»(1)، أي كما كان عادة الملوك.
وفي الدعاء: «اللهم طهر لساني من الكذب وقلبي من النفاق»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الإيمان يبدو في القلب نكتة بيضاء كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض، فإذا استكمل العبد الإيمان ابيضّ القلب كله، وإن النفاق ليبدو في القلب لمعة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «الكذب باب من أبواب النفاق»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إياكم وتخشع النفاق وهو ان يرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع»(5).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «بالكذب يتزين أهل النفاق»(6).
ص: 234
..............................
وقال (علیه السلام): «شر الأخلاق والكذب والنفاق»(1).
وقال (علیه السلام): «الكذب يؤدي إلى النفاق»(2).
وقال (علیه السلام): «النفاق يفسد الإيمان»(3).
وقال (علیه السلام): «إياك والنفاق فان ذا الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله»(4).
وقال (علیه السلام): «النفاق أخو الشرك»(5).
وقال (علیه السلام): «النفاق توأم الكفر»(6).
وقال (علیه السلام): «الخيانة رأسالنفاق»(7).
قولها (علیها السلام): (الحسيكة) هي: الضغينة والعداوة.
وفي بعض النسخ: (حسكة النفاق)، وهو على الاستعارة يعني: إنهم كانوا يضمرون النفاق في زمان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويظهرون النفاق من خلال بعض أعمالهم، مثل النكوص، ومثل الفرار، ومثل ما سجل التاريخ من بعض
ص: 235
..............................
كلماتهم وقد تقدم بعضها، إذ (ما اضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)(1) ، وقال (علیه السلام): «من أستر لأخيه غشاً أظهره الله على صفحات وجهه»(2)..
فلما فارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحياة ظهر نفاقهم وتجلى في مصاديق جديدة كمنع أهل البيت (علیهم السلام) عن خلافة الرسول (صلی الله علیه و آله) والهجوم على بيت فاطمة (علیهاالسلام) وكسر ضلعها وإسقاط جنينها وغصب فدك، وما أشبه ذلك كما جاء في مختلف التواريخ.
وأصل الحسك: الشوك، يقال: حسك السعدان، والواحدة حسكة، ثم استعير للنفاق الكامن في الباطن الذي يسبب وخز الآخرين بالأعمال والأقوال وحتى بالنظرات والإشارات، بل حتى بتموجات الفكر وإشعاعات القلب.
ص: 236
مسائل: يحرم أن يقوم الإنسان بما يؤدي إلى فقدان الدين نضارته وطراوته، ليتحول خَلِقَا باليا(2) وهذا في مرحلة الثبوت.
ويحرم أن يقوم بما يسبب أن يظهر الدين بمظهر الخَلِق البالي الذي لايستطيع حل مشاكل الحياة أو أن يتّهم ب (الرجعية)(3)، وهذا في مرحلةالإثبات.
كما يحرم أن يتهم أحد (الدين) بالرجعية والسّمل أو ان يتهم الدعاة إليه بذلك.
والوجه في قولها (علیها السلام): (سمل جلباب الدين) أن القوم بتنحيتهم من نصبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) خليفة له، وقد كان أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله)، وأقواهم على الحق وأتقاهم وأكثرهم حكمة وعقلا ودراية، كانوا السبب
ص: 237
..............................
في فقدان الدين نضارته وطراوته وتحوله خَلِقا باليا:
ثبوتاً، وذلك بجهل كثير من الأحكام في كل أبعاد الحياة، وبوضع الشيء في غير موضعه - كنصب من لا أهلية له أميرا ووالياً وقاضياً وشبه ذلك.
واثباتا، حيث ظهر بذلك المظهر قديما وحديثا، وحيث اتهم بالكثير منالتهم(1).
ولذلك نرى أن الحق عندما يعود إلى نصابه بظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) يعود الدين على يديه غضاً جديدا..
وإننا وإن لم نقدر على ذلك كما هو المفروض وفي جميع المجالات لكن يجب علينا قدر الاستطاعة قال تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(2). ولعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه.
وقولها (علیها السلام): (سمل جلباب الدين) وإن كان إخبارا عن قضية تاريخية إلا أنه يستنبط منه بدلالة الاقتضاء وغيرها حرمة كل ما يؤدي إلى أن يسمل ثوب الدين..
بل يدل على شدة حرمته حيث اعتبرته (علیها السلام) في عداد تلك الكبائر(3)وعدته إحدى النتائج المؤلمة لإعراضهم عن خليفة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله).
ص: 238
..............................
وسمل جلباب الدين: كناية عن التفرق عن الدين حتى صار كالجلباب الخلق ليست له تلك الطراوة التي كانت في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكذلك في كل زمان و مكان وجماعة.
(وسمل) على وزن نصر، أي صار خلقا، وجلباب الدين: تشبيه بالجلباب الواسع الذي تغطي المرأة به جسمها، فكأن الدين - في أحد محتملات المعنى(1) - كان جلباباً على هؤلاء يغطي عيوبهم ونفاقهم، فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانقلبوا على أعقابهم صار ثوباً خلِقاً وظهر من خلاله ما كانوا ينوونه ويضمرونه من النفاق والشقاق.
ص: 239
مسألة: يحرم(2) أن يكظم الغاوي(3) غيه ويكتم غوايته بقصد التستر والمحافظة على ذاته وغيّه كي تسنح له الفرصة المناسبة فيفسد، أما إذا كان بقصد ضده(4) ولئلا تشيع الفاحشة فلا.
ونطقه وإفصاحه عند تهيأ الفرصة وسنوحها، عما كظمه وستره من الغي - نطقا قوليا أو عمليا - محرم أيضاً. وفي أمثال المقام الذي كانت السيدة الزهراء (علیها السلام) بصدده، من أكبر الكبائر، فإنها محاربة لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته (علیهم السلام). قال تعالى: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخمنها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين»(5).
وقال سبحانه: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين »(6).
ص: 240
..............................
مسألة: يجب أن لا يغتر المرء بسكوت أهل الضلالة، إذ رب يوم له ما بعده، وسكوتهم هذا قد يخفي ما خلفه، وقد يكون من مصاديق (ومكروا..)، فإن (كاظم الغاوين) قد يتربص الفرص لينطق يوما ما.
وقد ورد: «المؤمن كيّس فطن حذر»(1). وقال (علیه السلام): «اعلم أن للأمور أواخر فاحذر العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر»(2). وقال (علیه السلام): «المؤمن إذا وعظ ازدجر وإذا حذر حذر»(3). وقال (علیه السلام): «مناعتبر حذر»(4).
مسألة: الحرمة تكون بالنسبة إلى تلك الصفات الأربع: الناطق، النابغ، الهادر، الخاطر. وبالنسبة إلى من يظهر فيهم مثل هؤلاء الغاوين والأقلّين والمبطلين وهم يقدرون على رده فلم يردوه، ككل منكر يظهر في جماعة وهم قادرون على ردعه والمنع عنه فلا يفعلون. وبالنسبة للراضي بفعلهم، وذلك لأن (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، ولما ورد في تكثير السواد(5)، ولأدلة
ص: 241
..............................
النهي عن المنكر(1)، وقوله (علیه السلام): (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)(2).
قولها (علیها السلام): (ونطق كاظم الغاوين) المراد بكاظم الغاوين: الذي كان ساكتا ويكظم غيظه عن النبي (صلی الله علیه و آله) والدين، كما كان كذلك المنافقون وضعفاء الإيمان الذين يقولون في أنفسهم «نؤمن ببعض ونكفر ببعض»(3) ، ويريدون التخلص من النبي (صلی الله علیه و آله) وآله حتىيستريحوا - بزعمهم(4) - ويتركوا الجهاد في سبيل الله والتقدم عبر العمل بأمر الله عزوجل.
ص: 242
ونبغ خامل(1) الاقلين(2)، وهدر فنيق المبطلين
قولها (علیها السلام): (ونبغ) أي ظهر وخرج (خامل الاقلين)، والمراد بالاقلين: الذين كانوا في جيش رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه في جماعة المؤمنين، ولكنهم كانوا يضمرون النفاق والشقاق، فإنهم ظهروا بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وبعد خمولهم في زمانه (صلی الله علیه و آله) خوفا منه (صلی الله علیه و آله) وهذا محرم كما لا يخفى.
قولها (علیها السلام): (وهدر فنيق المبطلين) الفنيق: هو البعير، والمراد بهدره: صوته، لأن الهدر هو صوت البعير الذي يخرجه من حنجرته، والمراد: أن زعماء أهل الباطل من المسلمين المنافقين أخذوا يرفعون أصواتهم ويكررونها ويرددونها(3) ضد قيادات الإسلام ومناهجه وهذا من المحرمات الكبيرة.
مسألة: يلزم معرفة أساليب المبطلين لمواجهتها، وقد أشارت (صلوات الله عليها) باختيارها كلمة (هدر) في التعبير عن أسلوب زعماء المبطلين(4) إلى حقيقة هامة، وهي أنهم لا يكتفون لإثبات باطلهم بمجرد ذكره، بل إنهم يعتمدون
ص: 243
..............................
منهج (غسيل الدماغ) عبر التكرار والترديد وإعادة القول مرة بعد مرة (كما يردد البعير صوته في حنجرته)، وهي نفس القاعدة التي اعتمدها لينين(1) حيث قال: (أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس)!!.
وفي المقابل، على جبهة الحق أن تعتمد أسلوب الإرشاد بعد الإرشاد، والتكرار بعد التكرار، كما قالتعالى:
«وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين»(2).
وقال سبحانه: «فذكر إن نفعت الذكرى»(3).
وقال عزوجل: «فذكر إنما أنت مذكر»(4).
مسائل: تجب دراسة سنن الحياة وحركة التاريخ وكيفية حدوث التطورات وردود الأفعال، والاعتبار بذلك، واتخاذ الموقف المناسب لنصرة الحق وإبطال الباطل.
ص: 244
..............................
فإن كلامها (عليها الصلاة والسلام): أبعد غورا في شرح ما جرى وإدانتهم عليه، إذ يستفاد منه التحليل الدقيق للظواهر الاجتماعية وكيفية تحرك قوى الضلال، للاعتبار على ضوء «لقد كان فيقصصهم عبرة لأولي الألباب»(1)، وللحيطة والحذر للناقد البصير الذي ينظر إلى كلامها (علیها السلام) بلحاظ كونه إنشاء أيضاً بالنظر للمستقبل كما هو إخبار عن الماضي.
فكما حدث مع الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) سيحدث مع الإمام الحسين (علیه السلام)، وهكذا وهلم جرا، ولو اعتبرت الأمة بكلامها لما تكرر الخطأ ولما حدثت المآسي اللاحقة.
وفي الحال الحاضر علينا أيضاً أن نضع كلامها (علیها السلام) نصب أعيننا في تقييم حركة القوى الضالة، ورصدها، واتخاذ التدابير اللازمة قبل حدوث أي منعطف يستغله الضالون (لينطقوا) ، والخاملون المغمورون (ليظهروا) ويصولوا ويجولوا، ورؤوس الفتن (ليهدروا)، ثم بعد ذلك (ليخطروا).
ص: 245
-------------------------------------------
مسألة: يحرم أن يجعل الإنسان من نفسه ما يخطر الشيطان في عرصاته.
وعبر أدب تصويري رائع تعبر السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بقولها: (فخطر في عرصاتكم) عن طريقة الشيطان التي يرسمها وحالته، إذ يقال خطر البعير بذنبه خطرا: إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه.
والمراد : أنه صال وجال في محالكم، فقد هدر بصوته وحرك عقبه فرحا وتبختراً كما يفعل البعير ذلك، ومنه قول الحجاج(1) - لما نصب المنجنيق على الكعبة ورمى الكعبة وأهلها(2) - قال:
خطارة كالجمل الفنيق *** أعددتها للمسجد العتيق(3)
وقد شبه رمي الكعبة بخطرات الفنيق، يقصد بذلك أن اليوم لنا والقوة لنا في قبال الكعبة، ومن اعتصم بها.
ص: 246
..............................
وفي كلامها (علیها السلام) هنا إشارة دقيقة، إذ عبرت ب (عرصاتكم) مشيرة إلى قابلية القابل ووجود الأرضية عندهم لتقبل وساوس الشيطان والاستجابة ل (خَطْرِه)، فإن (العرص): هو اللعب والمرح، و(العرصة) و(العرصات): هي ساحة الدار، وقد سميت بذلك لاعتراص (أي لعب ومرح) الصبيان فيها، وقد قال تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه » (1).
فقد (خطر) الشيطان، ولكن أين؟، في ساحات قلوبهم وأفكارهم التي جعلوهامسرحا للأهواء والشهوات، قال تعالى:«أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون»(2).
ومن ذلك نعرف أن الشيطان لا (يتمكن) من ابن آدم، إلا لو (مكّنه) هو منه، حيث لا جبر كما مر، وقد فصلنا الحديث عنه في بعض كتبنا (3).
مسألة: يلزم فضح المتآمرين على أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبيان صفاتهم، وقد تضمنت الجمل السابقة من كلماتها (صلوات الله عليها) إشارة رائعة ودقيقة لصفات المتآمرين فهم كانوا يتصفون ب:
ص: 247
..............................
1- الغي والضلالة.
2- المكر والحيلة، لكظم غيظهماستعدادا للمستقبل.
3- الجهر بالباطل عند سنوح الفرصة (ونطق).
4- انهم كانوا أقليّة ولا تعبر في حقيقتها عن رأي الأكثرية، بل تسلحت بالإرهاب لإسكات جبهة الحق والأكثرية.
5- أنهم مجموعة ساقطة لا مستوى لها.
6- أنها برزت وظهرت عند منعطف استراتيجي، وهو وفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، وذلك لسرقة الثورة والنهضة والدولة والقوة، والحكومة التي أرسى دعائمها الرسول (صلی الله علیه و آله).
7- انها تستخدم أسلوب (غسيل الدماغ): (هدر) - كما سبق -.
8- أن ظاهرها أنيق مكرم (فنيق) رغم أن الواقع تعيس مهشم.
9- انها قطعة من الباطل والضلالة.
10- انها تتبع الخطة بالخطة (هدر.. فخطر).
11- انها تتخذ قواعد المؤمنين مسرحا لمخططاتها ومؤامراتها.
12- انها في سبيل الشيطان وتابعة له.
ص: 248
-------------------------------------------
مسألة: يحرم تهيئة الأرضية وفسح المجال لقوى الشر والشياطين، لكي تنطلق من مكامنها وتخرج رؤوسها من مغرزها، هاتفة بالبشرية، مستدرجة للجماهير، مضللة لها.
قال تعالى: «ولا تعاونوا على الاثم والعدوان»(1).
ومن المعلوم أن للحرمة في هذا الباب درجات مختلفة، وما حدث بعد الرسول كان من أشد المحرمات، لأنه غيّر مجرى التاريخ وحرّف مسيرة الأمة، وقد ورد أن:
(من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص منوزره شيء)(2).
وذلك لأن (الدال على الخير كفاعله)(3) والدال على الشر كذلك، فإنه السبب وهو (سعيه).
ص: 249
..............................
فلا يقال: إن هذا ينافي قوله سبحانه: «وإن ليس للإنسان إلا ما سعى»(1) حيث أن سعيه خاص بعمله هو، وبسعيه المباشر، ولا يشمل عمل الآخرين الذين يقتدون به، وأيضاً: ينافي قوله تعالى: «كل امرئ بما كسب رهين»(2) وما أشبه كقوله سبحانه: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»(3).
لأنه يقال: إن سن السنة السيئة فعله هو ووزر نفسه، ففعله هو الذي سبب وزر الآخرين، فهو وزرهم وفي نفس الوقتوزره أيضاً.
و(السعي) و(الكسب) أعم من (السعي) و(الكسب) المباشر، إذ يصح الإسناد إليهما(4)وهو كذلك عقلا ولبّا وكتابا وسُنة(5)، كما في «وما رميت إذ رميت »(6). ثم (التسبب) من مصاديق السعي والكسب(7) وقد تطرقنا إلى ذلك في (الفقه: الاقتصاد)(8) وغيره.
ص: 250
..............................
مسألة: يجب التعرف على مكامنالشياطين، وقواعد رؤوس الضلالة، ومغاور الفتن، ومن ثم إقامة السدود والحواجز دونهم، بل السعي لاستئصال شأفتهم فإن (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).
ومن مصاديق ذلك ما طلبوه من ذي القرنين حيث « قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً »(2).
ولا يخفى عظيم هذه المسؤولية في زمن الغيبة الكبرى على العلماء، فعن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «فقيه واحد، ينقذ يتيماً من ايتامنا، المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشد على إبليس من ألف ألف عابد وألف ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه نفسه وذات عباد الله وامائه ينقذهم من إبليس ومردته»(3).
وعن الإمام الحسن (علیه السلام): «فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في تيه الجهل يخرجه منجهل ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس إلى السها»(4).
ص: 251
..............................
وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده بهداه وهداه قال له الله عزوجل: يا أيها العبد الكريم المواسي اني أولى بهذا الكرم، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم»(1).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان افضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(2).
وقال الإمام محمد بن علي الجواد (علیه السلام): «إن من تكفل بأيتام آلمحمد المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسراء في أيادي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم، ليفضلوا عند الله على العابد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض، والعرش على الكرسي، والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(3).
ص: 252
..............................
والمراد بالشيطان في قولها (صلوات الله عليها) إما المعنى الحقيقي، كما هو الظاهر.
أو المعنى المجازي، أي : أخرج زعماء الشرك والنفاق رؤوسهم من مغارزها، كما في قوله تعالى:
«واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون»(1).
ويمكن إرادة كلا المعنيين، بناءعلى إمكان ذلك عبر (الجامع) أو (في المجموع) أو (على سبيل القول) والتفصيل في الأصول(2).
ثم هل للشيطان (مغرز) حقيقي، أم ان التعبير كناية عن الظهور بعد الخمول؟
لا يبعد الأول، وربما يدل عليه بعض الروايات.
هذا ولا فرق - من حيث الحرمة والأثر الوضعي - بين أن يقصد من (سنّ سنة حسنة) أو من (سن سنة سيئة) أن يعمل بالسنة غيره أم لا، إذ هو (السبب) على كلا التقديرين، وإن كان ربما يقال بالدرجات والمراتب، وهل هناك فرق بين أن يعلم أو لا يعلم، أو الجاهل القاصر والمقصر ذكرناه في محله في باب التجري وما أشبه(3).
ص: 253
..............................
قولها (علیها السلام): (مغرزه) المراد بالمغرز : محل اختفاء الرأس، ولعله تشبيه بالقنفذ وما أشبه حيث يخفي رأسه عند الخوف ويخرج رأسه عند زوال الخوف، وإن المنافقين ومن إليهم كانوا في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يختفون ويتسللون لواذاً، فلما توفي (صلی الله علیه و آله) أظهروا أمرهم، وهذا كناية عن تلك الحالة على ذلك الاحتمال.
وقد قال عبد الله بن الزبير، لما قيل له: لماذا لم تذكر اسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبة الجمعة؟ : إن له أهيل سوء إذا ذكر اسمه إشرأبتّ أعناقهم(1).
أقول: لكن أهل البيت (علیهم السلام) كانوا يشرأبّون للحق، وهؤلاء المنافقون كانوا يشرأبّون لإظهار الباطل بعد اختفاء الحق بموت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
ص: 254
-------------------------------------------
مسألة: إجابة الشيطان - بما هي هي - محرمة في المحرمات ومكروهة في المكروهات، وربما يقال بلحاظ كونها استجابة له - بما هي استجابة - محرمة في الجملة حتى في غير المحرمات فتأمل، فلو تَعنْون المكروه - عرفاً - بكونه استجابة لدعوة الشيطان كان من هذا الباب، وكذلك المباح في الجملة، ولو قام به مسندا ذلك إليها ففيه الإشكال،وربما استلزم ما يخرج به عن الإيمان.
وقد يكون نظير ذلك التشبه بالكفار، والتفصيل في (الفقه).
وعلى هذا فإن قولها (علیها السلام): (فألفاكم لدعوته مستجيبين) يستفاد منه الإشارة إلى محرمين: المدعو إليه، والاستجابة معنونة بذلك(1)، أو مسندةإليها (2)، ولا بذلك : محرمة طريقيا، أو مكروهة كذلك(3).
ص: 255
..............................
وفي القرآن الكريم: «وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب اليم»(1).
وقال تعالى: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان»(2).هذا وقد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن مخالفة علي أمير المؤمنين (علیه السلام) استجابة للشيطان واتباع لخطواته والدخول في حزبه، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «يا علي أنت حجة الله وأنت باب الله وأنت الطريق إلى الله وأنت النبأ العظيم وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى، يا علي أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وسيد الصديقين، يا علي أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر، يا علي أنت خليفتي على أمتي وأنت قاضي ديني وأنت منجز عداتي، يا علي أنت المظلوم بعدي يا علي، أنت المفارق بعدي، يا علي أنت المحجور بعدي، أشهد الله تعالى ومن حضر من أمتي حزبك حزبي وحزبي حزب الله، وان حزب أعدائك حزب الشيطان»(3).
ص: 256
..............................
مسألة: يجب الثبات على العقيدة الصحيحة والعمل الصالح، وعدم التهاون في ذلك.
وقد قال سبحانه بالنسبة إلى فرعون: « فاستخف قومه فأطاعوه »(1) وبالنتيجة أدخلهم النار في الآخرة كما أغرقهم في الدنيا، وصار مثلا للطغاة الذين خسروا أنفسهم وأهليهم وشعوبهم أيضاً.
ولقد كان هؤلاء المنافقون في زمن الرسول (صلی الله علیه و آله) كما كان قوم فرعون في زمنه، وكان شيطانهم كفرعون أولئك، فكما (استخف قومه فأطاعوه) كذلك (ألفاكم لدعوته مستجيبين) أي: وجدكم الشيطان لدعوته للباطل مستجيبين.
..............................
وهذه (الأرضية النفسية للاستجابة إلى الشيطان) في جانبها الاختياري، تعد من رذائل الاخلاق، وقد تكون محرمة.
فالمفروض أن يجاهد الإنسان نفسه كي (تكره) أية تلبية لنداء الشهوات والشياطين، وأية (رغبة) في ما تدعو إليه الأبالسة، وكما يكره الإنسان بطبعه أكل القاذورات يمكن له بالمجاهدة والرياضة أن (يكره) ارتكاب المحرمات.
وقد كتب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية: «ولا تمكنالشيطان من بغيته فيك»(1).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا يتمكن الشيطان الوسوسة من العبد إلا وقد أعرض عن ذكر الله واستهان وسكن إلى نهيه ونسي إطلاعه على سره»(2).
وقال رجل للإمام الرضا (علیه السلام): «أوصني، قال: احفظ لسانك تعز، ولاتمكن الشيطان من قيادك فتذل»(3).
ص: 258
مسألة: الاغترار بالشيطان قد يكون فكرياً أو عاطفياً أو عملياً، والأقسام الثلاثة تتراوح بين الحرمة والكراهة.
والظاهر من إطلاق(2) كلامها (صلوات الله عليها) أن القوم كانوا للاغترار بالشيطان في كل الأقسام الثلاثة ملاحظين، كما أن التاريخ يشهد بذلك أيضاً.
والاغترار الفكري من مصاديقه: تبرير الانحراف والتمسك بالتشكيك حجة على عدم الدفاع عن الحق وعلى التعاون مع أئمة الكفر ودعاة الضلال وحكام الجور.
والاغترار العاطفي من مصاديقه: الميل والركون إلى الأعداء، وقد قال تعالى: ] لايتخذ المؤمنون الكافرينأولياء من دون المؤمنين»(3).
وقال عزوجل: «الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعاً»(4).
ص: 259
..............................
وقال سبحانه: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله أولياء ثم لا تنصرون»(1).
أما الاغترار العملي: فواضح. ومن البين أن ذلك يسبقه عادة النوعان الآخران، وذلك مما قد يتجه الإنسان نحوه للتخلص من عذاب الوجدان، ووخز الضمير، وللحفاظ على ماء وجهه وكرامته أمام الآخرين، ولكن مع كل ذلك «بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره»(2). وقد قال سبحانه: «إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولايغرنكم بالله الغرور»(3)، والمراد بالغرور الشيطان، إذ يكثر منه غر الإنسان وغشهوخداعه.
وقد خطب الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء حينما رأى صفوف الأعداء كالسيل فقال: «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور… فنعم الرب ربنا وبئس العباد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد (صلی الله علیه و آله) ثم أنتم رجعتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ولقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين»(4).
ص: 260
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أيها الناس أحذركم الدنيا والاغترار بها»(1).
وقال (علیه السلام): «أكبر الحمقالاغترار»(2).
وقال (علیه السلام): «الدنيا حلم والاغترار بها ندم»(3).
وقال (علیه السلام): «الغفلة تكسب الاغترار وتدني من البوار»(4).
وقال (علیه السلام): «خذ بالثقة في العمل وإياك والاغترار بالأمل»(5).
مسألة: يحرم التراجع عن الدين وأن ينقلب المسلمون على أعقابهم.
فإنه أشد حرمة من عدم الدخول في الدين، لأنه ارتداد، والارتداد أشدّ من الكفر في بعض الأحكام، كما ذكر في موضعه، ولما فيه من إضعاف جبهة المؤمنين، وإيجاد التشكيك في صفوفهم، والبلبلة في أوساطهم، وذلك كان من مخططات المشركين المنافقين زمن الرسول (صلی الله علیه و آله) في المعارك وغيرها.
قال سبحانه: «وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذينآمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون»(6).
ص: 261
..............................
وقال تعالى: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(1).
وهذا إخبار من الله عزوجل عن ردتهم بعد نبيه (صلی الله علیه و آله).
وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبته يوم الغدير بعد ما قرأ هذه الآية المباركة(2): «معاشر الناس انه سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، معاشر الناس إن الله وأنا بريئان منهم، معاشر الناس انهم وأنصارهم وأتباعهم وأشياعهم في الدرك الأسفل من النار ولبئس مثوى المتكبرين…»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «إن النبي لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثاً سلمانوالمقداد وأبو ذر الغفاري»(4). وعنه (علیه السلام): «إن الذين ارتدوا على أدبارهم عن الإيمان بتركهم ولاية علي أمير المؤمنين»(5).
وقد ورد في أخبار غيبة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن «له غيبة يرتد فيها أقوام»(6).
وفي الدعاء: «اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد»(7).
ص: 262
..............................
قولها (علیها السلام): (وللغرة فيه ملاحظين) المراد بالغرة : الاغترار والانخداع، يعني: انهم اغتروا بالشيطان، ولاحظوا أمره واستمعوا إلى صوته وهتافه، ولهذا رجعوا على أدبارهم القهقرى.
ولا يخفى اللطف في تعبيرها (علیهاالسلام) ب (في) بدل (الباء)(1) نظرا لأفادتها الظرفية، وهو أوقع من باء السببية في المقام، إذ يتضمن معنى تصويريا يكون المظروف فيه (الغرة) والظرف (دائرة الشيطان).
مسألة: هذه الفقرات من كلماتها (علیها السلام) وما سبقها وسيلحقها تكشف النقاب عن عدم صحة التمسك بعموم ما ذكر في كتب العامة من أمثال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
فإذا كان أصحابه (صلی الله علیه و آله) كما ذكرت (علیها السلام): (فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا.. فوسمتم غير إبلكم.. ألا في الفتنة سقطوا.. وكتاب الله بين أظهركم .. وقد خلفتموه وراء ظهوركم.. وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي.. والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون... وسرعان ما أحدثتم.. حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام.. فأنى حزتم بعد البيان.. وأشركتم بعد الإيمان..الخ).
فكيف يمكن أن يكونوا كالنجوم وكيف يجوز أن يقال: (بأيهم اقتديتم
ص: 263
..............................
اهتديتم)؟ وكيف يكون هنالك (عشرة مبشرة بالجنة)؟
وما كلامها (علیها السلام) إلا إيضاح وتفصيل، لقوله تعالى: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(1).
بل إن كلماتها (علیها السلام) هاهنا تكشف عن أن كثيراً من المهاجرين والأنصار في المدينة انحرفوا عن جادة الصواب ولذا كان خطابها وعتابها شاملا للكثير من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله). هذا وفي الروايات الصحيحة: (أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم)(2).
وفي تفسير العياشي عن الحسين بن المنذر قال: «سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» القتل أم الموت،قال: يعني أصحابه فعلوا ما فعلوا»(3).
وفي تأويل الآيات عن علي بن إبراهيم قال: «إن المخاطبة لقوله عز وجل «من يرتد منكم عن دينه»(4) لأصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ارتدوا بعد وفاته وغصبوا آل محمد حقوقهم»(5).
ص: 264
-------------------------------------------
مسألة: يحرم على الإنسان أن يكون (ألعوبة) بيد الشيطان و(أداة طيّعة) بيده، أو بيد سائر قوى الشر والضلال، بحيث يجده (خفيفا) عند الاستثارة (غضوبا) عند التهيج. بل على الإنسان أن يكون وقوراً عند الهزاهز، ملازماً للحق، بحيث لايميل إلى هذا الجانب وذاك، فان البعض (تستفزه) الأحداث فينفجر ضد الحق أو يتخذ قرارات مرتجلة.
وعلى الإنسان أيضاً أن لا يكون مستسلما للعواطف السيئة أو مهبا لها، كالغضب والشهوة والجبن والخوف والشرر وما أشبه ذلك، بل يجب عليه أن يكون ثقيلاً في الحق، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) لولده: «تزول الجبال ولا تزل» (1).
وقال (علیه السلام): «كن في الشدائد صبوراً وفي الزلازل وقوراً»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لايظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة»(3).
ص: 265
..............................
وعنه (علیه السلام) قال: «صفة المؤمن: قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، واغماض عند شهوة، وعلم في حلم، وشكر في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وعفو في قدرة، وطاعة في نصيحة، وورع في رغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدة، وفي الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور..» الحديث(1).
ولا يكون كما قال الشاعر:
كريشة في مهب الريح طائشة *** لا تستقر على حال من القلق
قولها (علیها السلام): (ثماستنهضكم) يعني: أن الشيطان أولاً هتف بكم فلما رآكم قد استجبتم له طلب نهوضكم بالأمر، فإن كلَ مبطل أو محق يدعو الناس أولاً بالقول، فإذا رأى فيهم الاستجابة النفسية وما أشبه وعلى صعيد الكلمات والشعارات أيضاً، دعاه ذلك إلى دعوتهم للعمل ووضع المخطط العملي لهم.
(فوجدكم خفافا) أي في الحركة، سراعا فيها، مبادرين إلى ما دعاكم إليه ولستم بثقالٍ تلزمون الحق، كما قال سبحانه وتعالى بالنسبة إلى فرعون « فاستخف قومه فأطاعوه»(2).
ص: 266
..............................
مسألة: هل الأصل (النهضة) و(التحرك)؟
أم الأصل (الاحتياط) و(التحفظ)؟
أم الأصل (إحقاق الحق)؟
الظاهر أنه ليست النهضة أصلاً ولا الثورة ولا الحركة، إذ قد يستنهض الشيطان الناس للثورة على وضع قائم، كما قالت (صلوات الله عليها): (ثم استنهضكم فوجدكم خفافا) وكما في الثورات الشيوعية والانقلابات العسكرية، ثم إنه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الحسن والحسين إمامان قاما وإن قعدا»(1).
وليس الأصل السكون والتحفظ أيضاً، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض»(2).وفي الحديث: «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
و: «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام ظالم»(3).
وفي بعض الأحاديث: «عند سلطان جائر»(4) و..
ص: 267
..............................
بل (إحقاق الحق) هو الأصل، فقد تكون النهضة والثورة طريقا إليه، وقد يكون السكون والتحفظ كذلك، قال (علیه السلام): «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب»(1).
وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر أسلوب المقاومة السلبية: من عدم التدريس، الجلوس في الدار، وعدم الذهاب للعمل، وسائر ما يسمى اليوم بالعصيان المدني.
وكان أمير المؤمنين (عليه صلوات الله وسلامه) هو أول من استخدم أسلوب المقاومة السلبية ضد الحكومة الجائرة، وكانت السيدة الزهراء (علیها السلام) هي أول من استخدمت ذلكالأسلوب كذلك. ومن هذا الباب نرى أن الإمام الحسن (علیه السلام) صالح معاوية والإمام الحسين (علیه السلام) حارب يزيد والتفصيل في محله.
ومثل ما ذكرناه ما جاء في السكوت وما أشبه، فقد سئل (علیه السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (علیه السلام): «لكل واحد منها آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل وكيف ذاك يابن رسول الله، قال لأن الله عزوجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما يبعثهم بالكلام، ولااستحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس، انك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت»(2).
ص: 268
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «السكوت عند الضرورة بدعة»(1).
وقال (علیه السلام): «لا خير فيالسكوت عن الحق كما أنه لا خير في القول بالجهل»(2).
وقال (علیه السلام): «رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق»(3).
وقال (علیه السلام): «خير الأمور ما أسفر عن الحق»(4).
وقال (علیه السلام): «الحق أحق أن يتبع»(5).
وقال (علیه السلام): «الزموا الحق تلزمكم النجاة»(6).
وقال (علیه السلام): «من نصر الحق أفلح» وفي رواية (غنم)(7).
وقال (علیه السلام): «قولوا الحق تغنموا، واسكتوا عن الباطل تسلموا»(8).
ص: 269
مسألة: يلزم التعرف على (أسلحة الشيطان)، فإن التعرف على أسلحة العدو من أهم عوامل المقدرة على التصدي لها ومواجهتها، ومن أهمها القوة الغضبية والعصبية الجاهلية والقومية والعائلية وغيرها.
كما قالت (صلوات الله عليها): (وأحمشكم) فقد أثار فيهم الشيطان العصبية والحسد ضد وصي الرسول (صلی الله علیه و آله) الإمام علي (علیه السلام) فقد كان قتل منهم - بأمر من الله ورسوله - كثيراً وذلك إبان مواجهتم للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في المعارك والغزوات؟
فقالوا: كيف تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد؟
وكيف يتأمر عليهم من عرفوه ب (شدة تنمره في ذات الله)، ولو حكم لحملهم على الحق مره وحلوه.
فالعصبية العائلية كانت سببا،والأضغان الشخصية كانت سببا آخر، والحسد كان عاملاً ثالثاً كما قال تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»(3).
وقد نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين والأئمة أهل البيت (علیهم السلام) حيث
ص: 270
..............................
حسدهم الناس(1).
والخوف على المصالح الشخصية كان العامل الرابع.. إلى غير ذلك.
قولها (علیها السلام): (واحمشكم) أي: أغضبكم الشيطان، (فألفاكم غضابا): أي وجدكم تغضبون لغضبه.
ولا يخفى أن (حمش) و(حشم) كلاهما ورد بمعنى: أغضَبَ .
وفي بعض النسخ: (واحمشكم فألفاكم عطافا) من العطف بمعنى الميل، وهذا يصح على كل معنيي حمش(2): (أغضبكمفوجدكم مائلين إليه) أو (جمعكم فوجدكم منعطفين إلى ما جمعكم عليه).
وعلى إرادة معنى (الجمع) تكون هذه الفقرة مشيرة إلى معنى جديد زائد على (استنهضكم) كما كانت على ذلك المعنى مشيرة إلى معنى آخر.
مسألة: يتضمن كلامها (صلوات الله عليها) الإشارة إلى أسلوب ماكر يستخدمه إبليس وشياطينه، فان من أقوى أسلحة الشيطان الرجيم في اصطياد المؤمنين هو (التدرج) في استدراجهم، فهو يزين للإنسان النظرة، ثم الابتسامة، ثم الحديث، ثم اللقاء، ثم الزنا بالأجنبية، وهو يزين للإنسان السكوت عن الظالم، ثم فتح حوار معه، ثم زيارته، ثم الذوبان في بحر عطاءاته حتى النخاع..
ص: 271
..............................
وهكذا وهلم جرا.
فقد (اطلع الشيطان رأسه من مغرزه)، (هاتفا بكم)، (فألفاكم)، (ثم استنهضكم)، (واحمشكم)… وذلك من أسرار ما ورد من قوله (علیه السلام) (أشدالذنوب ما استهان به صاحبها)(1).
وفي الحديث أن: (السيئات بعضها آخذ بعنق بعض).
وفي الآية الشريفة: «سنستدرجهم»(2).
فيجب الحذر والاحتياط عند أول خطوة، وان كانت في حد ذاتها غير محرمة، فان (لكل ملك حمى وان حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(3) و(أخوك دينك فاحتط لدينك)(4).
وهذا الاسلوب يستخدمه الشيطان مع من له بعض القوة والحصانة، أما هشّ الإيمان فانه يستجيب له بمجرد إشارة واحدة فقط، وقد كان البعض كذلك.
ولعل كلامها (علیها السلام) منصرف إلى القسم الأول، أما القسم الثاني فكانوا على وفاق مسبق معه، وكانوا يخططون للأمر قبل وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) بل منذ إسلامهمالظاهري(5).
ص: 272
مسألة: يحرم - حرمة نفسية ومقدمية - : أن يسم الإنسان غير ابله وأن يرد غير مشربه، فإن التصرف في ملك الغير أو حقه لا يجوز إلا بإذنه، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض»(3).
وقال (علیه السلام): «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(4).
ص: 273
..............................
قولها (علیها السلام): (فوسمتم غير ابلكم) الوسم عبارة عن: الكي ، ووضععلامة على الشيء يعرف بها أنه ملك لهذا الشخص أو لذاك، وهذا تشبيه لأخذهم الخلافة وغصبهم فدك بمن يستولي على إبل غيره فيجعلها لنفسه غصبا ونهبا، كمن يسم إبل الناس بسمة نفسه حتى يستولي عليه ويستملكه متذرعا بالعلامة، وكمن يدخل ويرد على غير مشربه فإنه غاصب للمشرب.
ولكلامها (علیها السلام): هنا (عقدان) عقد سلب وعقد إيجاب: فما ليس لهم قد وسموه، وما هو لغيرهم لم يسمحوا له بوسمه والتصرف فيه.
وبعبارة أخرى : الخلافة ليست لكم بل هي لغيركم، والتصرف فيها كان لغيركم فاتخذتموه لأنفسكم.
قولها (علیها السلام): (ووردتم غير شربكم) وفي بعض النسخ (أوردتم) وفي بعضها (وأوردتموها شربا ليس لكم) وفي بعضها (مشربكم)(1) والكل بمعنى واحد تقريباً.
(الورد)(2): عبارة عن الحضور على الماء والصيرورة إليه.كما قال سبحانه في قصة موسى (علیه السلام): «ولما ورد ماء مدين»(3).
ص: 274
..............................
فإنهم أوردوا آبالهم على ماء غيرهم.
و(الشرب) بالكسر عبارة عن: الحظ من الماء، لأن الجماعة التي لها البئر أو النهر، يكون لكل واحد منهم حظ فيه، من ساعة أو ساعتين أو أكثر أو أقل، وهاتان الجملتان كنايتان عن أخذ القوم ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وفدك وغير ذلك كما وضحناه.
ثم إن الحرمة تترتب على كلا المعنيين: الحقيقي والمجازي الكنائي(1) كما لايخفى.
وإن وسم إبل الغير محرم نفسي بما هو تصرف في ملك الغير، وطريقي باعتبار كونه مقدمة للاستيلاء والتملك وتثبيت ذلك.
وادعاء الخلافة أيضاً لغير وصيه (صلی الله علیه و آله) محرم نفسي ومقدمي، فإن نفس هذا الادعاء - من غيرأهله - بما هو هو محرم نفسي، وبما هو طريق إلى فعلية الغصب للخلافة محرم مقدمي.
مسائل: تحرم مصادرة حقوق الآخرين، وانتهاك حرمتهم، كما يحرم (تبرير) ذلك و(التعليل) له و(تغطيته) تحت عنوان (المصلحة العامة) أو ما أشبه ذلك، فإنه إغراء وتلبيس وخداع وتضليل كما هو شأن كل طاغ وجبار وجائر، ويحرم تبرير الآخرين متحلقين وغيرهم عمل الجائر أيضاً.
ص: 275
..............................
وقد علل القوم مصادرتهم الخلافة وغصبهم حق الإمام علي (علیه السلام) ب (لأن فيه دعابة)(1)، ولأن كلمة العرب لا تجمع عليه لكثرة من قتل منهم إبان مواجهتهم للرسول (صلی الله علیه و آله)، ولأنه حدث السن، وكما قالت (علیهاالسلام): (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة) وشبه ذلك.
وحقيقة الأمر غير ذلك كما صرحت به السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) إذ السبب الحقيقي كان (ظهر فيكم حسكة النفاق.. وهدر فنيق المبطلين.. واطلع الشيطان رأسه من مغرزه.. هاتفا بكم.. ثم استنهضكم.. واحمشكم..) (ف ) والفاء للتفريع (وسمتم غير ابلكم..). وعلى ضوء كلامها (علیها السلام) نعرف السبب الحقيقي وراء مصادرة الحكومات الجائرة أملاك الناس وثرواتهم وتأميم بعضها للشركات الكبرى والمعادن والصناعات الأم وغيرها.
ثم إنه تشمل التكنية ب (وسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم) : سرقه (الاعتبار)، كما كان صفة القوم يومذاك، وهو مشمول لاطلاق كلامها (علیها السلام)، وكما يصنعه (سراق الثورة) والذين يتخذون سياسة ركوب الموج وأشباههم.
وكان من ذلك سرقة ألقاب أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي ابن أبي طالب (علیه السلام) (2).
ص: 276
..............................
ومنه سرقة الفضائل والأمجاد والبطولات والتاريخ المشرق أيضاً(1).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خذوا بحجزة علي (علیه السلام) فإنه الصديق الأكبر وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل، من أحبه هداه الله ومن أبغضه أبغضه الله، ومن تخلف عنه محقه الله»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين… يا علي أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر»(3).
وورد في زيارته (علیه السلام): «السلام عليك أيها الصديق الأكبر، السلام عليك أيها الفاروق الأعظم»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي سيف الله على أعدائه»(5).وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أنا سيف الله على أعدائه ورحمته على أوليائه»(6).
ص: 277
..............................
مسألة: الكناية في الخطاب جائزة، بل هي مما قد يحسن ويرجح، وليست الكناية كذباً كما سبقت الإشارة إليه، والكتاب والسنة مليئان بذلك، ومنه كلامها (علیها السلام) هاهنا: (فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم).
فإن الميزان في الكذب ليس حجم الكلام ولا هيكله وشكله، ولذا قالوا خرج عن الكذب التورية والمبالغة والإغراق والكناية(1).
والفرق بين المبالغة والإغراق: إن المبالغة فوق الواقع بقليل، أما الإغراق فهو فوق الواقع بكثير، فقد يقول: استقبله من أهل المدينة مائة، وقد يقول: استقبله كل أهل المدينة، بينما في الأول لم يستقبله مثلا إلا ثمانون وفي الثاني لم يستقبله إلا نصف أهل المدينة.
وهكذا خرج عن الكذب مثل الاستهزاء وما أشبه، لان الاستهزاء ليس من مقولة الخبر، بل من مقولة الإنشاء، والإنشاءلا مسرح للكذب والصدق فيه.
نعم قد يكذب الإنشاء باعتبار كونه طريقا إلى الخبر، مثلا يقول: تفضل إلى دارنا، فانه انشاء، لكنه يجاب بأنك تكذب، ويراد تكذيب قصده الواقعي، أي ما أراده أن يفهمنا بالكلام، يعني انك لا تقصد (الدعوة) عن جدّ، وانما تقصده خداعا أو هزلا كما ذكرناه في حاشية المنطق(2).
ص: 278
-------------------------------------------
مسألة: يحرم نقض العهد، وأشد منه حرمة بل هو من أشد الكبائر: نقص عهد الله ورسوله، ومثل نقض عهد بيعة الغدير يعد من الكبائر الموبقة.
وذلك بدلالة العقل والنقل.
وهذا بخلاف الوعد، فإن المشهور بين الفقهاء عدم حرمة خلفه، وإن كان الوفاء بالوعد من الصفات الحسنة.
والفرق بين العهد والوعد، ان العهد ما يقع في العهدة، وأما الوعد فهو ما يتلفظ به مع القصد من دون أن يكون كذلك، فالعهد آكد من الوعد، ومن هذه الجهة يقال: (العهود بين الدول)، و(المعاهدات الدولية)، ولا يقال الوعود بين الدول، إلى غير ذلك.
ومن تلك الفروق: أن العهد عقد وليس الوعد عقداً.
وإذا علمنا بأن العهد واجب الوفاء فما بالك بعهد يعهده رسول رب العالمين (صلی الله علیه و آله) إلى الأمة؟ - وهي خلافة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) - خاصة مع تأكيداتهالمتكررة بأنه عهد عهده الله إليه ليبلغه الأمة؟!. كما في القرآن الحكيم: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس»(1).
ص: 279
..............................
وقال تعالى: «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم»(1).
وقال سبحانه: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل»(2).
وقال تعالى: «وبعهد الله أوفوا»(3).
وقال سبحانه: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا»(4).
وقال تعالى: «وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم»(5).وقد ورد في العديد من الروايات تفسير العهد بولاية أمير المؤمنين وإمامته وخلافته.
ففي تفسير القمي في الآية المباركة: «الذين ينقضون عهد الله»(6) قال: «نزلت هذه الآية في آل محمد وما عاهدهم عليه وما أخذ عليهم من الميثاق في الذر من ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة من بعده (علیهم السلام)، وهو قوله: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه» يعني أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو الذي أخذ الله عليهم في الذر، وأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغدير خم»(7).
ص: 280
..............................
وروي أيضاً في تفسير قوله تعالى: «واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولاتنقضوا الإيمان بعد توكيدها»(1) عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنها نزلت في ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) (2).
إلى غيرها(3).
قولها (علیها السلام): (والكلم رحيب) أي الجرح، فان الكلم عبارة عن الجرح، والرحيب بمعنى وسيع، لأن موت الإنسان يحدث جرحاً عميقاً واسعا في نفوس أقربائه وأودائه ثم يتجمع الجرح حتى يندمل ، وفي هذا إلفات إلى أنه لم يمض على وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) سوى ساعات حتى اجتمعوا في السقيفة، وكلامها (علیها السلام) هذا يدل على شدة حرمة ما فعله القوم.
ص: 281
-------------------------------------------
مسألة: يمكن التمسك بكلامها (علیها السلام) هنا - وبدلالة الاقتضاء(1)- دليلا آخر على وجوب إبقاء مصاب الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) حيا في القلوب، طريا على الألسن، ظاهرا على الجوارح كشعيرة من شعائر الله.
فإن عدم اندمال الجرح حقيقة - أو تنزيلا عبر ما يقوم به مقامه(2) - هو من اكبر أسباب إدانتهم، ومن أكبر عوامل فضح الظلمة والجائرين، ومن مقومات ردع من تسول له نفسه اتخاذمنهجهم والسير على دربهم، وهو (إنذار) و(إرشاد) و(تنبيه) كما لا يخفى.
وقد كان من علل بكائها (علیها السلام) تذكير الناس بمصاب الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وإبقائه حيا طريا، إحياءً لذكراه (صلی الله علیه و آله) ولكلماته ومنهجه ومدرسته، إضافة إلى فضحهم كما كان ذلك من علل بكاء الإمام السجاد (علیه السلام) عشرين أو أربعين سنة(3).
ص: 282
..............................
وكلامها (علیها السلام) في خطبتها في المسجد وغيرها كانت ولا تزال من أهم العلل لتحول تلك المصائب والرزايا الكبرى إلى صور حية متجسدة أمام النواظر، متجذرة في النفوس، حارة في القلوب إلى يوم القيامة، فهي تذكرنا دائماً بالمؤامرة على منهج الرسول (صلی الله علیه و آله) والصراط المستقيم، وتدعونا للعودة إلى ما أكد (صلی الله علیه و آله) عليه مكررا بقوله: (كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(1).فإن موت الرسول (صلی الله علیه و آله) خلف في القلوب جرحاً، ولم يطل الزمان حتى يندمل الجرح وينسى الناس وفاته، أي كيف فعلتم هذه الفعلة مع أن الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يدفن بعد، فقد اجتمعوا في السقيفة قبل دفن الرسول (صلی الله علیه و آله) وفعلوا ما فعلوا.
وذكر بعض العلماء أن حكمة إبقاء الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) جسد الرسول (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أيام يصلى عليه، بالإضافة إلى إرادة صلاة الناس عليه، أنه أراد أن لا يترك لهم عذراً يدفعهم إلى نبش القبر بحجة الصلاة على الرسول (صلی الله علیه و آله) ولا عذرا يدفعهم حتى إلى مجرد طرح هذا الأمر في المجالس وتردده على الألسنة، فإنه هتك حرمة بنفس هذا المقدار، كما حدث بالنسبة للسيدة الزهراء (علیها السلام) حيث أرادوا نبش القبر والصلاة عليها، ولكنها (علیها السلام) كانت قد أوصت بتجهيزها ليلاً حتى تثبت مظلوميتها للعالمين ولكي تسلب الشرعية ممن آذوها وغصبوا حقها وحق بعلها (صلوات الله عليهما).
ص: 283
..............................
مسألة: يحرم عدم التفاعل مع ما ورد على الزهراء (علیها السلام) من المصائب ، وعدم الاهتمام بما ورد عليها (صلوات الله عليها).
وقد ورد في مستفيض الأحاديث بل متواترها - ولو تواترا معنوياً أو إجماليا - (شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا)(1).
وقد صح عن الفريقين غضبها (صلوات الله عليها) على الشيخين(2) وايذائهما لها(علیها السلام) (3)، كما ثبت عند الفريقين قوله (صلی الله علیه و آله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها» (4)..
ص: 284
..............................
وقوله (صلی الله علیه و آله): «من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» (1).
هذا وقد قال سبحانه: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا»(2).
وكيف لا يتفاعل المؤمن مع منبغضبها يغضب الرب الجليل؟(3).
ثم إن المراد ب(الجرح لما يندمل) قد يكون: الأعم من جرح موت الرسول (صلی الله علیه و آله) ومما ورد عليها من الجراح، وفي قصة حرق الدار وعصرها بين الحائط والباب وكسر الضلع وإسقاط الجنين وغير ذلك مما هو مذكور في التواريخ.
وقد يكون المراد من (والجرح لما يندمل) جرحها فقط.
وكلا الأمرين جائز فإن الجرح مادي ومعنوي، والجامع أنه جرح، ولذا قال الشاعر: جراحات السنان لها التيام ولا يلتام ما جرح اللسان
ولعل الآية المباركة أيضاً يراد بها الاثنان، قال سبحانه: «إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله»(4). ومن المعلوم أنه أصابتهم في الحرب قروح نفسية وقروح بدنية، لأن الحرب لها أهوال ومخاوف، كما أن لها جروحا ومعاطب. ولا يخفى أن كل واحد من القرح والجرح يطلق على الآخر مع انفراده،أما مع اجتماعه فالجرح ما يجرح والقرح يراد به الدمل ونحوه.
ص: 285
-------------------------------------------
مسألة: من المحرمات ترك الرسول (صلی الله علیه و آله) دون تكفين وغسل ودفن والاشتغال بما اشتغلوا، ووجه الحرمة فيه إضافة إلى كونه مخالفه لواجب مسلم(1) أنه(2) إهانة بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) كما هو إهانة بالنسبة إلى كل ميت له شيء من الاحترام، والإهانة محرمة مطلقا خصوصا بالنسبة إلى عظماء الدين فكيف بالرسول (صلی الله علیه و آله) الذي هو اعظم من كل عظيم، مضافاً إلى أن القضية كانت مؤامرة ضد وصي الرسول (صلی الله علیه و آله) وخليفته المنصوص عليه.ووجه احتجاجها (علیها السلام) ب (الرسول لما يقبر) هو: الجوانب النفسية والطريقية وما أشبه مطابقة أو تضمناً أو التزاما، لذلك الترك.
ويدل عليه أيضاً قولها (علیها السلام) بعد قليل: (ألا في الفتنة سقطوا) فان (السقوط) امتد بامتداد الزمن وفي شتى الجهات.
توضيح ذلك: إن تركه (صلی الله علیه و آله) دون غسل وكفن ودفن محرم نفسي كما كان حراما من جهة طريقيته إلى الانشغال بغصب الخلافة، ومن جهة طريقيته أيضاً باعتبار كونه فتح باب لأمثال ذلك، - متعللين بعذر أو بآخر - كما جرى بالنسبة إلى سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) حيث تركه القوم هو وأصحابه دون غسل
ص: 286
..............................
وكفن ودفن، وكما فعلوا مع زيد بن علي (علیه السلام) بعد صلبه، إلى غير ذلك، وهذه السنة السيئة قد سنّوها من ذلك اليوم فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
المراد من (والعهد قريب) أي عهدكم بوصايا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، وفي تعيينه خليفة من بعده، وذلك يومالغدير وغيرها.
ويحتمل إرادة العهد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وهذا أيضاً بذلك اللحاظ، بقرينة ما سبقه من الجمل(1).
فإنهم في حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) لم يكن بمقدورهم المخالفة العلنية بهذا النحو وبهذه الدرجة وإن خالفوا بانحاء آخر، لكنهم بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) بادروا إلى الانقلاب على الأعقاب بسرعة قياسية.
و(قريب) إشارة إلى الامتداد الزمني، وهو الكم المتصل غير القار.
و(رحيب) إشارة إلى السّعة، هو كم متصل قارّ.
و(لما يندمل) إشارة إلى العمق، وهو من لوازم السعة أيضاً.
و(لما يقبر) إشارة إلى طرف آخر للإضافة، فان نقضهم لبيعة الغدير له إضافتان: أولهما: إلى العهد والميثاق نفسه. وثانيهما: إلى صاحبه ومن عقده(2).
ومن الواضح أن الجريمة تكون أقبح وأسوأ بلحاظ الإسناد، ومتعاكسة في الجهة، ومساوية في القوة مع درجة من أجرم بحقه.
ص: 287
..............................
وله إضافة ثالثة أيضاً: إلى (من عقد له)(1). ورابعة: إلى (الأمة).
وخامسة: إلى (الأجيال القادمة)، فان نقضهم لبيعة الغدير كان جريمة بحق الأمة وبحق كل الأجيال اللاحقة، إذ شرعوا بذلك طريق الفساد والاستبداد والضلال والإضلال إلى يومنا هذا. وهناك إضافة سادسة أيضاً: إلى (أنفسهم) إذ بذلك النقض، خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
قولها (علیها السلام): (هذا) أي الانقلاب على الأعقاب والاغتصاب للحق البديهي ووسم غير ابلهم وورود غير مشربهم، (و) الحال أن (العهد) برسول الله (صلی الله علیه و آله) (قريب) إلى درجة كبيرة بل مذهلة، فان (الرسول لما يقبر) وهذا يتضمن مزيد إدانة لهم عقليا وعقلائيا وإنسانيا وعاطفيا…
ثم إنه يمكن أن يعد ذلك دفعا لدخل مقدر وإجابة على سؤال مفترض، اذ قد يتعلل بمخالفة القرار الصادر عن القيادة ب (النسيان) أو ب (بتغير الظروف)، وطرو مستجدات غيرت المعادلة، لكن (هذا والعهد قريب،والرسول لما يقبر) فأي عذر بعدها لكم؟ مع قطع النظر عن الجواب باستحالة كون هذا العهد مما يقبل التغير على كل الظروف.
وأما التعلل بخوف الفتنة فهو ما ستشير إليه (علیها السلام) في ما سيأتي.
ثم إن نقض العهد والحال أنه قريب، يكشف عن مزيد من خبث الباطن وعن مدى انقيادهم للشيطان الرجيم، كما أن في الجانب الآخر المسارعة إلى مغفرة من الرب تكشف عن سمو النفس وقوة العبودية له جل وعلا.
ص: 288
مسألة: ربما يستفاد من قولها (علیها السلام): (ابتداراً) حرمة المبادرة للغصب ولمطلق المعصية، فقد يقال: بأن (الاغتصاب) محرم و(المبادرة إليه) محرم آخر.
وذلك بلحاظ أن (المبادرة) إلى الشر مذمومة عقلاً، كما ان فعله مذموم، كما أن (المسارعة) إلى الخير حسنة وممدوحة كفعله، ولذلك قال تعالى: «وسارعوا الى مغفرة من ربكم»(2) وقال سبحانه:«فاستبقوا الخيرات»(3).
بضميمة(4) مثل: (العجلة من الشيطان) و«إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها والتساقط فيها عندزمانها»(5).
ولأنها أكثر زمانا(6) وأوسع تأثيراً وأكبر آثارا، ولما فيها (من سن سنة سيئة)(7)، فتأمل.
ص: 289
..............................
وقد يكون السر في الردع عنها عقلا، أن في التأخير - إضافة إلى ما سبق - احتمال ارتداعه، وان العجلة فيها تسد الطريق - عادة - على التراجع.
ثم إن المبادرة للشر تكشف عن شدة التجري على الله سبحانه، والاستخفاف بنواهيه، وشدة الحرص على الدنيا، وخبث السريرة، وسوء الباطن، وقد قال الله سبحانه في حكم الاغتصاب لأموال اليتامى: «وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولاتأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكلبالمعروف»(1).
أما المبادرة للخير فحسن وقد يجب، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا علي، بادر بأربع قبل أربع، بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «دوام الطاعات وفعل الخيرات والمبادرة إلى المكرمات من كمال الإيمان وأفضل الإحسان»(3).
وقال (علیه السلام): «المبادرة إلى العفو من أخلاق الكرام»(4).
وقال(علیه السلام):«للكرام فضيلة المبادرة إلى فعل المعروف واسداد الصنائع»(5).
ص: 290
..............................
وقال (علیه السلام): «بادر الفرصةقبل أن تكون غصة»(1).
وفي وصية لقمان (علیه السلام): «يا بني بادر بعملك قبل أن يحضر أجلك وقبل أن تسير الجبال سيراً»(2).
وقال (علیه السلام): «اغتنم المهل وبادر الأجل وتزود من العمل»(3).
وفي الحديث: «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الحسنات وسلا عن الشهوات ومن أشفق من النار بادر بالتوبة إلى الله من ذنوبه..»(4).
وقال (علیه السلام): «بادر الخير ترشد»(5).
وقال (علیه السلام): «طوبى لمن بادر صالح العمل قبل أن تنقطع أسبابه»(6).
وقال (علیه السلام): «بادر الطاعةتسعد»(7).
وقال (علیه السلام): «بادر البر فان اعمال البر فرصة»(8).
وقال (علیه السلام) في الشعر المنسوب إليه:
تزود من الدنيا فإنك راحل***وبادر فإن الموت لا شك نازل
ص: 291
..............................
ومن المبادرة المذمومة ما قاله (علیه السلام): «المبادرة إلى الانتقام من شيم اللئام »(1)
قولها (علیها السلام): (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة)، الظاهر أن (ابتدارا) مفعول له (2) مقدم لزعمتم، أي زعمتم خوف الفتنة، وهذا الزعم كان لأجل الابتدار الى أخذ الخلافة، وإلا لم تكن هنالك فتنة لان الخليفة معين منقبل الرسول (صلی الله علیه و آله) (3).
ثم إنه بلحاظ وقوع الابتدار في موقع الذم الأكيد والتقريع الشديد، بل في موقع أشد أنواع الذم والتألم والاحتجاج والردع، في كلامها (علیها السلام) يستفاد ما ذكر من الحكم(4).
مسألة: يحرم تبرير المعصية في الجملة، فان (التبرير) إضلال ومكر وخديعة.
وقد أشارت (علیها السلام) في قولها (زعمتم خوف الفتنة) إلى الأسلوب الذي يستخدمه المنحرفون والطغاة عادة لإخماد صوت المعارضة، ولإقناع البسطاء والسذج، ولتكريس الواقع المنحرف، وهو (أسلوب التبرير).
ص: 292
..............................
وكثيرا ما نرى قادة انقلاب عسكري يعللون انقلابهم بدكتاتورية الحكم السابق، مع انهم جاءوا بدكتاتورية اشد، ويخططون لظلم اكبر، أو يعللونبأنهم جاءوا للدفاع عن حقوق المستضعفين وشبه ذلك ثم يدوسونهم تحت أرجلهم.
وكان مما علل به القوم غصب الخلافة من الإمام علي (علیه السلام) أنهم قالوا إذا لم نبادر الى جعل الخليفة، تقع فتنة بين المسلمين، رغم ان الذين اعتذروا بمثل هذا كانوا يعلمون بأنه عذر غير صحيح، فان الفتنة بين المسلمين صارت بسببهم، وإلاّ فقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) عيّن الإمام علي (علیه السلام) خليفة من بعده وأخذ البيعة له من المسلمين يوم غدير خم(1)، لكن «بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره»(2).
بل كان السبب هو حب الرئاسة و السلطة و… كما قال علي أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخطبة الشقشقية: «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير»(3).
مسألة: أشارت (صلوات الله عليها) في هذه الجملة القصيرة الى مثلث المعصية الذي وقعوا فيه، فإنهم لم يرتكبوا محرما واحدا بل كانت الجريمة مزدوجة، بل كان عملهم (مجمع المعاصي)، فقد (كذبوا) و(مكروا) و(خانوا).
ص: 293
..............................
فب (ابتدارهم) إلى غصب الخلافة (خانوا) الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، و(خانوا) العهد والبيعة، و(خانوا) الإمامة والأمة.
وقد (كذبوا) في زعمهم إن ذلك كان (خوف الفتنة)، إذ كان السبب غير ذلك، بل هو حب الدنيا والرئاسة وما أشبه حيث حليت الدنيا في أعينهم.
وقد (مكروا) حيث حاولوا التغطية على واقع الجريمة باختلاق عذر أرادوا به إقناع الأمة وإغفال الناس «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين» (1).
وبذلك كشفوا عن خبث باطنهم وسوء سريرتهم.
وحيث إنها (علیها السلام) في مقام اشد أنواع التقريع، ربما استفيد منذلك - إلى جوار سائر الأدلة العامة والخاصة - مضافاً إلى حرمة الكذب والمكر والخيانة، كونها من أشد المصاديق حرمة، فان كل واحد منها تكون حرمته اعظم في الأمور العظيمة.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فاني سمعت جبرئيل يقول إن المكر والخديعة في النار، ثم قال (صلی الله علیه و آله): ليس منا من غش مسلماً، وليس منا من خان مسلماً»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا سوءة أسوء من الكذب»(3).
وقال (علیه السلام): «الكذب في العاجلة عار، وفي الآجلة عذاب النار»(4).
ص: 294
..............................
وقال (علیه السلام): «الكذب فساد كل شيء»(1). وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ثلاثة يرجعن على صاحبهن:النكث والبغي والمكر»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «وإياك والمكر فإن الله قضى أن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله»(3).
وقال (علیه السلام): «المكر لؤم والخديعة شؤم»(4).
وقال (علیه السلام): «المكر سجية اللئام»(5).
وقد نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الخيانة(6) وقال (صلی الله علیه و آله): «من خان أمانة في الدنيا ولم يردها إلى أهلها ثم أدركه الموت، مات على غير ملتي ويلقى الله وهو عليه غضبان»(7).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الخيانة رأس النفاق»(8).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام):«يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب»(9).
ص: 295
-------------------------------------------
مسألة: قولها (علیها السلام) يدل على أن القوم سقطوا في الفتنة، ويلزم الاعتقاد بذلك، وهذا اقتباس من الآية المباركة:«ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين»(1).
وقد ذكرنا فيما تقدم إن الدنيا لها اوجه: وجه دنيوي ملموس، ووجه أخروي ناري، ووجه أخروي نوري، ولا حاجة إلى تكرار ما سبق، وستأتي إشارة إليها ولكنا نضيف هنا:
إن التعبير ب« في الفتنة»، وفي للظرفية، بلحاظ إن الفتنة ليست أمرا مفردا وجزئيا واحدا عادة، بل هي ظرف محيط يطوق الإنسان فكريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وغير ذلك، إذ هيمنظومة متكاملة من الجزئيات والأقوال والأفراد والأحداث التي تحيط بالمرء من كل حدب وصوب، ف (يسقط) فيها الناس.
والتعبير ب (سقطوا) أيضا لنكتة دقيقة، فان الفتنة هي مهوى سحيق، وبئر عميقة موحشة يسقط فيها الإنسان، وليس الأمر مجرد منظومة تحيط بإنسان من كل صوب.
وكذلك كانت (فتنة السقيفة) فلم تكن مفردة واحدة، بل كانت سلسلة
ص: 296
..............................
متعاضدة من التخطيط والضغط والقهر والقسر والإرهاب:
أحد أطرافها إنكار وفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وتهديد من يقول بذلك(1).
والطرف الآخر: حرق باب ابنةالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) (2) وكسر ضلعها
ص: 297
ص: 298
ص: 299
ص: 300
ص: 301
ص: 302
ص: 303
ص: 304
ص: 305
ص: 306
ص: 307
ص: 308
ص: 309
ص: 310
..............................
وإسقاط جنينها الذي سماه الرسول (صلی الله علیه و آله) محسنا (1)...
ص: 311
..............................
وغير خفي إن السقوط في الفتنة أمر اختياري حدوثا واستمرارا، ولو فرض كونه في بعض مراحله في بعض الأزمان غير اختياري، فان ما بالاختيار لاينافي الاختيار فعليه العقوبة دون ريب وذلك للتقصير في المقدمات.
وقد أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذه الفتنة وأمر الناس باتباع الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) دون غيره، حيث قال:
«ستكون من بعدي فتنة فإذا كان كذلك فألزموا علي بن أبي طالب، فإنه الفاروق بين الحق والباطل»(1).
كما أخبر (صلی الله علیه و آله) بالفتن في آخر الزمان حيث قال: «سيأتي على أمتي زمان لايبقى من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، يسمون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود»(2).
ص: 312
-------------------------------------------
مسألة: اقتباسها (علیها السلام) الآية الشريفة: «ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين»(1)وذكرها هاهنا، يدل على شهادتها (علیها السلام) بأن ما فعلوه من غصب الخلافة وفدك، وإيذاء آل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) وابنته فاطمة الزهراء (علیها السلام) وقد قال فيها (صلی الله علیه و آله): (من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) (2) و...
استلزم الكفر وذلك واضح، وإلا لزم لغوية ذكر هذه الآية ههنا.
ثم إنه هل المقصود الكفر موضوعا أو حكما (3)؟فإن الكفر على قسمين:
1: كفر العقيدة.
2: كفر النعمة.
ص: 313
..............................
تفصيل البحث في المفصلات، وهذه الآيات ونظائرها توضح أقسام الكفر اكثر فاكثر. قال تعالى: «قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ان اتبع إلا ما يوحى الي وما أنا إلا نذير مبين * قل أرايتم ان كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ان الله لايهدي القوم الظالمين» (1).
ومن الواضح أن نصب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خليفة من بعده (صلی الله علیه و آله) كان من عند الله دون شك، قال تعالى:« يا أيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربك…» (2). وقال سبحانه: ..« فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباسالجوع»(3). وقال تعالى: «وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به»(4) .
وقال سبحانه: «إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا» (5).
وقال عزوجل: «سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع»(6).
وقال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى اشد العذاب»(7).
ص: 314
..............................
وقال سبحانه: «ومن يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب»(1) .
قال تعالى: «ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»(2) .وقال عزوجل: «أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل»(3).
وقال سبحانه: «ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله » (4).
وقال تعالى:«أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون» (5).
قال عزوجل: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً»(6).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حب علي إيمان وبغضه كفر»(7).
وعن ابن عباس أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال لقائله ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون علياً.
قال: قربني إليهم. فلما أن وقف عليهم قال: أيكم الساب الله؟
ص: 315
..............................
قالوا: سبحان الله ومن يسب الله فقد أشرك بالله.
قال: فأيكم الساب رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟
قالوا: ومن يسب رسول الله فقد كفر.
قال: فأيكم الساب علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه)؟
قالوا: قد كان ذلك. قال: فاشهد بالله واشهد الله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من سب علياً فقد سبني ومن سبني فقد سب الله عزوجل»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من حسد علياً فقد حسدني ومن حسدني فقد كفر»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من سب علياً فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله فقد كفر»(3). وقال (صلی الله علیه و آله): «يا بن عباس لا تشك في علي فان الشك فيه كفر يخرج عن الإيمانويوجب الخلود في النار»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن علياً خير البشر من أبى فقد كفر»(5).
قولها (علیها السلام):«ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» (6) فإنهم زعموا أنهم يريدون الخروج من الفتنة (المزعومة) فوقعوا
ص: 316
..............................
في فتنة حقيقية مؤكدة، لأن مخالفة أمر الباري جلّ وعلا ورسوله (صلی الله علیه و آله) في الخلافة(1) فتنة ليست فوقها فتنة.
وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فارق علياً (علیه السلام) بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة،ومن خالف علياً حرم الله عليه الجنة، وجعل مأواه النار وبئس المصير، ومن خذل علياً خذله الله يوم يعرض عليه، ومن نصر علياً نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته عند المساءلة»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يابن عباس من خالف علياً فلا تكون ظهيراً له ولا ولياً، فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخالفه أحد إلا غيّر الله ما به من نعمة وشوه خلقه قبل إدخاله النار»(3).
أما «إن جهنم لمحيطة بالكافرين»(4) فلأن الآخرة امتداد للدنيا(5) والثواب والعقاب يكونان أيضاً في نفس هذه الدنيا، كما يكونان في عالم الآخرة، والآخرة محيطة بالدنيا، منتهى الأمر إن (منافذ) الإنسان و(نوافذه) نحوها مغلقة ما دام حياً، فما أعطي من الحواس الخمس نوافذها للعالم الدنيوي،
ص: 317
..............................
والحاسة السادسة والأحلام وغيرها إنما هي (إشارات) لنوافذ ربما تطلّ على العالم الآخر..
ولذلك فان الإنسان المؤمن لا(يحسّ) ولا(يشهد) عادة: حسن الآخرة ونعيمها مادام في الدنيا، والإنسان السيئ لا يحس بعقوبات عالم الآخرة مادام حياً لأن حواسهما ليست من حواس الآخرة، ولم يعط في الدنيا تلك الحواس التي تكشف له آفاق ذلك العالم، فحاله حال الإنسان الذي فقد ذوقه أو بصره أو سمعه أو شمّه أو لمسه، فانه يلامس الأشياء دون أن يحس بلطافتها وطراوتها أو خشونتها، ويكون أمامه المرئي وتملأ غرفته الأصوات (من صدح البلابل إلى هدير المحركات) دون أن يرى أو يسمع شيئاً، وهكذا بالنسبة إلى الذوق والشم، بينما قد يوجد الى جانبه من لم يفقد حواسه الخمس فإنه يحسّ بكلّ ذلك ويشهدها بوضوح. بل ربما أحسّ المريض بمرارة الحلاوة، بينما الصحيح يكتشفها حلوة كما هي.
وقد أكثر الباري جل وعلا وأنبياؤه وأولياؤه في الآيات والروايات الإشارة إلى هذا القبيل، مثل قوله سبحانه «إنما يأكلون في بطونهم ناراً»(1)وقد أشرنا إلى بعض تفصيل ذلك في (الفقه)(2) وغيره(3).
ص: 318
-------------------------------------------
مسألة (1): يحتمل في المراد من قولها (علیها السلام): (هيهات)(2) وجوه:
إذ لعل المراد ب: (هيهات): أنهذه الأعمال كانت بعيدة عنكم، كقوله سبحانه:«هيهات هيهات لما توعدون» (3)، فكأنه أريد أن من المستبعد ممن عاشر الرسول (صلی الله علیه و آله) وعرفه وسمع وصاياه الأكيدة حول أهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) أن يسكت عن غصب حقّهم (علیهم السلام) ، فكيف بأن يعين على ذلك، فكيف بأن يمارسه بتلك الطريقة الوحشية(4).
أو أن المراد: أن ما تكشفه تلك الأفعال من قصد مبطن كان بعيداً عنكم(5) فكان الأوفق بحالكم غير ذلك القصد.
أو: الجامع بين الأمرين، باستعمال (هيهات) في كلّي يكون كلا الأمرين مصداقاً له.
أو أن المراد: بعيد منكم الرجوع الى الحق ما دمتم قد عقدتم قلوبكم على
ص: 319
..............................
الابتعاد عنه، فإن الإنسان - عادة - إذا عقد قلبه على الابتعاد عن شيء فإنه يسيطر على جوارحه الابتعاد عنه، كما أنه في عكسه إذا عقد الإنسان قلبه على الإقتراب من شيء فإنه يسيطر على جوارحه الاقتراب إليه، وبعد ذلك لا يهمه إن كان الابتعاد أو (الاقتراب) حقاً أو باطلاً. قال سبحانه بالنسبة إلى بعض الناس: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم»(1).
وقال عز وجل:« يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» (2).
هذا كله بناء على كونها خبرية.
ويحتمل أن تكون إنشائية(3) بمعنى الدعاء عليهم بالبعد عن رحمة الله، وعلى هذا يستفاد منه مطلوبية الدعاء على الأعداء ومنه اللعن، فانه بمعنى البعد عن رحمة الله أو بمعنى الدعاء عليهم بالبعد عن الوصول لما كانوا يصبون إليه فتأمل. قال تعالى:«أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون»(4).
وقال سبحانه: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا»(5).
وقال عزوجل: «إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا»(6).
ص: 320
..............................
ويؤيد أول الاحتمالات سياق كلامها (عليها السلام) وقولها: (وكتاب الله بين أظهركم).
ومما ورد فيه كلمة (هيهات) بالمعنى المذكور ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عباس بعدما قطع خطبته الشقشقية: «هيهات هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت. فقال ابن عباس: فما أسفت على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) إذا لم يبلغ به حيث أراد»(1).وقد ورد في باب التوحيد ونفي التشبيه: «الهي تاهت أوهام المتوهمين وقصر طرف الطارفين وتلاشت أوصاف الواصفين واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك بعجيب شأنك، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوك، فأنت في المكان الذي لايتناهى، ولم تقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة، هيهات ثم هيهات»(2).
وفي الحديث أن معاوية قال للإمام الحسن (علیه السلام): «أنا خير منك يا حسن، قال (علیه السلام): وكيف ذاك يا بن هند، قال: لأن الناس قد أجمعوا علي ولم يجمعوا عليك، قال هيهات هيهات، فشر ما علوت يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشى لله أن أقول أنا خير منك، فلا خير فيك، ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل»(3).
ص: 321
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) مخاطباً الدنيا وما فيها: «يا دنيا يادنيا أبي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وأملك حقير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وعظم المورد»(1).
وقال (علیه السلام): «هيهات أن ينجو الظالم من أليم عذاب الله وعظيم سطواته»(2).
ص: 322
-------------------------------------------
قولها (علیها السلام): (وكيف بكم) أي كيف صار الأمر بكم إلى ما صار، وكيف صرتم الى هذه الحالة من العداء لأهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وغصب حقوقهم.
وبعبارة أخرى:
أي حال لكم في دنياكم وفي آخرتكم مع عملكم هذا الذي هو خلاف الحق.
وفي (كيف) معنى التعجب كما ذكره الأدباء(1)، وفي المقام هو إنكار توبيخي.
قولها (علیها السلام): (وأنى تؤفكون) أي: كيف تصرفون عن الحق، وتزيغون عنه، وتتبعون الباطل، من إفكه كضربه بمعنى: صرفه عن الشيء وقلبه.
وقد ورد في القرآن الحكيم بالنسبة إلى البلاد التي قلبت ظهراً لبطن وبطناً لظهر بسبب عذاب الله سبحانه وتعالى، اسم (المؤتفكات) كما في قضية قوم لوط(علیه السلام).
قال سبحانه: «ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»(2).
ص: 323
..............................
وقال تعالى: «وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة»(1).
وفي تأويل هذه الآية المباركة:
أنها في أعداء أمير المؤمنين علي (علیه السلام) (2).
ويحتمل أن يكون معنى (أنى(3) تؤفكون) هو: أين يصرفكم الشيطان،أو تصرفكم أنفسكم عن الحق؟ وهو كلمة تعجب أيضاً يقصد بها الإنكار والتوبيخ.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام):
«أين تتيهون، ومن أين تؤتون، وأنى تؤفكون، وعلام تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، أين وهم أزمة الصدق وألسنة الحق»(4).
ص: 324
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): (وكتاب الله بين أظهركم) وبمجموعة من القرائن الأخرى أن القرآن كان مجموعاً في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) كما هو اليوم وبنفس الترتيب من دون زيادة ولا نقيصة. قال تعالى: ]إن علينا جمعه وقرآنه»(1). وإن قيل: بصحة الإسناد في ظرف عدم الجمع، إلا أنه خلاف المتفاهم عرفاً، خاصة بلحاظ (بين أظهركم) و بلحاظ الإطلاق الأزماني والأحوالي في الجمل اللاحقة(2). وقد فصلنا هذا البحث في كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) (3) و(متى جمع القرآن) (4).
مسألة: يستفاد من قولها (علیهاالسلام): (وكتاب الله بين أظهركم) عدم تحريف الكتاب، وإلا لما صح إطلاق (كتاب الله) على الموجود بين أظهرهم.
ولو قيل بتمامية الاستدلال في صورة القول بالتحريف بالنقص فقط دون الزيادة أجيب بأن الإطلاق ينفيهما(5) إضافة إلى ما للجمل اللاحقة من الدلالة الواضحة على عدم التحريف مطلقاً، إذ كيف يكون المحرَّف (أموره ظاهرة
ص: 325
..............................
وأحكامه زاهرة…) خاصة مع لحاظ إفادة الجمع المضاف للعموم.
قال تعالى: «وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين»(1).
مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): (وكتاب الله بين أظهركم) ومن الجمل اللاحقة: حجية الكتاب، على خلاف ما ذهب إليه بعض الأخباريين.قال تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»(2).
وقال سبحانه: «وانك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم»(3).
ودلالة كلامها (علیها السلام) واضحة بل صريحة، فالمعنى: والحال أن كتاب الله سبحانه وتعالى وهو القرآن الحكيم بينكم، وأنتم تقرؤونه ليل نهار، وهو الحكم والمرجع، فإلى أين تنصرفون، ولمن ولأي شيء ولما تتوجهون، (وكتاب الله بين أظهركم)؟ (أفحكم الجاهلية تبغون) ؟
وقولها (علیها السلام): (بين أظهركم)، يقال: فلان بين أظهر القوم وبين ظهرانيهم، أي مقيم بينهم، محفوف من جوانبه بهم(4)، وكذلك يقال بالنسبة إلى الشيء، مثل: أن المدرسة بين أظهرهم، والمكتبة بين أظهرهم، وما أشبه ذلك.
ص: 326
-------------------------------------------
مسألة: قولها (علیها السلام): (أموره ظاهرة) فإن القرآن الكريم - أوامره ونواهيه وحكمه ومواعظه وقصصه وغير ذلك - كلها ظاهرة كالشمس ويلزم العمل وفقها. قال تعالى: «ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون»(1).
وقال سبحانه: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الذي يجب العمل بظاهره»(3).
ولا يعمى عن أمور القرآن الظاهرة إلا من تلبد قلبه بحجب اللجاج والعناد وسحب الأهواء و الشهوات، قال تعالى: «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاخسارا»(4).
فيعرفها الإنسان العربي وليست من قبيل الألغاز، وهم ليسوا من غير العرب حتى لا يفهموا أحكام القرآن وأوامره وزواجره، وقد أمر القرآن باتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) في كلما يأمر وما ينهي «ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
ص: 327
..............................
فانتهوا» (1)، وقد أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهناك آيات عديدة في هذا الباب كآية البلاغ(2) وآية الولاية(3) وآية إكمال الدين(4) وما أشبه.
فالرسول (صلی الله علیه و آله) عين الخليفة بمتواتر الروايات، وبمشهدومرأى الناس في غدير خم وغيره(5)، فكيف تصرفون وتعرضون عن هذا الظاهر من القرآن؟.
والظاهر أن الجمل اللاحقة من قبيل عطف الخاص على العام(6) لأهميته، وللتأكيد.
ويحتمل التغاير كما سيأتي. و المراد بالظهور الأعم من الظهور ابتداءً أو ثانياً، بالمباشرة أو بالواسطة(7)، فلا يستشكل على ذلك بالمتشابه، أو يقال بانصراف الأمور إلى غيره بقرينة المقام(8) ويكون المراد على هذا (الأمور التي تحتاجون إليها لشؤون معاشكم ومعادكم) ومن أهمها أمر الخلافة.
ص: 328
-------------------------------------------
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن أحكام القرآن زاهرة وأعلامه باهرة.
والزاهر عبارة عن: المتلألئ المشرق، بمعنى أنّ أحكام القرآن كلها متلألئة، عليها نور الحق والصدق، وهي (تزهر) كما تزهر الشمس، في أفق الأرواح والأفكار.
وكما أن أعمى العين لا يرى نور الشمس كذلك أعمى البصيرة لا يبصر نور القرآن، فهي (زاهرة) بيّنة لنفسها ومضيئة للسائرين، كالنور الظاهر بنفسه المظهر لغيره، ولو أتبعتم أحكامه لسرتم على المنهاج الواضح نحو حياة سعيدة في الدنيا وجنة عرضها السماوات والأرض في الآخرة، قال تعالى:
«ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى* قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى»(1).وقال سبحانه: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»(2) .
وفي الدعاء: «اللهم صل على محمد وآله، وأدم بالقرآن صلاح ظاهرنا،
ص: 329
..............................
واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا، واغسل به زيغ درن قلوبنا وعلائق أوزارنا، واجمع به منتشر أمورنا… واجبر بالقرآن خلتنا من عدم الإملاق، واسق إلينا به رغد العيش وخصب سعة الأرزاق، وجنبنا به من الضرائب المذمومة ومداني مذام الأخلاق، واعصمنا به من هوة الكفر ودواعي النفاق، حتى يكون لنا في القيامة إلى رضوانك وجنانك قائداً، ولنا في الدنيا عن سخطك وتعدي حدودك ذائبا طارداً، ولنا لما عندك بتحليل حلاله وتحريم حرامه شاهدا»(1).
وقولها (علیها السلام): (وأعلامه باهرة)، أعلام: جمع علم، أي: علاماته، كعلامات الطريق مثلاً، لكن علامات الطريق مادية وعلامات القرآن معنوية.
وقولها (علیها السلام): (وأعلامه باهرة)، أعلام: جمع علم، أي: علاماته، كعلامات الطريق مثلاً، لكن علامات الطريق مادية وعلامات القرآن معنوية.
ثم إن(2) القرآن الحكيم تحدّاهم في مواطن أربعة على أربع مستويات، متدرجاً من التحدي عن الإتيان بمثل القرآن إلى الإيتان بجزء من سورة فقط..
فقال مرة: «لا يأتون بمثله» (3)، أي: (114) سورة.
وثانية: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات»(4).
ص: 330
..............................
وثالثة:«فأتوا بسورة مثله»(1)، وفي آية أخرى قال: «فأتوا بسورة منمثله»(2)، ولا يخفى الفرق بينهما لمكان (من).
ورابعة: «فليأتوا بحديث مثله»(3)، مما قد يشمل أقل من السورة أيضاً.
ثم من جانب آخر، رفع درجة التحدي ومستوى عدم إمكان ذلك بالقياس إلى الأشخاص والزمن.
فقال مرة: «فأتوا».
وأخرى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»(4).
وثالثة قال: «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا»(5)، أي أنهم ليس بمقدورهم ذلك إلى الأبد، كما ليس بمقدورهم الإتيان بأي محال آخر استحالة ذاتية أو وقوعية(6).
ص: 331
..............................
فهو في التنازل والترقي مثله مثل من يقول لمن يدّعي البطولة: أحمل طناً، ثم يقول: مائة من(1)، ثم يقول: عشرة أمنان، ثم يقول: مناً واحداً، فإذا لم يفعل حتى الدرجة الأخيرة كان معناه أنه لاحظ له من البطولة.
وفي المقابل يقول: إن حملت أعطيك ديناراً، ثم يقول: عشرة دنانير، ثم يقول: مائة دينار، ثم يقول: ألف دينار، فيخفض مستوى التحدي ويرفع الثمن.
والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي نزل من عند الله وبقي وسيبقى خالداً دون تحريف، وسرّ بقائه أنه كتاب لخاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) إلى آخر الأزمان، فهو كتاب الله عبر خاتم أنبيائه للبشرية إلى فناء الدنيا، بينما الكتب السماوية السابقة نزلت لفترة زمنية محددة، ثم «نسوا حظاً مما ذكروابه»(2) فالكتب الموجودة في أيديهم الآن لم تنزل من السماء، والكتب النازلة لم تبق، فلم يحفظها الله سبحانه غيبياً وإعجازياً - كما حفظ القرآن - لأنها كانت مؤقتة لا دائمة كالقرآن الحكيم، فلم يستلزم قاعدة (اللطف) حفظها.
ومن الطبيعي أن لا يكون بمقدور البشر على أن يأتي بمثل القرآن، حتى إذا تعاضد وتعاون مع الجن وغيرهم، فإن الكتاب التشريعي كالكتاب التكويني، وحيث لا تستطيع المخلوقات بأجمعها حتى على خلق ذبابة، بل على خلق حبة
ص: 332
..............................
حنطة حية تنمو لما فيها من الروح إذا أنبتت (1) كذلك في كتاب الله التشريعي.وعلامات القرآن تشير إلى مجموعة هائلة من الحقائق التكوينية و التشريعية والماورائية، من المبدأ الى المعاد، ومن الأحداث التاريخية إلى الإخبارات الغيبية، ومن السنن الاجتماعية التي تحكم الأسرة والمجتمع والحكومات، مروراً بالقضايا الحقوقية والسياسية والاقتصادية و… وانتهاء بحالات الإنسان وهو على بوابة العالم الآخر في آخر لحظاته من الدنيا.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به»(2).
وقال (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لايضل، والمحدث الذي لا يكذب»(3).
وقال (علیه السلام): «ليس لأحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن غنى»(4).
ص: 333
..............................
والباهرة - والمصدر: البهر والبهور - هي التي تبهر الإنسان وتثير إعجابه بحسنها أو نورها وضياءها، وهي تتضمن معنى الغلبة والتفوق(1) أيضاً.
ثم إن من جملة أعلام القرآن الباهرة التي أشارت (علیها السلام) إليها:
قوله تعالى: ]إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»(2).
ومن جملة علاماته الباهرة: إخباره الغيبي ب«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم …»(3).
ص: 334
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الإتيان بما نهى عنه القرآن الكريم من المحرمات.
قولها (علیها السلام): (وزواجره لائحة) المراد بالزواجر: النواهي.
و(لائحة) بمعنى: ظاهرة، نعم هناك فرق بين الظاهر واللائح، فإن (اللائح) هو: الذي يظهر بعد الإختفاء، بينما (الظاهر) أعمّ من ذلك ومن غيره، وإذا قوبل بينهما كان من قبيل الفقير والمسكين، أو من قبيل الظرف والجار والمجرور، وفي اصطلاح الأدباء: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا).
قال تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً»(1).
وقال عزوجل: «وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون»(2). ومما قضى به الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) تعيين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) خليفة من بعد النبي (صلی الله علیه وآله) قال عزوجل: «يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك»(3).
ومن زواجره اللائحة قوله تعالى: «وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله»(4) وقال (صلی الله علیه و آله): (من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)(5)، إلى غير ذلك.
ص: 335
-------------------------------------------
وأوامره واضحة(1)
مسألة: يجب امتثال الأوامر القرآنية التي فرضها الله سبحانه.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا أيها الناس انه لم يكن لله سبحانه حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد (صلی الله علیه و آله)، ولا حكمة أبلغ منكتابه القرآن العظيم، ولا مدح الله تعالى منكم إلا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه، وانما هلك من هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه، فلذلك يقول عز من قائل: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم»(2)»(3).
وقال (علیه السلام): «عليكم بهذا القرآن، احلوا حلاله وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه وردوا متشابهه إلى عالمه، فانه شاهد عليكم وافضل ما توسلتم به»(4).
قولها (علیها السلام): (وأوامره واضحة) أي أن أوامر القرآن كلها واضحة غير مبهمة، يعرفها الإنسان الذي يعرف اللغة العربية، قال تعالى: «تلك آيات القرآن وكتاب مبين»(5).
ص: 336
..............................
ومن أوامره: قوله تعالى: «وآتِ ذاالقربى حقه»(1).
وقوله سبحانه: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» (2).
وقوله عزوجل:«يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين»(3) و…
فلماذا الإعراض عن أمر الله؟
ولماذا إيذاء آل بيت رسول الله ؟
ولماذا حرمان ابنته الزهراء (علیها السلام) من الإرث؟ و…
ومن المحتمل أن تكون هذه الجمل والجمل السابقة عليها تختلف عن أولى الجمل(4) إذا فسرّت (الأمور) بالموضوعات - لا بمعنى مطلق الشيء - والأوامر مدرجة في دائرة الأحكام كما هو بينٌ.
مسألتان: يجب أن يكون (القانون) ظاهر الأمور وزاهر الأحكام وباهر الأعلامولائح الزواجر وواضح الأوامر، باعتبار أن القانون هو دستور حياة الناس، فلو لم يتصف بذلك لزم نقض الغرض - ولو في الجملة - ويلزم العبث
ص: 337
..............................
وما أشبه.
والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المتصف بهذه الصفات في أعلى الدرجات - كما بين في محله(1) - فكان الواجب إتخاذه مصدر التشريع(2) لا الإنجيل والتوراة وما أشبه، ولا القوانين الغربية والشرقية المستوردة(3).
وما يستنبط من الكتاب والسنة ينبغي أن يكون كذلك فالرسالة العملية للمراجع العظام و(الدستور أو القانون الأساسي) - بناء على صحته(4)- ومختلف القوانين واللوائح التي تصدرهاالدولة ينبغي أن تكون كذلك قدر المستطاع.
ص: 338
-------------------------------------------
مسألة: يحرم ترك القرآن وهجره، فإنّ ترك أحكام القرآن الواجبة والمحرمة من أشد المحرمات مع الإسناد، وعلى حسب الدرجات بدونه(1).
أما ترك القرآن في أحكامه المستحبة والمكروهة وقصصه(2) وما أشبه ذلك فإذا كان مصداقاً لهجر القرآن كما قال سبحانه وتعالى: « وقال الرسول يا رب إنّ قومي اتخذوا هذاالقرآن مهجورا» (3) كان محرّماً أيضاً، وإلا فترك المستحب وفعل المكروه ليس من المحرمات كما قرر في الفقه.
وفي علل الشرائع: «فإن قال فلم أمروا بالقراءة في الصلاة، قيل لأن لايكون القرآن مهجوراً مضيعاً بل يكون محفوظاً مدروساً فلا يضمحل ولايجهل»(4).
ص: 339
..............................
وفي زيارة الإمام الحسن (علیه السلام): «وأصبح كتاب الله بفقدك مهجورا»(1).
وفي الأثر: «إنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه»(2).
قولها (علیها السلام): (قد خلفتموه وراء ظهوركم)، أي: أنكم تركتم العمل بالقرآن مع العلم أنه بهذه الصفات التي ذكرناها من الوضوح والظهور وما إلى ذلك، كالذي يخلف شيئاً وراء ظهره،فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، وهو كناية عن الإعراض وترك العمل به، بل اللامبالاة وعدم الإعتناء، لأن الإنسان إذا قدّر شيئاً وقدّسه جعله أمامه.
ومن الواضح أن التعبير ب (وقد خلفتموه وراء ظهوركم) أقوى وأبلغ من (تركتموه)، وهذا الكلام منها (صلوات الله عليها): عتاب وتحذير وكشف وفضح وإدانة كما لا يخفى.
مسائل: يحرم إتباع تلك الثلة الذين هجروا القرآن وتركوا أهل البيت (علیهم السلام)، ولا يجوز الدفاع عنهم كأشخاص وكمنهج ومبادئ، بل وحتى السكوت على جرائمهم والرضا بأفعالهم.
ص: 340
..............................
فإنهم كما صرحت (علیها السلام) قد خلفوا كتاب الله وراء ظهورهم ورغبوا عنه وحكموا بغيره، فأضحوا مصداق قوله تعالى:«من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين»(1).
ولو أتبعهم متبع لأصبح كما قالت (عليها السلام) ممن خلف كتاب الله وراء ظهره، وصدق عليه قوله سبحانه:« بئس للظالمين بدلا» (2).
والحق أحق أن يتبع، ومن أن يكون المرء مصداق «بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون» (3).
ومن أن يكون من «همج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق»(4).
ص: 341
مسألة: تحرم الرغبة عن القرآن، قال سبحانه: «ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (2).
ذلك أعم من الرغبة عنه نفسياً أو فكرياً أو سلوكياً، ووجه الحرمة في الرغبة عنه نفسياً أنه من قبيل أصول الدين المرتبطة بالقلب كما هي مرتبطة بالعمل، هذا إذا فسرت الرغبة عنه بالإنكار أو عدم عقد القلب على صحته والإيمان به، وإن فسرت بعدم المحبة لم تبعد الحرمة أيضاً إلا فيمن فرض عدم اختيارية ذلك له - وهو فرض نادر وبعيد - فتأمل.
والظاهر أن الجمع بين الآيةالسابقة(3) وبين قوله تعالى في سورة «يس»: «ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون» (4) اختلاف المواقف في القيامة.
ص: 342
..............................
ففي موقف قد يكون العاصي أعمى وفي موقف قد يكون بصيراً، فإن يوم القيامة خمسون ألف سنة ومن الواضح تعدد المواقف في مثل هذه المدة الطويلة، بل حتى إذا كانت سنة واحدة، كما هو المشاهد في الدنيا، فكيف بالآخرة وهي كما ذكر.
قولها (علیها السلام): (أرغبة عنه تريدون)، أي: أتريدون الإعراض عن القرآن، فإن الرغبة إذا تعدّت ب: (عن) كان معناها الإعراض والنفرة كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم أحد لبعض القوم الذين فروا: «أترغبون بأنفسكم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(1)، وإذا تعدت ب(في) كان معناها الإقبال، فالمعنى: أنكم تريدونشيئاً آخر غير القرآن ودساتيره ومنهجه.
هذا وعدم تداول القرآن الكريم، وعدم تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وعدم مدارسته والتدبر فيه، وعدم وجود دروس تفسير في المدارس - من الابتدائية إلى الجامعة، وإلى جوار الدروس الحوزوية من المقدمات إلى الخارج - بالشكل الكافي كماً وكيفاً وغير ذلك، ربما يعد من مصاديق الرغبة عن القرآن - ولو في الجملة - أعاذنا الله من ذلك.
ص: 343
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الحكم بغير القرآن، كما هو متعارف الآن في البلاد الإسلامية من العمل بقوانين الغرب والشرق، سواء في الأحوال الشخصية أم القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والدولية وشبهها، ومنها الآيات الكريمة التي تركها المسلمون: قال تعالى: «وأمرهم شورى بينهم» (1).
وقال سبحانه: «لا إكراه في الدين» (2).
وقال تعالى: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» (3).
وقال عزوجل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكمتذكرون» (4).
وقال سبحانه: «إنما المؤمنون أخوة» (5).
وقال تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة» (6).
ص: 344
..............................
وقال عزوجل: «يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به»(1)، إلى غير ذلك.
قال تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون» (2).
وفي آية أخرى: «فأولئك هم الظالمون»(3).
وفي آية ثالثة: «فأولئك هم الكافرون» (4).
فإن الانحراف عن أحكام القرآن يؤدي الى الفشل والعطب والتقهقر في الدنيا والآخرة، وهذا ما نشاهده في الحال الحاضر في البلاد الإسلامية حيث أنهم مع كثرتهم ووفرة معادنهم وثرواتهم يعيشون حالة الفقر والتخلف والتأخر المشين(5).
ويمكن أن يستنبط من قولها (علیها السلام): (وأنى تؤفكون وكتاب الله …) - إلى جوار سائر الأدلة العامة والخاصة - إن القرآن الكريم هو المرجع في كل شيء، أي أن فيه ما يصلح للرجوع إليه في كل قضية وحادث وواقعة ومشكل، قال تعالى:
ص: 345
..............................
«ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءوهدى ورحمة وبشرى للمسلمين»(1).
وما فعلوه من غصب الخلافة ومصادرة فدك وإيذاءهم أهل البيت (علیهم السلام) كان مخالفة للقرآن وتركاً له.
ولا نقصد أن القرآن بيّن كل ذلك بالتصريح، بل كليات القرآن ومختلف القرائن الأخرى تدل على هذه الأمور، ولهذا استدلت (عليها الصلاة والسلام) بالنسبة الى إرثها بآيات إرث الأنبياء (علیهم السلام) وآيات إطلاق الإرث، ومن الواضح أنه ما من حكم شرعي إلا وقد ذكر في القرآن على نحو الجزئية أو الكلية، بالتصريح أو التلميح. فإن في القرآن الحكيم رموزاً وإشارات، وفيه معادلات، لو عرفها الإنسان لاطّلع على كل شيء بنحو التفصيل.
وفي استفادة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أقل مدة الحمل من الجمع بين الآيتين(2)، مؤشر على ذلك.
وفي الحروف المقطعة مؤشر آخر. وفي تسلسل السور - لا على حسب ترتيب النزول - والآيات وعددها والحروفوتقابلاتها و… مؤشر آخر(3).
ص: 346
..............................
وإن كان لم يودع علم ذلك كله إلا عند أهل البيت (علیهم السلام) حسب الكثير من الروايات.
وكنموذج مما يمكن استفادة الأحكام منه حتى لما يتجدد على مر الزمان، قوله سبحانه وتعالى: «خلق لكم»(1).
وقوله سبحانه: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» (2).وقوله عزوجل: «أوفوا بالعقود »(3).
إلى غيرها من الآيات المطلقة أو العامة.
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إنّ القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد إلا بينه للناس، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلا وقد أنزل الله تبارك وتعالى فيه) (4).
وقال (علیه السلام): (ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال) (5).
وعن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول:
ص: 347
..............................
(قد ولّدني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبرالجنّة، وخبر النار، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كّفّي، إنّ الله يقول: فيه تبيان كل شيء(1) (2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الله بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) نبياً فلا نبي بعده، وأنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه... فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ثم أومئ بيده إلى صدره وقال: ونحن نعلمه) (3).
نعم إن الإسلام قرر الأدلة الأربعة، على ما ذكره الفقهاء، وهي الكتاب والسنة والإجماع والعقل، والمراد بالسنة: الأعم من فعلهم وقولهم وتقريرهم (صلوات الله عليهم أجمعين).
وكون السنة مخصصة للقرآن الكريم ومقيدة له، مما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (4).وقوله سبحانه: «اليوم أكملت لكم دينكم (5) وأتممت عليكم نعمتي
ص: 348
..............................
ورضيت لكم الإسلام دينا » (1).
قولها (علیها السلام): (أم بغيره تحكمون)، أي: تحكمون بغير القرآن، ومن المعلوم أن غير القرآن هو الجاهلية والضلال، وأن القرآن حق وغير القرآن باطل، وفي هذا الكلام دلالة على وجوب الأخذ بالقرآن، كما يقتضي حرمة الحكم بغير ما في القرآن الحكيم، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي مع القرآن والقرآن مع علي»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحججاً في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا،لانفارقه ولا يفارقنا»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعدما بيًّن خلفائه من أمته وأن أولهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) ثم من بعده الحسن (علیه السلام) ومن بعده الحسين (علیه السلام) ثم تسعة من ولد الحسين (علیهم السلام): «القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على حوضي»(4).
ص: 349
«بئس للظالمين بدلا» (1)
مسألة: يستفاد من إستنادها (علیها السلام) إلى الآية الشريفة:«بئس للظالمين» أن ما فعلوه من غصب الخلافة وإيذاء الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وخذلانهم لهما (علیهما السلام) و… جعلهم في عداد الظالمين، وقد قال تعالى: «وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين»(2).
ويلزم الاعتقاد بذلك(3) على حسب دلالة متواتر الروايات الواردة في باب التبري وغيره، ولأنه من الاعتقاد بالأمور الأصولية، فإن كثيراً من شؤون الأصول الخمسة ترجع إليها وإن كانبعضها مما لا يُعلم بوجوب الاعتقاد بجميع خصوصياتها وان كان يحرم إنكارها، مثلاً خصوصيات العرش وخصوصيات الجنة والنار وما أشبه، وبعض الخصوصيات المتعلقة بالمعصومين (علیهم السلام) من قبيل كناهم وعدد أولادهم وما أشبه ذلك، على تفصيل ذكره علماء الكلام مما هو خارج عن مبحثنا.
وفي استنادها (علیها السلام) إلى هذه الآية الشريفة دلالة أخرى عميقة، حيث إن
ص: 350
..............................
كامل الآية هو «إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً» (1)، فليتدبر.
قولها (علیها السلام): «بئس للظالمين بدلاً»، أي: بئس ما إختاروه لأنفسهم بديلاً عن القرآن وأحكامه ودساتيره، حيث بدّلوا القرآن بغير القرآن واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وحكموا بالباطل والجور، إرضاءً وإشباعاً لشهواتهم الزائلة..وقد قال سبحانه: «للظالمين» كناية عن أن الذي يستبدل القرآن بغير القرآن فهو من الظالمين أي أن الاستبدال هو ملاك الظلم وسبب اتصافهم بهذه الصفة وإن شمل اللفظ من كان متصفاً بها من قبل.
مسألة: الظلم المحرم يشمل ظلم النفس وظلم الشعب وظلم الأجيال القادمة.
والقوم بغصبهم الخلافة وعزل آل الرسول (صلی الله علیه و آله) عنها وتغيير منهجه (صلی الله علیه و آله) قد ظلموا أنفسهم والناس وكل الأجيال القادمة على مر العصور، أسوأ الظلم وأشده.
وإستشهادها (علیها السلام) بالآية الشريفة، والإطلاق الازماني والاحوالي في
ص: 351
..............................
«للظالمين»، وشهادة الآثار الوضعية الخارجية العينية، دليل على ذلك، وقد ورد النهي الشديد عن الظلم:
قال (صلی الله علیه و آله): «وإياكموالظلم، فان الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «وأما شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة»(3).
وقال أبو جعفر (علیه السلام):« قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه لم يزل الله عزوجل معرضاً عنه، ماقتاً لأعماله التي يعملها من البر والخير، لا يثبتها في حسناته حتى يتوب ويرد المال الذي أخذه إلى صاحبه»(4).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من عذر ظالماً بظلمه سلط الله تعالى عليه من يظلمه فان دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»(5).نعم إن ما أبدلوا به كان بئس البدل سياسياً واقتصادياً واجتماعيا وأخلاقياً ودينياً وفي شتى الجهات الأخرى.
ص: 352
..............................
قال تعالى: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (1).
وليست الويلات والدواهي والفتن والمحن التي مرت بالمسلمين منذ ذلك اليوم وحتى الآن إلا وليدة ذلك الظلم الذي عُدّ الحجر الأساس في تحريف مسار التاريخ عن منهج الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) الذي كان سيكفل للبشرية جمعاء السعادة لو طبق، الى منهج الظلم والاستبداد والجهل والأثرة والتخلف والانحطاط و…
و(بئس) تكشف عن حقيقة خارجية وتدل على الأثر الوضعي الدنيوي كما تفصح عن واقع الحال في الآخرة أيضاً.
ص: 353
«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (1)
مسألة: عدّ جماعة أصول الدين ثلاثة وهي: التوحيد والنبوة و المعاد، وأصول المذهب خمسة بإضافة العدل والإمامة، والمستفاد من استدلالها (صلوات الله عليها) بهذه الآية الشريفة «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً …» (2)، أن الإمامة من أصول الدين، ومنكرها قد ابتغى غير الإسلام ديناً في الموضوع لا الحكم، فتأمل، وعلى ذلك روايات كثيرة.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ان الولاية من بعدي لعلي والحكم حكمه، والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن»(3).
وعنهما (علیهما السلام): «في قولهتعالى: «ليخرجكم من الظلمات إلى النور»(4) يقول: من الكفر إلى الإيمان يعني إلى الولاية لعلي (علیه السلام)»(5).
ص: 354
..............................
وعن الإمام الباقر (علیه السلام): ( «والذين كفروا» (1) أي بولاية علي (علیه السلام) «أولياؤهم الطاغوت» نزلت في أعدائه ومن تبعهم، أخرجوا الناس من النور، والنور ولاية علي (علیه السلام) فصاروا إلى الظلمة ولاية أعدائه)(2).
وفي قوله تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون» (3) قال أبو الحسن الماضي (علیه السلام): «يريدون يطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم والله متمم نوره: والله متممالإمامة»(4).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها»(5) قال: «هي الولاية»(6).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً» (7) قال: «نزلت فيمن آمن برسول الله (صلی الله علیه و آله) في أول الأمر ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية حيث قال (صلی الله علیه و آله): من كنت مولاه، فعلي مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين حيث قالوا له: بأمر الله وأمر رسوله فبايعوه ثم كفروا حين مضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يقروا بالبيعة ثم ازدادوا
ص: 355
..............................
كفراً بأخذهم من بايعوه بالبيعة لهمفهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء»(1).
وعن أبي سعيد الخدري قال: «تلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذه الآية: «لايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون»(2) ثم قال: أصحاب الجنة من أطاعني وسلّم لعلي الولاية بعدي، وأصحاب النار من نقض البيعة والعهد وقاتل علياً بعدي..»(3).
لا يقال: إن كلامها (علیها السلام) عن القرآن وتركه وراء الظهر.
لأنه يقال: إن مصبّ كلامها (علیها السلام) هي خلافة الإمام علي (علیه السلام) واعتراضها عليهم بأن الإعراض عنه إعراض عن القرآن، وأنهم بذلك صاروا مصداق «بئس للظالمين بدلاً» (4)، و«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً» (5).
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»(6) قال (علیه السلام): «يهدي إلى الولاية»(7).
وفي حديث آخر: «يهدي إلى الإمام»(8).
ص: 356
..............................
وذلك بيّن أيضاً من قولها (علیها السلام) (والرسول (صلی الله علیه و آله) لمّا يقبر) أو ليس نصب غير الإمام خليفة في السقيفة هو الذي كان قبل أن يقبر الرسول (صلی الله علیه و آله)؟
ومن قولها: (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة).
ويدل عليه أيضاً قولها: «ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين».
ثم إن معنى (فلن يقبل منه) هل هو المطلق أو النسبي، أي قبولاً مطلقاً أم قبولاً كما يقبل عن المؤمنين، وبعبارة أخرى هل (القبول المطلق) هو المنفي أو (مطلق القبول)؟قد يختلف باختلاف المصاديق.
ثم إن الكفار على ثلاثة أقسام أو أكثر: الذميون والمحايدون والمعاهدون، وهؤلاء يحقن دمهم ومالهم وعرضهم، وأما الكفار في القسم الرابع وهم المحاربون، فإنهم يحاربون حسب موازين الإسلام، كما قال سبحانه: «وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» (1).
هذا ويحتمل أن يكون المراد عدم القبول أخروياً ولا منافاة بينهما.
و(ابتغاء غير الإسلام ديناً) يشمل الأقوال والأعمال، سلباً وإيجاباً - فهذه أربع صور - :
بأن يقول ما لايقوله الإسلام(2).
ص: 357
..............................
أو لا يقول ما يقوله الإسلام(1).
أو يعمل ما لا يريد الإسلام عمله(2).أو لا يعمل ما أراده(3)، فإن الإسلام عقيدة وقول وعمل، وعلى هذا فالأقسام ستة.
قال الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(4).
وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قال جبرئيل: قال الله تعالى: (لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني كان آمنا) وقال الإمام (علیه السلام): بشروطها وشروطها المعرفة الولاية والعمل بالأركان»(5).
ثم انه يجب الاعتقاد بمضمون هذه الآية الشريفة(6) كبرىً، وبمصاديقهاصغرىً - في الجملة - ، ومنها ما قام به القوم من غصب الخلافة، وعلى ذلك دلت الأدلة الأربعة.
ص: 358
..............................
مسألة: الآية صريحة في نفي ما ذهب إليه بعض المذاهب الباطلة(1)، من أن الأديان والمذاهب كلها طرق الى الله تعالى وإن من تمسك بأي منها فهو ناج، أو أن القلب وسلامته هي المعيار لا العمل، أو أن هنالك طريقة تغاير الشريعة وما أشبه ذلك.
كما أن استدلالها (علیها السلام) بالآية في المقام نفي لصحة المذاهب الأخرى غير المذهب الجعفري الاثنا عشري، وهي عبارة أخرى عن الروايات الصحيحة التي تصرح ب «ستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين إحداها ناجية وسايرها هالكة»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدةناجية والباقون في النار»(3).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قول النبي (صلی الله علیه و آله): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة ناجية وهم المتمسكون بولايتكم، لا يعملون برأيهم، أولئك ما عليهم من سبيل»(4).
ص: 359
..............................
وفي حديث آخر قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي مثلك في أمتي مثل المسيح عيسى بن مريم (علیه السلام) افترق قومه ثلاث فرق، فرقة مؤمنون وهم الحواريون، وفرقة عادوه وهم اليهود، وفرقة غلوا فيه فخرجوا عن الإيمان، وان أمتي ستفترق ثلاث فرق، فرقة شيعتك وهم المؤمنون، وفرقة أعداؤك وهم الشاكون، وفرقة غلاة فيك فهم الجاحدون، وأنت يا علي وشيعتك ومحبو شيعتك في الجنة، وأعداؤك والغلاة في محبتك في النار»(1).
مسائل: لا يصلح من يكون ظالماً، أو في حكم غير المسلمين، أومن يكون من الخاسرين في الآخرة، لخلافة الرسول (صلی الله علیه و آله)، ولا يجوز إستخلافه، ولا تكون له الشرعية، ولا لأقواله وأفعاله الحجية، ويلزم الاعتقاد بما ذكر وقد قال سبحانه جواباً لإبراهيم (علیه السلام): «لا ينال عهدي الظالمين» (2).
مسائل: لا يصلح من يكون ظالماً، أو في حكم غير المسلمين، أومن يكون من الخاسرين في الآخرة، لخلافة الرسول (صلی الله علیه و آله)، ولا يجوز إستخلافه، ولا تكون له الشرعية، ولا لأقواله وأفعاله الحجية، ويلزم الاعتقاد بما ذكر وقد قال سبحانه جواباً لإبراهيم (علیه السلام): «لا ينال عهدي الظالمين» (3).
لا يقال: هل سأل إبراهيم (علیه السلام) من ربه (العهد) للظالمين أو العادلين، فإن سأله للظالمين فهو مستبعد منه (علیه السلام) وإن سأله للعادلين فلم يكن هذا الجواب جواباً له؟
لأنه يقال: إن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) طلب العهد في الجملة، وإنما فصل الله سبحانه وتعالى ونوه إلى أنهم بين عادل وظالم، لتنبيه الناس على هذه
ص: 360
..............................
الحقيقة (كبرىً) وإلى أنه لا يليق بالخلافة من كان ظالماً (صغرىً)، وتفصيل البحث في علم الكلام.قولها (علیها السلام): «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (1).
فإن الذي يبتغي غير الإسلام ديناً وطريقة في حياته، سواء عقيدة أو عملاً لن يقبل منه في الدنيا في الجملة(2)، ويسبب له ذلك انحطاطاً وانحرافاً وضنكاً في معاشه وفي سائر مجالات حياته الدنيا.
ولن يقبل منه في الآخرة أيضاً، قال تعالى:«وهو في الآخرة من الخاسرين»(3)
وقال سبحانه: «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين» (4)، لأن الدنيا مزرعة الآخرة(5)، فقسم من الناس يزرعون ما ينفعهم هناك، وقسم من الناس يزرعونمالا يضر ولا ينفع(6)، وقسم من الناس يزرعون ما يضرهم هناك.
ص: 361
..............................
فأهل الباطل يخسرون رأس المال والأرباح المفترضة(1)، بل إنهم يحتطبون أوزاراً ويحملون أثقالاً ويشرون سعيرا، بينما الذكي الفطن هو من يحافظ على رأس ماله ويربح فوق ذلك (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) (2).
نسأل الله عزوجل أن يجعلنا من المتمسكين بولاية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام).
ص: 362
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) حرمة ما فعله القوم حيث لم يلبثوا إلا ريث سكون نفرتها وسلس قيادتها.
ويحتمل في قولها (علیها السلام): (ثم لم تلبثوا…) أن يكون إنشاء كما يحتمل أن يكون إخباراً، فعلى الأول - على تأمل فيه - فإن هذا يتضمن تهديداً لهم وعلى ما فعلوه بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) وأنه سيعود - بشناره وضرره - على أنفسهم، وذلك نتيجة أعمالهم المنحرفة ونتيجة إعراضهم عن أحكام القرآن ودساتير الرسول (صلی الله علیه و آله)، وقد قال سبحانه: ]ولايحيق المكر السيئ إلا بأهله »(3).
وقال تعالى: «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين»(4).
وقال سبحانه: «يخادعون الله وهو خادعهم»(5).
وقال تعالى: «ويمكرون ويمكر الله»(6).
ص: 363
..............................
وقال سبحانه: «قل الله أسرع مكراً»(1).
لا يقال: إن …(2) يريد الماكرين فلا يحيط المكر السيئ.لأنه يقال: هذا على حسب اقتضاء طبيعة الأشياء وقد ذكرنا فيما سبق أن القضايا غالباً طبيعية.
هذا أولاً.
وثانياً: انا إذا لاحظنا أن الدنيا والآخرة كوجهي الشيء الواحد وأن الآخرة امتداد للدنيا بوجه كما فصلناه في بعض كتبنا(3)، فلا إشكال في أن المكر يعود إلى الماكر سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وأما أن الله سبحانه وتعالى أسرع مكراً، فلأنه سبحانه يعلم مسبقاً بمكرهم ومخططاتهم ولذلك فإنه يهيأ أسباب المكر لهم، ويكون مكره أسرع من مكرهم(4) والمكر عبارة عن معالجة الأمور بنحو خفي حتى يوقع غيره فيما يريد الفرار منه(5).
ص: 364
..............................
مسألة: الواجب أن لا يغتر المؤمنون من سكون أهل الباطل وهدوئهم ودعتهم الظاهرية، إذ ربما يكونون قد بيتوا شراً مستطيراً.
ومعنى ذلك الأخذ بلوازم الحيطة والحذر، وليس ذلك يعني مصادرة حرياتهم المكفولة شرعاً أو التضييق عليهم ومعاملتهم كمجرمين، إذ لا قصاص قبل الجناية، ولا يؤخذ بالظنة أو التهمة في الشريعة السمحة السهلة.
نعم من دأب الظالمين والمستبدين القصاص قبل الجناية بل ومن غير قصدها، والأخذ بالظنة وما أشبه.
وقد كتب الإمام الحسين (علیه السلام) جواباً لكتاب معاوية:
«ابشر يا معاوية بقصاص واستعد للحساب واعلم ان لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله تبارك وتعالى بناس أخذك بالظنة وقتلك أولياءه بالتهمة ونفيك إياهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة»(1).
ثم إن هذه الجملة، من كلامها (صلوات الله عليها) تعد إحدى أدق الدراسات وأجمل التعابير في الأدب التصويري عن طبيعةالمنحرفين في المجتمع ونفسيتهم، فهم يتبعون خطوات الشيطان في المراوغة، والتظاهر، والتستر، والمكر، واتباع سياسة الكر والفر، وسياسة الخطوة خطوة، وسياسة خطوة إلى الخلف وخطوتان إلى الأمام.
ص: 365
..............................
مسألة: المكر على قسمين:
فمنه: مكر صحيح محمود هو مقتضى العدل والعقل(1) واللطف، وهو ما كان من باب مقابلة المكر بالمكر، وفي حدوده الشرعية، أي ما كان في مواجهة مكر وحيلة وتضليل وتدليس وظلم الطغاة والمنحرفين والضلاّل.
ومنه: مكر فاسد مذموم، وهو الابتداء بالمكر مما يعد ظلماً وتحايلاً على الحق لصالح جبهة الضلال والظلام، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان مسلماً فلايمكر ولا يخدع فاني سمعت جبرئيل يقول ان المكر والخديعة في النار»(2).وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المكر سجية اللئام»(3).
وقال (علیه السلام): «إياك والمكر فان المكر لخلق ذميم»(4).
وقال (علیه السلام): «المكر والخديعة والخيانة في النار»(5).
وقال الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام): (ولا تمكر بي في حيلتك)(6) أي لاتمكر بي في علاجك للأمور.
ص: 366
..............................
ومن المحتمل أن قولها (عليها الصلاة والسلام): (لم تلبثوا) إخبارٌ لا إنشاء أي لما سكنت نفرة الخلافة - تشبيهاً لها بالفرس الجموح أو الناقة الهائجة بالنسبة لهم - واسلست السلطة لكم قيادتها، وثبتم على الحكم وانتهزتموها فرصة سانحة وأخّرتم من عينه الله خليفة لرسوله (صلی الله علیه و آله).
قولها (علیها السلام): (ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها). ريث بمعنى: قدر، وقد يضاف عليها (ما)فيقال: (ريثما) أي: قدر ما، فقد لبثتم هادئين - ظاهرياً - بانتظار ساعة الصفر وهي (عندما تسكن نفرتها ويسلس قيادها).
قولها (علیها السلام): (ويسلس قيادها)، بمعنى: سهولة القيادة والانقياد.
ومعنى الجملتين(1) أن الخلافة كانت حين عقدها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي بن أبي طالب (عليه
الصلاة والسلام) كالفرس الجامح الصعب بالنسبة لكم، لا ينقاد لأحد منكم وأشباهكم، ولا تكون قيادته أمراً سهلاً، إنها كانت كذلك بسبب حضور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقوته وخشية الأعداء منه، فلم تتمكنوا أن تأخذوها كما تشاءون، لكن لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانشغل الإمام علي (علیه السلام) بتجهيز رسول الله (صلی الله علیه و آله) - إضافة إلى أن وصيته (صلی الله علیه و آله) قد قيدته(2) - صارت الخلافة كفرس ذلول فلانشوز لها عنكم، وتمكنتم من قيادها بسهولة، ولذا ركبتموها وأخذتم بزمامها، ولم يكن زهدكم عن الخلافة فيزمان الرسول (صلی الله علیه و آله) إلا بقدر وبانتظار أن تأتي الخلافة بهاتين الحالتين: حالة السكون وحالة السلاسة، فكان الأمر تكتيكاً منكم وبحثا عن الفرص وتربصاً للدوائر.
ص: 367
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من إطلاق خطابها(1) (علیها السلام) وتوجيهه للمجموع، شموله لمن قاد المؤامرة ولمن أعان عليها، بل ربما أمكن القول بشموله لمن سكت أيضاً، فإنه نوع معونة عقلاً أو عرفاً، كما ورد في الساكت عن الغيبة، حيث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الساكت شريك المغتاب»(2).
باعتبار أن سكوت جمع كبير من الناس عن الظلم يعد من العلل المعدة لوقوعه وتحققه فتأمل.
فكما أن اقتراف الإثم والظلموالغصب محرم كذلك الإعانة عليها محرم أيضاً. قال تعالى: «ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من تولى خصومة ظالم أو أعان عليها ثم نزل به ملك الموت قال له: أبشر بلعنة الله ونار جهنم وبئس المصير»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من أعان ظالماً سلطه الله عليه»(5).
ص: 368
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «من دل جائراً على جور كان قرين هامان في جهنم»(1).
وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «من أعان ظالماً فهو ظالم»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل اللهساخط عليه حتى ينزع من معونته»(3).
وقال (علیه السلام): «لا ينجو من أعان علينا، ولا يعان من أسلمنا»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحاً من درّ، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده الله تعالى يوم القيامة وشاحاً من نار»(5).
مسألة: من المحرمات الإعانة على (ذات الظلم والعدوان) كما تحرم إعانة الظالم على ظلمه، والفرق:
إنه قد يكون هناك ظلم صادر عن فاعل مكلف مختار جامع لسائر الشرائط، فهاهنا قد اجتمع الظلم والظالم.
ص: 369
..............................
وقد يكون هنالك ظلم دون أن يوجدظالم كما لو صدر الظلم أو الجرم أو العدوان عن غير المكلف بوجه من الوجوه، كما لو ضرب المضطر أو المجبور أو المجنون أو الغافل الساهي، إنساناً، وكما في تعدي الحيوان على الإنسان، فإن أعان شخص ذلك الضارب المضطر أو المجنون أو… كان معيناً للظلم وان لم يكن معيناً للظالم لفرض الانفكاك، وقد تطرقوا إلى شبه هذا المبحث في باب التجري والقبح الفاعلي والفعلي.
وكون ظاهر العناوين: القصدية لا يضر بعد وجود القرينة هاهنا(1) فتأمل.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، أو قاتلهم، أو أعان عليهم، أو سبهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولايزكيهم ولهم عذاب اليم»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: «يوم ندعو كل أناس بإمامهم»(3) قال المسلمون: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ فقال: أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون بعدي أئمة
ص: 370
..............................
على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس، فيُكذَّبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال واشياعهم، ألا ومن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وأعان على ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه برئ»(1).
مسألة: يحرم الرضا بفعل الظالم، وذلك فيما إذا كان الظلم في أمر يتعلق بأصول الدين.
وأما إذا كان الظلم في فروع الدينفالمشهور بينهم عدم الحرمة كما إذا اغتصب إنسان مال إنسان وكان المغتصب منه إنساناً عادياً - لا مثل السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) - فان رضي شخص آخر بهذا الغصب (العادي) فلا يعلم بكونه فاعلاً للحرام وان كان ذلك من رذائل الأخلاق ومما يكشف عن سوء السريرة كالحسد مثلاً ما لم يظهر، وقد ذكروا هذا المبحث أيضاً في باب التجري في الأصول وعلم الكلام.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء فيه»(2). ومثله باختلاف يسير في تحف العقول(3).
ص: 371
..............................
وقال (علیه السلام): «إياك ومصاحبة أهل الفسوق فان الراضي بفعل قوم كالداخل معهم»(1).
وقال (علیه السلام): «لكل داخل في باطل إثمان إثم الرضا به وإثم العملبه»(2).
مسألة: تحرم تقوية شوكة الظالمين.
وذلك كالمشي في ركاب الظالم حيث يكون شوكة له وإن لم يكن الظالم في حال الظلم.
وكالاشتراك في المؤتمرات والمجالس التي يعقدها الظالم وشبه ذلك.
فإن المستفاد من الروايات حرمة ذلك في الجملة، بل لعله يعد من الركون أيضاً، ولو في بعض المصاديق، قال سبحانه: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار»(3). بل ورد في الحديث الشريف: «من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه»(4).
وورد: «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على الإسلام»(5).
ص: 372
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «من مشى مع ظالم ليعينه فقد خرج من الإسلام، ومن أعان ظالماً ليبطل حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله»(1).
وقال (علیه السلام) في حديث وجوه معائش العباد: «وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر، وولاية ولاته، الرئيس منهم، وأتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم باباً من أبواب الولاية على من هو وال عليه، والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأنّ كلّ شيء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر. وذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحق(2) كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنّة الله وشرائعه، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلاّ بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدموالميتة»(3).
قولها (علیها السلام): (ثم أخذتم) أي: بعد الرسول (صلی الله علیه و آله)، و(ثم) تستخدم للدلالة على الفصل الزمني كما تستخدم للدلالة على الترتيب الرتبي.
قولها (علیها السلام): (تورون وقدتها) أي: تشعلون وقود النار..
والوقود هو العلة المادية للنار حدوثاً وبقاء، فبه توجد النار وبه تبقى، قال سبحانه:
ص: 373
..............................
«قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة»(1) فنار الآخرة على خلاف النيران المتعارفة في الدنيا التي توقد بسبب الحطب والفحم والغاز وما أشبه ذلك.
ومن وقود الفتنة كان إثارة الأحقاد البدرية والحنينية والخيبرية، والحقد والحسد المتركز على أمير المؤمنين (علیه السلام) لكونه قاتل جمع كثير منهم في حروبهم ضد الرسول (صلی الله علیه و آله) ولاختصاصه بالفضائل الجمة دون غيره.
ومن وقود الفتنة كان أيضاً الأهواء والشهوات وحب السلطة والرئاسة والجاه والمال، ذلك أن قادة المؤامرة أخذوا يذكرون هذه العوامل في صدور الناس كي يعينوهم على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) وليتسلموا السلطة ويصفو لهم الجو.
وقد يكون كناية عن أنكم أخذتم بأزمة الخلافة لأنفسكم وتوقدون نارها لمصالحكم حتى تستفيدوا من الخلافة، فالإنسان الذي ينقلب على الحق ويصادر حقاً أقره الله لغيره لا محالة يكون هدفه الاستفادة منها في أغراضه وأهدافه الشخصية التي يمليها عليه الشيطان والهوى والنفس، ولعل لذلك كان عطفها (علیها السلام) ب (وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي).
مسألة: كما يحرم أصل الغصب، يحرم أيضاً كل ما يؤدي إلى استحكامه وتجذره وثباته ودوامه وتوسّعه.
ص: 374
..............................
وهذا ما كنّت (علیها السلام) عنهبقولها: (وتهيجون جمرتها)، والجمر عبارة عن: الفحم الذي يسجر ناراً ويشتعل، فانهم كان يهيجون جمرة الخلافة للاستفادة منها في مآربهم.
وهي (صلوات الله عليها) مرة شبهت الخلافة بالفرس أو البعير أو ما أشبه ذلك حيث يركبه الإنسان للوصول إلى هدفه، ومرة شبهها بالنار التي كان ينبغي أن ينتفع منها الإنسان في قبسه وسائر مآربه.
ولعل التشبيه ب (تورون وقدتها..) بلحاظ المقام، باعتبار أن عملهم باغتصاب الخلافة كان كالنار المحرقة التي « لاتبقي ولا تذر»(1).
ولا يخفى لطف التعبير ب (تورون وقدتها) تنظيراً لغصبهم الخلافة ب «النار التي وقودها الناس والحجارة»(2).
وربما تستبطن عبارة (وتهيجون جمرتها) فيما تستبطن الدلالة الكمية والكيفية في محاولاتهم، فإنهم كانوا يرومون تكريس سلطتهم وتجذير ملوكيتهم وتوسعة سلطانهم فكانوا حثيثي السعي لكسب المزيد من الأنصار ولكسر شوكة الأخيار، ومن ذلك كان إصرارهم الشديدعلى أخذ البيعة من الكل بلا استثناء، وكانت هذه معصية أخرى منضمة إلى معصية أصل غصب الخلافة كما لا يخفى.
ص: 375
-------------------------------------------
مسألة: إجابة هتاف الشيطان بما هو هو يتبع حكم متعلقه، وباعتبارها منه مسنداً إليه ان عاد إلى مكابرة الله والعناد معه موجب للكفر، وإلا فمحرم في الجملة، فتأمل.
قال تعالى: «انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون انهم مهتدون»(1).
وقال الإمام الحسن (علیه السلام) بعد أن بايعه الناس: «وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان بكم فانه لكم عدو مبين فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم»(2).
والشيطان يهتف بالحرام والمكروه وترك الأولى، مثل أن ينام بين الطلوعين، استجابة لهتاف الشيطانفانه من المكروه لا من المحرم.
واستجابتهم لهتاف الشيطان الذي أشارت إليه (صلوات الله عليها) كانت من المحرم بل من أشد درجاته الحرمة لكونهم نقضوا أكبر دعامة وأهم عمود للدين وهو الولاية للإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وقد ورد: (بني الإسلام على
ص: 376
..............................
خمس على الصلاة… ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية) (1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام): «بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، قال قلت: فأي ذلك أفضل؟ قال: الولاية أفضلهن لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «في قوله عزوجل: «أرأيت الذي يكذب بالدين»(3) قال: بالولاية»(4).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «المخالف على علي بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحب له مؤمن، والمبغض له منافق.. لا يقبل الله الإيمان إلا بولايته وطاعته»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً إن الله لا يقبل من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب وهو تعالى أعلم، فإن جاءه بولايته قبل عمله على ما كان فيه، وان لم يأته بولايته لم يسأله عن شيء وأمر به إلى النار»(6).
وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): «في قوله تعالى: «ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»(7)، قال: فالإيمان في بطن
ص: 377
..............................
القرآن علي ابن أبي طالب (علیه السلام) ف «من يكفر» كفر بولايته، «فقد حبط عمله وهو في الآخرة منالخاسرين»»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بولايته - أي ولاية علي (علیه السلام) - صارت أمتي مرحومة»(2).
مسألة: من اللازم ذكر مساوئ الشيطان وانه يغوي ويضل، فان ذلك يوجب تفريق الناس من حوله وعدم الاستجابة إليه.
وبالعكس من ذلك يلزم بيان صفات الصالحين والمصلحين، حيث أنه بين مستحب وواجب، فيما إذا سبب التفاف الناس حولهم التفافاً وجوبياً أو التفافاً استحبابياً، فتأمل.
وذلك كله في طرفيه السلبي والإيجابي يعد من مصاديق التولي والتبري و(عمل بالأركان) (3) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مقدمة لها.وربما عد من مصاديق «فقاتلوا أئمة الكفر»(4) و«جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم»(5).
ص: 378
..............................
قولها (علیها السلام): (تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي):
الهتاف - بالكسر - بمعنى: الصياح، وهتف به: أي دعاه، فان الشيطان دعاهم إلى نقض عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمر الخلافة فاستجابوا له.
والغوي بمعنى: الضال، وذكر هذه الصفة بالذات تذكير بأجلى صفاته مما يناسب المقام، إذ كيف يستجيب الإنسان لهتاف ضال؟ فيضل هو كما ضل شيطانه ويستحق ما استحقه من اللعنة والإبعاد عن رحمة الله والعقاب.
وقد حذر القرآن الكريم عن الشيطان واتباعه:
قال سبحانه: «ولا يصدنكم الشيطان انه لكم عدو مبين»(1).
وقال تعالى: «الشيطان يعدكم الفقرويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم»(2).
وقال سبحانه: «إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين»(3).
وقال عزوجل: «ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً»(4).
وقال تعالى: «ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً»(5).
ص: 379
..............................
وقال سبحانه: «وما يعدهم الشيطان إلا غرورا»(1). وقال تعالى: «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء»(2).
وقال عزوجل: «يا بني آدم لا يفتننكمالشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة» (3). وقال سبحانه: «يا أبت لا تعبد الشيطان ان الشيطان كان للرحمن عصيا»(4).
مسألة: قولها (علیها السلام) (تستجيبون) يدل على أن استجابتهم لهتاف الشيطان الغوي كان حالة مستمرة ومنهجاً متواصلاً على مر الأيام، ويلزم الاعتقاد بذلك.
حيث أن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، وبقرينة السياق أيضاً.
وحيث أن حذف المتعلق يفيد العموم (5) ولقرائن مقامية أخرى يكتشف أن استجابتهم لم تتحدد في قضية واحدة، بل كانت هي الأصل في شتى الجوانب، وكان من مصاديقها غصب الخلافة وغصب فدك واتهام المؤمنين بالردة، وأخذ الزكاة عن الناس بالقوة، وقتل الأبرياء والتعدي على الأعراض (كما في قضية
ص: 380
..............................
مالك بن نويرة والتعدي على زوجته) (1)، ومصادرة حريات الناس، والجبر علىالبيعة، وتحريف كلمات الرسول (صلی الله علیه و آله)، مضافاً إلى إيذائه للزهراء (علیها السلام) وكسر ضلعها وإسقاط جنينها و…(2).
ص: 381
..............................
مسألة: الأصل في كل دعوة وهتاف للشيطان: الغواية والضلال والإضلال، وهذا في مقابل أن الأصل في المسلم الصحة، وفي غيره أيضاً في الجملة، كما فصلناه في الفقه، وربما يقال إنه في قبال عدم وجود أصل في غير المسلم بقول مطلق، فتأمل(1).
وإنما كان كذلك لأنه مقتضى كونه عدواً، ولزوم اتخاذه عدواً، كما قال تعالى: «يا بني آدم ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير»(2). وان ذلك هو ما بنى عليه أمره، حيث قال: «فبعزتك لأغوينهم أجمعين»(3).
وقال تعالى: «قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين»(4). وقد آلى على نفسه أن لا ينصح شخصاً أبداً كما في قضيته مع أحد الأنبياء(علیهم السلام).
وأما أن هذا النداء الباطني الداعي لأمر ما، هل هو من هتاف الشيطان أو لا، فيعرف بملاحظة موافقته للأهواء والشهوات، ومخالفته للكتاب والسنة والعقل.
ص: 382
-------------------------------------------
مسألة: يحرم إطفاء أنوار الدين، فإن الدين له نور يهتدي الإنسان بسببه إلى المقاصد الصحيحة، وذلك من تشبيه المعنويات بالماديات.
أو يقال: هو حقيقة، فإن النور له مصداقان: نور في الماديات لعالم الأجساد، ونور في المعنويات لعالم الأرواح، فإن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، والدين ظاهر بنفسه - لكونه فطرياً منكشفاً للعقول والأرواح دون واسطة(1) - ومظهر لغيره كما هو واضح، فإذا أطفئ ذلك النور أدى إلى ظلام دامس يخيم على الناس، ويسبب عدموصولهم إلى الهدف من الخلقة، قال عزوجل: «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون»(2).
وعن أبي الحسن الثاني (علیه السلام) قال: «لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) جهد الناس على إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (علیه السلام)»(3).
وقال تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون»(4).
ص: 383
..............................
وقال سبحانه في آية أخرى: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون»(1).
مسألة: يستحب بيان أن هذا الدين هو الجلي الواضح المشرق كالشمس في رابعة النهار، فإن الدين ببراهينهالساطعة وأدلته القويمة شيء جلي واضحٌ لا خفاء فيه، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك وعن آياته ب(المبين) أي الواضح الجلي. قال تعالى: «تلك آيات الكتاب المبين»(2).
وقال سبحانه: «إنما على رسولنا البلاغ المبين»(3).
وقال عزوجل: «فتوكل على الله انك على الحق المبين»(4).
وعن ابن عباس عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «أنا والله الإمام المبين(5) أبين الحق من الباطل، وورثته من رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(6).
وأما احتياج الدين في بعض مسائله رغم كونه جلياً إلى البيان، فذلك من باب (ويثيروا لهم دفائن العقول) (7)فالخلل في القابل لا الفاعل، مضافاً إلى أنه
ص: 384
..............................
قد يقال بأن الجلي الواضح من الكلي المشكك، فتأمل.
هل للدين أنوار؟
مسألة: الدين واحد إلا أن له أنواراً واشراقات وتجليات متعددة، ولذلك عبرت (صلوات الله عليها) ب (أنوار الدين) جمعاً. فإن للدين أنواراً يهتدي الإنسان بسبب تلك الأنوار إلى طرق المعاش والمعاد والاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها، فالتعدد بلحاظ المتعلق (والمرشَد إليه) أو بلحاظ الأفراد - كل فرد فرد - أو بلحاظ المراتب أو بلحاظ أن للصلاة نوراً وللصوم نوراً وللحج نوراً وهكذا، وكلها يجمعها جامع الدين، ولا مانعة جمع هاهنا بين الأربعة.
ولنا أن نقول: المستفاد من قولها (صلوات الله عليها): (أنوار الدين الجلي) - حيث عبرت بأنوار الدين وليس ب: (نور الدين) - أن هنالك أنواراً تضيء الطريق وتقشع الظلمات وهذه الأنوار تتجسد في كلمات وأشخاص وأحداث وأعمال..فالكلمات: كالقرآن الكريم وأقوال الرسول العظيم (صلی الله علیه و آله) وآله المنتجبين (علیهم السلام) . والأشخاص: كالمعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) وحوارييهم والعلماء على مدى العصور.
والأحداث: كحادثة الغدير(1) والمباهلة(2) والمؤاخاة(3) ورد الشمس(4).
ص: 385
..............................
والأعمال: كصلاة الليل، والتوجه لزيارة مراقد الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) وأولياء الله الصالحين، والبكاء واللطم والتطبير على سيد شهداء أهل الجنة (علیه السلام).
وقد حاول الأعداء طمس كل هذه الأنوار:
فالقرآن: عبر تحريف أسباب النزولوالتأويل المناقض لحقائق التنزيل.
وكلمات المعصومين (علیهم السلام) : عبر إحراقها أو تمزيقها أو إلقائها في الأنهار حيث قالوا: (حسبنا كتاب الله) (1)، أو التصرف فيها زيادة أو نقصاناً، أو تغييرها تأويلاً وتحويلاً.
والأشخاص: عبر قتلهم وتشريدهم وسجنهم ومحاصرتهم وتشويه سمعتهم وتلفيق التهم ضدهم كما قال: «ما منا إلا مقتول أو مسموم»(2).
والأحداث: عبر إسدال ستار التجاهل عليها وطمرها أو التشويش عليها.
والأعمال: عبر صرف الناس عنها تارة باسم أنها بدعة، وأخرى باسم الأهم والمهم، وثالثة بعنوان انها مضيعة للوقت، ورابعة عبر توفير البدائل الأخرى.
وبعض هذه الأنوار وان كان مستحباً في نفسه إلا أن محاولة إطفائه كلياً والقضاء عليه كظاهرة، يعد محرماً، وأحياؤه بهذا اللحاظ يعد واجباً، كما لايخفى.
ص: 386
مسألة: سنن الرسول (صلی الله علیه و آله) بين واجبة ومستحبة، والواجبة يحرم تركها، أما المستحبة فتركها غير محرم بما هو ترك، لكن لو انطبق عليه عنوان (الإهمال) المذكور في كلامها (علیها السلام) فربما أمكن القول بالحرمة أيضاً.
وأما (إهماد) سننه (كما في نسخة أخرى) فحتى إهماد المستحب منها محرم، كمن يتعمد لا لمجرد ترك صلاة الليل بل يحاول طمسها وامحائها وإهمادها، والإهماد هو إطفاء النار والنور كلياً.
وكما أن تعليق الحكمة على الوصف مشعر بالعلية، كذلك إثبات الحكم - أو ما يشبهه - لموضوع متصف بوصف موحٍ بالمدخلية، فإهمال أو إهماد السنن، مذموم لأنها سنن (النبي) (صلی الله علیه و آله) وهو المنبئ من الله، و(الصفي) وهو من اصطفاه الله تعالى فإذا كانالشخص مصطفى لله - وبلحاظ الإطلاق الأحوالي والازماني - كانت سننه مصطفاة لله دون شك أو ريب، وكان إهمالها أو اهمادها إهمالا لسنة الله وانتهاكاً لحريم الخالق جل وعلا.
قال تعالى: «ولن تجد لسنة الله تبديلاً»(2).
وقال سبحانه: «ولن تجد لسنة الله تحويلا»(3).
ص: 387
..............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «سبعة لعنهم الله وكل نبي مجاب: المغير لكتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمبدل سنة رسول الله والمستحل من عترتي ما حرم الله..»(1) الحديث.
ولا يخفى أن التبديل نوع من الإهمال أو الاهماد كما هو واضح.
وعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الحلال والحرام، فقال: «حلال محمد حلال أبداً إلى يومالقيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لايكون غيره، ولا يجيء غيره، وقال: قال علي (علیه السلام): ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة»(2).
وعن أبي جعفر (علیه السلام): «ان الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج اليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلی الله علیه و آله) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً»(3).
وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسك بها وأراد الله هداه: … وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة والبراءة من أعدائهم واجبة ومن الذين ظلموا آل محمد وهتكوا حجابه فأخذوا من فاطمة (علیها السلام) فدك ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما وهموا بإحراق بيتها وأسسوا الظلم وغيروا سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(4).
ص: 388
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن علي (علیهالسلام) قال: «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف سنة رسول الله فاتركوه»(1).
ومن هنا أيضاً يعلم عدم صحة قولهم (حسبنا كتاب الله)(2) فإن سنته (صلی الله علیه و آله) المتمثلة به (صلی الله علیه و آله) وبأهل بيته (علیهم السلام) لا يجوز إهمالها أو اهمادها كما سبق.
مسألة: يلزم الاعتقاد بأن من اهمد سنن الرسول وأطفأها أو أهملها في الجملة، ظالم فاسق، وبأن من فعل ذلك لا يمكن أن ينال الخلافة، فإنه: «لا ينال عهدي الظالمين»(3).
قولها (صلوات الله عليها): (وإهماد سنن النبي الصفي)، الإهماد بمعنى: الإطفاء فانه إذا أطفأت النار يقال: أهمدها، وهم قد أطفئوا سنن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخلافة، وإنما عبرت (صلوات الله وسلامه عليها) بالسنن لأن في إطفاءخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إطفاء لغير واحد من سننه (صلی الله علیه و آله) لأن الخلافة جماع الخير والشر، وهي المحور والمنطلق، ومنها ان انحرفت تبدأ بالفتنة واليها تعود الخطيئة.
وربما يكون المقصود ما هو الظاهر من إلغائهم مجموعة من سنن الرسول (صلی الله علیه و آله) وإهمادها من غصب الخلافة، وغصب فدك، ومنع الارث، وغير ذلك.
ص: 389
مسألة: هل الذين يشربون حسواً في ارتغاء، يرتكبون إثمين: إثم الغصب وإثم المكر والمخادعة، أم إثما واحداً؟
ربما يقال: بأن ما يستفاد من لحن الآيات والروايات مذمومية المكر في حد ذاته، قال تعالى: «ومكروا ومكر الله»(2).
وقال سبحانه: «يخادعون الله»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس»(4). وقال (صلی الله علیه و آله): «ليس منا من ماكر مسلماً»(5).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولايأمروا بالغدر»(6).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار»(7).
ص: 390
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا أن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة، ألا وأن الغدر والفجور والخيانة في النار»(1).
وربما يستفاد ذلك أيضاً من روايات (التدليس) (2) وغيرها.
وكذا من إدراك العقل لقبحه أو حكمه به، لكن قد يقال بطريقيته والذم من باب مقدميته ولا تلازم بين القبح الذاتي - على تقديره - وبين الحرمة.
قولها (صلی الله علیه و آله) - على بعض النسخ - : (تسرون حسواً في إرتغاء).
الإسراء: ضد الإعلان.
والحسو، بفتح الحاء وسكون السينالمهملتين بمعنى: شرب المايع شيئاً بعد شيء.
والإرتغاء: شرب الرغوة وهو الزبد على اللبن، وهذا من أمثال العرب، يقال ذلك لمن: يظهر أمراً ويريد غيره، فكأنه يظهر انه يريد تذوق الزبد حتى يرى صلاحه وفساده، لكنه يريد أن يشرب من خلال هذا التذوق اللبن جرعة بعد جرعة.
والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تقصد من هذا المثال أن الغاصبين أسرعوا إلى السقيفة وهم يدعون أن ذلك لأجل الوقوف أمام الفتنة، لكنهم أرادوا غير ذلك وهو غصب الخلافة من أهلها، وكذلك ادّعوا أن غصبهم فدك كان لأجل المصلحة العامة! والحال أنه كان لأجل تجريد ذوي الحق من العامل الاقتصادي
ص: 391
..............................
والمقدرة المالية، وهم بذلك كانوا ممن تسلح بالغاية لتبرير الوسيلة، مع أنه تعالى قال: «إنما يتقبل الله من المتقين»(1) ومع أن الغاية في حد ذاتها كانت خادعة مضللة كاذبة.
مسألة: ينبغي توخي الحذر والاحتياط في التعامل مع الشؤون الخطيرة، خاصة إذا فسد الزمان حيث قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة: (إذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر)(2).
وفي كل الصور فإن المحتمل إذا كان خطيراً وإن كان الاحتمال ضعيفاً يلزم الفحص والاحتياط، ولو عمل بهذه القاعدة الهامة، عامة الناس الذين ساهموا في تكريس سلطة (الذين شربوا حسوا في إرتغاء) - مع قطع النظر عن تمامية الحجة عليهم وإبلاغ الرسول (صلی الله علیه و آله) لهم بمحض الحق - لما حدثت المآسي التي حدثت من صدر التاريخ بتموجاتها حتى يومنا هذا.
ومن ذلك يعرف أنه يلزم الفحص والاحتياط عند سماع ما يدعيه أدعياء السلام أو المحبة والوئام، دولاً كانوا أم أحزاباً أم شخصيات.
فالفحص في الشبهة الموضوعية في أمثال تلك الصور لازم، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الأصول والفقه.
ص: 392
-------------------------------------------
مسألة: يحرم إرادة الشر بأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) والإعانة عليهم.
وقد وردت روايات في حرمة الإعانة على المؤمن فكيف بهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وهم أساس الإيمان.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقي الله عزوجل يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمتي»(1).
وفي حديث آخر عنه (علیه السلام): «من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله»(2). وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي، ثم أسألهم مافعلتم بكتاب الله وأهل بيتي»(3). وقال (صلی الله علیه و آله): «من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة»(4).
هذا وقد كان الغاصبون للخلافة يدّعون أنهم يريدون بذلك الإصلاح، بجمع كلمة المسلمين، ودفع الفتنة، وهذا النوع من الناس كثير في المجتمع، إذ الذين يسعون إلى تحقيق أهدافهم الشخصية تحت غطاء إصلاحي كثيرون، كما
ص: 393
..............................
قال فرعون:«إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» (1) وإنما كان هدفه في الواقع: محاولة تكريس سلطته وإرادة بقاء ملكه وذلك مصداق «يلبسون الحق بالباطل»، قال تعالى: «ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون»(2)، وقال سبحانه: «يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمونالحق وأنتم تعلمون»(3).
وهكذا حال كثير من الظالمين على طول التاريخ، قال عزوجل: «يعرفونه كما يعرفون أبناءهم»(4) وقال تعالى: «فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به»(5) إلى غير ذلك من الشواهد والأمثال.
قولها (علیها السلام): (وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء).
الخمر: على وزن فرس، يقال: توارى الصيد في خمر الوادي أو خمر الغابة، ومنه قولهم: دخل فلان في خمار الناس أي ما يواريه ويستره منه، وأصله من الخمر فان معنى الخمر هو الستر، يقال للمسكر: الخمر، لأنه يستر العقل.
والضراء: على وزن براء، الشجر الملتف في الوادي ونحوه، يقال لمن خذل صاحبه وخادعه: يدب له الضراء ويمشي له الخمر، والمراد: إنهم يمشون في
ص: 394
..............................
اغتصاب الخلافة وفدك مثل المشي في الخمر والضراء، لأنهم يخفون مقاصدهم الواقعية ويظهرون شيئاً آخر وذلك لخداع الناس.
مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): (وتمشون لأهله وولده) المقصود من أهل بيته (صلی الله علیه و آله) وربما يستفاد تعيين وتوضيح المراد من قوله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» (1) وأنهم: فاطمة وبعلها وبنوها (علیهم السلام) وليست الآية شاملة للأزواج، فإن السعي المضاد في الخمرة والضراء كان خاصاً بهم (علیهم السلام) دون الأزواج أو العباس (علیه السلام) أو من أشبه، وذلك حسب المتفاهم العرفي وتفسير بعض كلامهم بالبعض الآخر، فلا يرد أن وجود قرينة على تعيين المراد في مورد - حالية كانت أم مقالية - لا يقتضي إرادة ذلك المعنى منه في مورد آخر، إضافة إلى أن القرائن على انحصار المقصود من «أهل البيت» في الآية المباركة علىهؤلاء الأطهار (علیهم السلام) قطعية(2).
قال إسماعيل بن عبد الخالق: «سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا اسمع: … ما يقول أهل البصرة في هذه الآية «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى»(3)؟
قلت: جعلت فداك إنهم يقولون إنها لأقارب رسول الله (صلی الله علیه و آله).
ص: 395
..............................
فقال (علیه السلام): كذبوا، إنما نزلت فينا خاصة،في أهل البيت، في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء (علیهم السلام)»(1).
الأسباط أبناء
مسألة: كلامها (علیها السلام) هاهنا، دليل آخر على كون الأسباط أبناء، وأن الحسن والحسين (علیهما السلام) أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولا وجه بعد تصريح الآيات والروايات - ومنها تصريحها (علیهاالسلام) هاهنا - لما قال الشاعر:
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا
هذا مع قطع النظر عن كون كلام الشاعر لا حجية له في حد ذاته، ومع قطع النظر عن عدم وضوح دلالته على المدعى.
قال تعالى في آية المباهلة: «وأبناءنا وأبناءكم»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن ابني هذين - الحسن والحسين (علیهما السلام) - ريحانتيّ من الدنيا»(3). وقال (صلی الله علیه و آله) مشيراً للحسن (علیه السلام): «إن ابني هذا سيد»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي من صلب علي مع فاطمة ابنتي»(5).
ص: 396
-------------------------------------------
مسألة: الصبر على الطاعة الواجبة واجب، وهكذا عن المعصية، وعلى المصائب مستحب، وربما وجب، وعلى حسب شدة مرارته يكون الأجر، وعلى حسب درجات ما يصبر عليه أيضاً.
وصبرها (علیها السلام) وبعلها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) المشار إليه في كلامها هاهنا كان صبراً على الطاعة، إذ سكوتهم (علیهم السلام) بالمقدار الذي عملوه كان تكليفاً، حفاظاً على الإسلام والمسلمين، وهكذا صبرهم على المصيبة وما أقساها من مصيبة بل ما أمضها من مصائب ورزايا.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله»(1).
وقال (علیه السلام): «الصبر رأس الإيمان»(2).
وقال (علیه السلام): «الصبر منالإيمان بمنزلة الرأس من البدن»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية»(4) الحديث.
ص: 397
..............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عود نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر»(1).
وقال (علیه السلام): «اعلم أن النصر مع الصبر»(2).
مسألة: يجب إحياء ظلامة السيدة الزهراء (علیها السلام) حتى تكون على مر الأيام غضة طرية لا يعفي عليها الزمن كمصيبة سيد الشهداء (علیه السلام).
وقد اخبر رسول الله (صلی الله علیه وآله) بظلامتها قبل أن تقع، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي اني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها وويل لمن آذى خليلها وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم اني منهم بريء وهم مني براء، ثم سماهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضم فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله) لابنته (علیها السلام): «وأنت تظلمين وعن حقك تدفعين وأنت أول أهل بيتي لحوقاً بي»(4).
وقد قال جبرئيل (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): «أما ابنتك فهي أول أهلك لحاقاً
ص: 398
..............................
بك بعد أن تظلم ويؤخذ حقها وتمنع ارثها ويظلم بعلها ويكسر ضلعها» الحديث(1).وفي الحديث الشريف عن ابن عباس، قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (علیه السلام) فلما رآه بكى (صلی الله علیه و آله) ثم قال: إليّ اليّ يا بنيّ، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيمن.
ثم أقبل الحسين (علیه السلام) فلما رآه (صلی الله علیه و آله) بكى، ثم قال: اليّ اليّ يا بنيّ، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.
ثم أقبلت فاطمة (علیها السلام)، فلما رآها بكى (صلی الله علیه و آله) ثم قال: الي الي يا بنية، فأجلسها بين يديه.
ثم أقبل أمير المؤمنين (علیه السلام) فلما رآه بكى (صلی الله علیه و آله) ثم قال: الي اليّ يا أخي، فما زال يدنيه حتى أجلسه الى جنبه الأيمن.
فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى واحداً من هؤلاء الا بكيت، أو ما تسرّ برؤيته؟ فقال (صلی الله علیه و آله): والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، اني وإياهم لأكرم الخلق على الله عزوجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب اليّ منهم.
أما علي بن أبي طالب (علیه السلام) فإنه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر بعدي،وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي
ص: 399
..............................
وأمتي، في حياتي وبعد موتي، محبه محبي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة منها ملعونة، وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به حتى إنه ليُزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته.
واما ابنتي فاطمة: فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله ظهر نورها لملائكة السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزوجل لملائكته: يا ملائكتي ويا سكان سماواتي انظروا الى أمتي فاطمة سيدة نساء إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، اشهدكم اني قد آمنت شيعتها من النار.
وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بهابعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصب حقها، ومنعت ارثها،وكسر جنبها، واسقطت جنينها وهي تنادي يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش اذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد ان كانت في أيام أبيها عزيزة…
فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلل من أذلها، وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول
ص: 400
..............................
الملائكة عند ذلك: آمين.. الحديث(1).
لا يقال: ذلك تاريخ قد انقضى.
لأنه يقال: التاريخ هو الذي يصنع المستقبل، والحاضر تاريخ المستقبل، ومن لا تاريخ له لا جذور له، ولذلك ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم قصة هابيلوقابيل(2)، وغيرها من القصص.
قال سبحانه: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»(3).
ولذلك كله سجلت (علیها السلام) ظلامتها بقولها: (ونصبر منكم على مثل خز المدى ووخز السنان في الحشا).
ولذلك كان (نفس المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح وهمه لأمرنا عبادة)(4).
ولذلك ورد: (من أبكى أو بكى أو تباكى وجبت له الجنة) (5).
وإذا كان من فلسفة الآخرة الاقتصاص من الظالم مع ان ظلمه تاريخ، والثواب على الطاعة والطاعة تاريخ، كما لايخفى.
ص: 401
..............................
وإذا كان (فرعون) آية لمن استكبر وطغى - بنص الكتاب(1) - خلدها الباري عزوجل في كتابه كرمز لقوى الشر.
وإذا كانت قصصهم عبرة لأولي الألباب(2).
وإذا جعل الله عزوجل نبيه عيسى (علیه السلام) آية للناس(3).
وإذا أنجى الله سبحانه نوحاً (علیه السلام) وأصحاب السفينة وجعلها آية للعالمين(4).
وإذا ترك سفينته لتكون آيةللمدكرين(5).
وإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم (علیه السلام) يطلب من رب الأرباب]واجعل لي لسان صدق في الآخرين»(6) حتى يتحدث عنه - بكل خير - وهو في دائرة الماضي، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه» (7).
وإذا كان العقلاء على مر الأزمان يعتنون بتاريخهم بشتى الصور..
وإذا كانت كتب التاريخ تملأ المكتبات في كل الحضارات..
ص: 402
..............................
وإذا.. وإذا ...
فالدعوة إلى إلغاء التاريخ، تعد عند العقلاء سفاهة وجهلاً ان لم تعد مخططاً خبيثاً لقطع الأمة عن جذورها ليسهل للمستعمر ابتلاعها و…
وإذا كان كل ذلك كذلك، فلماذا نسمع همسات من هنا وأصوات من هنالكتنادي بطمس أهم ملامح التاريخ وأهم منعطف تاريخي وأهم محور في معادلة الصراع الكبرى بين قوى الجاهلية والإيمان، حيث تقول الآية القرآنية الشريفة: «أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(1)؟
مسألة: يستحب للمظلوم التحدث عن (صبره) والجهر بصموده كما ذكرت فاطمة الزهراء (علیها السلام) ذلك، فانه بيان للحق بهذا الأسلوب، بالإضافة إلى أنه يكون بذلك أسوة وقدوة لسائر الناس، قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): (فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا)(2).
فإن الإنسان الذي يعترض العظم حلقه لا يتمكن من الأكل ولا من الشرب ولا حتى من النوم ولا مزاولة أعماله اليومية، براحة أو بشكل طبيعي.
وكذلك الإنسان الذي في عينه قذى، لا يتمكن من فتح عينه ولا من إغماضها، فهو في ألم مستمر وفي أذى متواصل، وكلامه (علیه السلام) إشارة لعظيم ما
ص: 403
..............................
تجرعه من الظلم.
وقال (علیه السلام): «فأغضيت على القذى وتجرعت ريقي على الشجى وصبرت من كظم الغيض على أمرّ من العلقم وعالم للقلب من حز الشفار»(1).
وقال (علیه السلام): «إن الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيه (صلی الله علیه و آله) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنّه ونعمته صبورا..»(2).
مسألة: يستحب للمظلوم أن يشرح ما جرى عليه من الظلم، وما تركه الظلم عليه من آثار جسدية أو نفسية، شخصية أو نوعية، فإن ذلك يوجب التنفر من الظالم، بالإضافة إلى أنه يدفع الناس للاقتداء بصبره واستقامته - كما سبق - ، وبذلك يكون له أجران، أجر التنفير من الظالم وأجر الأسوة، فيكون داخلاً في ملاك (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها)(3).
وبذلك يعرف أن ما يقوم به المظلومون من عرض ما صار بهم، كآثار مظلوميتهم - كأثر التعذيب في سجون الطغاة وغيره - على منظمات حقوق الإنسان وعلى الملأ العام وعبر الوسائل الإعلامية، هو مما يؤجر عليه الإنسان لأنه من طرق النهي عن المنكر، وقد يكون ذلك نوعاً من التأسي بالسيدة الزهراء
ص: 404
..............................
(علیها السلام) وسائر أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «ما من مؤمن يعين مظلوماً إلا كان له أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام»(1).
وقال (علیه السلام): «من قدر على أن يغير الظلم ثم لم يغيره فهو كفاعله، وكيف يهاب الظالم وقد أمن بين أظهركم لا ينهى ولا يغير عليه ولايؤخذ على يديه»(2)، وما ذكرناه مما يوجب ردع الظالم كما لا يخفى.
مسألة: الصبر - الواجب منه والمستحب - كسائر الحقائق التشكيكية له مراتب، وكما يجب الصبر على من هو في موقع القيادة، كما قالت (ونصبر منكم)، يجب على القاعدة والعامة الصبر أيضاً، إلا أن الفرق في المراتب إذ الصبر في القائد آكد وأشد وأولى.
ثم إن صبرها (عليها الصلاة والسلام) كان واجباً - كما سبق - لأجل المحافظة على كلمة: لا اله إلا الله، محمد رسول الله، إذ من الواضح أن الإمام أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) لو كان يجرد السيف في وجوه الغاصبين لكانت تضعف شوكة المسلمين ويستغل الفرس والروم الفرصة لشن هجوم كاسح على المسلمين، مضافاً إلى أنهم كانوا يشوهون موقف الإمام (علیه السلام).
ص: 405
..............................
لا يقال: بأن كلمة التوحيد كانتموجودة.
لأنه يقال: من الواضح أن المسيحيين يقولون بآلهة ثلاثة والمجوس يقولون بإلهين اثنين، وكلاهما على خلاف كلمة التوحيد.
مسألة: كما يستفاد المصداق من الكلي(1)، يمكن أن يستفاد الكلي من المصداق أحياناً(2) وكلامها (صلوات الله عليها) هاهنا: (ونصبر منكم) وان كان ذكراً للمصداق إلا أنه يستفاد منه الكلي في أشباه تلك المواطن.
وذلك هو ما نذهب إليه في أمثال هذه الأزمنة حيث نلتزم بضرورة سلوك طريقة (اللاعنف والسلم) في مواجهة الحكومات الجائرة.
وكما كان حمل السلاح بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) ضد الذين انقلبوا عليه منهياً عنه لمخاطره الأكبر، كذلك نرى النهي عن حمل السلاح ضد الحكومات في هذا الزمن وضرورة الالتزام بالمواجهة السلمية، من إضرابات ومظاهرات ونحوها، فإن ذلك أحمدعاقبة، وتجربة غاندي(3) في الهند من شواهد ذلك، وتفصيل
ص: 406
..............................
الحديث في محله(1).
مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان مظلومية أهل البيت (علیهم السلام) للعالم، تأسياً بهم (علیهم السلام) حيث ذكروا ذلك، مضافاً إلى أنه من إحياء أمرهم وفضح أعدائهم. قولها (صلوات اللهعليها): (ونصبر منكم على مثل حز المدى).
المدى: جمع مدية وهي السكين والشفرة ونحوهما، يعني: إن صبرنا ليس بالصبر الهين، وأن ما صدر (منكم) أمر فادح عظيم وظلم فاحش كبير، فصبرنا على ما صدر منكم تجاهنا كصبر الإنسان الذي يقطع بالمدية وهو صابر كاظم للغيظ. وكلامها (علیها السلام) إشارة إلى عظم الخطب عليهم وشدته، والتمثيل في كلامها (علیها السلام) تمثيل للأقوى بالأضعف والأعلى بالأدنى وهو من مصاديق البلاغة كما ذكر في محله(2) إذ إن صبرهم (علیهم السلام) في مواجهة ذلك الظلم الفاحش كان أمر وأصعب وأقسى من صبر من يحز بالمدية كما وكيفاً (3)كما لا يخفى.
ص: 407
ص: 408
..............................
وهنالك جهة أخرى أيضاً، فإن صبر العاجز أهون من صبر القادر، وصبر القادر على الرد والتحدي - وكانوا (علیهم السلام) كذلك - أصعب وأمر من صبر غيره، فإن القادر يصبر صبرين: صبراً على الألم، وصبراً على عدم الرد، وقل وندر من يصبر وهو قادر على الرد(1).
مسألة: الساكت على الظلم شريك فيه - كما سبق - وذلك يستفاد من قولها: (منكم) (2) فهم جميعاً في ظلم أهل البيت (علیهم السلام) شركاء.
قولها (علیها السلام): (ووخز السنان في الحشى)، الحشى: داخل الإنسان، والوخز عبارة عن: الطعن.
يعني: إننا نصبر على ما صدر منكم كصبر إنسان يطعن بالرمح أو الخنجر، ويغرز في داخله، فان الأمر - كما ذكر - صعب جداً وهو بحاجة إلى درجة مثاليةمن الصبر حتى يتحمله.
ص: 409
-------------------------------------------
وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون! أفلا تعلمون؟!.
مسألة: من اللازم تطويق الباطل من جميع جوانبه ظاهراً وباطناً، صورة ومحتوى، بما يفنده ويبطله ويمحقه، كما صنعت (صلوات الله عليها) حيث قالت: (وأنتم الآن تزعمون) فلم تكتف بالاستدلال على المطلب بل أطرت دعوى الخصم بإطار (الزعم) الدال على كونه خلافاً للحقيقة.
وذلك أقوى في الرد وأبلغ في الحجة وأدعى للنهي عن المنكر، ومن مصاديق «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»(1).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الحق سيف على أهل الباطل»(2).
وقال (علیه السلام): «لا يجتمع الحق والباطل»(3).وقال (علیه السلام): «ثلاث فيهن النجاة: لزوم الحق وتجنب الباطل وركوب الجد»(4).
وقال (علیه السلام): «من ركب الباطل أهلكه مركبه»(5).
ص: 410
..............................
وقال (علیه السلام): «نحن أقمنا عمود الحق وهزمنا جيوش الباطل»(1).
قولها (علیها السلام): (الآن) فيه اشارة إلى أن هذه الدعوى منهم كانت وليدة يومها ولم يقل أحد منهم بها زمن حياة الرسول (صلی الله علیه و آله)، وكفى بهذه الكلمة رداً عليهم، وإلا فلماذا لم يطرحوا هذه القضية في حياته (صلی الله علیه و آله) وعند مرضه ليحضوا بتأكيده؟!.
مسألة: يجوز تضمين الحديث بآيات من الذكر الحكيم مع تغيير في الضمائر أو شبهها بما يناسب الخطاب شرط أن لا تكون بدعوى ان ذلك هو نص الكتاب أو في مقام يوهم ذلك، وهذا من مصاديقالنقل بالمضمون كما صنعت (علیها السلام) حيث قالت: (أفحكم الجاهلية تبغون)(2).
مسألة: يستفاد من تضمينها (علیها السلام) هذه الآية في خطبتها، حكمها بفسقهم تبعاً للقرآن الكريم من قبل، حيث قال تعالى: ]وان كثير من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون»(3). كما يُظهر استنادها (علیها السلام) للآية بعض صفاتهم الأخرى من إتباعهم الأهواء ومحاولتهم الفتنة وتوليهم وإعراضهم عن الحق، إذ قال تعالى:
ص: 411
..............................
«وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وان كثيراً من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون»(1).وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون»(2) أي: «كفر بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) فهم العاصون لله ولرسوله»(3).
كما ورد في قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون»(4) أن أبي قحافة أول من منع آل محمد (صلی الله علیه و آله) حقهم وظلمهم وحمل الناس على رقابهم وهكذا كان الذين جاءوا من بعده(5).
مسألة: كما أن من مصاديق استدلالها (صلی الله علیه و آله) بالآية الشريفة: «أفحكم الجاهلية يبغون» (6) الرد على دعوى أن لا إرث لأبناء الأنبياء، كذلك من
ص: 412
..............................
مصاديق الآية الشريفة(1) دعوى التساوي في الإرث بين الرجال والنساء هذا الزمن بدعوى أن الزمن قد تغير وأن المرأة أضحت هي التي تعيل وما أشبه ذلك من أنماط التعليل، ولعل في قولها (علیها السلام) (الآن) إشارة إلى هذا الجانب من الدعاوى التي تحكم بتغيير أحكام الله متعللة بأن الزمن قد تغير وان (الآن) غير (ما كان).
قال تعالى: «لا تبديل لكلمات الله»(2).
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحد الدور وان حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(3).
مسألة: يحرم القول بأن لا إرث لها (علیها السلام) فإنه من مصاديق (قالالله وأقول)، وحكم بغير ما أنزل الله، وتكذيب لآل الله.
وكذلك يحرم القول بكل ما يخالف الإسلام أصولاً وفروعاً، مع اختلاف درجات الحرمة قوة وضعفاً، بلحاظ المتعلق والمنسوب إليه والملابسات وما أشبه.
ص: 413
..............................
مسألة: يحرم (ابتغاء حكم الجاهلية) بصورة عامة، والتحريم في خصوص حكمها (علیها السلام) في الإرث نظراً لانطباق عناوين أخرى محرمة عليه(1) أشد.
وابتغاء حكم الجاهلية له ثلاثة مصاديق:
1: العمل وفق حكم الجاهلية.2: القول بحكم الجاهلية.
3: الاعتقاد بحكم الجاهلية فيما يضر فيه الاعتقاد على خلاف الحق.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك» وذلك في قصة خالد حيث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اللهم اني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد»(2).
وفي حديث سئل الإمام الصادق (علیه السلام): «أفيعتد بشيء من أمر الجاهلية؟ فقال (علیه السلام): إن أهل الجاهلية ضيعوا كل شيء من دون إبراهيم (علیه السلام) إلا الختان والتزويج والحج فانهم تمسكوا بها ولم يضيعوها»(3).
ص: 414
..............................
قال تعالى: «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية أودم أو مال فهو تحت قدمي هاتين ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «يا أيها الناس إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، إن العرب ليست بأب ووالدة، وإنما هو لسان ناطق فمن تكلم به فهو عربي، ألا أنكم من آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم»(3).
ثم إن حكم الجاهلية أعم من الحكم الذي كان موجوداً في الجاهلية وخالف الإسلام، وما لم يكن بحكم الإسلام وان لم يكن حكماً موجوداً في الجاهلية، ومن مصاديقه أنواع البدع.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»(5).
هذا وقد ابتدعوا صلاة التراويحوقال فيها: «بدعة ونعمة البدعة»(6).
وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس ان النافلة بالليل في رمضان جماعة بدعة... فإن قليلاً من سنة خير من كثير في بدعة، ألا أن كل بدعة ضلالة وكل
ص: 415
..............................
ضلالة سبيلها إلى النار»(1).
مسألة: ينبغي بيان انه ليس أحد أحسن من الله تعالى حكماً، فانه العالم بجميع خصوصيات الإنسان وغيره.
(أحسن) وإن كان من باب أفعل التفضيل إلا أن المراد به هنا المصدر وهو (الحسن)، إذ من الواضح أن حكم غير الله لا حسن فيه حتى يقابله حكم الله الأحسن، بل حكم الله - الذي تجلى في الإسلام - هو الحسن بلا منازع.
وذلك مثل «أولى لك فأولى * ثم أولىلك فأولى»(2) ومثل «أذلك خير نزلاً»(3) وأمثالهما من الآيات والروايات والتعابير البلاغية.
إن قلت: حكم العقل أيضاً حسن(4).
قلت: حكم العقل شعبة من شعب حكم الله، إذ العقل حجة الله الباطنية كما أن الأنبياء (علیهم السلام) حجة الله الظاهرة(5)، ولذا قيل: العقل نبي من باطن
ص: 416
..............................
والنبي عقل من خارج، وورد أن أول ما خلق الله العقل وقال له: بك أثيب وبك أعاقب(1) هذا لو قيل بان للعقل حكماً، وإلا فعلى القول بأنه مدرك لا غيرفالإشكال منتف موضوعاً.
وليس المراد من القوم الجماعة فحسب، بل هو تعبير بلاغي يشمل كل فرد فرد أيضاً، كما انه ليس المراد به خصوص الرجال بل يشمل النساء أيضاً.
مسألة: يحرم القول، بان غير حكم الله حسن استناداً إلى أدلة استحسانية يؤدي إليها العقل القاصر، كالقول بان الشطرنج رياضة فكرية، وان الغناء محفز نفساني، وان الرقص رياضة جسمانية، وهكذا وهلم جرا.
والمفاضلة بين حكمه تعالى وحكم غيره لاستنتاج أن حكم الغير حسن وحكمه أحسن أيضاً فيه إشكال.
وقولها (عليها الصلاة والسلام): (وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).
فإن عدم إرث البنات من الآباء كان حكماً جاهلياً (2)، والله سبحانه وتعالى نسف ذلك الحكم بحكمه: ]للذكرمثل حظ الانثيين»(3) فالإناث
ص: 417
..............................
يرثن أيضا، إلا أن للأنثى نصف ما للذكر من الإرث.
كما أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الصبي الصغير ولا الجارية من ميراث آبائهم شيئاً.
وكانوا لا يعطون الميراث إلا لمن يقاتل.
وكانوا يرون ذلك في دينهم حسناً..
فلما أنزل الله فرائض المواريث وصبروا من ذلك وجداً شديداً، فقالوا انطلقوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنذكره ذلك لعله يدعه أو يغيره، فأتوه فقالوا: يا رسول الله للجارية نصف ما ترك أبوها وأخوها! ويعطى الصبي الصغير الميراث! وليس أحد منهما يركب الفرس ولا يجوز الغنيمة ولا يقاتل العدو؟!
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بذلك أمرت»(1).
كما أن المواريث كانت عند بعضهم على الأخوة لا على الرحم، وكانوايورثون الحليف والموالي الذين اعتقوهم، ثم نزل بعد ذلك «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(2).
قولها (علیها السلام): (أفلا تعلمون) أي: أفلا تعلمون بأن الله سبحانه وتعالى جعل للبنات الإرث، كما جعل ذلك للذكور، نعم لو كان له ولد واحد أو بنت واحدة فانه - أو إنها - يرث الإرث كله ولا يشترك معه - أو معها - من ليس في طبقته أو طبقتها.
ص: 418
..............................
لا يقال: لماذا لم تتعرض الزهراء (علیها السلام) في الاحتجاج إلى أن فدك نحلة لها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع العلم أنها قد كانت نحلة لها بالفعل؟
لأنه يقال: هذه الخطبة كانت بعد يأسها عن قبول القوم (النحلة)، إذ كانت الخطبة كما ذكر جماعة من المحققين بعد ما رفضوا شهادة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ومن شهد معه على أنها نحلة لها فتمسكت بحديث الميراث لأنه من ضروريات الدين، مما صرح به في القرآن الحكيم.وهذا من إلزام الخصم بما لا مفر له منه، وهو من الحكمة إذ كان يراد لهذه الخطبة ان تكون قوية مفعمة لا تترك ثغرة يمكن الغمز منها وعبرها وبها. فحيث أنكر القوم بأن فدكاً نحلة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام) وصبوا كلامهم على أنه لو كان لها فهو من باب الإرث، وأن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)(1) لذلك صبت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كلامها حول إثبات الإرث لها، حتى أنهم إذا أنكروا النحلة وجب أن يعترفوا بأن فدك إرث لها فلا وجه لاغتصابها منها.
لا يقال: إذا كانت فدك إرثاً ورثت منها مع الزهراء (عليها الصلاة والسلام) زوجاته (صلی الله علیه و آله) أيضاً فلم تكن لها وحدها؟
لأنه يقال: هذا الجواب من قبيل الاستدلال بمسلمات الطرف مما يسمى بالجدل بالاصطلاح المنطقي(2)وحتى إذا فرض أن للزوجات معها شيء منها
ص: 419
..............................
- على تقدير كونه إرثاً - فالقسم الأكبر من فدك يكون للزهراء (عليها الصلاة والسلام) دون شك فلماذا تمنع عنها بالكامل(1)؟
وعلي أي حال، ففدك لها إما نحلة أو إرث - بكاملها أو بمعظمها - فلا وجه ولا مسوغ لمنعها كلاً عنها (صلوات الله عليها).
(أفلا تعلمون): استفهام إنكاري.
(يوقنون): أي بالله، أو بهذه الحقيقة، أو بالمآل، أو بجميعها.
(اليقين) كاشف عن الواقع ولا يطلق على الجهل المركب، فالموقن هو الذي يعلم أن حكم الله هو الحكم الأحسن.
والعلم في (أفلا تعلمون) يراد بهالمطابق للواقع وإطلاقه على الجهل المركب مجاز، ومن استخدام العالم الحقيقي كأهل البيت (علیهم السلام) كلمة العلم يستكشف أن مطابقه هو (الحق) دون ريب أو شك.
ص: 420
-------------------------------------------
مسألة: من أساليب الدعوة ومن طرق الحرب الإعلامية ومن وسائل النهي عن المنكر دغدغة وجدان الظالم وتذكيره بالحقيقة الصارخة من جهة، ومن جهة أخرى كشف القناع للشعب عن أن المعتدي يعرف الحقيقة بصورة كاملة ومع ذلك يجحدها ويتخذها ظهرياً.
ولعل من هذين المنطلقين كان قولها (علیها السلام): (بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته) فهي تشير إلى انهم أضحوا مصداق قوله تعالى: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم»(1) وذلك مما يسبب التحريض ضد الظالم أكثر فأكثر وهو واجب في الجملة.
***
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 421
إلى هنا تم بحمد الله تعالى
المجلد الثالث من فقه الزهراء (علیها السلام)
وقد اشتمل على القسم الثاني من الخطبة الشريفة
وسيأتي بعده المجلد الرابع (وهو القسم الثالث) من الخطبة
ويبتدأ بقولها (علیها السلام): (أيها المسلمون، أأغلب على إرثي)
ص: 422
مقدمة المؤلف.......... 5
نداء الناس... 7
من أحكام النداء.... 10
التعريف بالنفس...... 13
لماذا (وأبي محمد)؟ ..... . 19
التأكيد والتكرار....... 22
عصمتها (علیها السلام)..... 24
حرمة القول بالغلط...... 25
لماذا رسول من أنفسكم؟... 27
من مواصفات القائد...... 28
الحرص على الرعية....... 29
بين الرأفة والرحمة.... 31
التعرف على الرسول (صلی الله علیه و آله) 33
الانتساب إلى الرسول(صلی الله علیه و آله) 35
أخ الرسول (صلی الله علیه و آله)...... 36
ذكر فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام). 38
الفخر بالانتساب للرسول(صلی الله علیه و آله) 41
ص: 423
تبليغ الرسالة....... 44
الإنذار أبداً..... 47
الميل عن طريقة المشركين.... 50
التشبه بالكفار...... 51
التركيز على أئمة الكفر...... 52
منهج التصدي للأعداء.... 53
استعراض قوة الإسلام...... 54
الدعوة بالحكمة...... 56
القضاء على الأصنام...... 58
القضاء على أئمة الضلال... 59
تخليد ذكرى القائد...... 60
مواصلة المعركة...... 62
الحقيقة الكاملة.... 63
إسناد زعماء الدين...... 67
إسكات أصوات الشياطين.... 68
القضاء على النفاق...... 71
أخ الرسول (صلی الله علیه و آله)...... 36
ذكر فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام). 38
الفخر بالانتساب للرسول(صلی الله علیه و آله) 41
تبليغ الرسالة....... 44
الإنذار أبداً..... 47
الميل عن طريقة المشركين.... 50
التشبه بالكفار...... 51
التركيز على أئمة الكفر...... 52
منهج التصدي للأعداء.... 53
استعراض قوة الإسلام...... 54
الدعوة بالحكمة...... 56
القضاء على الأصنام...... 58
القضاء على أئمة الضلال... 59
تخليد ذكرى القائد...... 60
مواصلة المعركة...... 62
الحقيقة الكاملة.... 63
إسناد زعماء الدين...... 67
إسكات أصوات الشياطين.... 68
القضاء على النفاق...... 71
حل مراكز قوى الأعداء ..... . 73
وجوب النطق والتجاهر بكلمة الإخلاص....... 74
التقوى والزهد من المقومات...... 76
تذكر النعم السابقة.... 79
حرمة إذلال المؤمن نفسه... 84
العزة في كل شؤون الحياة.... 88
الإرشاد لمواطن الضعف ..... . 89
حرمة الاستسلام للاستعمار... 89
ص: 424
كراهة شرب الطرق.... 91
كراهة أكل القد والورق... 93
الذلة النفسية والسياسية.... 95
انتهاج منهج الجاهليين... 98
ضمانات للمستقبل....... 101
حرمة الاختطاف والعنف.... 106
إنقاذ المسلمين.... 110
الإنقاذ يكون من الله وبالعمل بمناهجه.... 111
التنبيه على عظيم فضل رسول الله (صلی الله علیه و آله) 116
المخرج من المشاكل.... 119
بهم الرجال وذؤبانهم.... 123
مذمومية الصفات السبعية.... 125
المعارضة: علماء وجهلة...... 126
استعراض ما واجهه الرسول (صلی الله علیه و آله) 129
حرمة إشعال الحروب.... 131
وجوب إطفاء الحرب...... 132
أصالة السلم.... 135
الحروب الدفاعية....... 136
إسناد الأفعال لله.... 138
إعداد العدة.... 142
المبادرة... 143
ترصد الفتن..... 144
الموقف المناسب.... 147
الأدب التصويري...... 148
ص: 425
التعرض لصفات الإمام (علیه السلام) والتعريف به 149
التهلكة..... 151
وجوب التضحية....... 153
بين التخصص والتنويع.... 154
التصدي بسرعة....... 155
التضحية بالمهم.... 156
التركيز على مركز الفساد... 157
التضحية حتى بالأحب.... 157
انتخاب الكفؤ....... 158
ذكر الإمام (علیه السلام) كلما ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله)... 161
الشهادة الثالثة في الأذان...... 163
التراجع..... 165
الأقل والأكثر الإرتباطيان.... 166
إذلال الكفار.... 167
إذلال رؤوس الفتن....... 169
اخماد لهب النيران.... 170
علم التاريخ.... 171
الكد حسن أم قبيح؟.... 174
الكد في ذات الله...... 177
وجه الاستدلال على الخلافة.... 178
أصالة الأسوة.... 180
من صفات القائد.... 182
القرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) 185
ذكر الفضائل.... 188
ص: 426
مقتضى السيادة المطلقة...... 188
الإخبار في مقام الإنشاء...... 191
على أهبة الاستعداد.... 192
النصيحة لله....... 193
الجد والكدح.... 198
هل الرفاهية مذمومة؟.... 201
مواساة الشعب للقائد.... 202
تربص الدوائر بالمؤمنين.... 212
التجسس والتحسس والتوكف.... 215
الإحجام عن المعركة.... 218
من حقوق المعارضة...... 219
الفرار من الزحف....... 221
الإرشاد للنواقص.... 224
معاتبة القائد والامة.... 225
تكاملية الدنيا والآخرة...... 227
الإحياء والإماتة بيد الله... 229
أقسام النفاق....... 230
إظهار النفاق محرم.... 232
المحافظة على نضارة الدين...... 237
تستر أهل الضلالة....... 240
لزوم الحذر..... 241
الفاعل والساكت الراضي...... 241
من أساليب المبطلين .... 243
دراسة سنن الحياة...... 244
ص: 427
الشيطان في مسرح القلوب.... 246
مواصفات المعارضين للإمام (علیه السلام) 247
فسح المجال لقوى الشر... 249
مكامن الشيطان...... 251
الاستجابة للشيطان...... 255
الثبات على العقيدة ...... 257
أرضية الاستجابة.... 257
الاغترار الفكري والعاطفي... 259
التراجع عن الدين...... 261
هل الأصحاب كالنجوم؟ ...... 263
الأصل: النهضة أم التحفظ؟... 267
من أسلحة الشيطان...... 270
الشيطان وسياسة الخطوة خطوة... 271
التصرف في ملك الغير.... 273
مصادرة الحقوق...... 275
جواز الكناية....... 278
حرمة نقض العهد.... 279
وجوب إحياء أمرهم (علیهم السلام)... 282
التفاعل مع مصاب الزهراء (علیها السلام) 284
المسارعة للشر...... 289
تبرير المعصية...... 292
مثلث المعصية....... 293
السقوط في الفتن....... 296
مصادر شيعية في قصة حرق الباب و... ...... 297
ص: 428
مصادر سنية في قصة حرق الباب و... ....... 305
الكفر موضوعا وحكما ...... 313
نافذة نحو العالم الآخر...... 317
جمع القرآن..... 325
عدم تحريف القرآن...... 325
حجية الكتاب.... 326
القرآن كالشمس...... 327
الأحكام الزاهرة.... 329
من العلامات القرآنية.... 330
من النواهي الإلهية.... 335
ومن الأوامر الإلهية.... 336
من مميزات القانون الإلهي... 337
هجر القرآن وتركه...... 339
اتباع من هجر القرآن.... 340
الرغبة عن القرآن...... 342
الحكم بغير القرآن.... 344
أقسام الظلم.... 351
أصول الدين..... 354
الطريق إلى الله....... 359
الخلافة والظلم...... 360
الحيطة من أهل الباطل... 365
أقسام المكر.... 366
الإعانة على الإثم....... 368
التفكيك بين الظلم والظالم..... 369
ص: 429
الرضا بفعل الظالم.... 371
تقوية شوكة الظالمين.... 372
ما يؤدي إلى الغصب.... 374
الاستجابة لهتاف الشيطان.... 376
التحذير من مساوئ الشيطان...... 378
مقتضى الأصل في هتاف الشيطان... 382
إطفاء نور الدين....... 383
الدين جلي واضح.... 384
هل للدين أنوار؟....... 385
إلغاء سننه (صلی
الله علیه و آله) محرم 387
هل المكر محرم؟.... 390
حسن الحذر والاحتياط...... 392
حرمة إرادة الشر بهم (علیهم السلام)... 393
من هم أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله)395
الأسباط أبناء....... 396
وجوب الصبر في الجملة... 397
إحياء ظلامة الزهراء (علیها السلام)..... 398
مما يستحب للمظلوم.... 403
المظلوم والرأي العام... 404
صبر القائد..... 405
أسلوب مواجهة الطغاة.... 406
الساكت على الظلم...... 409
تطويق الباطل....... 410
متى يجوز النقل بالمضمون... 411
ص: 430
الحكم بفسقهم....... 411
أحكام الله لا تتبدل....... 412
لا يجوز القول بعدم إرثها (علیها السلام) 413
ابتغاء حكم الجاهلية.... 414
لا أحد أحسن من الله حكماً... 416
لا حسن في غير حكم الله ...... 417
من أساليب الدعوة...... 421
الفهرس..... 423
ص: 431