الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام) المجلد 1

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الأول : حدیث الکساء

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الأول

حدیث الکساء

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

اشارة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، سيما المحدّثة العليمة، التقيّة النقيّة، الرضيّة المرضيّة، الصدّيقة الكبرى، فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

إن سيدة النساء فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مجهولةٌ قدراً، ومهضومةٌ حقاً، ولعلّ من مصاديق مجهولية قدرها: عدمَ الاستفادة من كلماتها وخطبها في (الفقه) وعدمَ إدراجها ضمن الأدلة أو المؤيدات التي يُعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك فقد استعنتُ بالباري جل وعلا في الكتابةحول ذلك(1) رجاءَ المثوبة، وأداءً لبعض الواجب، والله الموفِّق.

ص: 5


1- لقد قام الإمام المؤلف (قدس سره) باستخدام أسلوب (فقه الحديث) في تحليل كلماتها (علیها السلام) حيث تناول كل كلمة بالبحث والدراسة وربما في العديد من جوانبها،وقد ورد في الحديث الشريف: «أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا» _ الاختصاص: ص288 حديث في زيارة المؤمن لله _. ومن الواضح أن للكلمات دلالات جلية وأخرى خفية، كما أن لها ظهراً وبطناً، ويظهر ذلك بجلاء أكبر في آيات الذكر الحكيم وفي القواعد الفقهية.

والروايات المذكورة في هذا الكتاب بعضها صحيح من حيث السند، وبعضها حسن أو موثق، وبعضها الآخر وإن لم يطلق عليها ذلك اصطلاحاً _ حسب ما جرى عليه علماء الدراية والرجال _ إلاّ أن الغالب منها قد ورد في باب المستحبات والآداب، مما يشمله حديث: «من بلغه ... »(1) وغيره.

بالإضافة إلى الشواهد الكثيرة المؤيدة لها في الآيات والروايات الأُخر، وهي قرينة خارجية، إضافة على قوة المضمون في بعضها _ وهي قرينة داخلية _ مما يجعل للأحكام المذكورة قوة، بحيث تصلح للاستدلال بها أو لاعتبارها مؤيداً على الأقل.كما أن بعضها يؤيد بنحو الملاكات(2)..

وقد ذكرنا في بعض المباحث(3) أن الحجية قد تكون من جهة تمامية السند بمقتضى بناء العقلاء والآيات والروايات، ومنها: قوله (علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا»(4) الحديث.

وقد تكون من جهة قوة المتن، مما تكون دليلاً على الورود عنهم (علیهم السلام) وإن لم يكن قوي السند، لبناء العقلاء أيضاً، ولشمول ملاك (ثقاتنا) له(5).

ص: 6


1- راجع وسائل الشيعة: ج1 ص80 ب18 ح182.
2- ربما يكون المراد تنقيح المناط، أو كون الحكم المذكور صغرى لكبرى كلية، ويكون المراد من الشواهد: المعاضد الموافق.
3- راجع (الأصول) و(الوصول إلى كفاية الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج149-150 27 ب11 ح33455.
5- الملاك: (الوثاقة) كما تطرق له الإمام المؤلف (قدس سره) في (الأصول).

وقد تكون من جهة قوة المؤلف، فيما كان بناء العقلاء الاعتماد على إسناده أو أفاد الاطمينان وذلك كالشريف الرضي (رحمة الله)(1)، ونحن نرى حجية (نهجالبلاغة) وإن لم يتسلسل إسناد العديد من الخطب والكلمات الواردة فيها _ لمجموعة من القرائن الخارجية والداخلية _.

وقد تكون من جهة القرائن الخارجية(2)، كما ذكر ذلك العديد من علماء الأصول.

وقد تكون من جهة الشهرةالمضمونية، لشمول قوله (علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك(3)... فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(4).

ص: 7


1- الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (علیه السلام)، ولد في بغداد عام 359ه من أسرة شريفة وأصيلة، يصل نسبه إلى الأئمة المعصومين (علیهم السلام). يعود نسبه من أبيه إلى الإمام الكاظم (علیه السلام)، ومن أمه إلى الإمام السجاد (علیه السلام). وهو عالم مفكر ذو ذكاء خارق وفهم عالٍ، أسس مدرسة علمية في بغداد قام فيها بتربية وتدريس طلاب العلوم الدينية وفيها مكتبة كبيرة. لقبه بهاء الدولة سنة 388ه ب «الشريف الجليل»، ولقب سنة 398ه ب «ذي المنقبتين»، وفي تلك السنة لقبه بهاء الدولة ب «الرضي ذي الحسبين»، ولقبه أيضاً قوام الدين ب «الشريف الأجل». له مؤلفات قيمة وعلى رأسها جمعه كلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتاب أسماه (نهج البلاغة). توفي عام 406ه في السابعة والأربعين من عمره، بعد عمر قضاه في خدمة الإسلام والتشيع، ودفن في الكاظمية بجوار قبر الإمامين الكاظم والجواد (علیهما السلام).
2- بعض ما سبق وسيأتي من مصاديق ذلك كما لا يخفى، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام أو قبله.
3- حيث يستفاد الشمول للشهرة الفتوائية أيضاً.
4- راجع وسائل الشيعة: ج106- 107 27 ب9 ح33334.

وربما يُقال بالحجية، أو يتعامل مع الحديث التعامل مع الحجة من حيث ترتيب الآثار أو بعضها _ على تفصيل مذكور في الفقه والأصول _ من جهة التسامح في أدلة السنن.

وقد كتبنا حول هذه القاعدة رسالة مستقلة(1) أدرجناها في شرح الرسائل للشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)(2).

ص: 8


1- راجع الوصائل إلى الرسائل: ج 6.
2- الشيخ مرتضى بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ مرتضى المعروف بالأنصاري، والأنصاري نسبة إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله عليه) لانتهاء نسبه إليه. ولد (رحمة الله) يوم عيد الغدير سنة 1214 ه في مدينة دزفول الواقعة في الجنوب الغربي من إيران. كان أبوه من العلماء العاملين ومن وجهاء مدينة دزفول، وأما أمه فهي بنت الشيخ يعقوب بن الشيخ أحمد الأنصاري، وكانت من النساء الصالحات العابدات في زمانها بحيث لم تترك نوافل الليل إلى آخر عمرها. قرأ الشيخ الأنصاري دروسه الأولى في مدينة دزفول على الشيخ حسين الدزفولي، وفي كاشان حضر درس الملا أحمد النراقي، وتتملذ على السيد محمد المجاهد وشريف العلماء في كربلاء المقدسة، وفي النجف الأشرف حضر درس المحقق الفقيه موسى كاشف الغطاء، والشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ودرس الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ علي كاشف الغطاء وهو آخر أستاذ درس عنده. يعتبر أكثر المجتهدين والعلماء المحققين في الفترة ما بين أواسط القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر هم من تلامذته، فقد بلغ عدد تلاميذه البارزين المئات منهم: السيد أحمد التفريشي، المتوفى في حدود سنة 1309 ه، والشيخ جعفر الشوشتري، المتوفى سنة 1303 ه، والسيد جعفر القزويني، المتوفى سنة 1316 ه، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، المتوفى سنة 1290 ه، والسيد جمال الدين أسد آبادي، المتوفى سنة 1314 ه، وعلى رأسهم الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي صاحب ثورة التبغ، والميرزا حبيب الله الرشتي، وغيرهم. ألف (رحمة الله) كتباً كثيرة مشتهرة عليها مدار التدريس في الحوزات العلمية، وذلك لما تحويه مؤلفاته من دقة وإمعان نظر وتحقيقات جديدة، منها: رسالة في إجازة الشيخ الأنصاري، والاجتهاد والتقليد، وإثبات التسامح في أدلة السنن، والإرث، وأصول الفقه، والرسائل، والمكاسب، وغيرها، وقد بلغت الأربعين، كما استنسخ القرآن الكريم بخطه المبارك. توفي (رحمة الله) في النجف الأشرف بداره في محلة الحويش، بعد مضي ست ساعات من ليلة السبت الثامن عشر من جمادى الثانية سنة 1281 ه وعمره 67 سنة، ودفن في صحن أمير المؤمنين (علیه السلام) في الحجرة المتصلة بباب القبلة وقبره معروف لحد الآن وعليه شباك.

أما سند حديث الكساء: فقد رواه والدي (رحمة الله) (1) في رسالة مخطوطةله

ص: 9


1- هو آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي بن الميرزا حبيب الله بن السيد آقا بزرك بن السيد ميرزا محمود بن السيد إسماعيل الحسيني الشيرازي، من مشاهير الفقهاء المجتهدين ومراجع التقليد في زمانه. ولد في كربلاء المقدسة سنة 1304ه، ودرس على أساتذتها مقدمات العلوم، ثم سافر إلى سامراء فاشتغل فيها بالبحث والتحقيق والتدريس لفترة طويلة، ثم توجه إلى مدينة الكاظمية المقدسة وبقى فيها ما يقرب من سنتين، عاد بعدها إلى كربلاء المقدسة، وبقي فيها فترة من الزمن مواصلاً الدرس والبحث إلى أن انتقل إلى النجف الأشرف، وأقام بها ما يقرب من عشرين عاماً. درس الخارج على أيدي كبار العلماء والمراجع في عصره أمثال: السيد الميرزا علي آغا نجل المجدد الشيرازي، والميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي صاحب ثورة العشرين، والعلامة الآغا رضا الهمداني صاحب (مصباح الفقيه)، والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب (العروة الوثقى) وغيرهم. وكان (رحمة الله) يحضر في كربلاء المقدسة بحثاً علمياً عميقاً يسمى ببحث ال (كمباني) تحت رعاية المرحوم السيد الحاج آغا حسين القمي، وكان البحث يضم جمعاً من أكابر ومشاهير المجتهدين في كربلاء المقدسة. بعد وفاة السيد القمي سنة 1366ه استقل بالبحث والتدريس، واضطلع بمسؤولية المرجعية الدينية، ورجع الناس إليه في أمر التقليد. في عهد حكومة عبد الكريم قاسم في العراق، وفي أثناء فترة تنامي المد الشيوعي، بادر إلى استنهاض همم مراجع الدين الكبار في النجف الأشرف لاتخاذ موقف جماعي قوي إزاء الخطر الإلحادي على العراق، فالتقى بالمرجع الكبير السيد محسن الحكيم (قدس سره) وأصدر الأخير فتواه الشهيرة بتكفير الشيوعية. توفي (رحمة الله) في الثامن والعشرين من شهر شعبان سنة 1380ه، وشيع جثمانه في موكب مهيب قلما شهدت كربلاء مثله، ودفن في مقبرة العالم المجاهد الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في صحن الروضة الحسينية الشريفة، وأقيمت على روحه الطاهرة مجالس الفاتحة والتأبين بمشاركة مختلف الفئات والطبقات واستمرت لعدة أشهر. من مؤلفاته المطبوعة: ذخيرة العباد، الوجيزة، ذخيرة الصلحاء، تعليقة العروة الوثقى، تعليقة الوسيلة، بداية الأحكام، مناسك الحج، أعمال مكة والمدينة، ديوان شعر، وقد طبع بعض أشعاره متفرقة.

بسند صحيح متصل الإسناد، وكل واحد منهم من الأعلام(1)..

وكذلك سند خطبتها (عليها الصلاة والسلام)، فقد رُويت بما لا يدع للشك مجالاً، كما لا يخفى على من راجع ذلك في مظانِّه.

وسيأتي إن شاء الله تعالى.

بالإضافة على انطباق مضمونها معالآيات والروايات ووجود القرائن الداخلية والخارجية.

ص: 10


1- ولهذا الحديث أسناد كثيرة، وسيأتي بعد المقدمة _ أول الفصل الأول _ الإشارة إلى بعض المصادر في الهامش.

لمحة عن عظمة الزهراء (علیها السلام)

ومن نافلة القول في المقام الإشارة إلى أننا لم نقم في هذا الكتاب إلاّ بالإلماع إلى هذا البُعد الفقهي مع شيء موجز من الشرح والتوضيح، وإلاّ فهي (صلوات الله عليها) أعلى وأجلّ من أن أتمكن أنا الفقير العاجز عن ذكر بعض ما يليق بمن دارت على معرفتها القرون الأولى(1)، ومن هي قطب دائرة الإمكان، كما دل على ذلك قوله تعالى في حديث الكساء:

«فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها».

فإن مكانتها وعظمتها (صلوات الله عليها) لا يمكن أن يستوعبها أي واحد من المخلوقات إلاّ النبي (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) ..

فإن الضيق لا يمكن أن يحيط بالواسع..وأنى للذرة أن تحيط بالمجرة؟!

وأنى للمغرفة أن تستوعب المحيط؟!..

كما قالوا بالنسبة إلى استحالة إدراكنا لله سبحانه؛ لأن اللامتناهي يستحيل أن يحيط به المتناهي المحدود أو يدرك كنهه.

ولاشك أنهم (علیهم السلام) ليسوا كالله سبحانه في اللاتناهي واللامحدودية إلاّ أنه

ص: 11


1- إشارة إلى الحديث المروي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى» _ الأمالي للطوسي: ص668 مجلس36 ح1399 _.

لاشك أنهم (علیهم السلام) أوسع من الناس الضيقين، بما قد يُلغي النسبة بين الطرفين ويجعلها أبعد من نسبة القطرة إلى المحيطات..

وقد «سميت فاطمة؛ لأن الخلق فُطموا عن معرفتها» كما في الحديث الشريف(1)..

فإنها (عليها الصلاة والسلام) أفضل من الأنبياء كافة (2) باستثناء الرسول (صلی الله علیه و آله) كما دلت على ذلك أدلة متعددة، وسيأتي ذلك.

وهي (عليها الصلاة والسلام) حُجّة على كل أولادها الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وهم (علیهم السلام) أفضل من الأنبياء والملائكة (علیهم السلام) كافة، ولذاقال الإمام العسكري (علیه السلام): «وهي حجة علينا»(3)..

وقال الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف): «وفي ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لي أسوةٌ حسنة»(4)..

وقد قال الإمام الحسين (علیه السلام): «أُمي خيرٌ مني»(5)..

ولها (علیها السلام) الولاية التكوينية بتفويض الله سبحانه لها، كتفويضه الولاية لهم (علیهم السلام).

أما كونها (علیها السلام) كسائرهم (علیهم السلام) في حجية قولها وفعلها وتقريرها، فمما قام عليه الإجماع، بالإضافة إلى الأدلة الثلاثة الأُخر..

ص: 12


1- تفسير فرات الكوفي: ص581 ومن سورة القدر ح747.
2- سيأتي بعد قليل الحديث عن أفضليتها (علیها السلام).
3- تفسير أطيب البيان: ج13 ص225.
4- بحار الانوار: ج53 ص180 ب31 ح9.
5- الإرشاد، للشيخ المفيد: ج2 ص94 باب ذكر الإمام بعد الحسن بن علي (علیه السلام).

وسنذكر شيئاً من الأدلة على ما لهم (علیهم السلام) من الولاية التكوينية والتشريعية، كما نشير إلى بعض مصاديقها حسب ما ذكرناه في كتاب البيع من (الفقه)(1).

الولاية التكوينية والتشريعية و...

اشارة

إن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) كسائر المعصومين (علیهم السلام) لها الولاية التكوينية والتشريعية، وهي (صلوات الله عليها) وكذلك سائر أهل البيت (علیهم السلام) قد جعلهم الله الوسائط في خلق العالم، والعلة الغائية له(2).

كما أنها (علیها السلام) وأنهم (علیهم السلام) سبب لطف الله تعالى وإفاضته على العالم، واستمرار قيام العالم بها (علیها السلام) وبهم (علیهم السلام) .. وقد صُرح بذلك في الأدلة الشرعية(3)..

فلولاهم لساخت الأرض(4)..وكونهم (علیهم السلام) سبب القيام، كما أن الجاذبية والقوة الطاردة أو العناصر الأربعة سبب القيام المادي بحيث لولاها لساخت الأرض وانهدم العالم..

ص: 13


1- موسوعة الفقه: كتاب البيع، الجزء الرابع والخامس.
2- سيأتي هذا البحث تفصيلاً، فراجع ما سيأتي من بحث (لأجلهم) و(محبتهم) وغيرهما.
3- سيأتي الحديث عن الأدلة على ذلك بعد صفحات كما سيتطرق الإمام المؤلف (قدس سره) لذلك في مطاوي الكتاب، وراجع أيضا (العقبات)، و(البحار) _ عند الحديث عنهم (علیهم السلام) وكذا عن خلق العالم _، و(كفاية الموحدين)، و(نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي، و(دلائل الصدق) للمرحوم المظفر، إلى غيرها من الكتب الكلاميه.
4- راجع الكافي: ج1 ص179 باب أن الأرض لا تخلو من حجة ح10.

وكونهم (علیهم السلام) واسطة الفيض كما في حديث الكساء(1) وغيره، وأنه لولاهم لم يجر فيض الله سبحانه على هذا العالم القائم فرضاً.

كما أنها (صلوات الله عليها) تعلم الغيب كسائر المعصومين (علیهم السلام) حسب مشيئته سبحانه..

ولها (علیها السلام) ولهم (علیهم السلام) الولايات التكوينية، ومعناها:

إن زمام العالم بأيديهم (علیهم السلام) .. ومنهم فاطمة (سلام الله عليها) حسب جعل الله سبحانه، كما أن زمام الإماتة بيد عزرائيل (علیه السلام)..

فلهم (علیهم السلام) التصرف فيه إيجاداً وإعداماً..

لكن من الواضح أن قلوبهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله تعالى(2)، فكمامنح الله سبحانه القدرة للإنسان على الأفعال الاختيارية، منحهم (علیهم السلام) القدرة على التصرف في الكون.

وما نذكره يشمل كل المعصومين (علیهم السلام) ،فإن كل الصلاحيات التي كانت للأنبياء (علیهم السلام) ثابتة للمعصومين (علیهم السلام) أيضاً؛ لأنهم أفضل منهم (علیهم السلام) وفاطمة (صلوات الله عليها) أفضل من جميع الأنبياء (علیهم السلام) إلاّ الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأنها (سلام الله عليها) بضعة منه(3)، لا البضعة المادية فقط، بل المعنوية أيضاً، إذ لا يترتب على المادية تلك الآثار التي رتبها الرسول (صلی الله علیه و آله) عليها، وإذا كان (صلی الله علیه و آله) أفضل جميع الأنبياء (علیهم السلام) فبضعته (علیها السلام) كذلك، فتأمل.

ص: 14


1- راجع (الدعاء والزيارة) للإمام المؤلف (قدس سره): ص 1050 فصل في حديث الكساء، و(مفاتيح الجنان) للشيخ عباس القمي (رحمة الله)، وسائر المصادر المذكورة في هذا الكتاب.
2- راجع بحار الأنوار: ج25 ص337 ب10 فصل في بيان التفويض ومعانيه ح16.
3- مستدرك الوسائل: ج14 ص183 ب21 ح16452.

وهناك روايات عديدة يمكن القول بأنها متواترة ولو إجمالاً، ومحتفة بالقرائن المعتبرة تدل على أفضليتها (صلوات الله عليها) من جميع الأنبياء (علیهم السلام) إلا الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وهي على طوائف:

فمنها: ما دل على كون طاعتها(علیها السلام) مفروضة على جميع الخلائق والأنبياء (علیهم السلام).

فعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): «ولقد كانت (علیها السلام) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة ... »(1).

ومنها: ما دل على اطلاع الله تعالى على الخلق واختيارهم.

فقد قال الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «إن الله عزوجل أشرف على الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من وُلدِك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(2)، مع ملاحظة وحدة السياق معه (صلی الله علیه و آله) مما يفيد عمومية الأفضلية من كل الأنبياء (علیهم السلام)، وبضميمه ما دل على أنها (علیها السلام) أفضل من أبنائها (علیهم السلام).

وفي (كمال الدين): «... ثم اطلعإلى الأرض اطلاعة ثالثة فاختاركِ وولديكِ ... »(3).

ونظيره قوله تعالى: «... يا محمد، إني خلقتك وخلقتُ علياً وفاطمة والحسن والحسين من سنخ نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات

ص: 15


1- دلائل الإمامة: ص28 خبر مصحفها.
2- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص374 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
3- كمال الدين: ص263 ب24 ح10.

والأرضين، فمن قبلهما كان عندي من المؤمنين ... »(1)، ووحدة السياق معه (صلی الله علیه و آله) والإطلاق يفيد المطلوب.

ومنها: ما دل بالصراحة على الأفضلية، مثلاً قوله (صلی الله علیه و آله): «ما تكاملت النبوة لنبي حتى أقر بفضلها (علیها السلام) ومحبتها»(2) فتأمل.

وكذلك الأحاديث الدالة على أنه لولا أن الله تعالى خلق أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن لفاطمة (علیها السلام) كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه، وهيعديدة(3).

ومنها: ما يدل بالالتزام على الأفضلية، مثل:

أ: الكتابة على ساق العرش والجنة

فمثلاً قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليلة عُرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي حبيب الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمة خيرة الله، على باغضهم لعنة الله»(4).

ص: 16


1- راجع الغيبة للشيخ الطوسي: ص148 أخبار المعمرين من العرب والعجم، تأويل الآيات الظاهرة: ص105 سورة البقرة وما فيها من الآيات البينات في الأئمة الهداة.
2- راجع بحار الأنوار: ج26 ص281 ب6 ح27، بصائر الدرجات: ص73 ب8 ح7، وفيه: «ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ومثلوا له فأقروا بطاعتهم وولايتهم».
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص107 ب5 ضمن ح22، المناقب: ج2 ص181 فصل في المصاهرة مع النبي (صلی الله علیه و آله).
4- تاريخ بغداد: ج1 ص274 ح88.

وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله، فسبحت الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عزوجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عزوجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يؤمروا بالسجود إلا لأجلنا ... »(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لماخلق الله إبراهيم كشف عن بصره فنظر في جانب العرش نوراً فقال: إلهي وسيدي ما هذا النور؟.

قال: يا إبراهيم هذا نور محمد صفوتي.

قال: إلهي وسيدي وأرى نوراً إلى جانبه؟.

قال: يا إبراهيم هذا نور علي ناصر ديني.

قال: إلهي وسيدي وأرى نوراً ثالثاً يلي النورين؟.

قال: يا إبراهيم هذا نور فاطمة تلي أباها وبعلها ... »(2).

ب: والخلقة قبل آدم (علیه السلام)

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خلق نور فاطمة (علیها السلام) قبل أن تخلق الأرض والسماء ... خلقها الله عزوجل من نوره قبل أن يخلقآدم ... »(3).

ص: 17


1- تأويل الآيات الظاهرة: ص498 سورة ص وما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.
2- راجع الفضائل: ص158 وفي ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله)، بحار الأنوار: ج36 ص213-214 ب40 ح15.
3- راجع معاني الأخبار: ص396 باب نوادر المعاني ح53.

ج: قصة سفينة نوح

حيث «... سمر (علیه السلام) المسامير كلها في السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار منها فأشرق في يده وأضاء كما يضيء الكوكب الدري في أُفق السماء... »، وكان المسمار الأول باسم الرسول (صلی الله علیه و آله) والثاني باسم الإمام علي (علیه السلام) والبقية باسم السيدة الزهراء (علیها السلام) والحسنين (علیهما السلام)، ثم قال (صلی الله علیه و آله): «ولولانا ما سارت السفينة بأهلها»(1).

د: تعليم أسمائهم (علیهم السلام) للأنبياء (علیهم السلام)

فمثلاً: ورد عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف): إن زكريا (علیه السلام) سأل ربه أن يعلمه الأسماء الخمسة ... الحديث(2)..

وكذلك ما ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) في قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ»(3) «كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم (علیهم السلام) »(4).

ص: 18


1- راجع الأمان، للسيد ابن طاووس: ص118-119 ب9 ف4، ولا يخفى ما له من الدلالة على أن ببركتهم (علیهم السلام) وعناية الله بهم نجى نوحاً (علیه السلام) وأصحابه.
2- راجع بحار الأنوار: ج 52 ص 84 ب19 ح1.
3- سورة طه: 115.
4- المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص320 فصل في تفضيلها على النساء.

ه: ما ورد في يوم القيامة ومقامها (علیها السلام)

مثل قوله (صلی الله علیه و آله): «... والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ صعق، فينادي إليها: أن يا جهنم يقول لكِ الجبار: أسكني بعزي واستقري حتى تجوز فاطمة بنت محمد(صلی الله علیه و آله) إلى الجنان ... »(1).

و: وما أشبه ذلك.

مثل ما دل على أفضليتها (علیها السلام) من الأئمة (علیهم السلام)

كقول الإمام الحسين (علیه السلام): «أُمي خير مني»(2) وغير ذلك.

وسائر الأئمة (علیهم السلام) أيضاً كذلك، فهم (علیهم السلام) في الأفضلية سواء من هذه الجهة(3)، ويؤيده روايات مثل صلاة عيسى (علیه السلام) خلف الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(4).

ص: 19


1- بحار الأنوار: ج22 ص491 ب1 ح36.
2- الإرشاد، للشيخ المفيد: ج2 ص94 باب ذكر الإمام بعد الحسن بن علي (علیه السلام).
3- أي: على جميع الأنبياء (علیهم السلام) إلا الرسول (صلی الله علیه و آله).
4- بحار الأنوار: ج14 ص349 ب24 ح12.

الولايات التكوينية للأنبياء والصالحين (علیهم السلام)

وقد دل القرآن العظيم على ثبوت الولاية التكوينية لعدة من الأنبياء (علیهم السلام) وغيرهم، فتثبت لها (صلوات الله عليها) ولسائر أهل البيت (علیهم السلام) بطريق أولى:

كقصة آصف وعرش بلقيس(1)..

وسليمان (علیه السلام) والريح والشياطين وغيرهم(2)..

وقصة الجبال والطير مع داوود (علیه السلام) (3)..

وقصة عيسى (علیه السلام) وتكلمه في المهد(4)، وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتى، وخلقه الطير(5)..

إلى غيرها مما ورد في القرآن الكريم.

وقد وردت طائفة كبيرة منها في السنة المطهرة.بل من أطاع الله تعالى إطاعة كاملةً يكون قادراً على العديد من ذلك كرامةً، كسلمان (رحمة الله) الذي تكلم مع الميت.. وزينب (علیها السلام) بنت الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) التي أومأت إلى الناس _ في سوق الكوفة _ فهدأت الأصوات وسكنت الأجراس(6)، وغيرهما.

ص: 20


1- سورة النمل: 40.
2- سورة ص: 36-37.
3- سورة الأنبياء: 79.
4- سورة مريم: 19-30.
5- سورة آل عمران: 49.
6- راجع بحار الأنوار: ج45 ص162 ب39 ح7.

كما أن الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) يأتون بها معجزة أو خرقاً للعادة، ويطلق على أحدهم الخارق باعتبار خرقه سنن الكون الأولية بأمر خالقه سبحانه.

وفي الحديث: «أطعني تكن مثلي» (1) _ على وزن حبر أو فرس _ والأول معناه اسم المصدر والثاني المصدر من قبيل شِبه وشَبه وحُسن وحَسن.

والمثل يطلق على (وينسب إلى) التابع وعلى المتبوع أو المشابه، مثل: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ»(2) وقد يستعمل في المتبوع مثل «وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِيإِسْرَائِيلَ»(3)، فإن معناه الشبه تابعاً أو متبوعاً.

ومن الواضح: إن قدرتهم (علیهم السلام) التكوينية ليست ذاتية من عند أنفسهم، بل هي منحة الله تعالى وعطاؤه لهم (علیهم السلام)، ولذا قال سبحانه: «قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا»(4)..

فقدرتهم (علیهم السلام) في طول قدرة الله سبحانه وحاصلة بإرادته تعالى. ولذا لاينافي علمهم (علیهم السلام) بالغيب حسب «إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ»(5) عدم علمهم (علیهم السلام) الذاتي حسب قوله سبحانه: «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ»(6)..

ص: 21


1- راجع بحار الأنوار: ج90 ص376 ب24 ضمن ح16.
2- سورة النور: 35.
3- سورة الزخرف: 59.
4- سورة الأعراف: 188.
5- سورة الجن: 27.
6- سورة الأعراف:188.

فهما كالشفاعة، لا يملكها أحد بذاته «قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً»(1) وإن ملكها غير واحد فهو بأمره سبحانه «لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى»(2).

فقوله: «تكن مثلي» لا ينافي «فَلاَتَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ» (3)، و«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»(4) ف «مثلي» طولي لا عرضي، وفي بعض الأمور بقرينة الوضوح..

والذيل «أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء ... »(5)، فإن الخبر يعمم ويخصص الموضوع، كالعكس.

أما ما سبق من كونهم (علیهم السلام) بما فيهم فاطمة (صلوات الله عليها) علة غائية للتكوين، فلأدلة ومؤيدات عديدة،

منها: ما ورد من: «ما خلقت سماءً مبنيةً ... إلا لأجل هؤلاء الخمسة»(6).

وفي حديث آخر: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(7).

ولعل الوجه في ذلك أن عدم خلق الكمال من جميع الحيثيات، مع خلق

ص: 22


1- سورة الزمر:44.
2- سورة الأنبياء: 28.
3- سورة النحل:74.
4- سورة الشورى: 11.
5- راجع بحار الأنوار: ج90 ص376 ب24 ضمن ح16.
6- بحار الأنوار: ج35 ص23 ب1 ح15.
7- راجع مستدرك سفينة البحار: ج3 ص168-169، مستدرك سفينة البحار: ج8 ص243، مجمع النورين: ص14و187.

ماعداه دليل على عدم قدرة الخالق أوبخُله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فلولاهم (علیهم السلام) كان الخلق على خلاف الحكمة.

العلة للحدوث والبقاء

وقد ذهب بعض العلماء، إلى كونهم (علیهم السلام) العلة حدوثاً، بمعنى أن الكون منهم ككون الوفاة من عزرائيل..

وعن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف): «نحن صنائع ربنا والخلق بعدُ صنائعنا»(1).

ص: 23


1- راجع الغيبة، الشيخ الطوسي: ص285 ف4. وفي (بحارالأنوار): ج53 ص178 ب31 ح9. ذهب بعض علماء الكلام إلى ذلك مستندين إلى أدلة وشواهد ومؤيدات كثيرة نشير إلى بعضها، قالوا: ومما يشهد على كونهم (علیهم السلام) وسائط الله سبحانه وتعالى في خلق العالم بعد وضوح إمكان ذلك، بل وضوح رجحانه بالنظر لحكمة الله تعالى كما فصل في محله، ما ورد في الحديث القدسي: «... وهي فاطمة، وبنورها ظهر الوجود من الفاتحة إلى الخاتمة» _ الخصائص الفاطمية للمحقق الشهير الملا محمد باقر (رحمة الله): ص1 _ والظاهر أن المراد ظهورها من كتم العدم إلى نور الوجود والباء للسببية، فليتأمل. كما قالت السيدة فاطمة (علیها السلام): «... ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه ... » _ شرح نهج البلاغة: ج16 ص211 ف1 _ وإطلاق (وسيلته) يقتضي الأعم من الحدوث والبقاء، وهذا بناء على كون المراد ب (الوسيلة) ما يتوصل به إلى الشيء _ كما هو الأصل في معناها، راجع لسان العرب مادة (وسل) وباقي المعاني مشتقة منه _ فهم (علیهم السلام) الوسيلة في الإيجاد وهم (علیهم السلام) الوسيلة في الإفاضة بعد الإيجاد. ويقول العلامة المجلسي (قدس سره): ورد في أخبار كثيرة: «لا تقولوا فينا رباً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا» باب نفي الغلو عن النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) _ بحار الأنوار: ج25 ص347 ب10 فذلكة _ مع وضوح أن (رب) عَلَم لله سبحانه وتعالى أي للواجب الوجود فلايقال فيهم(علیهم السلام) أنهم إله واجب الوجود، بل هم ممكنو الوجود، وبعد ذلك «قولوا فينا ما شئتم» ومن مصاديقه كونهم (علیهم السلام) الوسائط في الخلق خاصة مع ملاحظة «ولن تبلغوا» والأمر واضح بملاحظة العقد السلبي والعقد الايجابي للكلام، وبملاحظة أن المتكلم معصوم حكيم ملتفت لدقائق الكلام ومنها هذا الإطلاق الواسع والمؤكد. وورد كما أشار المصنف (قدس سره): «نحن صنايع ربنا والناس بعدُ صنايعنا» _ كتاب الغيبة الشيخ الطوسي: ص285 ف4. وفي (بحارالأنوار): ج53 ص178 ب31 ح9 _ ووحدة النسق والسياق يشير إلى أن الناس مصنوعون لهم (علیهم السلام) كما أنهم (علیهم السلام) مصنوعون لله تعالى، فالله سبحانه علة العلة. وفي (نهج البلاغة) الرسائل: 28 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى معاوية جواباً _: «إنا صنائع ربنا والناس بعدُ صنائع لنا» واللام في (لنا) للتقوية، خاصة مع ورود (صنائعنا) الذي يشهد لذلك. وفي (البحار)، عن (الخصال): قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إياكم والغلو فينا! قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم» _ بحار الأنوار: ج25 ص270 ب10 ح15 _. وكونهم (علیهم السلام) بإذن الله العلة الفاعلية من مصاديق الفضل كما لا يخفى. وقوله (علیه السلام): «ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لساخت بأهلها» _ بحار الأنوار: ج51 ص112-113 ب2 ح8 _. وهذا ونظائره يدل على كون استمرار الإفاضة منوطاً بهم (علیهم السلام). وأما الروايات التي يتوهم منها نفي ذلك، فهي إما محمولة على التقية، أو أن المراد بها نفي كونهم (علیهم السلام) بالاستقلال وفي عرض الله سبحانه علة الخلائق، لا نفي كونهم (علیهم السلام) في طوله تعالى وبالإستناد إليه وبقدرته وإذنه العلة للخلقة، فلاحظ هذه الرواية مثلاً: روي عن زرارة أنه قال: قلت للصادق (علیه السلام): إن رجلاً يقول بالتفويض فقال: «وما التفويض؟». قلت: إن الله تبارك وتعالى خلق محمداً وعلياً (صلوات الله عليهما) ففوض إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا؟. فقال: «كذب عدو الله، إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد: «أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ» » سورة الرعد: 16 _ بحار الأنوار: ج25 ص343344 ب10 ضمن ح25 _. فلاحظ أن الإمام (علیه السلام) نفى التفويض بمعنى اعتبارهم (شركاء لله خلقوا كخلقه) أي في عرض الله لا باستناد إليه ... وهكذا سائر الأحاديث كما يظهر بالتتبع والتأمل، خاصة مع لحاظ أن إطلاق السؤال يشمل المقام (وهو كونهم (علیهم السلام) الخالقين في طول الله سبحانه) وهو محل الإبتلاء أيضاً، بل لعل السؤال كان عن خصوص كونهم (علیهم السلام) العلة في طول الله بقرينة (خلق... ففوض...) ومع ذلك لم ينف الإمام (علیه السلام) هذا الشق، بل نقل الحديث لنفي الشق الآخر وهو كونهم (علیهم السلام) شركاء الله تعالى وفي عرضه. كما أن التفويض بمعنى أن أمور الكون إليهم (علیهم السلام) بقاءً دون مدخلية لله تعالى أصلاً أيضاً باطل، ولهذا البحث مقام آخر تطرقنا له هنا إشارة فقط. ونموذج آخر يوضحه قوله (علیه السلام): «اللهم أني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى» _ بحار الأنوار: ج25 ص266 ب10 ح7 _. فهذا التشبيه دليل على المتبرى منه، إذ النصارى يرون فيه رباً وشريكاً، لا مخلوقأً مستند القدرة إلى الله سبحانه، وهذا التقييد ب (كبراءة) في العديد من الأحاديث شاهد كبير على المطلب. ولذا جاء في الرواية: «وإنا لنبرأ إلى الله عزوجل ممن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، قال الله عزوجل: «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» » سورة المائدة: 116 _ بحار الأنوار: ج25 ص272 ب10 ح17 _. وكذلك قول صاحب الزمان (عجل الله تعال فرجه الشريف): «... ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره ... » _ بحار الأنوار: ج25 ص266 ب10 ح9 _ مع وضوح علمهم (علیهم السلام) بالغيب بإذنه تعالى وكذلك قدرتهم. ويوضحه أكثر قوله (عجل الله فرجه الشريف): «إني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول إنا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه ... » _ بحار الأنوار: ج25 ص267 ب10 ح9. فالمنفي هو مشاركة الله في ملكه وهو الند ومن هو في العرض، لا من يقوم بعمل استناداً إليه تعالى وبإفاضته وفي طوله. وما يوضح المطلب أكثر فأكثر مراجعة الرواية المطولة المذكورة في بحار الأنوار: ج25 ص273278 ب10 ح20، حيث إن الأئمة كانوا يواجهون من يدعي أن علياً (علیه السلام) هو الله تعالى والعياذ بالله ويردون عليه بكل شدة وصراحة.

ص: 24

وأما كونهم (علیهم السلام) علته(1) بقاءً؛ فلأن البقاء بحاجة إلى استمرار العلة،

ص: 25


1- أي: علة الكون.

كالمصباح حيث إن دوامه بحاجة إلى الاتصال المستمر بالقوة الكهربائية، وهم بإرادة الله وفي طوله تعالى علةٌ كما أن الكهرباء بإرادته تعالى وفي طوله علة للإنارة.

وقد قيل للصادق (علیه السلام): الله بمقدوره أن يخلق الكون الباقي أبداً في أقل من الساعة(1) فلا عمل له سبحانه بعد ذلك، كما قالت اليهود «يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ»(2) فأجاب _ ما معناه _: بأن الكون قائم به سبحانه على سبيلالاستمرار.

فالكون بالنسبة إليه كالصور الذهنية بالنسبة إلينا بحيث إن مجرد عدم الالتفات يوجب انعدامها، ولذا ورد: «لولا الحجة لساخت»(3) والمراد الانعدام لا الانهدام، فليس من قبيل انهدام الكون إذا فقدت الجاذبية.

وفي دعاء رجب: «فبكم يجبر المهيض، ويشفى المريض، وما تزداد الأرحام وما تغيض»(4)..

إلى غير ذلك مما دل على هذه المراتب الثلاثة في الولاية التكوينية.

ص: 26


1- الساعة _ لغة _ الفترة من الزمن فتشمل حتى الدقيقة مثلاً.
2- سورة المائدة: 64.
3- راجع بحار الأنوار: ج51 ص113ب2 ح8، بصائر الدرجات: ص489 ب12 ح8.
4- بحار الأنوار: ج99 ص195 ب 8 الزيارة العاشرة.

الولاية التشريعية

وكذلك لفاطمة (صلوات الله عليها) الولاية التشريعية، إذ هم (علیهم السلام) علة التشريع، فإن علة الملازم علةٌ للملازم الآخر، وعلة الملزوم علةٌ للازمه أيضاً، مثل كون علة وجود الكتب المتعددة علة وجود الزوجية أو الفردية التي هي وصف لتلك الكتب، إذ التشريع من لوازم التكوين _ بالمعنى الأعم _.

إضافةً إلى ما ورد من «إنهم (علیهم السلام) نور واحد»، وما ورد من «إن فاطمة (علیها السلام) حجة علينا»(1) وغير ذلك.

كما أنهم (علیهم السلام) علة، فعلية التشريع وبقاء التشريع حيث إن الدين باق بصورة أو أخرى، فلا يقال لدين موسى (علیه السلام) مثلاً: لم يبق بقول مطلق، إذ جوهر الدين بقي بصورة أخرى في زمن عيسى (علیه السلام)، وزمن الرسول (صلی الله علیه و آله) «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ»(2).

ص: 27


1- راجع تفسير أطيب البيان: ج13 ص225 عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام).
2- سورة البقرة: 136.

الأمر بين الأمرين في التشريع

لا يقال: كيف يجمع بين تشريعهم (علیهم السلام) المستفاد من «ففوض إليه دينه»(1) ومِن «المفوض إليه دين الله»(2) ومِن (سنة النبي (صلی الله علیه و آله) في قبال فرض الله)، وبين «مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى»(3) المراد به الأعم من القول والفعل والتقرير، ولذا ورد «هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ»(4) فإن كل مظهر نطق، مثل «يُسَبِّحُ للهِ»(5) المراد به التكوين أو اللسان أو بُعد آخر لا تدركه عقولنا؟.

لأنه يقال: إن قلوبهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله سبحانه، كما أن الله ينبت لكن محل إنباته الأرض أو الرحم كما قال: «وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً»(6).ثم إن الله سبحانه نسب الأمور التكوينية تارة إلى نفسه، وأخرى إليهم (علیهم السلام)، وثالثة إليهما: فمرة قال تعالى: «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ»(7)..

وتارة قال سبحانه: «ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا

ص: 28


1- تهذيب الأحكام: ج9 ص397 ب46 ح24.
2- بحار الأنوار: ج91 ص81 ب30 ح2.
3- سورة النجم: 3.
4- سورة الجاثية: 29.
5- سورة الجمعة: 1، سورة التغابن: 1.
6- سورة آل عمران: 37.
7- سورة الإسراء: 4. والقضاء يأتي بمعنى الإخبار والتقدير والحكم وغير ذلك _ راجع شرح التجريد بحث القضاء _ وربما يكون المراد بالآية أن التقدير كان حسب السنن الكونية إفسادهم مرتين، فمن السنن الكونية أن التكبر يفسد وهذا تقدير كوني.

قَضَيْتَ»(1)..

وقال تعالى ثالثة: «رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ»(2)، «سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ»(3) _ ماضياً ومستقبلاً _ كما استدل بها الصادق (علیه السلام) على أبي حنيفة الذي قال: أشركت بالله(4).

فمعنى أنهم (علیهم السلام) المكوِّنين بأمره تعالى، وبأنهم (علیهم السلام) مجرى إرادته وأوعية مشيئته،مثل أن عزرائيل (علیه السلام) يُميت بأمره سبحانه وإرادته، وإسرافيل (علیه السلام) ينفخ، وجبرائيل (علیه السلام) ينزل الوحي، وميكائيل (علیه السلام) يقسم الرزق، وهكذا. ومن المعلوم أن المعصومين (علیهم السلام) جميعاً أفضل من الملائكة، ولذا سجدت الملائكة لآدم (علیه السلام).. وهم (علیهم السلام) أفضل من آدم (علیه السلام).

وكشاهد على ما نحن فيه ترى في القرآن الكريم يقول سبحانه تارة: «اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ»(5) . وأخرى: «يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ»(6).

وثالثة: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»(7).

فالثالث(8) في طول الثاني الذي هو طول الله سبحانه.

ص: 29


1- سورة النساء: 65.
2- سورة التوبة: 59.
3- سورة التوبة: 59.
4- راجع وسائل الشيعة: ج24 ص351 ب56 ح30752.
5- سورة الزمر: 42.
6- سورة السجدة: 11.
7- سورة الأنعام: 61.
8- للروايات الدالة على أن لملك الموت أعواناً يقبضون الروح بأمره.

من الأدلة على ولايتهم (علیهم السلام)

ثم إنه يدل على ولايتها (علیها السلام) خصوصاً، أو ضمن سائر المعصومين (علیهم السلام) أدلة كثيرة، وقد سبق أو سيأتي بعضها كدليلٍ أو مؤيّد، منها:

قوله (علیه السلام): «فاطمة حجة الله علينا»(1).

و:حديث الكساء، كما سيأتي بيان ذلك.

وقوله (صلی الله علیه و آله): «لولا علي لما كان لفاطمة كفؤ آدم فمن دونه»(2).

وما دل على تساويها (علیها السلام) مع الإمام علي (علیه السلام).

وما دل على الأفضلية من الأنبياء (علیهم السلام) .. مع قيام الأدلة على ثبوت الولاية لهم (علیهم السلام) _ على درجات _.

والأولوية القطعية من أمثال: «عبدي أطعني تكن مثلي»(3).

وقوله (علیه السلام): «الخلق بعدُصنائعنا»(4).

و: «فبكم يجبر المهيض ويُشفى المريض وما تزداد الأرحام وما تغيض»(5).

و: «فوّض إليه دينه»(6).

ص: 30


1- راجع كتاب تفسير أطيب البيان: ج13 ص225، عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام).
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص470 ح90ب41.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص258 ب18 ح12928.
4- الاحتجاج: ج2 ص466 احتجاج القائم المنتظر المهدي (علیه السلام).
5- الإقبال: ص631، مصباح المتهجد: ص821.
6- تهذيب الأحكام: ج9 ص397 ب46 ح24.

و: «كونهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله»(1).

و: صدور الخوارق منهم.

و:التوقيع المروي عن صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما سيأتي(2).

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.

كما يدل على ولايتهم (علیهم السلام) عموماً قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ»(3).

بالإضافة إلى الآيات والروايات المتواترات، لما قد ثبت من أنهم (علیهم السلام) نور واحد، وأن لأولهمما لآخرهم كما في الروايات(4)، وقال سبحانه: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ»(5) الآية، فهم (علیهم السلام) كالنبي (صلی الله علیه و آله) في مرتبة الولاية وإن اختلفوا في مراتب الفضل، فبعد الرسول (صلی الله علیه و آله) عليٌ (علیه السلام) وبعده أو مقارناً له _ كما يظهر من جملة من الأحاديث _ فاطمة (سلام الله عليها)، ثم الحسن (علیه السلام)، ثم الحسين (علیه السلام)، ثم القائم (علیه السلام)، ثم الأئمة الثمانية (علیهم السلام) قبله، كما يظهر من الأحاديث.

ص: 31


1- انظر بحار الأنوار: ج25 ص336 فصل في بيان معنى التفويض ومعانيه ح16.
2- وسيأتي ذكر مصادر تلك الأحاديث تفصيلاً بإذنه تعالى.
3- سورة الاحزاب: 6.
4- انظر الكافي: ج7 ص85 باب علة كيف صار للذكر سمهان...ح2، ومستدرك الوسائل: ج10 ص399 ب85 ح12254. وفي بحار الأنوار: ج25 ص360 ب12 ح16 عن الاختصاص: قال أبوجعفر (علیه السلام): لا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرنا ما يجري لأولنا، وهم في الطاعة والحجة والحلال والحرام سواء، ولمحمد (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فضلهما».
5- سورة المائدة: 55.

ماذا تعني الأولوية؟

وهل المراد الأولوية التكوينية؟ (1)..

أو في صورة التدافع؟أو أن له (صلی الله علیه و آله) سلطة فوق سلطة الإنسان، كما في سلطة الله تعالى على السيد المسلّط على العبد؟.

أو الحكومة؟.

أو الثلاثة الأخيرة؟.

أو الخمسة جميعاً؛ لجامع السلطوية، فليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى؟.

احتمالات، وإن كان بعضها أقرب.

نعم ،إذا كان (أولى) بمعنى التفضيل العرفي، يكون الثاني فقط، لكنه خلاف الظاهر حيث الاحتفاف بالقرائن الداخلية والخارجية، فتأمل.

سلطة الهدم والبناء

والظاهر أن لهم (علیهم السلام) سلطة الهدم، كما لهم سلطة البناء، من قبيل الزوج الذي له سلطة النكاح والطلاق، أو الشركة حيث العقد الجائز للشريك كلاهما(2)، بخلاف مثل البيع اللازم حيث البناء فقط، ومثل ثالثٍ جعل الخيار

ص: 32


1- بمعنى إنه أولى لأنه كونه.
2- أي: الإمضاء والفسخ.

بيده حيث له الهدم فقط.فكما إنه سبحانه له حق طلاق نساء الناس أو تزويجهنّ ولو بدون رغبتهم، كذلك لهم (علیهم السلام) هذا الحق خلافةً منه تعالى.

لكن من الواضح أنهم (علیهم السلام) في طوله سبحانه، وأنهم (علیهم السلام) أوعية مشيئته(1) كما تقدم، وإن كانوا (علیهم السلام) لا يقومون بإعمال أمثال هذه القدرة عادةً كما سيأتي.

ص: 33


1- انظر بحار الأنوار: ج25 ص336 فصل في بيان معنى التفويض ومعانيه ح16.

من معاني التفويض

ثم إن التفويض التكويني إليهم (علیهم السلام) هو بالمعنى الذي ذكرناه، ودل عليه النص مثل: «فيما إليكم التفويض وعليكم التعويض»(1) والإجماع.

والتشريعي أيضاً كما ذكرناه، ودل عليه:

«المفوض إليه دين الله»(2)..

و: «أنَّ الله أدَّب نبيه بآدابه ففوّض إليه دينه»(3)..

إلى غيرها من الروايات المتواترة.

وفي قباله تفويضان باطلان:

الأول: عزل الله سبحانه عن أي شيء، وإنما يكون كمن أشغل مصنعاً وفوضه إلى آخر واعتزل هو عن العمل إطلاقاً، وهذا يخالفه النص والإجماع، بل الكتاب والعقل أيضاً.

الثاني: تفويض الأمور وتركها وسائر الكون لا إلى أحد، بأن يكون الله سبحانهقد خلق الكون وهو يدور بنفسه، كمن يشغل مصنعاً ويتركه يدور بدون قيام أحد مقامه..

وهذا هو الذي قالته اليهود مما ذكره سبحانه: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا»(4).

ص: 34


1- مصباح المتهجد: ص821 زيارة رواها ابن عياش.
2- الغيبة للطوسي: ص278 ف3.
3- راجع وسائل الشيعة: ج26 ص142 ب20 ح32682.
4- سورة المائدة: 64.

وهذا التفويض الباطل بالمعنى الثاني هو نقطة النقيض لفكرة الجبر التي تقول: إن الله سبحانه يفعل كل شيء، بينما الأول بمعنى أنه تعالى لا يفعل أي شيء، والحقيقة أنه أمر بين الأمرين(1)، فالآلات منه سبحانه والعمل من الإنسان ولذا يُثاب ويُعاقب.

عود على بدء

ولما سبق من أن الله سبحانه جعل بيدهم (علیهم السلام) الكون، تصدر منهم (علیهم السلام) الخوارق معجزة وكرامة، بما أنهم أوعية مشيئة الله تعالى، وكذلك ما سبق من أنه تعالى فوض إليهم (علیهم السلام) التشريع كماورد «المفوَّض إليه دين الله»(2).

والأول يشمل:

الهدم والبناء، كإماتة الإمام الرضا (علیه السلام) الساحر(3)، وإحياء عيسى (علیه السلام) الأموات(4)..

والتبديل والتحويل، قال سبحانه: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً»(5)، ومن سنة الله جعله تعالى التكوين والتشريع

ص: 35


1- انظر الكافي: ج1 ص155 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين.
2- الغيبة للطوسي: ص278 ف3.
3- راجع بحار الأنوار: ج49 ص184 ب14 ح16.
4- إشارة إلى قوله تعالى: «وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَْكْمَهَ وَالأَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ» _ سورة آل عمران: 49 _.
5- سورة فاطر: 43.

بأيديهم (علیهم السلام) وذلك كأن يجعل الشام عراقاً وبالعكس، وكأن يجعل الرجل امرأة وبالعكس، كما في قصة الإمام الحسن (علیه السلام) (1).

بين التصرُّف والصلاحية

ولم نجد تصرفهم (علیهم السلام) في التشريع، وإن كان لهم صلاحية ذلك، ولعلّ السبب في ذلك أن لا يتخذ الحكّام ذلك ذريعةً للتصرف في الأحكام، وبالرغم من ذلك ترى الحكّام قد تصرفوا في أحكام الله تعالى كما في المتعتين(2)، وكما في صلاة التمام في عرفات(3) وغير ذلك، فكيف بما إذا كانوا يرون الرسول (صلی الله علیه و آله) يفعل ذلك، ولذا قالوا باستحباب البول في المزبلة لكذب نسبوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله)(4).

ومما تقدم ثبتت الولاية بمعانيها السبعة: كونهم (علیهم السلام) للتكوين علة، وطريقاً كطريقية عزرائيل للموت، وأنه قائم بهم (علیهم السلام)، وكذلك التشريع: علة، وطريقاً، وقياماً، بإضافة أن لهم (علیهم السلام) الحكومة، حيث لا تلازم بين الأخير وسائر أقسام التشريع.

ص: 36


1- راجع بحار الأنوار: ج43 ص327 ب15 ضمن ح6.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص483 ب32 ح17359.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج6 ص548 ب20 ح7484.
4- راجع صحيح البخاري: ج1 ص62 كتاب الوضوء، مسند أحمد: ج4 ص246 حديث المغيرة بن شعبة، وتجده في غيره من كتب العامة أيضا.

التوقيع الشريف

ويؤيد ذلك _ بل يدل عليه _ التوقيع المروي عن صاحب الزمان (أرواحنا فداه) في دعائه:

«أسألك بما نطق فيهم من مشيتك، فجعلتهم معادن لكلماتك، وأركاناً لتوحيدك وآياتك، ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلاّ أنهم عبادك وخلقك، فتقها ورقتها بيدك، بدؤها منك وعودها إليك، أعضاد وأشهاد، ومناة وأذواد، وحفظة ورواد، فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا أنت»(1) إلى آخر الدعاء.

و(مُناة): _ على وزن دُعاة جمع داعي _ من منى الله تعالى فلاناً بخير، أي أعطاه له.

و(أذواد): _ جمع ذائد، كأصحاب جمع صاحب _ من ذاد بمعنى طرد.

فالمعنى: من ينال خيراً أو يطرد عن شيء لا يكون إلاّ بهم (علیهم السلام) لا علة بل فعلية.

وملأ السماء والأرض: كالشمس تملأ الكون وإن كان جسمها الظاهر صغيراً.ولعلّ سرّ ورود الزيارة الجامعة والدعاءين لرجب عنهم (علیهم السلام) لبيان الطريق الوسط بين مادية الخلفاء الذين استهتروا فيها، وإفراط المتصوفة القائلين بوحدة الوجود أو الموجود في تلك الأزمنة المتأخرة.

ص: 37


1- البلد الأمين: ص179 شهر رجب.

ومن الواضح أن ظهور (لا إله إلا الله) بسببهم (علیهم السلام) من جهة امتلاء العالم بالشرك الوثني أو المسيحي أو اليهودي، بل والعامة القائلين بالتجسيم ونحوه، وقد قال علي (علیه السلام): «فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزّأه»(1)، الحديث.

ولا يخفي أن ما ذكرناه في الجملة، يظهر من مئات الآيات والروايات مما ذكر في مباحث أصول الدين فراجع.

لا فرق بين حياتهم ومماتهم (علیهم السلام)

ثم إنهم (علیهم السلام) وهم أموات كالأحياء من جهة التكوين وجهة التشريع، لإطلاق الأدلة، إلاّ في الأمر السابع الذي هو فعلية الحكومة.

لا يقال: إنهم (علیهم السلام) كيفيتصرفون في التكوين وهم أموات؟.

لأنه يقال:

أولاً: لا موت(2) لهم (علیهم السلام) فإنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(3) وإنما بدّلوا الملبس، بل كل حي إذا مات كان كذلك، فقد خلقهم للبقاء لا للفناء، وقد قال الرسول (صلی الله علیه و آله) _ لمن اعترض عليه حينما خاطب قتلى المشركين يوم بدر _: «ما أنت بأسمع منهم»(4).

ص: 38


1- نهج البلاغة، الخطب: 1 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم.
2- بمعنى الانعدام أو الآثار المترتبة على الموت من العجز عن التأثير في الكون وما أشبه.
3- سورة آل عمران: 169.
4- راجع بحار الأنوار: ج6 ص207 ب8، وفيه: «إنهم أسمع منكم».

وفي الزيارة: «وأنك حي»(1) إلى غير ذلك.

وثانياً: على فرض كونهم (علیهم السلام) أمواتاً ما المانع من أن يعطي الله سبحانه للميت الحياة، كالرزق والشفاء وغير ذلك(2)؟! وفي القرآنالحكيم: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(3).. ومن المعلوم أن الماء بالمعنى المتعارف ليس حياً فإن الله تعالى هو علة العلل، ولا فرق عنده في الإحياء بسببٍ بين أن يكون حياً أو ميتاً.

وفي آية أخرى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ»(4).

وفي بقرة بني إسرائيل المذبوحة أنها سبّبت حياة المقتول(5).

كما سبّب أثر الرسول حياة عجل السامري(6).

وكذلك رش الماء على الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فماتوا فعادواأحياءً في قصة ارميا(7)، المذكورات في القرآن الكريم.

ص: 39


1- راجع كامل الزيارات: ص220 زيارة أخرى ح13، وفيه: «أشهد أنك حي شهيد ترزق عند ربك».
2- بأن يكون الميت سبباً لما فيه الحياة بإذن الله تعالى، فيكون سببا للرزق والشفاء وما أشبه.
3- سورة الأنبياء: 30.
4- سورة الأنعام: 95، سوة يونس: 31، سورة الروم: 19.
5- إشارة إلى قوله تعالى: «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» _ سورة البقرة: 73 _.
6- إشارة إلى قوله تعالى: «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» سورة طه: 96. وقوله سبحانه: ƒ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَ_َذَآ إِلَ_َهُكُمْ وَإِلَ_َهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ‚ سورة طه 87-88.
7- إشارة إلى قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ» _ سورة البقرة: 243 _.

ولذا لم تكن قصة البقرة مثلاً مجرد سرد تاريخ، بل لعبر، منها: أن الله سبحانه يحيي الميت من الميت، كما لم تكن آية النجوى(1) مجرد قصة منسوخة، بل لإفادة أن الناس _ عادة ً_ يقومون بأداء العبادات التي تتعلق بالجوارح، أما إذا وصل الأمر إلى المال ظهر عمق إيمانهم، فلا يقال: ما فائدة الآية المذكورة تتلى إلاّ فضيلة علي (علیه السلام).

رفعة منزلتهم (علیهم السلام) ذاتية

ثم إن رفعة المعصوم (علیه السلام) أمر جوهري كرفعة الذهب على التراب، وقد دلت على ذلك الأدلة الأربعة.

والمراد بدلالة العقل: الدليل الإنِّيحيث يكشف أعمالهم عن ذلك، واللِّمّي بالنسبة إلى الكبرى حيث إن القدرة المطلقة بدون محذور في الخلق يعطي خلق الأرفع أيضاً، نعم الانطباق على الأشخاص الخاصين _ أي الصغرى _ نقلي.

قال سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(2).

وقال تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ»(3).

وقال سبحانه: «وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ»(4)..

ص: 40


1- وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» _ سورة المجادلة: 12 _.
2- سورة البقرة: 253.
3- سورة الإسراء: 21.
4- سورة الرعد: 4.

إلى غيرها من الآيات والروايات المتواترة، وقد دلت على ذلك الكرامات الخاصة أيضاً.

ولا يستشكل بأنه لو كان(1) خَلَق زيداً أو عمرواً مثلهم لكان يستحق الدرجات الرفيعة؛ لوضوح أنه يلزم في الحكمة خلق كل مهية ممكنة لا محذور في خلقها، وإلاّ لزم العجز أو الجهل أو الخبثتعالى عن ذلك علواً كبيراً(2).

نعم، ما في ذاته محذور عدم القابلية كخلق المتناقضين مثل أن يخلق شيئاً واحداً نملةً وفيلاً، أو زوجاً وفرداً، أو وجوداً وعدماً، أو ما هو خلاف المصلحة، لا يكون الأول للاستحالة الذاتية والثاني للاستحالة العرضية، إذ القبيح محال على الحكيم تعالى.

مجالات ستة للرسول (صلی الله علیه و آله)

ثم إن القرآن الحكيم ذكر الأسوة برسول الله (صلی الله علیه و آله)(3)، وفي كلام علي (علیه السلام): «فتأسى متأسٍّ بنبيه وإلاّ فلا يأمن الهلكة»(4)، وفي الزيارات قد ورد التأسي بالأئمة (علیهم السلام) حجج الله تعالى..

هذا فيما لم يكن من مناصبهم ومختصاتهم.

والظاهر أنه (صلی الله علیه و آله)تتوفر لديه وفي حيطته أمور ستة:

ص: 41


1- أي الله سبحانه وتعالى.
2- في مطاوي الكتاب أجوبة أخرى عديدة عن ذلك فليراجع.
3- وهي قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» _ سورة الأحزاب: 21 _.
4- نهج البلاغة: الخطب 160 ومن خطبة له (علیه السلام). خبر يريد به الطلب.

1. الأحكام الأولية: قولاً أو فعلاً أو تقريراً، كوجوب الصلاة وحرمة الخمر إلى سائر الأحكام التكليفية والوضعية، والمراد بها أعم مما ذكر، ومن مثل الصيام في الحضر والإفطار في السفر، فإن الثاني وإن كان ربما يقال له الحكم الثانوي باعتبار أن التشريع أولاً وبالذات هو الصيام، إلاّ أنه أيضاً حكم أولي باعتبار أن المكلف مخير بينهما، فهما موضوعان عرضيان.

2. الأحكام الثانوية: وهي الطولية، مثل أحكام الاضطرار ونحوها، والرسول (صلی الله علیه و آله) أسوة فيهما، كل في مورده، فقد اضطر الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى الدخول إلى مكة بقوة السلاح، وإلى الصلاة جالساً في مرضه وهذا من مختصاته، كما أنه (صلی الله علیه و آله) لم يعمل حسب «ما لا يعلمون»(1)، وما «أخطأوا»، و«ما سهوا»، و«ما نسوا»؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) منزه عنها.

أما إنه هل عَمِلَ حَسَب «ما أُكرهوا» بنفسه الشريفة (صلی الله علیه و آله)؟

فلم أجده.والعامة يقولون: بالسهو والنسيان فيه (صلی الله علیه و آله) لكن إجماع الشيعة على خلاف ذلك، وكذلك العقل والنقل.

3. الأمور العامة: كشرائه (صلی الله علیه و آله) ناقة، أو زواجه (صلی الله علیه و آله) من ثيّب عمرها كذا، وأكله (صلی الله علیه و آله) وشربه كذا، فإنه لا يلزم الإقتداء به (صلی الله علیه و آله) هاهنا بحيث إن التارك لا يأمن الهلكة.

نعم، إن عمله (صلی الله علیه و آله) يدل على الجواز، وقول بعض العامة القائلين باللزوم _ ولذا قال بوجوب البول في المزبلة ولو في السنة مرة _ باطل البناء والمبنى، ولذا لا

ص: 42


1- الكافي: ج2 ص463 باب ما رفع عن الأمة ح2.

يقولون بمثل ذلك في ما نسبوا إليه من حمله زوجته ونظرها إلى الطبالين(1)، وهذا أيضاً باطل عندنا مفترىً عليه (صلی الله علیه و آله).

4. الحكوميات: التي هي عبارة عن تطبيقه (صلی الله علیه و آله) كبرى المصلحة على صغرى خارجية في شؤونالناس، كنصب أسامة أميراً، أو فلاناً والياً على البحرين، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يجب على علي (علیه السلام) في زمان حكومته أن يفعل ذلك بعينه، وإن فرض أن المنصوب بقي على العدالة.

5. التصرفات الولائية بالمعنى الأعم: فإنها وإن كانت جائزة له (صلی الله علیه و آله) خلافة عن الله سبحانه إلاّ أنا لم نجد أنه (صلی الله علیه و آله) عمل بها، كجعل حر عبداً أو عكسه، أو إبطال زواج أو جعله، أو إبطال ملك أو عكسه، إلى ما أشبه ذلك.

وروي تهديد علي (علیه السلام) (2)جعل الأحرار عبيداً في قصة طغيان الفرات(3)، كما لم نجد مثل هذا التصرف عن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام).

وما ذكره بعضهم من قصة سمرة(4) وأن القلع كان بالولاية محل نظر، بل هو جائز حتى للفقيه حيث يلجؤه الأمر إلى ذلك، كما بيناه في (الأصول) فإنه حكم قضائي في أمثال هذا التنازع.

6. الاختصاصات: كزواجه (صلی الله علیهو آله) أكثر من أربع، وغيره مما ذكره

ص: 43


1- راجع سنن النسائي:ج3 ص195 ضرب الدف يوم العيد، السنن الكبرى للنسائي: ج1 ص553 اللعب في المسجد يوم العيد ح1798، وغيرهما من كتب العامة.
2- مجرد تهديد دون تطبيق.
3- راجع اليقين، للسيد ابن طاووس: ص416-418 ب155.
4- راجع الكافي: ج5 ص292 باب الضرار ح2.

الشرائع(1) والجواهر(2) وغيرهما في باب النكاح، وهي خاصة به (صلی الله علیه و آله) وإن كان ربما يوجد نحو منه في بعض المعصومين (علیهم السلام) مثل:

حرمة زواج علي (علیه السلام) امرأة مادامت فاطمة (سلام الله عليها) في بيته مما يكون من مختصات فاطمة (سلام الله عليها)..

وحرمة أن يخاطب غير علي (علیه السلام) بإمرة المؤمنين مما كان من خصائصه..

وما يظهر من اختصاص بعض الأحكام بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما يظهر من بعض الأخبار.

ص: 44


1- راجع شرائع الإسلام: ج2 ص497 في خصائص النبي (صلی الله علیه و آله).
2- راجع جواهر الكلام: ج29 ص119 في خصائص النبي (صلی الله علیه و آله).

شمولية علمهم وقدراتهم (علیهم السلام)

ثم إنهم (علیهم السلام) ومنهم فاطمة (صلوات الله عليها) يحيطون علماً وقدرةً _ بإذن الله تعالى _ بالكائنات جميعاً إلاّ ما استثني(1)..

وقد تقدم في الزيارة الرجبية ما يدل على ذلك، كما في جملة من الأحاديث: «يعلمون ما كان وما يكون وما هو كائن»(2).

فإنه ليس بمحال عقلاً، ويشبه ذلك في الماديات الهواء والحرارة والجاذبية وغيرها، كما أن عزرائيل (علیه السلام) يحيط علماً وقدرةً في بُعْد الإماتة بكل إنسان، بل بالملائكة أيضاً _ كما ورد في الأحاديث _.

وقد قال الله سبحانه في إبراهيم (علیه السلام): ƒوَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَمَلَكُوتَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ‚(3).

وفي يعقوب (علیه السلام): «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ»(4).

وهم (علیهم السلام) أفضل من الملائكة والأنبياء (علیهم السلام) كما دلت على ذلك النصوص وإجماعنا، وقد سبق الإشارة إلى ذلك.

ص: 45


1- كالاسم الأعظم الثالث والسبعين مثلاً على رواية.
2- راجع الكافي: ج1 ص260 باب أن الأئمة (علیهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء (صلوات الله عليهم).
3- سورة الأنعام:75.
4- سورة يوسف: 94.

وفي رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله) قال الله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً»(1) فإطلاق الشاهد(2) وقرينية إطلاق الصفات الأخرى يدل على العموم، ومن المعلوم أن الشاهد لا يكون إلاّ من حضر.

وقال سبحانه: «وَجِئْنَا بِكَ عَلى هؤُلاَءِ شَهِيداً»(3).

ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْتُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً»(4).

وفي الروايات: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات»(5)، فإذا كان لبني آدم هذه القدرة _ لولا المنع _ فأهل البيت (علیهم السلام) أولى.

وتقول في تشهد الصلاة: «السلام عليك أيها النبي» وفيه ظهور الحضور.

وفي الحديث: «نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم»(6)، حيث إن جماعة اتخذوهم (علیهم السلام) آلهة فنهوا عن ذلك، أما بَعد الألوهية ففيهم (علیهم السلام) كل خير، والتي منها عموم العلم والقدرة، وفي جملة من زيارات الحسين (علیه السلام)،

ص: 46


1- سورة الأحزاب: 45 _ 46.
2- وحذف المتعلق يفيد العموم.
3- سورة النساء:41.
4- سورة النساء: 42.
5- بحار الأنوار: ج56 ص163 ب23.
6- راجع بحار الأنوار: ج25 ص347 ب10 ضمن ح25. وفيه: قد ورد في أخبار كثيرة: «لاتقولوا فينا رباً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا».

كما في بعض فقرات (الزيارة الجامعة) دلالة على ذلك.

وما ورد من إبلاغ الملَك السلام إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا ينافي ما تقدم، فهو كإبلاغ الملَك صحيفةالأعمال إليه سبحانه، وسؤالهم (علیهم السلام) عن أشياء كسؤال الله في قوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى»(1) إلى غير ذلك، مما لا يخفى على من راجع الروايات المتواترة.

بين العلم الغيبي والسلوك العملي

ثم الظاهر أن علمهم (علیهم السلام) الغيبي لا يؤثر في سلوكهم العملي:

فالحسن (علیه السلام) يشرب السم مع أنه لم يكن مجبوراً..

والرسول (صلی الله علیه و آله) مضغ اللحم المسموم الذي أثر فيه، وأخيراً انتهى إلى الموت.

وعلي(علیه السلام) كان يعلم بوقت موته، ومع ذلك خرج إلى المسجد مع إمكانه أن يستنيب في صلاة الجماعة ذلك اليوم، أو يستصحب معه حراساً، أو يسجن ابن ملجم، أو يخرجه من المسجد، أو يجعل عليه حراساً، أو ما أشبه ذلك.

أما القول بأنهم (علیهم السلام) لا يعلمون عند نزول الموت، أو أنهم مضطرون كما في دس هارون والمأمون السمّ إلى الإمامين الكاظم والرضا (علیهما السلام) أو ما أشبه ذلك منالأجوبة، فليست بمقنعة وخلاف ظاهر الأدلة.

بل لو كان العلم الغيبي يؤثر لما بكى الرسول (صلی الله علیه و آله) لفقد ولده إبراهيم، ولما بكى الحسين (علیه السلام) لفقد أولاده وأصحابه، مع أنهم (علیهم السلام) يعلمون بل ويرون

ص: 47


1- سورة طه: 17.

انتقالهم إلى جنات النعيم، هل يبكي أحدنا لذهاب ولده إلى مكان حسن جداً وهو يراه عين اليقين؟ بل لم يكن يعقوب (علیه السلام) يبكي من فراق يوسف (علیه السلام) وهو يعلم أنه حي وسيرجع إليه بعد مدة ملكاً.

لا يقال: حتى على فرض موت يوسف (علیه السلام) فلماذا هذا البكاء من يعقوب (علیه السلام) حتى ابيضت عيناه وخيف عليه أن يكون حَرضاً أو يكون من الهالكين؟.

لأنه يقال: كما أن العيون والشمس منبع الماء والنور، كذلك جعل الله سبحانه للمعنويات منابع، فيعقوب (علیه السلام) منبع العاطفة ليتأس الناس به ويستمدونها منه، ولولا ذلك لم يكن لهم ما يتأسون به.

فعلمهم الغيبي (صلوات الله عليهم أجمعين) لا يؤثر في عواطفهم الإنسانية كي يكونوا أسوة، وإلاّ لقال الناس أن علياً (علیه السلام) كان يخوض الحروب لعلمهبأنه لايُقتل ونحن لا نعلم ذلك.

بل ميثم التمار جاء إلى الكوفة وقد كان يتمكن من الفرار من مكة إلى موضع لا يصله سلطان ابن زياد، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة.

وكذلك حال القدرة الغيبية، إذ لا يستعملونها إلاّ حال الإعجاز، فلقد كانوا قادرين على رفع الضيق عنهم وعن المؤمنين، فهم (علیهم السلام) _ ولا مناقشة في المثال _ كوكيل الإنسان الغني لا يتصرف في أمواله إلاّ بإذن الموكّل وإن كان قادراً على التصرف، والله سبحانه العالم.

ص: 48

الأحكام المستفادة

وقد أشرنا أن إلى الأحكام التي ذكرت في الكتاب(1) مما يستفاد من كلماتها (علیها السلام) إنما ذكرناها بإيجاز، دون التطرق لمختلف الأدلة والأقوال وشبه ذلك، وإلاّ فالتفصيل يحتاج إلى مجلدات ضخمة، حسب قولهم (علیهم السلام): «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(2) ولعلّ الله سبحانه يوفّق بعض مواليها (علیها السلام) من الفقهاء كي يتشرف بتفصيل ذلك، وهو المستعان.

ولا يخفى أن الأحكام التي استفدناها قد تستخرج استناداً إلى الدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية، وقد يتم استخراجها استناداً إلى دلالة الاقتضاء(3)، وربما الدلالة العرفيةأيضاً، وإن لم تكن من الأربع المذكورة. وربما

ص: 49


1- أي في هذا الكتاب، وهو (من فقه الزهراء (علیها السلام)).
2- وسائل الشيعة: ج27 ص61-62 ب6 ح33201، وفيه: «إنما علينا أن نلقي عليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا».
3- ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه وذلك نظير: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» _ سورة يوسف: 82 _ وكذا استكشاف أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لأدنى مدة الحمل من ضم قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً» _ سورة الأحقاف: 15_ إلى قوله تعالى: «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» _ سورة البقرة: 233 _ ومن ذلك: إلغاء الخصوصية حيث يكتشف بذلك أن ما ذكر إنما كان بعنوان المصداق وكصغرى لكبرى كلية للقطع أو الإطمينان بالملاك، وقد تكون الاستفادة والاستنباط مستندة إلى (مبنى) الكلام، أو إلى مقدمات مطوية أو شرائط أو موانع كذلك، وإذا لاحظنا عصمتها (علیها السلام) وإحاطتها العلمية ظهر بوضوح أن كلامها بشتى دلالاته حجة، فلو توقف صحة الكلام أو صدقه مثلاً على مقدمة مطوية وإن كانت بعيدة، كان ذلك دليلاً على حجيتها وصدقها وأمكن الاستناد إليها كذلك. والقارئ الكريم سيرى إن المؤلف (قدس سره) قام بملاحظة شتى الجهات السابقة الذكر وربما يكون من ذلك أيضاً: استكشاف الإنشاء من الأخبار وبالعكس عبر بعض الدلالات السابقة.

كان الحكم أو العلم به منشأ لتعليل أو توضيح بعض كلماتها (علیها السلام)(1).

وقد استطردنا أحياناً إلى ذكر بعض الأمور الأُخَر، بالإضافة إلى الاعتقاديات وفلسفة الأحكام والأحكام الخمسة.

وهذا الكتاب يتطرق غالباً للحديث عما يستنبط من أقوالها (علیهاالسلام)، أما فعلها وتقريرها: فبحاجة إلى كتاب ضخم ويكفي أن نشير هنا إشارة عابرة إلى بعض النماذج من فعلها وسيرتها (علیها السلام).

دروسٌ من سيرتها (علیها السلام)

ففي سيرة وحياة الزهراء (علیها السلام) مواضع كثيرة للتعلّم، إذا تعلمها المسلمون بل البشرية سعدوا في الدنيا قبل الآخرة وأسعدوا الآخرين.

نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

زواجها الميمون، حيث زوّجها الرسول (صلی الله علیه و آله) في أول بلوغها (علیها السلام)(2).

وكذلك إذا زُوّجت البنات في أوائل البلوغ سعدن، وانقطعت إلى حد بعيد جذور الفساد في المجتمع، إذ معنى زواجهنّ في ذلك السن زواج الأولاد الذكور أيضاً في سن البلوغ، فلا ترغب النفس أو تهم بالحرام.

وقد رأينا جملة من العشائر في البلاد الإسلامية تجري على ذلك، وبذلك

ص: 50


1- اللف والنشر مرتب كما لا يخفى.
2- راجع عوالم العلوم: ج11 ص287 ب3 ح2 الطبعة2، تحقيق مؤسسة الأمام المهدي (علیه السلام).

تشذ الجريمة وتتضاءل أرقامها إلى ما يقارب الصفر، بخلاف ما لو لم يتبع هذا المنهج حيث تتصاعد تصاعداً كبيراً، وذلك يؤدي إلى الأمراض والعُقَد النفسية والتوترات العصبية وهدم العوائل وكثرة المشاكل.. إلى غيرها.

كما أن في الجهاز البسيط لزواجها (صلوات الله عليها) أكبر الدرس لتخفيف المهور والقناعة بالميسور، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً(1) وأقلهن مهراً»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «القناعة مال لا ينفد»(3).

وعن علي (علیه السلام): «لا كنز أغنى من القناعة»(4).

وذلك من أسرار السعادة وتحرّك الشباب بشكل أكثر جدية نحو الأمام،فإن الزوجين يتعاونان على التقدم في الحياة _ بعد الزواج _ إلى الأمام، وربما يكون ذلك مما يوضح بعض السر في قوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(5) بينما غلاء المهور وتعقيد مقدمات وبرامج الزواج وزيادة التشريفات يوجب التأخير في الزواج، أو يؤدي بالكثير إلى البقاء عزاباً وعوانس مدى الحياة بما يستلزم ذلك من أضرار وأخطار.

ص: 51


1- قد يكون المراد بالصباحة ها هنا: الطلاقة والإشراق لا الجمال، والوجه يكتسي بالصباحة والإشراق بتأثير الحالة المعنوية والروحية والأخلاقية للإنسان، قال في (مجمع البحرين): «وقد صَبُحَ الوجه صباحة: أشرق وأنار»، وقال في (لسان العرب): «الصبيح: الوضيء الوجه».
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص404 ب34 ح24.
3- مستدرك الوسائل: ج15 ص226 ب9 ح18072.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم 371.
5- سورة النور: 32.

وكذلك إدارتها (صلوات الله عليها) لشؤون البيت، حيث فُوِّضت إليها الأمور الداخلية، والخارجية إلى علي (علیه السلام) (1)؛ فإنها توجب الراحة النفسية والصحة الجسدية، إذ إن الأعمال الشاقة _ وإن كانت مقرونة بالتعب والنصب _ توجب الصحة والسلامة، بينما الراحة والدعة تؤديان إلى مختلف الأمراض.

ومما يؤيد هذا المعنى هو أن التاريخ _ حسب الاستقراء الناقص _ لم يسجل لها (صلوات الله عليها) تمرضاً إلاّ مرةواحدة(2).

أما مرضها الأخير فهو وليد الصدمة التي تعرضت لها بين الحائط والباب والتي انتهت إلى شهادتها ووفاتها (صلوات الله عليها).

ولعلّه لأجل تعليم الأمة على الكدح والعمل لم يمنحها الرسول (صلی الله علیه و آله) خادمةً عندما طلبت منه ذلك، مع أنه (صلی الله علیه و آله) الكريم الرؤوف، وذلك حتى تكون (علیها السلام) أسوة في العمل بنفسها لنساء المسلمين، وربما كان طلبها (علیها السلام) وعدم تلبيته (صلی الله علیه و آله) بمجمله تعليماً(3).

أما حصولها (علیها السلام) على فضة(4) فهو مما دعت إليه الضرورة، حيثتراكمت عليها الأعمال اليدوية الشاقة من الطحن والخبز والغسل وغير ذلك، بالإضافة إلى أطفالها الصغار وضرورة الاهتمام بشؤونهم، إلى جانب أن النساء

ص: 52


1- راجع مستدرك الوسائل: ج13 ص48 ب17 ح14705.
2- راجع بحار الأنوار: ج43 ص77-78 ب3 ح64، وفيه: عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: إن فاطمة (علیها السلام) بنت محمد (صلی الله علیه و آله) وجدت علة فجاءها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عائدا فجلس عندها وسألها عن حالها... الحديث.
3- راجع من لا يحضره الفقيه: ج1 ص320-321 باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح947.
4- خادمتها المعروفة، وقد أهديت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأهداها إلى الصديقة فاطمة (علیها السلام).

كن يرجعن إليها في كثير من شؤونهن ومسائلهن(1)، ثم نجد بعد حصولها على فضة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قد قسم العمل بينهما، يوماً لها ويوماً لفضة كما في النص(2) وهذا أيضاً بالإضافة إلى كونه تعليماً للأُمة على مشاطرة من هم أدنى منزلة في الهموم والمهام، يتضمن تأكيداً للالتزام بالعمل والكد والكدح رغم وجود البديل.

والجدير بالذكر أن فضة (علیها السلام) كانت متزوجة ذات أسرة، وقد يظهر هذا من خبر قراءتها للقرآن في سفرة الحج وتلقي أولادها لها في المنزل(3)، كما هو شأن الإسلام حيث لا يدع بنتاً بلا زواج، حتى قال سلمان المحمدي (رحمة الله) وهو حاكم فيالمدائن عندما تزوج امرأة هناك فوجد عندها بنتاً _ من زوجها السابق _ غير متزوجة: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول _ ما مضمونه _: لو لم تزوج البنت في الدار فزنت كان عقاب الزنا على أهل الدار(4).

أما طحنها (علیها السلام) وعجنها وخبزها وطبخها وغزلها وغسل الملابس

ص: 53


1- راجع مستدرك الوسائل: ج17 ص317 ب11 ح21460.
2- راجع الخرائج والجرائح: ج2 ص530-531 ب14 فصل في ذكر أعلام فاطمة البتول (علیها السلام).
3- راجع المناقب: ج3 ص343-344 فصل في سيرتها (علیها السلام).
4- راجع بحار الأنوار: ج22 ص383 ب11 ح19. وفيه: (عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «تزوج سلمان امرأة من كندة، فدخل عليها فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة، فقال سلمان: إن في بيتكم هذا لمريضا أو قد تحولت الكعبة فيه، فقيل: إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه، قال فما هذه الجارية؟ قالوا: كان لها شي ء فأرادت أن تخدم، قال: إني سمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أيما رجل كانت عنده جارية فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ثم فجرت كان عليه وزر مثلها، ومن أقرض قرضا فكأنما تصدق بشطره، فإذا أقرضه الثانية كان برأس المال وأداء الحق إلى صاحبه أن يأتيه في بيته أو في رحله فيقول ها خذه».

ورعاية الأولاد، وقيامها (علیها السلام) بإنجاز العشرات من الحاجات البيتية بنفسها (صلوات الله عليها) أو بمساعدة فضة، ففي كل ذلك تعليم لكيفية سلوك الزوجة في الحياة الزوجية.

ولو راج مثل ذلك في بيوتنا فهلبعد ذلك كنا نحتاج إلى استيراد كل شيء من الغرب والشرق حتى اللحم وغيره من الأوليات والضروريات؟.

كما أن قولها (سلام الله عليها) لعلي (علیه السلام): «ما عهدتني كاذبة ولا خائنة»(1) تعليم لكيفية سلوك الزوجات مع الأزواج، وإلاّ فعلي (علیه السلام) كان يعلم ذلك.

وهكذا نجد في عدم دخول النبي (صلی الله علیه و آله) دارها لما رأى ستراً على الباب(2) تعليماً آخر لنا، ولعلّ الزهراء (علیها السلام) تعمدت وضع الستر حتى تكون مدعاة للتعليم؛ كي لا ترفل النساء في النعيم، بينما كثير من الناس يعانون شظف العيش، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع»(3).

إلى غير ذلك من النقاط المشرقة في سيرتها (علیها السلام) الوضاءة، وكلها عِبَر وبرامج تربوية ومناهج للسعادة الدنيوية والأخروية.

ص: 54


1- روضة الواعظين: ص181 مجلس في ذكر وفاة فاطمة (علیها السلام).
2- راجع الأمالي للصدوق: ص234 المجلس41 ح7.
3- الكافي: ج2 ص668 باب حق الجوار ح14.

وفي الختام

وفي الختام نشير إلى أننا قد قسمنا الكتاب إلى ثلاثة فصول(1):

الأول: أحكام مستفادة من حديث الكساء.

الثاني: أحكام مستفادة من الخطبة الشريفة(2).

الثالث: أحكام مستفادة من سائر ما روي عنها (علیها السلام).

والله المسؤول أن يقرنه برضاه، وأن ينفع به إنه قريب مجيب..

والحمد لله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً.

محمد الشيرازيقم المقدسة

1414 ه

ص: 55


1- قام الإمام المؤلف (قدس سره) بتأليف هذا الكتاب في شهرين ونصف، هما جمادى الثانية ثم رمضان المبارك وقسم من شوال من عام 1414 ه، علماً بأن فهرس بعض الأحكام المستفادة من حديث الكساء كان قد كتبها من قبل.
2- أي خطبة الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في المسجد، ويليها بعد ذلك خطبة الدار التي تحدثت بها على نساء المهاجرين والأنصار عندما جئن لعيادتها (صلوات الله عليها).

ص: 56

الفصل الأول: أحكام مستفادة من حديث الكساء

اشارة

ص: 57

ص: 58

متن حديث الكساء

بسم الله الرحمن الرحيم

عَنْ جَابر بن عَبْدِ اللهِ الأنْصَاري، عَنْ فَاطِمَةَ الزَّهراءِ (علیها السلام) بِنتِ رَسُول اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: سَمِعْتُ فاطِمَةَ (علیها السلام) أَنِّها قالَت:

«دَخَلَ عَلَيَّ أبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي بَعضِ الأيَّامِ. فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا فاطِمَةُ.

فَقُلتُ: عَلَيكَ السَّلامُ.

قالَ: إنّي أَجِدُ في بَدَني ضُعفاً.

فَقُلتُله: أُعِيذُكَ باللهِ يا أَبَتاهُ مِنَ الضُّعفِ.

فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ، إِيتيني بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّينِي بهِ.

فَأَتَيتُهُ بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّيتُهُ بِهِ، وَصِرتُ أَنظُرُ إِلَيهِ وَإِذا وَجهُهُ يَتَلألأُكَأَنَّهُ البَدرُ فِي لَيلَةِ تمامِهِ وَكَمالِهِ.

ص: 59

فَما كَانَت إِلاَّ ساعَةً وإذا بوَلَدِيَ الحَسَنِ (علیه السلام) قَد أَقبَلَ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي.

فَقالَ: يَا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله).

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ تَحتَ الكِساءِ.

فَأَقبَلَ الحَسَنُ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ يا رَسُولَ اللهِ، أَتَأذَنُ لي أَن أَدخُلَ مَعَكَ تَحتَ الكِساءِ؟.

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا صَاحِبَ حَوضِي قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ مَعَهُ تَحتَ الكِساءِ..

فَما كانَت إِلاَّ سَاعَةً وَإِذا بِوَلَدِيَ الحُسَينِ (علیه السلام) قَدْ أَقبَلَ وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي.

فَقالَ لِي: يا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟.

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ وَأَخاكَ تَحتَ الكِساءِ.فَدَنَا الحُسَينُ (علیه السلام) نحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ، السَّلامُ

ص: 60

عَلَيكَ يا مَنِ اختارَهُ اللهُ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُما تَحتَ الكِساءِ؟.

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا شافِع أُمَّتِي قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ مَعَهُما تَحتَ الكِساء..

فَأَقبَلَ عِندَ ذلِكَ أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ (علیه السلام) وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا بِنتَ رَسُولِ اللهِ.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَبَا الحَسَن وَيا أَمِيرَ المُؤمِنينَ.

فَقالَ: يا فاطِمَةُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ أَخي وَابِنِ عَمّي رَسُولِ اللهِ؟.

فَقُلتُ: نَعَم، هَا هُوَ مَعَ وَلَدَيكَ تَحتَ الكِساءِ.

فَأقبَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكُونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

قالَ له: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَخِي وَيا وَصِيّيِ وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) تَحتَ الكِساءِ..

ثُمَّ أَتَيتُ نَحوَ الكِساءِ وَقُلتُ: السَّلامُعَلَيكَ يا أبَتاهُ يا رَسُولَ الله، أَتأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

قالَ: وَعَليكِ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بَضعَتِي قَد أَذِنتُ لَكِ.

ص: 61

فَدَخَلتُ تَحتَ الكِساءِ..

فَلَمَّا اكتَمَلنا جَمِيعاً تَحتَ الكِساءِ أَخَذَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِطَرَفَيِ الكِساءِ وَأَومَأَ بِيَدِهِ اليُمنى إِلىَ السَّماءِ وقالَ:

اللّهُمَّ إِنَّ هؤُلاءِ أَهلُ بَيتِي، وَخَاصَّتِي وَحَامَّتي، لَحمُهُم لَحمِي وَدَمُهُم دَمِي، يُؤلِمُني ما يُؤلِمُهُم، ويَحزُنُني ما يُحزِنُهُم، أَنَا حَربٌ لِمَن حارَبَهُم، وَسِلمٌ لِمَن سالَمَهُم، وَعَدوٌّ لِمَن عاداهُم، وَمُحِبٌّ لِمَن أَحَبَّهُم، إنًّهُم مِنّي وَأَنا مِنهُم، فَاجعَل صَلَواتِكَ وَبَرَكاتِكَ، وَرَحمَتكَ وغُفرانَكَ، وَرِضوانَكَ عَلَيَّ وَعَلَيهِم، وَأَذهِب عَنهُمْ الرِّجسَ وَطَهِّرهُم تَطهِيراً.

فَقالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ: يَا مَلائِكَتي وَيا سُكَّانَ سَماواتي، إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنَّيةً، وَلاَ أرضاً مَدحيَّةً، وَلاَ قَمَراً مُنيراً، وَلاَ شَمساً مُضيِئةً، وَلاَ فَلَكاً يَدُورُ، وَلاَ بَحراً يَجري، وَلاَ فُلكاً يَسري، إِلاَّ في مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذينَ هُم تَحتَ الكِساءِ.

فَقالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ، وَمَنْ تَحتَ الكِساءِ؟.

فَقالَ عَزَّوَجَلَّ: هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ، هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها،وَبَعلُها وَبَنوها.

فَقالَ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ، أَتَأذَنُ لي أَن أَهبِطَ إلَى الأَرضِ لأِكُونَ مَعَهُم سادِساً؟.

ص: 62

فَقالَ اللهُ: نَعَم، قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَهَبَطَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ، العَلِيُّ الأَعلَى يُقرِئُكَ السَّلام، وَيَخُصُّكَ بِالتًّحِيَّةِ وَالإِكرَامِ، وَيَقُولُ لَكَ:

وَعِزَّتي وَجَلالي إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنيَّةً، ولاَ أَرضاً مَدحِيَّةً، وَلاَ قَمَراً مُنِيراً، وَلاَ شَمساً مُضِيئَةً، ولاَ فَلَكاً يَدُورُ، ولاَ بَحراً يَجري، وَلاَ فُلكاً يَسري، إِلاَّ لأَجلِكُم وَمَحَبَّتِكُم، وَقَد أَذِنَ لِي أَن أَدخُلَ مَعَكُم، فَهَل تَأذَنُ لِي يِا رَسُول اللهِ؟.

فَقالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): وَعَلَيكَ السَّلامُ يَا أَمِينَ وَحيِ اللهِ، إِنَّهُ نَعَم قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ جِبرائِيلُ مَعَنا تَحتَ الكِساءِ، فَقالَ لأِبي: إِنَّ اللهَ قَد أَوحى إِلَيكُم يَقولُ:

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) لأَبِي: يا رَسُولَ اللهِ، أَخبِرنِي مَا لِجُلُوسِنا هَذَا تَحتَالكِساءِ مِنَ الفَضلِ عِندَ اللهِ؟.

ص: 63


1- سورة الأحزاب: 33.

فَقالَ النَّبيُّ (صلی الله علیه و آله): وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً، ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا فِي مَحفِلٍ مِن مَحافِل أَهلِ الأَرَضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبِيِّنا إِلاَّ وَنَزَلَت عَلَيهِمُ الرَّحمَةُ، وَحَفَّت بِهِمُ المَلائِكَةُ وَاستَغفَرَتلهم إِلى أَن يَتَفَرَّقُوا.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَاً وَاللهِ فُزنا وَفازَ شِيعَتنُا وَرَبِّ الكَعبَةِ.

فَقالَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ، وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفاني بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً، ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا في مَحفِلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الأَرضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبّيِنا وَفِيهِم مَهمُومٌ إِلاَّ وَفَرَّجَ اللهُ هَمَّهُ، وَلاَ مَغمُومٌ إِلاَّ وَكَشَفَ اللهُ غَمَّهُ، وَلاَ طالِبُ حاجَةٍ إِلاَّ وَقَضى اللهُ حاجَتَهُ.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَاً وَاللهِ فُزنا وَسُعِدنا، وَكَذلِكَ شِيعَتُنا فَازوا وَسُعِدوا في الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَرَبِّ الكَعبَةِ».

ص: 64

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

وبعد: فقد روى والدي (رحمه الله تعالى) حديث الكساء في مجموعة له، بسند صحيح إلى فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، كما رواه غيره(1):

ص: 65


1- وإليك نص حديث الكساء سنداً _ على ما في (عوالم العلوم والمعارف والأحوال)، تحقيق وطبع مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قم _: رأيت بخط الشيخ الجليل السيد هاشم، عن شيخه السيد ماجد البحراني، عن الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني، عن شيخه المقدس الأردبيلي، عن شيخه علي بن عبد العالي الكركي، عن الشيخ علي بن هلال الجزائري، عن الشيخ أحمد بن فهد الحلي، عن الشيخ علي بن الخازن الحائري، عن الشيخ ضياء الدين علي بن الشهيد الأول، عن أبيه، عن فخر المحققين، عن شيخه العلامة الحلي، عن شيخه المحقق، عن شيخه ابن نما الحلي، عن شيخه محمد بن إدريس الحلي، عن ابن حمزة الطوسي صاحب (ثاقب المناقب)، عن شيخه الجليل الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، عن الشيخ الجليل محمد بن شهر آشوب، عن الطبرسي صاحب (الاحتجاج)، عن أبيه شيخ الطائفة، عن شيخه المفيد، عن شيخه ابن قولويه القمي، عن شيخه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن قاسم بن يحيى الجلاء الكوفي، عن أبي بصير، عن أبان بن تغلب البكري، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن فاطمة الزهراء (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... وهذا السند في منتهى الجلالة ورجاله من كبار ومشاهير العلماء، أما القاسم بن يحيى فالصحيح عندنا تبعاً لجمع منهم صاحب (الجواهر) و(العديد) وغيره، اعتباره إذ هو من شيوخ البزنطي، والبزنطي صح أنه لا يروي إلاّ عن ثقة، وأما جابر ففيه قولان، وقد اعتبره جمع وهو الأصح. وقد نقل متن حديث الكساء أيضاً العلامة الثقة فخر الدين الطريحي الأسدي صاحب (مجمع البحرين) في كتاب (المنتخب الكبير)، وكذلك نقل ما يقرب من نصفه الديلمي صاحب (الإرشاد) في (الغرر والدرر)، وكذلك نقله كله الحسين العلوي الدمشقي الحنفي، وكذلك آخرون، وهو من الإشتهار بحيث يغني عن تتبع السند، وقد سبق في المقدمة وسيأتي في البحث عن سند خطبتها (علیها السلام) في المسجد ما ينفع في المقام جداً، فليراجع.

عَنْ جَابر بن عَبْدِ اللهِ الأنْصَاري، عَنْ فَاطِمَةَ الزَّهراءِ (علیها السلام)

اشارة

------------------------------

استحباب الرواية

استحباب الرواية(1)مسألة: تستحب رواية الأحاديث، كما روت (صلوات الله عليها) هذا الحديث لجابر، وكما روى جابر لغيره وقررتها الزهراء (علیها السلام) بحكايتهاله، وبلحاظ العلة الغائية لحكايتهاله(2).

وهذا وإن لم يكن من التقرير الاصطلاحي لكنه نوع من التقرير بالمعنى الأعم، إذ التقرير عبارة عن: الإقرار لشيء(3) أو بشيء لفظاً أو قلباً أو إشارةً، فلا فرق بين أن يعمل الإنسان عملاً ويسكت عليه الطرف الآخر، حيث إنه يقرره إذا لم يكن هناك محذور في سكوته، أو أن يقرأ إنسان على إنسان شيئاً آخر فإنه تقرير أيضاً، لكنه ليس تقريراً سكوتياً وإنما تقريراً بالقراءة، فتأمل.

ص: 66


1- راجع حول هذا المبحث والبحوث اللاحقة: (الفقه: الآداب والسنن) و(الفقه: الواجبات والمحرمات).
2- إذ كان الهدف من حكايتهاله أن ينقل هذا الحديث الشريف للآخرين.
3- الإقرار لغة يأتي بمعان: التثبيت والتحقيق والإذعان والتبيين وغير ذلك.

..............................

وهناك تقرير ثالث وهو: التقرير العملي، كما إذا جعل الإشارة بالرأس أو باليد أو العين أو ما أشبه، علامةً لشيء، سواء سكت في قبال تلك أو فعلتلك فإنه أيضاً تقرير.

ومن المعلوم إن كل ذلك بالنسبة إلى المعصوم (صلوات الله عليه) دليل على الصحة، بل لا يبعد أن يكون مثل ذلك شهادة أيضاً، فتأمل(1).

مثلاً: لو أن إنساناً شاهد زيداً وهو يسرق أو يقوم بغيرها مما يوجب الحد، لكنه امتنع من إقامة الشهادة عليه عند الحاكم خوفاً من ذلك السارق، فيتفق سراً مع الحاكم أنه إذا سكت أو أشار إشارة حال قراءة الحاكم للدعوى فإنه يكون دليلاً على السرقة أو ما أشبه ذلك.

وهل هذا يجري في الزنا أيضاً؟.

احتمالان، والأقرب العدم؛ لأن مقتضى أن (الحدود تدرأ بالشبهات)(2) وأشدية الأمر في الزنا لزوم أن يكون بإقراره أربعاً، أو بالشهود الذين يتلفظون بالزنا تلفظاً لا بمثل الإشارة والكتابة، ولا يخفى أنه يجري هذا الوجه في كل الحدود(3).

ص: 67


1- التأمل قد يكون بلحاظ درء الحدود بالشبهات كما سيأتي.
2- راجع وسائل الشيعة: ج28 ص47 ب24 باب أنه لا يمين في حد وأن الحدود تدرأ بالشبهات.
3- راجع (الفقه: القواعد الفقهية) و(الفقه: الحدود والتعزيزات) للإمام الشيرازي (رحمة الله).

بِنتِ رَسُول اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: سَمِعْتُ فاطِمَةَ أَنِّها قالَت:

اشارة

------------------------------

رواية النساء

مسألة: يستحب للنساء أيضاً رواية الأحاديث(1)، لأنها (صلوات الله عليها) أسوة، فإنها (علیها السلام) وإن كانت معصومةً ولها خصائص مثل حرمة زواج علي (علیه السلام) عليها ما دامت في قيد الحياة، إلاّ أن الظاهر من الأدلة أنهم (علیهم السلام) أسوة إلاّ فيما خرج بالدليل، وليس المقام من المستثنى.

ويدل على كونها (سلام الله عليها) أسوة:

إنها (علیها السلام) معصومة نصاً وإجماعاً وعقلاً، والمعصومة لا تفعل إلاّما يطابق رضى الله سبحانه، كما ورد في الأحاديث ما يدل على أنها (علیها السلام) أسوة (2)، وكذلك حال مريم الطاهرة (علیها السلام).

وفي بعض الروايات: إنها (صلوات الله عليها) تعادل علياً (علیه السلام) (3)، وفي جملة

ص: 68


1- قد يذكر الخاص بعد العام أو قبلة، والصغرى بعد الكبرى لأهميتها، أو لطرد احتمال الاستثناء أو لغير ذلك من الجهات، وعلى ذلك جرى ديدن الكتاب، كما قد يتكرر ذكر المسألة تمهيداً لذكر فوائد جديدة وإضافات عديدة، وقد تذكر بعض المسائل باعتبارها كبرى لصغرى مذكورة في كلماتها (علیها السلام).
2- راجع الاحتجاج: ج2 ص467 احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
3- راجع المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص349 فصل في تزويجها (علیها السلام).

..............................

من الروايات: إنها (سلام الله عليها) أفضل من غير أبيها (صلی الله علیه و آله) (1)، كما يشهد به: «لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه»(2)، وقال الحسين (علیهالسلام): «أمي خير مني»(3)، إلى غيرها من الروايات(4).

ومن الواضح أن ذلك ليس فقط لأجل علمها (علیها السلام) وإن كان علمها في غاية السمو والرفعة، بل لأن الله سبحانه خلقها (علیها السلام) رفيعة كما خلق الماء الحلو والذهب والشمس أرفع من المر والصخر والقمر، حيث إن نوره مستفاد من نور الشمس، وفي الحديث: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(5).

لا يقال: فإذا خلقها الله كذلك فما هو فضلها (علیها السلام)؟.

لأنه يقال:

نقضاً: فما هو فضل الذهب والماء الحلو والأذكياء والعباقرة؟.

وحلاً: بأن حكمة الخلق تقتضي خلق كل ما يمكن _ من المجرة إلى الذرة _ فإذا لم يخلق الله كذلك فلماذا؟.

وإذا خلق كل شيء هكذا، فلماذا لايخلق الأدون فالأدون وهكذا؟(6).

ص: 69


1- راجع دلائل الإمامة للطبري: ص28 خبر مصحفها (علیها السلام). ويستفاد من حديث المصحف وفيه: «كانت مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله ... والأنبياء والملائكة».
2- الكافي: ج1 ص461 باب مولد الزهراء فاطمة (علیها السلام) ح10.
3- الإرشاد للشيخ المفيد: ج2 ص94 باب ذكر الإمام بعد الحسن بن علي (علیه السلام).
4- والحديث عن ذلك تفصيلاً تجده في ثنايا الكتاب وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة.
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص380 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5821.
6- أشار الإمام المؤلف (قدس سره) إلى أجوبة أخرى على هذا السؤال في العديد من كتبه ومنها: (الفقه: حول القرآن الحكيم) و(القول السديد في شرح التجريد) و(شرح المنظومة) وغير ذلك. ولعل مما يجاب به عن الإشكال: إن الله تعالى لعلمه بأن الأئمة والأنبياء (علیهم السلام) سيكونون _ في دار الدنيا _ خير من سيخرج من الامتحان الإلهي لذلك أفاض عليهم المزيد من لطفه وفضله وجعلهم من معدن أسمى، وذلك كما أن الاستاذ لو اكتشف أن أحد تلامذته سيكون أشد الجميع اجتهاداً ومثابرة فإن من الطبيعي ومن العدل أيضاً أن يوليه الأستاذ مزيداً من الاهتمام ويخصه _ دون سائر التلاميذ _ بمقدار أكبر من الوقت والتوجيه والعطاء قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا» _ الرعد: 17 _ وربما يفسر الأمر أيضاً بالنجاح في عالم الذر أو عوالم أخرى أسبق، مما سبب مزيداً من الإفاضة على الناجح في العوالم اللاحقة.

..............................

ولا شك أن رفعة علمها (علیها السلام) أيضاً من أسباب رفعتها، وكذلك حال الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) «خلقكم الله أنواراً»(1)،(2).

رواية الرجال عن النساء

مسألة: يجوز رواية الرجال عن النساء في الجملة، لإطلاق الأدلة، بالإضافة إلى ما في هذا الحديث، كما يجوز العكس أيضاً.

وهكذا رواية النساء عن النساء، والرجال عن الرجال بالضرورة.

والمراد بالجواز: الأعم من المباح والواجب والمستحب، كل حسب الموازين المقررة.

ص: 70


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- حول هذا المبحث راجع (الفقه: البيع) و(القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(عبقات الأنوار) لمير حامد حسين الموسوي الهندي، و(إحقاق الحق) للتستري، و(بحارالأنوار) للعلامة المجلسي (رحمهم الله).

..............................

والإسلام إنما منع ما منع لفلسفة، ولم يمنع مثل ذلك، وبذلك يظهر أن ما ورد في بعض الروايات: «صوت المرأة عورة»(1) إنما هو مثل ما ورد من: «إن المرأة عورة»(2) يراد به المنع عنالاختلاط والمفاسد، ولذا قال سبحانه: «فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ»(3) ولم يقل: فلا تتكلمن.

وتكلم الرجال مع النساء وبالعكس قامت عليه السيرة، والروايات دلت على ذلك أيضاً..

وذلك هو المراد بحديث: «أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل»(4). فإن المراد من «أن لا يراها رجل» رؤية جسمها العاري وما أشبه مما منعه الإسلام، كما أن المراد من «أن لا ترى رجلاً» رؤيتها الجسم العاري من الرجل، وإلاّ فمن الواضح حضور النساء مجالس الرسول (صلی الله علیه و آله) وتحدثهن معه (صلی الله علیه و آله) وكذلك بالنسبة إلى علي (علیه السلام) وسائر الأئمة (علیهم السلام) مما هو كثير.

ومن المعلوم أن أمثال هذه الإطلاقات _ كسائر الإطلاقات _ تُقَيَّد بما عُلم من الشريعة، وذكرها الفقهاء في الكتب الاستدلالية والرسائل العملية.

ص: 71


1- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص280 ب90 ح16718، وفيه أنه (صلی الله علیه و آله): «نهى النساء عن إظهار الصوت إلاّ من ضرورة».
2- راجع الكافي: ج5 ص511 باب حق المرأة على الزوج ح3، وفيه عن الإمام الصادق (علیه السلام): «اتقوا الله في الضعيفين، يعني بذلك اليتيم والنساء وإنما هن عورة».
3- سورة الأحزاب: 32.
4- المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص341 فصل في سيرتها.

..............................

رواية حديث الكساء

مسألة: يستحب رواية حديث الكساء بصورة خاصة، وقد جرت عادة كثير من المؤمنين منذ مئات السنين على رواية هذا الحديث، في المحافل والمجامع، بقصد التبرك وقضاء الحوائج.

تسمية المرأة

مسألة: يجوز للرجل تسمية المرأة في الجملة، فإن جابراً سمى الزهراء (علیها السلام) بالاسم، وكذلك كان الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) يسمون النساء، من خديجة (علیها السلام) ومن سبقتها، من فضليات النساء أو شرارهن، إلى آخر أم من أمهات الأئمة (علیهم السلام) وهي السيدة نرجس (علیها السلام) ، أمام الأقارب والأجانب.

وقبل ذلك سمى الله سبحانه مريم الطاهرة (علیها السلام) في القرآن الحكيم، وهو يُتلى آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الواضح أن ذلك ليس خاصاً بالله وبهم (علیهم السلام) ولذا ذكرهنعلماؤنا الأعلام على المنابر وفي الكتب وغيرها.

كما لا يحرم ذكر بعض الخصوصياتلهن، كارتفاع القامة والعمر ونحوهما، وإنما يستثنى (التشبيب) كما ذكر في (الفقه).

وكذلك لا إشكال في العكس بأن تسمي المرأة الرجل _ محرماً أو غير محرم _ لإطلاق الأدلة وعدم دليل على الحرمة، بل ولا كراهة.

ص: 72

..............................

نعم الظاهر حرمة التشبيب أيضاً منها بالنسبة إليه، للملاك وإن لم يتعرض له المشهور من الفقهاء. وكذلك ما إذا كان ذكر الاسم إغراءاً لا من جهة كونه ذكراً للاسم بل من جهة العارض.

وهل الاسم يعد من حقها، بحيث إذا كرهت ذلك لم يجز الذكر، حيث إنه تصرف في حق الغير، أو لا؟.

لا يبعد الثاني، وكذلك بالنسبة إلى من لم يرض ذكر اسمه من الرجال، إلاّ إذا كان هناك محذور خارجي، فالمنع بسببه، لا بسبب ذكر الاسم.

صوت الأجنبية

مسألة:

يجوز سماع صوت الأجنبية حتى في غير مورد الضرورة في الجملة، وإلا لما كانت فاطمة (سلام الله عليها) تروي لجابر (رحمة الله).

أما الجواز، فللأصل والسيرة والروايات المتعددة في مكالمة النساء للرجال في غير مورد الضرورة.

أما الضرورة فإنها تبيح المحرمات، كما ورد: «إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ»(1) وفي الحديث: «ليس شيء مما حرم الله إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه»(2)، والمراد بالاضطرار هنا الأعم من الإكراه، فإنهما يطلقان على كليهما في غير مورد المقابلة كالفقير والمسكين (إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا).

ص: 73


1- سورة الأنعام: 119.
2- وسائل الشيعة: ج23 ص228 ب12 ح29442.

..............................

نعم، قد تقدم أن المحرّم هو الخضوع بالقول للآية والرواية.

ولا يبعد أن يكون ذلك أيضاً مقيداً بقوله سبحانه: «فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ»(1) فإذا لم يكن هناك من كان كذلك لم يتم دليل على الحرمة حتى في صورةالخضوع.

وعليه يحمل جعل الإمام الباقر (علیه السلام) مالاً للنوادب يندبنه في منى(2) مع وضوح أن صوتهن كان مسموعاً من خلف الخيام.

أما أن يكون ذلك استثناءً من الخضوع حتى عند من يطمع من مرضى القلب فبعيد جداً.

ولذا لم أجد من الفقهاء من منع قراءة النساء في مجالس العزاء وإن كان الصوت يصل إلى مسامع الرجال، والمسألة بعدُ بحاجة إلى التأمل والتتبع.

وهل العكس _ بأن يخضع الرجل بالقول فتطمع أنثى في قلبها مرض _ كذلك، أم بالنسبة إلى الذكور في من يطمع شذوذاً جنسياً؟.

لا يبعد الثاني ملاكاً، أما الأول فبعيد، فتأمل.

ص: 74


1- سورة الأحزاب: 32.
2- الكافي: ج5 ص117 باب كسب النائحة ح1، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى».

دَخَلَ عَلَيَّ أبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)

اشارة

------------------------------

استحباب التلقيب

مسألة: يستحب التلقيب؛ لأنه نوع من التكريم وللأسوة، حيث قالت (سلام الله عليها): «دخل عليَّ أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وهل يدل على الاستحباب، أو الجواز؟.

الظاهر الأول للقرينة الداخلية، كما أن قرينة جعل الإسلام احترام الناس أصلاً للآيات والروايات و... وقد قال سبحانه: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ»(1)، وما أشبه يدل عليه.

وفي الأحاديث أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يكنّي أصحابه(2).

ولا يبعد أن يكون اللقب أو الكنيةبالنسبة إلى الأقرباء _ خصوصاً الكبار منهم كالأب والأم _ آكد استحباباً، ويلمع إليه ما سبق(3) وأن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان أباًلها (علیها السلام).

ص: 75


1- سورة الإسراء: 70.
2- راجع كتاب (من حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب (منية المريد) للشهيد (رحمة الله): ص193 وفيه: فلقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكني أصحابه إكرامالهم فإن ذلك ونحوه أشرح لصدورهم وأبسط لسؤالهم وأجلب لمحبتهم.
3- قد يكون المراد أن الاحترام مشكك ذو درجات، وكلما كان الآخر أقرب للإنسان رحماً أو أقوى عليه حقاً تأكد الاحترام أكثر فأكثر.

..............................

وهنا سؤال لابدّ من الإجابة عليه، وهو أن القرآن قد يمدح الإنسان مثل:

«كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ»(1).

و: «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(2).

و: «فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا»(3)..

إلى غير ذلك.

وقد يذمه، مثل: «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً»(4).و: «خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ»(5).

و: «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(6)..

إلى غير ذلك.

فكيف الجمع؟.

والجواب:

إن الأول بالنظر إلى الذات، والثاني بالنظر إلى فعل الإنسان بنفسه،

ص: 76


1- سورة الإسراء:70.
2- سورة المؤمنون: 14.
3- سورة الإسراء: 70.
4- سورة المعارج: 19.
5- سورة الأنبياء: 37.
6- سورة الأحزاب: 72.

..............................

ومعنى (خلق) أنه كذلك(1) لا أنه في طينته الجبرية، كما هو واضح.

وذكرها (علیها السلام) الكنية واللقب من جهة التلذذ بتكرار اسم المحبوب، كما قاله أهل البلاغة.

قال المتنبي:

أسامي لم تزده معرفة *** وإنما لذة ذكرناها

وتقديم الكنية من جهة الإلماع أولاً إلى القرابة القريبة، وإلاّ فالرسول (صلی الله علیه و آله) كان يدخل في كثيرمن البيوت.

ص: 77


1- ف (هلوعاً) مثلاً حال، وهو إشارة إلى ما عليه الإنسان في فعله، وإخبار عما سيكون عليه نفسياً أو عملياً بما هو داخل في دائرة الاختيار أو بنحو الاقتضاء.

فِي بَعضِ الأيَّامِ

اشارة

------------------------------

توقيت الأمور

مسألة: يستحب التوقيت، ومن مصاديقة كون الحادث ليلاً أو نهاراً، حيث قالت (علیها السلام): «في بعض الأيام» حتى لا يظن أو يحتمل أن الحادث كان في بعض الليالي، لانصراف اليوم في المقام إلى النهار، وإن صح إطلاقه على مجموعة الليل والنهار، أو النهار كاملاً، كما يقال: أقام في البلد الفلاني عشرة أيام، أو درسنا التفسير في خمسة أيام.

وكذلك حال الأسبوع والشهر والسنة.

أما إذا قيل الليل فلا يشمل النهار، كما أن النهار لا يشمل الليل.

وإنما استفدنا الاستحباب؛ لأنه لولا ذلك لكان قولها (علیها السلام): «في بعض الأيام» لغواً والعياذ بالله(1) فتأمل.

وقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(2). والكلام عن العمل، وذكر الوقت من الإتقان، ولعله داخل في: «كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» (3).

ص: 78


1- والأصل في كل كلمة من كلام الحكيم _ فكيف إذا كان قمة في الحكمة والبلاغة _ أنها جيء بها لغرض وفائدة.
2- الكافي: ج3 ص263 باب النوادر ح45.
3- سورة الحجر: 19.

..............................

وقوله (علیه السلام): «إني أعلم أنها نزلت في ليل أنزلت أو نهار»(1) ولو بالملاك وتنقيح المناط.

وقد سبق الإسلامُ الحضارةَ الحديثة في ذكر التوقيت وربط الأعمال به، ولذا وضع لكل من ساعات الليل وساعات النهار دعاءً، بالإضافة إلى مواقيت الصلاة والحج والصوم والعيد وغير ذلك مما هو كثير.

ولا يخفى أن (الساعة) قد تطلق على جزء من الوقت، كما تطلق على المحدد بستين دقيقة، وعلى تقسيم النهار من الطلوع إلى الغروب إلى اثني عشر قسماً، كل منها يسمى ساعة أيضاً، وكذلك الليل، على تفصيل ذكره علماءالفلك(2).

ص: 79


1- الأمالي للصدوق: ص342 المجلس55 ح1، وفيه: «لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت ... أخبرتكم».
2- وسيأتي مزيد من الحديث عن (التوقيت) عند قولها (علیها السلام): «فما كانت إلا ساعة».

فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا فاطِمَةُ

ترتيب المطالب

مسألة: يُرجّح ترتيب المطالب على وجه يفيد مطابقة مرحلة الإثبات لمرحلة الثبوت، كما قالت (علیها السلام): «دخل عليَّ أبي ... فقال»، فجاءت (سلام الله عليها) بفاء التفريع ولم تقل: (وقال)، وفرقهما واضح. فإن في اللغة العربية خصوصيات حتى بالنسبة إلى الكلمة وجزء الكلمة.

كما قالوا: قوله سبحانه وتعالى: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ»(1) مع أنه لا وجه _ كما قد يتوهم _ لحذف الياء، قالوا: لأنه حكاية عن سرعة كلامه، حيث إن المسرع في كلامه يحذف بعض الكلمة، ولغتهم وإن لم تكن لغة العرب، لكن الله سبحانه وتعالى حذف الياء علامة على ذلك في لغتهم.

ومثلاً: قال علي (عليه الصلاة والسلام) فيما يروى عنه:أنا

الذي سمتني أمي حيدرة*** ضرغام آجام وليث قسورة (2)

فإن الإمام (علیه السلام) لم يرد ذكر المرادفات للأسد لمجرد التكرار والجمال، وإنما أراد خصوصيات الأسد في أحواله المختلفة، فإن كل أسم وضع لخصوصية من خصوصيات الأسد.

ص: 80


1- سورة الكهف: 64.
2- المناقب: ج3 ص129 فصل في مقامه (علیه السلام) في غزاة خيبر.

..............................

فالأسد يسمى: (حيدراً وحيدرة) حينما ينزل من مكان مرتفع كالجبل ونحوه حيث يستلزم المهابة الشديدة.

ويسمى: (ضرغام آجام)؛ لأن الضرغام في الآجام يزأر فيملأ الأجمة بصوته المرعب.

ويقال له: (ليث)، باعتبار تلوثه بالفريسة، وهذا منظر مخيف جداً للفريسة وللإنسان الذي يشاهدها.

ويسمى: (قسورة)، فيما إذا كان يطارد حيواناً أو قطيعاً من الحيوانات، فلذا قال سبحانه: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ»(1).

وورد في بعض كتب العرب أن امرؤ القيس قال قصيدة مطلعها: (دنت الساعةوانشق القمر)، ثم نزل قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ»(2)، فقال بعض أدباء الجاهليين: إن هذه الآية تمتاز بسبعين نكتة من حيث الفصاحة والبلاغة على كلام امرؤ القيس.

استحباب الابتداء بالسلام

مسألة: يستحب الابتداء بالسلام حتى من الكبير على من دونه(3). ولذا سلم الرسول وعليٌّ (علیهما السلام) على فاطمة (علیها السلام) .

ص: 81


1- سورة المدثر: 5051.
2- سورة القمر: 1.
3- راجع (الفقه: الآداب والسنن) للإمام الشيرازي (رحمة الله).

..............................

بل في بعض الروايات: استحباب سلام الكبير على الصغير(1)، وقد كان (صلی الله علیه و آله) يسلّم على الأطفال(2)، وفيه من التواضع والتعليم ما ليس في عكسه.

وكذا الأمر في سلام الراكب على الراجل، إلى غير ذلك من أحكام السلام الكثيرة (3)، وقد جمعها ابن العم السيد عبد الهادي (قدس سره)(4) في رسالة مستقلة أنهاها إلى ألف مسألة.

وقد ذهبنا في (الفقه) إلى كفايةلفظ (سلام) و(سلاماً) في تحقق السلام،

ص: 82


1- راجع مستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب34.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب34 ح9685 وفيه: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مر على صبيان فسلّم عليهم»، ومستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب34 ح9686 وفيه: «كان (صلی الله علیه و آله) يسلّم على الصغير والكبير».
3- راجع (الفقه: أحكام التحية والسلام)، للإمام الشيرازي (رحمة الله).
4- هو آية الله العظمى السيد عبد الهادي بن السيد ميرزا إسماعيل بن السيد رضي الدين الشيرازي النجفي. وُلد في سر من رأى عام 1305ه في السنة التي توفي بها والده الحجة، وهو ابن عم آية الله العظمى الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره). هاجر إلى كربلاء وحضر على بعض علمائها، تخرج على الشيخ ملا محمد كاظم الآخوند الخراساني والميرزا محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني. كان عالماً محققاً منقباً، ذا رأي صائب، قوي الحافظة أديباً شاعراً، آلت إليه المرجعية الدينية بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره)، فكان من مراجع الشيعة الكبار،.له مواقف مشرفة ضد الاستعمار البريطاني، اشترك مع الشيخ الشيرازي (رحمة الله) في ثورة العشرين، ووقف بوجه المد الشيوعي وأصدر فتواه الشهيرة بضلالتهم، توفي عام 1382ه. من مؤلفاته: كتاب الطهارة ، كتاب الصوم، كتاب الزكاة، رسالة في اللباس المشكوك، رسالة في الاستصحاب، رسالة في اجتماع الأمر والنهي، دار السلام في فروع السلام وأحكامه، أنهاها إلى ألف فرع، كتاب الحوالة، رسالة في الرضاع، الوسيلة، الذخيرة، تعليقة العروة الوثقى، الرسالة العملية العربية، الرسالة العملية الفارسية.

..............................

كما يدل على ذلك الإطلاقات والآية: «قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ»(1) ويؤيده الاعتبار، وسيأتي تفصيل ذلك.

فالمستفاد من الحديث استحباب السلام الكامل؛ لأنهم سلّموا عليها (علیهم السلام) بالصيغة الكاملة(2)، بالإضافة إلى أنه نوع احترام، واحترام المؤمن فكيف أمثالهم (علیهم السلام) من آكد المستحبات.

كما أن سلامهما (علیهما السلام) عليها (علیها السلام) وجوابها (علیها السلام) لهما (علیهما السلام) دليل على استحباب سلام الصغير أيضاً، فليس خاصاً بالكبير، بل ربما يقال: بوجوبجواب الكبير لغير البالغ أيضاً، كما تقتضيه الإطلاقات آيةً وروايةً، فتأمل(3).

نعم حديث الكساء لا يدل على أزيد من الرجحان.

السلام على فاطمة (علیها السلام)

مسألة: يستحب السلام على فاطمة (صلوات الله عليها) حيث قال (صلی الله علیه و آله): «السلام عليكِ»، وقد دل عليه بعض الأحاديث أيضاً.

ص: 83


1- سورة هود: 69.
2- لأصالة الأسوة والإلتزام بأن أفعالهم (علیهم السلام) داخلة في دائرة الواجب أو المستحب لا غير، ومما يشهد له وصية الرسول (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رحمة الله) بأن تكون كل أفعاله لله _ انظر مكارم الأخلاق: ص464 ب12 ف5 _ وذلك في المباح ممكن أيضاً عبر النية ف (إنما الأعمال بالنيات) _ وسائل الشيعة: ج1 ص48 ب5 ح89 _.
3- قد يكون الوجه رفع التكاليف عنه وبالنسبة إليه مطلقاً إلاّ ما خرج.

..............................

ولا فرق في ذلك _ فيها (علیها السلام) وفي سائر المعصومين (علیهم السلام) _ بين حيّهم وميّتهم، فهم (علیهم السلام) حاضرون ناظرون «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1).

سلام الرجل على المرأة

مسألة: يستحب سلام الرجل علىالمرأة إذا كانت من محارمه، ولذا سلّم الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) على فاطمة (سلام الله عليها).

أما في المحارم فلا إشكال.

وأما في غير المحارم فإذا لم يكن بتلذذ وريبة، ولذا ورد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يسلّم على النساء، وعليٌّ (علیه السلام) كان يسلّم على غير الشابة منهن(2)، والسر كي لا يتخذ أسوة؛ لأن مجتمع مكة كان يختلف عن مجتمع الكوفة حيث تجمع فيه أخلاط من الناس، وكان من مظان افتتان الناس.

ومنه يعلم: وجه سلام الصحابة على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كما في بعض التواريخ، وعلى الزهراء (علیها السلام).

والظاهر: الحرمة في سلام المرأة على الرجل الأجنبي إذا كان عن تلذذ أو خوف ريبة، أما بدونهما فلا إشكال، ولذا كنّ يسلمنّ على الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) كما في بعض التواريخ.

ص: 84


1- سورة آل عمران: 169.
2- راجع الكافي: ج2 ص648 باب التسليم على النساء ح،1 والكافي: ج5 ص535 باب التسليم على النساء ح3.

..............................

نعم إذا سلّم أحدهما على جماعة من مثله وفيه الجنس المخالف، مثل الرجل على مجموعة من النساء والرجال _ في قافلة مثلاً _ أو المرأة على جماعة من الرجال والنساء، فهو أبعد من الفتنة والريبة.

وإذا لم يحرم السلام في موضع، كان مستحباً إلاّ في الموارد المكروهة، كما ورد في موارد خاصة مذكورة في كتب الأحاديث.

ثم إذا حرم السلام، فالظاهر عدم وجوب الجواب، لانصراف أدلة الوجوب إلى السلام غير المحرَّم.

ص: 85

فَقُلتُ: عَلَيكَ السَّلامُ. قالَ: إنّي أَجِدُ في بَدَني ضُعفاً

اشارة

------------------------------

رد السلام

مسألة: يجب رد السلام، ولذا قالت (علیها السلام): «عليك السلام»، والفعل وإن كان أعم، إلاّ أن استفادة الوجوب إنما هي من الأدلة الأخرى.

الإخبار عن الحالة الجسدية والنفسية

مسألة: يجوز التشكي والإخبار عن الحالة الجسدية والنفسية، ويرجّح إن كان لفائدة كالتعليم أو دفع التوهم أو شبه ذلك، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إني أجد في بدني ضعفاً».

أما النفسية فبالملاك.

ولا إشكال في جواز الإخبار، وربما يقال بالاستحباب، لأنه (صلی الله علیه و آله) أسوة، والمنصرف من مثله (صلی الله علیه و آله) أنه يأتي بالراجح.

ويؤيده ما ورد من أن الشكاية إلى المؤمن شكاية إلى الله سبحانه(1)، وبذلكيقيّد ما ورد من كراهة التشكي(2).

ولعل قوله (صلی الله علیه و آله): «في بدني» لدفع توهم أنه في النفس تألماً مما يقوم به المشركون والأعداء، فيكون المراد به ما أراد إبراهيم (علیه السلام) حيث قال: «إِنِّي

ص: 86


1- راجع مستدرك الوسائل: ج2 ص72 ب5 ح1446.
2- راجع بحار الأنوار: ج13 ص348 ب11 ح35.

..............................

سَقِيمٌ»(1) _ على إشكال _ أو أنه في قبال الضعف في جزء من الجسد كالعين والأذن وما أشبه.

ويحتمل أن قوله (صلی الله علیه و آله): «إني أجد ... » كان تمهيداً لأمره بإتيانها (علیها السلام) بالكساء إليه، وكأنه لدفع توهم من إنسان _ غيرها (علیها السلام) _ إنه لماذا يريد المنام في النهار، وإذا كان كذلك كان دليلاً على رجحان دفع التوهم، و«رحم الله من جب الغيبة عن نفسه».

ويؤيده ما روي عنه (صلی الله علیه و آله) أنه كان يتكلم مع زوجة من زوجاته في الطريق فلما مر بهما إنسان، قال (صلی الله علیه و آله) له:يا فلان هذه زوجتي فلانة _ دفعاً لتوهمه _.

فقال الصحابي: أومنك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) _ يريد أنه لا يتوهم عن مثله (صلی الله علیه و آله) _.

فقال (صلی الله علیه و آله): «نعم، إن إبليس عدو الله ... يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق»(2).

ولا يخفى أن قول إبراهيم (علیه السلام): «إِنِّي سَقِيمٌ»(3) لم يرد به المرض حتى يكون خلاف الواقع، بل أراد سقم النفس من كفرهم وشركهم، كما هو كذلك في كل متدين في مجتمع غير ديني.

ص: 87


1- سورة الصافات: 89.
2- تفسير العياشي: ج1 ص309 من سورة المائدة ح78، وفيه آخر الحديث فقط.
3- سورة الصافات: 89.

فَقُلتُ له: أُعِيذُكَ باللهِ يا أَبَتاهُ مِنَ الضُّعفِ

اشارة

------------------------------

الدعاء للمريض

مسألة: يستحب الدعاء للمريض(1) حيث قالت (سلام الله عليها): «أعيذك بالله يا أبتاه»، ولذلك كان دعاؤها (علیها السلام)(2). واستحبابه قد ورد في جملة من الروايات، سواء كان بحضرته(3) أم غائباً، وسواء بهذه اللفظة الواردة في هذا الخبر أم بلفظ آخر، وسواء كان المرض مؤلماً أم لا.

وهل من ذلك المرض القلبي قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً»(4)؟.

الظاهر ذلك(5) ولذا كان(صلی الله علیه و آله) يقول: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لايعلمون»(6) و(لا يعلمون) يراد به على طبق الواقع عملاً (7) وإن كانوا علموا، كما قال سبحانه:

ص: 88


1- راجع (الفقه: الآداب والسنن).
2- العديد من كلماتها (علیها السلام) _ ومنها هذه الكلمة _ تصلح أن تكون مؤيداً أو دليلاً على الحكم في مرحلة الإثبات، كما تصلح أن تكون معلولاً لوجود الحكم في مرحلة الثبوت، وها هنا (حيث) إشارة للقول و(لذلك) إشارة للثاني فليدقق.
3- أي بحضرة المريض.
4- سورة البقرة: 10.
5- سيأتي تقييده بالدعاء بالهداية وشبهها.
6- بحار الأنوار: ج20 ص21 ب12.
7- قد يكون المراد (العلم المؤدي للعمل والمحرك للجوارح) وقد يكون المراد (علم اليقين)، وقد يكون إشارة لمن لايعلم منهم، فتأمل.

..............................

«وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(1).

وهل يجوز الدعاء للمريض المؤذي للمسلمين كفراً أو نفاقاً أو ظلماً؟.

لا إشكال في جوازه في الهداية وكفّ الظلم.

والكلام في جواز الدعاء له بالعمر الطويل والمال الكثير والعافية البدنية؟.

الظاهر العدم؛ لأنه بملاك الدعاء على المؤمن.

وفي قول الصادق (علیه السلام) لإبراهيم الجمال دلالة عليه(2).ثم لا يخفى أن الأمور كلها بيد الله سبحانه، قال تعالى: «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»(3)، وإذا كان كذلك فما شأن الدواء؟.

ص: 89


1- سورة النمل: 14.
2- ربما أراد المؤلف (رحمة الله) قول الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) لصفوان الجمال كما في الحديث التالي: عن صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على أبي الحسن الأول (علیه السلام) فقال لي: يا صفوان كل شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحدا، قلت: جُعلت فداك أي شي ء؟ قال: إكراءك جمالك من هذا الرجل يعني هارون، قلت: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكة ولا أتولاه بنفسي ولكني أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم ومن كان منهم فهو ورد النار، قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: ولم؟ فقلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يقوون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر! فقال: دع هذا عنك فو الله لولا حسن صحبتك لقتلتك. بحار الأنوار: ج72 ص376 –377 ب82 ح34.
3- سورة الشعراء: 80.

..............................

وإذا كان بالدواء فما شأن الدعاء؟.

والجواب: إن الأمور كلها بيده سبحانه، لكنه جعل الدنيا دار أسباب،وأمر بالأخذ بها، فالدواء لما بأيدينا، والدعاء لما ليس بأيدينا..

ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «اعقلها وتوكل»(1).

وفي حديث: إنه تعالى قال لموسى (علیه السلام): «أتريد أن تبطل حكمتي في الأشياء؟».

الاستعاذة بالله تعالى

مسألة: يستحب الاستعاذة بالله سبحانه حتى من مثل الضعف فكيف بالمرض.

أما الاستحباب فلأنه دعاء، فيظهر منه ذلك، والضعف يسبب تأخر الإنسان عن حوائجه الدينية والدنيوية.

ولا نعلم هل كان ضعف جوع أو ضعف تعب، أو ضعف مشكلة أثرت على الجسد.

إذ النفس إذا وقعت في المشكلة أثرت على الجسد أيضاً، إذ كل منهما يؤثر في الآخر صحةً وسقماً، ونشاطاً وخمولاً، وقوةً وضعفاً.

ص: 90


1- إرشاد القلوب: ج1 ص121 ب35.

..............................

ولذا ورد في الدعاء: «قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة

جوانحي»(1).

وكذلك في أدعية أخرى(2).

وفي القرآن الحكيم: «لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ»(3). إلى غير ذلك.

رفع الضعف الجسمي والنفسي

مسألة: ومنه يعلم أنه ينبغي أن لا يقوم الإنسان بما يسبّب ضعف جسده، وأنه إذا ضعف استحب له رفعه. وكذلك حال ضعف النفس وقوتها، فإن الشجاعة ممدوحة كما ورد في الحديث: «إن الله ...يحب الشجاعة ولو على قتل حية»(4).

ص: 91


1- البلد الأمين: ص191 شهر شعبان، دعاء كميل.
2- مثل ما ورد من قوله: «واستعمل به بدني، وقوّني على ذلك، وأعني عليه...» الكافي: ج2 ص577 باب الدعاء في حفظ القرآن ح2. وكقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمار: «وقل اللهم بجاه محمد وآله الطيبين قوني».. بحار الأنوار: ج91 ص16 ب28 ح12. وفي الدعاء أيضا: «وقوّني بسلطانك». بحار الأنوار: ج91 ص217 ب38 ح17. وأيضا: «اللهم قوني على ما خلقتني له». بحار الأنوار: ج92 ص297 ب110 ح14. وأيضا: «وقوّني في سبيلك». بحار الأنوار: ج94 ص215. وأيضا: «اللهم قوّني فيه على إقامة أمرك» بحار الأنوار: ج95 ص19.
3- سورة الكهف: 39.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص297 ب39 ح9490.

..............................

وكما أن الجسد يتقوى بالرياضة والمقويات وما أشبه، كذلك النفس تتقوى بالرياضة النفسية، وهي ترويض النفس على القيام بما تكره، وكذلك تركيز الفكر في شيء خاص في أوقات كثيرة، فإن النفس حينئذ تكون كمثل المجهر، حيث إن مقدار كف منه تحت أشعة الشمس يحرق، بينما مقدار ألف فرسخ من أشعة الشمس _ متشتتة ومتوزعة _ لا يحرق.

ثم إن التضعيف الموجب لعدم التمكن من القيام بالواجبات محرم؛ لأنه مقدمة له فيجب رفعة، وذلك فيما إذا علمنا من الشارع أنه أراد ذلك الواجب _ وكان شرطه شرط الوجود لا الوجوب _ كما في ماء الغُسل والوضوء، ولهذا فإن الفاقد للماء يجب عليه أن يمشي غلوة سهم أو سهمين، على تفصيل مذكور في الفقه، وأما إذا لم يعلم من الشارع ذلك لم يجب، كما إذا كان مريضاً قبل شهر رمضان وتمكن _ قبل حلوله _ من علاج نفسه بحيث يتمكن من الصوم معحلول الشهر المبارك، فإنه لا دليل على وجوب العلاج حينئذ.

ص: 92

فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ، إِيتيني بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّينِي بهِ.

اشارة

------------------------------

أمر الغير بإنجاز الحاجة

مسألة: يجوز _ بالمعنى الأعم _ أمر الغير بالحاجة، خصوصاً إذا كان الآمر أعلى، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إيتيني بالكساء اليماني» و«غطّيني به».

ثم إن في بعض الروايات النهي عن طلب الحاجة من الغير، لكن الظاهر أن أمثال تلك إنما يراد بها الإفراط، كما هي عادة بعض الناس في إلقاء كَلّهم على الناس لا القدر المتوسط العقلاني، فإنه كان متعارفاً منذ صدر الإسلام إلى هذا اليوم، ولم يقل أحد من الفقهاء _ فيما أعلم _ بكراهته، وبعد ذلك لا مجال لأن يقال: إن قول النبي (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام) إنما هو من باب التخصيص لذلك المطلق، واستثناء طلب الأب من أولاده منه. وعلى أي حال فهذا في الحاجة التي تتأتى من الإنسان ومن غيره، أما في ما لا يتأتى إلاّ من غيره كالبِناء والحدادة والنجارة وما أشبه فلا يحتمل الكراهة إطلاقاً.

ولعل تخصيصه (صلی الله علیه و آله)الكساء اليماني؛ لأنه كان أكبر أو أوسع، ولذا فسره صاحب كتاب (نصاب الصبيان) بال (كَليم) وهو نوع من الفرش والبساط، بينما سائر الكساءات لم تكن كذلك، أو لم تكن متوفرة، ولعله (صلی الله علیه و آله) أراده ليسع أهل بيته (علیهم السلام) عند مجيئهم لعلمه (صلی الله علیه و آله) وعلمهم (علیهم السلام) بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة (1).

ص: 93


1- راجع بحار الأنوار: ج26 ص194 ب15ح1.

فَأَتَيتُهُ بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّيتُهُ بِهِ

اشارة

------------------------------

قضاء الحاجة

مسألة: يستحب قضاء حاجة الغير، سواء طلبها من أخيه أم لم يطلب، ويتأكد في صورة الطلب(1) لجملة من الروايات الدالة على استحباب قضاء حاجة المؤمن.

بل لا يبعد استحباب قضاء حاجة الإنسان ولو لم يكن مسلماً، للملاك فيسقي علي (علیه السلام) (2) والحسين (علیه السلام) (3) الماء لمن حاربوهما..

ولقوله (صلی الله علیه و آله): «لكل كبد حرى أجر»(4)، إذا فهم الملاك بالنسبة إلى كل الحاجات، سواء أظهرها أم تبين عنه تطلبه لها.

ثم إن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) هي التي غطّت الرسول (صلی الله علیه و آله) مما تكون أسوة في استحباب تغطية الرحم، بل وغير الرحم أيضاً؛ لأن الملاك عام حتى في غير الرحم.

ص: 94


1- راجع (الفضيلة الإسلامية) و(الفقه: الآداب والسنن).
2- راجع وقعة صفين: ص161 استيلاء أهل العراق على الماء ثم سماحهم به لأهل الشام.
3- راجع بحار الأنوار: ج44 ص376 ب37، وفيه: فقال الحسين (علیه السلام) لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء».
4- بحار الأنوار: ج71 ص370 ب23 ح63 بيان.

..............................

طاعة الأب

مسألة: يستحب إطاعة الأب وقد يجب، كما فعلت الزهراء (علیها السلام).والآمر إذا اجتمعت فيه جهات يصلح كل واحد منها سبباً لرجحان الإطاعة يحمل أمره على إحدى الجهات حسب ما تقتضي القرينة إذا لم يمكن الجمع.

والظاهر أن طاعة غير الأب من الأقرباء كذلك أيضاً، مع اختلاف المرتبة، بل يستحب للإنسان إطاعة سائر المؤمنين في حوائجهم، فإن قضاء حاجة المؤمن يشمل حتى مثل ذلك، وإن كان المؤمنون يختلفون في شدة الاستحباب وعدمها.

بل ولعله يستحب حتى لغير المؤمن _ كما أشرنا إليه _ لقول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): «إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(1)..

ولأن الإمام الحسين (علیه السلام) نزل عن جواده بنفسه وسقى ذلك المحارب الذي جاء لقتله في قصة مشهورة..

ولغير ذلك من الأدلة أو المؤيدات.

ص: 95


1- نهج البلاغة، الرسائل: رقم53 ومن كتاب له (علیه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر.

وَصِرتُ أَنظُرُ إِلَيهِ

اشارة

------------------------------

النظر إلى وجه الأب

مسألة: يستحب النظر إلى وجه الأب، بل وإدامة النظر إليه والإكثار منه، لما ورد من الروايات الدالة على استحباب النظر إلى وجه الأبوين، خصوصاً إذا كان الأب كالرسول (صلی الله علیه و آله) أو كان عالماً، فقد ورد أن النظر إلى باب دار العالم عبادة، ولا بعد، إذ النظر بلطف نحو ذي الكمال وما يتعلق به يقرب الإنسان على الكمال، إذ إنه يستلزم التحنن والعطف نحو المنظور إليه وما يتعلق به(1) وله أثر وضعي أيضاً، ولعله لذا _ ولو كجزء العلة _ ارتد يعقوب (علیه السلام) بصيراً بسبب ثوب ولده، فإذا كان ثوب الولد كذلك يكون باب دار العالم والمراقد المطهرة وما أشبه بذلك الحكم أيضاً.

بل في قصة السامري «فَقَبَضْتُ قَبْضَةًمِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ»(2)، فإذا كان تراب قدم فرس جبرائيل كذلك، أفلا يكون ما يتعلق بهم (علیهم السلام) بهذه الحيثية؟. بل وبطريق أولى، لأنه خادمهم (علیهم السلام)، وذلك ليس خاصاً بالنظر، بل التحسس بما أمكن من الحواس الخمس كذلك، فقد أخذت الزهراء (سلام الله عليها) حفنة من تراب القبر المطهر وأنشدت: «ماذا على من شم تربة أحمد (صلی الله علیه و آله)» الأبيات(3).

ص: 96


1- كما هو من مقدمات الإقتداء به، وهو نوع من التشجيع على العمل الصالح.
2- سورة طه: 96.
3- المناقب لابن شهر آشوب: ج1 ص242 فصل في وفاته (صلی الله علیه و آله)، أولها: «قل للمغيب تحت أطباق الثرى».

..............................

وورد أن من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان عن الله فقد عبد الله، وإن كان عن الشيطان فقد عبد الشيطان (1).

فإن الحواس الخمس، بالإضافة إلى الفكر، لها أحكام اقتضائية ولا اقتضائية، ولذا ورد «تفكر ساعةخير من عبادة سنة»(2)..

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كتب الأحاديث والأخلاق.

النظر إلى وجه المعصوم (علیه السلام)

مسألة: يستحب النظر إلى وجه الرسول (صلی الله علیه و آله)، بل إلى وجه مطلق المعصوم (علیه السلام).

وفي الحديث: «النظر إلى وجه علي عبادة»(3)..

وبحكمه: النظر إلى آثاره كخط يده أو ما أشبه ذلك.

ويشهد لذلك روايات استحباب النظر للكعبة ولباب دار العالم بطريق أولى.

ص: 97


1- قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عزوجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس» انظر بحار الأنوار: ج26 ص239 ب4 ح1.
2- بحار الأنوار: ج68 ص327 ب80 ح22.
3- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص205 ب19 ح7738، وفيه: «النظر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) عبادة».

وَإِذا وَجهُهُ يَتَلألأُ كَأَنَّهُ البَدرُ

اشارة

------------------------------

ذكر الكرامات

مسألة: يستحب ذكر ما يشهده الإنسان من كرامات المؤمنين بالله، كما ذكرت (سلام الله عليها) ذلك بقولها: «وإذا وجهه (صلی الله علیه و آله) يتلألأ».

وهل كان وجهه (صلی الله علیه و آله) يتلألأ بنور مادي خارق للعادة إعجازاً، أم أن هذا الكلام منها (عليها الصلاة والسلام) على وجه التشبيه؟.

احتمالان، ولا يبعد الأول.

وهكذا يستحب ذكر مطلق كرامات ومعاجز المعصومين (علیهم السلام) لما فيه من الفائدة العظيمة والتي من أهمها جمع الناس حولهم، فإن القائد إذا التف الناس حوله تكون كلمته أكثر نفوذاً، وقيادته أكثر استحكاماً، وبذلك يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم..

بالإضافة إلى أن ذكر الكرامات والمعاجز يوجب قلع الناس عن المادية البحتة، فإن الماديين يتصورون أن المادة هي كل شيء، والمعاجزوالكرامات لما كانت خلاف المعادلات المادية فإنها تدل على أن (الماورائيات) وعالم الغيب أيضاً شيء له تأثيره الخارجي الكبير، ولذلك لا يرتطم الإنسان في أوحال المادة التي تودي بدنياه وآخرته.

ص: 98

..............................

التشبيه في الكلام

مسألة: يجوز التشبيه في الكلام.

ويرجح فيما لو تضمن حثاً على الخير، أو كان عمن هو من أولياء الله، كما قالت (علیها السلام): «كأنه البدر في ليلة ... ».

وكما في قوله تعالى:

«ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» (1).

ص: 99


1- سورة إبراهيم: 24.

فِي لَيلَةِ تمامِهِ وَكَمالِهِ،

اشارة

------------------------------

مزيد البيان

مسألة: ينبغي تكثير اللفظ لمزيد البيان والفائدة، كما في قولها (علیها السلام): «تمامه وكماله» وهو من صغريات الإتقان، كما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(1).

فإن القمر يقال له: (البدر) قبل الليلة الرابعة عشر وبعدها، حيث إنه في الثالثة عشر والخامسة عشر يُرى كاملاً أيضا(2) وإن كان في الحقيقة يطرأ عليه شيء من النقص من هذا الجانب، أو من ذلك الجانب، كما لا يخفى.

والظاهر أن الفرق بين التمام والكمال:

أن التمام بالنسبة إلى الكمّ، والكمال بالنسبة إلى الكيف.

مثلاً: المائدة قد تكون تامة وليست كاملة، وقد تكون كاملة وليست تامة،أما إذا كملت وتمت من حيث الكم والكيف تسمى تامة كاملة، وتمام القمر مثلاً بالليلة الرابعة عشرة، وكماله أن لا يكون هنالك غيم رقيق أو عجاج أو ما أشبه يحول دون كمال نوره للناظرين.

وربما كان المراد: شدة نوره.

فالكمال على هذا ثبوتي، وعلى ذلك إثباتي.

ص: 100


1- الكافي: ج3 ص263 باب النوادر ح45.
2- راجع لسان العرب مادة بدر حيث يقول: (والبدر: القمر إذا امتلأ) و(سمي بدراً لتمامه).

فَما كَانَت إِلاَّ ساعَةً

اشارة

------------------------------

تحديد الأحداث

مسألة: يستحب التوقيت _ كما سبق _ حيث قالت (سلام الله عليها): «فما كانت إلاّ ساعة ... »، إذ إن الإخبار عن الوقت الماضي أو الآتي ومقداره داخل في «نظم أمركم»(1) _ كما قاله علي (علیه السلام) _ فإن النظم يشمل الزمان والمكان وسائر المزايا والخصوصيات كالكم والكيف وغيرهما من المقولات.

ويؤيده قوله سبحانه: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(2).

وقوله سبحانه: «مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ»(3).

والظاهر أن المراد ب (الساعة): القطعة من الزمان، لا الساعات المستوية أو المعوجة الفلكية وإن أُطلق عليها جميعاً، للانصراف.

وليس تواليهم (علیهم السلام) فيالمجيء بعيداً _ مع قطع النظر عن الجانب الغيبي ومعرفتهم مسبقاً بالأمر _ فإن بيت الزهراء (علیها السلام) كان له بابان، باب إلى المسجد ولم يغلقه الرسول (صلی الله علیه و آله) حيث سدّ الأبواب بأمر الله سبحانه إلاّ بابها(4) وباب إلى الشارع، وكان هؤلاء الأطهار (علیهم السلام) غالباً في المسجد أو حواليه.

ص: 101


1- نهج البلاغة، الرسائل: رقم47 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).
2- سورة يونس: 5، سورة الإسراء: 12.
3- سورة البقرة: 189.
4- راجع تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص17 سد الأبواب عن المسجد دون باب علي (علیه السلام) ح4.

..............................

ويدل على وجود البابين أنهم أحرقوا باب دارها (عليها الصلاة والسلام) الذي كان إلى الخارج لا الذي كان إلى المسجد، وسحبوا علياً (عليه الصلاة والسلام) من ذلك الباب إلى المسجد لا من الباب الذي كان في المسجد.

وقد كانت (سلام الله عليها) تبكي، فتسمع من في المسجد، مما رأوا أن بكاءها يفضحهم _ على تفصيل مذكور في التواريخ _.

ولا يخفى أن عادةً ضبط الوقت مما يزيد في إقبال الناس على العمل الجاد؛ لأن الضابط يلتفت أكثر فأكثر إلى انقضاء عمره تدريجياً، وأن ماانقضى لا يعود وهذا يشجع أكثر على العمل الصالح.

ما هي حقيقة الزمان؟

وهنا نقاط حول الزمان نذكرها بالمناسبة:

هل الزمان والمكان انتزاعيان أو حقيقيان؟. ومن أية مقولة؟. بل هل هما شيئان أو شيء واحد كما ذهب إليه بعض المعاصرين؟.

إن ذلك من أغمض الأشياء قديماً وحديثاً كسائر حقائق الأشياء، فالمفهوم من أظهر الأشياء ولكنه في غاية الخفاء، ومن الطريف أن الزمان متعاكس ومتخالف طولاً وعرضاً، ففي بعض الروايات أن السلطان إذا كان عادلاً أمر الله الفلك ببطء الدوران، وإذا كان ظالماً أمر الله الفلك بسرعة الدوران(1).

ص: 102


1- انظر بحارالأنوار: ج4 ص103 ب3 ح16، وفيه: عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل لمن جعل له سلطانا مدة من ليالي وأيام وسنين وشهور، فإن عدلوا في الناس أمر الله عزوجل صاحب الفلك أن يبطئ بإدارته، فطالت أيامهم ولياليهم وسنوهم وشهورهم، وإن هم جاروا في الناس ولم يعدلوا أمر الله عزوجل صاحب الفلك، فأسرع إدارته وأسرع فناء لياليهم وأيامهم و سنيهم وشهورهم، وقد وفى تبارك وتعالى لهم بعدد الليالي والأيام والشهور.

..............................

وقد ذكرنا في (الفقه: الآداب والسنن) كيفية اختلاف الزمان في قطعتين من الأرض في إحداهما الملك العادل وفي الأخرى الملك الظالم.

هذا من ناحية العرض(1).

أما من ناحية الطول فهناك ما يثير الاستغراب:

فقد ورد أن الرسول (صلی الله علیه و آله) عُرج به إلى السماء، وجرت قضايا ومشاهدات كثيرة ما يستوعب _ حسب الظاهر _ ربما مقدار شهر من الزمان أو أكثر، بينما لما رجع لم يكن قد انقضى من الزمن في الأرض إلاّ مقدار دقيقة أو أقل(2) مما يدل على أن الأمر في الأرض أقل من المكان أو البعد الذي دخل فيه الرسول (صلی الله علیه و آله) حتى بالنسبة إلى ذهابه إلى المسجد الأقصى.

وقد التزم جماعة(3) بامتداد الزمانوتقلصه حسب سرعة الحركة(4)، فإذا كان الشخص عمره عشرون سنة وتحرك دون سرعة الضوء _ بحد معين _ إلى مجرة أخرى مما استغرق ذهابه وإيابه خمسين سنة، فإنه إذا رجع إلى الأرض يكون

ص: 103


1- المراد زمن واحد ممتد على مساحتين.
2- إحدى الروايات تفيد أنه (صلی الله علیه و آله) ذهب ورجع وحركة حلقة الباب لم تتوقف بعد! مما لا يتجاوز ثوان معدودات.
3- منهم: انيشتاين.
4- من الأقوال القديمة عند الفلاسفة في حقيقة الزمن أنه مقدار الحركة، أو مقدار حركة الفلك.

..............................

عمره سبعون سنة، بينما سيرى أنه قد انقضى من عمر الأرض أربعة ملايين سنة (1)!.

وربما يؤيد هذا قوله سبحانه: «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ»(2) على بعض التفاسير، وكذلك «خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(3).

ومن الطريف في العرض ما ورد في بعض المكاشفات: إن إنسانين ماتا أحدهما مجرم والآخر محسن، فإن الأول مر عليه في ساعة واحدة مقدار ألف سنة، والثاني مر عليه في مقدار ألف سنة مقدار ساعة، ولا ينافي هذا ما سبقفليدقق(4).

ولعله يأتي يوم ينكشف فيه حقيقة الأمر بإذن الله سبحانه.

ص: 104


1- انظر مجلة العربي: العدد 400.
2- سورة السجدة: 5.
3- سورة المعارج: 4.
4- يتضح ذلك بمراجعة توجيهه (قدس سره) في (الآداب والسنن) لتلك الرواية الشريفة.

وإذا بوَلَدِيَ الحَسَنِ (علیه السلام) قَد أَقبَلَ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكِ

اشارة

-------------------------------------------

السلام على الأُم و...

مسألة: يستحب السلام على الأم والبنت والزوجة، كما فعله أولئك الأطهار الثلاثة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، وقد أشرنا إلى المسألة سابقاً ونضيف:

لا يقال: إن ذلك من البديهيات.

لأنه يقال: إنما صارت هذه الأمور بديهية بسبب قولهم وفعلهم وتقريرهم (علیهم السلام)، وإلاّ فالمرأة _ مثلاً _ لم تكن لها كرامة في الجاهلية، بل حتى يومنا هذا ترى بعض الجهال ينزلون المرأة إلى مرتبة الحيوان أو أدنى، كما أن الغربيين يعدون المرأة آله لترويج البضائع وترفيه الرجل، وقد رأيت أنا من يقول _ وهو يذكر شيئاً عن زوجته _: (تِكرم ... زوجتي)، كما يقول في نفس الوقت: (تِكرم كلبي) فهو يعتقد بحقارتها.

لا يقال: إن الإسلام أيضاً أهان المرأة حيث قال (علیه السلام):«ناقصات»(1) وما أشبه ذلك.

لأنه يقال: قد ذكرنا في بعض كتبنا أن الإسلام أراد أن يجعل المرأة في مكانتها الطبيعية، فلا إفراط ولا تفريط، فالمراد بالنقص الإشارة إلى الحدود

ص: 105


1- راجع تهذيب الأحكام: ج7 ص404 ب34 ح21.

..............................

التكوينية للمرأة، ونوعية وظائفها، وأنها ليست مثل الرجل، من قبيل أن السيارة الصغيرة لها أربع عجلات في قبال السيارة الكبيرة حيث لها ثمان عجلات أو أكثر، لا النقص بمعنى النقيصة كإنسان لا يد له، ولذا أكرمها الله بقوله تعالى: «لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ»(1).

وقال (علیه السلام): «فإن المرأة ريحانة»(2).

فالطائفتان من قبيل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»(3) و«إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(4) وقد تقدم الإلماع إلى مثل ذلك(5).

ص: 106


1- سورة البقرة: 228.
2- وسائل الشيعة: ج20 ص168 ب87 ح25327.
3- سورة الإسراء: 70.
4- سورة الأحزاب 72.
5- للتفصيل راجع: (فاطمة الزهراء (علیها السلام) أفضل أسوة للنساء) و(المرأة في المنظار الإسلامي) و(المرأة في المجتمع المعاصر) و(المرأة في ظل الإسلام) و(العقل يرى هذه القوانين) للإمام المؤلف (قدس سره).

يا أُمّاهُ

اشارة

-------------------------------------------

التسمية

مسألة: يستحب تسمية المسلَّم عليه بعد السلام مباشرة، كما قال (صلی الله علیه و آله): «السلام عليك يا فاطمة». وقال الإمام الحسن (علیه السلام): «السلام عليك يا أماه» إلى آخره.

بل يستحب تسمية كل من المسلِّم والمسَلَّم عليه الآخر، ولذا سمى الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) والحسنان (علیهما السلام) فاطمة (صلوات الله عليها)(1). والمراد بالاسم: الأعم من الكنية واللقب، وكما سمت فاطمة (سلام الله عليها) أولئك الأطهار (علیهم السلام).

وقد ذكر علماء النفس أن الإنسان يهش إذا ذكر اسمه في مقام التعظيم،كما يوجب ذكر اسم المحبوب الفرح للمسمي أيضاً.

وبذلك يظهر أنه لا خصوصية في السلام والجواب، بل ملاكه _ مثل الأدلة الأخرى كما هَنّأ بذكر اسم أولئك الأطهار (علیهم السلام) الرسولُ الأعظم (صلی الله علیه و آله) في قصة تلقيهم التمر، قائلا: «هنيئاً مريئاً يا حسن»(2) وهكذا _ يشمل كل مكان يناسب ذكر الاسم.

وفي أحاديث المعراج: إن الله سبحانه كرّر في خطاباته له (صلی الله علیه و آله) ذكر

ص: 107


1- جرى ذكر أدلة ومؤيدات أخرى للاستحباب سابقاً في مسألة (استحباب التلقيب) فليراجع.
2- بحار الأنوار: ج43 ص311 ب12 ح73.

..............................

(يا أحمد)(1)، وكذلك في خطاباته لبعض الأنبياء (علیهم السلام) كرر، سواء في القرآن مثل: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى»(2)و«نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ»(3) وهكذا، أو فيما روي من الأحاديث القدسية.

نعم، إذا كانت التسمية إهانة _ في بعض الأعراف الاجتماعية _ فلا يكون من المستحب، بل من المكروه، وأحياناً الحرام، كل في مورده.

خطاب الأم

مسألة: يستحب خطاب الأم بكلمة (يا أماه) أو ما شابه مما يُعدّ احتراماً لها.

ص: 108


1- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1. تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام). نقلاً عن (الجنة العاصمة)، عن (كشف اللآلي) لابن العرندس بإسناده، عن جابر الأنصاري، عن النبي (صلی الله علیه و آله) عن الله تعالى، أنه قال: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما».
2- سورة طه: 17.
3- سورة الصافات: 104.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ

اشارة

-------------------------------------------

صيغ السلام المختلفة

مسألة: قد سبق أنه يجب رد السلام، وقد سبق حكم ما لو كان المسلِّم غير بالغ، ويجوز أن يجيب بأية صيغة مثل: (عليك السلام)، و(عليكم السلام)، و(عليكم السلامات)، و(عليك السلامات)، و(عليك سلام الله)، و(عليكم سلام الله)، وكذلك إذا قدّم (السلام) على (عليك).

والظاهر أنه يكفي في كل من التسليم والرد لفظ: (السلام) فقط، ولذا قال في القرآن الحكيم: «قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ»(1)، وجعل هذا إشارة إلى أنهما سلّما بصيغة كاملة لا ظهورله، إذ هو مَجاز والمجاز خلاف الأصل.

وهل يكون من السلام الصيغ الأخرى مثل: (عليك التسليم)، أو (التسليم عليك)، أو (أنا مسلِّم)، أو يقول في الجواب: (أنا مسلِّم) أو ما أشبه ذلك؟.

لا يبعد ذلك، للإطلاقات، وكونه تحية وداخلاً في قوله سبحانه: «وَإِذَا حُيِّيتُمْبِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا»(2).

ولو لم يكن في السلام ذكر الله تعالى لا لفظاً ولا تقديراً، كما لو قال: (عليك سلام الملائكة) فهل يجب الجواب؟.

ص: 109


1- سورة هود: 69.
2- سورة النساء: 86.

..............................

لا يُعلم الوجوب.

وكذلك لا يعلم الكفاية إذا قال المجيب: (عليك سلام الملائكة).

والحاصل أنه كلما عرف ولو بالملاك المطمئن به أنه داخل في السلام والجواب أخذ به، وكلما شك فالأصل العدم.

ولربما يُسأل: لماذا قدمت فاطمة (عليها الصلاة والسلام) الخبر على المبتدأ، بينما العادة جارية على تقديم المبتدأ على الخبر مثل: (السلام عليك أيها النبي)، و(السلام علينا)، و(السلام عليكم)؟.

الجواب: لعل السبب أن تقديم (عليك) أدل على المحبوبية، كما ذكروه في علم البلاغة من أن المقام إذا كان مقام هذا أو ذاك قدّم ما كان المقام مقامه.

ولا يبعد جواز تغيير (عليك) إلى سائر الصيغ التي تفيد هذا المعنىمثل: (السلام لك)، ولذا ورد في بعض السلامات: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، ودارك دار السلام، حَيِّنا ربنا منك بالسلام»(1).

والملاك هنا أيضاً هو ما ذكرناه من الملاك الآنف وجوباً وعدماً، ولابن العم (رحمة الله) (2) رسالة سلامية(3) ذكر فيها ألف مسألة حول السلام لكنها لم تطبع حتى الآن.

ص: 110


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص345 ب36 ح6962.
2- وهو آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي (قدس سره).
3- تحت عنوان: دار السلام في فروع السلام وأحكامه.

يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي

اشارة

-------------------------------------------

مدح المؤمن وتوقيره

مسألة: يستحب مدح الطرف الآخر بالحق وتوقيره، سواء في السلام أم في أثناء الكلام، أم في سائر الموارد، ومنه الإشارة بالفعل وما أشبه، ولذا قالت (سلام الله عليها): «يا قرة عيني وثمرة فؤادي».

ووجه هذه الكلمة أن الإنسان الذي فقد شيئاً أو خاف محذوراً تأخذ عينه في النظر هنا وهناك بدون استقرار، فإذا وجده أو أَمِنَ استقرت عينه، وفاقد الولد شاردة عينه فإذا جاءه الولد استقرت، ف (قرة عيني) من القرار والاستقرار.

كما أن في بعض تعابيرهم (علیهم السلام): «ثمرة فؤادي» وكأنه بمناسبة أنَّ الشجرة كما تتزين بالثمرة كذلك يتزين الإنسان بالولد، ويمكن أن تكون المناسبة غير ذلك(1).ومن المعلوم أن المدح يوجب قوة التجمع وتماسكه سواء في المجتمع الصغير من قبيل العائلة، أم الوسط كالقبيلة، والتجمعات المهنية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو ما أشبه، أم الكبير كاهل البلد والقطر، أم الأكبر كالأمة.

لكن المدح يجب أن يكون بمقدار يطابق الواقع وأن لا يكون فيه محذور،

ص: 111


1- الثمرة امتداد للشجرة كماً وكيفاً وزمناً وكذلك الولد، كما أنها علة غائية لها في الجملة وهي بالفعل لما هو في الشجرة بالقوة.

..............................

وإلاّ فقد قال (صلی الله علیه و آله): «احثوا في وجوه المداحين التراب»(1) وذلك فيما كان تملقاً، أو ما كان من مصاديق مدح الظالم، أو ما أشبه ذلك.

وكما يستحب المدح في مورده يكره القدح _ مع المنع من النقيض حرمة أو بدونه كراهة _ فيما إذا انطبق عليه محرم أو مكروه.

إظهار المحبة للأولاد والأقرباء

مسألة: يستحب إظهار الأم المحبةلأولادها، كما في قولها (علیها السلام): «يا قرة عيني وثمرة فؤادي».

وهذا ليس خاصا ًبالأم بل كذلك حال الأب، والأولاد بالنسبة إلى الأبوين، وهكذا سائر الأقرباء، فإن إظهار المحبة نوع من الإجلال والاحترام، وهكذا حال إظهار المحبة بالنسبة إلى سائر المؤمنين.

وكما يمكن إظهار المحبة بالكلام، كذلك يمكن بالكتابة والإشارة. والفرق بين (المودة) و(المحبة) إذا اجتمعا أن (المودة) هي الظاهرة و(المحبة) هي القلبية، أما إذا افترقا فكلٌ يشمل الآخر.

ص: 112


1- بحار الأنوار: ج70 ص294 ب134 ح1.

فَقالَ: يَا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً

اشارة

-------------------------------------------

استحباب السؤال والتحقيق

استحباب السؤال والتحقيق(1)

مسألة: يستحب السؤال والاستعلام عن المجهول(2)، ومنه السؤال عن أهل الدار عما يُستجد فيه، كما سأل الحسن ثم الحسين ثم علي (عليهم الصلاة والسلام) بقولهم: «إني أشم عندكِ رائحة طيبة».

ثم لا يخفى أن السؤال ينقسم إلى الأحكام الخمسة:

فقد يكونه واجباً كما في السؤال عن الأمور الدينية الواجبة، قال تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»(3).

وقد يكون مستحباً كالسؤال عن الأمور الدينية أو الدنيوية المستحبة ذاتاً، أو الراجح الإطلاع عليها.

وقد يكون مكروهاً كما إذا كان مزعجاً في الجملة، أو مستلزماً للوقوعفي المكروه.

وقد يكون حراماً.

قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ

ص: 113


1- راجع (الفقه: العقل).
2- إذ السؤال طريق المعرفة، كما أن التفكير والتدبير طريقلها.
3- سورة النحل: 43، سورة الأنبياء: 7.

..............................

تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ»(1).

وقد يكون مباحاً كغير موارد الأحكام الأخرى(2).

لكن لا يخفى أن السؤال المحرم _ كالسؤال الواجب _ ليس محرماً بذاته وإنما يحرّم لعارض، مثل أن يكون موجباً لهدر حق، أو مستلزماً ضرراً بالغاً للسائل، أو ما أشبه ذلك، وإن قال بعض بالواجب النفسي في بعض الموارد.

أما الآية المباركة فهل هي محمولة على الحرمة أو الكراهة؟. احتمالان، وإن كان الظاهر من أخيرها أنها على نحو الإرشاد والكراهة.

أما ما ورد من أن (السؤال ذل)(3)فالمراد _ على تقدير كون المعنى المراد هو السؤال بمعنى الاستعلام(4) _ الإشارة إلى حقيقة تكوينية وهي أنزلية مرتبة السائل من حيث هو سائل من المسئول منه بما هو كذلك، إضافة إلى أن كونه ذلاً لايستلزم كراهته مطلقاً، بل يدخل الأمر في باب التزاحم، ولذا ورد في الحديث: «ما ضل من استرشد»(5)..

ص: 114


1- سورة المائدة: 101.
2- ربما يكون المقصود: السؤال عن ما لا يضر جهله ولا ينفع علمه بوجه.
3- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص375 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762، وقال علي (علیه السلام): «السؤال مذلة» _ بحار الأنوار: ج75 ص12 تتمة ب15 ح70 _.
4- إذ يحتمل كون المراد به الاستجداء، فعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال لأبي ذر: «يا أبا ذر، إياك والسؤال! فإنه ذل حاضر، وفقر تتعجله، وفيه حساب طويل يوم القيامة» _ من لا يحضره الفقيه: ج4 ص375 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762 _.
5- بحار الأنوار: ج75 ص12 تتمة ب15 ح70.

..............................

وورد: «ولا يستحيَنَّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه»(1).

ولذا قالوا: «اسأل عن أمور دينك حتى يقال: إنك مجنون»، بمعنى كثرة السؤال.

استعمال الطيب

استعمال الطيب(2)

مسألة: يستحب استعمال الطيب خصوصاً المتزايد منه، كما كانوا يجدونه فيه (صلی الله علیه و آله) وكما دل عليه حديث الكساء، حيث كان النبي (صلی الله علیه و آله) يكثر من الطيب، بالإضافة إلى ما كان له من الحسن والطيب الذاتي، ولعل استعماله الطيب مع عدم حاجته إليه بدنياً، كان بغية أن يتساقط منه في الطريق(3) كما في الأحاديث، وأن يكون أُسوة فلا يقولون إنه طيب ذاتاً، فما لي وله؟.

وقد ورد في الحديث أنه (صلی الله علیه و آله) أمر بأن يشترى بثلثي مهر الزهراء (سلام الله عليها) الطيب(4).

وفائدة الطيب لا تنحصر في الرائحة الحسنة فقط، بل له فوائد أخرى منها: إنه منشط للأعصاب، وموجب لعدم نفرة بعض عن بعض، بل موجب

ص: 115


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 82.
2- راجع (الفقه: الآداب والسنن).
3- إذ أن قسماً من الطيب المائع، وهناك قسم جامد كالطحين يذر على الملابس ونحوها مثل: الذريرة والسعوط والمسك.
4- راجع المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص352 فصل في تزويجها (علیها السلام).

..............................

للتقارب أكثر فأكثر، فإن الإنسان ينفر من الروائح الخبيثة، بينما ينتعش ويستأنس بالروائح الطيبة. إذ الإنسان مفطور على حب النظافة، و«النظافة من الإيمان»(1) في كل شيء، في الدار والأثاث والبدن والدكان واللباس وغير ذلك.

وللطيب بحوث كثيرة مذكورة في كتب الحديث والطب وغيرهما(2).

أما استعمال الروائح المنفرة وما يستلزمها كالتدخين فهو من أسوأ الأشياء، حيث يستلزم القذارة والوساخة في الإنسان وغيره، كما يستلزم تنفير الناس خصوصا ً الزوجة من الزوج المدخن وبالعكس، وكذلك يستلزم الأمراض كالسرطان والتدرن الرئوي وغيرهما.

ثم إن الروائح الكريهة مكروهة استعمالاً، إلاّ إذا سببت إيذاءً للناس فإنها عندئذ محرمة(3).

ولا يخفى أن الجوارح لها أحكام، فللأذن أحكام، وللعين أحكام، وللسان والذوق أحكام، وللمس أحكام، وأماالأنف فلم نجد له حكماً إلاّ في الحج، حيث يحرم إمساك الأنف عن الروائح الكريهة.

ومن المحتمل أن يكون من المكروه أيضاً استشمام رائحة المرأة الأجنبية، ولذا قالت (سلام الله عليها) _ في قصة ابن أم مكتوم _: «وأشم ريحه»(4)، حيث إن

ص: 116


1- مستدرك الوسائل: ج16 ص319 ب92 ح20016.
2- تطرق الإمام المؤلف (قدس سره) لذلك في العديد من كتبه ومنها: (الفقه: الآداب والسنن)، و(الفقه: الحج).
3- الإ في صورة التزاحم، ويستثنى أيضاً ما كان متعارفاً.
4- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص289 ب100 ح16740.

..............................

الكراهة في الجانبين أي: شم الرجل رائحة المرأة، وشم المرأة رائحة الرجل، أما إذا كان موضع ريبة وافتتان فلا يبعد الحرمة.

كما أن استعمال المرأة التي تخرج من البيت للطيب بحيث يشم ريحها الأجانب مكروه جداً، وقد قال بعضهم بالحرمة ولو لم يكن موضع ريبة وتلذذ وخوف افتتان.

ولا يبعد استحباب شم الأطفال رحمة ورأفة بهم كما ورد بالنسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كان يشم علياً (علیه السلام) في طفولته، وهناك بعض الروايات الأخرى بالنسبة إلى استشمامه للحسنين (عليهما الصلاة والسلام) وكذلك فاطمة (صلوات الله عليها).وأحكام الطيب في الحج واضحة.

ص: 117

كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

عدم التسرع في الحكم

مسألة: يرجح عدم التسرع في الحكم على شيء قبل استظهاره، كما في قول الحسن (علیه السلام) ثم الحسين (علیه السلام): «كأنها رائحة جدي».. وقول علي (علیه السلام): «كأنها رائحة أخي وابن عمي».

والجاهل غالباً يتسرع في إصدار أحكامه بشكل قطعي، كما نشاهد ذلك في كثير من العوام والأطفال.

بينما العاقل لا يقطع ثبوتاً، ولا يتسرع في ذكره إثباتاً، إلاّ بعد التأكد والتفحص والتثبُّت، وحتى بالنسبة إلى القطعيات العرفية فإن كثيراً منها يشك فيها لدى التأمل، فيلزم على الإنسان أن لا يقطع بها فوراً، بمعنى أن تكون له حالة من التساؤل والتردد وطرح شتى الاحتمالات، ولذا ذكروا: إن أخطاء الحواس _ من العين والأذن وغيرهما _ تصل إلى ثمانمائة قسم، ومن قرأ علم الفلسفة والفيزياء وما أشبه، ظهر لهكثرة أخطائه حتى في القطعيات(1).

وهل كانت رائحة الرسول (صلی الله علیه و آله) رائحته الذاتية المنبعثة من جسده المبارك، أو رائحة طيبة مكتسبة؟.

احتمالان.

ص: 118


1- حول الجوانب المختلفة لهذا المبحث راجع (الفقه: العقل)، و(الأصول: مبحث القطع).

..............................

فإن كانت تلك الرائحة رائحة طيبة مكتسبة دل هذا الكلام _ ونحوه مما ورد في الروايات _ على أنه (صلی الله علیه و آله) كان يستعمل عطراً خاصاً دائماً أو غالباً حتى عُرف به.

الإتيان باللقب

مسألة: قد سبق أنه يستحب الإتيان باللقب، كما في قوله (علیه السلام): «جدي رسول الله».. وكذلك في قول علي (علیه السلام): «أخي».

بحث في مؤاخاته (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام)

ثم لا يخفى أن الرسول (صلی الله علیه و آله) آخى بين أهل مكة رجالاً ونساءً، الرجال للرجال، والنساء للنساء مرة، وآخى بين المهاجرين والأنصار _ رجالاّ ونساءً كذلك _ في المدينة المنورة مرة ثانية(1) وفي كلتا المرتين اتخذ علياً (علیه السلام) أخاً لنفسه دون غيره.

أما في مكة فهو واضح(2)..

ص: 119


1- حول هذا المبحث راجع (لأول مرة في تاريخ العالم) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- لوجود المقتضى وانتفاء المانع، وأما في المدينة فلربما يتوهم أن فلسفة الإخاء فيها كانت مانعاً من اتخاذه أخاً وسبباً ليتخذ أحد الأنصار أخاً، ولذلك تصدى الإمام المؤلف (قدس سره) للإجابة عن ذلك.

..............................

وأما في المدينة _ مع أن فلسفة الإخاء فيها كانت تقتضي أن تكون بين المهاجرين ومثله من الأنصار _ فلإفادة أنه (صلی الله علیه و آله) لا يمكن أن يكون له أخ في مستواه، كما أن علياً (علیه السلام) لا يمكن أن يكون له أخ في مستواه، وإنما هما نور واحد وأحدهما أخ الآخر، وإن كان الرسول(صلی الله علیه و آله) في المرتبة الأولى وعلي (علیه السلام) في المرتبة الثانية.

ولعلّ من أسباب هذا التآخي إفادة أنه (صلی الله علیه و آله) مع علي (علیه السلام) كموسى وهارون (علیهما السلام) اعتباراً، وإن لم يكن أخاه حقيقة كما كان هارون (علیه السلام) أخاً لموسى (علیه السلام) حقيقة.

ويدل عليه حديث المنزلة المشهور بين الشيعة والسنة، حيث قال (صلی الله علیه و آله):

«يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»(1).

ص: 120


1- بحار الأنوار: ج32 ص487 ب12 ح420.

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ تَحتَ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

الإجابة على الأسئلة

مسألة: تستحب الإجابة على سؤال السائل فإنه من مصاديق (قضاء الحوائج)، وقد يكون من صغريات (إرشاد الجاهل)، و(تنبيه الغافل)، ومن مصاديق (المعروف).

وهذا أيضاً ينقسم إلى الأحكام الخمسة، كما ذكرناه في باب السؤال، على تلك الوتيرة.

ويصح أن تكون الإجابة باللفظ أو الكتابة أو الإشارة؛ لأن الكل يفيد شيئاً واحداً.

نعم قد يكون بعضها أولى من بعضها الآخر، فإن في الجواب لفظاً احتراماً لا يتحقق _ عادةً _ مثله في الإشارة.

الوضوح والتعجيل والإيجاز

ويستحب أيضاً التعجيل في الإجابة وبدون لبس أو إبهام(1) ولذا نرى أنها (علیها السلام) فور سؤال الحسنوالحسين وعلي (علیهم السلام) قالت: «نعم إن جدك تحت الكساء»، و«ها هو مع ولديك تحت الكساء».

ص: 121


1- إذ ذلك من مصاديق (الإتقان)، والتعجيل تعجيل في قضاء حوائج الإخوان.

..............................

كما يرجح أن يكون الجواب على قدر السؤال(1)، ولكن قد يكون تطويل الجواب وتفصيله مطلوباً وإن كان أكثر من حدود سؤال السائل كما أنها (عليها الصلاة والسلام) قالت: «تحت الكساء» زيادة على المسئول عنه(2) لمحبوبية التكلم مع المحبوب كما ذكره علماء البلاغة في قوله سبحانه: «هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى»(3) حيث كان تكلمه مع الله سبحانه وتعالى محبوباً لموسى (علیه السلام) مع أن في إجابته: «هِيَ عَصَايَ» كفايةٌ في مقام الجواب على سؤال الله سبحانه وتعالى.

ولكن قد يكون السبب في إطالة الجواب على سؤال الله جهة أخرى غير هذه الجهة التي ذكرها علماء البلاغة منمحبوبية إطالة الكلام مع السائل وهي:

إن موسى (علیه السلام) أراد أن يعدد الفوائد كي يستكشف أن الله سبحانه وتعالى أراد أية فائدة منها، حيث لم يكن هناك قرينة مقامية تعين المراد والهدف المقصود، كما إذا قال إنسان لشخص آخر بيده كتاب: ما هذا الذي بيدك؟.

فيقول: كتاب فيه مختلف العلوم الأدبية من النحو والصرف والبلاغة والاشتقاق ونحوها، وهو بهذا يحاول أن يطلع السائل على محتويات الكتاب حتى إذا كان مراده النحو أو الصرف أو البلاغة أو الاشتقاق اشتراه أو استعاره أو ما أشبه ذلك، وإذا كان مراده اللغة أو التفسير مثلاً أو ما أشبه ذلك لم يأخذه.

ص: 122


1- وذلك من (الحكمة).
2- إذ ظاهر السؤال كان عن أصل وجوده (صلی الله علیه و آله).
3- سورة طه: 18.

..............................

إلى غير ذلك من الفوائد المحتملة في إطالة السؤال أو الجواب، ولربما كان في إجابتها (علیها السلام) «تحت الكساء» جهة أخرى غير صرف محبوبية الكلام مع المحبوب فليدقق.

ثم إن الأفضل في الجواب _ كما أشير إليه _ أن يكون حسب مقتضى الحال من الإجمال أو التفصيل، كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجاب: «نحن منماء» في القصة المشهورة (1)؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) لم يرد أن يبين الخصوصيات، وقد صدق (صلی الله علیه و آله) لأن الإنسان مخلوق من الماء.

وقد لا يمكن التفصيل؛ لأن ذهن الطرف المقابل لا يستوعبه أو يتحمله كما قال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(2)، فإن الإنسان لا يستوعب حقيقة الروح كما أنه لا يستوعب حقيقة النفس والعقل وكثير من الصفات النفسية كالغضب والحزن والصفات الأخرى، بل إن الإنسان يجهل حتى حقيقة نفسه(3)، وقد يكون من حِكَم ذلك: أن يعترف الإنسان بعجزه فيعدل عن غروره وكبريائه.

ولذا نحن نعيش سبعين أو ثمانين أو مائة وربما مائة وخمسين سنة، وبعد ذلك كله لا نعرف كثيراً من حقائقنا الداخلية إلاّ على نحو مجمل جداً، فما هو المخ؟ وما هو الكبد؟ وما هي الرئة؟ إلى غير ذلك.

ص: 123


1- شرح نهج البلاغة: ج14 ص114 الفصل الثالث قصة غزوة بدر.
2- سورة الإسراء: 85.
3- كتب أحد علماء الغرب كتاباً أسماه: (الإنسان ذلك المجهول).

..............................

نعم، أنبياء الله والمعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) يعرفون الشيء الكثير الكثير الذي لا نعرف منه حتى القليل القليل، وهذا بحث طويل مذكور في كتب علم (النفس الإنسانية) وفي كتب سائر العلوم المرتبطة بحقائق الأشياء.

وقد خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) الذي هو في أعلى مراتب العلم قائلاً: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»(1).

وأخيراً فإنه يمكن الاسترشاد بهذه الرواية _ حديث الكساء _ ونظائرها لضرورة اهتمام الأبوين والأمهات بما يسأله الطفل، وعدم إهمال الإجابة على أسئلته _ كما يفعله كثير من الآباء والأمهات _ ..

وقد ثبت علمياً ما لذلك من التأثير الكبير على شخصية الطفل وفكره وسلوكه الحالي والمستقبلي.

ص: 124


1- سورة طه: 114.

فَأَقبَلَ الحَسَنُ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

التوجه نحو العظيم

مسألة: يستحب الإقبال والتوجه نحو العظيم، والوفود إليه، كما صنع الحسن والحسين وعلي وفاطمة (علیهم السلام).

فإن العظيم يُزار ولا يزور(1) إلا إذا كان مأموراً بالزيارة بنفسه، كما في رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كان يزور لتبليغ رسالات الله أو للحسبة، وكذلك كان علي (عليه الصلاة والسلام) يدور في الأسواق للحسبة فيأمر وينهى، وقد وردت بذلك روايات متعددة.

وقد ورد في وصف رسول الله (صلی الله علیه و آله): «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مياسمه»(2)..فإن كثيراً من الأطباء في العصور السابقة وفي عصرنا الحاضر في بعض البلاد كالهند والصين يدورون في الأسواق والأزقة وعلى البيوت والمحلات وغيرها لأجل معالجة المرضى.

ص: 125


1- أي من شأنه _ إكراماً لمكانته _ أن يزوره الناس، وليس من الصحيح أن يتعامل الآخرون معه كمعاملتهم للأفراد العاديين، ولكن ذلك ليس بمعنى أن يتكبر على الناس فإن التكبر مذموم، بل هذا الكلام للإرشاد إلى ضرورة إكرامه وتعظيمه وعدم التوقع منه كما يتوقع من الآخرين.
2- نهج البلاغة، الخطب: رقم108 ومن خطبة له (علیه السلام) وهي من خطب الملاحم. وفيه: أحمى مواسمه.

..............................

وكذلك كان الأنبياء والرسل (علیهم السلام) يدورون في أماكن مختلفة، وكان عيسى (علیه السلام) ينتقل من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل قبيلة قبيلة ويذهب إلى هنا وهناك.

ومن المعلوم أن الوفود على العظيم والاستماع له سواء كانت عظمته معنوية أو علمية أو نحو ذلك يوجب استفادة الإنسان من معنوياته وعلومه وما أشبه، ولذا ورد: من مشى إلى العالم خطوتين، وجلس عنده لحظتين، وتعلم منه مسألتين، بنى الله له جنتين، كل جنة أكبر من الدنيا مرتين.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الله سبحانه وتعالى لا منتهى لرحمته، كما أن الإنسان الذي يدخل الجنة لا منتهى لوجوده هناك زماناً، ولهذا فأمثال هذهالأحاديث ليست مستبعدة إطلاقاً.

وعدم تصديق بعض الناس لمثل هذه الأمور أو زعمهم أنها غير مجدية لا يغير هذه الحقيقة، فإن مَثل الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كمثل الدنيا بالنسبة إلى الطفل الذي في الرحم، فإذا قيل للطفل الذي في الرحم: إن الدنيا بهذه السعة وهذه الألوان والكيفيات والخصوصيات والمزايا لا يكاد يصدق، بل ليس بمقدوره أن (يتصور) ذلك فضلاً عن (التصديق)؛ لأن الإنسان إنما يصدق ما ألفه واستأنس به، ولذا ورد أن الإنسان يرى في الآخرة: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

ثم إن استحباب الإقبال نحو العظيم _ بالإضافة إلى أنه عقلي _ مشمول لمثل

ص: 126


1- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص17 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) 4968.

..............................

قوله (عليه الصلاة والسلام): «ولم يوقر صغيركم كبيركم»(1) كما قال العكس مشموللقوله (عليه الصلاة والسلام): «ولم يرحم كبيركم صغيركم»(2)، إلى غير ذلك من الأدلة في الجانبين.

ثم إن الإقبال نحو المعصوم (علیه السلام) والوفود إليه وزيارته هو أجلى مصاديق هذا الأمر الراجح، ولا فرق في ذلك بين حالة حياتهم (علیهم السلام) وحالة مماتهم (علیهم السلام) .. وقد وردت روايات متواترة في فضل زيارة قبورهم (علیهم السلام)(3) خاصة زيارة قبر الإمام الحسين (علیه السلام) فراجع.

ص: 127


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص333 ب39 ح14216.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص333 ب39 ح14216.
3- راجع الكافي: ج4 ص579 باب فضل الزيارات وثوابها.

وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ يا رَسُولَ اللهِ

اشارة

-------------------------------------------

بحث في معنى السلام و...

مسألة: يستحب سلام الوارد على المورود عليه، وكذلك يستحب سلام الصغير على الكبير.

ولا يخفى أن السلام بمعنى أن يكون الطرف سالماً عن الآفات والعاهات وغيرها، وقد كان السلام تحية الأنبياء (علیهم السلام) كما يدل على ذلك قوله سبحانه: «قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ»(1)..

كما أن البسملة كانت معهودة متداولة لدى الأنبياء السابقين (علیهم السلام) أيضاً، كما ورد في قصة الهدهد: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(2) وذلك لأن الأحكام بالنسبة إلى الأنبياء (علیهم السلام) واحدة(3) إلاّ فيبعض الخصوصيات، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «إني بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق»(4).

أما السلام بالنسبة إلى الأموات، فالظاهر أنه إما تحية محضة منسلخة عن معناها اللغوي، وإما بمعنى: السلامة في الآخرة؛ لأن السلامة في الآخرة أيضاً

ص: 128


1- سورة هود: 69.
2- سورة النمل: 30.
3- ولذلك جرى استصحاب الشرائع السابقة فيما لم يثبت فيه النسخ، بل كان ذلك للإطلاقات راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص187 ب6 ح12701.

..............................

مطلوبة للإنسان، بل المطلوب الواقعي له ذلك إذا قيس إلى الدنيا، إذ الدنيا مؤقتة وزائلة، بينما الآخرة باقية ودائمة، ولذا قال (علیه السلام) كما يحكيه القرآن الحكيم: «وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا»(1)، فسلامة الولادة تمتد إلى ساعة الموت، كما أن سلامة الموت تمتد إلى الحشر، وسلامة الحشر تمتد إلى الأبد، لوضوح أن الطفل إذا ولد ناقصاً كما إذا كان أعمى أو أعرج أو أصم أو أبكم أو ما أشبه ذلك بقي كذلك إلى حين موته على الأغلب الأغلب، وكذلك الأمر إذا كان الإنسان مبتلى حال موته فإنه يبقىكذلك _ في الجملة _. كما ورد: «إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»(2).

نعم، قد تنال الإنسان الشفاعة وهو في القبر أو في يوم القيامة.

لا يقال: لا يحتاج الأمر إلى السلامة يوم يبعث حياً؛ لأن الإنسان الذي يسلم في القبر يسلم في الحشر.

لأنه يقال: ليس كذلك لأنه ورد في روايات متعددة: إن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران، وإما يلهى عن بعضهم إلى الحشر، فمن الممكن أن يكون الإنسان سالماً حين الموت _ فترة القبر _ ولا يكون سالما في الآخرة، كما لو جرى له امتحان إلهي هناك، بسبب أنه كان يعيش في الفترة بين الرسل وما أشبه ذلك وخرج من الامتحان فاشلاً فإنه سيعاقب حينئذ.

وهذا بحث كلامي ذكرناه استطراداً.

ص: 129


1- سورة مريم: 33.
2- بحار الأنوار: ج6 ص214 ب8 ضمن ح2.

أَتَأذَنُ لي أَن أَدخُلَ مَعَكَ

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان

مسألة: يستحب وقد يجب الاستئذان من العظيم للحضور بمحضره، كما استأذنوا (علیهم السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله).

فإنه مستحب إذا كان في مكان مباح ونحوه..

وواجب إذا كان المكان خاصاً بالعظيم على نحو آكد، فإنه يجب الاستئذان حين الدخول في مكان الغير فكيف بما إذا كان عظيماً.

وربما يقال:

مِن جمع الواجب والمستحب كالصلاة الواجبة في المسجد مما يوجب التأكد، كما ذكروا في الواجبات المصادفة للمستحبات، وبالعكس.

والمراد بالعظيم _ هاهنا _: هو العظيم معنوياً، أما العظيم المادي كالأكثر مالاً أو سلاحاً أو عشيرة فليس له هذا الحكم، قال سبحانه: «وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى»(1).

نعم، إذا صدق عليه الكريم يشمله قوله (عليه الصلاة والسلام): «أكرموا كريمكل قوم»(2).

ص: 130


1- سورة سبأ: 37.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص395 ب57 ح9780.

..............................

ولو استأذن فأذن له فلا إشكال.

وإن استأذن فلم يأذن له، فإذا كان المحل مباحاً جاز الدخول وإن كان لايبعد الكراهة حينئذ؛ لأنه نوع هتك له، لكن الهتك لا يصل إلى حد الحرمة.

أما إذا كان في المحل الخاص به حَرُم.

ولو استأذن فلم يعلم أنه أذن له أم لم يأذن؟

لم يجز الدخول للأصل.

ص: 131

تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

حق السبق

حق السبق(1)

مسألة: يستحب استئذان المتأخر من المتقدم في الاستفادة مما يعد حقاً للسابق، ومن صغرياته ما ورد ها هنا حيث استأذنوا (علیهم السلام) من الرسول (صلی الله علیه و آله) في الدخول معه تحت الكساء.

وحق السبق قد تجب مراعاته، وقد تستحب، كل في موضعه.

فإذا تحقق الحق عرفاً وجب المراعاة لما في جملة من الروايات من أنه: «لا يبطل حق مسلم»(2)، مثل حق التحجير وحق المسجد والمدرسة والسوق وما أشبه، مما ذكر في كتاب إحياء الموات(3).

وإلاّ (4) كان من الأفضل المراعاة؛ لأنهمن الأدب والأخلاق، فيشمله دليلهما، مثل حق الكلام وحق السؤال عن العالم وحق السوم وما أشبه ذلك.

ولو شك أنه من الحق الواجب أو المستحب كان الأصل عدم الوجوب؛ لأنهما شريكان في الرجحان، فالزائد يحتاج إلى الدليل، وإلاّ فالأصل البراءة.

ص: 132


1- راجع لهذا الفصل (الفقه: القواعد الفقهية).
2- بحار الأنوار: ج101 ص397 ب3 ح44.
3- موسوعة (الفقه): ج80 كتاب إحياء الموات.
4- بأن لم يكن حقاً عرفاً بحيث يتحقق معه موضوع الروايات وإن أطلق عليه الحق لغة كحق الأسبق في السؤال وشبهه.

..............................

ولو لم يعلم أيهما السابق، فالمحكَّم القرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل.

نعم، في الأمور المالية يجب الرجوع إلى (قاعدة العدل) المستفادة من مستفيض الروايات على ما ذكره (الجواهر)(1)، وفي كتاب الخمس، وكذلك ذكرناه في موارد متعددة من (الفقه) وخصوصاً في كتاب (القواعد الفقهية).

ولا يخفى أنه في بعض الموارد لا تجري القرعة ولا قاعدة الماليات، وإنما تجري قاعدة ثانوية، كما إذا لم يعلم الوالي أيهما قتل والده، حيث لا يجوز له قتلهما ولا قتل أحدهما على سبيل البدل؛ لأن الحدود تدرأبالشبهات.

وكما إذا لم يعلم الزوج أيتهما زوجته، أو زوجها، لم يجز له ولها الاقتراع، ولا تجري قاعدة العدل بالتقسيم بينهما، إلى غير ذلك من الموارد التي ذُكرت في الفقه.

لا يقال: التحاكم إلى القرعة تحكيم لغير العاقل على العاقل، وليس ذلك من عمل العاقل؟.

لأنه يقال: بل هو تحكيم للعقلاء، فإن العقلاء جعلوا القرعة حاكماً عند التحير _ في مواردها _.

لا يقال: يعود المحذور إذ العقلاء حكّموا غير العاقل؟.

لأنه يقال: حيث لم يجد العقلاء أفضل من هذا الطريق لحل المنازعات منحوه الاعتبار، فهو من ترجيح الراجح على المرجوح(2).

ص: 133


1- تأليف العلامة الشيخ محمد حسن النجفي (رحمة الله) المتوفي سنة 1266ه.
2- إضافة إلى ما ورد من أن الله تعالى يجعل الرشد أو الخير في الاقتراع، وإن بدى في بادي النظر غير ذلك، فكثيراً ما يكون الخير عكس ما يتصوره الإنسان خيراً.. «ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبه الأمور» _ دعاء الافتتاح _ قال تعالى: «عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» _ سورة البقرة: 216 _ . وأما قوله عزوجل «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» _ سورة الصافات: 141 _ فلقد كان ذلك خيراً ليونس (علیه السلام) امتحاناً وترفيعاً للمكانة وللدرجات ولغير ذلك: كالاعتبار مثلاً.

..............................

وعلى أي حال فحيث كان الحق خاصاً بالرسول (صلی الله علیه و آله) لم يستأذن ثالثهم (علیهم السلام) منهما، بل من الرسول (صلی الله علیه و آله) وحده، وهكذا بالنسبة إلى رابعهم وخامسهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 134

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي

اشارة

-------------------------------------------

شمول الولد للسبط

مسألة: ولد البنت يعتبر (ولداً).. كما قال (صلی الله علیه و آله): «يا ولدي».

وهذا واضح لأن من يخلق من ماء الإنسان ابتداءً أو استدامة يكون ولداً، ويكون المخلوق منه والداً، سواء بالنسبة إلى الوالدين أو إلى الأجداد والجدات.

نعم بعض الأحكام الشرعية خاصة بمن يولد من الرجل لا المرأة، كباب الخمس والزكاة، كما ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية.

ولذا ذكر جمع من الفقهاء _ وليس بمستبعد _ بالنسبة إلى ولد الزنا أنه ولد عقلاً وعرفاً ولغةً بل وشرعاً أيضاً، وإنما المخصص بعض الأحكام كالإرث، وإن كان صاحب المستند (قدس سره)(1) وسّع في التخصيص كما لا يخفى لمن راجعه.والشاعر(2) الذي قال:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد

استعمل نوعاً من المغالطة؛ لأنه لا منافاة بين أن يكون ولد الرجل الأبعد

ص: 135


1- العلامة الفقيه المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي (رحمة الله) المتوفى سنة 1245ه.
2- الشاعر مجهول، وقيل هو لعمر بن الخطاب على ما ذكره جامع الشواهد فصل الباء بعده النون، وأما الكرماني فقد نسبه إلى الفرزدق في شرحه لشواهد شرح الكافية.

..............................

وولده أيضاً، إذ الولد مخلوق من ماء الرجل والمرأة معاً فهو ولدلهما.

وكما يشمله الولد كذلك يشمله الذرية، كما في قصة عيسى (علیه السلام) حيث ألحقه الله بنوح (علیه السلام) من جهة أمه مريم (علیها السلام).

أما شمول الخاصة والعامة والحامة ونحو ذلك أولاد البنت فلا غبار عليه إطلاقاً.

وكما أن ولد البنت ولد، كذلك بنت الولد، ولذا فقوله سبحانه: «وَوَالِدٍ وَمَاوَلَدَ»(1) يشمل كليهما كما يشمل الوالدين أيضاً.

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يقول لكل من الحسن والحسين (علیهما السلام): «يا ولدي»، إذ في ذلك إحقاق للحق ورد لمن زعم أن ولد البنت ليس ولداً، وذكر لإحدى فضائلهم (علیهم السلام).

ص: 136


1- سورة البلد: 3.

وَيا صَاحِبَ حَوضِي

اشارة

-------------------------------------------

إظهار العطف للسبط

مسألة: يستحب إظهار الجدّ عطفه ومحبته وعنايته بأسباطه، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا ولدي ويا صاحب حوضي».

بحث عن حوض الكوثر

ولا يخفى أنه لا منافاة بين أن يكون الحوض للرسول (صلی الله علیه و آله) في المحشر، وبين أن يكون علي (علیه السلام) هو الساقي، وبين أن يكون الحسن (علیه السلام) صاحبه، إذ قد تكون للشيء الواحد إضافات ونسب متعددة، وقد تختلف الأحكام بالاعتبارات المختلفة، فالله سبحانه وتعالى منح الحوض للرسول (صلی الله علیه و آله) وجعل الساقي العام عليه علياً (عليه الصلاة والسلام) وجعل الحسن (علیه السلام) صاحبه، بمعنى اختصاصه به بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) طولياً، كما أن العبد مملوك لسيده في طول ملكية اللهتعالى له.

كما أن الظاهر أنهم جميعاً (عليهم الصلاة والسلام) يسقون الناس من ذلك الحوض.

لا يقال: لما خص الحوض بالذكر في الأحاديث الشريفة _ عادة _ مع أن الإنسان بحاجة إلى الطعام أيضاً في يوم القيامة إذ أنه خمسون ألف سنة؟.

ص: 137

..............................

لأنه يقال: إن حاجة الإنسان إلى الماء أشد _ يومئذ _ منه إلى الطعام، وذلك نظراً إلى العطش الشديد الذي يستولي على الناس من الحرّ وغيره، ولذلك تركزت العناية على ذكره.

ولقد ورد في بعض الأحاديث: إن أرض المحشر تتحول _ بإذن الله _ إلى شيء من المأكول كالخبز يأكل منه الناس، كما أنه لا يستبعد أن يكون هناك مختلف أنواع الفواكه والمآكل والمشارب تحت ظل العرش للمؤمنين.

وكذلك من المحتمل أن يكون هناك الزواج أيضاً لوضوح أن الإنسان يحتاج حسب طبيعته إلى الزوج والزوجة طيلة خمسين ألف سنة، ويؤيده ما ورد من وجود الحور العين في القبر وفي الجنة، فتأمل.

وربما يقال: إن القبر إذا كانكذلك فالمحشر يكون بطريق أولى، وإن كانت هذه تقريبات لا يمكن القول بها إلاّ بعد ورود الدليل بالنسبة إلى الزواج.

وكذلك لم ترد الإشارة إلى كثير من شؤون الإنسان في المحشر، وربما تكون قد ذكرت في الروايات ولم تصل إلينا (1).

توقير الطفل وذكر فضائله

مسألة: يستحب احترام الطفل وتوقيره وذكر فضائله، لطريقيته ومقدميته، وقال تعالى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»(2).

ص: 138


1- حول هذه المباحث راجع (كفاية الموحدين) وكتاب (حق اليقين).
2- سورة الضحى: 11، واطلاقه يشمل النعمة للشخص ولغيره.

..............................

فإن إعطاء الشخصية للطفل يوجد حالة معنوية في نفسه تنتهي بالنتيجة _ في كثير من الأحيان _ إلى تكوين شخصية أكثر تكاملية للطفل، كما ثبت ذلك في علم النفس، فإن ذكر فضائل الطفل يكرسها في نفسه، كما أن الإيحاءوالإغراء له مقام في نفس المغرى _ بالفتح _ سواء كان الإغراء بالباطل أم بالحق، بالحرام أم بالحلال، بالكبر أم بالدناءة، وإن كان في طرف الفضائل أشد تأثيراً؛ لأن الإغراء بالفضائل فطري أيضاً، فتساعد الفضيلة الفطرة، وليس كذلك في جانب الرذائل إذ الرذائل ليست فطرية.

وما نجد في بعض الآيات من ذم الإنسان مثل قوله سبحانه: «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(1) وقوله سبحانه: «إِنَّ الإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً»(2) وما أشبه ذلك، فالظاهر إنها بالأمور العارضة (3)، وإنما الأصل قوله سبحانه: «مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ»(4) وقوله سبحانه: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»(5) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» (6) وما أشبه ذلك.

ص: 139


1- سورة الأحزاب: 72.
2- سورة المعارج: 19.
3- ومقام الفعل وضمن دائرة الإدارة كما سبق فليراجع.
4- سورة الملك: 3.
5- سورة الروم:30.
6- سورة الإسراء: 70.

..............................

... والكبير أيضاً

وهذا ليس خاصاً بالطفل وإنما الكبير كذلك مع اختلافهما في أن الطفل أكثر تأثيراً بالإيحاء والإغراء، بينما الكبير ليس كذلك، ولهذا قال الشاعر(1):

إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت *** وليس ينفعك التقويم للحطب

مع أنا نرى أن كثيراً من الكبار أيضاً يرضخون للحق أو للباطل إذا حُرِّضوا عليهما، أو أُغروا بهما، ولذا نجد كثيراً من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخلوا الإسلام طوعاً مع أنهم كانوا في مرحلة الكهولة أو بعدها، وهكذا العكس في بعض الموارد الأخرى.

فالاحترام والإهانة والتربية والتعلم والتشجيع وما أشبه ذلك _ مما يرد إلى النفس من الخارج _ كلها مؤثرة في النفس، من غير فرق بين أن يكون كل ذلك عن طريق السمع أو البصر أو اللمس أو ما أشبه ذلك، بل وحتى الفكر، ولذا كان اللازم التفكر بالخير دون الشر.ولذا ورد: «فكر ساعة خير من عبادة سنة»(2)، أو «ستين سنة»(3)، أو «سبعين سنة».

وقال الله سبحانه وتعالى قبل ذلك: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا»(4)، فإن كان الإنسان بمفرده وتمكن من

ص: 140


1- هو سابق بن عبد الله البربري الرقي، فقيه ومحدث من أهل خراسان سكن الرقة، توفي سنة 132ه.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص105 ب17 ح1551.
3- روى الطريحي في (مجمع البحرين) في لفظ (فكر): «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة».
4- سورة سبأ: 46.

..............................

التفكر السليم فليتفكر هو بنفسه، وإلاّ فليكونوا اثنين أو أكثر ويتفكروا، وقوله سبحانه: ƒأَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرَادَى‚(1) الظاهر فيه أن مثنى من باب المثال إذ لا خصوصية للعدد، فمن الممكن أن يكونوا ثلاثة وأربعة وخمسة وأكثر.

ذكر فضائل المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يستحب بيان فضائل الإمام الحسن (علیه السلام)، كما يستحب ذكرفضائل أهل البيت (علیهم السلام) بصورة عامة، للروايات المتكاثرة، وقد جاء في الحديث:

«أحيوا أمرنا، إن من أحيى أمرنا لا يموت قلبه يوم تموت فيه القلوب، رحم الله من أحيا أمرنا»(2).

إضافة إلى ما لذكر فضائلهم (علیهم السلام) من التأثير الإيجابي التربوي على الناس.

ص: 141


1- سورة سبأ: 46.
2- راجع وسائل الشيعة: ج12 ص20 ب10 ح15532.

قَد أَذِنتُ لَكَ

اشارة

-------------------------------------------

الاستجابة للطفل ولغير المسلم

مسألة: يستحب الإجابة للطفل وقضاء حاجته.

فإنه يستحب _ كما سبق _ إجابة المؤمن، كبيراً كان أم صغيراً، رجلاً أم امرأة.

بل قد ألمعنا في بعض المباحث السابقة إلى أن هذا جار في غير المسلم أيضاً، وحتى في المحارب _ إلاّ ما خرج بالدليل _ كما سمح علي (علیه السلام) لأهل صفين أن يأخذوا حاجتهم من ماء الفرات(1)، وأمر الحسين (علیه السلام) أصحابه بسقي الذين جاءوا لقتاله وقتلوه أخيراً (2).

ولا فرق بين أن تكون الحاجة معنوية أو مادية، فقد يسأل عن مسألة شرعية أو عقلية أو عرفية أو عادية أو غيرها، وقد يطلب حاجة مثل أن يطلبماءً أو خبزاً أو غير ذلك، فإن هذه الموارد تندرج في الأدلة العامة.

نعم، إذا كانت الحاجة أو الإجابة محرمة لم يجز؛ لأن الإقتضائي مقدم على اللا إقتضائي كما ذكره الفقهاء.

أما إذا كانت مستحبة أو واجبة أو مباحة جاز بالمعنى الأعم، حيث إن

ص: 142


1- راجع وقعة صفين: ص161 استيلاء أهل العراق على الماء ثم سماحهم به لأهل الشام.
2- راجع بحار الأنوار: ج44 ص376 ب37.

..............................

قضاء الحاجة الواجبة واجب، والمستحبة مستحب(1)، والمباحة مستحب أيضاً باعتبار أنه قضاء الحاجة.

ولو طلب حاجة لا نعلم إنها من أيهما، فإن أمكن حمل الفعل على الصحة جاز، بل استحب، وإلاّ لم يجز.

نعم، إذا دار الأمر بين الواجب والحرام ولم يمكن الفحص أو فحص ولم يعرف الواقع ولم يكن هناك ما يشخص الموضوع ولو بإحدى الأصول كان من موارد التخيير.

وفي المورد المشكوك إنما يكون حراماً في ما يجب فيه الاحتياط مثل: الدماء والفروج والأموال الكثيرة،وأما إذا جرى أصل الحلية كان جائزاً(2).

رجحان التأكيد

مسألة: التأكيد يرجح في مقام الإجابة على السؤال، ويتأكد في المسائل الهامة، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله) للحسنين (علیهما السلام): «قد أذنت لك»، بل يرجح مطلق التأكيد إذا كان فيه الفائدة. فإنه لم تكن حاجة إلى أن يقول (صلی الله علیه و آله): «قد» و«لك»، إذ «أذنتُ» معناها الإذن له، لكنه تأكيد ونوع احترام للطرف،مثل قوله سبحانه: «رَحْمَةٍ مِنْهُ»(3)..

ص: 143


1- لجهتين: كونه مقدمة لمستحب، وانطباق عنوان قضاء الحاجة عليه.
2- حول هذا المبحث راجع (الأصول: مبحث الأصول العملية).
3- سورة النساء: 175.

..............................

إذ من الواضح أن الرحمة منه قطعاً كما في الآية الكريمة، وكذلك في الدعاء حينما نقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي مِنْ عِنْدِكَ»(1)، إذ لا حاجة إلى (من عندك) وكذلك: «وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ، وَانْشُرْ عَلَيَّمِنْ رَحْمَتِكَ»(2).

وهكذا في قوله سبحانه: «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(3) وهذا كثير.

ومن المعلوم أنه في المورد الحسن يكون احتراماً، كما أنه في المورد السيئ يسبب مزيداً من الإهانة، كما إذا خاطب مدمناً للخمر: أنت أنت الخمّار، أو ما أشبه ذلك، وهذا باب من أبواب البلاغة.

ومن المعلوم أن التأكيد لا ينحصر في هاتين الفائدتين فقط، بل له فوائد كثيرة لا مجال لذكرها.

ص: 144


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص324-325 باب التعقيب ح951.
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص324-325 باب التعقيب ح951.
3- سورة المجادلة: 22.

فَدَخَلَ مَعَهُ تَحتَ الكِساءِ،

اشارة

-------------------------------------------

اجتماع الأقرباء

مسألة: يستحب اجتماع الأقرباء، ويؤيده روايات اجتماعات المؤمنين، وكان من مصاديق ذلك دخولهم (علیهم السلام) تحت الكساء(1)، فإن جمع الأجسام في غير المكروه والحرام من أهم ما يستلزم صحة الجسم وسلامة النفس.

أما النفس: فلأنه مما يوجب السرور والارتياح، ومن المعلوم أن النفس تؤثر في البدن صحةً وسقماً.

وأما البدن: فلأنه ثبت في علم الطب أن الله تعالى جعل البدن من المعقمات _ في غير المرضى _ ولذا كان سؤر المؤمن شفاءً، وقد قرأت في بعض المطبوعات الرسمية: إن السؤر من أهم ما يزيل قسماً من الأمراض، والمراد به أعم من سؤر الفم أو سائر البدن كالاستحمام في الأنهار والأحواض وغيرها.ولعلّ من أسباب توفر الصحة في الأزمنة السابقة هو تطبيق هذه التعاليم في الأطعمة والأشربة والحمامات وغيرها، لكن بشرط مراعاة النظافة الكاملة.

وعلى أي حال فتجمّع الأبوين والأولاد يوجب الحبّ المتزايد بين الأب وبنيه، وبين الزوجين، وبين الإخوة.

ص: 145


1- من الواضح أن الفعل الواحد قد تنطبق عليه عناوين متعددة وقد يكون مجمعاً لجهات رجحان متشابهة أو مختلفة (وجوباً واستحباباً).

..............................

ولربما لم تكن زينب وأم كلثوم (علیهما السلام) قد ولدتا بعدُ وإلاّ لأمكن أن يكون لهما نصيب أيضاً في هذه الفضيلة، فتأمل، وإن احتمل عدم اشتراكهما نظراً للاختصاص.

ثم إنه لم يذكر في هذا الحديث ولا في شيء من الروايات التي رأيتها أنهم _ عندما اجتمعوا تحت الكساء عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) _ اجتمعوا في جانب واحد على تقدير أو في الجانبين؟.

كما أنه لم يُذكر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد اجتماعهم عنده بقي نائماً _ أي مستلقياً _ وهم كذلك معه؟.أم أنهم جميعاً جلسوا معه، أو بالاختلاف، فكان الوالدان إلى جانب الرسول (صلی الله علیه و آله) والولدانفي حِجر الرسول (صلی الله علیه و آله) مثلاً، نعم في آخر الحديث قال علي (علیه السلام): «ما لجلوسنا هذا».

ص: 146

فَما كانَت إِلاَّ سَاعَةً وَإِذا بِوَلَدِيَ الحُسَينِ (علیه السلام) قَدْ أَقبَلَ

اشارة

-------------------------------------------

استيفاء البيان

مسألة: يستحب استيفاء البيان وإكمال الإفادة، ومنه: إتمام ذكر الحديث أو القصة وعدم تركها ناقصة، كما فعلت الزهراء (سلام الله عليها) حيث ذكرت الحديث من أوله إلى آخره؛ فإن ذلك من الإتقان، إضافةً إلى ما له من الرجحان بلحاظ الفائدة، وقد سبق نظيره.

نعم، قد يقتضي بعض الأمور الخارجية أو الداخلية عدم ذكر القصة بكاملها، كما نجد ذلك في القصص القرآنية، حيث إن الله سبحانه وتعالى وزع القصة في أماكن متعددة، وذكر في كل مرة جانباً من جوانب القصة.

مثلاً: في قصة النبي موسى (علیه السلام) والسحرة ذكر مرة: «كَأَنَّهَا جَانٌّ» (1) وذكر مرة: «حَيَّةٌ»(2) وأخرى «ثُعْبَانٌ»(3) وما أشبه ذلك باعتبار أحوال الحيةالمختلفة، فالجان حية صغيرة سريعة الحركة كأنها الجن، بينما ليست الحيّة كذلك، والثعبان يقال بلحاظ (ابتلاعها).

وهكذا في سائر قصص القرآن الحكيم، كقصة إبراهيم (علیه السلام) ونوح (علیه السلام) وعيسى (علیه السلام) وغيرهم.

ص: 147


1- سورة النمل: 10، سورة القصص: 31.
2- سورة طه: 20.
3- سورة الأعراف: 107، سورة الشعراء: 32.

..............................

وقد يكون عدم البيان الكامل بسبب مانع خارجي، كما أن علياً (عليه الصلاة والسلام) لم يكمل الخطبة الشقشقية، حيث دفع إليه شخص كتاباً فجعل ينظر فيه، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لو اطردت في خطبتك من حيث أفضيت. فقال (علیه السلام): «هيهات إنها شقشقة هدرت ثم قرت»(1).

لا يقال: لقد استنفد الإمام (علیه السلام) غرضه من الخطبة، فلم يكن هناك مجال لطلب ابن عباس منه كي يواصل الحديث؛ لأنه (علیه السلام) تحدث عن عهد الحكام الثلاثة الذين كانوا قبله.

لأنه يقال: هذا الكلام غير صحيح لإمكان أن يكون الإمام (علیه السلام)بصدد بيان الأحداث الأخرى، أو الملاحم التي سوف تقع بعده، أو تفصيل ما ذكره.

أما لماذا سكت الإمام (علیه السلام) ؟

فلأنه رأى فوت الفرصة بسبب قطع خطبته، إذ لابد أن يكون للخطبة موالاة ومتابعة، فإذا فاتت الموالاة كان الاستمرار في الكلام خلاف البلاغة.

ولربما كانت جهة أخرى لذلك، والله العالم.

ص: 148


1- نهج البلاغة، الخطب: رقم3 ومن خطبة له (علیه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ. فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي.

اشارة

-------------------------------------------

تفضيل الولد الأصغر

مسألة: يستحب تقديم الأصغر على الأكبر، وتفضيله في إبراز المحبة، في الجملة، ولعله لذلك أضافت (علیها السلام) للحسين (علیه السلام) كلمة: «يا ولدي».

وذلك لحاجة الأصغر إلى المزيد من العطف والحنان، ولعلّ في كلامها (عليها الصلاة والسلام) تنبيها على ذلك.

نعم، يجب أن لا يؤدي ذلك إلى أن يشعر الأكبر بأنه موضع ازدراء وقلة اهتمام، وأن الوالد أو الوالدة يعطيه أقل من حقه؛ لأن ذلك ربما أوجب عداءً وحسداً.

وقد قال بعض: إن تفضيل يعقوب (علیه السلام) ولده يوسف (علیه السلام) على سائر إخوته كان السبب في إثارة عدائهم وحسدهم، قال سبحانه: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (علیهم السلام) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍمُبِينٍ (علیهم السلام) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ»(1).

ص: 149


1- سورة يوسف: 7 _ 9.

..............................

لكن هذا الكلام غير تام إن أريد به الاستشكال عليه (علیه السلام)؛ لأن يعقوب (علیه السلام) كان يفضّل يوسف (علیه السلام) لفضله وكونه نبياً وما أشبه ذلك، وهذا وإن أثار العداء إلاّ أنه لابدّ منه من باب الأهم والمهم، كما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينوه بفضل علي (عليه الصلاة والسلام) مما أثار عداء وحسد جملة من الأصحاب، كما هو معروف في التاريخ.

والحاصل أن هنالك حالتين:

الحالة الأولى: أن لا يفعل الإنسان شيئاً اعتباطاً يثير الحسد والكراهية.

والحالة الثانية: أن يقوم الإنسان ببيان الحق الواجب عليه بيانه وإن أثار الحسد، ولذا قال سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1)، وكان الأنبياء محسودين وكذلك الأئمة الطاهرون (عليهم الصلاة والسلام).

ص: 150


1- سورة النساء:54.

فَقالَ لِي: يا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟.

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ وَأَخاكَ تَحتَ الكِساءِ.

الإعلام بالواقع

مسألة: يستحب الإخبار عن الواقع فيما كان مفيداً، وإخبار السائل عن الأكثر من حدود سؤاله إذا كان فيه فائدة، وفي ذلك قضاء للحاجة، كما قالت (سلام الله عليها) للحسين (علیه السلام): «إن جدك وأخاك تحت الكساء»، وقالت لعلي (علیه السلام): «ها هو مع ولديك تحت الكساء».

وهذا وإن كان بالنسبة إلى المقارن، إلاّ أنه يتعدى إلى السابق واللاحق بالملاك وبالإطلاقات..

لكن من الواضح أن ذلك(1) فيما إذا لم يكن ضاراً أو محتمل الضرر، كإخبار الغاصب بملك المغصوب(2)، وإخبار مريدالشر بمن يريد به الشر، وما أشبه ذلك. ففي المورد الضار حرام قطعاً، أما في مورد احتمال الضرر فالظاهر الحرمة أيضاً؛ لأن احتماله كقطعه، نعم إذا ظهر الخلاف كان من التجري وقد التزمنا في (الأصول) بأنه قبيح فاعلاً لا فعلاً.

ص: 151


1- أي استحباب الإخبار.
2- أي بملك يريد غصبه، فيرشد الغاصب إلى ملك الناس ليغصبه.

..............................

كما أن الإخبار عن الواجب والمستحب والمكروه يلحقه حكمها، كإخبار المستفتي عن الواجب والمستحب بالفتوى كفاية ًأو عيناً في صورة الانحصار؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، إلى غير ذلك. ومنه يعلم حال الاستفتاء عن المكروه، وقد ذكر تفصيله في بحث وجوب التعليم ومقدمة الواجب وغيرهما.

ثم لو أخبر المستخبر المريد إيقاع الشر بمال أو عرض أو نفس، فالضمان تابع لإقوائية السبب أو المباشر كما ذكر في الفقه، وقد احتملنا _ في بابه _ أنه لو تساويا كان الضمان عليهما كمن يدفع السيارة إلى جاهل بالقيادة فيصطدم بإنسان فيقتله، حيث إن المحتمل أنه عليهما لا على السائق فقط، فتأمل(1).ولا يخفى أن قولها (عليها الصلاة والسلام): «وأخاك» من زيادة الكلام لمزيد الفائدة وإلاّ فقد كان السؤال عن الجد فقط.

ومن المحتمل أن الحسن (عليه الصلاة والسلام) أيضاً كانت له رائحة طيبة، فكانت الرائحتان ممتزجتين، وهذا غير بعيد؛ لأن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كان دأبهم استعمال العطر كما يفهم من متواتر الروايات، فإن الطيب _ بالإضافة إلى رائحته الزكية _ يقوي الأعصاب ويشرح الصدر، ولهذا ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام): «الطيب من أخلاق الأنبياء»(2)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما طابت رائحة عبد إلا زاد عقله»(3).

ص: 152


1- راجع (الفقه: كتاب الضمان).
2- الكافي: ج6 ص510 باب الطيب ح1.
3- دعائم الإسلام: ج2 ص165 ف4 ح593.

فَدَنَا الحُسَينُ (علیه السلام) نحوَ الكِساءِ،

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ، السَّلامُ عَلَيكَ يا مَنِ اختارَهُ اللهُ،

تكرار السلام

مسألة: يستحب تكرار السلام خاصة على العظيم، كما قال الحسين (علیه السلام):

«السلام عليك يا جداه، السلام عليك ... ».. وكما ورد في الزيارات: «السلام عليك يا .. السلام عليك يا .. السلام عليك يا .. ».

فإن تكرار السلام يوجب تأكيد التحية وتشديد أواصر الصداقة، ولذا نشاهد تكرره في الزيارات ونحوها مثل: «السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله»، وما أشبه ذلك.

وإنما لم يسلّم الحسين (علیه السلام) على الحسن (علیه السلام) _ بعد السلام على جدّه (صلی الله علیه و آله) _ لأنه نوع تأدب بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) ولذا لم يأتِ بصيغة التثنية أو الجمع أيضاً كما هو واضح في باب الآداب، فإنه إذا كان كبير في المجلس وجاء إنسان خصّص السلام بذلك الكبير، فإذا شرك معه الصغير أو جمعهما في صيغة واحدة لم يكن بتلك المرتبة من الاحترام للكبير، ولذا يكون الإقتداء بهم (عليهم الصلاة والسلام) حتى في مثل هذه الخصوصية.

ص: 153

..............................

ولعل وجه تقديمه (عليه الصلاة والسلام) «جداه» على «من اختاره الله» باعتبار أن كونه «جداً» سابقاً على كونه «ممن اختاره الله سبحانه وتعالى»؛ لأن اختيار الله وقع على الجد لا أن الجد وقع على من اختاره الله، وليس مرادنا التقدم الزماني بل الرتبي، فإن كل واحد من كلمة قبل وكلمة بعد وكلمة مع وما أفاد معنى إحدى هذه الثلاثة قد يكون باعتبار الزمان، وقد يكون باعتبار المكان، وقد يكون باعتبار المنزلة..

وقوله (صلی الله علیه و آله) لعلي (عليه الصلاة والسلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»(1) ليس المراد به بعد مماتي لا نبي، بل بعد نبوتي لا نبي سواء في حياتي أم مماتي.

ص: 154


1- الأمالي للطوسي: ص253 المجلس9 ح453. الحديث مما أجمعت الأئمة والحفاظ والأعلام من الفريقين على صحته من جميع الوجوه وتوثيق سنده ورجاله كما في صحيح مسلم: ج7 ص120 باب من فضائل علي (علیه السلام)، ونص الحديث: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

أَتَأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُما تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

التفنن والتنوع في الكلام

لعل الوجه في قوله: «معكما» دون «معك» أنه (علیه السلام) لو قال: «معك» كان إهانة للحسن (علیه السلام) فقال: «معكما»، ففرق بين «السلام عليكما» وبين «معكما» كما يعرفه أهل البلاغة.

وأما الاستئذان فكان منه (صلی الله علیه و آله) فقط حيث إن حق السبق له، والحسن (عليه الصلاة والسلام) وإن دخل تحت الكساء لكنه كان وارداً على صاحب الحق لا أن حق السبق شمله حتى يتوقف _ من هذه الجهة _ الإذن عليه أيضاً(1).

وربما يحتمل أن يكون الاختلاف في ضمير المفرد والتثنية باعتبار التفنن والتنويع في الكلام، حيث إن من فنون الكلام أن يكون مختلفاً حتى لا يمل السامع نتيجة لوحدة الكيفية، كما قالوا في باب الالتفات كقوله سبحانه: «وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِتُرْجَعُونَ»(2)، فإن التفنن لا فرق فيه بين الغيبة والحضور والتكلم، وبين سائر أضراب التفنن.

وهكذا يقال في جملة من آيات القرآن حيث اختلاف العبارات _ وذلك على فرض الالتزام بوحدة المؤدى في بعضها _ فقد ذكر بعض الأدباء:

ص: 155


1- هذا كله بالنظر إلى الظواهر _ كما هو واضح _ لا بلحاظ مقام الولاية وشبهها ولذا ذكر: (من هذه الجهة).
2- سورة يس: 22.

..............................

إن الله سبحانه وتعالى كما خلق الكون متفنناً فيه من الجهات المختلفة في الألوان والأطعمة والأذواق والأشكال والأحجام وغير ذلك، كذلك جعل الإنسان بحيث يتطلب التفنن والتنوع في كل شيء.

قالوا: وهذا هو وجه _ أو من وجوه _ التفنن في العبادة، مثلاً: الصلاة فيها تكبيرة وحمد وسورة وركوع وسجود وقيام وقعود وتشهد وتسليم وما أشبه، وركعاتها اثنتان وثلاثة وأربعة وواحدة وأكثر كما في بعض الصلوات المذكورة في المستحبات، إلى غير ذلك.

وكذلك الحال في الحج والاعتكاف والوضوء والغسل وما أشبه ذلك مما ذكر في مبحث فلسفة الأحكام، وقد أشرنا إلى بعض ذلك في كتاب (الفقه: الآدابوالسنن)، وكتاب: (في ظل الإسلام) وغيرهما.

ص: 156

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ

اشارة

-------------------------------------------

إفراد الضمير وجمعه

لا يخفى أن المجيء بصيغة المفرد حيث قال: «وعليك السلام» ولم يقل: «وعليكم السلام» _ مع أنه جائز بل مستحب كما يستفاد من بعض الروايات _ إنما هو لإفادة الوحدوية في هذا المقام، حتى أن الملائكة الذين يسلم عليهم في صيغة الجمع يأتون في مرحلة ثانوية، وقد ذكر علماء البلاغة أن كلمة (إنني) و(أنا) في بعض المقامات أدل على العظمة من كلمة (نحن) حيث إن (أنا) يدل على التفرد، وأنه لا أحد معه «إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي»(1)، بينما قوله (نحن) يدل على أن معه آخر(2) ولذا قالوا: (نحن) في بعض المقامات أكثر تواضعاً من (أنا).

ثم إنه يقال: (عليك) و (عليكم) مع أن (على) للضرر غالباً، لبيان أنه يغمره السلام؛ لأن السلام المنتهى إليهكأنه يغمره من الرأس إلى القدم، ولذا ورد في القرآن الحكيم: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(3) وإلا فالمراد انتهاء السلام إليه، ولذا قلنا في الفقه: إنه يصح (السلام لك) وأنه يجب الجواب أيضاً، وفي بعض الأدعية بالنسبة إلى الله: (وإليك السلام).

ص: 157


1- سورة طه: 14.
2- ولذا قال البعض: إن قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» _ سورة الحجر: 9 _ كان بلحاظ الملائكة أيضاً.
3- سورة هود: 73.

يا وَلَدِي وَيا شافِع أُمَّتِي

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بالشفاعة

مسألة: يجب الاعتقاد بالشفاعة، ولا يخفى أنها من ضروري العقل قبل أن تكون من ضروري الشرع، وهي من الفطريات ومما تسالمت عليها الملل، والاختلاف إنما هو في المصاديق والخصوصيات.

وهي عبارة عن شفع شيء بشيء ليتمكنا من الوصول إلى نتيجة مطلوبة، كما أن الإنسان يساعد الحمّال في حمله، أو السيارة لتتحرك الماكنة، أو ما أشبه ذلك، ولقد قامت عليها الأدلة الأربعة، ويدلّ على كونها من ضرورياتالشرع الآيات والروايات المتواترة.

ومن أنكر الضروري فإن رجع إنكاره إلى تكذيب الرسول (صلی الله علیه و آله) كان كافراً، وإن لم يرجع إلى تكذيب الرسول (صلی الله علیه و آله) كان غير مرتد، على ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره)(1) وغيره في مبحثه، وقد ذكرنا حكم الارتداد في (الفقه)

ص: 158


1- الشيخ آقا رضا ابن الشيخ محمد الهادي الهمداني النجفي، ولد في همدان سنة 1250ه وقرأ مقدماته فيها ثم هاجر إلى النجف الأشرف وهو شاب وأقام فيها حتى نال مرتبة عالية من العلم وأصبح من المدرسين في عصره. درس على الشيخ الأنصاري (رحمة الله) في النجف، وعلى الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (قدس سره) في النجف وسامراء، وكان من خيرة تلاميذه. ترك كتباً عدة أهمها: (مصباح الفقيه) وهو شرح لكتاب الشرائع في عدة أجزاء. وحاشية على رسائل الشيخ الأنصاري. وحاشية على المكاسب، لم تتم. ورسالة في اللباس المشكوك. وحاشية على (الرياض) غير كاملة. وكتاب البيع مما حضره على الميرزا الشيرازي (قدس سره).. وأجوبة مسائل مختلفة. والرسالة العملية. مرض آخر أيامه بمرض الصدر وأقام في سامراء لطيب هوائها، ثم توفي فيها يوم الأحد 28 صفر سنة 1322ه، دفن في رواق الإمامين العسكريين (علیهما السلام) وقبره مقابل قبر الطاهرة النقية حكيمة خاتون.

..............................

وذكرنا شروطه هناك، فراجع.

وكما يجب الاعتقاد بالشفاعة، يجب _ من باب إرشاد الجاهل وهداية الغافل _ على العالم بيانها للناس وإلفاتهم إليها.

الثناء بالحق

مسألة: يستحب الثناء بالحق والجهر بفضائل الآخرين، خصوصاً إذا كانت نافعة مستلزمة للحثّ نحو المكارم.

ولذا قال (صلی الله علیه و آله) للحسن (علیه السلام): «صاحب حوضي»، وللحسين (علیه السلام): «شافع أمتي»، وكما قال الحسين (علیه السلام): «يا من اختاره الله».

ولا يخفى أن كل المعصومين (علیهم السلام) شركاء في جميع الفضائل والمناقب كما يستفاد من مجموعة من الروايات، وإن تجلت بعضها في بعضهم(1)بمقتضى تنوع

ص: 159


1- كالصبر في الإمام الحسن (علیه السلام)، والشجاعة في الإمام الحسين (علیه السلام)، والعبادة في الإمام السجاد (علیه السلام)، والعلم في الصادقين (علیهما السلام)، وإن كان المتأمل يستطيع أن يستكشف من ومضات حياة كل واحد منهم كل تلك الصفات فيرى في الإمام علي (علیه السلام) القمة في الصبر والشجاعة والعبادة والعلم وهكذا وهلم جرا.

..............................

أدوارهم واختلاف ظروفهم ومسؤولياتهم حتى بدى بعض الصفات ألصق ببعضهم من بعض، وأضحى بعضهم مظهراً لبعضها في الدنيا والآخرة.

ولذا كان علي (علیه السلام) صاحب الحوض، وكلهم (علیهم السلام) واقفون على الحوض، وكلهم (علیهم السلام) شفعاء، إلى غير ذلك.

وهذه الخصيصة إما في الكيفية أو في الكمية أو في الجهة أو في غيرها، وذلك كما أن هناك علاقة بين بعض الأشياء وبعضها الآخر في الخلقة تكويناً، فالدواء الفلاني للصفراء، والدواء الآخر للسوداء، والنار توجب الحرارة، والثلج يبرد، وهكذا.

وأولياء الله سبحانه كذلك، حيث إن كل إمام (علیه السلام) سبب ووسيلة لقضاء حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، كما يظهر من الروايات، وإن كان الكل لكل الحوائج اقتضاءً وفعلية في الجملة.

وهل أن الترابط والعلائق بين سلسلة المقتضيات والأسباب والشرائط و...، وبين مقابلاتها، سواءً في الماديات أوالمعنويات كان ذاتياً بسبب خصوصية في ذا وذاك، أم أنه بالجعل، نظراً لتعلق إرادته تعالى بذلك، فكان من الممكن جعل الثلج والنار بالعكس في التأثير، وهكذا وهلم جرا؟.

احتمالان.

بل احتمالات(1).

ولا شك أن الله سبحانه قادر على ما يتصور من الممكنات إلا أن الكلام في

ص: 160


1- منها: التوليد أو الإعداد أو التوافي.

..............................

الكيفية الخارجية (1) والتي هي خارجة عن حدود علمنا.

الشفاعة للناس

مسألة: تستحب الشفاعة للناس إذا لم يكن هناك محذور.

وإنما يفهم من «شافع أمتي» استحباب الشفاعة للناس _ بالإضافة إلى كونه كشف الكرب وقضاء الحاجة _ لأن أهل البيت (علیهم السلام) لا يتصفون بصفةإلاّ كانت حسنة مما يدل على ذلك، لفهم العرف الملازمة ولأدلة التأسي.

ولا يخفى أن الشفاعة _ كما أشرنا إليها _ عبارة عن شفع شيء بشيء لنيل درجة أو قضاء حاجة، وذلك فيما كان المشفوع له أهلاً للشفاعة، وكانت للشفيع إمكانية ذلك، مثل مساعدة الحمال على حمل ثقله، فالحمال أهل للحمل والمساعد أهل للمساعدة، وهذا أمر عقلائي في الماديات والمعنويات.

لا يقال: فما معنى قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعَى»(2)؟.

لأنه يقال: تأهيل النفس يعتبر نوعاً من السعي، فإن السعي قد يكون بالواسطة وقد يكون مباشرةً، كما أن العلم الذي «هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»(3) كما في الرواية، يعدّ نتيجة تأهيل الإنسان نفسه لذلك، وكما

ص: 161


1- ومن مصاديقها ذاتية أو عرضية العلاقة بين العلة والمعلول، ودخول ما سبق في المتن في دائرة الممكن أو أنه مندرج في دائرة المحال.
2- سورة النجم: 39.
3- بحار الأنوار : ج67 ص140 ب52 ح5 (بيان). وفي البحار: ج1 ص225 ب7 ح17عن الصادق (علیه السلام) قال لعنوان البصري: «يا أبا عبد الله، ليس العلم بالتعلم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه».

..............................

في قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْله مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَيَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(1).

لا يقال: قد نرى في الدين ما ليس من السعي كالإرث؟.

لأنه يقال: إنه من سعي المورِّث، مثل الضيافة حيث إنها من سعي المُضيف، وكما في «المرء يحفظ في ولده»(2)، والذي عليه بناء العقلاء وسيرتهم، وهكذا يمكن القول هنا بأنه من سعي الشافع، فإذا لم تكن له الشفاعة لم يكن للشافع ما سعى.

أما احتمال أنه تخصيص فغير ظاهر؛ لأن سياق الكلام يأبى عن التخصيص(3).

ثم إن شفاعتهم (علیهم السلام) بعضها بسبب أن الإفاضة من الله إلى المشفوع له بواسطتهم، وبعضها بسبب مكانتهم وجاههم الذي حصلوه بالطاعة والعبادة، والتفصيل في كتب الكلام.

ص: 162


1- سورة الطلاق: 2 _ 3.
2- المناقب: ج2 ص206 فصل في ظلامة أهل البيت (علیهم السلام).
3- حول هذا المبحث راجع (الفقه: الاقتصاد) للإمام المؤلف (قدس سره).

قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ مَعَهُما تَحتَ الكِساء،

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

فَأَقبَلَ عِندَ ذلِكَ أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ (علیه السلام)

استحباب التكنية

مسألة: تستحب التكنية، كما يستحب احترام الناس بذكر كُناهم، كما قالت (سلام الله عليها): «أبو الحسن».

والمراد بقولها (سلام الله عليها): «فأقبل عند ذلك أبو الحسن» إما الزمان، أو الوقت، أو ما أشبه ذلك(1) أي _ على إحدى المعاني _ حين ذلك الوقت الذي اجتمع فيه الثلاثة تحت الكساء جاء علي (عليه الصلاة والسلام).

و(عند) وشبهه قد يكون زمانياً، وقد يكون مكانياً، وقد يكون معنوياً، مثل قوله سبحانه: «وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(2) إذ أن الله سبحانه وتعالى لا زمان له ولامكان، ولا إشكال من حيث اختلاف السياق الذي هو خلاف الظاهر فيما إذا كانت هناك قرينة، كما في مثل قوله سبحانه: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ»(3) حيث إن (عند) في الإنسان يكون على الأقسام الثلاثة،

ص: 163


1- قد يكون المراد من أحدهما: الفترة والمقطع الزمني _ بشكل أعم _ ومن الآخر الفورية والإتصال _ بشكل أخص _ و(ما أشبه) يكون إشارة للحالة بالتجرد عن معنى الزمن.
2- سورة القصص: 60، سورة الشورى: 36.
3- سورة النحل: 96.

..............................

بينما عند الله سبحانه وتعالى ليس إلاّ معنوياً، فهو مثل قوله سبحانه: «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ»(1) فإن الله سبحانه وتعالى لا نفس له وإنما جيء بكلمة (نفس) للسياق فقط.

والفرق بين (أقبل) و(جاء) و(أتى):

أن الأول دال على الإتيان مع نوع من الإقبال(2) بخلاف (جاء).

كما أن (أتى) فيه إشراب معنى الإعطاء، ولذا ورد: «وَآتَوُا الزَّكَاةَ»(3) بينما (جاء) و(أقبل) ليس فيهما هذا الإشراب، فإن اللغة العربية _ كما تقدمت الإشارة لذلك _ في كل كلمة منهاخصوصية لا توجد في الكلمة الأخرى، ولذا أنكر جمع من الأدباء (المرادفة) فيها إلاّ بالمعنى الأعم الأوسع، أي في الجملة(4).

ص: 164


1- سورة المائدة: 116.
2- والمواجهة والمقابلة.
3- سورة البقرة: 43 و83 و110 و277، وسور أخرى.
4- راجع (الأصول: مباحث الألفاظ).

وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا بِنتَ رَسُولِ اللهِ.

اشارة

-------------------------------------------

استحباب السلام على الزوجة

مسألة: يستحب السلام على الزوجة واحترامها، كما قال علي (علیه السلام): «يا بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)»، وقد يجب احترامها، كل في مورده.

ولا يخفى أن سيرة الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) والحسن (علیه السلام) والحسين (علیه السلام) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) كانت قائمة على احترام المرأة احتراماً لائقاً بكرامتها ومكانتها الإنسانية والإسلامية.

حيث لخصها علي (علیه السلام) في قوله: «فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(1) إشارة إلى نوع عاطفيتها.

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّدَرَجَةٌ»(2) وهذا تلخيص جيد جميل لكل شؤون المرأة.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا المرتبطة بالمرأة (3): إن الغرب وبعض المسلمين في العصر الحاضر كلاهما أساؤوا إلى المرأة، حيث إن الغرب أفرط فيها، وبعض

ص: 165


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص251 ب67 ح16623.
2- سورة البقرة: 228.
3- انظر كتاب (المرأة في المنظار الإسلامي) و(المرأة والمجتمع المعاصر) و(المراة في ظل الإسلام) وغيرها، للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

المسلمين فرّطوا فيها إلاّ من عصمه الله من المسلمين(1).

ولا يؤخذ على المسلمين ما ورد في الآية الكريمة: «وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ»(2)؛ لأنه:

أولا: الضرب إنما هو بقصد الردع، لا الإيلام والإيذاء، وهو مقيّد بالحد الأدنى، ولذا قالوا: إن الضرب بالسواك وما أشبه.

وثانياً: إنه أقل سوءً من الفضيحة التي تنتهي إلى المحاكم وإفشاء الأمربين الأقرباء والجيران ونحوهم، فهو من باب الأهم والمهم الذي هو عقلي قبل أن يكون شرعياً.

وثالثاً: إن الضرب من باب النهي عن المنكر فيما لو اضطر إلى الضرب، ولذا جاز عكسه(3) إذا فعل الزوج المنكر وتوقف النهي على الضرب، كما ذكرناه في (الفقه) في هذا المبحث، وإن أشكل عليه صاحب الجواهر (قدس سره)، لكن الإشكال لا وجه له بعد إطلاقات الأدلة(4).

ص: 166


1- انظر كتاب (الغرب يتغير) و(لماذا تأخر المسلمون؟) للمؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 34.
3- أي بأن يُضرَب الزوج.
4- حول هذه المباحث راجع: (الفقه: النكاح)، و(الفقه: الطلاق)، و(المرأة المسلمة وأحكامها)، و(فاطمة الزهراء (علیها السلام) أفضل أسوة للنساء) للإمام المؤلف(قدس سره).

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَبَا الحَسَن وَيا أَمِيرَ المُؤمِنينَ

اشارة

-------------------------------------------

احترام الزوج

مسألة: يستحب وقد يجب _ كل في مورده _ احترام الزوج، ومن مصاديق ذلك ذكر كنيته ولقبه.

فإنه كما يجب على الرجل احترام المرأة، كذلك يجب على المرأة احترام الزوج، حيث إن بينهما علاقة الصداقة والمحبة والمودة إلى جوار علاقة الزوجية، بل قبلها قبليةً معنويةً لا زمانيةً كما هو واضح.

فإن الحياة الزوجية في منظار الإسلام تعني(1): تعاون شخصين لبناء حياة مشتركة سعيدة، روحياً وجسمياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتربوياً وغير ذلك لهما أولاً، ثم للأولاد ثانياً، وللأسرة ثالثاً.

وقد شاهدنا في أيام الإسلام في العراق _ قبل الحرب العالمية الثانية حيث لم تطبق بعدُ القوانين الغربيةهناك _ كيف كانت البيوت الزوجية عامرة بأفضل المعاني الإنسانية والعاطفية والعقلية والتربوية وغير ذلك.

وقد كان الطلاق نادراً جداً، حتى أن أحد العلماء المتخصصين في إجراء العقود في كربلاء المقدسة قال لي: إنه طيلة أيام السنة لم يطلّق إلاّ طلاقاً واحداً،

ص: 167


1- يراجع (الفقه: الآداب والسنن) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب العشرة من (بحار الأنوار)، و(وسائل الشيعة) وغيرها.

..............................

بينما كان عدد سكان كربلاء زهاء مائة ألف إنسان، وكان المتخصصون في إيقاع صيغة عقد النكاح _ وربما الطلاق نادراً _ ثلاثة أشخاص فقط، بينما نجد الآن وبعد شيوع المادية في بلاد الإسلام، وقوع الطلاق في مختلف البلاد بكثرة مذهلة، بالإضافة إلى المنازعات والمخاصمات المنزلية الكثيرة جداً.

ولهذا البحث مقام آخر(1) وإنما أردنا أن نلمع إليه إلماعاً، وأن المسلمين ماذا خسروا حين تركوا الإسلام، وذلك ما أشار الله سبحانه وتعالىإليه بقوله: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّله مَعِيشَةً ضَنْكاً»(2)، فإن الإعراض عن ذكر الله سبحانه يشمل كل الأحكام حتى المستحب والمكروه(3) والمباح، إذ كل حكم له فلسفته الدقيقة وإن لم يكن واجباً أو محرماً، ولذا ورد: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(4).

ص: 168


1- انظر كتاب (بقايا حضارة الإسلام كما رأيت)، و(المرأة في المجتمع المعاصر) و(المرأة في المنظار الإسلامي) و(العائلة) وغيرها للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة طه: 124.
3- فإن فعل المكروه وكذا ترك المستحب (فيما كان الترك مكروهاً) إعراض عن ذكر الله وقوانينه وما ذكر الله به.
4- مستدرك الوسائل: ج1 ص144 ب23 ح214.

فَقالَ: يا فاطِمَةُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ أَخي

اشارة

-------------------------------------------

التعرف على حياة المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يستحب _ وقد يجب _ تتبع حالات المعصومين (علیهم السلام) وآثارهم وخصوصيات سيرتهم وحياتهم(1)، كما يدل على ذلك جملة من الشواهد.

إن التكرار من الحسين ثم الحسن ثم علي (عليهم الصلاة والسلام): «بأني أشم عندكِ رائحة طيبة» يدل _ هو ونظائره _ علىأمرين:

الأول: تتبعهم (علیهم السلام) لكل الأحوال والخصوصيات حتى مثل خصوصية وجود رائحة طيبة في البيت.

الثاني: تتبعهم حال الرسول (صلی الله علیه و آله) بكل دقة، وأنه (صلی الله علیه و آله) أين يذهب؟ وأين ينزل؟ وماذا يفعل؟ وما أشبه، وذلك ينفع في التأسي به (صلی الله علیه و آله) وفي تذكير الآخرين بذلك، وغير ذلك.

وقد ذكر المؤرخون: إن المسلمين كانوا يتتبعون حال الرسول (صلی الله علیه و آله) لحظة

ص: 169


1- كتب الإمام المؤلف عن المعصومين (علیهم السلام) الكتب التالية: لأول مرة في تاريخ العالم، باقة عطرة في أحوال خاتم النبين (صلی الله علیه و آله)، هكذا حج رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قادة الإسلام، فضائل الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكومة الاسلامية في عهد الإمام علي (علیه السلام)، محمد (صلی الله علیه و آله) والقرآن، فاطمة الزهراء (علیها السلام) أفضل أسوة للنساء، ثورة الإمام الحسن (علیه السلام)، الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، الحسين (علیه السلام) أسوة، الحسين (علیه السلام) مصباح الهدى، جهاد الحسين (علیه السلام) ومصرعه، سلسلة من حياة المعصومين (علیهم السلام)، وغيرها.

..............................

بلحظة ودقيقةً بدقيقة، حتى إنهم لما تطرقوا لسفر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحج ذكروا عدد من أردفهم خلفه وهو (صلی الله علیه و آله) على الناقة، بل وذكروا اسم كل فرد ممن أردفهم، كما أنهم ذكروا أين نزل (صلی الله علیه و آله)، وأين صلى، وذكروا أنه (صلی الله علیه و آله) في المكان الفلاني وجدوا حية وما أشبه ذلك من الخصوصيات الدقيقة.

والحق معهم في هذا التتبع؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) حجة في كل قول وفعل وتقرير، وحركة وسكون، وكلاموسكوت، وما أشبه ذلك.

وقد ذكرنا جملة من هذه الأمور في كتبنا التي تتحدث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مثل كتاب: (ولأول مرة في تاريخ العالم)(1)..

وكتاب (باقة عطرة)(2)..

ومثل ما ذكرناه من أحواله (صلی الله علیه و آله) في كتاب: (حكومة الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام))(3).

ص: 170


1- يقع الكتاب في جزئين قياس 24×17. الجزء الأول 335 صفحة، والجزء الثاني 320 صفحة. طبع عدة مرات. منها ط مكتبة جنان ا لغدير / الكويت.
2- يقع الكتاب في 214صفحة قياس20×14. طبع مرة واحدة. دار السبيل للنشر والتوزيع، بيروت لبنان، عام 1415ه 1994م.
3- النسخة الأصلية مخطوطة وهي عند مؤسسة الوعي الإسلامي في بيروت. وقد ترجمها إلى الفارسية العلامة السيد محمد باقر الفالي وطبع الكتاب تحت عنوان: (روش حكومت بيامبر (صلی الله علیه و آله) وأمير مؤمنان (علیه السلام)) في قم المقدسة وبعشرة آلاف نسخة، لكنها صودرت بكاملها من المطبعة وأتلفت تماماً من قبل المتشددين في الحكومة الإيرانية (جهاز المخابرات). وبعد مضي عدة سنوات قامت (هيئت متوسلين به قمر بني هاشم (علیه السلام)) وفي سنة 1406ه بطبع الكتاب خفية في إيران تحت عنوان: برتوي از مكتب بيامبر وأمير مؤمنان. ويقع الكتاب في 95 صفحة قياس 20×14. ترجم إلى الأردو تحت عنوان: حكومت بيغمبر اسلام واميرالمؤمنين كي جند جهلكيان، ترجمه جنت مآب سوسائتي، ويقع في 55 صفحة قياس 20×14، طبع جنت مآب ببلشنك سينتر لكهنو الهند، سنة 1999م.

..............................

وهذا ما وصل إلينا من تاريخه (صلی الله علیه و آله)..

وأما ما لم يصل إلينا من أحواله (صلی الله علیه و آله) فهو كثير جداً، بل لعلّ ما وصل إلينا لا يبلغ حتى جزءً من مائة جزء من أحواله الكريمة؛ وذلك لأن عمر بن الخطاب منع من الرواية عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستمر هذا المنع إلى أواخر العباسيين، وإنما رُفع المنع مدة قصيرة أي في حكومة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وفي زمان عمر بن عبد العزيز، كما لا يخفى على من راجع التواريخ.

وبذلك خفي علينا الكثير من أحواله (صلی الله علیه و آله)، أما عند السنة فلمنع الحديث، وأما عند الشيعة فلإحراق الجائرين كتبهم مرةً بعد مرة، ثم التقية الشديدة، للظروف الحرجة التي مرّوا بها في قضايا مفصلة مذكورة في كتب التواريخ.

ولعل ما ورد في أحوال الإمامالمهدي (عجل الله تعالى فرجه) بأنه يأتي بدين جديد يشير إلى ذلك أيضاً، أي بالإضافة إلى إحيائه (علیه السلام) السنة وإماتته البدعة فإنه (عليه الصلاة والسلام) يظهر ما خفي من أحوال الرسول (صلی الله علیه و آله) وآبائه الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 171

وَابِنِ عَمّي رَسُولِ اللهِ؟ فَقُلتُ: نَعَم، هَا هُوَ مَعَ وَلَدَيكَ تَحتَ الكِساءِ.

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

فَأقبَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكُونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

ابن عمي

إضافة (ابن العم) لدفع توهم الغافل: إن علياً (علیه السلام) أخ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في النسب، بمعنى كونهما من أب وأم أو أحدهما، فهو يفيد أن قوله (علیه السلام): «أخي» إنما هو للإشارة إلى منتهى درجة الأخوة في الله تعالى، ولوثاقه الرابطة الروحية والمعنوية بينهما، وهذا من أكبر فضائل الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)..

وأما في القرابة فهما (علیهما السلام) أبناء عمومة.

التواجد بمحضر أولياء الله

مسألة: يستحب التواجد في محافل ومجالس أولياء الله لما له من الآثار والثمار، كما سيأتي. وربما يستدل من مجموعة سياق حديث الكساء ومن بعضالقرائن الداخلية والخارجية، أنهم (صلوات الله عليهم) _ وهم على علم بذلك من قبل _ كانوا يتتبعون الرسول (صلی الله علیه و آله) ليكونوا معه حتى تحت الكساء، نظراً للحكمة الإلهية التي اقتضت ذلك، إضافة إلى أن كونهم (علیهم السلام) بمحضره (صلی الله علیه و آله) _ بشكل عام _ سبب للاستفادة المعنوية والعلمية وغيرهما منه (صلی الله علیه و آله)، إذ من الواضح أن الرسول (صلی الله علیه و آله) _ حيث ما نزل أو ذهب _ تتنزل عليه الفيوضات الإلهية منه جل وعلا دوماً وباستمرار، ومن كان مع إنسان تتنزل عليه الفيوضات ستشمله

ص: 172

..............................

الفيوضات بدرجة ما أيضاً، كما أن من كان مع إنسان تنزل عليه اللعنة ستصيبه اللعنة ولو بترشحاتها في الجملة، حسب ما قرر في قوانين الكون مما أشرنا إليه سابقاً. نعم ليس ذلك على نحو الموجبة الكلية، بل يشترط في المحل القابلية والسنخية ولو في الجملة، مثلاً: من يقترب من المريض سيصاب بالعدوى ولو بشكل طفيف غيرمحسوس، ولذا ورد في الحديث: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»(1) إلى غير ذلك.

وورد في عكسه: «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة»(2). وقد ثبت في العلم الحديث: إن لكل شيء تموجات لا مرئية حتى التفكير مما يسبب تأثير الإنسان المقترب من صاحب الموج خيراً أو شراً بتلك الأمواج.

أما تجاور قبر الإمام الرضا (علیه السلام) مع قبر هارون، فذلك مما لا يؤثر لا من هذا الجانب ولا من ذلك الجانب، حيث لا قابلية لهارون إطلاقاً كي يستفيد من فيوضات الإمام الرضا (علیه السلام)، كما أن الإمام الرضا (علیه السلام) في أعلى درجات المناعة والعصمة حيث لا يتأثر بمجاورة هارون إطلاقاً، ولذا قال دعبل الخزاعي:

قبران في طوس خير الناس كلهم*** وقبر شرهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا*** على الزكي بقرب الرجس

من ضرر هيهات كل امرئ رهن بما كسبت*** له يداه فخذ ما شئت أو فذر(3)

ص: 173


1- وسائل الشيعة: ج12 ص49 ب 28 ح15612.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص18 ب100 ح10083.
3- الأمالي للصدوق: ص661 المجلس94 ح16.

قالَ له: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَخِي وَيا وَصِيّيِ وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بالولاية

مسألة: يجب الاعتقاد بولاية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وأنه (علیه السلام) أخ الرسول (صلی الله علیه و آله) ووصيّه وخليفته والإمام من بعده كما صرح بذلك الرسول (صلی الله علیه و آله).

ولذلك فوائد كثيرة؛ فإن الولاية لها آثار معنوية وأحكام شرعية وفوائد اجتماعية وسياسية وقيادية، لوضوح أن ولاية القادة الصالحين المستقيمين توجب إفاضة الله سبحانه وتعالى لطفه ورحمته على من يتبعهم ويتولاهم، كما أنها توجب الاستقامة في سلوك التابعين وتحضّهم على مكارم الأخلاق.

والأحكام الشرعية المأخوذة منهم أحكام إلهية واقعية توجب خير الدنيا والآخرة.

وهذه التأكيدات الكثيرة من الرسول (صلی الله علیه و آله) على ولاية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إنما تقصدتحريض الأمة في كل مناسبة على توليه والاهتداء بهديه (علیه السلام) حتى يسعدوا في دنياهم وفي آخرتهم، فالفائدة تعود إليهم بالأساس لا إليهما (صلوات الله وسلامه عليهما) «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(1)، وقد قال هو (علیه السلام) ذات يوم: «ما أحسنت إلى أحد وما أساء إليَّ أحد».

ص: 174


1- سورة سبأ: 47.

..............................

فقالوا: يا أمير المؤمنين، وكيف ذلك وقد أحسنت كثيراً إلى الناس وقد أساؤوا كثيراً إليك؟.

فقال (عليه الصلاة والسلام): «أما تقرأون قول الله سبحانه وتعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(1)»(2).

نعم، لا إشكال في أن الأتباع كلما كثروا انتفع المتبوع أكثر، لقاعدة: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهمشيء»(3)، ومن الواضح أن ذلك من سعي الإنسان القائد والذي يقتضي تفضل الله سبحانه وتعالى أيضاً.

فلا يقال: هذا ينافي قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعَى»(4).

وقوله سبحانه: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(5).

وما أشبه ذلك مما يحصر الفوائد العائدة إلى الإنسان في عمله.

ص: 175


1- سورة الإسراء: 7.
2- راجع متشابه القرآن: ج1 ص118. وفيه: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه؛ لأن الله تعالى يقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا» _ سورة فصلت: 46، سورة الجاثية: 15 _».
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص230 ب15 ح13962.
4- سورة النجم: 39.
5- سورة الطور: 21.

..............................

التركيز على الاعتقاديات

مسألة: يجب التأكيد على المسائل الاعتقادية وبيانها للناس وتذكيرهم بها، فإن التأكيد على المسائل الاعتقادية مهم جداً، إذ بالاعتقاد ينحرف الإنسان أو يستقيم.

وقد ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله) في هذه الجملة أنه (علیه السلام) أخوه ووصيه وخليفته وصاحب لوائه.

أما الأخوة فقد تقدم الإلماع إليها، وهي أخوة معنوية، لا أخوة نسبية.

والوصي حيث كان أعم من أن يكون خليفة أكده (صلی الله علیه و آله) بهذا القسم من الوصاية، أي: الوصاية في حال كون الوصي خليفة أيضاً.

وأما قوله (صلی الله علیه و آله): «صاحب لوائي»، فيحتمل أن يريد صاحب لوائه في الدنيا؛ لأنه (علیه السلام) كان حامل اللواء في أكثر حروب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويمكن أن يريد صاحب لوائه في الآخرة ما يسمى في الروايات ب «لواء الحمد»(1)، ومنالمحتمل أن يراد الأعم من المادي والمعنوي والدنيا والآخرة، وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى حيث أحاله بعض، بل من باب الكلي الذي له مصاديق كما لا يخفى(2)، فلا إشكال من هذه الجهة أيضاً.

ص: 176


1- راجع مستدرك الوسائل: ج7 ص459 ب22 ح8655. وفي بحار الأنوار: ج93 ص351 ح22.
2- استعمال اللفظ في الجامع ممكن وواقع بل كثير الوقوع، أما استعمال اللفظ في أكثر من معنى على أن يكون كل واحد منها تمام المراد فهو المحال لا غير، راجع (الأصول) للمؤلف (قدس سره).

قَد أَذِنتُ لَكَ.

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

فَدَخَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) تَحتَ الكِساءِ، ثُمَّ أَتَيتُ نَحوَ الكِساءِ وَقُلتُ: السَّلامُ عَلَيكَ يا أبَتاهُ يا رَسُولَ الله،

انتقاء الكلمات المحببة

مسألة: يستحب انتقاء الكلمات المحببة في الخطاب، ومن صغريات ذلك خطاب البنت أباها بكلمة (أبتاه) مما يستلزم إدخال السرور على قلبه وفؤاده.

وهذا ليس خاصاً بالبنت، بل يشمل كلالأقارب، وكذلك الأباعد.

فإنه من حسن الأخلاق أن يخاطب الإنسان غيره بخطاب يحبه، ولهذا ورد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يكنّي الناس حتى الأطفال، فقد رأى طفلاً وبيده عصفور ثم رآه مرة أخرى وليس بيده العصفور فقال له الرسول (صلی الله علیه و آله) _ كما يرويه الرواة _: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟»(1).

هذا بالإضافة إلى أن الرسول (صلی الله علیه و آله) أمر الزهراء (سلام الله عليها) بأن تسير على سيرتها السابقة في خطابها له، بعد ما نزلت آية: «لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً»(2)، فأطاعت الزهراء (سلام الله عليها) الرسول (صلی الله علیه و آله)

ص: 177


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص409 ب66ح9821. والنغير تصغير النغر، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار.
2- سورة النور: 63.

..............................

لكنها كانت تضم (أبتاه) إلى (رسول الله) أيضاً وتقول: «يا أبتاه يا رسول الله» كما في هذا الحديث.

وما ذكرناه من انتقاء الألفاظ المحببة إلى قلوب الناس في الخطاب، ليس خاصاً بالخطاب، بل من الأدب أن يستعمل الإنسان الألفاظ المحببة إلى الناس في كل محادثاته لهم، وكذلك في الكتابة وغيرها، فإن من التعقل _ الذي حبب إليه الشرع أيضاً _ التودد إلى الناس.

إعادة السلام

مسألة: يستحب إعادة السلام وتجديده بتغير الحالات وتنوعها، كما صنعت (علیها السلام) ذلك.

ص: 178

أَتأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان مع العلم بالإذن

مسألة: يستحب الاستئذان حتى مع العلم بوجود الإذن، وذلك للاحترام الأكثر، كما استأذنوا (علیهم السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أنهم يعلمون برضاه لا بعلم الغيب فقط بل بشهادة القرائن.

وإن من محاسن الآداب أن يراعي الإنسان حريم الآخرين ثبوتاً وإثباتاً، وذلك ينعكس على نفسه ايجابياً أيضاً.

فمن هاب الرجال تهيّبوه *** ومن وهن الرجال فلن يهابا (1)

وحتى إذا كان الطرف الآخر غير مؤدب فإن الإنسان إذا تعامل معه بأدب فإنه لابد وأن يتأدب ولو بقدر، خصوصاً في الأمور المرتبطة باللسان، فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة..

وقد قال (صلی الله علیه و آله) في حديث له: «وهل يكبّ الناس علىمناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم»(2)..

لإفادة المبالغة في أن كثيراً من أهل النار إنما يدخلون النار بسبب ألسنتهم،

ص: 179


1- ينسب هذا البيت إلى الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، كما نسبه البعض إلى محمد بن إدريس الشافعي إمام الشافعية.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص191 ب119 ح16053.

..............................

وقد قال الشاعر:

جراحات السهام لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

وقال (1):

احذر لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان

وقصة ذلك الخليفة والمعبرين اللذين عبر أحدهما بموت أقربائه قبله فعاقبة، وعبر الثاني بأنه أطول عمراً من أقربائه فأكرمه مشهورة، مع أن المؤدى كان واحداً.

ص: 180


1- يعزى إلى محمد بن إدريس الشافعي.

قالَ: وَعَليكِ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بَضعَتِي قَد أَذِنتُ لَكِ. فَدَخَلتُ تَحتَ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

البَضعة وأقسام الخطاب

الذي وجدته في الروايات أن الرسول (صلی الله علیه و آله) عبر بكلمة: (البضعة) عن شخصين: الزهراء والرضا (عليهما الصلاة والسلام) مع وضوح إن كلهم (علیهم السلام) كانوا بضعة منه (صلی الله علیه و آله) إلا أن الخطاب بذلك قد يكون لمزيد العناية.

وكأن هذه الكلمة تفيد أن المخاطب جزء من المتكلم؛ لأن بضعة الإنسان جزء منه وهي ليست على سبيل المبالغة، بل هي صادقة بالنسبة إلى الوالدين والأولاد، ويأتي في هذا المبحث أيضاً ما ذكرناه في المبحث الآنف حيث إن الرسول (صلی الله علیه و آله) ذكر أفضل كلمة محببة إلى قلب الزهراء (سلام الله عليها).

فهناك عدة أقسام من الخطاب: خطاب يوجب الإهانة والإيذاء، وذلك حرام كما قال سبحانه: «وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ»(1).وخطاب يوجب التحبيب والتحبب وذلك مستحب. وقد يكون واجباً إذا كانت هنالك ملابسات أو لوازم وملزومات وملازمات وما أشبه مما يقتضي ذلك.

وقد يكون عادياً فيكون مباحاً بلا كراهة ولا استحباب، والأفضل أن ينتقي الإنسان الأفضل حتى من المستحب؛ لأن للمستحبات مراتب.

ص: 181


1- سورة الحجرات: 11.

فَلَمَّا اكتَمَلنا جَمِيعاً تَحتَ الكِساءِ أَخَذَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِطَرَفَيِ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

اجتماع القلوب والأجسام

اجتماع القلوب والأجسام(1)

مسألة: يستحب التجلي في التجمع وإظهاره زيادة على أصل الاجتماع، ولربما لذلك أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بطرفي الكساء.

فإن الأخذ بطرفي الكساء أوجب للتجمع وأدلّ على كثرة المحبة، فإنه إذا كان التجمع ألصق بعضه ببعض كانت القلوب أقرب، ولربما كان لذلك استحباب أكل الجماعة من إناء وصحن واحد، ولعل لهذه الجهة أيضاً عبر القرآن الحكيم عن الزوجين بقوله: «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهنَّ»(2)، ولذا يستحب ذلك هنا وفي غيره بالملاك.

ولا يخفى أن تجمع القلوب وتقاربهامبعث كل خير؛ لأنه يوجب التعاون على البر والتقوى والتقدم في الحياة، وربما يجنب الإنسان كثيراً من المعاصي كالغيبة والتهمة والنميمة وغير ذلك.

ولتقارب القلوب أسباب ظاهرية وأخرى خفية وباطنية.

ص: 182


1- حول هذا المبحث بنقاطه المختلفة يراجع للمؤلف (قدس سره): (الفضيلة الإسلامية)، (الفقه: الاجتماع)، (الفقه: السياسة)، (الفقه: الدولة الإسلامية)، (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) وغيرها.
2- سورة البقرة: 187.

..............................

فمن الأسباب الظاهرية:

الاقتراب من الناس؛ لأن القرب منهم يوجب(1) محبتهم، وكثرة الالتفاف بهم توجب مزيداً من الإحساس بآلامهم وآمالهم، وتستلزم التعرف على مشاكلهم والتفاهم الأكثر معهم، ولذا نرى الحكومات الاستشارية دائماً تقترب من الناس بخلاف الحكومات الديكتاتورية حيث تنقطع عن الناس وتفرض حواجز بينها وبينهم، وهكذا الفرق بين كل استشاري وكل مستبد، أخذاً من رب العائلة إلى ما فوقها من التجمعات.

وأما الأسباب الخفية والباطنة فمنها: الخوف من الله سبحانه، قال تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَبَيْنَهُمْ»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «بنية صادقة»(3).

وفي الآية الكريمة: «بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(4).

والإسلام يأمر بالأمرين معاً، ولذا أوجب برّ الوالدين وصلة الرحم، وقد أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بعطف الكبير على الصغير واحترام الصغير الكبير.

والتجمع المتلاصق تحت الكساء من مظاهر التجمع الظاهري.

ص: 183


1- بنحو المقتضي.
2- سورة الأنفال: 63.
3- الأمالي للصدوق: ص68 المجلس16 ح2.
4- سورة الشعراء: 89، سورة الصافات: 84.

..............................

وفي كثير من الأحاديث دلالة على أنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا يجتمعون _ في مناسبات مختلفة _ حتى قبل خلق الخليقة في العرش كما ورد في الرواية(1)، وكذلك كانوا (علیهم السلام) يجتمعون في حال حياتهم وبعد مماتهم، كما اجتمعوا في مصرع الحسين (عليه الصلاة والسلام) ليلة الحادي عشر من المحرم، كما ورد في المقاتل(2).ومن المعلوم أنهم (علیهم السلام) «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(3) فلا عجب من ذلك.

ص: 184


1- راجع بحار الأنوار: ج11 ص142 ب2 ح9.
2- معالي السبطين: ج2 ص45 المجلس12.
3- سورة آل عمران: 169.

وَأَومَأَ بِيَدِهِ اليُمنى إِلىَ السَّماءِ

اشارة

-------------------------------------------

الإشارة في الأمور الهامة

مسألة: ترجح الإشارة في الأمور المهمة، ومن مصاديق ذلك: الإشارة إلى السماء حين الدعاء، وكذا إلى العظماء، ورجحانها في الأعم يستفاد من ملاك هذا الحديث، وله شواهد ومؤيدات أُخرى.

فإن في الإشارة تأكيداً للهدف الذي يتوخاه الإنسان؛ لأنه تنسيق بين العمل والقول، فمن سألك عن الطريق تقول: من الجانب الأيمن، وتشير إليه أيضاً، إلى غير ذلك من الأمور خصوصاً إذا كانت لها أهمية.

وكما تستحسن الإشارة في الأمور الحسنة تستقبح في الأمور السيئة.

وقد قال الكفار: «كَذَّابٌ أَشِرٌ»(1)، وأجابهم سبحانه بقوله: «سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ»(2).

وقال الحسين (علیه السلام): «إنيلم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً»(3).

ف (الأشر): الفرح، المتكبر، الطاغي، وربما: من يشير استهزاءً، فتأمل.

ص: 185


1- سورة القمر: 25.
2- سورة القمر: 26.
3- بحار الأنوار: ج44 ص328 ب37 ح2.

..............................

و(البطر): من بطرته النعمة وسببت له غروراً وعدم مبالاة بالحياة وبتغييراتها. و(المفسد): من يفسد المصالح ويحرفها عن طريقها الطبيعي.

و(الظالم): يشمل بإطلاقه من يظلم نفسه أو الناس أو الحيوان أو الجماد، ولذا ورد: «فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ»(1).

ثم قد تكون الإشارة لمجرد الدلالة، كما قال سبحانه: «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا»(2).

ولا يخفى أن للإيماء والإشارة أحكاماً متعددة تكليفية ووضعية مذكورة في مختلف أبواب الفقه، أخذاً من باب (الطهارة) وانتهاءً إلى باب (الديات)،كرفع اليدين إلى الآذان في حال التكبير، ورفعهما قبال الوجه في القنوت، وفي حالة الدعاء، وفي باب الحج حيث أن من أشار إلى الصيد كانت عليه كفارة، وإشارة الأخرس في النكاح والطلاق وسائر المعاملات، والإشارة حين الوصية فيمن لايتمكن من الكلام، كما في قصة أمامة حيث كانت تشير بالوصية كما ذكره المستدرك(3)، وكذلك إشارة المريض بعينه _ مثلاً _ تقوم مقام أعضائه في أداء أعمال الصلاة، و...

وكذلك بالنسبة إلى غير الأخرس والمريض، فإن الإشارة كثيراً ما تؤدي نفس مؤدى الكتابة والعبارة مما ذكر مفصلاً في مختلف الأبواب الفقهية.

ص: 186


1- نهج البلاغة، الخطب: رقم167 ومن خطبةله (علیه السلام) في أوائل خلافته.
2- سورة مريم: 29.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص126 ب41 ح16272.

..............................

أنواع الإشارة وأحكامها

مسألة: يرجح كون الإشارة بتمام الكف وشبهها، وتحرم فيما إذا تضمنت استهزاءً وشبهه، وكان من عادة الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يشير بتمام كفه؛ لأن فيه نوعاً من الاحترام، كما أنه (صلی الله علیه و آله) إذا أرادالتكلّم مع أحد كان يتوجه إليه بكل بدنه لا برأسه فقط؛ لأن التوجه بكل البدن فيه نوع من الاحترام.

والإشارة في هذه الأماكن مستحبة، وقد تكون واجبة لأسباب عارضة، كما أن الإشارة الموجبة للإيذاء أو الإهانة محرمة.

وقد كان من المحرّم على الرسول (صلی الله علیه و آله) الإشارة الخفية بعينه فيما يقصد إخفاءه عن جلسائه، كما ورد هذا الاختصاص في قصة الحكم بن العاص حيث كان الرسول (صلی الله علیه و آله) قد أمر بقتله، لكن الأصحاب لم يقتلوه عندما حضر مجلس الرسول (صلی الله علیه و آله) واعتذروا أنه لم يشر إليهم بعينه، فقال الرسول (صلی الله علیه و آله) _ حسب الرواية _: ألم تعلموا أن الإشارة بالعين محرمة عليَّ(1)؟.

وكذلك فإن من الحرام (خائنة الأعين) ومعنى خائنة الأعين: خيانتها في المحرمات، مثل النظر إلى ما يحرم النظر إليه من النساء الأجنبيات، وبالعكس في الرجال، وشبه ذلك، والفرقبين النظر وبين خائنة الأعين أن النظر ليس فيه إخفاء، بينما (خائنة الأعين) يتضمن معنى الإخفاء.

ص: 187


1- راجع شرح نهج البلاغة: ج18 ص13 ذكر بقية الخبر عن فتح مكة.

..............................

والإشارة بأقسامها السابقة (1) لا فرق فيها بين الإشارة بالعين، أو الرأس، أو اليد، أو اللسان، أو الرِجل، أو غيرها، إذ إن كلها مصاديق لتلك الكليات المحكومة بالحرمة أو الاستحباب أو الكراهة، ومن هذا الباب الهمز واللمز، ولذا قال سبحانه: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ»(2).

رفع اليد حين الدعاء

مسألة: يستحب رفع اليد إلى السماء حين الدعاء.

وقد ورد التصريح بهذا في الحديث الشريف معللاً بأن الأرزاق والمقادير الإلهية تنزل من السماء.

تقديم الميامن

مسألة: يستحب تقديم الميامن في الأعمال، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبدأ بميامنه كما في الأحاديث(3).

نعم، ربما يستظهر من حديث تقديم الرِجل اليسرى في حالة الخروج من

ص: 188


1- المحرمة والمستحبة والواجبة...
2- سورة الهمزة: 1.
3- راجع وسائل الشيعة: ج1 ص449 ب34 ح1183.

..............................

المسجد(1)، وفي حالة الدخول إلى بيت الخلاء، وكما يظهر من معتاد المتشرعة من تطهير الموضع باليد اليسرى، أن الأشياء غير الحسنة يكون الأفضل فيها استخدام اليد اليسرى، كما أنه كذلك بالنسبة إلى إعطاء الكتاب باليد اليسرى للمجرمين في الآخرة(2).

ولعل لتقديم اليمنى في مختلف الأمور(3) علة ظاهرة وعلة خفية، والله أعلمبالأحكام والمصالح.

أما الظاهرة: فربما لأن اليد اليسرى حيث كانت أقرب إلى القلب لم تحتج إلى الحركة والفعالية التي تحتاج إليها اليد اليمنى البعيدة عن القلب، حيث تحتاج إلى التحرك الأكثر كي تتوازن مع اليسرى في القوة والنشاط والحيوية.

وأما الخفية: فللتفاؤل باليمنى، فإن التفاؤل له شأن كبير في تحقيق الحياة السعيدة للفرد والأمة بخلاف التشاؤم، ولذا ورد «تفاءلوا بالخير تجدوه»، إذ التفاؤل يشجع على الاستمرار والاستقامة والمضي إلى الأمام، بينما التشاؤم والتطير وما أشبه يوجب العكس، ولذا ورد: «إذا تطيرت فامض»(4) إلى غير ذلك.

ص: 189


1- راجع مستدرك الوسائل: ج3 ص391 ب30 ح3862.
2- قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ» سورة الحاقة: 2526.
3- ومن ذلك التختم باليمين، والمصافحة بها.
4- تحف العقول: ص50 وروي عنه (صلی الله علیه و آله) في قصار هذه المعاني.

وقالَ: اللّهُمَّ

اشارة

-------------------------------------------

استحباب الدعاء في كل الأحوال

مسألة: يستحب الدعاء في كل حال، فإن الدعاء سلاح المؤمن(1) ومُخّ العبادة (2)، وقد قال سبحانه: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(3)، وقال تعالى: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ»(4).

والدعاء استمداد من خالق الكون ومن بيده كل شيء، وهو _ بالإضافة إلى أنه أمر واقعي _ يعطي الأمل والرجاء الذي يعدّ من أهم الحلول للكثير من المشكلات.

أما إنه أمر واقعي فواضح، إذ أن _ بإرادة الله تعالى _ بعض الأشياء البسيطة فقط هي بيد الإنسان وله بها العلاج، أما غالب الأسباب والعلل والشرائط القريبة والبعيدة، بل أكثر من ذلكفليس بيد الإنسان، وهو عبر الدعاء يستمد العون منه تعالى في علاجها وحلها، ومن يستكبر فهو بين جاهل ومعاند؛ لأن الإنسان حتى الطبيعي والدهري يعلم _ إذا التفت _ أن غيره يدير الكون وأنه لا حول له ولا قوة.

ص: 190


1- وسائل الشيعة: ج7 ص38 ب8 ح8654.
2- وسائل الشيعة: ج7ص27 ب2 ح8615.
3- سورة غافر: 60.
4- سورة الفرقان: 77.

..............................

وأما أن الدعاء يمنح الرجاء، فلأن الأمل بالله سبحانه ورجاء حل المشكلة وقضاء الحاجة يبعث على البهجة والسرور وراحة الأعصاب وطمأنينة النفس، وهي تؤثر في الجسد وتوجب الصحة والعافية، وكذلك تستلزم الاندفاع نحو الأمام، بعكس اليائس الذي يتخلى عن جهاده وأعماله ومشاريعه نظراً لتشاؤمه، ولذا قال سبحانه: «إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»(1).

لا يقال: إن كان القضاء قد جرى بالخير، فطلبه طلب لما هو بحكم الحاصل، وإن كان قد جرى بالشر، فالدعاء لا يؤثر.

لأنه يقال:

نقضاً: بأنه كما لا يصح أن يقال إن جرى القضاء بالسفر فلا فائدة في تهيئة الوسائل والمقدمات، وإن لم يقض به فلاأثر للتهيؤ والإعداد والاستعداد.

وحلاً: بأن الدعاء مقتضٍ لحل المشاكل وقضاء الحوائج، فإن انضمت إليه سائر الشرائط وارتفعت الموانع تحقق المعلول وحصل المقصود.

وبعبارة أخرى: إن الدعاء جزء من العلل التكوينية _ وهو جزء خفي، وهناك أجزاء جلية ظاهرة _ وقضاء الله وقدره جرى بتحقق المعلول عند تحقق علته، وبعدم تحققه عند انتفاء العلة بما هي علة _ ولو بانتفاء أحد أجزائها _ فكما قضى بتحقق الاحتراق عند وضع المرء يده في النار دون مانع، كذلك قضى بإعطاء كثير من الحاجات عند الدعاء أو الإلحاح بالدعاء لفترة تطول أو تقصر حسب تقديره جل وعلا.

ص: 191


1- سورة يوسف: 87.

إِنَّ هؤُلاءِ

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء للغير

مسألة: يستحب الدعاء للغير، كالدعاء للنفس، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «عليَّ» دعاءً ايجابياً وسلبياً.

ويتأكد استحباب الدعاء للأقرباءخاصة؛ لأنه من مصاديق صلة الرحم أيضاً، فإن الدعاء مستحب لكل مؤمن، ولذا قال (صلی الله علیه و آله) _ كما سيأتي _: «فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك عليَّ وعليهم».

بل إن الدعاء مستحب حتى للكافر لهدايته، ولذا كان (صلی الله علیه و آله) يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»(1).

إلى غير ذلك مما ذكر في كتب الدعاء، وقد ذكرنا جملة منها في كتاب (الدعاء والزيارة)(2).

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج20 ص21 ب12.
2- يقع الكتاب في 1072 صفحة قياس 24×17، انتهى سماحته (رحمة الله) من تأليفه ليلة 6رمضان المبارك 1375ه بكربلاء المقدسة. وقد تناول فيه الأدعية والصلوات والزيارات، والنوافل اليومية والصلوات المستحبة، وأعمال السنة وملحقاتها، أعمال يوم النيروز، أعمال شهر نيسان، وآداب السفر، وآداب الزيارة، وزيارة الرسول الأعظم »، وزيارة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وزيارة أئمة البقيع (علیهم السلام)، وسائر الزيارات في المدينة المنورة، وزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وأعمال مسجد الكوفة، وزيارة قبر مسلم بن عقيل وهاني بن عروة 5، وأعمال مسجد السهلة، وعمل مسجد زيد ومسجد صعصعة ومسجد الجعفي ومسجد بني كاهل ومسجد غني، وزيارة الإمام الحسين (علیه السلام)، وزيارة الناحية المقدسة، والتبرك بتربة الحسين (علیه السلام)، وزيارة الكاظمين (علیهما السلام)، وفضل مسجد براثا، وزيارة النواب الأربعة 7، وزيارة سلمان الفارسي 0، وزيارة الإمام الرضا (علیه السلام)، وزيارة السيد محمد (علیه السلام)، وزيارة الإمامين العسكريين (علیهما السلام)، وزيارة أم القائم (علیها السلام)، وزيارة السيدة حكيمة (علیها السلام)، وزيارة الإمام المهدي f، دعاء العهد، دعاء الندبة، الزيارات الجامعة الكبيرة، والزيارة بالنيابة عن الغير، وزيارة السيدة زينب الكبرى (علیها السلام)، وزيارة بيت المقدس، وزيارة الأنبياء (علیهم السلام)، وزيارة أولاد الأئمة (علیهم السلام)، وزيارة فاطمة المعصومة (علیها السلام)، وزيارة العلماء والمؤمنين، وحديث الكساء، ورقاع الحاجة، و… طبع عدة مرات منها: طبعة مؤسسة البلاغ، بيروت/لبنان، عام 1414ه/1994م. وطبعة مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت/لبنان، عام 1415ه/1995م. وطبعة مكتبة الألفين، الكويت. وطبع في إيران، باللغتين العربية والفارسية. كما أعادت طبعه مؤسسة الفكر الإسلامي، قم المقدسة، عام 1408 ه. باللغتين العربية والفارسية، بخط محمود اشرفي تبريزي، قياس 24×17، مرتين. وقد ترجمه آية الله الشيخ اختر عباس النجفي إلى اللغة الأردية تحت عنوان (مفاتيح الجنان جديد)، ويقع في 1069 صفحة قياس 24×17، وقامت بطبعه إدارة نشر معارف إسلامي لاهور باكستان، ومؤسسة الرسول الأعظم » لاهور باكستان.

..............................

ثم إن الإنسان إذا دعا لنفسه ولغيره، فالظاهر أفضلية أن يقدّم الدعاء لغيره على الدعاء لنفسه، لما ورد في دعاء المسلم لأخيه(1)، بل ما ورد من دعاء الملائكة وطلبهم المضاعفة له عندئذ: «إن الملائكة تقول لمن يدعو لغيره: ولك مثله»(2).

نعم، النبي (صلی الله علیه و آله) ربما كان يقدم الدعاء لنفسه _ كما في هذا الحديث وغيره _ ولعلّه كان لأن دعاءه لنفسه أقرب للإجابة فيقدمه تمهيداً لكي لا ترد الصفقة الواحدة المتضمنة له ولغيره.

ص: 193


1- ثواب الأعمال: ص153 ثواب دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.
2- ثواب الأعمال: ص153 ثواب دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.

..............................

التوجه إلى الله عند اجتماع الأسرة

مسألة: يستحب التوجه إلى الله عزوجل إذا اجتمع أفراد العائلة في مكان واحد، كما صنع النبي (صلی الله علیه و آله) بعدما اكتملوا (علیهم السلام) تحت الكساء، ومن الضروري تحريض الناس على ذلك. فإن تجمع الأقرباء والأرحامفي مكان واحد قد يكون مثار القال والقيل والكلام بالباطل أو اللغو. فاللازم أن يصرفه الإنسان إلى شيء من الواجب أو المستحب، كبيان المسائل والأحكام والهداية والإرشاد والدعاء وقراءة القرآن والتعليم والتعلم ونحو ذلك، ولا أقل من السكوت حتى لا يوجب ذلك ارتكاب محرم كالغيبة ونحوها. ومن المعلوم أن دوام التوجه إلى الله سبحانه وتعالى في كل الحالات يوجب قرب الإنسان إلى الله وقضاء حوائجه وسعة رزقه وارتفاع منزلته، فقد قال سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(1).

والنفس إذا تلونت بذكر الله سبحانه وتعالى كانت مهبط الملائكة، كما أن النفس إذا تلونت بلون الشياطين كانت مهبطاً للشياطين، فإن النفس مثالها مثال الإناء الذي يمكن أن يملأ خمراً أو عسلاً. وفي القرآن الحكيم إشارة إلى الأمرين معاً، حيث قال سبحانه: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ»(2)، وقال تعالى في قبال ذلك: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّاسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ»(3).

ص: 194


1- سورة البقرة: 152.
2- سورة الشعراء: 221-223.
3- سورة فصلت: 30.

أَهلُ بَيتِي،

اشارة

-------------------------------------------

معنى (أهل البيت) وإطلاقاته

مسألة: يستحب وقد يجب _ كل في مورده _ إبلاغ الناس بأن الأربعة الأطهار: علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) هم أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وخاصته وحامته، دون غيرهم.

وبين (الخاصة) التي تخص الإنسان، و(الحامة) التي بينها وبين الإنسان الحرارة والألفة، عموم من وجه.

ثم لا يخفى أن (أهل البيت) له إطلاقان(1):

أحدهما يشمل الرسول (صلی الله علیه و آله). والإطلاق الآخر لا يشمله (صلی الله علیه و آله).

وفي المقام لا يشمل الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأنه هو القائل: «أهل بيتي»، أما في آية التطهير(2) فيشملالرسول (صلی الله علیه و آله) أيضاً، وهذا متعارف عند العرب.

ومثله: الآل، فقد يقول: آل الرسول ويراد به غير الرسول، وقد يراد به حتى الرسول أيضاً، ويؤيده قوله سبحانه: «إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(3) مع وضوح أن إبراهيم وعمران (علیهما السلام)

ص: 195


1- وهنالك إطلاق ثالث ستأتي الإشارة إليه.
2- قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، سورة الأحزاب: 33.
3- سورة آل عمران: 33.

..............................

كانا داخلين أيضاً. وفي آية أخرى: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»(1) حيث يشمل فرعون أيضاً.

ولقد صرح الرسول (صلی الله علیه و آله) في موارد متعددة بأن هؤلاء الأربعة (علیهم السلام) هم أهل بيته كي لا يتوهم شموله لنسائه أو سائر من كان في تلك البيوت كالخدم.

كما أن (أهل البيت) يشمل سائر المعصومين إلى الحجة المهدي (صلوات

الله عليهم أجمعين) بدلالة متواتر الروايات، والتي منها ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة التي تقرأ عند مرقد كل إمام:«السلام عليكم يا أهل بيت النبوة»(2).

وحال ذلك حال قوله سبحانه: «إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(3) حيث إن الأدلة دلت على أن الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) أيضاً أولياء للمؤمنين، فلا ينافي ذلك الحصر(4)، والكلام في هذا المبحث طويل موكول إلى كتب الكلام(5).

ولا يخفى أن مثل زينب وأم كلثوم أو إبراهيم بن رسول الله، وعلي الأكبر والعباس (عليهم الصلاة والسلام) وأمثالهم داخلون في (أهل البيت) بالمعنى العام لا بالمعنى الخاص الذي ينحصر في المعصومين (علیهم السلام) فقط.

ص: 196


1- سورة غافر: 46.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص610 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
3- سورة المائدة: 55.
4- إذ الحصر إضافي.
5- يراجع كتاب: كفاية الموحدين، حق اليقين، إحقاق الحق، كشف الحق، ونهج الصدق، عوالم العلوم والمعارف والأحوال، بحار الأنوار مبحث الإمامة، العبقات، شرح التجريد وغيرها.

وَخَاصَّتِي، وَحَامَّتي،

اشارة

-------------------------------------------

تعميم الأدعية

مسألة: يستحب تعميم الصلوات وغيرها من الأدعية على أهل بيته (صلی الله علیه و آله) أجمعين؛ لأنهم خاصته (صلی الله علیه و آله).. كما قال (صلی الله علیه و آله): «وخاصتي» والمتعارف أن الهدايا تبعث للرجل وخاصته.

من هم الحامّة؟

حامّة النبي (صلی الله علیه و آله) الواقعيون وبالمعنى الدقيق للكلمة هم: علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) حيث خصهم (صلی الله علیه و آله) بالذكر في هذا المقام الهام، وهو مقام مناجاته (صلی الله علیه و آله) ربه، ولو كان آخر معهم للزم ذكره مع ملاحظة أهمية المقام وكون المناجي هو النبي (صلی الله علیه و آله) والمناجى هو الله سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم أن: (حميَ) غير (حمّ) وهذه المادة من (حمم) لا من (حمي) وقد ذكرنا وجه ذلك، وأن الحامّة هم الذينبينهم علقة خاصة(1)، ومنه (الحميم) حيث يطلق على القريب الذي له علقة وحرارة خاصة مع صديقه لا على كل صديق.

ص: 197


1- في لسان العرب: (الحامّة) خاصة الرجل من أهله وولده، و(الحميم): القريب الذي توده ويودك.

لَحمُهُم لَحمِي وَدَمُهُم دَمِي،

اشارة

-------------------------------------------

التذكير بوشائج القربى

مسألة: يستحب التذكير بوشائج القربى، مما يوجب تزايد المحبة بين الأقرباء، كما قال (صلی الله علیه و آله): «لحمهم لحمي ودمهم دمي».

وإنما كان لحمهم (علیهم السلام) لحمه (صلی الله علیه و آله) ودمهم (علیهم السلام) دمه (صلی الله علیه و آله)؛ لأنهم خلقوا نوراً واحداً، ومن أصل واحد، ثم فرقوا بهذه الصورة، كما يدل على ذلك جملة من الروايات كقوله (صلی الله علیه و آله): «خلق الله الناس من أشجار شتى وخلقني وأنت [ يا علي « من شجرة واحدة»(1).

واللحم والدم من باب المثال، وإلاّ فالعظم والعصب والعرق وسائر الأجزاء أيضاً كذلك، للملاك وللقطع حسب الروايات.

هذا بحسب المعنى وبلحاظ أصل الخلقة، وأما بحسب المادة والتسلسل الجسمي الظاهري، فإن لحمهم (علیهم السلام) ودمهم أيضاً نابت من لحمالرسول (صلی الله علیه و آله) ودمه؛ لأن الولد من الماء المتكون من الدم الجاري في العروق والممتزج باللحم وهو منشؤه أيضاً، فكلهم (علیهم السلام) منه (صلی الله علیه و آله). كما يدل على ذلك روايات أخر مثل قول الصادق (علیه السلام) لأبي حنيفة حيث قبّل عصا رسول الله (صلی الله علیه و آله) مشيراً إلى يده (علیه السلام) قائلاً: «هذا لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(2).

ص: 198


1- بحار الأنوار: ج15 ص20 ب1 ح30.
2- راجع المناقب: ج4 ص248 فصل في علمه (علیه السلام).

يُؤلِمُني ما يُؤلِمُهُم، ويَحزُنُني ما يُحزِنُهُم،

اشارة

-------------------------------------------

دفع الأذى عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب دفع ما يؤلم، ودفع ما يوجب الحزن، عن أهل بيته (علیهم السلام)لقوله (صلی الله علیه و آله): «يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم».

وإطلاقه يشمل حال حياته (صلی الله علیه و آله) ومماته، كحال حياتهمومماتهم (علیهم السلام)، إذ لا فرق بين الحالتين فيهم (عليهم صلوات الله وسلامه)(1).

ومما يوجب حزنهم وأذاهم _ دون شك _ انتهاك حرمات الله والتجري على معصيته وخرق قوانينه ودساتيره.

والإيلام والأحزان بالنسبة إلى الروح واضح؛ لأن الجماعة الواحدة والذين توجد بينهم أواصر قرابة أو صداقة يؤلمهم ما يؤلم أحدهم، ويحزن أحدهم ما يحزن الآخرين، نظراً للرابطة العاطفية والمشاركة الوجدانية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في أمثال هذه الموارد.

ولكن هل الإيلام شامل لأجسادهم أيضاً، بأن يكون ألم أحدهم (علیهم السلام) موجباً للألم في جسم الرسول (صلی الله علیه و آله)؟.

ص: 199


1- إذ لاشك مثلاً في أن قتل الإمام الحسين (علیه السلام) أوجب أشد الحزن والألم على الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وذلك لما دلت عليه الروايات بل والآيات ]بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، سورة آل عمران: 169.

..............................

ذلك محتمل. فإن الارتباط القويبينهم حسب الخلقة يقتضي ذلك(1)، كما أن الارتباط بين البدن الواحد يقتضي تألم سائر الأعضاء بألم عضو واحد لكنه خلاف الانصراف، إذ المنصرف من التألم التألم الروحي والنفسي، فتأمل.

مشاطرة العائلة همومهم وأحزانهم

مسألة: يستحب أن يشارك كبير العائلة أفراد أُسرته في آلامهم وأحزانهم، لقوله (صلی الله علیه و آله): «يؤلمني ... »، وكذلك بالنسبة إلى الأفراح، للملاك.

ولم يضف (صلی الله علیه و آله) (ويفرحني ما يفرحهم) ها هنا؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) في مقام دفع الآلام عنهم(2).. وفي بعض الأحاديث حيث لم يكنالكلام في هذا المقام فقد تم ذكر الأمرين معاً، حيث قال الإمام الصادق (علیه السلام): «شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا»(3).

ص: 200


1- وقد ثبت علمياً بل شوهدت في الخارج موارد كان شدة الارتباط العاطفي بين الطرفين سبباً لتألم أحدهما بتألم الآخر جسدياً.
2- ربما يعلل أيضاً بكون ذلك تمهيداً لطلبه منه سبحانه (الصلوات والرحمة والبركات عليهم) فهو أدعى لذلك عرفاً، وربما يكون السبب الإشارة الرمزية إلى أن حياتهم مستغرقة عادة بالآلام والأحزان ف «المؤمن مبتلى» _ وسائل الشيعة: ج14 ص337 ب18 ح25764 _، و«أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه» _ تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص4 _، و«حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» _ بحار الأنوار: ج67 ص78 ب46 ضمن ح12_، وكذلك حياة الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله سبحانه حيث يضحون بالغالي والرخيص في سبيله تعالى.
3- بحار الأنوار: ج53 ص303 الحكاية 55.

..............................

ما هو ماء الولاية؟

ولا يخفى أن الخلقة من فاضل طينتهم (علیهم السلام) حقيقي كما صرحت بذلك الروايات(1)، وهل الأمر كذلك بالنسبة إلى ماء الولاية، أو أن ذلك من المجاز، تشبيهاً للولاية بالماء الذي جعل الله منه (كل شيء حي)؟. احتمالان.

فإذا كان من الثاني فهو من قبيل قول الشاعر(2): (لا تسقني ماء الملام)،ومن قبيل قوله سبحانه: «وَاخْفِضْ لهمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»(3). ويؤيد ذلك ما دل على أن «الأرواح جنود مجندة»(4)، وما دل على أن «القلب يهدي إلى القلب»(5).

وقد اكتشف العلم الحديث أن للقلب(6) والفكر تموجات تؤثر سلبياً أو إيجابياً على الآخرين في ظروف معينة(7). ولهذا أسست مدارس في يومنا هذا للإيحاء النفسي وغسل الأدمغة بسبب الأمواج الفكرية والإيحاء وشبه ذلك، كما لا يخفى على من راجع بعض الكتب الصادرة في هذا المجال.

ص: 201


1- راجع عوالم العلوم: ج11 ص18 ب2 ح6 ط2 تحقيق مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام).
2- هو أبو تمام (188-231ه) أو أبو الطيب الغزي (ت 1042ه).
3- سورة الإسراء: 24.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص380 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5818.
5- راجع بحار الأنوار: ج71 ص181 ب12.
6- قد يكون المراد به مركز العاطفة، لا هذا العضو الصنوبري.
7- فهي كأمواج الإذاعة مثلاً في كونها غير مرئية وبحاجة إلى جهاز استقبال وبذلك يفسر أيضاً توارد الخواطر.

أَنَا حَربٌ لِمَن حارَبَهُم، وَسِلمٌ لِمَن سالَمَهُم،

اشارة

-------------------------------------------

مواجهة أعداء آل الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: تجب محاربة من حارب أهل البيت (علیهم السلام) كما يستفاد من هذا المقطع، حيث إن من حارب علياً أو فاطمة أو الحسن أو الحسين (عليهم الصلاة والسلام) فقد حارب رسول الله، لقوله (صلی الله علیه و آله): «أنا حرب لمن حاربهم»، ومن الواضح حكم محاربة الرسول (صلی الله علیه و آله) وقد قال (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(1). وكما تجب محاربة من حارب أهل البيت (علیهم السلام) بأجسادهم، تجب محاربة من حاربهم في أفكارهم ومناهجهم.

مناصرة أولياءهم (علیهم السلام)

مسألة: يجب أن يكون الإنسان سلماً لمن سالم أهل البيت (علیهم السلام)كما كان الرسول (صلی الله علیه و آله) كذلك.

تحقيق في معنى العداء والمسالمة

والمراد المسالمة لهم _ أي من سالمهم (علیهم السلام) _ من حيث هو مسالم لهم وبهذا اللحاظ، فلا يقتضي ذلك عدم وقوع التنازع بحيث آخر، ومن جهة ثانية (كالتنازع في دَيْن أو ميراث أو شبه ذلك).

ص: 202


1- راجع تفسير القمي: ج2 ص196 نزول آية التطهير.

..............................

كما أن إطلاق الجملة السابقة، يقتضي وجوب أن يحارب الإنسان من حارب أهل البيت (علیهم السلام) من غير فرق بين من حاربهم عسكرياً أو إعلامياً أو سائر أقسام الحروب، وكذلك في السلم؛ لإطلاق الجملتين ولا انصراف، ولو فرض فالملاك والقرائن المقالية والمقامية تقتضي التعميم.

ومن المعلوم أن من حارب بعضهم (علیهم السلام) كان كالمحارب لكلهم، ولكن المسالم لجميعهم يكون سلماً لهم، فليست الجملتان على غرار واحد في المحاربة والمسالمة. والالتزام بأن حرب بعضهم حرب لجميعهم لما دل علىأنهم نور واحد، فمن أنكر أحدهم فقد أنكر جميعهم، وكذلك حال الأنبياء (علیهم السلام) فمن أنكر نبياً من الأنبياء (علیهم السلام) كان كالمنكر لجميعهم، وهكذا حال صفات الله سبحانه وتعالى حيث إن من أنكر صفة واحدة كان كإنكار الجميع.

وبذلك يظهر الجواب عن سؤال السائل: ما هو الفرق بين الحرب والسلم؟. حتى عُدَّت الحرب لبعضهم أو في جهة من جهات أحدهم حرباً لهم، لكن السلم لا يكفي فيه إلاّ السلم لجميعهم في جميع الخصوصيات.

ونضيف توضيحاً لذلك مثالاً:

فإن الحرب كالحالة المرضية، والحالة المرضية تتحقق ولو بتسرب جرثومة خبيثة واحدة إلى الجسم، بينما السلم كالحالة الصحية، والصحة لا تتحقق إلا بتوفر كافة العوامل وطرد كل الأوبئة والجراثيم، وكذلك (الحصن) فإنه يسلم من فيه بسد كل ثغوره وخلله وفُرَجه، بينما يهلك من فيه فيما إذا استطاع العدو فتح ولو ثغرة واحده فيه.

ص: 203

وَعَدوٌّ لِمَن عاداهُم،

اشارة

-------------------------------------------

معاداة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: تحرم معاداة أهل البيت (علیهم السلام).

ولا يخفى أن العداء غير الحرب؛ لأن العداء حالة نفسية قلبية وإن تعدت إلى الجوارح، أما الحرب فلا تطلق إلاّ على حركة الجوارح بطريقة معينة، ولذا قال (صلی الله علیه و آله) في مقابل ذلك: «ومحب لمن أحبهم»، حيث إن الحب أمر قلبي وإن تعدى إلى الجوارح أيضاً.

وحيث كانت العلاقة بين العداوة والمحبة علاقة الضدين اللذين لهما ثالث، وكان من الممكن أن لا يكون إنسان بالنسبة إلى إنسان معادياً ومع ذلك لايكون محباً، لذلك أضاف (صلی الله علیه و آله): «ومحب لمن أحبهم».

تعاضد الأرحام

مسألة: يلزم أن يكون الأقرباء _ منباب أنهم من أجلى المصاديق وأهمها _ يداً واحدة على أعدائهم فيما كانت العداوة بحق، كما قال (صلی الله علیه و آله): «أنا حرب لمن حاربهم ... وعدو لمن عاداهم».

وذلك من مستلزمات نصرة المسلم وهو من لوازم الإيمان، سواء كانت العداوة لأمر ديني أو لحق شخصي، كمن غصب مال أحدهم فيكونوا يداً واحدة

ص: 204

..............................

عليه حتى يرد المال وهكذا وهلم جرا.

ومن الواضح أنه لا يصح نصرة القريب أو نحوه بالباطل.

وقول النبي (صلی الله علیه و آله): «انصر أخاك ظالماً ومظلوماً»(1) يراد بالأول: كفه عن الظلم؛ لأنه نصرة له في الدنيا (2) والآخرة كما فسر بذلك فيبعض الروايات.

وخصوصية الأقرباء أنهم أولى بالمعروف، وإلاّ فالمسلمون ينصر بعضهم بعضاً وإن كانوا بُعَداء.

إضافة إلى أن العائلة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإذا غرست فيها معاني التعاضد والتعاون بالحق كان سبباً لتربية المجتمع على ذلك أيضاً.

ص: 205


1- راجع وسائل الشيعة: ج12 ص212-213 ب122 ح16114، وفيه عن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً _ إلى أن قال _ وينصره ظالماً ومظلوماً، فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ولا يسلمه ولايخذله».
2- لما للظلم من الأثر الوضعي والعواقب الوخيمة على الظالم وذريته في هذه الدنيا.

وَمُحِبٌّ لِمَن أَحَبَّهُم،

اشارة

-------------------------------------------

محبة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: تجب محبة أهل البيت (علیهم السلام)(1) تحصيلاً لحب النبي (صلی الله علیه و آله) لقوله (صلی الله علیه و آله): «ومحب لمن أحبهم».

كما يلزم حبهم (علیهم السلام) أيضاً لذواتهم، فإحدى المحبتين طريقية والأخرى موضوعية ذاتية، ويوضح ذلك ما قاله الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى عقيل (علیه السلام): «إني أُحبه حبين: حُباً له وحباً لحب أبي طالب له»(2).

ثم لا يخفى أنه لا يصح الاكتفاء بمحبتهم (علیهم السلام) عن الامتثال لأوامرهم والتي هي أوامر الله سبحانه وتعالى، فإن المحب الحقيقي هو الذي يتوخى رضا المحبوب ويلتزم بمنهجهويطيع سيده في كل أعماله، ولذلك ورد(3):

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** إن المحب لمن أحب مطيع

ص: 206


1- الأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فليراجع: (إحقاق الحق)، و(الغدير)، و(العوالم)، و(كفاية الموحدين)، وغير ذلك.
2- بحار الأنوار: ج22 ص288 ب5 ح58.
3- هذا الشعر مما تمثل به الإمام الصادق (علیه السلام) وفيه تقديم تأخير ،والصحيح هو: هَذَا مُحَالٌ فِي الْفِعَالِ بَدِيعُ *** تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيع *** لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ راجع وسائل الشيعة: ج15 ص308 ب41 ح20596.

..............................

ولا ينفع حبهم (علیهم السلام) بدون الإطاعة والعمل إلا نفعاً في الجملة كما ذكر في الروايات، ففي الحديث: «إن ولي محمد (صلی الله علیه و آله) من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وأن عدو محمد (صلی الله علیه و آله) من عصا الله وإن قربت قرابته»(1)، و «أشد الذنوب ما استهان به صاحبه»(2).

وفي ذلك بحث مفصل في علم الكلام، فإن الإيمان مركزه الجوارح واللسان والقلب، ويجب أن يتجلى عليها كلها _ حسب المقرر في الشريعة _ وهكذا أمثالالحب.

المحبة ودورها في التكوين والتشريع

مسألة: يستحب _ وقد يجب _ تكوين وإنماء المحبة السليمة المشروعة، فإن المحبة هي المحرك الأكبر نحو الفضائل، فمحبة الله سبحانه هي التي تبعث على إطاعة أوامره «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ»(3)، وكذلك محبة الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وكذا الصالحين، ومحبة الدخول في الجنة، ومحبة الذكر الحسن «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(4) وهكذا.

ص: 207


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص24.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص312 ب43 ح20608.
3- سورة البقرة: 165.
4- سورة الشعراء: 84.

..............................

ولذلك ورد في الحديث الشريف: «الدين الحب»، و«هل الدين إلاّ الحب»(1) وغير ذلك. إضافة إلى أن الحب تدور عليه رحى الحياة، فالأم والأب يعتنيان بالأولاد وتربيتهم نتيجةًللمحبة، وكذلك اكتساب التاجر معلول لمحبته لنفسه وأُسرته، وكذلك الزراع يزرع، والطالب يكتسب العلم، إلى غير ذلك، كله للحب، حتى إذا فقد الحب من العالم انهدم العالم.

فاللازم أن يكوّن الإنسان الحبّ وينمّيه حتى يكون في خط الكون _ الذي خلق بالحبّ وللحبّ _ وحتى يكون في خط الدين.

لكن ما معنى أن الكون خلق للحب وبالحب؟، وأن به قوامه؟.

يتضح ذلك بمثال: فكما أن النور والجاذبية ونحوهما قوام الكون، فإذا فقدا انهدم الكون، قال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ»(2) كذلك _ بل وفي رتبة سابقة _ المحبة، فإنها هي الباعث لإيجاد هذا الكون، وأعني: محبة الله سبحانه لإظهار ذلك الكنز الخفي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»(3)، ومحبته جل وعلالهؤلاء الخمسة (صلوات الله عليهم أجمعين) كما سيأتي قريباً في قوله تعالى: «إني ما خلقت سماءًمبنية و... إلاّ في محبة هؤلاء الخمسة... » ويدل عليه كثير من الروايات الأخرى.

ص: 208


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص219 ب14 ح13927.
2- سورة فاطر: 41.
3- بحار الأنوار: ج84 ص199 ب12 ح6 بيان.

..............................

وحب الله تعالى معناه ما ذكروه من (خذ الغايات واترك المبادئ) كسائر ما يُنسب إليه من الصفات من أمثال الغضب والسمع والبصر وشبه ذلك، فالكون كمائدة يهيئها المضيف للضيف من جهة حب المضيف للضيف.

ولماذا هذا الحب من الله تعالى؟. لأنهم (علیهم السلام) أكمل خلق الله سبحانه، ولأن المخلوق محبوب للخالق، ولأنهم أكثر خلق الله له طاعة وحُباً(1).

وقد اتضح بذلك أن الكون يدور على رحى المحبة، كما اتضح في صدر هذا البحث أن الدين أيضاً كذلك(2). ونضيف أن كون (الدين الحب) باعتبار أن محبة الله وأوليائه(3) هي النواة المركزيةللدين، حيث إن العلة الغائية للدين هي ذلك، وحيث شرّعت الأحكام كلها حول هذه النواة، قال سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ»(4) وقال تعالى: «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(5) وهي العلة الأساسية للتمسك بالدين، ومن أراد المزيد فعليه بالمفصلات.

ص: 209


1- سيأتي بعض الكلام حول ذلك في مبحث (الغاية من الخلقة).
2- حيث ذكر (أن المحبة هي المحرك الأكبر نحو الفضائل...).
3- الإضافة لها معنيان هاهنا وكلاهما مفيد ومراد ولو بنحو الجامع، ف (محبة الله) أي محبة الإنسان _ مثلاً _ لله تعالى و(محبة الله) أي محبة الله للإنسان، إذ الإضافة تكون تارة للفاعل وأخرى للمفعول، فمحبة الله للإنسان سبب لتشريعه الأحكام التي توجب سعادته في الدنيا والآخرة، ومحبة الإنسان لله سبب لالتزامه بدساتيره جل وعلا، وهناك معنى ثالث محبة الإنسان ليكون محبوباً لله، فليتأمل.
4- سورة البقرة: 165.
5- سورة الشورى: 23.

إنًّهُم مِنّي وَأَنا مِنهُم،

اشارة

-------------------------------------------

توثيق الترابط بين الأقرباء

مسألة: يستحب توثيق عرى الترابط بين الأقرباء، ومن طرق ذلك تعريفهم وتذكيرهم دوماً بأن بعضهم من بعض، خاصة إذا كانت لبعضهم منزلة رفيعة، فإن ذلك فيما إذا كانوا جميعاً على الدين والإيمان يوجب تماسكهم وتعاونهم على الخير والتزامهم بصلة الرحم، وبالتالي يستلزم قوة هذا التجمع الصغير، بل والمجتمع الأكبر، نظراً لتشكله منه.

فإن التجمع قوة وكلما كان تماسكه أكثر كانت قوته أكثر، والمعرفة مقدمة للتجمع والتماسك والتعاون بشكل أقوى.

أما خطاب النبي (صلی الله علیه و آله) لله سبحانه أنهم (علیهم السلام) منه (صلی الله علیه و آله)، فإن ذلك من التخضع والاستعطاف والالتماس، مثل أن يقول الفقير للغني: هؤلاء أولادي فتكرم عليَّ وعليهم بالمال.

هذا بالإضافة إلى أن الأقرباء إذا عرفوا أنهم ينحدرون من كبير في العلم والفضيلة، حفّزهم ذلك على التحليبالفضائل والتخلي عن الرذائل، فإن الإنسان مندفع إلى طلب المعالي والترفع بذاته، خصوصاً إذا عرف أن المنسوب إليه رفيع.

وهذا من أسباب ابتعاد أولاد الأئمة (علیهم السلام) وذويهم عن الدنايا وترفعهم عنها، بخلاف أولاد أمية والعباس ومن إليهما، إذ نجد في أولاد الأئمة (علیهم السلام)

ص: 210

..............................

وإخوتهم وذويهم أن معرفتهم بنسبهم أوجبت أن يرتفعوا عن الدنايا ويتصفوا بكثير من المزايا.

وقد ذكرنا في بعض الكتب أن نسبة بعض الأمور الشائنة إلى أولاد الأئمة (علیهم السلام) لم يثبت منها ثبوتاً شرعياً بحيث يبرأ الناسب شرعاً، وما ذكر في بعض الكتب لا سند له(1).

نعم، الثابت قصة ولدي آدم ونوح (علیهما السلام) وذلك استثناء، إذ ما ذكرناه ليس على نحو العلية، بلالاقتضاء الغالب، ولذا ورد: (الولد سرّ أبيه).

الاحتمالات في معنى (إنهم مني وأنا منهم)

يمكن أن يكون المراد من قوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» أحد أمور(2):

منها: إن خلقتهم (علیهم السلام) كانت بسببه (صلی الله علیه و آله) وخلقته (صلی الله علیه و آله) كانت بسببهم(3)

ص: 211


1- أو مؤول، أو مروي عن غير طرقنا، أو غير ذلك، للتفصيل انظر موسوعة (الفقه) كتاب البيع، الجزء الرابع والخامس، وكتاب (من حياة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- قد يكون المقصود: إن كل واحد منها تمام المراد، وقد يكون المقصود كون كل واحد منها بعض المراد وأحد المصاديق، وهذا أرجح بالنظر إلى سياق الحديث كله وإلى إطلاقه، وإلى القرائن المقامية والمقالية الأخرى، إضافة إلى أن نظر المصنف هو ذلك كما يظهر من استنباطه اللاحق.
3- قد يكون المقصود: بنحو الدور المعي، وقد يمثل لذلك بالمتضايفين كالمتوازيين والأخوين (متوافقين كانا أم متخالفين).

..............................

كما قد يدل على هذا حديث «لولاك ... »(1)، وتقريره أن لولا النبي (صلی الله علیهو آله) لم يخلق الله تعالى الأفلاك ونظائرها، فلم يتيسر لأحد أن يحيا هذه الحياة، ولولا علي وفاطمة (سلام الله عليهما) لم يخلق الله تعالى النبي (صلی الله علیه و آله).

وبعبارة أخرى: إن الكون كمجموعة بدون خلقته (صلی الله علیه و آله) وخلقتهم (علیهم السلام) ناقص، والله سبحانه لا يخلق إلاّ الكامل _ كل في حده _ بل لغو ونقض للغرض فليدقق، فلولاه (صلی الله علیه و آله) لكان الكون ناقصاً، فلم يكن الله له (صلی الله علیه و آله) ولهم (علیهم السلام) خالقاً، وبالعكس.

ومنها: المعنى الذي ربما يستظهر من قوله (صلی الله علیه و آله): «حسين مني وأنا من حسين»(2)، لذا قالوا: (الإسلام محمدي الوجود... حسيني البقاء)، وكذلك قد يراد ب «إنهم مني وأنا منهم» ذلك.

ومن المحتمل أن يراد ب: «حسين مني وأنا من حسين» المعنى الأول المذكور في قوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» من التسبيب في أصل الخلقة.ومنها: إن الاعتبار الدنيوي والمكانة الدنيوية في القلوب والأفكار وغيرها لأهل البيت (علیهم السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله)، وكذا ما للنبي (صلی الله علیه و آله) في الدنيا من المنزلة والذكر الحسن فهو من تضحيات أهل البيت (علیهم السلام) ونتيجة تفانيهم في سبيله وسبيل دينه.

ومنها: ما سبق ولكن بلحاظ الآخرة.

ص: 212


1- عوالم العلوم: ج11 ص26 ب3 ح1.
2- بحار الأنوار: ج43 ص271ب12 ح35.

..............................

ومنها: باللحاظين معاً، وغيرهما أيضاً، ويؤيد هذا المعنى الجمل السابقة على هذه الجملة «إن هؤلاء...».

ومنها: إن هذه عبارة عرفية تدل على شدة الترابط والتماسك بينه (صلی الله علیه و آله) وبينهم (علیهم السلام)، وترمز إلى أن ما يصيبه (صلی الله علیه و آله) يصيبهم (علیهم السلام) وما ينفعه ينفعهم وبالعكس، ونظيره ما يقوله الملك أو الحاكم لشعبه: أنا منكم وإليكم.

فقوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» يأتي مؤكداً للجمل السابقة، وشدة الارتباط والقرب بينه (صلی الله علیه و آله) وبين أهل بيته (علیهم السلام) أوضح من الشمس، وهيتتجلى في القرب المادي النسبي، والقرب الروحي والمعنوي والفكري و... والقرب في المنشأ؛ لأنهم (علیهم السلام) كلهم من نور واحد، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «خلق الله الناس من أشجار شتى، وخلقني وأنت [ يا علي « من شجرة واحدة»(1).

ومنها: إن الخلقة لولا خلقة النبي (صلی الله علیه و آله) لم تدل على كمال الخالق، فلولاه (صلی الله علیه و آله) لم يخلق الله تعالى الخلق، إذ أنه حينئذ سيدل على عدم كمال قدرته، كالبنّاء الماهر لا يبني الدار الناقصة لدلالتها على عدم كماله(2).

ص: 213


1- بحار الأنوار: ج15 ص20 ب1 ح30.
2- الفرق بين هذا وما سبق أن هذا بلحاظ مرحلة الإثبات وذاك بلحاظ مرحلة الثبوت.

..............................

الولاية التشريعية والتكوينية

الولاية التشريعية والتكوينية(1)

يستنبط(2) من قوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» ثبوت الولاية التشريعية والتكوينية لأهل البيت (علیهم السلام)، إضافة إلى وجود الأدلة الكثيرة الدالة على ذلك.

فالولاية التشريعية بمعنى أن بأيديهم (علیهم السلام) التشريع. والتشريع فيهم يعني نفس ما يعنيه الحديث الشريف الوارد فيه (صلی الله علیه و آله): «إن الله أدب نبيه على أدبه ففوض إليه دينه»(3)، على تفصيل ذكره السيد عبد الله الشبر (قدس سره)(4)وغيره في

ص: 214


1- حول هذا المبحث راجع: (الفقه: البيع الجزء الرابع)، و(القول السديد في شرح التجريد) للمؤلف (رحمة الله).
2- نظراً لإطلاقها بل ودلالتها على (الوحدة)، وإذا تعذرت الحقيقة (الوحدة الذاتية) فستكون بلحاظ الصفات والآثار جميعاً باعتباره أقرب المجازات.
3- بحار الأنوار: ج101 ص342 ب5 ح4.
4- السيد عبد الله شبر بن السيد محمد رضا، ولد سنة 1188ه من أسرة علوية يتصل نسبها بالإمام السجاد (علیه السلام)، وآل شبر من أعرق العائلات العراقية، والده علامة كبير أفاد منه علماً جماً ومعرفة متنوعة، تتلمذ على يدي وحيد عصره الشيخ جعفر صاحب (كاشف الغطاء)، أربت مؤلفاته على السبعين فلقب ب (المجلسي الثاني) لوفرة إنتاجه وغزارة تأليفه وتصانيفه وثبات مواقفه، لقد ظل (قدس سره) منكباً على التصنيف والتأليف ومتصدراً مجالس التعليم والتدريس حتى وافته المنية في المشهد الكاظمي سنة1242ه فدفن إلى جانب والده المبرور في الحجرة الشرقية من رواق الإمامين المعصومين عن أربعة وخمسين عاماً، له من الكتب المشهورة: (تفسير شبر)، و(طب الأئمة)، و(تسلية الفؤاد)، وغيرها.

..............................

كتبهم(1) وقد ألمعنا إليه في بعض الكتب الفقهية.

وأما الولاية التكوينية: فبمعنى أن لهم (علیهم السلام) أن يتصرفوا في الكون بإذنه سبحانه، بل هم (علیهم السلام) يتصرفون بإذنه تعالى كما يتصرف عزرائيل بإذنه سبحانه في الإماتة، وكذلك بالنسبة إلى بعض الملائكة حيث قال سبحانه: ]فَالْمُدَبِّراتِأَمْراً»(2).

وفي الحديث القدسي: «عبدي أطعني تكن مثلي أو مثلي، أقول للشيء: كن فيكون وتقول للشيء: كن فيكون»(3)، وهذا يمكن تحققه بالنسبة إلى الطبقة العادية من الناس، فكيف بهم (علیهم السلام) وهم من المعدن الأسمى والجوهر الأعلى! كما قال (صلی الله علیه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(4)، وفي قصة عيسى (علیه السلام) دلالة على ذلك حيث كان يبرأ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله سبحانه وتعالى، وهم (علیهم السلام) أفضل من عيسى (علیه السلام) لما ورد من أن عيسى (علیه السلام) يصلي خلف الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)(5)، بالإضافة إلى الروايات المتعددة والتي تعد من ضروريات مذهبنا، وقد أشرنا إلى هذا ا المبحث في مقدمة الكتاب.

ص: 215


1- يراجع: (نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي (قدس سره)، و(كفاية الموحدين)، و(إحقاق الحق) للتستري (قدس سره) وغيرها.
2- سورة النازعات: 5.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص258-259 ب18 ح12928.
4- الكافي: ج8 ص177 خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) ح197.
5- راجع الخصال: ج1 ص320 باب الستة ح1.

فَاجعَل

اشارة

-------------------------------------------

التمهيد للدعاء

مسألة: يستحب أن يقدّم على الدعاء ما يوجب الاستجابة، كذكر أسماء المعصومين (علیهم السلام) والتوسل بهم، كما قدم الرسول (صلی الله علیه و آله) ما قدم ثم قال: «فاجعل صلواتك ...».

فإن التوسل بأهل البيت (علیهم السلام) وجعلهم شفعاء بين يدي الدعاء يوجب استجابة الدعاء، كما دل على ذلك جملة من الأدلة.

وفي بعض الأحاديث أن تقديم الصلاة عليهم (علیهم السلام) على الدعاء وإلحاقها به أيضاً _ أي الصلاة قبل الدعاء وبعده _ يوجب الاستجابة، وفي رواية: «الصلوات ثلاث مرات» كما ذكرنا ذلك في كتاب (الفقه: الآداب والسنن).

فإن ذكر المحبوب مع طلب الحاجة يوجب إقبال الغير على السائل، والله سبحانه وتعالى يقبل على عبده إذا افتتح دعاءه بالصلاة على محمد وآلمحمد، وإقباله تعالى ليس بالمعنى العرفي الحسي وشبهه، بل من باب: (خذ الغايات واترك المبادئ)، كما ذكروا بالنسبة إلى صفاته سبحانه التي هي من قبيل الغضب والرضا والحب والسمع والبصر أو ما أشبه ذلك، وقد روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يفتتح دعاءه بالصلاة عليه وآله، إذ لا منافاة بين رفعة المقام وبين جريان سنن الله التشريعية على الرسول (صلی الله علیه و آله) كما تجري السنن التكوينية عليه.

ص: 216

صَلَواتِكَ

اشارة

-------------------------------------------

الصلاة على النبي وآله (علیهم السلام)

مسألة: يستحب الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) كما قال (صلی الله علیه و آله): «فاجعل صلواتك عليَّ وعليهم».

والمراد بالصلوات: العطف والحنان، ولذا يسمى أحد المتسابقين بالمصلي،فإن الإنسان يعطف إلى نحو الله سبحانه وتعالى في صلواته(1) والله سبحانه وملائكته يعطفون على الإنسان في صلواتهما عليه.

ومن الواضح أن عطف الله سبحانه وتعالى: إنزال فضله ولطفه.

قال الشاعر(2):

صلت على جسم الحسين سيوفهم (3) *** فغدا لساجدة الظبى محرابا

ولعل قوله (صلی الله علیه و آله): «فاجعل صلواتك» حيث جاء بالجمع ولم يقل: (صلاتك) كان من جهة اختلاف أنحاء العطف، كالعطف المعنوي والعطف المادي، والعطف في الدنيا والعطف في الآخرة، إلى غير ذلك.

ص: 217


1- فالصلاة لله بمعنى العطف والميل نحوه تبارك وتعالى.
2- السيد رضا الموسوي الهندي (1290-1362ه).
3- أي: نزلت على جسمه (علیه السلام) وعطفت نحوه.

وَبَرَكاتِكَ، وَرَحمَتكَ وغُفرانَكَ، وَرِضوانَكَ

اشارة

-------------------------------------------

التنويع في الدعاء

مسألة: يستحب تنوع الدعاء وتعدد ما يطلبه من الحوائج، وعدم الاقتصار على دعاء واحد، ولذا لم يكتف النبي (صلی الله علیه و آله) بواحدة منها لاختلاف معاني هذه الكلمات.

فالصلاة: هي العطف.

والبركة: الثبات والاستمرار.

والرحمة: هي الإفاضة.

والغفران: الستر.

لأن للممكن _ بما هو ممكن _ نواقص وقصوراً، ولذا ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «وإنه ليُران على قلبي»(1) مما هو لازم الممكن، وإلاّ فهم (علیهم السلام) في أرفع درجات العصمة والكمال، ومن هذه الجهة كان النبي (صلی الله علیه و آله) يستغفر كل يوم سبعين مرة من غير ذنب.

والرضوان: عبارة عن رضاه سبحانه وتعالى، وقد ذكرنا: إن الرضا عبارةعما ذكروه بقولهم: خذ الغايات واترك المبادئ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس محلاً للحوادث.

ص: 218


1- بحار الأنوار: ج17 ص44 ب15.

..............................

ولعلّ الإتيان بالجمع في بعض الجمل والإفراد في بعض الجمل _ مع إمكان تصور كل واحد من الجمع والإفراد في كل الجمل _ للتفنن في العبارة، فإنه من أقسام البلاغة، كما نجد ذلك بوفرة في القرآن الحكيم وفي كلماتهم (صلوات الله عليهم) وفي كلمات البلغاء.

وخطاب الله سبحانه وتعالى بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع لئلا يتوهم اشتراك غيره معه في ذلك المقام(1) كما في الإنسان حيث إنه يشاركه غيره،وإنما قال سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّاله لَحَافِظُونَ»(2) بصيغة الجمع إشارة إلى إشراكه سبحانه وتعالى الملائكة في إنزال الكتاب، ويمكن أن يكون وجهه غير ذلك مما ذكر في علم الكلام والبلاغة.

ص: 219


1- ربما يكون المراد ب (في هذا المقام) الإشارة إلى دفع توهم (إن الملائكة أيضاً يصلّون على النبي (صلی الله علیه و آله) «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» _ سورة الأحزاب: 56 _ .. فأجاب بقوله: (في هذا المقام) إلى أن خصوصية مقامهم (علیهم السلام) وهم تحت الكساء، كان مقام الإفاضة المباشرة منه تعالى وقد طلب الرسول (صلی الله علیه و آله) في مقامه ذلك أسمى مراتبها وأعلى درجاتها فاقتضى ذلك طلب ما هو منه جل وعلا مباشرة، إضافة إلى أن بعض الدعوات الأخر قد يقال باختصاص طلبها منه تعالى فتأمل.
2- سورة الحجر:9.

عَلَيَّ وَعَلَيهِم،

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء لأهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يستحب الدعاء لأهل البيت (علیهم السلام) بهذه الكلمات التي دعا (صلی الله علیه و آله) بها: «فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليَّ وعليهم».

ولا يخفى أنهم (علیهم السلام) يمتازون بصلوات ورحمة وبركة وغفران ورضوان خاص من الله سبحانه، لا يشاركهم فيها أحد من الأولين والآخرين.

والرسول (صلی الله علیه و آله) خصّهم (علیهم السلام) بهذا الدعاء مع أنه يستحب الدعاء للجميع لذلك، ولأن المقام يقتضيه، إذ هناك فرق بين المقامات وهذا المقام الذي اجتمع فيه هؤلاء الأطهار (علیهم السلام) فيقتضي الاختصاص(1).وتقديم «عليَّ» باعتبار أنه (صلی الله علیه و آله) أفضلهم، ومن المعلوم أن تقديم الأفضل أولى(2).

وقد قلنا في مبحث آنف: إن الإتيان بلفظ «على» دون «اللام» _ مع أن «على» للضرر غالباً و«اللام» للنفع _ من جهة إفادة انغماسهم (علیهم السلام) من الرأس إلى أخمص القدم في هذه البركات.

ص: 220


1- لأنه لذلك أوجد ولأجله تكوَّن.
2- وقد سبق من الإمام المؤلف (رحمة الله) بيان جهة أُخرى لذلك أيضاً.

..............................

ويمكن أن يكون الوجه؛ لأن الرحمة وأشباهها تنزل من فوق، وقد سُئل علي (عليه الصلاة والسلام): لماذا يرفع الإنسان يده إلى السماء في الدعاء؟.

فأجاب (علیه السلام) بأحد المصاديق قائلاً: «لقوله سبحانه: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ»(1)»(2)، والسماء محل نزول الرحمة والعذاب.

ومن الواضح أن الله تعالى ليس له مكان أو جهة، إلاّ أن التوجه إلى الأعلى لذلك.وربما يضاف: أن التوجه للأعلى أدعى للخشوع والخضوع، وأكثر دلالة على الإجلال والإكبار والاحترام(3)، كما يجد الإنسان ذلك من نفسه، وفي تصرفاته وتصرفات غيره.

ص: 221


1- سورة الذاريات : 22.
2- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص487 ب29 ح8509.
3- وربما لذلك جعل الله السماء محل نزول الرحمة والتقديرات، ولكي ينسجم مع طبيعة الإنسان وفطرته.

وَأَذهِب عَنهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

علّة تخصيصهم (علیهم السلام) بالدعاء هنا

قد يكون السبب في قوله (صلی الله علیه و آله): «عنهم» دون «عني وعنهم» مع أنه (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى «صلوات الله وبركاته ورحمته و... » قال: «عليَّ وعليهم» الإشارة إلى أسبقية اتصافه (صلی الله علیه و آله) بالعصمة ولو رتبة (1).

وربما يكون السبب: إرادة تلاوة شبه الآية الشريفة والتي لا يبعد أن يراد بها الأعم.

ومن المحتمل أن يكون وجه عدم ذكر نفسه (صلی الله علیه و آله) وذكرهم (علیهم السلام) أنهم محل توهم وتشكيك بعض الأمة دونه (صلی الله علیه و آله)، حيث إن كثيراً ممن لا يشك في عصمته (صلی الله علیه و آله) يشكك في عصمتهم(علیهم السلام) .. إذ لا يعرف الجميع أن أهل البيت (علیهم السلام) معصومون إلاّ من كلماته (صلوات الله وسلامه عليه) فكان ذلك مدعاةً للتركيز عليهم.

ص: 222


1- ومن فوائد ذلك: كون هذا الطلب والدعاء صادراً عن المعصوم (صلی الله علیه و آله) الذي لا ينطق ولايصمت ولا يتحرك إلاّ بأمره سبحانه وإذنه، فيكون أقوى في الدلالة على عصمتهم (علیهم السلام) طلباً واستجابة.

الرِّجسَ

اشارة

-------------------------------------------

بحث في معنى الرجس والعصمة

مسألة: يجب الاجتناب عن الرجس حدوثاً، ورفعه بقاءً، وقد يكون مستحباً كلٌّ في مورده بالنسبة لكل فرد، واستفادة ذلك من هذه الجملة «وأذهب عنهم الرجس» لفهم الملاك منه(1) بل الأولوية من وجه، ولقرينة دليل الأسوة وغير ذلك.

و(الرجس) عبارة عن القذارة والوساخة، سواءً القذارة المعنوية أم المادية، الشرعية منها، والعرفية مما يستقذره العرف ولا يعدّ في الشرع من النجاسات.

وكذلك الوساخة في النفس نوعان:

وساخة محرمة يجب إزالتها، كوساخة الشرك.

ووساخة مكروهة من الأفضل إزالتها، كالجبن وما أشبه ذلك.

فاللام للجنس (في قوله (صلی الله علیه و آله): الرجس) فيكون دعاؤه (صلی الله علیه و آله) طلباً لإذهاب كل أنواع الرجس عنهم (علیهم السلام) الظاهر منه والباطن، الروحي والجسمي، المادي والمعنوي، المحرم منه والمكروه(2).

ص: 223


1- لتنقيح المناط القطعي.
2- سواء كان رجساً في الفاعل (الرجس الفاعلي) أم في الفعل (الرجس الفعلي) كما عبر في نظيره بالمعصية الفعلية والفاعلية.

..............................

وهذا يدل على ما فوق العصمة؛ لأن العصمة عبارة عن الاعتصام عن الذنب والسهو والخطأ والنسيان والجهل وما أشبه ذلك، والإطلاق يدل على ما فوق ذلك ويشمل حتى ترك الأولى، وقد ذكرنا في بعض الكتب الكلامية أنهم (عليهم الصلاة والسلام) منزهون عن ترك الأولى أيضاً.

بل قلنا: ببراءة الأنبياء (علیهم السلام) من ترك الأولى وإن نسب إليهم على قول مشهور، لكننا هناك نفينا ترك الأولى بالنسبة إلى الأنبياء (علیهم السلام) أيضاً (1)، وبيّنا أن ما ظهر منهم من بعض الأعمال والآثار فإنما هو من باب المقتضيات المخفية، مثلاً:في قوله سبحانه: «عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى»(2) المراد به: المعنى المجازي(3) لا الحقيقي، فإنه لم يكن عصياناً _ على ما حققناه _ لا بالمعنى اللغوي ولا بمعنى ترك الأولى، وإنما كان مقدراً من الله سبحانه وتعالى أن يفعل ذلك حتى ينزل إلى الأرض؛ لأن آدم (علیه السلام) خُلق للأرض(4) كما في قوله سبحانه:

«إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً»(5).

ص: 224


1- أي مضافاً إلى نفي المعصية ونفي المكروه، فقد قلنا بنفي ترك الأولى عنهم (علیهم السلام) أيضا.
2- سورة طه: 121.
3- ربما يكون المراد نظير الأوامر الامتحانية، أو المراد: إن ما جرى كان شيئاً صورياً تمثيلياً، وقد يكون مراده من (المقتضيات المخفية) ذلك.
4- وفي حديث الإمام الرضا (علیه السلام): «... فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده ولم يخلقه للجنة ... »، راجع عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص193 ب14 ح1.
5- سورة البقرة: 30.

..............................

وإنما أُسكن (علیه السلام) أولاً في الجنة، فلكي يخرج منها، فيتذكر محله فيها ويبكي وينقطع إلى الله سبحانه وتعالى أكثر فأكثر، ويكون ميله وميل ذريته إلى الرجوع إلى الله سبحانهوتعالى في جنته أكثر فأكثر(1).

وهكذا بالنسبة إلى كل نبي نبي (علیهم السلام).

وعلى أي حال، فهذا بحث كلامي لا يرتبط بالمقام، وإنما ذكرناه استطراداً وإلماعاً فقط.

ص: 225


1- وهناك جواب آخر في حديث الإمام الرضا (علیه السلام) _ في حديث طويل جواباً على شبهة رجل _ قال (علیه السلام): «... أما قوله عزوجل في آدم: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» _ سورة طه:121 _ ف ... كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله عزوجل، فلما أُهبط إلى الأرض وجُعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً... » _ سورة آل عمران: 33 _ راجع عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص193 ب14 ح1.

وَطَهِّرهُم تَطهِيراً.

اشارة

-------------------------------------------

الطهارة والتطهير

مسألة: يستحب _ أو يجب _ الطهارة والتطهير مطلقاً، ودليل التعميم قد سبق، وحيث إن للطهارة مراتبَ فيكون الرجس وما عدا المرتبة الدنيا من الطهارة واسطة، بأن لا يكون رجس ولا تكون طهارة برتبها ودرجاتها الرفيعة.

فلا يكون _ على هذا _ «وطهّرهم تطهيراً» من باب التأكيد، وإنما يفيد معنى جديداً، وهو ارتفاعهم (علیهم السلام) إلى غاية مراتب الطهارة.

فإنه لو اكتفى النبي (صلی الله علیه و آله) بقوله: «أذهِب عنهم الرجس» لَتُوهم الاكتفاء بإذهاب الرجس فقط بدون الارتفاع إلى أسمى مراتب الطهارة.

وبذلك يظهر أن قوله (عليه الصلاة السلام): «تطهيراً» يفيد أيضاً هذا المعنى، فهناك إذهاب الرجس، وهناك التطهير في أعلى درجاته، وهناك «تطهيراً» الذي هو أقصى درجات الطهارة (1).هذا وإن كان من الممكن أن يكون «تطهيراً» للتأكيد.

ثم إن أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) خلقوا أطهاراً، فليس المراد بطلب الإذهاب: الرفع، بل الدفع(2) إذ لم يكن فيهم (علیهم السلام) رجس حتى يطلب إزالته.

ص: 226


1- يستفاد إرادة الدرجات العليا من الطهارة: من الإطلاق، ومن السياق، ومن القرائن المقامية والخارجية الأخرى.
2- الرفع: إزالة ما هو موجود، والدفع: الحيلولة دون وجوده. فلو تمرض زيد وعولج كان هذا رفعاً، أما لو كان في معرض التمرض والوباء فلقح بالمضادات من قبل كان هذا دفعاً.

..............................

وكذلك المراد ب «التطهير» خلقه طاهراً، وقد يكون المراد بذلك الاستمرار، كما قال علي (عليه

الصلاة والسلام) بالنسبة إلى قوله سبحانه: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1) بمعنى: طلب استمرار الهداية، فإن ممكن الوجود بما هو هو في كل لحظة معرض للطرفين، وإنما يميل إلى الطرف الأرفع بلطف الله سبحانه وتعالى، كما يميل إلى الطرف الأنزل بخذلانه، فالإنسان في كل لحظة بحاجة إلى هداية وتسديد جديد من الله تعالى، فالمطلب ابتدائي في بعضواستمراري في بعض، سواء أخذ جانب الطهارة أم جانب النجاسة، الأول في المعصومين (علیهم السلام) وفي المؤمنين، والثاني في الكفار والمنافقين والفساق.

وقد ذكروا أن مَثَل الكون بالنسبة إلى الله سبحانه كمَثَل الصور الذهنية بالنسبة لنا ففي كل لحظة تحتاج إلى عناية وإفاضة، وإلاّ انهدمت واضمحلت، إذ البقاء بالغير لا بالذات كالحدوث.

اتصافهم (علیهم السلام) بجميع الفضائل

مسألة: يجب الاعتقاد بأن أهل البيت (علیهم السلام) متصفون بجميع الفضائل والكمالات وأعلى مراتب الطهارة.

ص: 227


1- سورة الفاتحة.: 6.

فَقالَ الله

اشارة

-------------------------------------------

كلام الله سبحانه

كلام الله سبحانه(1)

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى متكلّم بالمعنى الصحيح لذلك، وقد ثبت في علم الكلام أن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم كتكلمنا بفم وشبهه، لاستحالة ذلك في حقه؛ لأنه تعالى ليس بجسم، ولا هواء هناك، إلى غير ذلك من شرائط الكلام المعهود المفقودة في ساحته المقدسة.

بل يراد بالقول:

إما خلق الصوت كما التزموا بذلك في قوله سبحانه: «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً»(2)..

وإما إيجاد علامة دالة على ذلك في اللوح بسبب القلم، وقد روى الصدوق (قدس سره) أن «اللوح والقلم ملكان»(3)أو ما أشبه ذلك.

وقد ألمعنا سابقاً إلى أن القول في اللغة العربية يطلق على اللفظ وعلى الفعل(4)، ولذا يقولون: «قال بيده كذا» فيما لو أشار بيده، و«قال برأسه كذا»

ص: 228


1- حول هذا المبحث راجع (شرح التجريد)، و(شرح المنظومة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 164.
3- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق: ص22 ب12.
4- ولو فرض كون هذا الإطلاق مجازياً للتبادر، ولعدم الالتزام بالوضع التعيني اللاحق فإنه لابد منه هاهنا بعد تعذر الحقيقة كما لا يخفى.

..............................

فيما أشار برأسه، و«قال برجله» إذا مشى. وكذلك بالنسبة إلى الكتابة ولذا يقولون: قال المفيد (قدس سره) وقال الصدوق (قدس سره)، مع أنهما إنما كتبا ذلك المنقول عنهما في كتبهما، ولا لفظ ولا إشارة بإحدى الجوارح ها هنا.

والفاء في «فقال الله» تكشف عن مدى قرب الرسول (صلی الله علیه و آله) من الله سبحانه وتعالى حيث استجاب له دعاءه دون إبطاء، إذ الفاء للترتيب باتصال.

لا يقال: أحياناً لا يؤتى حتى بالفاء، كما في قوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1) فلم يقل هناك: فأستجبلكم، فلماذا جاء بالفاء هنا(2)؟.

لأنه يقال: لعلّ الوجه في الإتيان بالفاء ها هنا الإشارة إلى تعقب طلبه ودعائه (صلی الله علیه و آله) بإحضار الله سبحانه وتعالى الملائكة _ ولو إحضاراً قلبياً وإلفاتياً _ وبعدها كان تكلمه تعالى بهذا الكلام.

فتكون الفاء للإشارة إلى هذا الإحضار، مع وضوح أن الملائكة بكثرة هائلة بحيث لا يعلم أعدادهم ومواقعهم وخصوصياتهم النفسية وغيرها إلاّ الله سبحانه وتعالى، فإنه وإن كان من الممكن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى أن يلفتهم إلى ذلك في جزء من لحظة إلاّ أنه ربما يكون قد أشار بالفاء إلى هذا الإحضار المتوسط بين الدعاء وبين الاستجابة(3).

ص: 229


1- سورة غافر: 60.
2- مع دلالتها على نوع من الترتيب أو التعقيب والمكث وإن كان قليلاً جداً، إذ هي للترتيب باتصال في قبال ثم، لا في قبال عدم الفصل بشيء أبداً (بين المقدم والتالي).
3- المشعر بنوع من الفصل والتعقب.

عَزَّوَجَلَّ:

اشارة

-------------------------------------------

معنى العزة والجلالة

مسألة: يستحب أن يردف اسم الجلالة بما يدل على التجليل والتعظيم، مثل كلمة (عزوجل)، كما قالت (سلام الله عليها): «فقال الله عزوجل».

وكذلك كلمة: (تبارك اسمه)، و(تعالى جده)، و(عز من قائل)، وما أشبه ذلك.

وهل كلمة (عزوجل) أقوى دلالةً من تلك الكلمات أو أنها متساوية، وإنما ذكرت (عليها الصلاة والسلام) هذه الكلمة من باب أحد المصاديق؟ احتمالان.

ثم إن العزة عبارة عن قلة الوجود(1) وكثرة الفائدة والرفعة والقوة والغلبة(2)، ولذا لا يقال للماء: (عزيز) فيما إذا كان متوافراً أو قليلالفائدة(3)، وكذلك لا يقال للهواء أو الشمس ذلك.

وحيث إن الله سبحانه وتعالى متفرد ليس كمثله شيء، ورفيع وقوي وغالب، فهو العزيز الأوحد، ولذا قال سبحانه: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ

ص: 230


1- عز: قل فلا يكاد يوجد، والعزيز النادر.
2- العزيز: القوي الغالب على كل شيء والممتنع فلا يغلبه شيء والذي ليس كمثله شيء. والعزة: الشدة، الغلبة، الرفعة، الامتناع، القوة، قلة الشيء حتى لا يكاد يوجد، قال في لسان العرب: وهذا جامع لكل شيء.
3- قد يكون هذا بلحاظ المتفاهم العرفي أو بلحاظ الدلالة الالتزامية.

..............................

الْعِزَّةُ جَمِيعاً»(1) لوضوح أن كل عزة في الكون فمن فضل الله تعالى حتى العزة الظاهرية لمن لا يستحق العزة الحقيقية كالملوك الجبابرة.

ومعنى «جلّ»: إنه عظم عن إدراك الإنسان له بالعين أو بالظن أو بالوهم وشبه ذلك، إذ من الواضح أن ذلك من المحال، إذ لا يمكن استيعاب الإنسان المحدود لغير المحدود وهو الله سبحانه وتعالى، فلا يعقل أن يستوعب المتناهي اللا متناهي.

وهذا أبعد من استيعاب الصغير للكبير، كاستيعاب الآنية لماء البحر، إذ كلا الطرفين محدود، وما نحن فيه أحدهما غير محدود.وكلا القسمين وإن كان محالاً، إلاّ أن للمحال أيضاً مراتب، فبعضها أشد (أو أوضح) استحالة من بعض(2). كما أن للممكن أيضاً مراتب(3).

وإن كان هذا الكلام من ضيق اللفظ، وإلاّ فالمحال محال والممكن ممكن على أي حال، فليتأمل.

ص: 231


1- سورة فاطر: 10.
2- يمكن التمثيل له بتسلسل الآحاد والعشرات فكلاهما لا متناهي إلاّ أن أحدهما أكثر من الآخر وكلاهما محال، وكذا تسلسل المتناقضين _ أي سلسلة حلقاتها عبارة عن نقيضين مجتمعين _ وتسلسل غيرهما إذ الأول محال في محال.
3- ربما يكون المراد الإمكان الوقوعي، وربما يكون مبنياً على أصالة الوجود، فيكون الإمكان فقرياً ذا مراتب، أما على أصالة الماهية وتفسير الممكن بالمتساوي النسبة للطرفين فلا محيص عن الالتزام بكون المراد الوقوعي، فتأمل.

يَا مَلائِكَتي ، وَيا سُكَّانَ سَماواتي،

اشارة

-------------------------------------------

بيان الحقائق

مسألة: يستحب أو يجب _ كل في مورده _ بيان الحقائق التكوينية والتشريعية للآخرين، كما بيّن الله سبحانه لملائكته الحقيقة الآتية.

ولا يبعد أن يكون المراد بالملائكة كل الملائكة لا الرسل منهم فحسب، وإن كان لفظ (الملك) مشتقاً من (الألوكة) التي هي الرسالة، لكن ذلك بحسب الأصل، ثم غلب استعماله على كل ملائكة الله سبحانه وتعالى ممن ليسوا من جنس الإنس أو الجن، فاللفظ من باب (العَلَم بالغلبة)، فتأمل.

وقد يصير علماً بالغلبة *** مضافً أو مصحوب أل كالعقبة (1)

سكان السماء

وهذا (2) قد يكون من باب عطف الخاصعلى العام، باعتبار أن سكان السماوات منهم لهم خصوصية خاصة.

ولا يصح أن يكون «سكان سماواتي» بمنزلة عطف بيان ل (الملائكة) _ من باب عطف المساوق على المساوي _ لعدم انحصار الملائكة بسكان السماوات إلاّ أن

ص: 232


1- ألفية ابن مالك.
2- أي قوله: «ويا سكان سماواتي».

..............................

يقال: إن كل الكون _ مقابل الآخرة _ سماوات؛ لأن الأرض أيضاً كوكب في السماء.

ومن الممكن أن يكون من باب عطف المباين إذا كان المراد بسكان السماوات سائر من سكن السماوات من المخلوقات غير الملائكة؛ لأن لله سبحانه وتعالى مخلوقات كثيرة جداً لا نعرفها حتى بالاسم فكيف بالكُنه أو الصفة والخصوصية، فإذا كانت علومنا بالنسبة إلى الإنسان والنبات والحيوان محدودة جداً حتى أنها لا تبلغ جزءً من ألف ألف مليون من الواقع، فكيف بما هو غائب عن حواسنا؟.

وقد ذكر العلماء أن ما اكتشفوه من أنواع الموجودات في الكرة الأرضية قد بلغ الثلاثين مليون قسماً وهذا هو مبلغهم من العلم وأغلبه بنحو الإجمال الشديد، أما ما لم يطلعوا عليه فلعلهأضعاف أضعاف ذلك خصوصاً مما في البحار مما لا يخفى كثرة، وقد ورد في الدعاء: «يا من في البحار عجائبه»(1)، وكذلك في عالم الجراثيم وشبهها.

وربما كانت هناك عوالم أخرى على أرضنا _ في أبعاد أخرى أو لا _ لا نعلم عنها أي شيء إطلاقاً، أو لا يمكن لنا معرفتها أبداً إلاّ بحواس أخرى أو شرائط مجهولة. فإذا كان هذا حال الأرض فما حال السماوات ومجاهيلها والتي قال عنها تعالى: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(2).

ص: 233


1- البلد الأمين: ص407 دعاء الجوشن الكبير.
2- سورة الذاريات: 47.

إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنَّيةً،

اشارة

-------------------------------------------

التذكير بعظمة الله

مسألة: من اللازم التفكر والتذكير بعظمة الله تعالى في ذاته وأفعاله، في كل موطن مناسب.

ولعلّ التعبير عنها بوصف «مبنية» بلحاظ بنائها بنحو خاص حيث يعتمد نظام الكواكب والأقمار والمجراتوثباتها وديمومتها على (الجاذبة) بين الأجرام و(الدافعة) الناتجة من الحركة وغيرها على ما هو مفصل في محله، ولذلك خصها الله تعالى بوصف «مبنية»، وربما يكون إشارة إلى قوله سبحانه: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(1).

و«بأيد»: أي بقوة؛ لأن اليد مظهر القوة ووسيلة ظهورها، ولهذا تشبه كل قوة باليد.

ومعنى «إِنَّا لَمُوسِعُونَ»: إنا نوسع في السماء كما دل على ذلك العلم، فقد ثبت في العلم الحديث(2) أن السماء في حالة توسع مستمرة، وذلك كما أن الإنسان مثلاً في توسع مستمر في مختلف أبعاده في العلم والقوة والصناعة وغير ذلك.

وقد ذكر العلماء: إن عدداً من الأنجم والمجرات التي تستوعب ملايين

ص: 234


1- سورة الذاريات: 47.
2- راجع كتاب بصائر جغرافيا وغيره.

..............................

الملايين من الأنجم والبعيدة عنا آلاف الملايين من السنين الضوئية تتباعد بعضها عن بعض بسرعة كبيرة جداً (1).

التأنيث في (مبنية)

ثم إن (السماء) يذكّر ويؤنّث، كما ذكره أدباء علم العربية، ومن الممكن أن يكون باعتبار أن (السماء) بمنزلة الجمع معنىً، وذلك مثل (حسنة) في قوله سبحانه: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»(2)، ومن المعلوم أنه ليس المراد حسنة واحدة، وإنما المراد جنس الحسنة.

فقد ذكرنا في (الأصول) أن المفرد حتى بدون اللام قد يأتي للجنس، مثل قولهم: تمرة خير من جرادة، فليس المراد إن تمرة خاصة أو جرادة خاصة، بل هذا الجنس وهذا الجنس، ومثل: مؤمن خير من كافر، إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة في الكتاب والسنة واللغة العربية.

والمراد بالسماء: السماوات، والتعبير بالسماوات في قوله سبحانه: «يا سكان سماواتي»، وبالسماء في قوله:«إني ما خلقت سماءً مبنية» إما للتفنن، وإما لبعض الخصوصيات، كما أشرنا إليه في البحث الآنف.

ص: 235


1- قد تبلغ أحيانا المائة وخمسين ألف كيلومتر في الثانية الواحدة بل أكثر. _ راجع التكامل في الإسلام: ج7 ص179 بحث أين تكون الجنة والنار؟ ؟؟والمصدر: ج6 ص37 «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ».
2- سورة البقرة: 201.

وَلاَ أرضاً مَدحيَّةً،

اشارة

-------------------------------------------

دحو الأرض وحركاتها

مسألة: من اللازم تعلّم العلوم الطبيعية بالمقدار الذي ينفع لفهم آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التي تشير إلى تكلم الحقائق الكونية في مختلف الأبعاد.

ويدل هذا الحديث على ما دلت عليه الآيات والروايات الأخرى من (دحو الأرض)، فإن الأرض دحيت من تحت الكعبة(1).

ومعنى (الدحو): البسط والقذف(2).

وفي الدعاء: «اللهم سامك المسموكات وداحي المدحوات»(3).وهذه الجملة تدل على أن الأرض في حالة دحو وحركة(4)، وقد ذكروا: إن للأرض حركة وضعية وحركة انتقالية، إلى غير ذلك.

ص: 236


1- ثواب الأعمال: ص79 ثواب من صام يوم خمس وعشرين من ذي القعدة.
2- «وَالأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا» _ سورة النازعات: 30 _ أي بسطها، والدحو: الرمي بقهر _ مجمع البحرين مادة دحا _.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص342 ب32 ح6051.
4- الاستدلال قد يكون بلحاظ سياق ما سبق، وسيأتي (لكون كلها للاستمرار) أو بلحاظ دلالة هذا الوصف على الاستمرار، فتأمل.

..............................

وهل المراد بالأرض أرضنا فقط، أو كلّ أرض في قبال كلِّ سماء، فقد سُئل علي (عليه الصلاة والسلام) عن النجوم؟.

فقال (علیه السلام): «إنها مدن كمدنكم»(1).

يحتمل الأمران.

فالانصراف يشهد للاحتمال الأول.

وإرادة العموم، كما يظهر من كونها نكرة في سياق النفي، وكذلك سياق الحديث يدل على الاحتمال الثاني.

والقرينة مع الثاني على الأول، فيكون المراد بالأرض كل الأراضي على ما ذكرناه في كلمة: (السماء) لا أرضنا فقط.

ص: 237


1- راجع تفسير القمي: ج2 ص218-219 خبر عمران الكواكب.

وَلاَ قَمَراً مُنيراً، وَلاَ شَمساً مُضيِئةً،

اشارة

-------------------------------------------

التفصيل عند الخطاب

مسألة: من الراجح التفصيل عند الخطاب إذا كان مناسباً، وعدم الاكتفاء بالإشارة الإجمالية، كما قال الله سبحانه: «إني ما خلقت سماءً مبنية _ إلى قوله تعالى _ ولا فلكاً يسري»، ولم يقل: «إني ما خلقت شيئاً» أو شبه ذلك.

وهل المراد بالقمر قمرنا الكائن في مدار الأرض، أم كل قمر في الكون، فقد ثبت في العلم الحديث أن لجملة من الأنجم أيضاً أقماراً.

الاحتمالان المذكوران آنفاً يردان هنا أيضاً.

ولعل الفرق بين (المنير) وبين (المضيئة) أن النور هو الانعكاس والضوء هو الأمر الطبيعي، وإن كان يطلق كل واحد منهما على الآخر إذا أُفرد بالذكر.

والاحتمالان واردان أيضاً في كلمة «شمساً مضيئة»، فهل هي شمسنا أم كل الشموس؟ لأن الله سبحانه وتعالى خلق شموساً كثيرة جداً، كما ثبت ذلك فيالعلم الحديث.

ص: 238

وَلاَ فَلَكاً يَدُورُ،

اشارة

-------------------------------------------

معنى الفلك

الفَلَك ليس بجسم(1) وإنما هو عبارة عن مدارات قررها الله سبحانه وتعالى حسب موازين خاصة تدور فيها وبها الأقمار وشبهها من الأجرام السماوية.

وأما ما ورد من أن السماء الأولى كذا، والسماء الثانية كذا، وهكذا، فالمراد تشبيهات دقيقة.

وقد فصل جملة منها السيد الشهرستاني (قدس سره)(2) في كتابه:

ص: 239


1- كان بعض قدماء المنجمين يرى أن المدارات هي أجرام ركبت فيها النجوم.
2- العلامة حجة الإسلام والمسلمين محمد علي بن حسين بن محسن بن مرتضى الحسيني الشهير بهبة الدين الشهرستاني. ولد سنة 1301ه في سامراء، وتلقى العلوم الابتدائية فيها وفي موطن آبائه كربلاء المقدسة، ثم انتقل سنة 1320ه إلى النجف الأشرف لتكميل دراسته العالية وفي أثناء ذلك انتشرت مؤلفاته، ثم أنشأ مجلة (العلم) سنة 1328ه لمدة سنتين وهي أول مجلة عربية ظهرت في النجف. هاجر في سنة 1330ه وقام بسياحة واسعة النطاق في السواحل العربية والبلاد الهندية وغيرها وأنشأ في خلال ذلك الجمعيات، ثم عاد سنة 1330 ه إلى النجف الأشرف فصادف في ذلك إعلان الحرب العظمى فأصبح قائداً لجيش المجاهدين إلى الشعيبة _ مدينة صغيرة واقعة بقرب البصرة _ في أول سنة 1332ه وبقي كذلك إلى حين احتلال البريطانيين لبغداد فاعتزل السياسة، وقام بتدريس التفسير في كربلاء المقدسة حتى التهبت نيران الثورة العراقية الأولى في شوال سنة 1338ه فكان فيها الركن المهم حتى قبض عليه في أوائل صفر سنة 1339ه وأعتقل ومن معه من أركان الثورة وحكم عليه بالإعدام ثم أفرج عنهم بالعفو العام الذي صدر في شوال من ذلك العام. عندما تشكلت الحكومة العراقية الدستورية الوطنية عين وزيراً للمعارف العراقية في محرم سنة 1340ه، ثم استقال من الوزارة النقيبية في ذي الحجة ذلك العام وعهدت إليه رئاسة مجلس التمييز الشرعي الجعفري لتمييز أحكام القضاة الشرعيين منذ تشكيله في محرم سنة 1342ه إلى سنة 1353ه، ثم انتخب نائباً عن لواء بغداد سنة 1354ه. له مؤلفات كثيرة مخطوطة ومطبوعة منها: (ثقات الرواة)، و(الساعة الزوالية)، و(منظومة مواهب المشاهد في أصول العقائد)، و(الهيئة والإسلام)، و(رواشح الفيوض) في العروض، و(صدف اللآلي)، و(جداول الرواية)، و(التنبه في تحريم التشبه بين الرجال والنساء)، و(توحيد أهل التوحيد)، و(الدلائل والمسائل)، و(ما هو نهج البلاغة). توفي (رحمة الله) في سنة 1386ه.

..............................

(الهيئة والإسلام)(1).ومن معاني الفَلَك: المستدير(2)، ولو أريد به ذا كان المراد به ما عدا الشمس والقمر، أو الأعم. ولربما أشعر بحركة كل الأفلاك، ويكون وصفه ب «يدور» مؤيداً لهذا المعنى، فتأمل.

ص: 240


1- للعلامة السيد هبة الدين الشهرستاني الحائري، يبحث عن المسائل الفلكية وكشفيات علماء الإفرنج في العلوم الطبيعية، استخرج مؤلفه (رحمة الله) فيه الهيئة الجديدة عن ظواهر القرآن والحديث، وقد طبق فيه المسائل الفلكية في نظر الأولين القدماء ثم علم الفلك الطلميوسي ثم الهيئة الإفرنجية الجديدة وكيفية تطبيق ذلك على ما ورد من الشرع في الكتاب والسنة، وقد ضمنه المؤلف بعض النقوش الفلكية، والكتاب برهان قاطع على حقانية الإسلام، فرغ منه سنة 1327ه وطبع سنة 1328ه. ترجم إلى لغات مختلفة الأردوية والفارسية قامت مطبعة الآداب _ بغداد بطبعه فانتشر سريعاً للحاجة إليه ثم أعيد طبعه عدة مرات، وقد اختصره المؤلف تحت عنوان: (مختصر الهيئة والإسلام) وهو نصف أصله المطبوع، ثم كتب (رحمة الله) له مفصلاً أسماه: (مفصل الهيئة والإسلام) وهو أحسن ترتيباً من (الهيئة والإسلام) وفي ثلاثة أضعافه تقريباً. كتب عدد من العلماء تقاريظ على هذا الكتاب وقد طبعت هذه التقاريظ في رسالة مستقلة في لاهور تحت عنوان: (تقاريظ العلماء الأعلام على كتاب الهيئة والإسلام) بعد ما جمعها السيد محمد سبطين منشئ مجلة (البرهان) وترجمها بالأردوية.
2- مجمع البحرين: مادة فَلَك.

وَلاَ بَحراً يَجري

اشارة

-------------------------------------------

جريان البحر

يدل هذا الحديث على وجود جريان وحركة خاصة للبحار، ولعله جريانها بين الصعود باتجاه السماء ثم الهبوط، إن لم يكن خلاف المنصرف.

وربما يكون المراد بالجريان: جريانها حسب المد والجزر، لكنه قد يكون خلاف ظاهر (الجريان) الذي يقتضي حركة غير موضعية(1)، وربما يكون المراد وجود جريانات خاصة كجريان الأنهار(2) فليتأمل.

ثم إن ذكر الصفات ك «مبنية»، و«مدحية»، و«منيراً»، و«مضيئة»،

و«يدور»، و«يجري»، إنما هو لأجل التأكيد على القدرة؛ لأن ذوات هذه الأشياء برهان على قدرة عظمى، وصفاتها دليل على قدرة عظيمة أخرى.

ص: 241


1- في المصباح: الماء الجاري هو المتدافع في انحدار واستواء.
2- ثبت علمياً وجود تيارات قوية وكثيرة تحت سطح الماء، كما ثبت وجود أنهار عديدة _ بعضها عذبة _ تتحرك تحت البحار، وربما يكون (فليتأمل) إشارة لملاحظات على الاحتمالات الثلاثة.

وَلاَ فُلكاً يَسري،

اشارة

-------------------------------------------

المؤثر في الوجود هو الله

المؤثر في الوجود هو الله(1)

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه ليس المؤثر حقيقةً في الوجود سواه تعالى، ولا فاعلَ واقعي عداه، ولذلك قال تعالى: «إني ما خلقت سماءً مبنية ... ولا فلكاً يسري»، حيث الأصل والوصف(2) مخلوقان له تعالى، فإن الفُلك لا يسري في البحر بسبب السُفّان والرُبّان وشبههما، وإنما الله سبحانه وتعالى هو المسِّير والميسِّر، والفلك وما أشبهه من الأسباب الظاهرية التي قدرها جل وعلا.

وقد تقدم الإلماع إلى أن كل شيء ظاهر في هذه الحياة الدنيا له واقع بيد الله سبحانه وتعالى، ومَثَل إرادته مَثَل تيار الكهرباء _ ولا مناقشة في الأمثال _ حيث إن التيار الكهربائي لو انقطع ولو آناً مّا انعدم الضياء وتعطل كل ما يتحرك بالكهرباء، وقد مثّلجماعة من الحكماء إرادة الله سبحانه وتعالى في الخلق بالصورة الذهنية الجزئية، والمعاني الجزئية التي تكون في الذهن(3)، حيث إن انصراف الذهن ولو لحظة عن تلك الصور يوجب انعدامها فوراً، كما أشرنا إليه سابقاً.

ص: 242


1- يراجع (القول السديد في شرح التجريد)، و(شرح المنظومة) للمؤلف (قدس سره).
2- المراد بالأصل: (الفلك)، وبالوصف: (يسري).
3- الصور الذهنية وليدة القوة المتخيلة (بمعنى أنها تدرك الصور الحسية)، والمعاني الجزئية وليدة القوة المتوهمة على اصطلاحهم.

إِلاَّ في مَحَبَّةِ هؤُلاءِ

اشارة

-------------------------------------------

الغاية من الخلقة

الغاية من الخلقة(1)

السبب في الإفاضة والخلقة هو محبة النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) كما يشهد له هذا الحديث: «إلاّ في محبة(2) هؤلاء الخمسة» ونظائره.

وذلك كما أن ربّ البيت يقوم بدعوةالعديد من الناس عند دعوته عظيماً من العظماء إكراماً له ف (لأجل عين ألف عين تكرم) بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لما أحبهم(3) خلق الخلق لأجلهم (علیهم السلام)، وقد قال سبحانه: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف»(4)، ومن الواضح أن محبة الله لكي يعرف ليس لأجل نقصه؛ لأنه ليس بناقص حتى يكمله شيء، وإنما لأجل العطاء والإعطاء(5).

ص: 243


1- راجع بحث (المحبة ودورها في التكوين والتشريع).
2- (في) تأتي للظرفية وللسببية أيضاً كما في الحديث: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها ... » _ مستدرك الوسائل: ج8 ص303 ب44 ح9505_.
3- حيث إن الصفات النفسية التي تسند إلى الله سبحانه يراد بها نتائجها وغاياتها، فالمراد بمحبته لهم ترتيب آثارها ومنها: العناية والإفاضة على المحبوب بشتى أنواع الإفاضة بإعطائه قصوى درجات الكمال وتوخي رضاه، ولذا ورد: «إن الله يرضى لرضا فاطمة» _ راجع الأمالي للمفيد: ص95 المجلس11 ح4 _ وقبول شفاعته و...
4- بحار الأنوار: ح84 ص199 ب12 ح6 بيان.
5- وهؤلاء الأطهار (علیهم السلام) هم وسائط الفيض ووسائط العطاء والإعطاء.

..............................

ويدل على كونهم (علیهم السلام) العلة الغائية للخلقة، وأنه لولاهم (علیهم السلام) لما خلق الله تعالى العالم، روايات عديدة من كتبنا ومنكتب العامة أيضاً.

فعن أبي هريرة، عن النبي (صلی الله علیه و آله)، أنه قال: «لما خلق الله تعالى آدم أبو البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش فإذا في النور خمسة أشباح سُجّداً ورُكّعاً. قال آدم: يا رب، هل خلقت أحداً من طين قبلي؟.

قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض ولا الملائكة ولا الإنس ولا الجن ... يا آدم، هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أُنجيهم وبهم أهلكهم ... »(1).

وعن ابن مسعود: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم، وقال: الحمد لله. فأوحى الله تعالى إليه: حمدني عبدي، وعزتي وجلالي لولا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك.

قال: إلهي فيكونان مني؟.

قال: نعم يا آدم، ارفع رأسك وانظر. فرفع رأسه فإذا مكتوب علىالعرش: لا الله إلا الله، محمد نبي الرحمة، وعلي مقيم الحجة، من عرف حق علي زكى وطاب ... »(2).

ص: 244


1- راجع بحار الأنوار: ج27 ص5 ب10 ح 10.
2- نهج الحق: ص232 المبحث الخامس في ذكر بعض الفضائل التي تقتضي وجوب إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام).

..............................

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(1).

وهنا يمكن أن يقال(2): العلة الغائية _ وهي الداعي لفاعلية الفاعل _ لخلقتنا هي محبة الأئمة (علیهم السلام) ومعرفتهم، والعلة الغائيةلمحبتهم ومعرفتهم هي معرفة الله سبحانه، إذ هم (علیهم السلام) الأدلاّء على الله وهي الكمال الأكبر، فمعرفتهم (علیهم السلام) طريق الكمال والتكامل، وبذلك يجمع بين الروايتين(3).

ص: 245


1- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام). نقلاً عن (الجنة العاصمة) عن (كشف اللآلي) لابن العرندس. ومما يشير إلى ذلك قوله (صلی الله علیه و آله): «أنا شجرة وفاطمة أصلها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمرها» _ راجع الأمالي للمفيد: ص245 المجلس28 ح5 _.
2- الفرق بين هذا وسابقه: إن الأول باعتبار إضافة المحبة إلى الله، والثاني باعتبار إضافتها للخلق (إلاّ في محبة) أي محبة لهؤلاء أو محبة الخلق لهم، أي السبب في الخلقة إرادة محبة الخلق لهم ومعرفتهم بهم (علیهم السلام) فليدقق.
3- أي بين (إلاّ في محبة هؤلاء الخمسة) التي تقتضي أن سبب الخلقة محبتهم (علیهم السلام)، و(فخلقت الخلق لكي أعرف) [بحار الأنوار: 87/199 ب 12 ح 6 بيان« التي تدل على أن السبب معرفة الله.

..............................

محبة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: من الضروري بيان الغاية من الخلقة للناس، كما تجب محبة أهل البيت (علیهم السلام) للآيات والروايات المتواترة، ومنها مقاطع عديدة من هذا الحديث، وفي هذا المقطع أيضاً دلالة على ذلك، إذ من الواضح أنه لو كان السبب في الخلقة هو محبة هؤلاء (عليهم الصلاة والسلام) كان حبّهم لازماً، لدلالة الاقتضاء العرفي على ذلك، وقد ذكرنا في بعض المباحث الفرق بين الاقتضاء العرفي والاقتضاء الأصولي الذي هو ما يتوقف صدق الكلام أو صحته عليه.

ولا يخفى أن حبهم (عليهم الصلاة والسلام) على نوعين:

حب ناقص: وهو مجرد المحبة القلبية بدون عمل.

وحب كامل: وهو المحبة القلبية مع عمل الجوارح.

فمن أحبهم (علیهم السلام) بلا عمل جوارحي كان فاسقاً، ومن لم يحبهم كان منحرفاً زائغاً، وقد قال سبحانه: ]إِلاَّالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1) ومن المعلوم أن مودتنا للقربى تنفع أنفسنا وليست تنفعهم (عليهم الصلاة والسلام) إذ هم في غنى عن ذلك.

ص: 246


1- سورة الشورى: 23.

..............................

محبة ذويهم (علیهم السلام)

ثم لا يخفى أن محبة ذويهم (علیهم السلام) كأولادهم وإخوانهم ومن أشبه فرع محبتهم، ومشتقة من محبتهم (عليهم الصلاة والسلام) فلها فضل أيضاً، ولذا روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «أكرموا ذريتي الصالحين لله والطالحين لي»(1)، وليس المراد بالطالحين الكفرة منهم _ إذا فُرض أن فيهم كفرة _ فإن الله سبحانه وتعالى بريء منهم وهم بُرَآء منه، كما تبرأ إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) من عمه آزر، وكما تبرأ الرسول (صلی الله علیه و آله) من أبي لهب، بل المراد بالطالحين من لهم بعض المعاصي والموبقات.

وهذه المحبة لهم ترجع إلى محبةرسول الله (صلی الله علیه و آله) كما قالوا: (لأجل عين ألف عين تكرم).

كما أن لأهل البيت (علیهم السلام) إطلاقاً آخر أشمل وأوسع من الإطلاق الأخص المختص بالمعصومين (علیهم السلام)، فمثلاً: زينب بنت علي (عليهما الصلاة والسلام) والعباس بن علي (عليهما الصلاة والسلام) وفاطمة المعصومة بنت الإمام

ص: 247


1- عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاءوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند الضيق، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذريتي إذا طردوا أو شردوا». راجع وسائل الشيعة: ج16 ص332 ب17 ح21690.

..............................

موسى بن جعفر (عليهما الصلاة والسلام) ومن أشبههم، من أهل البيت لكن غير المعصومين، ولذا تلا الحسين (عليه الصلاة والسلام) حين برز علي الأكبر (علیه السلام) إلى القتال قوله سبحانه: «إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1).

وقد ذكر بعض الفقهاء أن هناك عصمتين:

عصمة كبرى: وهي الخاصة بالمعصومين (عليهم الصلاة والسلام).

وعصمة صغرى: بمعنى أنهم لا يذنبونولا يفكرون في الذنب أبداً، وهي بالنسبة إلى أمثال العباس (علیه السلام) وعلي الأكبر (علیه السلام) وزينب (علیها السلام) ومن أشبههم من أولادهم وإخوانهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 248


1- سورة آل عمران: 33 _ 34.

الخَمسَةِ

اشارة

-------------------------------------------

امتداد أصحاب الكساء (علیهم السلام)

مسألة: يستحب ذكر العدد فيما إذا تضمن الفائدة تأكيداً أو لدفع وهمٍ أو شبه ذلك.

ومن المعلوم أن سائر الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) امتداد لهؤلاء الخمسة، بل كلهم نور واحد، كما ذكرنا في بعض المباحث السابقة، بالنسبة إلى آية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُوله وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1).

فلا يقال: إن الكون خلق لأجل المعصومين (علیهم السلام) جميعاً، لا لأجل هؤلاء الخمسة فقط.

فإن الشيء قد ينسب إلى الرأس، وقد ينسب إلى المجموع، وإذا كانت النسبة إلى الرأس فالمراد بذلك المجموع أيضاً، مثل قوله سبحانه: «خَلَقَكُمْ مِنْنَفْسٍ واحِدَةٍ»(2) باعتبار أن النفس الواحدة وهي آدم (علیه السلام) أول الخليقة وهي الأصل، وإلاّ فمن الواضح أن الخلق من آدم وحواء (علیهم السلام) معاً.

ص: 249


1- سورة المائدة: 55.
2- سورة النساء: 1، سورة الأعراف: 189، سورة الزمر: 6.

الَّذينَ هُم تَحتَ الكِساءِ. فَقالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ:

اشارة

-------------------------------------------

إتباع الموضوع بذكر وصفه

مسألة: من الراجح إتباع الموضوع بذكر وصفه إذا كانت فيه الفائدة، مثل الإعلام أو احترام الطرف أو التلذذ أو التحريض على الاستجابة، كما تقول: فلان (زيد بن عمرو) العالم أكرمه، أو ما أشبه ذلك مما ذكروه في علم البلاغة، وقد قال المتنبي(1) بعد سرده لأساميعديدة لممدوحة:

أسامي لم تزده معرفة *** وإنما لذة ذكرناها

الاعتقاد بأمانة جبرائيل

مسألة: يجب الاعتقاد بكون جبرائيل أميناً، وذلك من ضروريات الدين «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»(2) وعليه الروايات ومنها قولها (عليها الصلاة والسلام) هاهنا:

ص: 250


1- هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد بالكوفة عام 303ه في محلة كندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس. وقال الشعر في صباه. وفد على سيد الدولة ابن حمدان صاحب حلب سنة 337ه فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الأخشيدي. وزار بلاد فارس فمر بأرجان ومدح فيها ابن العميد وكانت له معه مساجلات. ورحل إلى شيراز فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي. وعاد يريد بغداد فالكوفة فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد في عام 354ه.
2- سورة التكوير: 21.

..............................

«فقال الأمين جبرائيل»، وبمقتضى مناسبة الحكم والموضوع فإن المراد الأمانة في الوحي وشبهه.

لكن لا يبعد عدم انحصار أمانته في هذا المجال، بأن يكون أميناً في مجالات أخرى من عالم التكوين، فإن الملائكة لا يتحددون بزمان خاص أو مكان خاص أو جهة خاصة(1). وإنما هم رسل الله سبحانه وتعالى في مختلف شؤونه جل وعلا، حيث إن الملائكة هم الوسطاء في تنفيذ كثير من الأعمال، ولذا قال سبحانه وتعالى:«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً»(2).

وبما أن معرفتنا بالملائكة محدودة، لذلك لا نعلم المهام التي يقومون بها والمسؤوليات التي يتحملونها، سوى ما جاء في الأحاديث الشريفة عن المعصومين (علیهم السلام). نعم، لا شك في أنهم يقدسون الله ويسبحونه ويهللون وما إلى ذلك مما أشارت إليه الروايات الشريفة.

استحباب النعت بالفضائل

مسألة: يستحب التوصيف والنعت بالفضائل، ولذلك ولغيره(3) كان وصفها (علیها السلام) جبرائيل (علیه السلام) ب (الأمين).

ص: 251


1- بشكل مطلق على القول بتجردهم أو بشكل نسبي على غير ذلك.
2- سورة النازعات: 5.
3- مثل: كون المقام ضرورة التوصيف بالأمانة.

..............................

والاستحباب عام لكل شيء أو شخص جدير بالتقدير والاحترام سواء كان إنساً، أم جناً، أم ملكاً، أم حوراً، أم ولداناً مخلدين، فإن الاحترام قد يظهر أدب المحترِم _ بالكسر _ ، وقد يظهرفضيلة المحترَم _ بالفتح _ وقد تكون فيه فائدة بالنسبة إلى ثالث.

وبما أن المقام مقام الأمانة لذلك قدَّم على جبرائيل ولم يقدم جبرائيل عليه، كما قالوا بالنسبة إلى الأوصاف والموصوفات أن المقام إذا كان مقام الوصف قُدم، وإذا كان مقام الموصوف قُدم، حيث إن مقصودها وعنايتها (صلوات الله عليها) على أن صاحب هذا المقال أمين في كلامه موثوق في حديثه.

ص: 252

يا رَبِّ، وَمَنْ تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

الإذن في السؤال والدعاء

مسألة: لا يحسن السؤال من دون الإذن وقد يحرم. والله سبحانه كما أذن لنا بالسؤال والدعاء، أذن كذلك للملائكة في الجملة.

ويظهر وجود الإجازة لسائر الملائكة إجمالاً، ولإبليس من قصة خلق آدم (علیه السلام) وسؤال الملائكة وإبليس.

كما يظهر من سؤال جبرائيل ها هنا: «ومن تحت الكساء» الإذن له من ذلك.

ولولا إذن الله سبحانه وتعالى لم يحق له وللملائكة السؤال، ولذا ورد في دعاء الافتتاح: «أذنت لي في دعائك ومسألتك»(1).

وقد ذكر بعض شراح دعاء الكميل عند قوله (عليه الصلاة والسلام): «فكيف أصبر على فراقك» أنه يأتي النداء إلى مالك جهنم أن يمنع أهل النار من ذكر الله سبحانه وتعالى إذ أنهم يتضرعون إليهليخرجهم من النار.

لا يقال: إن ذلك ينافي رحمة الله سبحانه.

لأنه يقال: يجزى العاصي نظراً لاستحقاقه العقوبة، والعقوبة أثر تكويني طبيعي للمعصية، فهي كبذرة الحنظل أو الورد، التي لابد أن تثمر حنظلاً أو ورداً

ص: 253


1- مصباح المتهجد: ص578 دعاء كل ليلة من شهر رمضان من أول الشهر إلى آخره.

..............................

لا غير، وكذلك حال الدنيا والآخرة والمعصية والعقوبة، وقد ذكرنا ذلك في جملة من كتبنا الكلامية(1) وفي كتاب (الأصول) بالمناسبة، إضافة إلى ما أشار إليه تعالى بقوله: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(2).

وهل كان سؤال جبرائيل (علیه السلام) : «ومن تحت الكساء؟» من باب تجاهل العارف من قبيل: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى»(3) أم كان على وجه الحقيقة؟.احتمالان.

العلم والاستعلام

مسألة: يستحب الاستعلام عن المجهول، وذلك كما سأل جبرائيل (علیه السلام) عمن تحت الكساء، وكما سأل غيره من الملائكة والرسل (علیهم السلام) عن غيره، فإن العلم كمال والسؤال طريق التكامل، ولذا قال سبحانه لأكمل مخلوقاته (صلی الله علیه و آله): «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»(4).

وقال علي (علیه السلام): «ولا يستحيَنَّ أحدكم إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه»(5).

ص: 254


1- راجع: (شرح المنظومة)، و(شرح التجريد)، و(تقريب القرآن إلى الأذهان).
2- سورة الأنعام: 28.
3- سورة طه: 17.
4- سورة طه: 114.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم82.

..............................

فإن العلم بحر عميق لا يعلم مداه إلا الله وحده،وقد حبى أولياءه الذين اختصهم به بقدر منه، أما ما في أيدي الناس فليس مثله إلاّ كمثل رطوبة رأس إبرة بالنسبة إلى «الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِسَبْعَةُ أَبْحُرٍ»(1)،بل النسبة أبعد وأبعد عن هذا بكثير.

وقال علي (علیه السلام): «علمني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف ألف باب»(2) كما في بعض الأحاديث، وربما يكون (الباب) إشارة إلى كل علم بأكمله، فالرياضيات باب، والطب باب ثان، وهكذا إلى مليون باب، أو تكون (الألف باب) الأولى إشارة إلى ألف علم جامع لمجموعة علوم هو كالجنس لها.

وفي حديث آخر: «إنهم (علیهم السلام) يزدادون علماً كل ليلة جمعة»(3).

وبعد كل ذلك فإن مجموعة ما يعلمه البشر جزء ضئيل من ضلع واحد من أضلاع العلم الأربعة التي أشار إليها قوله سبحانه: «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِالدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(4).

ص: 255


1- سورة لقمان: 27.
2- راجع الخصال: ج2 ص642-643 علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ألف باب يفتح كل باب ألف باب ح22، وفيه: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) علمني ألف باب من الحلال والحرام ومما كان إلى يوم القيامة كل باب منها يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب».
3- راجع بحار الأنوار: ج17 ص135-136ب17 ح15.
4- سورة الروم: 7.

..............................

فلكل من الدنيا والآخرة ظاهر وباطن، أما الآخرة فلا يعلم البشر منها شيئاً إطلاقاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولذا روي أن الإنسان في الآخرة يرى «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

وأما الدنيا فلا يعلم من باطنها شيئاً أيضا _ إطلاقاً _ وإنما يعلم قدراً محدوداً جداً عن ظاهرها، وفي بعض أبعادها فقط، وهي المحسوس بالحواس الخمسة وشبهها، ولربما كانت هناك مئات الأبعاد الأخرى في هذه الدنيا مجهولة لنا تماماً حتى بالاسم.

تقديم أكبر القوم

مسألة: يستحب أن يتقدم في السؤال ونحوه أكبر القوم، كما سأل جبرائيل (علیه السلام) دون سائر الملائكة. وذلك لأنه نوع احترام بالنسبة إلى الكبير.

ولا يخفى أن التعلم والتعليم ينقسم إلى الأحكام الخمسة: فمنه واجب، ومنه مستحب، ومنه محرم، ومنه مباح، ومنه مكروه، حسب الملابسات واللوازموالملازمات والملزومات(2) كما ذكروا شبه ذلك في باب التكسب.

ولا يعلم هل كان سؤال جبرائيل (علیه السلام) من قسم الواجب أو من قسم المستحب؟. والقرينة المقامية تدل على أصل الرجحان، ومن الواضح أن الملائكة لا يرتكبون الحرام، بل الظاهر أنهم لا يرتكبون المكروه أيضاً، ذلك أن في المكروه

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج10 ص476 ب26 ح13887.
2- راجع: (الفقه: العقل) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

حزازة على ما ذكره جمع، منهم الآخوند (قدس سره)(1) وإن كان لنا رأي آخر(2)،والملائكة لعصمتهم بعيدون عن مثل ذلك.

أما ما ورد في الآية الكريمة من اختصامهم فالظاهر أنه لاختلافهم في الآراء لا أنه من الاختصام المكروه فكيف يكون من الاختصام المحرم؟.

ص: 257


1- الشيخ ملا محمد كاظم ابن الملا حسين الهروي الخراسانى النجفي المعروف بالشيخ الآخوند، ولد (رحمة الله) في مشهد خراسان سنة 1255ه، فقرأ المبادئ فيها، ولما بلغ الثالثة العشرين من عمره كان قد أكمل علوم العربية والمنطق وشيئاً من الأصول والفقه، فخرج إلى العراق مهاجراً في رجب سنة 1277ه فأقام في طهران ستة أشهر درس في أثنائها بعض العلوم الفلسفية ثم غادرها إلى النجف الأشرف فأدرك فيها الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمة الله) واختلف إلى مجلس درسه فقهاً وأصولاً وبعد وفاة الشيخ لزم الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (رحمة الله) وكان أكثر أخذه منه فقربه وأدناه، كما أخذ الفقه عن الشيخ راضي بن الشيخ محمد، ولما خرج السيد الشيرازي (رحمة الله) إلى سامراء وخرج معه أكثر تلامذته لم يخرج الشيخ الآخوند معه، بل أقام في النجف الأشرف وتصدى للتدريس فيها، فاختلف للاستفادة من مجلس درسه أكثر الطلاب خصوصاً في الأصول، بحيث صارت الرحلة إليه من أقطار الأرض وعمر مجلس درسه بمئات من الأفاضل والمجتهدين، وقد تميز بحب الإيجاز والاختصار وتهذيب الأصول والاقتصار على لباب المسائل وحذف الزوائد مع تجويد في النظر وإمعان في التحقيق. ألف العديد من الكتب ومنها: الكفاية في أصول الفقه، وحاشية على رسائل الشيخ الأنصاري، وروح الحياة رسالة تقليدية طبعت في بغداد سنة 1327ه، وحاشية على مكاسب الشيخ الأنصاري، ورسالة الفوائد تحتوي على خمس عشرة فائدة، والتكملة وهي تلخيص تبصرة العلامة، وشرح التبصرة، وغيرها. توفي (رحمة الله) فجأة وقيل: مات مسموماً فجر الثلاثاء ذي الحجة سنة 1329ه في النجف الأشرف ودفن في حرم أمير المؤمنين (علیه السلام) في أحد حجرات الصحن الشرقية على يمين باب السوق الكبير تحت الساعة.
2- راجع الأصول والفقه حيث ذُكر أن المكروه قد يكون بمعنى الأقل ثواباً، لا ما فيه الحزازة كما لو زاحمه أمر آخر.

فَقالَ عَزَّوَجَلَّ: هُم

اشارة

-------------------------------------------

الجواب على مقتضى الحال

مسألة: تستحب الإجابة على الأسئلة فيما إذا كانت في الجواب فائدة، كما أجاب الله سبحانه سؤال جبرائيل (علیه السلام)، وقد يجب الجواب حسب الموازين.

إذ فيه _ بالإضافة إلى ذلك _ نشر للعلم وقضاء للحاجة فيشمله دليلهما، أما إذا كان هناك وجه أهم يقتضي عدم الإجابة أو تأخيرها أو إجمالها أو إبهامها فلا استحباب، ولذا قال سبحانه في جواب الملائكة:

«إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(1).

ومن الواضح أن الجواب قد يكون مفصلاً، وقد يكون مجملاً حسب اقتضاء المقام، ومنه مدى فهم السائل وتحمله، وقوله سبحانه: «مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(2)، وقوله (صلی الله علیه و آله): «إنا أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس بقدر عقولهم»(3) يشيران إلى ذلك أيضاً، ولذا ورد أنه: «ما كلم رسول الله (صلی الله علیهو آله) العباد بكنه عقله قط»(4) لوضوح أن عقول البشر لا تبلغ مستوى عقل رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 258


1- سورة البقرة: 30.
2- سورة إبراهيم: 4.
3- الأمالي للطوسي: ص481 المجلس17 ح1050.
4- الكافي: ج1 ص23 كتاب العقل والجهل ح15، والكافي: ج8 ص268 حديث نوح (علیه السلام) يوم القيامة ح394.

..............................

وفي (البحار): سأل شخص الإمام علي (علیه السلام): لماذا لا يُرى الله؟. فقال الإمام (علیه السلام) _ ما معناه _: «لأنه إذا رؤي زالت هيبته»(1).

فإن الجواب كان على حسب فهم السائل، وإلا فمن المعلوم أن الله تعالى تستحيل رؤيته كما برهن في علم الكلام، وقوله سبحانه: «لَنْ تَرانِي»(2) نظير لباب السالبة بانتقاء الموضوع _ أي لا يمكن رؤيته _ لا أنها ممكنة غير واقعة.

ثم لا يلزم أن يكون السائل هو المستفيد من الجواب، بل يجاب ولو كان غيره هو المستفيد منه سواء علم السامع أم لا؟. وفي الحديث: «رب حاملفقه إلى من هو أفقه منه»(3).

ص: 259


1- راجع بحار الأنوار: ج4 ب5 ص27 ح2، ص32 ح8، ص44 ح23، ص53 ح28.
2- سورة الأعراف: 143.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص45 ب18 ح12390.

أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعُ الرِّسالَةِ،

اشارة

-------------------------------------------

أهل البيت أم الدار؟

لا يخفى أن نسبة (الأهل) إلى (البيت) دون الدار، لأعميته وتطابقه مع الأهل؛ لأن كثيراً من الناس لا يملكون الدور، وإنما يملكون البيوت، فإن (البيت) يطلق على بيت الحجر والمدر والقصب والخشب والطين وما أشبه ذلك، بينما كل ذلك لا تسمى داراً. وهناك فرق آخر بين البيت والدار، وهو أنه يسمى بيتاً لمبيت الإنسان فيه، بينما تسمى الدار داراً لأن الحائط يدور حوله، أو لكثرة تحرك الناس فيه(1)، ويقال: (دار النشر) ولا يقال: بيت النشر؛ لأنه لا يتعارف المبيت في دار النشر، فنسبة الأهل وهم خاصة الرجل إلى البيت _ المتضمن لمعنى المبيت _ أنسب والترابط بينهما أوثق.

فاطمة (علیها السلام) حجة الله

مسألة: يستفاد من إطلاق «موضعالرسالة» على جميعهم (علیهم السلام)(2) أن فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) حجة الله، فيكون قولها وتقريرها حجة.

ص: 260


1- هي من دار يدور لكثرة حركات الناس فيها، راجع لسان العرب: ج4 ص298 مادة دور.
2- ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها: عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن أبيه، عن علي (علیه السلام)، قال: دخل: رسول الله (صلی الله علیه و آله) على علي وفاطمة (علیهما السلام) وأخذ بعضادتي الباب، وقال: «السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، وموضع الرسالة، ومنزل الملائكة ... » _ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج4 ص106 _.

..............................

وذلك لأنه يظهر من قوله تعالى: «وموضع الرسالة» أن جميع أصحاب الكساء _ عند صدور هذا القول من الله تعالى _ هم موضع للرسالة، إلاّ أن النبي (صلی الله علیه و آله) رسولٌ بالمعنى الاصطلاحي(1) والباقون بالمعنى الأعم ولو مجازاً الشامل لرسول الرسول، أو لمنينكت في قلبه، أو له عمود النور، أو ما أشبه، كما أن الملائكة رسلٌ، كما في الآية الكريمة.

ويمكن أن يكون الوجه في إطلاق «موضع الرسالة» عليهم جميعاً باعتبار أنهم (علیهم السلام) نور واحد بعضهم من بعض، فإذا كان أحدهم موضع الرسالة وهو الرسول (صلی الله علیه و آله) كان المجموع يستحق هذا الوصف بالاعتبار.

وكونها (صلوات الله عليها) حجة الله، إضافة إلى كونه ضروري المذهب، يدل عليه روايات عديدة(2)، ومنها رواية عن الإمام العسكري (علیه السلام) التي تنص على أن الزهراء (علیها السلام) حجة على الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)(3) أي يحتج الله بها عليهم، فيدل بالملاك الأولوي على أنها حجة على سائر الخلق.

ص: 261


1- المعنى الاصطلاحي هو: المرسل الذي يأتيه جبرائيل (علیه السلام) قبلاً ويكلمه بالوحي النبوي _ راجع مجمع البحرين: ج5 ص383 مادة رسل _. والرسول _ بالمعنى الأعم _ حامل الرسالة بأية طريقة بلغته الرسالة بالقول أو الكتابة أو الإشارة، عبر جبرائيل (علیه السلام) أو الإلهام أو النكت في القلب أو عمود النور أو عبر الرسول (صلی الله علیه و آله) نفسه.
2- راجع عوالم العلوم والمعارف والأحوال كتاب فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، وغيره.
3- تفسير أطيب البيان: ج13 ص225.

هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها، وَبَعلُها

اشارة

-------------------------------------------

لماذا جعلها الله محوراً

مسألة: يستحب بيان مكانة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عند الله تبارك وتعالى، وأنه تعالى جعلها (سلام الله عليها) هي المحور في تعريفهم (علیهم السلام).

وعند إرادة الحديث عن أفراد عائلة واحدة يحسن اقتضاء تسمية واحد منهم _ لاعتبارات معينة _ كمركز، ثم إدارة أسماء الباقين عليه، كما قال سبحانه: «فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها».

ولعل السر في جعلها (صلوات الله عليها) محوراً أن الملائكة كانوا قد عرفوا فاطمة (علیها السلام) حين كانوا في الظلمة ثم ببركة نور فاطمة (علیها السلام) خرجوا إلى النور.

وفي الحديث: عن جابر عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: لمَ سميت فاطمة الزهراء زهراء؟. فقال (علیه السلام): «لأن الله عزوجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماواتوالأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟. فأوحى الله إليهم هذا نور من نوري»(1).

ولربما كان السر نفس مفاد حديث: «لولاك لما خلقت الأفلاك ... »(2).

ص: 262


1- علل الشرائع: ج1 ص179-180 ب143 ح1.
2- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1.

..............................

أو لأجل أن فاطمة (سلام الله عليها) تصلح أن تكون محوراً مباشراً بلا واسطة، بينما سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) إنما يتصل بعضهم ببعض بواسطة، ففاطمة وأبوها، وفاطمة وبعلها، وفاطمة وبنوها، بينما إذا أريد إبدال اسمها (علیها السلام) باسم الرسول (صلی الله علیه و آله) فاللازم أن يقول: محمد (صلی الله علیه و آله) وابن عمه، ويقول: محمد (صلی الله علیه و آله) وأحفاده، وكذلك بالنسبة إلى علي والحسنين (علیهم السلام) فربما لهذه الجهة اقتضت البلاغة جعل فاطمة (عليها الصلاة والسلام) المحور.

الحركة الدورانية للمخلوقات والمحور الرئيسي لها

وربما يكون السبب هو ما ورد في الحديث الشريف عن الصادق (علیه السلام): «هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»(1).

ولا يخفى أن الله سبحانه قرر للمخلوقات حركة دورانية بمعنى العودة إلى المبدأ، كما جعل لأجزاء وجزئيات عالمي المادة والماورائيات محاور وأقطاب رحى، فالشمس والقمر والكواكب والأرض يدور بعضها حول بعض وتدور على القرون، وماء البحار وغيرها تبخره الشمس فيصعد إلى السماء، ثم ينزل منها إليها على شكل أمطار، وهكذا دواليك(2).

ص: 263


1- بحار الأنوار: ج43 ص105 ب5 ح19. وفي (أمالي الطوسي): بإسناده عن إسحاق بن عمار، وأبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أيضاً.
2- اللف والنشر مشوش ف (الشمس والقمر ... ) مثال ل (كما جعل ... محاور وأقطاب رحى) و(ماء البحار ... ) مثال ل (حركة دورانية) وكذلك المثال اللاحق (والأشجار ... ) وما بعده أيضاً، وأما المعنويات فأمثلة الإمام المصنف (قدس سره) هي للقسم الثاني فقط أي (كما جعل ... محاور) فليلاحظ.

..............................

والأشجار والحيوانات كذلك تنشأ من الأرض ثم تعود إليها كما كانت.

قال سبحانه: «وَالله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً» الآية(1).

وقال تعالى: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ»(2) إلى غير ذلك من الأمور، حتى أن العلماء قالوا: كما أن المادة تتحول إلى (طاقة) وإحدى سبل ذلك الانفجار الذري، بل ذلك حادث بشكل طبيعي في أجهزة بدن الإنسان والحيوان و... دوماً دوماً، كذلك الطاقة يمكن أن ترجع إلى ال (مادة) وإنما الأمر بحاجة إلى أجهزة متطورة تتمكن من استرجاعها كما كانت.

هذا في الماديات.

أما المعنويات: فلها مدار وقطب ومركز أيضاً، ولذا يقال: يدور المجتمع السليم على محور الدين بمعنى، أن الأخذ والعطاء والمعاملات والنكاح وغيرها تكون على محور الدين، وحتى الماديون يرون أن برامجهم ومناهجهم ومجتمعهم، تدور على محور أوامر (ماركس) مثلاً فمنه تستمد وإليه ترجع، فإن المجتمع لاتكفي فيه المادة فقط بل يحتاج إلى قوانين تقوم بتنظيم حياتهفي مختلف الأبعاد، فلابد أن يكون له قانون يكون هو عماد الحياة ومحورها يدير شؤونه ويحول دون الفوضى والهرج والمرج.

إذن فالحياة المادية تدور هي بدورها على محور البعد المعنوي، سليماً كان أم سقيماً.

ص: 264


1- سورة نوح: 17.
2- سورة طه: 55.

..............................

وحيث إنهم (علیهم السلام) محور الكون والكائنات، حيث كانوا هم السبب في إفاضته سبحانه وتعالى: المادة والمعنى(1)، وكانوا (علیهم السلام) هم الطرق والوسائط في هذه الإفاضة، لذلك فهم (علیهم السلام) قطب رحى الوجود، وعليهم تدور القرون والأزمان بقول مطلق، وفاطمة (عليها الصلاة والسلام) هي محور هذا المحور.

وإنما خصص ب (الأولى) في قوله (علیه السلام): «وعلى معرفتها دارت القرون الأولى» كما في رواية (البحار) عن الإمام الصادق (علیه السلام) (2)؛ لأن الأولى إذا كانت على كيفية فالأخرى تكون على تلك الكيفية _ عرفاً _ بخلافما إذا كانت الأخرى كذلك، حيث لا تستلزم أن تكون الأولى مثلها أيضاً، وإذا أطلق بأن قال: «دارت القرون» كان المنصرف منه قروننا فقط من قبيل قوله سبحانه في مريم (علیها السلام): «عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»(3) حيث المنصرف منه (عوالم زمانها)، مثل أن يقال: (الدولة الفلانية أقوى الدول) حيث إن المنصرف منه: (الدول المعاصرة لها).

ص: 265


1- سبق هذا المبحث، وسيأتي تفصيلاً أيضاً.
2- بحار الأنوار: ج43 ص105 ب5 ح19.
3- سورة آل عمران: 42.

..............................

معادن الثروات المعنوية

وكما أن الله سبحانه جعل للماديات مخازن تُستمد منها، مثل الشمس التي هي مخزن ومنبع النور والحرارة والدفء، والبحار وهي مخزن الماء والأسماك و.. والهواء وهو مصدر ومخزن الأوكسجين الذي به يتنفس الإنسان والنبات والحيوان، إضافة إلى ما يحمله من أمواج _ بشتى أنواعها _ وغيرها، والأرض وهي مخزن التراب وما ينشأ منه من النباتات والأشجار وغيرها.

وكذلك جعل للمعنويات مخازن ومعادن، يتم الاستمداد منها بالمباشرة أو بواسطة القدوة والأسوة، فالأنبياء (علیهم السلام) خزنة علم الله سبحانه ورسالاته، وكذلك الأوصياء (علیهم السلام) والسيدة الزهراء (علیها السلام)، والناس يستمدون منهم مختلف العلوم والمعارف، إذ كل المعارف والعلوم البشرية تعود إليهم بشكل أو بآخر.

وكذلك للشجاعة والكرم والعاطفة وغيرها من الفضائل منابع ومعادن، فإن تلك الصفات في الكبار من الناس تحتذىبالأسوة والإتباع.

العلّة في بكاء يعقوب والزهراء (علیهما السلام)

ولعلّ بكاء يعقوب (علیه السلام) تلك المدة الطويلة كان من ذلك، حيث يستمد الناس منه العاطفة بالأسوة والإقتداء.

وكذلك بكاء الصديقة الطاهرة (علیها السلام) والسجاد (علیه السلام) إلى غير ذلك.

ص: 266

..............................

فلا يقال: كيف بكى يعقوب (علیه السلام) وهو يعلم أن ولده حي وسيرجع إليه ملكاً، وكيف بكى السجاد (علیه السلام) والزهراء (عليها الصلاة والسلام) وهما يعلمان بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) والحسين (علیه السلام) وأهل بيته والمستشهدين بين يديه (علیهم السلام) ذهبوا إلى جنان الله الوسيعة، وكان علمهم بذلك عين اليقين بل حق اليقين.

هذا بالإضافة إلى أن بكاءهما (علیهما السلام) كان سياسيا أيضاً، حيث أرادا فضح المخالفين، فإن كلاً من الهجوم والدفاع يكون عاطفياً بالبكاء ونحوه، وسياسياً بالحوار والمعاهداتونحوهما،كوضع الرجل المناسب في المكان المناسب وعكسه، واقتصادياً، وغير ذلك مما سنذكره في مقدمة الخطبة إن شاء الله تعالى.

لا يقال: إذا كانوا (علیهم السلام) يعلمون بأن ذويهم في روح وريحان وجنة ورضوان وفي كمال الراحة، فلماذا كانوا يبكون، وهل يتأتى البكاء لمن يرى ذويه في راحة ونعيم؟.

لأنه يقال: قد ذكرنا في بعض مباحث الكلام أن علمهم وإحساسهم الغيبي لا يؤثر في شؤونهم الدنيوية، وإلاّ لم يكونوا أسوة، وكذا بالنسبة إلى القدرة الغيبية، ولذا لم يستخدموها لدحر العدو أو للتوقي من القتل وشبه ذلك على تفصيل ذكرناه هناك.

ص: 267

وَبَنوها

اشارة

-------------------------------------------

الجمع والجماعة

«بنوها» وإن كان صيغة جمع إلاّ أن المراد به أولاً اثنان: هما الحسن والحسين (علیهما السلام)، وهذا ما يسمى بالجمع المنطقي والعرفي.

بل قال بعض الأدباء: إن الجمع مصدر جَمَع، وهو يصدق على الاثنين فما فوق، فهو جمع لغوي وأدبي أيضاً.

أما قول النبي (صلی الله علیه و آله) فيما روي عنه: «المؤمن وحده جماعة»(1)، فالمراد أنه في بأسه وشدته واستقامته وصلابته كالجماعة، حيث إن «يد الله مع الجماعة»(2) وأن قوة الجماعة أقوى من قوة الفرد، فالمؤمن حاله حال الجماعة في قوة نفسه وصلابة ذاته، وهو كما قال (علیه السلام): «لا تستوحشوا في طريق الهُدى لقلة من يسلكه»(3).

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج8 ص297 ب4 ح10710.
2- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص194 ب4 ح13858.

فَقالَ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ، أَتَأذَنُ لي

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان من ذي الحق

مسألة: يستحب استئذان الداني من العالي فيما يرتبط به، نظراً لتلك الكلية.

وكما أستأذن جبرائيل (علیه السلام) من الله سبحانه.

وكما استأذنوا (علیهم السلام) منه (صلی الله علیه و آله).

وكما استأذن جبرائيل (علیه السلام) منه (صلی الله علیه و آله) أيضاً.

مع أنه كان لهم (علیهم السلام) الدخول بلا استئذان؛ لأنه من قبيل بيت من تضمنته الآية الشريفة، بل بالملاك الأولوي هنا.

ولعل استئذان جبرائيل (علیه السلام) كان من ذلك أيضاً.

نعم، في بعض الموارد يحرم الدخول بدون الإذن لكون الحق للسابق، ولايجوز الدخول في ما هو من حقه إلاّ بإذنه، أو العلم برضاه، وعدم المحذور كما في مورد العورات الثلاث.ومن قبيل المستحب استئذان الزائر من الإمام المزور (علیه السلام) في المراقد المطهرة.

والظاهر استحباب أن يأذن من ليس في إذنه محذور كما أذن النبي (صلی الله علیه و آله) لهم (علیهم السلام).

ص: 269

..............................

ويؤيده أنه قضاء حاجة، وهو مستحب مطلقاً في غير المحرمات.

وهل يستحب إذن السابق في الموارد المكروهة؟.

الظاهر أنه من باب التزاحم بين ترجيح قضاء الحاجة وترجيح الكراهة، فإن عُلِم أهمية أحدهما قدّم وإلاّ تخير.

وكذلك الإذن عند الاستئذان لأي عمل مكروه، فلو فرض أن إتيان المرأة من الخلف مكروه، فاستأذنها الزوج في ذلك، فهل يستحب لها القبول أم لا؟ أو يكره؟

إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثم إن الإذن ليس مما إذا ثبت دام لزوماً، بل للسابق أن ينقض إذنه بعد زمان.

ص: 270

أَن أَهبِطَ إلَى الأَرضِ

اشارة

-------------------------------------------

نوعية الهبوط

ربما يستفاد من الحديث: أن جبرائيل (علیه السلام) أقرب الملائكة أو أذكاهم أو أفهمهم أو أبصرهم أو أقواهم أو أسرعهم أو ما أشبه؛ لأنه بادر لاستئذان الرب تعالى وطلب الدخول معهم (علیهم السلام) دون سائر الملائكة، مع أن الكل سمعوا نداء الرب تعالى.

فإن ذلك يُفهم بدلالة الاقتضاء على المعنى المذكور سابقاً.

ثم لا يعلم هل كان الهبوط مادياً أم معنوياً؟

حقيقياً أم مجازياً؟

وإن كان لا يبعد كونه حقيقياً.

وذلك مثل قوله سبحانه: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ»(1)..

إلاّ أن يقال: إن الحديد أيضاً منزل من السماء على ما يقوله بعض علماء الفلك من أن الأرض انفصلت من الشمسقبل ملايين السنين، فالحديد أُنزل إنزالاً حقيقياً مكانياً لا معنوياً بسبب أمر الله سبحانه وتعالى بتكونه.

ص: 271


1- سورة الحديد: 25.

لأِكُونَ مَعَهُم سادِساً؟.

اشارة

-------------------------------------------

الالتحاق بركب المتقدمين

مسألة: يستحب الالتحاق بركب المتقدمين وأولياء الله الصالحين والحضور في مجالسهم ومجامعهم؛ لينال الملتحقُ درجاتٍ من التقدم والكمال، كما استأذن جبرائيل (علیه السلام) ليكون معهم، بل والمعصومون الأربعة (علیهم السلام).

أما أصل استحباب نيل التقدم والتكامل والتعرض له، فلا إشكال فيه، قال سبحانه: «سَارِعُوا»(1)، وقال تعالى: «فَاسْتَبِقُوا»(2)، وقال جل اسمه: «فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(3) إلى غير ذلك.

وأما أن المقام من صغرياته؛ فلأن التواجد في محضر العظيم تترتب عليه فوائد دنيوية وأخروية، وذلك لأن الرحمة والبركة والخير والإفاضةالنازلة باستمرار عليه تشمل الذي معه _ بشكل أو بآخر، بدرجة أو بأخرى _ قال سبحانه: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي»(4)، وقال تعالى: «لاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(5) إلى غير ذلك ولا أقل من الملاك.

ص: 272


1- سورة آل عمران: 133.
2- سورة البقرة: 148، سورة المائدة: 48.
3- سورة المطففين: 26.
4- سورة إبراهيم: 36.
5- سورة الأعراف: 150.

..............................

إضافة إلى أن كون الإنسان مع عظيم إلهي يوجب الاستضاءة بنور هدايته وأخلاقه وآدابه والاستفادة من نمير علومه، وفي كليهما فائدة كبرى أخروية، بل ودنيوية أيضاً، هذا مع قطع النظر عن بلوغه درجات سامية لا يمكن للأشخاص الوصول إليها عادة إلاّ بالالتحاق بركب عظيم من العظماء.

والأشياء كما تعرف بأمثالها، كذلك تعرف بأضدادها، فكما أن كون الإنسان مع الظالم والفاسق والمنافق نقص _ في حد ذاته وبلحاظ لوازمه أيضاً _ كذلك طرفه كمال.

لا يقال: ليس كل مستحب طرفه مكروه، ولا العكس.

لأنه يقال: ليس الاستدلال بذلك بل بما سبق وبالفهم العرفي، كما ألمعناإليه في مقدمة هذا الكتاب _ في مثل المقام _ وإن لم يكن له إطلاق.

أهمية هذا الاجتماع الرباني

مسألة: يستحب بيان مدى أهمية هذا الاجتماع المبارك عند الله تعالى، فإن استئذان جبرائيل (علیه السلام) كي يكون واحداً من أهل الكساء وأن يكون معهم ولو للحظات _ إضافة إلى سائر القرائن والأدلة التي سبقت وستأتي في هذا الحديث وغيره _ دليل على الأهمية القصوى لهذا الاجتماع الفريد عند الله سبحانه وتعالى، فإن للاجتماعات المعنوية أهميتها البالغة، فكيف باجتماع من هم وسائط الله وحججه؟.

ص: 273

..............................

وإذا كانت للاجتماعات المادية كاجتماع رؤساء الدول لأجل اتخاذ قرار اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو ما أشبه ذلك أهمية كبرى، لما تتركه من آثار سلبية أو إيجابية على مستقبل البلاد، فكيف باجتماع خطط له إله الكون وقد ضم من بسببهم خلق الكون كله؟. وقد بين فيه الله سبحانه سر الخلقة وحقائق كونية أخرى في غايةالأهمية كما سيأتي، كما ترتبت عليه ثمار وآثار وضعية للبشرية _ كما سيوضح ذلك إن شاء الله تعالى _.

ص: 274

فَقالَ الله: نَعَم، قَد أَذِنتُ لَكَ.

اشارة

-------------------------------------------

الإذن من ذي الحق

مسألة: يستحب الإذن من ذي الحق(1) إذا كان في تلبية طلب المستأذن فائدة له أو لذاك أو لغيرهما، بل مطلقاً ولو باعتبار كونه قضاء حاجة، وقضاء الحاجة إلا في المحرم _ وأحياناً المكروه _ مستحب، وقد أذن سبحانه لجبرائيل (علیه السلام) بالهبوط لما استأذنه.

هل الأصل التخلق بأخلاق الله؟

لا يقال: أعمال الله لا يقاس عليها؛ لأن الله يعمل الخير والشر، قال سبحانه: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً»(2)، وقال تعالى: «طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ»(3)، وقالسبحانه: «مَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا له مِنْ هَادٍ»(4)، وقال تعالى: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله»(5)،إلى غير ذلك من الإحياء،والإماتة، والإمراض، وترك الظالم وظلمِه، ونحوها.

ص: 275


1- أي بأن يأذن صاحب الحق.
2- سورة الأنبياء: 35.
3- سورة التوبة: 93، سورة النحل: 108، سورة محمد: 16.
4- سورة الرعد: 33، سورة الزمر: 23و36، سورة غافر: 33.
5- سورة النساء: 78.

..............................

لأنه يقال:

أولاً: في الحديث: «تخلقوا بأخلاق الله»(1)، والمراد بالأخلاق: الإطلاق لا خصوص المعنى المصطلح، كما هو(2) المراد ب: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3)، وقالت بعض زوجات الرسول (صلی الله علیه و آله) لما سُئلت عن أخلاقه (صلی الله علیه و آله): «كان خلقه القرآن»(4) ونحوهما، والاستثناء يحتاج إلى الدليل، فالأصل هو التخلق إلا ما خرج.وثانياً: إنه سبحانه يعمل حسب المصلحة التي ألزم بها نفسه في التكوين والتشريع، فإن الأقسام خمسة: ما هو خير محض، وما خيره أكثر، وما هو شر محض، وما شره أكثر، والمتساوي الطرفين.

وقد ثبت في الكلام(5) أن الله سبحانه لا يعمل إلاّ الأولين فيكون التعبير بالشر مسنداً له إلى الله تعالى مجازياً بنحو المجاز في الإسناد بل والكلمة أيضاً(6).

ولو فرضنا أن إنساناً استطاع أن يدرك مصالح الأمور ويحيط بها جميعاً بأن علم أن الإماتة في مورد معين خير محض، أو خيره أكثر إلى حد المنع من النقيض، كان له ذلك أيضاً من حيث المقتضي _ مع قطع النظر عن كونه تصرفاً في ملك

ص: 276


1- بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.
2- أي: الإطلاق، والمعنى الأوسع.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص187 ب6 ج12701.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص340 نبذ وأقول في حسن الخلق ومدحه.
5- راجع: (المنظومة) للسبزواري، و(التجريد) للطوسي، وشرحهما للإمام المؤلف (قدس سره).
6- إذ إطلاق (الشر) على ما خيره أكثر مجاز في الكلمة.

..............................

الغير، أعني: الله سبحانه وتعالى _ وذلك كما في قتل المسلم إذا تترس به الكفار؛ لأنه في اللازم لا إشكال، وفيالثاني تأتي مسألة الأهم والمهم.

وأما (الابتلاء) فهو بمعنى الامتحان، والأمر في نظائره كذلك، على ما فصل في علم الكلام.

إضافة إلى جواب آخر ذكره البعض، كالطوسي (قدس سره)(1)..

ص: 277


1- أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، ولد بطوس خراسان في شهر رمضان سنة 385ه، درس أولاً في مدارس خراسان ثم هاجر إلى بغداد سنة 408ه وكان عمره آنذاك 23 سنة. لازم الشيخ المفيد (رحمة الله) وتتلمذ عليه خمس سنوات، وبعد وفاته انضوى تحت لواء السيد المرتضى (رحمة الله) فاهتم السيد به غاية الاهتمام وبالغ في إجلاله وتقديره فلم يكد ليغيب يوماً واحداً عن درسه، واستمرت الحال سنون متمادية حتى توفي السيد المرتضى (رحمة الله) سنة 436ه، فبقي الشيخ بعده ببغداد اثني عشر عاماً حتى سنة 447ه حيث هجم السلاجقة الأتراك على بغداد فأغار عبد الملك الوزير المتعصب على دار الشيخ ليقتله ولما لم يجده في داره أحرق ما فيها من أثاث وكتب مما اضطر الشيخ للانتقال من بغداد إلى النجف الأشرف وتأسيس الحوزة العلمية هناك. لقد كان يقصد الشيخ (رحمة الله) الكثير من العلماء من شتى أرجاء العالم الإسلامي لينتفعوا منه ويفتخروا بالتتلمذ عليه، فقد بلغ عدد تلامذته من الفقهاء والمجتهدين وعلماء الشيعة أكثر من 300 عالم ومجتهد، كما حضر عنده المئات من علماء أهل السنة. اشتهر (رحمة الله) بعلمه وورعه وزهده وتقواه بحيث تعدت شهرته حدود العراق ووصلت إلى أقصى نقاط الدنيا. ألف (رحمة الله) كتابين من كتب الشيعة الأربعة المشهورة وهما: (تهذيب الأحكام) و(الاستبصار)، كما كتب في الفقه كتاباً اسماه (النهاية) وكتاب (المبسوط) الذي دخل الفقه به مرحلة جديدة وكان في زمانه أكبر كتاب فقهي، وأما كتاب (الخلاف) فقد ذكر فيه آراء فقهاء الشيعة وأهل السنة، وله كتب فقهية أخرى، كما ألف في الأصول والحديث والتفسير والكلام والرجال مؤلفات كثيرة. توفي (رحمة الله) ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 460ه عن عمر يناهز الخامسة والسبعين عاماً، ودفن في داره التي كان يقطنها بوصية منه، وهي الآن من أشهر مساجد النجف الأشرف ويعرف بمسجد الطوسي بالقرب من الحرم الشريف.

..............................

والعلامة (قدس سره)(1)..والسبزواري (2) :

من أن الشر إعدام، فالأمر من قبيل باب السالبة بانتفاء الموضوع(3) ويكون

ص: 278


1- الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي، ولد في 29 رمضان سنة 648ه في مدينة الحلة. بدأ بتحصيل العلم منذ طفولته، فدرس الأدب العربي والمقدمات والعلوم العصرية عند أبيه، وكذلك عند خاله المحقق الحلي، وابن عم أمه الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد، والسيد أحمد بن طاووس، ورضي الدين علي بن طاووس، وابن ميثم البحراني. أكمل المقدمات ونال درجة الاجتهاد ولم يبلغ سن التكليف. له من الآثار في حدود 100 كتاب، فقد ألف في الفقه والأصول والكلام والمنطق والفلسفة والرجال، منها: الإرشاد، تبصرة المتعلمين، القواعد، التحرير، تذكرة الفقهاء، مختلف الشيعة، المنتهى، شرح التجريد، منهاج الاستقامة، تلخيص الكشاف، وغيرها. توفي (رحمة الله) في 11 محرم ليلة السبت أو يومه سنة 726ه في الحلة المزيدية، وقد حمل نعشه الشريف على الرؤوس إلى النجف الأشرف ودفن في جوار أمير المؤمنين (علیه السلام) في حجرة إيوان الذهب الواقعة على يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة العلوية من جهة الشمال بجنب المنارة الشمالية.
2- الحاج المولى هادي بن مهدي السبزواري الشيرازي المشهور بالحكيم السبزواري، فقيه وحكيم من أعلام القرن الثالث عشر الهجري، نعته العلامة الشيخ أقا بزرك الطهراني ب (الفيلسوف المتأله)، ولد في سبزوار عام 1212ه، وتعلم بأصبهان ومشهد، توفي بسبزوار 1289ه. من مؤلفاته : شرح اللآلئ المنتظمة في المنطق، غرر الفرائد في الحكمة، أرجوزة في الفقه سماها النبراس، حاشية على الشواهد الربوبية للصدر الشيرازي، وحاشية على المبدأ والمعاد للشيرازي أيضاً، وأسرار الحكمة والجبر والاختيار.
3- المراد كما يبدو أن قولك: (خلق الله الشر) أو (الشر مخلوق الله) غير تام، من جهة أن الشر عدم محض غير قابل للخلقة، لا أنه ممكن الخلقة لكنه تعالى لم يخلقه من جهة المصلحة التي ألزم بها نفسه كما هو مقتضى الجواب السابق.

..............................

التعبير به في الآيات والروايات مسنداً إلى الباري تعالى مجازياً بنحو المجاز في الكلمة(1)، والإماتة والإمراض وشبهها _ على هذا القول _ كلها خير وإن خفي علينا ذلك.

ثم عمله الشر لو فرض فلأنه مالك حقيقي له أن يتصرف في ملكه، فلا يصح التخلق في ما ثبت أنه شر فقط، فليتأمل.

ص: 279


1- بأن يكون إطلاق الشر على (ما يتوهم شراً) وإن كان خيراً حقيقة، أو على الشر بالقياس النسبي.

فَهَبَطَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ، وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ الله، العَلِيُّ الأَعلَى

اشارة

-------------------------------------------

وصف الله بالعلي الأعلى

مسألة: يجوز خطاب الله تعالى بالعلي الأعلى، حتى بناءً على أن أسماء الله توقيفية، استناداً لهذا الحديث الشريف.

ولعلّ جبرائيل (علیه السلام) إنما قال: «العلي» باعتبار أنه قد هبط من أعلى، وكلما هبط الإنسان وكان من موقع أعلى فأعلى تجلى علو العالي له أكثر فأكثر ويكون أظهر بالنسبة إليه، ولهذا ورد أنه: «لما نزلت «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»(1) قال لنا رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اجعلوها في ركوعكم»، فلما نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى»(2) قال لنا رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اجعلوها في سجودكم»(3).وحيث إن العلو يمكن اتصاف غير الله سبحانه وتعالى به عرفاً _ وإن كان بمعناه الحقيقي وبقول مطلق منحصراً به جل وعلا _ قيَّده جبرائيل (علیه السلام) بالأعلى؛ فإنه أعلى من كل عال، وهذا من ضيق التعبير، إذ أين المحدود من اللا محدود والفقر المحض من الغني ذي القوة المتين؟.

ص: 280


1- سورة الواقعة: 74و96، سورة الحاقة: 52.
2- سورة الأعلى: 1.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص327-328 ب21 ح8101.

..............................

ثم إن جمعاً من أهل الذكر والدعاء قالوا: إن الإنسان إذا كرر وأكثر من ذكر أحد أسماء الله سبحانه وتعالى أفاض الله عليه مفاد ذلك الاسم، فمثلاً: من يريد العلو إذا أكثر من ذكر (يا علي)، ومن يريد الغنى إذا كرر (يا غني)، ومن يريد الجاه إذا لازم ذكر (يا ملك)، وهكذا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يفيض عليه مصاديق تلك الألفاظ، وهذا من المجربات وإن لم أجد به رواية.

تعظيم الله سبحانه

مسألة: يستحب تعظيم الله سبحانه عند ذكر اسمه دائماً، كما قال جبرائيل (علیه السلام): «العلي الأعلى».وكذلك تعظيم كل من عظّمه الله تعالى، فإذا ذكر الإنسان الرسول (صلی الله علیه و آله) قال: (صلى الله عليه وآله)..

وإذا سمى علياً (علیه السلام) أو الحسن (علیه السلام) أو غيرهم من المعصومين (علیهم السلام) عقّب الاسم بوصف أو دعاء دال على العظيمة والرفعة، مثل:

(عليه السلام)

و(صلوات الله عليه)

و(روحي له الفداء)

وما أشبه ذلك.

ص: 281

يُقرِئُكَ السَّلام،

اشارة

-------------------------------------------

إرسال السلام عبر الواسطة وأحكامه

مسألة: يستحب إرسال السلام، كما أرسل الله تعالى السلام بواسطة جبرائيل (علیه السلام).

وقد صدر ذلك من الأئمة (علیهم السلام) أيضاً كثيراً حسب الروايات.

والإرسال يصح أن يكون إلى فرد أو إلى جماعة، بواسطة فرد أو جماعة، وفي الحديث: «أقرِئ موالينا السلام»(1)، وفي حديث فاطمة (سلام الله عليها) إبلاغ السلام إلى ذريتها، إلى غير ذلك.

والظاهر أن رد مثل هذا السلام ليس بواجب، لانصراف أدلة الوجوب عن مثله.

نعم يستحب قطعاً، للملاك، ولأنه من الخُلُق الكريم.

وهل يجب إبلاغ الواسطة لمثل هذا السلام؟.

لا إشكال في عدم الوجوب إن لميتعهد بالإبلاغ، أما إن تعهد فيحتمل الوجوب لأنه من الأمانة، كما يحتمل العدم لأنه ليس إلاّ وعداً، والمشهور عدم وجوب الوفاء، والثاني أقرب إلى الصناعة وإن احتملنا في (الفقه): وجوب الوفاء بالوعد في الجملة، والأول إلى الاحتياط.

ص: 282


1- بحار الأنوار: ج1 ص200 ب4 ح7.

..............................

ثم لو قال جماعة لزيد: أبلغ فلاناً سلامنا، يكفي الموجز بأن يقول: إن جماعة أبلغوك السلام، لسيرة المتشرعة من غير نكير، بالإضافة إلى أن المستفاد من الأدلة لا دلالة له من حيث التنصيص.

والسلام المرسَل عبر الكتاب حاله حال السلام المرسل بواسطة الرسول، ومثلهما السلام في التسجيلات الصوتية ونحوها، نعم لا يجب رد السلام على وسائل الإعلام العامة بلا إشكال(1).

جواز حذف بعض الحديث المنقول

مسألة: من المحتمل أن يكون جبرائيل (علیه السلام) قد سلّم على النبي (صلی الله علیه و آله) فقط _ على ما ربما يستظهر من اقتصار الزهراء (عليها الصلاة والسلام) في النقل على ذكر (يقرِئُك السلام) _ فيعلل ذلك بأنه من جهة أنه (صلی الله علیه و آله) أعظم الموجودين تحت الكساء فاقتضى إجلاله وإعظامه تخصيص الخطاب والسلام به.

ومن المحتمل أن يكون جبرائيل (علیه السلام) قد سلّم عليهم (علیهم السلام) _ بعد سلامه على الرسول (صلی الله علیه و آله) _ وإنما ذكرت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بعض كلام جبرائيل (علیه السلام) احتراماً وإجلالاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، حيث إن تشريك غيره معه في النقل ليس بذلك التعظيم له فيما إذا ذكر وحده.

ص: 283


1- راجع في هذا المبحث: (ألف مسألة متجددة)، (الفقه: المسائل المتجددة)، (الفقه: الواجبات والمحرمات)، (الفقه: الآداب والسنن).

..............................

ومن الواضح أن حذف ما يعلم وما هو بمنزلته جائز، كما نجد ذلك في كثير من الروايات حيث لا تتعرض صراحة لكثير من المطالب والحوادث الواقعة، وذلك لوجود القرائن الحالية أو المقالية الأخرى، فيمكن استكشافها كثيراً من أماكن أخرى.كما أن الزهراء (علیها السلام) حين نقلها كلام الله تعالى لم تقل بأن الله أمر جبرائيل (علیه السلام) أن يُقرِئ نبيه السلام ويخصه بالتحية والإكرام ويقول له: وعزتي وجلالي، وقد استنبط ذلك بالملازمة العرفية من كلامه.

وهذا جار عند البلغاء حيث يكتفون بذكر بعض الكلام في الكثير من المواقع، كما هو شأن القرآن الحكيم في نقله للقصص فإنه يذكر بعضاً ويترك بعضاً آخر..

ويعلل ذلك _ فيما يعلل به _ ب: لكي يُحدث في النفس منطقة فراغ، لتذهب النفس في ذلك الفراغ كل مذهب من قبيل ما ذكروه في قوله سبحانه: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسى فَارِغاً»(1)، حيث إن الفراغ محل لجولان الخواطر وتقليب وجوه الرأي والتعود على التدبر والاستنباط، بينما إذا كان ممثلاً لم يكن له إلاّ وجه واحد وهو ما ملأه.

وقد يكون ذلك السبب _ أو جزء السبب _ أحياناً في تقطيع بعض المحدثين الأحاديث وذكرهم بعضها دون بعض، وإن كان الغالب في التقطيع كونه لأجل الاقتصار على محل الحاجة.

ص: 284


1- سورة القصص 10.

وَيَخُصُّكَ بِالتًّحِيَّةِ وَالإِكرَامِ،

اشارة

-------------------------------------------

التحية والتكريم

مسألة: يستحب تحية وتكريم من كان أهلاً لهما.

و(التحية) من الحياة، والمراد بها: الحياة السعيدة.

و(الإكرام) جعل الإنسان كريماً، أي رفيعاً مرضياً،فسلامة وحياة وكرامة، وهذا غاية التبجيل، ودعاء بأهم عوامل السعادة، فإن كل واحد وإن كان يطلق على الآخر أحياناً، ولذا أُريد ب «حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ»(1) الأعم من السلام، إلاّ أن الجمع بينها كان للدلالة على مزيد التجليل والتبجيل.

فإن ألفاظ لغة العرب _ وإن كانت مترادفات في الصورة _ إلاّ أنها لدى الدقة مختلفة باختلاف الخصوصيات، مثلاً الجواد والسخي والكريم، كلها تعطي معنى البذل والعطاء، لكن بينها فرقاً:

فالأول: من يعطي ولا يريد بذلك شهرةً ولا كمالاً لنفسه عبر الجود.والثاني: من يريد كمالاً أو شهرة بذلك، ولذا لا يطلق على الله سبحانه السخي.

والثالث: من يعطي وهو كريم، قد ظهرت منه محاسن عديدة (2) أو يقصد التكريم.

ص: 285


1- سورة النساء: 86.
2- راجع لسان العرب.

..............................

والتحية إذا كانت بغير لفظ السلام لا تجب الرد على المشهور، وإن كان ذلك مقتضى سمو الخلق ورفعة الأدب.

ثم إن السلام من الله سبحانه معناه: السلامة لعبده، مع قطع النظر عن التحية، أما السلام نسبةً إلى الله تعالى كما ورد في أعمال مسجد الكوفة: «اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام»(1)، وكون الله سلاماً، كما قال سبحانه: «هُوَ الله الَّذِي لاَ إِله إلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ»(2) فمعناه: إنه باعث السلام وخالقه، أو أنه لا نقص فيه ولا عيب ولا تغير.

مسألة: يستحب بيان أن الله تعالى قدأقرأ رسوله (صلی الله علیه و آله) السلام وخصّه بالتحية والإكرام.

فإن معرفة ذلك وأشباهه توجب مزيداً من ربط وتعلق الإنسان بربه وبرُسُله كما لا يخفى، إضافة إلى العمومات التي تشمل المقام وأمثاله، ومنها ما سيأتي في هذا البحث من: «ما ذكر خبرنا هذا ... ».

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج97 ص412 ب6 ضمن ح68.
2- سورة الحشر: 23.

وَيَقُولُ لَكَ: وَعِزَّتي وَجَلالي

اشارة

-------------------------------------------

القسم وموارده

مسألة: يستحب الحلف وقد يجب، إذا كان الأمر المحلوف عليه مهماً كما حلف الله سبحانه..

وإنما يجب إذا كان المحلوف عليه شرفاً وعرضاً ينتهك بترك الحلف كما في المرافعات، أو مال صغيرٍ وهو متوليه، أو ما أشبه ذلك.

وهذا لا ينافي كراهة مطلق الحلف، ولذا لم يحلف الإمام زين العابدين (علیه السلام) وأعطى المهر لمن ادعت عليه عدم إعطائه لها المهر؛ معللاً بأن الله سبحانه أجلّ شأناً من أن يحلف عليه لأجل المال(1).

والحلف من الله سبحانه في هذا الأمور تأكيدٌ للأمر، لا لهم (علیهم السلام) بل للناس حينما يبلغهم الخبر.

وقد أكثر الله سبحانه من القَسَم في القرآن الحكيم.أما قوله تعالى: «لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ»(2) وما أشبه فالظاهر أنه إلماع إلى الحلف بدون أن يحلف، جمعاً بين التجليل والحلف، لا أن (لا) زائدة كما قاله بعض الأدباء.

ص: 287


1- راجع الكافي: ج7 ص435 باب كراهية اليمين ح5.
2- سورة البلد: 1.

..............................

وقوله سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ»(1) حلف بالعُمر بالضم لكن صيغة الحلف تأتي بالفتح، ولعل (الكاف) لمن يتأتى منه الأمر مثل: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ»(2) حيث قال الأدباء: إنه أريد به من تتأتى منه الرؤية.

وقد ذكرنا في (الفقه) صحة إحلاف كل إنسان بما يعتقد به من كتاب ونحوه كاليهود والنصارى ومن أشبههم، بل لا يستبعد صحة الإحلاف بمثل العباس (علیه السلام) بالنسبة إلى من يخشاه ويهابه، حيثما توقف ظهور الحق على ذلك دون ما عداه، وتفصيل الكلام في ذلك في بابالأيمان(3).

أما الحلف بما هو باطل محض كالصنم ونحوه فلا يجوز إلاّ إذا اضطر إليه، حيث إن الضرورات تبيح المحظورات، وقد ورد في الحديث: «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر إليه»(4) إلاّ أن تزاحمه جهة أخرى كما لو استلزم ذلك ترويجاً.

ص: 288


1- سورة الحجر: 72.
2- سورة السجدة: 12.
3- راجع (الفقه: كتاب الجعالة، الأيمان، النذر).
4- وسائل الشيعة: ج23 ص228 ب12 ح29442.

إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنيَّةً، ولاَ أَرضاً مَدحِيَّةً، وَلاَ قَمَراً مُنِيراً، وَلاَ شَمساً مُضِيئَةً، ولاَ فَلَكاً يَدُورُ، ولاَ بَحراً يَجري، وَلاَ فُلكاً يَسري،

النقل باللفظ أو بالمعنى

مسألة: يستحب وقد يجب النقل بالنص؛ فإن جبرائيل (علیه السلام) بلّغ نص ما قاله الله سبحانه وتعالى وهو: «إني ما خلقت سماءً مبنيةً» إلى آخره، وذلك يدل على أفضلية أن يذكر الإنسان نص ما صدر عن الله تعالى والمعصوم (علیه السلام) وإن جاز النقل بالمعنى أو التقديم والتأخير إذا أريد المعنى، كما وردت بذلك الروايات وأفتى به الفقهاء، وذلك لتعسر أو تعذر النقل باللفظ عادة، أما لغير العرب فواضح؛ لأنهم لا يحسنون اللغة، وأما العرب فإنه من المتعسر جداً الضبط الكامل وإن كانت الألفاظ بخصوصياتها ذوات مزايا لا توجد في النقل بالمعنى حتى لو كانت باللغة العربية وبمرادفاتها أيضاً.

والحاصل أن الأمر من باب الأهم والمهم وإلاّ فاللفظ له مدخلية لا توجدفي ألفاظ أخرى تفيد ذلك المعنى بتلك اللغة أو بلغة أخرى، ولعل بعض الاختلاف في الروايات نشأ من ذلك.

ص: 289

..............................

التذكير بالتكرار

مسألة: يرجح التذكير بالتكرار بالمهم من الأمور والتأكيد عبر التكرار، فإن تكرار هذا المقطع في كلام الزهراء (عليها الصلاة والسلام) إنما كان لأهميته، إذ أنه كان بإمكانها الإشارة إلى أن جبرائيل (علیه السلام) أدى الرسالة الإلهية إلى النبي (صلی الله علیه و آله).

ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى خلق كل الكون دنياً وآخرة لأجلهم (عليهم الصلاة والسلام) كما دل على ذلك متواتر الروايات..

وذكر السماء والأرض والشمس والقمر والبحر _ في حديث الكساء _ إنما هو لارتباطها بالشؤون الأرضية التي هم فيها.

ص: 290

إِلاَّ لأَجلِكُم وَمَحَبَّتِكُم،

اشارة

-------------------------------------------

المعصومون (علیهم السلام) أجل وأعظم من الكون

مسألة: يستحب دعوة الناس إلى التمسك بمن ينفعهم في دينهم ودنياهم، وقد يجب، كما وجّه سبحانه الناس إلى الخمسة الأطياب مرات عديدة ببيان أن الكون خلق لأجلهم.

إذ يجب في الواجبات _ كالمقام _ ويستحب في المستحبات: توجيه الناس إلى ما ينفعهم، ولأنهم (علیهم السلام) العلة الغائية(1) للكون.. فهم (علیه السلام) أجل وأكبر وأعظم منه، وغير خفي أن كونهم (علیهم السلام) أجل وأكبر وعظم من الكون لا يراد به البُعد المادي(2) بل المقصود الجانب المعنوي، فكما أن مثقالاً من الألماس قد يكون أغلى من مليون مثقال من الفحم _ في القيمة والمعنى _ كذلك في المقام.وقد رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في المعراج قافلة من الإبل لا يعلم أولها ولا آخرها وهي محملة بفضل الإمام علي (علیه السلام)، وقد يكون ذلك من باب تشبيه المعقول بالمحسوس(3) وربما يكون حقيقياً كأن تكون فضائله (علیه السلام) مسطرة في صحائف

ص: 291


1- قد سبق في الكتاب الحديث عن ذلك تفصيلاً.
2- اللهم إلا على التوجيه الآتي آخر هذا البحث فيشمل البعدين.
3- بفرض تحول المعنى إلى المادة كما تتحول الطاقة إليها وذلك كما فرضنا حمل الإبل للكرة الأرضية _ أو المشتري الذي هو أكبر من الأرض ألف مرة كما يقول علماء الفضاء _ لاستدعى ذلك الملايين من الإبل كما هو واضح.

..............................

وكتب حملتها ملايين الإبل كما تشهد به بعض القرائن، أو بكون فضائله (علیه السلام) حقيقة وبما هي هي محمولة ويكون المجاز في (الإبل) فليدقق.

فإن معنوية الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أكبر من الكون، وهو المصداق الأتم بعد الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) للشطر الثاني من قوله (علیه السلام):

أتزعم انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

وهو كذلك بعد رسول الله (صلی الله علیهو آله)، وإنما كان الإمام علي (علیه السلام) كنافذة لتلك النفس الرفيعة الكبيرة مثل نبع تحته بحار من المياه.

والمراد بالمعنوية: سعة علمه وعمق حلمه وسمو خلقه وآدابه وقوة إمكانياته في التصرف في الكون، إلى ما أشبه ذلك(1).

وذلك كقوله سبحانه: «لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله»(2).

فإنه إذا قيست معنوية القرآن بمادية الجبل تكون معنوية القرآن أضعاف أضعاف مادية الجبل، فإنه قد يلاحظ المادي في قبال المادي، وقد يلاحظ المعنوي في قبال المعنوي، وقد يلاحظ في قبال المادي، وقد يكون العكس، وهذه الآية من القسم الثالث.

ص: 292


1- إلى جانب من ذلك يشير الشاعر _ أبو وائل بكر بن النطاح الحنفي (?-192ه)، أو علي بن جَبلة العكوك (160-213ه) _ بقوله: له همم لا منتهى لكبارها *** وهمته الدنيا أجلُّ من الدهر
2- سورة الحشر: 21.

..............................

ومن المعلوم أن المادي قد يتحولمعنوياً كما في تحول المادة إلى الطاقة في الانفجار الذري مثلاً، وفي تحول الأغذية في بدن الإنسان إلى قوة وطاقة.

وقد يُبادل المادي ويعوّض بالمعنوي كصرف المال لأجل العلم، فإن العلم معنوي والمال مادي، وقد يكون العكس كصرف العلم في تحصيل المال، وقد يصرف العلم لتحصيل علم آخر، أو المال لتحصيل مال آخر، فلو فرض أن القرآن المعنوي تحول إلى شيء مادي لكان الجبل خاشعاً متصدعاً بسبب ذلك الشيء المادي الذي تحول القرآن المعنوي إليه، وهناك معنى آخر لتوضيح الآية الشريفة نذكره في محله.

ولكونهم (علیهم السلام) أكبر وأعظم من الكون توجيه آخر هو ما قد ذهب البعض إليه من الالتزام بالسعة الوجودية والاحاطة الشمولية، والكلام في المقام طويل وعميق نكتفي منه بهذا القدر.

ص: 293

وَقَد أَذِنَ لِي أَن أَدخُلَ مَعَكُم، فَهَل تَأذَنُ لِي يِا رَسُول الله؟.

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان طولياً

مسألة: يستحب الاستئذان المجدد من العظيم _ وإن حصل الإذن من الله تعالى من قبل _ احتراماً لذلك العظيم، كما استأذن جبرائيل (علیه السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله).

ولربما توقف الجواز(1) على الإذن الثاني، فيما لو كان إذن الله سبحانه وتعالى متوقفاً على إذنه (صلی الله علیه و آله)، كإذنه سبحانه وتعالى في التصرف في أموال الناس طولياً إذ يتوقف حينئذ على إذن المالك، فإن إذن الله سبحانه وتعالى إذا كان جزمياً لم يتوقف على شيء آخر، وإن كان تعليقياً وعلى نحو الإجازة توقف على شيء آخر، فإنه أيضاً بأمر الله سبحانه وتعالى الذي جعله مالكاً، وهكذا في أمثال ذلك.

وهل دخول جبرائيل (علیه السلام) معهم (علیهم السلام) كان معنوياً أو مادياً، بمعنى أنه تمثل في صورة البشر ودخل معهم، كما كان أحياناً يتمثلبصورة دحية الكلبي(2) وغيره، أم أنه بنفس روحه وواقعيته وكما هو هو دخل معهم؟.

احتمالان، ولم يظهر من هذا الحديث ما يؤيد أحد الاحتمالين ولا يعلمه إلاّ الله سبحانه وتعالى وأولياؤه.

ص: 294


1- أي: جواز التصرف وشبهه.
2- راجع الكافي: ج2 ص587 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة ح25.

فَقالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): وَعَلَيكَ السَّلامُ يَا أَمِينَ وَحيِ الله، إِنَّهُ نَعَم

اشارة

-------------------------------------------

سلام غير الإنسان

مسألة: يجب ردّ سلام غير الإنسان كالملائكة، كما ردّ (صلی الله علیه و آله) سلام جبرائيل (علیه السلام)، والفعل وإن كان أعم إلاّ أنه يدل على الجامع، واستفادة الوجوب من الإطلاقات.

التأكيد

مسألة: يرجح التأكيد في مقام الجواب والإذن إذا كان فيه الفائدة، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إنه نعم قد أذنت لك».

ومن الواضح أن التأكيد في مثل المقام يفيد مزيد اشتياق الآذن للمستأذن، فليس تأكيداً لفظياً فحسب.

ويحتمل أن يكون رد الرسول (صلی الله علیه و آله) معنوياً في قبال المعنوي، أو مادياً ظاهرياً في قبال الظاهري؛ فإن النفس قد توحي إلى النفس دونوساطة الجوارح.

ص: 295

قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ جِبرائِيلُ مَعَنا تَحتَ الكِساءِ،

اشارة

-------------------------------------------

التجمع قوة وفائدة

التجمع قوة وفائدة (1)

والظاهر أن جبرائيل (علیه السلام) كان يريد بذلك الطلب الاستفادة المعنوية من معنوياتهم (علیهم السلام)، فكما يستفيد المادي من المادي، كاستفادة الشجر والحيوان والإنسان من الماء والطعام وما أشبه ذلك، كذلك يستمد المعنوي من المعنوي، كما يستفيد الإنسان من عِلم العالم وأخلاق الخلوق وأدب الأديب وما أشبه ذلك، ولا شك أنهم (علیهم السلام) أفضل من جبرائيل (علیه السلام)، فدخوله معهم سبب لاكتساب الخير منهم.

وكما أن التجمع في الماديات يوجب القوة كذلك التجمع في المعنويات يوجب قوة ذلك البُعد أيضاً، ومن ذلك:

«ما حار من استخار، ولا ندم مناستشار»(2).

و: «أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله»(3).

ص: 296


1- للتفاصيل راجع: (الفقه: السياسة)، (الفقه: الاجتماع)، (الفقه: الدولة الإسلامية)، (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام).
2- وسائل الشيعة: ج8 ص78 ب5 ح10125.
3- راجع غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 ق6 ب4 ف1 شاور هؤلاء ح10080، وفيه: «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول».

..............................

وقد ورد عنهم (عليهم الصلاة والسلام): «يد الله مع الجماعة»(1) أي: قوته وعزته وبركته، كما نشاهد ذلك في الماديات؛ فإن القطرات تتجمع حتى تكون بحراً وسيلاً يجرف القطيع أو المدن وغيرها.

وكذلك الذرات تتجمع حتى تكون صحراء، والخلايا الحية تتجمع حتى تكون إنساناً أو حيواناً، إلى غير ذلك..

فكما أن التجمع في الماديات يُفيد قوة ومضياً، كذلك التجمع في المعنويات.

ص: 297


1- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.

فَقالَ لأِبي: إِنَّ الله قَد أَوحى إِلَيكُم يَقولُ:

اشارة

-------------------------------------------

التمايز بين القرآن وغيره

مسألة: يرجح أن تمتاز الآيات القرآنية في الكلام أو في الكتابة عن سائر الكلمات بميزة ظاهرة، كما قال جبرائيل (علیه السلام): «قد أوحى إليكم يقول».

ولقد كان ما جاء به جبرائيل (علیه السلام) وحياً من الله سبحانه وتعالى، وإنما لم يذكر الوحي في أول الكلام وذكره هنا؛ لأن الوحي باعتبار أنه قرآن وتحد بخلاف المقطع الأول من الكلام حيث لم يكن من القرآن.

ويمكن أن يفهم من الفرق بين الكلامين أن من المستحسن تمييز القرآن عن غيره من أنحاء الوحي إذا كان في ضمن كلامٍ بعضه قرآن وبعضه حديث قدسي بما يدل على أن هذه القطعة من القرآن، وحيث إن الخطاب هنا كان بصيغة: «إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ»(1)، قال جبرائيل (علیه السلام): أوحى إليكم بصيغة الخطاب للجمع، بينما في السابق كان يخاطب النبي (صلی الله علیه و آله) بصيغةالمفرد. ومن الواضح أنه يمكن الوحي بالنسبة إلى غير النبي (صلی الله علیه و آله) كما قال سبحانه «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ»(2) وقال سبحانه: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى»(3) إلى غير ذلك. أما الوحي بالمعنى الأخص وهو ما كان بتوسط جبرائيل (علیه السلام) بالنحو الخاص فهو خاص بالأنبياء (علیهم السلام).

ص: 298


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة النحل: 68.
3- سورة طه: 38.

«إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»

اشارة

«إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

عصمة المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يجب الاعتقاد بعصمة الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام)، وقد سبقت الإشارة إليه.

إشارة لآية التطهير

ولعلّ الإتيان بلفظ «إِنَّمَا» لإفادة أنإرادة الله سبحانه وتعالى منحصرة في ذلك، فلا يمكن أن يحيد عنه، كما أن لفظ «يُرِيدُ» يدل على أنه فعل مع الإرادة لإمكان انفكاك الإرادة عن الفعل، أو الفعل عن الإرادة في الممكن(2) دون الواجب تعالى، إذ إرادته التكوينية تلازم فعله وهي العلة التامة لتحقق المراد، ف (إرادته فعله).

و«يُرِيدُ» أولى من (يذهب) كما لا يخفى.

و(يذهب) يراد به الإذهاب حدوثاً وبقاءً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً للقرائن الكثيرة الحالية والمقالية، ومنها أنه كان المجيء بالمضارع في «يُرِيدُ»

ص: 299


1- سورة الأحزاب: 33.
2- التقييد ب (في الممكن) لدفع توهم إمكان الانفكاك في الواجب إذ إرادته تعالى علة تامة لحدوث المراد، وفعله بالإرادة كما ثبت بالبرهان.

..............................

و«لِيُذْهِبَ» لإفادة الاستمرارية، حيث ذكروا أن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، أما الماضي فإنه يدل على الحدوث فقط دون دلالة على البقاء، فلو قال: طهّر نفسه، دل على حدث في الماضي فقط، ولذلك عدل سبحانه عن (أذهب) إلى «لِيُذْهِبَ»، فبهذا وبغيره تكون هذهالجملة دليلاً على ارتفاع الرجس بأبلغ لفظ، ولو قال: أنتم طاهرون مطهرون، وما أشبه ذلك لم تكن في الجملة تلك الفائدة البلاغية الرفيعة، والتفصيل في كتب الكلام والتفاسير(1).

ولعل ذكر الآية في أثناء الآيات المرتبطة بنساء النبي (صلی الله علیه و آله) كان لإخفائها؛ حتى لا تمد إليها يد التحريف من المخالفين، و«إِنَّا له لَحَافِظُونَ»(2) لا يدل ولا يقتضي أن يكون كله غيبياً بل بالأسباب أيضاً.

لا يقال: إذا كان معنى (الإذهاب) التطهير، فما معنى «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(3)؟.

لأنه يقال: واسطة بين الأمرين، وليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما؛ فإن (الرجس) قبح و(التطهر) جمال، وبينهما ما لا قبح له ولا جمال،وللتقريب نمثل بإذهاب السواد عن شيء حيث لا يلزم كونه أبيضَ، إذ من الممكن أن يكون لون آخر، وكذلك من يُذهب عن نفسه الجبن لا يستلزم أن يكون

ص: 300


1- راجع (شرح التجريد)، و(تقريب القرآن إلى الأذهان) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(العبقات) للسيد مير حامد حسين، و(البحار) للعلامة المجلسي، و(إحقاق الحق) للتستري، و(نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي.
2- سورة الحجر:9.
3- سورة الأحزاب:33.

..............................

شجاعاً، بل أمكن أن يصبح إنساناً عادياً، وكذا الأمر في البخل والكرم، وما إلى ذلك.

وربما كان «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) للإشارة إلى عليا مراتب الطهارة.

إذهاب الرجس عن النفس

مسألة: يستحب للإنسان أن يسعى لإذهاب الرجس المعنوي والمادي عن النفس، ويكون ذلك واجباً في موارده.

ويستفاد من آية التطهير بضميمة الملاك في بعض المراتب، والفحوى من وجه، وأدلة التأسي وغير ذلك، فضل إذهاب الرجس المعنوي عن النفس من الشرك والعقائد الباطلة والملكات الرذيلة، وكذلك الرجس المادي عن البدن وسائر ما يتعلق بالإنسان عبر المطهرات، إلى غير ذلك.

تطهير الباطن والجوهر

مسألة: ينبغي التطهير والتطهر مادياً ومعنويا، استحباباً ووجوباً، كل في مورده. وقد ظهر مما تقدم ذلك.

ولا شك أن تطهير القلب والباطن أهم من تطهير البدن والظاهر؛ لأن الباطن هو المحور للإنسان، وهو الجوهر وهو محطة الإيمان والشرك وسائر أصول

ص: 301


1- سورة الأحزاب:33.

..............................

الدين، فإذا طهر باطنه من المعتقدات الفاسدة، والملكات الرذيلة، والنوايا السيئة ونحوها، يكون إنساناً كاملاً، وإلاّ كان منحرفاً عن منهج الله سبحانه.

فإذا كانت عقيدته فاسدة أوجبت له الهلاك في الآخرة، بل وفي الدنيا أيضاً في كثير من الأحيان:

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ»(1)..

وإذا كانت ملكاته رذيلة كالحسد والبخل وحب الدنيا وما أشبه ذلك أورثت له نكالاً ووبالاً في الدنيا والآخرة.والإنسان ذو النية السيئة تترتب على نيته آثار وضعية، كما سينكشف أمره أيضاً..

قال علي (علیه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(2)، فيُفتضح بين الناس كما أنه مفضوح عند الله سبحانه، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة»(3).

وكما تكون الطهارة عن الرذائل تكون عن الدنايا أيضاً، مثل الكسل والضجر وحب الدنيا غير المحرم والشهوات الجائزة ونحو ذلك، فإن كل ذلك يوجب سقوط الإنسان أو تأخره ونقصان حظه.

ص: 302


1- سورة الأعراف: 96.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم 26.
3- وسائل الشيعة: ج10 ص313 ب18 ح13494.

..............................

وقد قال (صلی الله علیه و آله): «من وقي شر ثلاث فقد وقي الشر كله: لقلقه وقبقبه وذبذبه»(1)..

والمراد الأعم من الحرام والمكروه ك: لغو الكلام _ من غير أن يكون محرماً _ والإفراط في الأكل وفي قضاياالجنس؛ فإن كل ذلك يوجب الانحطاط، والإفراط في أمر البطن والفرج يوجب الأمراض كما هو معلوم(2)، ف: «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء»(3).

ص: 303


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص32 ب103 ح10124.
2- راجع: (الفقه: الواجبات والمحرمات)، (الفقه: الآدب والسنن)، (الفقه: الأطعمة والأشربة)، و(الفقه: النكاح).
3- مستدرك الوسائل: ج16 ص452 ب109 ح20525.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) لأَبِي: يا رَسُولَ الله، أَخبِرنِي

اشارة

-------------------------------------------

استحباب السؤال لتعليم الغير

مسألة: يستحب السؤال لتعليم الغير، كما يستحب السؤال عن فضائل أهل البيت (علیهم السلام) خاصة.

وقد كان علي (عليه الصلاة والسلام) يعلم ذلك، لكنه سأل كي يظهر ذلك للآخرين على لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله)..

وبذلك يُستدل على استحباب سؤال العالم للتعليم، كما يدل على استحباب السؤال عن فضائل أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بصورة خاصة.

والظاهر أن كلام علي (عليه الصلاة والسلام) كان بعد كلام جبرائيل (علیه السلام)؛ لأن كلام جبرائيل (علیه السلام) كان دليلاً على وجود فضل لهذا الاجتماع، لوضوح أن تجمع المعنويات يوجب قوة وآثاراً تكوينية في المعنويات، بل وفي الماديات أيضاً، كما أن تجمع الماديات يوجب قوة وآثاراً في الماديات على ما سبق الإلماع إليه، فلا يقال: إن جلوس جماعة في مكان لا فضل له، كما أن مشي جماعةمعاً لا فضل له، فما معنى سؤال علي (عليه الصلاة والسلام): «ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟».

هذا إضافةً إلى ما كان لهذا الاجتماع من تعليم البشرية على مر العصور حقائق غيبية وكونية كبرى على ما سبقت الإشارة إليه، وسيأتي الحديث عنه أيضاً.

ص: 304

مَا لِجُلُوسِنا هَذَا تَحتَ الكِساءِ مِنَ الفَضلِ عِندَ الله؟.

اشارة

-------------------------------------------

اجتماع ذوي الفضل و ...

مسألة: يستحب اجتماع ذوي الفضل، والحضور في مجالسهم،والاستفادة من محضرهم، وهو مما تترتب عليه الفوائد والثمار.

ولذا قال علي (علیه السلام): «يا رسول الله، أخبرني ما لجلوسنا هذا ... من الفضل عند الله؟».

ولا فرق بين أن يكون البعض أفضل من بعض، أو يكون لبعضهم فضل دون بعض، أوأن يكون للجميع فضل؛ فإنه إذا كان هناك إنسان عظيم واجتمع إليه الناس، ترشح إليهم من علومه أو معنوياته بحديثه بل بصمته أيضاً، وبهيئته وسمته وسلوكه، بل وبإشعاعاته أيضاً.

أما إذا كانوا كلهم عظماء _ على درجات _ فالترشح سيكون أكثر، والتجمع يسبب الفضل الأوفر..

واجتماع المتساويين في الفضل كذلك أيضاً، إذ البحث يقدح زناد الفكر، بل تجمعهم بحد ذاته يوجب قوة الروح والنفس أيضاً، وإطلاق «يد الله مع الجماعة» (1) وملاكه أيضاً يدل على ذلك، كما يؤيده الاعتبار.

ص: 305


1- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.

..............................

الهدفية في الأعمال وقصد القربة

مسألة: ينبغي أن يقوم الإنسان بكافة أعماله بهدف الفضل والثواب والفائدة(1) وأن يتحرى عن ذلك، كماقال علي (علیه السلام): «يا رسول الله، أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟».

فكل عمل وكل حركة وسكون للجوارح أو الجوانح يمكن أن تكون ذات فائدة أو ضرر بما هي هي، أو بالقصد(2) وسائر العوارض، فإذا قام بالعمل لأجل الفضل والثواب والفائدة، وإذا تحرى عما يحقق ذلك ضمن سعادة الدنيا والآخرة، وإلاّ خسر نفسه وأضاع عمره، وضياعه خسارة لا تعوض إذ لا تعود للإنسان حتى ثانية من عمره الضائع، يقول الشيخ البهائي (قدس سره)(3):

ص: 306


1- قد يكون الفضل إشارة للقيمة الذاتية، والثواب للأجر الأخروي، والفائدة إشارة للمنفعة الدنيوية _ راجع: (الفضيلة الإسلامية)، و(الفقه: الآداب والسنن) _.
2- المباح يتحول إلى مستحب بالقصد، فمثلاً شرب الماء وأكل الطعام بما هو هو مباح، وبقصد الاستعانة به على العبادة وقضاء الحوائج و... مندوب مثاب عليه.
3- بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجعبي المعروف بالشيخ البهائي، والحارثي نسبة إلى الحارث الهمداني. ولد (رحمة الله) في بعلبك عام 953ه، ثم انتقل به والده وهو صغير إلى إيران فنشأ فيها. تتلمذ على يد والده وغيره في الفقه والأصول والعقائد والتفسير والنحو وغير ذلك من العلوم. بعدها ساح في البلدان ثلاثين عاماً، فسافر من أصفهان إلى الحجاز، ثم إلى مصر والقدس وحلب ثم رجع إلى أصفهان فشرع الكتابة والتأليف وانتهت إليه رئاسة المذهب. كان ماهراً في العلوم المختلفة بلا نظير، وقد اشتهر بعلم الرياضيات، كما تنسب إليه أشياء عجيبة في الهندسة ما زالت آثارها باقية إلى الآن في العراق وإيران، وله شعر كثير جيد بالعربية والفارسية. خلف آثاراً عديدة منها: (الحبل المتين في إحكام أحكام الدين)، (مشرق الشمسين وإكسير السعادتين)، (العروة الوثقى في تفسير القرآن)، (شرح الصحيفة السجادية)، (حاشية شرح العضدي على مختصر الأصول)، (الخلاصة في الحساب)، وغيرها. توفي (رحمة الله) في خراسان في مشهد الإمام الرضا (علیه السلام) في شهر شوال سنة 1030ه، وقيل : 1031ه، وقيل 1035ه، ودفن في بيته الذي هو الآن جزء من الحضرة الرضوية المقدسة.

..............................

(العمر مضى وليس من بعدُ يعود).

ولذلك ولغيره _ كالتعليم مثلاً _ سأل علي (علیه السلام) عن فضل جلوسهم تحت الكساء.

وفيه تنبيه على لزوم إتيان الأعمال بهدف التقرب إلى الله، والتفكير في فضل عمله عنده سبحانه، فإن للإنسان أن يعمل حتى الواجبات الجنسية وما أشبه قربةً إلى الله سبحانه، مما يوجب له الأجر والثواب، وإلى ذلك أشارت بعض الروايات.وقد ورد في الحديث(1): «إنه يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة _ عدد ساعات الليل والنهار _ فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه.

ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه.

ص: 307


1- بحار الأنوار: ج7 ص262 ب11 ح15.

..............................

ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها، حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، إن هذا قوله تعالى: «ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ»(1)».قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا*** تشري بها لهباً في الحشر تشتعل

أليس من الخسارة أن يخسر الإنسان نفسه ودنياه بالحرام؟!

قال تعالى: «إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ»(2).

أليس من الخسارة أن يقضي الإنسان حياته فيما لا يدرّ عليه أرباحاً وجناناً عرضها السماوات والأرض؟ ومَثَله كمن يحرق أوراقه النقدية وإن لم يصرفها في الحرام الضار؟!

وحيث كان جلوسهم (علیهم السلام) للّه سبحانه كان له فضل.

وكذا يعلّمنا الإمام (علیه السلام) كيف نصرف أوقاتنا في مرضاة الله تعالى.

ص: 308


1- سورة التغابن: 9.
2- سورة الزمر: 15، سورة الشورى: 45.

..............................

أقسام الجلوس

مسألة: الجلوس في مكان والاجتماع فيه ينقسم إلى الأحكام الخمسة:

فمنه: واجب، للتعليم والتعلم الواجبين، وما أشبه ذلك، كالمرابطة في الثغر ونحوها.

ومنه: مستحب، في التعليم والتعلم المستحبين، ومنه جلوسهم تحت الكساء، ولا يبعد كونه أحد مصاديق الواجب التخييري.

ومنه: مكروه، كما إذا كان من مجالس الباطل لا إلى حد الحرمة.

ومنه: محرم، وهو ما إذا كان إلى حد المحرم، أو ما أشبه ذلك، لذا قال سبحانه: «فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»(1).

ومنه: مباح، إذا لم يكن أياً من الأربعة.

ص: 309


1- سورة النساء: 140.

فَقالَ النَّبيُّ (صلی الله علیه و آله): وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً،

اشارة

-------------------------------------------

التأكيد على حقانية أفعاله تعالى

مسألة: يستحب التأكيد على حقانية أفعال الله تعالى، ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق»(1) مع أن بعث الله سبحانه لا يمكن أن يكون بالباطل.

كما أنه يرجّح _ إلى حدّ المنع من الترك في صورة التوقف _ القسم بالله سبحانه وتعالى في الأمور المهمة، ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً».

ومن الواضح الفرق بين النبوة والرسالة؛ لأن كل رسول نبي، وليس كلنبي رسولاً، وإن كان أحدهما يطلق على الآخر في كثير من الأحيان.

التأكيد على نبوة الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب التأكيد على نبوة الرسول (صلی الله علیه و آله) حيث قال (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً».

ص: 310


1- للباء معنى واحد وهو الإلصاق على ما يراه الإمام المؤلف (قدس سره) في (الأصول) كما هو رأي سيبويه، وكل المعاني الأخرى المذكورة له من المصاديق، قال ابن مالك: بالباء أستعن وعد عوض الصق *** ومثل مع وعن ومن بها انطق

..............................

ومن الواضح أن الاستحباب في محله، والوجوب في محله _ في هذا وفي سابقه _ حسب مقتضيات الأحوال والظروف والشرائط.

وقوله (صلی الله علیه و آله): «نجياً» دليل على النجوى التي كانت بين الله تعالى وبين الرسول (صلی الله علیه و آله)، فلم يكن الوحي بحيث تظهر للناس علاماته في كل الأوقات، وهذا يدل على رفعة مكانة الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأن النجوى بين اثنين تدل على اختصاص أحدهما بالآخر، فهو كالتأكيد على قرب منزلة الرسول (صلی الله علیه و آله) من الله سبحانه وتعالى حتى اتخذهنجياً.

ولا يخفى أن تأكيد الرسول (صلی الله علیه و آله) في هاتين الجملتين إنما هو لسائر الناس، وأما علي (علیه السلام) وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فهم يعرفون ذلك حق المعرفة، فلا حاجة إلى أصل الذكر والتذكير فضلاً عن التأكيد والقسم.

ص: 311

ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا

اشارة

-------------------------------------------

ذكر الخبر في المحافل

مسألة: يستحب ذكر هذا الخبر في المحافل والمجالس.

و(هذا) في قول النبي (صلی الله علیه و آله): «خبرنا هذا» إشارة إلى مجموعة القضايا التي قصتها السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) لجابر.

وفي مثل ذلك يجوز تذكير الضمير باعتبار الحادث وتأنيثه باعتبار القضية ونحوهما.

وهل يتحقق الاستحباب بغير حالة التلاوة الإنسانية المباشرة لهذا الخبر، كالتسجيل الصوتي وسائر وسائل الإعلام؟.

لا يبعد ذلك؛ فإن انصراف «ذكر خبرنا» إلى قراءة وتلاوة الإنسان لهذا الخبر بدوي، والظاهر اختلاف مراتب الثواب والاستحباب، ثم إن المهم ذكر هذا الخبر ولو كان بسبب جماد أو حيوان.

لكن هل يشمل الكتابة كما إذا كُتبالحديث وعُلق على الحائط، وكان هناك جمع من الشيعة ينظرون إليه أو دون النظر؟.

احتمالان، لا يبعد أن يكون له فضل، لكن خصوص هذا الفضل الظاهر أنه ليس له للانصراف عنه، بل لو أُطلق عليه كان مجازاً.

فالفضل من باب الملاك لا الإطلاق، ولعمومات تعظيم الشعائر وشبهها.

ص: 312

فِي مَحفِلٍ مِن مَحافِل أَهلِ الأَرَضِ

اشارة

-------------------------------------------

عمومية المراد ب: (مَحْفِل)

قد سبق بيان استحباب ذكر أخبار أهل البيت (علیهم السلام) في جميع المحافل وذلك للإطلاق في (محفل).

والظاهر أن أهل الأرض _ المنصرف منه الساكنون فيها _ من باب المصداق، فإن كان هنالك في الأنجم الأخر جماعة من أهل الأرض أو من سكانها، ثم ذكروا هذا الحديث كان لهم هذا الفضل، وإنما ذكر أهل الأرض لوقوعه في الأرض يومئذ، وكونه محل الابتلاء عندها، ومن باب أظهر المصاديق عند المنقول إليهم.

أما وهل ذكره في محافل أهل السماء وشبهها ممن هم من قبيل الملائكة والولدان والحور له هذا الفضل أملا؟.

لا يبعد ذلك أيضاً بالنسبة إلى القابل يعني: نزول الرحمة، أما شفاء المريض ونحو ذلك من الآثار المادية المترتبة على هذا الخبر فليس هنالك محل هذه الأمور كما لا يخفى مما يفهم من الروايات، فإن الملائكة والولدان والحور عادة لاتمرض أو تضعف، أما الحزن فقد يفهم وجوده لدى العليين مما ورد بالنسبة إلى الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) من حزن الحور عليه(1)، لكن لا يبعد أن يكون حزن الحور بالنسبة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) استثناءً.

ص: 313


1- راجع بحار الأنوار: ج98 ص323 ب24 ح8، وفيه: «وأقيمت لك المأتم في أعلى عليين، ولطمت عليك الحور العين».

..............................

استحباب مطلق تلاوة هذا الحديث

مسألة: يستحب تلاوة حديث الكساء للعمومات ولقوله (صلی الله علیه و آله): «ما ذكر خبرنا هذا»، سواء كان في محفل أم لم يكن. إذ الظاهر عدم الانحصار بالمحفل، بل يشمله _ بملاكه حتى إذا ما قرأ هذا الحديث فرد من الأفراد لوحده وذلك من باب تعدد المطلوب.

وإنما يستحب باعتبار الآثار، إذ منها يفهم استحباب المؤثر عرفاً.

ثم إن الظاهر من «ذكر خبرنا هذا» هو ذكره بهذا التفصيل، وإن كان لايبعد وجود الملاك في ذكره إجمالاً، وعلى الملاك فهو من باب المستحب في المستحب.

ولا يخفى أن الآثار الإيجابية لتلاوة حديث الكساء لا تختص بالإنسان، بل تشمل غيره كالجن، ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله):

«في محفل من محافل أهل الأرض».

وخاصة مع الانتباه إلى ما دل على أن الإنس والجن يشتركان في التكاليف الإلهية والأحكام الشرعية، فالقرآن المشتمل على كل هذه الأحكام لهما «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ»(1) إضافة للروايات الدالة على أنه (صلی الله علیه و آله) مرسل للجن والإنس، وغير ذلك.

ص: 314


1- سورة الجن: 12.

..............................

وقد ذكرنا في بعض كتبنا الفقهية(1) مسألة الزواج مع الجن والطلاق والإرث وما أشبه ذلك.

كما أن ما جرى من أمر الثعبان الذي سأل علياً (عليه الصلاة والسلام) وهو على منبر الكوفة(2) يؤيد ذلك، إلى غيرها من الأحداث والقصص المذكورة في الأحاديث. وعلى أي حال فهو خارج عن محل الابتلاء عادة.

أما ما ورد من تزويج ابني آدم بحورية وجنية فالظاهر أن المراد كونهما كذلك في الأصل، إذ قد كانتا من البشر في وقت الزواج من ابني آدم، نظير ما قال سبحانه: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ»(3).

فكونهما جنيةً وحوريةً من باب كون الإنسان طيناً وكون المَلَك نوراً وكون الجن ناراً، وليس المراد الفعلية وهذا لا ينافي أن يكون الإنسان قد خُلق من إنسان واحد وهو آدم (علیه السلام) كما في بعض الآيات، أو من إنسانين آدموحواء (علیهما السلام) كما في بعض الآيات الأخرى؛ لأن المراد هي النشأة الأولى وإلاّ فعيسى (علیه السلام) خُلق من نفخ جبرائيل (علیه السلام).

أما ما احتمله بعض العامة من أن آدم زوّج ابنيه ببنتيه وأنه كان حلالاً في ذلك الوقت حراماً فيما بعد، فترده الروايات الواردة عن أئمتنا (عليهم الصلاة والسلام)(4).

ص: 315


1- راجع كتاب (ألف مسألة، المسائل المتجددة)، و(الفقه: المسائل المتجددة)، و(الفقه: النكاح).
2- راجع الكافي: ج1 ص396 باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ... ح6.
3- سورة الأنعام: 9.
4- راجع قصص الأنبياء للجزائري: ص52 ب1 ف4.

وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبِيِّنا

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التجمع والمراد بالمحب

مسألة: يستحب تجمع الشيعة والمحبين لأهل البيت (علیهم السلام).

قد يكون المراد _ كما يظهر من بعض الروايات _ من المحبين: الأعم من الشيعة وغيرهم ممن كانوا محبين لهم (عليهم الصلاة والسلام) ولم يكونوا من شيعتهم، فيكون من باب عطف العام على الخاص.

وقد يكون المراد منهم غير الشيعة؛ لأن التأكيد خلاف الأصل فهو تأسيس كما أن الأصل في القيود كذلك.

وربما يكون الشيعي والمحب متساوقين(1) فليس غير الشيعي بمحب حقيقة، ولا إشكال في أن المحب الذي ليس بشيعي إذا لم يكن معانداً يكون له بعض الأجر كما تدل على ذلك جملةمن الروايات.

نعم، من ليس بمحب لا يكون شيعياً، إذ الشيعي _ على وجه _ عبارة عمن يطابق لسانه وجوارحه قلبه بالنسبة لهم (عليهم الصلاة والسلام)(2) ولو في الجملة.

والظاهر أن الشيعي يشمل الفاسق أيضاً، وإن كان العادل هو الشيعي الكامل؛ لأن ما ذكرناه هو مقتضى الإطلاق.

ص: 316


1- التساوق غير الترادف، إذ المتساوقان هما المتطابقان في المصداق وإن اختلف المفهوم، والمترادفان المتطابقان في المفهوم.
2- في الاعتقاد بإمامتهم (علیهم السلام) إضافة إلى محبتهم (علیهم السلام)، أما الإتباع العملي فهو سبب لإطلاق الشيعي بالمعنى الأخص عليه.

..............................

وما في بعض الروايات من أن الشيعي هو الكامل يراد به الشيعي بالمعنى الأخص، فمثلهما مثل المؤمن والمسلم حيث إن المؤمن والمسلم يطلق تارة على من في القمة منهما، وتارة على الأعم والأعم هو المتبادر من إطلاقهما لا من في القمة فقط.

وقد يفرق بين المعنى اللغوي للشيعي(1) وبين المعنى الاصطلاحي(2)وعلى الأول فقد يقال بالشمول للأتباع في الجملة فلا يشمل الفاسق بقول مطلق.

أقسام التجمع وأنواعه

وقد تقدم إن تلك الآثار وهذا الأجر إذا كان في الجمع يكون _ بدرجة أو بأخرى _ في الفرد والاثنين أيضاً، إذ لا تفهم الخصوصية هنا إلاّ في مراتب الثواب، وإن كان ظاهر الجمع الخصوصية فيما إذا لم تكن قرينة، والقرينة الملاك وغيره.

واللفظ يشمل النساء والأطفال ولو بالقرينة وإلغاء الخصوصية.

نعم الظاهر أن تكون تلاوة حديث الكساء بما يُسمِع لا بما لا يسمع إلاّ إذا كان الحاضرون صماً، أو كانت هناك ضوضاء تمنع من السماع، والتفريق إنما هو بلحاظ المقتضي وعدمه وبلحاظ منصرف (الذكر)، والإطلاق _ على تقدير _ يشمل ما لو كان بعضهم شيعة وبعضهم محبين بأن يكون الجمع متشكلاً منهما.

ص: 317


1- شايع أي تابع لغة، فالشيعي هو المتبع.
2- المعتقد بالإمامة.

..............................

... وعبر الأجهزة الحديثة

وهل يشمل ذلك مثل إذا ما كان الجمع في أماكن متعددة يتصل بعضهمببعض بواسطة بعض الأجهزة الحديثة كالهاتف ونحوه؟(1).

الظاهر ذلك، وقد ذكرنا نظيره في باب الطلاق وباب البيع ونحوهما(2)، فإذا كان هناك شاهدان كل منهما في غرفة منفصلة وكان الذي يتولى إيقاع الطلاق في غرفة ثالثة، وتم اتصال بعضهم ببعض بواسطة الهاتف ونحوه وطلّق بحيث استمع الشاهدان كان كافياً في تحقيق الطلاق.

وهكذا يكون الأمر فيما إذا كانوا في غرف متعددة أو أماكن متعددة، يسمع كلهم الحديث بواسطة مكبرات الصوت ونحوها.

أنواع الذكر والتلاوة

مسألة: يستحب جمعُ جمعٍ من الشيعة لإقامة ذكر حديث الكساء، كما يجتمعون لزيارة عاشوراء ودعاء كميل و... فإن هذا هو المفهوم من الكلام؛ لأنه يفهممن المسبب السبب عرفاً.

فإن ذكر الفضل والخير دليل على محبوبية تلاوة هذا الحديث عند الله

ص: 318


1- هناك مؤتمرات تعقد حالياً بالصوت والصورة بين العلماء في أماكن متباعدة عبر أجهزة بث واستقبال موجودة في منطقة وغرفة كل منهم فيرى كل منهم الآخر ويستمع إليه، وهناك أجهزة أخرى مثل ال: فيديو _ فاكس تقوم بدور مماثل من وجه آخر.
2- لمزيد التفاصيل يراجع (الفقه: المسائل المتجددة) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

سبحانه، وجمع جمعٍ مقدمة له. والظاهر أن الذكر كاف وإن لم يفهموا معناه، كما إذا لم يعرفوا اللغة العربية، والانصراف _ لو كان _ فبدوي، نعم لا إشكال في اختلاف درجات الثواب.

وهل يشمل ذلك إذا ما قُرئ حديث الكساء بلغة أُخرى؟. لا يبعد ذلك لشمول قوله (عليه الصلاة والسلام): «ما ذكر خبرنا هذا» بالنسبة إلى التفسير والترجمة بلغة أخرى، إذ هو هو لباً وجوهراًَ، نعم استثني من ذلك الصلاة وصيغة الإحرام وقراءة القرآن والدعاء المأثور، بمعنى أنه لا يكون تفسير وترجمة دعاء كميل كميلاً وإن كان موجباً للثواب، فتأمل(1).وهكذا الكلام في الأذكار، مثلاً: (سبحان الله) و(لا الله إلا الله) و(الحمد لله) إذا ذُكرت بلغة أُخرى فلا دليل على حصول الأثر الذي رتب عليها في الروايات. مثلاً ورد: أن من قال: لا الله إلا الله كان له كذا من الثواب(2)، فإنه إذا ذكر هذا الذكر بلغة أخرى لم يكن له خصوص هذا الأثر وإن كان له أثر في الجملة؛ لأنه ذكر لله سبحانه وتعالى فيشمله قوله سبحانه: «اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً»(3)، وقوله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(4) وما أشبه.

ص: 319


1- قد يكون إشارة إلى إن الاستثناء حكمي لا موضوعي وبالدليل الخارجي، أي أن استثناء الصلاة بمعنى عدم جريان حكمها _ من الإجزاء والوجوب ونحوهما _ على ما كانت بلغة أخرى، لا أن المراد عدم إطلاق لفظ الصلاة عليها موضوعاً، أو إلى أن إيجابه للثواب في الجملة أو كليهما.
2- راجع ثواب الأعمال للصدوق:ص2 ثواب من قال: لا الله إلا الله.
3- سورة الأحزاب: 41.
4- سورة البقرة: 152.

إِلاَّ وَنَزَلَت عَلَيهِمُ الرَّحمَةُ،

اشارة

-------------------------------------------

لماذا هذا الأجر العظيم؟

مسألة: يستحب أن يفعل الإنسان ما يوجب نزول الرحمة، وأن يقوم بما ينفع غيره، كما في اجتماع أهل الكساء (علیهم السلام)؛ فإن معرفته وذكره والحديث به وعنه من قبل الموالين سبب نزول الرحمة و...

والسر في هذا التأكيد وفي عظيم المثوبة التي قررها الله تعالى ل (ذكر هذا الحديث الشريف) أنه تأكيد على القيادة التي بها تصلح الدنيا والآخرة، كما قال (علیه السلام): «ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية»(1). فإن القيادة الصحيحة هي التي تصلح حال البشر وتقوده إلى السعادة الدنيوية والأُخروية، ومن المعلوم ضرورة التأكيد على مثل هذه القيادة وتوفير كافة وسائل دعمها وتركيزها، ولذا يؤكد عقلاء العالم على الشعار وعلى ذكر القائد والقيادة _ فردية كانت أم جماعية _ ليل نهار في وسائلإعلامهم ومحافلهم.

وحيث إن قيادة هؤلاء الأطهار (علیهم السلام) جاءت من عند الله تعالى الذي بيده الدنيا والآخرة، فإن من يلتف حولها يفيض عليه سبحانه الخير في الدنيا والآخرة كما قال (صلی الله علیه و آله): «نزلت عليهم الرحمة، وحفّت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرَّقوا»(2).

ص: 320


1- راجع بحار الأنوار: ج65 ص329 ب27 ح1.
2- تحدث المؤلف (قدس سره) تفصيلاً عن قيادة الأئمة (علیهم السلام) وولايتهم في كتاب (الفقه: البيع) ج4 فليراجع.

وَحَفَّت بِهِمُ المَلائِكَةُ،

اشارة

-------------------------------------------

التمهيد لنزول الملائكة

مسألة: يستحب أن يقوم الإنسان بتمهيد ما يوجب نزول الملائكة وحفها به كالاستقامة _ كما في الآية الآتية _ وكما في ذكر هذا الحديث الشريف ونحو ذلك؛ لأن نزول ملائكة الرحمة وحفّهم بالإنسان يوجب الرحمة والمغفرة والشخصية الإلهية، كما هو معلوم لها أيضاً فهو معلول لمراتب من الرحمة وعلة لمراتب أُخرى.

ويؤيده قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَقَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ»(1) حيث يفهم منه أن تنزل الملائكة أمر مطلوب مرغوب شرعاً.

وقال سبحانه: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا»(2)، فإن الملائكة بما أنها مخلوقات خيرة، وللّه طيِّعة، وهي وسائط نعم الله سبحانه في الجملة، فإنها تفيض الخير، في غير ملائكة العذاب.

كما أن الشياطين على العكس، فبما أنها شريرة فإنها تترشح بالشر، ولذا قال سبحانه: «عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ»(3) فإن

ص: 321


1- سورة فصلت: 30.
2- سورة الأنفال:12.
3- سورة الشعراء: 221222.

..............................

الجنس مائل إلى جنسه، كما قال الشاعر(1):

(إن الطيور على أشكالها تقع).

ويؤيد ما ذكرناه من الاستحباب ماورد من قول جبرائيل (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيوتاً فيها تصاوير»(2) وما أشبه ذلك، مما يشير إلى أن فيها نوعاً من منع الخير الحاصل بدخولها(3).

نوعية تواجد الملائكة

ولا يخفى أن الملائكة مخلوقات قابلة للتواجد على الحيطان والأبواب وغيره، كما دلت على ذلك أدلة عديدة، وكما يرشد إليه أن ذلك هو مقتضى (الحف) فيما إذا كان المجلس قد امتلأ بالحاضرين امتلاءً كاملاً، وذلك هو المستفاد من الروايات مثل ما ورد من أن المائدة إذا وضعت حضرها الكثير من الملائكة(4). ومن الواضح أن إطلاقه يشمل حتى ما إذا كانت المائدة لا تسع إلاّ لثلاثة أشخاص بل حتى الواحد، فإن الملائكة كالنور لا تزاحم بينها، وعلى فرض تجردها فالأمر أوضح، وإنا وإن لمنعرف حقيقة الملائكة وخصوصياتها ومزاياها

ص: 322


1- عمر بن محمد ديب بن عرابي الأنسي (1237-1293ه) وصدر البيت هو: (فقلت: أحسنت يا هذا مشاكلة).
2- راجع تهذيب الأحكام: ج2 ص377 ب17 ح102.
3- راجع (شرح التجريد)، و(توضيح نهج البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- راجع الكافي: ج6 ص292 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح1

..............................

إلاّ أن ما ذكرناه هو المستفاد من جملة من الروايات.

أما ما ورد من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يمشي على أصابعه في جنازة (سعد)(1) فذلك لجلب انتباه الناس على نزول الملائكة ومشاركتها في تشييع الجنازة، وإن احتمل كونها قد تشكلت بشكل يقتضي ذلك.

وما ورد من أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به(2)، يراد به الإشارة إلى تواضعها له، فهو من قبيل قوله سبحانه: «وَاخْفِضْ لهمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»(3) وإن احتمل البعض إرادة المعنى الظاهري، أي أنهم يفرشون أجنحتهم تحت رجله.

ومن المعلوم أن حفّ الملائكة نوع التكريم للحاضرين، كالشخصية التي يحفبها عبيدها وحفدتها وخدمها ومن أشبههم.

... وعددهم

وأما عدد الملائكة فهم كما قال الشاعر(4):

(عدد الرمل والحصى والتراب)

ص: 323


1- راجع بحار الأنوار: ج6 ص220 ب8 ح14.
2- راجع الكافي: ج1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.
3- سورة الإسراء: 24.
4- عمر بن أبي ربيعة (23-93ه)، وصدر البيت هو: (ثُمَّ قالوا: تُحِبُّها؟ قُلتُ: بَهراً).

..............................

وقال علي (علیه السلام): «فملأهن أطواراً من ملائكته»(1)..

ولا عجب فإن الإنسان إذا نظر إلى بستان من الأشجار لرأى فيها ملايين الأوراق والأغصان وما أشبه، أليس كل ذلك من صنع عليم حكيم قدير؟.

فإن من يخلق بمجرد الإرادة حتى أن لفظة (كن) إنما هي من باب المثال أو الإشارة إلى السرعة والسهولة ومطلق القدرة، لا مانع من أن يخلق ملايين الأكوان والعوالم، فكيف بأفواجالملائكة بلفظ (كن) أو دونه، فحيثما قرأ حديث الكساء ولو في ملايين الأماكن في ساعة واحدة حفت بكل مجلس الملائكة.

ص: 324


1- نهج البلاغة، الخطب: 1 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم.

وَاستَغفَرَت لهم

اشارة

-------------------------------------------

استحباب الاستغفار للآخرين

مسألة: يستحب الاستغفار للآخرين.

وفي الحديث: إن الإنسان لو دعا لأخيه بظهر الغيب، قالت له الملائكة: ولك ضعف ذلك(1)، ومن المعلوم أن الاستغفار دعاء في حق الغير بغفران ذنبه وستر عيبه.

ولا يخفى أن هناك فرقاً بين الاستغفار والتوبة، فإن الغفران ستر، والاستغفار طلب للستر، والتوبة رجوع، ولذا ورد في الأحاديث: الاستغفار إلى جانب التوبة في عبارتين، مثل: (أستغفر الله) و (أتوب إلى الله) أو في عبارة واحدة مثل: (أستغفر الله وأتوب إليه)(2).

الاستغفار

مسألة: يستحب الاستغفار مطلقاً وقد يجب، ولقد كان من لطفه تعالى وعموم فضله ورحمته أن جعل (الاستغفار) سبباً لمحو الذنوب والعودة إلى الله فوراً..

ص: 325


1- راجع الكافي: ج2 ص507 باب الدعاء للإخوان بظهر الغيب ح4.
2- راجع وسائل الشيعة: ج7 ص179-180 ب25 ح9059.

..............................

بل إن للاستغفار أثر وضعي في هذه الدنيا أيضاً:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً » وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً»(1).

التسبيب للاستغفار

مسألة: يستحب التسبيب لاستغفار الملائكة بل مطلق الغير للإنسان، بأن يقوم بما يوجب ذلك، فإنه مستفاد عرفاً من هذه الجملة وإن لم تكن بالدلالات الثلاث المنطقية؛ لأن الدلالة لا تنحصر فيها، وقد تقدم الإلماع إلى أنه بدلالة الاقتضاء العرفي(2) لا الاصطلاحي.

هل الجزاء على السعي أم لا؟

وحيث إن التواجد والحضور(3) من فعل الإنسان وسعيه فلا يستشكل على استغفار الملائكة له لأجله.

فلا يقال:إنه مناف لقوله سبحانه: «أَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى»(4)،

ص: 326


1- سورة نوح: 1012
2- ترتيب «واستغفرت لهم الملائكة» على «ما ذكر خبرنا» معلول رجحان استغفار الملائكة وإرادة الله للمثوبة، والتسبيب مقدمة لهذا الراجح.
3- المستفاد من: «وفيه جمع من شيعتنا».
4- سورة النجم: 39.

..............................

أو قوله تعالى: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(1) وما أشبه ذلك؟.

لا يقال: هذا تمام في من حضر اختياراً، فلا يتم في الذين حضروا اضطراراً، كما إذا كانوا في السجن وأحدهم قرأ حديث الكساء دون طلب من الحاضرين، بل ومع عدم رغبة منهم لاشتغالهم بدراسة أو مطالعة أو ما أشبه ذلك.

لأنه يقال: ذلك يفهم بالملاك أو بالإطلاق، وحينئذ يكون الجواب عن الآية ما سيأتي من أحد الوجهين.نعم، إذا كرِهَ الذكر فالظاهر أن الفائدة لا تشمله وإن احتمل كون بعضها كالأثر الوضعي، بخلاف النائم والصبي والمغمى عليه وما أشبه.

وقد ذكرنا في بعض مباحث (الفقه): إن أمثال ذلك استثناء من الآيتين بالدليل الخاص تفضلاً منه تعالى، أو يقال: إن هذه الآثار الخيرية إنما هي ببركة أولئك الأطهار (علیهم السلام)، فهو امتداد لسعيهم (علیهم السلام) وذلك كما أن الإرث فائدة تتوجه للإنسان بسبب القرابة وإن لم يكن من سعي نفس الوارث، وهناك أجوبة أخرى ذكرناها في محلها(2).

ص: 327


1- سورة الطور: 21.
2- تحدث الإمام المؤلف (قدس سره) بالتفصيل حول الآية المباركة «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى» _ سورة النجم: 39 _ في (الفقه: الاقتصاد) وغيره.

إِلى أَن يَتَفَرَّقُوا

اشارة

-------------------------------------------

استحباب اللبث في مجالس الخير

مسألة: يستحب البقاء في مجالس الخير واستدامة الجلوس فيها، فمجلس القراءة الحسينية ومجالس العلم والمصلى يستحب استمرار الجلوس فيه ولو بعد انتهاء القراءة والدرس والصلاة في الجملة.

فإن في ذلك تذكيراً أكثر بذلك الخير، وربطاً للمرء به أكثر فأكثر في مختلف شؤون حياته.

كما أن قوله (عليه الصلاة والسلام): «إلى أن يتفرقوا» يرشد إلى ذلك مع لحاظ عدم الخصوصية في المورد من حيث أصل المثوبة وإن كان له خصوصية من حيث الخصوصية.

ومن المعلوم _ كما أشرنا سابقاً _ استحباب فعل الإنسان ما يوجب جلب الخير إلى نفسه من الرحمة والبركة واستغفار الملائكة وما أشبه ذلك.

ويجري هنا الكلام السابق فيمن كان كارهاً للبقاء أو مضطراً أو فاقداً للوعي أو الصحوة كالمجنون والمغمىعليه والطفل وما أشبه ذلك؛ لأن كلا البحثين بملاك واحد.

ولا يخفى أن التفرق هنا ليس كالتفرق في باب خيار المجلس حيث يوجب زوال الأثر هناك.

ص: 328

..............................

بل ظاهر المقام أنه بخلاف خيار المجلس، حيث إن مشي خطوات وشبهه يوجب سقوطه(1)، فليس البابان بملاك واحد حتى يكون كلاهما في حكم واحد من هذه الجهة.

والظاهر أن «ما ذكر خبرنا... » يشمل ما إذا كانت مكبرات الصوت تبث حديث الكساء وهو يسير في الشارع ويسمعه..

أما إذا كان في السيارة أو الطائرة أو القطار وأحدهم يقرأ الحديث فلا إشكال في شمول «وفيه جمع... » له.

ص: 329


1- راجع (الفقه: الخيارات) للمؤلف (قدس سره).

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَاً وَالله

اشارة

-------------------------------------------

الحلف على عظائم الأمور

مسألة: يجوز الحلف على الأمور العظيمة(1)، والجواز هنا بالمعنى الأعم _ والمراد هنا (2) الوجوب أو الاستحباب _ وقوله (عليه الصلاة والسلام): «إذاً» بمعنى أنه حيث كان الأمر كذلك تحقق الفوز. فإن أمثال هذا القسم، مستثناة من كراهة الحلف بالله سبحانه وتعالى كما قال: «وَلاَ تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(3)، وكما قال الإمام زين العابدين (عليه الصلاة والسلام): «إني كرهت أن أحلف بالله»(4) في قصة مهر زوجته(5).

التجاوب مع العظيم

مسألة: يرجح التجاوب مع العظيم إذا تحدث وتكلم، كما صنع علي (علیه السلام) بقوله: «إذاً والله فزنا»، من غير فرق بين أن يكون التجاوب بالكلام أو بالإشارة، كأن يشير برأسه ذلك؛ لأن التجاوب هو نوع احترام.

ص: 330


1- وقد سبق الإشارة إليه.
2- أي في هذا الحديث.
3- سورة البقرة: 224.
4- راجع الكافي: ج7 ص435 باب كراهية اليمين ح5.
5- حول الحلف والقسم ومختلف بحوثه يراجع كتاب (الفقه: العهد واليمين) للمؤلف (قدس سره).

فُزنا

اشارة

-------------------------------------------

رجحان مدح النفس!

مسألة: يستحب مدح الإنسان نفسه وسرد فضائله وذكر مناقبه إذا كان في مقام التعليم أو دفع تهمة أو إحقاق حق، وقد يجب ذلك.

وهذا لا ينافي ما ورد عنه (عليه الصلاة والسلام) من أن تزكية المرء نفسه قبيح(1)؛ لأن القبح بلحاظ العنوان الأولي، فإذا طرأ عليه عنوان مُحَسِّن صارمستحباً، بل قد يجب المدح فيما إذا توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الواجب عليه، ولذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) يعرفون أنفسهم بما هو مدح لها.

نعم، إنما يستحب مدح الإنسان نفسه إذا كان مدحاً صادقاً، أما المدح الكاذب فهو داخل في إطلاقات أدلة الكذب. ومما ذكر في باب مدح الإنسان نفسه يعلم الحكم في عكسه من ذم الإنسان نفسه في كونه مستحباً أو محرماً أو واجباً أو غير ذلك.

معنى فوز أولياء الله وانتصارهم

ثم إن قول علي (عليه الصلاة والسلام): «فزنا» إنما كان لأجل ما ذكره جبرائيل (علیه السلام) من مدحهم (علیهم السلام) عن لسان الله سبحانه وتعالى:

ص: 331


1- نهج البلاغة، الرسائل: 28 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى معاوية جواباً. حول مدح النفس راجع: (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

«إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1)، فإن كونهم (علیهم السلام) ممدوحين لله تعالى ومطهّرين بأمره وإرادته يوجب الفوز في الدنيا والسعادة في الآخرة. ومن المعلوم أن فوز الدنيا ليس خاصاًبالمأكل والمشرب والمسكن وما أشبه ذلك من الأمور المادية بل ذلك الفوز الأدنى، فإن الإنسان الهدفي إذا كان يسعى من أجل تحقيق هدفه يكون فائزاً ولو حرم من كل الملذات المادية، فالإمام الحسين (علیه السلام) فائز وهو قتيل ومجروح من رأسه إلى قدمه، ولهذا قال الراوي: «ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته أربط جأشاً وأقوى جناناً منه عليه الصلاة والسلام»(2) فهو (علیه السلام) الفائز والمنتصر وهو صريع سليب على أرض المقتل؛ لأنه (علیه السلام) كان يعلم أنه بعين الله وفي سبيل الله سبحانه وتعالى مؤتمراً بأمره، وهذا هو الانتصار الحقيقي.

أليس (الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء)؟.

ولذا قال سبحانه: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ»(3)، فإن ميزان الانتصار والانكسار ليس بغلبة الجيش أو انهزامه أمام جيش العدو، بل إن ميزان انتصار الصالحين هو انتصار مبادئهموانتصارهم على أنفسهم وانتصارهم في امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى.

وهذا بحث كلامي ذكرناه هنا إلماعاً لا استيعاباً.

ص: 332


1- سورة الأحزاب: 33.
2- روضة الواعظين: ج1 ص189 مجلس في ذكر مقتل الحسين (علیه السلام).
3- سورة غافر: 51.

وَفازَ شِيعَتنُا

اشارة

-------------------------------------------

التمسك بمذهب آل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يجب التمسك بمذهب شيعة آل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) فإنهم هم الفائزون(1)، وإنما فازت الشيعة لأنهم التفوا حول القيادة الإلهية الصحيحة التي عيّنها الرسول (صلی الله علیه و آله) بأمره تعالى والتي لها المكانة الرفيعة في الدنيا وفي الآخرة.

ومن المعلوم أن قائد الإنسان إذا كان على صراط مستقيم يكون متبعه فائزاً أيضاً.

هذا بالإضافة إلى ما ذكره جبرائيل (عليه الصلاة والسلام) من: تنزل الرحمة عليهم، وأن الملائكة تحفُّ بهم وتستغفرلهم، فإن هذا من أعظم الفوز.

بشارة الغير وإدخال السرور

مسألة: يستحب بشارة الآخرين خاصة بشارة شيعة أهل البيت (علیهم السلام) بالفوز والنجاة في الدنيا والآخرة، وذلك من باب المصداق وإلاّ فهذا الكلي صادق في كل إنسان يبشر بشارة سارة شرط عدم معارضتها للشريعة.

ص: 333


1- راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(إحقاق الحق) للتستري (رحمة الله)، و(الغدير) للأميني (رحمة الله)، و(العبقات) لصاحب العبقات (قدس سره)، وغيرها.

..............................

بل يمكن أن يقال: بأن إدخال السرور حتى على قلب الكافر مستحب(1) إلاّ في مورد قوله سبحانه: «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً»(2)، وذلك لقوله (صلی الله علیه و آله): «لكل كبد حرى أجر»(3).

ولقوله (عليه الصلاة والسلام): «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظيرلك في الخلق»(4).

ولما نقرؤه في سيرتهم العطرة (علیهم السلام) من تفريجهم كرب الكفار والمنافقين، كما لم يمنع الرسول (صلی الله علیه و آله) الماء عن أهل خيبر(5)، وفسح الإمام علي (علیه السلام) المجال أمام جيش معاوية الذي جاء لحربه للتزود من ماء الفرات(6)، ومن المعلوم أن الحرب مع الإمام علي (علیه السلام) حرب مع الرسول (صلی الله علیه و آله)(7)، كما قال (صلی الله علیه و آله): «يا علي حربك حربي»(8).

ص: 334


1- راجع (الفقه: الواجبات والمحرمات)، و(الفقه: الآداب والسنن) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة التوبة: 123.
3- جامع الأخبار: ص139 ف99.
4- نهج البلاغة، الرسائل: 53 ومن كتاب له (علیه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
5- راجع بحار الأنوار: ج21 ص30-31 ب22 ح32.
6- راجع وقعة صفين: ص161 استيلاء أهل العراق على الماء ثم سماحهم به لأهل الشام.
7- راجع الأمالي للطوسي: ص364 المجلس13 ح763، والأمالي: ص486 المجلس17 ح1063.
8- وقد نظمه السيد الطباطبائي في قصيدته حيث قال: لقوله حربك حربي واشتهر *** من الفريقين رواية الخبر

..............................

وكذلك أمر الحسين (علیه السلام) أصحابه بسقي الحر وأصحابه في الطريق(1).

وفي سيرة الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) يشاهد ذلك بوفور وكثرة..

كما أن الإمام الهادي (عليه الصلاة والسلام) عالج المتوكل حتى برأ من مرضه(2)، وهكذا مما هو كثير.

وقد يكون السبب في بعض تلك الموارد عناوين أخرى طارئة: كإلقاء الحجة على الخصم وإتمامها، وهداية الضال وإرشاد الجاهل، وشبه ذلك..

ولا مانعة من الجمع(3).

الثواب والعقاب بسبب الآخرين

مسألة: يستحب بيان مدى مدخلية أهل البيت (علیهم السلام) في سعادة الإنسان فيما إذا اتبع منهجهم، بل هم (علیهم السلام) محور السعادة ومدارها، حيث إنالله تعالى لأجلهم قرر هذه النعمة العظمى.

فإن الإنعام على إنسان من أجل إنسان آخر دليل على عظمة ذلك المعطى من أجل النعمة(4)..

ص: 335


1- راجع بحار الأنوار: ج44 ص376 ب37.
2- راجع الكافي: ج1 ص499 مولد أبي الحسن علي بن محمد (علیهما السلام) ح4.
3- سيأتي في بحث (استحباب قضاء الحاجة) تتمة مفيدة لهذا البحث.
4- لأجل عين ألف عين تكرم.

..............................

(بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)(1).

أما في عكسه وهو العقاب، فلا يعاقب أحد بذنب إنسان آخر، فقد قال سبحانه: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»(2).

وقد ذكرنا في بعض الكتب الفقهية: إن المراد بهذه الآية العقوبات الأخروية كلها، ومن العقوبات الدنيوية ما كان أمثال الحدود والقصاص وما أشبه، دون بعض الأمور الكونية الأخرى مثل ما ذكره سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْخَاصَّةً»(3) مما له أثر وضعي، وكذا في بعض الأموال مثل ما على العاقلة، إذ ذلك داخل تحت قانون كوني وشرعي، فإن اطراد قوانين الكون يقتضي العموم، وكذا كونها دار امتحان واختبار، كما أن التكافل الاجتماعي يقتضي أن تكون الدية على العاقلة، وهذا ما يقوم به كافة عقلاء العالم إلى اليوم، حيث يأخذون المال من الأغنياء بعنوان أو آخر ويصرفونه على الفقراء من ناحية، ويشركون جماعة في نتيجة لأجل غرض أهم وهدف أسمى، كما في كون «عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة»(4).

ص: 336


1- مفاتيح الجنان: ص63 ب1 ف6 دعاء العديلة.
2- سورة الأنعام: 164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7.
3- سورة الأنفال: 25.
4- راجع حول هذا المبحث: (الفقه: الديات)، و(الفقه:القانون).

وَرَبِّ الكَعبَةِ.

اشارة

-------------------------------------------

القسم بالله وبمخلوقاته

مسألة: يجوز القسم بأسماء الله تعالى وصفاته، مثل: رب الكعبة، وإله الكون، وخالق السماوات، إلى غير ذلك، وينعقد الحلف به بحيث يوجب حنثه الكفارة.

أما الحلف بغير الله سبحانه كالأنبياء والأئمة (علیهم السلام) والآيات الكونية فالظاهر جوازه، لكن لا ينعقد بهم الحلف، مثل:

قوله سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»(1).

وقوله تعالى: «وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى»(2).

وقوله سبحانه: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»(3)، فهو جائز تكليفاً غير منعقدوضعاً.

أما ما ورد في الحديث: «من كان حالفاً فليحلف بالله»(4)، فالمراد: الحلف الجامع للشرائط ذو الأثر الوضعي، ولا دليل على تحريم ما عداه.

ص: 337


1- سورة الحجر: 72.
2- سورة الضحى: 12.
3- سورة الشمس: 7.
4- مستدرك الوسائل: ج16 ص64 ب24 ح19163.

..............................

وسيرة المتشرعة _ قديماً وحديثاً _ بالإضافة إلى دليل البراءة وغيرهما، تدل على الجواز.

ووجه قسمه (علیه السلام) برب الكعبة، كونها موضع عناية الله تعالى، فإنه سبحانه كما خلق الأشياء حسناً وأحسنَ، كذلك جعل بعض الأزمنة والأمكنة محطة ومورداً لعنايته، وذلك مثل الكعبة والمساجد، ومثل يوم الجمعة والأعياد الإسلامية وما أشبه.

كما أنه تعالى جعل بعض الأماكن محطة أمان، وبعض الأزمنة كذلك، وذلك كمكة المكرمة كما قال الله تعالى: «وَمَنْ دَخَله كَانَ آمِناً»(1) والأشهر الأربعة الحرم.

ص: 338


1- سورة آل عمران: 97.

فَقالَ أَبي رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ،

اشارة

-------------------------------------------

توجيه الكلام للمُشاكل

مسألة: يرجح توجيه العظيم كلامه إلى من يقاربه في العظيمة ويشابهه مع وجود غيره.

ولذا نرى أن النبي (صلی الله علیه و آله) وجّه كلامه إلى علي (علیه السلام) فقال: «يا علي»، ولم يقل: (يا فاطمة، أو يا حسن، أو يا حسين (علیهم السلام)).

فلا يقال: إن فاطمة (علیها السلام) كعلي (علیه السلام) في العظمة، كما يدل على ذلك بعض الأحاديث التي ذكرها السيد البحراني (قدس سره)(1) في(معالم الزلفى)، فإن

ص: 339


1- السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد بن علي بن سليمان ابن السيد ناصر الحسيني البحراني التوبلي الكتكاني، كان (رحمة الله) من أولاد السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه). ولد (رحمة الله) في كتكان من توابع بلدة توبلي من أعمال البحرين في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري القمري، رحل إلى النجف الاشرف وأقام فيها مدة من الزمن طلباً للعلم. انتهت إلى السيد (رحمة الله) رئاسة البلد بعد الشيخ محمد بن ماجد بن مسعود البحراني الماحوزي، فقام بالقضاء في البلاد وتولي الأمور الحسبية وقام بذلك أحسن قيام، وقمع أيدي الظلمة والحكام، ونشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالغ في ذلك وأكثر ، ولم تأخذه لومة لائم في الدين، وكان من الأتقياء المتورعين، شديداً على الملوك والسلاطين. صنف (رحمة الله) كتباً عديدة تشهد بعمق تتبعه وسعة اطلاعه تبلغ خمسة وسبعين مؤلفاً بين صغير ووسيط وكبير، منها: إثبات الوصية، احتجاج المخالفين على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام)، الانصاف في النص على الأئمة الأشراف من آل عبد مناف، إيضاح المسترشدين في بيان تراجم الراجعين إلى ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقد يعبر عنه ب (هداية المستبصرين)، البرهان في تفسير القرآن، البهجة المرضية في إثبات الخلافة والوصية، بهجة النظر في إثبات الوصاية والإمامة للأئمة الاثني عشر، تبصرة الولي فيمن رأي المهدي (علیه السلام) في زمان أبيه (علیه السلام) وفي أيام الغيبة الصغرى والكبرى، التحفة البهية في إثبات الوصية لعلي (علیه السلام)، ترتيب التهذيب، وغيرها. توفي (رحمة الله) سنة (1107) أو (1109) من الهجرة في قرية نعيم، ونقل جثمانه الشريف إلى قرية توبلي، ودفن في مقبرة ماتيني من مساجد القرية المشهورة، وقبره مزار معروف.

..............................

الترتيب _ حسب ما يستفاد من بعض الأحاديث _:الرسول (صلی الله علیه و آله) أولاً في الفضيلة، ثم علي (علیه السلام) وفاطمة (علیها السلام) معاً، ثم الحسن (علیه السلام)، ثم الحسين (علیه السلام)، ثم القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ثم من بعد الأئمة الثمانية (علیهم السلام) قبله (علیه السلام)، وهذا باعتبار سمو الجوهر في مختلف مجالات الارتفاع.

لا يقال: كيف يكون القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أفضل من أبيه (علیه السلام) مع أن أباه كان إماماً عليه مدة؟.

لأنه يقال: الأمر تابع لجعل الله سبحانه وتعالى، والجعل كما ذكرناه حسب دلالة بعض الروايات، ويوضحه قضية موسى (علیه السلام) _ وهو من أولي العزم _ والخضر (علیه السلام) ، فتأمل.

ومن المحتمل أن يكون الخطاب لعلي (عليه الصلاة والسلام) نظراً لأنه كان هو الذي قام بطرح السؤال أولاً، فأراد الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يجيب على سؤاله مرة ثانية.

ص: 340

..............................

فسح مجال الحديث للأكبر أو الأعظم

مسألة: ينبغي ترك زمام الحديث للأكبر أو الأعظم مع وجوده، ولذا نرى أن الزهراء والحسنين (علیهم السلام) لم يسألوا النبي (صلی الله علیه و آله) وإنما سأله علي (علیه السلام).

والزهراء (علیها السلام) وإن كانت عِدل علي (علیه السلام) في العظمة _ لما سبق من الروايات، ولقوله (صلی الله علیه و آله): «لما كان لفاطمة كفؤ آدم فمن دونه»(1) ولغير ذلك _ إلاّ أن علياً (عليه الصلاة والسلام) حيث كان إماماً على الزهراء (علیها السلام) اقتضى الأمر أن يكون هو المتكلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأما الحسنان (علیهما السلام) فهما في الرتبة بعدهما (علیهما السلام)، لذا قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام):

فأبي شمس وأمي قمر *** فأنا الكوكب وابن القمرين (2)

وقال (علیه السلام): «أبي خير مني،وأمي خير مني، وأخي خير مني»(3)

هذا بالإضافة إلى الاحتمال الأخير المذكور أنفاً.

ص: 341


1- راجع تهذيب الأحكام: ج7 ص470 ب41 ح90.
2- بحار الأنوار: ج45 ص48 ب37.
3- بحار الأنوار: ج45 ص3 ب37 ضمن ح2.

وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفاني بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً،

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا في مَحفِلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الأَرضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبّيِنا

التأكيد في البحوث العائقدية

مسألة: يستحب التكرار والتأكيد في البحوث العقائدية ومطلق المطالب الهامة(1)، كما أكد النبي (صلی الله علیه و آله) ها هنا قائلاً لمرة ثانية: «والذي... ».

والتأكيد يكون للإبلاغ وتركيز الموضوع في الذهن أكثر فأكثر، وإتماماً للحجة، وقطعاً للعذر.

دور التكرار في الأمور الغيبية

وكما أنه ينبغي سقي الأشجار كل يوم حتى تثمر بعد حين، كذلك يلزم التكرار في الإرشاد والتوجيه والهداية، حتى يثمر خيراً في النفس أو في البدنلنفسه أو للغير.

ولذا كرّر في القرآن الحكيم: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»(2) وشبهه.

ولذا كان التوجيه نحو تكرار الدعاء الكذائي أو الذكر المعين حتى تتحقق

ص: 342


1- وقد سبق الإشارة إليه.
2- وردت هذه الآية المباركة 31 مرة في سورة الرحمن ابتداءً من الآية 13 وحتى الآية 77.

..............................

النتيجة المطلوبة، كما ورد في الروايات.

وفي حالة عدم إمكان التكرار أو صعوبته أو ما أشبه ذلك فالظاهر الاكتفاء بالممكن ولو لمرة وستتحقق كل الآثار أحياناً وبعضها أحياناً أخرى.

فقد ورد: «أن نوحاً (علیه السلام) لما خاف على السفينة من الغرق أمره الله سبحانه أن يقول: (لا الله إلا الله) ألف مرة، ولما أشرفت السفينة على الغرق ورأى أن الوقت لا يسع لتكرار الألف، علّمه الله سبحانه أن يقول: لا الله إلا الله ألف مرة»(1)،(2).

وورد في حديث في باب زيارة عاشوراء، أن يقرأ الإنسان اللعن والسلام مرة واحدة، ثم يقول بعد كل منهما: (مائة مرة)(3).

ومنها _ ملاكاً وإلغاءً للخصوصية ولإرشاد العقل لذلك _ يفهم العموم.

وقد ورد في الحديث: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربما كرّر الكلام للسائل ونحوه ثلاث مرات(4).

وفي حديث أن فاطمة (علیها السلام) كررت الإجابة على سؤال السائل إلى عشر مرات(5).

ص: 343


1- أي يقول مرة واحدة (لا إله إلاّ الله) ثم يعقبها بقوله (ألف مرة).
2- راجع بحار الأنوار: ج92 ص167-168 ب105 ضمن ح22.
3- راجع البلد الأمين: ص271 المحرم.
4- راجع بحار الأنوار: ج16 ص234 في الرفق بأمته.
5- راجع مستدرك الوسائل: ج17 ص317-318 ب11 ح21460.

..............................

وقال ابن سينا (1):طالعت الكتاب الفلاني أربعين مرةحتى فهمته(2).

ص: 344


1- أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، المشهور ب )ابن سينا) ويعرف ب (الشيخ الرئيس). كان أبوه من الشيعة الإسماعيلية ومن أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى، فتزوج هناك فولد له أبو علي في أفشنه من قرى بخارى عام 369 ه. وكان أبوه والياً على سامان، فتعهده بالتربية والتعليم، فحفظ القرآن الكريم وهو دون العشر. اتجه نحو الفلسفة فرعاه الفيلسوف أبو عبد الله الناتلي فدرسه المنطق. ثم مال إلى الطب فأخذه عن عيسى بن يحيى، فأصبح طبيباً حاذقاً وهو في سن السادسة عشر، يقول أبو علي عن نفسه: (في هذه المدة _ مدة اشتغاله بالدرس _ ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره). كان في المشاكل العلمية ومعضلات المسائل يصلي ويبتهل إلى الله حتى يفتح له المنغلق وييسر له المتعسر. ثم تعمق بالعلوم الشرعية والهندسية، يقول: كنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة، ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيراً من المسائل أتضح لي وجوهها في المنام، ويقول أيضاً: فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء. برع ابن سينا في الشعر أيضاً وله قصيدة في (النفس) مشهورة. تجاوزت مصنفاته المائة، ومن أشهرها كتاب القانون في الطب، وقد نقل إلى اللغة اللاتينية، والشفاء، والنجاة، والإشارات والتنبيهات، والحدود في الفلسفة والمنطق. توفي في همدان عام 428 ه.
2- راجع سير أعلام النبلاء للذهبي: ج17 ص532 ترجمة ابن سينا تحت رقم 356.

وَفِيهِم مَهمُومٌ إلا وَفَرَّجَ الله هَمَّهُ،

اشارة

-------------------------------------------

تجمع المهمومين لأجل الدعاء

مسألة: يستحب تجمع المهمومين والمغمومين وأصحاب الحوائج لأجل الدعاء، وإطلاق «يد الله مع الجماعة» (1) يشمله، ولا وجه للانصراف.

وهو أقرب لانكسار القلب وأدعى للإجابة، ولذلك لما دعا أصحاب يونس (علیهم السلام) وتضرعوا وهم مجتمعين استجاب الله تعالى دعاءهم.

والفرق بين الهمّ والغمّ:

أن (الهمّ) ما يهمّ ويهتمّ الإنسان بفعله مما هو لصالحه أو لصالح غيره، وربما يعمم كزواج ولده وتأسيس معمل ومكسب له أو لنفسه، وطلب العلم وشبه ذلك، ومنه ما يهم بفعله للوصول إلى مقصده.

و(الغمّ) ما يغمه كأنه غطاء على قلبه، ويطلق على ما ابتلي به الإنسان من المشاكل، وذلك كغم المريض وكغمالفقير وكغم المسجون وما أشبه ذلك.

ولقد كان من المتداول سابقاً وكنا نرى كثيراً مجالس عامة تعقد للدعاء عند حلول بلية نازلة سماوية أو أرضية، بحيث كان يظهر على البلاد ذلك كطابع عام، وكان ذلك من أسباب انكشاف الهموم والغموم، ولعل من أسباب زيادتها الآن قلة مجالس الدعاء والتضرع العامة.

ص: 345


1- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.

..............................

التفريج عن المهموم

مسألة: يستحب التفريج عن المهموم، وهو الذي يهمّ بأمر ولا يتمكن عليه، أو هو بحاجة إلى من يعينه، فيكون الإنسان عونه في أن يفرج همّه، وهذا من المستحبات الأكيدة ويدل عليه بالإضافة إلى هذا الحديث، أحاديث متعددة(1).

فإن الله سبحانه خلق الإنسان وجعل له حاجات واهتمامات روحية وجسمية فردية واجتماعية، ولا يستطيع أن ينال كثيراً منها بمفرده فجاء الأمر الإلهي بمساعدة الإنسان في الوصول إليها، فمن ساعد كان له أجران: أجر أخروي وأجرمساعدة الناس له في التفريج عن همومه أيضاً كأثر وضعي لعمله، «فمن كفّ يده عن الناس فإنما يكف عنهم يداً واحدة ويكفون عنه أيادي كثيرة»(2) كما في كلام علي (علیه السلام).

والحياة بالتعاون تتقدم إلى الأمام في مختلف أبعادها (3)، ولذا قال سبحانه: «تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(4) والمراد أن يعين بعضهم بعضاً.

ص: 346


1- راجع (الفقه: الآداب والسنن).
2- راجع بحار الأنوار: ج72 ص53 ب42 ح9.
3- راجع: (الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: السياسة).
4- سورة المائدة: 2.

..............................

والفرق بين (أعان) و(عاون) و(تعاون)، أن الأول من جانب واحد، والثاني من الجانبين مع تقدم أحدهما على الآخر، والثالث من الجانبين بشكل متزامن دقةً أو عرفاً.

ولا يخفى أن كل الأقسام الثلاثة من المستحب، وإن كان الثالث أفضل.

والبر: عمل الإنسان بالنسبة إلى الغير.والتقوى: عمله بالنسبة إلى نفسه.

وربما يستفاد من الحديث أن غير الإنسان _ كالجن _ أيضاً قد يبتلى بالهمّ والغم والحاجة؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) قال: «وفيهم» ومرجع الضمير إلى من هو من أهل الأرض، وقد علمت شمول أهل الأرض لغير الإنسان.

ص: 347

وَلاَ مَغمُومٌ إلا وَكَشَفَ الله غَمَّهُ،

اشارة

-------------------------------------------

كشف الغمة وأقسامها

مسألة: يستحب كشف غم المغموم.

وقد ذكرنا الفرق بينه وبين الهمّ، وأنه يسمى (غماً) لأنه كالشيء الذي يغطي شيئاً آخر، ومنه (الغمام) للسحاب، و(الأغم) لمن غطى شعر رأسه جبهته إلى غير ذلك.

و(الغم) يغطي قلب الإنسان بغطاء من الحزن.

ثم لا يخفى أن (الغم) قد يكون سببه الإنسان نفسه، وقد يكون سببه الأمور التكوينية الطبيعية التي لابد وأن تعتري الإنسان مهما كان، ولكشف كليهما أجر وأهمية إلاّ أن الثاني أهم، وأما لو كان الإنسان بنفسه سبباً وكان حلّه بيده فلا يكن لكشف كربه تلك المنزلة.

فإن الدنيا «دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة»(1) كما قاله علي(علیه السلام)، والأقسام أربعة:

إذ الإنسان بطبيعته يمرض ويهرم ويفتقر، أو يكون جاره جار سوء، أو تكون له امرأة أو لها زوج غير صالحين، إلى غير ذلك وهذه طبيعيات.

كما قد يكون هو بنفسه سبب وقوعه في المشكلة.

ص: 348


1- نهج البلاغة، الخطب: 226 ومن خطبة له (علیه السلام) في التنفير من الدنيا.

..............................

وفي هاتين الصورتين قد لا يكون قادراً بنفسه على حل المعضلة، فيتأكد حينئذ استحباب مساعدته.

وقد يكون قادراً على حلها، بأن كان الحل بيده من أي الصورتين كان، كما إذا تمرض بسبب موجة برد فجائية أو بحادث اصطدام، وكان بإمكانه علاج نفسه، وكذلك لو عرض نفسه اختياراً للاستبراد أو الوباء بمعرفة واختيار حتى تمرض وكان العلاج بيده، فإنه وإن استحب مساعدته، إلاّ أن الاستحباب أضعف مما لو لم يكن قادراً. وهذا التقسيم _ بلحاظ الشدة والضعف في الاستحباب _ يفهم عرفاً من نفس النصوص بالإضافة إلى بعض الملاكات:

مثل «إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله»(1)، فالأمر أشد في هذهالصورة للاضطرار وعدم قدرته على الدفع عن نفسه.

ومثل ما ورد من أن جماعة لا يستجاب لهم دعاء(2)؛ لأن علاج مشكلتهم بأيديهم إلى غير ذلك، وكيف كان فإن كشف الغم وإن كان مطلقاً مستحباً إلاّ أن بعضه آكد من بعض.

ص: 349


1- الكافي: ج2 ص331 باب الظلم ح5.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج5 ص253 ب47 ح5808 وفيه: (الْقُطْبُ الرَّاوَنْدِيُّ فِي دَعَوَاتِهِ، قَالَ قَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): أَرْبَعَةٌ لا يُسْتَجَابُ لَهُمْ دُعَاءٌ، رَجُلٌ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيَقُولُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالطَّلَبِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَدَعَا عَلَيْهَا فَيَقُولُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ أَمْرَهَا بِيَدِكَ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَفْسَدَهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيَقُولُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالاقْتِصَادِ، أَلَمْ آمُرْكَ بِالإِصْلاحِ، ثُمَّ قَرَأَ ƒوَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً‚ وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَدَانَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَيَقُولُ: أَلَمْ آمُرْكَ بِالشَّهَادَةِ).

..............................

سوق الناس إلى الله

مسألة: ينبغي سوق الناس إلى الله تعالى، وبيان أن الله سبحانه هو الذي يفرج الهمّ (وفرّج الله همه) ويكشف الغمّ (وكشف الله غمه).فإن أزمة الأمور طراً بيده تعالى:

«وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى»(1).

«وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (2).

«وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ» (3).

ص: 350


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الشعراء: 79 _ 82.
3- سورة الأنعام: 18و61.

وَلاَ طالِبُ حاجَةٍ إلا وَقَضى الله حاجَتَهُ.

اشارة

-------------------------------------------

طلب الحاجة وأنه مقتضٍ

مسألة: يستحب طلب الحاجة من الله سبحانه والالتجاء إليه في كشف الهمّ والغمّ بالتوسل بأهل البيت (علیهم السلام) الذين هم الوسائط إلى الله تعالى والوسائل إليه «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(1)، ولذلك كان «وقضى الله حاجته» نتيجة طبيعية لقراءة هذا الحديث الشريف الذي يدور محوره حول منزلة أهل البيت (علیهم السلام) ومكانتهم عند الله سبحانه وتعالى.

وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا الكتاب أن أمثال هذه القضايا من القضايا الطبيعية التي لا يلزم أن تكون كلية، بل أن حالها حال كثير من الأمور الأخر، كقولهم: إن العقار الفلاني دواء للمرض الكذائي، أو أن فلاناً مهندس للبناء، أو خبير اقتصادي، أو أخصائي في الزراعة،أو ما أشبه ذلك حيث لا يلزم الكلية.وكثيراً ما يستعمل الدواء ولا يرفع الداء، وكثيراً ما يقدم المهندس خريطة للبناء، أو الخبير الاقتصادي مخططاً للبلاد، ولا يكون مصيباً، وهكذا، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للأمور الدنيوية شرائط وعلل معدّة وموانع وخصوصيات إذا حققها الإنسان جميعها تحققت النتيجة وإلاّ فلا، والدعاء ونحوه من هذا القبيل فهو مقتضٍ للإجابة لا علة تامة.

ص: 351


1- سورة المائدة: 35.

..............................

فلا يقال: كيف يُدعى عند رأس الحسين (علیه السلام) ولا يُستجاب(1)، مع أنه ورد: استجابة الدعاء تحت قبته(2)، أو تستعمل تربته الشريفة ولا يتحقق الشفاء(3) مع أنه ورد «الشفاء في تربته»(4)، إلى غير ذلك من الأسباب الواقعية والأسباب الظاهرية.

وغير خفي أن السعادة الدنيوية _ بل الأخروية _ قوامها: تفريج الهمّ، وكشف الغمّ، وقضاء الحاجة، وقدتكفلها الله تعالى جميعاً ببركة حديث الكساء.

استحباب قضاء الحاجة

مسألة: يستحب قضاء حاجة المحتاج، فإذا قال: اسقني الماء، وهو على المائدة كان سقيه قضاءً للحاجة، وإن لم يسم تفريج الهمّ ولا كشف الغمّ(5).

وقضاء الحاجة أعم من الأمرين السابقين (كشف الهمّ والغمّ)، ولا فرق في ذلك بين الحاجات الدنيوية والأخروية.

ص: 352


1- أي أحياناً.
2- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص537 ب76 ح19773.
3- أي أحياناً.
4- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص537 ب76 ح19773.
5- النسبة بينهما عموم من وجه.

..............................

ولا يبعد أن يكون قضاء حاجة غير المسلم _ كإدخال السرور على قلبه(1) _ أيضاً مندوباً، وإن كان في المسلم أولى، ويؤيده الإطلاقات، أما التقييد بالمؤمن ونحوه في بعض الروايات فلا يقيدها لأنهما مثبتان على الاصطلاحالأصولي(2).

كما يؤيده قضاء النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) حاجات غير المؤمنين، كما ورد في تفسير سورة المنافقين من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) أعطى بعض ملابسه لعبد الله بن أُبي لما طلب منه ذلك(3)..

وفي موارد أخرى دلالة على ذلك ولو بتنقيح المناط.

ص: 353


1- قد سبق بعض البحث عن إدخال السرور تحت عنوان: (بشارة الغير وإدخال السرور).
2- المطلق والمقيد إذا كانا متخالفين بالسلب والإيجاب قيّد أحدهما الآخر كما في: (أكرم العالم)، و(لا تكرم العالم الفاسق)، أما إذا كانا متوافقين في السلب والإيجاب فلا، بل يكون المقيّد أشد في المطلوبية كما لو قال: (أكرم العالم)، و(أكرم العالم الفقيه)، و(أقم الصلاة)، و(أقم صلاة الظهر)، راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- بحار الأنوار: ج30 ص572 ب23 الأول.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَنْ وَالله فُزنا وَسُعِدنا، وَكَذلِكَ شِيعَتُنا

اشارة

-------------------------------------------

السعي للفوز

مسألة: يستحب وقد يجب _ حسب المراتب _ السعي لتحقيق الفوز، للنفس وللغير.

ففوزهم (علیهم السلام) كان _ إضافة للجانب الذاتي _ لأجل أنهم واسطة الخير والفيض.

وفوز شيعتهم؛ لأنهم بسبب تمسكهم بالأئمة الهداة (علیهم السلام) ينالون خير الدنيا والآخرة وحوائجهم فيهما.

فإن علمهم (علیهم السلام) بفوزهم وفوز شيعتهم ببركة هذا الاجتماع الرباني أوجب عقدهم ذلك الاجتماع التاريخي، لما ورد من «أنهم (علیهم السلام) عالمون بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة»(1) بتعليم الله سبحانه لهم.

علم الغيب وتأثيره في سلوك المعصومين (علیهم السلام)

لا يقال: إذا كان الرسول (صلی الله علیه و آله) يعلم بأن اللحم مسموم فلماذا مضغه؟.

ولماذا ذهب الإمام علي (علیه السلام) للصلاة وهو يعلم بأن ابن ملجم يريد قتله؟.

ولماذا شرب الإمام الحسن (علیه السلام) السم؟ إلى غير ذلك.

ص: 354


1- راجع الكافي: ج1 ص260 باب أن الأئمة (علیهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء (صلوات الله عليهم).

..............................

لأنه يقال: علمهم الغيبي وقدرتهم الغيبية لا تغيِّر سلوكهم وبرنامجهم الفردي والاجتماعي، وإلاّ لم يكونوا أسوة، ولمَا تحقق الامتحان، فالرسول (صلی الله علیه و آله) كان قادراً _ بإذن الله تعالى _ على أن يقلب الحصى جوهراً ويخرج بذلك نفسه وأصحابه من الفقر، إلى غير ذلك من الأشباه والنظائر.

وكذا لو كان المقرر أن يؤثر علمهم الغيبي وقدرتهم الغيبية في تغيير المقدرات الإلهية ومقتضيات عالم الإمكان لكان الإمام الحسين (علیه السلام) قد أوجد الماء لأصحابه وأهل بيته (علیهم السلام)، بل حتى لو أُشربوا السم وضُربوا بالسيف كانواسيجدون الحل الناجح غيبياً، وكذلك لما بكى الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لفقد ولده (علیه السلام) وهو يرى أنه دخل جنات عرضها السماوات والأرض.

وكذا حال الأنبياء (علیهم السلام) ..

وإلاّ لكان إبراهيم (علیه السلام) قضى على نمرود بإشارة من يده، ولأحدث عيسى (علیه السلام) بينه وبين اليهود سداً حتى لا يتمكنوا منه، ولم تكن حاجة لأن يرفعه الله تعالى إلى السماء، وكذلك كان يقضي موسى (علیه السلام) على فرعون بادئ ذي بدء دون حاجة إلى إيقاع النفس في مخاطر ومتاعب جسيمة، والجهاد لعشرات السنين قبل التيه ومعه وبعده.

ولكان الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يظهر ولا يتمكن عدو من النيل منه، مما يضطره إلى التستر، كما في الأحاديث من أنه (علیه السلام) تستر تحفظاً على نفسه من الطغاة(1).

ص: 355


1- راجع بحار الأنوار: ج52 ص90 ب20.

..............................

أما ما ظهر من المعجزات والكرامات فكان بقدر معين بحيث يكفل إقامةالبرهان على ارتباط هذا الرسول (صلی الله علیه و آله) ووصيه (علیه السلام) بإله الكائنات، وبحيث يتم الحفاظ على أصل الرسالة دون أن تمحى نهائياً وشبه ذلك، وأما ما عدا ذلك فيدخل في عالم الأسباب والمسببات الطبيعي.

وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر.

أبواب الجنة والنار

لا يخفى أن التشيع كالإيمان، يؤثر ويتحكم ويرتبط بثمانية مواضع من الإنسان، وهي:

1 _ الباصرة.

2 _ السامعة.

3 _ الذائفة.

4 _ اللامسة(1).

5_ الفرج، حيث إنه وإن شملته اللامسة من وجه، لكنه لكثرة الابتلاء به وخطورته وصعوبة التحكم به عدّ واحداً في قبالها(2).

6 _ البطن.

ص: 356


1- أما الشامة فلا مدخلية لها إلا نادراً جداً _ كشم الطيب في الحج _.
2- قال تعالى في وصف المؤمنين: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ» _ سورة المؤمنون: 5، سورة المعارج: 29 _.

..............................

7 _ الاعتقاد والفكر.

8 _ النية.

فإن كل واحد من هذه يمكن أن يستخدم للخير أو الشر، وكلها باستثناء الأخير يمكن أن تُدخل الإنسان في الجنة أو في النار، ولعل السر في أن للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب هو هذه الجهة، حيث إن نية السوء بما هي هي لا تؤدي بالإنسان إلى النار، كما حقق في بابه وذكرناه في الأصول، أما الأبواب السبعة الأُخر فمن الممكن أن تؤدي بالإنسان إلى النار، ونية الخير من أبواب الجنة.

وأما الاعتقاد: فمن الواضح أن التفكر والاعتقاد قد يجر إلى النار، كالاعتقاد بالباطل في الأصول(1)، وقد يؤدي بالإنسان إلى الجنة، وذلك كالتفكر في أمور الخير ولأجلها، وفي أصول الدين والاعتقاد بها.

والإنسان الذي يرغب في دخول الجنة وسعادة الدنيا والآخرة، لابد من أن يجنِّد كل المجالات الثمانية في الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى، وأوامر أهلالبيت (صلوات الله عليهم أجمعين) والتي تنبثق من أوامر الله تعالى أيضاً، بل هي هي لقوله تعالى:

«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحى»(2).

ولما ورد: «أهل بيت النبوة وموضع الرسالة»(3).

ص: 357


1- أي في أصول الدين.
2- سورة النجم 3 _ 4.
3- زيارة الجامعة الكبيرة.

..............................

وأما العقل فليس علة مباشرة، بل بسبب إحدى السوابق، وإن كان هو لايتوجه بذاته إلاّ إلى الله وإلى أوامره.

أما من يصرف بعض مواضعه السبعة في معصية الله ومعصية أوامر رسله وأوصيائهم (عليهم الصلاة والسلام) فهو يفتح على نفسه باباً أو أكثر إلى النار، أعاذنا الله منها.

هذا كله حسب الاحتمال.

ولكن في بعض الروايات إشارة إلى ما يظهر منه توزع أبواب الجنة حسب الصفات النفسانية، إذ ورد أن أبواب الجنة منها باب الرحمة، ومنها باب الصبر، ومنها باب الشكر، ومنها باب البلاء، والباب الأعظم لأهل الزهدوالورع والراغبين إلى الله عز وجل المستأنسين به(1).

وهناك روايات أُخرى تشير إلى أن أبواب الجنة الثمانية متعددة بلحاظ أصناف الأفراد:

«إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا ... وباب يدخل منه سائر لمسلمين ممن شهد أن لا الله إلا الله، ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغض أهل البيت (علیهم السلام)»(2)، ولعل ذلك بعد امتحانه في الآخرة.

وهناك طائفة ثالثة من الروايات من أمثال:

ص: 358


1- راجع الأمالي للصدوق: ص210 المجلس38 ح1.
2- الخصال: ج2 ص407-408 باب الثمانية ح6.

..............................

«من صام من رجب يوماً واحداً من أوله أو وسطه أو آخره أوجب الله له الجنة وجعله معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن صام يومين من رجب قيل له: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى، ومن صام ثلاثة أيام قيل له: قد غفر لك ما مضى وما بقي فاشفع لمن شئتمن مذنبي إخوانك وأهل معرفتك، ومن صام سبعة أيام من رجب أُغلقت عليه أبواب النيران السبعة، ومن صام ثمانية أيام من رجب فتحت له أبواب الجنة الثمانية فيدخلها من أيها شاء»(1).

وغير خفي أن أمثال هذه إنما هي بنحو المقتضي.

وروايات تقوم بالتوزيع حسب نوعية الوظيفة والمسؤولية التي قام بها الشخص، فمثلاً: «إن للجنة باباً يقال له باب المجاهدين ... »(2)، و«إن في الجنة باباً يدعى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون»(3).

وهناك روايات تشير إلى أعداد أكبر، فقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... إن للجنة أحدى وسبعين باباً ... وطبقاتها ثمانية»(4).

وقد يجمع بين هذه الروايات بأنحاء:منها: إن هنالك أبواباً رئيسية وأخرى فرعية، فالأبواب الرئيسية ثمانية في كل واحد منها العديد من الأبواب الصغيرة.

ص: 359


1- الأمالي للصدوق: ص5 المجلس2 ح1.
2- الكافي: ج5 ص2 باب فضل الجهاد ح2.
3- وسائل الشيعة: ج10 ص404 ب1 ح13703.
4- راجع الأمالي للطوسي: ص368-369 المجلس13 ح784.

..............................

ومنها: إن الأبواب الثمانية وكذا السبعة يراد بها طبقات بعضها فوق بعض كما في بعض الروايات ولكل منها أبواب.

ومنها: إن للأبواب جهات عديدة وحيثيات مختلفة، أو مراتب متعددة.

ومنها: إن ما كان بلحاظ الصفات أو الأعضاء يتطابق مع ما كان بلحاظ الأفراد ولو باعتبار أبرزها، فباب المجاهدين يتطابق مع باب الصبر مثلاً، فالتعدد في العناوين والتطابق عموماً وخصوصاً مطلقاً أو من وجه في المصاديق.

ويمكن إدراج ما ذكرناه من التقسيم بلحاظ الأعضاء في تلك العناوين الأخرى أيضاً(1) فتأمل.

ص: 360


1- مثلاً الصبر يشمل صبر اللامسة والسامعة والباصرة و... عن معصية الله وهكذا هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن الملامسة محطة للشكر والبلاء والصبر و... فكل من مفردات الطرفين تصلح محطة لكل أو غالب مفردات الطرف الآخر.

فَازوا وَسُعِدوا في الدُّنيا وَالآخِرَةِ

اشارة

-------------------------------------------

الضلالة والشرّ وضدهما ودور الله أو الإنسان فيها

مسألة: من المعلوم أن الاهتداء والفوز والسعادة الأُخروية بل وحتى الدنيوية وعكسها بيد الإنسان نفسه بعد هداية الله سبحانه.

قال جل وعلا: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(1).

وقال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ له مَخْرَجاً»(2).

وقال سبحانه: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ»(3).

وقال تعالى: «مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ له وَلِيًّا مُرْشِداً»(4).ومعنى إضلاله سبحانه تركه وشأنه، من قبيل: أفسد الوالدُ ولدَه والحكومةُ الناسَ، إذا تركت الحكومة الناس وشأنهم حتى يفسدوا وإن لم تقم

ص: 361


1- سورة الروم: 41.
2- سورة الطلاق: 2.
3- سورة الأعراف: 96.
4- سورة الكهف: 17.

..............................

هي بالتخطيط للإفساد بل كان مجرد تركهم، وترك الوالد ولده حتى يفسد، ولكن إنما يكون ذلك بعد هداية الله وعدم قبول الإنسان للهداية كما فصلناه في بعض كتبنا الكلامية في بابي الضلال والهداية.

ثم إن الله سبحانه وتعالى لا يريد بأحد شراً أو سوءً، بل يريد الخير للجميع، كما لا يريد مشكلةً لأحد بما هو هو وبما هي هي، ولذا ورد في سورة القدر «سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»(1)، فإن كل ما ينزل من السماء إلى الأرض هي السلامة، وإنما الناس _ بسوء تصرفاتهم _ يجلبون لأنفسهم الشر كالفقر والمرض وما أشبه ذلك، فإنها بيد الإنسان نفسه أو بيد بني نوعه، وإنما يوقع الإنسان نفسه في الشر بهذه الأسباب.

نعم، قد يكون السبب في إيقاع الإنسان في مشكلة: التكفير عن ذنوبهكي لا يبتلى بالعقاب الأشد في الآخرة، أو رفعة درجاته، كمن يوقع نفسه في مشاق السفر رغبة في الربح والتجارة.

وربما كان السبب في الوقوع في المشكلة الأثر الوضعي لتصرفاته هو، فتكون المصائب التي تترى عليه نتيجة لذلك، وإن لم يعلم هو بالترابط بين الأمرين، ف (من زرع حصد) حنظلاً كان أم ورداً.

لا يقال: فماذا تقولون فيما ورد في الدعاء: «أكرمني بهوان من شئت من خلقك ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك»؟ (2).

ص: 362


1- سورة القدر: 5.
2- الكافي: ج4 ص75 باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ح6.

..............................

فإنه يقال: مثالهما مثال من يطلب من قائد الجيش أن لا يرسله في المهمات الصعبة بل يكلف غيره بها فيما لابد من خوضه لنجاة الجيش أو الشعب، فإذا كان هنالك هوان لابد منه فإن هذا الداعي يطلب من الله سبحانه أن لا يكون هو الذي يُهان وغيره يُكرم، بل يكون هو المكرم وإن كان غيره يُهان.

والتعبير ب (من شئت) قد تكونحكمته الإشارة إلى أن انتخاب البديل حيث كان من الله تعالى فإن من الطبيعي أن يحل الله سبحانه الهوان في المحل القابل، وفيمن يستحق ذلك أو فيمن تقتضي الحكمة ذلك وإن لم يكن مستحقاً، وهذا الداعي وإن كان يستحق ذلك إلاّ أنه بالدعاء يريد أن يرفع ذلك الاستحقاق أو تغيير وجه الحكمة فيما كان من قبيل ما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات لا اللوح المحفوظ.

وتفصيل هذه المباحث في الكتب الكلامية(1) وإنما أردنا الإلماع إليها حسب ما يقتضيه المقام.

ص: 363


1- راجع: (شرح المنظومة)، و(القول السديد في شرح التجريد) للمؤلف (قدس سره).

وَرَبِّ الكَعبَةِ.

اشارة

-------------------------------------------

الكعبة ومكانتها

مسألة: يستحب التركيز على الكعبة المكرمة ومكانتها وتوجيه الناس إليها، وبيان أن للكعبة _ زادها الله شرفاً _ حرمةً ومنزلةً خاصة، ولذا أقسم علي (علیه السلام) برب الكعبة مرتين، ولم يقسم برب الصفا والمروة أو المزدلفة مثلاً.

والقسم برب الكعبة تركيز عليها وتوجيه إليها وتحريض على احترامها وبيان لعظمتها، وبذلك يلتف الناس حولها ويكونون بذلك قياماً في طاعة الله تعالى في مختلف شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والدينية وغيرها، ولذا قال سبحانه:

«جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ»(1)،(2).

وقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَلهمْ»(3).

ص: 364


1- سورة المائدة: 97.
2- راجع أيضاً كتاب (خواطري عن القرآن: ج1 ص419 فصاعداً) لأخ الإمام المؤلف آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).
3- سورة الحج: 28.

..............................

خاتمه

اشارة

وفي ختام هذا الفصل نشير إلى أن الأحكام والعِبَر التي استنبطناها من حديث الكساء كانت عَبر الاستناد إلى الدلالة المطابقية والتضمنية والالتزامية ونحوها، كما ألمعنا إليه في المقدمة.

التدبر والتفكر والاستنباط في القرآن

ويمكن أن يستخرج أكثر ما ذكرناه من الأحكام عبر (التدبر) و(التفكر) و(الاعتبار).

فقد ذكر الأول في القرآن الحكيم في أربع آيات(1).

والثاني في ثمانية عشر موضعاً (2).

ص: 365


1- قال تعالى ƒليدّبّروا‚ في آية واحدة (سورة ص 29). وقال سبحانه ƒيتدبّرون‚ في آيتين (سورة النساء: 82 وسورة محمد: 24). وقال تعالى ƒيدّبّروا‚ في آية واحدة (سورة المؤمنون 68).
2- قال تعالى ƒتتفكّروا‚ في آية واحدة (سورة سبأ: 46). وقال ƒتتفكرون‚ في ثلاث آيات (سورة البقرة: 219، سورة البقرة: 266، سورة الأنعام: 50)، وقال ƒفكّر‚ في آية واحدة (سورة المدثر: 18)، وقال ƒيتفكّروا‚ في آيتين (سورة الأعراف: 184، سورة الروم: 8)، وقال ƒيتفكرون‚ في إحدى عشرة آية (سورة آل عمران: 191 والأعراف 176 ويونس 24 و.الرعد 23، والنحل 11، والنحل 44، والنحل 96، والروم 21، والزمر 42، والجاثية 13، والحشر 21).

..............................

والثالث في سبع آيات(1).

والقرآن يؤكد على الاجتهاد والاستنباط، قال سبحانه: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» (2).

ولذا أكثر من حديث (العقل) و(التعقل) وجاءت الإشارة إلى ذلك في تسع وأربعين آية(3).

وتحدث عن (القلب) _ والمراد به ذلك أيضاً _ في مائة واثنتين وثلاثينآية(4).

وعن (اللب) _ وهو جوهر الإنسان وحقيقتة والمراد به العقل أيضاً، مع اختلافهما في اعتبار أن العقل من العقال واللب هو جوهر الشيء معرى عن الحواشي وشبهها _ في ستة عشر موضعاً (5).

وعن (النهى) _ بمعنى العقل لأنه ينهى الإنسان عن الرذائل _ في اثنتين(6)، وعن (الفقه) في عشرين(7)، وعن (الحكمة) في تسع عشرة آية(8)، إلى غير ذلك.

ص: 366


1- قال تعالى ƒعبرة‚ في آية واحدة (سورة يوسف 11) وقال ƒفاعتبروا) في آية واحدة (سورة الحشر 2) وقال ƒلعبرة‚ في خمس آيات (سورة آل عمران 13، النحل: 66، المؤمنون 21، النور: 44، النازعات : 26).
2- سورة النساء: 83.
3- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
4- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
5- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
6- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
7- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
8- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.

..............................

تجسم الأعمال

ولا بأس أن نشير ها هنا إلى أن ما ورد من أن الفكرة السيئة تفوح منها رائحة خبيثة، وما ورد من تجسم الأعمال في الآخرة وفي القبر وما أشبه ذلك، واضح حتى حسب الموازين الطبيعية المتعارفة، فكيف بغيره.

فإن كل عمل يصدر من الإنسان حتى تفكره وسماعه ورؤيته وشمه وذوقه ولمسه إنما يكون من تحول المادة إلى الطاقة _ على الاصطلاح _ أي عبر تحول جزء من الطعام والشراب إلى قوة وطاقة تنشر في أرجاء الجسد وتعد وقود الأعمال والأفكار، فإن الأذن تأخذ نصيبها من الطاقة حتى تسمع، والعين كذلك حتى تبصر، واللسان حتى يتكلم، والجسم حتى يلمس، وهكذا.

ومن المعلوم أن تلك الأطعمة أجسام والجسم قابل للتقلص والتمدد والتشكل والتلون والتغير والتحول، كما نشاهد في الفواكه وسائر المواليد(1)حيث إنالماء والتراب والنور والهواء تتشكل من مليارات من المواد أو الجزيئات(2) والأطعمة والروائح والخواص.

ولذا ورد أن المغتاب تقيأ من فمه، وأن العمل يتجسم كلباً إذا كان سيئاً، ومانع الزكاة يتشكل ثعباناً..

ص: 367


1- المواليد اصطلاح متداول في كتب الفلسفة سابقاً ويعني النبات والحيوان والإنسان.
2- كال (فوتون) _ حسب العلم الحديث _.

..............................

وقد قال سبحانه: «إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (1)، ف (ما) هو الجزاء لا سبب الجزاء، ولذا لم يقل (بما) فهو هو جزاء، إلى غير ذلك من الآيات والروايات والمؤيدات.

وأولياء الله تعالى من الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) وصالحي العباد، أمثال سلمان (رحمة الله) وربما مؤمن آل فرعون(2)يرون تلك الأشكال الواقعية، ولذا أحس الإمام علي(علیه السلام) بالرياح الشديدة من حركة الملائكة في ليلة بدر(3).

ويمكن بإرادة الله تعالى تبدل الأجسام اللطيفة والواقعيات إلى أجسام كثيفة وشبهها، كما جمع الإمام (علیه السلام)زغب الملائكة(4).

وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر تقريباً لرؤيتهم وسماعهم واستشمامهم (علیهم السلام) لما لا ندرك.

ولذا قال النبي يعقوب (علیه السلام) رغم كون البون بعيداً والمسافة شاسعة: «إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ»(5).

ص: 368


1- سورة الطور: 16، سورة التحريم: 7.
2- قال تعالى: «يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» _ سورة يس: 2627 _ والذي فسرته بعض الروايات بأنه رأى مكانه في الجنة.
3- راجع المناقب: ج2 ص242 فصل في محبة الملائكة إياه.
4- راجع الكافي: ج1 ص393-394 باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم ح3.
5- سورة يوسف: 94.

..............................

للحواس والإدراكات درجتان

ومما ذكرنا يتلخص ما يلي:

الأول: إن الحواس الظاهرة والفهم والإدراك لها درجتان:

الأولى: الدرجة الطبيعية المعهودة كرؤية الأشياء إلى مقدار محدد، وسمع الأصوات إلى مسافة وقدر معين، وهكذا، ويلحق بهذا القسم تطوير الحاسة بالمباشرة أو الواسطة كرؤية الأبعد بواسطة النظارة والتلسكوب مثلاً، وسماع الأبعد بواسطة المكبرة الصوتية السمعية والإذاعية.

الثانية: الدرجة الغيبية كرؤية باطن الإنسان وحقيقتة، وسماع أصوات الملائكة والأموات، وهذه الدرجة تختص بأولياء الله سبحانه ممن أراد الله تعالى له ذلك، وهكذا حال الفهم الطبيعي العادي والفهم الغيبي، فللفهم درجتان.

ظاهر الإنسان وباطنه

الثاني: إن الإنسان له ظاهروباطن، فظاهره هذا الذي نشاهده وندركه بالآلة أو بدون الآلة، وباطنه هو قالبه المثالي الداخل في هذا الجسم، كدخول الماء في النباتات والحيوانات وشبهها، والزجاج في الحجر.

وذلك الباطن قد يكون متطابقاً مع الظاهر وقد يكون متخالفاً معه، بأن يكون ظاهره إنساناً وباطنه قرداً أو كلباً أو خنزيراً حسب صفاته النفسية، ولذا

ص: 369

..............................

رأى أبو بصير جملة ممن وقف بعرفات على غير صورتهم الإنسانية، وقال له الإمام (علیه السلام): «ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج» (1)، إلى غيرها من الروايات المتواترة.

ويستفاد من بعض الروايات: إن الناس يحشرون يوم القيامة بتلك الصورة الباطنية حسب صفاتهم التي اكتسبوها في هذه الدنيا (2).

ومثال هذين الأمرين: مثال من يقرأ الحمد وهو يفكر في تجارته أو دراسته، فظاهره شكل وباطنه شكل آخر، أوبالعكس يتاجر في محل تجارته وباطنه مشغول بالله سبحانه، حيث يكون ظاهره عادياً وباطنه نورانياً، ولعل ما ورد من «إن الله لا ينظر إلى صوركم بل ينظر إلى قلوبكم» (3) إشارة إلى هذين الأمرين.

***

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد والله الطاهرين.

محمد الشيرازي

قم المقدسة

1414ه

ص: 370


1- راجع بحار الأنوار: ج27 ص29-30 ب13 ح2.
2- راجع بحار الأنوار: ج6 ص229 ب8 ح32.
3- راجع بحار الأنوار: ج67 ص248 ب54 ضمن ح21.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.