نبراس الاصول المجلد 5

هویة الکتاب

سرشناسه: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349.

عنوان و نام پديدآور:

مشخصات نشر:

مشخصات ظاهرى:

فروست:

شابك:

وضعيت فهرست نويسى: فيپا

يادداشت: عربي

يادداشت: كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع:

موضوع:

موضوع:

رده بندى كنگره:

رده بندى ديويى:

شماره كتابشناسى ملى:

اطلاعات ركورد كتابشناسى: فيپا

--------------------

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر: الطبعة

الأولى - 1444ه .ق - 2022م

عدد

النسخ: 1000 نسخة

المطبعة:

--------------------

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر:

الطبعة الأولى - 1444ه .ق - 2022م

عدد النسخ: 1000 نسخة

المطبعة:

-------------------------

شابك:

------------------------------------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (علیه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (علیه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (علیه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

ص: 3

ص: 4

المقصد الحادي عشر في الاستصحاب

اشارة

ص: 5

ص: 6

بحوث تمهيدية

البحث الأوّل: في تعريفه

اشارة

وقد عرّف بتعاريف متعددة، منها:

التعريف الأوّل
اشارة

ما اختاره الشيخ الأعظم وهو: «إبقاء ما كان».

وهنا مطلبان:

المطلب الأوّل: في (إبقاء)

أي الحكم بالبقاء، وقيل: هو الالتزام به في مرحلة الظاهر، بمعنى ترتب آثار البقاء في مرحلة العمل.

وأشكل عليه: بأنه لا بدّ من ملاحظة ثلاث جهات في تعريف الاستصحاب، والتي لم تُراع في التعريف بالإبقاء.

الجهة الأولى: إطلاق الدليل والحجة عليه، حيث نقول: يدل عليه الاستصحاب ويحتج له بالاستصحاب، وحيث إن المعرِّف هو المعرَّف بنفسه فلا بدّ من إمكان حمل الحجة والدليل على التعريف، والإشكال هو أن الحكم بالبقاء لا يوصف بكونه حجة ودليلاً، بل الحجة والدليل هو ما يدل على الاستصحاب كالأخبار.

ص: 7

وفيه: أن وصف شيء بالحجيّة والدليلية على أنحاء ثلاثة(1):

1- موضوع موجود مفروغ عن وجوده يبحث عن أنه حجة أم لا، بمعنى أنه إذا وجد هل هو حجة؟ كخبر الواحد.

2- البحث عن أصل وجوده مع كون حجيّته معلومة على فرض وجوده، كالمفاهيم حيث إنها على فرض وجودها حجة ودليل قطعاً، لذا كان البحث عن أصل وجودها وعدمه، والحجيّة هنا تغاير الموضوع مصداقاً وإن لم تنفك عنه خارجاً.

3- كون وجوده عين حجيّته، كما في الأصول العملية، حيث إن الحجيّة فيها عين التعبد الشرعي، لأن الأصل العملي ليس مفروض الوجود كي يبحث عن جعل الشارع الحجيّة له بعد وجوده، كما أن الحجيّة فيه لا تغاير الموضوع مصداقاً.

وعليه: فبناءً على كون الاستصحاب أصلاً عملياً فهو من قبيل الثالث، فلا محذور في إطلاق الحجة والدليل على الإبقاء حينئذٍ.

بيان الإشكال بطريقة أخرى ذكرها المحقق الإصفهاني(2)، حاصله: أن الحجيّة إمّا بمعنى الدليليّة أو بمعنى المنجزية والمعذرية، وهذا لا ينطبق على التعريف.

1- أمّا الدليلية: فلا يوصف الحكم بالبقاء بها، وذلك لأنه مدلول الدليل وليس هو الدليل.

ص: 8


1- انظر أجود التقريرات 4: 5.
2- نهاية الدراية 5: 9.

2- وأمّا المنجزية والمعذرية: فالحكم لا يكون حجة على نفسه أو غيره، بأن ينجِّز نفسه أو غيره أو يعذّر عنهما.

وفيه: أن الأصل العملي حكم ظاهري، وهو منجز للواقع إن أصاب ومعذّر عنه إن أخطأ، فليس حينئذٍ تنجيز الحكم لنفسه أو غيره، أو تعذير عنهما.

الجهة الثانية: إن كلام الأصوليين ونقضهم وإبرامهم حول شيء واحد مع اختلافهم في الدليل الدال عليه بين تعبّد الشارع وبناء العقلاء وحكم العقل الظني، فلا بدّ من كون التعريف جامعاً لها ليكون البحث في شيء واحد.

والإشكال هو: عدم الجهة الجامعة حسب هذه المباني الثلاث، قال المحقق الإصفهاني(1) ما ملخصه: أن الإبقاء إمّا إبقاء عملي أو إبقاء تشريعي...

أمّا الإبقاء العملي: فليس مورداً لحكم العقل، لأن الإذعان العقلي الظني إنّما هو ببقاء الحكم لا بإبقائه عملاً من المكلف، وليس للعقل إلزام إنشائي وشبهه حتى يصح إرادة موردية الإبقاء العملي لحكم العقل، وبعبارة أخرى: إن العقل يدرك البقاء ظناً لا أنه يحكم، إذ ليس للعقل أحكام عملية.

وأمّا الإبقاء التشريعي: - غير المنسوب إلى المكلف - فلا جهة جامعة بين الإلزام الشرعي - الذي هو مصداق الإبقاء أو متعلقه - وبين البناء العقلائي والإدراك العقلي، إذ العقل لا يحكم، ولا إلزام من العقلاء ولا إذعان منهم،

ص: 9


1- نهاية الدراية 5: 8.

فهم لا يحكمون وإنّما يبنون عملاً، وبعبارة أخرى: إنه لا جامع بين المباني الثلاثة، فالدليل إن كان الروايات فالإبقاء حكم مولوي، وإن كان العقل فالإبقاء تصديق ظني لأنه إدراك العقل بالظن ببقائه، وإن كان بناء العقلاء فالإبقاء إلتزام عملي، أي إلتزام المكلف ببقائه.

وأجيب: أوّلاً: ما في أصول السيد الوالد: «من أن العقل كما يرى يُلزم، والعقلاء كما يعملون يحكمون، فلهم جهة مولوية وجهة سير»(1).

والحاصل: للعقلاء أحكام بما هم موالي، كذلك العقل له إلزام ولا أقل من إدراكه الإلزام.

وثانياً: «حكم الشارع بالبقاء ابتداءً أو إمضاءً لما عليه العقلاء من العمل على طبق الحالة السابقة تعبداً أو لأجل حصول الظن به»(2).

وأورد عليه المحقق الإصفهاني(3)

تارة: بأن البحث في الاستصحاب من باب بناء العقلاء راجع إلى البحث عن ثبوت البناء وعدمه، لا عن حجيّته شرعاً بعد ثبوته، فإن بناء العقلاء إذا ثبت بشرائطه كان ممضى شرعاً كسائر الموارد.

وأخرى: بأنه لا إلزام للعقلاء باتباع الظاهر أو الجري على وفق اليقين السابق مثلاً، كي يكون معنى إمضائه جعل الحكم المماثل على طبقه، بل مجرد بنائهم على مؤاخذة من يخالف الظاهر أو لا يجري على وفق اليقين

ص: 10


1- الأصول 2: 265.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 290.
3- نهاية الدراية 5: 8.

السابق - مثلاً - فمعنى إمضائه أن الشارع كذلك، فتصح المؤاخذة عنده كما تصح عندهم.

ويرد على الأوّل: أن هذا هو الحجيّة بأحد المعاني الثلاثة المتقدمة، فالأمر هنا كما في المفاهيم وهو كافٍ لنا.

وعلى الثاني: أن إمضائه يلازم جعل الحكم الشرعي، إذ لا تصح مؤاخذته من غير حكم، هذا مع قطع النظر عن الإشكال في المبنى.

الجهة الثالثة: تفرّع الاشتقاقات، كما يقال: استصحب زيد، فلا بدّ أن يصح استعمال التعريف في هذه الموارد.

والإشكال هو أنه لا يصح أن يقال: أبقى زيد الحكم، فالحكم الشرعي يسند إلى الشارع لا إلى المكلف.

ويمكن أن يجاب عنه: بأن في الاستصحاب جهتين: جهة الحكم وجهة كشف المكلف - مجتهداً أو مقلداً - لذلك الحكم، فعندما يقال: على المكلف الاستصحاب فالمعنى أن عليه التطبيق العملي لحكم الشارع بالبقاء.

وبعبارة أخرى: عليه التمسك بالاستصحاب عملاً، فيُبقِ نفسه من الناحية العملية على الحالة السابقة بعد حكم الشارع ببقاء اليقين.

إن قلت: الإلزام الشرعي دليل الاستصحاب لا نفسه، وكذلك الجعل الشرعي دليله، مضافاً إلى أنه إحداث لا إبقاء(1).

قلت: استصحاب المكلف دليله الإلزام الشرعي والجعل الشرعي، وأمّا

ص: 11


1- بيان الأصول 6: 12.

حكم الشارع فهو الاستصحاب بنفسه كالبراءة والاحتياط، مضافاً إلى أن جعل المماثل - لو فرض - هو إبقاء، حيث إن الحكم الظاهري حكم طريقي للإيصال إلى الواقع، ينجِّزه إن أصاب، ويعذّر عنه إن أخطأ كما مرّ.

المطلب الثاني: في (ما كان)
اشارة

وهو الحكم في الشبهات الحكمية، والموضوع في الشبهات الموضوعية، قال الشيخ الأعظم: «ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم، فعِليّة الإبقاء هو: أنه كان، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علته أو دليله»(1).

وأشكل عليه: بأمور:

منها: إن (الإبقاء) يتضمن (ما كان)، فكما أن قيد (على ما كان) كان مستدركاً، كذلك قيد (ما كان)(2).

ومنها: إن الروايات تصرّح بأن العِلة هي اليقين السابق كقوله (علیه السلام): «لأنك كنت على يقين...»(3)،

فليس العلة الكون السابق.

ويمكن الجواب: بأن اليقين كاشف عن كونه السابق، فالعلة الواقعية هي الكون السابق، فتأمل.

ومنها: عدم انطباقه على بعض المباني والآراء، فإنّه عليها يجري الاستصحاب وليس هناك يقين سابق أو (ما كان): مثل ما لو كان اليقين حالياً والشك استقبالي كالمعذور عن الوضوء في أوّل الوقت يقيناً مع شكه في

ص: 12


1- فرائد الأصول 4: 9.
2- الأصول 2: 263.
3- تهذيب الأحكام 1: 421؛ عنه وسائل الشيعة 3: 477.

استمرار عذره إلى آخر الوقت، ومثل الاستصحاب القهقرى، وكاستصحاب العدميات حيث إنه استصحاب ما لم يكن.

إشكالات أخرى

وقد أورد على التعريف بإشكالات أخرى، منها:

الإشكال الأوّل: لا بدّ في التعريف من ذكر المقوّم - الحد - أو أخص اللوازم - الرسم - ، ولم يؤخذ في هذا التعريف مقوّم الاستصحاب وهو اليقين والشك.

الإشكال الثاني: إنّ بقاء الحكم هو عين الحكم الشرعي في مرحلة البقاء، ومقتضى هذا التعريف أن الاستصحاب هو الحكم بالحكم وهذا ممّا لا محصل له(1).

ويمكن أن يقال: بأن البقاء هو لليقين السابق اعتباراً، بناءً على أن اليقين ليس هو المتيقن فيكون المعنى الحكم ببقاء اليقين.

الإشكال الثالث: ما في الفوائد: «لأن ذلك - يعني الحكم ببقاء ما كان - عبارة أخرى عن الحكم بدوام ما ثبت، وهذا ليس من الاستصحاب قطعاً، فإنّه لا إشكال في أن لليقين والإحراز السابق دخل في حقيقة الاستصحاب ولو لكونه طريقاً إلى المتيقن، كما أن للشك في البقاء دخل فيه، فليس الاستصحاب عبارة عن الحكم بدوام ما ثبت. بل لو كان حقيقة الاستصحاب ذلك لكان الاستصحاب من الأحكام الواقعية، وعلى فرض أن يكون من الأحكام الظاهرية باعتبار أخذ الشك في الحكم بالبقاء فيه - مع

ص: 13


1- منتقى الأصول 6: 10.

أنه لم يؤخذ في التعريف - فليس مفاد الأخبار الواردة في الباب ذلك»(1).

التعريف الثاني

ما عن الشيخ الأعظم في درسه: «إنّه القاعدة التي مقتضاها الإبقاء أو الحكم بالبقاء أو الثبوت حال الشك»(2).

وهذا يرد عليه بعض ما مرّ، مضافاً إلى أنه تعريف بالأثر وليس بيان حقيقة الاستصحاب إلاّ بأنه قاعدة أثرها كذا.

التعريف الثالث

ما عن المحقق النائيني بأنه: «عدم انتقاض اليقين السابق - المتعلق بالحكم أو الموضوع - من حيث الأثر والجري العملي، بالشك في بقاء متعلّق اليقين»(3).

وأشكل عليه - مضافاً إلى تهافته مع بعض مباني المحقق النائيني -:

أوّلاً: بأن هذا هو مقتضى الاستصحاب لا تعريفه بنفسه، ولذا لا يصح إطلاق الحجة على عدم الانتقاض.

وثانياً: عدم انسجامه مع مشتقات الاستصحاب كما في استصحب زيد لا يصح أن يقال: عدم انتقاض زيد مثلاً.

التعريف الرابع

هو «عدم نقض اليقين السابق بالشك اللاحق حكماً من الحاكم أو إدراكاً

ص: 14


1- فوائد الأصول 4: 306-307.
2- بيان الأصول 6: 21.
3- فوائد الأصول 4: 307.

من المدرك أو جرياً عملياً من المكلف».

والظاهر أن هذا التعريف سليم عن جميع الإشكالات السابقة مع بيانه لحقيقة الاستصحاب، فتأمل.

البحث الثاني: في أصولية مسألة الاستصحاب

وغير خفي أنّ هذا يرتبط ببحث تعريف الأصول والفارق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية والمسألة الفقهية والذي قد مرّ في أوّل الكتاب(1).

1- فإن عرّفنا الأصول بأنه: «القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي الكلي»، فهذا ينطبق على الاستصحاب، لأن مستنده إن كان بناء العقلاء فقد أمضاه الشارع وبذلك يستنبط الحكم الشرعي، وإن كان إدراك العقل الظني ببقاء الحالة السابقة فبذلك يستنبط الحكم الشرعي، وإن كان حكم الشارع بالبقاء فذلك يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، مثلاً: استصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، واستصحاب نجاسة المتمّم كراً حيث يستنبط منه الحكم الشرعي.

كما قد يستدل بجريان استصحاب الحجيّة التي هي مسألة أصولية، لكن هذا أخص من المدعى.

إن قلت: قد يقع الاستصحاب في طريق استنباط الأحكام الجزئية، وذلك في استصحاب الموضوعات الجزئية، كاستصحاب نجاسة هذا الثوب.

قلت: مع انطباق تعريف الأصول عليه في الجملة لا يضرّ خروج بعض

ص: 15


1- نبراس الأصول 1: 12-15.

المصاديق عنه.

2- وإن عرّفنا الأصول بأنه: «ما يبحث فيه عن القضايا التي تكون نتيجتها كبرى البرهان في استنباط الحكم الشرعي مع كونه مرتبطاً بالمجتهد لا المقلّد»، فهذا أيضاً ينطبق على الاستصحاب، وإن كان قد أشكل على أصل التعريف: بالنقض بقاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية الكلية، فإنها تقع في الكبرى التي تنتج الحكم الكلي مع ارتباطه بالمجتهد حصراً، اللّهم إلاّ أن يقال: لا مانع من كونها مسألة أصولية، أو يقال: إن جميع القواعد الفقهية إنّما هي مسائل أصولية لكن حيث بحثت في الفقه فلم يكن حاجة إلى بحثها في الأصول، فتأمل.

3- وإن عرّفناه بأنه: «ما يبحث فيه عن تحصيل الحجة على الأحكام الإلهية الكلية العامة لأبواب الفقه عامة - بعد العلم الإجمالي بها - فبعد تحصيل الحجة في الأصول يطبقه في الفقه» فهذا أيضاً مما ينطبق على الاستصحاب، لأن دليله إن كان العقل فهو حجة على الحكم الشرعي الكلي، وإن كان بناء العقلاء الممضى فكذلك، وإن كان الأخبار فالاستصحاب الإلزامي ينجز الواقع، والاستصحاب الترخيصي يعذّر عنه، فأمّا القواعد الفقهية فمواردها إمّا أحكام جزئية أو أحكام كلية خاصة ببعض الأبواب الفقهية.

البحث الثالث: بين الاستصحاب، وقاعدة اليقين، وقاعدة المقتضي والمانع

فجهة اشتراكهما هو ثبوت اليقين والشك في مواردها.

وجهة افتراقهما هو في الموضوع، وأمّا في الحكم فقد يقال بحجيّتها جميعاً، أو عدم حجيّتها جميعاً، أو بالتفصيل بحجيّة الاستصحاب وعدم

ص: 16

حجيّة القاعدتين وهذا هو الصحيح.

1- فأمّا الاستصحاب: فاليقين فيه يتعلق بالحدوث، والشك في البقاء، فمتعلق اليقين والشك متحدان ذاتاً ومختلفان زماناً، فيكون الشك طارئاً.

2- وأمّا قاعدة اليقين: فهي أن يتعلق اليقين بشيء في زمان معيّن ثم يتعلق الشك به بلحاظ ذلك الزمان، بأن يكون متعلقهما شيئاً واحداً في الخصوصيات كلّها إلاّ في زمان اليقين والشك، فيكون الشك سارياً.

وإن كان مدرك القاعدتين الأخبار مع دلالتها على كونهما أصلين عملييّن فيشتركان في أن ملاكهما التعبد، وإن كانا أمارتين فملاك الاستصحاب هو الملازمة الغالبة بين الحدوث والبقاء، وملاك قاعدة اليقين هو غلبة مطابقة اليقين السابق للواقع دون الشك اللاحق.

3- وأمّا قاعدة المقتضي والمانع: فهي أن يتعلق اليقين بوجود المقتضي، ويتعلق الشك في وجود المانع عنه. ففرقها عن القاعدتين أن متعلق اليقين والشك فيها مختلفان ذاتاً دونهما.

كما تفترق عن الاستصحاب باختلاف ملاكهما إن كانا أمارتين، فملاك الاستصحاب ما مرّ، وملاكها هو غلبة عدم اقتران المقتضي بالمانع.

كما أنهما قد يجتمعان في شي واحد - عكس قاعدة اليقين التي لا تجتمع مع الاستصحاب في مورد أبداً - .

فتارة: يتّفق حكمهما كما لو كان المقتضي موجوداً والمانع مفقوداً، فاستصحاب عدم المانع يجري، كما أن قاعدة المقتضي والمانع تجري بتأثير المقتضي.

ص: 17

وتارة: يختلف حكمهما كما لو وجد المقتضي بعد عدمه، فالاستصحاب يدل على عدم وجود الشيء، وقاعدة المقتضي والمانع تدل على وجوده، فيتعارضان، والترجيح للقاعدة لأنها الأصل السببي، إذ حيث لا مانع فالشيء موجود فلا شك في وجوده ليستصحب، فتأمل.

وهذه القاعدة إن ثبت حجيّتها فكما تجري في الأحكام كما لو فرض دلالة الأدلة على أن الملاقاة تقتضي الانفعال وأن الكرّية مانع ثم لاقت النجاسة مشكوك الكرية، كذلك تجري في الملاكات كما لو أحرز المصلحة وشك في المانع عنها من مفسدة أو مصلحة أقوي ونحو ذلك.

ص: 18

فصل في أدلة الاستصحاب

اشارة

وقد ذكرت أدلة متعددة إلاّ أن عمدتها بناء العقلاء والأخبار، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في بناء العقلاء

اشارة

أي بناؤهم - بما هم عقلاء - على العمل بالحالة السابقة لو عرض عليهم الشك، وذلك اعتماداً على ثبوت الشيء سابقاً، ولذا لو أمر المولى عبده بشيء فشك في استمراره فلم يمتثل في الزمان اللاحق معتذراً بشكه لم يكن معذوراً عندهم. وهذا البناء حجة لاتصاله بزمان المعصومين (علیهم السلام) ، وعدم ردعهم عنه، الكاشف عن إمضائهم له.

والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في الصغرى

ويرد عليها: مضافاً إلى كونه أخص من المدعى حيث إنه جار في الأوامر الإلزامية، لم يعلم كون ذلك لأجل حجيّة الاستصحاب عندهم أم لأجل قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ثم إنه لا بدّ في صحة الاستدلال به، إثبات وجود هذا البناء في مطلق أمورهم معاداً ومعاشاً، وفي مطلق الحالات سواء كان شكاً في اقتضاء الاستمرار أو في الرافع عنه، وكونه عندهم أصلاً لا أمارة مستندة إلى بعض

ص: 19

الوجوه العقلائية، وكونه ذا إلزام عندهم لا مجرد عمل لا مؤاخذة على مخالفته، ولولا ذلك لكانت حجيّته - على فرض الإمضاء - في موارد خاصة، فيكون الدليل أخص من المدعى.

1- أمّا المحقق العراقي ففصّل في بنائهم بين أمور المعاش والمعاد، فقال: «وثبوت هذا البناء الارتكازي منهم حتى في الأمور الدينية ينافي هذا الخلاف العظيم بين الأعاظم من العلماء خلفاً عن سلف، وذهاب جمع منهم إلى عدم الحجيّة، إذ المنكرون للحجيّة أيضاً من العقلاء، بل كل واحد منهم بمثابة ألف عاقل، فثبوت هذا الخلاف العظيم بينهم - قديماً وحديثاً - يكشف عن عدم ثبوت بنائهم على الأخذ بالحالة السابقة تعبداً في الأمور الدينية والأحكام الشرعية»(1).

وفيه: أنّه لا فرق عندهم بين الأمور الدينية وغيرها، بل تجري ارتكازاتهم عندهم في جميع الأمور من غير فرق، وأمّا مخالفة بعض الأعاظم فلا ينافي الارتكازية في الجملة، إذ إن ارتكاز العقلاء فيه تفصيل آخر ولعلهم نظروا إلى الموارد التي لا توجد فيها ارتكاز فعمَّموها، وله نظائر كثيرة.

2- وأمّا المحقق النائيني ففصّل بين الشك في المقتضي فلا بناء لهم والشك في الرافع فلهم البناء، قال: «ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو الأخذ بالحالة السابقة عند الشك في الرافع، ولم يظهر أنّ بناء العقلاء على ترتيب آثار وجود المتيقن حتى مع الشك في المقتضي، بل الظاهر أن بناءهم

ص: 20


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 34.

عند الشك في المقتضي على التوقف والفحص إلى أن يتبيّن الحال»(1).

وفيه: إنّ استمرارهم على الحالة السابقة في الشك في الرافع ليس دائماً، بل لو ظنوا بالخلاف لما أجروا الاستصحاب وكذا لو كان الاستمرار خلاف الاحتياط.

ثم إنّ المحقق النائيني قال: «بل لولا ذلك - أي العمل بالحالة السابقة - يلزم اختلال النظام»(2).

وفيه: لا اختلال لو أخرجنا موارد الاحتياط والاطمئنان والغفلة، ويؤيده أن جمع من الأعاظم لم يقولوا بحجيّته ولم تختل حياتهم.

3- وأمّا المحقق الخراساني فقد قال ما حاصله(3):

إن بقاءهم على الحالة السابقة إنّما هي لعلة، وأمر الإبقاء على الحالة السابقة يدور مدارها، وهي: إمّا الاحتياط برجاء بقاء الحالة السابقة، أو الاطمئنان بمعنى عدم عروض الشك واستمرار اليقين السابق، وإمّا الظن بالبقاء - حتى لو لم يكن ظناً شخصياً - أو الغفلة عن الشك، وعليه فلم يكن البقاء لأجل مرجعيّة الحالة السابقة.

وأشكل عليه: بأن «الوجدان يخالف كونها لها في الإنسان»(4)، وبعبارة أخرى: «ثبوت السيرة والبناء العقلائي على العمل طبق الحالة السابقة في

ص: 21


1- فوائد الأصول 4: 333.
2- فوائد الأصول 4: 332.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 363-364.
4- الأصول 2: 268.

الجملة، ولو على أساس الوهم والأنس الذهني الذي يميل الإنسان على أساسه إلى افتراض بقاء الحالة السابقة، بل نفس ما ذكروه من الغفلة يكون منشؤها عادة الوهم والأنس الذهني، ولهذا نجد أنهم يجرون على طبق الحالة السابقة في موارد قد لا يكتفى فيها حتى بالظن، فكأن ذلك الأنس الذهني أوجب سكون النفس وعدم اعتنائها باحتمال الخلاف»(1)،

فتأمل.

المقام الثاني: في الكبرى

أي إمضاء الشارع لهذا البناء، فقد أشكل عليها المحقق الخراساني بقوله: «ويكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات»(2).

وأجيب: بما ذكره المحقق الخراساني في باب حجيّة الخبر الواحد: من لزوم الدور، وذلك لأن رادعية الآيات للسيرة متوقفة على عدم تخصيصها بالسيرة، وعدم التخصيص يتوقف على الرادعية، وحيث لزم الدور من الرادعية فلا رادعية، وعليه فما ذكره المحقق الخراساني هنا يناقض ما ذكره هناك.

وفرّق المحقق العراقي(3):

بأن السيرة في الخبر الواحد على الكشف والأمارية - أي نفي احتمال الخلاف - فيكون علماً عقلائياً عندهم، فيخرج عن موضوع الآية تخصصاً، وأمّا السيرة في الاستصحاب فعلى كونه أصلاً

ص: 22


1- بحوث في علم الأصول 6: 20.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 364.
3- نهاية الأفكار 4[ق1]: 36-37.

عملياً، ومعنى ذلك حفظ الشك، وعليه فيبقى الاستصحاب تحت الموضوع المنهي عنه.

وأورد عليه: بأن كلامه وإن كان متيناً في نفسه، إلاّ أن الإشكال في التناقض بين كلامي المحقق الخراساني حيث إنه استند إلى الدور لا إلى العلم العقلائي، فتأمل.

المبحث الثاني - وهو العمدة -: الروايات المعتبرة

1- فمنها: صحيحة زرارة الأولى

«قال: قلت له: الرجل ينام - وهو على وضوء - أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستبين أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشك، وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

وغير خفي أن سؤاله الأوّل عن شبهة حكمية، وأياً كان المقصود فلا ربط له بالاستصحاب، وأمّا سؤاله الثاني فهو عن شبهة موضوعية حيث لا يعلم بأنّه نام أم لا فسأل: «فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به»، وجواب الإمام (علیه السلام) هو الاستصحاب.

والاستدلال بها يتوقف على عموم الجزاء لئلا تكون الصحيحة خاصة بالوضوء.

ص: 23


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ عنه وسائل الشيعة 1: 245.

فلا بد من معرفة الجزاء ليتبيّن عمومه، وفيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يكون الجزاء قوله (علیه السلام): «فإنه على يقين من وضوئه» بحسب ظاهر دخول الفاء عليه، وفي ذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إنه خبر أريد به الإنشاء البعثي، كما في الفوائد(1)

أي (فليبق على يقينه بالوضوء).

وعليه: فيكون الجزاء معلولاً للشرط، أي يترتب على عدم اليقين بالنوم وجوب البقاء على اليقين بالوضوء.

وقرّبه المحقق الإصفهاني(2)

بما حاصله: أنّ إفادة البعث بالجملة الخبرية الحاكية عن وقوع المبعوث إليه بعنوان الكناية ليس بتكلف كما ذكر ذلك الشيخ الأعظم، ولا ببعيد إلى الغاية كما ذكر ذلك المحقق الخراساني، فإنّ من الواضح أن الإخبار عن الكون على يقينه بالوضوء - في مقام البعث إلى كونه باقياً على يقينه وثابتاً عليه - حقيقة إبقاء اليقين وعدم رفع اليد عنه، وهو معنى معقول، كسائر موارد الجملة الخبرية المراد منها البعث إلى ما أخبر عنه.

وأشكل عليه في المنتقى(3):

بأن الجملة الخبرية الفعلية هي التي تستعمل في مقام الإنشاء، لا الجملة الاسمية، فهو لم يعهد.

وأجيب: «إنّ هذا الكلام إن تم، ففي موارد الإنشاء الطلبي كما في قوله:

ص: 24


1- فوائد الأصول 4: 336.
2- نهاية الدراية 5: 40.
3- منتقى الأصول 6: 40.

(يسجد سجدتي السهو) بمعنى اُسجد، وأمّا في الجمل الخبرية المستعملة لإنشاء الأمور الاعتبارية فيمكن أن تكون الجملة اسمية كما في مثل: (أنت طالق) لإنشاء الطلاق»(1).

وغير خفي أن هذا يرجع إلى الوجه الثالث الذي سنذكره بعد قليل.

الوجه الثاني: إنه خبر أريد به الخبر، قال في نهاية الدراية: «وهذا أوجه الوجوه لأن ظاهر الجملة الشرطية كون الواقع بعد الشرط جزاء لا علة له، وظاهر الجملة الخبرية كونها بعنوان الحكاية جداً لا بعنوان البعث والزجر، فالتوطئة والعلية والإنشائية خلاف الظاهر»(2).

وحاصله: إنّ هذا الوجه متوافق مع الظاهر ولا محذور فيه، فلا بدّ من الحمل عليه.

إن قلت: المحذور هو عدم ترتب اليقين بالوضوء على عدم اليقين بالنوم.

قلت: لا يجب أن يكون الجزاء مسبباً عن الشرط ومترتباً عليه في الوجود، بل ربما يعكس الأمر كقولهم: إن كان النهار موجوداً كانت الشمس طالعة وإن كان هذا ضاحكاً كان إنساناً.

وفيه: أن القائل بالترتب لا فرق عنده بين ترتب الشرط على الجزاء، أو العكس، أو الترتب العلمي فالعلم بوجود النهار سبب للعلم بطلوع الشمس.

فالأولى أن يقال: إنه لا بدّ من ارتباط الشرط والجزاء ولا يلزم ترتب

ص: 25


1- بحوث في علم الأصول 6: 31.
2- نهاية الدراية 5: 42.

أحدهما على الآخر، بل يكفي كون علة الحكم شيئاً آخر - غير الشرط والجزاء - فعبرهما يتم بيان وجود العلة في الجزاء دون الشرط، وهكذا لو كان الشرط والجزاء علتان فيقال إن لم يكن أحدهما موجوداً فالآخر موجود نظير أن نقول: احترم زيداً فإنه إن لم يكن عالماً فإنه عادل، وفي ما نحن فيه: العلة هي اليقين - ولو في الزمن الماضي - فيقال: إن لم يكن لك يقين بالنوم فقد كان لك يقين بالوضوء فلا بدّ من ترتيب آثاره.

الوجه الثالث: إنه خبر أريد به إيجاد الاعتبار، ففي المنتقى: «جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء، لكن لا يراد بها إنشاء البعث... بل يقصد بها التعبد باليقين بقاءً، وجعل اليقين تعبداً، فيكون المعنى: (إن لم يستيقن بالنوم فهو متيقن تعبداً بالوضوء) وهذا المعنى لا محذور فيه، بل يكون مفاد هذا الكلام مفاد قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) في كونه تعبداً باليقين»(1).

أقول: هذا وإن كان لا محذور فيه إلاّ أنه لا يتبادر إلى الذهن بل هو خلاف الظاهر.

الاحتمال الثاني: أن يكون الجزاء قوله (علیه السلام): «ولا تنقض اليقين أبداً بالشك» فيكون قوله: «فإنه على يقين من وضوئه» تمهيداً للجزاء، فيكون المعنى: (وإن لم يستيقن أنه نام فحيث إنه على يقين من وضوئه فلا ينقضه بشكه).

ويرد عليه: أن الجزاء - حتى لو كان بعد تمهيد - لا يدخل عليه الواو، بل إمّا يدخله الفاء أو لا يدخله شيء من حروف العطف.

ص: 26


1- منتقى الأصول 6: 41.

الاحتمال الثالث: أن يكون الجزاء محذوفاً، وما هو مذكور إنّما هو علة للجزاء، والعلة تعمّم، فالمعنى: (وإن لم يستيقن النوم فلا يجب عليه الوضوء لأنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك)، وحذف الجزاء - خاصة مع سبق ذكره - وإقامة العلة مقامه متعارف في الكلام الفصيح كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(1) وهذا ما رجحه الشيخ الأعظم(2) والمحقق الخراساني(3).

وأشكل عليه: بأنّ هذا المقدار لا يكفي في التعميم لغير الوضوء، لأنه لو فرض كون (فإنّه على يقين...) علة فهي مركبة من صغرى وكبرى، ولا بدّ من اتحاد الحدّ الأوسط، فإذا كان الحدّ الأوسط في الصغرى مقيداً بقوله: (من وضوئه) فلا بدّ من إرادته في الكبرى في قوله: (ولا تنقض اليقين) فيكون المعنى: (ولا تنقض اليقين بالوضوء بالشك)، فالعلة عمّمت ولكن في موارد الوضوء.

ويرد عليه: أوّلاً: إنّ ظاهر أمثال هذه الجملة أن القيد - على وضوئه - بيان للمورد وليس تقييداً للحدّ الأوسط، وبعبارة أخرى: إنّ الإطلاق في الحد الأوسط في الكبرى يصنع ظهوراً في عدم إرادة القيد في الحدّ الأوسط في الصغرى، كما لو قيل: زيد عالم بالفقه، والعالم يجب إكرامه.

وثانياً: إن الأصل في الألف واللام كونها للجنس، ولا يصار إلى كونها

ص: 27


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- فرائد الأصول 3: 56.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 369.

للعهد إلاّ لو امتنع الجنس.

وفيه: عدم ثبوت هذا الأصل، بل معاني اللام كلها في عرض واحد والحمل على أحدها إنّما يكون بالظهور أو بامتناع سائر المعاني، مضافاً إلى أن حملها على الجنس لا ينفع بعد إمكان حملها على جنس اليقين بالوضوء.

وثالثاً: عموم التعليل بمعنى اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب، لأنه لو قيد اليقين بالوضوء كان التعليل تعبدياً، وهو خلاف الظاهر.

وحيث إنّ هذا الكلام بظاهره يخالف ما ذكروه في ردّ الاستدلال على الاستصحاب بسيرة العقلاء، لذلك وجّهه في المنتقى(1) بما حاصله: بأنّه قد يتعقب التعليل جملة أخرى تتكفل بيان حكم الموضوع العام مثل: (أكرم زيداً، لأنه عالم، والعالم يجب إكرامه) و(لا تضرب اليتيم لأنه ظلم والظلم قبيح وحرام)، وليس ذلك لمجرد توضيح أو تأكيد التعليل، وإنّما هو لبيان أمر آخر متمم للتعليل، وهو بيان مناسبة الحكم لموضوع العام، فكأنّه - في المثال - قال: (والعالم يناسب أو ينبغي أن يثبت له وجوب الإكرام) فيكون ذلك تعليلاً بأمر ارتكازي، وهذا هو الظاهر فيحمل الكلام عليه، وفي ما نحن فيه: علّل نفي وجوب الوضوء في مورد السؤال في الرواية بأنّه على يقين من وضوئه، ثم عقّبه بقوله: (ولا ينقض اليقين بالشك) وظاهر هذه الجملة الأخيرة أنّها في مقام بيان المناسبة لعدم نقض اليقين بالشك،

ص: 28


1- منتقى الأصول 6: 47-48.

والتناسب بين اليقين وعدم نقضه بالشك هي جهة الاستحكام والإبرام فيه، وجهة التزلزل في الشك، فلا يناسب أن ينقض به اليقين، ومن المعلوم عدم خصوصية متعلّق اليقين في ذلك، بل المدار على نفس اليقين والشك.

وهذا وجه متين وإن أشكل عليه في المنتقى بعد ذكره بما ليس بوارد، فراجع.

ورابعاً: ما في الكفاية(1)

وحاصله: قوة احتمال عدم تعلق: (من وضوئه) بقوله: (على يقين)، بل بمقدّر أي فهو على يقين كائن من وضوئه، فيكون (يقين) غير مقيد، وعليه فقوله: (ولا تنقض اليقين) أيضاً غير مقيد حتى لو كانت اللام للعهد إذ يكون حينئذٍ عهداً إلى اليقين المطلق.

ويرجّحه: أنّ اليقين يتعدى بالباء لا ب-(من)، وتعديته ب-(من) تقتضي المجاز أو التضمين، وهما لا وجه لهما بعد إمكان الحمل على المعنى الحقيقي من غير تضمين حتى لو استلزم التقدير، وذلك لكثرته وشيوعه.

وأمّا ما قيل في وجه الترجيح: بأنّ اليقين من الصفات ذات إضافة التي تتقوم بالمتعلّق فذكره لا يكون دليلاً على خصوصية فيه.

ففيه: أنّ هذا وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنّه لا يعيّن كون (من يقينه) من باب اللابدية بل يسبب الإجمال من هذه الجهة، فتأمل.

وخامساً: إنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي التعميم، حيث إن اليقين مستحكم ولذا أسند النقض إليه، والاستحكام ليس خاصاً باليقين بالوضوء بل هو عام لكل يقين.

ص: 29


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 372-373.

وأشكل عليه: «بأنّه خلط بين مناسبة الحكم والموضوع، وبين استعمال كلمة النقض وإسناده إلى اليقين بحسب اللغة، فإن هذه المناسبة تصحّح الإسناد والاستعمال سواء كان المسند إليه جامع اليقين - اليقين بلا قيد - ، أو حصة منه - اليقين بالوضوء - ، فعدم دخالة القيد في تلك المناسبة لا يبطل صحة إسناده إلى المقيّد»(1).

ثم إنه قد أشكل على الاستدلال بالصحيحة بأمور، منها:

الإشكال الأوّل: إنّ استصحاب عدم النوم أصل سببي واستصحاب الوضوء أصل مسبّبي، ولا يجري الثاني مع الأوّل لحكومته عليه، وعليه فالصحيحة دالة على قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب، لا أقل من الإجمال.

وأجيب: أوّلاً: بأنّه لا مانع من الاستناد إلى الأصل المسببي إذا كان متوافقاً مع الأصل السببي، نظير الاستناد إلى قاعدة الطهارة في مورد استصحابها.

لا يقال: إنّه في هذه الحكومة يرتفع موضوع الأصل المسببي، ومع ارتفاعه يرتفع حكمه عقلاً، ويستحيل التخصيص في القضايا العقلية.

لأنه يقال: إن ذلك في القضايا التكوينية، وأمّا في القضايا الاعتبارية فأمر بقاء الموضوع وارتفاعه بيد المعتبر، وفي ما نحن فيه يمكن عدم اعتبار ارتفاع الشك مع الاستصحاب فيتحقق موضوع الأصل المحكوم، وفي ذلك تمسك بإطلاق الدليل الحاكم والمحكوم، فتأمل.

ص: 30


1- بحوث في علم الأصول 6: 27-28.

وثانياً: إنه لا سببيّة، إذ النوم والوضوء ضدان وهما في رتبة واحدة، وكذلك في رتبتهما نقيضهما، فعدم النوم في رتبة الوضوء، مع وضوح تقدم رتبة السبب على المسبب.

وفيه: إنّ الكلام ليس في السببية بين عدم النوم وبين الوضوء، بل السببية بين الشكّين، أي الشك ببقاء الوضوء ناشٍ عن الشك في النوم، فإذا استصحبنا عدم النوم ارتفع الشك في الوضوء.

الإشكال الثاني: ما في الرسائل: «وربما يورد على إرادة العموم من اليقين: أنّ النفي الوارد على العموم لا يدل على السلب الكلي»(1)،

وبعبارة أخرى: عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك، لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد.

والجواب: أوّلاً: ما في الفوائد(2)

وحاصله: أنّ سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنىً اسمياً، وليس كذلك العموم المستفاد من المفرد المحلّى باللام فإنّه معنى حرفي وهو لا يعقل لحاظه معنى اسمياً، وحيث لا يكون سلباً للعموم يتعين كونه عموماً للسب.

وأورد عليه: «إنّ سلب العموم ليس معناه لحاظ العموم بنحو المعنى الاسمي المستقل، وتوجيه النفي إليه، وإنّما معناه نفي العام بما هو عام - لا بذاته بأن تكون حيثيّة العموم ملحوظة قبل طروّ النفي - كما هو الحال في نفي أيّ قيد حرفي، كما إذا أريد نفي تقيد الجلوس بالمسجد فقيل: (ما جلست في

ص: 31


1- فرائد الأصول 3: 57.
2- فوائد الأصول 4: 338.

المسجد) فقد نُفي هنا نسبة الظرفية بين الجلوس والمسجد، ولكن لا بمعنى توجيه النفي ابتداءً إليها ليقال: إنّ المعنى الحرفي لا يُلحظ مستقلاً، بل بمعنى توجيه النفي إلى الجلوس الخاص بما هو خاص، فينفى التقيد لا محالة»(1).

وثانياً: ما في الرسائل من: «أنّ العموم مستفاد من الجنس في حيز النفي، فالعموم بملاحظة النفي كما في: (لا رجل في الدار) لا في حيزه كما في: (لم آخذ كل الدراهم)»(2).

وبعبارة أخرى: إن العموم متأخر عن النفي فلا يمكن أن يكون مدخولاً له.

وثالثاً: ما في الرسائل أيضاً من أنّ: «الظاهر بقرينة المقام والتعليل، وقوله: (أبداً) هو إرادة عموم النفي، لا نفي العموم»(3).

2- ومنها: صحيحة زرارة الثانية
اشارة

رواها عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «[1-] قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني، فَعَلَّمتُ أثره إلى أن أصيب له من الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً فصلّيت، ثم إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله.

[2-] قلت: فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد.

ص: 32


1- بحوث في علم الأصول 6: 38.
2- فرائد الأصول 3: 57.
3- فرائد الأصول 3: 57-58.

[3-] قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، فصليت، فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: ولم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً.

[4-] قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه، ولم أدر أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك.

[5-] قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنك إنّما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.

[6-] قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1).

وما استدل له على الاستصحاب هو جواب السؤال الثالث والسادس، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في دلالة الجواب السادس

ودلالته على حجيّة الاستصحاب مطلقاً واضحة، وذلك للتصريح بالتعليل في قوله (علیه السلام): «لأنّك لا تدري...»، وأيضاً قوله (علیه السلام): «فليس ينبغي...» واضح في دلالته على القضية الارتكازية، وأيضاً قوله (علیه السلام): «اليقين» لم يسبق ذكره

ص: 33


1- تهذيب الأحكام 1: 421؛ عنه وسائل الشيعة 3: 479-480.

كي يتوهم كون اللام للعهد.

وأشكل: بأنّ هذا المقطع مجمل، إذ كيف يحكم ببطلان الصلاة إذا رأى النجاسة وقد علم أنّها هي النجاسة التي كان قد شك فيها بحيث كانت بعض أجزاء الصلاة معها، مع حكمه في جواب السؤال الثالث بصحة الصلاة لو كانت تمام أجزائها مع النجاسة المجهولة؟

وأجيب: أوّلاً: بأنّه لعل السؤال كان في مورد العلم الإجمالي بوجودها وعدم وجدانها قبل الصلاة ثم وجدانها حينه.

وفيه: مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر، وإلى استلزامه تكرار السؤال الرابع، أنّه حتى لو أراد الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لكن الكلام يشمل الشبهة البدوية أيضاً إذ يفهم حكمها من التعليل في قوله: «لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» حيث يدل على بطلان الصلاة مع العلم بأنّ النجاسة كانت من قبل الصلاة.

وثانياً: بأنّه أمر تعبدي، مع عدم علمنا غالباً بملاكات الأحكام، نظير الدية في قطع أصابع المرأة.

لا يقال: حصول التهافت ظاهر، لأنّ العرف يتعدى من الجواب الثالث ويفهم كبرى كلّيّة تعمّ صورتي وقوع كل الصلاة في النجاسة المجهولة أو وقوع بعضها.

لأنه يقال: لو كان ذلك في كلام واحد لم يَرَ العرف تهافتاً.

وأمّا التفريق بأنّ البطلان فرع تنجز النجاسة حين الصلاة وهو حاصل في السؤال السادس دون الثالث!

ص: 34

فغير عرفي وإن كان يمكن أن يكون هو الفارق ثبوتاً، فلا يرتفع التهافت بمجرد ذلك، فتأمل.

والحاصل: أن الشق الثاني من الجواب السادس يدل على أنّه حين رأى النجاسة شك في كونها نجاسة سابقة على الصلاة أو نجاسة وقعت عليه حينما رآها، فقد كان هو على يقين بطهارة الثوب سابقاً ثم شك في وقوع الأجزاء السابقة مع نجاسة الثوب أو طهارته، فتحققت حينئذٍ صغرى الاستصحاب، والإمام (علیه السلام) طبق كبراه على المورد فقال: «فليس ينبغي...»، فتكون الأجزاء السابقة من الصلاة مع الطهارة الاستصحابية، وبتطهيره الثوب بعد رؤية النجاسة تكون سائر الأجزاء وقعت مع الطهارة وجداناً، فتصح صلاته لاشتمالها على شرائطها وارتفاع موانعها.

المقام الثاني: في دلالة الجواب الثالث

حيث التعليل على صحة الصلاة بقوله (علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين...».

وفي التعليل احتمالات تبتني على المراد من اليقين والشك في كلامه (علیه السلام) ، فاليقين: إمّا هو اليقين الأوّل قبل ظن الإصابة والشك بعد النظر أو الشك بعد الصلاة، وإمّا اليقين بعد النظر والفحص والشك بعده.

كما أنّ هنا سؤالين: أحدهما: في كيفية انطباق الحكم على القواعد والأحكام، والآخر: في ارتباط العلة بالمعلّل، إذ لو لم يكن الارتباط واضحاً كان التعليل مستهجناً ينزّه كلام المعصوم (علیه السلام) عنه.

الاحتمال الأوّل: كون اليقين هو اليقين الأوّل قبل ظن الإصابة، والشك هو الشك بعد النظر، وهنا حالتان:

الحالة الأولى: إجراء الاستصحاب حين الصلاة، فهو قد دخل في

ص: 35

الصلاة محرزاً الطهارة بالاستصحاب.

وأشكل عليه بأمور: منها:

الإشكال الأوّل: إنّه تيقّن بعد الصلاة بكونها مع النجاسة لأنّه قد رآها، والاستصحاب حكم ظاهري يرتفع حكمه مع العلم بالخلاف.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنّ شرط الصلاة الواقعي هو إحراز الطهارة، لا الطهارة الواقعية، وقد أحرزها عبر الاستصحاب، مع انطباق العلّة على المعلّل حيث إنّ حجيّة الاستصحاب سبب لإحراز الطهارة.

وغير خفي أنّ صحة هذا الجواب يتوقف على وضوح ارتباط العلّة بالمعلّل، فلعلّ زرارة كان يعلم بأنّ شرط صحة الصلاة هو إحراز الطهارة فلذلك لم يبيّن الإمام (علیه السلام) ذلك وإنّما اكتفى ببيان المحرِز وهو الاستصحاب، وهذا يكفي في دفع الاستهجان، لأنه إشكال ثبوتي يكفي في دفعه وجود احتمال صحيح، مع حمل الكلام على ظاهره، وبعبارة أخرى: إذا كان للكلام ظاهر لا بدّ من حمله عليه، ولا يكفي في رفع اليد عنه وجود احتمال ثبوتي يخلّ به مع وجود احتمال ثبوتي يصحّحه.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(2):

إنّ العلم بالنجاسة مانع عن صحة الصلاة، وهذا المانع منتف بإجراء الاستصحاب، وبذلك يتضح ربط عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب حال العمل.

ص: 36


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 389.
2- فوائد الأصول 4: 348.

إن قلت: إن كان المانع هو العلم بالنجاسة، فمع الشك يرتفع المانع، ولا حاجة إلى الاستصحاب، بل هو من تحصيل الحاصل!

قلت(1): إنّ المحقق النائيني يرى نوع آخر من القطع الموضوعي - غير القطع الموضوعي الذي هو صفة قائمة بالنفس، وغير القطع الموضوعي بما هو طريق إلى الواقع - وذلك هو القطع الموضوعي بما هو منجز للواقع ومعذّر عنه، وهو مما يصلح أن تقوم الأمارات والطرق والأصول مقامه، لأنّها جميعاً تتكفل جهة التنجيز والتعذير، وهنا: المانع هو العلم بالنجاسة بما هو منجز للواقع، وعليه: فالنجاسة المشكوكة لا يمكن أن تنفى مانعيتها إلاّ بواسطة دليل أو أصل معذّر بحيث ينفي التنجيز، فإنّ الاحتمال منجِّز لولا وجود المؤمِّن، وهو هنا الاستصحاب.

ومع قطع النظر عن المبحث المبنائي في هذا القسم من القطع الموضوعي، فإنّ ما ذكره المحقق النائيني كجواب صاحب الكفاية يرفع الإشكال، ولا استهجان بعد احتمال علم زرارة بمانعية النجاسة.

الجواب الثالث: إنّ الارتباط بين العلة والمعلّل في أنّ عدم الإعادة إنّما هي لأجل إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي، بمعنى أنّ شرط صحة الصلاة هو الطهارة الواقعية، ولكن بالاستصحاب ثبتت الطهارة الظاهرية، وهي تجزي عن الواقعية.

وفيه: أنّه إن كان سبب الإعادة هو الإجزاء كان لا بدّ من التعليل به لا بالاستصحاب.

ص: 37


1- منتقى الأصول 6: 102.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ سبب عدم الإعادة مركب من صغرى هي الاستصحاب، وكبرى هي الإجزاء، فاكتفى في الجواب بذكر الصغرى الذي يستفاد منها الكبرى أيضاً، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ معنى الحديث على هذا الاحتمال: أنّه لا إعادة للصلاة التي استصحبت فيها الطهارة، ولكن حيث إنّ الاستصحاب حكم ظاهري منجِّز للواقع حين الإصابة ومعذّر عنه حين الخطأ، فقوامه بالوصول، ولولا الوصول كان جعله لغواً، إذ لا منجزية ولا معذرية حين الجهل، ومن الواضح أن الإمام (علیه السلام) كان في صدد بيان صحة الصلاة لأجل الاستصحاب حين العمل - بناءً على هذا الاحتمال - مع عدم علم السائل بحجيّته.

وفيه: أن السؤال لم يكن عن قضية خارجية، كي يقال: بأنّه لا معنى لجعل الحجيّة لحكم ظاهري مع الجهل به، بل سؤاله كان عن قضية حقيقية لا يضر فيها جهل السائل عن حجيّة الحكم الظاهري حين السؤال، فيكون المعنى: أنّه كلّما أجريت استصحاب الطهارة من الخبث حين الصلاة كانت صلاتك صحيحة واقعاً لا إعادة فيها ولو مع انكشاف الخلاف، فتأمل.

الحالة الثانية: استصحاب ذلك اليقين بعد الصلاة.

لكن من الواضح أنّه لا وجه لهذا الاستصحاب، إذ هو بعد الصلاة متيقن بالنجاسة فلا يكون نقضاً لليقين بالشك، بل نقضاً لليقين باليقين.

الاحتمال الثاني: كون اليقين هو اليقين بعد النظر والفحص عن النجاسة، والشك هو الشك بعد ذلك، وهذا الاحتمال كما يمكن تطبيقه على الاستصحاب، كذلك ينطبق على قاعدة اليقين.

ص: 38

ويرد عليه: أنّه لا دلالة للكلام - لا في السؤال ولا في الجواب - على حصول اليقين بعدم النجاسة بعد النظر، ولا ملازمة بين الفحص عن النجاسة واليقين بعدمها، ولذا في السؤال الثاني ذكر السائل أنّه مع علمه إجمالاً بالنجاسة لم يجدها بالفحص، مضافاً إلى أنّ قوله (علیه السلام): «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» هو بقاء اليقين، ولا يقين باقٍ في قاعدة اليقين.

الاحتمال الثالث: كون اليقين هو اليقين الأوّل قبل ظن الإصابة، والشك هو بعد الصلاة في أنّ النجاسة التي وجدها هل هي النجاسة المجهولة التي فحص عنها ولم يجدها، أم هي نجاسة حادثة بعد الصلاة، فالاستصحاب باعتبار ما بعد الصلاة، وأركانه تامة، وربط عدم الإعادة به واضح، إذ لا تجب إعادة الصلاة الصحيحة ولو بحكم ظاهري.

إن قلت: لا مصحّح لسؤال زرارة عن سبب عدم إعادة الصلاة حينئذٍ، إذ مع قطع النظر عن الاستصحاب فإنّ إجراء أصالة الطهارة في المشكوك نجاسته وعدم وجوب الإعادة مع عدم انكشاف الخلاف أمر واضح وعليه السيرة فلا معنى للسؤال عنه!

قلت: لعلّه لم يكن بذك الوضوح في تلك العصور، أو لعلّ زرارة يسأل عن سبب عدم الإعادة هل هو قاعدة الطهارة أم أمر آخر لا عن أصل الإعادة.

وهذا الاحتمال خلاف الظاهر، وقد صار إليه بعض الأعلام لمّا أشكلوا على سائر الاحتمالات، لكن مع صحة الاحتمال الأوّل في نفسه وكونه مطابقاً لظاهر الحديث لا بدّ من المصير إليه، وعلى كل حال فدلالة هذه الفقرة على الاستصحاب واضحة أيضاً.

ص: 39

3- ومنها: صحيحة زرارة الثالثة
اشارة

عن أحدهما (علیهما السلام): «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين؟ قال: يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد، ولا شيء عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكن ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات»(1).

وقد أكّد (علیه السلام) قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» بقوله: «ولا يدخل الشك في اليقين» لأنّه إذا اعتنى بالشك فقد أدخله في اليقين عبر إعطائه حكمه، وكذا أكّده بقوله: «ولا يخلط أحدهما بالآخر» إذ من جعل حكم الشك كحكم اليقين فقد خلط بينهما عبر إشراكهما في الحكم.

كما أنّه (علیه السلام) أكّد قوله: «ولكن ينقض الشك باليقين» بقوله: «ويتم على اليقين» بمعنى الاستمرار عليه، وكذا بقوله: «ولا يعتد بالشك» بعدم ترتيب أيّ أثر عليه.

والاستصحاب هنا يحتمل طريقتين:

الاستصحاب الأوّل: استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة

حيث إنه كان يعلم بعدم إتيانه بالركعة الرابعة، ثم شك في إتيانه بها، فيستصحب عدم الإتيان فيضيف ركعة أخرى.

وأشكل عليه بوجوه، منها:

ص: 40


1- الكافي 3: 351؛ عنه وسائل الشيعة 8: 217.

الإشكال الأوّل: أنه بناءً على الاستصحاب لا بدّ من الإتيان بالركعة موصولة، وهذا يخالف المذهب بوجوب التسليم ثم إضافة ركعة الاحتياط مفصولة، فهذا هو مراد الإمام (علیه السلام) وهو لا ينطبق على الاستصحاب، لأنّ مقتضى الاستصحاب الحكم بعدم الإتيان بالرابعة وعدم البناء عليها ومن ثم الإتيان بالرابعة موصولة.

وأجيب بأجوبة، ومنها:

الجواب الأوّل: ما في الكفاية(1)

بما حاصله: أنّ صلاة الاحتياط مفصولة لا تنافي الاستصحاب، نعم تنافي إطلاقه، وهذا لا يضر بالاستدلال، وذلك لأن الاستصحاب يدل على عدم الإتيان بالركعة الرابعة فلا بدّ من ترتيب جميع آثار عدم الإتيان بها، ومن تلك الآثار لزوم الإتيان بها موصولة، لكن يمكن تقييد ذلك برفع اليد عن خصوص هذا الأثر لوجود أدلة خاصة على لزوم الفصل.

وأورد عليه في المنتقى(2)

بما حاصلة: أن الإمام (علیه السلام) بيّن حكم مورد السؤال بقوله: «قام فأضاف إليها أخرى»، وبما أنه لا يمكن حمله على ما يخالف المذهب - من إرادة الركعة المتصلة - فلا بدّ من حمله على إرادة الركعة المنفصلة، وهذا لا يكون صغرى من صغريات الاستصحاب، وعليه فلا يمكن حمل قوله: «ولا ينقض...» على الاستصحاب، بل لا بدّ من حمله على معنى آخر.

ص: 41


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 6.
2- منتقى الأصول 6: 110.

وفيه: أن حمل الصدر على عدم الاتصال لا ينافي ظهوره في نفسه فيه، وإرادة الإمام (علیه السلام) الركعة المنفصلة لا يخلّ بظهور التتمة في الاستصحاب، وعليه فالرواية في نفسها بصدرها وذيلها دالّة على الاستصحاب إلاّ أنّه رفعنا اليد عن ظهور الصدر في الاتصال للقرينة.

الجواب الثاني: إن جوابه (علیه السلام) ظاهر في الاستصحاب، إلاّ أنّ تطبيق الاستصحاب على المورد من باب التقية حيث إنّ مذهب العامة الإتيان بالركعة موصوله، وهذا نظير إفطاره في يوم الشك تقيةً وقوله: «ذلك للإمام إن صام صمنا وإن أفطر أفطرنا» فإنّها كبرى لبيان الحكم الواقعي لكن تطبيقها في مورد الحاكم الجائر كان تقية.

وأورد عليه: بأنّه مع إمكان الحمل على الواقع بحمل قوله: «قام فأضاف إليها أخرى» على الركعة المفصولة، لا وجه للحمل على التقية، وهذا بخلاف مورد الإفطار حيث صرّح (علیه السلام) بخوفه من القتل وأن يفطر يوماً ويقضبه أحب إليه من القتل.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1) وحاصله: بأنّه ليس تقييداً لدليل الاستصحاب - كما في الجواب الأوّل - بل تقييد لدليل الصلاة، وذلك لأن الاستصحاب لا يقتضي إلاّ الإتيان بركعة أخرى، وأمّا كونها موصولة أو مفصولة فلا ربط له به، بل يرتبط بدليل الصلاة الواقعي، وهو يقتضي الوصل، لكن تمّ تقييده في حالة الشك بلزوم الفصل بالتشهد والتسليم، ولا محذور حينئذٍ في هذه الزيادة - لو كان في الركعة الثالثة واقعاً - لأنّها في

ص: 42


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 59.

الواقع لا تكون مانعاً حين الشك، وأمّا لزوم الإتيان بها فلأجل أنّه لعلّه كان في الركعة الرابعة فيحكم العقل بلزوم الإتيان بها بعد ارتفاع مانعيتها لو كان في الركعة الثالثة، وذلك لئلا تكون هناك زيادة ركعة في الواقع، فالإتيان بالتشهد والتسليم لأجل الاحتياط بحكم العقل باشتغال الذمة بصلاة رباعية.

وأورد عليه: أوّلاً: إن هذا إن صحّ في التشهد والتسليم، لكنّه لا يصح في التكبيرة، فليس هناك علم باشتغال الذمة بها كي تلزم احتياطاً، بل يؤتى بها من باب الجزئية.

وفيه: إنّ الاشتغال إنّما هو بصلاة رباعية، ومع كونه قد صلّى ثلاثاً فكما يكون التشهد والسلام مانعاً لولا رفع المانعية كذلك تكون التكبيرة مانعة لولا رفعها، فلا فرق، نعم وجوب الإتيان بالتشهد والتسليم لأجل أنّه لعلّه في الركعة الرابعة لئلا يلزم زيادة ركعة، وأمّا زيادة التكبيرة حينئذٍ فلدليل صلاة الاحتياط وبذلك ترتفع مانعيتها، وهذا الفرق غير فارق.

وثانياً: ما في المنتقى «من أنّ تطبيق دليل الاستصحاب إنّما يكون بعد تقييد دليل المانعية، وإلاّ فمع المانعيّة كيف يصح تطبيق الاستصحاب على الركعة المنفصلة بالتسليم، فإنّ مقتضاه أن تكون الركعة موصولة، والحاصل: ففي مرحلة سابقة على الاستصحاب لا بدّ من وجود دليل على عدم مانعية التسليم، ثم يأتي تطبيق دليل الاستصحاب بعد ذلك، لكن لا يوجد هنا إلاّ دليل الاستصحاب ولا يوجد دليل رفع المانعية في مرحلة سابقة، بل نفس هذا الدليل فقط، فيمتنع حمله على الاستصحاب»(1).

ص: 43


1- منتقى الأصول 6: 114-115.

وفيه: أنّ صحة جريان الاستصحاب تتوقف على رفع المانعية ثبوتاً، وفي مرحلة الإثبات ظهور الدليل في الاستصحاب يكفي في الكشف عن رفع المانعية بدلالة الاقتضاء، مضافاً إلى أن الترتيب ثبوتي ولا محذور في دلالة دليل واحد على مرتبتين، فتأمل.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني، وحاصله: عدم إمكان تطبيق الاستصحاب بلحاظ الركعة المفصولة، قال: «إن صلاة الاحتياط إمّا هي صلاة مستقلة لها أمر مستقل، تكون على تقدير نقص الصلاة جابرة لها من حيث مصلحتها، وعلى تقدير التمام نافلة، وإمّا هي جزء الصلاة التي وقع الشك في أثنائها بحيث يدور أمرها بين وقوعها جزء حقيقة من الصلاة على تقدير النقص ولغواً صرفاً على تقدير التمامية، فإن قلنا بالأوّل فلا معنى لاستصحاب عدم إتيان الرابعة إلاّ التعبد ببقاء الأمر بها بعين الأمر بالصلاة كما هو شأن الجزء، مع أنّ المفروض أنّ الأمر بصلاة الاحتياط أمر مستقل بصلاة مستقلة، لا أنّه بقاء الأمر الأوّل لا واقعاً ولا ظاهراً... وإن قلنا بالثاني وهو كونها جزءاً حقيقة لا من حيث الأثر فقط، فمقتضى جزئيتها كونها مأموراً بها بعين الأمر بالصلاة، إذ لا وجوب استقلالي لا نفسياً ولا غيرياً للجزء الحقيقي، ومن الواضح عدم كون الصلاة - الواجبة بالوجوب النفسي الممكن بقاء أمرها واقعاً بعينه - مشتملة على تسليمتين وتكبيرتين، فليس الإشكال من حيث مانعية زيادة التسليمة والتكبيرة حتى يقال: بتقييد إطلاق أدلة المانعية وبقاء الأمر بذوات الأجزاء على حالها، بل الإشكال من حيث وجوب هذه الزيادات بنحو الجزئية التي لا مجال لدخولها في الواجب إلاّ بتبدل الأمر بما عداها إلى الأمر بما يشتمل عليها، فلا محالة هناك أمر آخر

ص: 44

بصلاة مشتملة عليها إمّا واقعاً أو ظاهراً»(1).

وبعبارة أخرى: إنّ استقلال صلاة الاحتياط هو بمعنى زوال المتيقن السابق إذ الأمر به أمر جديد فلا مورد للاستصحاب، وجزئية صلاة الاحتياط هو بمعنى تبدل الأمر السابق إلى أمر بمركب جديد يتضمن تشهداً وتسليماً وتكبيرة زائدات، وهذا ثابت العدم في الواقع فلا يمكن التعبد به في الظاهر.

وفيه: أنّه لا محذور في التزام جزئية ركعة الاحتياط - على فرض نقصان صلاته - وعدم جزئية التشهد والتسليم والتكبيرة الزائدات حينئذٍ، مع تقييد دليل مانعيتها واقعاً، بأن لا تكون مانعاً في حالة الشك في عدد الركعات.

الاستصحاب الثاني: استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة

وهو ما ذكره المحقق العراقي أيضاً(2) وحاصله: أنّ مجرى الاستصحاب ليس عدم الإتيان بالركعة الرابعة، بل مجراه هو اشتغال الذمة بالصلاة، فالمراد عدم نقض اليقين بالاشتغال بالشك فيه، فلا بدّ له من إفراغ ذمته باليقين بالامتثال، ولا يحصل اليقين بالامتثال إلاّ بالإتيان بصلاة الاحتياط حسب دلالة الأدلة الشرعية.

وأورد عليه: بأنّ اشتغال الذمة بوجوب الصلاة شرعاً ليس إلاّ وجوب جميع الأجزاء، حيث إنّ الصلاة هي الأجزاء بنفسها، فمع الإتيان بسائر الركعات لا يشك في بقاء الأمر المتعلّق بها، وإنّما يشك في بقاء وجوب

ص: 45


1- نهاية الدراية 5: 82.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 62.

الركعة المشكوكة فقط، فرجع إلى استصحاب عدم إتيان الركعة الرابعة.

وفيه: إنّه لا وجود لأمر يتعلق بسائر الركعات كي يقال بالعلم بسقوطه، وإنّما هو أمر واحد منبسط على الأجزاء كلها، فمع الإتيان بسائر الركعات لم يعلم بامتثال الأمر بالصلاة أصلاً وإنّما يحصل له العلم بامتثالها مع الإتيان بجميع الركعات المقطوع بها والمشكوكة.

ومن ذلك كلّه تبين ظهور هذه الصحيحة الثالثة في الاستصحاب مع عدم محذور فيه بعد دفع الإشكالات عليه.

لكن لو أشكلنا على دلالتها على الاستصحاب فلا بدّ من حملها على غيره، وفيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: إنّ معناها إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وذلك عبر صلاة الاحتياط، قال الشيخ الأعظم: «فالمراد هو اليقين بالبراءة، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر، وفعل صلاة مستقلة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه... وهذا الوجه وإن كان بعيداً في نفسه، لكنه منحصر بعد عدم إمكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب، ولا أقل من مساواته لما ذكره هذا القائل، فيسقط الاستدلال بالصحيحة خصوصاً على مثل هذه القاعدة»(1).

وجه البعد ما بيّنه المحقق الإصفهاني قال: «إذ الظاهر من النهي عن نقض اليقين [بالشك] فرض وجودهما معاً، كما هو ظاهر من آخر الخبر، حيث قال (علیه السلام): (ويتم على اليقين فيبني عليه) فلا بدّ من وجود يقين يتم الصلاة

ص: 46


1- فرائد الأصول 3: 63-66.

عليه، أو يبقيه ولا ينقضه، أو لا يجعله مزاحماً بشيء، وما أفاده راجع في الحقيقة إلى الأمر بتحصيله، لا إلى عدم نقضه في فرض حصوله»(1).

ولا يجدي ادعاء أنّ معنى النقض هو رفع اليد سواء عن شيء موجود أو عن تحصيله، أو رفع اليد عن اليقين بالاشتغال، فإنّ ذلك خلاف الظاهر جداً.

الاحتمال الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قال: «إنّ اليقين المحقق هنا هو اليقين ب-(الثلاث لا بشرط)، في قبال (الثلاث بشرط لا) الذي هو أحد طرفي الشك، و(الثلاث بشرط شيء) الذي هو الطرف الآخر، والأخذ بكل من طرفي الشك فيه محذور النقص بلا جابر، أو الزيادة بلا تدارك، بخلاف رعاية اليقين ب-(الثلاث لا بشرط) فإنّها لا يمكن إلاّ بالوجه الذي قرّره الإمام (علیه السلام) من الإتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة فإنّها جابرة من حيث الأثر على تقدير النقص، وزيادة خارجة غير مضرة على تقدير التمامية. أمّا إضافة ركعة متصلة فإنّها من مقتضيات اليقين بشرط لا، والمفروض أنه لا بشرط، كما أن الاقتصار على الثلاث المحرزة فقط من مقتضيات اليقين بالثلاث بشرط شيء فإنّ المفروض أن الفريضة رباعية، مع أنّ الإحراز متعلق بالثلاث لا بشرط، فرعاية مثل هذا اليقين وعدم الرفع عنه لا تكون إلاّ بما قرّرة الإمام (علیه السلام) »(2).

وفيه: أنّ مرجع هذا إمّا إلى الاحتمال الأوّل لأنّ اليقين بالثلاث لا بشرط

ص: 47


1- نهاية الدراية 5: 84.
2- نهاية الدراية 5: 84.

لا يستلزم هذا الاحتياط إلاّ بإضافة قاعدة اشتغال الذمة يقيناً ولزوم إفراغها باليقين، وإمّا إلى ما ذكره المحقق العراقي من استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة الرباعية، فتأمل.

4- ومنها: حديث الأربعمائة

وهو ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام): من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض باليقين»(1)

وفي رواية الإرشاد: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فإنّ الشك لا يدفع اليقين»(2).

أمّا السند: فصحيح على الأظهر(3).

وأمّا الدلالة: فقد أشكل عليها بظهور الرواية في قاعدة اليقين الذي يختلف فيها زمان اليقين والشك، لا في الاستصحاب الذي يجتمعان فيه مع أن الإمام (علیه السلام) عطف بينهما بالفاء فقال: «على يقين فشك» الظاهر في عدم اجتماعهما وإنّما تعاقبهما.

والجواب: أوّلاً: قوله (علیه السلام): «فإنّ الشك لا ينقض اليقين» ظاهر في ثبوت

ص: 48


1- الخصال: 619؛ عنه وسائل الشيعة 1: 247.
2- الإرشاد للمفيد 1: 302.
3- لأنّ الراوي هو القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد، والأوّل وإن ضعّفه الغضائري والعلامة، والثاني وإن كان مشتركاً بين من ضعّفه النجاشي ومن ضعّفه ابن الغضائري، إلاّ أنّ الأصح وثاقتهما لأنّ الصدوق روى زيارات صحاح للإمام الحسين (علیه السلام) وقال في زيارة رواها هذان: «لأنها أصح الزيارات عندي من طريق الرواية» [من لا يحضره الفقيه 2: 598] وتصحيحه مقدّم على تلك التضعيفات، والتفصيل في علم الرجال. وباقي رجال السند كلهم ثقات (المؤلف).

اليقين فعلاً، وهذا الظهور أقوى من ظهور الصدر في زوال اليقين، لأنّ الفاء تدل على الترتيب فقط ولا تدل على زوال ما قبلها وعدم اجتماعه مع ما بعدها، فمثل: (جاء زيد فعمرو) يدل على تأخر مجيء عمرو لا عدم اجتماعه مع زيد، وهكذا قوله: «على يقين فشك» كما ينسجم مع زوال اليقين وحلول الشك محله الذي هو مفاد قاعدة اليقين كذا ينسجم مع اجتماعهما معاً مع تأخر حصول الشك الذي هو مفاد الاستصحاب.

وثانياً: ما ذكره المحقق النائيني(1)

والمحقق العراقي(2)

من أنّ قوله (علیه السلام): «فليمض على يقينه» ظاهر في بقاء اليقين في زمان العمل، فإنّ المضي على اليقين فرع وجوده.

وردّ: بأنّ المضي على اليقين كما ينسجم مع اليقين الباقي كذلك ينسجم مع اليقين الزائل، فقوله (علیه السلام): «على يقينه» لا ظهور له في نفسه في اليقين الفعلي.

5- ومنها: مكاتبة القاشاني

قال: «كتبت إليه - وأنا بالمدينة - أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية»(3).

من غير فرق بين الشك في أوّل شهر رمضان أو آخره.

وجه الاستدلال: أنّ معنى كلامه (علیه السلام) أنّ اليقين بكون الأيام الماضية من شعبان وعدم وجوب الصوم فيها لا ينقض بالشك في دخول شهر رمضان،

ص: 49


1- فوائد الأصول 4: 365.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 64.
3- تهذيب الأحكام 4: 159؛ عنه وسائل الشيعة 10: 255.

وكذا اليقين بكون الأيام الماضية من شهر رمضان ووجوب الصوم فيها لا ينقض بالشك في دخول شهر شوال، وهذا هو الاستصحاب، ثم أكّده بقوله (علیه السلام): «صم للرؤية وأفطر للرؤية»، بل قد يقال: بأنّها أظهر الروايات في الدلالة على الاستصحاب لولا سندها.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما في الكفاية(1)،

وحاصله: إنّ المراد من اليقين في هذه الرواية - بقرينة روايات باب يوم الشك - هو اليقين بدخول شهر رمضان، وكذا اليقين بدخول شهر شوال، فيكون المعنى: إنّ وجوب الصوم يتوقف على اليقين بدخول شهر رمضان، ووجوب الإفطار متوقف على اليقين بدخول شهر شوال، ولا يكفي الشك، وهذا المعنى أجنبي عن الاستصحاب كما هو واضح، وعليه فليس اليقين هو اليقين بشهر شعبان بل اليقين بدخول شهر رمضان في أوّله، ولا اليقين بشهر رمضان في آخره بل اليقين بدخول شهر شوال، فيجب أن لا يدخل يوم الشك في شهر رمضان ولا في شهر شوال، وإلاّ فسيدخل الشك في اليقين.

وفيه: أنّ هذه الرواية ظاهرة في الاستصحاب، ومجرد ظهور روايات أخرى على معنى آخر لا يكون قرينة على رفع اليد عن ظهور هذه الرواية، فروايات الباب تدل على أنّ المناط هو اليقين، وهذه الرواية تدل على كفاية الاستصحاب ولا تصادم بينهما لنرفع اليد عن ظهور أحدهما.

أمّا الإشكال بأنّه: لو كان لليقين موضوعية في وجوب الصوم والإفطار فلا مجال للاستصحاب، إذ مع الشك نعلم بعدم الموضوع الذي هو اليقين... .

ص: 50


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 13.

فغير وارد لأنّ اليقين في شهر رمضان وشوال طريقي لا موضوعي.

وثانياً: ما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: إنّ استصحاب بقاء شهر شعبان أصل مثبت، لأنّ وجوب الصوم إنّما يكون مترتباً على ثبوت كون النهار المشكوك من شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة أي إثبات إنّ هذا اليوم هو من شهر رمضان، والاستصحاب يدل على بقاء شهر شعبان ولازمه عدم كون هذا اليوم من شهر رمضان فلا يجب الصوم فيه، وهذا اللازم عقلي، وهكذا الإفطار يكون مترتباً على ثبوت كون النهار المشكوك من شوال بنحو مفاد كان الناقصة أي إثبات أنّ هذا اليوم هو من شهر شوال، والاستصحاب يدل على بقاء شهر رمضان ولازمه عدم كون هذا اليوم من شهر شوال فيجب الصوم فيه، واللازم عقلي، مع أنّ الإمام (علیه السلام) رتب وجوب وعدم وجوب الصوم على هذا اليقين في قوله: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» ومن ذلك يتبيّن عدم إرادته (علیه السلام) للاستصحاب.

وفيه: أنّ مفاد الأدلة أخذ شهر رمضان ظرفاً ومفاداً لكان التامة، فإذا ثبت شهر رمضان بالاستصحاب ثبت وجوب الصوم فيه، وإذا ثبت شهر شعبان بالاستصحاب ثبت عدم وجوب الصوم فيه.

وبعبارة أخرى: يكفي في عدم وجوب الصوم ثبوت شهر شعبان ولو بالاستصحاب ولا يحتاج إلى إثبات أنّه ليس من شهر رمضان، وهكذا يكفي في وجوب الصوم ثبوت شهر رمضان ولو بالاستصحاب من غير حاجة إلى إثبات أنّه ليس من شوال.

ص: 51


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 65.
6- ومنها: موثقة اسحاق بن عمار

عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «إذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا أصل؟ قال نعم»(1).

وجه الدلالة: أن الإمام (علیه السلام) أمر بالبناء على اليقين لا على تحصيله، وهذا لا يكون إلاّ في الاستصحاب.

إن قلت: إنّ الرواية تدل على قاعدة البناء على الأكثر وتحصيل اليقين بفراغ الذمة التي هي القاعدة في الشكّيات، ولذا قد ذكرها الشيخ الصدوق في باب الخلل في الصلاة.

قلت: إنّ تلك القاعدة هي في تحصيل اليقين لا في البناء عليه مع وجوده، واجتهاد الشيخ الصدوق في وضعها في باب الخلل لا يخرجها عن ظهورها فلعلّه وضعها هناك من باب تطبيقها على الصلاة!

7- ومنها: صحيحة عبد اللّه بن سنان

قال: «سأل أبي أبا عبد الله (علیه السلام) وأنا حاضر: إني أعير الذمي ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ قال أبو عبد الله (علیه السلام): صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه»(2).

ودلالتها على الاستصحاب واضحة، لأنّ تعليله (علیه السلام) بعدم الغسل هو بطهارته السابقة وعدم اليقين بحدوث النجاسة، وحيث إنّ كلامه (علیه السلام) في

ص: 52


1- من لا يحضره الفقيه 1: 231؛ عنه وسائل الشيعة 8: 212.
2- تهذيب الأحكام 2: 361؛ عنه وسائل الشيعة 3: 521.

سياق التعليل فهو ظاهر في أنه (علیه السلام) بيّن القاعدة الكليّة الارتكازية. بل عدم اشتمال الرواية على كلمة النقض يعمّم الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي لو قلنا بظهور النقض في الشك في المانع، وكذا عدم ذكره اليقين السابق بل اكتفائه بكونه طاهراً حين الإعارة يدل على كفاية الاستصحاب مع وجود الحجة الشرعية حتى لو لم تكن اليقين.

تتمة: قال الشيخ الأعظم - بعد ذكره هذه الروايات -: «وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها، وعدم صحة الظاهر منها، فلعلّ الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد»(1).

وأورد عليه: أوّلاً: في الجبر: بأن السند الضعيف لا تجبره الدلالة القويّة، والدلالة الضعيفة لا يجبرها السند المعتبر.

وثانياً: في التعاضد: بأنّه لا بدّ من تواتر الروايات أو استفاضتها للتعاضد، ومجرد وجود روايتين أو ثلاثة ضعاف السند لا يحصل بها تعاضد، كما لا يمكنها أن تتعاضد مع الروايات الصحيحة لعدم دلالتها لكي تعاضدها غيرها، فإنّ تعاضدها إنّما يكون مع اتفاقها في الدلالة.

لكن قد ثبت أنّ أكثر الروايات معتبرة سنداً ظاهرة دلالة على الاستصحاب بعد دفع الإشكالات التي أوردت عليها، فيثبت بذلك حجيّة الاستصحاب شرعاً.

8- ومنها: روايات الطهارة والحلّيّة
اشارة

وهي إن دلت على الاستصحاب فإنّما تدل عليه في المورد الخاص،

ص: 53


1- فرائد الأصول 3: 71.

كقوله (علیه السلام): «كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(1)،

وقوله (علیه السلام): «كل ماء طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر»(2)،

وقوله (علیه السلام): «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه»(3).

وقد اختلف في مدلولها على وجوه: فمنها: دلالتها على الاستصحاب فقط، ومنها: دلالتها على الطهارة الظاهرية فقط، ومنها: دلالتها على الطهارة الواقعية فقط، ومنها: دلالتها على الطهارة الظاهرية والاستصحاب، ومنها: دلالتها على الطهارة الواقعية والاستصحاب، ومنها: دلالتها على الطهارتين والاستصحاب، ومنها: دلالتها على الطهارة الظاهرية والواقعية.

القول الأوّل: الدلالة على الاستصحاب فقط

وذلك لأنّ استمرار الطهارة والحليّة في الشيء المشكوك هو الاستصحاب بعينه.

وفيه: أنّ ظاهر هذه الأحاديث هو جعل الطهارة والحليّة وأنّ الشك بنفسه سبباً لجعلهما، لا جعل استمرارها مفروغاً عن أصل وجودها، فتكون الغاية بيان حدّ الحكم لا بيان الاستمرار إليها، مضافاً إلى أنّ أحد أركان الاستصحاب اليقين السابق ولا ذكر له في هذه الأخبار أصلاً.

إن قلت: حديث «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر»(4) ظاهر في

ص: 54


1- تهذيب الأحكام 1: 284؛ عنه وسائل الشيعة 3: 467.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 6؛ عنه وسائل الشيعة 1: 133.
3- الكافي 5: 313؛ عنه وسائل الشيعة 17: 89.
4- تهذيب الأحكام 1: 216؛ عنه وسائل الشيعة 1: 134.

الاستمرار لا في جعل أصل الطهارة، قال الشيخ الأعظم: «إنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقق غالباً، فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب، والمعنى أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم، أي تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له»(1).

قلت: إنّ وجود اليقين بطهارة الماء سابقاً ثم الشك في عروض النجاسة عليه لا يكفي في صرف ظاهر اللفظ، وذلك لأنّ جعل الطهارة في هذا المورد كما يمكن أن يكون لأجل اليقين السابق كذلك يمكن أن يكون لأجل الشك، وحيث إنّ ظاهر الكلام هو الثاني لزم الحمل عليه، مضافاً إلى أنّ المطلق لا يحمل على الفرد الغالب إلاّ لو انصرف اللفظ إليه، ولا انصراف هنا، ولذا تراهم يستدلون بهذا الحديث على طهارة الماء المشكوك من أصله كالمياه الكبريتية، وكذا الماء الذي تواردت عليه الحالات.

القول الثاني: الدلالة على قاعدة الطهارة الظاهرية فقط

وهو المشهور، لظهور الرواية في ذلك حيث لا يكون العلم غاية للواقع فلا دلالة على الطهارة الواقعية، ولم يذكر اليقين سابقاً فلا دلالة على الاستصحاب. وعدم صلاحية ما استدل له على سائر الأقوال - كما سيأتي - في صرف هذا الظاهر.

ووجهه المحقق الإصفهاني(2)

بما حاصله: إنّ العين الخارجية لا معنى

ص: 55


1- فرائد الأصول 3: 77.
2- نهاية الدراية 5: 89-90.

لامتدادها بذاتها إلى زمان العلم، حيث إنّ العلم من عالم النفس فلا يكون قيداً لما في عالم الخارج، وإلاّ لزم انقلاب أحدهما وهو باطل قطعاً كما هو واضح، فالموصوف بالامتداد: إمّا وصفه - وهو كونه مجهول الحال - فإنّه قابل للامتداد إلى أن يتبدل بنقيضه فتكون الغاية حداً للوصف المأخوذ في الموضوع، وإمّا حكمه بلحاظ امتداد الطهارة في زمان الجهل فتكون الغاية حداً لحكمه، ولا محذور في أن يكون العلم حداً للجهل، أو يكون حداً للحكم الاعتباري، فيكون الجهل قيداً للموضوع أو الحكم، فيكون القيد فيهما جعلياً والغاية حينئذٍ عقلية، بداهة انتفاء الشيء عند تبدله بنقيضه سواء كان موضوعاً أم حكماً، وحيث إن القيد كان هو الجهل أوجب أن يكون الحكم ظاهرياً.

القول الثالث: الدلالة على الطهارة الواقعية فقط

وهو ما ذهب إليه صاحب الحدائق(1)،

بأنّ الشيء المجهول طاهر واقعاً، فإذا علم بأنّه كان قد لاقى النجس صار نجساً من حين العلم.

وقد يستدل له بأنّ «قذر» في آخر الحديث يراد به النجاسة الواقعية، فهكذا «نظيف» في صدره للتقابل بينهما.

وهذا في نفسه لا محذور فيه، إلاّ أنّه لا يمكن حمل الروايات عليه لاستلزامه المحذور ثبوتاً وإثباتاً.

فأوّلاً: قوله (علیه السلام): «حتى تعلم أنّه قذر» ظاهر في أنّ هناك قذارة قد يتعلق العلم بها وقد تكون مجهولة، فلا محيص حينئذٍ عن حمل «نظيف» على

ص: 56


1- الحدائق الناضرة 1: 136-137.

الطهارة الظاهرية.

وثانياً: روايات استصحاب الطهارة تدل على وجود اليقين بالطهارة والشك فيها، مع أنّه لو كانت الطهارة واقعية حين الجهل فلا معنى للشك كما لا معنى للاستصحاب حينئذٍ لأنّ نفس الجهل موضوع الطهارة الواقعية فلا وجه للتعبد بها عبر الاستصحاب.

وثالثاً: ما في البحوث(1)

من أنّ العلم بالقذارة إمّا طريقي أو موضوعي:

فأمّا الطريقي - بأن كانت الغاية نفس القذارة أي كل شيء طاهر حتى يقذر - فهو غير معقول ثبوتاً إذ هو أخذ أحد الضدين أو النقيضين في موضوع الآخر، ولغو إثباتاً إذ من المعلوم انتهاء كل شيء بحدوث نقيضه أو ضده.

وأمّا الموضوعي - بأن كان العلم بالقذارة موضوعاً في الحكم بالطهارة الواقعية - فهو غير معقول ثبوتاً وغير عرفي، أمّا الأوّل فللزوم أخذ العلم بالنجاسة في موضوعها سواء قلنا بكون النجاسة تكوينية كشف عنها الشارع، أم قلنا بكونها مجعولة اعتباراً لاستحالة أخذ العلم بالحكم - بمعنى المجعول - في موضوع نفسه، اللّهم إلاّ أن يراد أخذ العلم بالجعل في فعلية المجعول، فهو وإن كان معقولاً في نفسه إلاّ أنّه خلاف الظاهر، حيث إنّ ظاهره أخذ العلم بالقذارة المجعولة غاية للحكم بالطهارة، لا أخذ العلم بجعل النجاسة وتشريعها. وأمّا الثاني: فلأنّ المرتكز في أذهان العرف أنّ النجاسة والطهارة الواقعيتين أمران مطلقان لا يختلفان من شخص لآخر

ص: 57


1- بحوث في علم الأصول 6: 108-109.

عكس الأحكام الظاهرية.

وفيه: أوّلاً: إنّ القيد ليس داخلاً في الموضوع حتى يستلزم أخذ أحد الضدين في موضوع الآخر، بل التقيد داخل والقيد خارج، كما أنّه ليس بلغو إذا أريد بيان حالة الشك وأنّ العلم سبب للقذارة الواقعية فكأنّه قال: كل شيء طاهر واقعاً حتى يقذر بسبب العلم، فتأمل.

وثانياً: إنّه ليس أخذاً للعلم بالنجاسة في موضوعها، بل هو أخذ العلم بكونه بولاً أو دماً - مثلاً - في موضوع النجاسة والتعبير عرفي، وأمّا ارتكازه في أذهان عرف المتشرعة فلعله لأجل فتاوى الفقهاء مما ولّد ارتكازاً.

وعليه فالأولى الإشكال عليه بما مرّ في الإشكالين الأوّلين.

القول الرابع: الدلالة على الطهارة الظاهرية والاستصحاب

وقد نسب إلى صاحب الفصول، فعنه أنّه قال: «الرواية تدل على أصلين: الحكم الأوّلي للأشياء ظاهراً هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب، وأنّ هذا الحكم مستمر إلى زمن النجاسة، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته»(1).

وظاهره أنّ قوله (علیه السلام): «كل شيء نظيف» مثلاً يدل على الأصلين، وقوله (علیه السلام): «حتى تعلم...» غاية لهما، وهذا يخالف مبناه بعدم إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى إذ لا جامع بين أصل الطهارة وبين استمرارها، ولذا أوّله بعضهم بأنّ مراده تعدد الدال والمدلول؟ لكن لا وجود لدال آخر ليتعدد!

ص: 58


1- الفصول الغروية: 373.

وعلى كل حال فيرد عليه...

أوّلاً: إنّ الحكم باشتراط الطهارة الظاهرية بالجهل بالواقع غايته نسخ هذا الحكم، لا العلم بالنجاسة، إذ مع العلم يتبدل الموضوع من مشكوك النجاسة إلى معلوم النجاسة لا أنّ الحكم يتغيّر.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الحكم الكلي مرآة للأحكام الجزئية في تطبيقه عليها، وحينئذٍ فغاية الحكم الجزئي هو العلم ولو كان لأجل تبدل الموضوع حينئذٍ، وحيث كان محذور في حمل «حتى تعلم» على كونه غاية لأصل الحكم، وذلك للعلم بأنّه مستمر إلى النسخ لا إلى العلم، لذا لا بدّ من حمله على كونه غاية للمصاديق وموارد التطبيق، فتأمل.

وثانياً: امتناع كون «حتى تعلم» غاية لكلا الحكمين، لأنّ الحكم باستمرار الطهارة متأخر عن الحكم بها، لتفرعه عليها، فإذا جعلت الغاية غاية للحكم بأصل الطهارة امتنع أن تجعل غاية للحكم باستمرارها حيث إنّه يستلزم استعمال اللفظ في معنيين طوليين، وهو ممتنع.

وفيه: إنّ طبيعي العلم بالنجاسة لا محذور في جعله غاية لأمرين طوليين فمصداق من مصاديق العلم غاية للطهارة ومصداق آخر غاية لاستمرارها، كما مرّ نظيره في الخبر مع الواسطة مع العلم بأنّ الأمرين الطوليين لا يجتمعان في مورد واحد لأنّ أصل الحكم بالطهارة ليس في مورد استصحابها، وحتى لو فرض اجتماع أصل الطهارة واستصحابها فإنّه لا محذور في جعل العلم غاية لكليهما معاً، لأنّ الطولية حينئذٍ رتبيّة لا خارجية حيث اجتمعا معاً، وحتى لو كانت خارجية فهو من التقدم الطبعي الذي يجتمع فيه الأمران كالواحد والاثنين.

ص: 59

وثالثاً: إنّ ظاهر الحديث هو جعل الطهارة المستمرة، لا الاستمرار في الطهارة، فلا دلالة له على الاستصحاب.

القول الخامس: الدلالة على الطهارة الواقعية والاستصحاب

وهو الذي ذهب إليه المحقق الخراساني.

واستدل له بدليلين:

الدليل الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصله: تعدد الدال والمدلول بأن يكون الصدر «كل شيء نظيف» يدل على الطهارة الواقعية، وذلك لأنّ الكلمات موضوعة لمعانيها بما هي هي، لا بما هي معلومة، فالشيء هو الشيء بما هو هو طاهر وهذا هو الطهارة الواقعية، لا الشيء بما هو معلوم كي تكون الطهارة ظاهرية، وأن تكون التتمة «حتى تعلم أنّه قذر» غاية للطهارة، ومن المعلوم أنّ غاية الطهارة الواقعية هي ملاقاة النجاسة مثلاً سواء علم بها أم لا، فالعلم بالنجاسة غاية للطهارة الظاهرية، وعليه فقوله: «حتى تعلم...» يراد به استمرار الطهارة ظاهراً إلى حين العلم بالنجاسة حيث إنّ العلم يكون غاية لأمر تعبدي لا واقعي.

وأشكل عليه: أوّلاً: إنّ معنى ذلك أن يكون المجعول في المغيّى هو الطهارة الواقعية حقيقة والمجعول في الغاية هو الطهارة الواقعية ظاهراً، فما هو قابل للبقاء غير مقصود في المغيّى وما هو المقصود في المغيّى غير قابل لمثل هذه الغاية، وهذا ينافي تبعية الغاية للمغيّى.

وأجيب: بأنّ الباقي هو الطهارة الواقعية حقيقة إلاّ أنّ البقاء ظاهري،

ص: 60


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 15-17.

فالغاية تابعة للمغيّى حينئذٍ.

وثانياً: إنّ ظاهر الغاية أنّها غاية للطهارة المجعولة في الصدر، لا غاية لاستمرارها، فإنّ الاستمرار إنّما يستفاد بعد ذكر الغاية، فهو متأخر عن نفس الغاية إثباتاً، فلا يمكن أن تكون الغاية غاية له!

وفيه: إنّ استفادة الاستمرار من الغاية إنّما هو بنحو الكشف، فلا محذور في أن تكشف عن إرادة الاستمرار في الصدر وتكون واقعاً غاية له، فهو متأخر عنها إثباتاً ومتقدم عليها ثبوتاً كالنار الذي يدل عليها الدخان، فتأمل.

وثالثاً: إن دلالة الغاية على الحكم الظاهري قرينة على المراد من المغيّى عرفاً، وهذا أقرب للظهور من فصل الغاية عن المغيّى.

الدليل الثاني: لا محذور في أن يكون الصدر دالاً على الطهارة الواقعية، ومجموع الكلام - بصدره وذيله - دالاً على الاستمرار بالالتزام، لأنّ حدوث شيء في زمان وارتفاعه في زمان آخر يدل بالالتزام على استمراره إلى زمان الارتفاع.

لا يقال: إن الاستصحاب استمرار تعبدي وهذا المعنى لازم عقلي منتزع عن مدلول اللفظ.

فإنّه يقال: إنّ منشأ هذا اللازم العقلي هو التعبد الشرعي، فلا بأس بدلالته على أمر تعبدي.

ويرد عليه: ما مرّ من أنّ العلم لا يكون غاية للطهارة الواقعية.

القول السادس: الدلالة على الطهارتين والاستصحاب

أي دلالة الصدر على الطهارة الواقعية والظاهرية ودلالة التتمة على

ص: 61

الاستصحاب.

وهو ما ذهب إليه المحقق الخراساني في حاشية الرسائل(1)،

وذلك لأنّ الشيء له عموم أفرادي - أي كل ما ينطبق عليه عنوان الشيء - ، كما له إطلاق أحوالي فيشمل حالة الشك في الطهارة وعدمها، فبالأوّل جعلت الطهارة الظاهرية، وبالثاني الواقعية.

وحيث إنّ جهة الشك من حالات المكلف لا من أحوال الشيء، عدل إلى بيان آخر حاصله: أنّ الأشياء قد تكون محكومة بالطهارة بعناوينها الأوّلية، وقد يلازمها الشك دائماً في طهارتها فتكون محكومة بالطهارة بعناوينها الثانوية كالمياه الكبريتية، ومفهوم الشيء بنفسه يشملهما بالعموم الأفرادي من غير حاجة إلى إطلاق أحوالي، فكلاهما محكوم بالطهارة لكن أحدهما بالطهارة الواقعية، والآخر بالطهارة الظاهرية.

وأشكل عليه - مضافاً إلى ما ورد على القول الرابع والخامس حيث إنّ هذا القول مجمع لهما -(2):

باستحالة ذلك، لتقدم الحكم الواقعي على الظاهري بمرتبتين، ويستحيل إيجاد المختلفين في الرتبة بجعل واحد، لاستلزامه تقدم المتأخر أو تأخر المتقدم.

وأجاب المحقق الإصفهاني(3)

عن الإشكال بما حاصله: إنّ المتأخر رتبة إنّما هو المعنون الذي هو في الخارج لا العنوان الذي هو في النفس،

ص: 62


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 312-314.
2- فوائد الأصول 4: 368؛ نهاية الأفكار 4[ق1]: 68-69.
3- نهاية الدراية 5: 95-96.

لأنّ الحكم في النفس، فهو متقوّم بموضوع نفسي لا بموضوع خارجي، فالطهارة الواقعية اعتبار مجعول وكذا الطهارة الظاهرية، ولا ترتب بينهما في النفس، فصورة الطهارة الواقعية وصورة الشك فيها في مرتبة واحدة في نفس الحاكم، فالشك هنا عنواني وليس هو الشك المعنون القائم بالمكلف الذي هو شيء تكويني خارجي، وعليه ففي نفس الحاكم التقدم والتأخر بينهما طبعي - كتأخر الاثنين عن الواحد - مع اجتماعهما في الوجود، فيمكن جعلهما بجعل واحد.

إن قلت: إنّ موضوع الأحكام الوضعية هي المعنونات والموجودات الخارجية لا العناوين، فالشك الخارجي هو موضوع قاعدتي الطهارة والحلّ، وأمّا الشك العنواني القائم بنفس الحاكم فليس موضوعاً لهما، وإنّما هو مرآة للنظر إليهما لأنّ ما تقوم به المصلحة هو المعنون لا العنوان.

قلت: إنّ الحكم حيث كان اعتباراً وهو في عالم الذهن فلا يعقل أن يكون موضوعه من عالم الخارج وإلاّ لزم الانقلاب وهو محال، نعم هو يؤخذ مرآة لما في الخارج، لكن مرآتيته لا تنافي كون الموضوع للحكم هو الشيء الذهني أي العنوان، ولا تقدم وتأخر فيه، فتأمل.

وعليه فالجواب تام والإشكال غير وارد، إلاّ أنّ إرادتهما معاً خلاف الظاهر وبقرينة الغاية، فالإشكال إثباتي لا ثبوتي، وأمّا الدلالة على الاستصحاب فقد مرّ الإشكال فيه.

ص: 63

فصل في استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل

وذلك في ما لو قلنا بقاعدة الملازمة، وقد يقال: بعدم جريان الاستصحاب لو حصل الشك حينئذٍ، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: إن العقل لا يحكم إلاّ مع الجزم، ومع تغيّر خصوصية يشك في كونها مقوماً أم لا ينتفي حكم العقل قطعاً، وحيث إنه كان العلة في حكم الشرع - طبقاً لقاعدة الملازمة - فبانتفاء العلة ينتفي المعلول.

والحاصل: إنّ حكم العقل لا يحصل فيه الشك أبداً، فإنّه لو استمرت جميع الخصوصيات استمر القطع بحكمه، وإن تبدلت بعضها حصل القطع بعدم حكمه، فيتبعه حكم الشرع في كلا الحالتين - أي الحكم وعدم الحكم - .

وأورد عليه: أوّلاً: إنّه لا محذور في كون ملاك حكم الشرع ابتداءً هو حكم العقل، وكون ملاكه استمراراً هو الاستصحاب بأدلته الشرعية، فزوال العلة لا يستلزم زوال المعلول إذا خلفتها علة أخرى في الاستمرار، ولا يشترط كون علة الحدوث علة البقاء، ومع تغيّر الخصوصية لا يحكم العقل لا أنه يحكم بالعدم وذلك لعدم علمه بكونها مقوماً أم غير مقوم، ومع عدم حكمه نشك في حكم الشرع فيدخل المورد تحت عموم أدلة الاستصحاب.

وبعبارة أخرى: إن الملازمة من طرف الوجود، لا من طرف العدم، فكلّما حكم به العقل حكم به الشرع - بناءً على قاعدة الملازمة - ، لكن

ص: 64

ليس كلّما لم يحكم العقل لم يحكم الشرع، فأكثر الأحكام الشرعية لا يدرك العقل ملاكاتها.

وبعبارة ثالثة: إنّ العقل يحكم بالقدر المتيقن مع إمكان أن يكون ملاك الحكم أوسع دائرة مما أدركه.

هذا مضافاً إلى إمكان تعدد الملاكات فأدرك العقل أحدهما ولم يدرك غيره، فمع احتمال وجود ملاك آخر يحتمل استمرار الحكم الشرعي فيدخل المورد في عموم دليل الاستصحاب.

وثانياً: إن القيود المأخوذة في حكم العقل مقوّمة لحكمه دائماً، فإذا انتفى أحدهما لم يحكم قطعاً، إلاّ أنه في الحكم الشرعي يدور الموضوع مدار العرف فإن اعتبره غير مقوّم جرى الاستصحاب فيه.

اللّهم إلاّ أن يقال: أن العرف مرجع في التحديد في ما لو كان الحكم ملقى إليه، وأمّا لو لم يكن الحكم ملقى إليه فلا مرجعية له، وفي ما نحن فيه استفيد الحكم من استقلال العقل بحكم واستقلاله بقاعدة الملازمة، ومع تغيّر إحدى الخصوصيّات يشك في كونها مقوماً أم لا فلا يجري دليل الاستصحاب لكون المورد شبهة موضوعية له، فتأمل.

الدليل الثاني: ما في الرسائل قال: «لأن الجهات المقتضية للحكم العقلي للحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلف الذي هو الموضوع، فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون إلاّ للشك في موضوعه، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزاً معلوم البقاء في الاستصحاب»(1).

ص: 65


1- فرائد الأصول 3: 38.

وحاصله: أنّ الخصوصية المتغيّرة أو المشكوك بقاؤها مقومة للموضوع فلا مجال للاستصحاب، ووضّحه في المنتقى «بأنّ الحكم العقلي بالقبح لم يتعلّق بالصدق حال إضراره - مثلاً - كي يقع الكلام في أنّ جهة الضرر مقومة عرفاً أو ليست مقومة، بل ليس لدينا إلاّ حكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم، والحكم بقبح الصدق المهلك من باب أنه مصداق للظلم القبيح، والحكم بحسن الكذب النافع من باب أنه مصداق الإحسان الحسن عقلاً، إذن فمتعلق الحكم العقلي هو نفس الخصوصية، وهذه الأفعال مصاديق لها، ويتبعه بذلك الحكم الشرعي، فالحرام هو الظلم والمحبوب هو الإحسان... الخ»(1).

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن علة الحكم العقلي هي موضوع الحكم أو مصداق له، عكس الحكم الشرعي فالعلة - التي هي ملاكات الأحكام - تختلف عن موضوعاتها، وفي ما نحن فيه اجتماع جميع الخصوصيات كانت علة لحكم العقل فكل الخصوصيات جزء من موضوع حكمه، فتأمل.

الدليل الثالث: ما في نهاية الدراية(2)

وحاصله: إنّ حكم العقل ليس متعلقاً للفعل بما هو هو وبوجوده الواقعي، بل بما هو معلوم، فالصدق المضرّ ليس قبيحاً في نفسه وإنّما الصدق المعلوم ضرره، وذلك لأنّ القبح والحسن لا يتعلقان إلاّ بالفعل الاختياري، وذلك لا يكون إلاّ في مورد العلم، وفي ما نحن فيه الشك في بقاء الخصوصية - كالإضرار - قطع بعدم الموضوع للقبح،

ص: 66


1- منتقى الأصول 5: 19.
2- نهاية الدراية 5: 24-25.

فلا يحكم العقل حينئذٍ، وبذلك ينتفي مناط حكم الشرع.

ويرد عليه: أن الفعل الاختياري لا ينحصر في مورد العلم، بل يكفي فيه مجرد الالتفات والقصد، وهذا ما يتحقق عند الشك أيضاً، مثلاً من شك في أن الطعام مسموم أم لا ومع ذلك أطعمه لغيره فمات اعتبر قاتلاً عن اختيار، وترتب عليه أحكام قتل العمد، وذلك لالتفاته وقصده حتى مع عدم علمه، وفي ما نحن فيه: مع الشك في أن الصدق مضرّ، لا قطع بزوال الموضوع، لتحقق الالتفات والقصد.

هذا مضافاً: إلى عدم كفاية الدليل بل لا بدّ له من تتمة، فإنّ مجرد تبدّل الموضوع بالدقة العقلية لا يكفي لعدم جريان الاستصحاب، بل لا بدّ من إثبات أن هذه الخصوصية مقومة بنظر العرف أو إثبات أنه لا دخل لنظر العرف في أمثال هذا.

تكملة: لا فرق في ما ذكر بين كون الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي وجودياً أم عدمياً مع استناد العدم إلى القضية العقلية، ومثّل له الشيخ الأعظم بقوله: «كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها، فإنه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات، كما صدر عن بعض من مال إلى الحكم بالإجزاء في هذه الصورة وأمثالها من موارد الأعذار العقلية الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه»(1).

وأشكل في المنتقى(2)

على المثال: بالفرق بين ناسي السورة وبين ما مرّ

ص: 67


1- فرائد الأصول 3: 39-40.
2- منتقى الأصول 6: 23.

بما حاصله: أنّ القبح هناك يتعلّق بفعل المكلّف، وأمّا القبح هنا فيتعلق بفعل الشارع، ولا يخفى أن المكلف بالإضافة إلى التكليف من قبيل الموضوع، لا من قبيل المتعلّق، إذن فالنسيان مأخوذ في موضوع عدم التكليف لا في متعلّقه، فلا يتأتي هنا ما ذكر في منع جريان الاستصحاب هناك، لأن ذلك يتفرع على كون الخصوصية المقومة للقبح العقلي إمّا نفس المتعلّق أو دخيلة فيه، وليس النسيان كذلك فإنه مأخوذ في موضوع عدم التكليف، وعليه: فجريان أو عدم جريان الاستصحاب لا بدّ من إرجاعه إلى أن العرف هل يرى النسيان مقوماً أو غير مقوم!

ثم قرر الاستصحاب في المثال: إمّا بلحاظ الجعل أي حال ما قبل الشرع، وإمّا بلحاظ المجعول أي عدم الحكم الفعلي على الناسي حيث يشك في فعليته بعد التذكر.

أقول: الأقرب أن الفرق المذكور غير فارق، فإنّ القبح في مثال الناسي وإن لم يكن حكماً لفعل المكلف، إلاّ أن موضوع الحكم بعدم التكليف هو المكلّف الناسي، وكونه ناسياً متعلّق الموضوع، فيكون مقوماً، فلا يجري الاستصحاب حين تبدله إلى المتذكر، فتأمل.

ص: 68

فصل في الاستصحاب مع الشك في المقتضي

اشارة

ذهب جمع كالشيخ الأعظم بعدم حجيّة الاستصحاب مع الشك في المقتضي، مع اتفاق القائلين بحجيّة الاستصحاب على جريانه في الشك في المانع.

وغير خفي أنّ المراد من المقتضي هنا ليس المقتضي في باب المعقول الذي هو أحد أجزاء العلة التامة، وهو السبب الذي يترشح منه الأثر إذا تقارن مع الشرط وعدم المانع(1)،

ولذا ذهب القائلون بعدم حجيّة الاستصحاب في الشك في المقتضي إلى جريانه مع الشك في العدميات، وجريانه في الأحكام الشرعية التي هي مجعولات شرعية وليست أسباباً تكوينية لتكون مقتضياً بهذا المعنى.

كما لا يراد به ملاك الحكم وذلك لجريان الاستصحاب في الموضوعات وهي لا ملاك لها بل لها علل تبقى ببقائها وتنتفي بانتفائها، ولأنّ ذلك يؤدي إلى عدم جريان الاستصحاب إلاّ نادراً لعدم العلم

ص: 69


1- السبب هو: المؤثر الذي يلزم من عدمه عدم المعلول ومن وجوده الوجود لو اقترن بالشرط وعدم المانع، كالنار للإحراق. والشرط هو: الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، كالقرب من النار. والمانع: عكسه، أي الذي يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود، كرطوبة المحترق.

بالملاكات غالباً.

بل المراد به القابلية للبقاء في نفسه، ويضاده ما لا قابلية له في البقاء، قال الشيخ الأعظم: «الشك في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي، والمراد به: الشك من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشك في بقاء الليل والنهار، وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل، وقد يكون من جهة طرو الرافع مع القطع باستعداده للبقاء، وهذا أقسام... الخ»(1).

ويمكن التمييز بينهما بأن يقال: إنّ الشيء إمّا لا يكون مغيّىً بغاية فالشك فيه شك في الرافع، وإمّا أن يكون مغيّىً وعلم بعدم تحقق الغاية فالشك في الرافع أيضاً، وإمّا يكون مغيّىً ومنشؤ الشك هو الشك في تحقق الغاية من جهة الشبهة الموضوعية أو الحكمية المفهومية أو الحكمية من جهة إجمال النص أو تعارض النصين وذلك كله من الشك في المقتضي.

ومثال الأوّل: الشك في وجوب أداء الأمانة لو التحق المالك بدار الحرب، ومثال الثاني: الشك ظهراً في وجوب الاستمرار في الصوم من جهة الشك في الوصول إلى حدّ الترخص، ومثال الثالث: ما لو علمنا بأنّ غاية الصوم ذهاب الحمرة المشرقية وشككنا في ذهابها الآن، ومثال الرابع: ما لو علمنا بأنّ غاية الصوم الليل وشككنا في تحققه من جهة الشك في أنّ الليل يبدأ من استتار القرص أو من ذهاب الحمرة، ومثال الخامس: لو شككنا في أنّ غاية صلاة العشاء منتصف الليل أو طلوع الفجر لاختلاف الأدلة.

وبعبارة أخرى: إنّ المستصحب تارة يكون باقياً بذاته لولا عروض

ص: 70


1- فرائد الأصول 3: 46-47.

العارض فالشك في بقائه شك في الرافع، وتارة يزول بنفسه لكونه زماناً أو مغيّى بزمان مع الشك في تحقق الغاية فالشك في بقائه شك في المقتضي.

وبهذا يتبيّن عدم ورود الإشكال على الشيخ الأعظم في المكاسب حيث أجرى استصحاب الملكية في المعاطاة مع الشك في استمرارها، وذلك لأن الملكية - حتى غير اللازمة منها - غير مغيّاة بزمان ولها قابلية الاستمرار فلا يكون الشك فيها إلاّ من جهة الرافع، ولم يجر الاستصحاب في خيار الغبن، وذلك لأن الشك إنّما هو في قابليته في الاستمرار بعد الفور فليس الشك فيه إلاّ من جهة الشك في المقتضي، والذي على حسب مبناه لا يجري الاستصحاب فيه.

وأمّا ما استدل به على عدم حجيّة الاستصحاب مع الشك في المقتضي، فلا بدّ قبل ذلك من البحث في كلمات قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» لنرى مدى دلالتها، فهل هي خاصة بحالة الشك في الرافع أم أنّ لها إطلاقاً يشمل الشك في المقتضي أيضاً، والكلام في مقامات ثلاث.

المقام الأوّل: في النقض

اشارة

والكلام تارة في معناه الحقيقي. وأخرى في معناه المجازي والعلاقة المصحِّحة له. وثالثة: في نقض اليقين وأنّه بمعناه الحقيقي أم المجازي، فهنا أمور:

الأمر الأوّل: في معناه الحقيقي

إنّ (النقض) ضد (الإبرام)، ولا يصدق الإبرام إلاّ مع وجود هيئة اتصالية، فالنقض هو إزالة هذه الهيئة، فيقال: نقضت البناء والخيط والعظام ونحوها،

ص: 71

لما في ذلك من قطع الهيئة الاتصالية، كما قال الله تعالى: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}(1).

وقد يقال: إنّ الاستحكام مأخوذ في معنى الإبرام، والشدة في مفهوم النقض، فليس كل تخريب للهيئة الاتصالية نقضاً فلذا لا يقال: نقض الرمل ولا نقض الماء لعدم استحكامهما ولعدم الشدة في قطع هيئتهما، وأمّا مثل: (نقض الصف) فلأنّ للصف هيئة اتصالية مستحكمة اعتباراً.

وقد يقال: بأنّ الهيئة الاتصالية تقتضي أن يكون الشيء المبرم ذا أجزاء متصلة بعضها بالبعض، لأنّ البسيط لا هيئة اتصالية فيه.

وفيه: أنّ الهيئة الاتصالية كما تكون في ذات الشيء وذلك لا يكون إلاّ إذا كان ذا أجزاء، كذلك تكون في ما ينتزع منه، فالبسيط باعتبار عمود الزمان له هيئة اتصالية.

وعليه فإن النقض كما يصدق في الأمور الخارجية، كذلك يصدق بمعناه الحقيقي في الأمور النفسية.

ومن ذلك يتبيّن أنّ انتهاء أمد الشيء ليس بنقض كما لو انتهى من الصلاة بالسلام أو حلّ الليل بانتهاء النهار، وذلك لعدم وجود هيئة اتصالية حينئذٍ بعد انتهاء الأمد.

الأمر الثاني: في استعماله المجازي

إذا انتهى أمد الشيء بنفسه، أو كان مستمراً في الوجود، فإنّ استعمال النقض فيه مجاز لعدم وجود هيئة اتصالية في الأوّل، ولبقائها في الثاني.

ص: 72


1- سورة النحل، الآية: 92.

والظاهر أنّ العلاقة المجازية في استعمال النقض في الأوّل هو توهم أو توقع أو احتمال قابليته للاستمرار، وفي الثاني عدم ترتب الأثر عليه.

وأمّا من اشترط وجود الأجزاء في الاستعمال الحقيقي فقد ذهب إلى أن استعماله في البسائط مجاز، فيكون استعماله في الصفات النفسانية - التي هي بسائط - مجازاً، فلا بدّ من علاقة مجازية مصححة.

فمن زالت ملكة الشجاعة فيه وأصبح جباناً لم تكن هناك هيئة اتصالية لعدم وجود أجزاء للملكة فزوالها ليس نقضاً، ومع ذلك يحسن استعمال النقض فيها مجازاً.

والظاهر أنّ العلاقة المصححة هي الاستحكام تارةً، والاستمرار أخرى، وعدم ترتب الأثر ثالثةً، لأنّ صحة الاستعمال المجازي يرتبط بذوق العرف، وهذا الذوق لا بدّ أن ينشأ من علاقة مصححة، ولا يشترط وحدة هذه العلاقة في كل موارد الاستعمال، بل يصح وجود أيِّ واحد منها في الاستعمالات المختلفة مع انسجامها مع الذوق العرفي، فالملكات النفسانية لها جانب استحكام فزوالها نقض مجازي - على هذا المبنى - والعلاقة استحكامها تارة، واستمرارها أخرى، وعدم ترتب أثرها ثالثة كالشجاع الذي لم يدافع فهو قد نقض شجاعته.

الأمر الثالث: النقض في اليقين

مما ذكرنا يتبيّن أنّ نقض اليقين إنّما هو بمعناه الحقيقي، وذلك لأنّه وإن كان بسيطاً إلاّ أنّ له هيئة اتصالية انتزاعية باعتبار عمود الزمان، فيقال: نقض فلان يقينه أي أزاله عبر التشكيكات مثلاً، واليقين منتقض باعتبار زواله.

وعليه فالنهي عن نقضه مع زواله مجاز في استعمال مادة النقض، لأنّه

ص: 73

بمعناه الحقيقي محال أو لغو حيث إنّه الطلب بتحصيل الحاصل، فلا بدّ من علاقة مصححة، وتلك العلاقة هي ترتيب الآثار، فليس المجازية في استعمال النقض في اليقين إذ ذاك استعمال حقيقي، وإنّما هي في استعمالها في الزائل، وحيث أريد إبقاء آثاره، فالذي كان على يقين من وضوئه صباحاً ثم شك في بقائه ظهراً فأمره دائر بين يقين باق هو يقينه بأنّه كان في الصباح متوضأً وبين شك في كونه على طهارة ظهراً، فذاك اليقين مستمر وهذا الشك لم يسبقه يقين، إلاّ أنّه صحّ استعمال النقض باعتبار عدم ترتيب آثار اليقين ظهراً.

بل يمكن القول بعدم المجازية أيضاً، وذلك لحمل كلامه (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» على الحكومة، بأن اعتبر الشارع شكه يقيناً وذلك لترتيب آثار اليقين عليه، فالمعنى حينما كنت على يقين فشككت فاعتبر نفسه متيقناً ولا تنقض يقينك، فتأمل.

ومن ذلك يتبيّن أنّ المجازية ليست في استعمال النقض في اليقين بل في استعماله في اليقين الزائل باعتبار الآثار المترتبة عليه، أو هو ليس بمجاز في الرواية أصلاً.

المقام الثاني: في معنى اليقين

قد يقال: إنّ اليقين في قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» يراد به إمّا المتيقن مجازاً أو كنايةً، وإمّا المعنى الحقيقي لليقين، وإمّا الحجّة.

الاحتمال الأوّل: استعمال اليقين في المتيقن مجازاً، لوجوه:

منها: إنّه لا قدرة على نقض اليقين لأنّه يستند إلى أسبابه التكوينية

ص: 74

الخارجة عادة عن قدرة الإنسان، كمن يرى طلوع الشمس فيحصل له اليقين من غير اختياره، نعم يمكن في حالات قليلة إزالة اليقين بإزالة أسبابه التكوينية، لكن ذلك غير مقصود في الرواية قطعاً، فلا بدّ من حمل اليقين على المتيقن.

وفيه: أنّ المتيقن كذلك، فنقضه غير مقدور، لأنه إمّا حكم شرعي ونقضه بيد الشارع بالنسخ فقط، وإمّا موضوع خارجي وهو في كثير من الأحيان غير مقدور للمكلّف كالليل والنهار، فلا بدّ من أن يكون المراد عدم ترتيب الآثار سواء أريد باليقين نفسه أم المتيقن، فلا وجه للحمل على المجاز.

ومنها: إنّ المقصود في الحديث ترتيب آثار المتيقن - الوضوء مثلاً - لا اليقين بما هو يقين، وإلاّ لزم ترتيب آثار القطع الموضوعي دون القطع الطريقي.

وفيه: أوّلاً: إنّه حيث أريد عدم نقض الآثار فإنّ آثار المتيقن هي آثار لليقين أيضاً، وأنّه مع ارتفاع المتيقن يرتفع اليقين عادة، للتلازم بينهما إلاّ في صورة الجهل المركّب، وعليه فنقض اليقين عملاً كما يكون بعدم ترتيب آثار اليقين بنفسه كذلك يكون بعدم ترتيب آثار المتيقن باعتبار أنّها من آثار اليقين أيضاً.

وثانياً: عدم مناسبته مع الحديث حيث قال (علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من وضوئك ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»، فإنّ السياق يقتضي وحدة معنى اليقين في الجملتين، واليقين الأوّل لا معنى لأن يراد به المتيقن كما هو واضح بل أريد به اليقين بنفسه فكذلك الثاني.

ص: 75

الاحتمال الثاني: اليقين كناية عن المتيقن.

والكناية هي استعمال اللفظ في معناه فلا يكون مجازاً، لكن بالمراد الجدي أريد معنى آخر، مثل: (فلان كثير الرماد) استعملت كثرة الرماد في معناها مع إرادة السخاء جداً.

وفيه: مع عدم صحة الكناية هنا، أنّه لا فرق حينئذٍ بين إرادة اليقين أو المتيقن حسب الإرادة الجدية حيث إنّه إن أريد استفادة الاستحكام فكلاهما مستحكم، وإن أريد الجري العملي فكلاهما لا بدّ من الجري العملي طبقهما.

الاحتمال الثالث: اليقين بمعناه الحقيقي.

1- إمّا بما هو مرآة للمتيقن بمعنى أنّه لوحظ مفهوم اليقين مرآة لمفهوم المتيقن من باب أنّ مصاديقه مرآة لمصاديق المتيقن، فلذا عدم نقض اليقين يلازم عدم نقض المتيقن، وغير خفي أن كون الشيء مرآة لا ينافي ملاحظته في نفسه أيضاً ولا محذور في الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي كما مرّ تفصيله في بحث المعنى الحرفي.

إن قلت: إنّ مفهوم اليقين الموجود في ذهن الشخص ليس عين المتيقن لا بالحمل الأوّلي فإنّ اليقين عبارة عن الإنكشاف، ولا بالحمل الشائع حيث إنّه عبارة عن حالة في النفس متصوِّرة وجزء من ذهنه وأفكاره(1)

فكيف صار اليقين مرآة للمتيقن؟

قلت: إنّ مفهوم اليقين مرآة إلى مصاديقه الذهنية وهي مرآة إلى

ص: 76


1- مباحث الأصول 5: 239.

المصاديق الخارجية، وبذلك صحّ أن يقال: إنّ اليقين مرآة للمتيقن الخارجي، فتأمل.

2- وإمّا هو هو، لكن حيث أريد عدم النقض العملي فيعمّ آثار القطع الموضوعي والقطع الطريقي كما مرّ، وهذا هو الأقرب لأنه المعنى الحقيقي ولا محذور في الحمل عليه ولا قرينة على خلافه.

الاحتمال الرابع: اليقين بمعنى الحجة.

وقد استدل له في المنتقى(1)

بوجوه:

1- منها: إنّ التعليل المذكور - أي قوله: لأنّك كنت على يقين... - تعليل ارتكازي عقلائي وهو ما كان صادراً حسب المرتكزات العرفية بحيث يرى العقلاء مناسبة بين التعليل والمعلَّل، وهذا الكلام إذا ألقي إلى العرف يرى أنّ المقصود أنّ اليقين أمر مبرم محكم فلا ينقض بما ليس كذلك كالشك، وحينئذٍ لا يرى العرف خصوصية للشك وإنّما المناط هو عدم وجود الحجة المعتبرة، فيكون ذكر الشك بالخصوص لكونه أظهر مصاديق عدم الحجيّة.

2- ومنها: أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» فيه ظهوران: ظهور (الباء) في السببيّة وظهور (الشك) في الصفة الوجدانية، ولا يمكن الالتزام بكلا الظهورين، لعدم الاطراد في بعض الموارد، كما لو استند النقض إلى غير الشك كالتماس مؤمن، فلا بدّ من التصرف في أحد الظهورين، إمّا بحمل الباء على الظرفية، وإمّا بحمل الشك على مطلق عدم الحجة، وغير خفي أنّ الثاني أولى، إذ لا بدّ لنا من رفع اليد عن معنى الشك وتعميمه للوهم والظن،

ص: 77


1- منتقى الأصول 6: 418-421.

وإنّما ذكر الشك لكونه أظهر مصاديق عدم الحجة - لأنّه الجهة المميزة له - فلا وجه بعد ذلك في التصرف في ظهور الباء في السببيّة.

3- ومنها: أنّ حجيّة اليقين مما لا شبهة فيها ولا إشكال، كيف وهي من المستقلات العقلية التي لا تنالها يد الجعل نفياً وإثباتاً، فلو كان المراد من اليقين في قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» اليقين الوجداني لكان لغواً، إذ النقض باليقين لا يحتاج إلى بيان وتنبيه، لأنّه مسلّم لا ارتياب فيه

لا يقال: إنّ هذا القول ليس مفاده الاستدراك، وبيان ناقضية اليقين، بل المراد حصر الناقض في اليقين!

لأنّه يقال: إنّ كلمة (لكن) ظاهرة في الاستدراك - الذي هو دفع توهم نشأ من الكلام - و(اليقين) ظاهر في الوجداني، والجمع بين الظهورين ممتنع للزوم اللغوية، فلا بدّ من التصرف في أحدهما، وبمقتضى الوجوه المذكورة يتعيّن التصرف في ظهور (اليقين) ويبقى ظهور (لكن) على حاله.

وفي الكل تأمل:

أمّا الأوّل: فلأنّ الارتكاز وإن كان موجوداً إلاّ أنّه ليس بحيث يصرف لفظ اليقين عن ظاهره، وخاصة مع احتمال أن تكون علل خافية على الناس يكون بها التعبد أو هي جزء من أسبابه.

وأمّا الثاني: فلأنّ الشك لغة وعرفاً أعم من الشك المنطقي كما سيأتي في شروط الاستصحاب، وأنّ السببيّة قد تكون مباشرة وقد تكون غير مباشرة، ففي المثال فإنّ الشك يكون سبباً لاستجابة طلب المؤمن إذ لولا الشك لما استجاب، مع كفاية السببيّة الغالبة لعموم الحكم حتى في غير

ص: 78

مواردها.

وأمّا الثالث: فلأنّ معنى (لكن) لغة وعرفاً ليس هو الاستدراك بل العطف، واستفادة الاستدراك إنّما يكون من السياق، وعليه فلو دلّ السياق على الحصر فلا محذور فيه ولا تصرف في معناها، فتأمل.

المقام الثالث: أدلة عدم حجيّته

اشارة

وأمّا ما استدل به على أن الاستصحاب لا يجري مع الشك في المقتضي فوجوه، منها:

الدليل الأوّل: إنّ صدق النقض في اليقين مجازي لعدم كونه ذا أجزاء، ومجازيته بعلاقة الاستمرارية، وارتفاع اليقين قد يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء أمده وعدم استعداده للبقاء وهذا لا يصدق فيه نقض اليقين، وقد يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة عروض مانع عن استمراره، وهذا هو الذي يصدق فيه نقض اليقين.

وعليه فقوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» إنّما هو في دوران الأمر بين البقاء والانتقاض، وهذا لا يكون إلاّ مع الشك في الرافع، وأمّا مع الشك في المقتضي لا انتقاض إمّا للارتفاع بانتهاء الأمد، وإمّا لعدم الارتفاع، وكلاهما لا يعد نقضاً فلا يكون مشمولاً لدليل الاستصحاب(1).

ويرد عليه: مع قطع النظر عن الإشكال في المقدمات من عدم المجازية وعدم انحصار علاقة المجاز في الاستمرار...

أوّلاً: إنّ عدم صدق النقض باعتبار المتيقن لا يلازم عدم صدقه باعتبار

ص: 79


1- منتقى الأصول 6: 53-56.

اليقين، فإنّ لليقين قابلية الاستمرار في نفسه، والشك رافع لليقين فهو ناقض له وليس مجرد انتهاء أمده.

وثانياً: إنّ عدم صدق النقض على انتهاء الأمد وعدم صدقه مع استمرار الشيء قطعاً لا ينافي صحة صدقه مع دوران الأمر بينهما، فهو نظير القطع بأحد شيئين الذي لا ينافي الشك فيهما فلا يصح أن نقول: إنّه ليس بمشكوك لأنّه إمّا مقطوع كونه هذا أو مقطوع كونه ذاك، فالنقض التفصيلي غير صادق وهذا لا ينافي صدق النقض الإجمالي، لأن الشيء محتمل الاستمرار، وهذا المقدار يكفي في صحة إطلاق النقض عليه، فتأمل.

الدليل الثاني: إنّ اليقين بالحدوث موجود قطعاً، والشك إنّما هو في البقاء وهو شك في شيء آخر، كما أنّه لا هيئة اتصالية بين المتيقن والمشكوك، فلذا كان استعمال النقض مجازاً، وليست العلاقة إلاّ الاستمرار، فلا بدّ من وجود شيء يستمر ليصح إطلاق النقض حينئذٍ، وليس ذاك إلاّ المقتضي، فيكون المشكوك باعتبار وجود المقتضي فيه استمراراً للمتيقن، ولا توجد هذه العلاقة مع الشك في المقتضي.

وفيه: أوّلاً: إنّه لا بدّ في المجاز من وجود علاقة عرفية حتى لو لم تكن معلومة بالتفصيل إذ يكفي فيها الارتكاز الإجمالي، وليس الاستمرار عبر وجود شيء مشترك - هو المقتضي - بين المتيقن والمشكوك إلاّ تحليلاً عقلياً للعلاقة وهو غير عرفي.

وثانياً: ما مرّ من تعدد وجوه العلاقة ويمكن أن تكون هنا الاستحكام سواء في المرفوع أم في الرفع نفسه، واليقين فيه استحكام من جهة نفسه ومن جهة آثاره ولا يشترط فيه الاستحكام من جهة المتيقن، فتأمل.

ص: 80

وثالثاً: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنّ المناط في المجاز إنّما هو نظر العرف، وهو لا يرى فرقاً بين الطهارة صباحاً مع الطهارة مساءً مثلاً حيث يراهما شيئاً واحداً، ولا تفاوت في نظره بين ما إذا كان هناك مقتضٍ للبقاء أو لم يكن، نعم بالدقة العقلية فإن الشك في الرافع أقرب إلى المعنى الحقيقي من الشك في المقتضي، ولكن حيث كان المرجع هنا العرف فالأقربية إنّما تكون بنظره، وهو يرى عدم الفرق.

ورابعاً: أن هذا إرجاع للاستصحاب إلى قاعدة اليقين، أو إرجاعه إلى كبرى لها مصداقان أحدهما الاستصحاب والآخر القاعدة، وهذا مما لا يلتزمون به، فتأمل.

الدليل الثالث: ما عن المحقق النائيني: من «أنّ اليقين إنّما أسند إليه النقض باعتبار اقتضائه للجري العملي على طبقه بما أنّه طريق إلى المتيقن، لا بما هو هو وأنّه صفة نفسانية في حدّ ذاتها... وعلى ذلك فإن كان متعلّق اليقين غير محدود في عمود الزمان بغاية، فلا محالة يكون تعلّق اليقين به مقتضياً للجري العملي على طبقه على الإطلاق، ولا موجب لرفع اليد عنه حينئذٍ إلاّ الشك في الرافع، فيصدق عليه نقض اليقين بالشك حسب الجري العملي، وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل احتمل كون المتيقن مغيىً بغاية، فلا محالة يكون مقدار المتيقن هو ما قبل الغاية المحتملة غائيته، وبالنسبة إلى ما بعدها لا مقتضي للجري العملي من أوّل الأمر، فعدم الجري بعدها ليس مستنداً إلاّ إلى قصور المقتضي وانتقاض اليقين بنفسه بحيث لو فرضنا عدم

ص: 81


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 377-378.

الشك فعلاً لم يكن هناك مقتضٍ للجري»(1).

وحاصله: أنّ مقتضي المتيقن هو مقتضٍ لليقين، فيكون بقاؤه كأنّه بقاء لليقين أيضاً فلا ينقض بالشك، بخلاف موارد الشك في أصل وجود المقتضي لبقاء المتيقن.

وأشكل عليه(2) بما حاصله: إنّ مقتضي اليقين هو إحراز العلة التامة لحدوثه - من المقتضي والشرط وعدم المانع - وفقدان أيّ واحد منها يؤدي إلى عدم اليقين بالمقتضى، فليس مقتضي المتيقن مقتضٍ لليقين.

إشكال على التفصيل

ثم إن المحقق العراقي(3)

أشكل على التفصيل باستلزامه لسد باب الاستصحاب في الأحكام التكليفية بما حاصله: أنّه بعد تبعية التكاليف للمصالح والملاكات الكائنة في متعلقاتها لا يكاد مورد يشك فيه في بقاء الحكم الشرعي إلاّ ويشك في ثبوت الملاك الذي اقتضى حدوثه، وذلك لأنّ ملاكات الأحكام التكليفية كما أنّها مقتضيات لحدوثها كذلك هي مقتضيات لبقائها عكس ملاكات الأحكام الوضعية حيث إنّها علة للحدوث فقط، وعليه فالشك في الأحكام التكليفية مرجعه إلى الشك في وجود المقتضي - وهو الملاك - دائماً.

وليس مقصوده تفسير المقتضي بالملاك، كي يقال: بأنّ المراد من

ص: 82


1- أجود التقريرات 4: 69.
2- بحوث في علم الأصول 6: 162.
3- نهاية الأفكار 4[ق1]: 85-86.

المقتضي هو قابلية الاستمرار وليس الملاك، بل مقصوده بيان أنّه مع عدم وجود الملاك لا قابلية لاستمرار الحكم فالشك فيه يكون شكاً في قابليته للاستمرار.

والحاصل: أنّه لم يقم دليل على اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع، مع إطلاق دليله وشموله للشك في المقتضي أيضاً.

ولو فرض اختصاص الأحاديث التي اشتملت على كلمة النقض بالشك في الرافع ففي الأحاديث الأخرى كفاية مع اعتبار سندها ووضوح دلالتها، كما مرّ.

ص: 83

فصل في الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكليّة

اشارة

ومنشأ الشبهة فيها إمّا فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين، ورفع هذه الشبهات بيد الشارع حصراً، وحيث إنّ هذا استنباط الحكم أو تعيين الوظيفة العملية فلذا لا بدّ فيه من الرجوع إلى الفقهاء حصراً، وليس كالشبهات الموضوعية التي تنشأ من الشك في انطباق الموضوع المعلوم المعالم على جزئياته، أو الشبهات الحكمية الجزئية التي مرجعها إلى الشك في الموضوع الجزئي مع عدم الشبهة في الحكم الكلي، فإن رفع الشبهة فيهما من وظيفة المقلّد لا الفقيه بما هو فقيه، كانطباق العدالة على زيد لمن يريد الصلاة خلفه، أو طهارة الماء المشكوك طهارته للشك في كونه كراً، أو للشك في ملاقاته للنجاسة ونحو ذلك.

ثم إنّ الظاهر جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة، واستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه، وذلك لوجود المقتضي للاستصحاب وهو إطلاق دليله، وعدم وجود مانع يقتضي تقييد ذلك الإطلاق.

وأمّا القائلون بعدم جريان الاستصحاب فيها فاستدلوا تارة بعدم المقتضي، وأخرى بوجود المانع، فالكلام في مقامين:

ص: 84

المقام الأوّل: عدم وجود المقتضي

وقد استدل له في نهايه الأفكار: ب- «إنّ الشك في بقاء الحكم الكلي لأجل اختلاف الحالات وتبادلها راجع إلى الشك في بقاء موضوعه، لأنّ موضوع الأحكام الكليّة إنّما هو المفاهيم الكلية، وباختلاف القيود وتبادل الحالات يختلف المفهوم المأخوذ موضوعاً للحكم بعين اختلافه في مرحلة كونه معروضاً للحسن والقبح والمصلحة والمفسدة، فإذا شك في بقاء الحكم الكلي إمّا للشك في بقاء القيد المعلوم قيديته، أو لفقد ما يشك في قيديته أو لغير ذلك، يرجع هذا الشك لا محالة إلى الشك في بقاء موضوعه فلا يجري فيه الاستصحاب»(1).

وحاصله: عدم إمكان الشك في بقاء الحكم بدون تبدلٍ ما في الموضوع، إذ مع عدم التبدل لا يحصل شك، فيستمر الحكم من غير إشكال، وعليه فإن كان ما تبدّل قيداً فقد تبدّل الموضوع، فيكون الاستصحاب من إسراء حكم من موضوع إلى آخر، وإن لم يكن قيداً فلا، وحيث لا يعلم بالتبدل تكون شبهة في بقاء الموضوع، ومعها لا يصدق النقض فلا يجري دليل الاستصحاب على كل حال.

وأجاب عنه(2) بما حاصله: بالفرق بين قيود الحكم وقيود الموضوع، فإنّ مرجع كون الشيء إلى قيد الوجوب - مثلاً - إلى دخله بنحو العلية لأصل الاحتياج إلى الشيء الذي به يصير الشيء متصفاً بكونه ذات مصلحة

ص: 85


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 10.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 11.

كالزوال والاستطاعة بالنسبة إلى الصلاة والحج، في قبال قيود الواجب الراجعة إلى دخلها في تحقق المحتاج إليه ووجود ما هو المتصف بالمصلحة فارغاً عن الاتصاف بكونه صلاحاً كالطهور والستر بالنسبة إلى الصلاة، ومن الواضح عدم صلاحية رجوع مثل هذه القيود في لب الإرادة إلى الذات المعروضة للمصلحة، لأنّ كون الشيء من الجهات التعليلية للحكم ومن علل اتصاف الشيء بكونه ذات مصلحة - وإن كان موجباً لضيق قهري في طرف الحكم والمصلحة ويمنع عن إطلاقهما، ويستتبع ذلك أيضاً نحو ضيق فرضي في طرف الذات التي هي معروض هذه المصلحة - لكن لا يكاد يقيد به الذات، لأنّه من المستحيل تقييد الموضوع بحكمه أو بما هو من علله.

والحاصل: أنّ الموضوع غير مقيد بها وإنّما هو حصة من الذات التوأمة مع الحكم على نحو القضية الحينيّة، وهذا وإن أوجب تعدد الموضوع بالدقة العقلية، لكن لا يلزم إلاّ الوحدة العرفية، وهي منحفظة مع وحدة الذات حتى مع تغيّر بعض الأعراض، ولولا ذلك لما كان هناك ولا مورد للاستصحاب ولزم انطباق الأدلة على قاعدة اليقين فقط. فتأمل.

المقام الثاني: في وجود المانع

وهو تعارض استصحاب المجعول - وهو الحكم الكلي - مع استصحاب عدم الجعل، ولا مرجح في البين، فيتساقطان.

مثلاً: الكر الذي تغيّر بالنجاسة ثم زال تغيّره بنفسه يشك في طهارته ونجاسته، فمقتضى النجاسة المجعولة في زمان التغيّر هو استصحابها بعد زوال التغيّر، ومقتضى عدم جعل النجاسة قبل الشريعة - لا في المتغيّر ولا

ص: 86

في ما زال تغيّره ثم جعلت في المتغيّر ولم يعلم بجعلها في ما زال تغيّره - هو استصحاب عدم جعلها في ما زال تغيّره.

وذلك لوجود يقينين وشكين، يقين بعدم جعل النجاسة لهذه الحصة - وهي ما زال تغيّره - قبل الشريعة، وشك في جعلها بعد الشريعة، ويقين آخر بالمجعول وهو النجاسة للحصة المتغيّرة، وشك في بقائها بعد زوال التغيّر، وأركان الاستصحاب تامة في كليهما، فيتعارضان.

وغير خفي أنّ استصحاب عدم الجعل إنّما يجري في ما لو كان الزمان ظرفاً مع وحدة الموضوع عرفاً كالماء في المثال، وأمّا لو كان مفرداً فلا مجال للاستصحاب وذلك لتبدل الموضوع.

وقد أشكل على هذا التعارض بإشكالات منها:

الإشكال الأوّل: اتحاد الجعل والمجعول، فلا يوجد استصحابان ليتعارضا، قال المحقق العراقي: «إنّ الجعل والمجعول نظير الإيجاد والوجود ليسا إلاّ حقيقة واحدة، وأنّ التغاير بينهما إنّما هو بصرف الاعتبار... وعلى فرض تغايرهما بحسب الحقيقة نقول: إنّ شدة التلازم بينهما لما كانت بمثابة لا يرى العرف تفكيكاً بينهما حتى في مقام التعبد والتنزيل، بحيث يرى التعبد بأحدهما تعبداً بالآخر، نظير المتضايفين كالأبوة والبنوة، فلا قصور في استصحابه»(1).

وفيه: إنّ القائل يرى أنّ هناك موضوعين كل واحد منهما قابل للجعل، وقد جعل أحدهما ولم يعلم جعل الآخر، فحتى لو قلنا باتحاد الجعل

ص: 87


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 161.

والمجعول لم ينفع ذلك لرفع التعارض، ففي الماء المتغيّر جعل ومجعول، وفي الماء الزائل تغيّره عدم جعل وعدم مجعول، هذا مع قطع النظر عن البحث المبنائي في أنّ المجعول بالإنشاء هل هو الحكم أو شيء آخر، وسيأتي الكلام عنه قريباً.

الإشكال الثاني: عدم اختلاف الجعل والمجعول سعة وضيقاً، قال في المنتقى ما حاصله(1):

إنّه لا شك في أن المجعول يتسع باتساع متعلّقه ويضيق بضيقه، فلو كان المتعلق هو السفر يوماً فالمجعول أوسع ممّا لو كان المتعلق السفر نصف يوم، نظير الأعراض الخارجية التي تتسع باتساع المتعلّق كالبياض للجسم، ولكن هل الجعل كذلك؟ فلو كان يتسع ويضيق فمع الشك في امتداد المجعول في الزمان وسعته يشك في زيادة الجعل فيمكن استصحاب عدمه في نفسه، وأمّا إذا لم يكن يختلف سعة وضيقاً فلا شك حينئذٍ في زيادة الجعل لكي يستصحب، ووجود الجعل معلوم فلا معنى لاستصحاب عدمه، ومتعلّقه مشكوك لكن لإحالة سابقة له، فالأمر دائر بين ما هو معلوم الوجود، وبين ما لا حالة سابقة له.

وفيه: أنّ مدعى القائل هو التعدد في الجعل والمجعول، ولا فرق في ذلك بين قابلية الجعل للاتساع وعدمه، فجعل نجاسة الماء المتغيّر يختلف عن جعل نجاسة الماء الزائل تغيّره، هذا مضافاً إلى أنّ المباني في الإنشاء مختلفة وقد مرّ ذكرها(2)، والجعل على بعض هذه المباني قابل للسعة

ص: 88


1- منتقى الأصول 6: 85-86.
2- نبراس الأصول 1: 85-91.

والضيق تبعاً للمجعول فيه.

الإشكال الثالث: عدم وجود المقتضي لاستصحاب عدم الجعل، إذ لا يمكن تعلّق الاعتبار لا بالجعل ولا بعدمه، وذلك لأنّهما من الأمور التكوينية، والجعل وعدمه أفعال تكوينية تصدر من المولى باختياره، ولها وجود واقعي خارجاً، نعم الحكم الشرعي هو نتيجة هذا الأمر التكويني وهو أمر اعتباري فيمكن التعبد به عبر الاستصحاب أو غيره.

لا يقال: فكيف جرى استصحاب عدم النسخ، وهو استصحاب بقاء الجعل؟

لأنّه يقال: إنّه في حقيقته ليس باستصحاب بل هو تمسك بالإطلاق الأزماني للدليل، أو هو استصحاب للمجعول دون الجعل.

ويرد عليه: إنّه لا محذور في استصحاب الأمور التكوينية التي لها أثر شرعي كاستصحاب حياة الغائب لوجوب الإنفاق على زوجته مثلاً، وسيأتي البحث عنه.

الإشكال الرابع: عدم المقتضي لاستصحاب عدم الجعل وذلك لانفصال المتيقن عن المشكوك، ولا بدّ من اتصالهما حتى يصدق النقض المنهي عنه، إذ في حالة عدم الاتصال فالنقض حاصل ولا معنى للنهي عنه، فالمتيقن هو عدم جعل النجاسة في الأزل - مثلاً - والمشكوك هو عدم جعل النجاسة بعد زوال التغيّر، وقد انفصلا عبر جعل النجاسة للماء المتغير حين تغيّره.

وفيه: إنّه كما هناك اتصال في الحصة المجعولة، كذلك يوجد اتصال في الحصة غير المجعولة، فقبل الشرع لم يكن جعل للنجاسة - في المثال -

ص: 89

لاللماء المتغيّر ولا للماء الذي زال تغيّره، وعدم الجعل قد انتقض في الأوّل، ولم ينتقض في الثاني، فزمان المتيقن الذي هو عدم جعل نجاسة الماء الزائل تغيّره أزلاً متصل بزمان المشكوك الذي هو عدم جعل النجاسة للماء الزائل تغيّره بعد نزول الشريعة.

والحاصل: أنّ الذي انتقض هو وجود النجاسة فلا شك ولا مشكوك، وأمّا عدم جعل النجاسة للزائل تغيّره فهو لم ينتقض ولم ينفصل.

الإشكال الخامس: عدم جريان أحد الاستصحابين إمّا عدم الجعل وإمّا عدم المجعول، فلا تعارض في البين، بيانه: إنّه لا بدّ من وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة، فإن كانت الوحدة دقيّة فلا يجري استصحاب عدم المجعول، وإن كانت الوحدة عرفية كان العكس، وحيث إنّ المناط الوحدة العرفية فلا يجري استصحاب عدم الجعل، فالماء الزائل تغيّره يختلف عن الماء المتغيّر دقة لكنه هو هو عرفاً.

وفيه: أنّ استصحاب المجعول كما هو عرفي كذلك استصحاب عدم الجعل عرفي أيضاً، فحيث يقال للعرف إن الماء الزائل تغيّره لم يجعل له حكم في الأزل ثم نحن نشك في جعل الحكم له، رأى العرف أنّ الموضوع لعدم الجعل هو هو وأنّ القضيتين متحدتان، فتأمل.

الإشكال السادس: عدم جريان استصحاب عدم الجعل، إذ لا أثر له، فإنّ الأثر حاصل بالوجدان وذلك لعدم البيان، وعليه فتحصيله عبر التعبد بالاستصحاب من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، وعليه فيجري استصحاب المجعول لعدم المعارض له، لأنّ الأثر وهو تنجيز الواقع يتوقف على الاستصحاب فيه.

ص: 90

وفيه: إنّ البيان - سواء كان بإثبات الحكم أو بنفيه - يرفع موضوع القاعدة، واستصحاب عدم الجعل بيان رافع لها، وقد مرّ في بحث البراءة عدم كون ذلك من تحصيل الحاصل(1) فراجع، ولذا لم يكن محذور في الأدلة الشرعية النافية للتكليف سواء كانت أمارة أو أصلاً.

الإشكال السابع: ما ذكره المحقق النائيني(2) وحاصله: أنّ الآثار العقلية العملية - كوجوب الطاعة والتنجيز - إنّما تترتب على الحكم المجعول بفعلية موضوعه، وأمّا الجعل بنفسه فلا يترتب عليه الآثار العملية، فاستصحاب عدم الجعل لا أثر له إلاّ بواسطة عدم ثبوت المجعول به، إذ بعدم الجعل يثبت عدم المجعول وبذلك يترتب الأثر.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الأصل المثبت هو ما كان الأثر العقلي للوجود الواقعي للمستصحب، وأمّا إذا كان الأثر العقلي من آثار الحكم بنفسه - كوجوب الطاعة وتنجز الحكم - فلا إشكال في ترتبه عليه، إذ لا معنى للتعبد بحكم مع عدم ترتيب الآثار العقلية لذلك الحكم، كأن يقال: يجب هذا الشيء بالاستصحاب لكن لا تجب طاعته ولا يتنجز الحكم به!

وما نحن فيه كذلك حيث إنّ المجعول يترتب على نفس الجعل، فنفي الجعل ظاهراً يستتبع نفي المجعول.

وثانياً(3): بما حاصله: أنّ ما ذكره إنّما يتم في استصحاب الجعل

ص: 91


1- نبراس الأصول 4: 104-105.
2- فوائد الأصول 4: 182-184.
3- منتقى الأصول 6: 78-79.

لا استصحاب عدم الجعل، فإنّ الجعل في مرحلة الظاهر يلازم تحقق المجعول باعتبار أنّ الجعل يرجع إلى إنشاء الحكم والإنشاء لا ينفك عن المنشأ، فبثبوت الجعل ظاهراً تترتب آثار المجعول لتحققه به، لكن عدم الجعل في مرحلة الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهراً - كاستتباع عدم الجعل واقعاً لعدم المجعول واقعاً - وهذا لا يجدي في نفي آثار الواقع المحتمل ولا يستلزم تأميناً وتعذيراً عنه، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا على الظاهر، فلا بدّ من إثبات عدم المجعول واقعاً عبر التعبد الظاهري بعدم الجعل واقعاً، وذلك إنّما يكون بالملازمة العقلية للتلازم بين عدم الجعل وعدم المجعول، فيكون الأصل مثبتاً.

الإشكال الثامن: عدم صحة التعبد بعدم التكليف، لأنّه إن أريد عدم التكليف بنفسه فهو غير اختياري للمكلف، وإن أريد آثار التكليف فإنّ عدم وجوب الطاعة مثلاً تترتب على عدم التكليف من غير احتياج إلى التعبد به فيكون لغواً.

وببيان آخر(1):

إنّ اعتبار عدم التكليف والتعبد به إن كان ظاهرياً بمعنى عدم التكليف في مرحلة الظاهر - أي جعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي - كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع، فهذا مما لا يمكن، لأنّ التكليف الواقعي إن لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتيب الآثار من غير حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر، وإن كان له ثبوت فإن لم يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك فلا أثر لعدم الجعل، إذ غاية ما يراد

ص: 92


1- منتقى الأصول 6: 83-84.

به إثبات المعذورية، والمفروض أنّها ثابتة عقلاً مع قطع النظر عن عدم الجعل، وإمّا أن يترتب عليه أثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الإتيان بمتعلقه في ظرف الشك، امتنع جعل العدم، لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط نظيرموارد العلم الإجمالي.

وفيه: ما مرّ(1)

من أنّ العدم التشريعي قابل للجعل الشرعي، حيث إنّ عالم التشريع عالم الاعتبار، فيمكن فرض جعل العدم، مضافاً إلى أنّ الكلام هنا في البقاء الاعتباري لعدم التكليف، وهو مجعول شرعاً، وجعل عدم المنع ظاهراً مساوق لجعل الإباحة ظاهراً، وحينئذٍ لا احتمال للعقاب، حيث لا فرق بين الجعل الخاص الظاهري - أي جعل الترخيص في الشبهات التحريميّة والذي ينفي احتمال العقاب - ، وبين الجعل العام الظاهري بالاستصحاب، فراجع.

الإشكال التاسع: إنّ استصحاب عدم الجعل معارض بمثله فيتساقطان، فيبقى استصحاب المجعول من غير معارض. وذلك في ما لو كان للمجعول ضد مجعول أيضاً كالطهارة والنجاسة، فاستصحاب عدم جعل النجاسة يتعارض مع استصحاب عدم جعل الطهارة.

والجواب: أوّلاً: بعدم تنافي استصحابي عدم الجعل على بعض المباني حيث المقتضي لجريانه موجود وهو إطلاق دليله والمانع مفقود لأنّ المانع إمّا في التعبد بالضدين، ولا يلزم من عدم الجعل ذلك إذ لا تضاد بين عدم النجاسة وعدم الطهارة ولا محذور في خلو الواقعة عن الحكم، وإمّا في

ص: 93


1- نبراس الأصول 4: 104-105.

الامتثال، ولكن حيث لا حكم لا موضوع للامتثال، وإمّا في الترخيص في المعصية لكن لا مخالفة عملية في التعبد بعدم النجاسة وعدم الطهارة مثلاً، وإمّا في إخبار الفقيه بعدمهما مع العلم الإجمالي ببطلان أحد العدمين، ولكن إن ثبت هذا كان مقيداً لإطلاق دليل الاستصحاب لا رفع اليد عنه بالمرّة، وقد مرّ تفصيل الكلام، فراجع.

وثانياً: بأنّ استصحابي عدم الجعل واستصحاب المجعول كلها في عرض واحد فتتعارض جميعاً وتتساقط، فتأمل.

تكملة: قد يفصل بين الأحكام الإلزامية وبين الأحكام الترخيصية، فالتعارض - في استصحاب المجعول وعدم الجعل - في الأوّل دون الثاني حيث يجري فيه استصحاب المجعول دون استصحاب عدم الجعل.

وقد يستدل لذلك: بأنّ الأشياء على الحلّ والإباحة، والشريعة إنّما هي لبيان الأحكام الإلزامية، وبأن قوله (علیه السلام): «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1) وقوله (علیه السلام): «اسكتوا عما سكت الله»(2) يرفع الشك فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل إذ لا يشك في الجعل، وأمّا الإلزامية فهي مجعولة فتعارض عدم الجعل.

وفيه: أوّلاً: إنّ الدليل أخص من المدعى حيث إنّ المستحبات والمكروهات غير إلزامية مع كونها مجعولة قطعاً.

وثانياً: بأنّ الحديثين من أدلة البراءة - فهما يدلان على الحكم الظاهري

ص: 94


1- الكافي 1: 126؛ عنه وسائل الشيعة 27: 163.
2- عوالي اللئالي 3: 166.

والكلام في استصحاب عدم جعل الحكم الواقعي المعارض مع استصحاب المجعول.

وثالثاً: ما في المنتقى(1)

وحاصله: بأنّه إمّا نلتزم بأنّ الإباحة ليست من الأحكام المجعولة - حيث إنّ الأثر العملي العقلي المقصود يترتب على مجرد عدم الإلزام بأحد الطرفين فيكون جعلها لغواً - فهنا لا مجال لاستصحاب عدم الجعل إذ لا شك في عدم الجعل، كما لا مجال لاستصحاب المجعول - وهو الإباحة - لعدم تعلق جعل بها كي تستصحب، وحينئذٍ المرجع إمّا استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي، أو المرجع البراءة.

وإمّا نلتزم بتعلق الجعل بالإباحة، وحينئذٍ لا مانع من جريان استصحاب عدم الجعل، ومعارضته لاستصحاب بقاء الإباحة، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة يكون جعلها حادثاً - سواء حدوثاً في هذه الشريعة أم قبلها - .

ولا فرق في ذلك بين استصحاب الحليّة أو استصحاب الطهارة من الخبث أو من الحدث.

ص: 95


1- منتقى الأصول 6: 89.

فصل في استصحاب الأحكام التكليفية والوضعية

اشارة

فقد قيل بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني، وقد قيل بالعكس، وقد قيل بجريانه فيهما، فلا بدّ أوّلاً من بيان حقيقتهما وأقسامهما لنرى إمكان جريان الاستصحاب فيهما وشمول الإطلاق لهما أم لا، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في الأحكام التكليفية

والحكم التكليفي هو الإرادة التشريعية المتعلّقة بفعل الغير، بمعنى أنّ المولى جل وعلا يُنشأ الحكم بغرض إمكان إيجاد الداعي في نفس المكلف في غير الإباحة، وأمّا فيها فبغرض بيان تساوي الفعل والترك عنده، وعلى هذا فلا تنفك الإرادة عن المراد التشريعي أبداً، وذلك لأنّ المراد ليس صدور الفعل عن المكلف اختياراً كي يلزم الانفكاك، وإنّما المراد هو إنشاء الحكم وهو حاصل سواء أطاع العبد أم عصى، وقد مرّ شطر من الكلام في بحث الطلب والإرادة(1).

وبذلك يتبيّن أنّ الأحكام مجعولة للشارع بما هو شارع وليست أموراً تكوينية.

لكن ذهب المحقق العراقي إلى أنّ الأحكام التكليفية غير مجعولة تشريعاً وإنّما مجعولة تكويناً، قال: «فإنّ الحقائق الجعلية عبارة عن اعتبارات متقومة

ص: 96


1- نبراس الأصول 1: 263-264.

بالإنشاء الناشء عن قصد التوصل به إلى حقائقها على نحو يكون القصد والإنشاء واسطة في ثبوتها من قبيل العلة التامة لتحققها بحيث لولا القصد والإنشاء لما كان لها تحقق في وعاء الاعتبار المناسب لها... بعد ما عرفت ذلك نقول: إنّ من المعلوم عدم تصور الجعلية بالمعنى المزبور في الأحكام التكليفية في شيء من مراتبها، 1- أمّا بالنسبة إلى مرحلة المصلحة والعلم بها فظاهر، 2- وأمّا بالنسبة إلى لب الإرادة - التي هي روح التكليف - فلأنّها من الكيفيات النفسانية التابعة للعلم بالمصلحة في الشيء بلا مزاحم لمفسدة أخرى فيه أو في لازمه فلا ترتبط بالإنشائيات، 3- وهكذا الأمر بالإضافة إلى الإنشاء المبرز للإرادة فإنّه أمر واقعي وكان من مقولة الفعل الخارج عن الاعتبارات الجعلية، 4- فلا يبقى حينئذٍ إلاّ مرحلة الإيجاب والبعث واللزوم ونحوهما من العناوين المنتزعة من إبراز الإرادة بالإنشاء القولي أو الفعلي، وهذه أيضاً غير مرتبطة بالجعليات المتقومة بالإنشاء والقصد، لأنّها اعتبارات انتزاعية من مرحلة إبراز الإرادة الخارجية حيث ينتزع العقل كل واحدة منها من الإنشاء المظهر للإرادة بعنايات خاصة...»(1).

وفيه: أنّ المُنشأ - كالوجوب والحرمة - هو أمر اعتباري قابل للجعل بما يناسبه، فهو ليس أمراً تكوينياً ولا انتزاعياً، وبعد الإمكان فلا داعي لتأويل ظواهر الكتاب والسنة الدالة على جعل الحليّة والحرمة كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...}(2)

وقوله سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ

ص: 97


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 88-89.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

الْأَنْعَٰمِ...}(1)

فتأمل.

المقام الثاني: في الأحكام الوضعية

وهي كل ما جعله الشارع - بما هو شارع - ولم يكن تكليفاً، وهو إمّا مجعول شرعاً بالاستقلال، أو منتزع مما هو مجعول، أو يترتب على ما هو مجعول.

ثم إنّ المحقق الخراساني قال في الكفاية: «والتحقيق أنّ ما عُدّ من الوضع على أنحاء، منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك، ومنها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعاً للتكليف، ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه وجعله، وتبعاً للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله وكون التكليف من آثاره وأحكامه»(2).

فالأوّل: هو ما يرتبط بالتكليف كسببيّة الزوال لوجوب صلاة الظهر، وشرطية البلوغ للتكليف، ومانعيّة الحيض قبل الوقت، وقاطعية الحيض بعد الوقت.

والثاني: هو ما يرتبط بالمكلّف به، كشرطية الوضوء للصلاة، وجزئية السورة لها، ومانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه عنها، وقاطعية الحدث لها.

والثالث: كل شيء اعتباري له أثر شرعاً ولم يكن في تكليف ولا مكلّف

ص: 98


1- سورة المائدة، الآية: 1.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 25.

به، حيث يمكن جعل الأثر أوّلاً ثم انتزاعها منه، أو جعلها أوّلاً ثم ترتيب الأثر عليه، كالملكية والزوجية والحجيّة ونحوها، مثلاً: يمكن جعل الحجيّة أوّلاً ثم تفريع وجوب العمل طبقها، كما يمكن الأمر بالعمل بها ثم انتزاع الحجيّة من الأمر.

أمّا القسم الأوّل وهو شرائط التكليف:

فقد يستدل على استحالة جعلها بأمور، منها:

الدليل الأوّل - وهو خاص باستحالة التبعية -: وحاصله: أنّ جعل التابع متفرع على جعل المتبوع، ولا يعقل تقدّمه عليه، وهذه أسباب التكليف فلا تكون متأخرة عنه.

الدليل الثاني: إنّها أمور واقعية وليست اعتبارية فلا يعقل تعلق التشريع بها، إذ لو لم تكن رابطة تكوينية بين التكليف وشرطه ومانعه وقاطعه فلا معنى لاعتبارها مع ضرورة تبعية الجعل للمصلحة، وإن كانت رابطة تكوينية فيكون جعلها من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، نعم يمكن جعل ذات الشيء تكويناً والذي يتبعه جعلها تكويناً تبعاً، هذا في استحالة جعلها تشريعاً استقلالاً أو تبعاً.

ويرد على الأوّل: ما ذكره المحقق الإصفهاني قال: «المتأخر بالذات ذات المعلول عن ذات العلة، أمّا عنوان العِليّة والمعلولية فهما متضايفان، ولا عِليّة بين المتضايفين، وعنوان العِلية لا ينتزع عن المعلول، ولا عن ترتبه على ذات العلة، بل عنوان العِليّة ينتزع عن ذات العلة إذا بلغت بحيث يكون المعلول ضروري الوجود بها، وعنوان المعلولية ينتزع عن ذات المعلول إذا كان بحيث يكون ضروري الوجود بالعلة، ولا فرق بين ما إذا كان المعلول

ص: 99

من الأمور التكوينية المحضة أو من الأمور التشريعيّة... غاية الأمر أنّ العليّة والمعلوليّة في مرحلة الجعل التشريعي اقتضائيان، وفي مرحلة تحقق السبب والمسبب فعليان، وقد عرفت أنّ التقدم والتأخر بملاك العلية والمعلولية بين ذاتي العلة والمعلول لا تنافي المعية بملاك التضايف بين عنوان العليّة والمعلولية»(1).

والحاصل: قد حصل خلط بين السبب والسببيّة، فالمقدم على التكليف هو ذات السبب كالزوال، وأمّا السببيّة فهي متأخرة عن التكليف، والسببيّة والمسببيّة متضايفان، والمتضايفان متكافئان قوة وفعلاً ولا اختلاف بينهما رتبة، وحيث إن المسببيّة متأخرة عن تعلّق التكليف - لأنها تنتزع من إنشاء التكليف - ، كانت السببيّة كذلك، وهكذا في الشرط والشرطية، والقاطع والقاطعية، والمانع والمانعية.

إن قلت: الخصوصية التي جعلت السبب مؤثراً في المسبب منتزعة عن ذات السبب وموجودة بوجوده فلا تنتزع عن التكليف.

قلت: إنّ السببيّة ليست هي الخصوصية لكن الشارع جعل التكليف منوطاً بها، وعليه فقد انتزعت السببيّة من الحكم المنوط بالسبب، فتأمل.

ويرد على الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قال: «لا ننكر أنّ في الدلوك والعقد خصوصية ذاتية تكوينية اقتضت تشريع الوجوب وإمضاء الملكية، إلاّ أنّ تلك الخصوصية إنّما تكون سبباً لنفس التشريع والإمضاء، لأنّه لا يخلو التشريع والإمضاء عن الداعي الذي يتوقف عليه كل فعل اختياري،

ص: 100


1- نهاية الدراية 5: 105.

ولكن ليس هذا محلّ الكلام في المقام، بل محلّ الكلام إنّما هو سبب المجعول والممضى وهو نفس الوجوب والملكية، ومن المعلوم أنّ سببيّة الدلوك والعقد للوجوب والملكية إنّما تنتزع من ترتب الوجوب والملكية على الدلوك والعقد، إذ لولا أخذ الدلوك والعقد موضوعاً للوجوب والملكية لم يكن الدلوك والعقد سبباً لهما. وبالجملة: دواعي الجعل غير موضوعات التكاليف، فإنّ دواعي الجعل متأخرة في الوجود عن المجعول، متقدمة عنه في اللحاظ، أمّا موضوعات التكاليف: فهي متقدمة عنها في الوجود، لأنّ نسبة الموضوع إلى التكليف نسبة العلة إلى المعلول، ولا يمكن أن يتقدّم الحكم عمّا أخذ موضوعاً له، وإلاّ يلزم الخلف والمناقضة»(1).

وحاصله كلامه: أنّ أسباب التكليف - التي صارت سبباً للإنشاء - أمور تكوينية غير قابلة للتشريع، وأمّا أسباب المجعول - أي سبب الوجوب مثلاً لا سبب تشريع الوجوب - فهي مجعولة، فلو لم يأخذ الشارع الدلوك سبباً للوجوب لما كان سبباً له.

فالملاكات والأغراض كلها علل للجعل في مرتبة إنشاء الأحكام، فهي متقدمة في اللحاظ، وأمّا أسباب المجعول فهي ليست الملاكات والأغراض، بل هي مما تترتب على المجعول.

وهكذا الأمر في الشرطية فالبلوغ سبب تكويني للمصلحة في إنشاء الشارع، وحين جعل التكاليف يشترطها الشارع بالبلوغ مع أنّه كان يمكنه عدم اشتراطها به إلاّ أنّه لحكمته اشترطها به، فكان تقييد التكليف به مجعول

ص: 101


1- فوائد الأصول 4: 396.

للشارع.

وأمّا القسم الثاني وهو شرائط المكلّف به:

فإنّه من الواضح أنّه لا توجد شرطية إلاّ بعد التكليف، كالوضوء للصلاة، فمع إيجاب الصلاة يكون الوضوء شرطاً لها بتبع التكليف بها، أي إنّ شرطية الوضوء للصلاة - مثلاً - منتزعة عن إيجاب الصلاة مقيدة به، وجزئية السورة لها - مثلاً - منتزعة عن الأمر بالمركب، وهكذا في القاطعية والمانعية.

وأمّا القسم الثالث وهو الأمور الاعتبارية التي ليست في التكليف ولا المكلف به:

فالكلام فيها في مرحلة الثبوت والإثبات.

1- أمّا ثبوتاً: فقد يشكل بأنّ تعلّق الاعتبار - شرعاً وعقلائياً - بشيء إنّما هو لأجل ترتب الآثار العقلائية أو الشرعية، وإلاّ كان الاعتبار لغواً، فحين اعتبار الملكية - مثلاً - عند تحقق سببها كعقد البيع إمّا أن يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية، أو لا يتعلق، فعلى الأوّل: لا حاجة إلى اعتبارها حيث أمكن تعلّق الاعتبار رأساً بالآثار التكليفية، وعلى الثاني: يلزم أن لا يترتب أيّ أثر تكليفي، إذ الأحكام التكليفية لا تترتب قهراً من دون اعتبار، وعلى كل حال كان اعتبار الملكية لغواً!

وأجاب في المنتقى: «بأنّ الملكية ونحوها هي من المجعولات الإمضائية، وليس لدى العقلاء أحكام تكليفية - من وجوب وتحريم - بل ليس لديهم إلاّ الحكم بالحسن والقبح، وهما يتفرعان على الظلم وعدمه، والظلم لديهم هو التعدي على الحقوق الثابتة لديهم، وعليه فقبح التصرف

ص: 102

بالمال لديهم وحسنه يتفرعان على أن يكون التصرف تعدياً عن الحق وعدم كونه كذلك، وهذا يتوقف على اعتبار ملكية التصرف وعدمها، وكيف كان ليس لديهم اعتباران ومجعولان، بل لديهم اعتبار واحد يتعلّق بالملكية ويترتب عليه حكمهم بالحسن والقبح، واعتبارهم الملكية لأجل تحقيق موضوع التحسين والتقبيح، وأمّا الشارع فهو أقر العقلاء على اعتبار الملكية وليس لديه جعل جديد ورتّب على ذلك أحكاماً تكليفية - نسبتها إلى الملكية نسبة الحسن والقبح اللذين يحكم بهما العقلاء - فالملكية العقلائية التي أمضاها الشارع هي موضوع أحكامه التكليفية ودخيلة في تحققها، وفي مثل ذلك لا محذور من لغوية وغيرها»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الإمضاء إن لم يكن له أثر كان لغواً، وحيث قد رتّب الشارع أحكاماً فلا حاجة إلى إمضاء الملكية العقلائية - مثلاً - .

إلاّ أن يقال: إنّ إمضاء الملكية إنّما هو بالأصالة، وأمّا الأحكام المترتبة عليها فهي مجعولة بالتبع ولا لغوية في ذلك ليواطئ تشريعه طريقة العقلاء في جعل الموضوع ليترتب عليه الحكم.

أو يقال: إنّ للعقلاء أحكاماً بما هم موالي، فقد جعلوا الموضوع ليترتب عليه تلك الأحكام، فأمضاهم الشارع على كلا الأمرين - وإن كان يمكن الاستغناء عن جعل الموضوع - لئلا يكون مخالفاً لطريقتهم، فتأمل.

2- وأمّا إثباتاً: فقد ذهب الشيخ الأعظم(2) إلى أنّ الأمور الوضعية

ص: 103


1- منتقى الأصول 6: 148.
2- فرائد الأصول 3: 126-129.

منتزعة عن الأحكام التكليفية، بل قد تنتزع حتى لو لم يكن التكليف فعلياً كضمان الصبي إذا أتلف مال الغير، واستدل لذلك بالوجدان، كما لو قال المولى: (إن جاءك زيد فأكرمه) حيث لا نرى إنشائين، بل إنشاء واحد هو وجوب الإكرام عند المجيء، وينتزع منه شرطية المجيء.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الخطاب قد لا يكون متضمناً لتكليف كي ينتزع عنه الوضع، كقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...}(1)

الآية، فإنّ المنشأ هو الاختصاص المطلق المدلول عليه باللام وهو الملكية.

وثانياً: ما استدل به من الوجدان قد يكون في بعض الموارد مما تدخل في القسم الأوّل أو الثاني، ولا يجري في مطلق الأمور الوضعية، كما مرّت بعض الأمثلة.

وثالثاً: ما قد يقال: بأنّه قد توجد أحكام وضعية من غير وجود تكليف في موردها، ومثّل له المحقق النائيني بقوله: «فإنّ الحجيّة والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجيّة منه»(2)

وأيّده المحقق العراقي بقوله: «ما أفيد كذلك في الحجيّة بمعنى الوسطية للإثبات، وإلاّ فبمعنى المنجزية والمعذرية فلا محيص من انتزاعها من التكليف»(3).

ص: 104


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- فوائد الأصول 4: 387.
3- فوائد الأصول 4: 387 (الهامش).

وأجيب: بعدم وجود وضع من غير تكليف، فالحجج والطرق المجعولة في موردها تكاليف، مثلاً حجيّة الخبر الواحد إن كان دليله آية النبأ فالتكليف هو عدم وجوب التبين عند مجيء العادل بالنبأ، وإن كان دليله الأخبار فالتكليف هو أخذ معالم الدين من الثقة مثلاً.

ثم إنه يمكن أن يستدل على جعل الأحكام الوضعية بالاستقلال بأمور:

1- منها: أنّه لا وجه لتأويل كلام الشارع الظاهر في جعلها استقلالاً بعد إمكان ذلك ثبوتاً، كما في قوله (علیه السلام): «فقد جعلته عليكم حاكماً»(1)، وكقوله (علیه السلام): «الماء كله طاهر»(2)

ونحو ذلك.

2- ومنها: أنّ المتعاقدين يقصدان إنشاء الزوجية أو الملكية مثلاً مع الغفلة عن الأحكام التكليفية المترتبة عليهما، فلولا جعل الأمر الوضعي لزم محذور ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّهما قصدا العقد، والشارع رتب على إنشائهما أحكامه التي ينتزع منها الزوجية والملكية، ولا يضر قصد ما جعله الشارع سبباً لأحكامه حتى مع الغفلة عن قصد تلك الأحكام، فتأمل.

3- ومنها: أنّ مثل قوله (علیه السلام): «ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه»(3) قد جعل الموضوع فيه مال المرء المسلم وترتب عليه الحكم بعدم حليّة التصرف، فلو كان «مال امرئ...» منتزعاً من «لا يحل» لزم انتزاع الموضوع من الحكم

ص: 105


1- الكافي 1: 54؛ عنه وسائل الشيعة 27: 136.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 9؛ عنه وسائل الشيعة 1: 134.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 68؛ عنه وسائل الشيعة 29: 10.

وهو يقتضي تأخر الموضوع مع كون الموضوع في رتبة سابقة عن الحكم، وهو محال، إلاّ بتأويل النص بما لا حاجة له.

4- ومنها: عدم انتزاع الملكية والزوجية مثلاً مع وجود إباحة التصرف وجواز الوطي في الأمة المحلَّلة.

إلاّ أن يقال: إنّ منشأ الانتزاع مجموعة من الأحكام لا بعضها، فيتم النقض بمثل الحجر على المفلّس مع أنّه مالك ونحو ذلك.

5- هذا مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الأمور الوضعية إمضائية، وعلم بأنّه لا طريقة أخرى للشارع فيها، إلاّ بعض التقييد أو التوسعة.

ومن ذلك كلّه يتبيّن أنه لا محذور - ثبوتاً وإثباتاً - في استصحاب الأحكام التكليفية أو الوضعية، مع شمول إطلاق دليل الاستصحاب لها.

تتمة: في بعض مصاديق الأحكام الوضعية

المصداق الأوّل: الطهارة والنجاسة

1- قد يقال: إنّهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع.

وأشكل عليه: أوّلاً: ما في الفوائد(1)

وحاصله: أنه في باب الطهارة والنجاسة أمور ثلاثة:

الأوّل: مفهوم الطهارة والنجاسة، فهو كسائر المفاهيم العرفية والاعتبارات العقلائية، كالملكية والزوجية والرقية.

الثاني: المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم وهو المعروض للطهارة

ص: 106


1- فوائد الأصول 4: 402.

والنجاسة، مثل الماء والبول، كمصاديق الملكية والزوجية، نعم تطبيق المفهوم على المصداق تارة مما يدركه العرف، وأخرى لا يدركه إلاّ العالم بالواقعيات.

الثالث: حكم الشارع بجواز استعمال الطاهر وحرمة استعمال النجس، فحكمه ليس إلاّ كحكمه بجواز التصرف في الملك وحرمة أكل المال بالباطل، فظهر أنّه لا فرق بين الطهارة والنجاسة وبين سائر الاعتبارات العرفية، وعليه فإنّ الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعية وليسا من الأمور الواقعية.

وفيه: أنّ الفارق بين الأمور الوضعية والواقعية ليس ما ذكر، إذ يمكن جريان هذه الثلاثة في الأمور الواقعية كالإنسان فله مفهوم كسائر المفاهيم - سواء كانت لأمور حقيقية أم اعتبارية - وله مصاديق ينطبق عليها، وله أحكام شرعية يكون موضوعاً لها، وإنّما الفارق في أنّ الأمور الواقعية لها وجود مع قطع النظر عن المعتبرِ عكس الأمور الوضعية التي لا بدّ فيها من معتبر.

وثانياً: بأنّ ما ذكر لم يقم عليه برهان إثباتاً، بل قد يخالفه الوجدان في مثل ولد الكافر قبل إسلام الأب وبعد إسلامه.

وكأنّ الذهاب إلى كونهما أمرين واقعيين نشأ من إدراك قذارة مثل البول تكويناً ونظافة مثل الماء تكويناً، وإن كان بين النجاسة والقذارة عموم من وجه، وكذا بين الطهارة والنظافة.

2- وقد يقال: بما في نهاية الأفكار(1) وحاصله: أنهما قسمان، فالنظافة والقذارة المحسوسة من الأمور الخارجية التي يدركها العرف والعقلاء، وأمّا

ص: 107


1- نهاية الأفكار 4 [ق1]: 98-99.

إذا لم يكن في البين جهة محسوسة كنجاسة الخمر والكافر فيمكن ترجيح كونهما من الاعتبارات الجعلية الراجعة إلى نحو ادعاء من الشارع بنجاسة ما يراه العرف طاهراً وبالعكس بلحاظ ما يرى من المناط المصحح لهذا الادعاء بحيث لو اطلع العرف عليه لرتبوا عليه آثار النجاسة، كما يشاهد نظيره في العرف حيث يرى عندهم بعض المصاديق الادعائية للطهارة والنجاسة، كاستقذارهم من أيدي غسال الموتى وأيدي من شغله تنظيف البالوعة وإباء طبعهم عن المؤاكلة مع هؤلاء من إناء واحد، فيمكن أن يكون حكم الشارع بنجاسة ما لا يراه العرف قذراً كالخمر والكافر ونحوهما من هذا القبيل فيكون مرجعه إلى نحو ادعاء من الشارع بقذارة ما يراه العرف طاهراً وبالعكس بلحاظ ما يرى منه من المناط المصحح لهذا الادعاء بحيث لو رآه العرف أيضاً لرتبوا عليه آثار قذارتهم من دون أن يكون المناط المزبور عين الطهارة والنجاسة الشرعية كي تكونان من الأمور الواقعية التي كشف الشارع عنها.

لا يقال: إنّ الادعاء لا بدّ أن يكون بلحاظ مناسبة بين شيئين كزيد والأسد، أو باعتبار ترتب الأثر كما في: «الطواف بالبيت صلاة»(1)

وليس كذلك في النجاسة، إذ ليس استقذار يد عامل الكنيف إلاّ لتداعي المعاني مع الإذعان بنظافته حين المؤاكلة، وليس مثل الكافر نجس من قبيل الحكومة.

فإنّه يقال: ليس الادعاء منحصراً في التشبيه أو الحكومة، بل قد يراد به

ص: 108


1- عوالي اللئالي 1: 214؛ عنه جامع أحاديث الشيعة 11: 330.

نتيجة الحكومة وإن لم يكن في لسان الدليل تنزيل شيء منزلة شيء آخر، وكأنّ هذا هو المراد هنا.

ولكن فيه: عدم إقامة برهان على ذلك إثباتاً بعد إمكانه ثبوتاً.

3- وقد يقال - وهو الأقرب -: أنّ النجاسة والطهارة أمران وضعيّان لكن المنشأ قد يكون قذارة محسوسة وقد يكون أموراً أخرى اعتبارية أو حقيقية، ويدل على ذلك عدم تفريق الأدلة بين أقسام النجاسات ورؤية المتشرعة كلّها بشكل واحد مما يكشف عن كونها من سنخ واحد، مع تفصيل الشارع في نجاسة القذارات مع أنّ بعض القذارات الطاهرة أقذر من بعض القذارات النجسة، فلعلّه تارة المصلحة في الابتعاد عن الكافر والخمر - مثلاً - فجعلت النجاسة، وتارة المصلحة في الابتعاد عن قذارة البول - مثلاً - فجعلت النجاسة، فتأمل.

المصداق الثاني: الصحة والفساد

وفيهما أقوال: وقد مرّ بعض الكلام في بحث الصحيح والأعم(1).

فإن قلنا بأنّ الصحة هي موافقة المأتي به للمأمور به أو للمجعول أو للممضى، والفساد عكس ذلك، أو قلنا بأنّهما ينتزعان عن مقام ترتيب الأثر وعدمه، كانا أمرين واقعيين انتزاعيين.

وأمّا لو قلنا بأنّهما نفس ترتيب الأثر من عدم القضاء والإعادة في العبادات ومن نقل الملك وجواز التصرف ونحو ذلك في المعاملات، كانا أمرين اعتباريين.

ص: 109


1- نبراس الأصول 1: 140-143.

وقد يقال: إنّ الصحة في مرحلة الطبيعة غير مجعولة، إذ العبادة أو المعاملة الواجدة للأجزاء والشرائط الفاقدة للقواطع والموانع صحيحة بمعنى أنّها تامة، وخلاف ذلك فاسدة بمعنى عدم تماميتها.

وأمّا في مرحلة المصاديق الخارجية فمع تنزيل الشارع الفاقد منزلة الواجد تكون الصحة جعلية، ومع عدم تنزيله كذلك تكون الصحة حقيقية، فتأمل.

المصداق الثالث: الحجيّة

وهي تطلق اصطلاحاً على ما يصلح للاحتجاج، وعلى الطريقية والكاشفية، وعلى المنجزية والمعذرية.

أمّا الأولى: ففي القطع غير مجعولة كما مرّ، وفي غيره لا محذور في جعلها ثبوتاً ودلّ الدليل على جعلها.

وأمّا الثانية: فطريقية القطع ذاتية غير مجعولة، وأمّا ما كان كشفه ناقصاً كالظن فيمكن تتميم الكشف فيه بإلغاء احتمال الخلاف، وأمّا ما لا يكون كاشفاً كأصالة البراءة فلا يعقل ذلك فيه.

وأمّا الثالثة: فغير مجعولة لأنّه مع البيان يحكم العقل بالمنجزية، ومع عدم البيان يحكم بالمعذرية، نعم الشارع قد يحقق الموضوع عبر البيان، ولا يعقل التنجيز من غير بيان وقد مرّ تفصيله في قاعدة قبح العقاب بلا بيان في بحث البراءة.

ص: 110

فصل في شروط الاستصحاب

الشرط الأوّل: فعلية اليقين والشك

اشارة

هل يجري الاستصحاب مع الغفلة بأن كان اليقين والشك تقديريين بحيث لو التفت تحقّقا، أم لا بدّ من فعليتهما بالالتفات إليهما؟

القول الأوّل: تعميم اليقين والشك وشمولهما للتقديريين، ويستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: لا موضوعية لهما في لسان الدليل، بل قد أخذا طريقاً، فمفاد الاستصحاب هو إبقاء ما ثبت، وبذلك تتم أركان الاستصحاب، وذلك لأنّ ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل إن كانت طريقيته ذاتية فالأصل هو عدم موضوعيته بما هو هو بل الموضوعية لمتعلّقه، وذلك لأنّ من يحصل له القطع غافل عن قطعه وإنّما كل نظره إلى متعلقه، عكس ما لم يكن كذلك فالأصل أخذه بما هو هو.

وفيه: إنّ قوله (علیه السلام): «لا تنقض» قرينة إرادة اليقين بما هو هو، إذ النهي عن الشيء لا يكون إلاّ مع الالتفات إليه، كما أن القابل للنقض هو اليقين دون المتعلّق إذا كان وجوداً خارجياً أو حكماً شرعياً.

الدليل الثاني: إنّ قوله (علیه السلام): «ولكن تنقضه بيقين آخر» يدل على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين سواء كان الشك فعلياً أم تقديرياً، وبعبارة

ص: 111

أخرى: في حال الغفلة لا يقين آخر له كي ينقض به يقينه الأوّل.

وفيه: إنّ ذلك من مفهوم اللقب الذي لا حجيّة له، ففي الحديث الأمر بنقض اليقين بيقين مثله وليس فيه بيان حالة نقض اليقين بغير اليقين، وإنّما الدال عليها هو قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» ولا شك في حالة الغفلة، والحاصل: أنّه لا دلالة على جريان الاستصحاب - في حالة الغفلة - لا عبر المقطع الأوّل ولا عبر المقطع الثاني.

القول الثاني: اشترط فعلية اليقين والشك وعدم الغفلة عنهما، واستدل له بأمور:

منها: إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية وبما هي هي ولم توضع للمعاني التقديرية، واستعماله في المعنى التقديري مجاز يحتاج إلى قرينة، فالغافل ليس بشاك كي يشمله الدليل، وبعبارة أخرى: إن الاستصحاب وظيفة الشاك بعد اليقين، والشك التقديري ليس بشك.

ومنها: إنّ النقض لا يعقل تعلّقه بطبيعة اليقين في مرحلة الجعل، لأنّ المفاهيم غير قابلة للنقض كما أنّه في مرحلة المجعول إذا لم يوجد يقين وشك فعليان لا معنى للنقض، وإنّما يتصور النقض حين فعليتهما.

ومنها: إنّ الغرض من جعل الأحكام الظاهرية هو التنجيز والتعذير، وهما يتوقفان على الوصول أي العلم، وعليه فلا حكم ظاهري مع الغفلة، عكس الأحكام الواقعية حيث إنّ الغرض منها ليس التنجيز والتعذير فلذا تكون فعلية حتى في ظرف الجهل بها، وإنّما بالعلم تتنجز.

وبعبارة أخرى: إنّ مرحلة الفعلية والتنجز في الأحكام الظاهرية واحدة،

ص: 112

فلا حكم ظاهري مع عدم التنجز. وحيث كان الاستصحاب حكماً ظاهرياً فمع الجهل والغفلة لا يجري لعدم تنجّزه حينئذٍ.

إن قلت: الحكم الواقعي أيضاً فعليته مرتبطة بالوصول، لأنّ الغرض منه هو جعل الداعي، ولا تمكن فعلية الداعوية إلاّ بالوصول.

قلت: هذا مبحث مبنائي وقد مرّ الكلام فيه، لكنّه لا يضرّ بهذا الدليل لأنّه لم ينف اتحاد مرحلة الفعلية والتنجز في الأحكام الظاهرية، بل أضاف إليها الأحكام الواقعية أيضاً، فتأمل.

نعم الغافل يمكنه إجراء الاستصحاب بعد زوال الغفلة والتنبه، إذ حينذاك تتم أركان الاستصحاب، إلاّ لو منع مانع عن جريانه كقاعدة الفراغ.

تكملتان
التكملة الأولى: في ثمرة البحث

قد يقال: إنّ الثمرة بين القولين تظهر فيمن تيقن الحدث ثم غفل وصلّى، ثم بعد الفراغ شك في أنّه هل تطهر قبل الصلاة أم لا؟ فعلي القول بكفاية الشك التقديري جرى استصحاب الحدث فدخل في الصلاة محدثاً فتكون صلاته باطلة ولا تجري حينئذٍ قاعدة الفراغ، وأمّا على القول باشتراط فعلية الشك فلا يجري الاستصحاب، وإنّما تجري قاعدة الفراغ فصلاته صحيحة.

ويرد عليه إشكالات منها:

الإشكال الأوّل: ما ذكره المحقق العراقي(1) وحاصله: صحة الصلاة على كلا القولين فإنّ الأصل لا يجري إلاّ مع كونه ذا أثر، واستصحاب

ص: 113


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 14-15.

الحدث لا أثر له مطلقاً لا قبل الصلاة حيث إنّ الأثر هو عدم جواز الدخول فيها والغفلة رافعة لهذا الأثر، ولا حينها حيث إنّ الأثر وجوب قطعها والغفلة رافعة لهذا الوجوب، ولا بعدها حيث إنّ الأثر الذي هو وجوب الإعادة محكوم بقاعدة الفراغ، وذلك لأنّ غاية ما اشترط في تحقق موضوع قاعدة الفراغ هو أن يكون الشك بعد الفراغ من العمل، وقد حصل.

وأجيب: بأنّ جريان الاستصحاب مع اليقين والشك التقديريين يستدعي جريان الاستصحاب حينئذٍ وعدم جريان قاعدة الفراغ، وإلاّ كان جعل الاستصحاب مع الشك التقديري لغواً من أساسه، فمع فرض جعله لا بدّ من عدم حكومة قاعدة الفراغ عليه بدلالة الاقتضاء!

أقول: هذا إذا انحصرت الثمرة في مثال الصلاة، وأمّا لو وجد يقين وشك تقديريّان في غير موارد قاعدة الفراغ فلا لغوية لجعل هذا الاستصحاب، اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه حين الالتفات يجري الاستصحاب على كلا القولين من غير مزاحم وذلك لفعلية اليقين والشك حين الالتفات، فلم تحصل ثمرة على هذا الاختلاف، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ الثمرة لا تتم على جميع مباني قاعدة الفراغ.

1- فإن قلنا: إنّها من الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع، وذلك لأصالة عدم الغفلة وأصالة عدم تفويت شيء عمداً لمن هو في مقام الامتثال، فهذا إنّما يتم في من لم يكن غافلاً حين العمل، وأمّا مع العلم بغفلته فلا تجري أصالة عدم الغفلة، وعليه لا تجري قاعدة الفراغ، وأمّا الاستصحاب فهو يجري مطلقاً أمّا على القول بكفاية الشك التقديري فواضح، وأمّا من اشتراط فعليته فإنّه بعد الالتفات يجريه من غير مزاحم ولا حاكم.

ص: 114

2- وإن قلنا بأنّها أصل تعبدي مقيّد بالأذكرية، فلا تجري القاعدة في مفروض الكلام، وذلك للعلم بغفلته حين العمل فلا معنى لكونه أذكر.

3- وإن قلنا بأنّها أصل تعبدي غير مقيد بالأذكرية وإنّما هي حكمة أي علة الجعل لا علة المجعول، فحينئذٍ تجري القاعدة حتى لو قلنا بكفاية الشك التقديري في الاستصحاب، وذلك لحكومة القاعدة على الاستصحاب، سواء كان الاستصحاب قبل الصلاة أم بعده.

وفيه: ثبوت الثمرة على المبنى الأوّل والثالث، لأنّ مبنى العقلاء هو عدم الاعتناء بالشك بعد العمل حتى لو كان مع الغفلة إذا لم تكن حجة على الخلاف، وعليه فمع جريان الاستصحاب مع الشك التقديري لا بناء لهم بالصحة ومع عدم جريانه يبنون على الصحة، وهكذا على مبنى التعبد مع عدم كون الأذكرية علة للمجعول، فمع الحجة لا مجال للقاعدة ومع عدمها تجري، والمفروض أنّه مع الاستصحاب في حالة الشك التقديري توجد الحجة فلا يبقى مجال للقاعدة، فتأمل.

التكملة الثانية: الغفلة بعد الاستصحاب

قال الشيخ الأعظم: «فالمتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق فشك جرى الاستصحاب في حقه، فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة، ولا تجري في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل، لأن مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل»(1).

ص: 115


1- فرائد الأصول 3: 25.

وأورد عليه: أوّلاً: إنّ الشك في ما نحن فيه حادث بعد الفراغ لا قبله، قال في المنتقى: «لأنّ موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة الناشء عن الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الأجزاء والشرائط، أي الشك في صحة العمل لا الشك في وجود الجزء أو الشرط، وعليه: فإذا التفت إلى أنّه محدث أو متطهر قبل العمل وأجرى الاستصحاب ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل، فهو في أثناء العمل ليس شاكاً في صحة العمل لغفلته، وشكّه الارتكازي حال الغفلة إنّما هو في حدثه وطهارته وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به، فإذا التفت بعد الفراغ فشكّه في صحة العمل شك حادث بعد العمل لا في أثنائه»(1).

وثانياً: إنّه لا شك بعد العمل في بطلان الصلاة، ومع عدم الشك لا مجرى لقاعدة الفراغ، وذلك لأنّه مع جريان استصحاب الحدث - مثلاً - يقطع بعد الالتفات بأنّه لم يؤدِّ وظيفته الفعلية فلم يكن المأتي به مطابقاً للمأمور به فيكون عمله باطلاً.

وفيه: إنّ اليقين السابق مع كونه حجة ذاتية لا يمنع من جريان قاعدة الفراغ لو غفل وصلّى في حالة الغفلة فعدم منع الاستصحاب عن جريانها لو غفل عن الاستصحاب وصلّى بطريق أولى، والحاصل: إنّه لا يعلم بمخالفته لوظيفته الفعلية حتى يقطع ببطلان عمله وعدم مطابقته للمأمور به.

وعليه: فالأقرب صحة الصلاة حينئذٍ إلاّ أن يثبت إجماع على بطلانها، فتأمل.

ص: 116


1- منتقى الأصول 6: 29.

الشرط الثاني: وجود الشك بالمعنى الأعم

لا يشترط في الاستصحاب الشك المنطقي - بتساوي الاحتمالين - بل يجري حتى مع الظن بالخلاف أو الوفاق، ويدل عليه أمور.

الدليل الأوّل: الشك لغةً وعرفاً عام يشمل الوهم والظن أيضاً، وليس ذلك مسامحة أو توسعة لمعنى الشك بل هو معناه الحقيقي، كما أنّه قد استعمل في بعض الروايات بالمعنى الأعم بحيث له ظهور بإرادته كقوله (علیه السلام): «متى ما شككت فخذ بالأكثر، فإذا سلمت فأتم ما ظننت أنّك قد نقصته»(1).

الدليل الثاني: دلالة روايات الاستصحاب بنفسها على المعنى الأعم كقوله في صحيحة زرارة الأولى: «ولكنه ينقضه بيقين آخر» حيث دلّ على أنّ الناقض لليقين الأوّل لا يكون إلاّ اليقين حصراً حيث كان (علیه السلام) في مقام التحديد، وكقوله (علیه السلام): «لا حتى يستيقن أنّه قد نام» حيث إنّ العادة قاضية بالظن بنوم من حُرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم، مضافاً إلى ترك الاستفصال في كلامه (علیه السلام) ، وكقوله (علیه السلام): «لا حتى يستيقن» فإنّ المغيّى هو: لا يعيد الوضوء، والغاية هي: حتى يستيقن، ثم استدل بقوله: «ولا ينقض اليقين بالشك» حيث إنّ ظاهره أنّه ما دام لم يستيقن بالنوم فلا تجب عليه إعادة الوضوء.

الدليل الثالث: الإجماع في كلام الشيخ الأعظم(2)، ببيان أنّ جميع من استدل بالأخبار اعتبر الشك أعم، ومن لم يستدل بها يذعن بأنّها لو كانت

ص: 117


1- من لا يحضره الفقيه 1: 225؛ عنه وسائل الشيعة 8: 212.
2- فرائد الأصول 3: 285.

الدليل لدلّت على الأعم - وهذا إجماع تعليقي - .

وفيه: عدم ثبوت الإجماع لعدم ذكر الكثيرين لهذه المسألة، بل البعض قال بحجيّة الاستصحاب لإفادته الظن الشخصي وهو لا يجتمع مع الظن بارتفاع المتيقن السابق، كما أنّ التعليقي غير حجة حكماً، غير معلوم موضوعاً.

الدليل الرابع: إنّ الظن إمّا منهي عنه شرعاً فوجوده كالعدم كالظن القياسي، وإمّا لم يقم الدليل على اعتباره فنشك في اعتباره وإطلاق قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» ينفيه.

وفيه: أنّ الدليل الناهي عن القياس ونحوه ينفي حجيّة ذلك الظن ولا يثبت ترتب آثار الشك عليه، كما أنّه لا بدّ من اتحاد متعلق اليقين والشك فلا يصح أن يكون متعلق اليقين الطهارة مثلاً، ومتعلق الشك هو اعتبار الظن.

اللّهم إلاّ أن يقال: «إنّ المراد من النهي عن نقض اليقين بالشك ليس هو النهي عن جعله مثبتاً للواقع وكاشفاً عنه بلا إشكال، بل المراد هو النهي عن ترتيب أثر الشك من الرجوع إلى البراءة العقلية أو النقلية أو الاحتياط، فإنّ هذا هو العمل الذي كان يرتكبه المفكِّك لولا جعل حجيّة الاستصحاب والنهي عن نقض اليقين بالشك، وحيث إنّ الموضوع لقبح العقاب وكذا الطهارة الظاهرية والحليّة الظاهرية والرفع وغيرها ما هو غير المعلوم، ولم نعثر على أصل كان موضوعه الشك بما هو شك فلا بدّ أن يكون دليل الاستصحاب ناظراً إلى آثار الشك باعتبار كونه من مصاديق ما لا يعلم، لا باعتبار كونه شكاً»(1)،

فتأمل.

ص: 118


1- رشحات الأصول 2: 344.

الشرط الثالث: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: لزوم اتحادهما في الموضوع والمحمول

1- أمّا بقاء الموضوع...

فلا يراد به بقاؤه خارجاً، إذ في استصحاب وجود الموضوع بنحو مفاد كان التامة يكون الشك في بقاء الموضوع، فيكون الموضوع الذات أي الماهية.

وأمّا مفاد كان الناقصة فإن كان الموضوع محرزاً والشك في بقاء الوصف فلا إشكال في جريان الاستصحاب لوجود مقتضيه وفقدان مانعه، وأمّا مع الشك في بقاء الموضوع بحيث لا يكون الموضوع محرزاً فلا محذور في استصحاب الموضوع والوصف معاً، كما لا محذور في استصحاب الوصف لوحده لتمامية أركان الاستصحاب.

إن قلت: إنّ نسبة المحمول إلى الموضوع نسبة العرض إلى الجوهر، فإذا لم يكن الموضوع محفوظاً في القضيتين لزم التعبد بوجود العرض بلا موضوع أو بانتقال العرض من موضوع إلى آخر، وكلاهما محال من غير فرق بين كون الشك في أصل الوجود مع كون الموضوع الذات وبين كون الموضوع الوجود والمحمول عوارض الوجود.

قلت: أجاب في الكفاية(1)

بما حاصله: أنّه لا يراد بالاستصحاب إثبات الوجود الخارجي للشيء، بل يراد التعبد ببقائه ليترتب عليه الآثار، والتعبد

ص: 119


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 177-178.

ببقاء العرض حتى مع تغيّر موضوعه ممكن، إذ لا يراد بالاستصحاب بقاء الشيء خارجاً بل يراد التعبد ببقائه لترتيب آثاره، وهو أمر اعتباري فلا محذور فيه، نعم لا تترتب الآثار التي تتوقف على الوجود الخارجي مع عدم استصحابه.

إن قلت: إنّه أصل مثبت فلو شك في عدالة زيد وفي بقائه، فاستصحاب العدالة لوحدها معناه وجود العرض من غير معروض، واستصحاب بقاء زيد مثبت حيث إنّ العدالة ليست من آثار وجوده.

قلت: إنّ الأثر يترتّب على الموضوع المركب فيمكن استصحابهما معاً، كما يمكن استصحاب بقاء العرض لوحده إذ لا مانع من التعبد بالعرض دون المعروض وإنّما المحال وجوده خارجاً من دونه.

2- وأمّا بقاء الحكم...

فتارة منشأ الشك هو احتمال النسخ، فحينئذٍ يجري الاستصحاب كما مرّ.

وتارة: منشأ الشك حدوث تغيير في الموضوع، فلا بدّ من إحراز الوحدة العرفية للموضوع لكي يجري الحكم كما سيأتي.

وتارة: منشأ الشك هو الشك في مفهوم الموضوع، كالشك في وجوب الإمساك في شهر رمضان بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية، فلا محذور في الاستصحاب في الموضوع وفي الحكم، كما سيأتي.

المقام الثاني: في مناط الاتحاد

هل هو الدقة العقلية أم الوحدة عرفاً أم الوحدة بحسب لسان الدليل؟

والكلام في مرحلتي الثبوت والإثبات.

ص: 120

أمّا ثبوتاً: فحسب الدقة العقلية لا يجري استصحاب الحكم إلاّ مع الشك في النسخ، وذلك لأنّه لا شك مع عدم تغيّر أي خصوصية من الخصوصيات في الموضوع، ومع تغيّرها يحصل الشك لكن العقل يحتمل دخل تلك الخصوصية في الحكم، وحينئذٍ لا إحراز لبقاء الموضوع، فيكون الاستصحاب حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لكن يجري الاستصحاب في بقاء الموضوع لتحقق الوحدة الدقية فمثلاً حياة زيد هي نفسها المتيقنة والمشكوكة.

وأمّا حسب لسان الدليل والنظرة العرفية فيجري الاستصحاب سواء في موارد الشك في الموضوع أم الحكم، وذلك في ما لم تكن الخصوصية المتغيرة مأخوذة في لسان الدليل ولم يكن العرف يراها مقومة، نعم لو أخذت في لسانه أو رآها العرف مقوماً فلا استصحاب.

وغير خفي الفرق بينهما إذ لسان الدليل يرتبط بالإرادة الاستعمالية، وأمّا النظرة العرفية فترتبط بالإرادة الجدية كالعنب والزبيب، فالعنب حسب لسان الدليل لا يشمل الزبيب، لكن حسب النظرة العرفية - عبر إلغاء الخصوصية أو فهم الملاك - يعتبران واحداً، وكما لو قال: (الماء المتغيّر بالنجاسة ينجس) أو قال: (الماء ينجس إذا تغيّر) مثلاً فلا فرق عرفاً، لكن حسب لسان الدليل (التغيّر) داخل في الموضوع في الأوّل وخارج عنه في الثاني.

وكثيراً ما يتفقان إمّا لكون المفهوم العرفي منحصراً في دائرة ظهور اللفظ، أو لوجود قرينة صارفة للّفظ عن معناه اللغوي إلى المعنى العرفي.

والحاصل: إنّ لسان الدليل مأخوذ من العرف أيضاً، لأنّه المرجع في الظهورات، لكن مع ذلك قد يفترق عن المتفاهم العرفي حسب مرتكزات

ص: 121

أذهان العرف.

وأمّا إثباتاً: فحيث إنّ دليل الاستصحاب ملقى إلى العرف، فلا بدّ أن يكون ما يفهمه هو المراد، إذ لو لم يرد الشارع ما يفهمه العرف لكان عليه البيان وإلاّ كان إغراءً بالجهل وإلقاء في المفسدة، وذلك ينزّه الشارع عنه.

الشرط الرابع: اتصال اليقين بالشك

فإنّه لا بدّ لصدق نقض اليقين بالشك من اتصالهما، وإلاّ فلا يصدق النقض سواء كان الفاصل علماً تفصيلياً كما لو تيقن الطهارة ثم تيقن النجاسة ثم شك، فلا إتصال بين اليقين بالطهارة مع الشك، فعدم الحكم بالطهارة ليس نقضاً ألبتّة، أم كان الفاصل علماً إجمالياً كما لو علم بطهارة الإناء الأوّل ثم علم بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين، ثم شك في طهارة الإناء الأوّل، فلا يجري استصحاب طهارته لأنّ الإناء المتنجس واقعاً إن كان الأوّل فقد انقطع اليقين بطهارته عن زمان الشك، وإن كان الإناء الآخر فلا انقطاع، وحينئذٍ فلم يحرز الاتصال، فلم يحرز كون الحكم بعدم الطهارة نقضاً، فيكون التمسك بدليل الاستصحاب تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

الشرط الخامس: بقاء اليقين بالحدوث

أي كون الشك متعلقاً بالبقاء مع استمرار اليقين بالحدوث، إذ لو تعلق الشك بالحدوث كان من قاعدة اليقين لا الاستصحاب، إذ الشك فيها ساري، والشك فيه طارئ.

عدم حجية قاعدة اليقين

ولا دليل على حجيّة قاعدة اليقين لأنّ الدليل إمّا إطلاق اليقين في أدلة

ص: 122

الاستصحاب أو أدلة أخرى، ولكن لا إطلاق ولا دليل آخر.

أمّا عدم الإطلاق فلوجوه، الأوّلان منها ثبوتيان وسائرها إشكالات إثباتية:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد(1)

وحاصله: اختلاف الاستصحاب والقاعدة في اليقين والمتيقن والنقض والحكم، ولا يمكن الجمع بينهما في اللحاظ في هذه الجهات:

1- أمّا جهة اليقين: ففي الاستصحاب ملحوظ بما هو كاشف عن المتيقن، وفي القاعدة ملحوظ بنفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدله بالشك.

2- وأمّا جهة المتيقن: ففي الاستصحاب لا بدّ أن يكون معرّى عن الزمان غير مقيد به، وفي القاعدة لا بدّ أن يكون مقيداً به.

3- وأمّا جهة النقض: ففيه باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن، وفيها باعتبار نفس اليقين.

4- وأمّا جهة الحكم: فالحكم المجعول فيه هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك، وفيها البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين.

وعليه فالقاعدة تباين الاستصحاب في كل هذه الجهات الأربع فلا يمكن أن تعمها أخبار الباب.

وأورد عليه: بعدم ثبوت هذه الفروق، ومع ثبوتها فهي غير فارقة.

أمّا الأوّل: إنّ اليقين في كليهما كان كاشفاً، ولا يقين بالنسبة إلى الزمان

ص: 123


1- فوائد الأصول 4: 589.

اللاحق فلا كاشفية فلا فرق.

وأمّا الثاني: لا محذور من ملاحظة الشك في نفسه مجرداً عن المتعلق كي يشمل الشك في البقاء والشك في الحدوث.

وأمّا الثالث: فلاشتراكهما كليهما في الجري العملي، إذ الجعل الشرعي إنّما هو بلحاظ الأثر العملي.

وأمّا الرابع: فإنّ هذا الاختلاف حسب المورد لا حسب الدليل، حيث لا فرق في إلغاء الشك، إلاّ أنّ إلغاء الشك في الحدوث يلازم الحكم بالحدوث والبقاء، وإلغاءه في البقاء يلازم الحكم بالبقاء من غير فرق بين إلغاء الشك في نفسه.

الوجه الثاني: ما عن المحقق الخراساني في حاشية الرسائل(1) وحاصله: أنّه بعد لحاظ متعلقي الشك واليقين - لتوقف صدق النقض على ذلك الاتحاد - لا بدّ من إلغاء خصوصية الزمان في الاستصحاب، ففي الاستصحاب لا يلاحظ الزمان في المتعلق، وأمّا في القاعدة فلا بدّ من لحاظ الزمان فيه، وحينئذٍ فإن أفيد هذان المؤديان بمفهوم اسمي يعمّهما - بحيث يكشف عن اللحاظين المذكورين - كما إذا قيل: (لا تنقض اليقين بالشك الذي له تعلّق بما تعلّق به اليقين) فهو، وإلاّ فلا يمكن أداء هذين المؤديين بمعنى حرفي لا يكاد يراد منه إلاّ أحدهما، لعدم إمكان اجتماع اللحاظين المتنافيين في إنشاء واحد، وأخبار الباب كذلك، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يعم المؤديين بلحاظهما المتنافيين، فلا يستفاد منهما إلاّ الاستصحاب.

ص: 124


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 388.

وأشكل عليه في المنتقى(1):

بأنّه لا وجه للحاظ عدم الزمان في المتيقّن في الاستصحاب، بل اللازم تعلّق الشك بفعلية الشيء على حدّ تعلّق اليقين به، الملازم لصدق الشك في البقاء، فليس الزمان ملحوظاً في متعلق أحدهما، وعدمه ملحوظاً في الآخر. وعلى فرض اعتبار هذين اللحاظين في القاعدتين، فيمكن للحاكم حين الإنشاء لحاظهما معاً مع عدم الحاجة إلى مفهوم اسمي للدلالة عليهما في مقام الإثبات، بل يمكن الاكتفاء بالقرينة الحالية أو بعض خصوصيات الكلام كإسناد النقض وشبه ذلك.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(2) وحاصله: أنّه لا يمكن أن يكون الإسناد الواحد حقيقياً ومجازياً، ففي قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» إن أريد قاعدة اليقين كان إسناد النقض إلى اليقين حقيقياً وذلك لتعلق اليقين والشك بشيء واحد حقيقة، وأمّا إن أريد الاستصحاب فإسناده إليه مجازي حيث إنّ متعلق اليقين هو الشيء في الزمان السابق ومتعلق الشك الشيء في الزمان اللاحق ومع تعدد المتعلق يكون إسناد النقض مجازياً، ولا بدّ في النص من حمله على الإسناد المجازي بقرينة تطبيق الإمام (علیه السلام) هذه الكبرى على الاستصحاب.

وفيه: أنّ الإسناد مجازي على كل حال، إذ متعلق النقض هو اليقين، وهو قد انتقض وجداناً في الاستصحاب والقاعدة - ففي القاعدة انتقض في الزمان الأوّل وفي الاستصحاب في الزمان الثاني - فلا بدّ من حمله على

ص: 125


1- منتقى الأصول 6: 390.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 242-244.

معنى مجازي هو النقض بلحاظ الجري العملي، مع إمكان لحاظ الجامع بين الشك الساري والطاري مع عدم لحاظ الخصوصية فلا يكون في البين إسنادان.

الوجه الرابع: في موارد القاعدة يوجد تعارض دائم بين الاستصحاب وقاعدة اليقين بحيث يمنع عن شمول الدليل لكليهما، مثلاً لو كان لنا يقين بعدالة زيد يوم الجمعة، ثم في يوم السبت شككنا في عدالته، فاستصحاب عدم عدالته قبل يوم الجمعة يتعارض مع الحكم بعدالته فيها بمقتضى قاعدة اليقين، وحيث لا يمكن شمول الكلام لكليهما فلا بدّ من مرجح وهو متحقق في الاستصحاب لتطبيق الإمام (علیه السلام) الكبرى عليه.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما عن المحقق الخراساني(1)

بعدم تحقق موضوع الاستصحاب مع جريان قاعدة اليقين لو كانت حجة، فلا تعارض، للطولية بينهما، وذلك لأنّه في مورد الاجتماع موضوع قاعدة اليقين متحقق على كل حال حيث إنّه كان على يقين ثم شك، فاليقين المتعقب بالشك حاصل سواء جرى الاستصحاب أم لم يجر، وأمّا موضوع الاستصحاب فغير متحقق مع جريان قاعدة اليقين، إذ مع جريانها لا يبقى شك فلا يتم موضوع الاستصحاب.

وفيه: أنّه بمجرد الشك يتحقق موضوع كليهما، إذ اليقين الثاني - في المثال بعدالة زيد يوم الجمعة - قد زال فلا محذور من التمسك باليقين الأوّل، وذلك لأنّ المناط في الأصول العملية ليس مجرد حدوث المنجز أو

ص: 126


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 389-390.

المعذر، وإنّما بقاؤهما أيضاً، والشك حاصل وجداناً، ففي المثال بمجرد الشك يوم السبت يكون اليقين بعدالته يوم الجمعة قد زال، فيتحقق موضوع قاعدة اليقين والاستصحاب في عرض واحد من غير طولية بينهما.

وثانياً: ما عن المحقق العراقي(1)

بما حاصله: إنّ هناك موارد خارجة عن التعارض لعدم جريان الاستصحاب كما في توارد الحالتين، فحينئذٍ تجري القاعدة لوجود المقتضي وهو إطلاق الدليل وعدم المانع.

لا يقال: إنّ الأحكام المجعولة بنحو القانون ينبغي عدم الاستثناء فيها بحد يخدش في قانونية القانون!

لأنّه يقال: إنّه لو كان لكلام المولى إطلاق فلا محذور في التمسك به حتى في المصاديق التي تبتلى بالمانع في أكثر الموارد، نعم لو كان ضرب القانون بشكل مستقل فتخصيص الأكثر فيه مستهجناً بالنحو الذي مرّ سابقاً وإلاّ فليس كل تخصيص للأكثر بمستهجن.

الوجه الخامس: انصراف الأخبار إلى خصوص الاستصحاب، لأنّ ظاهر القضايا إرادة ترتب الأحكام على الموضوعات الفعلية حتى في القضايا الحقيقية فموضوعها الشيء المتصف بالفعلية في ظرفه الذي يراد ترتيب الحكم عليه، واليقين والشك في الأخبار ظاهران في اليقين والشك الفعليان لا الزائلان، وهذا خاص بالاستصحاب حيث إنّ اليقين فيه فعلي دون القاعدة حيث إنّ اليقين فيها قد ارتفع وليس بموجود، فتأمل.

ص: 127


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 245.

فصل في الاستصحاب في مورد الأمارات والأصول

اشارة

لو ثبت الحكم الشرعي أو موضوعه بالأمارات أو الطرق أو الأصول العملية فلا يوجد يقين غالباً، وإنّما ظن معتبر أو وظيفة عملية، كما أنّه لو شك بعد ذلك فإنّ شكه ليس في بقاء المتيقن، وإنّما شك مطلق، فينتفي بذلك كلا ركني الاستصحاب، فكيف يجرون الاستصحاب حينئذٍ؟

مثلاً: لو قامت البينة على تغيّر ماء بالنجاسة ثم زال التغيّر من نفسه وشك في بقائها، أو قام خبر واحد على حرمة العصير العنبي بعد الغليان وشك في الحرمة بعد صيرورته زبيباً وغليانه، أو قام أصل عملي على حدوث شيء ثم شك في بقائه.

وهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في الاستصحاب في موارد الأمارات والطرق

وقد ذكرت وجوه في تصحيح الاستصحاب فيها، بعضها بناءً على نفي الحكم الظاهري وبعضها بناءً على إثباته وبعضها أعم، فمنها:

الوجه الأوّل: ما في الكفاية(1)

من أنّ اليقين والشك لم يلاحظا في دليل الاستصحاب بما هما، بل لوحظا بما هما مرآة للواقع، فالمقصود هو ما

ص: 128


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 50-51.

كشف عن الواقع، ولا فرق حينئذٍ بين اليقين الوجداني وبين الأمارات والطرق حيث إنّها كاشفة عن الواقع كشفاً تاماً بعد تتميم الشارع كاشفيتهما.

وبعبارة أخرى: إنّ دليل الاستصحاب يثبت الملازمة بين الثبوت والبقاء، فما ثبت - سواء باليقين أو بالظن المعتبر - دام ما لم يعرض يقين آخر أو ظن معتبر آخر فينقضه.

وأورد عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأوّل: إنّ التنجيز والتعذير غير قابلين للجعل، لأنّهما بحكم العقل حيث إنّ التنجيز هو استحقاق العقاب، والتعذير هو تأمين عنه، وموضوعهما وصول الحكم إلى المكلّف أو عدم الوصول إليه، فما وصل حكم العقل بتنجيزه، وما لم يصل حكم العقل بالتعذير عنه(1).

والحاصل: إنّ الشارع وإن كان بيده جعل الموصل إلاّ أنّه بعد وصوله يحكم العقل بتنجيزه وبعد عدم وصوله يحكم بالتعذير عنه.

وفيه: أنّ المجعول هو الحجيّة وهي التي تستصحب ويترتب عليها حكم العقل بالتنجيز أو التعذير، فلا يراد استصحاب التنجيز والتعذير كي يورد عليه بما أورد.

الإشكال الثاني: إنّه لا ملازمة بين الحدوث والبقاء، لأنّ الملازمة الواقعية واضحة البطلان، وأمّا الملازمة الظاهرية فغير ثابتة بل ثبت عدمها في بعض الموارد مما يكشف عن عدم وجود الملازمة، فالعلم الإجمالي - مثلاً - منجز حدوثاً، لكنّه ينحل مع قيام الأمارة على أحد الطرفين فلا بقاء للتنجيز،

ص: 129


1- فوائد الأصول 4: 409.

وعليه يثبت عدم الملازمة، مضافاً إلى أنّ الملازمة عقلية.

وفيه أوّلاً: أنّ مدعي الملازمة إنّما يدعيها على فرض عدم زوال الحادث وإنّما الشك في بقائه، وفي المثال قد زال العلم الإجمالي من أساسه، لا أنّه يشك في بقاء تنجيزه مع بقائه، ومورد الاستصحاب هو بقاء اليقين لا زواله من أصله لأنّه حينئذٍ يكون من موارد قاعدة اليقين، ففي ما نحن فيه لو قامت البينة على عدالة زيد - مثلاً - ثم شككنا في بقائها فإنّ البينة على الحدوث لم ترتفع، وإنّما شك في بقاء تلك العدالة، نعم لو شك في أصل البينة أو في حجيّتها شرعاً فحينئذٍ يخرج عن موضوع الملازمة للشك في أصل الحدوث، فتأمل.

ثانياً: إنّه لو فرض كون الملازمة عقلية، لكن المقصود ليس استصحابها بعنوانها، وإنّما استصحاب واقعها أي جعل البقاء في فرض الحدوث بحيث يكون الحدوث ملحوظاً موضوعاً للتعبد بالبقاء، فالمتعبد به هو البقاء على تقدير الحدوث، وينتزع من ذلك جعل الملازمة، نظير كل حكم مرتب على موضوعه فإنّه ينتزع عنه الملازمة بين الموضوع والحكم(1).

الوجه الثاني: إنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بما أنّه حجة على الواقع، فالعلة في جعله موضوعاً - وهو الحجيّة - موجودة في الأمارات أيضاً.

وفي هذا الوجه - عكس الأوّل - يبقى اليقين موضوعاً، لكن تمّ تعميم حكمه عبر العلة في جعله موضوعاً.

وقد يورد عليه: بأنّ الحجة إن أريد بها الكشف عن الواقع فهو رجوع

ص: 130


1- منتقى الأصول 6: 154؛ نهاية الدراية 5: 131.

إلى الطريق الأوّل، وإن أريد الاحتجاج بين الموالي والعبيد فهو خلاف الظاهر.

وفيه نظر: لأنّ الشيء قد يلاحظ بما هو هو لكن سبب الملاحظة الكشف عن الواقع، وقد لا يلاحظ بما هو هو وإنّما يلاحظ باعتبار كشفه، وبينهما بون شاسع.

الوجه الثالث: بناءً على جعل الحكم الظاهري، وحاصله: إنّه مع قيام الأمارة أو الطريق يحتمل مطابقتهما للواقع فيجعل حكم ظاهري قطعاً، فيوجد يقين به، فمع حدوث الشك ّيحتمل بقاء الحكم، فيستصحب.

وأشكل عليه: بأنّه من القسم الثالث من استصحاب الكلي وليس بحجة، لأنّ الحكم الظاهري قد زال قطعاً بزوال الأمارة وعروض الشك مع احتمال بقاء كلي الحكم لأجل احتمال وجود الحكم الواقعي مقارناً للحكم الظاهري.

وأجيب: إنّه - على بعض مباني الحكم الظاهري - من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث إنّه على تقدير مطابقة الأمارة للواقع لا يجعل حكم ظاهري وإنّما الجعل على تقدير المخالفة، وعليه فحين الشك يدور الأمر من الأوّل بين الفرد المقطوع الزوال وهو الحكم الظاهري وبين الفرد المحتمل البقاء، وهو القسم الثاني من استصحاب الكلي!

إن قلت: لا أثر للحكم الظاهري بما هو هو من لزوم امتثال وغيره من الأحكام، وحينئذٍ فلا أثر للجامع كي يصح استصحابه!

قلت: إن الظاهر أنّ للحكم الظاهري أثراً بما هو هو كحرمة التجري

ص: 131

بمخالفته - ولو لم يكن مطابقاً للحكم الواقعي - وزوال ملكة العدالة بالإصرار على مخالفته ونحو ذلك، وهذا المقدار يكفي في ثبوت الأثر للجامع، فتأمل.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق العراقي قال: «بقيام الأمارة أو البينة على وجوب شيء أو طهارته أو نجاسته - مثلاً - يقطع بثبوت الحكم الظاهري ووجوب ترتيب آثار الواقع، فإذا شك بعد ذلك في نجاسة ما قامت الأمارة على طهارته - لاحتمال ملاقاته مع النجاسة في الزمان الثاني - يستصحب تلك الطهارة الظاهرية، لتحقق أركانه جميعاً من اليقين السابق والشك اللاحق، ولا يحتاج إلى إحراز الطهارة الواقعية التي هي مؤدّى الأمارة كي يشكل بعدم إحراز الحدوث»(1).

وأشكل عليه: بعدم جريانه لو انحصر احتمال مخالفة الأمارة للواقع بجهة مخصوصة، كما لو كان متيقناً بعدم ملاقاة الماء لسائر النجاسات غير الدم، وقامت الأمارة على عدم ملاقاته للدم، فإنّ الحكم الظاهري إنّما هو من جهة عدم ملاقاة الدم، فلو احتمل بعد ذلك ملاقاته للبول فلا حكم ظاهري من الأوّل بالطهارة من هذه الجهة، فلا يقين سابق لكي يستصحب، فلا بدّ من استصحاب الطهارة الواقعية، فرجع إلى الوجه الثالث.

وفيه: أنّ الحكم الظاهري بالطهارة مثلاً حكم واحد وإن اختلف منشؤه، ويدل عليه أنّه لو قامت البينة على عدم ملاقاته للبول ثم قامت بينة أخرى على عدم ملاقاته للدم - مثلاً - فليس هنا حكمان ظاهريان، بل حكم واحد

ص: 132


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 112.

وإن تعدّد منشؤه، وعليه فلو قامت بينة على عدم ملاقاته للبول ثبت حكم ظاهري بالطهارة مطلقاً، ثم مع الشك في ملاقاته للبول يتم استصحاب نفس الحكم الظاهري الأوّل وليس حكماً ظاهرياً ثانياً لا يقين سابق له.

الوجه الخامس: إثبات أنّ مفاد الأمارات والطرق هو يقين تعبدي بحكومة أدلتها، قال المحقق العراقي: «إنّه على مبنى أنّ مفاد أدلة الطرق والأمارات هو كونه بنحو تتميم الكشف وإحراز الإثبات التعبدي للواقع - لا بنحو تنزيل المؤدّى ولا جعل الحجيّة - فلا قصور في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارات على ثبوتها، سواء قلنا إنّ (اليقين) ملحوظ بنحو العنوانية أو المرآتية، وذلك لأنّ دليل الأمارة - بعناية تكفله لإثبات العلم والإحراز - يوسع دائرة اليقين الناقض والمنقوض في الاستصحاب، وبذلك يجري الاستصحاب في مؤديات الأمارات لكونها محرزة حينئذٍ بالإحراز التعبدي، كما أنّه به يتم حكومتها عليه عند قيامها على بقاء الحالة السابقة أو ارتفاعها، بلا احتياج إلى جعل اليقين في (لا تنقض...) كناية عن مطلق الإحراز كي يلزم تقدّم الأمارة عليه بمناط الورود لا الحكومة، ولا إلى دعوى كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الحكومة إنّما تكون باللفظ أي عبر توسيع عنوان مأخوذ في دليل بدليل آخر مثلاً، ولا تجري مع واقع التوسعة، وفي ما نحن فيه لا يوجد دليل يعتبر الأمارات والطرق يقيناً تعبدياً، وإنّما هو لازم عقلي لتتميم الكشف، وهو ليس بحكومة، فتأمل.

ص: 133


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 108-109.

الوجه السادس: إنّه في الشهادة يعتبر العلم بالمشهود به، وقد دلّت صحيحة معاوية بن وهب على جواز الشهادة في مورد الاستصحاب(1)، وهذا معناه أنّ الشارع أقام الاستصحاب مقام العلم، ومع تقدم جميع الأمارات على الاستصحاب يتضح أن الشارع قد جعلها بمنزلة العلم، وإلاّ لم يكن وجه لتقدمها عليه.

ويرد عليه: أنّ مجرد قيام الأصل في مورد الشهادة مقام العلم لا يدل على قيامه مقامه في سائر الموارد.

الوجه السابع: إنّ قرينة السياق تدل على أنّ اليقين الناقض واليقين المنقوض في قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر» بمعنى واحد، وهناك موارد كثيرة دل الدليل على كفاية الأمارة في الناقض فلم يؤخذ فيه اليقين الوجداني، فكذلك اليقين المنقوض، فمنها: اليقين بعدم التذكية حين الحياة ينقض بسوق المسلمين وباليد، واليقين بالطهارة من الحيض ينقض برؤية الدم المشكوك في العادة الوقتية، واليقين بنجاسة موضع الحجامة ينقض بادعاء الحجام تطهيره ولو لم يكن ثقة، ومنها: نقض اليقين بالعدة بقول المرأة بانتهائها حتى لو لم تكن ثقة، وغيرها كثير.

ويمكن أن يقال: إنّه لا محذور في القول بأنّ الناقض كما يكون اليقين حسب دليل الاستصحاب كذلك يكون غيره في موارد خاصة لا لجهة

ص: 134


1- عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «الرجل يكون له العبد والأمة قد عُرف ذلك، فيقول: أبق عبدي أو أمتي، فيكلفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته لم يهب ولم يبع، أنشهد على هذا إذا كُلّفناه؟ قال: نعم». وسائل الشيعة 27: 337.

كونها أمارة بل لجهات يعلمها الشارع، فليس ذلك من باب التعميم في اليقين الناقض، اللّهم إلاّ أن يثبت إلغاء الخصوصية فيها أو الملاك القطعي، فتأمل.

المبحث الثاني: الاستصحاب في موارد الأصول العملية

والأقرب عدم جريانه في مواردها لعدم الشك اللاحق، إذ ما دام الشك باقياً فالأصل الأوّل باقٍ من غير حاجة إلى إجراء الاستصحاب، فالماء المشكوك محكوم بطهارته لقاعدة الطهارة فإذا شك لاحقاً في ملاقاته للدم مثلاً فإنّ أصالة الطهارة باقية فلا يبقى مجالاً لإجراء الاستصحاب لعدم تمامية أركانه ولعدم ثبوت أثر له، مضافاً إلى أنّه لو كان الأصل الأوّل هو الاستصحاب فلا وجه لنقضه إلاّ بيقين آخر لقوله: «بل انقضه بيقين آخر» فلا موضوع للاستصحاب الثاني لو عرض شك جديد.

إن قلت: إنّ الاستصحاب حاكم على الأصول غير المحرزة، فكيف لا يجري معها؟

قلت: إنّ حكومة الاستصحاب فرع جريانه، والمدعى في المقام أنّه لا يجري لأنّه لا أثر له(1).

وقد يفصّل بين الأصول فعن المحقق النائيني: «الحكم الثابت في موارد الأصول إذا شك في بقائه ولم يكن دليل ذلك الأصل متكفلاً لبقائه فيجري فيه الاستصحاب لوجود أركانه، وأمّا إذا كان دليل ذلك الأصل متكفلاً لبقائه كالحدوث فلا مجال لجريان الاستصحاب أصلاً»، ومثّل للثاني بقوله:

ص: 135


1- فوائد الأصول 4: 406.

«لو حكمنا بطهارة شيء متنجس مغسول بالماء إمّا بقاعدة الصحة أو بقاعدة الفراغ، ثم شك في عروض نجاسة له، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب»(1).

ويمكن أن يقال: إن الطهارة الثابتة بقاعدة الصحة أو الفراغ طهارة ظاهرية لجميع الأزمنة، فمع احتمال عروض نجاسة جديدة لا شك في بقاء الطهارة الظاهرية، نعم شك في الطهارة الواقعية لكن لا يقين سابق فيها فلا مجرى للاستصحاب فيها، فتأمل.

ص: 136


1- أجود التقريرات 4: 83.

فصل في استصحاب الفرد والكلي

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: في استصحاب الفرد المردد

وعن المحقق اليزدي صاحب العروة جريان الاستصحاب فيه كما لو دار الأمر في المعاطاة بين كونها عقداً جائزاً أو لازماً فبعد الفسخ يستصحب الفرد المردد من الملكية بينهما، وكما لو صدر حدث لا يعلم بأنّه الأكبر أو الأصغر ثم توضأ، وكما لو شك في عهد الغيبة في وجوب الجمعة أو الظهر يوم الجمعة فصلى الظهر مثلاً.

وحاصل دليله: أنّ تردده بحسب علمنا لا يضرّ بتيقن وجوده سابقاً، والمفروض أنّ أثر القدر المشترك أثر لكل من الفردين، فيمكن ترتب ذلك الأثر باستصحاب الشخص المعلوم سابقاً كما في القسم الأوّل من استصحاب الكلي حيث يجري استصحاب كل من الكلي وفرده(1).

والمشهور هنا أجروا استصحاب الكلي وهو من القسم الثاني دون استصحاب الفرد المردد، إمّا لذهابهم إلى استحالة الفرد المردد، وإمّا لعدم توفر أركان الاستصحاب فيه.

ص: 137


1- حاشية المكاسب: 73.

إلاّ أنّه قد مرّ أنّ الأقرب استحالة الفرد المردد في الخارج، وأمّا اعتباره وترتيب الأحكام عليه فلا محذور فيه، كما أنّ الأقرب أنّ استصحاب الفرد المردد واستصحاب القسم الثاني من الكلي كلاهما من وادٍ واحد فإن لزم الإشكال في أحدهما لزم الإشكال في الآخر كما سيتضح.

وأمّا الإشكالات على استصحاب الفرد المردد - مضافاً إلى الإشكال المبنائي باستحالته - فتارة: بعدم اليقين بالحدوث، وأخرى: بعدم الشك في البقاء، وثالثة: بعدم الأثر الشرعي، ورابعة: بأنّه أصل مثبت.

الإشكال الأوّل: عدم اليقين بالحدوث، قال المحقق الإصفهاني: «إن أريد تيقن وجود الفرد المردد مع قطع النظر عن خصوصيته المفردة له فهو تيقن الكلي دون الفرد، إذ المفروض إضافة الوجود المتيقن إلى الموجود به مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة، فلا يبقى إلاّ الطبيعي المضاف إليه الوجود. وإن أريد تيقن الخصوصية المفردة - التي هي مرددة بين خصوصيتين - فقد مرّ مراراً أنّ طرف العلم معين لا مردد وأنّ أحدهما المصداقي لا ثبوت له - لا ماهية ولا وجوداً - فيستحيل تعيّن العلم الجزئي بما لا ثبوت له، والعلم المطلق لا يوجد بل يوجد متشخصاً بمتعلقه، بل المتيقن هو الوجود المضاف إلى الطبيعي الذي لا علم بخصوصيته»(1).

وفيه: ما مرّ من أنّ استحالة الفرد المردد إنّما هي في وجوده في الخارج، ولا محذور في فرض الفرد المردد وترتيب الأثر عليه، كما لا محذور في كون العلم الإجمالي هو العلم بالفرد المردد أو العلم بالجامع بينهما، كما

ص: 138


1- نهاية الدراية 5: 140.

لا محذور في كون الإجمال في ناحية العلم والانكشاف لا المعلوم، كما مرّ سابقاً(1).

ومن المعلوم أنّ اليقين في دليل الاستصحاب مطلق يشمل اليقين التفصيلي واليقين الإجمالي مضافاً إلى أنّ اليقين لا إجمال فيه وإنّما الإجمال في المتيقن على بعض المباني.

الإشكال الثاني: عدم الشك اللاحق، قال المحقق النائيني: «إنّ قوام الاستصحاب إنّما هو بالشك في البقاء بعد العلم بالحدوث، فلا يجري الاستصحاب عند الشك في كون الباقي هو الحادث، ... لأنّ الشك فيه لا يرجع إلى البقاء بل إلى الحدوث، كما لو علم بحدوث فرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع، فإنّه وإن كان يشك في بقاء الحادث إلاّ أنّ ارتفاع أحد فردي الترديد يوجب الشك في حدوث الفرد الباقي، فلا يجري استصحاب الفرد المردد، لأنّ استصحاب الفرد المردد معناه: بقاء الفرد الحادث على ما هو عليه من الترديد، وهو يقتضي بقاء الحادث على كل تقدير - سواء كان هو الفرد الباقي أو الفرد الزائل، وهذا ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير أن يكون هو الفرد الزائل»(2).

وحاصله: أنّه لا بدّ أن يكون متعلق اليقين والشك شيئاً واحداً، وليس الفرد المردد كذلك، لأنّ اليقين فيه تعلق بوجوب إحدى الصلاتين مثلاً، وبعد الإتيان بإحداهما لا يشك في بقاء وجوب إحداهما، وإنّما يشك في

ص: 139


1- راجع نبراس الأصول 3: 164-169.
2- فوائد الأصول 4: 126.

بقاء وجوب غير المأتي به وهو معيّن وليس إحدى الصلاتين، وبعبارة أخرى: اليقين تعلق بحدوث المتيقن على كل تقدير، والشك تعلق ببقاء أحدهما المعيّن. وبعبارة ثالثة: الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء، لأنّه على أحد التقديرين مقطوع الزوال وعلى تقدير آخر مقطوع البقاء!

وأجاب المحقق الإصفهاني: «بأنّ معنى اليقين في الفرد المردد هو اليقين بموجود شخصي هو إمّا مطابق عنوان الظهر أو مطابق عنوان الجمعة، وبعد الإتيان بالظهر يقطع بارتفاع عنوان الظهر عنه ويشك في بقاء ذلك الموجود الشخصي، لاحتمال كونه مطابق عنوان الجمعة المفروض عدم ارتفاعه عنه»(1).

وحاصله: إنّ اليقين بالفرد المردد من وجوب الصلاة - مثلاً - مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي إمّا يكون منطبقاً على وجوب الجمعة أو على وجوب الظهر، وحين إتيانه بالظهر لديه علم بالتلازم بين بقاء ذلك الموجود الجزئي وبين كونه وجوب الجمعة، فحينئذٍ فاحتمال بقائه قائم جزماً، فكيف ينفى الشك في بقائه؟

وردّه في المنتقى: بأنّ «ما كان متعلقاً لليقين - وهو الموجود المبهم على ما هو عليه - ليس متعلقاً للشك، وليس هو مشكوكاً بهذه الصفة... وأمّا الشك الفعلي - الموجود قطعاً - فهو متعلق بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني لاحتمال حدوثه في الآن الأوّل، لأنّه على تقدير الحدوث متيقن البقاء، لكن هذا لا ينفع في جريان الاستصحاب، لأنّه لا يقين سابق به»(2).

ص: 140


1- نهاية الدراية 5: 141.
2- منتقى الأصول 6: 162.

أقول: في مورد الفرد المردد شكّان:

1- أحدهما مجرى الاستصحاب كما ذكره المحقق الإصفهاني، حيث تيقّن بموجود جزئي - مبهم عنده - ثم بعد الإتيان بأحد الفردين يشك في بقاء ذلك الموجود الجزئي المبهم بنفسه، وكونه متيقن البقاء على تقدير ومتيقن الزوال على تقدير آخر هو معنى آخر للشك، فالشك غالباً يكون هكذا، كما لو شك في وجود النهار فهو عبارة أخرى عن إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن لم تكن طالعة فهو غير موجود.

2- والآخر ليس مجراه وهو الشك في وجوب الجمعة مثلاً إذ لا يقين سابق له، وعليه فما ذكره المحقق النائيني غير وارد، فتأمل.

الإشكال الثالث: عدم الأثر، وهو ما ذكره المحقق العراقي(1) وحاصله: أنّه لم يتعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي، مع أنّه لا بدّ في صحة التعبد بالاستصحاب من تعلق اليقين والشك بالعنوان الذي يكون موضوعاً للأثر الشرعي، وفي ما نحن فيه الأثر إنّما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيلي - كصلاة الجمعة وصلاة الظهر - وهو مما لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث، وأمّا العنوان العرضي الإجمالي - كعنوان الفرد المردد - فهو ليس ذا أثر شرعي، لترتب الآثار الشرعية في أدلتها على العناوين التفصيلية، ولا فرق في ذلك بين كون الشك في البقاء ناشئاً عن الشك في ارتفاع الفرد القصير - لو كان هو الحادث - وبين كون الشك في البقاء ناشئاً عن العلم بارتفاع الفرد القصير - لو كان هو الحادث - .

ص: 141


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 114.

وقال أيضاً ما حاصله(1):

وهذا يجري في سائر الأصول غير الاستصحاب أيضاً، ففي قاعدة الفراغ مثلاً لو صلّى إلى الجهات الأربع حين اشتباه القبلة 1- فإن علم ببطلان صلاة معينة منها فلا يجوز الاكتفاء بالبواقي بل لا بدّ من إعادة تلك الصلاة، للشك في فساد الصلاة الواقعية منها، ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد منها. 2- لكن لو علم بفساد واحدة مرددة منها فإنّه يمكنه إجراء قاعدة الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك في صحتها على تقدير كونها إلى القبلة، فتجري القاعدة فيها مقيدة بهذا التقدير، ولا ضير في العلم بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع لاحتمال كون الفاسد هو المأتي به إلى غير القبلة، فلا علم بالمخالفة العملية.

وفيه: ما ذكره في المنتقى(2):

وحاصله أنّه يشترط في الاستصحاب صحة التعبد به كي لا يكون لغواً، ولا دليل على لزوم تعلق اليقين والشك بالشيء بالعنوان الذي يكون موضوعاً للأثر الشرعي، وعليه في الفرد المردد إن كان المورد مما يصح التعبد به من قبل الشارع - بحسب واقعه على ما هو عليه من الترديد لدى المكلّف - لم يكن مانع عن شمول دليل الاستصحاب لذلك المورد، ويثبت له التعبد بتوسط العنوان الإجمالي المشير إليه، ففي مثال وجوب الظهر أو الجمعة لا محذور في التعبد بذلك الحكم المردد على واقعه ويترتب عليه أثره العقلي من لزوم تفريغ الذمة. وهكذا الأمر في مثال القبلة، فإنّه لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواقعية إلى

ص: 142


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 117.
2- منتقى الأصول 6: 164-165.

القبلة للشك في بطلانها من جهة ترك الركوع مثلاً، ولا يمنع ترددها من إجراء قاعدة الفراغ فيها، فتأمل.

الإشكال الرابع: إنّه أصل مثبت، لأنّ إثبات الحكم في الفرد المردد لازمه انحصاره في ذلك الفرد الذي لم يأت به، فمن صلّى الظهر فاستصحاب الفرد المردد لازمه وجوب الجمعة عليه!

وفيه: أنّه يستصحب بقاء الحكم على واقعه، ويترتب عليه الأثر العقلي للحكم من لزوم تفريغ الذمة، وليس هو لازماً للمستصحب، فلا يكون أصلاً مثبتاً.

المبحث الثاني: في استصحاب الكلي

اشارة

وهو تارة: اليقين بوجود الكلي في فرد ثم الشك في زوال الكلي للشك في زوال ذلك الفرد.

وتارة أخرى: اليقين بوجود الكلي في ضمن أحد الفردين - قصير أو طويل - ثم الشك في بقاء الكلي حيث إنّه لو كان القصر فقد زال، وإن كان الطويل فهو باقٍ.

وثالثة: اليقين في وجود كلّي في ضمن فرد، ثم الشك في زوال الكلي بسبب زوال ذلك الفرد مع احتمال حلول فرد جديد محله.

ورابعة: إذا علم بوجود عنوانين مع احتمال انطباقهما على فرد واحد، كما لو كان جنباً فاغتسل ثم رأى على ثوبه منياً وشك أنّه من الجنابة السابقة التي اغتسل منها أو من جنابة جديدة!

فهنا أقسام أربعة:

ص: 143

القسم الأوّل من الكلي

وأركان الاستصحاب فيه تامة، كما لو علم بوجود الإنسان في المسجد لدخول زيد فيه، ثم شك في بقاء الإنسان فيه للشك في بقاء زيد فيه، فكما يصح استصحاب بقاء زيد كذلك يصح استصحاب بقاء الإنسان.

إن قلت: ليس هناك وجودان بل وجود واحد هو وجود الفرد؟

قلت: وجود الفرد حقيقي خارجي، ووجود الكلي انتزاعي وهو نحو من أنحاء الوجود.

إن قلت: إن استصحاب الفرد يغني عن استصحاب الكلي، فيكون استصحابه لغواً.

قلت: كل واحد من الكلي والفرد أركان الاستصحاب فيهما تامة، فكما يصح استصحاب هذا يصح استصحاب ذاك من غير فرق، لكن إجراء كلا الاستصحابين معاً لا يحتاج إليه، فإن أجرى أحدهما استغنى عن الآخر.

نعم هنا إشكال آخر وهو: إنّ استصحاب الفرد أصل سببي واستصحاب الكلي أصل مسببي، ومع جريان السببي لا يجري المسببي! وسيأتي الجواب عنه في القسم الثاني.

القسم الثاني من الكلي

وهو ما إذا حصل فرد يتردد بين القصير البقاء وطويله فيستصحب الكلي الذي وجد بوجود الفرد، كما لو صدر منه حدث لا يعلم أنّه الحدث الأكبر أو الأصغر ثم توضأ فإنّه لا يمكنه استصحاب الفرد المعين لعدم اليقين السابق به ولا الفرد المردد بناءً على عدم إمكانه أو عدم جريان الاستصحاب فيه، وإنّما يستصحب كليّ الحدث فهو معلوم الحدوث بحدوث الفرد

ص: 144

ومشكوك البقاء، ويترتب عليه آثار الحدث الكلي كحرمة مس الكتاب دون الآثار الخاصة بالأصغر أو الأكبر.

وغير خفي أنّ جريان الاستصحاب على القول به إنّما هو في ما لم يكن العلم الإجمالي منجزاً، وإلاّ فمع وجود العلم المنجز لا تصل النوبة إلى الأصل العملي كما هو واضح.

والظاهر جريان هذا الاستصحاب لوجود المقتضي له بتمامية أركانه وعدم المانع عنه، لأنّ جميع الإشكالات الواردة عليه قابلة للدفع، ومنها:

الإشكال الأوّل: إنّ الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فما لم تتم أركان الاستصحاب في الفرد لا تتم في الكلي، والفرد أمره دائر بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، وعليه فلا يقين سابق ولا شك لاحق، وذلك لأنّ معنى (الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده) هو انتزاع الكلي منه، وكل فرد ينتزع منه حصة من الكلي تغاير الحصة المنتزعة من الفرد الآخر، وعليه فلا يقين بالكلي، كما لا شك فيه لأنّه إمّا مقطوع الزوال أو مقطوع البقاء تبعاً لفرده.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأوّل: إنّه وإن كان الأمر كما ذكر بالدقة العقلية إلاّ أنّ العرف يرى وحدة الكلي فيرى حدوث الكلي بحدوث الفرد المردد بين الطويل والقصير، والخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، وليس هذا من تسامح العرف كي لا يكون معتبراً بل هو من باب توسعة المفهوم، وبهذا يتم الركن الأوّل من الاستصحاب، ثم إنّ الدوران بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء هو عبارة أخرى عن الشك في البقاء وبذلك يتم الركن الثاني.

الجواب الثاني: ما مرّ في الفرد المردد، من أنّ الأثر للجامع بينهما،

ص: 145

فكذلك الجامع بين حصتي الكلي الطبيعي يكون الأثر له وهو المستصحب.

الجواب الثالث: إنّ الموجود الخارجي يمكن أن يلاحظ بلحاظين: لحاظه مع أمارات التشخص وبذلك يكون فرداً، ولحاظه بدونها فيكون كلياً طبيعياً، وكل إضافة تستتبع مضافاً إليه بحسب التحليل الذهني، وبذلك يكون هناك مضافان إليهما، وهناك أحكام تترتب على الوجود الخارجي وأحكام أخرى تترتب على الوجود الذهني، ويمكن أن تكون كل واحدة من الإضافتين متعلقاً لليقين أو الشك، كما يمكن تعلق اليقين بإحداهما والشك في الأخرى، نظير الشيء الواحد الذي قد يكون متيقناً من حيث الزمان ومشكوكاً من حيث المكان، وفي ما نحن فيه الوجود المضاف إلى الفرد يدور أمره بين متيقن البقاء ومتيقن الارتفاع، وأمّا الوجود المضاف إلى الطبيعة فهو مشكوك الارتفاع.

ويرد عليه: التلازم بين منشأ الانتزاع والمنتزع، فاليقين في أحدهما يستتبع اليقين في الآخر، وكذلك الشك، وقياسه باليقين والشك بلحاظ الزمان والمكان مع الفارق لعدم تلازم جزئيات الزمان وجزئيات المكان.

الجواب الرابع: ما في الفوائد: «إنّ وجود الكلي وإن كان بوجود الفرد وزواله بزواله إلاّ أنّه ليس الكلي مما ينتزع عن الفرد، بل هو متأصل الوجود على ما هو الحق من وجود الكلي الطبيعي»(1).

وفيه: مع قطع النظر على البحث المبنائي في كيفية وجود الكلي، أنّ ذلك لا يحلّ الإشكال، إذ كيف يعقل الشك في الفرد مع اليقين في الكلي

ص: 146


1- فوائد الأصول 4: 413.

الذي هو عينه؟!

الإشكال الثاني: وهو مما يتفرع على الإشكال الأوّل، وحاصله: إنّ التمسك بعموم دليل الاستصحاب هنا تمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام، إذ مع احتمال كون الكلي في الفرد القصير المتيقن الارتفاع، لم يحرز كون نقض اليقين الأوّل بالشك، بل يحتمل كونه باليقين!

والجواب: بأنّه يتيقن بوجود الكلي مع عدم علمه بمنشأ انتزاعه، ثم يشك في بقاء ذلك الكلي بعينه، وأمّا اليقين بزوال الكلي المنتزع من الفرد القصير لو كان، واليقين بوجوده المنتزع من الفرد الطويل لو كان فإنّما هو قضية شرطية فرضية غير مانعة عن الشك الفعلي في بقاء ذلك الكلي الذي كان موجوداً، فيكون نقضه نقضاً لليقين بالشك.

الإشكال الثالث: إنّ استصحاب الكلي هنا أصل مسببي فلا يجري مع جريان الأصل السببي، وهو أصالة عدم حدوث الفرد الطويل.

وأجيب بأجوبة، ومنها:

الجواب الأوّل: إنّه يشترط في عدم جريان الأصل المسببي أن يكون ارتفاع المسبب مرتبطاً بارتفاع السبب كما كان وجوده مرتبطاً بوجوده، وأمّا لو كان وجوده مرتبطاً بوجوده، دون ارتباط ارتفاعه بارتفاعه فحينئذٍ لا مانع من جريان الأصل المسببي، وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ ارتفاع الحدث بالوضوء يتوقف على كون الخارج بولاً، لأنّ عدم المني لا يوجب ارتفاع الحدث، إلاّ بالأصل المثبت حيث إن كون الخارج بولاً هو سبب ارتفاع الحدث بالوضوء.

ص: 147

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن ارتفاع الكلي من آثار كون الحادث هو الفرد القصير، لا من آثار عدم حدوث الفرد الطويل، ولا يوجد أصل يعين كيفية الحادث.

إن قلت: لدينا شكان: شك في الارتفاع والأصل فيه مثبت، وشك في بقاء الحدث - الذي هو موضوع الأصل في الكلي - والأصل في البقاء محكوم بأصالة عدم حدوث الفرد الطويل!

قلت(1): إنّ دليل الاستصحاب ليس هو التعبد بالبقاء، وإنّما هو بعنوان النقض وهو عدم رفع اليد، ومن الواضح ظهور ذلك في أخذ الشك في الارتفاع في موضوع التعبد، لظهور الدليل في تكفله إلغاء أحد طرفي الشك وإثبات الطرف الآخر، فموضوع الاستصحاب أخذ فيه الشك في الارتفاع لا مجرد عدم البقاء، فتأمل.

الجواب الثاني: إنّ السببيّة - على فرضها - ليست شرعية، وحينئذٍ فلا يوجب الأصل السببي يقيناً تنزيلياً في المسبب، وذلك لعدم حجيّة الآثار العقلية والعادية للأصول العملية، ومع عدم وجود يقين تنزيلي في الناقض يتحقق موضوع الاستصحاب في المسبب لليقين والشك فيه، ففي مثال استصحاب عدم خروج المني لا تلازم شرعاً بين عدم خروجه وبين ارتفاع الحدث بالوضوء، بل بعد اليقين بخروج أحد الفردين حصراً - إمّا البول وإمّا المني - فإنّ الحكم بعدم خروج المني يلازم خروج البول عقلاً، فيثبت ارتفاع الحدث بالوضوء وهذا هو الأصل المثبت، وحيث لم يجر الأصل

ص: 148


1- منتقى الأصول 6: 169.

السببي جرى الأصل المسببي من غير محذور.

الجواب الثالث: ما في الفوائد(1):

من معارضة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير، فيسقط الأصل السببي بالمعارضة وتصل النوبة إلى الأصل المسببي.

وأورد عليه: إنّه مع تحقق العلم الإجمالي بأحد الفردين ودخولهما في محل الابتلاء يتعارض أصالة عدم حدوث أحدهما بالآخر، لكن حينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب الكلي، وذلك لتنجز الآثار الشرعية عبر العلم الإجمالي، ولا موضوع للاستصحاب مع العلم، فليس محل الكلام في هذه الصورة، نعم مع خروج الفرد القصير عن محل الابتلاء لا يتنجز العلم الإجمالي وتصل النوبة إلى استصحاب الكلي، ولكن حينئذٍ لا معارضة لاستصحاب عدم الفرد الطويل.

والحاصل: إنّه في المورد الذي نحتاج إلى استصحاب الكلي لا معارضة، وفي مورد المعارضة لا حاجة إليه.

الإشكال الرابع: ما يعرف بالشبهة العبائية، وحاصله: أنّ استصحاب القسم الثاني من الكلي يلزمه محذور لا يمكن الالتزام به، وذلك في مثل ما لو علمنا بنجاسة أحد طرفي العباءة ولم نعلم ذلك الطرف بعينه، ثم طهّرنا أحد الطرفين بعينه، فلو لاقت اليد الطرف غير المطهّر فإنها لا تنجس لأنّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يجب الاجتناب عنه كما مرّ، وبعد ذلك لو لاقت يده الطرف المطهّر لزم الحكم بنجاسة اليد ووجوب

ص: 149


1- فوائد الأصول 4: 418.

الاجتناب عنها بناءً على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي، لأنّه بعد غسل أحد الطرفين نشك في زوال النجاسة الكلية فنستصحبها! وهذا حكم غريب لا يمكن الالتزام به لأنّه مع عدم ملاقاة الطرف المقطوع الطهارة لا حكم بالنجاسة، ومع ملاقاته يحكم بالنجاسة!! وأمّا مع عدم جريان هذا الاستصحاب فلا يحكم بنجاسة اليد لأنّها حين لاقت المطهّر فلم تنجس، وحين لاقت الطرف الآخر فقد لاقت ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة والحكم عدم نجاسة ملاقيه.

والجواب من وجوه:

الجواب الأوّل: عدم كون هذا اللازم محذوراً مانعاً عن جريان الاستصحاب، إمّا للالتزام بهذا اللازم، وغرابته لا توجب رفع اليد عنه إذا كان مطابقاً للأصول العامة، وإمّا لأنّ وجود المحذور عن جريان الاستصحاب في مورد جزئي لدليل خاص لا يكون إشكالاً في أصل ذلك الاستصحاب وجريانه في الموارد الأخرى بعد تمامية أركانه ودلالة الدليل عليه.

الجواب الثاني: عدم كون هذا المورد من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، بل هو من استصحاب جزئي تردد مكانه، لتردد النجاسة الواقعة بين كونها في هذا الطرف أو ذاك الطرف(1)،

فهو نظير ما لو علمنا بوجود زيد في الدار، وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو الغربي ثم انهدم الجانب الغربي بحيث لو كان زيد فيه لمات، فهنا ليس مورد استصحاب القسم الثاني من الكلى، لأنّ المتيقن فرد حقيقي لا ترديد فيه، وإنّما الترديد

ص: 150


1- فوائد الأصول 4: 421-422.

في محلّه وموضعه، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد بين عشرة دراهم ثم تلف أحدها، واحتمل أن يكون التالف درهم زيد.

وفيه: إنّ النجاسة في الطرف الأعلى هي مصداق من مصاديق الكلي، والنجاسة في الطرف الأسفل مصداق آخر. وهنا وإن كان تردد في مكان النجاسة، لكن المكان هنا - حيث إنّ النجاسة عرض يتقوم بالمعروض - من المشخصات الفردية، فنجاسة الطرف الأعلى - لو كانت - هي فرد يغاير نجاسة الطرف الأسفل - لو كانت - .

والحاصل: إنّ المورد ليس من الشك في فرد واحد تردد مكانه كمثال العلم بوجود زيد في الدار مع عدم العلم بمكانه فيها، أو مثال الدرهم حيث إنّ ذلك الدرهم في أي مكان كان هو بنفسه ومكانه ليس مقوماً لوجوده، عكس ما نحن فيه من مثال النجاسة، فإنّ قطرة الدم مثلاً لو أصابت أعلى العباءة لأحدثت نجاسة تغاير ما إذا أصابت أسفل العباءة.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ الانفعال إنّما هو حكم ما لاقى النجاسة الجزئية، وليس حكم ما لاقى النجاسة الكلية، فتأمل.

الجواب الثالث: كونه أصلاً مثبتاً حتى لو فرض كونه من القسم الثاني من الكلي، فعن المحقق النائيني: «وأمّا نجاسة الملاقي فهي مترتبة على أمرين: أحدهما: إحراز الملاقاة، وثانيهما: إحراز نجاسة الملاقى - بالفتح - ومن المعلوم أنّ استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي، والمفروض أن أحد طرفي العبادة مقطوع الطهارة، والآخر مشكوك الطهارة

ص: 151

والنجاسة، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما»(1).

وبعبارة أخرى: الانفعال مترتب على ملاقاة ما هو نجس، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس الكلي إلاّ بالملازمة.

نعم يمكن استصحاب بقاء النجاسة الجزئية المعيّن مكانها واقعاً المردّد عند صاحب العباءة مثلاً، والملاقاة حاصلة بالوجدان، فبضميمة الوجدان إلى الأصل يتم الحكم بنجاسة الملاقي، لكن هذا خروج عن مورد البحث وهو استصحاب القسم الثاني من الكلي، فتأمل.

فتحصل: أنّ مورد الشبهة ليس من استصحاب الكلي إلاّ أنّه من استصحاب الفرد المعيّن واقعاً، ولا محذور في جريان الاستصحاب فيه إلاّ استغراب النتيجة، وهي ليست بمحذور، ولو كانت محذوراً لسقط الاستصحاب في هذا المورد بالخصوص لوجود المحذور في المورد والذي لا يمنع عن جريان استصحاب الكلي أو الجزئي في سائر الموارد.

القسم الثالث من الكلي
اشارة

وهو أن يتيقن بحدوث فرد وارتفاعه مع احتمال حدوث فرد آخر، فيستصحب الكلي، وهو على صور:

1- احتمال وجود فرد ثانٍ مقارناً لوجود الفرد الأوّل، وبقائه بعد ارتفاعه.

2- واحتمال حدوث الثاني عند ارتفاع الأوّل.

3- واحتمال وجود فرد ثانٍ حين ارتفاع الأوّل، مع كونه هو هو عرفاً، وإن كان يغايره دقة، وذلك في الأمور المشككة، كالسواد الشديد

ص: 152


1- أجود التقريرات 4: 95.

والخفيف، فيستصحب بقاء كلّي السواد.

4- واحتمال تحوّل الفرد الأوّل إلى شيء آخر مغاير له دقةً وعرفاً، كتحول اللحم إلى ملح في الأرض السبخة، فيستصحب بقاء الجسم.

فأمّا الصورة الثالثة: فالأكثر على جريان استصحاب الكلي فيها، لأنّ السواد الخفيف - مثلاً - وإن كان يغاير السواد الشديد دقة حيث إنهما مرتبتان من العرض، إلاّ أنّ الملاك في الاستصحاب وهو الوحدة العرفية محفوظ، بل قد يقال: إنّهما دقة شيء واحد، وإنّما الشديد متقدّم بالطبع لتضمنة الخفيف كتضمن الأكثر للأقل.

ويمكن أن يقال: إنّ الوحدة العرفية ثابتة فلا إشكال في جريان الاستصحاب، إلاّ أنّه لا يراهما مرتبتين لشيء واحد ولا فردين من نوع واحد فهو إمّا استصحاب الفرد أو استصحاب القسم الأوّل من الكلي، فتأمل.

وأمّا الصورة الرابعة: فالأظهر جريان الاستصحاب فيها، لتمامية الأركان، فلو وضع اللحم في السبخة ثم بعد سنوات شك بين نقله منها وبين تحوّله إلى ملح، فاستصحاب بقاء الجسم لا محذور فيه.

نعم يمكن أن يقال: إنّه ليس من استصحاب الكلي، بل هو من استصحاب الفرد، إذا الجسمية هي نفسها ولا فرق فيها بين كونه لحماً أو ملحاً، وإنّما هناك تبدل في الحالات، فتأمل.

وأمّا الصورة الأولى والثانية: ففيهما أقوال: عدم الجريان مطلقاً، والجريان مطلقاً، والتفصيل بعدم الجريان في الأولى والجريان في الثانية، وغير خفي أنّ أدلة القولين الأوّل والثاني يجريان في الصورة الثالثة والرابعة

ص: 153

أيضاً، ومنشؤ الأقوال هو الاختلاف في تمامية الأركان وعدم تماميتها.

القول الأوّل: عدم الجريان مطلقاً، وذلك لما مرّ من أنّ الكلي الذي هو في فرد يغاير الكلي الذي هو في فرد آخر، لاختلاف المنتزع باختلاف منشأ الانتزاع، وقد مرّ الكلام فيه.

القول الثاني: الجريان مطلقاً، واستدل له في الدرر: «بأنّه لو جعلت الطبيعة باعتبار صرف الوجود مع قطع النظر عن خصوصياته الشخصية موضوعاً للحكم... فلا إشكال في أنّ هذا المعنى لا يرتفع إلاّ بانعدام تمام الوجودات الخاصة في زمن من الأزمنة اللاحقة، لأنّه في مقابل العدم المطلق، ولا يصدق هذا العدم إلاّ بانعدام تمام الوجودات، وحينئذٍ لو شك في وجود الفرد الآخر مع ذلك الموجود المتيقن واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم فمورد الاستصحاب الجامع بملاحظة صرف الوجود متحقق من دون اختلال أحد ركنيه، فإنّ اليقين بصرف وجود الطبيعة غير قابل للإنكار، وكذلك الشك في بقاء هذا المعنى، لأنّ لازم الشك في كون فرد في الآن اللاحق الشك في تحقق صرف الوجود فيه، وهو على تقدير تحققه في نفس الأمر بقاء لا حدوث»(1).

ويرد عليه: ما في نهاية الدراية من «أنّ الوجود المضاف إلى شيء بديل لعدمه، وطارد له، بحسب ما أخذ في متعلّقه من القيود، فناقض العدم المطلق مفهوم لا مطابق له في الخارج، وأوّل الوجودات ناقض للعدم البديل له والقائم مقامه، وما يرى من أنّ عدم مثله يوجب بقاء العدم كلية على حاله،

ص: 154


1- درر الفوائد، للحائري: 537.

ليس من جهة كونه ناقضاً للعدم المطلق، بل لأنّ أوّل الوجودات يلازم عدم ثاني الوجودات وثالثها إلى الآخر... لا أنّ لهذا المفهوم مطابقاً واحداً في الخارج حتى يكون الشك في بقائه بعد اليقين بوجود مضاف إلى ماهية متعينة بأحد التعينات»(1).

القول الثالث: التفصيل بين الصورة الأولى فيجري الاستصحاب، وبين الصورة الثانية فلا يجري، واختاره الشيخ الأعظم.

واستدل له بقوله: «فلأنّه في الصورة الأولى فلاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً، فيتردد الكلي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك في الحقيقة إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي»(2).

وأورد عليه: أوّلاً: بعدم تمامية أركان الاستصحاب، لأنّ الكلي بوجوده السابق غير متحمل البقاء بل زال بزوال الفرد الأوّل، وما يحتمل بقاؤه إنّما هو بوجود آخر غير ما تعلق به اليقين وليس هناك وحدة عرفية بين الكليين.

وثانياً: باستلزامه لزوم الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، كما لو شك في انشغال ذمته بقضاء صلاة سنة أو سنتين، أو درهم أو درهمين، فقد انشغلت الذمة بكلي الصلاة من قبيل الصورة الأولى من القسم الثالث: وبجريان استصحاب انشغال الذمة بالكلي لا مورد لإجراء

ص: 155


1- نهاية الدراية 5: 151-152.
2- فرائد الأصول 3: 196.

أصالة البراءة عن الأكثر.

هذا مضافاً إلى أنّه من قبيل الاستصحاب مع الشك في المقتضي، ولا يقول به الشيخ الأعظم.

فرعان

الفرع الأوّل: في استصحاب الطلب الكلي بعد ارتفاع الوجوب واحتمال الاستحباب.

وهو من قبيل الصورة الثانية لعدم اجتماع الوجوب والاستحباب لتضاد الأحكام، نعم قد يجتمع ملاك أحدهما مع فعلية الآخر، كما لو كانت له زوجة يحتمل فقرها، فإنّه تجب نفقتها ولا يستحب التصدق عليها، ثم لو طلقها وبانت استحب له التصدق عليها لفقرها، فلو شك في فقرها - سواء كان احتمال الفقر مقارناً للزوجية أم مقارناً لارتفاعها - فإنّ استصحاب كلي طلب الانفاق هو من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي، فلا يجري.

وأشكل عليه: بأنّه من قبيل الصورة الثالثة من القسم الثالث، حيث إنّ الوجوب هو طلب شديد والاستحباب طلب ضعيف.

وأجاب المحقق الخراساني - بعد تسليم أن الفرق بين الوجوب والاستحباب هو شدة الطلب وضعفه - بقوله: «إلاّ أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين، لا واحداً مختلف الوصف في زمانين لم يكن مجال للاستصحاب»(1).

ص: 156


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 63.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني بإشكال مبنائي(1)

وحاصله: إنّهما إمّا إرادة أو إنشاء، والإرادة ليست حكماً شرعياً كي تستصحب، والإنشاء اعتبار وهو غير قابل للشدة والضعف، فتأمل.

إن قلت: إنّ الاستصحاب إنّما هو في الملاك، وهو قابل للشدة والضعف.

قلت: إنّه أصل مثبت لأنّ الحكم لازم عقلي لبقاء الملاك، مضافاً إلى أنّه قد يختلف ملاك الوجوب عن ملاك الاستحباب كما في مثال النفقة للزوجة الفقيرة، نعم قد يكون بعث مؤكد ناش ٍ عن ملاكين حيث يكون استصحاب كلي البعث من قبيل القسم الثالث.

الفرع الثاني: لو علم ارتفاع ملاك الوجوب واحتمل بقاء الوجوب بملاك آخر.

فقد يقال: إنّه وإن كان من الصورة الثانية لأنّ تعدد الملاك يوجب تعدد الوجوب فهما فردان من الوجوب حقيقة، إلاّ أنّ العرف يراهما شيئاً واحداً حيث يرى ذلك بقاء للوجوب السابق، فلا محذور في استصحاب الوجوب، فتأمل.

القسم الرابع من الكلي

وهو ما إذا علم بوجود فرد وارتفاعه قطعاً، ثم علم بوجود عنوان يحتمل انطباقه على الفرد المعلوم الزوال أو على فرد آخر، بحيث إنّه إن كان منطبقاً عليه فالكلي زائل لا محالة، وإن لم يكن منطبقاً عليه فالكلي باقٍ.

وهو على صورتين:

ص: 157


1- نهاية الدراية 5: 152-153.

الصورة الأولى: أن يعلم بوجود فردين ويعلم بالرافع مع الشكّ في توسطه بينهما أو تعقبه لهما، كما لو أجنب، ثم بعد ذلك أجنب مرّة أخرى واغتسل وشك في المتقدم منهما، فإن كانت الجنابة الثانية متقدمة فهو الآن متطهّر، وإن كان الغسل متقدماً فهو الآن محدث، وعليه فهو كان على يقين من كليّ الجنابة والآن شاك في ذلك الكلي.

الصورة الثانية: أن لا يعلم إلاّ بفرد واحد مع العلم بتعقبه بما يزيله ثم علم بفرد يحتمل كونه الفرد الأوّل أو فرداً جديداً، كما لو كان جنباً فاغتسل ثم رأى على ثوبه منياً يحتمل أنّه المنيّ الذي اغتسل منه، أو منيّ جديد حدث بعد الغسل، وعليه: فهو كان يعلم بكلي الجنابة والآن شاك فيه.

والفرق بين هذا القسم والقسم الثاني: أنّه في الثاني كان الفرد مردداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، وهنا الفرد معين لا تردد فيه - كالجنابتين في المثال الأوّل، والمني في المثال الثاني - إلاّ أنّ التردد في التقدم والتأخر كما في الأوّل، أو في الوحدة والتعدد كما في الثاني.

كما أنّ الفرق بينه وبين القسم الثالث: أنّه في الثالث يوجد علم واحد حيث يعلم بوجود فرد مقطوع الزوال مع احتمال وجود فرد آخر، وهنا يوجد علمان أحدهما تعلّق بالفرد المقطوع الزوال والآخر بالعنوان المحتمل انطباقه على المقطوع الزوال أو على غيره.

والأقرب عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم، والدليل عليه:

أوّلاً: بأنّه لا اتصال بين اليقين والشك، لانتقاض اليقين بالجنابة الأولى بالغسل مع احتمال حدوث جنابة جديدة بعده، وعليه: فاليقين بكلي الجنابة غير متصل بالشك فيهما.

ص: 158

وثانياً: بأنّه لا شك لاحق، وذلك للقطع بارتفاع الجنابة بالغسل في الصورتين، فارتفع الكلي قطعاً، والأصل عدم حدوث جنابة جديدة وهو قطع تعبدي، وعليه فلا شك أصلاً.

وعن الفقيه الهمداني(1):

التفصيل بالذهاب إلى جريان الاستصحاب في الصورة الأولى دون الثانية.

وذلك لأنّ الشك في الصورة الأولى إنّما هو في ارتفاع التكليف، فيوجد يقين سابق وشك لاحق، لأنّ العلم بحدوث جنابة جديدة مقطوع وإنّما الشك في ارتفاعها، وأمّا الشك في الصورة الثانية فهو في حدوث التكليف، فلا يقين سابق بتكليف جديد، حيث إنّه لم يتحقق علم بحدوث جنابة جديدة غير ما علم حدوثها سابقاً.

لا يقال: احتمال وحدة التكليف وتعدده مشترك في كلا شقي التفصيل.

لأنه يقال: نعم، لكنه أوجب فرقاً في الشك في ارتفاع التكليف تارة، والشك في حدوث التكليف أخرى.

وأشكل عليه: بأنّ المني الثاني لا أثر له إن كان قبل الغسل، فالموضوع لإيجاب الغسل ولغيره من الأحكام مركب من حدوث الجنابة وعدم غسله منها، وهذا الموضوع المركب لا يقين سابق له(2).

ص: 159


1- مصباح الفقيه 1 [ق1]: 205.
2- بيان الأصول 7: 118.

فصل في استصحاب الأمور التدريجيّة

اشارة

وهي إمّا الزمان، أو الأمور الزمانية كجريان الماء، أو الأمور المقيدة بالزمان كالجلوس إلى الليل.

فإنّ الموجودات إمّا قارّة وهي التي تجتمع أجزاؤها معاً كزيد وعمرو ولا إشكال في تمامية الأركان في استصحابها، وإمّا غير قارّة وهي التي لا تجتمع أجزاؤها بل وجودها تدريجي بأن يوجد جزء ثم يزول مقارناً لوجود جزء آخر، والكلام في مباحث ثلاثة:

المبحث الأوّل: في استصحاب الزمان بنفسه

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: استصحاب الزمان بمفاد كان التامة

أي استصحاب بقاء الزمان بنفسه فيجري الاستصحاب فيه، وذلك لتمامية أركانه.

وقد أورد عليه إشكالات، منها:

الإشكال الأوّل: إنّ ما تعلّق اليقين به وهو الجزء السابق قد زال قطعاً، وما هو مشكوك وهو الجزء الحالي لم يكن متيقناً.

والجواب: إنّ الوحدة العرفية تكفي في صدق النقض ومن ثَمّ النهي عنه، فالليل واحد عرفاً، وإن كان آنات متدرجة بالدقة، بل يمكن ادعاء أنّ

ص: 160

الليل واحد دقة أيضاً حيث إنّه ليس الآنات المتصرّمة، وإنّما هو مفهوم بسيط منتزع من آنات متشابهة في جهةٍ ما.

ونوقش: «بأنّ العرف وإن كان يرى الليل والنهار واحداً، إلاّ أنّه لا يغفل عن كونهما تدريجيين، وأنّ بعض أجزائهما يوجد بعد انصرام بعضها الآخر، فلا يصدق عنده وجود الليل بوجود بعض أجزائه، بل يقسّمه ويجزّئه بالعشر والخمس والنصف وأمثالها»(1).

وفيه: أنّ نظر العرف إلى الليل والنهار بنحوين: بالجامع وبالأجزاء، فهو يرى الجامع ينبسط على الآنات - انبساط الكل على الأجزاء - فيراه واحداً حقيقة، وأمّا تقسيمه إلى أجزائه فكتقسيمه أيّ كل ٍ على أجزائه.

الإشكال الثاني: إنّ موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء، كما أنّ الاستصحاب هو التعبد ببقاء ما كان، والبقاء هو الوجود في الآن الثاني، وهذا لا يتصور في الزمان حيث إنّ الزمان لا يوجد في زمان آخر!

والجواب: أوّلاً: إنّ البقاء لم يؤخذ في دليل الاستصحاب، بل أخذ فيه عدم نقض اليقين بالشك، وموضوعه الشك في الوجود بعد اليقين به، وهذا المعنى يمكن تحققه في الزمان.

وثانياً: إنّ مفهوم البقاء لم يؤخذ فيه الزمان، ولذا فإنّ الله تعالى باقٍ مع أنّه ليس في الزمان وليس في إطلاق الباقي عليه عناية أو مجاز، بل معنى البقاء هو عدم انقطاع الوجود سواء كان ذلك في الزمان أم لا.

الإشكال الثالث: ما في المنتقى قال: «إنّ متعلق الشك ليس بقاء النهار

ص: 161


1- رشحات الأصول 2: 292.

والآن الواقع بين الحدين، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهاراً أو ليس بنهار، وذلك لأنّه بعد فرض وحدة النهار بجميع آناته وملاحظته موجوداً واحداً فيستحيل تعلّق اليقين والشك فيه إلاّ بتغاير الزمانين، والمفروض أنّه غير متصوّر في الزمان، فالشك الموجود فعلاً ليس إلاّ في كون هذا الآن نهاراً أو لا، وإن أطلق الشك في بقاء النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة النهار اسماً لمجموع الآنات الخاصة وليس له وجود غيرها، والمشكوك هو نهارية الآن الذي نحن فيه وعدمه، وهذا مما لا حالة سابقة له»(1).

ويرد عليه: أنّ هنا شقاً ثالثاً، وهو انبساط النهار على الآن اللاحق، فالشك في بقاء النهار ليس بمعنى وجوده في الآن اللاحق، بل بمعنى انبساطه على الآن اللاحق، إذ لا نظر في النهار إلى الآنات بل إلى العنوان الذي ينتزع منها فالشك فيه ليس مسامحياً بل حقيقي، فتأمل.

المقام الثاني: استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة

كما لو شككنا في أنّ هذا اليوم من شهر رمضان أم لا، فأردنا استصحاب رمضانية هذا اليوم، فهذا استصحاب وصف الزمان لا وجوده.

وقد اختلف في جريان الاستصحاب فيه، فذهب جمع كالشيخ الأعظم والمحقق النائيني وغيرهما إلى عدم جريان الاستصحاب لعدم اليقين السابق أو لكونه مثبتاً.

بيانه: أنّه لا يقين سابق بكون هذا اليوم من شهر رمضان، بل هو مشكوك من الأوّل، وأمّا لو أردنا استصحاب بقاء شهر رمضان فهو لا يثبت رمضانية هذا

ص: 162


1- منتقى الأصول 6: 184.

اليوم إلاّ بالأصل المثبت(1)، وبعبارة أخرى(2):

إنّ استصحاب النهار - مثلاً - لا يتكفل أكثر من إثبات وجود النهار، كما لو كان متعلق الحكم أخذ فيه الوقوع في النهار، مثل الإمساك في باب الصوم، فإنّه يعتبر فيه أن يكون في النهار، فمع الشك في بقاء النهار لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار.

وأجاب عن الأوّل المحقق العراقي(3)

بما حاصله: عدم الفرق بين الاستصحاب بمفاد كان التامة أو الناقصة، وذلك لأنّه كما يقع الزمان آناً فآن، فكذلك نهارية الساعة ورمضانية اليوم، فإنّ هذه العناوين - مطلقاً - أوصاف قائمة بالزمان نفسه، وعليه فكما أنّ لنفس الزمان بقاءً واستمراراً بمفاد كان التامة، فكذلك لنهارية النهار استمرار بمفاد كان الناقصة، فيجري فيه الاستصحاب بنحو ما يجري في مفاد كان التامة.

وبعبارة أخرى: الآنات المتعاقبة كما تكون بنفسها تدريجية كذلك وصفها تدريجي، وكما يجري الاستصحاب باعتبار الآنات بين الحدين كذلك وصفها فيقال مثلاً: الآنات المتحدة عرفاً كانت موجودة وكانت متصفة بالنهارية، فكذلك بقاءً!

ويمكن أن يقال: بالفرق عرفاً بين استمرار الزمان وبين وصفه، فشهر رمضان واحد عرفاً بل دقة كما مرّ، فلذا يتحقق فيه اليقين والشك، وأمّا

ص: 163


1- فوائد الأصول 3: 203؛ أجود التقريرات 4: 103.
2- منتقى الأصول 6: 158.
3- نهاية الأفكار 4[ق1]: 148.

وصف اليوم بكونه من شهر رمضان فلا يقين سابق فيه عرفاً ولا دقة، فلا يقال: إنّ هذا اليوم كنّا على يقين من أنّه من شهر رمضان والآن نشك فيه، بل يقال: إنّه مشكوك الرمضانية من الأوّل.

وأجاب عن الثاني وذكر تفصيلاً، وحاصله: إنّ أخذ الزمان في المؤقتات إمّا راجع إلى الهيئة أو المادة، وكل منهما إمّا على نحو القيدية أو المعيّة... .

1-2- أمّا لو رجع إلى الهيئة - سواء بنحو القيدية أو المقارنة - فلا شبهة في صحة الاستصحاب عند الشك في بقائه من غير أن يرتبط بالأصل المثبت، لأنّه من قبيل استصحاب الموضوع وإثبات الحكم الفعلي به.

3- وأمّا لو رجع إلى المادة على نحو المقارنة، كما لعلّه الظاهر في أكثر أدلة التوقيت في المؤقتات كقوله (علیه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة»(1)

وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ}(2)،

حيث كان المستفاد منها مجرد لزوم وقوع المأمور به - صلاةً أو صوماً - عند تحقق أوقاتها بلا اقتضائها لكون الوقوع في الوقت المضروب لها شرطاً شرعياً، فلا إشكال في جريان الاستصحاب، فإنّه باستصحاب بقاء الليل أو النهار أو شهر رمضان يترتب وجوب الإتيان بالصوم أو الصلاة، ويترتب عليه تحقق الامتثال والخروج عن عهدة التكليف عقلاً بإتيان المأمور به في الوقت المستصحب، لكونه من اللوازم العقلية المترتبة على الأعم من الواقع

ص: 164


1- تهذيب الأحكام 2: 104؛ عنه وسائل الشيعة 1: 372.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.

والظاهر، ولا يحتاج إلى عنوان وقوعه في الزمان الذي كان الليل أو النهار أو رمضان، بعد عدم أخذ عنوان الظرفية قيداً.

4- وأمّا لو رجع إلى المادة على نحو القيدية أو الظرفية بحيث اعتبر عنوان وقوع الفعل في الوقت المضروب شرطاً شرعياً، فيمكن تصحيحه بناءً على استصحاب الليلية والنهارية للآنات المتدرجة، والرمضانية للأيام المتعاقبة، إذ حينئذٍ يصدق وقوع الفعل في زمان كان ذلك الزمان ليلاً أو نهاراً أو رمضاناً، فوقوع أصل الفعل في زمان كان محرزاً بالوجدان، واتصاف ذلك الزمان بالليلية أو النهارية أو الرمضانية كان محرزاً بالأصل، فيترتب عليه الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، كما يمكن الاستصحاب في نفس العمل المظروف أو المقيد، بتقريب أنّ هذا العمل الشخصي لو أتى به سابقاً قبل الآن المشكوك ليليّته أو نهاريته لوقع متصفاً بعنوان كذا والآن كما كان(1).

ويرد عليه: أوّلاً: بأنه بناءً على رجوع القيد إلى الهيئة فإن الوجوب المقيد أو المقارن للزمان لا شك فيه، فلا إشكال في الوجوب المقيد بشهر رمضان، وعلى فرض الشك فالاستصحاب غير نافع لإثبات وجوب الصيام في يوم الشك مثلاً لأنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وثانياً: إنّ ظاهر أكثر الأدلة رجوع القيد إلى المادة، مع اشتراط الواجب بالزمان وليس مجرد المقارنة، كما هو ظاهر مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ}(2)

وقوله سبحانه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ

ص: 165


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 148-150.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.

فَلْيَصُمْهُ}(1).

وقد مرّ أنّ الوصف كنهارية الآن أو رمضانية اليوم لا حالة سابقة له، فإثباته لا يكون إلاّ بالأصل المثبت.

المبحث الثاني: في استصحاب الزمانيات

وهي التدريجيات الواقعة في الزمان مثل جريان الماء وسيلان الحيض ونحو ذلك مما وقعت موضوعاً للأحكام الشرعية.

والكلام في الاستصحاب فيها هو الكلام في استصحاب الزمان بمفاد كان التامة أو الناقصة.

نعم قد يكون منشأ الشك في البقاء هو الشك في المقتضي أو المانع كما لو شك في بقاء جريان الماء للشك في منع حجر لاستمراره أو شك في بقائه للشك في نفاد مادّته، ولا إشكال في الاستصحاب على المبنى.

وقد يكون منشؤ الشك هو نفاد مادة واحتمال تجدد مادة أخرى في الجريان مثلاً، كما لو شككنا في بقاء التكلّم مع العلم بانتهاء الداعي الأوّل واحتمال حدوث داع ٍ جديد، وهنا تختلف الحالات...(2).

1- فتارة: نقول باختلاف الفعل لاختلاف الدواعي والأغراض، وأنّ تعدد الأسباب توجب تعدد المسببات فهذا من استصحاب القسم الثالث من الكلي، فإن احتمل تقارنه مع الداعي الأوّل فهو من الصورة الأولى ولو كان من احتمال زوال داع ٍ وحدوث داع ٍ آخر مقارناً لزوال الأوّل فهو من الصورة الثانية.

ص: 166


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- منتهى الأصول 2: 595.

2- وتارة: نقطع بارتفاع مرتبة شديدة أو خفيفة مع احتمال حدوث مرتبة أخرى منه، كما لو احتملنا استمرار الجريان لكن مع زيادة شدته أو مع ضعفه، فهذا من استصحاب القسم الثالث من الكلي من صورته الثالثة.

3- وتارة: نقول بأنّ اختلاف الدواعي والأسباب لا يضر بالوحدة الشخصيّة بمعنى أنّ حدوث هذا الشخص بسببٍ وداع ٍ وبقاءه بسببٍ وداع ٍ آخر، ولا يبعد أن يكون بالنظر العرفي بقاء ذلك الشخص لا انعدام شخص وحدوث شخص آخر، وحينئذٍ لا محذور في جريان الاستصحاب أصلاً.

إن قلت(1): تعدد المادة يقتضي تعدد الجريان، فالجريان الأوّل غير الجريان الثاني وقد زال الأوّل بزوال مادته قطعاً، والثاني مشكوك الحدوث.

قلت: إنّ تعدد المادة وتبدلها بالأخرى لا يوجب تعدد الجريان عرفاً بل لا يوجبه دقة - إذا لم يحصل انقطاع فيه - ، إذ حاله كحال الخيمة إذا كانت معتمدة على عمود مع تبديله بآخر، فبقاؤها منتصبة ليس بقاءً آخر غير الأوّل.

إن قلت: إنّ الماء يتغيرّ باستمرار.

قلت: مورد الاستصحاب هو الجريان وهو لا يتعدد بتعدد الماء عرفاً ودقة.

ثم إنّ الشيخ الأعظم قال في الرسائل: «وكذا لو شك بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة أم لا، فيمكن إجراء

ص: 167


1- فوائد الأصول 4: 441.

الاستصحاب، نظراً إلى أنّ الشك في اقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان، فالأصل عدم انقطاعه. وكذا لو شك في اليأس فرأت الدم، فإنّه قد يقال: باستصحاب الحيض نظراً إلى كون الشك في انقضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض كل شهر.

وحاصل وجه الاستصحاب: ملاحظة كون الشك في استمرار الأمر الواحد الذي اقتضاه السبب الواحد، وإذا لوحظ كل واحد من أجزاء هذا الأمر حادثاً مستقلاً فالأصل عدم الزائد على المتيقن وعدم حدوث سببه، ومنشأ اختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذا المورد اختلاف أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمر حادثاً أو حوادث متعددة، والإنصاف وضوح الوحدة في بعض الموارد، وعدمها في بعض، والتباس الأمر في ثالث»(1).

وأشكل عليه: أوّلاً: إنّ الاستصحاب إن كان في سيلان الدم فلا إشكال في عدم جريانه لتعدد السيلان بالقطع والجريان، وإن كان استصحاب اقتضاء الطبيعة فهو أصل مثبت مع كونه في المقتضي.

وفيه: أنّه استصحاب للحيض وليس للسيلان -

وإن كان يلازمه عادة - وانقطاع السيلان لا يوجب الجزم بانقطاع الحيض وذلك لأنّ الشارع وبالحكومة اعتبر فترة الانقطاع حيضاً إن رجع الدم ثم انقطع في العشرة على التفصيل المذكور في الفقه.

وثانياً: إن اختلاف أنظارهم ليس لأجل ما ذكره بل لكل واحد من

ص: 168


1- فرائد الأصول 3: 307-308.

الفرعين وجه خاص(1).

أمّا الفرع الأوّل: فقد ذكروا أنّ النقاء المتخلل محكوم بالحيضيّة، فلو انقطع الدم وشكت في أنّها هل ترى الدم بعد ذلك مرة أخرى أم لا، كان ذلك من قبيل الشبهة المصداقية للفرع المذكور، فقد يقال: بالرجوع إلى الاستصحاب الحكمي - أي محكوميتها بأحكام الحيض - وقد يقال: بالرجوع إلى استصحاب عدم السيلان بعد، فلا يكون من قبيل النقاء المتخلل، فهي محكومة بالطهر، وهذا حاكم على الأوّل، لكون الشك في الأوّل مسبباً عن الشك في حدوث الدم بعد وعدمه، وهذا هو منشأ الخلاف في هذا الفرع.

وأمّا الفرع الثاني: فوجه الحكم بالحيضيّة هو الرجوع إلى قاعدة الإمكان بناءً على تفسيرها بالإمكان الاحتمالي، مضافاً إلى استصحاب عدم اليأس، ووجه عدمه أنّ المراد بالإمكان هو الإمكان الشرعي فما لم يحرز إمكان كونه حيضاً شرعاً لا يحكم عليه بالحيضيّة، فما دام لم يحرز عدم يأسها لا يجري فيه قاعدة الإمكان، فتأمل.

المبحث الثالث: استصحاب الأمور المقيدة بالزمان

اشارة

وهي أمور قارة ثابتة قُيّدت المادة فيها بالزمان، كالإمساك المقيد بكونه في نهار شهر رمضان، والوقوف المقيد بكون في يوم عرفة.

ومنشأ الشك تارة الشك في وحدة المطلوب مع الشك في القيد، وتارة الشك في تعدد المطلوب مع العلم بعدم وجود القيد، والأوّل تارة شبهة

ص: 169


1- رشحات الأصول 2: 293.

موضوعية وأخرى حكمية، والحكمية تارة الشك في المفهوم أو لإجمال النص أو تعارض النصين، فهنا مطلبان:

المطلب الأوّل: الشك في القيد مع وحدة المطلوب
اشارة

كما لو وجب عليه الإمساك المقيد بكونه في النهار من شهر رمضان ثم شك في تحقق الليل، وفيه صور:

الصورة الأولى: الشك في الشبهة الموضوعيّة

قد يقال: بجريان استصحاب بقاء الزمان كاستصحاب بقاء النهار الذي هو قيد للإمساك الواجب.

وأشكل عليه: بأنّه أصل مثبت، إذ استصحاب بقاء النهار لا يثبت وقوع الإمساك فيه ليترتب عليه الوجوب، وبعبارة أخرى: إنّ استصحاب النهار لازمه وقوع الإمساك فيه فيجب، وهذا اللازم عقلي.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأوّل: ما عن المحقق النائيني والمحقق العراقي(1)،

وحاصله: أنّ الموضوع مركب من المقيّد وهو الإمساك والقيد وهو النهار، والإمساك ثابت بالوجدان، والنهار يثبت بالاستصحاب بمفاد كان التامة، ويترتب على ذلك الوجوب من غير واسطة.

وبعبارة أخرى: ليس بين الإمساك والزمان اتصاف وعروض بل هما وجودان مستقلان لا بدّ من إحرازهما ليثبت الوجوب.

ص: 170


1- أجود التقريرات 4: 106-107؛ نهاية الأفكار 4[ق1]: 150.

وأشكل عليه في المنتقى(1)

بما حاصله: أنّه لا يمكن أن يكون الزمان جزءاً للموضوع لأنّ الوجوب يتعلق بالأمر الاختياري وهو الإمساك المقيد بنهار شهر رمضان مثلاً، وليس الزمان وهو كونه نهار شهر رمضان باختياري فلا يمكن أن يكون موضوعاً أو جزءاً لموضوع الحكم الشرعي!

ويمكن أن يقال: عدم اختيارية بعض أجزاء المركب لا تنافي اختياريته، فلا محذور في كون المركب من الأمر الاختياري والأمر غير الاختياري موضوعاً للحكم الشرعي، بل جميع الأفعال الاختيارية كذلك إذ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، مضافاً إلى أنّه لو استحال فلا فرق بين كون غير الاختياري جزءاً للموضوع أو قيداً له لأنّ المقيد بالأمر غير الاختياري سيكون غير اختيارياً على هذا المبنى.

فتحصل: أنّ هذا الجواب لا بأس به إلاّ أنّه قد لا يجري في بعض الموارد مما كان ظاهر الدليل كون الزمان قيداً لا جزءاً من الموضوع.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(2) وحاصله: أنّ متعلق الحكم تارة هو الإمساك في النهار، وتارة الإمساك النهاري، والمثبت هو الثاني دون الأوّل، وذلك لأنّه يكفي على الأوّل في تحقق متعلق التكليف استصحاب النهار - مثلاً - ، إذ لا فرق بين ثبوته وجداناً أو تعبداً، والاستصحاب نقّح موضوع الوجوب وهو النهار تعبداً مع كون الإمساك متحقق وجداناً.

وأشكل عليه: أوّلاً: باستلزامه الدور، حيث إنّ جريان الاستصحاب

ص: 171


1- منتقى الأصول 6: 190-191.
2- نهاية الدراية 5: 157.

يتوقف على ثبوت أثر شرعي له وإلاّ كان جعله لغواً، فلو توقف الأثر على الاستصحاب لدار، وفي ما نحن فيه تعبد الشارع بنهارية المشكوك متوقف على الأثر وهو كون الإمساك في النهار، وهذا الأثر يتوقف على التعبد بالاستصحاب.

وفيه: أنّ الأثر هو وجوب الإمساك وهو متوقف على دليل الصوم لا على الاستصحاب، وبعبارة أخرى: إنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ لو كان أثره وجوب الإمساك، ووجوب الإمساك لا يتوقف على الاستصحاب بل على دليل وجوب الصوم، ولولا ذلك لدار كل استصحاب حكمي حيث إنّ الحكم يتوقف على الاستصحاب وهو يتوقف على الأثر الذي هو ذلك الحكم!

وثانياً: ما في المنتقى من «أنّ استصحاب بقاء النهار لا يثبت إضافة الإمساك إلى النهار وتقييده به إلاّ بالملازمة، نظير استصحاب كون هذا المائع خمراً فإنّه لا يثبت كون شربه شرب الخمر إلاّ بالملازمة والمفروض إثبات كون الإمساك في النهار»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ استصحاب بقاء النهار لازمه الشرعي وجوب الإمساك بدليل وجوب الصوم في النهار، كما أن استصحاب كون هذا المائع خمراً يكفي في ترتب الحرمة عليه من غير حاجة إلى إثبات كون هذا الشرب شرب خمر.

وثالثاً: إنّ القيود المأخوذة في الموضوعات الشرعية إنّما هي بمفاد كان

ص: 172


1- منتقى الأصول 6: 881.

الناقصة، وهكذا الزمان، فلا بدّ من إثبات نهاريّة هذا الوقت المشكوك فلا يكفي استصحاب بقاء النهار، ونهاريّة هذا الوقت لا يقين سابق له.

وأجيب: بأنّه لو كان المفاد مفاد كان الناقصة فالتقييد والإضافة وجداني تكويني، وإنّما الشك في وصف المضاف إليه وقد ثبت بالأصل، فتأمل.

الجواب الثالث: ما في الكفاية(1)

وحاصله: إجراء استصحاب المقيّد بما هو مقيّد فيقال: إنّ الإمساك كان في النهار فالآن كذلك.

وأشكل عليه: بأنّ الإمساك المشار إليه إمّا يراد به الجزء الموجود منه، أو الجزء الذي لم يوجد بعد، والأوّل لا يتعلق به حكم لأنّه طلب الحاصل، والثاني لا حالة سابقة له.

وفيه: أن الكلام ليس في الإمساك بما هو هو، بل الإمساك المقيد بالنهار وقد كان متيقن الحدوث وهو الآن مشكوكه.

الجواب الرابع: ما في المنتقى: «بأنّ الملحوظ في دليل الاستصحاب إمّا تنجيز الواقع المجهول فلا إشكال أصلاً، إذ مرجع التنجيز إلى بيان ترتب المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع، ومثله لا يعتبر فيه إحراز ثبوت الواقع بل احتماله يكفي في الاندفاع للعمل، وعليه فيكفي استصحاب النهار بلا حاجة إلى إحراز كون الإمساك في النهار، لأنّ مرجع الاستصحاب المزبور إلى تنجيز الحكم بوجوب الإمساك على تقدير ثبوته في الواقع، ولا يتكفل إثبات الحكم، وعليه فلا بدّ من الإتيان بالإمساك فراراً عن العقاب المحتمل لاحتمال ثبوت الحكم لاحتمال بقاء النهار.

ص: 173


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 72.

نعم لو التزمنا بأنّ المجعول هو المتيقن فيتكفل دليل الاستصحاب جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي فيشكل الأمر، لأنّ الحكم الواقعي هو وجوب الإمساك المقيد بكونه في النهار، وهذا مما لا يمكن أن يثبت في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء النهار، إذ بعد عدم إحراز أنّ الزمان الذي نحن فيه نهار أو ليل لا يحرز أنّ الإمساك في النهار - فعلاً - مقدور، لاحتمال أنّ هذا الزمان ليل، واستصحاب بقاء النهار لا يثبت أنّ هذا الآن نهار، فيكون ثبوت وجوب الإمساك في النهار محالاً، لأنّه تكليف بأمر لا يعلم أنّه مقدور أم لا»(1).

ويرد على الأوّل: أنّ أصالة البراءة تنفي احتمال تنجز الواقع على فرض ثبوته، لأنّ استصحاب بقاء النهار إن لم يثبت وجوب الإمساك وإنّما أورث احتمال تنجز الواقع فقط كان أصل البراءة حاكماً عليه لأنّه ينفي هذا الاحتمال تعبداً، فتأمل.

مضافاً إلى أنّ هذا المقدار لا يخرجه عن الأصل المثبت، وذلك لأنّ التنجز الذي هو أثر وجوب الإمساك لا يترتب إلاّ عبر الأصل المثبت. وبعبارة أخرى: ليس كل تنجز خارج عن الأصل المثبت بل التنجز الذي هو أثر نفس الاستصحاب أو نفس الحكم دون التنجز الذي هو أثر المستصحب، فتأمل.

وأمّا الثاني فقد مرّ جوابه.

الجواب الخامس: بتغيير الاستصحاب من الموضوع إلى الحكم، وذلك باستصحاب بقاء وجوب الإمساك المقيد بالنهار مثلاً، إذ يشك في بقاء

ص: 174


1- منتقى الأصول 6: 185.

الوجوب بسبب الشك في بقاء الزمان.

وأشكل عليه المحقق النائيني بقوله: «فإنّه إن أريد من الاستصحاب الحكمي إثبات بقاء نفس الحكم، فالاستصحاب الموضوعي - وهو استصحاب بقاء وقت الحكم - يجري ويترتب عليه بقاء الحكم، ولا يكون من الأصل المثبت، وإن أريد من استصحاب الحكم إثبات وقوع الفعل المأمور به في وقته فهذا مما لا يثبته استصحاب بقاء وقت الوجوب فضلاً عن استصحاب بقاء نفس الوجوب، فالاستصحاب الحكمي لا أثر له، فإنّ الأثر الذي يمكن إثباته فبالاستصحاب الموضوعي يثبت، والأثر الذي لا يمكن إثباته فبالاستصحاب الحكمي لا يثبت، فلا فائدة في الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي»(1).

لا يقال: «استصحاب الزمان لا يترتب عليه إلاّ ما هو أثره شرعاً، ومن المفروض أن ليس له أثر إلاّ بقاء وجوب الصلاة، وأمّا وقوع الصلاة في النهار فهو من آثار بقائه عقلاً لا شرعاً، وهذا بخلاف استصحاب وجوبها، فإنّ معنى التعبد ببقاء الوجوب فعلاً هو التعبد ببقائه بجميع خصوصياته التي كان عليها، ومن المفروض أنّ الوجوب السابق إنّما كان متعلقاً بما إذا أتى به كان واقعاً في النهار، فالآن يستصحب ذلك الوجوب على النحو الذي كان عليه سابقاً»(2).

فإنه يقال: إنّه «لو سُلّم أنّ التعبد بالوجوب يقتضي التعبد بجميع

ص: 175


1- فوائد الأصول 4: 438.
2- أجود التقريرات 4: 105-106.

خصوصياته فإنّما ذلك في الخصوصيات الشرعية لا التكوينيّة، ومن الواضح أنّ كون الفعل واقعاً في الزمان الخاص أمر تكويني فلا معنى للتعبد به، لأنّه لا يقبل الجعل والتعبد»(1).

هذا مضافاً إلى استلزامه حجيّة الأصل المثبت.

ومن كل ذلك يتبيّن أنه لا محذور في استصحاب الموضوع؛ وليس بأصل مثبت.

لكن لو فرض عدم جريان الاستصحاب فالأصل المسببي هو البراءة.

وقيل: إنّه الاشتغال، وذلك لأنّه بدخول الوقت اشتغلت الذمة بالتكليف ومع الشك في انقضائه يشك في فراغ الذمة، مضافاً إلى العلم بالغرض في الوقت ثم الشك في القدرة على تحصيله بسبب الشك في بقائه الناشء عن الشك في بقاء الوقت.

وفيه: إنّ الاشتغال بالتكليف والعلم بالغرض مقيدان بالوقت، ففي الوقت المشكوك لا علم بالاشتغال من الأوّل، كما أنّ المعلوم هو الغرض في الوقت لا في خارجه وفي الوقت المشكوك لا علم باشتغال الذمة بالغرض أصلاً، فتأمل.

الصورة الثانية: الشك في الشبهة الحكمية المفهومية

كما لو تردد المغرب بين تحققه باستتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

أ) أمّا الاستصحاب الموضوعي:

ص: 176


1- منتقى الأصول 6: 190.

فقد يقال: بعدم جريانه وذلك لعدم الشك في الموضوع لدوران الأمر فيه بين مقطوع التحقق ومقطوع العدم، والشك إنّما هو في المفهوم وليس موضوعاً للحكم الشرعي.

وفيه: إنّ الشك في المفهوم يسري إلى المصداق، وإنّ الدوران بين قطعين قد يكون مصداقاً للشك، كما لو شككنا في أيّ حكم حيث إنّ الله إن كان شرّعه فهو مقطوع الوجود وإن لم يشرعه فهو مقطوع العدم، والحاصل: أنّ القطع تعليقي وأمّا الشك فهو تنجيزي وهو الذي يدور عليه الاستصحاب.

ب) وأمّا الاستصحاب الحكمي:

فقد يقال: باليقين بالحكم قبل استتار القرص مثلاً وبالشك فيه بعده.

وأشكل عليه: بتردد المورد بين كونه من إسراء حكم من متعلق لآخر إن كان الليل يتحقق باستتار القرص مثلاً، وبين كونه نقضاً لليقين بالشك إن كان تحقق الليل بذهاب الحمرة، وعليه فلا إحراز لكون المورد من موارد نقض اليقين بالشك، فالتمسك بدليل الاستصحاب فيه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويمكن أن يقال: إنّ مرجع هذا إلى عدم حجيّة الاستصحاب مع الشك في المقتضي، وقد مرّ الجواب عنه.

الصورة الثالثة: الشك في الشبهة الحكمية لتعارض النصين أو إجمال النص

كما لو شك في نهاية وقت صلاة العشاء هل هو منتصف الليل أو الفجر لأجل التعارض أو الإجمال.

فقد قيل: بعدم جريان الاستصحاب، أمّا الموضوعي فلأنّ غاية الوجوب

ص: 177

إن كانت منتصف الليل فقد تحقق قطعاً، وإن كان طلوع الفجر فلم يتحقق قطعاً فدار الأمر بين متيقن الزوال ومتيقن عدم الحدوث، وأمّا الحكمي فلدوران الأمر بين إسراء حكم من متعلق لآخر وبين نقض اليقين بالشك.

ويرد عليه: ما ورد على سابقه فلا نعيده.

المطلب الثاني: الشك في بقاء حكم المقيد بالزمان من جهة احتمال تعدد المطلوب

كما لو أمره بالجلوس في المسجد إلى الظهر، واحتملنا استمرار الحكم إلى ما بعد الظهر.

فقد يقال بالتفصيل: بأنه لو كان الزمان ظرفاً جرى الاستصحاب، وإن كان قيداً فلا يجري وذلك لتبدل الموضوع مع عدم اليقين السابق للموضوع الجديد، وحينئذٍ يمكن جريان استصحاب عدم الحكم، وقد ذهب إليه الشيخ الأعظم(1) والمحقق الخراساني(2).

واستدل له: بتمامية أركان الاستصحاب في ما لو كان الزمان ظرفاً حيث إنّ الظرف ليس قيداً للموضوع بحيث يتبدل الموضوع بتبدله، عكس ما لو كان قيداً(3).

ولعلّ المراد: أنّ الزمان إن كان ظرفاً فلا يعدّه العرف مقوّماً بل حالة وعارضاً، عكس ما لو كان قيداً.

ومع كونه قيداً فلا يجري استصحاب الحكم السابق لتبدل الموضوع

ص: 178


1- فرائد الأصول 3: 210.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 73-74.
3- فرائد الأصول 3: 210-211.

فيجري استصحاب عدم الحكم الذي كان قبل التشريع أو كان أزلاً.

وأشكل عليه: أوّلاً: بعدم إمكان استصحاب الحكم، إذ الزمان قيد دائماً(1)،

وذلك لأنّ قيد متعلّق الحكم - وهو فعل المكلف - مقوّم بنظر العرف، لأنّ متعلق الحكم هو ما أخذ الحكم داعياً إليه ومحركاً نحوه، فإذا كان المدعو إليه هو الفعل الخاص كانت الخصوصية مقومة عرفاً، فمع انتفائها يمتنع جريان الاستصحاب.

وغير خفي أنّ هذا خروج عن الفرض بكون الزمان ظرفاً وإرجاعه إلى كونه قيداً.

وثانياً: بعدم إمكان استصحاب عدم الحكم حتى لو كان الزمان قيداً، وذلك لما ذكره المحقق النائيني قال: «لأنّ العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوقاً به، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كل حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليته لصفحة الوجود، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده فهذا العدم غير العدم الأزلي، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشيء، وبعبارة أوضح: العدم المقيّد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنّما يكون متقوماً بوجود القيد، كما أنّ الوجود المقيد بقيد خاص إنّما يكون متقوماً بوجود القيد، ولا يعقل أن يتقدّم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عنه، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقق في يوم الجمعة»(2).

ص: 179


1- منتقى الأصول 6: 193.
2- فوائد الأصول 4: 445-446.

ويمكن أن يقال: إنّ الشيء لو كان له فردان فوجود أحدهما ناقض للعدم الأزلي بالنسبة إليه ولا ينقض العدم الأزلي بالنسبة إلى الفرد الآخر، فليس الكلام في وجود الطبيعة في ضمن الزمان المقيد والزمان الذي بعده كي يقال: بأنّها وجدت فلا مجال لاستصحاب عدمها في الزمان الثاني، بل قبل التشريع نعلم بعدم الحكم في الزمان المقيد ونعلم بعدمه في الزمان اللاحق له، فانتقض العدم الأوّل بتشريع الحكم في المقيد ولم يعلم انتقاض العدم الثاني فلا محذور في استصحابه.

ثم لو شككنا في كون الزمان ظرفاً أو قيداً... .

فقد يقال: بجريان القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث نعلم بتحقق طبيعي الحكم إلاّ أنّه مردد بين الجلوس المطلق من جهة الوقت - في المثال - وبين الجلوس المقيّد، وفي الأوّل الحكم باقٍ قطعاً، وفي الثاني زائل قطعاً.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّه في القسم الثاني منه لا بدّ من تحقق العلم الإجمالي بأحد الفردين مع الترديد بينهما، وما نحن فيه ليس كذلك فإنّ أحد الفردين - وهو الحكم في الوقت - متيقن الحدوث، والفرد الآخر - وهو الحكم بعد الوقت - هو المشكوك فقط.

وفيه: إنّ الفرد القصير مشكوك من الأوّل، لاحتمال عدم تقيد الحكم بالوقت، كما أنّ الفرد الطويل مشكوك أيضاً، بمعنى أنّه حين دخول الوقت يعلم بتحقق أصل الحكم لكن لا يعلم أنّ مصداقه الحكم القصير المقيد بالوقت، أم الحكم الطويل الذي كان الوقت ظرفاً له، فالحكم في الوقت ليس هو الفرد القصير بل هو الكلي الجامع وإنّما الفرد القصير الحكم المقيد بالوقت وهو مشكوك فيه حينذاك.

ص: 180

وثانياً: بأنّه من الصورة الثالثة من القسم الثالث من استصحاب الكلي حيث إنّ المتيقن الحكم في الوقت ويحتمل بقاؤه وزواله في خارج الوقت مع عدم كونه آكد، وهذا الصنف يجري فيه الاستصحاب.

وفيه: أن استمرار الحكم لما بعد الوقت ليس حكماً آخر لا عرفاً ولا دقة، بل هو هو، والتأكيد وعدمه ليس كالسواد الشديد والضعيف، فتأمل.

ص: 181

فصل في الاستصحاب التعليقي

اشارة

وهو في ما لم يتحقق قيود الموضوع جميعها ثم تبدلت بعض حالاته ثم تحققت القيود التي لم تكن قبل تبدل الحالة، كالعنب الذي شرط حرمته الغليان، فإذا صار زبيباً ثم غلى وشككنا في حرمته.

والكلام في المقتضي في استصحاب الحكم التعليقي، وفي المانع عنه، وفي استصحاب الملازمة، وفي الموضوع التعليقي، فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في استصحاب الحكم التعليقي

وقد يقال: بجريان الاستصحاب فيه ويستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: ما في الرسائل: «إنه يعتبر في الاستصحاب تحقق المستصحب سابقاً، والشك في ارتفاع ذلك المحقَّق، ولا إشكال في عدم اعتبار أزيد من ذلك، ومن المعلوم تحقق كل شيء بحسبه... أمّا اللازم - وهي الحرمة - فله وجود مقيد بكونه على تقدير الملزوم، وهذا الوجود التقديري أمر متحقق في نفسه مقابل عدمه، وحينئذٍ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان وحرمة مائه، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيباً، فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها بعد صيرورته زبيباً؟»(1).

ص: 182


1- فرائد الأصول 3: 223.

وبعبارة أخرى: إنّ الحكم المعلق قبل تحقق قيده له فعلية من بعض الجهات، فدليل الاستصحاب شامل له.

وأشكل عليه: بأنّ الأمر يدور بين الوجود والعدم، ولا معنى للفعلية من بعض الجهات، بل إن كانت الفعلية من جميع الجهات كان الشيء موجوداً وإلاّ كان معدوماً، بل القول بالوجود من جهة دون جهة جمع بين النقيضين، وعليه فقبل الغليان لا يوجد حكم أصلاً، وبغليان الزبيب لا يوجد متيقن سابق كي يتم استصحابه.

إن قلت: إنّ الشارع عندما أنشأ الحكم التعليقي فإنّ موضوعه هو ما فرض وجوده مع عدم تحقق القيد، إذ مع فرض وجوده يكون تنجيزياً لا تعليقياً.

قلت: إنّه في مقام الجعل وهو يرتبط بالحكم الكلي، وهذا الحكم لا يعتريه شك أصلاً كي نحتاج إلى استصحابه إلاّ لو احتملنا النسخ والمفروض أنّ الشك ليس من جهة النسخ، وأمّا في مقام المجعول فالعنب الخارجي من دون غليان لا حرمة له أصلاً فكيف تستصحب الحرمة؟

والحاصل: الحكم الكلي لا شك لاحق فيه، والحكم الجزئي لا يقين سابق له.

الدليل الثاني: ما عن المحقق الحائري في الدرر(1)، وحاصله: تمامية أركان الاستصحاب، أمّا اليقين السابق فإنّه في الواجبات المشروطة قد أنشأ

ص: 183


1- درر الفوائد، للحائري: 545.

الشارع حكماً قطعاً كما في الواجبات المطلقة، فلا محالة هنالك اختلاف قبل الإنشاء وبعده بالوجدان والضرورة، وعليه: فالتعليق جهة متوسطة بين الحصول المطلق وعدم الحصول أصلاً، وهذا معنى الفعلية من جهة دون أخرى، فإنّ الإنشاء هو إيجاد فلا يتخلّف عن الوجود فلا بدّ من مجعول لهذا الإنشاء، وهو المتيقن السابق، وأمّا الشك اللاحق: فحيث قد أنشأ الشارع حكماً للعنب مثلاً، فإذا صار زبيباً قبل غليانه فقد حصل الشك في بقاء ما جعله الشارع على العنب بذلك الإنشاء.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الذي أوجده بالإنشاء هو الحكم الكلي في عالم الاعتبار، وهذا لا شك يعتريه، إنّما الكلام أنّ ذلك الحكم لا ينطبق في العنب الخارجي قبل الغليان، وبعد زبيبيته وغليانه يشك في انطباقه مع عدم يقين سابق.

ويمكن أن يقال: في الجواب عن هذا الإشكال والإشكال على الدليل الأوّل بأنّ إنشاء الشارع الحكم الكلي لا ينفك عن أمر وضعي للموضوع الخارجي وهو إيجاد قابليته للحكم بحيث تصل إلى الفعلية بتحقق القيد. فبعد التشريع الكلي بحرمة العنب بالغليان أوجد الشارع قابلية الحرمة للعنب وبذلك يختلف العنب عن التمر مثلاً في تلك القابلية بالوجدان، وهذه القابلية ليست أمراً تكوينياً وإنّما هي أمر جعلي، وبصيرورته زبيباً يشك في بقائها فتستصحب ويترتب عليها الحرمة، والقابلية من الأعراض الوجودية.

وهذا نظير الوصية التمليكية حيث إنّ الموصي بإنشائها أوجد المقتضي لملكية الموصى له، وبموته تتم العلة التامة لها فتتحقق حين موته.

لا يقال: إنّه أصل مثبت لأنّه بتحقق الغليان في الزبيب تتحول القابلية إلى

ص: 184

فعلية وهذا أمر عقلي لازمه الحرمة التي هي الحكم الشرعي.

لأنّه يقال: إنّ الفعلية هي عبارة أخرى عن الحكم الشرعي، فهي بمعنى فعلية الحرمة.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: أنّ الأحكام التكليفية ليست قضايا حقيقية، لأنّ حقيقة الحكم ليست إلاّ الإرادة والكراهة المبرزتين، حيث ينتزع منهما العقل البعث أو الزجر، وظرف عروضهما هو النفس، فلا بدّ أن يكون متعلقهما نفسياً، وهما قد يكونان منوطين بشرط، ولا بدّ أن يكون هو نفسياً أيضاً لاستحاله اتصاف ما في النفس بما في الخارج، وعليه: فلو قال: العنب إذا غلى حرم كان متعلق الكراهة ما في النفس والمنوط به أيضاً في أفق النفس، وبذلك يثبت اليقين السابق، حيث إنّ قيد الكراهة - وهو الغليان - ليس هو الغليان الخارجي بل صورته، وهذه الصورة متحققة حين الإنشاء، ولا يمكن أن يكون الغليان جزءاً من الموضوع لأنّه قيد للحكم، والحكم وعِلله في رتبة متأخرة عن الموضوع في ما لو توقف أصل الحكم على وجود الموضوع، وبذلك يبطل الاستدلال على عدم وجود الحكم بعدم وجود موضوعه حيث توهم أنّ الغليان في المثال جزء من الموضوع والمركب عدم عند عدم جزئه.

وبعبارة أخرى: 1- قد يكون الحكم معلقاً على شيء كالحرمة المعلقة على الغليان، 2- وما يكون قيداً للحكم أو من عِلله لا يكون جزءاً من الموضوع وذلك لتأخره رتبة عن الموضوع، 3- والقيد - كالغليان - محقق

ص: 185


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 161-166.

حين الإنشاء لأنّه متعلق للحكم الذي هو الإرادة أو الكراهة النفسيان، ومتعلق الأمر النفسي لا بدّ أن يكون نفسياً.

وأورد عليه: أوّلاً: بأنّه لا محذور في أن تكون علة الحكم جزءاً من الموضوع لاختلاف الرتبة بين العلة والمعلول كاختلاف الرتبة بين الموضوع والحكم، فما كان جزء العلة للحكم يصح أن يكون جزءاً من الموضوع، نعم لا يصح ذلك في الحكم نفسه لكن ما هو من عِلل الحكم ليس هو الحكم.

وثانياً: إنّ الحكم ليس هو الإرادة أو الكراهة المبرزتين وإنّما هو مجعول ناشٍ عنهما، وهذا ما نجده في أنفسنا وفي ارتكاز العقلاء حيث يرون أنّ القانون صدر عن إرادة أو كراهة لا أنّه هما، كما أنّ ظاهر الأدلة الشرعية كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...}(1)

وقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ...}(2)

هو أنّ الحكم الشرعي مجعول ناشٍ عنهما.

وثالثاً: إنّه في الحكم الكلي تعلقت الإرادة والإنشاء بالصور الذهنية لكن بما هي مرأة للخارج وللموضوعات الجزئية، أمّا في العنب الخارجي فلا كراهة أصلاً قبل غليانه خارجاً، وعليه: فالأحكام الشرعية هي قضايا حقيقية لأنّ الموضوع مفروض الوجود فيُنشأ له حكم كلي، فلما يتحقق في الخارج ينطبق ذلك الحكم الكلي على الموضوع الخارجي، فتأمل.

ص: 186


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة المائدة، الآية: 4.

ثم إنّ المحقق العراقي(1)

قد ذكر نقضاً على القائلين بعدم جريان الاستصحاب لعدم وجود الحكم سابقاً، وذلك بجريانه في الأحكام الكلية، مع أنّ الموضوع غير متحقق بل يفترض فرضاً مثلاً: لو صدر الحكم الكلي بنجاسة الماء الكر إذا تغيّر بالنجاسة، ثم فُرض زوال التغيّر بنفسه وشك في بقاء الحكم الكلي فيتم استصحاب بقاء النجاسة، مع أنّه لا فرق بين هذا وبين الاستصحاب التعليقي!

وأجيب: بالفرق بأنّ الفقيه في مقام الفتوى بالحكم الكلي يفترض تمامية الموضوع بجميع قيوده وأجزائه فيفتي بالنجاسة الكلية ثم مع زوال التغيّر يستصحب تلك النجاسة المفروضة الوجود، وأمّا في الأمر التعليقي فإنّه يفترض عدم تحقق بعض القيود - إذ لو افترض وجودها جميعاً كان الحكم تنجيزياً لا تعليقياً - فلا يفتي بالحرمة مع عدم وجودها حتى بالفرض فهو يفرض عدم غليان العنب فيفرض عدم حرمته، فتأمل.

المبحث الثاني: في استصحاب الملازمة

وهي السببيّة التي أوجدها الشارع بين الحرمة والغليان مثلاً، وهي لا ترتبط بوجودهما في الخارج، إذ القضية الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها، فمع تبدل العنب إلى الزبيب مثلاً يشك في بقاء الملازمة التي كانت موجودة فتستصحب، وغير خفي أنّ هذا استصحاب تنجيزي.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

ص: 187


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 168.

الإشكال الأوّل: إنّ هذه الملازمة انتزاعية فليس لها وجود أصلاً إلاّ بوجود منشأ انتزاعها، وعليه فيستحيل وجودها من دون وجود طرفيها، نعم مفهومها موجود في الذهن إلاّ أنّها لا تنفع في الاستصحاب إذ لا يراد استصحاب مفهومها الذهني، وصدق القضية الشرطية أمر ذهني فهو غير مرتبط بوجود الملازمة خارجاً المنتزع من وجود طرفيها.

وفيه: أوّلاً: إنّها كالقضية الحقيقية التي يكون موضوعها مفروض الوجود فيترتب عليه الحكم، ثم مع وجود الفرد الخارجي ينطبق ذلك الكلي عليه، مضافاً إلى أن الملازمة اعتبارية وليست أمراً تكوينياً فهي موجودة في عالم الاعتبار حتى مع عدم وجود طرفيها في عالم الخارج، بل حتى مع وجود الطرفين تبقى تلك الملازمة أمراً اعتبارياً.

وثانياً: إنّه في الحكم الكلي هناك تلازم بين الغليان المفروض وبين الحرمة المفروضة، بمعنى انتزاع ملازمة ذهنية منهما، فإذا وجد فرد خارجي فهو له قابلية الغليان وقابلية الحرمة، وبين القابليتين ملازمة جعلية شرعية، فإذا تحوّل إلى زبيب وشك في بقاء القابلية استصحبت، فإذا غلا الزبيب خرجت القابليتان من القوة إلى الفعل.

وثالثاً: ما قيل من أنّه في الحكم الجزئي لو قال المولى هذا العنب إذا غلا حرم، فإنّه يمكن نسخ ذلك الحكم في الجزئي قبل تحقق الغليان، مع أنّه لو لم يكن حكم لم يكن معنىً للنسخ حينئذٍ!

إن قلت: إنّ مرجع ذلك الحكم إلى إخبار عن حكم مستقبلي صوري ثم إخبار عن عدم تحققه!

ص: 188

قلت: هو خلاف ظاهر الأدلة من جعل الحكم، ثم لو كان إخباراً لزم إنشاء جديد ليتحقق الحكم وهو خلاف الظاهر أيضاً، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ الملازمة إنّما هي بين الحكم وتمام الموضوع، ولا يعقل الشك في بقائها إلاّ من جهة الشك في نسخ الملازمة، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ الذي لا إشكال فيه، وهو غير الاستصحاب التعليقي.

وأجيب(1): بأنّ المقطوع هو الحكم الثابت للذات في حال العنبيّة لا مطلقاً حتى في حال الزبيبيّة، إذ هو في هذا الحال مشكوك لا مقطوع، والمستصحب هو هذا الحكم الضمني الفرضي الثابت للذات في حال العنبيّة وبقاؤه مشكوك لا مقطوع.

أقول: كأنّ الإشكال في عدم وجود أحد طرفي الملازمة الذي هو الموضوع المركب من العنب والغليان إذ بعدم الغليان لا موضوع فلا ملازمة مع الحرمة، ومع تحقق الموضوع المركب بغليان العنب فلا شك في الملازمة لكي تستصحب! وكأنّ الجواب رجوع إلى الجواب السابق بأنّ الموضوع تام حيث إنّه العنب والغليان المفروضين فتحققت ملازمة ثم بتحوله إلى زبيب يشك في بقائها.

والأولى الرجوع إلى الجواب بأنّ القابلية مجعولة وموضوعها التام العنب من دون قيد الغليان، وإنّما الغليان يخرجها من القوة إلى الفعل.

الإشكال الثالث ما ذكره المحقق الخراساني قال: «إنّ الملازمة وإن كانت محققة إلاّ أنّ استصحابها مثبت، لأنّ الحكم شرعاً مترتب على وجود

ص: 189


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 169.

سببه، لا على سببيته له، وإنّما يترتب عليها مع وجود السبب عقلاً، فافهم»(1).

بيانه: إنّه لا يترتب على الملازمة بين الغليان والحرمة - مثلاً - أثر عملي إلاّ بعد حكم العقل بترتب اللازم على الملزوم.

ويرد عليه: أوّلاً: إنّ اللازم هو الحرمة في المثال ولا نريد بالاستصحاب إثبات غير ذلك، إذ بعد ثبوت الملازمة بين الغليان وحرمة الزبيب بالاستصحاب فلما أن يوجد الغليان بالوجدان تترتب عليه الحرمة بمقتضى الملازمة، فلا واسطة.

نعم لو أردنا بالاستصحاب إثبات السبب عبر إثبات السببية بأن نقول: نستصحب الملازمة وبذلك يثبت أنّ الغليان سبب فتتحقق الحرمة به، كان أصلاً مثبتاً، لكن الأمر ليس كذلك، لأنّ كون الغليان سبب هو عبارة أخرى عن الملازمة وليس أمراً آخر.

وثانياً: ما قيل: من أنّ المستصحب بنفسه كان مجعولاً - بالذات أو بالتبع - فيتعلق التعبد بالجري العملي بنفس الملازمة أو السببية، والأثر العملي وإن كان يترتب بواسطة عقلية إلاّ أنّها واسطة للأعم من الواقع والظاهر.

وفيه تأمل يعرف من الجواب السابق.

المبحث الثالث: المانع عن الاستصحاب التعليقي

وذلك في ما لو فرض تمامية أركانه، فقد يقال: بتعارض استصحاب الحرمة التعليقية واستصحاب الحليّة التنجيزية في الزبيب قبل الغليان - مثلاً - ، فيتساقطان فيكون المرجع حينئذٍ أصالة الحليّة أو أصالة البراءة.

ص: 190


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 348.

وأشكل عليه من وجوه، منها:

الإشكال الأوّل: بالحكومة، حيث إنّ التعليقي يرفع موضوع التنجيزي، فإنّ الشك في الحليّة مسبب عن الشك في الحرمة المعلقة، والأصل السببي حاكم.

إن قلت: تستحيل الحكومة، لتوقفها على اختلاف الرتبة بين الشكين والمشكوكين، ومناط اختلاف الرتبة إمّا السببيّة والمسببيّة أو نسبة الموضوع إلى الحكم، وكلاهما مفقودان في ما نحن فيه، أمّا الشكان فقد تعلّق أحدهما بالحرمة التعليقية والآخر بالحليّة التنجيزية وليس أحدهما سبب أو موضوع للآخر، وأمّا المشكوكان فالنسبة بينها التضاد لأنّ الحليّة والحرمة بعد الزبيبيّة والغليان في عرض واحد ليس أحدهما مقدماً على الآخر ولا مقدمة لعدمه، ولا عدم ذاك مقدمة لهذا.

قلت: هناك مناط آخر هو عدم المحذور في العمل بأحدهما مع وجود المحذور في العمل بالآخر إمّا لاستلزامه التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر كما ذكره المحقق الخراساني في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي.

وبيانه: أنّ لازم استصحاب الحرمة التعليقية الثابتة قبل الغليان هو ترتب الحرمة عند الغليان، فهذا الاستصحاب يبيّن حكم الشك في الحرمة والحليّة بعد الغليان فهو ناظر إلى مؤدّى استصحاب الحليّة الجاري بعد الغليان، وأمّا استصحاب الحليّة فهو لا يتكفل بيان حكم الشك في الحرمة التعليقية ولا يترتب عليه نفيها فالأخذ به وطرحها إمّا بلا وجه أو بوجه دائر، فتأمل.

الإشكال الثاني: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنّ للحليّة غاية هي الغليان

ص: 191


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 85.

وللحرمة بداية هي الغليان أيضاً فلا تنافي بينهما، كما لا تنافي بين حليّة العنب قبل الغليان وحرمته بعده مع القطع بهذه الحليّة والحرمة، فإذا لم تكن منافاة بين القطعين في العنب فلا منافاة بين الاستصحابين في الزبيب بطريق أولى.

والحاصل: أنّ للغليان جهتين: شرطية الحرمة وغائيّة الحليّة.

وأجيب: أوّلاً: بما في نهاية الأفكار(1): من أن القطع بالحليّة المغياة بالغليان يلازم القطع بالحليّة الفعلية للعنب، فلا جرم مهما شك في ارتفاعها - ولو من جهة عدم تعليقهما على الغليان في الزمان اللاحق بعد تحوله إلى زبيب - يجري استصحاب الحليّة، وعليه فالمعارض هو هذا الاستصحاب، لا استصحاب الحليّة المنوطة بعدم الغليان.

وبعبارة أخرى: إنّ الحليّة بعد التحول إلى زبيب لا يعلم كون الغليان غاية لها، وإنّما المعلوم هو أنّ الحليّة حين كونه عنباً غايته الغليان، والحاصل: أنّ العنب بتحوله إلى زبيب لا يعلم بقاء حليته العنبيّة المغياة أم تجدد حليّة أخرى له هي الحليّة الزبيبيّة غير المغياة، فيكون استصحاب الحليّة تام الأركان فيعارض استصحاب الحرمة التعليقيّة.

وثانياً: بما في نهاية الدراية(2)

وحاصله: أنّ الاستصحاب إن كان في الفرد فهو كما ذكره المحقق الخراساني، فإنّ الحليّة العنبيّة مقطوعة الارتفاع بالغليان، وأمّا الحليّة من حيث كونه زبيباً فهي مشكوكة الحدوث فلا يجري

ص: 192


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 173.
2- نهاية الدراية 5: 176-177.

الاستصحاب، وأمّا كلي الحلية فيمكن جريان استصحاب القسم الثاني من الكلي فيه، فإنّ الزبيب قبل غليانه حلال قطعاً إمّا بنفس حليّة العنب وإمّا بحليّة أخرى نشأت للزبيب، فيستصحب كلي الحليّة بعد غليان الزبيب فيتعارض مع استصحاب الحرمة المعلقة.

وأورد عليه: بأنّه من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي، حيث إنّ مناطه هو القطع بحدوث فرد ثم زواله مع الشك في حدوث فرد جديد في ظرف وجود الفرد الأوّل أو مقارناً لزواله، وهكذا نقطع بوجود الحليّة العنبيّة وزوالها، ولكنّا نشك في حدوث حليّة زبيبيّة تستمر إلى ما بعد الغليان.

وفيه: أنّه بتحوّل العنب إلى زبيب يتحقق الشك في أنّ هذه الحليّة هل هي حليّة عنبيّة أم حليّة زبيبيّة مع القطع بكلي الحليّة، والحليّة العنبيّة لو كانت فهي قصيرة إلى حين الغليان، والزبيبيّة لو كانت فهي طويلة إلى ما بعده، وأمّا الحليّة العنبيّة المقطوعة قبل التحول إلى زبيب فلا ربط لها باستصحاب الكلي - لا من الثاني ولا من الثالث - .

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ استصحاب الحليّة العنبيّة بعد التحول إلى زبيب قطع تعبدي بعدم وجود حليّة زبيبيّة، وهذه الحليّة العنبيّة مغياة شرعاً بالغليان فلا مجال لاستصحاب الكلي بقسميه لا قبل تحوله إلى زبيب ولا بعده، فتأمل.

المبحث الرابع: الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات

كما لو صلّى في عباءة مشكوك كونها ممّا لا يؤكل لحمه أم ممّا يؤكل، فيقال: لو كان يصلي قبل لبسها لكانت صلاته في ما يؤكل، فنستصحب

ص: 193

ذلك بعد لبسها، أو إذا بقي عصير العنب على النار في الشتاء لمدة معينة وقد علمنا بأنّه لو كان في الصيف لغلى، فيقال: لو كان في الصيف لغلى ونشك الآن في الغليان فنستصحب.

1- أمّا وجه جريان الاستصحاب فهو أنّ حرمة النقض لم تتعلق بالمتيقن وإنّما باليقين بلحاظ ما يترتب عليه من العمل، فمعنى الاستصحاب هو الجري على ما يقتضيه ذلك اليقين عملاً، ففي مثال عصير العنب تعلق اليقين بالغليان بالصيف لو وضع على هذه النار، فلا ينقض اليقين الآن!

وفيه: ما في الرشحات: «من أنّ هذه الملازمة والتعليق ليست مجعولة للشارع لا بالأصالة ولا بالتبعية، وليست هي موضوعاً لأثر شرعي، بل الملازمة التي هي المستصحب كاشفة عن وجود الموضوع الذي ترتب عليه البعث والتحريك، وليس المستصحب نفس ما يترتب عليه الحركة، وكذلك اليقين بها ليس موضوع الأثر»(1).

وبعبارة أخرى: الحكم الشرعي يترتب على وجود اللازم لا الملازمة، إلاّ بتوسيط حكم العقل بتحقق اللازم عند تحقق الملازمه.

2- وأمّا وجه عدم جريان الاستصحاب:

فأوّلاً: الأصل مثبت، لأنّ الوجود الفرضي ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً له.

وثانياً: عدم تمامية أركان الاستصحاب إمّا لعدم اليقين السابق أو لعدم

ص: 194


1- رشحات الأصول 2: 306.

الشك اللاحق، ففي المنتقى(1) ما حاصله: أنّ الحكم الشرعي متعلق بالطبيعة بلحاظ وجودها، وأمّا الفرد فهو مسقط للتكليف وليس متعلقاً له، فأمّا مرحلة تعلق الأمر فلا شك في الحكم الكلي الذي هو مرحلة تعلق الأمر، وإنّما الشك في انطباق الكلي على الفرد وهذا لا يرتبط بالشارع، وأمّا مرحلة سقوط الأمر فهو يرتبط بالفرد المتحقق فعلاً لا الفرد المفروض، فلا أثر للاستصحاب، نعم لازم الاستصحاب أنّ الفرد المتحقق في الخارج هو من مصاديق المأمور به، وهذا ليس بلازم شرعي.

ص: 195


1- منتقى الأصول 6: 210.

فصل في استصحاب عدم النسخ

اشارة

أمّا استصحاب عدم النسخ في هذه الشريعة فلا إشكال فيه لوجود المقتضي بتمامية أركانه وعدم المانع عنه.

وأمّا استصحاب عدم نسخ أحكام الشرائع السابقة، وذلك في ما لو كان موضوع الحكم عنواناً قابل الانطباق على أهل هذه الشريعة ففيه بحث، والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: وجود المقتضي

وقد أشكل في ذلك من وجوه:

الإشكال الأوّل: عدم اليقين السابق، من جهتين كبروية وصغروية.

الجهة الأولى: من حيث الكبرى حيث لا نعلم بشمول تلك الأحكام لنا.

والجواب الأوّل: باستصحاب مدرك الشريعتين بضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف.

وأورد عليه: أوّلاً: إنّ اختلاف المكلفين يوجب اختلاف أحكامهم، فمن تمت عنده أركان الاستصحاب يجريه ومن لم تتم لا يجريه، ولا وجه لاشتراك المختلفين في التكليف حينئذٍ، كمن كان له يقين بنجاسة شيء وشك فيه، ومن لم يكن على يقين منه منذ الأوّل، فالأوّل يجري استصحاب النجاسة والثاني أصالة الطهارة، وفي ما نحن فيه المدرك تمت عنده

ص: 196

الأركان دون غير المدرك.

إن قلت(1): غير المدرك الذي وجد في زمن المدرك لا يقين له بالنسبة إلى نفسه لكن له يقين بجعل تلك الأحكام للمدرك، وذلك يصحّح موضوع الحكم بالنسبة لغير المدرك، وبعبارة أخرى: إنّ غير المدرك للشريعتين متيقن و شاك بالنسبة إلى أحكام المدرك فيكون مثله في الصنف فيأخذ بحكمه بمقتضى الملازمة بينهما!

قلت: إنّ الاستصحاب وظيفة الشاك المتيقن سابقاً بالنسبة إلى نفسه، ولا دليل على أنّه يجريه بالنسبة إلى غيره في غير المجتهد لمقلّده، مضافاً إلى ما قيل(2): من أنّه يختص بمن وجد في عصر المدرك - حيث لا يمكن أن يكون لملة واحدة في عصر واحد أحكاماً مختلفة مع اتحاد العنوان - وأمّا في أعصار مختلفة فلا مانع من تعدد الحكم لنسخ بعض الأحكام وجعل أحكام أخرى، وحينئذٍ لا يترتب على الاستصحاب أثر عملي يجري بلحاظه، فتأمل.

وثانياً: إنّ دليل الاشتراك لبّي - من إجماع ونحوه - والمتيقن منه الاشتراك في الأحكام الواقعية دون الظاهرية.

الجواب الثاني: إنّ أحكام الشرائع سواء الشرائع السابقة أم شريعتنا هي قضايا حقيقية - بكون الموضوع هو الفرد المفروض الوجود - وعليه فكانت شاملة لنا ونشك في نسخها، وحينئذٍ لا نحتاج إلى ضميمة الاشتراك

ص: 197


1- درر الفوائد، للحائري: 548.
2- رشحات الأصول 3: 309.

في التكليف.

إن قلت: لا يقين سابق بالنسبة إلى أهل شريعتنا، لأنّ الحكم إمّا مطلق بحيث يشملهم أو مقيد لا يشملهم، والشك في النسخ شك في شمول الحكم لهم من الأوّل، لأنّه مع النسخ لا يشملهم الحكم من الأوّل إذ من اللغو جعل حكم لجماعة ثم نسخه قبل وجودهم.

قلت: إنّ الموضوع هو الفرد المفروض الوجود والإشكال إنّما يرد لو كان الموضوع الأفراد الخارجية، ولا لغوية لشمول حكم لعنوان مع تحقق بعض أفراد ذلك العنوان خارجاً ثم نسخه، وعليه: فإنّا نعلم بأنّ موضوع الحكم منطبق على أهل هذه الشريعة ونشك في نسخه فتمت أركان الاستصحاب.

إن قلت: لا نسخ في القضايا الحقيقية، وإنّما هو في القضايا الخارجية، وذلك لأنّ القضية الحقيقية تشمل المعدومين أيضاً - حينما يوجدون - فيكون النسخ قبل وجودهم نسخاً قبل وقت العمل، وهو محال، وعليه فلا شك في النسخ لأنّ احتمال المحال محال.

قلت: لا محذور في تقييد القضية الحقيقية بقيد زماني وعدم بيان ذلك ثم بيانه فيكون نسخاً مع عدم شمول الحكم منذ الأوّل لمن لم يشمله القيد، وعليه تتم أركان الاستصحاب في ما نحن فيه حيث نعلم بشمول العنوان لنا ونشك في القيد فالأصل عدمه، فتأمل.

الجهة الثانية: من حيث الصغرى، حيث لا دليل على أحكام الشرائع السابقة، إلاّ المقدار المذكور في الكتاب والأحاديث المعتبرة، وكل ما هو

ص: 198

مذكور فيهما قد بُيّن فيه الإمضاء أو النسخ، وعليه فغالب أحكامهم لا يقين لنا بها، وما علمناه منها نعلم إمضاءه أو نسخه فلا شك.

الإشكال الثاني: إنّ استصحاب عدم النسخ مثبت من وجهين.

الوجه الأوّل: إنّ بقاء أحكام الشريعة السابقة بحاجة إلى إمضاء من شريعتنا، لأنّ ذلك هو معنى مجيء شريعة بعد شريعة، والإمضاء لا يثبت باستصحاب عدم النسخ حيث إنّه لازم عقلي، وبعبارة أخرى: نسخ كل شريعة بمعنى اعتبار أحكام مخالفة أو إثبات أحكام موافقة - وهذا معنى الإمضاء - واستصحاب عدم النسخ يلازم الإمضاء عقلاً.

ويرد عليه: إنّ الاستصحاب دليل عام، فيكون بنفسه إمضاءً، فالإمضاء ثابت بدليل الاستصحاب من غير واسطة عقلية للمستصحب.

الوجه الثاني: إنّ الاستصحاب يرتبط بمرحلة الإنشاء، والأثر العملي يرتبط بمرحلة الفعلية، فاستصحاب الإنشاء لازمه العقلي فعلية الحكم بعد تحقق موضوعه، بناءً على كون الحكم هو الشيء الاعتباري المنشأ في عالم الاعتبار، أمّا على مبنى كون الحكم هو الإرادة المبرزة فلا، نعم لو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي فلا محذور بأن يقال: إنّ هذا لو كان في زمان الشريعة السابقة لكان هذا حكمه فيستصحب.

المقام الثاني: في عدم المانع

فقد يقال: بأنّا نعلم إجمالاً بوجود منسوخات وغير منسوخات حيث إنّ بعض أحكام الشرائع السابقة باقية قطعاً، ولا نعلم تفصيلاً ذلك، فلا يجري استصحاب عدم النسخ لكونه في أطراف العلم الإجمالي.

ص: 199

والجواب: إمّا بانحلال العلم الإجمالي لأنّا نعلم بمنسوخات بمقدار المعلوم بالإجمال، فيكون الشك في سائرها بدوياً مجرىً للأصول، وإمّا باحتمال كون كثير من الأحكام المعلومة في شريعتنا هي الناسخة فلا يبقى علم في الأحكام المشكوكة فيكون الأصل فيها سليماً عن المعارض.

ص: 200

فصل في الأصل المثبت

اشارة

لا إشكال في الحكم ببقاء المستصحب لو كان حكماً شرعياً، وكذلك لو ترتب الأثر الشرعي عليه، وكذا الحكم بترتب الأثر الشرعي على المستصحب لو كان موضوعاً وليس ذلك من الأصل المثبت.

أمّا لو كان للحكم الشرعي المستصحب أثر عقلي أو عادي، أو كان للموضوع المستصحب لازماً أو ملزوماً أو ملازماً عقلياً أو عادياً أو أثراً شرعياً لها فذلك الأصل المثبت.

وفيه أقوال: عدم الجريان مطلقاً، والجريان مطلقاً، والتفصيل بين خفاء الواسطة وعدمها، والتفصيل بين جلائها وعدمها.

فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: الفرق بين مثبتات الأصول والأمارات

المشهور عدم حجيّة الأصل المثبت مطلقاً في الأصول العملية، مع حجيّة مثبتات الأمارات والطرق، وقد استدل لذلك بوجوه - وغير خفي أنّ بعضها خاص بالخبر - ومنها:

الدليل الأوّل: اختلاف المجعول في باب الأمارات والأصول، ففي لسان الدليل أخذ الشك بالواقع في موضوع الأصول كقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» و«رفع ما لا يعلمون» ونحوهما، دون موضوع الأمارات حيث لم

ص: 201

يؤخذ الشك في موضوعها، نعم موردها الشك حيث لا يعقل جعل الأمارة للعالم، كما أنّ الشارع تمّم كشف الأمارة فإنّ لها كشفاً ناقصاً عن الواقع فالمجعول الشرعي هو الطريقية والكاشفية فيها، وأمّا الأصول فليس لها جهة كاشفية فجعل الشارع إنّما هو لبيان الوظيفة العملية، فلذلك تكون الأمارة قائمة مقام العلم بإلغاء احتمال الخلاف، وأمّا الأصول فلا تقوم مقام العلم بل هي بيان الوظيفة العملية، وحيث إنّ الآثار العقلية والعادية تترتب على ما ينكشف بالعلم الوجداني فهي تترتب على ما ينكشف بالعلم التعبدي لأنّها كاشفة عن الواقع كاملاً بتتميم الشارع جهة كشفها، وأمّا في الأصول فحيث لا جهة كشف لها فالمجعول هو الباعثية والمحركية نحو العمل ببيان الوظيفة فلا بدّ من الاقتصار على مقدار التعبد، وهو لا يشمل اللازم والملزوم والملازم العقلي والعادي، وقد فصّل المحقق النائيني في هذا الدليل في الفوائد(1)

فراجع.

فمقدار التعبد في الاستصحاب هو إبقاء اليقين دون إبقاء آثاره العقلية والعادية غير المتيقنة، وأمّا آثار اليقين الشرعية فلا بدّ من ترتبها وإلاّ كان التعبد ببقاء اليقين لغواً.

وهذا الدليل في عدم حجيّة الأصول المثبتة لا غبار عليه، ولكن قد أشكل عليه في الحجيّة في مثبتات الأمارات بوجوه، منها:

الإشكال الأوّل: أخذ الشك في موضوع الأمارات أيضاً، لأنّ الإطلاق للعالم محال، والإهمال في الواقع أيضاً محال، فلم يبق إلاّ التقييد.

ص: 202


1- فوائد الأصول 4: 481-482.

وفيه: أنّ الإطلاق بمعنى رفض القيود، وليس بمعنى الشمول للعالم والجاهل، كما مرّ مفصلاً.

الإشكال الثاني(1): إنّ مرجع جعل الطريقية هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ادعاءً - ومرجعه إلى الحكومة التوسيعيّة - ، ولا يكون هذا التنزيل إلاّ بلحاظ ترتب الأثر على الشيء لا على لازمه، وعليه فإذا كان مفاد جعل الطريقية هو كون الخبر - مثلاً - علماً ادعاءً، فالمخبر به يكون معلوماً ادعاءً، والمخبر به هو الملزوم لا اللازم.

وفيه: أنّ ظاهر التنزيل هو العموم، فيكون المنزّل مثل المنزّل عليه في كل شيء.

الإشكال الثالث(2): ربما نعلم بالملزوم علماً وجدانياً ولا يترتب اللازم ولا آثاره عليه لعدم العلم بالملازمة، فعدم ترتبها على لازم العلم التعبدي أولى، بل هو محال لأنّ التنزيل إنّما يتصور في ما كان للمنزّل عليه آثار.

وفيه: إنّ الكلام في مورد العلم باللازم، فكما يترتب اللازم في العلم المنزّل عليه كذلك يترتب في الأمارة المنزّلة، وأمّا مع الجهل فكما لا تترتب اللوازم المجهولة في العلم فكذلك في الأمارة، والحاصل: أنّ التنزيل في الأثر المعلوم دون المجهول.

الإشكال الرابع(3): إنّ الملازمة بين العلم الوجداني بالشيء والعلم بلوازمه

ص: 203


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 186؛ نهاية الدراية 5: 191.
2- نهاية الدراية 5: 191.
3- منتقى الأصول 6: 228.

لا يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد، بل التعبد يدور مدار دليله - بلحاظ آثاره أو لحاظ لوازمه أو الأعم - ودليل حجيّة الأمارة يتكفل حجيّتها بلحاظ مؤداها فهو لا يتكفل سوى اعتبار العلم بالنسبة إلى المؤدّى دون لوازمه، وقد عرفت إمكان التفكيك بينها.

وفيه: أنّه وإن أمكن التفكيك ثبوتاً إلاّ أنّ المدعى أنّ دليل الحجيّة دلّ على عموم التنزيل، فتأمل.

الدليل الثاني: ما في الكفاية(1)

وحاصله: إنّ حجيّة مثبتات الأمارات لأجل أنّ الإخبار عن الشيء إخبار عن لوازمه أيضاً، فكما تكشف الأمارات عن مؤداها كذلك تكشف عن لوازم المؤدّى، فإطلاق حجيّة الخبر - مثلاً - يشمل الإخبار عن اللوازم أيضاً. بخلاف الأصول العملية حيث إنّ دليل حجيّتها يدلّ على جعل حكم مماثل، ومن غير المعلوم جعل حكم مماثل للّازم، والحاصل: إنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّى كذلك تحكي عن أطراف المؤدّى - من اللازم والملزوم والملازم - وحيث إنّ دليل حجيّتها مطلق من دون تقييده بالخبر بالمطابقة شمل الخبر بالتضمن وبالالتزام، بخلاف الأصول العملية فليس لها كشف عن الواقع بل هي صرف تعبد، والتعبد بالشيء لا يكون تعبداً بلوازمه لإمكان انفكاك الشيء عن لوازمه في التعبد، ومقدار دلالة دليل حجيّتها هو التعبد بنفس الشيء ولا دليل على التعبد بلوازمه، وفي الاستصحاب لم يكن اللازم متيقناً - وإلاّ استصحبناه بنفسه - فعدم ترتب الأثر على اللازم ليس نقضاً لليقين بالشك.

ص: 204


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 109-111.

أقول: أمّا ما ذكره في عدم حجيّة مثبتات الأصول فلا إشكال عليه، وأمّا ما ذكره من حجيّة مثبتات الأمارات فقد أشكل عليه بوجوه منها:

الإشكال الأوّل(1): إنّ الحكاية هي ما كانت بقصد بأن تكون هنالك دلالة تصديقية، وأمّا مع عدم الالتفات إلى اللازم وأخويه أو عدم علم المخبر بلازم كلامه فليس من الحكاية.

وردّه المحقق العراقي(2):

بأنّه لا إشكال في تقوّم الحكاية عن المراد بالدلالة التصديقية وأمّا بالنسبة إلى اللازم فتكفي الدلالة التصورية وهي لا تحتاج إلى قصد، ولو سلمنا تقوّم الحكاية عن اللازم بالقصد لكن نقول: إنّه يكفي الالتفات الإجمالي ولا يشترط الالتفات التفصيلي، والمخبر عن الشيء ملتفت إلى لازمه إجمالاً... ولذا ترى العرف والعقلاء في محاوراتهم وفي باب الإقرار وغيره على الأخذ بلوازم الكلام الصادر عن الغير وإلزامهم إيّاه بما يقتضيه كلامه من اللوازم حتى مع قطعهم بعدم التفات المتكلّم إلى تلك اللوازم وغفلته عنها.

ويمكن أن يقال: أوّلاً: إنّ الكلام إنّما هو حين عدم التفات المخبر باللازم أو الملازمة، وإلاّ فمع التفاته إليه وإليها فلا إشكال في أنّه يخبر عنه، وأنّه لا بدّ من الالتفات التفصيلي التصديقي، وإلاّ فمجرد تصور اللازم من غير علم بكونه لازماً أو العلم بوجود لوازم إجمالاً، لا يصحّح إطلاق الحكاية والخبر عليه عرفاً.

ص: 205


1- نهاية الدراية 5: 193؛ فوائد الأصول 4: 492.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 184.

وثانياً: إنّ أخذ المخبر والمقر باللوازم ليس لأجل ما ذكر بل لأجل جهات أخرى كالدليل الأوّل أو غيره.

فالأقرب ورود الإشكال فليس الإخبار عن الشيء إخبار عن لوازمه.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قال: «الأمارة تارة: تقوم على الموضوعات كالبينة على شيء فاللازم حينئذٍ كون ما يخبر به الشاهدان من عمد وقصد ملتفتاً إليه نوعاً، وأخرى: كالخبر عن الإمام (علیه السلام) فإنّ شأن المخبر - بما هو مخبر - حكاية الكلام الصادر عن الإمام (علیه السلام) بما له من المعنى الملتفت إليه بجميع خصوصياته للإمام (علیه السلام) لا للمخبر، إذ (ربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)(1)،

فمجرد عدم التفات المخبر بلوازم الكلام المخبر عنه لا يوجب عدم حجيّة المداليل الالتزامية للكلام الصادر عن الإمام (علیه السلام) فإنّ كلها ملتفت إليها للمتكلّم بها»(2).

إن قلت: إنّ الحجيّة إمّا جعل الحكم المماثل الظاهري، أو جعل الحكم بعنوان أنّه الواقع، أو المنجزية والمعذرية، وكلّها غير الواقع، فلا يكون الحجة إلاّ بمقدار المجعول، وهو الملزوم لا اللازم!

قلت: حيث إن الواقع - وهو ما تضمنه كلام الإمام (علیه السلام) - دلّ عليه الخبر فيكون الخبر المماثل والحكم بعنوان أنه الواقع أو المنجزية في جميع ما دلّ عليه الخبر وهو الذي جعلت له الحجيّة.

ص: 206


1- الكافي 1: 403.
2- نهاية الدراية 5: 193-194.

وبعبارة أخرى: إنّ المماثل هو الملزوم واللازم والملازم، كما أنّ الجعل بعنوان أنّه الواقع يكون كالواقع، وهكذا المنجزية والمعذرية تكون كالواقع، وعليه فالجعل وسيع شامل للمثبتات، فتأمل.

الدليل الرابع: إنّ دليل حجيّة الخبر هو بناء العقلاء الممضى، والعقلاء لا يفككون بين اللازم والملزوم، وأمّا الأصول كالاستصحاب فهي مجعولات شرعية لا إمضائية فلا بدّ من الاتباع بمقدار التعبد وهو اللازم دون الملزوم.

المبحث الثاني: في المانع

لو فرض تمامية مقتضي حجيّة الأصل المثبت فهل هناك مانع عن جريانه؟

قيل: إنّ استصحاب الملزوم معارض لاستصحاب اللازم دائماً، فمثلاً استصحاب عدم الحاجب لازمه وصول الماء إلى البشرة وأثر الوصول تحقق الوضوء أو الغسل، لكنّه معارض باستصحاب عدم الوضوء أو الغسل حيث إنّه تام الأركان أيضاً، وهكذا في جميع موارد الأصل المثبت.

وأشكل عليه: نقضاً: بما لو كانت اليد نجسة وغسلها بماء يشك في طهارته مع كونه طاهراً سابقاً، فبناءً على وجود المقتضي في الأصل المثبت يتعارض استصحاب نجاسة العضو مع استصحاب طهارة الماء، ولا يلتزمون بذلك.

وحلاّ: بأنّ استصحاب أحدهما رافع لموضوع الآخر، ففي المثالين استصحاب عدم الحاجب يترتب عليه تحقق الغسل أو الوضوء وهو يقين تعبدي فلا شك في تحققهما كي يجري استصحاب عدمهما، وكذلك

ص: 207

استصحاب طهارة الماء يرفع الشك في نجاسة اليد.

وأجيب: بأنّه على القول بوجود المقتضي في الأصل المثبت إنّما يثبت الأثر الشرعي للّازم العقلي والعادي لا أنّهما يثبتان بالأصل، ففي المثال لا يثبت وصول الماء إلى البشرة وإنّما أثره الشرعي، وعليه فلا يرتفع موضوع الاستصحاب المعارض، فتأمل.

المبحث الثالث: موارد مستثناة من عدم الحجيّة

اشارة

وهي خمسة موارد:

المورد الأوّل: خفاء الواسطة

ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى حجيّة مثبتات الأصول إذا كانت الواسطة خفيّة بحيث يرى العرف أنّ الأثر مترتب على المستصحب نفسه، وذلك لأنّ الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، فيرجع في موضوعاته إليه لا إلى الدقة العقلية.

مثلاً: انتقال النجاسة من أحد المتلاقيين إلى الآخر يشترط فيه رطوبة مسرية في أحدهما، فلو تيقن بها في أحدهما ثم شك استصحبها فيحكم بسراية النجاسة، مع أنّ النجاسة ليست أثراً للمستصحب الذي هو الرطوبة المسرية وإنّما هي أثر للسراية وهي لازم عادي لبقاء الرطوبة المسرية، لكنها واسطة خفيّة.

مثال آخر: في يوم الشك يجري استصحاب بقاء شهر رمضان ولازمه غير الشرعي وهو كون يوم غد أوّل شوال، وأثره الشرعي حرمة الصوم فيه مثلاً،

ص: 208


1- فرائد الأصول 3: 244.

وهو جارٍ لخفاء الواسطة.

وأشكل عليه المحقق النائيني(1):

بأنه تارة: الأثر هو أثر لذي الواسطة حقيقة بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع، وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتب الأثر على مؤدّى الأصل، فهذا خارج عن الأصل المثبت أصلاً. وتارة: الأثر للواسطة حقيقة لكن العرف يتسامح ويعدّه من آثار ذي الواسطة، فهذا لا حجيّة له لعدم العبرة بالمسامحات العرفية في أيّ مورد من الموارد، لأنّه حجة في المفاهيم لا في تطبيقها على المصاديق.

وأجاب المحقق العراقي بقوله: «إذا قلنا بأنّ (لا تنقض) سيقت بالنسبة إلى ما يعدّ بالأنظار العرفية المسامحية نقضاً وتعبداً ببقاء المتيقن وإن لم يكن كذلك دقة، فصارت المسامحة العرفية مرجعاً في تحديد مفهوم حرمة نقض الشيء والتعبد ببقائه، وأنّ تطبيق هذا المفهوم على المورد دقيقي عقلي، وحينئذٍ فالمسامحة العرفية كانت مرجعاً في هذا المفهوم لا في تطبيق كبرى الحكم الواقعي، فلا يحتاج أن يدّعى بأنّ الأثر في دليل الكبرى ثابت حقيقة بنظر العرف لذي الواسطة»(2).

ورُدّ: بأنّه لا شك في الكبرى بأن يكون نقضاً عرفاً، إنّما الكلام في الصغرى بأنّه مع خفاء الواسطة هل العرف الدقيق يرى الأثر للواسطة أم لذيها! فتأمل.

ص: 209


1- فوائد الأصول 4: 494.
2- فوائد الأصول 4: 494 (الهامش).

أمّا المثالان ففيهما كلام محلّة الفقه، وإن فصّل الأعلام فيهما هنا.

المورد الثاني: جلاء الواسطة

ذكر المحقق الخراساني(1)

حجيّة المثبتات مع جلاء الواسطة بحيث لا يمكن التفكيك عرفاً بين الأثر وبين المستصحب تنزيلاً كما لا تفكيك بينهما واقعاً، سواء في العلة والمعلول أم في اللازم والملزوم الواضح اللزوم جداً بحيث يعتبر أثر أحدهما أثراً للآخر عرفاً، وذلك لأنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر على المستصحب يكون نقضاً ليقينه بالشك أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً.

وفيه: أوّلاً: مع الوضوح كيف يُعد أثر الملزوم أثراً للمستصحب، مع أنّ الملازمة ملاك الاثنينيّة.

وثانياً: مع الوضوح كما يستحيل الانفكاك التكويني في الموردين المذكورين كذلك لا انفكاك في العلم بهما وتصورهما، فلا يمكن اليقين بالعلة إلاّ مع اليقين بالمعلول، وهكذا في المتضايفين ونحوهما، وكما يشك في أحدهما يشك في الآخر، وعليه فالاستصحاب يجري في الواسطة نفسها بالاستقلال ويترتب عليها أثرها الشرعي حينئذٍ.

المورد الثالث: المتحدان وجوداً المتغايران مفهوماً

سواء كان اللازم ينتزع عن الماهية وكان الأثر لها، كاستصحاب الفرد وإثبات حكم الكلي له، كما لو استصحب بقاء الخمر ولازمه ثبوت كلي الخمر الذي أثره الحرمة لأنّ موضوعات الأحكام الطبائع لا الأفراد، أم كان

ص: 210


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 108-109.

اللازم ينتزع عن الفرد، كاستصحاب وجود المغصوب ولازمه الغصب الكلي وأثره الحرمة الشرعية.

وذلك لأنّ الكلي وإن كان مغايراً للفرد مفهوماً إلاّ أنّه متحد معه وجوداً وخارجاً، والأثر يترتب على الوجود لا على المفهوم، ووجود الفرد والكلي واحد فإنّ الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده!

وأورد عليه: بأنّه لا دليل على اتحادهما في التعبد حيث يمكن التفكيك في التعبد بين المتلازمين تكويناً، مضافاً إلى أنّ اليقين بأحدهما يلازم اليقين بالآخر فيستصحب ما له الأثر من غير واسطة دون ما له الأثر بالواسطة.

المورد الرابع: منشأ الانتزاع والمنتزَع

بأن يستصحب منشأ الانتزاع مع كون الأثر للمنتزَع، إذا كان منشأ الانتزاع مجعولاً شرعاً، كالجزئية والشرطية والمانعية، كما لو أمر بالمركب فتنتزع الجزئية من كل جزء من المأمور به، وحينئذٍ يمكن استصحاب الجزء فتثبت الجزئية فيترتب عليها آثارها، وذلك للاتحاد في الوجود بين منشأ الانتزاع والمنتزع فيكون الأثر حقيقة لمنشأ الانتزاع.

وأورد عليه بما ورد على سابقه: بإمكان التفكيك التعبدي في المتحدين خارجاً فلا بدّ من قيام دليل على التنزيل في اللازم، مضافاً إلى عدم انفكاك اليقينين تصوراً.

أمّا الإشكال: بأنّ الشرط - مثلاً - ليس مجعولاً شرعياً ولا موضوعاً لمجعول شرعي، وكذلك الأثر حكم عقلي، فمثلاً: المجعول الشرعي هو الصلاة المقيدة باستقبال القبلة حيث إنّ التقيد داخل والقيد خارج، وأمّا

ص: 211

الاستقبال فهو موضوع تكويني، وأثره الذي هو جواز الدخول في الصلاة عقلي، ولا شك لنا في الشرطية التي هي مجعول شرعي، وإنّما الشك في الأمر الخارجي أو الأثر العقلي وهما ليسا حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي!

فالجواب عنه: أوّلاً: مبنىً: فقد قيل بأنّه لا يشترط في صحة الاستصحاب كون المستصحب أحد الأمرين، بل يكفي في صحته عدم لغوية التعبد، والأصول الشرعية تعبديات لها آثار تصحّح التعبد بها، حتى لو كانت تلك الآثار عقليّة لكنها تترتب على الأعم من الواقع والظاهر كما سيأتي قريباً، مثلاً اشتغال الذمة أو تحقق الامتثال أحكام عقلية تترتب على الموضوعات الشرعية، وثبوت الموضوع وتوسعته وتضييقه بيد الشارع، مثلاً اشتغال الذمة بالتكليف يستدعي براءتها اليقينية فلا يكفي الامتثال بالفرد المشكوك، لكن يمكن للمولى الاكتفاء بالفرد المشكوك كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز.

وفي ما نحن فيه يستقل العقل في مقام الامتثال بلزوم إحراز الشرط وقد اكتفى الشارع بالإحراز التعبدي، ويت-م الإحراز بالاستصحاب، فلا لغوية في التعبد بهذا الاستصحاب، فتأمل.

وثانياً: بناءً: بأنّ الشرطية والجزئية والمانعية ونحوها مجعولات شرعية تبعيّة، فإنّ تقييد الشارع التكليف بشيء جعل للشرطية، أو تقييده بعدم شيء جعل للمانعية، أو أمره بمركب جعل للجزئية، ونحو ذلك.

لا يقال: إنّ الشرطية مثلاً منتزعة في مرحلة الجعل ولا شك فيها إلاّ لو احتمل النسخ فهي ليست من آثار وجود الشرط في الخارج، فكما أنّ أصل وجوب الصلاة مثلاً ليس من آثار الصلاة الموجودة خارجاً كذلك اشتراطها بالاستقبال ليس من آثار وجود الاستقبال خارجاً، وحينئذٍ فلا تترتب

ص: 212

الشرطية على جريان الاستصحاب في ذات الشرط، بخلاف ما لو كانت الأحكام - تكليفية أو وضعية - مترتبة على الموجودات الخارجية، فالملكية منتزعة من ذات الملك الموجود، والحرمة متعلقة بعين الخمر الموجودة.

لأنّه يقال: التكليف يتعلق بالطبائع لا الأفراد لأنّ طلب الموجود منه طلب للحاصل، وإنّما الفرد محقق للطبيعة فيسقط به التكليف.

والحاصل: إنّ الفرد مسقط للتكاليف وليس متعلقاً له، وأمّا مثل الشرط والجزء والمانع فلا تكليف به فالمجعول هو الشرطية والجزئية والمانعية، وهي تنتزع من الذات الموجودة، فتأمل.

المورد الخامس: عدم الحكم

فقد يقال: إنّ استصحاب عدم الحكم مثبت، وذلك لأنّ المراد منه إثبات عدم العقاب على المخالفة، وهو لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب ولكنه مع ذلك يجري.

وفيه: ما سيأتي من أنّ لازم المستصحب إذا كان لازماً للأعم من الحكم الواقعي والظاهري فليس بمثبت، وعدم الحكم - سواء كان واقعاً أم ظاهراً - رافع لاستحقاق العقاب عقلاً، فصحة الاستصحاب لتمامية أركانه مع عدم كونه مثبتاً، وقد مرّ أنّه يكفي في صحة التعبد كونه ذا أثر فلا ضير في عدم كون العدم مجعولاً شرعياً.

إن قلت(1): لا مساس للقدرة ولا للإرادة بطرف العدم، إذ القدرة الجسمية هي القوة المثبتة في العضلات المترتبة عليها الحركات الجسدية،

ص: 213


1- نهاية الدراية 5: 199.

والقدرة النفسية هي قوة النفس على الحركات الفكرية، والعدم لا يترتب على شيء من القوتين، والإرادة هي المخرجة لما هو بالقوة - بالإضافة إلى القوتين - إلى مرحلة الفعلية، والعدم بعدم الإرادة.

قلت: يمكن تعلق الاعتبار بالعدم فيكون مجعولاً اعتبارياً رغم عدم كونه مجعولاً تكويناً، مضافاً إلى أنّ القدرة تتعلق بطرفي الوجود والعدم وإلاّ انقلبت اضطراراً إلى أحد الطرفين لأنّ القدرة على عدم الإيجاد مع عدم الإيجاد مصحح لانتساب العدم إلى المولى عرفاً وهذا يكفي في صحة التعبد به حدوثاً وبقاءً.

المبحث الرابع: في الأثر الأعم

لو كان الأثر العقلي أو العادي أثراً للحكم سواء كان واقعياً أو ظاهرياً فلا إشكال في ترتبه، مثل حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وذلك لأنّ الملاك في هذه الأحكام لا يختص بالحكم الواقعي، وحيث إنّ الأمارة أو الأصل نقّحا الموضوع ترتب الحكم عليه قهراً وإلاّ كان خُلفاً، وعليه فالتعبد بالاستصحاب إمّا يقتضي ثبوت تكليف وبذلك يتم موضوع وجوب الطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقوبة، وإمّا يقتضي عدم ثبوت التكليف فيتم موضوع جواز الترك وعدم استحقاق العقوبة.

وأمّا لو كان الأثر للوجود الواقعي لا الظاهري كاللحية التي هي أثر بقاء حياة الصبي إلى أوان البلوغ فلا يتحقق موضوعها بالاستصحاب، إذ لا يثبت به الوجود الواقعي، ولا كان على يقين منه ليُبقيه، ولا عبّده الشارع به حين أمره بعدم نقض اليقين بالشك.

ص: 214

فصل في زمان الأثر

لا بد في صحة الاستصحاب من وجود أثر له، ولا يلزم وجوده حين اليقين، بل يكفي وجوده حين العمل، فلا بدّ في صحته من وجود الأثر بقاءً ولا يشترط وجوده حدوثاً، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب فيشمله (لا تنقض...).

مثاله في الأحكام: استصحاب عدم التكليف لا أثر له حدوثاً وله الأثر بقاءً كعدم استحقاق العقاب بالترك.

ومثاله في الموضوعات: لو تيقنا بعدالة غير البالغ فلا أثر له، ثم لو شككنا حين بلوغه في بقاء عدالته فللاستصحاب أثر حينئذٍ وهو قبول شهادته مثلاً فلذلك يجري، وكحياة الابن حال حياة أبيه لا أثر لها، فلو شككنا فيها حين موت أبيه كان للاستصحاب أثر هو إرثه من أبيه، والحاصل: أنّ عدم إجراء الاستصحاب حينئذٍ نقض لليقين بالشك بلا إشكال، حيث لم يؤخذ في دليل الاستصحاب لا الأثر ولا الإبقاء، وإنّما اشترطنا الأثر لئلا يكون التعبد لغواً، ويكفي في عدم اللغوية وجود الأثر بقاءً.

ص: 215

فصل في الشك في التقدم والتأخر

اشارة

وهو تارةً يكون بلحاظ شيء واحد يضاف إلى أجزاء الزمان، وتارةً بلحاظ حادث آخر كما لو كان الأثر مترتباً على وجود الشيء أو عدمه في زمان وجود الحادث الآخر.

مثال الأوّل: لو شككنا في موت الزوج يوم الخميس أو الجمعة وأثره عدم وجوب نفقة زوجته بعد موته، ووجوبها قبله.

ومثال الثاني: لو شككنا في السابق من موت الوالد والولد حيث إنّ السابق لا يرث اللاحق، واللاحق يرث السابق، فالكلام في مبحثين.

المبحث الأوّل: لحاظ الحادث أو عدمه إلى أجزاء الزمان

وهنا ثلاث حالات:

الحالة الأولى: استصحاب عدم وقوعه في الزمان الأوّل، كاستصحاب حياة الزوج يوم الخميس وأثره وجوب دفع نفقة ذلك اليوم إلى زوجته، ولا إشكال في هذا الاستصحاب لتمامية أركانه مع عدم المانع عنه.

الحالة الثانية: إثبات تأخره عن الزمان الأوّل، وهذا أصل مثبت، إذ اللازم العقلي لعدم وقوعه يوم الخميس - في المثال - هو تأخره عنه.

الحالة الثالثة: إثبات وقوعه في الزمان الثاني، وهذا أيضاً مثبت، إذ مع العلم إجمالاً بوقوعه في أحد الزمانين فلازم عدم وقوعه في الزمان الأوّل

ص: 216

هو وقوعه في الزمان الآخر.

إلاّ لو أدعي خفاء الواسطة أو جلاؤها بحيث يكون تنزيل أحدهما تنزيلاً للآخر عرفاً، أو قيل: بأنّه يمكن إثبات حدوث الشيء في الزمان الثاني عبر ادّعاء أنّ الموضوع مركب من عدم الوجود في الزمان الأوّل وهذا ما يثبته الاستصحاب والوجود في الزمان الثاني وهذا ثابت بالوجدان ففي المثال نعلم بأنّ الزوج كان ميتاً يوم الجمعة - سواء كان قد مات يوم الخميس أو الجمعة - ، وبضم الوجدان إلى الأصل يتم المطلوب.

هذا كلّه في ما لو علمنا بوجود الحادث في أحد الزمانين مع القطع باستمراره، وأمّا لو حدث في أحد الزمانين ثم ارتفع بعد ذلك فلا، كما لو علمنا بأنّ الماء لم يكن كراً يوم الأربعاء ثم صار كراً ثم رجع إلى القليل، وكان ذلك إمّا يوم الخميس أو الجمعة، فمقتضى الاستصحاب عدم كريته يوم الخميس لاستصحاب عدم كريته، ولكن لا يمكن إثبات كريته يوم الجمعة لاحتمال أنّه صار كراً ثم رجع إلى القليل يوم الخميس، وعليه لو غسل به ثوب نجس في أحد اليومين فلا يحكم بطهارته وذلك لاستصحاب القِلّة يوم الخميس، واستصحاب نجاسة الثوب يوم الجمعة، نعم لو غُسل في كلا اليومين عُلم إجمالاً بأنّه غسل بالكر فطهر قطعاً.

المبحث الثاني: لحاظ أحد الحادثين بالنسبة إلى الآخر

اشارة

بحيث لا نعلم المتقدم عن المتأخر مع ثبوت الأثر للتقدم أو التأخر.

مثال الحكم: لو علمنا بالناسخ والمنسوخ ولا نعلم المتقدم ليكون هو المنسوخ عن المتأخر ليكون هو الناسخ، ومثال الموضوع: إسلام الوارث

ص: 217

وقسمة أموال المورث.

والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ

وصوره أربع بحسب كون الأثر للشيء بمفاد كان التامة أو الناقصة أو ليس الناقصة أو التامة.

الصورة الأولى: كون الأثر للشيء بمفاد كان التامة، أي لوجود الشيء بما هو هو بأن يكون الأثر للحصة الخاصة من الوجود إذا لوحظت انتزع عنها التقدم أو التأخر أو التقارن.

كما لو أسلم الوارث الكافر وقُسمت التركة، ولم نعلم بتاريخهما، فإن كان إسلامه قبل القسمة كان وارثاً وإن كان بعدها فلا يرث، فالإرث مترتب على حصة من إسلامه وهي الواقعة قبل القسمة، فهنا ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن يكون الأثر لأحدهما في نحو واحد، فحينئذٍ يجري استصحابه لتمامية أركانه من غير مانع، كما لو كان الأثر لتقدم أحدهما ولا أثر لتأخره أو تقارنه، ولم يكن للآخر أثر لا لتقدمه ولا لتأخره ولا لتقارنه كما لو مات قريبان أحدهما مسلم والآخر كافر وجُهل تاريخ موتهما مع العلم بعدم موتهما معاً، فهنا يجري استصحاب عدم موت المسلم إلى حين موت الكافر فيرث منه، ولا يجري استصحاب عدم موت الكافر إلى حين موت المسلم، إذ لا أثر له، لأنّ الكافر لا يرث المسلم سواء مات متقدماً أو متأخراً.

الفرض الثاني: أن يكون الأثر لكليهما بخصوص التقدم أو التأخر من غير احتمال التقارن بحيث نعلم تقدم أحدهما وتأخر الآخر ولا نحتمل

ص: 218

التقارن، فحينئذٍ يتعارض الاستصحابان ويتساقطان، كالمسلمين المتوارثين اللذين لا نعلم بالمتقدم والمتأخر من موتهما.

الفرض الثالث: أن يكون الأثر مترتباً على خصوص التقدم أو التأخر مع احتمال التقارن، فحينئذٍ يجري كلا الاستصحابين لتمامية أركانهما وعدم المعارضة بينهما، نعم لا يثبت بذلك تقارنهما لأنّه أصل مثبت، كما في الإرث حيث يترتب على تقدم موت المورث، وعليه فاستصحاب عدم تقدم وعدم تأخر موت كل واحد منهما يكفي في ترتب الأثر وهو عدم التوارث بينهما كما هو فتوى مجموعة من الفقهاء في غير الغرقى والمهدم عليهم للنص الخاص فيهما.

الصورة الثانية: كون الأثر للشيء بمفاد كان الناقصة أي الوجود النعتي، كما لو فرض أنّ موضوع الأثر هو إسلام الولد المتصف بتقدمه على قسمة الإرث، فحينئذٍ لا يجري الاستصحاب وذلك لعدم المقتضي له بمعنى عدم اليقين بالحالة السابقة.

نعم، قد يقال: بجريان استصحاب عدمه، لأنّ الإسلام المتصف بالتقدم لم يكن قطعاً وهو مشكوك الآن، وقد مرّ الكلام فيه في استصحاب عدم قرشية المرأة(1)

فراجع.

الصورة الثالثة: كون الأثر للشيء على مفاد ليس الناقصة، فهذا أيضاً لا يقين سابق به، وذلك لأنّ الاتصاف بالعدم حادث مسبوق بالعدم كالاتصاف بالوجود، وأمّا عدم الحادث المتصف بالتقدم فهو معارض بعدم الحادث

ص: 219


1- نبراس الأصول 2: 372-381.

المتصف بالتأخر.

كما لو كان الماء قليلاً، ثم لاقى نجساً وصار كراً ولا يعلم المتقدم منهما عن المتأخر، فالماء بوصف عدم الكرية زمن الملاقاة ينجس، والماء بوصف عدم الملاقاة في زمان القِلة لا ينجس، فلا يجري الاستصحابان لعدم الحالة السابقة له لا (الماء بوصف عدم الكرية زمن الملاقاة) ولا (الماء بوصف عدم الملاقاة زمن القلة).

الصورة الرابعة: - وهي العمدة ويترتب عليها الثمرة - كون الأثر للشيء بمفاد ليس التامة، بأن يكون الأثر لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر، كإرث الوارث المتوقف على عدم موته حين موت المورّث، فحينئذٍ لا يجري الاستصحاب، لكن اختلف في سبب عدم جريانه.

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1):

إلى عدم الجريان لتعارض الاستصحابين، وحينئذٍ لو فرض عدم جريان أحدهما - إمّا لعدم الأثر له أو لكونه مثبتاً - جرى الآخر لتمامية الأركان وعدم المانع بارتفاع التعارض.

وذهب المحقق الخراساني(2):

إلى عدم الجريان لعدم تمامية الأركان، وذلك لعدم إحراز أحد الأركان وهو اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

أمّا الكبرى: فقد مرّ الكلام فيها في الشرط الرابع من شروط الاستصحاب(3).

ص: 220


1- فرائد الأصول 3: 249-250.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 134-137.
3- نبراس الأصول 5: 122.

أمّا الصغرى: ففي جهة عدم الاتصال وجوه متعددة، ذكرها الأعلام وأشكلوا عليها، منها:

الوجه الأوّل: ما قرّره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أنّ هناك ثلاثة أزمنة: زمان اليقين بعدمهما، وزمان العلم بحدوث أحدهما لا بعينه وهنا لا شك في المتقدم والمتأخر لأنّهما متقومان بالطرفين، وزمان العلم بحدوثهما معاً وحينئذٍ يتحقق الشك في المتقدم والمتأخر، نعم اليقين والشك في كل واحد منهما بالإضافة إلى الزمان متصلان لكن المفروض أنّ ذلك ليس مجرى الاستصحاب وإنّما مجراه بإضافة كل واحد بالنسبة إلى الآخر.

ويرد عليه: أنّ المناط هو اليقين والشك حين الاستصحاب، لا في زمان حدوثهما، فهو وإن لم يكن شاكاً في الزمان الثاني، لكنّه بعد الزمان الثالث حينما يريد الاستصحاب له يقين بالعدم في الزمان الأوّل وشك بالعدم المتصف بالمتقدم والمتأخر منهما في الزمان الثاني.

الوجه الثاني: ما قرّره المحقق العراقي قال: «في فرض العلم بحادثين كإسلام الوارث وموت المورّث والشك في المتقدم منهما و المتأخر... فبعد احتمال كون الزمان الثاني أعني يوم الجمعة مثلاً ظرفاً لحدوث الإسلام أو الموت لا مجال لاستصحاب عدم إسلام الوارث المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت مورثه، لاحتمال أن يكون موت المورّث يوم السبت الذي هو الزمان الثالث، ويكون زمان الإسلام يوم الجمعة الذي هو زمان انتقاض يقينه باليقين بالخلاف، ومع هذا الاحتمال لا يمكن جرّ المستصحب من

ص: 221


1- فوائد الأصول 4: 518.

زمان يقينه إلى زمان الآخر المحتمل كونه بعد زمان اليقين بارتفاعه، وهكذا في استصحاب عدم موت المورّث إلى زمان إسلام الوارث، فإنّه مع احتمال كون زمان الإسلام بعد زمان موت المورث يحتمل انتقاض يقينه باليقين بالخلاف... لا بدّ من التمسك بدليل الاستصحاب من تطبيق عنوانه بقيوده على المورد، فمع الشك في مثل هذا القيد يشك في تطبيق عنوانه، وفي مثله لا مجال للتمسك بعموم لا تنقض حتى بناءً على جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية للمخصصات المنفصلة»(1).

وأورد عليه: أنّه لا يعقل احتمال اليقين مع الشك أصلاً، لأنّ اليقين والشك من الصفات النفسية الدائر أمرها بين العلم بوجودها أو العلم بعدمها فلا يتصور احتمال وجودها، ففي المثال إسلام الوارث وموت المورث أمران خارجيان تعلّق بهما اليقين والشك، أمّا نفس اليقين ونفس الشك فأمرهما دائر مدار الوجود والعدم.

مضافاً إلى ثبوت الاتصال إذ في الزمان الثاني علم إجمالي بتحقق أحدهما، وهذا العلم يجتمع مع الشك في كل فرد بخصوصه - على ما مرّ من معنى العلم الإجمالي - ففي المثال هو عالم بعدم موت المورث وعدم إسلام الوارث يوم الخميس وشاك في كل واحد منهما بخصوصه يوم الجمعة وبذلك تمّ الاتصال.

الوجه الثالث: ما قرّره المحقق الإصفهاني قال: «فإذا كان الزمان الثاني - المتصل بزمان اليقين - زمان حدوث الموت، كان عدم الإسلام فيه - وهو

ص: 222


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 209-210.

المشكوك - متصلاً زمانه بزمان اليقين بعدمه، وإذا كان زمان حدوث الإسلام هو الزمان الثالث كان عدم الإسلام فيه - وهو المشكوك - منفصلاً عن زمان اليقين بعدمه، وهكذا الأمر في عدم الموت في زمن حدوث الإسلام فإنّه كذلك، فالتمسك بعموم (لا تنقض) في كل من العدمين الخاصين يكون تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية»(1).

وفيه: أنّه إن فسرنا اليقين والشك بالمتيقن والمشكوك فإنه لا يشترط اتصال ذات المشكوك بذات المتيقن، بل يشترط اتصال المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقن بما هو متيقن لكي يكون الاستصحاب إبقاءً، إذ التعبد في دليل الاستصحاب لم يتعلق بذاتيهما وإنّما بعنوانهما، وفي ما نحن فيه لا فصل بين المتيقن بعنوانه عن المشكوك بعنوانه نعم قد يكون فصل بين ذاتيهما وذلك غير ضائر، وإن أبقينا اليقين والشك على ظاهرهما فإنه كان اليقين بعدم الإسلام يوم الخميس، ثم في يوم الجمعة لا يقين بالإسلام ولا بعدم الإسلام، فلا بدّ من الشك فيه حتماً، فاتصل الشك باليقين.

المقام الثاني: في المجهول تاريخ أحدهما المعلوم الآخر

كما لو قُسّم الإرث يوم الجمعة وشك في إسلام الولد يوم الخميس أو السبت، وفيه قولان:

القول الأوّل: ما ذهب الشيخ الأعظم في الرسائل(2) وهو جريان الاستصحاب في المجهول تاريخه، لتمامية الأركان فيه من غير معارض،

ص: 223


1- نهاية الدراية 5: 207.
2- فرائد الأصول 3: 250.

لعدم تماميتها في المعلوم تاريخه، إذ نفس الوجود لا شك فيه سابقاً ولاحقاً، وخصوصية الوجود لا يقين سابق بها.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إنّ الشك في المعلوم بذاته غير موجود في زمان، بل لا بدّ في تحققه من ضمّ خصوصية للمعلوم، ومع ضمّها يكون الشك في الواقع متعلقاً بها لعدم الشك في الحادث أصلاً، وإضافة الشك إلى الحادث مع الخصوصية مسامحة، وليس للاتصاف بالخصوصية حالة سابقة حيث إنّ موضوع الشك هو الخاص، والخاص بما هو خاص مسبوق بالعدم.

وأشكل عليه: بتمامية الأركان في المعلوم أيضاً، وذلك لأنه يراد في المعلوم استصحاب عدم وجوده قبل الآخر كعدم القسمة قبل الإسلام، أو عدم خصوصية الوجود كعدم القسمة المتصفة بأنّها قبل الإسلام، فإنّ القسمة على النحوين مسبوقة بالعدم المتيقن به مع الشك في ارتفاعه، والحاصل: أنّ الاتصاف بالخصوصية أي العدم الخاص لا حالة سابقة له، وأمّا عدم الاتصاف بها أي عدم الخاص فهو من الأزل.

القول الثاني: التفصيل، فقد ذهب المحقق الخراساني(1) إلى عدم الفرق بين هذا المقام ومجهولي التاريخ في الصور الأربع، فأمّا مفاد كان التامة فتتعارض استصحابات أعدامها، فاستصحاب عدم الحصة المتأخرة عن الإسلام يتعارض مع استصحاب عدم الحصة المتقدمة، وأمّا مفاد كان وليس الناقصتين فلا يقين سابق بها كالحادث المتصف بوصف التقدم أو التأخر، والحادث المتصف بوصف عدمهما، وأمّا مفاد ليس التامة - أي عدم

ص: 224


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 141-145.

أحدهما في زمان الآخر - ، فلا يجري استصحاب المعلوم بالنسبة إلى الزمان إذ لا شك فيه أصلاً لأنّا نعلم بالقسمة يوم الجمعة ونعلم بعدمها قبلها - في المثال - وأمّا استصحاب عدم المعلوم بالإضافة إلى المجهول كاستصحاب عدم القسمة إلى حين الإسلام فهذا يرجع إلى الصورة الأولى أو الثانية، لأنّ القسمة إن لوحظت حصة وجودية فاستصحاب عدمها جار لولا المعارضة، وإن لوحظت بوصف التقدم أو التأخر فلا يقين سابق.

ثم إنّه قد أشكل على أصل جريان الاستصحاب في المعلوم بإشكالات، منها:

الإشكال الأوّل - وهو العمدة - ما في المنتقى قال: «إنّ أدلة الاستصحاب تفيد أنّ الاستصحاب هو جرّ المستصحب ومدّه في ظرف الشك، وليس في استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان المجهول مدّ له في زمان أصلاً، لأنّه معلوم الحد والمقدار»(1).

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قال: «إن أريد من لحاظ معلوم التاريخ بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر: لحاظه مقيداً بزمان حدوث الآخر فهو وإن كان مشكوكاً - للشك في وجوده في زمان وجود الآخر - إلاّ أنّه لا تجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان، لأنّ عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقناً سابقاً فلا يجري فيه الأصل، وإن أريد من لحاظه بالإضافة إلى زمان الآخر: لحاظه على وجه يكون زمان الآخر ظرفاً لوجوده فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالإضافة إلى

ص: 225


1- منتقى الأصول 6: 271.

نفس أجزاء الزمان، وقد عرفت أنّه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري على حال»(1).

ويرد على الأوّل: ما ذكره المحقق العراقي بقوله: «إن لوحظ زمان وجود أحدهما قيداً للآخر فالأصل بمفاد ليس الناقصة لا يجري، وأمّا الأصل بمفاد ليس التامة فيجري ويسقط بالمعارضة، فإنّ وجود كل منهما في زمان وجود الآخر كان مسبوقاً بالعدم، فإنّه عند عدم كل منهما لم يكن لكل منهما وجود في زمان وجود الآخر ولو لأجل السالبة بانتفاء الموضوع»(2).

وعلى الثاني: بأنّ الإرث - في المثال - لا يترتب على زمان القسمة أو زمان الإسلام، بل على وجود القسمة ووجود الإسلام مع قطع النظر عن الزمان، فالزمان وإن كان لازماً للزماني إلاّ أنّه لا يرتبط بالحكم الشرعي هنا، فلا وجه لإرجاع الحكم إلى الزمان، فتأمل.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق النائيني أيضاً قال: «وجود الإسلام المقارن للحياة وإن كان مشكوكاً وجداناً ومسبوقاً بالعدم وجداناً، إلاّ أنّه عبارة أخرى عن الشك في وجود تمام الموضوع للإرث بعد العلم بعدم تحققه في زمان، والأصل الجاري فيه لا يمكن أن يعارض به الأصل الجاري في الجزء الذي هو مجهول التاريخ في المقام، فإنّ الشك في تحقق تمام الموضوع إنّما يكون مسبباً عن الشك في وجود الجزء وعدمه ضرورة

ص: 226


1- فوائد الأصول 4: 508-509.
2- فوائد الأصول 4: 509 (الهامش).

أنّه لو كانت الحياة في زمان الإسلام معلومة لما كان يشك في وجود تمام الموضوع أصلاً، وحينئذٍ يكون الأصل الجاري في طرف الجزء - بعد ضم الوجدان إليه - حاكماً على الأصل الجاري في طرف الكل، ولولا ذلك لما كان يجري الأصل في الجزء في شيء من الموارد أصلاً»(1).

والحاصل: إنّ ما نحن فيه من قبيل استصحاب الكل والجزء حيث إن الاستصحاب في الجزء حاكم على الاستصحاب في الكل.

وأورد عليه: بالفرق، إذ في ما نحن فيه تحقق الشك بعد فرض زمان واقعي لوحظ الحادث مضافاً إليه، بخلاف موارد الكل والجزء لعدم فرض زمان واقعي للطهارة مثلاً لعدم العلم بتحققها، فلا شك في الصلاة في زمان الطهارة لعدم إحراز الطهارة، وفي زمان احتمال الطهارة لا شك فيها لليقين بها فيه(2)، فتأمل.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقق العراقي قال: «إنّ عدم جريان الأصل، ولو على الظرفية في معلوم التاريخ بلحاظ الزمان الواقعي لوجود الآخر، إنّما هو لأجل عدم إحراز مقارنة الإبقاء التعبدي مع زمان وجود الآخر، لأنّ معنى إبقاء الشيء وجوداً أو عدماً إلى الزمان الواقعي لوجود غيره هو إبقاؤه إلى زمان يقطع فيه بكونه ذاك الزمان الواقعي لوجود الآخر، وإلاّ فبدون اليقين به لا يمكن تطبيق كبرى الأثر على المورد، وحينئذٍ مع تردد زمان وجود الآخر بين زمانين لا يكاد يمكن الجزم بالتطبيق إلاّ بفرض جرّ عدم

ص: 227


1- أجود التقريرات 4: 147.
2- منتقى الأصول 6: 269.

المعلوم في جميع محتملات أزمنة المجهول وهو غير ممكن، لأنّ من محتملات وجوده: زمان اليقين بارتفاع المستصحب وانقلابه بالنقيض، فلا يمكن جرّ عدمه إلى هذا الزمان، ومع عدم جرّه كذلك كان البقاء التعبدي فيه مشكوك المقارنة مع زمان وجود الغير، ومع الشك المزبور لا يثمر الأصل في ترتيب أثر البقاء المقارن لزمان وجود الغير»(1).

ورُدّ: بأنّ المناط في الاستصحاب هو التعبد به لا لوازمه وملازماته، وفي ما نحن فيه القسمة والإسلام وإن لم ينفكا عن الزمان حيث إنّها زمانيّان إلاّ أنّه بناءً على الظرفية لم يؤخذ الزمان فيهما، وعليه فموضوع الأثر بالإرث هو نفس القسمة مع وجود الإسلام، والتعبد لا يسري إلى لازمه - وهو الزمان - وعليه فلا يصح أنّ يقال: إن المتعبد به - وهو القسمة مع الإسلام - لا تنطبق على أزمنة وجود الإسلام، فإنّ تطبيق عدم القسمة على أزمنة وجود الإسلام لا نظر له إلى لازمه كي يستشكل بعدم إحراز التطبيق على الأزمنة في فرض العلم بالتاريخ، فإنّ ذلك إدخال ما ليس من الموضوع فيه.

وفيه: أنّ الإشكال هو في إجراء الاستصحاب إلى ما بعد زمان اليقين وهو خلاف قوله: «بل انقضه بيقين آخر» فليس النظر إلى الزمان لكي يقال: إنّه لازم للمتعبد به وليس داخلاً في التعبد، فتأمل.

المبحث الثالث: في تعاقب الحالتين

اشارة

وفرقه عمّا سبق في أنّ الموضوع هنا بسيط، والمستصحب قائم بموضوع واحد، مع معلومية زمان الشك دون زمان اليقين، وأمّا السابق فالموضوع

ص: 228


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 206.

مركب والمستصحب قائم بموضوعين وزمان اليقين معلوم دون زمان الشك.

كما لو تعاقبت الطهارة والحدث على شخص واحد مع الشك في المتقدم منهما عن المتأخر.

والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ

وفيه أقوال، منها:

القول الأوّل: تمامية أركان الاستصحاب وسقوطه بالتعارض، وحينئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى الأصل المحكوم، وهو يختلف باختلاف المواضيع، فيجوز له مثلاً المكث في المسجد لأنّ موضوع الحرمة الجنب، ولا يجوز له مس كتابة القرآن لجوازه على المتطهر فقط.

القول الثاني: عدم تمامية الأركان، لوجوه مرّ بعضها في المبحث السابق مع الإشكال عليها، ومنها وجوه ثلاثة ذكرها المحقق العراقي(1)

وحاصلها:

الوجه الأوّل: في تعاقب الحالتين يدور الأمر بين عدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك وبين أن لا يكون في البين شك في البقاء أصلاً، وذلك لأنّه إن كان الساعة الأولى هي زمان الحدث والثانية زمان الطهارة، فالشك الفعلي في الحدث في الساعة الثالثة لم يتصل باليقين، وإن وقع الحدث في الساعة الثانية فزمان الشك وإن اتصل بزمان اليقين إلاّ أنّه لا شك في البقاء حينئذٍ.

وفيه: ما مرّ من أنّ اليقين والشك متصلان وجداناً إلاّ أنّه يحتمل عدم

ص: 229


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 215-216.

اتصال المتيقن والمشكوك بذاتهما، وذلك لا يخلّ بجريان دليل الاستصحاب.

الوجه الثاني: إنّ الشك المأخوذ في دليل الاستصحاب هو الشك في البقاء والارتفاع، وأمّا في ما نحن فيه فإنّ الشك إنّما هو شك في زمان حدوثه المتصل به.

وفيه: أنّ إطلاق دليل الشك يشمل كل شك، فالمعتبر هو اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ولا يشترط معرفة زمان حدوثهما.

الوجه الثالث: بعد علمنا بتعاقب الحالتين في الساعة الأولى والثانية - وهي ساعة العلم الإجمالي - لا يوجد يقين، وكذلك في الساعة الثالثة التي هي ساعة الشك، وعليه فجميع الساعات الثلاث ظرف للشك ودليل الاستصحاب منصرف عن ذلك حيث لا بدّ من زمان يوجد فيه اليقين!

وفيه: إطلاق (اليقين) يشمل الإجمالي أيضاً، مضافاً إلى أنّ الملاك هو اليقين حين إجراء الاستصحاب وهو حاصل تفصيلاً ليقينه بتحقق الحدث والطهارة في الزمان الماضي والإجمال إنّما هو في زمان الحدوث، ولا انصراف هيهنا بل العرف يقول: إنّه كان متيقناً من الحدث ومن الطهارة بوضوح وجلاء.

القول الثالث: ما عن المحقق الحلي في المعتبر(1) من البناء على الحالة السابقة على الحالتين - إن كانت - كما لو علم بأنّه كان محدثاً ثم علم بالحدث والطهارة فيبني على كونه متطهراً. وذلك للقطع بارتفاع الحالة السابقة الأولى بوجود الرافع لها، مع الشك في ارتفاع ذلك الرافع،

ص: 230


1- المعتبر 1: 171.

فيستصحب بقاؤه. ولا يعارضه استصحاب الحالة الأخرى لأنّها مرددة بين ما لا أثر له وبين ما له أثر، لأنّ الحدث بعد الحدث وكذا الطهارة بعد الطهارة لا أثر له، فلا تنجيز للعلم الإجمالي لعدم الأثر لأحد طرفيه.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما عن المحقق الهمداني(1)

من أنّ المستصحب ليس خصوص الأثر الحاصل من المتيقن السابق، بل المستصحب هو الأثر الموجود حال حدوث الحدث المتيقن وإن لم يعلم بكونه مسبباً عنه إذ العلم بسببه غير معتبر في الاستصحاب، كما لو انتبه من نومه وشك في أنّه تطهر عقيبه أم لا، فإنّه يستصحب حدثه الذي يعلم بتحققه بعد النوم ولو لم يعلم باستناده إلى ذلك النوم أو إلى سبب آخر.

وفيه: إن أثر الحدث وإن كان موجوداً إلاّ أنّ نفس الحدث الثاني غير معلوم التحقق فحينئذٍ لا يقين به حتى يتم استصحابه وإنّما المتيقن ما يمكن أن يكون سبب الحدث ولا شك فيه كي يستصحب.

وثانياً: إنّه كما تحققت الحالة الموافقة للسابق قطعاً كذلك تحققت الحالة المخالفة له قطعاً، وكلاهما مشكوك الارتفاع ولهما الأثر في حالة البقاء ففي المثال بعد الحدث الأوّل تحقق حدث قطعاً ولبقائه إلى زمان الشك أثر، كما تحققت طهارة قطعاً ولبقائها أثر، فتمت أركان الاستصحاب في كليهما فيتساقطان.

المقام الثاني: في ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ

فقد يقال: بأنّ الاستصحاب في طرف المعلوم لا معارض له، إذ

ص: 231


1- مصباح الفقيه 1[ق1]: 204.

المتصور في الحالة الأخرى استصحابان أحدهما مثبت والآخر غير معارض، فاستصحاب عدم حدوث المجهول قبل المعلوم مثبت، واستصحاب عدم حدوثه بعده غير معارض، فمن كان يعلم بأنّه توضأ في الساعة العاشرة وعلم بأنّه أحدث إمّا قبلها أو بعدها، فاستصحاب الوضوء لا مانع له، واستصحاب عدم الحدث قبل الوضوء لازمه وقوع الحدث بعده وهو مثبت، واستصحاب عدم الحدث بعد الوضوء لا معارضة له لاستصحاب الطهارة.

ص: 232

فصل في الاستصحاب في الاعتقادات

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: في عامة الاعتقاديات

قد مرّ أنّ الاعتقادات على أقسام ثلاثة: فمنها: ما يجب تحصيل العلم بها مطلقاً، ومنها: ما لا يجب تحصيل العلم بها لكن لو حصل له العلم وجب الاعتقاد، ومنها: ما يكفي فيها الدليل المعتبر.

وبين العلم والاعتقاد عموم من وجه، فقد يعلم ولا يعتقد بأن لا يعقد قلبه عليه كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1)،

وقد يعتقد بما لا يعلم كاعتقاد المشركين بأصنامهم مع أنّهم كانوا يظنون ظناً ولم يكونوا مستيقنين.

فإن كان الواجب العلم، فإنّه إن كان موضوعياً فلا وجه للاستصحاب حين الشك لأنّ الاستصحاب لا يوجب اليقين.

وإن كان طريقياً فلا وجه له أيضاً إذ الاثر في الاعتقاديات هو اليقين فقط، وهو لا يتحقق بالاستصحاب، ولا أثر آخر.

وإن كان الواجب الاعتقاد عن علم فلا يحصل هذا الموضوع

ص: 233


1- سورة النمل، الآية: 14.

بالاستصحاب، أو الاعتقاد ولو من غير علم فهذا لا يحتاج إلى الاستصحاب.

ومن ذلك يتضح الإشكال في القول بجريان الاستصحاب الحكمي، حيث لا يراد فيها إلاّ اليقين وهو لا يتحقق بالاستصحاب، ولا أثر آخر كي يجري الاستصحاب لأجله.

نعم، لو كان من القسم الثالث الذي يكفي فيه الدليل المعتبر فلا يبعد جريان الاستصحاب الحكمي بوجوب الاعتقاد، إلاّ أنّه في أصل الوجوب إشكال بناءً على عدم وجوب الموافقة الالتزامية ولا أثر عملي له ليلزم باعتباره، فتأمل.

مثلاً لو كان في زمان الأئمة السابقين وشك في موت إمام زمانه لا يجوز له استصحاب حياته، بل يجب عليه تحصيل العلم بحياته أو بوفاته وبالإمام الذي يليه لأنّ الإمامة من القسم الأوّل.

المبحث الثاني: في استصحاب النبوة

غير خفي أنّ النبوة منصب إلهي يمنحه الله لمن شاء ممن اصطفاه، ولا شك في بقاء نبوة الأنبياء في حياتهم وبعد موتهم فلا معنى لاستصحاب نبوتهم، على أنّ نبوة الأنبياء السابقين لا تنافي نبوة الأنبياء الذين من بعدهم، فلا معنى لاستصحاب نبوة نبي لأجل نفي نبوة نبي آخر.

أمّا ما تمسك به الكتابي لاستصحاب نبوة عيسى (علیه السلام) بغرض نفي نبوة رسول الله محمّد (صلی الله علیه و آله) فباطل من جهات أخرى أيضاً:

منها: أنّه إن كان يريد إلزام المسلم فهو لا شك له في نبوة رسول الله محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وإن كان يريد إقناع نفسه فلا ينفع في أصول الدين إلاّ العلم

ص: 234

فعليه طلب الأدلة العلمية.

ومنها: أنّ اليقين بنبوة عيسى (علیه السلام) إنّما هو لأنّ رسول الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) أخبر بها، فمع الشك في نبوته يزول اليقين بنبوة عيسى فلا وجه لاستصحابها.

ومنها: ما أجاب به الإمام الرضا (علیه السلام) الجاثليق قال: «أنا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد وكتابه ولم يبشر به أمته»(1).

ولا يرد إشكال أنّ عيسى (علیه السلام) جزئي حقيقي والمسلم يعترف به وقد كانت له شريعة فلا بدّ من إثبات المسلمين نسخها.

إذ يجاب بما في الرشحات: «بأنّ الجزئي الخارجي إمّا أن يكون مورداً للإشارة الحسيّة فيشار إليه ويحكم عليه بحكم، فلا إشكال في عدم صحة إجراء الحكم عليه مقيداً بكونه موصوفاً بكذا وكذا، وأمّا إن كان خارجاً عن المشاهدة - لسبقه زماناً أو لحوقه - فإنّما يحكم على الصورة الذهنية الموجودة عنه، وحيث لم يشاهد ينتزع مفهوماً من خصوصيات الموضوع وقيوده، فهذه الصورة الذهنية إنّما تنطبق على الخارج إذا كان مطابقاً لها في الخصوصيات، فلو أضيف إليها قيد أو صفة غير مطابق لا ينطبق عليه أصلاً، وبعبارة أخرى: هذ المفهوم المنتزع كلي ينحصر في فرد بعد كثرة القيود، فحينئذٍ يصح سلب الحكم عن المفهوم غير المطابق للواقع، مثلاً لا إشكال في وجود الشمس وإضائتها خارجاً، ومع ذلك يصح لنا القول بأنّ الشمس

ص: 235


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 2: 141.

المستطيلة لا تضيئ، فيتم سلب الشمس المقيد بالاستطالة لعدم تطبيقه مع الموجود الخارجي، بل عدم وجود فرد كذلك أصلاً، ومن هذا القبيل موسى وعيسى (علیهما السلام) ، فالنبوة المقطوعة محمولة على موسى المقيد بالاعتراف، وأمّا موسى غير المعترف به فليس نبياً بل لم يكن موجوداً أصلاً، فحينئذٍ يصح أن يقال: إنّا نعترف بنبوة موسى كذلك»(1).

ص: 236


1- رشحات الأصول 2: 335.

فصل في استصحاب حكم المخصص

وقد مرّ(1)

بحثه إجمالاً.

ومثاله في المعاملات: عموم قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(2)

وقد خرج عنه زمان العلم بالغبن فوراً حيث يجوز الفسخ، ويشك في حالة التراخي.

ومثاله في العبادات: جواز الأكل والشرب حيث خرج منه نهار شهر رمضان ويشك في جواز الأكل بعد سقوط القرص قبل ذهاب الحمرة المشرقية بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية.

ثم إن الزمان قد يكون ظرفاً أو مفرّداً في العام والخاص، فالصور أربعة، والعمدة ما لو كان ظرفاً في كليهما.

فقد يقال: بجريان استصحاب الخاص حينئذٍ.

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: إنّ العام كان حكماً واحداً مستمراً في الزمان وقد انقطع بالخاص، ففي زمان الشك لا يجري العام ولا الخاص، وحيث لا أصل لفظي فالمرجع الأصل العملي وهو استصحاب الخاص، لأنّ استصحاب

ص: 237


1- نبراس الأصول 2: 384.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

العام غير تام الأركان حيث انقطع اليقين بالعام باليقين بالخاص.

واستثنى المحقق الخراساني(1)

ما لو كان زمان العام يبدأ بعد الخاص كوجوب الوفاء بالعقد بعد خيار المجلس حيث لا بدّ من التمسك بعموم العام ولا مجال للاستصحاب أصلاً.

وأشكل عليه: بأنّ استصحاب الخاص يخالف القاعدة المتفق عليها من الرجوع إلى العام بعد انتهاء زمان الخاص، حيث لا فرق بين العام الاستغراقي والمجموعي، والعام في ما نحن فيه حكم واحد على مجموع الأزمنة ولا يضر بوحدته خروج زمان الخاص، لعدم الفرق بين المجموعي العرضي أو الطولي، وبعبارة أخرى: إنّ المراد الجدي من العام المخصَّص هو غير الخاص، فكان الدليل شاملاً لجميع الأزمان إلاّ زمان الخاص فلم يكن الخاص داخلاً من البداية في الحجيّة وإن كان داخلاً في اللفظ استعمالاً، ولا فرق في ذلك بين المجموعي والاستغراقي.

الدليل الثاني: إنّ للعام دلالتين: ثبوت الحكم للأفر اد، واستمرار الحكم فيها، والاستمرار في الفرد الخاص قد انتفى بالتخصيص ولا دليل آخر على شمول الحكم لما بعده، بل إنّ إثبات الحكم للفرد الخاص بعد زمان التخصيص إنّما هو إثبات حكم غير الحكم الذي كان قبل التخصيص، لأنّ العام لا يدل على ثبوت حكمين منفصلين بل حكم واحد مستمر(2).

ص: 238


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 163-164.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 376.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1)

بما حاصله: أنّ للعام حيثيتين:

1- حيثيّة عمومه، وهذا يقتضي ثبوت الحكم للفرد في الجملة، فلا يصح التمسك بالعموم عند الشك، وذلك لخروج الفرد بالتخصيص، ولا يكون عدم شمول الحكم للفرد في غير زمان الخاص تخصيصاً زائداً كي ينفى بأصالة العموم.

2- وحيثيّة إطلاقه الأزماني، وتقييده لا يضر ببقائه في سائر الأزمنة، فإنّ الزمان المأخوذ ظرفاً قابل لأن يقيّد، لأنّ وحدته طبيعية لا شخصية، فإذا قيّد مطلق الزمان بزمان خاص جعله التقييد حصة، والحصة محافظة على وحدتها الطبيعية واستمرارها، فيكون مفاد الإطلاق والتقييد ثبوت الحكم للفرد في غير هذا الزمان الخاص.

لا يقال: سائر المطلقات لها جهات عرضية فيمكن لحاظ تلك الجهات ومن ثم إطلاق الحكم بالإضافة إليها بلا منافاة شيء، وأمّا في ما نحن فيه فلم يكن الزمان مستمراً بنفسه ذا أفراد متكثرة، بل لا يكون كذلك إلاّ بالتقطيع، ولحاظه بنحو التقطيع والإطلاق بالإضافة إليها خلاف الفرض لأنّ المفروض عدم اللحاظ كذلك.

فإنّه يقال: الإطلاق هو رفض القيود لا جمعها، فلا خلف إذ النظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها لا وجوداً ولا عدماً.

لا يقال: المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر، وبعد رفع اليد عنه بالتخصيص لا ظهور آخر كي يتمسك به في إثبات الحكم.

ص: 239


1- نهاية الدراية 5: 219-222.

فإنّه يقال: جميع العمومات والمطلقات لها ظهور واحد، والتخصيص والتقييد إنّما يفيدان رفع حجيّة الظهور في الفرد لا رفع نفس الظهور بل هو باقٍ لا يرتفع.

لا يقال: ظهور العام بحيثيّة ثبوت حكم واحد مستمر، وثبوت الحكم للفرد بعد زمان التخصيص إنّما يقتضي ثبوت حكمين منفصلين لا حكم واحد مستمر.

فإنّه يقال: الوحدة المنثلمة هي الوحدة الخارجية، وهي غير معتبرة، وذلك لتعدد إطاعة الحكم وعصيانه وهو يكشف عن تعدد الحكم في الخارج، وإنّما المعتبر الوحدة في مقام الجعل والإنشاء، والمراد منها في هذا المقام جعل طبيعي البعث أو الحصة منه في قبال جعل بعثين أو حصتين منه، فإنّ البعث في هذا المقام مفهوم صالح لأن يقيّد ويحصّص، فإنّ جعل طبيعة واحدة أو حصة واحدة منه فقد جعل بعث واحد، وإذا لوحظ مقيداً محصصاً فقد تعدد، وهي هنا متحققة، لأنّ المجعول إنّما هو بعث واحد لا متعدد.

ومثله الكلام في الاستمرار، فإنّ المعتبر ليس هو الاستمرار في الخارج لعدم إمكانه لفرض التعدد في هذا المقام، وإنّما المعتبر هو الاستمرار في مرحلة الإنشاء والجعل وهو متحقق، فإنّه قد جعل الزمان المستمر ظرفاً للبعث، انتهى.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(1)، وحاصله: أنّ دوام الحكم

ص: 240


1- فوائد الأصول 4: 532-545.

في رتبة متأخرة عن الحكم حيث إنّه عرض على الحكم، فلا يمكن أن يتكفل دليل الحكم لهذا الدوام، فلو أراد الحاكم دوامه فلا بدّ له من إقامة دليل آخر. نعم لو أخذ العموم الزماني في متعلق الحكم - الذي هو أفعال المكلفين عادة - أمكن التمسك بالدليل عند الشك، وذلك لاستحالة الإهمال في متعلق الدليل حيث يتكفل كل دليل لانقسامات متعلّقه، فيدل على الإطلاق حيث لا تقييد.

والحاصل: أنّ المتعلّق في رتبة سابقة على الحكم بالتقدم الطبعي، ودوام الحكم في رتبة متأخرة عن الحكم طبعاً، وذلك لأنّه كلما وجد استمرار الحكم فالحكم موجود دون العكس.

والنتيجة: أنّه إن أخذ العموم في المتعلّق فالمرجع العموم عند الشك في بقاء الحكم لا استصحاب حكم المخصص وذلك لأخذ الدوام في المتعلّق، فمتى ما شك في بقاء الحكم كان مقتضى الإطلاق البقاء فيكون الحكم بالبقاء مدلول الدليل، فلا مورد للاستصحاب، وإن أخذ العموم في الحكم فلا يمكن التمسك بدليل الحكم عند الشك لأنّ دليل الحكم لا يتكفل دوامه، كما لا يمكن التمسك بالدليل الدال على الدوام لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه، فلو قال: هذا حلال، فلا يثبت به دوام الحليّة، كما لا يمكن إثبات دوامها بمثل «حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة» لأنّه يدلّ على أنّ الحلال الثابت حليته باقٍ لكنه لا يبيّن ما هو الحلال، فحينئذٍ يكون المرجع استصحاب المخصص.

وأورد عليه: أوّلاً: إنّ دوام الحكم ليس عرضاً عليه، بل هما شيء واحد، ولا معنى لاختلاف الرتبة بين حدوث الشيء وبقائه لعدم وجود ملاك

ص: 241

اختلاف الرتبة فيه وكما في المنتهى: «معنى عموم الحكم بحسب الزمان واستمراره هو وجوده في الأزمنة المتأخرة عن الزمان الأوّل، لا أنّه يجب إحراز وجوده حتى يرد عليه الاستمرار، لأنّ وجوده في الأزمنة المتأخرة عين استمراره وعمومه بحسب الأزمان، فإذا أحرزنا عمومه بحسب الأزمان بنحو الانحلال إلى قضايا متعددة يكون المرجع هو العام - سواء كان الزمان ظرفاً للحكم أو المتعلّق وكان قيداً لكل واحد منهما - فالمناط هو الانحلال بحسب أجزاء الزمان وقطعاته لا الظرفية أو القيدية، ولا كون مصب العموم هو المتعلّق أو الحكم، إذ مع الانحلال لا فرق بين الجميع، ومع عدمه أيضاً كذلك»(1).

وثانياً: إنّ الحكم إمّا له وحدة سنخية أو شخصية، فعلى الأوّل: يكون الحكم على طبيعي الموضوع وهو حكم واحد في مقام الجعل، ومع ذلك تتعدد الطاعة والمعصية بتعدد الأفراد، وتخصيص الواحد بالسنخ في قطعة من الزمان لا يلزم منه تعدد الحكم ولو بعد زمان المخصص. وعلى الثاني: فإنّما يكون الحكم واحداً شخصاً مع تعدد متعلق الحكم بنحو العام المجموعي أو أجزاء الواجب الواحد، ومع التخصيص لا يلزم تعدد الحكم، لأنّ الفرد المخصص لم يكن مراداً من الأوّل بالإرادة الجدية، وإنّما المراد جداً سائر الأفراد فبالتخصيص لا تنخرم وحدته الشخصية، وللعام دلالة على العموم الأزماني من غير فرق بين العام المجموعي الأفرادي عرضاً والعام المجموعي الأزماني طولاً، كما لو قال: (أكرم من في الدار مجموعاً إلاّ

ص: 242


1- منتهى الأصول 2: 663.

فلاناً)، أو قال: (أكرم في كل زمان إلاّ يوم الجمعة).

وعليه: فلا بدّ لدليل الحكم من الدلالة على الاستمرار أو التقييد لاستحالة الإهمال، فما يدل على المقسم يدل على الأقسام، وحيث لا تقييد يثبت الإطلاق، فتأمل.

ص: 243

فصل في تعارض الاستصحاب وغيره

اشارة

تارة يوجد في مورد الاستصحاب أمارة، وتارة أصل آخر، وتارة استصحاب آخر ينافيه، فالكلام في مباحث ثلاثة:

المبحث الأوّل: في الاستصحاب والأمارات

اشارة

ولا إشكال في تقدم الأمارة على الاستصحاب سواء كان موافقاً لها أم مخالفاً، إنّما الكلام في سبب تقدمه عليها، هل هو بالتخصيص أم الورود أم الحكومة، وقد مرّ الفرق بينها(1)،

فهنا وجوه:

الوجه الأوّل: التخصيص

بمعنى تخصيص أدلة الأمارات لدليل الاستصحاب، وذلك لأنّ النسبة بين الدليلين وإن كان العموم من وجه، إلاّ أنّ النسبة بين عامة الأصول والأمارات هي العموم المطلق، ولا وجه لملاحظة كل أصل على انفراده كما سيجيء في بحث انقلاب النسبة.

وفيه: إنّ التخصيص إنّما هو مع حفظ الموضوع، ومع إقامة الدليل على الورود أو الحكومة فلا حفظ للموضوع فينتفي التخصيص من أساسه، هذا مع إباء قوله: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» عن التخصيص.

ص: 244


1- نبراس الأصول 3: 7-9.
الوجه الثاني: الورود

واستدل له بأدلة منها:

الدليل الأوّل: ما عن المحقق الحائري(1)

وحاصله: أنّ اليقين المأخوذ غاية للاستصحاب ليس على نحو الصفتية، وإنّما هو على نحو الطريقية والكشف عن الواقع، فلا خصوصية له، بل يلحق به كل ما هو كاشف عن الواقع، فالاستصحاب مغيّى في الحقيقة بعدم الكاشف عن الواقع، فإذا ورد الطريق فقد جائت الغاية.

وأورد عليه: بأنّ ذلك مجرد استظهار لا الدليل عليه.

الدليل الثاني: ما في الكفاية(2)

وحاصله: أنّه بنفس التعبد بدليل الأمارة ينتفي الشك وجداناً فلا يبقى موضوع للاستصحاب سواء في الأمارة المخالفة له أم الموافقة، وفي الموافقة ليس العمل مستنداً إلى اليقين السابق بل إلى قيام الحجة عليه.

لا يقال: دليل الاستصحاب هو الأخبار المعتبرة، وهكذا دليل غالب الأمارات أخبار معتبرة، وكلا الدليلين في عرض واحد مع أنّ النسبة بين الدليلين العموم والخصوص من وجه؟

فإنه يقال: إنّ ترجيح دليل الأمارة لا محذور فيه، إذ به ينتفي موضوع دليل الاستصحاب، حيث إنّ دليلها يوجِد اليقين اللاحق فينتفي نقض اليقين بالشك الذي هو موضوعه، ولكن ترجيح دليل الاستصحاب يقتضي

ص: 245


1- درر الفوائد، للحائري: 621.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 187-190.

تخصيص دليل الأمارة، إمّا بمخصص آخر وهو غير موجود، وإمّا بنفس دليل الاستصحاب وهو دور مصرّح حيث إنّ جريان الاستصحاب يتوقف على تخصيصه للأمارة كي لا يكون نقضاً لليقين باليقين، وتخصيصه لها يتوقف على جريان الاستصحاب إذ لو لم يجر الاستصحاب لكان نقضاً لليقين باليقين.

وأورد عليه: بأنّ تحقق اليقين مع الأمارة إمّا باليقين بالحكم الواقعي وهذا تصويب باطل، وإمّا باليقين بالحجة وهذا غير صحيح لعدم وحدة متعلق اليقين الأوّل والثاني حيث إنّ الأوّل بالحكم أو الموضوع والثاني بالحجة، وإمّا بالحكم الشرعي وهذا يستلزم اختلاف متعلقي اليقينين لأنّ متعلق الأوّل هو الحكم الواقعي والثاني هو الحكم الظاهري، مضافاً إلى كونه أخص من المدعي حيث إنّه عام في الحكم والموضوع.

الدليل الثالث: حمل اليقين في الحديث على الحجة، والشك على اللاحجة، والأمارة حجة تعبداً ينتفى بها موضوع الاستصحاب وهو اللاحجة وجداناً.

لكن هذا تصرف يحتاج إلى دليل، وقد مرّت الأدلة مع ردّها في معنى اليقين، فراجع(1).

الوجه الثالث: الحكومة

وذلك لأنّ أدلة الأمارات توسع اليقين في دليل الاستصحاب بناءً على مسلك جعل الطريقية - الذي هو تتميم الكشف - فيها، حيث تكون يقيناً

ص: 246


1- نبراس الأصول 5: 77.

تعبداً، كما أنّها تضيّق الشك بناءً على مسلك تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فيها، فقد اعتبر الشك لا شك.

لا يقال: على مبنى جعل المؤدّى لا إلغاء للشك لأنّها تدل على جعل المؤدّى فقط، فالشك موجود وجداناً وغير ملغي تعبداً فلا حكومة!

لأنّه يقال: إنّ جعل المؤدّى وإن لم يدل مطابقةً على إلغاء الشك، إلاّ أنّه يدل عليه التزاماً، حيث إنّ كون المؤدّى هو الواقع ينافي عرفاً حفظ الشك بعدم إلغائه.

ثم إنّ المحقق الخراساني أشكل على الحكومة(1)...

أوّلاً: بأنّ شرط الحكومة النظر، ومن المعلوم أنّ أدلة الأمارات - كآية النبأ - لا نظر لها إلى أدلة الأصول العملية، كما أنّ شرطها تصرف الحاكم في المحكوم - توسعةً أو تضييقاً - .

ويرد عليه: أنّ التفسير ليس منحصراً في التفسير اللفظي، بل يشمل التفسير الواقعي، بحيث لو ألقي الدليلان إلى العرف رأى أحدهما مبيناً للآخر، كما في أدلة الأحكام الأوّلية ودليل لا ضرر.

كما يكفي في النظر النظر إلى الحكم ولا يشترط النظر إلى الموضوع.

مضافاً إلى ما مرّ(2)

من أنّ دليل الأمارة يجعلها علماً حيث تنزيل غير العلم منزلة العلم - بناءً على بعض المباني - فتكون حاكمة على أدلة الأصول التي غايتها العلم.

ص: 247


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 194.
2- نبراس الأصول 3: 20-21.

وثانياً: بأنّه لو كان الأصل العملي موافقاً لها فلا توسعة ولا تضييق، بل تطابق، وحينئذٍ فلا بدّ من القول بجريان الأصل العملي مع الأمارة، وهذا ما لا يلتزمون به.

ويرد عليه: حلاً: بأنّه مع إلغاء الشك ينتفي موضوع دليل الاستصحاب فلا يجري حتى مع كون النتيجة متطابقة.

ونقضاً: بما في المنتقى(1)

وحاصله: أنّه على مبنى المحقق الخراساني فإنّ الشك يكون بمعنى (عدم الحجة)، لكن لا بدّ من تقييده (بعدم الحجة على الخلاف)، بقرينة قوله: «لا تنقض» الظاهر في كونه على خلاف الحالة السابقة بحيث يصدق معه النقض، وعليه: فلو كانت الأمارة على طبق اليقين السابق فالمتحقق هو الحجة على الوفاق فلا يرتفع حينئذٍ موضوع الاستصحاب لعدم منافاته لتحقق عدم الطريق على الخلاف - وهو الشك - ، وإذا تحقق موضوع الاستصحاب وهو عدم الحجة على الخلاف كان المورد مشمولاً لعموم أدلة الاستصحاب والنهي عن النقض، فلا بدّ من جريان الاستصحاب في عرض الأمارة حيث يوجد الشك التكويني في المورد - وهو مصداق اللاحجة - ، فيكون شمول دليل الاستصحاب للمورد قهري لتحقق موضوعه وهو كون النقض بالشك.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ رفع اليد عن اليقين السابق منهي عنه، لكن هذا النهي لأجل كون الرفع مخالف للحجة، لا بعنوان أنّه نقض لليقين بالشك، فموضوع النهي الاستصحابي - وهو النقض بالشك - مرتفع بارتفاع النقض،

ص: 248


1- منتقى الأصول 6: 435.

كما أنّه في صورة قيام الأمارة على الخلاف يرتفع الموضوع لصدق النقض عليه بالدليل لا بالشك.

المبحث الثاني: تعاض الاستصحاب مع سائر الأصول

اشارة

1- أمّا الأصول العقلية:

فإنّ موضوعها يرتفع بالاستصحاب حقيقة، لأنّ الاستصحاب بيانٌ فيرتفع به موضوع البراءة العقلية وهو قبح العقاب بلا بيان، وهو مؤمِّن عن العقوبة فيرتفع به احتمال العقاب الذي هو موضوع الاحتياط العقلي، كما أنّه مرجِّح حين الدوران بين المحذورين فيرتفع به عدم الترجيح الذي هو موضوع التخيير العقلي.

2- وأمّا الأصول العملية الشرعية:

فقد قيل بورده عليها وقيل بحكومته عليها.

المسلك الأوّل: الورود

واستدل له بوجوه منها:

الدليل الأوّل: إنّ موضوع الأصول العملية هو الشك بالحجة أو بالحكم الظاهري، والاستصحاب يرفع الشك ويبدله إلى اليقين بالحكم الظاهري أو بالحجة، فقد زال الموضوع حقيقة بعناية التعبد وهو معنى الورود.

إن قلت: هذا إذا لوحظ الاستصحاب وسائر الأصول بنفسها، أمّا لو لوحظ دليلهما حصل التعارض.

قلت: إنّ إطلاق دليل الاستصحاب يشمل المقام من غير محذور إذ يكون الاستصحاب حينئذٍ وارداً فينتفي موضوع سائر الأصول، ولكن شمول

ص: 249

دليل سائر الأصول للمقام فيه المحذور، إذ لا بدّ حينئذٍ من تخصيص دليل الاستصحاب لئلا يتعارضان، وهذا التخصيص إمّا من غير مخصص حيث لا يوجد دليل ثالث يخرج المورد عن إطلاق أو عموم دليل الاستصحاب، وإمّا على وجه دائر إذا كان بنفس دليل حجيّة سائر الأصول، وذلك لأنّ تخصيصها لدليل الاستصحاب يتوقف على اعتبارها مع الاستصحاب إذ غير المعتبر لا يخصص، واعتبارها معه تتوقف على تخصيصها له إذ لولا ذلك لكان الاستصحاب وارداً عليها.

وأورد عليه: بأنّ في ترجيح الاستصحاب عليها بالورود يوجد المحذور أيضاً، وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب هو الشك من جميع الجهات، وهو أيضاً موضوع الأصول الأخرى، كما أنّ المحمول فيهما هو الحكم الظاهري أو التنجيز والتعذير، ومع الاتحاد في الموضوع والمحمول يستحيل الورود لأنّه فرع تقدم الوارد على المورود بحيث يرفع موضوعه، فتأمل.

الدليل الثاني: إنّ موضوع الأصول العملية الشرعية هو المشكوك من جميع الجهات في الواقع والظاهر، وغايتها حصول العلم ولو من جهة من الجهات، والاستصحاب يرفع الشك من جهة الظاهر، وبذلك يرتفع موضوع سائر الأصول وجداناً.

وأورد عليه: أنّ العكس كذلك أي موضوع الاستصحاب الشك بقاءً والأصول الأخرى لو جرت رفعت الشك في الحكم الظاهري وأبدلته باليقين به أو بالوظيفة.

ص: 250

المسلك الثاني: الحكومة

أمّا في الاستصحاب الحكمي فقد استدل له بوجوه، منها:

الدليل الأوّل: ما في الرسائل: «إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق، فقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) يدل على أنّ النهي الوارد لا بدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق... فمجموع الرواية المذكورة - كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي - ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وكل نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله، فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهي، وهذا معنى الحكومة»(1).

وأشكل عليه: أوّلاً(2): بأنّ موضوع الأصل الشك فإذا انتفى تعبداً حصلت الحكومة، والاستصحاب لا ينفي الشك لا وجداناً ولا تعبداً، وإنّما يثبت وجود النهي تعبداً فقط.

وفيه: أنّ بقاء النهي بالاستصحاب يلازم انتفاء الشك في النهي عرفاً.

وثانياً: إنّ هذا التعميم هو بمعنى جعل الحرمة عند الشك، وهذا حكم مجعول في ظرف الشك، وكذلك الرخصة في البراءة هي حكم مجعول في ظرف الشك، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، وبعبارة أخرى: إنّ دليل

ص: 251


1- فرائد الأصول 3: 389.
2- نهاية الدراية 5: 243.

البراءة كدليل الاستصحاب يفيدان الحكم المترتب على الشك فلا حكومة لأحدهما على الآخر حينئذٍ!

وثالثاً: إنّه أخص من المدعى، فحكومة دليل الاستصحاب على ما ورد فيه الغاية، لا تلازم حكومته على ما لا غاية فيه كقوله (علیه السلام): «رفع عن أمتي... وما لا يعلمون»(1).

الدليل الثاني: إنّ موضوع الاستصحاب وإن كان الشك في البقاء بعد اليقين، إلاّ أنّ المجعول فيه هو عدم نقض اليقين بالشك، فمدلوله إبقاء اليقين عملاً، ومع وجود اليقين التعبدي ينتفي الشك تعبداً وقد كان الشك في الواقع موضوع سائر الأصول العملية، وقد انتفى بالاستصحاب تعبداً.

الدليل الثالث: أنّ سائر الأصول وظائف مقررة للشاك وأمّا الاستصحاب فهو نهي عن الالتزام بالأحكام المجعولة للشاك، فتكون حكومة في الحكم أي بنفي التشريع في المحكوم، كما أنّ ما مرّ في الدليل الأوّل والثاني كان حكومة في الموضوع بتوسيعه.

هذا كله في الاستصحاب في الأحكام.

وأمّا الاستصحاب في الموضوعات فحكومته على سائر الأصول لأجل كونه أصلاً سببياً كما سيأتي بيانه.

المبحث الثالث: في تنافي الاستصحابين

اشارة

قد يكون التمانع بينهما في مرحلة الامتثال، وقد يكون في مرحلة الجعل، مع الطولية أو العرضية بينهما، فالكلام في مقامات ثلاث:

ص: 252


1- التوحيد للصدوق: 353؛ عنه وسائل الشيعة 15: 369.
المقام الأوّل: التمانع في مرحلة الامتثال

كما لو شك في بقاء وقت الصلاة وفي بقاء النجاسة في المسجد، حيث لم يكن محذور في جعل بقاء الأمر بالصلاة لمن شك في بقاء وقتها، ولا في جعل بقاء النجاسة لمن شك في بقائها، ولكن حصل تزاحم لضيق الوقت حيث لا يتمكن المكلف من امتثالهما معاً فوراً.

وحينئذٍ لا بدّ من إعمال مرجحات باب التزاحم، وقد مرّت(1).

المقام الثاني: التمانع في مرحلة الجعل مع الطولية بينهما
اشارة

وغير خفي أنّ الدليل وإن كان واحداً كقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» إلاّ أنّه بنحو القضية الحقيقية التي يتحد فيها العنوان ويتحد المعنون إلاّ أنّ الحكم فيها متعدد بتعدد الموضوعات خارجاً، وعليه فيمكن أن يكون لكل يقين وشك حكم يخالف حكم يقين وشك آخرين، وعليه: فلا محذور في الطولية بأن يكون الشك في أحد الموردين سببياً وفي الآخر مسببياً.

إنّ التمانع في مرحلة الجعل يؤدي إلى عدم جعل أحدهما أو كليهما، لاستلزامه المحال، فيتعارضان، فإن كانت بينهما طولية - بأن كان أحدهما سبباً والآخر مسبباً - لزم ترجيح الأصل السببي.

وقد اختلف في أن الترجيح للورود أم الحكومة، فهنا وجوه:

الوجه الأوّل: الورود

واستدل له بأمور، منها:

ص: 253


1- نبراس الأصول 2: 192-212.

الدليل الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصلة: وجود المقتضي في الأصل السببي مع عدم المانع عنه، وجريانه يكون سبباً لارتفاع موضوع الأصل المسببي حقيقة بعناية التعبد، وهذا هو الورود.

أمّا جريان الأصل السببي فلتمامية أركانه من اليقين والشك وغيرهما، فعدم إجرائه نقض لليقين بالشك وهو منهي عنه.

وأمّا عدم جريان الأصل المسببي فلارتفاع موضوعه حيث قد نقض اليقين السابق فيه بيقين لاحق نتج هذا اليقين اللاحق من جريان الأصل السببي وهو اليقين بالحكم الظاهري.

ولا يصح إجراء الأصل السببي وتخصيص دليل الأصل المسببي به لأنّ التخصيص إمّا بنفس دليل الأصل المسببي وإمّا بغيره، والأوّل يستلزم الدور، والثاني لا وجود له، وقد مرّ تقريره.

وأشكل عليه: بأنّ ظاهر الدليل أنّه لا بدّ من اتحاد متعلق اليقينين في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر» وحسب هذا الدليل قد اختلف متعلقهما في الأصل السببي، فإنّ متعلق اليقين المنقوض هو الحكم الواقعي، ومتعلق اليقين الناقض هو الحكم الظاهري، نعم لو كان متعلق المنقوض حكماً ظاهرياً أيضاً لتمّ ما ذكره.

لكن هذا الإشكال غير وارد على المحقق الخراساني لأنّه يحمل اليقين على الحجة، فيكون المعنى لا تنقض الحجة باللاحجة بل انقضها بحجة أخرى، وحينئذٍ فينحصر الإشكال عليه في المبنى بأنّه لا وجه لحمل اليقين

ص: 254


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 200-201.

على هذا المعنى، وقد مرّ.

الدليل الثاني: مركب من صغرى وكبرى ونتيجة، أمّا الصغرى: فإنّ الاستصحاب في المسبب حجة على حكم واحد فقط كنجاسة الثوب، وفي السبب حجة على حكمين كطهارة الماء وطهارة المغسول به، وأمّا الكبرى: فإنّ حجيّة كل حجة مقيدة بعدم قيام حجة على خلافها، وإلاّ لتساقطا، والنتيجة: أنّه قد قامت حجة على خلاف استصحاب نجاسة الثوب فلا يجري، وأمّا طهارة الماء فلا حجة تخالفه - حيث إنّ طهارته ونجاسته ليست من آثار نجاسة الثوب - فيجري، وبجريانه ينتفي موضوع الاستصحاب في المسبب، وذلك هو الورود.

نعم لو لم يكن الأصل السببي استصحاباً لم يكن وارداً على الأصل المسببي، فلو كانت طهارة الماء بأصل الطهارة وكان الثوب مستصحب النجاسة لم تكن واردة عليه وذلك لأنّ الاستصحاب حجة على طهارة الماء، وأمّا قاعدة الطهارة فهي وظيفة عملية وليست حجة على الطهارة.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ لازم كلامه سقوط حجيّة الأصل السببي في مورد الأصل المسببي لأنّ الأصل الميت لا يحيى على بعض المباني.

وثانياً: بأنّ الماء الطاهر الذي يُغسل به الثوب النجس هو مطهّر للثوب لكنه ينجس هو بنفسه، وفي ما نحن فيه بمجرد ملاقاة الماء المستصحب طهارته مع الثوب المستصحب نجاسته تتعارض حجتان لأنّ الماء طاهر مطهّر، والثوب نجس منجّس، فتأمل.

وهذا وإن كان مناقشة في المثال - لأنّه يمكن فرض إدخال ثوب مستصحب النجاسة في ماء مستصحب الكرية - إلاّ أنّه يكفي في الإشكال

ص: 255

على الحكم الكلي لأنّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، مضافاً إلى أنّ التفريق بين الاستصحاب السببي وغيره من الأصول السببيّة محل تأمل، لأنّ أصالة الطهارة أيضاً حجة على الطهارة، وكما هي بيان للوظيفة العملية، كذلك هو، وهكذا سائر الأصول.

الدليل الثالث: إنّ الأصل السببي يجري في الموضوع، والمسببي يجري في الحكم، ومع جريان الأصل في الموضوع يستحيل تخلّف حكمه عنه، فترتفع الحيرة في الوظيفة العملية في المسبب، وبذلك ينتفي ملاك جعل الأصل المسببي، حيث إنّ ملاك الجعل في الأصول العملية ليس رفع الجهل عن الواقع وإنّما المناط رفع حيرة المكلف في وظيفته العملية.

لكن هذا الوجه وإن كان يحافظ على معنى كلمة (اليقين)، إلاّ أنّه يعمّم الورود ليشمل رفع ملاك الحكم الآخر، وهو ليس الورود الاصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن ليس فيه سبب ارتفاع الحيرة هل هو لارتفاع الموضوع وجداناً أم هو للتوسعة في اليقين تعبداً، فتأمل.

الوجه الثاني: الحكومة

وذلك: لأنّ الشك في المسبب معلول للشك في السبب، ورتبة العلة مقدمة على رتبة المعلول فيجري فيها الاستصحاب قبله، وبجريان الاستصحاب في السبب لا يبقى شك في المسبب تعبداً مع وجوده حقيقة، فاستصحاب طهارة الماء يرفع الشك في بقاء نجاسة الثوب تعبداً، وهذا معنى الحكومة.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّه لا سببية بين الشكين، فإنّ الشك في طهارة الماء - في المثال - ليس سبباً للشك في بقاء نجاسة الثوب، وإنّما سبب الشك فيه

ص: 256

هو احتمال غسله بالماء الطاهر، كما أنّ سبب الشك في بقاء طهارة الماء هو احتمال ملاقاته للنجس(1).

وفيه: أنّه لا سببيّة بين المشكوكين، حيث لا سببيّة بين طهارة الماء ونجاسة الثوب فكل واحد منهما كان متيقناً وهو مشكوك، كما أنّه لا سببيّة بين الحكمين المستصحبين فعلّة الحكم هي إرادة الشارع، نعم أحدهما موضوع للآخر حيث إنّ طهارة الماء موضوع لطهارة ما يغسل به وهذا ليس من السببيّة في شيء بل هو ترتب طبعي.

ولكن توجد سببيّة بين الشكين في ما لو كان الثوب متيقن النجاسة فغسلناه بماء مستصحب الطهارة حيث إنّ الشك في طهارة الماء صار سبباً للشك في طهارة الثوب المغسول به، لأنّ الماء لو كان متيقن الطهارة أو متيقن النجاسة لم يبق شك في نجاسته أو طهارته.

والحاصل: أنّ الثوب لا شك فيه قبل غسله، وإنّما حصل الشك بعد غسله، ومنشأ هذا الشك هو الشك في طهارة الماء وعدم طهارته، فتأمل.

وثانياً: بأنّه حتى مع تسليم السببيّة بين الشكين فذلك لا ينفع الحكومة، لأنّ الحكم هو النهي عن النقض، وشموله للموردين في عرض واحد حيث لا سببيّة بين الحكم بعدم نقض طهارة الماء وبين الحكم بعدم نقض نجاسة الثوب، فإنّ (لا تنقض) الثاني غير متوقف على (لا تنقض الأوّل).

وفيه: أنّ ذلك لا يجري في ما لو اختلف زمان الاستصحابين كما لو أدخل يده النجسة في الماء المستصحب الكرية مثلاً، فإنّ كرية الماء سبب

ص: 257


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 115.

لطهارة اليد، لا أقل من كون كرية الماء موضوعاً وطهارة اليد حكماً، وحينئذٍ فدليل (لا تنقض) شمل كرية الماء أوّلاً قبل شموله لنجاسة اليد، فلا يبقى موضوع لجريان (لا تنقض) في اليد.

وثالثاً: حتى مع تسليم اختلاف الرتبة، فذلك لا ينفع، لأنّ الشكين يتحققان في الخارج معاً - كتحقق العلة والمعلول وعدم انفكاكها خارجاً - ، وموضوع الحكم الشرعي ب-(لا تنقض) هو الخارج، فقد تحققا معاً فشمول الدليل لأحدهما ليس بأولى من شموله للآخر حيث قد تحققت أركان الاستصحاب في كليهما معاً، والتقدم بالرتبة ليس مرجحاً شرعاً ولا عقلاً! فتأمل.

الوجه الثالث: الترجيح بالأخبار

فلو فرض عدم ثبوت الحكومة ولا الورود، فإنّه يمكن أن يستدل ببعض أخبار الباب على عدم جعل الحجيّة للاستصحاب المسببي، وذلك على بعض المباني.

فمنها: صحيحة زرارة الأولى حيث حكم الإمام (علیه السلام) بالاستصحاب في الوضوء مع وجود الأصل المسببي وهو استصحاب اشتغال الذمّة بالوضوء، هذا بناءً على جريان استصحاب الاشتغال مع وجود الاشتغال العقلي.

ومنها: مكاتبة الكاشاني حيث قال (علیه السلام): «صم للرؤية وأفطر للرؤية»(1)

فإنّ استصحاب عدم دخول شوال أو عدم خروج شهر رمضان أصل سببي، والأصل المسببي هو عدم جعل وجوب صوم هذا اليوم، هذا بناءً على

ص: 258


1- تهذيب الأحكام 4: 159؛ عنه وسائل الشيعة 10: 255.

جريان استصحاب عدم الجعل.

ومنها: خبر عمار الساباطي في الفأرة الساقطة في الإناء وكان قد توضأ واغتسل وغسل ثيابه بذلك الماء، حيث أجرى الإمام (علیه السلام) الأصل السببي قال: «وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئاً وليس عليه شيء لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه»(1)

مع أنّ الأصل المسببي هو استصحاب نجاسة الثوب والحدث الأكبر والأصغر.

المقام الثالث: التمانع في مرحلة الجعل مع العرضية بينهما

وقد مرّ تفصيله في بحث الشبهة المحصورة(2) فنذكره مختصراً بما يناسب المقام:

فتارة: يستلزم جريانهما الترخيص في المخالفة العملية القطعية للتكليف الإلزامي، كما لو كان إناءان طاهران وعلمنا بنجاسة أحدهما إجمالاً، فيتساقطان ولا يجري أيٌّ منهما، لأنّ الترخيص في المخالفة العملية القطعية علّة تامة للقبح.

وتارة: لا يلزم من جريانهما إلاّ مخالفة التزامية، كما لو كان إناءان نجسان وعلمنا بطهارة أحدهما إجمالاً، فإنّ جريان الاستصحابين لا يؤدي إلى مخالفة قطعية للتكليف الإلزامي، بل هو مطابق للاحتياط.

فقد ذهب جمع إلى جريانهما، لوجود المقتضي وعدم المانع، أمّا المقتضي فاليقين السابق والشك اللاحق مع وجود الأثر، أمّا عدم المانع فإنّه

ص: 259


1- من لا يحضره الفقيه 1: 14؛ عنه وسائل الشيعة 1: 142.
2- نبراس الأصول 4: 233-248.

ليس إلاّ الترخيص في المخالفة العملية ولا مخالفة عملية، وأمّا العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع فليس بمحذور لأنّه مجرد مخالفة التزامية.

وأشكل عليه: بوجود المانع الثبوتي والإثباتي.

1- أمّا المانع الثبوتي:

فأوّلاً(1): إنّ الاستصحاب أصل محرز، ومعنى ذلك البناء على أنّ الواقع هو ما أدّى إليه الأصل، وإحراز الواقع لا يجتمع مع العلم بمخالفة أحدهما له، نعم لا محذور في الأصول غير المحرزة التي ليس فيها إلاّ الوظيفة العملية.

وفيه: أنّ الشارع لم ينظر إلى جهة الإحراز في الاستصحاب فلا فرق بين وجوده وعدمه في بعض الموارد، كما أنّ (البناء على كون مدلوله هو الواقع) لا عين ولا أثر له في أدلة الاستصحاب، بل دلالتها عدم نقض اليقين بالشك، وفي كل طرف يوجد يقين وشك.

وثانياً(2): بأنّ الحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي واصل فيتنجز وبذلك يحصل التضاد بينه وبين الحكم الظاهري في المنتهى - الذي هو مرحلة الامتثال - فإنّ مقتضى العلم الإجمالي بطهارة أحد الإنائين هو الترخيص في الارتكاب، ومقتضى استصحاب النجاسة في كل واحد منهما هو عدم الترخيص، فيتنافيان حتى وإن لم تحصل مخالفة عملية.

لا يقال: إنّ ترك الحلال مقدمة للتحفظ عن الحرام لازم عقلاً، فكونه

ص: 260


1- فوائد الأصول 4: 693.
2- نهاية الدراية 5: 254.

حلالاً لا ينافي لزوم تركه مقدمة!

لأنّه يقال: الكلام في الترخيص في الارتكاب وعدم الترخيص، فالحلال المعلوم كونه حلالاً لا ترخيص فيه إن كان تركه مقدمة لترك الحرام، وبين الترخيص فيه وعدم الترخيص في الحرام تنافٍ واضح.

لكن يرد عليه: بأنّ وصول الحكم الواقعي إذا كان هو الحليّة لا ينافي عدم الترخيص فيه لكونه مقدمة للتحفظ عن الحرام الواقعي، كما ورد في الأخبار بأنّه لو اختلطت الميتة بالمذكى فإنّ الحليّة الواقعية للمذكى واصلة مع وجوب الاجتناب عنهما تحفظاً عن ارتكاب الميتة، وكالإنائين المشتبهين الذي يهريقهما ويتيمم فإنّ طهارة أحدهما واقعاً واصلة مع عدم ترتب الأثر عليها، وكاشتباه الأخت الرضاعية بين امرأتين حيث يحرم الزواج بهما، وغير ذلك، فتأمل.

2- وأمّا المانع الإثباتي:

فأوّلاً: المناقضة بين الصدر والأخير في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

وأشكل عليه بعدة إشكالات لكنها غير واردة، كما مرّ مفصلاً في مباحث الشبهة المحصورة فراجع(2).

وثانياً: بأنّه لو جرى الأصل في الطرفين جاز الإخبار عنهما، لجواز الإخبار عن الواقع الثابت بالأصل، مع العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،

ص: 261


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ عنه وسائل الشيعة 1: 245.
2- نبراس الأصول 4: 240-242.

فيكون جريانهما ترخيصاً في الكذب!

وفيه: إن الإخبار بهما مخالفة عملية، فلذا لا بدّ من رفع اليد عن إطلاق دليل الاستصحاب والأدلة الدالة على جواز الإخبار عن الواقع الذي دلّ عليه الأصل، وذلك لا يستلزم عدم شمول دليل الاستصحاب للمورد ككل مطلق إذا كان محذور في فرد منه أو في أثر له، فلا يشمله الإطلاق لا أنّ الدليل يسقط من أصله.

ص: 262

فصل في نسبة الاستصحاب إلى القواعد الفقهية

اشارة

ولنذكر بشكل مختصر نسبته إلى قاعدة اليد، وقاعدة التجاوز والفراغ، وأصالة الصحة، والقرعة، فالكلام في مباحث:

المبحث الأوّل: قاعدة اليد

ولا إشكال في تقدم اليد عليه، إنّما الكلام في وجه ذلك فنقول:

اليد إن كانت أمارة كان تقدمها على الاستصحاب واضحاً، وذلك لتقدم الأمارة على الأصل بالحكومة أو الورود كما مرّ، وإن كانت أصلاً فتقدمها لأجل دلالة الاقتضاء إذ موردها مورد الاستصحاب دائماً فلو لم تقدم عليه - إمّا بالتساقط أو بتقدمه عليها - كان جعلها لغواً.

ثم إنّ المحقق النائيني(1)

اشترط في جريان قاعدة اليد شرطين:

الشرط الأوّل: الجهل بحال اليد، إذ لو علم بكيفية حدوثها كما لو علم بحدوثها عارية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك ثم احتمل انتقالها إلى ذي اليد بناقل شرعي فلا أثر لها بل لا بدّ من العمل بالاستصحاب، وذلك لأنّه رافع لموضوعها، لأنّ اليد المجهولة أمارة الملك، أمّا لو علم بأنّها أمانية أو نحوها فلا تجري، والاستصحاب علم تعبدي بعدم كونها مالكية بل أمانية أو

ص: 263


1- فوائد الأصول 4: 604-609.

نحوها.

وأشكل عليه بإشكالات(1).

منها: إنّه أخص من المدعى، إذ قد لا يجري الاستصحاب الرافع للموضوع، كما لو كان إجارة وانقضت مدته، أو كانت أمانيةً تنقلب بادعاء المالكية إلى اليد العدوانية أو المالكية.

ومنها: إنّ موضوع اليد كما هو مقيد بعدم العلم بحاله، كذلك موضوع الاستصحاب إنّما هو الشك في بقاء الحالة السابقة، فإذا دلّ الدليل على الملكية لا يبقى فيه شك كي يتمسك بالاستصحاب، وبالجملة كل منهما يصلح لنفي موضوع الآخر، فكيف يقدّم أحدهما على الآخر؟!

ومنها: إنّه إن لم يكن نزاع ولم يكن غاصباً، فبناء العقلاء على أنّ يده محترمة وأنّها أمارة الملك، والشارع قد أمضى بناءهم في اليد، فتأمل.

الشرط الثاني: عدم العلم بكون الشيء مما لم يكن قابلاً للنقل والانتقال، مع احتمال تغيّر عدم القابلية إلى القابلية، كالوقف مع احتمال انتقاله بمسوّغ شرعي.

قال المحقق النائيني: «اليد إنّما تكون أمارة على أنّ المال انتقل من مالكه الأوّل إلى ذي اليد بأحد أسباب النقل و الانتقال على سبيل الإجمال بلا تعيين سبب خاص، وذلك إنّما يكون بعد الفراغ عن أنّ المال قابل للنقل والانتقال، والوقف ليس كذلك، فإنّ الانتقال فيه إنّما يكون بعد طروّ ما يوجب قابلية النقل فيه - من عروض أحد مسوغات بيع الوقف - ففي

ص: 264


1- رشحات الأصول 1: 384.

الوقف لا بدّ من عروض المجوّز للبيع أوّلاً ثم ينتقل إلى الغير، وأمارية اليد إنّما تتكفل الجهة الثانية وهي النقل إلى ذي اليد، وأمّا الجهة الأولى فلا تتكفل اليد لإثباتها، بل لا بدّ من إثباتها بطريق آخر، بل الجهة الأولى تكون بمنزلة الموضوع للجهة الثانية، فاستصحاب عدم طرو ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد، فإنّه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد، فهو كاستصحاب حال اليد»(1).

ثم قال - ما حاصله -: وليس طرو مجوز النقل بملزوم لليد كي يقال: إنّها أمارة يثبت بها ملزومها، بل قابلية المال للنقل والانتقال بمنزلة الموضوع، كما أنّ اليد لا تدل على الملكية لما كان خمراً، لأنّ انقلابه خلّاً ليس ملزوماً بل هو موضوع لها.

ويرد عليه: النقض بالعبد الذي يدعي أنّه حرّ حيث دلّ الدليل على عدم سماع دعواه وجريان اليد عليه، مع أنّه يشك في قابليته للنقل والانتقال لأنّه إن كان حراً لم يكن قابلاً وإن كان عبداً كان قابلاً، ومع ذلك سئل العيص بن القاسم الإمام الصادق (علیه السلام): «عن مملوك ادّعى أنّه حرّ ولم يأت ببينة على ذلك أشترية؟ قال: نعم»(2).

لا يقال: فرق بين الوقف حيث نعلم بعدم قابليته من قبل، وبين هذا حيث نشك في قابليته، نعم لو كنّا نعلم بحريته من قبل فلا تجري قاعدة اليد لكنه مجرد فرض لأنّ الحرّ لا ينقلب عبداً.

ص: 265


1- فوائد الأصول 4: 607.
2- تهذيب الأحكام 7: 74؛ عنه وسائل الشيعة 18: 250.

لأنّه يقال: الفرق غير فارق لأنّه لا فرق في عدم إحراز القابلية بين العلم بعدم القابلية سابقاً أو الشك فيها، مضافاً إلى كثرة العبيد الذين يعلم بحريتهم سابقاً - حيث إنّ الكافر الحربي حرّ قبل أسره - ومع ذلك أطلق الإمام (علیه السلام) حجيّة اليد في الخبر، وترك الاستفصال دليل الإطلاق.

ومن ذلك يتبيّن عدم البعد في التفصيل الذي ذهب إليه صاحب العروة في ملحقاتها(1)

بين ما لو علمنا بكون يده على الوقف أمانية ثم ادعى شراءه بمسوغات بيعه، وبين ما لم نعلم بذلك واحتملنا تحقق يده بعد زوال الوقف كما لو اشتراه بادعاء مسوغاته ثم صار إلى يده، حيث إنّ الاستصحاب في الأوّل رافع لموضوع اليد دون الثاني الذي حاله كحال سائر موارد اليد التي تقدّم على الاستصحاب، فتأمل.

المبحث الثاني: قاعدتا الفراغ والتجاوز

وهما مقدمتان على الاستصحاب، سواء كانتا من الأمارات لوضوح تقدم الأمارات على الأصول، أم كانتا من الأصول لأنهما جعلتا في مورده فتقدمهما بدلالة الاقتضاء.

ثم إنّ هيهنا مطالب نشير إليها باختصار.

المطلب الأوّل: قد يقال(2):

إنّ الشك في الشيء وإن كان ظاهراً في الشك في أصل وجوده، إلاّ أنّ في روايات القاعدة ما يدل على أنّ المراد الشك في بعض ما يعتبر في الشيء مع كون أصل وجوده محرزاً، وحيث

ص: 266


1- العروة الوثقى 6: 400-401، كتاب الوقف، المسألة: 63-64.
2- راجع فرائد الأصول 3: 329.

تغاير الشكّان - من حيث المتعلّق، ففي أحدهما الوجود وفي الآخر الصحة، ومن حيث المحل ففي أحدهما المضيّ باعتبار محله وفي الآخر المضيّ باعتبار نفسه - فلا يمكن جمعهما في لحاظ واحد.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما عن المحقق الخراساني(1): من تعدد الروايات وظهور بعضها في الأوّل، وظهور بعضها في الثاني، فليس الدليل واحداً حتى لا يشمل ظهوره أحدهما، مثل: «رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال: يمضي...»(2)

حيث ظاهره الشك في أصل الوجود، وكقوله: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو»(3)

حيث إنّ ظهوره في الشك في بعض ما يرتبط بالشيء لا بأصل وجوده.

إلاّ أن يقال: إنّ ظهور الأخبار جميعاً في معنى واحد كما لا يخفى على من لاحظها.

وثانياً: ما قيل: من أنّه يمكن أن يشمل الشك كلا الموردين بلحاظ واحد، حيث إنّ الشك في وجود الشيء له تعلّق به، وكذا الشك في صحته، فيمكن أن يلاحظ هذين التعلقين معنىً حرفياً يعبر عنه بلفظ الشك في الشيء، وكذا يلتزم بتقدير المحل أعم من المحل الشرعي والمحل الخارجي، فإنّ من فرغ عن نفس الشيء فرغ عن محل وجوده الخارجي، ولو سلمنا بأنّ المحل هو المحل الشرعي فقط فإنّ محل الحمد - مثلاً -

ص: 267


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 395.
2- تهذيب الأحكام 2: 352؛ عنه وسائل الشيعة 8: 237.
3- تهذيب الأحكام 2: 344؛ عنه وسائل الشيعة 8: 238.

شرعاً هو قبل السورة سواء أتى به أم لا، فكما أنّه لو شك في وجوده بعد الدخول في السورة يكون الشك فيه بعد المحل، كذلك لو شك في صحته بعد الدخول في السورة.

ويمكن أن يقال: إنّه مع الذهاب مبنىً إلى عدم إمكان جمع اللحاظين في كلمة واحدة وخاصة مع القول بجزئية المعنى الحرفي، فحينئذٍ لا يصح شمول الشك لكلا الموردين بلحاظ واحد.

كما أنّه لو شك في الحمد ولم يدخل في السورة فإنّه لو كان شكاً في أصل وجوده وجب عليه قراءة الحمد لعدم تجاوز المحل، وإن كان شكاً في صحته لم يجب عليه قراءة الحمد وذلك لتجاوز محله، نعم مع الدخول في السورة قد تجاوز المحل في كليهما.

فالأولى القول بأنّ الشك المأخوذ في بعض الروايات مطلق شامل لكلا الشكين وليس ظاهراً في خصوص الشك في أصل الوجود أو في وصف الموجود، فتأمل.

المطلب الثاني: هل المحل خاص بالمحل العقلي والشرعي أو يشمل المحل العادي أيضاً فمثلاً لو اعتاد المكلف الموالاة في الغسل بحيث يغسل الجانب الأيسر عادة بعد الجانب الأيمن مباشرة من غير فصل مخلّ بالموالاة، فلو شك في غسله بعد ساعة فهل تجري القاعدة أم لا؟

وجه عدم الشمول: انصراف إطلاق الأخبار إلى غيره، كما أنّ فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة، كمن اعتاد الصلاة في أوّل وقتها أو مع الجماعة فشك في الوقت في فعلها بعد ذلك، وكمن

ص: 268

اعتاد فعل شيء بعد الفراغ عن الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة، وكمن اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به أو الوضوء قبل الوقت للتهيؤ فشك في الوضوء بعد ذلك... وغير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها.

قال الشيخ الأعظم: «الأقرب الالتفات إلى الشك وإن كان الظاهر من قوله (علیه السلام): (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)(1)

أنّ هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل، فهو دائر مدار الظهور النوعي ولو كان من العادة، لكن العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضاً مشكل فتأمل، والأحوط ما ذكرناه»(2).

وقد يقال: إنّ المناط هو العادة النوعية حيث لا يبعد شمول الدليل لها، والأمثلة المذكورة كلّها من قبيل العادة الشخصية حيث لا حجيّة لهذا الظاهر لا من بناء عقلاء ولا من الشرع، إلاّ في مثال غسل الجانب الأيسر حيث إنّه من قبيل العادة النوعية وقد أفتى به الأصحاب(3).

وأجيب: بأنّ العادة النوعية للمسلمين في الصدر الأوّل كان على الإتيان بالصلاة في أوّل الوقت، ومع ذلك دلت الأخبار على عدم الاعتناء بها كقوله (علیه السلام): «متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها أو في وقت فوتها أنّك لم تصلها صليتها»(4)

وكقوله (علیه السلام): «فإن شك في الظهر

ص: 269


1- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 471.
2- فرائد الأصول 3: 330-331.
3- درر الفوائد، للحائري: 594.
4- الكافي 3: 294؛ عنه وسائل الشيعة 4: 282.

في ما بينه وبين أن يصلّي العصر قضاها وإن دخله الشك بعد أن يصلّي العصر فقد مضت»(1)

فقد دلت الروايتان على عدم الاعتناء بالعادة النوعية وأنّ المناط هو المحل الشرعي(2).

المطلب الثالث: إنّ القاعدة لا تشمل أفعال الوضوء قبل الفراغ منه، وقد يلحق به الغسل والتيمم، ولكن ما سبب ذلك؟

وقد يُتسائل عن صحيحة ابن أبي يعفور حيث قال (علیه السلام): «إذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»(3)

فإنّ ضمير «غيره» إن رجع إلى «شيء» كان مخالفاً للإجماع، وإن رجع إلى «الوضوء» ناقض الصدر تتمة الرواية، إذ أنّ قوله: «إنّما الشك...» يقتضي عدم الاعتناء بالشك ولو قبل انتهاء الوضوء؟

والجواب: أوّلاً: بالتخصص، باعتبار أنّ الوضوء بتمامه أمر واحد شرعاً بملاحظة وحدة أثره - وهي الطهارة - فلا يلاحظ كل فعل بانفراد، وعليه فلا يصدق التجاوز إلاّ بعد انتهاء الوضوء والانتقال إلى عمل غيره، وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم(4).

وأشكل عليه المحقق الخراساني بما حاصله: أن وحدة الأثر لو كانت موجبة لذلك يلزم أن يكون الشك في جزء كل عمل قبل الفراغ عن العمل

ص: 270


1- السرائر: 480؛ عنه وسائل الشيعة 4: 283.
2- رشحات الأصول 2: 392.
3- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 470.
4- فرائد الأصول 3: 337.

شكاً فيه قبل التجاوز عن ذلك الجزء، فإنّ سائر الأعمال تشارك الطهارات الثلاث في وحدة الأثر، كالانتهاء عن الفحشاء المترتب على الصلاة(1).

ورُدَّ: بأنّه لعل مقصود الشيخ الأعظم هو أنّ التكليف في الوضوء هو بالطهارة، والغسلتان والمسحتان محصلة لها ولذلك صحّ ملاحظتها أمراً واحداً لا أنّه كلما كان الأثر واحداً كان المؤثر واحداً أيضاً.

وثانياً: بالتخصيص، وذلك عملاً بالإجماع وبصحيحة زرارة المعمول بها عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إذا كانت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه مما سمّى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما وجب عليك في وضوئك لا شيء عليك...»(2) الحديث.

فإنّ صحيحة ابن أبي يعفور ظاهرة في الأعم من الأجزاء والشرائط بعد ظهور رجوع ضمير «غيره» إلى «شيء...» وظهور عموم التتمة، وصحيحة زرارة تُخرج ما سمّى الله تعالى في كتابه وهي الأجزاء، فتكون أخص منها ومن سائر أدلة قاعدة التجاوز.

المطلب الرابع: هل تجري القاعدة في الشك في الشرائط كجريانها في الشك في الأجزاء؟

ص: 271


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 401.
2- تهذيب الأحكام 1: 100؛ عنه وسائل الشيعة 1: 469.

اختلف فيه على أقوال: من عدم الجريان مطلقاً حتى بعد الفراغ عن المشروط، والجريان مطلقاً حتى في أثناء المشروط، والتفصيل بين الشك بعد الفراغ عنه وبين الشك في أثنائه، والتفصيل بين ما كان محل إحراز الشرط قبل المشروط كالوضوء للصلاة وبين غيره كالستر.

والأقرب أنّ الشرط إن كان قد مضى محلّه بحيث لا يكون شرطاً في الأفعال القادمة فلا اعتناء به، كما لو شك في الإقامة وهو في القراءة بناءً على اشتراط الصلاة بها، فلا فرق بينه وبين ما كان جزءاً وقد مضى محلّه، وذلك لإطلاق الدليل.

وإن لم يكن قد مضى محلّه بأن كان شرطاً في الأفعال القادمة أيضاً كشرطيته للأفعال السابقة فحينئذٍ إمّا أن يكون شرطاً غير ركن كالستر فيجب إحرازه لما تبقى ولا فائدة لجريان القاعدة لما مضى لأنّه لا بأس بذلك الخلل الواقع غفلة أو نسياناً حتى مع العلم به، وإمّا أن يكون شرطاً ركناً فلا تجري القاعدة إذ لا بدّ من الإحراز لما بقي كالطهارة والقبلة، فإن أحرز وجود الشرط فالعمل بالعلم لا بالقاعدة لأنّ موردها الشك وقد زال بالعلم، وإن أحرز عدم وجود الشرط فقد علم بالبطلان لكونه ركناً، وإن بقي الشك فلا تجري القاعدة أيضاً لعدم جريانها في الأجزاء اللاحقة بعد الشك.

المطلب الخامس: هل تجري القاعدة في ما لو شك في الصحة بأن لم يترك شيئاً من أجزاء الصلاة - مثلاً - لكن شك في ترك شيء يشترط في صحتها، كالشك في الموالاة بين حروف كلمات القراءة أو شك في الموالاة بين أفعال الصلاة مع إتيانه بجميع الأجزاء؟

ص: 272

قال الشيخ الأعظم(1)

- ما حاصله -: إنّ الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان، بل هو هو، لأنّ مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح، لكن الإنصاف أنّ الإلحاق لا يخلو من إشكال لأنّ الظاهر من أخبار الشك في الشيء اختصاصها بغير هذه الصورة، نعم يمكن استفادته من أحد أمرين:

إمّا بعض ما يستفاد منه العموم مثل موثقة ابن أبي يعفور حيث قال (علیه السلام): «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»، أو بتنقيح المناط.

وإمّا أن يُجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه، بمعنى أنّ الأصل العقلائي في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكميّة هو الصحة، وهذا أصل عقلائي يمكن استفادته من عموم التعليل في قوله (علیه السلام): «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك»(2) فإنّ هذا التعليل عام معناه إنّ الذي يريد إبراء ذمته لا يترك ما يعتبر في صحة عمله، لأنّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر، والترك عمداً خلاف قصد الإبراء.

وأشكل على ما ذكره في جريان قاعدة الفراغ:

أوّلاً: بأنّه لا يشمل ما إذا لم يكن للشيء محل شرعاً كصلاة القضاء، أو كان ولم يتجاوز عنه كما لو شك في الظهر ولم يصلّ العصر بعد، فإنّ الشك في أصل الوجود يقتضي الإتيان بالفعل حينئذٍ وهو خلاف المقصود.

ص: 273


1- فرائد الأصول 3: 342.
2- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 471.

وثانياً: إنّ ذلك لا يثبت إلاّ وجود الشيء الصحيح، لا كون المأتي به صحيحاً إلاّ بالأصل المثبت بناءً على عدم كون القاعدة أمارة أو عدم حجيّة مثبتات الأمارات، وعليه فيسقط الظهر عن ذمته - في المثال - ويصح له الشروع في العصر لأنهما يترتبان على وجود صلاة الظهر الصحيحة، لكن لو كان الأثر مترتباً على صحة هذه الصلاة التي صلّاها بعنوان الظهر فلا يترتب!

هذا بناءً على كون الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة كما ذهب إليها الشيخ الأعظم(1).

وأمّا بناءً على كونهما قاعدتين - كما هو الأقرب - فلو كان قد انتهى من العمل جرت قاعدة الفراغ بلا محذور، وإن كان في أثناء العمل فلا قصور لأدلة التجاوز، فتأمل.

المطلب السادس: لو إلتفت إلى شيء حين العمل وشك في مانعيته، فأتى بالعمل مع ذلك الشك فقد يقال: بعدم شمول قاعدة الفراغ له، لأن ظاهرها كون الشك بعد العمل في أنه هل غفل حين العمل أم لا، لا أن يكون ملتفتاً حين العمل شاكاً في مانعية الموجود.

قال الشيخ الأعظم: «الظاهر أن المراد بالشك في موضوع هذا الأصل هو الشك الطارئ بسبب الغفلة عن صورة العمل، فلو علم كيفية غسل اليد وأنه كان بارتماسها في الماء، لكن شك في أن ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا، ففي الحكم بعدم الالتفات وجهان: من إطلاق بعض

ص: 274


1- رشحات الأصول 2: 399-400.

الأخبار، ومن التعليل بقوله: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)(1)

فإن التعليل يدل على تخصيص الحكم بمورده مع عموم السؤال فيدل على نفيه عن غير مورد العلة...»(2).

وأشكل عليه في الدرر(3)

بما حاصله: أن قوله (علیه السلام) «هو حين يتوضأ» ليس من قبيل العلة بل هو حكمة، لخلو سائر الأخبار عنه مع كونها في مقام البيان، ولمعتبرة الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: حوّله عن مكانه، وقال: في الوضوء تديره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة»(4).

والجواب: أن قوله: «هو حين يتوضأ...» أمر ارتكازي وهو يجعله ظاهراً في التعليل، وأمّا المعتبرة فظاهرها غفلته عن إدارة الخاتم حتى أنهى الوضوء مع احتماله وصول الماء إلى تحته، فقوله: «فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة» ظاهر في استمرار النسيان إلى انتهاء الوضوء، لكن ذلك ليس من موارد قاعدة الفراغ لأنها في ما إذا كان الشك حادثاً بعد العمل لا من قبله متصلاً إلى ما بعده، بل إن عمل به في مورده فهو من باب الدليل الخاص. وأمّا حمله على مورد يعلم وصول الماء تحته ومع ذلك أمره الإمام بإدارته استحباباً وإسباغاً للوضوء، فخلاف الظاهر جداً، وحمله على النص الخاص

ص: 275


1- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 471.
2- فرائد الأصول 3: 344.
3- درر الفوائد، للحائري: 605-606.
4- الكافي 3: 45؛ عنه وسائل الشيعة 1: 468.

- مع عدم استلزامه محذوراً - أولى منه، فتأمل.

المبحث الثالث: أصالة الصحة

اشارة

واستدل لها بالكتاب والسنة والإجماع وسيرة العقلاء، وهي بمجموعها كافية لإثباتها وإن كان في بعضها مناقشة، فراجع رسائل الشيخ الأعظم وغيره من الكتب الفقهية والأصولية، إنّما الكلام في مطالب:

المطلب الأوّل: الصحة الواقعية أم الاعتقاديّة

فإن الفاعل على حالات مختلفة، فقد نعلم بجهله بالصحة الواقعية وعدم مبالاته، وقد نجهل حاله فلا ندري هل يعلم المسألة أم لا، وقد نعلم بعلمه بالعمل وشروطه وأجزائه ونحو ذلك، وفي الحالة الثالثة قد نعلم أن الصحيح عنده هو الصحيح عندنا، أو نعلم أن الصحيح عنده يخالف الصحيح عندنا بالتباين أو بالتخالف - بأن تنطبق بعض المصاديق على الصحيحين مع عدم انطباق بعضها عليهما - أو لاندري أمخالف لنا أم لا.

وفي الرسائل ما حاصله: لو اعتقد بصحة النكاح بالفارسية والحاكم يعتقد بالعربية فقط فهل يحمل على العربية ولا يسمع دعوى من ادعى أنه أجراه بالفارسية؟ ظاهر المشهور الحمل على الصحة الواقعية فإذا شك المأمون في أن الإمام المعتقد بعدم وجوب السورة قرأها أم لا؟ جاز له الائتمام به وإن لم يكن له ذلك إذا علم بتركها، وفي الشرائع: إذا اختلف الزوجان فادعى أحدهما وقوع العقد حال الإحرام وأنكر الآخر فالقول قول من يدعي الإحلال ترجيحاً لجانب الصحة، فقال في المدارك: إن الحمل على الصحة إنّما يتم إذا كان المدعي لوقوع الفعل حال الإحرام عالماً بفساد ذلك، أمّا

ص: 276

مع اعترافهما بالجهل فلا وجه للحمل على الصحة(1).

ويمكن أن يقال: إن الدليل إن كان النصوص جرت أصالة الصحة في جميع هذه الصور إلاّ في صورة التباين، وذلك لأن إطلاق النصوص شامل لجميع هذه الصور مع انصرافها عن صورة التباين.

وأمّا لو كان الدليل سيرة العقلاء فمع جهلنا بعلمه أو جهله يجريها العقلاء لعدم بنائهم على التحقيق في أمثال ذلك، وأمّا مع العلم بأن الصحيح عنده مخالف للصحيح عندنا بالتباين فلا بناء لهم لأن احتمال إتيانه بالصحيح عندنا ينشأ من احتمال السهو والمعصية ونحوهما وهي خلاف الأصل العقلائي، وكذلك مع العلم بأن الصحيح عنده مخالف للصحيح عندنا بالتخالف فلا علم بوجود السيرة، وتجري السيرة في سائر الحالات بلا إشكال.

المطلب الثاني: الشك في العقود

هل أصالة الصحة في العقود خاصة بصورة إحراز الأركان والشك في سائر الأجزاء والشرائط ونحوهما، أو تشمل حتى الشك في الأركان؟

فعن المحقق الثاني(2):

إن الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود العقد، أمّا قبله فلا وجود للعقد كي يبحث عن صحته أو فساده، فلو اختلفا في كون المعقود عليه حرّ أم عبد، حلف المنكر وقوع العقد على العبد، ومثله: في ما لو اختلف الضامن والمضمون له، فقال

ص: 277


1- فرائد الأصول 3: 353-354؛ شرائع الإسلام 1: 184؛ مدارك الأحكام 7: 315.
2- جامع المقاصد 5: 315 و 7: 307-308.

الضامن: ضمنت وأنا صبي، فالقول قول الضامن.

وأشكل عليه الشيخ الأعظم(1)

بما حاصله: أن الأقوى التعميم، وأن قوله: إن العقد لا وجود له قبل استكمال أركانه إن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحة، وإن أراد الوجود العرفي فهو يتحقق مع الشك بل مع القطع بالعدم.

وأجيب: بأن أصالة الصحة تدل على صحة الشيء بعد فرض تحققه، ولا تدل على أصل التحقق، والشك في إحدى المقومات شك في أصل التحقق.

وأمّا في مثال البلوغ، فإنه مقوّم حيث إن الشارع ألغى قصد الصبي وجعله كلا قصد بالحكومة، فحتى لو أريد الوجود العرفي فإن العرف لا يراه عقداً إلاّ بعد كونه مع القصد، وبعد إلغاء قصده لا يراه عقداً، مضافاً إلى أن الدليل لا يشمل ما لو ادعى هو فساد عمله فكيف يحمل على الصحيح!

وأمّا في مثال بيع الحرّ أو العبد، فقد يقال: إن أصالة صحة العقد لا يثبت كونه هو العقد الواقع على العبد إلاّ بالأصل المثبت، كما أن ملاحظة موارد أصالة الصحة في الأخبار ترشد إلى أنها في ما لو شك في شيء واحد بين صحته وفساده، لا ما إذا كان مردداً بين موضوعين أحدهما صحيح والآخر فاسد وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إن الواقع مردد بين موضوعين أحدهما متيقن الصحة والآخر متيقن الفساد.

وفي كل ذلك تأمل: لأن أدلتها تدل على ما لو تحقق كل شيء سوى الشيء المشكوك من غير فرق بين كونه مقوّماً أو لا، وعقد مشكوك البلوغ

ص: 278


1- فرائد الأصول 3: 360.

يتحقق فيه كل الأجزاء والشرائط وغيرها سوى شرط البلوغ حتى لو كان مقوّماً، كما أن إطلاق النصوص وكذلك بناء العقلاء عدم الفرق بين التردد بين موضوع واحد أو موضوعين بينهما جامع لا المتباينين، فتأمل.

المطلب الثالث: في اشتراط قصد العمل

لو عمل الغير عملاً قاصداً له حُمل عمله على الصحة وترتب عليه جميع آثاره، ولا يكفي في الحمل على الصحة رؤية عمل الغير من دون العلم بقصده، في ما لو كان للعمل مصاديق تختلف باختلاف القصد كالانحناء الذي قد يكون ركوعاً وقد يكون لرفع شيء عن الأرض، وحينئذٍ لا بدّ إمّا من الاطمئنان بقصده، أو رؤيته على العمل مع إخباره بقصده لأن قصده لا يعلم إلاّ من قبله، أو إخباره بإتيانه للعمل حتى وإن لم نره، مع وثاقته على الأقوى أو عدالته على بعض المباني.

ولذا فرق الفقهاء بين رؤيته يصلّي على الميت حيث حملوه على الصحيح ومن آثاره سقوط الواجب الكفائي بالصلاة عليه، وبين ادّعائه الصلاة عنه - تبرعاً أو باستئجار - حيث إن المشهور عدم الاكتفاء بقوله إن لم نره على الصلاة إلاّ لو كان عادلاً أو ثقة.

وذلك لأنا نعلم بعمل الأوّل فيجري دليل الحمل على الصحة، ولا نعلم بعمل الثاني فلا وجه للحمل على الصحة إذ لا يشمله أدلته، نعم العادل أو الثقة خبره يدل شرعاً على عمله.

ومن أمثلة ذلك: اشتراط بعض الفقهاء عدالة من يُوضِّئ العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز صدور الفعل عن المُوضِّئ صحيحاً، ولعل ذلك لعدم إحراز كونه في مقام إبراء ذمة العاجز، لا لمجرد احتمال عدم مبالاته

ص: 279

في الأجزاء والشرائط كما قد لا يبالي في وضوء نفسه، نعم لو أخبر بأنه بفعله قصد توضيء العاجز فلا يبعد الاكتفاء بقوله هذا لأن قصده لا يعلم إلاّ من قبله فتجري حينئذٍ أصالة الصحة.

ووجّهه الشيخ الأعظم(1)

بما حاصله: أن عمل النائب في الحج عن العاجز - مثلاً - له حيثيّتان:

1- حيثيّة كونه عمل النائب وفعله، وبهذا الاعتبار يراعي النائب تكليف نفسه، فلذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشرائط وغيرهما المعتبرة فيمن يأتي بالعمل عن نفسه فالمرأة النائبة عن الرجل العاجز يحرم عليها ما يحرم على النساء ويجب عليها ما يجب عليهن دون ما يجب أو يحرم على الرجال فقط، فبهذا الاعتبار يترتب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح عنه مثل استحقاق الأجرة ونحو ذلك.

2- حيثيّة كونه فعل المنوب عنه، بكون الفعل بعد قصد النيابة والبدلية قائماً بالمنوب عنه، وبهذا الاعتبار يراعي النائب تكليف المنوب عنه في التمتع والقران والإفراد - مثلاً - .

والصحة من الحيثيّة الأولى لا تثبت الصحة من الحيثيّة الثانية، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب، ولذا لا تفرغ ذمة المنوب عنه.

وفيه: أن الصحة من الحيثيّتين واحدة لا تتجزأ، فالصحة في إحدى الحيثيّتين لا تغاير الصحة من الحيثيّة الأخرى ليكون ثبوت أحدهما بالآخر

ص: 280


1- فرائد الأصول 3: 368.

من الأصل المثبت، ولذا قال المحقق النائيني: «إن أحرز أن العامل قصد النيابة وتفريغ الذمة بعمله - إمّا بإخباره وإمّا من الخارج - فأصالة الصحة تجري في عمله ويحكم ببراءة ذمة المنوب عنه، وإن لم يحرز أن النائب قصد النيابة في عمله فلا تجري أصالة الصحة - يعنى لا من الحيثيّة الأولى ولا الثانية - لعدم إحراز العنوان المتعلّق للأثر فلا موضوع لأصالة الصحة»(1).

المطلب الرابع: في نسبة قاعدة الصحة مع الاستصحاب

1- أمّا الاستصحاب الحكمي في المعاملات - باستصحاب عدم الأثر على المعاملة ونحوه، فالقاعدة مقدّمة عليه، لأن الشك في ترتب الأثر كالنقل والانتقال مسبب عن الشك في تماميّة العقد في المؤثريّة وتماميّة المسبب في المتأثريّة، وحيث دلت أصالة الصحة على التماميّة لم يبق شك في النقل والانتقال، فتكون القاعدة حاكمة على الاستصحاب، هذا بناءً على كون الصحة بمعنى التماميّة، وأمّا إذا كانت الصحة بمعنى نفس ترتب الأثر فكذلك القاعدة مقدمة بالحكومة أو التخصيص إذ كل موارد القاعدة إلاّ نادراً مجرى استصحاب الفساد فلولا تقدمها لكان جعلها لغواً إن كان الدليل الإطلاق اللفظي أو سيرة المتشرعة.

2- وأمّا الاستصحاب الموضوعي كأصالة عدم البلوغ حين العقد، فالأمر يرتبط باختلاف المباني، ولذا اختلفت كلماتهم حسب اختلافها.

فإن قلنا بأنها أصل عملي وأن الصحة هي نفس ترتب الأثر فالاستصحاب حاكم على القاعدة، لأن الشك في ترتب الأثر مسبب عن الشك في بلوغ

ص: 281


1- فوائد الأصول 4: 665-666.

العاقد - مثلاً - .

وإن قلنا بأن الصحة هي التماميّة، فقد يقال: بعدم المسببيّة بينهما، وذلك لما ذكره المحقق العراقي قال: «أصالة عدم البلوغ مثلاً لا تكون مزيلة للشك في تمامية العقد، لأنهما وإن كانا متغايرين مفهوماً لكنهما متحدان منشأ، فإن تماميّة العقد في مرحلة التسبيب والمؤثريّة وتماميّة المسبب في مرحلة القابليّة للمتأثريّة ليست إلاّ عين واجديّة العقد والمسبب للشرائط المعتبرة فيهما... وعليه فيتعارض استصحاب عدم البلوغ المترتب عليه الفساد بأصالة الصحة، ولازم التعارض في نفسه التساقط...» الخ(1)

فتأمل.

المبحث الرابع: قاعدة القرعة

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل: في دليلها

فمنها: القرآن في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}(2)

وقوله سبحانه: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}(3)

ودلالتها على القرعة في شريعتنا إمّا من باب التقرير، أو بضميمة الأخبار التي تم الاستدلال فيها بهاتين الآيتين في شريعتنا، أو باستصحاب الشرائع السابقة.

ومنها: الأخبار ولا يبعد تواترها في موارد خاصة، وكثرتها توجب الاطمئنان بكون القرعة قاعدة عامة، وكذلك أخبار عامة لا تخلو من أخبار

ص: 282


1- نهاية الأفكار 4 [ق2]: 101.
2- سورة الصافات، الآية: 141.
3- سورة آل عمران، الآية: 44.

صحيحة، كصحيحة محمّد بن حكيم عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «كل مجهول فيه القرعة، قلت: إن القرعة تخطئ وتصيب! فقال: كل ما حكم الله فليس بمخطئ»(1) وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «وأيّ قضية أعدل من قضية تجال عليه السهام يقول الله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} قال: وما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2)،

وكصحيحة أبي بصير عنه (علیه السلام): «... فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوّضوا أمرهم إلى الله عزّ وجلّ إلاّ خرج سهم المحق»(3)، وعنه (علیه السلام): «في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث ثلاثة، فقال: يقرع بينهم فمن أصابته القرعة أعتق، قال: والقرعة سنة»(4)، وكقول النبي (صلی الله علیه و آله): «في كل أمر مشكل القرعة»(5)، والروايات كثيرة.

وغير خفي أن بعضها يدل على كون الشيء له واقع مجهول، وبعضها يدل على جريانها حتى لو لم يكن هناك واقع.

والظاهر أن المراد أنها حكم ظاهري وعليه فلا يكون هناك خطأ، لا أنها أمر غيبي بحيث تصيب الواقع دائماً.

كما أن الظاهر أن (مجهول) و(مشكل) و(مشتبه) بمعنى واحد أي المجهول مطلقاً - من الجهات الواقعية والظاهرية - والمشتبه والمشكل

ص: 283


1- من لا يحضره الفقيه 3: 52؛ تهذيب الأحكام 6: 240؛ عنهما وسائل الشيعة 27: 259.
2- الكافي 7: 158؛ عنه وسائل الشيعة 26: 294.
3- الكافي 5: 491؛ عنه وسائل الشيعة 21: 172.
4- تهذيب الأحكام 6: 239؛ عنه وسائل الشيعة 27: 257.
5- عوالي اللئالي 2: 285.

كذلك، فلو وجد أصل أو قاعدة فلا جهالة ولا اشتباه ولا إشكال، نعم في التنازع يكون المقترع هو الحاكم الشرعي إن لم يتراضيا بغيره فإن لم يكن تنازع أو تنازعا ورضيا بغيره فكل من اتفقا عليه.

المطلب الثاني: في نسبتها إلى الاستصحاب وسائر الأمارات والأصول
اشارة

وفيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: التخصيص

وأشكل عليه: بأمور، منها:

الإشكال الأوّل: بأن التخصيص إنّما يكون في التعارض غير المستقر في الحكم، والأدلة الأخرى تتعرض إلى موضوع أدلة القرعة لا إلى حكمها فهي من التخصص أو الورود أو الحكومة كما سيجيء بيانه.

الإشكال الثاني: إن التخصيص يستلزم القول بتخصيص الأكثر، حيث إن أكثر موارد المجهول والمشكل والمشتبه فيها أمارات أو أصول عملية مرجحة على القرعة.

لا يقال: ليكن كذلك لكن مع الذهاب إلى سقوط عموم أدلتها، فتكون دالة على العمل بالقرعة في الجملة مع تعيين تلك الموارد بعمل الأصحاب.

لأنه يقال: لا يكون ذلك حينئذٍ من التخصيص، بل يكون من تعيين موارد الدليل المجمل بالعمل.

وقد أشكل على الجبر بالعمل بإشكالات:

1- منها: ماذا كان الوجه عند الفقهاء الأوائل في الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى حيث لم يكن العمل الجابر؟

ص: 284

ويرد عليه: أن عملهم قد يكون لأجل دليل وصلهم ولم يصلنا أو أنهم لم يكونوا يقولون بالتخصيص ولا بإجمال الروايات أو لغير ذلك من جهات.

2- ومنها: إنه على ذلك يدور الأمر بين أمرين يعلم عدم صحتهما، فلا أريد الأكثر لاستهجان تخصيص الأكثر، ولا أريد الأقل لاستهجان ذكر الكل وإرادة أقل أفراده.

وفيه: أن هناك شق ثالث هو إرادة الإجمال ثم تعيين المصداق بالعمل.

3- ومنها: إنه عمل بالشهرة الفتوائية التي ليست بحجة وليس عملاً بقوله: «لكل مجهول» ونحوه.

وفيه: إنه تعيين مصداق كلام الإمام (علیه السلام) ، لا العمل بالشهرة الفتوائية.

4- ومنها: إنه جبر دلالي ولا نقول به.

وفيه: ما مرّ في سابقة بأنه تعيين للمصداق وليس تعيين للمفهوم والدلالة.

نعم، يبقى الإشكال في الدليل على حجيّة عملهم بتعيين المصداق للمجمل، فإنه لا يرتبط بتعيين المفهوم، ولا دليل على حجيّته في المصاديق، فتأمل.

الإشكال الثالث: إن النسبة بين دليل القرعة والاستصحاب - مثلاً - العموم من وجه، لشمول الاستصحاب للشبهات الموضوعية والحكمية والقرعة خاصة بالشبهة الموضوعية إجماعاً، واختصاصه بما له حالة سابقة مع عمومها له ولغيره.

وفيه: إن دليل القرعة عام بنفسه ثم خصص مرّتين بالإجماع على عدمها في الأحكام وبالاستصحاب في ما له حاله سابقة، وهذان الخاصان في

ص: 285

عرض واحد، ولا يصح تخصيصه بأحدهما أوّلاً ثم ملاحظة نسبته مع الآخر كما سيأتي في بحث انقلاب النسبة، وحتى مع فرض كون النسبة العموم من وجه فالترجيح في مورد الاجتماع لدليل الاستصحاب لقوة دليله سنداً ودلالة وعدم عمل الأصحاب بها في مورده.

الإشكال الرابع: إن دليل القرعة يدل على أنها أمارة كاشفة عن الواقع كقوله (علیه السلام): «إلاّ خرج سهم المحق» فتكون مقدمة على الاستصحاب وروداً أو حكومة.

وفيه: إن دليله في الموضوع ودليلها - حتى لو فرض كونها أمارة - في الحكم، والأصل الموضوعي مقدم على الأمارة الحكمية، مضافاً إلى ما مرّ من عدم كونها أمارة.

الاحتمال الثاني: التخصص

وذلك لأن ظاهر أدلة القرعة أن موضوعها المجهول والمشكل والمشتبه الأعم من الواقعي والظاهري، فيكون ما قامت عليه الأمارة أو الأصل غير مجهول ظاهراً فلا يشمله موضوع دليل القرعة أصلاً.

إن قلت: الألفاظ تحمل على المعاني الواقعية، وحملها على غير ذلك خلاف الظاهر.

قلت: لا بدّ من هذا الحمل بعد ما ورد في أدلة القرعة «إلاّ خرج سهم المحق» ونحوه فذلك قرينة على إرادة المجهول والمشتبه والمشكل الأعم.

الاحتمال الثالث: الورود

لأن مورد الاستصحاب وإن كان مجهولاً حتى بعد جريانه إلاّ أنه بعناية

ص: 286

التعبد يتحول إلى المتيقن منه، وهذا الوجه قريب من التخصص إلاّ أنه على القول بالتخصص فإن المجهول في دليل القرعة أعم، وعلى القول بالورود فالمجهول هو الواقعي إلاّ أن دليل الاستصحاب يجعل مورده من المعلوم الواقعي تعبداً.

وفيه: أوّلاً: لا دلالة لدليل الاستصحاب على ذلك وإلاّ كان أمارة لا أصلاً.

وثانياً: إن موضوع الاستصحاب أيضاً هو الشك من جميع الجهات، فإن إطلاق الجهل في القرعة إن شمل المتعلّق مطلقاً - الأعم من الواقعي والظاهري - فالشك في الاستصحاب كذلك، وإلاّ فلا في كليهما(1)،

فتأمل.

الاحتمال الرابع: الحكومة

إذ مورد الاستصحاب وإن كان مجهولاً إلاّ أن دليله يخرجه عن دائرة المجهول بالتعبد الشرعي، فهذا حكومة تضييقيّة.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(2)

بما حاصله: إنه لا حكومة بالنظر إلى دليلي اعتبار القرعة والاستصحاب، كما لا حكومة بالنظر إلى المتعارضين.

أمّا الأوّل: فلأن دليلي القرعة والاستصحاب متكفلان لحكم تعبدي في مورد الشك، فإلغاء احتمال الخلاف في كل من الدليلين يوجب نفي موضوع الآخر حيث إن المفروض تكفل كل واحد منهما لحكم الاحتمال.

ص: 287


1- نهاية الدراية 5: 258.
2- نهاية الدراية 5: 258.

وأمّا الثاني: فلأن دليل القرعة يدل على أنها لا تخطئ، كما أن لسان دليل الاستصحاب إبقاء الكاشف للواقع، وعليه: ففي زمان الشك طريقان: أحدهما: حدوثاً وهو القرعة، والثاني: بقاءً وهو اليقين السابق، وكل منهما طريق فعلي مع عدم الطريق إلى الواقع، فكل منهما - بعنوانه - له القابلية في حدّ ذاته لمنع موضوع الآخر، فلا تختص القرعة بالحكومة على الاستصحاب.

الاحتمال الخامس: التعارض المستقر

وحينئذٍ لا بدّ من رفع اليد عن دليل القرعة في مورد الاجتماع، بقوة دليل الاستصحاب وضعف دليل القرعة، وبالإجماع على تقديم الأمارات والأصول على القرعة وبغير ذلك مما مرّت الإشارة إليه.

وأقرب الوجوه هو التخصص ثم التعارض.

المطلب الثالث: القرعة رخصة أم عزيمة

إن وجب التعيين فلا إشكال في كونها عزيمة لكونها مقدمة للواجب، وأمّا لو أمكن الاحتياط من غير محذور لم تجب بل جاز الاحتياط، وأمّا إن لم يجب التعيين فلا تجب لعدم مقدميتها للواجب حينئذٍ ووجوبها النفسي خلاف ظاهر أدلتها، نعم لو قام الدليل الشرعي على التخيير فلا وجه لها إلاّ لرفع تحيّر المختار ولا يلزم العمل بها حينئذٍ.

ثم مع وجوب القرعة لا يشرع التكرار فيها، لأن الأمر سقط بالامتثال بالقرعة الأولى، مضافاً إلى أنها لو كانت لرفع التنازع فتكرارها نقض للغرض.

ص: 288

وأمّا ما روي من التكرار(1)

في قصة يونس (علیه السلام) وقصة ذبح عبد الله (علیه السلام) والد النبي (صلی الله علیه و آله) فمع قطع النظر عن البحث السندي فلا دلالة له، إذ لعل التكرار في قصة يونس لم يكن بمنظر وتقرير منه وإنّما كرره أهل السفينة حباً له، ولعله في قصة عبد الله كان نذره كذلك بأن يقترع بين ذبحه وبين نحر الآبال، فتأمل.

ص: 289


1- الخصال، للشيخ الصدوق: 157.

ص: 290

المقصد الثاني عشر في تعارض الأدلة

اشارة

ص: 291

ص: 292

بحوث تمهيدية

المطلب الأوّل: في العنوان

عنون بعضهم المقصد ب-(التعادل والتراجيح) وبعضهم ب-(تعارض الأدلة) والثاني أولى لأن التعادل والتراجيح فرع للتعارض، فلا بدّ من تحققه أوّلاً ليتم البحث عن التساوي أو الترجيح ثانياً.

المطلب الثاني: في تعريف التعارض

التعارض في اللغة: وقوع أحد الشيئين في عرض الآخر بحيث يزاحمه في الحركة، كما يقال: وقف في عرض الطريق.

وأمّا في الاصطلاح فقد اختلف تعبيرهم فعبر البعض: بأنه «تنافي المدلولين» وآخر: بأنه «تنافي الدليلين بحسب مدلولهما» وثالث: بأنه «تنافي الدليلين بحسب الدلالة في الأحكام الكلية والموضوعات المستنبطة».

أمّا الأوّل: فيرد عليه: أن المدلول هو معنى الكلمة، وقد يكون تنافٍ بين المدلولين من غير منافاة في الدلالة، فلا تعارض، كما في أدلة الأحكام الأوّلية والثانوية فإن بين المدلولين تنافياً لكن في مقام الدلالة يجمع العرف بالحكومة بينهما فلا تعارض.

وأمّا الإشكال عليه: بأن التعارض إنّما يتحقق بين أمرين موجودين خارجاً، والمدلولان بذاتيهما لا يمكن وجودهما لتنافيهما فلا تعارض

ص: 293

بينهما.

فمحل تأمل: إذ المقصود عدم إمكان الجمع بينهما مع قطع النظر عن صدورهما؛ وبعبارة أخرى: عدم إمكان قصد هذين المدلولين معاً من المولى الحكيم الملتفت.

وأمّا الثاني: فمرجعه إلى الأوّل، بمعنى أن تنافي المدلولين يسري إلى الدليلين، فيرد عليه ما ورد على سابقه، اللّهم إلاّ أن يقال: إن تنافي المدلولين قد يسري في ما لو كان ظاهر الدليل كاشفاً عن الإرادة الجدية، وقد لا يسري في ما لم يكن كذلك، فتخرج الحكومة مثلاً لأن تنافي المدلولين لم يسر ِ إلى الدليلين.

وأمّا الإشكال: بأنه في الأمارات لا أحكام ظاهرية بل تنجيز وإعذار، فلا يوجد مدلول ليتنافيان.

فمحل تأمل: إذ لا يراد بالمدلول الحكم - سواء كان واقعياً أم ظاهرياً - بل يراد معنى اللفظ فبين الوجوب والحرمة تنافٍ حتى لو لم يكن أحدهما حكماً من الشارع، فتأمل.

وأمّا الثالث: فبمعنى أن كل واحد من الدليلين يثبت ما ينافي ما يثبته الآخر، مع كون كل واحد منهما ظاهراً في إرادة مدلوله جداً، وبذلك يخرج جميع موارد الجمع الشرعي أو العرفي عن التعارض، وهذا هو الأصح لعدم ورود إشكال عليه.

وأمّا قيد «في الأحكام الكلية أو الموضوعات المستنبطة» فلإخراج أدلة الموضوعات الخارجية كالبينة، فإن التعارض فيها لا يبحث عنه في الأصول

ص: 294

لأن مدلولاتها ليست أحكاماً كلية، ولذا عرّف بعضهم التعارض بأنه تنافي الدليلين بحسب تنافي المدلول أو الدلالة في عالم التشريع والجعل.

وأمّا ما أضافه بعضهم على التعريف بقوله: «على وجه التناقض والتضاد حقيقة أو عرضاً».

فقيد مستدرك، لأن قولنا «تنافي الدليلين» يغني عنه، حيث إن التنافي إنّما يكون في ما لا يمكن الجمع بينهما، وسبب ذلك إمّا التناقض أو التضاد بينهما حقيقة أو بالعرض.

ولا فرق في تحقق التنافي بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام، فلذا قد يحصل التنافي بين العامين من وجه في مورد الاجتماع، أو في ما علم من دليل من خارجهما عدم إمكان الجمع كما في تنافي وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة.

وغير خفي أن التنافي إنّما يحصل مع وجدان كل واحد منهما لشرائط الحجيّة بحيث لا يكون توقف العمل بأحدهما أو بكليهما إلاّ بسبب التعارض بحيث لو فرض عدم تحققه للزم العمل بكليهما. وعليه فلو علم إجمالاً بكذب أحدهما كان من اشتباه الحجة باللاحجة لا من تعارض الدليلين فلا بدّ حينئذٍ من إعمال قواعد العلم الإجمالي لا قواعد الترجيح أو التخيير، فتأمل.

ثم إنه لا تعارض بين الدليلين القطعيين، ولا بين الظنيين إذا كان اعتبارهما من باب الظن الشخصي، إذ لا يعقل القطع أو الظن الشخصي بالمتنافيين، إلاّ مع الغفلة عن تنافيهما، ومفروض الكلام في غير حالة الغفلة.

ص: 295

المطلب الثالث: في موارد خرجت عن التعارض

المورد الأوّل: الحكومة.

وذلك لعدم التنافي بين الحاكم والمحكوم، وذلك لأن الحكم لا يتكفل موضوعه، والدليل المحكوم لا يتكفل موضوعه، والدليل الحاكم يثبت الموضوع سعة وضيقاً في الحكومة الموضوعية، وأمّا في الحكومة الحكمية فلمسالمة الدليل الحاكم مع الدليل المحكوم، فمثل «لا شك لكثير الشك» يضيق موضوع «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع» مثلاً فلا تنافي، كما مرّ تفصيله(1).

المورد الثاني: الورود.

وذلك لأن الدليل الوارد يزيل موضوع الدليل المورود تكويناً بعناية التعبد، مثلاً موضوع البراءة العقلية (عدم البيان)، وبتحقق (بيان) من الشارع يزول (عدم البيان) تكويناً، فلا يبقى موضوع لحكم العقل، فينتفي هذا الحكم، فيكون التعارض من السالبة بانتفاء الموضوع، وقد مرّ أيضاً(2).

المورد الثالث: العام والخاص.

ولا تعارض بينهما، والخاص مقدم عادة، وفي سبب تقديمه احتمالات، منها: حكومة أصالة الظهور في الخاص على أصالة الظهور في العام، أو ورود دليل الخاص على العام، أو التخصص، أو التوفيق العرفي بتقديم الأقوى ظهوراً وهو الخاص غالباً والعام قليلاً.

ص: 296


1- نبراس الأصول 3: 10-39.
2- نبراس الأصول 3: 40-46.

وغير خفي أن كلاً من العام والخاص قد يكون قطعي السند أو ظنيّه، كما قد يكون قطعي الدلالة أو ظنيّها، فهنا صور متعددة، ومنها:

الصورة الأولى: أن يكون الخاص قطعي الدلالة والسند.

فيتقدّم الخاص من باب التخصص، حيث إن حجيّة العام بأصالة الظهور، ومع العلم بعدم الظهور لا حجيّة للعام في مجمع العنوانين.

الصورة الثانية: أن يكون الخاص ظني الدلالة، سواء كان قطعي السند أم ظنيّه.

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى أنه في مورد الاجتماع يقدّم أقوى الظهورين، وإلاّ فالتساقط.

وأشكل عليه: بأن أصالة الظهور في الخاص حاكمة على أصالة الظهور في العام.

قال المحقق البجنوردي في منتهى الأصول(2) ما حاصله: أن ظهور العام في العموم - بمعنى كاشفيته عن إرادة العموم - معلّق على أن لا يكون هناك قرينة على عدم إرادة العموم، فإذا كان التعبد بظهور الخاص - وأنه كاشف عن مراد المتكلم - قرينة على عدم إرادة العموم، فيقدّم ظهور الخاص على ظهور العام في العموم، ولو كان ظهور العام في العموم أقوى، ولما كانت الأخبار الصادرة عن الرسول وآله (عليهم الصلاة والسلام) مثل أن يصدر عن شخص واحد في مجلس واحد - لأن كلهم من جهة بيان حكم الله

ص: 297


1- فرائد الأصول 3: 14.
2- منتهى الأصول 2: 722.

كشخص واحد، ولأن الواقع منكشف لهم بدون خطأ - فحال أصالة الظهور في طرف الخاص حال ظهور يرمي في قولهم: (رأيت أسداً يرمي) بالنسبة إلى ظهور الأسد، حيث إن ظهور يرمي حاكم على ظهور الأسد مع أن ظهور الأسد في الحيوان المفترس بالوضع وظهور الرمي في الرمي بالنبل بالإطلاق، والظهور الوضعي أقوى من الظهور الإطلاقي، والسرّ في ذلك أن ظهور العام في الخاص غير موجود أصلاً لأن المخصص المتصل يوجب عدم انعقاد الظهور للعام أو لم يكن حجة وكاشفاً عن المراد الواقعي فلا يعارض الخاص، وهذا معنى حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في طرف العام.

ويرد عليه: أنهم (علیهم السلام) يتكلمون بلسان قومهم، فلا فرق في انعقاد الظهور للعام لو كان الخاص منفصلاً بين العام الصادر عنهم وعن سائر الموالي، لأن سائر الموالي أيضاً لا يريدون من العام الخاص بالإرادة الجدية، ولو أرادوه كذلك لكان من النسخ لا من التخصيص.

وحيث إن المراد الاستعمالي يكشف عن المراد الجدي فيكون العام المنفصل عن الخاص ظاهراً في العموم استعمالاً وجِدّاً، وكذلك الخاص، فمع تساوي الظهورين يتصادمان ومع أقوائية أحدهما على الآخر يترجح الأقوى بالتوفيق العرفي، سواء كان العام أم الخاص.

الصورة الثالثة: أن يكون الخاص قطعي الدلالة وظني السند، ففي سبب تقدم الخاص على العام احتمالات:

منها: الورود، لأن التعبد بصدوره مع قطعية دلالته يجعل المراد قطعياً، فتنتفي أصالة الظهور في العام حينئذٍ، فيرجع إلى الصورة الأولى.

ص: 298

ومنها: التخصص، وذلك لأن دلالة الخاص قطعية حسب الفرض فيخرج المجمع عن أصالة الظهور في العام تكويناً من غير عناية التعبد حيث إن القطع حجة ذاتية لا تعبد فيه!

ومنها: الحكومة، لأن الغرض هو التعبد بمقصود المولى، وذلك يتوقف على العلم بالسند والدلالة معاً، وفي هذه الصورة ثبوت صدور الكلام منه بالتعبد، فيكون العلم بمقصوده بالتعبد لا بالوجدان، بتوسعة العلم وإحلال الظن محلّه، وهذا هو الحكومة.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن المانع عن جريان أصالة الظهور في طرف العام هو ثبوت أن المراد هو مدلول الخاص، وهذا المعنى لا يثبت إلاّ بالتعبد حيث إن الرفع لم يكن بنفس التعبد ليكون من الورود بل كان بثبوت المتعبد به فيكون من الحكومة.

المورد الرابع: الأمارات والأصول.

فالشيخ الأعظم(1)

على أن تقدم الأمارات على الأصول العملية بالحكومة، حيث إن الشارع - مثلاً - جعل أصلاً بالحلية لكل مشكوك الحرمة والحلية، ثم حكم بأن خبر الواحد الدال على الحرمة حجة، ومعنى ذلك أنه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤداه للواقع، وعليه فاحتمال الحلية المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتب عليه حكم شرعي، فيكون مؤدى الأمارة بتعبد من الشارع كالمعلوم، فلا يترتب عليه الأحكام الشرعية المجعولة للمجهولات.

ص: 299


1- فرائد الأصول 4: 15.

وأشكل عليه في الكفاية(1):

بأن الأمارات غير ناظرة إلى الأصول العملية ولا بدّ في الحكومة من النظر، كما أن اعتبار الأمارات ليس إلاّ بمعنى المنجزية والمعذرية لا جعل العِلمية، كما أن مورد كليهما الشاك في الحكم حيث إن القاطع لا معنى لجعل حجيّة الأمارة له، ولذا ذهب في باب الاستصحاب إلى الورود، ورجح في باب التعارض الجمع العرفي.

وحيث قد مرّ تفصيل ذلك في باب الاستصحاب(2) فلا داعي لتكراره.

ص: 300


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 191.
2- نبراس الأصول 5: 244-262.

فصل في القاعدة الأوّلية في التعارض

اشارة

التعارض قد يكون بين دليلين لا أكثر، وقد يكون بين أكثر من دليلين، أمّا الثاني فسيأتي بحثه في انقلاب النسبة، وأمّا الأوّل فإمّا أن يكونا متكافئين، أو يكون لأحدهما مزية على الآخر، وعلى فرض عدم المزيّة فهل القاعدة الأوّلية - مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة - هي التخيير أم التوقف أم التساقط أم الاحتياط؟ ونعني بالتساقط عدم العمل بكليهما والرجوع إلى ثالث حتى لو كان يخالفهما أو كان أصلاً عملياً، وبالتوقف عدم الرجوع إلى ثالث يخالفهما، وبالاحتياط العمل بما كان مطابقاً للقواعد منهما، وبالتخيير العمل بأحدهما سواءكان مطابقاً للقواعد أم مخالفاً.

والكلام تارة: بناء على السببية، وأخرى: بناء على الطريقية.

1- أمّا على السببية

بأن تحدث مصلحة سلوكية بسبب قيام الدليل حتى وإن لم تكن مصلحة في الواقع.

فقد يقال: بحدوث التزاحم وذلك لوجود المصلحة في كليهما، والأصل في المتزاحمين التخيير مع عدم ثبوت مزية لأحدهما على الآخر.

وأشكل عليه: بأنّه إنّما يصح لو كان منشأ التنافي في مرحلة الامتثال بعجز المكلف عن الجمع بين الامتثالين وذلك لوجود الملاكين، وأمّا لو

ص: 301

كان المنشأ هو تنافي الحكمين بنفسيهما فلا تزاحم إذ يُعلم بعدم جعل الحكمين حتى مع تحقق ملاكيهما وذلك لحصول الكسر والانكسار في الملاكين ويتم جعل حكم واحد هو الإباحة دون حكمين مخيراً بينهما، مضافاً إلى أنه قد لا يمكن التخيير وهو ما إذا دار الأمر بين الفعل والترك فيكون حصول أحدهما قهرياً، قال في المنتقى: «لأن الترك أو الفعل قهري الحصول، ولا يمكن تعدّيهما كي يحكم بلزوم أحدهما - مخيراً - نعم التخيير بمعنى الإباحة الذي يرجع إلى التخويل في أحد الأمرين لا مانع منه إلاّ أنه غير التخيير المصطلح في باب التزاحم»(1).

وأمّا ما في الكفاية(2)

بما حاصله: أنه لو قلنا بحدوث المصلحة السلوكية حتى مع العلم بكذب أحدهما فالتخيير إن كانا حكمين إلزاميين لوجود المصلحة السلوكية في كليهما وعدم ترجيح إحداهما على الأخرى، وأمّا إن كان أحدهما إلزامياً والآخر غير إلزامي فاحتمال ترجيح الإلزامي واحتمال ترجيح غير الإلزامي، أمّا الأوّل فلعدم مزاحمة اللا اقتضائي للاقتضائي؛ وأمّا الثاني: فلأن مصلحة الإلزامي لم تكن بحدّ العلة التامة للإلزام، وإلاّ لم يكن لغير الإلزامي مصلحة سلوكية أصلاً، وحيث لم تكن مصلحة الإلزامي علة تامة فلا تؤثر أثرها، فيحكم بخلافها.

ففيه: أن المصلحة السلوكية لا ترتبط بمصلحة المؤدّى، فنفس سلوك الطريق فيه المصلحة، وحينئذٍ لا فرق في ذلك بين الحكم الإلزامي وغيره،

ص: 302


1- منتقى الأصول 7: 315.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 234-235.

مضافاً إلى أن التخيير يلازم سقوط الإلزام حتى لو كان الحكمان إلزاميين، فتأمل.

2- وأمّا على الطريقية

اشارة

فالكلام تارة في حجيّة أو عدم حجيّة المدلول المطابقي، وتارة في حجيّة المدلول الالتزامي، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في المدلول المطابقي
اشارة

وفيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: التخيير
اشارة

وأشكل عليه: بأنه لا يمكن الالتزام به، وذلك لأن التخيير فرع التزاحم، وفي ما نحن فيه يعلم بعدم وجود الملاك في كليهما وإنّما في أحدهما غير المعيّن!

وأجيب: بأنه يمكن على بعض المباني في التخيير تصوير التخيير في ما نحن فيه، وقد مرّ بحثه مفصلاً في الواجب التخييري(1)،

فلنذكر ما تقتضيه بعض تلك المباني، ومنه يعلم سائرها.

والكلام تارة في التخيير في المسألة الفرعية كالتخيير بين وجوب هذا أو ذاك، وأخرى في المسألة الأصولية أي: في حجيّة الدليل الدال عليهما.

ألف: التخيير في المسألة الفرعية

فقد يقال: بأنه لا يصح التخيير على بعض المباني - كما لو قلنا بأن التخيير

ص: 303


1- نبراس الأصول 2: 78-87.

هو وجوب الجامع أو أحدهما أو سنخ وجوب مشوب بجواز الترك - إذ لو كان الدليلان عامين من وجه يلزم التفكيك في الدليل الواحد في أفراده حيث إنه في الأفراد محل الافتراق يكون الوجوب مثلاً للأفراد أو سنخ خاص من الوجوب، وفي المجمع يكون للجامع أو العنوان أو سنخ وجوب آخر، ولو كان المتعارضان جزئيان فظاهر الوجوب هو وجوب كل واحد بخصوصه لا وجوب أحدهما أو وجوب خاص مشوب بجواز الترك.

وفيه: أنه لو كان المراد الجامع بين أنحاء الوجوب - بناءً على عدم جزئية المعنى الحرفي أو استفيد الوجوب من معنى اسمي - فلا محذور بل يكون الجامع في كل فرد بحسب ما يناسبه فلا تفكيك حينئذٍ في مدلول الدليل الواحد، كما أن الوجوب بخصوصه يستفاد من الإطلاق ومع قيام الدليل المعارض ينتفي الإطلاق بانتفاء إحدى مقدمات الحكمة حيث نصب المولى القرينة بذكر المعارض، فتأمل.

وقد يقال: بصحة التخيير في بعض الصور كما لو دار بين أمرين لا منافاة بينهما إلاّ من جهة العلم بعدم جعل كلا الحكمين بخصوصه بنحو الجمع مع عدم العلم بعدم جعل أحدهما، كما في وجوب صلاة الجمعة وصلاة الظهر في عصر الغيبة حيث لا منافاة بين الوجوبين مع علمنا بعدم جعل الجمع بينهما مع إمكان جعل كل واحد منهما بنحو التخيير، فحينئذٍ الدلالة على الوجوب التعييني كانت بالإطلاق ويتم إلغاؤها بقيام الدليل الآخر كما ذكرنا.

وبهذا يندفع الإشكال: بأن كل واحد منهما له دلالة مطابقية على الوجوب التعييني ودلالة التزامية بنفي أصل وجوب الآخر، والتصرف في

ص: 304

المدلول المطابقي لكل منهما بإلغاء خصوصية التعيين لا يرفع التنافي الحاصل من جهة الدلالة الالتزامية، لعدم تبعيتها للدلالة المطابقية في الحجيّة وإن تبعتها في الوجود.

وذلك لأن ما نحن فيه من انتفاء الدلالة المطابقية على التعيين في أصل وجودها بانتفاء مقدمات الحكمة، فتأمل.

باء: التخيير في المسألة الأصولية

وذلك في ما إذا لم يمكن التخيير في المسألة الفرعية كما لو كان مدلولهما متنافياً بنحو التناقض أو التضاد ذاتاً أو عرضاً.

والتخيير في المسألة الأصولية قد يتصور بأحد نحوين:

النحو الأوّل: بمعنى لزوم العمل بأحدهما وترتيب الآثار عليه بحيث يحكم بمؤدّاه ويعمل بمقتضاه.

1- فإن كان المبنى: أن التخيير هو وجوب العمل بالجامع الانتزاعي وهو أحدهما.

فقد أشكل عليه: ثبوتاً: بأن ترجيح أحدهما المعيّن من غير مرجح، وأحدهما غير المعين لا وجود له في الخارج، إذ كل فرد هو هو بنفسه، والفرد المردد لا وجود له خارجاً.

وإثباتاً: بأن الجامع لا يثبت الخصوصيات الفردية، وعليه فلا يصح الالتزام بمؤدّى أيّ واحد منهما والحكم بمقتضاه أو العمل على طبقه بقصد التقرب - لو كان مما يلزم التقرب فيه - بل لا بدّ من ترتيب آثار العنوان وهو أحدهما وهو لا يتكفل الخصوصيات الفردية.

ص: 305

ويمكن أن يقال: بأن عنوان أحدهما وإن لم يكن له وجود خارجي إلاّ أنه لا محذور في كونه مشيراً إلى الموجود الخارجي، كما مرّ تفصيله، وحينئذٍ فانطباق ذلك الجامع العنواني على الفرد الخارجي بخصوصياته لا محذور فيه حيث إنه كان مشيراً إليه.

2- وإن كان المبنى: أن التخيير هو وجوب العمل بالجامع الحقيقي بينهما حتى وإن لم نعلمه تفصيلاً.

فقد أشكل عليه: بأنه قد لا يمكن وجود جامع حقيقي بينهما كما لو دار الأمر بين الوجود والعدم، كدلالة دليل على الوجوب والآخر على عدم الوجوب.

3- وإن كان المبنى: أن التخيير بمعنى الوجوب المشروط في كل ٍ منهما، بمعنى أن حجيّة كل واحد منهما مقيدة بعدم حجيّة الآخر، أو مقيدة بعدم العمل على طبق مؤدّى الآخر، أو مقيدة بعدم الاستناد إلى الآخر، أو مقيدة بالبناء على الالتزام بمؤدّاه، فمع عدم البناء على الالتزام بمقتضى كل واحد منهما لا يكون مشمولاً للحجيّة.

وأشكل عليه(1): أمّا الأوّل: فإن فيه ينتفي موضوع التخيير، إذ حجيّة كل منهما مانعة عن حجيّة الآخر فلا اجتماع للحجيتين حتى يتخير بينهما. وأمّا الثاني: فغير صحيح في بعض الصور كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة، فترك العمل بالحرمة إنّما هو بمعنى الإتيان بالشيء فلا معنى للحجيّة الدالة على الفعل والأمر بالعمل به إذ لا معنى للأمر بالفعل بعد

ص: 306


1- منتقى الأصول 7: 322.

الإتيان به. وأمّا الثالث: فيستلزم حجيّة كليهما إذا لم يستند إلى أيٍّ منهما لحصول الشرط فرجع التنافي. وأمّا الرابع: فبأنه لا يرفع التنافي بين الدليلين عرفاً - عكس التخيير في المسألة الفرعية - وذلك لأنه لا يستلزم التصرف بمؤدّى كل ٍ منهما بنحو يرفع التنافي بل كل منهما باقٍ على مؤدّاه، فلا وجه للالتزام به في المورد الذي نحن فيه.

ويمكن أن يقال: إن الغرض هو التخيير العملي، وهو حاصل بالوجه الرابع - على فرض صحته - سواء ارتفع التنافي بين مؤدّى الدليلين أم لم يرتفع، فليس الغرض هو تحقق التخيير الاصطلاحي كما في خصال الكفارة!

وإنّما الإشكال عليه: أن المكلّف إن لم يبن ِ على الالتزام بمؤدّى أيٍّ منهما فمعنى ذلك عدم حجيّة كليهما لفقدانهما شرط الحجيّة، وحينئذٍ ينتفي التخيير من أساسه!

والحاصل: إنه لا دليل يثبت التخيير حسب القاعدة الأوّلية، ومجرد معقوليته ثبوتاً - سواء في المسألة الأصولية أو الفرعية - لا ينفع مع عدم إقامة دليل إثباتي عليه، نعم قد تنفع بعض هذه الوجوه حين البحث في ما تقتضيه الأدلة الشرعية كالروايات برفع المحذور الثبوتي لو فرض دلالتها على التخيير إثباتاً.

الاحتمال الثاني: التوقف

وفيه وجوه:

الوجه الأوّل: تساقط الدليلين في دلالتهما المطابقية مع بقائهما على

ص: 307

الحجيّة في الدلالة الالتزامية بنفي الثالث كما اختاره الشيخ الأعظم(1).

ويدل عليه: أننا نعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحدهما للواقع، مع وضوح أنه لا يكون الدليل طريقاً إلاّ مع احتمال إصابته للواقع، وحيث لم يمكن تعيين غير المطابق فلا حجيّة لأيٍّ منهما لسقوطها بالعلم الإجمالي. وهذا هو الصحيح لسلامته من جميع الإشكالات.

الوجه الثاني: سقوط أحدهما غير المعين عن الحجيّة دون الآخر، مع عدم ترتب آثار العلم الإجمالي بل يكونان في الدلالة المطابقية كالمتساقطين مع حجيّة الدلالة الالتزامية في نفي الثالث كما ربما يظهر من صاحب الكفاية(2).

ويدل عليه: أن متعلّق العلم الإجمالي بالحجيّة وعدم الحجيّة هو عنوان (أحدهما) وهو لا تعيّن له في الخارج، بل الموجود في الخارج هو كل دليل بخصوصه وعينه، فلا يسري العلم الإجمالي وأحكامه - الذي منها الاحتياط - إلى الدليل في الخارج.

وفيه: أوّلاً: أن عنوان (أحدهما) وإن لم يكن له وجود في الخارج إلاّ أنه مرآة له ومشير إليه فيكون أحدهما غير المعيّن ظاهراً المعيّن واقعاً هو الحجة وكذلك الآخر يكون غير حجة.

وثانياً: إن عدم سراية العلم الإجمالي إلى الخارج لازمه حجيّة كلا الدليلين لأن كل واحد منهما يحتمل مطابقته للواقع فلا محذور في شمول

ص: 308


1- فرائد الأصول 4: 38-39.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 230-231.

الدليل العام للحجيّة له، كما سيأتي بيانه، وبعبارة أخرى - كما في المنتقى: «فكل من الدليلين بنفسه يشتمل على شرط الحجيّة فيكون موضوعاً لها فلا وجه للالتزام بخروج أحدهما عن الحجيّة بالعلم الإجمالي، إذ العلم الإجمالي لا يكفي في رفع الموضوع بعد تحقق الشرط في كل منهما بحد ذاته»(1)، ولازمه عدم المحذور في جعل الحجيّة للآثار المختصة لكل واحد منهما والتي لا تعارض بينها، ومعنى ذلك حجيّة الدليلين في جميع مدلولاتها إلاّ في ما وقع التنافي بينها، وهذا ما لا يمكن الالتزام به.

وثالثاً: مثل هذا الكلام يجري في الأصول العملية، إذ لا فرق في الحجيّة - بمعنى التنجيز والتعذير - بين الأمارات والأصول، فلو تعارض الأصلان السببيان مثلاً لا بدّ - على هذا الكلام - من بقاء أحدهما غير المعين على الحجيّة وعدم الرجوع إلى الأصل المسببي! وهذا ما لا يلتزم به.

الوجه الثالث: التفصيل على ما ذكره المحقق العراقي(2)، وحاصله: سقوط الدليلين عن الحجيّة في الدلالة المطابقية في ما لو كان التنافي بين مدلوليهما على وجه التناقض أو التضاد ذاتاً أو عرضاً، وأمّا لو كان التنافي لا على وجه التناقض أو التضاد فلا محذور من شمول دليل الحجيّة لكليهما حتى لو علمنا بعدم صدور أحدهما أو عدم مطابقته للواقع.

أمّا مع التنافي بنحو التضاد أو التناقض فمن جهة أن الدليلين المتعارضين يدل كل منهما على نفي الآخر - بالمطابقة أو بالالتزام - مع كون شمول

ص: 309


1- منتقى الأصول 7: 325.
2- نهاية الأفكار 4 [ق2]: 170-175.

دليل الحجيّة في المدلول المطابقي والالتزامي في عرض واحد، وحينئذٍ يمتنع دخولهما تحت دليل الحجيّة، لأن التعبد بسند كليهما بما لهما من المضمون يؤدّي إلى التعبد بالنقيضين، وهو محال حتى لو كان التعارض عرضياً كما في صلاة الظهر والجمعة.

وأمّا مع عدم التضاد والتنافي في المؤدّى فهنا صورتان:

الصورة الأولى: كون المؤدّى نصاً، وفيه حالتان:

الحالة الأولى: العلم بعدم صدور أحدهما لكن مع احتمال مطابقته للواقع، ولا محذور في شمول دليل التعبد لكليهما، لا ثبوتاً إذ لا مخالفة عملية مع عدم سراية العلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما إلى الخارج، ولا إثباتاً إذ لا قصور في شمول دليل السند لكل منهما بعنوانه التفصيلي وتتميم كشفه.

إن قلت: الأمر الطريقي لا يشمل ما هو معلوم الكذب بنحو الإجمال.

قلت: لمّا كان كل منهما محتمل الصدق بعنوانه الخاص فلا محذور من شمول الأمر الطريقي لكل منهما، وحكمة الأوامر الطريقية التي هي غلبة الإيصال غير مانعة عن شمولها لمثل هذا الفرض.

إن قلت: إن المدلول الالتزامي في التعبد بكل من السندين - حيث ينفي صدور الآخر بمقتضى العلم الإجمالي - يمنع من دخولهما تحت دليل الحجيّة لأدائه إلى التناقض!

قلت: لا أثر لهذا المدلول الالتزامي، إذ لا أثر لمجرد عدم صدور الخبر بعد احتمال مطابقة مضمونه للواقع فيسقط المدلول الالتزامي بين عدم

ص: 310

صدور الخبر وبين عدم مطابقته للواقع.

الحالة الثانية: العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فهنا مع فرض عدم حجيّة المدلول الالتزامي يمكن الالتزام بشمول دليل التعبد للأمارتين المعلوم عدم مطابقة أحدهما للواقع.

كما لعلّه من هذا الباب حجيّة الإقرار في ما لو أقرّ بعين لواحد ثم أقرّ بكونها للآخر، فإنه يحكم بإعطاء العين للأوّل وبإعطاء القيمة للثاني مع فرض العلم بمخالفة أحد الإقرارين للواقع، إذ بعد عدم حجيّة المدلول الالتزامي في الإقرارين - وهو نفي استحقاق الغير للعين لكونه من الإقرار على الغير وهو غير مسموع - وعدم استلزامها المخالفة العملية الموجبة لطرح تكليف ملزم في البين لا من الحاكم ولا من المقرّ - لكونه من العلم الإجمالي بالتكليف بين الشخصين - فلا جرم حينئذٍ من الأخذ بكلا الإقرارين بمقتضى التعبد بهما من غير محذور من شمول التعبد لهما، فيحكم الحاكم على طبق كلا المضمونين حتى على القول بطريقية الإقرار لا موضوعيته.

الصورة الثانية: كون المؤدّى غير نص، بحيث يحتاج ترتيب الأثر إلى تعبدين بالسند وبالمؤدّى، فيسقط الخبران عن الحجيّة، لكن ليس بمناط تصادم الظهورين، بل من جهة أن لازم التعبد بكل واحد من السندين هو نفي صدور الآخر الملازم شرعاً لنفي التعبد بدلالته - إذ التعبد بالدلالة فرع الصدور -

ومع الدلالة الالتزامية في التعبد بالسند طرح السند الآخر تسقط الدلالة، ولازم ذلك لغوية التعبد بالسند، وأقوائية الدلالة غير مجدية هنا بعد عدم ثبوت السند ولازمه عدم حجيّة الدلالة، انتهى مختصراً.

ص: 311

وفي كلامه مواضع من التأمل بناءً ومبنىً تظهر مما ذكرناه سابقاً.

المبحث الثاني: في المدلول الالتزامي بنفي الثالث

إن التعارض إن كان لتنافي مؤدّاهما بنحو التضاد أو التناقض فإن شمول دليل الحجيّة لأحدهما غير المعين إنّما هو باعتبار هذه الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية بالتعارض، فإنه يكفي في صحة التعبد وعدم لغويته حجيّة إحدى الدلالات.

وأشكل عليه: بأنه كيف يمكن وجود الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية؟

وأجيب: أوّلاً: بأن التبعية إنّما هي في الوجود لا في الحجيّة، إذ في الاعتباريات يمكن التفكيك في الحجيّة بجعلها للّازم أو الملزوم أو الملازم دون الآخر، ولذا لم يكن الأصل المثبت حجة مع كونه لازماً عقلياً ونحوه، ودليل الحجيّة قد جعلها للأمارة بجميع مدلولاتها بجعل بسيط، وعليه فمع تعارض الدليلين يرفع اليد عن المدلول المطابقي ويبقى المدلول الالتزامي مشمولاً لدليل الحجيّة.

وفيه: إن الحجيّة فرع الوجود، فإذا انتفى وجود الشيء انتفى وجود لازمه فانتفت حجيّة اللازم من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإذا كان المدلول المطابقي موجوداً لكنه ليس بحجة أمكن القول بوجود المدلول الالتزامي مع كونه حجة بشمول دليل الحجيّة له، فقياسه بحجيّة الملزوم دون اللازم كما في الأصل المثبت أو الملازم دون الملازم مع الفارق.

نعم، إذا كان المقصود أن للأمارة كشف ناقص - سواء كان حجة أم لا -

ص: 312

ولهذا الكشف لازم، فهنا الدلالتان المطابقية والالتزامية موجودتان مع إمكان جعل الحجيّة لأحدهما دون الآخر، فسقوط إحداهما عن الحجيّة لا يعني عدم وجودها وحينئذٍ فإن لم يكن محذور عن شمول دليل التعبد لإحدى الدلالتين فلا قصور في شموله لها.

وثانياً: ما عن المحقق الحائري في الدرر(1):

بأن حجيّة الخبر من باب كشفه نوعاً عن الواقع، وهو كما يكشف عن مدلوله المطابقي كذلك يكشف عن مدلوله الالتزامي، فله كشفان في عرض واحد ويكون حجة من كل جهة، فتكون حجيّته أيضاً من جهتين في عرض واحد، لا أن أحدهما مترتب على الآخر، ولذا أمكن التفكيك بينهما، كما في حجيّة الأصول في المدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.

وفيه: ما في الرشحات(2)

بأنهما ليسا في عرض واحد، بل الخبر يكشف أوّلاً عن مدلوله المطابقي، وبواسطته عن مدلوله الالتزامي، فكما أن دلالته التزامية كذلك جهة كشفه التزامية لمدلوله المطابقي، بل في الحقيقة لا فرق بين الدلالة والكشف، فليس الكشفان في عرض واحد.

تكملة: في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح

إن أريد بها الجمع العرفي فلا إشكال فيه، وحينئذٍ ف-(الأولى) يكون بنحو اللزوم.

وإن أريد بها الجمع التبرعي، فلا دليل عليها حيث إن دليل التعبد لا

ص: 313


1- درر الفوائد، للحائري: 649.
2- رشحات الأصول 2: 436.

يشمل المتعارضين، بل الدليل على خلافها وهو الأخبار العلاجيّة الآمرة بطرح أحدهما.

وأمّا ما استدل لها: بأن دليل الاعتبار يدل على لزوم العمل بالخبر إلاّ مع فرض محذور عقلي، والمتعارضان يشملهما دليل الحجيّة إلاّ في مقدار المحذور العقلي، فلذا يلزم التأويل ولو تبرعاً إذا ارتفع بذلك التنافي، نظير ارتكاب التأويل في مقطوعي الصدور بل دليل حجيّة الدليل الظني يجعله كمقطوع الصدور اعتباراً.

فيرد عليه: أن القاعدة على فرض صحتها لا تنطبق على ما نحن فيه إذ كما أن هناك أدلة على حجيّة السند كذلك أدلة على حجيّة الدلالة، ولا يمكن العمل بكليهما في المتعارضين إذ الأخذ بسند كليهما يتعارض مع الأخذ بظهورهما، مضافاً إلى أنها في ما ثبت اعتباره سنداً ومع التعارض الاعتبار السندي غير ثابت.

ومن ذلك يظهر عدم صحة قياس ما نحن فيه بمقطوعي الصدور، وذلك لثبوت اعتبار السندين في كليهما مع التعارض في الظهورين، على أنه لا نقول فيهما بالجمع التبرعي بل بالإجمال إن لم يكن مرجح لأحد الظهورين على الآخر.

ص: 314

فصل في الأصل الثانوي في المتعارضين

اشارة

مرّ في الفصل السابق أن الأصل الأولى هو التوقف بالتساقط في المدلول المطابقي، لكن قام الإجماع على لزوم العمل بأحدهما وعدم طرحهما، فهل الأصل الثانوي - مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية - هو التخيير أو تعيين ذي المزيّة إن كانت؟ والكلام تارة في المزيّة التي لا توجب الجمع العرفي، وأخرى في ما أوجبته، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: المزيّة التي لا توجب جمعاً دلالياً

ذهب المحقق الخراساني إلى «أن اللازم - في ما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما - هو الاقتصار على الراجح منهما، للقطع بحجيّته تخييراً أو تعييناً، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيّته والأصل عدم حجيّة ما لم يقطع بحجيّته»(1).

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأوّل: إنه لا معنى لحجيّة أحد الخبرين على سبيل التخيير، إذ الحجيّة حكم وضعي لا يمكن جعله على هذا أو هذا، كما لا يصح بيع هذا أو هذا... فالذي يعقل في المقام: أن يكون التخيير في الأخذ بأن يخيّر

ص: 315


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 242-243.

الشارع المكلّف في الأخذ بأيهما، فإذا أخذ بأحدهما يكون حجة تعييناً، فالحجيّة تُجعل تعييناً على المأخوذ بالتخيير، فهي في رتبة متأخرة عن الأخذ، فما دام لم يأخذ بأحدهما لا يكون هناك حجة في البين، بل تصير حجة بالأخذ الذي هو البناء على العمل به.

ويرد عليه: أوّلاً: أنه إذا كانت الحجيّة متأخرة عن الأخذ، فإن لم يأخذ بأيٍّ منهما فلا إلزام عليه في العمل بأيٍّ من الدليلين وطرحهما، وهو كرّ مما فرّ منه!

ولا يجدي التفصّي: «بأن معنى (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) أن الأخذ هو الموجب للتوسعة وعدمه موجب للضيق، والمراد منه أن الإتيان بالحكم الواقعي مطلوب فعلي من المولى، خصوصاً بعد قيام ما يصلح للحجيّة في نفسه وهو الأمارة، وإنّما يمنع عن الحجيّة التعارض، فالمكلّف في ضيق من حيث الحكم الواقعي ينبغي عليه الاحتياط بينهما، وأمّا الأخذ بأحدهما فهو سبب للتوسعة عليه من قبل الشارع بالعفو عنه لو كان الواقع في جانب غيره، فاللازم حينئذٍ على المكلّف إمّا الاحتياط وإمّا الأخذ بأحدهما تخلصاً من الضيق المتوجه إليه من حيث الحكم الواقعي»(1).

وذلك لأن ملاك التنجز هو الوصول أو إمكانه، فمع العلم بأن إتيان الحكم الواقعي مطلوب فعلي مع قيام ما يصلح للدلالة عليه فإن الواقع يتنجز عليه سواء أخذ بأحدهما أم تركهما جميعاً، وعليه فلا دخالة للأخذ في الحجيّة أصلاً.

ص: 316


1- رشحات الأصول 2: 441.

وعليه فلا معنى للتخيير في الحجيّة إلاّ بنحو الوجوب التخييري بأن يكون الحجة أحدهما أو جامع عنواني آخر.

وثانياً: لا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي في إمكان التخيير، ولئن قبل باستحالة الفرد المردد حتى في الاعتباريات فإنه تكفي سائر الوجوه التي ذكرت في الواجب التخييري، فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم تمامية الدليل في كل الحالات، إذ لو أخذ المكلف بذي المزيّة فحينئذٍ يكون هو المتيقن الحجيّة إذ ملاك الحجيّة إمّا الأخذ أو المزيّة، وكلاهما في ذي المزيّة فلا ملاك للآخر أصلاً، لكن إن أخذ بغير ذي المزيّة فلا متيقن لأن الملاك إن كان المزيّة فذو المزيّة هو الحجة لا ما أخذ به، وإن كان الملاك الأخذ فيكون المأخوذ هو الحجة لا ذو المزيّة، وحينئذٍ فلا يكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، بل مقتضى العلم الإجمالي الاحتياط بينهما بالعمل بمؤدّى كليهما إن كانا إلزاميين، والعمل بالإلزامي إن كان الآخر غير إلزامي.

نعم، لو قلنا بأن التخيير استمراري فيجوز له الأخذ بذي المزيّة ثانياً فيكون هو الحجة قطعاً دون غيره!!

ويمكن أن يقال: بعد الإشكال على كون الأخذ هو الملاك في الحجيّة، فلا يبقى إلاّ كون المزيّة هي الملاك في كل الحالات، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير مطلقاً، فتأمل.

المبحث الثاني: المزيّة التي توجب جمعاً دلالياً

وليس الكلام في المزيّة التي توجب الترجيح السندي، كما لا إشكال

ص: 317

في أنه بالجمع العرفي يرتفع التعارض كالحكومة والورود والتخصيص كما مرّ.

وقد اختلف في موارد بأنه هل المزيّة أوجبت جمعاً عرفياً أم لا، ومنها:

المورد الأوّل: تعارض العام والمطلق الشمولي، كما لو قال: (أكرم الشعراء) وقال: (لا تكرم الفاسق) حيث يتعارضان في الظاهر في الشاعر الفاسق.

فقد قيل: بترجيح العام على المطلق، وذلك لأن دلالة العام على الشمول بالوضع، ودلالة المطلق عليه بمقدمات الحكمة، والتي منها عدم نصب قرينة على الخلاف، ويكفي في القرينة شمول العموم له بالوضع، وعليه فتقديم العام على المطلق لا محذور فيه، وأمّا العكس ففيه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر؛ أمّا التخصيص بلا وجه: فلعدم وجود دليل على تخصيص العام بالمطلق ولا مخصص آخر؛ وأمّا الدور: فلأن الإطلاق يتوقف على تخصيصه للعام وإلاّ كان العام بياناً ومانعاً عن انعقاد الإطلاق، وتخصيصه للعام متوقف على إطلاقه إذ لو لم يكن مطلقاً لما خصّص العام.

وقد ذهب إلى ترجيح العام الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليه صاحب الكفاية(2)

بما حاصله: إن (عدم وجود قرينة على الخلاف) يراد به عدم وجودها في مقام التخاطب، فإذا كمل كلام المتكلم ولم ينصب قرينة على الخلاف فقد انعقد الإطلاق، والقرينة بعد ذلك لا

ص: 318


1- فرائد الأصول 4: 98.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 286.

تضر به بل تقيّده، مع وضوح الفرق بين عدم انعقاد الإطلاق أصلاً وبين انعقاده ثم تقييده، وعليه فينعقد الإطلاق ويتعارضان.

وأجيب: أوّلاً: مبنىً، بأن مجرى مقدمات الحكمة هو في المراد الجدّي الواقعي، فالمقيّد المنفصل هادم للإطلاق أيضاً كالمتصل.

وفيه: أن مقدمات الحكمة تجري في المراد الاستعمالي وبضميمة الأصول العقلائية يتم الكشف عن المراد الجدّي، وعليه فمع تماميّة الكلام وعدم نصب قرينة ينعقد الإطلاق في جميع الأفراد، ومع مجيء المقيّد يتعارض ظهور المطلق مع ظهور المقيّد فيقدّم الثاني لأقوائيته؛ وسبب الأقوائية إن المتكلّم حينما نصب قرينة على الخلاف - ولو كانت منفصلة - فلا معنى لأن يقال: إن ظاهر الجملة السابقة كانت كاشفة عن المراد الواقعي إذ ذلك يوجب كونه متناقضاً في كلامه، فدلالة الاقتضاء تقتضي عدم إرادته جداً لذلك الإطلاق، مع كونه مراداً استعمالاً، فتأمل.

وثانياً: بأنه على فرض صحة ما ذكره، فإنّما يجري لو تأخر العام عن المطلق زماناً، أمّا لو تقدم عليه فيصلح كونه قرينة متصلة تمنع الإطلاق بلا إشكال.

المورد الثاني: ترجيح التخصيص على النسخ.

وقد مرّ تفصيل البحث(1)،

وإنّما نذكر هنا ما لم نذكره هناك، فراجع.

أمّا تصوير الدوران بينهما فهو بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: تقدم الخاص والعمل به لفترة ثم صدور العام، كما لو قال:

ص: 319


1- نبراس الأصول 2: 433-440.

(لا تكرم زيداً العالم)، ثم بعد العمل قال: (أكرم العلماء)، وتظهر الثمرة أنه على النسخ يجب إكرام زيد بعد ذلك، وعلى التخصيص يحرم إكرامه.

الوجه الثاني: لو انعكس الأمر بأن تقدم العام وبعد العمل به صدر الخاص، والثمرة في أنه لو ترك العمل بالخاص المقدّم فبناءً على التخصيص لا شيء عليه إلاّ أنه قد تجرّى، وعلى النسخ يكون عاصياً بتركه وعلية القضاء إن كان مما فيه القضاء.

وعليه: فيدور الأمر بين رفع اليد عن أحد ظهوري العام في ما لو كان أسبق، وهما: ظهوره في الاستمرار زماناً فلا نسخ إذ النسخ هو عدم استمرار زمان الحكم، وظهوره في الشمول لجميع الأفراد فلا تخصيص إذ التخصيص هو خروج بعض الأفراد عن العام، وقد مرّ تفصيل الكلام.

ثم إن المحقق العراقي ذكر(1)

ما حاصله: أن الدوران بين التخصيص والنسخ لا يرجع إلى تصادم الظهورين، كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي وترجيح الأقوى ظهوراً، وإنّما هو تصادم بين أصالة الجهة وأصالة الظهور، وذلك لأن النسخ تصرف في جهة الكلام، إذ مرجعه إلى أن الكلام لم يكن صادراً عن واقع بحيث يجب على المكلّف الأخذ به، بل كان بداع ٍ آخر مع حفظ ظهوره ودلالته على مدلوله، فيكون نظير صدور الكلام عن تقية، فاحتمال النسخ لا يرجع إلى الظهور والدلالة، بل إلى مرحلة جهة صدور الكلام، فيكون التعارض بين أصالة الجهة وأصالة الظهور، فلا معنى للبحث عن ترجيح أحدهما في مقام الدلالة والظهور.

ص: 320


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 156.

وأشكل عليه في المنتقى(1)

بما حاصله: أن التقية إمّا في مقام العمل، وإمّا في مقام الحكم، والأوّل غير مراد هنا لأن الدليل الدال على الحكم دال عليه واقعاً وجداً بحيث يجب على المكلّف امتثاله ويأثم بمخالفته، غاية الأمر أن ملاك جعل الحكم هو ملاك واقعي ثانوي محدود وهو حفظ النفس من الهلاك.

فالمراد هو الثاني وهو التقية في مقام الحكم، والمشهور فيه أنه لا مراد واقعي على طبق الإنشاء، بل كان الإنشاء بداعي آخر غير الواقع وهو مجرد الاحتراز عن الضرر، فالغرض متمحض في الإظهار لا غير، وعليه فلا وجوب واقعي على المكلّف، وعليه فيكون التخصيص والنسخ في مرحلة واحدة، إذ التخصيص يكشف عن عدم الإرادة الحقيقية على طبق العام وكذلك النسخ، فيشترك الناسخ والمخصص في أن مفادهما نفي ظهور الدليل في مفاده جداً وحقيقةً، فرجع التصادم إلى مرحلة الدلالة والكشف عن المراد الجدي، فلا بدّ حينئذٍ من مراعاة المرجحات الدلالية، فتأمل.

ص: 321


1- منتقى الأصول 7: 345-347.

فصل في التعارض بين أكثر من دليلين

اشارة

ويدخل فيه بحث انقلاب النسبة، ولا يخفى أن الأخبار المتعارضة كلها في عرض واحد فلا بدّ من ملاحظتها معاً، ولا وجه للعلاج بين خبرين ابتداءً ثم ملاحظة النتيجة الحاصلة مع الخبر الثالث، إذ لا أولويّة لعلاج على آخر، إلاّ لو قام الدليل عليه.

ثم إنه قد تكون النسبة متحدة وقد تكون مختلفة، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: اتحاد النسبة

اشارة

وهي على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: عام واحد وخاصان
اشارة

وهذا على ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تكون النسبة بين الخاصين التباين

فإن لم يكن محذور في التخصيص بهما فلا بدّ من ذلك، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم النحاة الكوفيين)، و(لا تكرم النحاة البصريين)، حيث لا محذور في تخصيص العام بهما فلا بدّ حينئذٍ من التخصيص بهما ترجيحاً للأظهر على الظاهر.

وأمّا لو كان هناك محذور في التخصيص بهما، كما لو استلزم بقاء العام بلا مورد أو استلزم تخصيص الأكثر المستهجن، كما لو قال: (أكرم الشعراء)،

ص: 322

و(لا تكرم الرجال الشعراء)، و(لا تكرم النساء الشاعرات)، حصل التعارض حينئذٍ، وله صور:

الصورة الأولى: أن يكون الخاصان أرجح من العام، فلا إشكال في تقديمهما على العام وطرحه.

الصورة الثانية: أن يكون العام أرجح منهما، فلا بدّ من الأخذ به، لكن هل يطرح كلا الخاصين معاً أم يطرح أحدهما بحيث يلزم الترجيح أو التخيير بينهما.

فقد يقال: إن طرف المعارضة هو الجميع أي ذات الدليلين كلاهما، نظير وجوب المركبات، فإن الواجب هو كل واحد من الأجزاء عند انضمام الآخر إليه لا مجموعها ولا كل واحد منها بنفسه، ومعروض الوجوب هو نفس الجزء عند الانضمام لا بقيد الانضمام.

وقد يقال: إن طرف المعارضة هو المجموع أي وصف الاجتماع.

وقد رجّح المحقق الخراساني الثاني، قال: «فلا بدّ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها فإن التباين كان بينه وبين مجموعها لا جميعها»(1).

وأشكل عليه في المنتقى(2):

أوّلاً: بأن طرف المعارضة لا بدّ أن يكون دليلاً فيه جهة الدلالة والحجيّة كي تكون معارضته للدليل الآخر من إحدى الجهتين، وليس وصف الاجتماع دليلاً أخذ موضوعاً للحجيّة ويشتمل جهة الدلالة فلا يصلح أن

ص: 323


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 301-302.
2- منتقى الأصول 7: 370.

يكون طرف المعارضة.

وثانياً: لو سلم إمكان كونه طرف المعارضة، فليس هذا النحو من المعارضة مشمولاً للأخبار العلاجيّة المتضمنة لتقديم الراجح وطرح المرجوح، إذ معنى الطرح هو جعل المانع من حجيّة أحد الطرفين، وقد عرفت أن وصف الاجتماع لم يؤخذ في موضوع الحجيّة كي يكون قابلاً للطرح والأخذ.

ثم لو قلنا بأن المعارضة بين العام وذات الدليلين، فهل يسقط كلا الخاصين أو يسقط أحدهما؟

فقد يقال: إن العلم الإجمالي متعلّق بكذب أحد الثلاثة، فلا وجه لطرح الخاصين، إذ بعد تقديم العام لا يعلم إلاّ بكذب أحدهما فيحصل التعارض عرضاً بينهما فتجري أحكام المعارضة بينهما من ترجيح أو تخيير.

وأشكل عليه(1) بإشكالات:

الإشكال الأوّل: إن التنافي المقوّم لمفهوم التعارض لا بدّ أن يكون عرفياً وهو متحقق مع كون التعارض بالذات، وأمّا مع عدم التنافي الذاتي فنفي كل منهما للآخر ليس بحسب الملازمة العرفية، بل الملازمة العقلية الحاصلة من العلم الإجمالي، فلا يصدق عليه التعارض بما له من المفهوم العرفي، ولذا قالوا بتساقط الأصول العملية حين تعارضها، فإنه وإن حصل التعارض بين إطلاق دليلي الأصلين إلاّ أن هذا التعارض بسبب العلم الإجمالي بعدم صحة أحدهما، ولو جرت أدلة التعارض هنا كان لا بدّ من الترجيح أو

ص: 324


1- منتقى الأصول 7: 376.

التخيير لا الرجوع إلى القاعدة الأوّلية التي هي التساقط!

ويرد عليه: أوّلاً: أن الأخبار العلاجيّة خالية عن لفظ التعارض إلاّ مرفوعة زرارة(1)

وعليه فلا دخل لكلمة التعارض فيها لنبحث عن مدلولها، فإطلاق تلك الأخبار العلاجيّة شامل لما كان التعارض عرفياً أم دقياً.

وثانياً: أنه مع إلتفات العرف إلى العلم الإجمالي فإنه يدرك حصول التعارض فيكون عرفياً أيضاً، وبعبارة أخرى: إن منشأ التعارض قد يكون العلم الإجمالي وقد يكون غيره ولا دخل للمنشأ في أحكام الأخبار العلاجيّة.

وثالثاً: أن أدلة الأصول إنّما هي لبيان الوظيفة العملية وهي منصرفة عن مورد التعارض، ومعنى التساقط فيها عدم جريانها أصلاً.

الإشكال الثاني: لو سلمنا شمول الدليل لمطلق التنافي ولو دقةً فإنه لا يشمل ما لو كان بين أكثر من دليلين فلا يتحقق فيه مصداق التعارض، وذلك لأن كلاً من الأدلة لا يتكفل نفي غيره من الدليلين أو الأدلة حيث إن المعلوم كذب أحدهما لا غير، بل مفاده إثبات مدلوله وأن الكاذب يوجد بين الدليلين الآخرين، وبذلك تتحقق المعارضة العرضية بين الآخرين حين ثبوت الأوّل، وهذا ليس من مفهوم التعارض أصلاً، لأن مفهومه التنافي المتقوّم بنفي كل منهما للآخر.

ويرد عليه: أنه لا فرق عرفاً بين التنافي المباشر والتنافي غير المباشر بأن يكون طرف المعارضة معلوماً إجمالاً، فإن مثل: (أكرم الشعراء) و(لا تكرم

ص: 325


1- عوالي اللئالي 4: 133.

رجالهم) و(لا تكرم نساءهم) يدرك العرف بأن أحد الأدلة الثلاثة غير مطابق للواقع، وهذا المقدار يكفي في تحقق التنافي والمعارضة عرفاً.

الإشكال الثالث: مجرد العلم الإجمالي بكذب أحد الخاصين لا ينفع في تحقق المعارضة بينهما، بل لا بدّ من انضمام مقتضى الحجيّة وقابليتها لكل منهما، بحيث تكون حجيّتهما فعلية لولا المعارضة العرضية الحاصلة بالعلم الإجمالي بكذب أحدهما، فالعلم الإجمالي لوحده كاحتمال المصادقة للواقع لا يكون بنفسه مناطاً لشمول دليل الحجيّة للخبر ما لم يكن في الخبر اقتضاء الحجيّة، كذلك العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين لا يكون بنفسه مناطاً للمعارضة بين الدليلين ما لم يكن في الدليلين اقتضاء الحجيّة، وهو غير موجود في ما نحن فيه، إذ بعد ترجيح العام وتقديمه يلزم طرح الخاصين كليهما لأنهما طرفا المعارضة مع العام، ومعنى الطرح هو جعل المانع من حجيّة كل منهما بتقديم الطرف الآخر، فالعلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يوجب تشكيل معارضة أخرى عرضية بينهما، لكون حجيّة كل منهما مقرونة بالمانع من غير جهة المعارضة.

وفيه: أن هذا إنّما يصح لو قلنا بالترتيب في الترجيح، وأمّا لو جعلنا الأدلة الثلاثة في عرض واحد فإن كلاً منها لها مقتضى الحجيّة فتتحقق معارضتان معاً عرضية لا طولية إحداهما ذاتية بين العام والخاصين والأخرى عرضية بين الخاصين في فرض ترجيح العام، وهذا الفرض لا يوجب طولية في مقام الترجيح وإنّما في مقام الموضوع، وفي وقت واحد يتم ترجيح العام وأحد الخاصين، فتأمل.

الصورة الثالثة: أن يتساوى العام والخاصان، فلا محذور في حجيّة العام

ص: 326

في بعض مدلوله وليس ذلك من التبعيض في الحجيّة وإنّما توسعة أو تضييق في متعلقها كالعام المخصص بواحد، فحينئذٍ تكون معارضتان، طرف كل معارضة بعض مصاديق العام والخاص المنافي له فيها، بمعنى أن العام له اقتضاء الحجيّة في كل المصاديق، وكل واحد من الخاصين يعارض حجيّته في بعض المصاديق بمعنى أنه يرفع حجيّته عن تلك المصاديق فقط لا غيرها، وعليه: يثبت التخيير بين الأخذ بالخاصين أو الأخذ بأحد الخاصين والأخذ بالعام في مورد الخاص الآخر.

الصورة الرابعة: أن يكون العام راجحاً على أحد الخاصين ومساوياً للآخر أو العكس بأن كان أحد الخاصين راجحاً على العام والآخر مساوياً للعام فكذلك، ففي المصاديق التي يتساوي فيها العام والخاص يتخير، وفي المصاديق الأخرى يأخذ بالراجح.

إن قلت: بناءً على عدم التبعيض في حجيّة العام فإن رجح الخاص المساوي سقط العام عن الحجيّة رأساً فلا معارض للخاص المرجوح، فتكون النتيجة هي العمل بالخاصين معاً!

قلت: إن عدم تبعيض الحجيّة لا يستلزم سقوط العام عن الحجيّة في جميع المصاديق وإنّما تضييق متعلّق الحجيّة كما ذكرنا، وإلاّ لزم سقوط كل عام عن الحجيّة مع ترجيح الخاص عليه من غير فرق بين الترجيح السندي كما في ما نحن فيه أو الترجيح الدلالي كما في كل عام مخصّص.

إن قلت: ظاهر الأخبار العلاجيّة هو كون المعارضة بين الدليلين بحيث يكون لكل منهما سند واحد فيلاحظ الأرجح، وليس الأمر هنا كذلك.

ص: 327

قلت: إن مورد الأخبار العلاجيّة وإن كان الخبران إلاّ أن المورد لا يخصص الوارد، وحتى لو فرض خصوصية الوارد فإن العرف يلغي الخصوصية، ولولا ذلك لزم عدم جريان الأخبار العلاجيّة في كل ما كان التعارض بين أكثر من دليل، ولا فرق حينئذٍ بين جعل المعارضة بين طرفين أحدهما يشتمل على أكثر من خبر وبين جعل المعارضة بين الأطراف الثلاثة، فتأمل.

الصورة الخامسة: أن يكون العام راجحاً على أحدهما ومرجوحاً بالنسبة إلى الآخر، وحينئذٍ لا بدّ من الأخذ بالعام في المصاديق التي يرجح فيها العام على الخاص، وأخذ بالخاص الآخر في سائر المصاديق.

هذا تمام الكلام في الحالة الأولى وهي ما لو كانت النسبة بين الخاصين التباين.

الحالة الثانية: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم من وجه

فإن لم يكن محذور في الجمع بين الخاصين وتخصيص العام بهما، فلا تعارض حينئذٍ، فلا بدّ من العمل بهما في مصاديقهما والعمل بالعام في سائر المصاديق، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم النحويين)، و(لا تكرم الصرفيين)، ففي النحوي الصرفي لا محذور بالعمل بكلا الخاصين.

وأمّا لو كان محذور بأن كان بين حكمي الخاصين تنافٍ، كما لو قال: (يجب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام فساقهم)، و(يستحب إكرام شعراء هذه المدينة)، ففي المجمع وهو فساق شعراء المدينة يحصل التعارض.

فإن كانت الوظيفة الترجيح أو التخيير فلا بدّ في المجمع من تخصيص العام بما أخذ من الخاصين مع تخصيصه بالخاصين في موردي الافتراق

ص: 328

والأخذ به في سائر المصاديق، ولا يلزم من طرح أحد الخاصين في مورد الاجتماع التبعيض في حجيّته، كما لا يخفى.

وإن كان الحكم هو تساقط الخاصين في مورد الاجتماع فقد قيل: بلزوم العمل بالعام في المجمع حيث إنه سليم عن المخصص!

وفيه: إنه بناءً على دلالة المتعارضين على نفي الثالث بالدلالة الالتزامية فلا يجوز العمل بالعام حينئذٍ لأنه الثالث بل لا بدّ من الاحتياط بين الخاصين إن أمكن.

الحالة الثالثة: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم المطلق

وهنا صورتان:

الصورة الأولى: أن لا يكون الخاصان متنافيين فلا تعارض، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم النحاة)، و(لا تكرم نحاة البصرة)، فهنا يلاحظ الخاصان معاً ويخصص العام بهما دفعة واحدة.

وقيل: يلزم تقديم الخاص الأخص على الخاص الأعم، فتنقلب النسبة إلى العموم والخصوص من وجه، لأن مصاديق الأخص هي مخصصة على كل حال فهي القدر المتيقن من التخصيص ففي المثال نسبة العلماء غير نحاة البصرة إلى النحاة هي من وجه، فمادّتي الافتراق: العالم غير النحوي، والنحوي الكوفي، ومادة الاجتماع العالم النحوي الكوفي!

وأورد عليه في المنتقى(1):

بأن المقصود من القدر المتيقن من التخصيص إمّا في مقام المراد الاستعمالي وإمّا في مقام المراد الجدي.

ص: 329


1- منتقى الأصول 7: 379.

فعلى الأوّل: تارة: يراد إخراج الأخص إمّا بالدليل الأخص وإمّا بالدليل الأعم، بأن يكون الفرض ترديد المخصص بين عنوانين أخص وأعم، فيكون القدر المتيقن تخصيص العام بمقدار الأخص إمّا به استقلالاً، وإمّا في ضمن تخصيصه بالأعم، وتارة: يراد إخراج الأخص إمّا بالدليل الأخص وإمّا بكلا الدليلين - الأعم والأخص - .

وأوّلهما: لا يجدي في المطلوب، لرجوعه إلى الترديد بين المتباينين لا الأقل والأكثر كي يؤخذ بالقدر المتيقن، نعم هو أفراداً كذلك لا عنواناً كما هو الفرض.

وثانيهما: خلاف القواعد، وذلك لأن القدر المتيقن إنّما يفرض بعد فرض الترديد بين الأمرين، والترديد إنّما يكون بالعلم الإجمالي بأحدهما مع عدم الدليل المعيّن لأحدهما، وفي ما نحن فيه تقتضي القواعد الأصولية تخصيص العام بهما دفعة واحدة، فيرتفع الترديد وينحل العلم الإجمالي حكماً، فلا يبقى مجال للأخذ بالقدر المتيقن! مضافاً إلى عدم انعقاد ظهور العام في غير مورد الأخص في أحد الاحتمالين - وهو تخصيص العام بالأخص والأعم معاً - فكيف يجعل تخصيص العام بالأخص موجباً لانعقاد ظهور له في الباقي لتنقلب النسبة مع الخاص الأعم؟!

وعلى الثاني: - أي إن أريد القدر المتيقن في المراد الجدي - ففيه: أنه ليس متيقناً في نفسه لإمكان كون الخاص في الواقع كاذباً، وإنّما التخصيص بحسب الأدلة اللفظية والقواعد المقتضية لتقديمها فيرجع إلى التردد باعتبار التخصيص لا باعتبار الواقع.

ص: 330

أقول: أمّا الإشكال على الفرض الأوّل فلا دافع له، وأمّا على الفرض الثاني فإن القدر المتيقن كما يكون باليقين الوجداني كذلك يكون باليقين التعبدي، وحيث التزمنا أن الحجيّة إنّما تكون حسب المراد الواقعي فيكون العام حجة في الباقي بعد إخراج الأخص لولا معارضته بالخاص الأعم، وبذلك تنقلب النسبة على القول بها، فتأمل.

الصورة الثانية: أن يكون الخاصان - الأعم والأخص - متنافيين.

1- فإن لم يكن الأخص متصلاً بالعام كما لو قال: (يجب إكرام العلماء)، و(يحرم إكرام النحويين)، و(يستحب إكرام نحاة الكوفة)، فحينئذٍ لا بدّ من تخصيص الخاص بالأخص ثم تخصيص العام بالخاص المخصَّص، والوجه في ذلك: أن الخاص الأعم لا حجيّة له في الخاص الأخص، فلا يمكن قبل تخصيصه من أن يعارض العام، إذ لا بدّ من حجيّة المعارض لولا المعارضة، وحجيّة الخاص الأعم في الباقي إنّما تكون بعد تخصيصه بالأخص، وبعد صيرورته حجة في الباقي يعارض العام معارضة غير مستقرة ويرجح عليه لكونه أظهر، هذا كلّه في الخاصين - الأعم والأخص - المنفصلين عن العام.

2- وإن كان الأخص متصلاً بالعام، كما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين)، وقال: (لا تكرم النحويين)، فالنسبة بينهما العموم من وجه، حيث يجتمعان في عدول النحويين، ويفترقان في الصرفيين غير النحاة، وفي فساق النحويين.

فحينئذٍ لا ينعقد ظهور للعام في العموم الشامل للمتصل، وأمّا ظهوره في الباقي فيتوقف على جريان مقدمات الحكمة، فإن جرت انعقد الظهور في الباقي ونسبة هذا الباقي إلى الخاص نسبة العموم من وجه، وإن لم تجر

ص: 331

رجّح الخاص عليه لأنه هو القرينة المانعة عن انعقاد ظهور العام في الباقي.

فرع: لو كان عام مجرد، وعام متصل بالأخص، وخاص أعم، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(أكرم العلماء غير نحاة البصرة)، و(لا تكرم النحويين)، فقد ذكر المحقق النائيني(1)

ما حاصله: أن نسبة العموم من وجه كما تكون بين العام المتصل وبين الخاص، كذلك بين العام المجرد وبين الخاص.

وقد يستدل له: أوّلاً: بأن العام المتصل يدل بمنطوقه على انتفاء الحكم عن الخاص المتصل، وبمفهومه اللفظي على أن المراد الجدي من العام غير مورد الخاص المتصل، فيكون قرينة على أن المراد الجدي من العام المنفصل هو ذلك، ومن ذلك يتبيّن عدم جريان قاعدة عدم تنافي المثبتين هنا.

وثانياً: إن للخاص المنفصل معارض، فلا يكون صالحاً لتخصيص العام المجرد.

وفيه: أنه لا بدّ من علاج التعارض، فإن كان بترجيح الخاص فيكون حجة وبه يخصص العام المجرد، حيث إن النسبة هي العموم والخصوص المطلق، وإن كان بترجيح العام المتصل فلا بدّ من العمل بالعام المجرد لعدم وجود معارض له - مع غض النظر عما ذكر في الدليل الأوّل - وهكذا لو كان العلاج بالتساقط إذ يبقى العام المجرد من غير معارض.

القسم الثاني: عامّان من وجه مع خاص

وذلك على ثلاثة حالات:

ص: 332


1- فوائد الأصول 4: 744.

الحالة الأولى: أن يرد الخاص على المجمع، فيكون مخصصاً للعامين، وبذلك يرتفع التعارض بينهما، كما لو قال: (يجب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام الفساق)، و(يكره إكرام فسقة الشعراء).

الحالة الثانية: أن يرد الخاص على محل الافتراق من أحدهما، فإن أخرج تمام مورد الافتراق فلا بدّ في مورد الاجتماع من ترجيح عامه وإلاّ كان لغواً، ولو لم يُخرج الخاص إلاّ بعض أفراد عامه مما لا استهجان في الباقي فالتعارض بين العامين باقٍ، كما لو قال: (يستحب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام الفساق)، ثم خصص الأوّل بقوله: (يجب إكرام عدول الشعراء)، أو (يجب إكرام شعراء هذا البلد).

الحالة الثالثة: أن يرد الخاص على محل الافتراق من كليهما، كما لو قال: (يستحب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام الفساق)، و(يكره إكرام الشاعر العادل والفاسق غير الشاعر).

وحينئذٍ فحسب بعض المباني لا بدّ من تقديم الخاص على العامين فتنقلب النسبة بين العامين من العموم من وجه إلى التباين بعد خروج محلّي الافتراق وانحصارهما في المجمع، ففي المثل ينحصر العامّان في الشاعر الفاسق فيتعارضان بالتباين فلا بدّ من إجراء قواعد التعارض من التخيير أو الترجيح، وعلى المبنى الآخر: حيث علمنا إجمالاً بكذب أحد الأدلة وقع التعارض بينها، وقد مرّ البحث في المبنيين.

القسم الثالث: عامّان متباينان مع خاص

وله ثلاث حالات:

ص: 333

الحالة الأولى: كون الخاص لأحدهما، فعلى مبنى تقدم التخصيص يخصص العام بالخاص فتنقلب نسبته مع العام المجرد إلى العموم والخصوص المطلق، كما لو قال: (أكرم الشعراء)، و(لا تكرم الشعراء)، و(أكرم الشعراء العدول)، وكأدلة إرث الزوجة للعقار، فمنها: ما دل على عدم إرثها مطلقاً، ومنها: ما دل على إرثها مطلقاً، ومنها: ما دل على إرث خصوص أم الولد من زوجها المتوفى.

الحالة الثانية: أن يرد الخاص على كليهما مع عدم تنافي الخاصين، فعلى مبنى تقديم التخصيص يخصص العامّان وتنقلب النسبة إلى العموم من وجه ويحصل تعارض في المجمع، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم العلماء)، و(أكرم النحاة)، و(لا تكرم الأطباء)، وبعد التخصيص تكون النسبة بين: (أكرم العلماء إلاّ الأطباء)، وبين (لا تكرم العلماء إلاّ النحاة) العموم من وجه، فمورد الاجتماع: الفقيه غير الطبيب وغير النحوي، وموردي الافتراق: الطبيب غير النحوي والنحوي غير الطبيب.

الحالة الثالثة: أن يرد الخاص على كليهما مع تنافي الخاصين بالعموم من وجه، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم العلماء)، و(لا تكرم النحويين)، و(أكرم عدول العلماء)، وحينئذٍ لا يصح تخصيص العامين بالخاصين قبل رفع تعارض الخاصين، إذ لا حجيّة قبل رفع التعارض ولا تخصيص بغير الحجة، وحينئذ...

فإن قلنا: بشمول الأخبار العلاجيّة للعامين من وجه فلا فرق بين انقلاب النسبة وعدمها، إذ في مورد الافتراق يثبت الحكم إمّا بواسطة العامين بناءً

ص: 334

على الانقلاب وحصول التعارض في المجمع فقط، وإمّا بواسطة الخاصين بناءً على عدم الانقلاب، إذ مورد افتراق العام المطروح يثبت له الحكم بواسطة الخاص المخصص للعام المأخوذ به - تخييراً أو ترجيحاً - ، وهكذا في مورد الاجتماع لا يختلف الحال، إذ بناءً على الانقلاب يكون حكم المجمع الترجيح أو التخيير فحينئذٍ يثبت حكم أحد العامّين، وكذلك بناءً على عدم الانقلاب يؤخذ بأحد العامين تخييراً أو ترجيحاً فيثبت به حكم المجمع.

وإن قلنا: بعدم شمول الأخبار العلاجيّة للعامّين من وجه فتختلف النتيجة، إذ بناءً على الانقلاب يتساقط العامّان في المجمع ويكون المرجع الأصول أو القواعد الأخرى، وبناءً على عدم الانقلاب لا يكون الحكم التساقط إذ هما متساويان فتشملهما الأخبار العلاجيّة فيحكم في المجمع بحكم أحدهما تخييراً أو ترجيحاً(1).

المبحث الثاني: في تعدد النسبة

كما لو قال: (يجب إكرام الشعراء) و(يستحب إكرام العدول) و(يحرم إكرام فساق الشعراء) حيث إن النسبة بين الأوّل والثاني هي العموم من وجه وأمّا النسبة بين الأوّل والثالث فهي العموم المطلق.

فعلى القول بانقلاب النسبة يخصص الأوّل بالثالث، فتكون نتيجته (يجب إكرام الشعراء غير الفساق) وهو أخص مطلقاً من (يستحب إكرام العدول).

وأمّا على القول بعدم انقلاب النسبة، فتبقى النسبة بين الأوّل والثاني

ص: 335


1- راجع منتقى الأصول 7: 395.

العموم من وجه فيتعارضان في مورد الاجتماع.

القول الأوّل: الانقلاب، واستدل له بوجوه، منها:

الدليل الأوّل: ما استدل به الشيخ الأعظم على الترتيب في العلاج(1)

بما حاصله: أن عدم الترتيب يستلزم المحذور وهو إمّا بقاء العام بلا فرد وإمّا ترجيح الظاهر على الأظهر، إذ مع عدم تخصيص العام الأوّل بالخاص يستلزم طرح الخاص مع أنه أظهر من العام، ومع تخصيصه به وترجيح العام الثاني على العام الأوّل يلزم لغوية العام الأوّل إذ يبقى بلا مورد، ففي المثال: لو أخرجنا فساق الشعراء بقوله: (يحرم إكرام فساق الشعراء)، وأخرجنا عدول الشعراء بقوله: (يستحب إكرام العدول) بقي قوله: (يجب إكرام الشعراء) من غير فرد.

وأشكل عليه بوجوه، منها:

الإشكال الأوّل: ما ذكره السيد الوالد في الوصائل(2):

بأن ما ذكره هو وجه اعتباري وليس من مراعاة الظهور الذي هو المعيار في دلالة الألفاظ، وذلك لتحيّر العرف في هذه الجمل الثلاث حيث لا يدري ماذا يفعل بها بعد كونها في مرتبة واحدة من دون رجحان بعضها على بعض، ومعه فإذا كانت هناك قرينة تعيّن أحد الأطراف فهو، وإلاّ كان اللازم الرجوع إلى الأصول العملية.

الإشكال الثاني: إن الأمر لا ينحصر بين المحذور المذكور وبين انقلاب

ص: 336


1- فرائد الأصول 4: 111.
2- الوصائل إلى الرسائل 15: 242-243.

النسبة، حتى نضطر إلى الالتزام بالانقلاب بدلالة الاقتضاء، بل هناك شق ثالث هو تساقط الأدلة الثلاث.

وأجيب: بأن العام الثاني لا يصلح لمعارضة العام الأوّل، حيث إن حجيّته في المجمع تستلزم المحذور المذكور وقد مرّ أنه يشترط في المعارضة حجيّة كل من الطرفين أو الأطراف لولا المعارضة، فلو كان هناك مانع عن الحجيّة غير المعارضة لم يكن الدليل صالحاً لها، وعليه فحجيّة (يستحب إكرام العدول) في المثال حيث يستلزم المحذور المذكور مع قطع النظر عن المعارضة فلا حجيّة له فيبقى العام الأوّل وهو (يجب إكرام الشعراء) سليماً عن المعارض فتكون حجيّته فعلية.

الإشكال الثالث: ما لمّح إليه في الكفاية(1)

وحاصله: أن هذا ليس من انقلاب النسبة وإن كانت النتيجة هي نتيجة انقلاب النسبة.

وغير خفي أن هذا لا يضر بالمقصود وهو ترجيح العام الأوّل على العام الثاني في المثال ونحوه.

الإشكال الرابع: إنه لا ينعقد للعام المخصص ظهور في الباقي إلاّ بعد العلاج ونفي معارضة العام الآخر له، ومع عدم العلاج يكون مجملاً فلا يصلح لتخصيص العام الآخر أصلاً.

وأجيب: أوّلاً: بأن العام المخصص هو نص في منتهى التخصيص، فهو بهذا المقدار يقدّم على العام الآخر ويخصصه، وحينئذٍ يمكن التمسك بإطلاقه في جميع الباقي لعدم ورود بيان بالنسبة إليه.

ص: 337


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 303-304.

وثانياً: ما قد يقال: من أن احتمال القرينية لا يمنع عن انعقاد الإطلاق وإنّما ثبوت القرينة، ولذا فإن مطلق وجود المعارض لا يمنع عن انعقاد الإطلاق في الباقي، وإنّما وجود المعارض الأظهر، وهكذا في ما نحن فيه إذ المفروض أن النسبة العموم من وجه وهي لا توجب أظهريّة، كما لا جهة أخرى تجعل للعام الآخر أظهريّة، فتأمل.

الدليل الثاني: ما عن المحقق النائيني(1)

وحاصله: أن للكلام دلالة تصورية، ودلالة تصديقية تفهيميّة بمعنى أن المتكلّم أراد تفهيم المعنى المستفاد من الكلام، ودلالة تصديقية جدّية أي أن المراد تفهيمه هو المراد الجدّي للمتكلّم، وموضوع الحجيّة هو هذا، إذ الكشف النوعي للكلام عن المراد الجدّي هو الذي يكون موضوع الحجيّة عند العقلاء، والمعارضة بين الأدلة إنّما هي باعتبار الكشف النوعي لكل منها عن المراد الجدّي المنافي للآخر بحيث لا يمكن الالتزام بهما، وإلاّ فمع الغض عن المراد الجدّي لا تعارض بين الأدلة بلحاظ المستعمل فيه في كل منها، إذ مع العلم بأنه لا مراد جدّي على طبق المستعمل فيه المقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلة، ومع العلم بأن المراد الجدّي أضيق يتضيّق موضوع الحجيّة قهراً، ومعه تنقلب النسبة بالضرورة.

وعليه: تكون نسبة العام المخصص إلى العام المجرد نسبة الخاص إلى العام إذ ما يلحظ في مقام المعارضة أخص في العام المخصص عنه في العام المجرد.

ص: 338


1- أجود التقريرات 4: 301.

وأشكل عليه(1): أوّلاً: بأن الظهورين بما هما حجة - بحيث يكون وصف الحجيّة مقوماً لموضوع التعارض - لا يكونان طرف المعارضة، بل طرف المعارضة هما ذات الدليلين من غير اتصافهما بالحجيّة، إذ الاتصاف بها يكون بعد العلاج، فقد يتكافأ الدليلان فيسقطان معاً عن الحجيّة، وقد يقدّم أحدهما لكونه أقوى فيتصف بالحجيّة دون الآخر، كما لا يمكن أن يكون طرفا المعارضة ذات الظهورين بالمقدار الذي يكونان به موضوعاً للحجيّة، إذ الحجيّة الفعلية إنّما تكون بعد العلاج، والحجيّة الشأنية لا تتضيّق بالتخصيص، إذ الظهور يبقى على ما كان من قابليته للحجيّة لولا المعارض الأقوى!

وفيه: أن المعارضة إنّما تكون بعد ثبوت حجيّتهما لولا المعارضة، والعام الأوّل لا حجيّة له في العموم حتى مع عدم معارضته للعام المجرد، وذلك لوجود مخصص له فتحقق التعارض بين العامين إنّما يكون بعد تخصيص العام الأوّل، وبه يكون أضيق حسب المراد الجدّي!

وثانياً: إن العام الأوّل وإن صار بعد التخصيص أخص من العام المجرد، إلاّ أنه لا يصير أظهر فلا وجه لتقديمه عليه، حيث إن العام الأوّل حتى بعد التخصيص يبقى على ظهوره في العموم وإنّما تضيّقت حجيّته.

وعليه: فالباقي في العام المخصص مدلول للعام في ضمن دلالته على العموم، فلا يكون العام المخصص أقوى ظهوراً في الباقي من العام المجرد، إذ كل منهما يدل عليه ضمناً بلحاظ دلالته على العموم وإن كان أحدهما

ص: 339


1- منتقى الأصول 7: 355-357.

أضيق من جهة الحجيّة.

الدليل الثالث: وهو مبنائي، فإنه لو قيل بأن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق إنّما تكون بمقدمات الحكمة، وأن هذه المقدمات تجري في المراد الجدّي بحيث يكون الدليل المنفصل - فضلاً عن المتصل - موجباً لتضييق دائرة الإطلاق، فحينئذٍ لا يكون العام الأوّل دالاً على العموم كي يعارض العام المجرد، بل هو خاص بالنسبة إليه فيخصصه وتكون النتيجة هي نتيجة انقلاب النسبة قهراً.

القول الثاني: التفصيل، وذلك لأن تخصيص العام الأوّل في البداية ثم ملاحظة نسبته مع العام المجرد له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون العام الأوّل أظهر من العام المجرد، وحينئذٍ يقدّم على العام المجرد في مورد الاجتماع سواء قلنا بانقلاب النسبة أم لا، وسواء كان تخصيصه مقارناً لملاحظته مع المجرد أم متأخراً عنه، وذلك لأظهريته على كل حال.

الحالة الثانية: أن يكون العام المجرد أظهر، فإذا قدم التخصيص وصارت نسبة العام المخصص إلى العام المجرد نسبة العموم المطلق صار العام المخصص أظهر فيتقدم عليه، وأمّا إذا تقارن العلاج فإن العام المجرد يتقدم عليه لأظهريته.

وأشكل عليه(1): بأنه لا وجه لتقديم لحاظ الخاص على لحاظ العام الآخر، بل الوجه ملاحظتهما معاً ويخصص بهما العام لتساويهما في مقام

ص: 340


1- منتقى الأصول 7: 366.

المعارضة بالنسبة إلى العام، هذا بناءً على ما هو الصحيح من أن تقدم الخاص على العام إنّما يكون لأظهريته.

الحالة الثالثة: أن يكون العامان - المخصص والمجرد - متساويي الظهور.

فقد يقال: بلزوم ملاحظة الخاص أوّلاً ثم ملاحظة العام المخصص مع العام المجرد، وقد يستدل له:

أوّلاً: بالورود، إذ ملاحظة الخاص أوّلاً سبب تضييق دائرة العام المخصص، وبذلك يرتفع التعارض، وبعبارة أخرى: إن تحقق المعارضة إنّما هو بعد تمامية مقتضي الحجيّة لكلا الطرفين، وتقدم الخاص يرفع موضوع المعارضة رأساً، فلذا كان الورود!

وفيه: أن الورود فرع حجيّة الدليل الوارد، وقبل علاج المعارضة لا حجيّة ليكون وروداً.

وثانياً: إن المعارضة لا تكون إلاّ بعد تمامية المقتضي في كلا الدليلين، لأنها مانع وهو متأخر رتبة عن المقتضي، والخاص إن كان يحدّد ظهور العام فلا ظهور للعام في العموم قبل ملاحظة الخاص، وإن كان يحدّد حجيّته فلا حجيّة للعام المخصص إلاّ بعد تخصيصه.

وفيه:أن المعارضة إنّما تكون في ما هو حجة لولاها، والعام الأوّل حجة في العموم لولا العام الثاني ولولا المخصص فكلاهما مانع عن حجيّته لا أن أحدهما في رتبة المقتضي والآخر في رتبة المانع، فتأمل.

تكملة: في مثال تطبيقي في العارية

وردت أدلة متعددة في العارية وضمانها، وقد يدّعى انقلاب النسبة فيها،

ص: 341

فقد وردت أربع طوائف هي: 1- عدم الضمان في العارية مطلقاً، 2- وعدم الضمان إلاّ مع الشرط إلاّ في الدراهم، 3- وعدم الضمان إلاّ مع الشرط إلاّ في الدنانير، 4- وعدم الضمان إلاّ في الذهب والفضة.

والطائفة الأولى: عام فوقاني مجرد، كقول الصادق (علیه السلام): «ليس على المستعير عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(1).

والطائفة الثانية والثالثة: عام متصل بالأخص، كقوله (علیه السلام): «لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان إلاّ الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً»(2)،

وكقوله (علیه السلام): «ليس على صاحب العارية ضمان إلاّ أن يشترط صاحبها، إلاّ الدراهم فإنها مضمونة، اشترط صاحبها أم لم يشترط»(3).

والطائفة الرابعة: خاص أعم متصل بالعام كقوله (علیه السلام): «العارية ليس على مستعيرها ضمان، إلاّ ما كان من ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا»(4).

وهنا أربعة مطالب:

المطلب الأوّل: النسبة بين العام وبين الدرهم والدينار والاشتراط.

إن الطائفة الثانية والثالثة لهما عقد إيجابي هو الضمان مطلقاً في عارية

ص: 342


1- تهذيب الأحكام 7: 183؛ عنه وسائل الشيعة 19: 93.
2- الكافي 5: 238؛ عنه وسائل الشيعة 19: 96.
3- تهذيب الأحكام 7: 184؛ عنه وسائل الشيعة 19: 97.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 192؛ عنه وسائل الشيعة 19: 97.

الدرهم والدينار، وعقد سلبي هو عدم ضمان كل عارية لم يشترط فيها إلاّ الدرهم والدينار، والعقد الإيجابي فيهما يخصص الطائفة الأولى وكذلك العقد الإيجابي في رواية الدرهم يخصص العقد السلبي في رواية الدينار، وهكذا العقد الإيجابي في رواية الدينار يخصص العقد السلبي في رواية الدرهم، وكذلك الطائفة الثانية والثالثة تخصص الأدلة الدالة على عدم الضمان في ما إذا اشترط فيها، ولا معارضة في كل ذلك، بل عام له خواص غير متعارضة.

المطلب الثاني: النسبة بين الذهب والفضة وبين الدرهم والدينار.

فقد يقال: إن النسبة بينها العموم من وجه، فالعقد الإيجابي في الطائفة الرابعة يدل على ثبوت الضمان في كل عارية من الذهب والفضة سواء كان مسكوكاً أم غير مسكوك، فيكون معارضاً مع العقد السلبي في الطائفة الثانية والثالثة الذي يدل على عدم ضمان كل عارية غير مشروطة ما عدا الدرهم والدينار.

فمورد الاجتماع: الذهب والفضة غير المسكوكين حيث دلّت الرابعة على الضمان، والثانية والثالثة على عدم الضمان؛ ومورد افتراق الرابعة: المسكوك الذي هو الدرهم والدينار؛ ومورد افتراق الثانية والثالثة: هو ما لم يكن من الذهب والفضة كالكتاب والقلم(1).

وعليه: فعلى مبنى التساقط لا بدّ من الرجوع إلى العام الفوقاني وهو

ص: 343


1- ضمان عارية الذهب والفضة *** عدم ضمان عارية غير الدرهم والدينار الدرهم والدينار ---- الحلي والسبائك ---- الكتاب

الطائفة الأولى الدالة على عدم الضمان، وعلى مبنى انقلاب النسبة - بواسطة المخصص وإن كان منفصلاً - فالعام الفوقاني أيضاً يكون طرفاً في المعارضة، إذ بعد ورود الدليل على ضمان الدرهم والدينار تتضيق دائرة حجيّته، فيكون متطابقاً مع الطائفة الثانية والثالثة، وعليه فإمّا تتساقط جميع الطوائف ويكون المرجع الأصل العملي أو التخيير بينها - حسب المباني المختلفة - .

المطلب الثالث: النسبة بين دليل عدم الضمان إلاّ مع الاشتراط، وبين دليل ضمان الدرهم والدينار.

فقد قيل: بالتعارض بين العقد الإيجابي لكل منهما مع العقد السلبي للآخر.

أ- فإن العقد الإيجابي في دليل الاشتراط (بالضمان مع الاشتراط) ينافي العقد السلبي في دليل الدرهم والدينار (بنفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار سواء اشترط أم لا).

ب- كما أن العقد السلبي في دليل الاشتراط (بعدم الضمان مع عدم الاشتراط سواء كان درهماً وديناراً أم لا) ينافي العقد الإيجابي لدليل الدرهم والدينار (بثبوت الضمان في الدرهم والدينار ولو مع عدم الاشتراط).

وعليه: فلا بدّ من علاج تعارضهما أوّلاً ثم ملاحظة النسبة مع العام الفوقاني، وذلك لأن الخاص الذي له معارض لا يصلح لتخصيص العام، نعم القدر الجامع بين المخصصات وهو القدر المتيقن يخصص به العام حتى قبل العلاج وهو محل اتفاق الطائفتين أي ضمان عارية الدرهم والدينار مع

ص: 344

الاشتراط.

وفيه نظر: وذلك لأن دليل الاشتراط هو نفس دليل الدرهم والدينار، وفيه تصريح بثبوت الضمان في الدرهم والدينار حتى مع عدم الاشتراط كقوله (علیه السلام): «إلاّ الدراهم فإنها مضمونة اشترط صاحبها أم لم يشترط» وكقوله (علیه السلام): «إلاّ الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً».

وعليه: فلا معارضة بين العقد الإيجابي في الدرهم والدينار وبين العقد السلبي في الاشتراط، إذ الأوّل أخص مطلقاً من الثاني للتصريح بثبوت الضمان في مورد الاجتماع.

كما لا معارضة بين العقد السلبي في الدرهم والدينار بعدم الضمان في غيرهما وبين العقد الإيجابي في الاشتراط بالضمان مع الاشتراط، وذلك لأن استثناء الدرهم والدينار عن عدم الضمان كان بعد استثناء الاشتراط عنه فالعام قد اتصل باستثنائين وهما يخصصانه معاً، فلا معارضة أبداً لأن عقد السلب مضيّق منذ البداية بواسطة عقد الإيجاب.

وهكذا الأمر في روايه الذهب والفضة والاشتراط.

المطلب الرابع: النسبة بين دليل الاشتراط ودليل الذهب والفضة.

إن الدليل الدال على ضمان عارية الذهب والفضة دلّ على عدم الفرق بين الاشتراط وعدمه حيث قال (علیه السلام): «العارية ليس على مستعيرها ضمان، إلاّ ما كان من ذهب أو فضة، فإنهما مضمونان اشترطا أم لم يشترطا»(1)، وظاهر ذلك أن الضمان مع الاشتراط في غيرهما أمر مفروغ عنه، فلذا لا

ص: 345


1- من لا يحضره الفقيه 3: 192؛ عنه وسائل الشيعة 19: 97.

يكون عقد السلب (وهو عدم الضمان في العارية) مطلقاً ليشمل صورتي الاشتراط وعدمه في غير الذهب والفضة، وحينئذٍ تكون النسبة بين دليل الاشتراط ودليل الذهب والفضة العموم والخصوص المطلق.

فيكون حاصل الجمع بين الأدلة هو عدم الضمان في العارية، وثبوته في الذهب والفضة والدرهم والدينار حتى مع عدم الاشتراط، وأمّا في غيرها فلا ضمان إلاّ مع الاشتراط.

بل حتى لو قيل بأن النسبة هي العموم والخصوص من وجه بحيث يكون المجمع هو الحلي غير المسكوكة مع عدم الاشتراط، ومحل افتراق دليل الذهب والفضة هو الدرهم والدينار، ومحل افتراق دليل عدم ضمان غير الدرهم والدينار مع عدم الاشتراط هو مثل الكتاب... فحينئذٍ في المجمع لا بدّ من ترجيح دليل ضمان الذهب والفضة لئلا يكون لغواً، إذ لولا ذلك لكان دالاً على الفرد النادر حيث إنه من النادر استعارة الدرهم والدينار فلا بدّ من إدخال المجمع فيه بدلالة الاقتضاء، وذلك لأن ذكر المطلق وإرادة الفرد النادر منه مستهجن.

ص: 346

فصل في الأخبار العلاجيّة

اشارة

هل مدلولها وجوب الترجيح بذي المزيّة - المنصوصة أو الأعم - أم أن مدلولها التخيير!

وعمدة الأخبار هي مقبولة عمر بن حنظلة، ومرفوعة زرارة، والأخبار الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وأخبار التخيير، فلا بدّ من ملاحظة كل واحد منها ثم ملاحظة نسبة بعضها مع بعض، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في أخبار الترجيح

اشارة

وهي طوائف:

الطائفة الأولى: المقبولة والمرفوعة
1- أمّا المقبولة

فقد رويت في الكافي والتهذيب والفقيه عن عمر بن حنظلة قال: «سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث» إلى أن قال: «قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً» إلى أن قال: «قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا في ما حكما، وكلاهما اختلف في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في

ص: 347

الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى حكم الآخر. قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله» إلى أن قال: «قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة» إلى أن قال: «قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

وأشكل على الاستدلال بها تارة في سندها، وأخرى بعدم ارتباطها بما نحن فيه، وثالثة في إجمالها، ورابعة بمعارضتها لأخبار أخرى، فالإشكال من وجوه:

الوجه الأوّل: الإشكال في سندها.

وفيه: صحة سند الصدوق في الفقيه إلى عمر بن حنظلة، وهو من مشايخ الثلاثة فهو ثقة أيضاً على المبنى، مضافاً إلى عمل المشهور بها وتلقيهم إياها بالقبول، بل تسالم الأصحاب عليها، فلا إشكال في سندها.

الوجه الثاني: إنها مجملة، حيث إن ظاهرها يخالف ما هو المتسالم

ص: 348


1- الكافي 1: 68؛ تهذيب الأحكام 6: 218؛ من لا يحضره الفقيه 3: 8.

عليه، فلا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها، وذلك من جهات:

منها: أن فصل الخصومة لا يتناسب مع الرجوع إلى رجلين حيث لا تنحل الخصومة مع اختلافهما، وعليه فلا يُعلم الوجه في فرض التخاصم إلى رجلين!

وفيه: أن المفروض في المقبولة هو: «فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما» فالكلام في هذا الفرض سواء علمنا وجهه أم لم نعلم، بل تظهر الثمرة مع اتفاقهما في الحكم حيث يطيب خاطر المتخاصمين، كما أنه مع اختلافهما تُفصل الخصومة بالترجيح بالميزات، نظير استفتاء المقلدين في ما يختلفون فيه من مراجعهم حيث يكثر موارد اتفاقهم مما يرفع الاختلاف.

ومنها: أنه ورد في صدر المقبولة: «الراد عليهم كالراد علينا» وعليه فلا يحق لأحدهما الحكم بخلاف ما حكم به الآخر قبله، فكيف يمكن فرض صدور حكمين مختلفين عنهما؟

وفيه: أن مفروض السؤال رضاهما باثنين لا بواحد، فلا يكون حكم أحدهما نافذاً حتى لو سبق حكمه، كما هو شأن حكّام المراضاة، مضافاً إلى أن ظاهر المقبولة هو تداعيهما حيث يمكن أن يقال: إنه لا ينفذ حكم قاضي أحد المدعيين على المدعي الآخر إذا لم يكن قد رضي به بإنفراده، وأيضاً إن عدم جواز مخالفة حكمه إنّما هو في ما لم يُعلم خطؤه أو خطأ مستنده، ولعلّ المفروض في المقبولة علم كل واحد منهما بخطأ مستند الآخر، فإن عدم جواز الردّ إنّما هو لو حكم بحكمهم (علیهم السلام) لا مع خطئه في حكمه حسب تصور الحاكم الآخر.

ص: 349

ومنها: أن كل واحد من الحاكمين إمّا عثر على الرواية الأخرى أم لم يعثر عليها، وعلى كل حال لا يحق له الحكم، إذ على الأوّل لا بدّ له من ملاحظتها عند الحكم، وعلى الثاني لا يحق له الحكم مع عدم فحصه!

وفيه: أنه لعلّ كل واحد منهما عثر على رواية الآخر لكن رأى فيها خللاً في سندها أو دلالتها أو جهة صدورها، كما يشاهد في اختلاف الفتاوى مع اطلاع المختلفين على الروايات المختلفة التي كانت منشأ لاختلافهم، بل في القضاة حكام الشرع أيضاً.

ومنها: أنه لا بدّ للمتخاصمين من التعبد بحكم الحاكم الشرعي ولا يحق لهما التحرّي عن مستند حكمهما، فكيف يؤمران في المقبولة بالفحص عن مستند حكمهما؟

وفيه: أنه بعد عدم نفوذ حكم كل منهما - إمّا من باب أن التراضي حصل عليهما معاً لا على أحدهما، أو من باب أنه من التداعي وحكم كل واحد ينفذ على من راجعه دون الآخر الذي راجع غيره - كان لا بدّ من رفع الخصومة، فيكون حكمه (علیه السلام) إرشاد إلى كيفية رفعها عبر مراجعة المستند، مضافاً إلى أنه لا محذور في التحرّي عن المستند وعدم منافاته للتعبد بحكم الحاكم لاحتمال وجدان خلل فيه يراجع فيه إليه مرّة أخرى لتنبيهه على خطئه إن كان، كما أنه لا محذور في العمل بما في المقبولة من التحرّي حين اختلافهما في الحكم.

الوجه الثالث: عدم ارتباطها بما نحن فيه، من جهات متعددة:

منها: أن موردها قضية قضائية في تنازع في دين أو ميراث، ولا يصح

ص: 350

تعميمها إلى الترجيح في مقام الفتوى، إذ دلّت المقبولة على الترجيح بين قاضيين، ومع تساويهما فالترجيح بين مستندهما من الخبرين، حيث لا يمكن التخيير في مقام فصل الخصومة إذ كل خصم يختار الخبر الذي هو بصالحه، وقطع الخصومة - الذي لا بدّ منه في القضاء - يقتضي الأخذ بذي المزيّة، وأمّا في غير الخصومة كمقام الإفتاء فلا محذور في التخيير حيث يمكن الأخذ بأيٍّ منهما من باب التسليم.

وفيه: أن المورد وإن كان في المتخاصمين إلاّ أن الظاهر أن الإمام (علیه السلام) طبق القاعدة العامة في الخبرين على المورد، فظاهر تتمة المقبولة أن الملاك هو الترجيح بين الخبرين، حتى أن صفات القاضي - من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة - إنّما هي من باب كونه راوي الحديث الذي حكم به فرجع ذلك إلى الميزة في الخبر، ويؤيد ذلك فهم المشهور عموم الوارد مع قطع النظر عن خصوصية المورد.

مضافاً إلى ما في المنتهى: من «أن التخيير هو في المسألة الأصولية - أي أخذ أحدهما حجة - فالترجيح أيضاً يكون معناه أخذ ذي المزيّة حجة، فإذا كان ما هو الحجة هو ما له المزيّة وغيره ليس بحجة فلا فرق بين أن يكون المجتهد في مقام الحكم أو مقام الفتوى، وفي كليهما يجب أن يعمل على طبق الحجة، وأمّا احتمال أن الشارع جعل ما له مزية حجة في باب الحكم دون الفتوى فبعيد بل عجيب»(1).

هذا مضافاً إلى التعليل بقوله: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» وهذا التعليل

ص: 351


1- منتهى الأصول 2: 770.

يشترك فيه الحكم والفتوى.

ومنها: ظهورها في عدم كون التعارض بين السندين - حيث بحثنا الآن - بل في مقام آخر هو تمييز الحجة عن اللاحجة، لأن المشهور بمعنى الظاهر الواضح، وهو يساوق الاطمئنان كما يدل عليه قوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ونفي الريب ظاهر في حصول الاطمئنان به، وكذا قوله (علیه السلام): «أمر بيّن رشده» حيث هو أمر ارتكازي طبّقه الإمام (علیه السلام) على المجمع عليه وذلك يدل على كونه مقطوع الصدور، وكونهما مشهورين كما فرض الراوي يعنى كونهما مقطوعي الصدور فلا تعارض حينئذٍ بين السندين، فلا دلالة للمقبولة على ما نحن فيه.

ويرد عليه: أوّلاً: إن الشهرة قد تكون عن الإمام (علیه السلام) وهي بمعنى تواتر الخبر عنه، وقد تكون عن الراوي فيكون الخبر كغيره من الأخبار لا يوجب اطمئناناً بصدوره عن الإمام (علیه السلام) ، ومن المتعارف إطلاق الشهرة على هكذا أخبار.

وثانياً: إن تفسير المشهور بالوضوح الموجب للقطع لا يتناسب مع صدر المقبولة حيث تقديم الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة، فإن مخالف المشهور حسب هذا التفسير لا حجيّة فيه فلا تصل النوبة إلى النظر في صفاته.

وثالثاً: إن القطع بصدور أحدهما لا يلازم القطع بعدم صدور الآخر، بل يمكن صدورهما معاً - كما فرض الراوي من كونهما مشهورين - فلذا يكون الترجيح بأخذ سند المقطوع وترك سند غير المقطوع، فرجع الأمر إلى الترجيح بالسند.

ص: 352

ورابعاً: إن كون المجمع عليه لا ريب فيه لا يراد به عدم الريب من جهة المضمون إذ فرض كونهما مشهورين لا ينسجم مع هذا المعنى، بل المراد لا ريب في صدوره أو لا ريب في كونه حجة، وكون الآخر فيه الريب لا يدل على عدم صدوره أو عدم كونه حجة في نفسه، بل لمّا عارضه المقطوع الصدور صار من المشكل الذي لا بدّ من ردّ علمه إلى الله ورسوله وعدم العمل به، وهذا لا ينافي حجيّته في نفسه لولا المعارض، فتأمل.

والحاصل: أن دلالة الرواية على الترجيح بالسند في مقام الفتوى لا غبار عليه.

ومنها: أن الراوي يفرض أن الحاكمين يستندان إلى الكتاب والسنة، فمعنى ذلك كون كلامه في ما كان قطعي الصدور وإنّما اختلافهما في الاستظهار منهما.

وفيه: إن فرض الراوي ليس في ما استظهراه من الكتاب والسنة، وإنّما فرضه في ترجيح كل واحد منهما خبراً وقد استظهر مطابقته للكتاب، مع إمكان موافقة كلا الخبرين لظاهر الكتاب، فليس الكلام في تعارض قطعيّي الصدور كما هو واضح حيث قال الراوي: «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة...».

ومنها: اختصاص المقبولة بزمان الحضور حيث يمكن الوصول إلى الإمام (علیه السلام) بقرينة قوله في آخرها: «فأرجه حتى تلقى إمامك».

وفيه: إن هذا ينافي أخبار التخيير، لأن حمل الترجيح ثم التوقف على زمان الحضور يستلزم حمل أخبار التخيير على زمان الغيبة، وهو غير

ص: 353

معقول، لأن أكثر أخبار التخيير إنّما هي في جواب من سئل عن حكم التعارض وكان ذلك قبل زمان الغيبة بأكثر من مائة عام!

الوجه الرابع: وجود المعارض للمقبولة، وذلك من جهات أيضاً:

منها: أخبار التخيير حيث إن العمل بالمقبولة يستلزم حمل أخبار التخيير على موارد نادرة جداً، إذ قلّما يكون الخبران متساويين، فتخصيص أخبار التخيير بها يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

وفيه: إن الموارد التي لا يعلم بوجود هذه المرجحات فيها كثيرة، وكذا ما تساوت فيه أو ترددنا فيها، فإن المراد من أخبار الترجيح هو مورد العلم بهذه الميزات، ولا علم غالباً، وحتى لو كانت المرجحات في مقام الثبوت، فإنّما الإثبات طريق إليها، والجمع بين أخبار التخيير والترجيح يقتضي حملها على الترجيح في ما لو علمنا بها دون ما لو لم نعلم.

ومنها: أن أمره (علیه السلام) بالإرجاء بعد فقد المرجحات المذكورة خلاف أخبار التخيير، بل خلاف المشهور من التخيير عند فقدها.

وفيه: أن التوقف خاص بزمان يمكن فيه لقاء الإمام (علیه السلام) وهو زمان الحضور بقرينة قوله (علیه السلام): «فأرجه حتى تلقى إمامك»، والتوقف في زمن إمكان ذلك لا يخالف المشهور، وحتى لو فرض معارضة هذا المقطع لأخبار التخيير المعمول بها فعدم العمل بجزء من الخبر لا يسقط سائره عن الحجيّة، وأمّا الترجيح فليس خاصاً بزمان الحضور لأولوية زمان الغيبة عن زمانه، فإنه لو جاز أو وجب الترجيح مع إمكان الوصول إلى الإمام وتحصيل العلم بعد فترة ليست بالطويلة فالترجيح في زمان عدم إمكان

ص: 354

الوصول إليه أولى، بل إن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم اختصاص الترجيح بزمان دون زمان كما قيل.

فتحصل من كل ذلك اعتبار المقبولة ودلالتها على الترجيح مع وجود المرجحات.

2- وأمّا المرفوعة

فهي ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي عن العلامة الحلي رفعه إلى زرارة قال: «سألت أبا جعفر (علیه السلام) فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. قلت: يا سيدي إنهما مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. قلت: فإنهما معاً عدلان مرضيان موثقان؟ قال: انظر ما وافق العامة فاتركه وخذ بما خالف فإن الحق في خلافهم. قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال (علیه السلام): إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت: فإنهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما ودع الآخر»(1).

وأشكل عليها: بإشكالات منها:

الإشكال الأوّل: في سندها حيث إنها مرسلة، بل لا توجد في المجاميع، ولم نجدها في كتب العلامة، مع ما في العوالي من نقل الأخبار الضعاف وأخبار العامة.

ص: 355


1- عوالي اللئالي 4: 133؛ عنه مستدرك الوسائل 17: 303.

ويمكن أن يقال: إن إرسالها لا يضر بعد أخذها مؤيدةً للمقبولة، ولا ضير في عدم وجودها في المجاميع لأنها لا تحتوي إلاّ على ما اختاره أصحابها من الأصول الأربعمائة وغيرها، كما أن بعض كتب العلامة مفقودة لم تصلنا، ولا بأس بجمع مختلف الأخبار لعلّها تكون شاهداً أو مؤيداً.

الإشكال الثاني: في دلالتها حيث إنها في تمييز الحجة عن اللاحجة فلا ترتبط بما نحن فيه، وذلك لأن الأعدلية المذكورة فيها منسلخة عن معنى التفضيل بقرينة سؤاله بعد ذلك بقوله: «فإنهما معاً عدلان مرضيان موثقان».

وفيه: إن فرض تساويهما في العدالة هو فرض آخر لا ينافي فرض أعدلية أحدهما، فيكون حاصل الفقرتين: رجح بالأعدلية، فإن تساويا في العدالة فبمرجح آخر، وعليه فلا يكون قرينة على رفع اليد عن ظاهر أفعل التفضيل.

الإشكال الثالث: معارضة المقبولة لها في ترتيب المرجحات وفي اختلافهما في المرجحات المذكورة فيهما، حيث إن ظاهر الخبرين هو وجوب مراعاة المرجحات بحسب الترتيب المذكور فيهما، ففي المقبولة الترجيح بالصفات كالأعدلية ثم الشهرة ثم موافقة الكتاب ومخالفة العامة ثم ميل حكامهم ثم الإرجاء حتى يلقى إمامه، وفي المرفوعة: الشهرة ثم الأعدلية والأوثقية ثم مخالفة العامة ثم الاحتياط ثم التخيير.

والجواب: أوّلاً: بناءً على التعدّي إلى الميزات غير المنصوصة يكون المقصود هو الاكتفاء بوجود ميزة من غير ترتيب بحيث يكون الخبر أقرب إلى الواقع - كما سيأتي - فيكون الترتيب غير لازم المراعاة.

ص: 356

وثانياً: على فرض لزوم الترتيب، فإن كلا الخبرين اتفقا على تقديم الشهرة، لأن الأعدلية وأخواتها في المقبولة ترتبط بمرجحات الحكم القضائي لا مرجحات الرواية فهي خارجة عن دائرة البحث، وعليه فلو تعارض الخبران في الباقي فإن ذلك لا ينافي حجيّة ما اتفقا فيه، مع ترجيح المقبولة في ما اختلفا فيه.

وثالثاً: إنه لا تعارض في باقي الفقرات أيضاً لأن المرفوعة - على فرض حجيّتها - ذكرت الأعدلية والأوثقية، والمقبولة مطلقة من هذه الجهة فلا محذور في تقييدها بالمرفوعة، كما أنه لا محذور في تقييد المرفوعة بالمقبولة في موافقة الكتاب ومخالفته - اللذين لم يذكرا في المرفوعة - كما أن الاحتياط لا ينافي الإرجاء حتى لقاء الإمام إذ لا محذور في الاحتياط حتى مع العلم بالحكم فعليه فيمكن أن يكون وجوب الاحتياط خاصاً في زمان الظهور بعين ما ذكرناه في الإرجاء في المقبولة، كما يمكن تقييد التخيير بصورة عدم إمكان لقاء الإمام (علیه السلام) .

والحاصل: أن العمل إنّما هو بالمقبولة، وأمّا المرفوعة فهي مؤيد لها في ما اتفقا فيه وهو الابتداء بالترجيح بالشهرة وأمّا سائر الفقرات فإن أمكن الجمع بينهما فهو، وإلاّ فالعمل بالمقبولة.

الطائفة الثانية: أخبار موافقة الكتاب ومخالفته

وهذه الأخبار طائفتان.

فمنها: ما كانت في التباين الكلي وغير خفي أن المخالف له بهذا المعنى باطل وزخرف وليس بحجة والموافق له حجة قطعاً، وليس الكلام في هذه الطائفة.

ص: 357

ومنها: ما كانت المخالفة للظاهر الظني للكتاب كالعموم والخصوص، وهذا قد وقع كثيراً إذ ما من شك في تخصيص ظاهر الكتاب بالخبر الواحد، بل وقع تخصيصه بالخبر المتواتر، ولا تعارض إذ لا يعقل تعارض العِلمين، وعليه فلو تعارض خبران أحدهما موافق لعموم الكتاب مثلاً والآخر مخصص له، فهل يلزم ترجيح الأوّل على الثاني؟

وهي أخبار مستفيضة معمول بها، واضحة الدلالة، فمنها: المقبولة والمرفوعة، ومنها: روايات رواها الراوندي في رسالته وقد رواها عنه في الوسائل(1)

كالذي رواه بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه...»(2)،

ومنها: خبر العيون عن الإمام الرضا (علیه السلام): «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب»(3).

والحاصل: أن في هذه الأخبار كفاية، وإن أشكل على الاستدلال بها بعض من جهة السند تارة ومن جهة الدلالة أخرى إلاّ أنها إشكالات غير واردة.

الطائفة الثالثة: أخبار مخالفة العامة وموافقتهم

وهي أخبار مستفيضة واضحة الدلالة معمول بها فلا بدّ من العمل بها،

ص: 358


1- وسائل الشيعة 27: 118-119.
2- وسائل الشيعة 27: 118.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 2: 20؛ عنه وسائل الشيعة 27: 114.

فمضافاً إلى المقبولة والمرفوعة، ما في صحيحة الراوندي الآنفة الذكر: «فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»، وخبره الآخر: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف القوم»، وما رواه الكليني في مقدمة الكافي: «فإن الرشد في خلافهم»(1) وما رواه في الاحتجاج: «خذ بما خالف العامة»(2).

الطائفة الرابعة: أخبار الترجيح بالأحدث

1- فمنها: خبر الحسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أ رأيت لو حدّثتك بحديث ثم جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت آخذ بالأخير. قال لي: رحمك الله»(3).

2- ومنها: خبر أبي عمرو الكناني: «قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): يا با عمرو، أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبت يا با عمرو، أبى الله إلاّ أن يعبد سراً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم، أبى الله عزّ وجلّ لنا في دينه إلاّ التقية»(4).

ص: 359


1- الكافي 1: 7؛ عنه وسائل الشيعة 27: 112.
2- الاحتجاج: 357؛ عنه وسائل الشيعة 27: 122.
3- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 109.
4- الكافي 2: 173؛ عنه وسائل الشيعة 27: 112.

ويرد على الاستدلال بهما:

أوّلاً: إنهما في مورد القطع بالصدور لأن الراوي سمع مباشرة كلا الحديثين أو الفتويين، فلا ارتباط لهما بما نحن فيه من ترجيح أحد السندين على الآخر.

وثانياً: إن ظهور الخبرين في مورد التقية، إذ الحديثان إمّا يرويهما الإمام (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لم ينسبهما إليه - وإن كان كل حديثهم عنه - فعلى الأوّل يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما عن الرسول (صلی الله علیه و آله) إذ لا نسخ بعد كمال الدين يوم الغدير، وحينئذٍ لا يعلم الأحدث منهما وإن كان الإمام (علیه السلام) ذكر أحدهما مقدماً والآخر مؤخراً، فيكون ذكره للمنسوخ من دون ذكر الناسخ حينذاك ناشئاً عن التقية، وعلى الثاني فحيث لا نسخ يكون أحد الحكمين لبيان الحكم الواقعي دون الآخر، ولا يكون ذكر خلاف الحكم الواقعي إلاّ للتقية، وعلى جميع الفروض لا بدّ من الأخذ بالأحدث حتى لو لم يذكر ذلك في الأخبار، لأن الحكم الواقعي إن كان المذكور أوّلاً فمعنى ذلك أنه حين المذكور أخيراً كان الظرف ظرف تقية وحينئذٍ يجب العمل بها، وإن كان الحكم الواقعي هو المذكور أخيراً فمعناه انتهاء ظرف التقية فيجب العمل بالحكم الواقعي حينئذٍ.

وثالثاً: ما قيل: إنه إن لم يكن للتقية فمعنى ذلك أن المذكور في البداية هو حكم صوري، وإنّما الحكم الواقعي هو المتأخر، ومع اشتباه المتقدم والمتأخر يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة - حيث إن أحدهما معلوم عدم كونه حكماً واقعياً لكنه غير مميز - وعليه فلا يبقى مورد للترجيح ولا للتخيير، وهذا خلاف الضرورة وخلاف النصوص الدالة على الترجيح.

ص: 360

وفيه: إن موارد الاشتباه كثيرة خاصة في الروايات المنسوبة إلى إمام واحد، مع احتمال صدورهما لبيان الحكم الواقعي بأن كان الواقع هو التخيير فذكر الإمام تارة هذا وأخرى ذاك كما سيجيء بيانه، مضافاً إلى أنه لا محذور في جعل الترجيح حين اشتباه الواقع بغير الواقع، بأن يكون المرجَّح إن أصاب الواقع حكماً واقعياً وإن لم يصبه حكماً ظاهرياً تجعل له حجيّة كذلك مع عدم حجيّة الآخر، فتأمل.

3- ومنها: موثقة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام): «قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يتهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟ قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(1).

ويرد على الاستدلال به: أنه من المقطوع به أنهم (علیهم السلام) لا يفتون خلاف ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وليس كلامهم ناسخاً لكلامه، بل إن أولئك الأقوام علموا بالمنسوخ فرووه ولم يعلموا بالناسخ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإنّما علمه الأئمة (علیهم السلام) فحدثوا به، فيكون معنى الحديث وجوب العمل بالناسخ دون المنسوخ، وهذا أجنبي عمّا نحن فيه، مضافاً إلى ما قيل: من أن الظاهر هو القطع بخبرهم (علیهم السلام) وكذا بما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا ربط له بالترجيح بين السندين الظنيين.

4- ومنها: خبر المعلى بن خنيس قال: «قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ قال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله، قال: ثم قال لي أبو

ص: 361


1- الكافي 1: 52؛ عنه وسائل الشيعة 27: 108.

عبد الله (علیه السلام): إنا والله لا ندخلكم إلاّ في ما يسعكم» قال الكليني: «وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث»(1).

ويرد على الاستدلال به: إن ظاهره كونه في التقية حيث إن الأئمة (علیهم السلام) أعرف بها كما قال (علیه السلام): «لا ندخلكم...»، مضافاً إلى اختصاص ذلك بزمان الحضور، ومع تعميمه إلى زمان الغيبة فهي خاصة بما يقوله المجتهد الجامع للشرائط في الأمور العامة من التقية فيها وعدمها.

ومن ذلك يتبين أن مرجع هذه الروايات إلى الترجيح بمخالفة العامة، أو لزوم العمل بما تقتضيه ظروف التقية فلا دلالة لها على الترجيح بالأحدث مطلقاً.

تتمة فيها مطالب
المطلب الأوّل: في التعدي عن المرجحات المنصوصة

وفيه قولان:

القول الأوّل: التعدي إلى كل ميزة توجب الأقربية إلى الواقع وإن لم تكن منصوصة، واستدل له الشيخ الأعظم(2)

بوجوه أربعة.

الوجه الأوّل: وحاصله استكشاف علة الترجيح في المنصوصة من بعض الأخبار العلاجيّة، فإن الترجيح بمثل (الأصدقيّة) و(الأوثقيّة)، إنّما هو لأجل كون هذا الخبر أقرب إلى الواقع، فكانت الأقربية إلى الواقع هي المناط وعليه فكل ما أوجب أقربية الخبر إلى الواقع يكون مرجحاً!

ص: 362


1- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 109.
2- فرائد الأصول 4: 76-78.

وأشكل عليه: بأن هذا المناط ليس مقطوعاً به، مع اشتراط القطع في تنقيح المناط، فإن مجرد كون هذه المرجحات توجب الأقربية إلى الواقع لا توجب كون الأقربية هي العلة، لاحتمال أنّ تكون لتلك المرجحات خصوصية أوجبت الترجيح بها، مع أن بعض تلك المرجحات كالأفقهيّة لا توجب كون الخبر أقرب إلى الواقع، فإنه لا فرق بين الفقيه والأفقه بل الفقيه وغير الفقيه في نقل الخبر أصلاً.

الوجه الثاني: التعليل في المقبولة بقوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» إذ المراد نفي الريب بالإضافة إلى الخبر الآخر، لا نفي الريب مطلقاً بحيث يكون مقطوعاً به من جهة السند والدلالة والجهة، إذ على هذا لا معنى لفرضهما مشهورين لامتناع القطع بالمتعارضين، ومقتضى التعليل التعدّي إلى كل ميزة توجب أقليّة الريب في الخبر بالنسبة إلى معارضه.

إن قلت: إن الاحتمال الأظهر هو نفي الريب في الخبر المشهور في حدّ نفسه بما يوجب الاطمئنان بصدوره عن الإمام (علیه السلام) وخاصة في عصر الصدور حيث قلة الوسائط ومعرفة الرواة بعضهم لبعض، وعليه فلا مانع من حجيّة كل خبر يُطمئن بصدوره من غير حاجة إلى هذا التعليل.

قلت: إن الكلام في الأخذ الفعلي بالمشهور للعلة المذكورة، وغير خفي أن مجرد الاطمئنان بالسند لا يوجب لزوم الأخذ بالخبر قبل تمامية الدلالة وجهة الصدور، ومع تماميتهما لا معنى لفرض خبرين متعارضين كذلك، وعليه فلا بدّ من حمل «لا ريب» على الإضافي على كل حال، إذ الاطمئنان بصدور الخبر لا يلازم الاطمئنان بدلالته وجهة صدوره.

ص: 363

الوجه الثالث: التعليل بقوله: «فإن الرشد في خلافهم» حيث إن المراد بالرشد هو الأقربيّة إلى الواقع، وحيث إن العلة تعمم فكل مزية توجب الأقربية إليه لا بدّ من الترجيح بها.

وأشكل عليه بإشكالات منها:

الإشكال الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أن قوله: «الرشد في خلافهم» فيه ثلاث احتمالات: حُسن نفس المخالفة مع قطع النظر عن الواقع، أو أن الحق في طرف المخالف غالباً للاطمئنان بوجود خلل في الخبر الموافق بحيث إنه إمّا لم يصدر أو صدر للتقية، أو أن الموافق يحتمل فيه التقية بما لا يحتمل في المخالف، فعلى الأوّل لا ربط له بالأقربية إلى الواقع، وعلى الثاني والثالث يخرج عن محل البحث حيث إن الاطمئنان بعدم صدوره أو صدوره للتقية يسقطه عن الحجيّة رأساً فلا يُعارض المخالف، والحاصل: أن «الرشد في خلافهم» لا يدل على أن العلة هي الأقربية للواقع على جميع الاحتمالات.

وفيه: كثرة الاتفاق في الأحكام بين الخاصة والعامة ولذا فالمخالفة في نفسها لا توجب الاطمئنان بالرشد دائماً، كما أن جعلها من المرجحات دليل على أنه لا اطمئنان بصدور الموافق أو بعدم صدور المخالف أو كونه تقية.

الإشكال الثاني: أن نفس المخالفة تكون أمارة ظنية توجب الظن بنفس الخبر المخالف مع قطع النظر عن المعارض فالتعدّي يقتصر فيه على مثل ذلك ولا بأس به.

ص: 364


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 270.

وأجيب(1): أن كون الرشد في خلافهم إنّما يكون أمارة ظنية على كون الحق في ما خالف العامة، لا كون الحق هو الخبر المخالف، لأن المخالف للعامة أعم من مفاد خصوص هذا الخبر وغيره، وذلك لتنوع الأحكام، فتعليل الأخذ بالمخالف بها إنّما يتجه باعتبار إيجابها كون المخالف أقرب إلى الحقيقة والواقع من الموافق لكونه أحد مصاديق المخالفة، لا باعتبار أنه بنفسه قريب إلى الواقع، فلا بدّ من التعدّي إلى كل مورد يكون أحد الخبرين أقرب إلى الواقع من معارضه وإن لم تقم أمارة على قربه في نفسه! فتأمل.

الإشكال الثالث: إن هذا التعليل ظاهر في كونه تعليلاً للجعل لا للمجعول، ولا تعدّي في علة الجعل إذ غالباً لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، وإنّما التعدّي في علة المجعول حيث إن الشارع جعل الحكم فيه دائراً مدار العلة فتعمّم وتخصّص، قال المحقق العراقي: «بعد عدم كون الرشد جزمياً، أنه يدور الأمر فيه بين كونه رشداً واقعياً غالبياً ملحوظاً في نظر الشارع في مقام الترجيح به، نظير غلبة الإيصال إلى الواقع التي هي حكمة في جعل الطرق غير العلمية في أصل التعبد بالخبر، وبين كونه رشداً إضافياً بالقياس إلى الخبر الموافق لهم، أو رشداً ظنياً أو اطمئنانياً بنظر المكلّف، والأوّل أظهر، ولو لم يكن أظهر فلا أقل من احتماله المانع عن الظهور في الأخيرين، ومع ذلك لا يبقى مجال استفادة المناط من التعليل به حتى يتعدّى إلى كل ذي مزية، خصوصاً بعد العلم بأنه ليس كل ما يخالفهم

ص: 365


1- منتقى الأصول 7: 421.

مظنة الحق ولا كل ما يخالفهم مظنة خلاف الحق لمكان القطع بأن كثيراً من الأحكام توافق مذهبهم، فإن ذلك يوجب خروج التعليل المزبور عن ضابط منصوص العلة التي أمر تطبيقها بيد المكلّف، فلا يصلح للحكم بالترجيح إلاّ بنظر الشارع، نظير غلبة الإيصال إلى الواقع في جعل الطرق غير العلمية لا بنظر المكلّف إلاّ في فرض إحرازه، فقوله: «الرشد في خلافهم» هو علة تشريع الحكم وليس ضابطاً كلياً للمكلّف كي ينطبق عليه منصوص العلة فيتعدّى إلى غير مورده»(1)،

فتأمل.

القول الثاني: عدم الترجيح بالمرجحات غير المنصوصة.

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: ما عن المحقق الخراساني في حاشية الرسائل(2) وحاصله: إن أخبار الترجيح بيّنت التخيير عند فقد المرجحات المذكورة، ولو فهم الراوي عموم الترجيح كان ينبغي له السؤال عن صورة التساوي في مطلق المزايا وبهذا العنوان، لا التساوي في المرجحات المذكورة قبله، بل لم يكن معنى لسؤاله عن المرجحات واحداً بعد آخر أصلاً!

وفيه: أن بعض المزايا قد تكون خفيّة فلعلّه أراد التأكد من كونها كذلك، ويكون الترتيب في كلام الإمام (علیه السلام) لأشديّة القرب في المذكورات، كما أن إطلاق التخيير في آخر تلك الأخبار يمكن تقييده بالعلة المذكورة قبله، ولا محذور في ذلك أصلاً، فتأمل.

ص: 366


1- نهاية الأفكار 4 [ق2]: 194.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفوائد: 458.

الدليل الثاني: ما في المنتهى(1)

من أن إطلاقات التخيير يجب الأخذ بها إلاّ في مورد قام الدليل على تقييدها، وقيام الدليل على تقييدها يكون بالنسبة إلى المرجحات المنصوصة فقط - وهو نفس هذه الأخبار - وأمّا غير المنصوصة فلم يقم دليل على التقييد إلاّ ما ذكره الشيخ، وكلّها محل تأمل، وأمّا الدوران بين التعيين والتخيير فهو أصل قد هدمه دليل التخيير.

المطلب الثاني: أنواع المرجحات

إن المرجح قد لا يكون مستقلاً عن الخبر ويسمّى المرجح الداخلي، كصفات الراوي، وقد يكون مستقلاً لا ارتباط له بالخبر لكن يتطابق مضمونه مع مضمون الخبر ويسمّى المرجح الخارجي.

والمرجحات الخارجية على أصناف: منها: ما ليست بحجة لعدم الدليل على حجيّتها كالشهرة الفتوائية، ومنها: ما ليست بحجة للمنع عنها كالقياس، ومنها: ما تكون حجة في نفسها لكنها لا تعاضد المضمون كالأصول العملية حيث لا ترتبط بالواقع وإنّما تبين الوظيفة العملية، ومنها غير ذلك.

أمّا الأولى: فقد يقال بلزوم الترجيح بها إن كان المبنى الترجيح لا التخيير، والتعدّي من المنصوصة إلى غير المنصوصة.

لا يقال: إن الأمارة الظنيّة - كالشهرة الفتوائية - إذا طابقت أحد الخبرين ظننا بخلل في الآخر إمّا بظن عدم صدوره، أو ظن أنه لم يصدر لبيان الواقع، ومع الظن بالخلل فيه يسقط عن الحجيّة، فيكون من تعارض الحجة

ص: 367


1- منتهى الأصول 2: 772.

باللاحجة! كما عن الشيخ الأعظم(1).

لأنه يقال: إن كان المراد عدم وجود شرائط الحجيّة، فيرد عليه: بأنا قد نقطع بوجود تمام شرائطها في الخبر غير الراجح من صحة السند ومخالفة العامة... الخ، وإن كان المراد الظن بعدم مطابقته مع الواقع، فيرد عليه: أنه لا يشترط في لزوم العمل بالخبر أن يظن بمطابقته للواقع بل يلزم العمل به وإن كان يظن بمخالفته له، كما ذكر ذلك صاحب الكفاية(2).

أقول: على ما يظهر من مبنى الشيخ في حجيّة الخبر الواحد من أنه لا بدّ من الوثوق بصدوره فلا يرد عليه ما ذكر.

وأمّا الثانية: فإن كان النهي عن مطلق استعمالها في الدين كالقياس، فلا يجوز الترجيح بها، لأن الترجيح مرتبط بالدين حيث يتم تغيير الوظيفة الشرعية من التخيير إلى التعيين عبر الترجيح كما هو واضح.

وأمّا الثالثة: فقد يقال: بعدم الدليل على الترجيح بالأصل العملي، كما لو فرض وجود روايتين في طهارة أو نجاسة شيء فإن أصالة الطهارة لا تعضد الدالة على الطهارة، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: استلزام الترجيح المحال، لأن موضوع الأصول العملية هو الشك في الحكم الواقعي، ومع وجود الدليل لا موضوع للأصل، فترجيح أحد الدليلين به يستلزم عدم الترجيح به.

الوجه الثاني: إن ملاك التعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها

ص: 368


1- فرائد الأصول 4: 140.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 324-325.

هو الأقربية إلى الواقع أو الظن به، والأصل لا يوجب أيّاً منهما حيث إنه وظيفة الشاك.

ولا ينفع التفصي بأن دليل الأصل قد يكون خبراً معتبراً. وذلك لأن تلك الأدلة لا تقوّي مضمون الخبر الموافق للأصل، وعليه فلا ترجيح بالأصل، وإنّما التخيير أو التساقط.

المطلب الثالث: في ترتيب المرجحات
اشارة

غير خفي أن المرجحات قد ترتبط بالصدور كالشهرة وصفات الراوي، وقد ترتبط بالمضمون أي أنه الحكم الواقعي كموافقة الكتاب، وقد ترتبط بجهة الصدور أي كون الإمام (علیه السلام) بصدد بيان الحكم الواقعي لا في مقام التقية.

وقد اختلفوا في أنها في عرض واحد بحيث لو كان مرجح منها في خبر ومرجح آخر في خبر آخر حصل التزاحم بينهما، أم أنها مرتبة فيقدّم بعضها على بعض، على أقوال:

القول الأوّل: إنها في عرض واحد

واستدل له: أوّلاً: بما في الكفاية(1)

من أنها في عرض واحد بناءً على التعدّي من المنصوصة إلى غيرها، لأن المناط حينئذٍ الأقربية إلى الواقع، وكل مزية توجب الأقربية، فتكون جميع المزايا في عرض واحد، فيقع التزاحم بينها فيقدّم الأقوى ملاكاً وإلاّ فالتخيير عملاً بإطلاقاته، نعم بناءً على عدم التعدّي فلكونها مرتبة حسب ما في الروايات وجه وجيه.

ص: 369


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 307-309.

وثانياً: بما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: رجوع جميع المرجحات إلى الصدور، إذ لا معنى للتعبد بصدور كلام ليس في مقام بيان المراد الواقعي بل في مقام الخوف والتقية مثلاً، أو التعبد بصدور كلام ليس مضمونه تمام المراد، فالذي لم يحرز أنه في مقام بيان مراده أو لم يحرز أن مضمونه تمام مراده فالتعبد بصدوره لغو، فالمرجح بالجهة - مثل مخالفة العامة - يرجع إلى أن الخبر المخالف لهم أقرب إلى صدوره من الخبر الموافق لهم، وكذلك المرجح المضموني فالموافق للكتاب أقرب إلى الصدور من الآخر المخالف له.

ويمكن أن يقال: إنه إن استفيد من التعليل في المقبولة التعميم لكل مزية توجب الأقربية إلى الواقع، فإن ظهور المقبوله في الترتيب مقدم على ظهور العلة في التعميم، وبعبارة أخرى: إن هنا ظهورين، أحدهما: ظهور التعليل بقوله: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» و«الرشد في خلافهم» في أن المناط هو الأقربية إلى الواقع، والآخر: الترتيب في المقبولة بين الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وحينئذٍ الجمع بين الظهورين وعدم رفع اليد عن أيٍّ منهما يقتضي القول بأن الترتيب في المقبولة إنّما هو لكون ما هو مذكور أوّلاً يوجب الأقربية إلى الواقع بالنسبة إلى المذكور ثانياً، وهكذا بالنسبة إلى المزايا غير المذكورة.

وإن لم يستفد التعليل من المقبولة فالترتيب أوضح.

ص: 370


1- مقالات الأصول 2: 484-485.
القول الثاني: تقديم المرجح الصدوري على المرجح بالجهة

وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(1)، واستدل له بما حاصله: أن المرجح بالجهة إنّما يرجع إليه في الخبر الثابت صدوره، لأن الجهة متفرعة على الصدور، وبعبارة أخرى: إن كون الصدور لتقية إنّما هو بعد إثبات صدوره، وإلاّ فالكلام غير الصادر لا معنى للبحث عن كونه لتقية أم لا.

وعليه: فمع كون أحد الخبرين مرجّح صدوراً بما يعني عدم صدور الآخر فلا وجه للنظر في كون ذلك الآخر مخالف للعامة وليس للتقية، وذلك لانتفاء صدوره تعبداً.

وأشكل عليه: أوّلاً: برجوع المرجح بالجهة إلى الصدور، وذلك للغويّة التعبد بالصدور مع الالتزام بكونه صادراً عن تقية!

وفيه: أن رجوع المرجح بالجهة إلى الصدوري لا يوجب كونهما في عرض واحد وذلك لحكومة أو ورود المرجحات الصدورية على المرجح بالجهة، ففي المنتقى(2) ما حاصله: أن احتمال التقية وعدمه متفرع على أصل الصدور، أي إنّما يثبت بعد فرض صدوره، وبعبارة أخرى: إن محتمل التقية وغير محتمله إنّما هو الكلام الصادر واقعاً دون غيره، وموضوع الترجيح بالجهة هو عدم احتمال التقية، فالترجيح إنّما يكون لغير محتمل التقية على فرض صدوره، والمرجح الصدوري يرفع تعبداً موضوع هذا المرجح - وهو أصل الصدور - فينتفي الترجيح به لارتفاع موضوعه، دون العكس، لأن

ص: 371


1- فرائد الأصول 4: 136-138.
2- منتقى الأصول 7: 436.

المرجح بالجهة في الخبر المخالف - وإن كان يرجع إلى مقام الصدور أي يرجح صدوره على غيره - إلاّ أنه بتحكيمه لا يرتفع المرجح الصدوري في الخبر الموافق لعدم كون موضوعه أصل الصدور.

وثانياً: بأن المناط إن كان الأقربية للواقع، فالترجيح بكل ما أوجب الأقربية، سواء كان بالجهة أم صدورياً.

وفيه: أنه بناءً على الحكومة أو الورود - كما ذكرناه في جواب الإشكال السابق - فلا يبقى مجال لكونهما في عرض واحد، فلا تزاحم.

القول الثالث: تقديم المرجح بالجهة على المرجح الصدوري

وهو منسوب إلى المحقق الرشتي(1)، واستدل له بما حاصله: أن كل خبر وإن كان يشتمل على مقامات ثلاث - الصدور وجهة الصدور والدلالة - إلاّ أن التعبد مع احتمال المخالفة للواقع من هذه الثلاث إنّما هو تعبد واحد، ومفاده لزوم الأخذ بالخبر والبناء على أنه هو الواقع، وعدم الاعتناء بما يوجب الخلل في الصدور أو الجهة أو الدلالة، وليس التعبد يتعدد بتعدد المقامات بحيث يلغى احتمال الخلل في مقام معين بخصوصه، وعليه فمع كون الخبر قطعياً من بعض الجهات فالتعبد به يرجع إلى إلغاء احتمال الخلل في غيرها، فإذا كان الخبر مقطوع الصدور كان احتمال الخلل فيه أقل لكونه من جهتين، وعليه: فتقديم ذي المزيّة بالجهة على الآخر مع قلة احتمال المخالفة فيه يستلزم بالبداهة تقديمه على الآخر مع كثرة احتمال الخلاف فيه، كما إذا كان ظني الصدور لكون احتمال الخلاف فيه من

ص: 372


1- بدائع الأفكار: 457.

جهاته الثلاث.

وفيه: أنه لا أولوية لأن الخبرين مقطوعي الصدور يتساويان من حيث الصدور وفي أحدهما مزية مخالفة العامة دون الآخر، أمّا في ما نحن فيه ففي أحد الخبرين مزية في الصدور وفي الآخر مزية في الجهة وحينئذٍ فيتكافئان من حيث احتمال مخالفة الواقع، مع ما سبق من انتفاء موضوع التعبد بالموافق بالحكومة.

فتحصل: أن في حجيّة كل خبر لا بدّ من إحراز صدوره إمّا وجداناً بالقطع وإمّا تعبداً بأدلة حجيّة خبر الواحد، ومن إحراز مراد المتكلّم بالتعبد بظهور كلامه بدليل بناء أهل المحاورة على إرادة المعنى الحقيقي مع عدم القرينة وإرادة المعنى المجازي معها مع إمضاء الشارع لذلك، ومن إحراز جهة الصدور بأن المتكلّم في مقام بيان مراده الواقعي بدليل بناء العقلاء الممضى.

فأمّا الصدور فمقدّم على الجهة بالحكومة أو الورود كما ذكرنا، وأمّا الصدور والظهور فهما في عرض واحد للغويّة التعبد بكل ٍ منهما من دون الآخر، وأمّا الجهة والمضمون فيتساويان لأن كل منهما مرجح لكون الخبر هو الواقع ولعله لذلك قرنهما في المقبولة معاً بحيث كانا في عرض واحد فيها.

المطلب الرابع: في المتعارضين من وجه

إذا كانت النسبة بين الخبرين المتعارضين العموم والخصوص من وجه، فهل تشملهما الأخبار العلاجيّة - بالترجيح أو التخيير - أم لا فيرجع إلى الأصل الأوّلي وهو التساقط!

ص: 373

1- قد يقال: بالتساقط في مادة الاجتماع، وقد يستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: إن السند لا يتبعض فالخبر إمّا صادر أو غير صادر، فالرجوع إلى المرجحات الصدورية يستلزم إسقاط مادة الافتراق من غير وجه، فينحصر الترجيح في ما يرجع إلى المدلول حيث إن المدلول قابل للتبعيض لتعدد أفراده أو أصنافه، فلا بدّ حينئذٍ في مادة الاجتماع من إعمال المرجحات المضمونية أو المرجحات بالجهة، وبذلك يعمل بكليهما في مادة الافتراق مع الأخذ بالمرجح في المجمع، ومرجع ذلك ليس إلى التعبد بالصدور أو عدم الصدور ليقال إنه لا يتبعّض، بل مرجعه إلى عدم حجيّة الخبر المرجوح في المجمع بمعنى عدم كاشفيته عن المراد الواقعي بالنسبة إلى بعض المدلول بعد الفراغ عن صدوره.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأن الأخبار العلاجيّة إنّما هي بعد تحقق التعارض بين الخبرين من جهة صدورها حيث ترجع جميع المرجحات إلى الصدور، ومع عدم تحقق التعارض في الصدور لا موضوع للأخبار العلاجيّة.

وفي ما نحن فيه لا تعارض في مقام الصدور لإمكان العمل ببعض المدلول دون بعض فلا يكون التعبد بصدور الخبرين لغواً، لأن إمكان العمل ببعض المدلول يرفع لغوية التعبد به.

وفيه: أن رجوع المرجحات إلى الصدور لا ينافي إطلاق الأخبار العلاجيّة وذلك في ما لو كان محذور في الترجيح بالصدور كمحذور عدم إمكان التبعيض في الصدور، كما لا ينافي جريان ملاكها كما لو كان خبران قطعيان مع موافقة أحدهما للعامة ومخالفة الآخر لهم.

ص: 374

وثانياً: بإمكان التبعيض في حجيّة الصدور حتى مع عدم إمكان التبعيض خارجاً، نظير ما لو قامت بينة بملكية زيد عشرة دنانير وبينة أخرى بملكيته خمسة فقط، حيث يتساقطان في خمسة وتبقى حجيّة الأولى في الخمسة الأخرى.

وفيه: إن التبعيض في مورد البينة إنّما هو في المدلول وليس في الصدور ولا في حجيّته، فالصدور مقطوع به وجداناً فلا معنى للتعبد به، فالحجيّة في المدلول، وليس كلامنا فيه.

وثالثاً: بأن التبعيض الخارجي غير ممكن، وأمّا التبعيض التعبدي فلا محذور فيه، ولذا كثيراً ما يتم التفكيك بين اللازم والملزوم وبين المتلازمين في مقام التعبد، اللهم إلاّ أن يدّعى انصراف الأخبار العلاجيّة عن المتعارضين بالعموم من وجه وظهورها في الخبرين المتباينين، والظاهر عدم الانصراف فلا محذور من شمول الأخبار العلاجيّة لهما.

الدليل الثاني: إن إسقاط أحد الدليلين في مادة الاجتماع ليس من جهة التعبد بعدم صدوره، بل من جهة عدم كاشفيته عن المراد الواقعي بالنسبة إلى بعض المدلول - وهو المقدار الذي عارضه الدليل الآخر - وذلك بعد الفراغ عن صدوره، وعليه فليس الترجيح بالمرجحات الصدورية، وإنّما بالمرجحات بالجهة والمضمون في مادة الاجتماع مع العمل بكليهما في مادة الافتراق(1)،

ومرجع هذا إلى عدم رجوع مرجحات الجهة والمضمون إلى الصدور ولو في هذا المورد.

ص: 375


1- منتهى الأصول 2: 788.

2- وقد يقال: إن التعارض لا يختص بمورد الاجتماع، بل هو بين الخبرين بتمام مدلولهما، حيث إن التنافي وإن نشأ من بعض المدلول إلاّ أنه يسري إلى تمام المدلول باعتبار أن كل واحد منهما كلام واحد.

وأشكل عليه: بأن الخبر كما له مدلول مطابقي كذلك له مدلول تضمني، فالأخبار العلاجيّة كما تشمل بعمومها التعارض بالمطابقة كذلك تشمل المعارضة بالتضمن، وحيث لا تنافي في تمام المدلول اختصّت في المورد بالتعارض في الخبر الضمني، وليس ذلك خلاف ظاهر الأخبار العلاجيّة بعد إلغاء الخصوصية أو المناط.

تتمة: لو كان العامان من وجه مطلقين فتعارضا في بعض المصاديق بحيث يكون منشأ التعارض إطلاق كليهما، فقد قيل: بأنه لا يتحقق التعارض فلا تجري الأخبار العلاجيّة، وذلك لعدم تمامية مقدمات الحكمة فيهما، فيكون كل منهما دالاً على الطبيعة المهملة، لأن الإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة إنّما هو بحكم العقل، ولا حكم له بإطلاقهما لأنه حكم بالضدين، ولا بإطلاق أحدهما لأنه ترجيح بلا مرجح، وعليه فيسقط الدليلان في مادة الاجتماع من الأساس.

وأشكل عليه في المنتقى(1)

بما حاصله: أن إجراء مقدمات الحكمة إمّا من الراوي أو من المكلّف.

فعلى الأوّل: فإن نقل الراوي بالمعنى فمعنى ذلك أنه هو الذي أجرى مقدمات الحكمة واستفاد الإطلاق من كلام الإمام (علیه السلام) إذ النقل بالمعنى هو

ص: 376


1- منتقى الأصول 7: 444-445.

الإخبار بصدور الدال على هذا المعنى من المعصوم، فحينئذٍ يكون كلا الخبرين مطلقين متعارضين في مادة الاجتماع. وإن نقل باللفظ، فإن مقدمات الحكمة من الأمور الواقعيّة المستفادة من الراوي، فعلمنا بعدم نصب القرينة إنّما هو من الراوي، وكذا كون الإمام (علیه السلام) في مقام البيان يعرف من ملاحظة خصوصيات الحديث وشؤونه، وهذا يرتبط بالراوي، وعليه فالإطلاق يكون مدلولاً لكلام الراوي وليس خصوص الطبيعة المهملة.

وعلى الثاني: إن مجري مقدمات الحكمة ليس المراد الجدّي بل المراد الاستعمالي، فلا محذور من انعقاد الإطلاق في كل منهما، نظير العامّين بالوضع، فكما يتعارض العامّان في مورد الاجتماع كذلك المطلقان من غير فرق لا موضوعاً ولا حكماً، فتأمل.

المطلب الخامس: المراد بالشهرة في الأخبار العلاجيّة

إن الشهرة على أقسام:

فمنها: الشهرة الروائية بين الرواة، سواء كانت الشهرة في كل الطبقات أم في بعضها وإن كانت الأولى توجب أقوائية الخبر، ولا إشكال في شمول الشهرة في الأخبار العلاجيّة لهذا القسم.

ومنها: الشهرة العملية، بأن يفتي الفقهاء بالاستناد إلى الخبر، ولا إشكال أيضاً في الترجيح بهذا القسم، حتى لو فرض عدم شمول الشهرة في الأخبار العلاجيّة لها، وذلك لأن هذه الشهرة توجب الجبر والكسر حتى مع عدم وجود المعارض، فالخبر المعرض عنه ليس بحجة أصلاً فلا يعارض الخبر المعمول به لأنه الحجة.

ص: 377

ومنها: الشهرة الفتوائية من دون الاستناد إلى هذا الخبر، نعم لو علمنا باستنادهم إليه ولو من دون تصريحهم رجعت إلى الشهرة العملية، كما لو أفتى القدماء بأمر ووجدنا فيه رواية ضعيفة ولا احتمال لوجود دليل آخر من قاعدة أو رواية معتبرة خفيت علينا، فحينئذٍ يحصل الاطمئنان بأن فتواهم مستندة إلى هذا الخبر، أمّا مع وجود قاعدة معتبرة عندهم أو احتمال وجود خبر آخر استندوا إليه فلا ترتبط شهرتهم بالخبر الواصل إلينا فلا يجبر ضعفه، وهكذا في الخبرين المتعارضين إذا كانت الشهرة متطابقة مع مضمون أحدهما من دون استنادهم ظاهراً إليه.

والحاصل: أن الشهرة الفتوائية بين المتأخرين لا تكشف عن وجود خبر آخر، ولا عن اعتمادهم إلى هذا الخبر الموجود، بل قد تكون بناءً على قواعدهم وأصولهم، فلا تكون جابرة ولا مرجحة، وأمّا الشهرة الفتوائية بين المتقدمين فقد تكشف عن اعتمادهم على هذا الخبر فيكون مجبوراً وتكون مرجحة، وقد لا تكشف فلا تكون جابرة ولا مرجحة.

المبحث الثاني: في أخبار التخيير

اشارة

وقد استدل بروايات متعددة على التخيير، ومع ثبوتها سنداً ودلالة تكون عامة، وتُخصص بأخبار الترجيح، فكلّما كان بين المتعارضين مرجح أخذ به وإلاّ كان التخيير بينهما.

وقد استدل له بمجموعة من الأخبار...

1- منها: خبر الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا (علیه السلام) ، قال: «قلت له: يجيئنا الأحاديث منكم مختلفة؟ فقال: ماجاء عنا فقس على كتاب الله عزّ

ص: 378

وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منا، وإن لم يكن يشبههما فليس منا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال (علیه السلام): فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت»(1).

وظهور التخيير في آخر الحديث مما لا ينكر، لصراحته فيه.

وأشكل عليه: 1- بضعف السند بالإرسال، 2- وبأن فرضه وثاقتهما ظاهر في اطمئنانه بصدورهما مع عدم علمه بأن المراد الواقعي أيٌّ منهما، 3- وبأن المشابهة علامة قطعية لمن أنس بكلامهم (علیهم السلام) ، فتكون الرواية من تمييز الحجة عن اللاحجة، وذلك لا يرتبط ببحث التعارض، 4- وبأن آخر الحديث يدل على التخيير مطلقاً لا بعد فقد المرجّح.

ويرد عليها: أن الأخبار مستفيضة ويعاضد بعضها بعضاً فلا محذور في ضعف سند بعضها، وبأن الوثاقة أعم من الاطمئنان بالصدور وعدمه، وبأن الحديث مقطعان والقسم الثاني منه ما لم يعلم الراوي المشابهة وعدمها فلا يكون من التمييز المذكور، وبأن الحديث مطلق تخصصه أخبار الترجيح، وعليه فدلالة الخبر على التخيير تامة.

2- ومنها: خبر الحرث بن المغيرة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه»(2) والمعنى موسع عليك بالأخذ بأيّهما وهو معنى التخيير.

وأشكل عليه: بإشكالات، منها:

ص: 379


1- الاحتجاج: 357؛ عنه وسائل الشيعة 27: 121.
2- الاحتجاج: 357؛ عنه وسائل الشيعة 27: 122.

الإشكال الأوّل: إن هذا الخبر يدل على حجيّة خبر الواحد الثقة مع قطع النظر عن المعارضة، وعليه فمعنى التوسعة إمّا موسع عليه بالعمل بذلك الخبر وعدم لزوم الاحتياط، وإمّا موسع عليه من جهة الحكم الواقعي لو فرض مخالفة الخبر له، وعلى فرض كونه في مقام بيان حكم المتعارضين، فيحتمل أن يكون المراد التوسعة في عدم العمل بأيٍّ من الخبرين وهو بمعنى التساقط، ولا ترجيح لحمله على أن يكون المراد التوسعة في العمل بأحدهما تخييراً.

وفيه: أوّلاً: أن كلامه (علیه السلام) مغيّى بقوله: «حتى ترى القائم فترد إليه» مع وضوح أن حجيّة الخبر الواحد غير مغيّاة بذلك بل يمكن العمل به حتى مع إمكان الوصول إلى الإمام (علیه السلام) بل حتى مع الوصول إليه، فلا حاجة إلى سؤاله (علیه السلام) عن الخبر، مضافاً إلى أن تعليق التوسعة على وثاقة الكل لا يناسب تعدد المخبر به إذ حجيّة كل واحدة منها لا ترتبط بوثاقة راوي الأخبار الأخرى، فمع وثاقة الراوي يجوز العمل بخبره سواء كان راوي غيره ثقة أم لا، وإنّما المناسب لهذا التعليق هو وحدة الواقعة مع تعارض أخبار الثقات فيها.

وثانياً: ظهور التوسعة في التخيير، لا في الاحتمالات الأخرى، فإنها خلاف الظاهر، وخاصة مع قوله: «فموسع عليك» حيث إنه ظاهر في عدم الإلزام بالأخذ بالخبر، وهو لا يتناسب مع حجيّة خبر الثقة فإنه يجب العمل به لو كان حكمه إلزامياً.

الإشكال الثاني: إنها خاصة بزمن الحضور والتمكن من الوصول إليه فلا ترتبط بزمان الغيبة!

ص: 380

وفيه: أنه إذا لم يجب الاحتياط في زمن الحضور مع قلة مدته وإمكان الوصول إلى الإمام (علیه السلام) ففي زمان الغيبة يكون بطريق أولى، مضافاً إلى أنه بمعنى إمكان حصول العلم ومن الواضح إنه غاية الحكم الظاهري.

3- ومنها: صحيحة علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن (علیه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (علیه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: صلّهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّهما إلاّ على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك؟ فوقّع (علیه السلام): موسّع عليك بأيّة عملت»(1)،

وهو واضح في التخيير في العمل بأيٍّ من الخبرين.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأن ذلك في حكم استحبابي وهو نافلة الصبح، إذ قد يتسامح في المندوبات بما لا يتسامح في غيرها، فلا يمكن إلغاء الخصوصية.

وثانياً: عدم التعارض بين الخبرين المذكورين، لإمكان الجمع العرفي بينهما بالحمل على الفاضل والأفضل، حيث إن الأوّل نص في الجواز والثاني ظاهر في الحرمة فيحمل الظاهر على الأظهر بكونه مكروهاً بمعنى كونه أقل ثواباً، فجواز العمل بهما لا يرتبط بالتخيير بين المتعارضين.

وثالثاً: لعل الحكم الواقعي في هذا المورد هو التخيير فكان كل خبر بيان لأحد شقّي التخيير، فبيّن الإمام (علیه السلام) ذلك.

إن قلت: إنّه ليس من موارد التخيير، وذلك للعلم بجواز الصلاة على

ص: 381


1- تهذيب الأحكام 3: 328؛ عنه وسائل الشيعة 4: 330.

الأرض وإنّما المشكوك جوازها في المحمل، فلا يظهر من الأمر في قوله: «صلّهما في المحمل» التعيين، بل هو إباحة في مقام توهم الحظر حيث إن الأمر دائر بين جواز الصلاة في المحمل وعدم جوازه، وليس دائراً بين جوازها على الأرض فقط وبين جوازها في المحمل فقط كي يظهر كونه بياناً للحكم الواقعي التخييري، وعليه فظاهره التخيير في الأخذ بإحدى الروايتين وهو التخيير في المسألة الأصولية!

قلت: التعارض حاصل بين الجواز في المحمل وهو ظاهر الحديث الأوّل، وعدم الجواز فيه وهو ظاهر الحديث الثاني، مع دلالة الأدلة الأخرى على أن مصلّي النافلة مأمور استحباباً بإقامتها سواء على الأرض أم على المحمل فالتخيير في الحكم الواقعي ثابت أيضاً من غير هذا الخبر، وعليه فيحتمل إرادته لذلك، نعم مناسبة الجواب مع السؤال تجعل الظهور للتخيير في المسألة الأصولية.

إن قلت: إن الأنسب لمقام الإمام (علیه السلام) هو بيان الحكم الواقعي لا الظاهري.

قلت: لعلّه أراد بيان الحكم العام في المسألة الأصولية وهو أنسب من بيان الحكم الواقعي في أمر مستحب من المسائل الفرعية!!

4- ومنها: مكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان (علیه السلام): «يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه أن يكبر ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته؟ فكتب الجواب: إن فيه حديثين: أمّا أحدهما: فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير، وأمّا

ص: 382

الأخرى: فإنه روي: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبيرة، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1).

وأورد عليه: ما أورد على سابقه من إمكان الجمع العرفي، ومن كونه في المستحبات، ومن احتمال كونه تخييراً واقعياً.

مضافاً إلى أن أحد الخبرين مطلق والآخر مقيّد فالحكم هو عدم استحباب التكبير في هذا الموضع بخصوصه وإنّما استحب لكونه ذكراً في نفسه والذكر مستحب في جميع أحوال الصلاة، وعليه فلا تعارض ولا تخيير!

وفيه: أن ظاهر كلام السائل أنه سئل عن التكبير بعنوان أنه بعد التشهد الأوّل وبعنوانه الخاص لا عن استحبابه بعنوانه العام من كونه ذكراً، من غير فرق بين أن نقول بوجود الجزء المستحب في الصلاة الواجبة أم لا مع كون مكان مخصوص منها ظرفاً له.

5- ومنها: موثقة سماعة عن الصادق (علیه السلام) ، قال: «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه كلاهما يرويه، أحدهما يأمره بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه»(2).

وجه الاستدلال أن ذلك بمعنى السعة في الأخذ بأحدهما حتى يلقى الإمام أو من يخبره باليقين، وهذا هو معنى التخيير.

ص: 383


1- الاحتجاج: 483؛ عنه وسائل الشيعة 27: 121.
2- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 108.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأن الإرجاء لا يناسب التخيير، إذ في التخيير يكون في السعة من أوّل الأمر، ومن خلاف الظاهر حمل الإرجاء في مقام النسبة إلى الإمام وحمل السعة في التخيير في مقام العمل، وعليه فلعل المعنى كونه في سعة من الحكم الواقعي مع التوقف في العمل بأيٍّ منهما، فيكون نظير قوله: «الناس في سعة ما لا يعلمون»!

وثانياً: إن موردها في الدوران بين المحذورين - حيث الترديد بين الوجوب والحرمة - والحكم في هذا المورد هو التخيير العقلي، ولا ارتباط له بالتخيير بين الخبرين!

وفيه: إنه مع الشك في حجيّة الخبرين مع إمكان المكلّف عدم العمل بهما بأن لم يكونا في الضدين اللذين لا ثالث لهما أو في النقيضين، فلا يكون من الدوران بين المحذورين، إذ يمكن أن يكون الحكم الواقعي هو الإباحة.

6- ومنها: ما في الكافي: «وفي رواية أخرى بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»(1).

7- ومنها: ما في مرفوعة زرارة: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»(2).

وبعد ذلك نقول: إن مجموع هذه الأخبار مع صحة سند بعضها ووضوح دلالة بعضها، وعمل المشهور بها قديماً وحديثاً توجب الاطمئنان والحجة على ثبوت التخيير الشرعي بين الخبرين المتعارضين، لكن مع تقييدها

ص: 384


1- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 108.
2- عوالي اللئالي 4: 133.

بأخبار الترجيح، فكلّما فقد الترجيح ثبت التخيير.

ثم إن بعض الأخبار قد دلت على التخيير المطلق كقوله: «فموسع عليك بأيهما أخذت»، وبعضها دلت على التخيير حين عدم التمكن من الوصول إلى الإمام (علیه السلام) كقوله: «فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه».

وقد يقال: بعدم التعارض بينهما لأنهما مثبتين مع عدم ثبوت وحدة المطلوب. فتحصّل: أن التخيير المستفاد من الأخبار إنّما هو بعد فقد المرجحات، لأن أحدهما إن كان راجحاً فلا حجيّة للآخر كي يعارضه لتصل النوبة إلى التخيير، وإنّما يلزم حجيّة كل واحد منهما في نفسه لولا المعارضة كما مرّ.

وعليه: فلا بدّ من الفحص عن المرجحات، لأن الفحص عنها فحص عمّا هو الحجة نظير توقف إجراء الأصول على الفحص عن الأمارات كما مرّ تفصيله في بحث البراءة.

تتمّات:

التتمّة الأولى: في الجمع بين أخبار التخيير والتوقف

ثم إن بعض الأخبار دلّ على التوقف في زمن الحضور كقوله في آخر المقبولة: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

ولم نجد خبراً يدل على التوقف مطلقاً، وأمّا قوله (علیه السلام): «ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا»(1) فأجنبي عن التوقف لدلالته على

ص: 385


1- السرائر: 479؛ عنه وسائل الشيعة 27: 120.

وجوب الأخذ بالخبر المعلوم الصدور وردّ المشكوك الصدور إليهم فلا يعمل به لعدم حجيّته رأساً.

وقد يقال: بحصول التعارض بين ما دلّ على التوقف في حال الحضور وما دلّ على التخيير مطلقاً، وحيث إن النسبة بينهما العموم المطلق فلا بدّ من تقييد مطلقات التخيير بغير حال الحضور كما عليه المشهور.

وأشكل عليه: بأن بعض الأخبار دلت على التخيير في زمن الحضور فتعارض ما دلّ على التوقف في زمانه فيتساقطان فتبقى أخبار التخيير مطلقاً سليمة عن المخصص.

وأجيب: بأن لا وجود لأخبار دالة على التخيير في خصوص زمان الحضور، ولو فرض وجودها فلا بدّ من إلغاء الخصوصية لبُعد تخصيص التخيير بزمان الحضور مع إمكان الوصول إلى الإمام ولو بعد حين وعدم التخيير في زمان عدم الحضور مع عدم إمكان الوصول إليه عادة!

التتمّة الثانية: التخيير مع اختلاف النُسخ

قد يقال: إن أدلة التخيير لا تشمل اختلاف نُسخ الرواية الواحدة، حيث إن قوله (علیه السلام): «يأتي عنكم الخبران المختلفان» وقوله: «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين» ظاهر في أن يكون هناك خبران كل واحد منهما يعارض الآخر بالمطابقة أو بالالتزام، ولا يدخل فيه اختلاف النُسخ، لأن معنى اختلافها هو أن الخبر المعيّن إمّا هذا أو ذاك!

ويرد عليه: أوّلاً: أنه لا فرق في رواية نفرين بين أن يسمع شخصان عن الإمام شيئاً فيرويانه مختلفاً كأن يروي أحدهما أنه سمع (يجب) والآخر أنه

ص: 386

سمع (لا يجب) مثلاً، وبين أن يكون ذلك عن الرواة عنهما، واختلاف النُسخ كذلك إذ لا بدّ من وثاقة الناسخ أو تأييد ما كتبه كما هو دأب علمائنا الأبرار حيث كانوا يقرأون الكتاب أو يقرأ عليهم ويصحّحونه!

وثانياً: لو سلّم عدم الشمول فإن الملاك جار في اختلاف النسخ.

التتمّة الثالثة: في كيفية الفتوى بالتخيير

الفتوى بالتخيير:

تارة تكون: باختيار المجتهد أحد الخبرين ثم الفتوى به.

وتارة: بالتخيير في المسألة الأصولية بأن يسوغ للمقلّد الأخذ بأحد الخبرين ولو كان على خلاف ما اختاره المجتهد لنفسه.

وتارة: بالتخيير في المسألة الفرعية بأن يذكر أنه مخيّر بين الحكمين نظير التخيير في خصال الكفارة.

أمّا الأوّل فلا إشكال فيه: وذلك لأن اختيار المجتهد لأحدهما يستلزم قيام الحجة على الحكم، فيكون الإفتاء به حينئذٍ مستنداً إلى الحجة.

وأمّا الثاني: فأيضاً لا محذور فيه لشمول أخبار التخيير له، حيث إنه من مصاديق التخيير فبعد أن يصل المجتهد إلى أن الحكم هو التخيير بين الخبرين كما يمكنه أن يختار هو كذلك يمكنه أن يوكل الاختيار إلى المكلّف لإطلاق النص.

وأمّا الثالث: فقد يقال: بعدم صحته، لعدم الدليل عليه، حيث إن كل خبر يدل على ثبوت مدلوله على نحو التعيين، فالحكم الظاهري حينئذٍ أحدهما المعيّن حسب ما يختاره لا أن الوظيفة هي الحكم التخييري، بل إن

ص: 387

قوله (علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب التخيير وسعك» ظاهر في الأخذ بأيّ من الخبرين لا مجرد العمل على طبقه، وكذا قوله: «إذن فتخيّر» بعد ذكره الترجيح لهذا الخبر أو ذاك.

إن قلت: قوله: «فموسع عليك بأية عملت» يدل على التخيير في العمل!

قلت: إن ذلك يحتمل المعنيين - أي الأخذ بأحد الخبرين أو التخيير العملي - فلا يعارض الظهور الذي ذكرناه ولا يغيّره حيث إن الأخذ بأحد الخبرين أيضاً طريق للعمل، فتأمل.

التتمّة الرابعة: استمراريّة التخيير

قد يقال: إن التخيير استمراري تمسكاً بالإطلاق أوالاستصحاب.

وأشكل عليه: أوّلاً: إن موضوع التخيير هو المتحيّر ولا تحيّر بعد اختيار أحدهما، فلا مجال للإطلاق، ولا للاستصحاب لاختلاف الموضوع.

وفيه: أن التحيّر - بمعنى التردد بين الخبرين لتعارضهما - باقٍ على حاله ولم يزُل بالاختيار، وأمّا التحيّر بمعنى الحيرة في الوظيفة العملية فلم يؤخذ في موضوع أدلة التخيير.

وثانياً: اختلاف متعلّق الشك قبل الاختيار وبعده، فإن متعلّق الشك قبل الاختيار هو حجيّة كل من الخبرين تعييناً أو تخييراً أو عدم حجيّة أيٍّ منهما، فأخبار التخيير تثبت حجيّة كل منهما بنحو التخيير والبدلية، لكن بعد اختيار أحدهما يعلم بأنه الحجة عليه ولا يحتمل زوالها لقطعه بأن ما اختاره حجة عليه إمّا تعييناً أو تخييراً، وإنّما يشك في أنه هل يحق له إلغاء حجيّة ما أخذ به بأن يتركه ويأخذ بالآخر أم لا؟ وهذا شك يختلف عن الشك الأوّل،

ص: 388

بل هو في طول الحكم بالتخيير الثابت للشك الأوّل، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات لأن موضوعها الشك الأوّل، كما لا معنى للتمسك بالاستصحاب لأن الحكم المشكوك غير الأوّل!

وفيه: أنه منذ البداية يشك في حجيّة كل من الخبرين، فمع الأخذ بأحدهما لا يتغير الشك في حجيّة الآخر، فكما يشمله الإطلاق قبل الأخذ بالأوّل كذلك يشمله بعد الأخذ به، كما أنه هو الشك بنفسه قبل الأخذ بالآخر وبعد الأخذ به.

ومن ذلك يتضح أنه لا فرق في الاستصحاب بين كون التخيير في المسألة الأصولية أو الفرعية، وبذلك يتبيّن التأمل في ما ذكره المحقق النائيني(1)

من إن مرجع هذا الشك إلى الشك في بقاء موضوع الاستصحاب، وذلك لأن موضوع الاستصحاب غير باقٍ على تقدير كون التخيير في المسألة الأصولية، وعلى تقدير كونه في المسألة الفرعية باقٍ قطعاً، وعليه ففي مورد الشك في كونه من أيّ القسمين يكون شكاً في بقاء موضوع الاستصحاب فلا يجري على جميع التقادير، فتأمل.

تمّ في الأوّل من شهر رجب المرجب من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة، في بلدة قم المقدسة، أسأل الله أن يتقبله بقبول حسن.

سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ص: 389


1- فوائد الأصول 4: 768.

ص: 390

فهرس المصادر

القرآن الكريم.

نهج البلاغة.

1.أجود التقريرات، تقرير درس الشيخ محمّد حسين النائيني، مؤسسة صاحب الأمر، قم، ط 2، 1430ه .

2.الاحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، مطابع النعمان، النجف الأشرف، ط 1، 1386ه .

3.الإرشاد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 2، 1414ه .

4.الاستبصار، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 4، 1363ش.

5.الأصول، السيد محمّد الشيرازي، دار العلوم، بيروت، ط 5، 1421ه .

6.الأمالي، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مؤسسة البعثة، قم، ط 1، 1414ه .

7.الأمالي، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، جامعة المدرسين، قم، ط 2، 1414ه .

8.إيضاح كفاية الأصول، السيد جعفر الشيرازي، دار الحجة، قم، ط 1،

ص: 391

1435ه .

9.بحار الأنوار، الشيخ محمّد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط 2، 1403ه .

10.بحر الفوائد في شرح الفرائد، الشيخ محمّد حسن الآشتياني، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط 1، 1429ه .

11.بحوث في علم الأصول، تقرير درس السيد محمّد باقر الصدر، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، قم، ط 4، 1431ه .

12.بدائع الأفكار، الشيخ حبيب الله الرشتي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1.

13.البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، مؤسسة البعثة، قم، ط 1، 1419ه .

14.بيان الأصول، السيد صادق الشيرازي، دار الأنصار، قم، ط 2، 1436ه .

15.الترتب، السيد محمّد رضا الشيرازي، مركز الفكر الإسلامي، قم، ط 1، 1410ه .

16.تقريرات المجدّد الشيرازي، الشيخ علي الروزدري، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1409ه .

17.تهذيب الأحكام، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1407ه .

18.التوحيد، الشيخ محمّد بن علي بن بابويه الصدوق، جامعة المدرسين، قم، ط 1، 1398ه .

19.جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين البروجردي، نشر واصف لاهيجي،

ص: 392

قم، ط 2، 1433ه .

20.جامع المقاصد، الشيخ علي بن الحسين الكركي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1408ه .

21.حاشية المكاسب، السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، طليعه نور، قم، ط2، 1429ه .

22.حاشية على المكاسب، الشيخ محمّد تقي الشيرازي، الشريف الرضي، قم، ط 1، 1412ه .

23.الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1405ه .

24.حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، مكتبة بصيرتي، قم، ط 5، 1408ه .

25.الحكومة والورود، السيد مرتضى الشيرازي، دار العلم، قم، ط 1، 1443ه .

26.الخصال، الشيخ محمّد بن علي الصدوق، جامعة المدرسين، قم، ط 1، 1403ه .

27.الخلاف، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1407ه .

28.دراسات في علم الأصول، تقرير درس السيد ابوالقاسم الخوئي، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، قم، ط 2، 1426ه .

29.درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الشيخ محمّد كاظم الخراساني، مؤسسة توسعه فرهنگ قرآني، قم، ط 1، 1384ش.

30.درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، مؤسسة النشر

ص: 393

الإسلامي، قم، ط 5، 1408ه .

31.رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 3، 1426ه .

32.رشحات الأصول، تقرير درس السيد علي المحقق الداماد، نشر دانش حوزه، قم، ط 1، 1440ه .

33.السرائر، الشيخ محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1410ه .

34.شرائع الإسلام، الشيخ جعفر بن الحسن المحقق الحلي، انتشارات استقلال، طهران، ط 2، 1409ه .

35.شرح أصول الكافي، السيد جعفر الشيرازي، دار العلوم، بيروت، ط 1، 1431ه .

36.شرح الإشارات، الشيخ نصير الدين الطوسي، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، ط 1، 1377ه .

37.شرح الكافية، الشيخ رضي الدين الأسترآبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1399ه .

38.شرح منظومة السبزواري، السيد محمّد الشيرازي، دار القرآن الحكيم، قم، ط 2.

39.العدة في أصول الفقه، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مطبعة ستاره، قم، ط 1، 1417ه .

40.علل الشرائع، الشيخ محمّد بن علي الصدوق، المكتبة الحيدرية، النجف

ص: 394

الأشرف، ط 1، 1385ه .

41.العناوين الفقهية، السيد مير عبد الفتاح المراغي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1417ه .

42.عوالي اللئالي، الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي، مطبعة سيد الشهداء، قم، ط 1، 1405ه .

43.فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 9، 1428ه .

44.الفصول الغرويّة في الأصول الفقهية، الشيخ محمّد حسين الإصفهاني، دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1404ه .

45.فوائد الأصول، تقرير درس الشيخ محمّد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي قم، ط 9، 1429ه .

46.قاعدة لا ضرر ولا ضرار، السيد علي السيستاني، مكتب السيد السيستاني، قم، ط 1، 1414ه .

47.قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1410ه .

48.القواعد الفقهية، السيد حسن البجنوردي، دليل ما، قم، ط 3، 1428ه .

49.قوانين الأصول، الشيخ أبوالقاسم القمي، دار إحياء الكتب الإسلامية، قم، ط 1، 1430ه .

50.الكافي، الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 5، 1363ش.

ص: 395

51.كتاب الطهارة، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 3، 1428ه .

52.كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار الهجرة، قم، ط 2، 1409ه .

53.كتاب القضاء (المطبوع ضمن كتاب بحوث في القضاء)، الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1435ه .

54.كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع، الشيخ أسد الله التوستري، موسسة آل البيت (علیهم السلام) .

55.كمال الدين، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1405ه .

56.مباحث الأصول، تقرير درس السيد محمّد باقر الصدر، دار البشير، قم، ط 3، 1433ه .

57.المحاسن، الشيخ أحمد بن محمّد البرقي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 2، 1371ه .

58.مدارك الأحكام، السيد محمّد العاملي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1410ه .

59.مستدرك الوسائل، الشيخ حسين النوري، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1408ه .

60.مصابيح الظلام، الشيخ محمّد باقر الوحيد البهبهاني، ط 1، 1424ه .

61.مصباح الفقيه، الشيخ رضا الهمداني، مؤسسة الجعفرية، قم، ط 1، 1416ه .

62.مصباح المتهجّد، الشيخ محمّد الحسن الطوسي، موسسة فقه الشيعة، بيروت، ط 1، 1411ه .

ص: 396

63.مطارح الأنظار، تقرير درس الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 2، 1428ه .

64.معالم الدين، الشيخ حسن بن الشهيد الثاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

65.المعتبر، الشيخ جعفر بن الحسن المحقق الحلي، مؤسسة سيد الشهداء (علیه السلام) ، قم، ط 1، 1407ه .

66.مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 3، 1428ه .

67.المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 13، 1430ه .

68.ملحق العروة الوثقى؛ السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 6، 1438ه .

69.من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمّد بن علي الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1413ه .

70.منتقى الأصول، السيد محمّد الروحاني، مطبعة الهادي، قم، ط 2، 1416ه .

71.منتهى الأصول، السيد حسن البجنوردي، مطبعة مؤسسة العروج، قم، ط 1، 1421ه .

72.منية الطالب، تقرير درس الشيخ محمّد حسين النائيني، موسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1418ه .

73.موسوعة الفقه، السيد محمّد الشيرازي، دار العلوم، بيروت، ط 2، 1407ه .

74.موسوعة الفقيه الشيرازي، السيد محمّد رضا الشيرازي، دار العلم، قم، ط

ص: 397

1، 1437ه .

75.نبراس الأصول، السيد جعفر الشيرازي، دليل ما، قم، ط 1، 1438ه .

76.نتائج الأفكار، السيد محمّد رضا الگپايگاني، دار القرآن الكريم، قم، ط 1، 1413ه .

77.نهاية الأفكار، الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 5، 1431ه .

78.نهاية الدراية، الشيخ محمّد حسين الغروي الإصفهاني، موسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 2، 1429ه .

79.هداية المسترشدين، الشيخ محمّد تقي الإصفهاني، موسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1429ه .

80.الوافية في أصول الفقه، الفاضل التوني، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 1، 1412ه .

81.وسائل الشيعة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 2، 1414ه .

82.الوصائل إلى الرسائل، السيد محمّد الشيرازي، مؤسسة عاشوراء، قم، ط 2، 1421ه .

83.الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمّد الشيرازي، مؤسسة البلاغ، بيروت، ط 1، 1431ه .

ص: 398

فهرس الموضوعات

المقصد الحادي عشر في الاستصحاب

بحوث تمهيدية. 7

البحث الأوّل: في تعريفه. 7

التعريف الأوّل. 7

المطلب الأوّل: في (إبقاء) 7

المطلب الثاني: في (ما كان) 12

التعريف الثاني.. 14

التعريف الثالث... 14

التعريف الرابع. 14

البحث الثاني: في أصولية مسألة الاستصحاب... 15

البحث الثالث: بين الاستصحاب، وقاعدة اليقين، وقاعدة المقتضي والمانع... 16

فصل في أدلة الاستصحاب

المبحث الأوّل: في بناء العقلاء... 19

المقام الأوّل: في الصغرى... 19

المقام الثاني: في الكبرى.. 22

المبحث الثاني: الروايات المعتبرة. 23

1- صحيحة زرارة الأولى.. 23

2- صحيحة زرارة الثانية. 32

ص: 399

المقام الأوّل: في دلالة الجواب السادس... 33

المقام الثاني: في دلالة الجواب الثالث... 35

3- صحيحة زرارة الثالثة. 40

الاستصحاب الأوّل: استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة. 40

الاستصحاب الثاني: استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة. 45

4- حديث الأربعمائة. 48

5- مكاتبة القاشاني.. 49

6- موثقة اسحاق بن عمار. 52

7- صحيحة عبد اللّه بن سنان. 52

8- روايات الطهارة والحلّيّة. 53

القول الأوّل: الدلالة على الاستصحاب فقط.. 54

القول الثاني: الدلالة على قاعدة الطهارة الظاهرية فقط.. 55

القول الثالث: الدلالة على الطهارة الواقعية فقط.. 56

القول الرابع: الدلالة على الطهارة الظاهرية والاستصحاب... 58

القول الخامس: الدلالة على الطهارة الواقعية والاستصحاب... 60

القول السادس: الدلالة على الطهارتين والاستصحاب... 61

فصل في استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل

فصل في الاستصحاب مع الشك في المقتضي

المقام الأوّل: في النقض.... 71

الأمر الأوّل: في معناه الحقيقي.. 71

الأمر الثاني: في استعماله المجازي.. 72

الأمر الثالث: النقض في اليقين.. 73

المقام الثاني: في معنى اليقين.. 74

ص: 400

المقام الثالث: أدلة عدم حجيّته. 79

فصل في الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكليّة

المقام الأوّل: عدم وجود المقتضي.. 85

المقام الثاني: في وجود المانع. 86

فصل في استصحاب الأحكام التكليفية والوضعية

المقام الأوّل: في الأحكام التكليفية. 96

المقام الثاني: في الأحكام الوضعية. 98

تتمة: في بعض مصاديق الأحكام الوضعية. 106

المصداق الأوّل: الطهارة والنجاسة. 106

المصداق الثاني: الصحة والفساد. 109

المصداق الثالث: الحجيّة. 110

فصل في شروط الاستصحاب

الشرط الأوّل: فعلية اليقين والشك... 111

تكملتان. 113

التكملة الأولى: في ثمرة البحث... 113

التكملة الثانية: الغفلة بعد الاستصحاب... 115

الشرط الثاني: وجود الشك بالمعنى الأعم.. 117

الشرط الثالث: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة. 119

المقام الأوّل: لزوم اتحادهما في الموضوع والمحمول. 119

المقام الثاني: في مناط الاتحاد. 120

الشرط الرابع: اتصال اليقين بالشك... 122

الشرط الخامس: بقاء اليقين بالحدوث... 122

ص: 401

عدم حجية قاعدة اليقين.. 122

فصل في الاستصحاب في مورد الأمارات والأصول

المبحث الأوّل: في الاستصحاب في موارد الأمارات والطرق.. 128

المبحث الثاني: الاستصحاب في موارد الأصول العملية. 135

فصل في استصحاب الفرد والكلي

المبحث الأوّل: في استصحاب الفرد المردد. 137

المبحث الثاني: في استصحاب الكلي.. 143

القسم الأوّل من الكلي.. 144

القسم الثاني من الكلي.. 144

القسم الثالث من الكلي.. 152

فرعان. 156

القسم الرابع من الكلي.. 157

فصل في استصحاب الأمور التدريجيّة

المبحث الأوّل: في استصحاب الزمان بنفسه. 160

المقام الأوّل: استصحاب الزمان بمفاد كان التامة. 160

المقام الثاني: استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة. 162

المبحث الثاني: في استصحاب الزمانيات... 166

المبحث الثالث: استصحاب الأمور المقيدة بالزمان. 169

المطلب الأوّل: الشك في القيد مع وحدة المطلوب... 170

الصورة الأولى: الشك في الشبهة الموضوعيّة. 170

الصورة الثانية: الشك في الشبهة الحكمية المفهومية. 176

الصورة الثالثة: الشك في الشبهة الحكمية للتعارض أو الإجمال. 177

ص: 402

المطلب الثاني: الشك من جهة احتمال تعدد المطلوب... 178

فصل في الاستصحاب التعليقي

المبحث الأوّل: في استصحاب الحكم التعليقي.. 182

المبحث الثاني: في استصحاب الملازمة. 187

المبحث الثالث: المانع عن الاستصحاب التعليقي.. 190

المبحث الرابع: الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات... 193

فصل في استصحاب عدم النسخ

المقام الأوّل: وجود المقتضي.. 196

المقام الثاني: في عدم المانع. 199

فصل في الأصل المثبت

المبحث الأوّل: الفرق بين مثبتات الأصول والأمارات... 201

المبحث الثاني: في المانع. 207

المبحث الثالث: موارد مستثناة من عدم الحجيّة. 208

المورد الأوّل: خفاء الواسطة. 208

المورد الثاني: جلاء الواسطة. 210

المورد الثالث: المتحدان وجوداً المتغايران مفهوماً 210

المورد الرابع: منشأ الانتزاع والمنتزَع. 211

المورد الخامس: عدم الحكم.. 213

المبحث الرابع: في الأثر الأعم.. 214

فصل في زمان الأثر

فصل في الشك في التقدم والتأخر

المبحث الأوّل: لحاظ الحادث أو عدمه إلى أجزاء الزمان. 216

ص: 403

المبحث الثاني: لحاظ أحد الحادثين بالنسبة إلى الآخر. 217

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ.. 218

المقام الثاني: في المجهول تاريخ أحدهما المعلوم الآخر. 223

المبحث الثالث: في تعاقب الحالتين.. 228

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ.. 229

المقام الثاني: في ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ.. 231

فصل في الاستصحاب في الاعتقادات

المبحث الأوّل: في عامة الاعتقاديات... 233

المبحث الثاني: في استصحاب النبوة. 234

فصل في استصحاب حكم المخصص

فصل في تعارض الاستصحاب وغيره

المبحث الأوّل: في الاستصحاب والأمارات... 244

الوجه الأوّل: التخصيص.... 244

الوجه الثاني: الورود. 245

الوجه الثالث: الحكومة. 246

المبحث الثاني: تعاض الاستصحاب مع سائر الأصول. 249

المسلك الأوّل: الورود. 249

المسلك الثاني: الحكومة. 251

المبحث الثالث: في تنافي الاستصحابين.. 252

المقام الأوّل: التمانع في مرحلة الامتثال. 253

المقام الثاني: التمانع في مرحلة الجعل مع الطولية بينهما 253

الوجه الأوّل: الورود. 253

ص: 404

الوجه الثاني: الحكومة. 256

الوجه الثالث: الترجيح بالأخبار. 258

المقام الثالث: التمانع في مرحلة الجعل مع العرضية بينهما 259

فصل في نسبة الاستصحاب إلى القواعد الفقهية

المبحث الأوّل: قاعدة اليد. 263

المبحث الثاني: قاعدتا الفراغ والتجاوز. 266

المبحث الثالث: أصالة الصحة. 276

المطلب الأوّل: الصحة الواقعية أم الاعتقاديّة. 276

المطلب الثاني: الشك في العقود. 277

المطلب الثالث: في اشتراط قصد العمل.. 279

المطلب الرابع: في نسبة قاعدة الصحة مع الاستصحاب... 281

المبحث الرابع: قاعدة القرعة. 282

المطلب الأوّل: في دليلها 282

المطلب الثاني: في نسبتها إلى الاستصحاب وسائر الأمارات والأصول. 284

الاحتمال الأوّل: التخصيص.... 284

الاحتمال الثاني: التخصص.... 286

الاحتمال الثالث: الورود. 286

الاحتمال الرابع: الحكومة. 287

الاحتمال الخامس: التعارض المستقر. 288

المطلب الثالث: القرعة رخصة أم عزيمة. 288

المقصد الثاني عشر في تعارض الأدلة

بحوث تمهيدية. 293

ص: 405

المطلب الأوّل: في العنوان. 293

المطلب الثاني: في تعريف التعارض.... 293

المطلب الثالث: في موارد خرجت عن التعارض.... 296

فصل في القاعدة الأوّلية في التعارض

1- على السببية. 301

2- على الطريقية. 303

المبحث الأوّل: في المدلول المطابقي.. 303

الاحتمال الأوّل: التخيير. 303

ألف: التخيير في المسألة الفرعية. 303

باء: التخيير في المسألة الأصولية. 305

الاحتمال الثاني: التوقف... 307

المبحث الثاني: في المدلول الالتزامي بنفي الثالث... 312

تكملة: في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.. 313

فصل في الأصل الثانوي في المتعارضين

المبحث الأوّل: المزيّة التي لا توجب جمعاً دلالياً 315

المبحث الثاني: المزيّة التي توجب جمعاً دلالياً 317

فصل في التعارض بين أكثر من دليلين

المبحث الأوّل: اتحاد النسبة. 322

القسم الأوّل: عام واحد وخاصان. 322

الحالة الأولى: أن تكون النسبة بين الخاصين التباين.. 322

الحالة الثانية: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم من وجه. 328

الحالة الثالثة: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم المطلق.. 329

ص: 406

القسم الثاني: عامّان من وجه مع خاص.... 332

القسم الثالث: عامّان متباينان مع خاص.... 333

المبحث الثاني: في تعدد النسبة. 335

تكملة: في مثال تطبيقي في العارية. 341

فصل في الأخبار العلاجيّة

المبحث الأوّل: في أخبار الترجيح.. 347

الطائفة الأولى: المقبولة والمرفوعة. 347

1- المقبولة. 347

2- المرفوعة. 355

الطائفة الثانية: أخبار موافقة الكتاب ومخالفته. 357

الطائفة الثالثة: أخبار مخالفة العامة وموافقتهم.. 358

الطائفة الرابعة: أخبار الترجيح بالأحدث... 359

تتمة فيها مطالب... 362

المطلب الأوّل: في التعدي عن المرجحات المنصوصة. 362

المطلب الثاني: أنواع المرجحات... 367

المطلب الثالث: في ترتيب المرجحات... 369

القول الأوّل: إنها في عرض واحد. 369

القول الثاني: تقديم المرجح الصدوري على المرجح بالجهة. 371

القول الثالث: تقديم المرجح بالجهة على المرجح الصدوري.. 372

المطلب الرابع: في المتعارضين من وجه. 373

المطلب الخامس: المراد بالشهرة في الأخبار العلاجيّة. 377

المبحث الثاني: في أخبار التخيير. 378

ص: 407

التتمّة الأولى: في الجمع بين أخبار التخيير والتوقف... 385

التتمّة الثانية: التخيير مع اختلاف النُسخ.. 386

التتمّة الثالثة: في كيفية الفتوى بالتخيير. 387

التتمّة الرابعة: استمراريّة التخيير. 388

فهرس المصادر. 391

فهرس الموضوعات... 399

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.