نبراس الاصول المجلد 4

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الرابع

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

ص: 3

ص: 4

المقصد التاسع في أصالة البراءة

اشارة

ص: 5

ص: 6

وأصالة البراءة أ ُولى الأصول العملية، التي موضوعها أو مسرحها الشك حين لا أمارة ولا طريق، ولا تجري معهما ومع القطع لورودها عليها بإزالة الشك وجداناً أو تعبداً، فالبراءة الشرعية موضوعها (لا يعلمون)، والعقلية (عدم البيان)، والقطع علم وبيان وجداناً، والأمارة والطريق علم تنزيلاً وبيان، وتجري البراءة في الشبهات الموضوعية والحكمية مع عدم وجود حالة سابقة.

واستدل لها بأمور، نذكرها في ضمن فصول:

ص: 7

فصل الآيات القرآنية الدالة على البراءة

اشارة

وقد استدل بعدة آيات، منها:

الآية الأولى

قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1).

ببيان: أن المراد عدم وصول الحكم؛ إذ لا خصوصية للبعث، وتخصيصه بالذكر مع عموم الحكم إنما هو لأن الغالب كون الوصول عبره، قال السيد الوالد: «البعث كناية عن إيصال الحجة، وإلاّ كان تعبداً صرفاً وهو خلاف الظاهر»(2)، فالآية تأكيد لما استقل به العقل من عدم العقاب من غير بيان، لقبحه.

وهناك فرق واضح بين خصوصية البعث وعدمها، فعلى الأول لا دلالة على البراءة وذلك لتحقق الغاية حتى في ما لا يعلم، وعلى الثاني يمكن الاستدلال بالآية عليها لعدم تحقق الغاية - التي هي البيان - في ما لا يعلم.

وأشكل على الاستدلال بأمور، منها:

الإشكال الأول: إنما يمكن الاستدلال على البراءة بما ينفي استحقاق

ص: 8


1- سورة الإسراء، الآية 15.
2- الأصول: 703.

العقاب، والآية تنفي فعليته، ولا ملازمة بينهما، فمثلاً التائب لا فعلية لعذابه؛ لأنه مغفور لكن لا يسقط استحقاقه للعقاب، إلاّ لتفضّل الله عليه.

وأجيب بعدة أجوبة، منها:

الجواب الأول: كفاية عدم فعلية العذاب للبراءة؛ لأن المهمّ وجود المؤمِّن من العذاب ولا فرق في ذلك بين عدم الاستحقاق أصلاً أو الاستحقاق مع عدم فعلية العقاب.

وفيه: أولاً: إن العقاب وعدمه لا يرتبط بعلم الأصول، وإنما المرتبط به الانتهاء إلى الحكم الشرعي حتى لو لم يكن عقاب؛ إذ قد يقال: بإمكان الاستحقاق والحرمة الشرعية مع الوعد بعدم العقاب، كما قيل ذلك في الظهار، والحاصل: أن غرض علم الأصول القواعد التي يستنبط بها الحكم الشرعي حتى لو لم يكن هناك عقاب لجهة من الجهات، فتأمّل.

وثانياً: بأن المطلوب من المكلّف هو عدم العصيان، فلا يجوز له ارتكاب الحرام حتى لو علم بعدم العقاب، ولذا القائلون بحرمة الظهار مع العفو عنه ذهبوا إلى ترتب آثار الحرام التكليفية أو الوضعية مع ذهابهم إلى عدم العقوبة، فتأمل.

الجواب الثاني: ثبوت عدم استحقاق العقاب بالملازمة حتى و إن كان المدلول المطابقي للآية نفي الفعلية، ولازم نفي الاستحقاق هو نفي التكليف لعدم الانفكاك بينهما عقلاً.

قال الشيخ الأعظم(1):

إن الخصم يدعي أن في ارتكاب الشبهة الوقوع

ص: 9


1- فرائد الأصول 2: 23.

في العقاب والهلاك فعلاً من حيث لا يعلم، ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية.

ولا يخفى أن ادعاء الشيخ هو اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق، لا الملازمة بين الاستحقاق والفعلية، فليس كلامه مجرد جدل معه كي يستشكل عليه بأنّ ذلك لا ينفعنا في الاستدلال على البراءة لأنفسنا.

وقد يؤيّد كلام الشيخ الأعظم: بأنه لا معنى للحرمة مع العفو عنها دائماً، فعدم فعلية العقاب دائماً يكشف عن عدم وجود المقتضي لاستحقاقه.

اللهم إلا أن يقال: بآثار أخرى ترتّب على الحرمة، كالفسق وكالترغيب إلى تركه لمن لا يريد العصيان ونحو ذلك.

وأشكل عليه المحقق الخراساني(1):

بأن الوعيد بالعقوبات إنما هو من باب الإخبار بالشيء لقيام ما يقتضيه - أي بيان المقتضي فقط - وقد يكون هناك مانع يزاحم تأثير المقتضي، فهو يزاحم تأثيره لا أصل وجوده، وحاصله: أنه لا تلازم بين استحقاق العقوبة وبين فعليتها حتى في المعصية المعلومة، لاحتمال العفو، فضلاً عن الملازمة في مجهول الحرمة.

وردّه في المنتقى(2)

بما حاصله: أنه حتى وإن لم نقل بالملازمة بينهما إلاّ أن في ما نحن فيه خصوصية تدل على الملازمة؛ وذلك لعدم الدليل على الاستحقاق سوى ما هو ظاهر فعلية العقاب وهو منفي بالآية الشريفة، فإن

ص: 10


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 188.
2- منتقى الأصول 4: 376.

الآية إن دلّت على نفي فعلية العقاب كانت منافية لمفاد روايات الوقوف عند الشبهة؛ إذ لا يجتمع احتمال الهلكة مع عدم فعلية العقاب، ومقتضى ذلك إمّا تخصيص الروايات إن كانت الآية أخص مطلقاً باعتبار شمولها للعلم الإجمالي، وإمّا طرحها لمخالفتها للكتاب إن كانت النسبة العموم من وجه.

وفيه(1): أن هنالك طوائف من الروايات في الاحتياط لا تدل على الهلكة كي تعارض الآية كقوله (علیه السلام) : «ويكفّوا عما لا يعلمون»(2)،

وهذه الروايات - بناءً على دلالتها على وجوب الاحتياط - لا تنافي الآية، فإن مفاد الروايات وجوب التوقف والاحتياط ولازم ترك هذا الوجوب استحقاق العقاب، ومفاد الآية نفي فعلية العذاب، فتأمل.

الجواب الثالث: الآية تدل على نفي الاستحقاق أيضاً، ويمكن بيان ذلك بوجوه:

البيان الأول: إن الأدلة الشرعية الدالة على العقوبات والمثوبات لها ظهور في اقتضاء الأفعال لها لا في العلية، وبقرينة المقابلة فالأدلة الدالة على نفي الثواب والعقاب كذلك.

وأشكل عليه(3): بالفرق بين الإثبات والنفي؛ إذ القضايا المثبتة للخواص والآثار تكون اقتضائية لا فعلية؛ إذ قلّما يوجد في العالم ما يكون علة تامة

ص: 11


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 209.
2- الكافي 1: 50؛ وسائل الشيعة 27: 155.
3- نهاية الدراية 4: 23-24.

لثبوت شيء، بل لا محاله له شرط أو مانع، ولو من حيث قبول القابل، وإن فرض أن الفاعل تام الفاعلية، بخلاف طرف النفي، فإن العدم فعلي على أي حال سواء كان بعدم مقتضيه أو بعدم شرطه أو بوجود مانعه، فلا موجب للحمل على الاقتضاء دون الفعلية.

والحاصل: أن ظاهر القضايا المثبتة هو الاقتضاء لعدم التحقق غالباً حتى مع وجود المقتضي، وظاهر القضايا النافية هو الفعلية؛ لأنه يكفي في عدم التحقق عدم وجود شرط أو وجود مانع وما هو يكون غالباً.

وفيه: أن ذلك إنما يصح في القضايا الحقيقية، وأما لو أريد بيان أمر متحقق جرت العادة عليه بنحو القضية الخارجية، فلا فرق بين النفي والإثبات في الفعلية، فلا فرق بين (كان زيد يصوم كل يوم) وبين (كان زيد لا يصوم أيّ يوم)، والآية لبيان جريان سنته تعالى، وعليه فالآية دلت على عدم فعلية العذاب ولم تدل على عدم استحقاقه.

البيان الثاني(1): سياق الآية - حيث إن هناك فقرات متعددة - ظاهر في أنها لبيان الطريقة المشروعة في مقام العذاب والثواب، وأن العذاب لا يكون إلاّ على طبق الموازين العقلائية، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلْزَمْنَٰهُ طَٰئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كِتَٰبًا يَلْقَىٰهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ...}(2)

ص: 12


1- منتقى الأصول 4: 373.
2- سورة الإسراء، الآيه: 13-15.

الآية، فتكون ظاهرة في نفي العقاب عند عدم الحجة لأنه خلاف الموازين، وأن تقيّده بقيام الحجة مما تقتضيه الموازين، فنفي العذاب وإن كان في حدّ نفسه أعم من نفي الاستحقاق لكنه في المقام ظاهر في أن منشأه هو عدم الاستحقاق.

وأشكل عليه: بأن الاحتمالات في الآية ثلاثة: العذاب ليس شأننا، أو ليس فعلنا، أو ليس دأبنا، والاحتمال الأول هو الذي يدل على نفي الاستحقاق دون الآخرين.

وأما السياق ففي الآية سياقان: لاحق وسابق على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}، وأما السابق فظاهره نفي الاستحقاق لأنه لبيان الطريقة العقلائية، كما ذكر، لكن اللاحق ظاهره نفي الفعلية، حيث قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(1)؛

لأنه يدل على فضله تعالى بنفي فعلية العقاب، والسياقان متساويان، فلا ظهور في الفعلية أو الاستحقاق من جهة السياق، فتأمل.

البيان الثالث(2): إن الظاهر من الآية هو كونها بصدد إظهار العدل، ببيان: أنه سبحانه لم يكن من شأنه أن يعذب قوماً إلاّ بعد البيان وإتمام الحجة، ومن الواضح عدم اختصاص ذلك بقوم دون قوم ولا بعذاب دون عذاب، كوضوح ملازمة ذلك لكون المنفي فيها هو الاستحقاق والمعرضية للعذاب الفعلي، لا الفعلية المحضة مع ثبوت الاستحقاق، لعدم مناسبة ذلك مع البيان

ص: 13


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- نهاية الأفكار 3: 205.

المزبور؛ لأن مع الاستحقاق وإن كان من شأنه سبحانه العفو رأفةً ورحمةً على العباد، إلاّ أنه من شأنه العذاب أيضاً، ومثله ينافي ظهورها في أنه ليس من شأنه ذلك.

وأشكل عليه(1): بأنه لا ملازمة بين عدم كونه من شأنه تعالى وبين عدم استحقاقهم؛ وذلك لأن لله تعالى شأنين: شأن بما هو عادل، وشأن بما هو رحيم، فليس من شأنه أن يعذّب قبل تمام الحجة إمّا لأنهم لا يستحقون، وإمّا لأنه منافٍ لمقام الرحمة الإلهية، فلو قال أحد: ليس من شأني ردّ الشتم بمثله، لم يكن معناه عدم استحقاق الشاتم الردّ بالمثل، بل لعدم كونه مناسباً لمقامه، ونظير ذلك {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(2)

فليس معناها عدم استحقاقهم، بل بالعكس الآية ظاهرة في استحقاقهم لكن الشأن الربوبي أجل من تعذيبهم لوجود الرسول (صلی الله علیه و آله) فيهم.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني: دلالة الآية إنما هي على عدم العذاب في ما لو لم يصدر حكم، ولا دلالة لها على عدمه حين عدم وصوله، وعليه فقوله: {حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(3)

كناية عن عدم صدور البيان الشرعي، ولا يجدي التمسك بالاستصحاب؛ لأنه خروج عن الاستدلال للبراءة بالآية.

وفيه نظر: لأن الآية كناية عن عدم الوصول؛ إذ لا موضوعية عرفاً للبعث

ص: 14


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 220.
2- سورة الأنفال، الآية: 33.
3- سورة الإسراء، الآية: 15.

بحيث يستحق العقاب حتى لو لم يصله شيء، بل ظهورها في الطريقية، فلذا لا عقاب على الذين عاصروا ظهور الإسلام لكن لم يصلهم قصوراً منهم لكونهم في أطراف الأرض، والحاصل: ظهور {نَبْعَثَ رَسُولًا} على الوصول لا الصدور، لدلالته على الطريقية دون الموضوعية.

الإشكال الثالث: المراد من الآية العذاب الدنيوي، بقرينة أن الآية في مقام الإخبار عن الأمم السابقة بعدم وقوع العذاب فيها قبل إرسال الرسل، والذي يثبت البراءة هو نفي العذاب الأخروي.

وفيه: أولاً: إطلاق الآية للعذابين.

وثانياً: انسلاخ (كان) عن الزمان في الله تعالى، فلا دلالة لها على الإخبار عن الأمم السابقة.

وفيه: أنه إذ لا انسلاخ عن الزمان في أفعاله تعالى، وأما ذاته تعالى فهي وإن لم تكن زمانيّة، إلاّ أن الأفعال مستعملة في الزمان بالإرادة الاستعمالية، كما مرّ.

وثالثاً: لو فرض دلالتها على نفي العذاب الدنيوي، فالعذاب الأخروي منتفٍ بطريق أولى.

إن قلت: قد ينفى العذاب الدنيوي مع ثبوت العذاب الأخروي كما في تكرار صيد المحرم، قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}(1).

قلت: ذاك في مقام التنكيل، حيث يراد بيان أن عظم الجريمة لا يسعها

ص: 15


1- سورة المائدة، الآية: 95.

عقاب دنيوي فيؤخّر إلى الآخرة، وليس كذلك آية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}.

الآية الثانية

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَىٰهَا}(1).

ومورد الآية وإن كان إيتاء المال، إلاّ أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، والوارد - وهو الموصول - عام، والقرينة على عمومه أنه للتعليل، وذلك لا يناسب خصوصية المورد، وإيتاء كل شيء بحسبه ، فإيتاء المال إعطاؤه، وإيتاء الحكم إيصاله، وإيتاء الفعل الإقدار عليه.

وأشكل على الاستدلال بها بأمور، منها:

الإشكال الأول(2): إن إرادة الأعم من الحكم والمال يستلزم استعمال الموصول في معنيين؛ إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه.

وبعبارة أخرى: إن الموصول لو كان بمعنى التكليف كان مفعولاً مطلقاً، أي لا يكلف الله نفساً إلاّ تكليفاً آتاها، ونحو تعلق الفعل بالمفعول المطلق هو تعلق الشيء بنفسه أو طور من أطواره، وإن كان الموصول بمعنى المال كان مفعولاً به، أي لا يكلّف الله نفساً إلاّ بمالٍ آتاها، ونحو تعلق الفعل بالمفعول به هو تعلق المباين بالمباين، وعليه فإن أريدت النسبتان معاً كان من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ولا جامع بينهما كي يكون استعمال اللفظ بمعنى واحد هو الجامع، وحيث لا يمكن عدم إرادة المورد فلا بد

ص: 16


1- سورة الطلاق، الآية: 7.
2- فرائد الأصول 2: 22.

من حمل الموصول على المال، فلا تدل الآية على البراءة!

وأجيب: أولاً(1):

بوجود جامع بين النسبتين، بأن يراد من الموصول (الشيء)، فلا يرد المحذور من طرف الموصول بناءً على استعمال الموصول في معناه الكلي العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوالٍ أخر خارجية، كما لا محذور من طرف الإيتاء فإنه مستعمل في معناه وهو الإعطاء إلاّ أن مصاديقه تختلف، كما لا محذور من طرف تعلق الفعل بالموصول فإنه نحو تعلّق واحد به، ومجرد تعدده بالتحليل إلى نحو تعلق الفعل بالمفعول به والمفعول المطلق لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول، غاية الأمر أنه يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول.

إن قلت(2): لا يمكن تحقق الجامع في المعاني الحرفية؛ لأن حقيقتها الربط والارتباط بين الطرفين وهذه الخصوصية مقومة لحرفية المعنى الحرفي، فإلغاؤها يساوق إلغاء المعنى الحرفي، والنسبة الحكمية معنى حرفي فلا جامع.

قلت: هذا إنما يتم لو ذهبنا إلى جزئية المعنى الحرفي، لكن على مبنى كونه كلياً وأن الموضوع له عام فلا.

وثانياً(3): بوحدة النسبة، فإن نسبة هي المفعول به أو المفعول منه سواء أريد بالموصول المال أو الحكم أو الجامع بينهما، فإن قوله: {لَا يُكَلِّفُ}

ص: 17


1- نهاية الأفكار 3: 202.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 229.
3- نهاية الأفكار 3: 203.

يراد به معناه اللغوي، أي الكلفة والمشقة، فعلى كون الموصول مفعولاً به يكون المعنى لا يوقع الله عباده في كلفة شيء إلاّ الشيء الذي أعطاهم سواء كان مالاً أم حكماً، وعلى كون الموصول مفعولاً منه - وهو المفعول النشوي - يكون المعنى لا يوقعهم في كلفة شيءٍ إلاّ من جهة ما أعطاهم ولا فرق في ذلك بين كون ما أعطاهم مالاً أو حكماً.

بل لا مجال لجعل الموصول مفعولاً مطلقاً، ولو على كون التكليف في الآية بمعناه الاصطلاحي فضلاً عن كونه بمعناه اللغوي؛ وذلك لأن الأول يستلزم اختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها، والثاني يستلزم أخذ المشقة التي هي معلول العلم في متعلقه فإن المفاد على ذلك يكون أنه تعالى لا يجعل عباده في مشقة إلاّ مشقة أعلمهم بها، وهو مستحيل.

إن قلت(1): التكليف ظاهر في معنى الحكم، ولا ظهور له في المعنى اللغوي، ولا يستلزم المحذور العقلي المذكور، لإمكان حمل الرفع على الرفع الظاهري، كما في حديث الرفع وأمثاله.

قلت(2): إن التكليف بمعنى الكلفة حتى لو أريد المعنى الاصطلاحي؛ إذ إطلاق التكليف على الأمر والنهي ليس باعتبار الحكم، بل باعتبار أنه من مصاديق الإلقاء في المشقة.

كما أنه لو قلنا باختلاف المعنى اللغوي عن الاصطلاحي فلا بد من الالتزام بخلاف الظاهر على كل حال؛ إذ لو أريد المعنى الاصطلاحي فهو

ص: 18


1- منتقى الأصول 4: 380.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 232.

وإن كان ظاهراً حسب المدعى في هذا المعنى إلاّ أن الرفع يكون حينئذٍ ظاهرياً وهو خلاف الظاهر، وإن أريد المعنى اللغوي فهو خلاف الظاهر حسب المدعي إلاّ أن الرفع يكون واقعياً، فكان لا بد من التصرف في الظاهر على كل حال إما في كلمة التكليف أو في الرفع.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني(1): إن غاية ما يستفاد من الآية هو نفي الكلفة والمشقة من قبل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلّف، لا نفي الكلفة مطلقاً ولو من قبل إيجاب الاحتياط، فمفاد الآية حينئذٍ مساوق لكبرى قبح العقاب بلا بيان، وهذا المقدار لا يضر بمدعى القائل بالاحتياط؛ لأنه يدعي دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط عند الشك في التحريم.

لا يقال: إنما يتم هذا بناءً على الوجوب النفسي للاحتياط، وأما بناءً على وجوبه الطريقي فلا؛ إذ ما يوجب الكلفة حينئذٍ هو التكاليف الواقعية المجهولة، وظاهر الآية هو الثاني.

فإنه يقال: لا فرق بين كون وجوب الاحتياط نفسياً أم طريقياً، فإن موضوع الآية هو (مجهول الحكم) فلا يوقع الشارع المكلفين في كلفة ما كان مجهول الحكم، وعليه فيتمكن القائل بوجوب الاحتياط أن يقول: إن مثل شرب التتن ليس مجهول الحكم، بل هو معلوم الحرمة بأدلة الاحتياط، فلا يكون من مصاديق الآية.

وبعبارة أخرى: إن وجوب الاحتياط حتى لو كان طريقياً لكنه باعتبار

ص: 19


1- نهاية الأفكار 3: 204.

كونه منجزاً للتكليف على تقدير وجوده، كان هو الموجب للضيق والرافع للبراءة، والقائل بوجوب الاحتياط يذهب إلى أن الكلفة إنما هي من قبل ما أوتي وهو إيجاب الاحتياط الواصل إلى المكلف.

الإشكال الثالث(1): إن التمسك بالآية على البراءة تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن معنى الآية هو أن ما لم يوحِهِ الله إلى أنبيائه لا كلفة من قبله، فلا تشمل الآية ما أوحاه الله وبلّغه الأنبياء ولكن أخفاه الظالمون.

والحاصل: أن إيتاء الله تعالى هو إعلامه بالسبب المتعارف وهو الوحي، لا بالأسباب غير المتعارفة، كما في كل إيتاء وإعلام بين الموالي والعبيد، حيث يراد الطريق المتعارف، وفي الموارد المشكوكة لا نعلم أنها من صنف ما أوحاه الله وأخفاه الظالمون أم مما لم يوحِهِ سبحانه وتعالى.

وأجيب: بأن المراد إيتاء كل فرد فرد، بدليل أن (نفساً) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فالحكم الذي أوحاه الله وبلّغه أنبياؤه إذا لم يصل إلى شخص بسبب إخفاء الظالمين، فهو مما لم يؤته الله لهذا الشخص.

والحاصل: أن (الإيتاء) هنا ليس بمعنى (الإصدار) وهو الذي لا يحتاج إلاّ إلى مفعول واحد، ولكن في الآية مفعولان، وعموم (نفساً) دليل على أن الإيتاء هو الإعطاء لكل أحد أحد، فتأمل.

الآية الثالثة

قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ

ص: 20


1- نهاية الأفكار 3: 204.

اللَّهِ بِهِ}(1).

وجه الاستدلال هو تعليق الإباحة على عدم الوجدان.

وفيه: أولاً: إن عدم وجدان النبي (صلی الله علیه و آله) دليل قطعي على عدم الوجود؛ إذ لو أراد الله الحرمة أوحاها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .

إن قلت: إن المقام مقام الاحتجاج مع الكفار المنكرين للوحي، فهو احتجاج بالأصول العقلائية وهي ليست تعبدية فلا خصوصية للنبي (صلی الله علیه و آله) ، بل كل من لم يجد حكماً فلا شيء عليه.

قلت: للنبي (صلی الله علیه و آله) خصوصية هنا حتى لو كانت الآية في مقام الاحتجاج، وذلك بقرينة قوله: {فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ}.

وثانياً: إن الآية خاصة بالمأكولات وهي دليل اجتهادي، وكلامنا في إثبات الإباحة كأصل عملي في ما لم يرد فيه نص، فتأمل.

الآية الرابعة

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَۢا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(2).

وجه الاستدلال أن {يُبَيِّنَ لَهُم} بمعنى وصوله إليهم، وليس مجرد إصداره حتى لو لم يصل؛ وذلك لمكان اللام، ولمكان تفسيره في بعض الأحاديث بالمعرفة قال (علیه السلام) : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(3)،

كما

ص: 21


1- سورة الأنعام، الآية: 145.
2- سورة التوبة، الآية: 115.
3- الكافي 1: 163.

أنه لا فرق في الاستدلال بين كون الإضلال بمعنى الحكم بالضلال أو العقاب أو نوع من أنواعه كالخذلان.

وأشكل عليه: أولاً(1):إن

توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب اللهم إلاّ بالفحوى، والمقصود أن الخذلان - الذي هو الإضلال - يتوقف على البيان، وهذا لا يرتبط بالبراءة؛ لأن المهم فيها توقف العذاب على البيان.

ويمكن أن يقال: إن عدم الخذلان حين عدم البيان يلازم البراءة؛ إذ مع وجوب الاحتياط يكون تركه موجباً للخذلان؛ لأن ترك التكاليف الإلزامية سبب الخذلان، وعليه فلو ثبت عدم الخذلان في شيء ثبت عدم التكليف فيه.

وثانياً: إن الاستدلال يتوقف على كون {مَّا يَتَّقُونَ} خاصاً بما يتَّقونه بالعنوان الأولي، فالآية تختص ببيان الحكم الواقعي، وعليه فالآية تعارض أدلة الاحتياط وتتقدم عليها، فتثبت البراءة.

وفيه: أنه يحتمل أن يكون المراد ما يتَّقونه مطلقاً - سواء بالعنوان الأولي أم الثانوي - وعليه تكون أدلة الاحتياط واردة، لارتفاع موضوع الآية بها.

والحاصل: أن البيان أعم من بيان حكم الشيء بما هو وبيانه بما هو مشكوك الحكم، وبأدلة الاحتياط يحصل البيان فالغاية متحققة فالمغيّى مرتفع، وهذا الاحتمال هو الأظهر؛ لأنه إن قلنا بحرمة التجري فمخالفة الحكم الظاهري حرام واقعاً فيستحق العبد الإضلال، وإن لم نقل بحرمته

ص: 22


1- فرائد الأصول 2: 25.

لكن حيث يحتمل مطابقة الحكم الظاهري للواقع يكون العبد مستحقاً للإضلال إن صادف فلا مؤمِّن له.

وعلى فرض تساوي الاحتمالين فالآية مجملة من هذه الجهة، فلا يمكن الاستدلال بها على البراءة.

ص: 23

فصل في الروايات الدالة على البراءة

اشارة

وقد استدل للبراءة بالروايات أيضاً، وهي متعددة، منها:

الحديث الأول: حديث الرفع

اشارة

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»(1).

أما سند الحديث فلا إشكال فيه، مضافاً إلى اشتهاره وعمل الأصحاب به، وأما الدلالة ففيها مباحث.

المبحث الأول: في فقه الرفع
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في كلمة الرفع

إن الرفع لغة هو إزالة الشيء الثابت، والدفع هو الحيلولة دون وجود الشيء، وبعض هذه العناوين تدفع الحكم والأثر بمعنى تمنع منه بعدم وجوده أصلاً، فمثلاً في حالة الاضطرار لا يوجد حكم، لا أنه كان حكم ثم رفع، وعليه فإذا كان المراد هو الدفع فلماذا استعملت كلمة الرفع؟

ص: 24


1- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.

وأجيب بأمور، منها:

الجواب الأول: عدم الفرق بين الرفع والدفع، بل كل رفع هو دفع حقيقة؛ وذلك لاحتياج الممكن في أصل وجوده وفي استمراره إلى العلة، فعدم استمراره إنما هو لزوال علته، ومع عدم وجود العلة لا يتحقق المعلول، فارتفاعه في الحقيقة دفع، وبعبارة أخرى: احتياج الممكن في البقاء كاحتياجه إليها في الحدوث؛ لأن ملاك الاحتياج إلى العلة هو الإمكان، والإمكان الذاتي ثابت للممكن حتى بعد الوجود، فإنه لا ينقلب الممكن إلى واجب بالذات بعد وجوده، وعليه فالرافع إنما هو دافع لأنه يمنع من العلة في الزمان اللاحق، وبعبارة ثالثة: الرفع والدفع إنما هما بمعنى منع تأثير المقتضي في المقتضى، هكذا استفيد من بعض عبارات المحقق النائيني(1).

وأشكل عليه(2): أولاً: بأنه بيان عقلي دقي، لكن لغةً وعرفاً يُعبّر عن ما يمنع المقتضي عن التأثير في مرحلة الحدوث بالدفع، ويُعبّر عن ما يمنع المقتضي عن التأثير في مرحله البقاء بالرفع.

وثانياً: إن هذا الكلام يثبت أن كل رفع دفع، ومحل البحث هو أن المتحقق في مورد الحديث الشريف هو الدفع بمعنى الحيلولة دون وجود الشيء، فكيف أطلق عليه الرفع؟ فالدليل ينفع في عكس المقام!

إلاّ أن يقال: إن المقصود هو اتحاد حقيقة الكلمتين فكما أن كل رفع دفع كذلك العكس.

ص: 25


1- فوائد الأصول 3: 336-337.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 273-274.

الجواب الثاني: إن الرفع أعم من إزالة الموجود، ومن إيجاد المانع مع وجود المقتضي. نعم، لو لم يكن هناك مقتضٍ أصلاً لم يكن رفعاً حقيقياً، فإطلاق الرفع في الحديث إنما هو لوجود المقتضي للآثار لكنها رفعت مِنّة، ولولا وجود المقتضي لم يكن هناك مِنّة أصلاً، ذهب إلى هذا الشيخ الأعظم(1).

وهل إطلاق الرفع حقيقي حينئذٍ؟ قال المحقق العراقي: «لا يعتبر في صدق الرفع وصحة استعماله حقيقة وجود المرفوع حقيقة، بل يكفي وجوده ادعاءً ولو باعتبار وجود مقتضيه»(2)

أي: إن وجود المقتضي وجود للشيء ادعاءً، وهو يكفي في كون إطلاق الرفع عليه حقيقياً.

الجواب الثالث: إن الرفع إنما هو باعتبار الإرادة الاستعمالية لا الجدية؛ وذلك لأن الأدلة بإطلاقها أو عمومها تشمل الناسي والمخطئ والمضطر ونحوهم، فتكون الآثار ثابتة لهم بالإرادة الاستعمالية، فتمّ رفعها بحسب هذه الإرادة.

المطلب الثاني: في المرفوع

فهل يمكن رفع هذه العناوين المذكورة في الحديث بنفسها، أم لا بد من تقدير شيء بدلالة الاقتضاء ليصح الكلام؟

القول الأول: - وهو الأقرب - إمكان رفع المذكورات، لا باعتبار وجودها التكويني البحت - لأنّها أمور تكوينية لا ترفع إلا تكويناً، مضافاً

ص: 26


1- فرائد الأصول 2: 33.
2- راجع نهاية الأفكار 3: 209.

إلى عدم رفعها خارجاً بالوجدان - وإنما باعتبار أن هذه العناوين مقيدة بكونها موضوعات للآثار الشرعية، فليس الموضوع هو (الخطأ) كي يقال لا تناله يد التشريع، بل الموضوع مركب وهو (الخطأ الذي هو موضوع لأثر شرعي)، ومن المعلوم أن الجزء الثاني من المركب أمر تشريعي، ويمكن رفعه تشريعاً، وبرفعه يرتفع المركب، وعليه فيقال: لا تحقق في عالم التشريع للخطأ الذي له أثر شرعي، وهذا أمر لا محذور فيه.

والحاصل: أن حديث الرفع يرفع الخطأ ذا الأثر الشرعي لا الخطأ بما هو هو، وبارتفاع الموضوع ترتفع جميع الآثار. ولعل هذا هو مقصود المحقق النائيني في ما نقل عنه(1).

إن قلت: إن محل البحث في «ما لا يعلمون»، والمقصود به الحكم المجهول، وهو أمر تشريعي يمكن رفعه تشريعاً فلا حاجة إلى إطالة الكلام.

قلت: إن «ما لا يعلمون» يشمل الشبهات الموضوعية أيضاً، فعاد المحذور، مضافاً إلى أن الحكم الواقعي غير قابل للرفع لاشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية.

ولا يخفى ظهور كون العناوين مركبة بضميمة كثرة العبارات الشبيهة مثل: «لا ضرر ولا ضرار»(2)

و«لا حرج»(3)

ونحوها، وعليه فلا حاجة إلى تقدير شيء ليصح الكلام، كما أن الرفع حينئذٍ يكون ظاهراً في رفع جميع

ص: 27


1- فوائد الأصول 3: 342.
2- الكافي 5: 293؛ وسائل الشيعة 18: 32.
3- الكافي 7: 49؛ وسائل الشيعة 14: 156.

الآثار.

القول الثاني: إن العناوين إنما هي ظاهرة في وجودها التكويني، فلا بد من تقدير شيء، وهو إما المؤاخذة، أو الآثار الظاهرة، أو جميع الآثار فالاحتمالات ثلاثة.

ولا يخفى أن التقدير حيث كان بدلالة الاقتضاء فلا بد منه بمقدار يرفع لغوية الكلام أو عدم صحته، وهو القدر المتيقن من الآثار، فإثبات رفع جميع الآثار بحاجة إلى انحصار رفع اللغوية أو عدم الصحة به ولو من جهة الظهور.

الاحتمال الأول: تقدير المؤاخذة.

ولازم ذلك عدم رفع الآثار التكليفية ولا الوضعية ولا الموضوعات التي رتبت على هذه العناوين.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: استدلال الأئمة (علیهم السلام) بحديث الرفع في رفع الآثار الوضعية، كالصحيحة عن الإمام الرضا (علیه السلام) : «في الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقه ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا»(1)،

فقد استدل (علیه السلام) بالحديث على رفع الحكم الوضعي وهو صحة الطلاق والعتاق والصدقة.

إن قلت: لعل كلامه (علیه السلام) مجادلة لمن يعتقد بالصحة في غير حالة

ص: 28


1- المحاسن 2: 339؛ وسائل الشيعة 23: 226.

الإكراه فالجواب إقناعي إسكاتي؛ وذلك لأن الحلف على هذه الثلاثة باطل اختياراً لمرجوحية المتعلّق.

قلت: هنا كبرى وصغرى، والأصل هو الجدّ فيهما، وحيث قامت القرينة الخارجية على كون الصغرى إقناعية رفعنا اليد عنها، وتبقى الكبرى على حالها بكونها برهانية حسب الأصل(1).

إن قلت: الحديث الذي استشهد به الإمام الرضا (علیه السلام) حديث آخر يختلف عن حديث الرفع المذكور فيه العناوين التسعة والتي منها «ما لا يعلمون»، فكون ذلك رافعاً للآثار الوضعية لا يعني كون هذا كذلك!

قلت: الظاهر وحدة الحديث وإنما استشهد الإمام (علیه السلام) بالفقرة المرتبطة بسؤال السائل مع ذكر بعض الفقرات الأخرى كما هو متعارف لعدم الحاجة حينئذٍ إلى ذكر كل الحديث، مضافاً إلى أنه لو فرض تعددهما فالسياق واحد، فالظهور في أحدهما يقتضي الظهور في الآخر أيضاً لوحدة السياق.

الإشكال الثاني: إن المؤاخذة لا تنالها يد التشريع؛ لأنها أمر تكويني، وظاهر الحديث هو الرفع التشريعي.

وأورد عليه: بأنها وإن كانت تكوينية إلاّ أن منشأها التشريع، فحيث كلّف المولى عبده استحق العبد المؤاخذة وقد يؤاخذه مولاه، ويمكن للمولى رفع التكليف فترتفع المؤاخذة واستحقاقها بانتفاء موضوعها، وعليه فالمؤاخذة قابلة للرفع والوضع تشريعاً بقابلية منشئها لذلك.

ص: 29


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 285.

الإشكال الثالث: إن ظاهر الحديث كونه مِنّة وكون الرفع خاصاً بهذه الأمة، مع أن عدم المؤاخذة على بعض هذه العناوين عقلي غير خاص بهذه الأمة.

وأجيب: بأن المراد رفع المؤاخذة على هذه العناوين إذا كانت عن تقصير، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا...} الآية(1)،

حيث إنه لو كان المراد النسيان والخطأ القصوري لم يكن وجه لمطلب عدم المؤاخذة؛ لأنها مرفوعة عقلاً.

إن قلت: لا يلتزمون برفع المؤاخذة عن مثل الغاصب غير المبالي الذي نسي الغصب بسبب عدم مبالاته.

قلت: لعله هناك فرق في كون منشأ النسيان التقصيري وأخواته عن تمرّد، أو عن عدم مبالاة، فتأمل.

الإشكال الرابع: إن المؤاخذة ليست أثراً للتكليف الواقعي حتى ترتفع برفعه، بل هي من آثار التكليف المنجّز، وحيث إن «ما لا يعلمون» غير منجّز فليس من آثاره المؤاخذة كي ترفع برفعه.

وفيه: أنه يمكن المؤاخذة على التكليف المجهول عبر إيجاب الاحتياط، وبرفع وجوب الاحتياط ترتفع المؤاخذة، فتأمل.

الاحتمال الثاني: تقدير الآثار الظاهرة فقط.

وأشكل عليه: أولاً: بأن رفع بعضها دون بعض خلاف الامتنان.

ص: 30


1- سورة البقرة، الآية: 286.

وفيه: إن الامتنان ثابت سواء رفعت بعض الآثار أم جميعها. نعم، رفع الجميع أكثر امتناناً.

وثانياً: إن المرفوع لو كان ذات هذه العناوين فلا معنى لبقاء بعض الآثار مع عدم بقاء سببها؛ لأن مرجعه إلى التناقض، أي عدم ثبوت الذات لعدم ترتب بعض الآثار، وثبوتها لثبوت بعضها الآخر.

الاحتمال الثالث: تقدير جميع الآثار.

وذلك لأنّ ظاهر رفع الذات - حتى لو كان رفعاً مجازياً - هو رفع جميع الآثار، ولذا كان هذا الاحتمال برفع جميع الآثار أقرب.

والحاصل: أنه لا نحتاج إلى تقدير شيء، وعليه فرفع الذات يستلزم رفع جميع الآثار، وحتى لو احتجنا إلى تقدير شيء فالظاهر هو تقدير جميع الآثار.

المطلب الثالث: الآثار التي موضوعها الخطأ والنسيان ونحوهما

لا شك في أن الآثار التي كان موضوعها الخطأ لا ترتفع بحديث الرفع، كدية قتل الخطأ، وكسجود السهو في نسيان واجب غير ركني في الصلاة، وإنما المرفوع الآثار المترتبة على الموضوعات الأخرى في حال الخطأ، كرفع بطلان الصوم بالأكل في حال النسيان، ولكن ما هو السبب في ذلك؟ وقد ذكرت وجوه، منها:

الوجه الأول: عدم معقولية الرفع؛ وذلك لأنه لو كان الخطأ مثلاً موضوعاً للآثار، فلا يعقل رفعه لتك الآثار، وعليه فلا بد من تقييد حديث الرفع بما لو كان منشأ الأثر الموضوعات الأخرى لا ما كان منشؤه الخطأ بما

ص: 31

هو هو.

إن قلت: لا محذور من كون الخطأ مقتضياً لأثر ما فيمنع عن تأثيره بحديث الرفع، نظير قوله (علیه السلام) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1).

قلت: إنما يعقل ذلك لو تغاير المقتضي والمانع، فالنظافة مثلاً تقتضي الوجوب والمشقة مانع عنها، لكن لا يعقل اتحاد المقتضي والمانع، فلا يعقل أن يكون الخطأ مقتضياً لحكم ورافعاً له.

مضافاً إلى أنه لو فرض إمكانه فإنه من اللغو جعل حكم على موضوع ثم رفعه عنه بأن كان الغرض بيان الاقتضاء فقط إلاّ لو أريد النسخ، وهو مستبعد.

وبعبارة أخرى: إن الآثار الثابتة لبعض الموضوعات بعنوانها الأولي مرفوعة بالعنوان الثانوي بطروّ بعض هذه العناوين - وهي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه - ، ويستحيل أن يرفع الحديث آثار العنوان الثانوي؛ لأنه علة لها فلا يمكن أن يكون علة لعدمها، وإلاّ اجتمع النقيضان.

نعم، بعض هذه العناوين - وهي الطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بيد أو لسان - بنفسها لا أثر لها بدلالة حديث الرفع.

الوجه الثاني: تخصيص تلك الأدلة لحديث الرفع؛ وذلك لأن الموضوع في حديث الرفع هو (الخطأ) مثلاً، وله صنفان: ما أخذ الخطأ في الموضوع بأن كان بشرط شيء، وما لم يؤخذ الخطأ فيه بأن كان لا بشرط، وأما الدليل

ص: 32


1- الكافي 3: 22؛ وسائل الشيعة 2: 19.

الذي أخذ الخطأ فيه موضوعاً فهو أحد الصنفين، فيخصِّص حديث الرفع!

إن قلت: بأن ظاهر أخذ عنوان في الموضوع كونه عنواناً ومقتضياً له حقيقةً، فمعنى رفع حكم الخطأ رفع حكمه بما هو خطأ لا رفع حكم ذات ما أخطأ عنه!

أي إن لدليل الرفع صنف واحد فقط أيضاً وهو ما كان (الخطأ) مثلاً موضوعاً؛ إذ الموضوع في حديث الرفع هو الخطأ مثلاً وظاهره هو دخالة الخطأ بما هو هو في ترتب الأثر، وعليه فيتعارض دليل الرفع مع أدلة آثار الخطأ، من غير كون النسبة العموم والخصوص من وجه.

قلت: بأن الموضوع وإن كان (الخطأ) وأخواته، إلاّ أن العرف يرى عموم الخطأ لما كان هو الموضوع بما هو هو أو ما كان الموضوع غيره لكن عرض الخطأ عليه.

ويمكن أن يقال: إن العرف حينما يرى الدليلين - حديث الرفع والأحاديث الدالة على آثار للخطأ مثلاً - لا يرى شمول حديث الرفع لها كي يتجه إلى التخصيص.

نعم، يمكن تغيير العموم والخصوص من الصنفين إلى المصاديق، بأن يقال: إن حديث الرفع عام لكل مصاديق الخطأ، إلاّ أن دليل الدية في القتل الخطأ أخص مطلقاً، وهكذا سائر الموارد التي جُعل الخطأ موضوعاً للأثر، فتأمل.

الوجه الثالث: إن الموضوع في حديث الرفع هو الخطأ وأخواته لا بما هي هي، وإنما بما هي عناوين مشيرة إلى الموضوعات التي وقع فيها الخطأ مثلاً، وأما في تلك الأدلة فالموضوع الخطأ وأخواته بما هي هي، فارتفع

ص: 33

التعارض باختلاف الموضوع.

وبعبارة أخرى كما في التبيين(1):

الخطأ في حديث الرفع حيثية تعليلية وفي تلك الأدلة حيثية تقييدية، مثلاً للقتل أثر وهو حق القصاص، فحين الخطأ يقال لا قصاص في القتل بسبب الخطأ، وللقتل الخطئي أثر هو الدية على العاقلة، فيقال: القتل المقيّد بالخطأ أثره الدية.

وهذا الوجه لا بأس به لو ساعد عليه العرف، والعمدة هو الوجه الأول.

المطلب الرابع: الامتنان في الرفع

لا بد من كون الرفع امتناناً ليشمله حديث الرفع، فلو لم يكن امتناناً أو كان خلاف الامتنان لم يشمله الحديث؛ وذلك لظهور الحديث في الامتنان وموضوعيته، وسبب هذا الظهور كلمة (عن) و(أمتي).

ومن أمثلة عدم الرفع: الضمان في ما لو أتلف مال الغير خطأً مثلاً؛ لأن رفع الضمان خلاف الامتنان على صاحب المال، وظاهر (أمتي) هو كون الرفع مِنّة على الجميع، وهكذا لو اضطر إلى البيع لعلاج مرضه فرفع الصحة خلاف الامتنان.

المطلب الخامس: آثار لا ترفع بحديث الرفع

وهي متعددة:

1- فمنها: ما لو تحققت هذه العناوين بسوء الاختيار، كمن ألقى بنفسه في الاضطرار إلى أكل الميتة، فذهب إلى الصحراء - مثلاً - من غير ضرورة عالماً بأنه سوف يضطر إلى أكلها.

ص: 34


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 301.

وقد ذكرت وجوه لسبب عدم شمول حديث الرفع لذلك:

الوجه الأول: انصراف حديث الرفع عما لو كانت هذه العناوين بسوء الاختيار، ولعل منشأه الارتكاز عند المتشرعة، حيث إنهم يرون أنه لا وجه للامتنان عليه بعد سوء اختياره.

الوجه الثاني: إن عدم رفع الحكم في حق من يلقي بنفسه في الاضطرار ليس على خلاف الامتنان(1).

ويرد عليه: أولا:ً بأنه صحيح أن عدم الرفع ليس خلاف الامتنان، لكن الرفع امتنان، بل حتى العاصي اختياراً مع استحقاقه للعقوبة يكون العفو عنه امتناناً، مع أن عدم الرفع ليس خلاف الامتنان(2).

وثانياً: عدم الامتنان بما هو موضوع خارجي، قد يكون حسناً وقد يكون غير حسن، وقد يزاحمه ما هو أحسن منه، فعدم رفع العقوبة والآثار في سوء الاختيار خلاف الامتنان، فيقال مثلاً: لم يمُنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) على فلان في غزوة أحد وأمر بقتله، فالرجل كان يستحق القتل وكان إجراء الحد عليه خلاف الامتنان، لكن لم يكن محذور في ذلك لمزاحمة الأهم أو لكون الامتنان حينئذٍ قبيحاً.

وبعبارة أخرى: الامتنان قد يكون حسناً وقد لا يكون، فعقاب المشرك في الآخرة خلاف الامتنان لكنه لم يرفع لأنه خلاف الحكمة، فتأمل.

الوجه الثالث: تقييد حديث الرفع بكون هذه العناوين متحققة في جميع

ص: 35


1- نهاية الأفكار 1: 220.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 304.

الأزمنة، فلا تشمل ما لو تحققت هذه العناوين في زمان الارتكاب، فالاضطرار المرفوع - مثلاً - إنما هو الاضطرار في جميع الأزمنه، لا خصوص الاضطرار في زمان الارتكاب، ففي المثال قبل الذهاب إلى الصحراء لم يكن مضطراً إلى أكل الميتة فلا يشمله ملاك الاضطرار في حديث الرفع، فخروج العنوان بسوء الاختيار إنما هو بالتخصّص.

وفيه نظر: لأن غالب موارد هذه العناوين - إن لم نقل جميعها - حدوثها في زمان دون آخر، والملاك فيها تحقق هذه العناوين حين الارتكاب، فلذا من يعلم بأنه سيضطر لا بسوء اختياره فمادامه غير مضطر لا ترتفع الآثار عنه، ولكنها ترتفع بمجرد تحقق الاضطرار، فتأمل.

الوجه الرابع: إن المؤاخذة إنما هي على الإيقاع في هذه العناوين، وهذا الإيقاع لا تنطبق عليه هذه العناوين، فالمضطر بسوء الاختيار عقابه إنما هو على الإيقاع الذي لم يكن اضطرارياً.

وفيه: أولاً: إن الآثار غير منحصرة في المؤاخذة فقط، بل هناك آثار أخرى، وللفعل موضوعية في ترتبها، كالحدّ على شرب الخمر والقصاص على القتل، فلا تثبت هذه الآثار على المقدمات وإنما على نفس الأفعال التي انطبقت عليها هذه العناوين بسوء الاختيار.

وثانياً: لا مؤاخذة على مقدمة الحرام، بل المؤاخذة على الحرام نفسه، بل لو ارتفعت الحرمة بالاضطرار - مثلاً - فلا يكون الإيقاع مقدمة للحرام أصلاً، ولذا أجاز بعض الفقهاء الإحرام للحج مع علم المكلّف باضطراره إلى ارتكاب بعض المحرمات الخاصة بالإحرام، مع أنه قد يقال: بأنه اضطرار

ص: 36

بسوء الاختيار، فالوقوع في الحرام يرفع الاستطاعة الشرعية للحج الواجب فلا تزاحم حينئذٍ، كما أن ملاك الحج المستحب لا يزاحم الحرمة لأنه لا اقتضائي وهي اقتضائية.

والجواب: أن محرمات الإحرام نوعان: محرمات مطلقة لا تختص بالإحرام كقلع نبات الحرم وصيده، ومحرمات خاصة بالإحرام كالتظليل وقص الأظافر، لا كلام في سقوط الوجوب أو الجواز في النوع الأول لما ذكر، ولكن لا سقوط في النوع الثاني؛ وذلك لعدم حرمتها مطلقاً على هذا المكلف المضطر إليها لو أحرم؛ لأنه قبل الإحرام لا حرمة عليه لعدم حرمتها على المُحِلّ، وبعد الإحرام لا حرمة عليه لاضطراره إليها، فلا توجد حرمة لهذا الشخص أصلاً حتى ترفع الاستطاعة في الحج الواجب أو تزاحم الحج المستحب فترفع جوازه، فتأمل.

وقد مرّ شطر من البحث حول الاضطرار بسوء الاختيار في بحث اجتماع الأمر والنهي(1)، فراجع.

2- ومنها: ما لو كان الأثر أثراً للشيء بما هو هو لا بما هو فعل صادر عن المكلّف.

ففي موارد متعددة من الفقه أفتى الفقهاء بعدم رفع الآثار التكليفية أو الوضعية لبعض الموضوعات حتى في حال تحقق هذه العناوين، كالحكم بالنجاسة حين الملاقاة سهواً، وكالحكم بوجوب غسل مس الميت بمسّه ولو خطأً، وقد اختلفت الكلمات حول سبب عدم شمول حديث الرفع لها

ص: 37


1- نبراس الأصول 2: 176.

بين كونها تخصيصاً، أو تخصّصاً، وقد ذكرت وجوه، ومنها:

الوجه الأول: إن الحديث يرفع آثار الموضوع إذا أخذ ذلك الموضوع بالمعنى المصدري أي باعتبار صدوره عن المكلّف، لكنه لا يرفع الآثار المترتبة على الموضوع إذا أخذ موضوعاً بمعناه الاسم المصدري أي باعتبار وجوده خارجاً مع قطع النظر عن فاعله، وعن المحقق النائيني إن معروض الأثر والحكم: «إما يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أن الفاعل هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر، وإما يكون الأثر مترتباً على الفعل بلحاظ صرف الوجود»(1).

فالأثر في الأول يرتفع بحديث الرفع؛ لأنه يرفع الفعل ويفرضه كأن لم يكن، وبارتفاعه يرتفع أثره، وأما الأثر في الثاني فلا يرتفع به؛ لأن الأثر لم يكن مرتبطاً بفعل المكلف كي يرتفع بارتفاعه، فالنجاسة مرتبطة بالملاقاة حتى لو لم تكن بفعل مكلّفٍ، بل بهبوب رياح مثلاً.

يبقى الكلام في كيفية تشخيص أن الأثر من أيٍّ من القسمين؟

فقد يقال: بأن الموضوع في غالب الأدلة هو فعل المكلف، فلا بد من الأخذ بالظاهر وترتيب الأثر على فعله ورفع الأثر مع تحقق عناوين حديث الرفع، إلاّ إذا دلت قرينة على كون الموضوع في لسان الدليل قد أخذ طريقاً إلى الموضوع الواقعي الذي هو صرف الوجود، كالمسّ طريق إلى الملاقاة، فموضوع الحكم بالغسل أو الحكم بالنجاسة هو الملاقاة لا المسّ، وإنما أخذ فعل المكلف موضوعاً في لسان الدليل لأنه طريق غالبي إلى

ص: 38


1- راجع فوائد الأصول 3: 351-352.

الموضوع الواقعي الذي كان صرف الوجود.

وعليه فلا بد من ثبوت القرينة ليرفع اليد عند ظاهر الدليل، وهي غالباً الإجماع أو ارتكاز المتشرعة.

الوجه الثاني: إن تلك الموارد المذكورة في الفقه إنما هي تخصيص لحديث الرفع بالدليل الخاص.

وعلى كل حال سواء كان تخصيصاً أم تخصصاً فلا وجه للتمسك بإطلاق أدلة الموضوعات لثبوت الآثار في حال الخطأ وأخواته؛ وذلك لحكومة العناوين الثانوية على العناوين الأولية.

المطلب السادس: شمول الرفع للأمور العدمية

لا إشكال في ما لو كان متعلّق هذه العناوين أموراً وجودية، وأما لو كانت عدمية، كما لو نسي جزءاً أو شرطاً وكان أثر تركهما البطلان، فهل يرتفع هذا الأثر ونحوه بحديث الرفع؟

وفي الفوائد(1): إن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فإن ذلك وضع لا رفع.

وأشكل عليه: أولاً: بأن هذه العناوين إنما تتعلّق بالعدم المضاف والذي له حظ من الوجود، ولو لم يكن للأعدام المضافة حظ من الوجود لما اختلفت آثارها ولا تميزت بعضها عن بعض.

وفيه: إن مرجع ذلك إلى اجتماع النقيضين باجتماع الوجود والعدم في شيء واحد، ومعنى أن له حظاً من الوجود هو أنّ له وجوداً ذهنياً، وإلاّ فلا

ص: 39


1- فوائد الأصول 3: 352.

فرق خارجاً بين العدم المطلق والعدم المضاف.

وحيث كان العدم المضاف عدماً لا يعقل أن يكون علة للشيء لعدم تحققه، فمثل قولهم: إن عدم الشرط سبب للبطلان، تعبير مجازي يراد به عدم تحقق المشروط لعدم تحقق علته.

وثانياً(1): فرق بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته وبالعكس، وبين قلب أخذه موضوعاً للحكم بعدم أخذه في مرحلة تشريع الحكم وخلوّ خطاباته عنه، والإشكال إنما يرد على الأول دون الثاني، وما يقتضيه حديث الرفع إنما هو رفع الثاني دون الأول.

وبعبارة أخرى: الحديث لا يقلب الوجود إلى العدم ولا العدم إلى الوجود، بل معناه أن ما أخذ موضوعاً في الحكم التشريعي - سواء كان وجوداً أو عدماً - ليس موضوعاً له، فيكون مرجع رفعه إلى رفع الأثر المترتب على هذا العدم الراجع إلى عدم أخذه موضوعاً للحكم.

وفيه(2): إمكان دعوى كون متعلّق الرفع في الحديث هو ذات هذه الموضوعات لا موضوعيتها، والرفع للفعل الخارجي أو الترك الخارجي ظاهر في رفع الذات، لا أنه محو لموضوعيته في سجل عالم التشريع، ولذا كان الرفع ادعائياً لا حقيقياً، فتأمل.

وثالثاً: إن الرفع قد تعلّق بالعناوين بما أنها مرآة للمعنونات الخارجية، وهذه العناوين أمور وجودية ولا يضر في ذلك كون المعنون وجودياً أم

ص: 40


1- نهاية الأفكار 3: 219.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 317.

عدمياً، كي يستلزم التفريق بينهما بأنه في العدمي وضع وفي الوجودي رفع، وأما الجهل في قوله: «ما لا يعلمون» وإن كان عدمياً بالدقة العقلية حيث إنه عدم الملكة، إلاّ أنه وجودي عرفاً.

المطلب السابع: بقاء الأمر بالمركب مع رفع بعض أجزائه

إطلاق حديث الرفع كما يشمل أصل التكليف كذلك يشمل الإلزام في الأجزاء والشرائط، كمن أكره على ترك السورة فيرتفع وجوبها الضمني، ومع قطع النظر عن الدليل الخاص لو رفعت بعض الأجزاء أو الشرائط في الواجب فهل يبقى الأمر بالمركب أم لا؟

الأقرب هو بقاء الأمر بما تبقى؛ وذلك لأن الرفع يشمل رفع الجزئية والشرطية، ففاقد الجزء أو الشرط بسبب الإكراه - مثلاً - مركب تام الأجزاء والشرائط، حيث إن ذلك الجزء أو الشرط لم يكن جزءاً أو شرطاً فيه فيشمله إطلاق دليل الوجوب، وبعبارة أخرى: حديث الرفع ينقّح الموضوع في حالة الإكراه مثلاً، وبتحقق الموضوع يتحقق الحكم، فالصلاة من غير سورة في حال الإكراه تامة الأجزاء لعدم جزئية السورة فيها، وحيث إنها صلاة يشملها الأمر، هذا مضافاً إلى شمول قاعدة الميسور وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى.

وبذلك يتضح عدم صحة الاستدلال على عدم بقاء الأمر بأن التكليف إنما هو بالمجموع، والكل عدم عند عدم جزئه، والمشروط عدم عند عدم شرطه، فوجوب ما تبقى من الأجزاء أو الأجزاء من غير شرط كان بالوجوب الضمني وهو تابع وجوداً وعدماً لأصل التكليف بالكل، وحيث سقط الوجوب بالكل سقط الوجوب الضمني أيضاً.

ص: 41

المبحث الثاني: في فقه ما لا يعلمون
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في شموله للشبهات الحكمية والموضوعية

وفيه أقوال:

القول الأول: اختصاصه بالشبهات الموضوعية.

واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: دلالة السياق على ذلك، حيث إن «ما اضطروا إليه» و«ما استكرهوا عليه» و«ما لا يطيقون» خاصة بالموضوعية؛ لعدم معنىً محصّل للاضطرار أو الاستكراه أو عدم إطاقة الحكم، لعدم اتصاف الحكم بها، بل المتصف بها الأفعال.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: بأن الموصول في الأربعة إنما هو بمعنى الشيء فالسياق واحد، لكن بالإرادة الجدية تختص الثلاثة بالموضوعات لعدم تعقل تعلقها بالأحكام، ولا اختصاص في «ما لا يعلمون»، وبذلك يتبيّن عدم الإخلال بالسياق، حيث إنه يرتبط بالإرادة الاستعمالية.

إن قلت(1): إن الصلة في الثلاثة خاصة بالموضوعات، وبذلك يتم التصرف في عموم الموصول في مرحلة الإرادة الاستعمالية أيضاً، وبعبارة أخرى: الصلة قرينة على الإرادة الاستعمالية في خصوص الموضوعات.

قلت: قد مرّ في باب الوضع أن المبهمات - كالموصولات - يكون فيها

ص: 42


1- منتقى الأصول 4: 392.

الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عاماً، وانحصار المصداق في شيء لا يخرجها عن الإطلاق، وخاصة أن الانحصار لا يرتبط باللفظ وإنما بدلالة الاقتضاء، حيث لا يعقل اتصاف الحكم بالثلاثة، وبعبارة أخرى: الاختلاف في المصاديق وذلك لا يوجب الاختلاف في الإرادة الاستعمالية، بل وحتى في الإرادة الجدية.

الإشكال الثاني(1): في «ما لا يعلمون» سياقان متعارضان، أحدهما ظاهر في إرادة الموضوعات والآخر ظاهر في إرادة الأحكام، وبتعارضهما يتساقطان، فلا سياق كي يقيّد الحديث بأحدهما، فيبقى الإطلاق بحاله، أما السياق الأول فهو ما ذكره المستدل وظاهره اختصاص الرفع بالشبهات الموضوعية، وأما السياق الثاني الذي ظاهره اختصاص الرفع بالشبهات الحكمية، فهو أن ظاهر الموصول في الثلاثة هو ما كان بنفسه معروضاً للوصف، فالاضطرار والإكراه وعدم الإطاقة عرضت على نفس الموصول الذي هو الفعل، وهذا السياق يقتضي كون «لا يعلمون» عارضاً على نفس الموصول أيضاً، لكن عدم العلم يتعلق بنفس الحكم، لا بالموضوع، لأن الجهل لا يتعلق بالفعل وإنما بعنوانه، مثلاً من يضطر إلى أكل الميتة فالاضطرار عارض على نفس الفعل الخارجي، ولكن لو جهل أنه أكل الميتة، فالجهل لم يعرض على أكل اللحم المردد بين الميتة والمذكى، وإنما عرض على عنوان أكل اللحم، حيث لا يعلم أنه ميتة أم مذكى.

وفيه: أن الجهل يتعلّق بالفعل، ففي المثال ليس موضوع الحكم هو أكل

ص: 43


1- نهاية الأفكار 3: 215-216.

اللحم حتى يقال بأنه معلوم، وإنما الجهل تعلق بعنوانه لتردده بين الميتة والمذكي، بل موضوع الحكم هو أكل الميتة والجهل عرض عليه لا على عنوانه.

إن قلت: يمكن جعل الموضوع أكل اللحم المردد.

قلت: مع إمكان جعل الموضوع بما يناسب السياق لا وجه لجعله بما يخالفه، وخاصة مع كون ما يناسب السياق هو الظاهر من الدليل إثباتاً.

الدليل الثاني: إن الرفع إنما يكون مع ثقل الموضوع، بل هو منصرف عن غير الثقيل، ولا ثقل في حكم المولى لأنه إنشاء، وإنما الثقل في فعل العبد.

وفيه: أولاً: إن سبب الثقل هو الحكم فهو الذي يوقع المكلف في الفعل الثقيل فلذا يصحّ إسناد الثقل إليه.

وثانياً: إن المرفوع هو الفعل في كلا الشبهتين، فالفعل المرفوع قد يكون الاشتباه في حكمه الجزئي، وقد يكون الاشتباه في حكمه الكلي.

وثالثاً: إن تعلّق الحكم بذمة المكلّف ثقل عليه حتى لو لم يكن هنالك فعل، فإنشاء المولى الحكم لا ثقل فيه لكن في فعليته الثقل على المكلف، فتأمل.

الدليل الثالث: إن الرفع تعلق بتسعة في قوله (صلی الله علیه و آله) : «رفع عن أمتي تسعة»، ولا بد من كون إسناده إليها إسناداً واحداً - إما حقيقي إن كان إسناداً إلى ما وضع له، وإما مجازي إن كان إسناداً إلى غير ما وضع له - ولا يعقل تعدد الإسناد لاستلزامه اجتماع الضدين، وإسناد الرفع إلى «ما لا

ص: 44

يعلمون» في الشبهة الموضوعية إسناد مجازي؛ إذ لا تنال يد التشريع رفع ووضع الفعل الخارجي، بل تنال متعلقه التشريعي، وفي الشبهة الحكمية إسناد حقيقي لأنه أمر تشريعي، وحيث إن الإسناد في سائر الفقرات مجازي حيث إن المرفوع الفعل فلا بد من كونه كذلك في «ما لا يعلمون»؛ إذ إضافة الرفع في قوله (صلی الله علیه و آله) : «رفع عن أمتي تسعة» إضافة واحدة.

وأجيب: أولاً: بأن الإسناد مجازي على كل حال، إمّا لأن الرفع ظاهري لا واقعي، فرفع الحكم فرضُ رفع ٍ، لا رفعٌ حقيقي، وإمّا لأن رفع الفعل يشمل الفعل المجهول عنوانه والفعل المجهول حكمه، فرفع الفعل الذي لا يعلمونه شامل للشبهتين، وإما لما قيل: من أن المركب مما وضع له ومما لم يوضع له الإسناد إليه مجازي.

وثانياً: بأن الإضافة متعددة، فإن «رفع تسعة» وإن كان اللفظ واحداً، إلاّ أن «تسعة» مرآة لما ذكره بعد ذلك مفصلاً، فتعددت الإضافة بتعدد حرف العطف، والحاصل: إنه لا يراد من «تسعة» العنوان، بل المعنون.

وفيه(1): إن الملاك في وحدة الإسناد وتعدده هو الإسناد اللفظي، لا التحليلي العقلي، ففي مثل: (جاء القوم) إسناد واحد مع تعدد أفراد القوم، وهكذا في حديث الرفع إسناد واحد وإن كان عنواناً ومرآةً، فتأمل.

القول الثاني: عموم «ما لا يعلمون» للشبهات الموضوعية والحكمية.

واستدل له: بأن الموصول في «ما لا يعلمون» إما مطلق يراد به الشيء المبهم، أو يراد به الموضوع في عالم الاعتبار، أو الحكم المجهول، أو

ص: 45


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 342.

الفعل بما أنه واجب أو حرام، أو الفعل بما هو هو! وأياً كان المراد فالموصول شامل لكلا الشبهتين، فهنا احتمالات:

المعنى الأول: أن يراد بالموصول الشيء المبهم، وهو شامل للموضوع والحكم، وأما الإشكال عليه بعدم إمكان الجمع بين إسنادين - لما وضع له ولغير ما وضع له - فقد مرّ الجواب عنه.

المعنى الثاني(1): أن يراد به الموضوع في أفق الاعتبار لا الشيء الخارجي؛ وذلك لإمكان وجود الحكم من دون وجوده، فالموضوع هو الكلي المقوّم للحكم، ويكون جعله بعين جعل الحكم؛ إذ البعث المطلق لا يوجد بنحو وجوده الاعتباري إلاّ متعلقاً بمتعلقه وموضوعه، وعليه فرفع الموضوع الكلي تشريعاً مساوق لرفع الحكم، كما كان وضعه بعين وضعه، فالإسناد إلى جميع عناوين حديث الرفع إسناد إلى ما هو له عرفاً مع انحفاظ وحدة السِياق في الجميع، فيكون رفع الموضوع الكلي في «ما لا يعلمون» أعم من رفع الموضوع المجهول نفساً، ومن المجهول تطبيقاً، فشرب التتن المجهول كونه موضوعاً مرفوع، وشرب الخمر المجهول كونه موضوعاً تطبيقاً أيضاً مرفوع.

وبعبارة أخرى: إن الموضوع في أفق الاعتبار إن كان مجهولاً فهو مرفوع، ففي الشبهة الحكمية المجهول إنما هو مجهول نفساً - بمعنى جهالة موضوعية الموضوع للحكم - وفي الشبهة الموضوعية مجهول تطبيقاً.

ويرد عليه: أن هذا المعنى للموصول ممكن ثبوتاً إلاّ أنه خلاف الظاهر

ص: 46


1- نهاية الدراية 4: 51.

إثباتاً، فلا يصار إليه مع وجود معنى مطابق للظاهر.

وأما الإشكال عليه(1): بأن الشك في الشبهة الموضوعية إنما هو شك في وجود الموضوع خارجاً فيشك في فعلية الحكم، وليس شكاً في موضوع الحكم الذي تعلّق به الحكم في مرحلة الجعل، مثلاً حين الشك في كون مائع خمراً أو خلاً لا يوجد شك في موضوع (إنما الخمر... فاجتنبوه) إذ الموضوع والحكم ثابتان لا شك فيهما، وإنما الشك ناشيء عن تحقق الموضوع خارجاً، فليس الموضوع والحكم الكليين يرتبطان بثبوت الحكم الفعلي للموضوع الجزئي لا إثباتاً ولا نفياً، وعليه لا يشمل حديث الرفع حسب هذا المعنى الشبهات الموضوعية؛ لأن ثبوت الموضوع الكلي ورفعه يرتبطان بمرحلة الجعل لا مرحلة المجعول، ولا يتحقق ذلك إلاّ في الشبهات الحكمية، حيث يرفع المولى الحكم واقعاً بالنسخ، أو ظاهراً بالبراءة.

فغير وارد(2): لأن الحكم الجزئي متحد مع الحكم الكلي وليس مغايراً له، فنفس الحرام الذي أنشأه المولى متحقق في الخارج، حيث إن الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فحينما نقول: هذا الخمر حرام فهذه الحرمة هي نفس الحرمة المنشأة بقوله: (فاجتنبوه).

المعنى الثالث: أن يراد بالموصول الحكم المجهول، وجهالة الحكم تنشأ تارة من اختلاط الأمور الخارجية، وتارة من فقدان النص أو إجماله أو

ص: 47


1- منتقى الأصول 4: 399.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 358.

تعارض النصين.

إن قلت: الأحكام تثبت للطبائع لا للموضوعات الجزئية، فلا معنى لرفع الموضوعات الخارجية.

قلت: إن الحكم في مرحلة الجعل يرتبط بالطبائع، وأما في مرحلة المجعول فهو يكون بثبوت التكليف في ذمة المكلّف وهو يرتبط بفعلية الموضوع، ومع فعلية الموضوع تتحقق فعلية الحكم حقيقة، فحديث الرفع يرفع الحكم المجهول من غير فرق بين كون الجهالة في مرحلة الجعل أم المجعول، أي سواء كان حكماً كلياً أم جزئياً.

المعنى الرابع: أن يراد به الفعل بما هو واجب أو حرام؛ إذ قد لا يكون ثقل في الفعل في نفسه، لكن يكون الثقل فيه بما هو إلزامي أو بما تترتب عليه العقوبة، وهذا يجري في كلا الشبهتين، فيرفع بحديث الرفع.

وأشكل عليه: أولاً: إثباتاً: بمخالفة هذا المعنى للسياق، فإنّ الموصول في سائر العناوين الفعل بما هو هو، فإن ظاهر «ما استكرهوا عليه» - مثلاً - هو الفعل الذي أكرهوا عليه بما هو هو، لا الفعل المحرّم الذي أكرهوا عليه؛ إذ غالباً يكون الإكراه على الفعل بما هو هو.

وثانياً: ثبوتاً(1):

وهو مركب من ثلاث مقدمات:

1- إن المشتقات غير موجودة بالذات، ولذا لا تدخل تحت المقولات، بل الموجود بالذات نفس ذات الموضوع و مبدأ المحمول.

2- والمجهول بالذات إمّا نفس ذات الموضوع كالجهل بالخمر، وإمّا

ص: 48


1- نهاية الدراية 4: 47-48.

مبدأ المحمول كالجهل بالحرمة، وأمّا الجهل بالفعل المعنون بعنوان الحرام فليس أمراً ما وراء أحد النحوين من الجهل بالذات، فالجهل في الحقيقة بالموضوع أو بالحرمة وهما صارا واسطة لعروض الجهل على عنوان الحرام.

3- ومن الواضح أن المراد من «ما لا يعلمون» الشيء الذي لا يعلمونه حقيقة، لا ما لا يعلمونه عرضاً.

وأورد عليه: أولاً: ما قيل من أن المشتق موجود وهو من مقولة الجوهر، مثلاً الجدار والأبيض موجودان خارجاً بوجود واحد وإن اختلفا ذهناً، فالموجود هو حصة من الوجود الكلي وهو المنتسب إلى البياض.

وثانياً(1): كون المشتق لا يوجد إلاّ بالعرض لا ينافي تعلق الجهل به حقيقة، بل يتعلق الجهل به حقيقة بما له من الوجود ولو بواسطة الجهل بما هو موجود بالذات.

وفيه: أن هذا إنما يصح لو كان المراد من الوجود العرضي الوجود الانتزاعي، حيث إن له وجوداً حقيقياً تبعيّاً، لكن مرادهم من الوجود العرضي هو ما لا وجود له إلاّ فرضاً، فتأمل.

وثالثاً: إن العرف يرى أن للمشتق نحو من أنحاء الوجود الحقيقي، وعليه فيتعلق به العلم والجهل بالذات، فيرفعه المولى!

المعنى الخامس: أن يراد بالموصول الفعل بما هو هو، والجهل كما يتعلق بنفس الفعل كذلك يتعلق بوصفه، فالأول في الشبهات الموضوعية

ص: 49


1- منتقى الأصول 4: 396.

حيث جهالة ماهية الفعل الخارجي، والثاني في الشبهات الحكمية حيث جهالة وصف ذلك الفعل أي حكمه.

وأشكل عليه(1): بأنه منافٍ لظاهر الوصف، فإن إرادة الجهل به بوصفه من باب الوصف بحال المتعلّق، فإن الظاهر من «ما لا يعلمون» الشيء الذي لا يعلمونه، لا الشيء الذي لا يعلمون حكمه، فاختص بالشبهات الموضوعية.

إن قلت: العلم والجهل التصديقيان يتعلقان بثبوت شيء لشيء، ولا فرق حينئذٍ بين ثبوت الخمرية للمائع أو ثبوت الحرمة لشرب التتن، غاية الأمر أن عنوان الخمرية للمائع ذاتي، وعنوان الحرمة للشرب عرضي، وعليه ففي كلا الشبهتين يكون الوصف بحال المتعلّق.

قلت: إن شرب المائع ليس موضوعاً للحكم كي يقال: إن شرب المائع حيث لم يعلم عنوانه - وهو كونه خمراً - فهو مرفوع، بل الموضوع هو شرب الخمر، وهو المرفوع إذا كان مجهولاً، والجهل تصديقي أي الجهل بتحقق شرب الخمر، وعليه فلا بد على هذا الوجه من تخصيص الرفع بالموضوعية.

المطلب الثاني: في كون الرفع ظاهرياً لا واقعياً

والرفع الظاهري هو رفع وجوب الاحتياط، أو رفع الحكم ظاهراً مما يلزم منه عدم وجوب الاحتياط؛ إذ هو بمعنى الترخيص في الاقتحام وهو ينافي وجوب الاحتياط.

وأما الرفع الواقعي فهو بمعنى تقييد أدلة الواجبات والمحرمات بحديث الرفع، فتكون الأحكام خاصة واقعاً بالعالم دون الجاهل.

ص: 50


1- نهاية الدراية 4: 48.

ولا يخفى أن البحث في خصوص نوعية الرفع في «ما لا يعلمون»، وأما في سائر العناوين كالإكراه والاضطرار فالرفع واقعي؛ لعدم تعقل الرفع الظاهري.

وفي المسألة قولان:

القول الأول: كون الرفع ظاهرياً، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: ما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم بالدلالة الالتزامية، كأخبار حسن الاحتياط الدالة على وجود واقع مجهول يحسن الوصول إليه، وكالأخبار الدالة على سؤال العالم وظاهرها عرفاً ثبوت الحكم على الجاهل لا حسن تغيير الموضوع، ولا كونه واجباً نفسياً، بل واجب طريقي لإحراز الحكم الواقعي.

الدليل الثاني(1): إن مقتضى الامتنان هو رفع ما يأتي الضيق منه، وليس ذلك متحقق في الحكم الواقعي؛ إذ لا ضيق منه وإنما الضيق من الأمر بالاحتياط، وعليه فليس رفع التكليف المجهول منةً كي يرفع بحديث الرفع.

وأشكل عليه: بأنّ رفع الواقع قد يكون منةً على العباد، وأثره نفي وجوب الاحتياط، وبعبارة أخرى: صحيح أنه لا تنحصر المِنّة برفع الواقع، لكن قد تكون المِنّة برفعه.

الدليل الثالث: إن قوله: «ما لا يعلمون» أي ما لا يعلمونه، وهو قرينة على وجود شيء لم يُعلم.

وفيه: استعمال ما لا يعلمون لا ينحصر في ذلك، بل من موارده عدم

ص: 51


1- نهاية الأفكار 3: 214؛ مقالات الأصول 2: 165.

وجود شيء، كما في قوله تعالى: {أَتُنَبُِّٔونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}(1)،

ولا ظهور في أحدهما.

وأما الاستدلال بوحدة السياق - كما في نهاية الأفكار(2)

- بأن الرفع في سائر الفقرات ادّعائي فكذلك في «ما لا يعلمون»! فقد مرّ البحث فيه.

وأما لزوم الرفع الواقعي للتصويب فسيأتي الجواب عنه، وأما لزوم أخذ العلم بالحكم في موضوعه مما يستلزم الدور، فقد مرّ الكلام عنه في بحث التوصلي والتعبدي.

القول الثاني: كون الرفع واقعياً، ولا بد من تبيين المراد؛ لأن القائلين به ذاهبون إلى اشتراك التكليف بين الجاهل والعالم وإلى بطلان التصويب.

فنقول: إن مرادهم ارتفاع الحكم الفعلي واقعاً مع ثبوت التكليف الإنشائي على الجميع، فلا رفع للاقتضاء لأنه أمر تكويني غالباً، ولا رفع للإنشاء لأن رفعه يستلزم التصويب، ولا رفع للتنجّز لأنه لا تنجّز على الجاهل حتى في الرفع الظاهري؛ إذ الجاهل لا يعاقب.

إن قلت: وماذا عن محذور الدور أو ملاكه أو الخلف؟

قلت: لا يلزم ذلك؛ لعدم تعليق أصل الحكم على العلم، بل فعليته ارتبطت به، كما لا دور في تعليق التنجز على العلم.

وعليه فإن إطلاق حديث الرفع يتكفل برفع الفعلية بعد عدم المحذور العقلي فيه، ويترتب عليه ثمرة هامة هي عدم وجوب القضاء أو الإعادة لو

ص: 52


1- سورة يونس، الآية: 18.
2- نهاية الأفكار 3: 214.

انكشف له الواقع في ما لو أتي بالفعل من دون جزئه أو شرطه؛ إذ تطابق فعله مع المأمور به الواقعي، وهو يقتضي الإجزاء، كما لا قضاء عليه لو لم يأت بأصل العمل سواء قلنا بأن القضاء تابع للأداء أم بأمر جديد؛ وذلك لعدم ثبوت تكليف واقعي عليه.

ويرد عليه(1): بأنه لو توقفت الفعلية على العلم...

فإن كان المراد أن العلم بالفعلية سبب لها، فهذا دور.

وإن كان المراد أن العلم بالإنشاء سبب للفعلية، فهذا غير صحيح، لاستلزامه إمّا تغاير المجهول والمرفوع وهو خلاف الظاهر، وإمّا عدم الفعلية أبداً!، أما الأول فلأنّ المعنى: إن جهلت بالإنشاء ارتفعت الفعلية، وإن علمت به ثبتت، وأما الثاني: فلأن العلم بالتكليف الإنشائي لا يوجب شيء في ذمة المكلّف، وبعبارة أخرى: العلم بالحكم الإنشائي لا يقلبه فعلياً، فقبل العلم ليس بفعلي حسب المفروض، وبعده كذلك حيث إن العلم لا يغيّر الواقع!

المطلب الثالث: الرفع في الأحكام غير الإلزامية

1- أما على الرفع الواقعي، فهنا قولان:

الأول: عموم الرفع لها، وقد يستدل له بإطلاق الموصول، ولو فرض عدم الإطلاق فالملاك جارٍ، وقد يؤيّد بقوله (علیه السلام) : «أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»(2)

ص: 53


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 369-372.
2- الخصال 1: 93؛ وسائل الشيعة 1: 45.

فالرفع فيهم واقعي عام لجميع التكاليف.

الثاني: عدم شمول الرفع لها؛ لعدم صدق الرفع على ما لا ثقل فيه.

ويرد عليه: صغرىً: بأنها ثقيلة على المكلف حتى مع عدم كونها إلزامية، لشعوره بالحرج من مخالفة محبوب المولى أو مكروه حتى وإن لم يصل إلى حدّ الإلزام.

وكبرىً: بما مرّ من أنه لا دليل على أخذ الثقل في الرفع، وبثبوت المنة برفع الأحكام حتى غير الإلزامية.

2- وأما على الرفع الظاهري، فقولان أيضاً:

القول الأول: شموله للتكاليف الضمنية دون الاستقلالية.

أمّا عدم شموله للتكاليف الاستقلالية، فللغويته؛ إذ لا أثر للرفع فيها إلاّ رفع الاحتياط، ولا شك في عدم وجوبه في التكليف غير الإلزامية المعلومة فضلاً عن المجهولة، كما لا شك في حسنه في المجهولة.

إن قلت: رفع التكليف الذاتي في الظاهر لا ينافي ثبوت الاستحباب بالعنوان العرضي أي بالاحتياط.

قلت: لا يترتب على هذا التفريق ثمرة عقلائية، وبذلك لا ترتفع اللغوية، فتأمل.

وأمّا شموله للتكاليف الضمنية، فلثبوت ثمرة للرفع، وذلك برفع الجزئية أو الشرطية، وثمرة ذلك صحة العمل من دونها، وعدم التشريع في الإتيان بالفاقد بقصد الأمر، لكن لا يخفى اختصاص هذا بالمستحبات دون المكروهات.

ص: 54

إن قلت: الشك في الجزئية أو الشرطية مسبّب عن الشك في الأمر بالجزء أو الشرط، ومع ثبوت الاستحباب لا شك في الجزئية أو الشرطية ليرفعان بحديث الرفع، ومع عدم ثبوته فالأصل عدمه، فلا تصل النوبة إلى الأصل المسبّبي، برفع الجزئية أو الشرطية.

قلت: جريان الأصل السببي مشكل؛ لأن أصل العدم مرجعه إلى الرفع والبراءة، وعلى فرض جريانه فلا مانع من جريان الأصل المسببي إذا كان متوافقاً مع الأصل السببي على بعض الأقوال، هذا مضافاً إلى ما قيل: من أن عدم الجريان في ما لو كانت السببية شرعية، وأما لو كانت عقلية مع عدم التنافي بينهما فلا محذور من جريانهما، فتأمل.

القول الثاني: جريان الرفع في ما لو كان الجزء أو الشرط مما يكون في الطبيعة المشتركة بين الواجب والمستحب كالاستعاذة قبل قراءة السورة؛ وذلك لجريان الرفع في الواجب، وباشتراك طبيعته مع المستحب نعلم بعدم جزئيته أو شرطيته فيه، بخلاف ما كان خاصاً بالمستحب كقراءة سورة معينة في نافلة خاصة.

وأورد على الأول: في مرحلة الظاهر يتم التفكيك ولا مانع منه، كما في استصحاب القصر والتمام في المحل الواحد المشكوك كونه حدّ الترخص، وكاستصحاب طهارة الماء ونجاسة اليد في إدخال اليد المتنجسة في الماء المشكوك كريته.

وعلى الثاني: بأنه إن كان الغرض امتثال أمر المولى ونسبة العمل إليه، فذلك ممكن بحديث الرفع، حيث يتم رفع الجزئية أو الشرطية، وبذلك

ص: 55

يكون المأمور به هو المتبقى، كما مرّ.

المبحث الثالث: في فقه رفع النسيان
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: نسيان الجزء أو الشرط في العبادة

1- قد يقال: بعدم الصحة - مطلقاً سواء استوعب النسيان تمام الوقت أم لا - واستدل له بأدلة، منها(1):

الدليل الأول: ما مرّ من أن الرفع ليس بمعنى الوضع، فلا يدل الرفع على وضع الجزء أو الشرط، وحينئذٍ فلا يتحقق المركب؛ لأنه عدم عند عدم جزئه أو شرطه، وأما ما تبقى فلم يكن مأموراً به ليكون مُجزياً!

وفيه: ما مرّ، مضافاً إلى أن نسيان الجزء أو الشرط يلازم نسيان الجزئية أو الشرطية؛ لعدم تعقل تذكر أحدهما مع نسيان الآخر، وبرفع الجزئية أو الشرطية تكون الماهية المأمور بها هي ما تبقى.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك ظاهري لا واقعي، ولا إجزاء للمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي.

الدليل الثاني: ليست الصحة والإجزاء من الآثار الشرعية، بل هما عقليان؛ لأن الصحة بمعنى التمامية وهي انتزاعية من واجدية الشيء لكل ما اعتبر فيه، والإجزاء بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به، وحديث الرفع إنما يرفع الآثار الشرعية أو يرفع الشيء باعتبار آثاره الشرعية.

ص: 56


1- الثلاثة الأولى، فوائد الأصول 3: 353، والأخيرين، نهاية الأفكار 3: 218؛ مقالات الأصول 2: 293.

وفيه: كفاية كون المرفوع شيئاً شرعياً من غير حاجة إلى كونه ذا أثر شرعي، فرفع وجوب الجزئية - وهي أمر شرعي - كافٍ في صحة الرفع الشرعي، نظير ما يذكر في الاستصحاب بكفاية كون المستصحب أمراً شرعياً.

هذا مضافاً إلى كفاية رفع الآثار العقلية برفع منشئها الشرعي.

الدليل الثالث: إن رفع السورة - مثلاً - إنما هو بلحاظ رفع الأثر وذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود.

وفيه: ما مرّ من أن المرفوع الجزئية أو الشرطية أو وجوب الجزء أو الشرط، وبذلك تتحقق ماهية المأمور به من دونهما، فيكون أثر الرفع هو صحة العبادة، والإجزاء، بناءً على كون الرفع واقعياً.

الدليل الرابع: إن مقتضى رفع النسيان في هذه الأمور إنما هو رفع التكليف الفعلي عن الجزء والشرط المنسيّين، ويلزمه بمقتضى الارتباطية سقوط التكليف عن البقية أيضاً مادام النسيان، إلاّ أنه بعد النسيان تقتضي المصلحة القائمة بالمركب إحداث تكليف بالإتيان.

وأورد عليه: أولاً: ما مرّ من أن حديث الرفع يرفع الجزئية والشرطية فلا يكون المنسي جزءاً أو شرطاً من هذا المصداق من المركب، فيبقى الأمر بالباقي لإطلاق دليله.

وفيه: إن الرفع ظاهري، فسقوط الجزء أو الشرط ظاهري ولا إجزاء للظاهري عن الواقعي، كما مرّ نظير في «ما لا يعلمون».

ص: 57

وثانياً: إنه لا امتنان في الرفع المقيّد بحالة النسيان؛ إذ النتيجة حينئذٍ واحدة سواء رفع أم لم يرفع وهي عدم ثبوت شيء عليه في الظاهر مادامه ناسياً، ولزوم الإعادة أو القضاء عليه حين التذكر، وعليه فيكون هذا الرفع لغواً، ورفع اللغوية إنما يكون بترتب الأثر حال التذكر بعدم القضاء أو الإعادة؛ إذ لا أثر آخر.

وثالثاً: إنه مع انتهاء الوقت لا دليل على بقاء الملاك الذي كان سبباً للتكليف في الوقت. نعم، في الوقت يمكن القول ببقاء الملاك لا حدوث ملاك جديد، فتأمل.

الدليل الخامس: إنه أصل مثبت؛ إذ لا أثر شرعي لنسيان الجزء أو الشرط، بل الأثر من وجوب الإعادة أو القضاء مترتب على مخالفة المأتي به للمأمور به وهو لازم النسيان أو ملازمه عقلاً.

وفيه: إن وجوب الجزء أو الشرط، وكذا الجزئية والشرطية أمور شرعية، فتُرفع بحديث الرفع، ولا نحتاج إلى أثر آخر شرعي كي نرفعه.

2- وقد يقال: إن العمل باطل لو كان النسيان غير مستوعب لتمام الوقت؛ لأن المكلف لم يأت بالماهية التامة، والأمر كان بإتيانها تامة في الوقت، كما عن المحقق النائيني(1).

وأورد عليه(2): بأنه بناءً على حكومة دليل الرفع على أدلة الأجزاء والشرائط فلا فرق في استيعاب النسيان لكل الوقت أو عدم استيعابه؛ وذلك

ص: 58


1- أجود التقريرات 3: 304.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 22.

لانقلاب التكليف، فالناسي أتى بتكليفه وهو يقتضي الإجزاء، ولا دليل على تحقق أمر جديد بالواجد؛ لأن ماهية العبادة أمر مشكّك، وقد أتى المكلّف بفرد منها كانت وظيفته.

المطلب الثاني: نسيان السبب أو الشرط في المعاملة

فهل يجري حديث الرفع، و به يتمّ تصحيح المعاملة!

1- فقد يقال: ببطلان العقد فلا يترتب عليه أثر، واستدل له:

أولاً(1): بأن الحديث يدل على الرفع لا الوضع، فلا يثبت أمراً لم يكن، مثلاً رفع العقد بالفارسية لا يقتضي وضع العقد بالعربية بناءً على اشتراطها، والشرطية ليست منسيّة كي يكون الرفع بلحاظها، وما وقع خارجاً ليس مصداقاً للعقد الصحيح!

وأورد عليه: بما مرّ، وبأن نسيان الشرط يلازم نسيان الشرطية.

وثانياً(2): إن الرفع خلاف الامتنان، فإن عدم جريان الرفع فيها إنما هو من جهة اقتضائه للوضع الذي هو التكليف بالوفاء بالفاقد ومثله خلاف الامتنان في حق المكلّف.

وفيه: بأن إمضاء العقد ليس خلاف الامتنان، حيث إن المكلّف هو بنفسه قد التزم به، مضافاً إلى أنه قد يكون للعقد فوائد له وفي بطلانه ضرر عليه فعدم رفعه خلاف المنة حينئذٍ.

2- وقد يفصّل بين نسيان أصل العقد أو الإيقاع أو نسيان جزء أو شرط

ص: 59


1- فوائد الأصول 3: 356.
2- نهاية الأفكار 3: 221.

مقوّم للماهية كنسيان القبول، وبين نسيان جزء أو شرط غير مقوّم للماهية، أما الأول: فلعدم وقوع عقد أو إيقاع خارجاً كي نصححه بحديث الرفع، مثلاً لا يوجد عقد حتى نقول باندراج المورد في قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1)،

وأما الثاني: فلتحقق مسمّى العقد أو الإيقاع خارجاً، غاية الأمر فقدانه لجزء أو شرط شرعي، فيمكن جريان حديث الرفع، فيندرج هذا العقد في العموم أو الإطلاق الفوقاني.

المبحث الرابع: في فقه رفع الإكراه
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الإكراه وكون رفعه واقعياً

الإكراه إنما هو بمعنى تهديد الإنسان بضررٍ لكي يفعل أمراً لا تطيب نفسه به، فلا إكراه في ما طابت نفسه به حتى لو هدّده، كما لا إكراه في ما لو لم يكن المتوعد عليه ضرراً، ولا يخفى أنه يصدق الإكراه أحياناً على التهديد بتفويت نفع إذا اعتبره العرف ضرراً، كما لو توعدّه بإغلاق وسيلة كسب عيشه إن لم يفعل ما لا تطيب نفسه به مثلاً.

ولا يخفى أن الرفع فيه واقعي، وكذلك في سائر العناوين سوى ما لا يعلمون، وسوى النسيان على احتمال؛ وذلك لأنه لا معنى للرفع الظاهري إلاّ في حالة الجهل أو النسيان، ولذا لا تكليف ظاهري إلاّ في الحالتين، وأما مع العلم بالتكليف الواقعي فلا معنى لجعل تكليف ظاهري مماثل أو مضاد؛ لأن ظرف أو موضوع الحكم الظاهري الجهل، فعليه إن الرفع في حالة

ص: 60


1- سورة المائدة، الآية: 1.

الإكراه وأخواته واقعي بتبدل موضوع التكليف فيكون نظير التيمم حين فقدان الماء.

المطلب الثاني: شمول رفع الإكراه للعبادات والمعاملات

ويدل عليه إطلاق الحديث، بل وإطلاق قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّۢ بِالْإِيمَٰنِ}(1)،

ويؤيده فتاوى الفقهاء في المسائل الجزئية.

نعم، قد يكون في بعض المسائل دليل أخص - ولو ارتكاز المتشرعة - يخصص رافعية الإكراه، كما لو هدده بقتله أو مصادرة دينار منه إن لم يقتل فلاناً.

وأما المحقق العراقي فقد خص رافعية الإكراه بالمعاملات؛ وذلك لأن الإكراه على الشيء يصدق بمجرد عدم الرضا وعدم طيب النفس بإيجاده، ومن المعلوم بداهة عدم كفاية ذلك في تسويغ ترك الواجب ما لم ينته إلى المشقة الشديدة الموجبة للعسر والحرج، فضلاً عن الاقتحام في المحرمات التي لا يسوّغها إلاّ الاضطرار(2).

وحاصله: إن الرافع للتكليف الإلزامي هو العسر أو الحرج أو الاضطرار لا الإكراه، ولعل دليله الإجماع، وعليه فتنحصر رافعية الإكراه في المعاملات!

وفيه: إطلاق الأدلة، وعدم ثبوت الإجماع، بل في مسائل مختلفة أفتى الفقهاء برافعية الإكراه كإكراه الزوجة في شهر رمضان على المباشرة فقد أفتوا بصحة صومها مطلقاً من غير تفصيل بين عروض تلك العناوين.

ص: 61


1- سورة النحل، الآية: 106.
2- نهاية الأفكار 3: 224.
المطلب الثالث: الإكراه بترك الجزء أو الشرط أو فعل القاطع أو المانع في العبادة

كما لو أكره على قول آمين، أو على لبس جلد غير مأكول اللحم في الصلاة.

والظاهر إطلاق الدليل، وعليه فتصح العبادة بشرط صدق الاسم على فعله؛ وذلك لأن الرفع واقعي في الإكراه، فبه ترتفع الجزئية أو الشرطية أو القاطعية أو المانعية، فيكون المأمور به هو ما تبقى من غير مانع ولا قاطع، كما مرّ نظيره.

أما ما قيل: من أن ترك الجزء أو الشرط لا أثر شرعي له فلا يتحقق الرفع، كما أن البطلان ليس أثراً شرعياً، بل هو عقلي؛ إذ عدم مطابقة المأتى به للمأمور به موجب للبطلان عقلاً!

ففيه: أنه يكفي في صحة الرفع تعلق الإكراه بالترك، وتعلق الترك بالفعل، وللفعل أثر شرعي، فيتم رفع الإكراه للترك باعتبار هذا الأثر الشرعي، فكأنه لم يترك السورة أو كأنه لم يلبس جلد غير مأكول اللحم، وهذا نظير ما لو كان لدخول الشهر أثر، فيستصحب عدم دخول الشهر ليرفع ذلك الأثر، وليس هذا بأصل مثبت، كما لا يخفى!

المطلب الرابع: في تعلق الإكراه بالأسباب وبعدمها

1- فلو أكره على إيجاد السبب الصحيح في نفسه، كما لو أكرهه على الطلاق أو النكاح، فلا إشكال في شمول حديث الرفع له. نعم، في الإيقاعات يقع السبب باطلاً، وفي المعاملات يكون مراعى باستمرار عدم الرضا أو بالرد فلو رضي بعد ذلك صحّ، والتفصيل في الفقه.

2- أما لو أكرهه على إيجاد السبب الباطل في نفسه، كما لو أكرهه على

ص: 62

بيع الخمر فلا رفع؛ إذ الرفع لا يجعل اللاسبب سبباً.

3- وكذا لو أكرهه على عدم السبب؛ إذ لا يوجد سبب حتى يتم تصحيحه بالعموم الفوقاني، كما لو أراد التزوج بامرأة فأكرهه على عدم إجراء العقد، فإن هذا الإكراه لا يجعل اللاعقد عقداً ليدخل في عموم قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1)

ونحوه.

4- وهكذا لو أكرهه على ترك جزء أو شرط من السبب مع كونه مقوماً للماهية كما لو أكرهه على ترك القبول في العقد، فلم يتحقق عقد حتى يتم تصحيحه بالرفع.

5- وأما لو أكرهه على ترك جزء أو شرط من السبب غير مقوّم للماهية، فلا يبعد إمكان تصحيح المعاملة بحديث الرفع، بمعنى رفع الجزئية والشرطية وإدخال ما وقع خارجاً في عموم أو إطلاق وجوب الوفاء ونحوه.

المطلب الخامس: في الإتيان بالعمل مع انطباق عنوان الإكراه

كما لو أكرهه على ترك الصلاة فأتى بها، فهل تقع صحيحة؟

ولا يخفى أن البحث لا يرتبط باجتماع الأمر والنهي في ما لو كان المُهدد عليه مما يجب التجّنب عنه؛ وذلك لعدم انطباق العنوانين على العمل الواحد؛ إذ الحرمة إنّما هي لتحمل ذلك الضرر أو إيقاع النفس فيه لا في فعل الصلاة مثلاً!

فإن قلنا باشتراط صحة العبادة بالأمر، فلا أمر هنا لارتفاع الوجوب بحديث الرفع، وعليه فلا تكون العبادة صحيحة.

ص: 63


1- سورة المائدة، الآية: 1.

وإن قلنا بكفاية وجود الملاك في صحتها، وقعت العبادة صحيحة إن أحرزنا الملاك، لكن كيف يمكن إحرازه بعد سقوط الأمر؟

ولإحرازه ذكرت وجوه، ومنها:

الوجه الأول: إنه لا امتنان في رفع ما لا مقتضي له، لانتفاء الحكم حينئذٍ فلا تصل النوبة إلى رفعه مِنّةً.

إن قلت: إنّه لو كان مقتضي فلا معنى للرفع منةً؛ لأن في ذلك تفويت لمصالح العبيد.

قلت: لا ينحصر الملاك في مصلحة المتعلّق للعباد، بل قد تكون هناك ملاكات أخرى كمصلحة التسهيل، ولا بأس بأن يمنّ المولى برفع حكم في متعلقه مصلحة للعباد مراعاةً للملاكات الأخرى، كما في قوله (علیه السلام) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1).

الوجه الثاني: عدم صحة استعمال كلمة الرفع لو لم يكن هنالك ملاك، فحيث إن للعمل ملاك يصدق رفع المولى للحكم.

وفيه: أنه يصح إطلاق الرفع باعتبار وجود حكم مماثل في الأمم السابقة، أو بلحاظ أول الشريعة، أو بلحاظ الإثبات لا الثبوت.

وعليه فلا طريق لإحراز الملاك في ما لو أكره على ترك عبادة فأتى بها.

ولا يخفى أن أكثر ما ذكر في الإكراه جارٍ في الاضطرار وعدم الإطاقة أيضاً.

كما لا يخفى أنه لو كان جاهلاً بتحقق عنوان الإكراه والاضطرار وعدم

ص: 64


1- وسائل الشيعة 2: 19.

الإطاقة وأتى بالعمل صحّ، أما في الإكراه فلعدم تحقق عنوانه حين الجهل لانتفاء عدم طيب النفس حينئذٍ، وأما في الاضطرار وعدم الإطاقة فلأنّ الرفع خلاف الامتنان، فالأمر باقٍ بحاله من غير رفع له، ونظير ذلك رفع الضرر لوجوب الصوم فيصح لو لم يكن عالماً به.

المطلب السادس: المرفوع الإكراه المطلق

إذا أكره على ترك السبب أو ترك الجزء أو الشرط المقوّم للماهية، كترك القبول في العقد، فلا إشكال في عدم ترتب الآثار الوضعية المتوقفة على تحقق السبب؛ وذلك لأن معنى الرفع ليس الوضع كما مرّ، كما لا يوجد عام فوقاني نتمسك به لترتيب تلك الآثار.

وإذا أكره على ترك الجزء أو الشرط غير المقوّم للسبب كالإكراه على عدم التسمية في الذبح، فلا محذور في القول برفع الجزئية أو الشرطية أو المانعية بحديث الرفع.

ولا يخفى أن الموضوع في رفع الإكراه هو الإكراه المطلق لا الإكراه المقيّد بوقت خاص، فالإكراه على الترك بما لا يضطر إليه ليس داخلاً في الموضوع، كما لو أكرهه على عدم التسمية مع عدم إكراهه على أصل الذبح وإمكان تأخيره له.

وأما لو أكرهه على السبب الصحيح - في حد نفسه مع قطع النظر عن الإكراه - فلا أثر له إن لم يرض، فإن رضي بعد ذلك فلا يجري حديث الرفع؛ لأن الرفع حينئذٍ خلاف الامتنان.

إن قلت: يستلزم ذلك انفكاك السبب عن المسبب.

قلت: أولاً: لو قلنا بالكشف فلا انفكاك، وحتى على النقل لا انفكاك؛

ص: 65

لأن السبب يتحقق بجزئه الأخير الذي هو الرضا وما سبقه كانت معدّات.

وثانياً: استحالة الانفكاك إنما هي في التكوينيات، وأما في الاعتباريات فلا محذور؛ لأن السبب الحقيقي هو اعتباره لا الإنشاء.

المبحث الخامس: تقدّم دليل الرفع على أدلة الأحكام

غير خفي أن دليل الرفع مقدّم على أدلة الأحكام الأولية مطلقاً، مع أن النسبة العموم من وجه، وقد قيل في سبب التقدم وجوه:

منها: تحقق تعارض العامين من وجه، وترجيح حديث الرفع بعمل الفقهاء.

ومنها: التعارض والتساقط والرجوع إلى سائر أدلة البراءة، والتي يتوافق مؤداها مع حديث الرفع.

ومنها: تقديم حديث الرفع بدلالة الاقتضاء؛ لأن تقدمها عليه يستلزم لغويته.

ومنها: الحكومة.

وسيأتي تفصيل البحث في هذه الأقوال.

وقد ذهب المحقق النائيني(1):

إلى أن الحكومة هنا في عقد الوضع، وأن الحكومة في لا ضرر ولا عسر ولا حرج في عقد الحمل.

أما الأول: فلأنه لا يمكن طروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام، بل إنما تعرض على موضوعاتها ومتعلقاتها، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام، نظير: «لا شك لكثير الشك»، و«لا

ص: 66


1- فوائد الأصول 3: 347.

سهو مع حفظ الإمام».

وأما الثاني: فلأن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام، فإن الحكم قد يكون ضررياً أو حرجياً وقد لا يكون.

ويرد على الأول: أن الخطأ والنسيان قد يعرضان على الحكم، لا بمعنى خطأ المولى أو نسيانه، بل بمعنى خطأ أو نسيان العبد في الحكم، فقد ينسى أن هذا المائع خمر أو ينسى حكمه، أو يخطأ في الصلاة أو في حكمها.

وعلى الثاني(1): بأن هذه الثلاثة كما تطرأ على الحكم كذلك قد تطرأ على الموضوع، بل يمكن دعوى أن هذه العناوين تطرأ على الموضوعات الخارجية أولاً وبالذات ثم تطرأ على الأحكام ثانياً وبالعرض لا بالتبع، فالفعل يوصف بأنه حرجي ثم يتصف الوجوب بالحرج، وإلاّ فلا حرج في نفس الحكم. نعم؛ بما أن الحكم يوقع المكلف في الحرج يمكن أن نقول إنه حرجي.

والحاصل: إن ظاهر أدلة العناوين الثانوية كونها ناظرة إلى عقد الوضع، إلاّ في «رفع ما لا يعلمون» حيث ظهوره في رفع حكم لا يعلمونه، لا في رفع موضوع لا يعلمون عنوانه، وهكذا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2)،

حيث إن الدين هو الأحكام.

الحديث الثاني: حديث الحجب

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «ما حجب الله عن العباد فهو موضوع

ص: 67


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 11.
2- سورة الحج، الآية: 78.

عنهم»(1).

ولدلالة الحديث على البراءة تقريران:

التقرير الأول: هو أن الموصول بمعنى الحكم، والحجب بمعنى يشمل عدم العلم، وبناءً على دلالة الرواية على البراءة فلا إشكال في شمولها للشبهات الحكمية لظهورها في ذلك من غير سياق يصرفها عن ظهورها، عكس ما قيل في حديث الرفع.

ولكن قد أشكل في دلالتها بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن حجب الله تعالى ظاهر في عدم تشريع الحكم من الله تعالى لمصلحة في إخفائه أو مفسدة في إظهاره، وأما مورد البراءة فهو تشريع الحكم مع عدم وصوله إلى المكلف بفعل الظالمين.

وأجيب: بأنه نعم في مورد البراءة لم يكن حجب من الله بما أنه مشرّع، لكن كان حجب باعتبار كونه الخالق، فإن جميع ما في الكون حتى أفعال الناس الاختيارية تنسب إلى قضائه وقدره؛ إذ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين!

وردّه المحقق الإصفهاني(2):

بأنّ المسبَّبات بما هي موجودات محدودة - أي مع ملاحظة الماهية - لا تنسب إلاّ إلى أسباب هي كذلك، وبما هي موجودات بقصر النظر على طبيعة الوجود المطلق - أي مع عدم ملاحظة الماهية - تنسب إلى الوجود المطلق. نعم، في الفعل المحدود لو كان الأثر

ص: 68


1- الكافي 1: 164.
2- نهاية الدراية 4: 60.

خارقاً للعادة، أو كان الفعل قُربيّاً صحّ الإسناد إلى الله تعالى، كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}(1)،

وكقوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ}(2)،

وفي ما نحن فيه ما اختفى إنما اختفى بفعل الظالمين ولذا ينسب الكتمان إليهم كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(3).

وفيه: أن الضلال كما نسب إلى المُضلِّين كذلك نسب إليه تعالى في آيات كثيرة كقوله: {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}(4)

و {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}(5).

إن قلت: ما هي الضابطة في نسبة أفعال الناس إلى الله تعالى مع أنه لا يصح نسبة بعضها كالأكل والشرب حتى لو كان بإلجاء أو إكراه، مع صحة نسبة بعض الأفعال حتى لو كانت باختيارهم كالإضلال؟

قلت: بعض الأفعال لم تؤخذ فيها المباشرة كالبيع والشراء فلذا يمكن نسبتها إلى السبب القريب والبعيد، بخلاف بعضها الآخر الذي أخذت فيها المباشرة كالأكل والشرب، ويعرف ذلك من الاستعمالات.

إن قلت: في إجمال النص أو تعارض النصين أو في المسائل المستحدثة ليس الحجب بفعل الظالمين، بل بسبب المولى فيشملها حديث الحجب!

ص: 69


1- سورة الأنفال، الآية: 17.
2- سورة التوبة، الآية: 104.
3- سورة البقرة، الآية: 159.
4- سورة النساء، الآية: 88.
5- سورة الشعراء، الآية: 99.

قلت: بل بسببهم أيضاً؛ إذ لولا التقية والغيبة لما حدث إجمال أو تعارض وعلى فرض حدوثه لكان يمكن رفعه بملاقاة الإمام (علیه السلام) .

إن قلت: إن حجب الله غير مراد لوضوح أن العباد غير مسؤولين عنه فلا يحتاج إلى تنبيههم بأنه موضوع عنهم.

قلت: بل غير واضح؛ وذلك لذهاب جمع على أصالة الحضر؛ لأنه تصرف في ملك الغير من غير إذنه فلا بد من الاحتياط عقلاً، فكان البيان بترخيص المولى الاقتحام في ملكه.

الإشكال الثاني: إن «العباد» جمع محلّى باللام وهو يفيد العموم، وموارد البراءة غير محجوبة عن الجميع لا أقل من معرفة حجة الله بها، ولو شككنا في أنه محجوب عن الكل أم البعض لم يمكن التمسك به للبراءة؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية!

وفيه(1): أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون المراد العموم الانحلالي، أي ما حجب الله علمه عن كل فرد فرد؛ إذ العرف يرى أن ملاك الوضع هو الحجب فكل من حجب عنه فهو موضوع عنه، ولا يرتبط بالحجب أو عدم الحجب عن مكلف آخر.

الإشكال الثالث: ما في الوسائل: «من أنه مخصوص بالوجوب، وأنه لا يجب الاحتياط بمجرد احتمال الوجوب، بخلاف الشك في التحريم فيجب الاحتياط، ... وقوله (علیه السلام) : «موضوع» قرينة ظاهرة على إرادة الشك في

ص: 70


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 45.

وجوب فعل وجودي لا في تحريمه!»(1).

ولعل المراد أن الواجب فعل ثابت في الذمة فيمكن وضعه عن المكلف، أما الحرام فليس ثابتاً في الذمة كي يصدق عليه الوضع عنهم، بل هو مردوع ومزجور عنه!

وفيه: إن الموصول هو الحكم وليس الفعل، والحكم يوضع على الذمة ويوضع عنها سواء كان واجباً أم حراماً.

التقرير الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني وهو: «ليس الوضع بمعنى الرفع، بل الوضع بمعنى الجعل والإثبات، فإن تعدّى بحرف الاستعلاء كان المراد منه جعل شيء على شيء وإثباته عليه، وإن تعدى بحرف المجاوزة كان المراد صرفه عنه إلى جانب، فقد يكون ثابتاً حقيقة فصرفه عنه يكون مساوقاً للرفع، وقد لا يكون ثابتاً، بل مقتضيه ثابت، فيتمحّض في الصرف والجعل عنه إلى جانب، فإذا كان مقتضي جعل الحكم مقتضياً لإثباته على العباد ولكن مصلحة التسهيل أو مصلحة أخرى منعت من أمره بتبليغه وتعريفه فقد صرف عنهم وجعل عنهم إلى جانب، فحينئذٍ لا معارض لظهور الحجب المستند إليه تعالى حتى يلتزم بالحجب بالمعنى الثاني، فتدبّر»(2).

والمعنى: أن الوضع عنهم فرع الوضع عليهم، فلا يشمل ما سكت الله عنه؛ لأنه لم يكن ثابتاً على المكلف حتى يوضع عنه.

ص: 71


1- وسائل الشيعة 27: 163.
2- نهاية الدراية 4: 62.

وأشكل عليه(1) إنه يصدق (الوضع عنه) في ما لو صدر الحكم الإنشائي وتحقق المقتضي لإيصال الحكم إلى المكلفين، لكن الشارع صرف التكليف عنهم، ولا يلزم في تحقق مفهوم الوضع حصول البيان والإعلام، فتأمل.

الحديث الثالث: حديث السعة

فعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «الناس في سعة ما لم يعلموا»(2).

ودلالته على البراءة واضح، إلاّ أنه لا بد من ملاحظة النسبة بينه وبين أدلة الاحتياط، وقد قيل في وجه الجمع أمور:

1- منها: التعارض، وحيث إن السعة نص في الجواز وأوامر الاحتياط ظاهرة في الوجوب فلا بد من حملها على الاستحباب، وإن لم يكن الجمع الدلالي فلا بد من ترجيح أدلة الاحتياط؛ لأنها أكثر، وأصح سنداً، مع إرسال هذا الحديث.

2- ومنها: الحكومة أو الورود؛ إذ هو مقيد بعدم العلم، وهي علم بالحكم الظاهري.

3- ومنها: ما في الكفاية(3): من أنه إن كان وجوب الاحتياط طريقياً كان بينهما تعارض، وإن كان وجوبه نفسياً كانت أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة.

ص: 72


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 49.
2- مستدرك الوسائل 18: 20.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 128-129.

بيانه: أنه بناءً على الطريقيّة فإنا لا نعلم بالواقع فيكون مجرى أدلة الاحتياط هو الجهل بالواقع، وكذلك مجرى دليل السعة، فيقع بينهما تعارض.

وأما بناءً على النفسيّة فإنا نعلم بالتكليف الذي هو وجوب الاحتياط فلا يبقى موضوع لدليل السعة الذي هو في صورة عدم العلم.

وأورد عليه: أولاً: بأنه على الطريقيّة إن كانت (ما) في قوله (علیه السلام) : «ما لم يعلموا» ظرفية كان معنى الحديث: الناس في سعةٍ في ظرف الجهل، وينتفي الجهل بأوامر الاحتياط التي هي علم بالحكم الظاهري. فلا فرق بين الطريقية والنفسية.

نعم، لو كانت (ما) موصولة صحّ الفرق، حيث إن مفاد حديث السعة بناءً على الطريقية هو أن الناس في سعة من جهة الحكم المجهول، مع أن مفاد أوامر الاحتياط لزوم الاحتياط من جهته فيتعارضان وأما بناءً على النفسية فلا حكم مجهول، بل هو معلوم وهو الاحتياط.

وثانياً: بأن الورود بناءً على الطريقية يستلزم لغوية دليل السعة، حيث لا يبقى له مورد، وعليه فبدلالة الاقتضاء ينتفى الورود ولا يبقى إلاّ التعارض.

وفيه: أنه يبقى مورد لدليل السعة وذلك في الشبهات الموضوعية، حيث لا يجب الاحتياط فيها.

إن قلت: بل تبقى اللغوية إلاّ على القول بانقلاب النسبة؛ وذلك لأن هنا ثلاث أدلة في عرض واحد هي «الناس في سعه...» و«احتط...» و(أدلة جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية)، والأولان متباينان، والثالث يقيّد الثاني،

ص: 73

وبعد التقييد يكون المحصل (احتط في الشبهات الحكمية) وهو أخص مطلقاً من «الناس في سعة» فلا لغوية في دليل السعة حينئذٍ.

لكن حيث لا نقول بانقلاب النسبة فتبقى اللغوية حيث إن دليل السعة ودليل الاحتياط شاملان لجميع الشبهات، ومع حكومة أو ورود دليل الاحتياط ينتفي موضوع السعة فلا يبقى له مورداً فيكون لغواً، من غير فرق بين كون «ما» ظرفية أو موصولة.

قلت: انقلاب النسبة يرتبط بالدلالة اللفظية، حيث إن الأدلة الثلاثة في عرض واحد فتتعارض، وأما اللغوية فهي دليل لبي، وهي بملاحظة العقل المحصلة النهائية من الدليل، وهنا حينما يكون لأدلة الاحتياط حكومة أو ورود على دليل السعة لا تكون لغوية في دليل السعة في المحصلة النهائية، فتأمل.

الحديث الرابع: حديث الإطلاق

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1).

قال الشيخ الأعظم: «ودلالته على المطلب أوضح من الكل»(2).

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول ما في الكفاية(3):

من أنّ دلالته على البراءة تتوقف على كون الورود في قوله (علیه السلام) : «حتى يرد» بمعنى الوصول، فما دام لم يصله فهو

ص: 74


1- وسائل الشيعة 6: 289.
2- فرائد الأصول 2: 43.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 130-131.

مطلق حتى ولو صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أن هذا المعنى غير مراد؛ وذلك لوضوح صدق الورود على الصدور عن الشارع ولا سيما بعد وصوله إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

والحاصل: إن معنى الحديث هو أن الأشياء مباحة حتى ينهي عنها الشارع، وهذا معنى أصالة الإباحة ولا يرتبط بأصالة البراءة.

وعدم العلم بالصدور لا يكفي؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأجيب عنه: بأجوبة، منها:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1):

وحاصله: أن التعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل العرف غيره، وليس الورود بمعنى الصدور أو ما يساوقه، فإن معنى الورود متعد بنفسه إلى المورود ولمكان التضايف لا يعقل الوارد إلاّ بلحاظ المورود، وليس المورود هنا إلاّ المكلّف مع أن الصدور لا يحتاج إلى طرف، بل هو لازم كما هو واضح. نعم، قد يتعدى بحرف (في) لكن ذلك لا يرتبط بالمورود، بل بمحل الوارد إذا كان الوارد من الأمور التي تحتاج إلى محل كالحكم فيقال وردني حكم في كذا، وقد يتعدى بحرف (على) للدلالة على الاستعلاء على المورود مع عدم لزومها كما يقال: وردني كتاب أو ورد عليّ كتاب.

ولا يخفى أن الاستدلال لا يبتني على التضايف - حتى يقال بأنه دور؛ إذ

ص: 75


1- نهاية الدراية 4: 76.

التضايف مبني على كون الورود بمعنى الصدور مع أن المفروض أن إثباته موقوف على التضايف - ، بل جوهر الاستدلال على الظهور وتتبع موارد الاستعمالات، والتضايف متفرع على هذا الظهور.

الجواب الثاني(1): إن «مطلق» بمعنى الإباحة، والإباحة على أصناف ثلاثة، وتفسير الورود بالصدور على الأول بعيد، وعلى الأخيرين محال.

الأول: الإباحة بمعنى اللاحرج من قبل المولى في قبال الحظر العقلي لكونه عبداً مملوكاً ينبغي أن يكون وروده وصدوره عن رأي مالكه.

وهذا المعنى بعيد عن الحديث؛ لأن حمل الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل غير مناسب للإمام (علیه السلام) المعدّ لتبليغ الأحكام، خصوصاً بملاحظة أن الخبر مروي عن الصادق (علیه السلام) بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة، خاصة في المسائل العامة البلوى التي يقطع بصدور حكمها عن الشارع فلا فائدة في الإباحة مع قطع النظر عن الشرع.

الثاني: الإباحة الشرعية الواقعية في قبال الحرمة الشرعية الناشئة عن المفسدة الباعثة للمولى على زجره عمّا فيه المفسدة، وهذه الإباحة الواقعية ثابتة لذات الموضوع ناشئة عن لا اقتضائية الموضوع لخلوّه عن المصلحة والمفسدة.

وهذا المعنى محال؛ إذ لا يعقل ورود حرمة في موضوعها، للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع المفروض أنه لا اقتضاء، فلا يعقل في موردها التقييد بقوله (علیه السلام) : «حتى يرد فيه نهي».

ص: 76


1- نهاية الدراية 4: 72-76.

لا يقال: لا اقتضائيته من حيث ذاته لا تنافي عروض عنوان عليه يقتضي الحرمة.

لأنا نقول: نعم، إلاّ أن الذي يرد فيه نهي هو ذلك العنوان الذي له اقتضاء الحرمة، لا أن النهي يرد مورد الإباحة، مثلاً الماء مباح والغصب حرام فانطباق عنوان الغصب على الماء لا يقتضي صدق ورود النهي في الماء المغصوب، بل من انطباق العنوان الوارد فيه النهي على مورد الإباحة.

الثالث: الإباحة الشرعية الظاهرية وهي الثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية الناشئة عمّا يقتضي التسهيل على المكلّف بجعله مرخصاً فيه.

وهذه الإباحة لا يصح جعلها مغياة أو محدّدة ومقيدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعاً؛ وذلك لأن الإباحة الظاهرية التي موضوعها المشكوك لا يعقل أن تكون مغياة إلاّ بالعلم ولا محددة إلاّ بعدمه، لا بأمر واقعي يجامع الشك وإلاّ لزم تخلّف الحكم عن موضوعه التام، فإنه مع فرض كون الموضوع - وهو المشكوك - موجوداً يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع مع الشك واقعاً، وعليه فلا يعقل أن تتقيد إلاّ بورود النهي علي المكلف ليكون مساوقاً للعلم المرتفع به الشك.

وبعبارة أخرى: لغوية التشريع لعدم الأثر فيه، حيث لا نعلم صدور النهي، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويرد على الأول: إن الإباحة المالكية محل خلاف وليست من الأمور الواضحة، حيث ذهب جمع إلى أصالة الحضر، فليس من البعيد التنبيه على أصالة الإباحة.

ص: 77

وعلى الثاني: إمكان فرض اقتضائية موضوع الإباحة الواقعية، فيكون الحكم بالإباحة الواقعية لأجل مانع عن تأثير المقتضي، وبعد ارتفاع المانع يصدر النهي، فلا خلف ولا انقلاب.

وعلى الثالث: إمكان تحقق العلم الوجداني بعدم صدور النهي، كالموضوعات الجديدة التي نقطع بعدم صدور النهي فيها لعدم وجودها أو لعدم كونها محلاً للابتلاء في زمان الشرع، مضافاً إلى إمكان تحقق العلم التعبدي بعدم الصدور بأصالة عدمه، فتأمل.

الجواب الثالث: دلالة الحديث على البراءة حتى لو كان الورود بمعنى الصدور، حيث يمكن تنقيح الموضوع بأصالة عدم الصدور، فيخرج عن كونه مشكوكاً إلى كونه معلوم عدم الصدور بالعلم التنزيلي، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأورد عليه صاحب الكفاية(1):

بأن الكلام في مجهول الحكم، وهذه الطريقة تجعله معلوم الحكم فلا يرتبط بالبحث.

لا يقال: المهم هو إثبات عدم التكليف ولا فرق في عنوانه.

فإنه يقال: قد لا يجري أصل العدم كما لو صدر نهي وإباحة ولم يعلم المتقدم من المتأخر، فيكون الدليل أخص من المدعى.

الإشكال الثاني: - على دلالة حديث الإطلاق - ما ذكره الحرّ العاملي في الوسائل(2):

من حمله على التقية لموافقته العامة، فإنهم يقولون بحجية

ص: 78


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 131-132.
2- وسائل الشيعة 27: 174.

الأصل، فيضعف عن مقاومة ما سبق من أدلة الاحتياط.

إن قلت: مدلول حديث الإطلاق موافق للكتاب والترجيح بموافقته مقدّم على الترجيح بمخالفة العامة.

قلت: أحاديث الاحتياط أيضاً موافقة للكتاب في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)

وقوله سبحانة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2)،

هذا مضافاً إلى ما سيأتي من عدم المعارضة كي تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجحات.

الحديث الخامس: حديث الحل

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه» إلى قوله: «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(3).

ودلالته على البراءة واضحة، لكن أشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن قوله (علیه السلام) : «بعينه» ظاهر في الشبهة الموضوعية؛ إذ يدل على تقسيم الشيء، ولا تقسيم في الشبهة الحكمية، بل فيها ترديد وعدم علم بالحكم.

إن قلت: إن «بعينه» قيد العلم وتأكيد له، وإنما تأخر لكي يتم الكلام، فالمعنى عدم كفاية الظن ونحوه.

ص: 79


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
3- الكافي 5: 313.

قلت: هذا وإن كان محتملاً، إلاّ أن احتمال كونه قيداً للضمير في «أنه» أقوى، ولو فرض تساوي الاحتمالين كان الحديث مجملاً من هذه الجهة.

لا يقال: نعلم علماً إجمالياً بتضمن الشريعة على محرمات، فهذا علم لا بعينه، ومع معرفة تلك المحرمات يكون علم بالحكم بعينه!

لأنه يقال: ظاهر كلمة بعينه هو بشخصه فيختص بالشبهات الموضوعية.

الإشكال الثاني: اختصاص الحديث بالشبهات التحريمية فيكون أخص من المدعى، حيث البراءة في الشبهات الوجوبية والتحريميّة.

وفيه: أن عمدة الكلام فيها وأما البراءة في الوجوبية فمحل اتفاق، فحتى لو فرض عدم دلالة الحديث عليها فلا يضر بدلالته على التحريميّة.

الإشكال الثالث: إن الأمثلة المذكورة في الحديث لا ترتبط بالبراءة، وعليه فلا بد إما من عدم دلالة قوله: «مطلق» على البراءة، أو إجمال الحديث؛ إذ لا يصح بيان قاعدة ثم ذكر أمثلة لا ترتبط بها، حيث قال (علیه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك وقد اشتريته وهو سرقة، أو مملوك عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك...»(1)،

الحديث، فمثال الثوب والمملوك مجرى قاعدة اليد وهي حاكمة أو واردة على أصالة البراءة، ومثال المرأة مجرى استصحاب عدم كونها أختاً بناءً على حجية استصحاب العدم الأزلي، أو الأصل العقلائي الذي أمضاه الشارع في عدم الانتساب.

ص: 80


1- الكافي 5: 314؛ وسائل الشيعة 17: 89.

والجواب: أولاً: بأن قوله: «مطلق» يراد به معناه اللغوي، وهو شامل لكل أنواع الحليّة سواء كانت مأخوذة من قاعدة اليد أو السوق أو الاستصحاب أو البراءة، فيكون ذلك مِن ذكر جامع للأصناف المختلفة والتمثيل بصنف واحد، وهذا لا إشكال فيه.

وثانياً: يمكن أن يكون من التنظير، وذلك بتنظير قاعدة بقاعدة أخرى، وهذا لا محذور فيه وإن كان خلاف الظاهر.

وثالثاً: على بعض المباني تجري الأصول المتطابقة التي لا منافاة بينها حتى لو كانت نسبتها الحكومة أو الورود.

الإشكال الرابع: إن قوله (علیه السلام) : «أو تقوم به البينة» لا ينطبق إلاّ على الشبهات الموضوعية؛ إذ يكفي في الشبهات الحكمية العدل الواحد في التقليد، والثقة الواحد في الإخبار، وحيث كانت الغاية في الموضوعية يكون ذلك قرينة على أن المغيّى وهو قوله (علیه السلام) : «كل شيء مطلق» أيضاً خاص بها، لا أقل من إجمال الدليل.

والجواب: أولاً: إن الغاية هي قوله (علیه السلام) : «حتى تستبين أو تقوم به البينة» والأولى تجري في الشبهتين، وبذلك تنتفي القرينيّة، كما لو قلنا: (انفق على الأولاد حتى يستغنون أو ينفق عليها زوجها) فلا يختص بالبنات.

وثانياً: ما يقال من أن المعنى اللغوي للبينة الحجة والدليل، فتشمل كلا الشبهتين؛ إذ الحجة في الموضوعية عدلان وفي الحكمية الثقة الواحد، اللهم إلا أن يقال: إن كلمة البينة صارت حقيقة شرعية أو متشرعية فتحمل أحاديث الأئمة (علیهم السلام) - ومنها هذا الحديث - عليها.

ص: 81

الحديث السادس: حديث ما فيه حلال وحرام

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1)،

وفي حديث آخر: «كل ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(2).

وأورد عليه: - مضافاً إلى بعض ما أورد على الحديث السابق - من جهات:

الأولى: اختصاصه بالشبهات الموضوعية، فإن قوله (علیه السلام) : «فيه حلال وحرام» ظاهره الانقسام الفعلي إليهما، وفي مورد الشبهات الحكمية لا انقسام، بل ترديد وعدم علم.

وفيه: إنه يمكن التقسيم في الشبهات الحكمية باعتبار الجنس الذي فيه أنواع أو أصناف محلّلة ومحرمة كاللحم الذي يحلّ منه لحم الغنم ويحرم منه لحم الخنزير ويشك في بعض أصنافه كلحم الطاووس مثلاً.

الثانية: إن قوله (علیه السلام) : «حتى تعرف الحرام» ظاهر في الشبهة الموضوعية؛ إذ لو كان المراد الشبهة الحكمية لقال: (حتى تعرف الحرمة).

وفيه: أن الحديث لو كان شاملاً لهما لصح ذكر الحرام والحرمة بلا فرق، وترجيح الحرام على الحرمة لأنه أكثر استعمالاً في أمثال هذا التركيب.

الثالثة: إن منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو فقدان النص أو إجماله أو

ص: 82


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 87.
2- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 117.

تعارض النصين، وهذا لا ينطبق على الحديث؛ إذ ظاهر قوله (علیه السلام) : «فيه حلال وحرام» أن منشأه هو الانقسام ولا يكون ذلك إلاّ في الشبهات الموضوعية، فتأمل.

الحديث السابع: حديث ركوب الأمر بجهالة

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(1).

وظاهرها عدم ثبوت حكم تكليفي أو وضعي عليه.

وأشكل عليه: أولاً: إن ظاهر «ركب أمراً بجهالة» هو الغافل غير الملتفت إلى الواقع أصلاً أو الجاهل المركب، وأما الجاهل البسيط العالم بجهله فلا يطلق عليه (ركب بجهالة).

وفيه: أن الجهالة إما بمعنى السفاهة أو بمعنى عدم العلم، والأول غير مراد، والثاني أعم من البسيط والمركب والغافل.

إن قلت: الباء في «بجهالة» ظاهرة في السببيّة، ولا تكون كذلك مع الجهل البسيط؛ إذ ارتكابه حينئذٍ ليس بسبب الجهل، بل إما لعدم التدين أو لاعتقاد وجود المؤمِّن. نعم، مع الغفلة أو الجهل المركب يكون الجهل سبباً.

قلت: أما الصغرى: فظهور الباء في الإلصاق ولا ظهور للسببيّة، والإلصاق شامل للثلاثة.

وأما الكبرى: فإن الجهل البسيط أيضاً سبب لارتكاب مشكوك

ص: 83


1- تهذيب الأحكام 5: 72؛ وسائل الشيعة 8: 248.

الحرمة(1)،

فإنّ المجتهد في الشبهات الحكمية يجهل الحكم، وجهله موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فهنا سببان طوليان، كما في (كتبت بيدي) و(كتبت بالقلم)، وكما يصح نسبة المعلول - أي فلا شيء عليه - إلى السبب الأقرب، كذلك يصح نسبته إلى السبب الأبعد! وعليه فالجهل بالحكم الواقعي صار سبباً للعلم بالحكم الظاهري بجواز الاقتحام.

إن قلت: الاستناد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان يستلزم أن يكون الارتكاب عن علم لا عن جهل، فليس الارتكاب بسبب الجهل.

قلت: إن الجهل هو بالحكم الواقعي، والعلم إنما هو بالحكم الظاهري، فكان الجهل بالحكم الواقعي سبباً للارتكاب، فتأمل.

وثانياً: إن تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصّر، وسياقه يأبى عن التخصيص.

وفيه: إن التخصيص لازم على كل حال، لعدم معذورية الغافل والجاهل المركب إذا كانا مقصّرين، مضافاً إلى عدم إباء الكلام عن التخصيص؛ إذ لا محذور في أن يقال: أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه إلاّ المقصّر.

الحديث الثامن: حديث الاحتجاج بما آتاهم

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرّفهم»(2).

ص: 84


1- نهاية الأفكار 3: 229.
2- الكافي 1: 162.

ومعنى «آتاهم» إعطاء القدرة، ومعنى «عرّفهم» إعطاء العلم، والمشكوك لم يؤت الله العلم بحرمته فلا احتجاج فيه، وهو يساوق البراءة.

وأشكل عليه: أولاً: بأن مدلوله مما لا ينكره الأخباريون، وإنما الخلاف في الصغرى، حيث يذهبون إلى أن الله قد آتى البيان بأوامر الاحتياط.

إن قلت: بل ينكره الأخباريون؛ وذلك لأن أوامر الاحتياط طريقيّة، فلا موضوعية لها ليتم الاحتجاج والمؤاخذة عليها، وأما الحرمة الواقعية فهي لم تبيّن ولم تعرّف لعدم انكشافها حتى مع وجوب الاحتياط فلا احتجاج ومؤاخذة عليها أيضاً.

قلت: عدم المؤاخذة على الأمر الطريقي لا ينافي إمكان الاحتجاج به؛ إذ يمكن عقلاً وعقلائياً أن يحتج المولى بالأمر الطريقي في المورد المشكوك ثم يعاقب على مخالفة الأمر الواقعي.

وثانياً: إن لهذا الحديث طريق آخر، وفيه زيادة تدل على شيء آخر غير البراءة، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن من قولنا: إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولاً، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى»(1).

وظاهر هذه الزيادة أن (ما آتاهم وعرفهم) هو الفطرة، ثم بعد ذلك أرسل الرسل، وموضع بحثنا هو البراءة بعد إرسال الرسل مع عدم وصول شيء إلينا.

وأجيب: إن لهذا الحديث تتمة أخرى تدل على المطلوب وهي

ص: 85


1- الكافي 1: 164.

قوله (علیه السلام) : «وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق، ولم تجد أحداً إلاّ ولله عليه حجة»(1)

فهذه التتمة تفيد العموم، حيث إنه في مورد البراءة لا حجة على حرمة المشكوك.

هذا مضافاً إلى عدم تنافي المثبتات فلا تقيد إحداها الأخرى، فعليه فالحديث الذي فيه تتمة يدل على شيء، والذي لا تتمة فيه يدل على شيء آخر، فتأمل.

الحديث التاسع: حديث العذر بجهالة

فعن ابن الحجاج عن الإمام الكاظم (علیه السلام) - في من تزوج امرأة في عدتها - : «فقلت: بأيّ الجهالتين يعذر، بجهالته أنه محرّم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى: الجهالة بأن الله حرّم عليه، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم...»(2)

الحديث.

والجهالة الأولى في الحكم، والثانية في الموضوع، فدلالتها على البراءة تامة.

وأشكل عليه: أولاً: إن التعليل بعدم تمكن الاحتياط يخصّص الحديث في الجاهل المركب، فإنه هو الذي لا يقدر على الاحتياط، وأما الجاهل البسيط - وهو الشاك - فلا، حيث إنه قادر على الاحتياط.

وثانياً: إن الجاهل البسيط ليس بمعذور؛ إذ مع الشك في انقضاء العدة لا

ص: 86


1- الكافي 1: 165.
2- الكافي 5: 427؛ وسائل الشيعة 20: 451.

بد من استصحابها فلا مجال للبراءة، كما أنه مع الشك في مقدار العدة وكذا في حكمها لا بد من الفحص، وقبله تجري أصالة عدم نفوذ العقد وأصل الفساد في المعاملات.

والحاصل: إن الحديث دلّ على معذورية الجاهل، والجاهل البسيط سواء في الشبهة الموضوعية أم المفهومية أم الحكمية ليس بمعذور، فلا يشمله الحديث.

وفيه: إن الحديث يقيّد بأدلة الفحص فيؤخذ بإطلاقه في ما بقي، كما يقيّد الحديث في الجاهل المركب والغافل بأن لا يكون جهله عن تقصير ويؤخذ بإطلاقه في الباقي.

وثالثاً: إن كلامنا في البراءة حول الحكم التكليفي، والحديث في الحكم الوضعي - أي البطلان أو عدمه - .

إن قلت: خصوصية المورد لا تخصص الوارد!

قلت: هذا إذا كان الوارد عاماً أو مطلقاً، وأما في الحديث فقوله (علیه السلام) : «يعذر» لا يعلم إطلاقه؛ إذ لم يحرز كون المولى في مقام البيان من جهة الحكم التكليفي.

إن قلت: الأحكام الوضعية أمرها دائر بين الوجود والعدم، فهي لا تقبل الزيادة والنقيصة، وأما الحديث فظاهر في الحكم التكليفي، حيث قال (علیه السلام) : «وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» وقوله (علیه السلام) : «إحدى الجهالتين أهون من الأخرى» فالأعظم والأهون يدلان على التشكيك - أي الزيادة والنقيصة - !

ص: 87

قلت(1): ليس البحث حول الحكم الوضعي والتكليفي، بل حول الأعذرية بلحاظهما، فقد يكون منشأ العذر قوياً فيكون المكلّف أعذر، وقد يكون ضعيفاً فيكون معذوراً، كما أنه قد يكون منشأ العذر متعدداً، وقد يكون متحداً، ولا مانع من استعمال أفعل التفضيل بلحاظ ضعف وقوة المنشأ، أو اتحاده وتعدده، وعليه فالجاهل جهلاً مركباً - بلحاظ الحرمة الأبدية والبطلان - أعذر، أما البسيط فهو معذور؛ وذلك لأن الأول أبعد عن العلم بخلاف الثاني، حيث إن جهله مركب مع العلم.

ص: 88


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 122.

فصل في دلالة العقل على البراءة

اشارة

من الأدلة الدالة على البراءة: العقل، وذلك بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وغير خفي أنه لا إشكال في جريان القاعدة في ما لو سكت المولى ولم يصدر حكماً ولم يكن هناك تصرف في ملكه، كما لو سكت عن وجوب شيء فتركه العبد، أو سكت عن حرمة شيء ومخالفتها لم تكن تصرفاً في ملكه.

إنما الكلام في جريانها في ما لو احتمل صدور حكم إلزامي عن المولى أو كان في الارتكاب تصرف في ملكه، فهنا مبحثان:

المبحث الأول: في تقرير جريانها

وتقرير جريانها في ما نحن فيه من وجوه:

الوجه الأول(1): قبح العقاب في ما لا مقتضي لتحريك العبد.

أما الصغرى: فإن الإرادة هي المحرّك نحو الأحكام الواقعية، ولا تعقل المحركيّة إلاّ بعد الوصول إلى العبد، لضرورة عدم إمكان الانبعاث إلاّ عن البعث بوجوده العلمي دون الخارجي، وأما الحكم المحتمل فهو بنفسه غير قابل للمحرّكية لتساوي احتمال الوجود والعدم.

ص: 89


1- أجود التقريرات 3: 323.

وأما الكبرى: فإنه إذا لم يكن الحكم - لا بوجوده الواقعي ولا بوجوده الاحتمالي - قابلاً للمحركية، فالعقاب على مخالفته عند عدم وصوله عقاب على مخالفة حكم لا اقتضاء له للمحركية، ولا ريب في قبح ذلك.

ويرد عليه: أنه لو كان هناك غرض لازم الاستيفاء فيمكن محركيّة الوجود الاحتمالي، كالعطشان الذي يحتمل وجود الماء في مكان معيّن، بل التحريك حينئذٍ ثابت.

مضافاً إلى وجود المحرّك في ما نحن فيه، وهو قبح التصرف في ملك الغير من غير إذنه، والله سبحانه مالك كل شيء فلا بد من إحراز رضاه في التصرف في ملكه ولا يكفي مجرد عدم الإحراز.

الوجه الثاني(1): قبح العقاب على ما لا يستند إلى المكلف، وهكذا في ما نحن فيه حيث لم يستند فوات مطلوب المولى إلى المكلّف بعد فحصه وعدم عثوره على تكليف، بل استند إمّا إلى عدم بيان المولى وإمّا إلى بعض الأسباب الأخرى التي أوجبت اختفاء ما يريده المولى!

وفيه: إن بعض المقدمات في ما نحن فيه اختيارية وهو اقتحام العبد على المشكوك، وبذلك يصح إسناد الفعل إليه، ولا يشترط في الفعل الاختياري كون جميع المقدمات اختيارية، بل لا يمكن.

مضافاً إلى أنه هناك خلاف في أن وظيفة العبد هل هي منحصرة في الفحص أم الفحص والتوقف؟ فحصرها في الفحص مصادرة.

ص: 90


1- فوائد الأصول 3: 365.

الوجه الثالث(1): إن مدار الطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي، وهو متقوّم بنحو من أنحاء الوصول، لعدم معقولية تأثير الإنشاء الواقعي في انقداح الداعي، وحينئذٍ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول، فلا مخالفة له، فلا عقاب؛ إذ هو على مخالفة التكليف الحقيقي.

إلاّ أن عدم العقاب لعدم التكليف شيء، وعدم العقاب لعدم وصوله شيء آخر، وما هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الثاني دون الأول.

مضافاً إلى أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان مما اتفق عليها الكل، وتقوّم التكليف بالوصول مختلف فيه.

وأورد عليه: أولاً: إن الحكم الحقيقي غير متقوم بالوصول؛ إذ في الجهل البسيط الداعوية ممكنة أي إن الإنشاء الواقعي يؤثر في إمكانها، وفي ما نحن فيه تمكن الداعوية للالتفات إلى احتمال وجود التكليف الحقيقي، نظير ما في التكوينييات، حيث إن احتمال وجود الماء سبب لتحرك الإنسان نحوه.

وثانياً: إنه يمكن العقاب مع عدم وجود تكليف حقيقي، وذلك في ما لو كان تفويتاً لغرض المولى، كالعبد الذي لا ينقذ ابن المولى بذريعة عدم أمر المولى بذلك، فتأمل.

الوجه الرابع(2): إن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو حكم عقلي بملاك التحسين والتقبيح العقليين، ومثله مأخوذ من الأحكام العقلائية، التي

ص: 91


1- نهاية الدراية 4: 83.
2- نهاية الدراية 4: 84.

حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وبقاءً للنوع.

وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقلياً منفرداً عن سائر الأحكام العقلية العملية، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أن مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن زيّ الرقيّة ورسم العبودية، وهو ظلم من العبد على مولاه، فيستحق منه الذم والعقاب.

كما أن مخالفة ما لم تقم عليه الحجة ليس من أفراد الظلم - إذ ليس من زيّ الرقيّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر - فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجة خروجاً عن زيِّ الرقيّة حتى يكون ظلماً، وحينئذٍ فالعقوبة عليه ظلم من المولى على عبده؛ إذ الذم على ما لا يذم عليه والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض من المولى على عبده فهو ظلم.

والظلم بنوعه يؤدّي إلى فساد النوع واختلال النظام، وهو قبيح من كل أحد، بالإضافة إلى كل أحد، ولو من المولى إلى عبده.

ويرد عليه: أولاً: إنه مصادرة؛ إذ محل الكلام والخلاف أن المخالفة على ما لم تقم عليه حجة مع التفات المكلف وشكّه وتردده هل هي ظلم أم لا؟

وثانياً: إن التحسين والتقبيح العقليين والأحكام المترتبة عليهما ليسا مأخوذين من تطابق آراء العقلاء، ولذا هي كذلك حتى قبل خلق العقلاء، فحسن العدل وقبح الظلم أمران انتزاعيان وليسا اعتباريين، ولذا لم يكن للمخلوق الأول الحق في الظلم، ولذا يقبح الظلم حتى لو لم يؤدّ إلى اختلال النظام.

ص: 92

هذا مضافاً إلى أن الرب سبحانه وتعالى أعز وأجل من أن يظلمه أحد كما قال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1).

الوجه الخامس: حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف المولى بعدم إعلامه بتحريمه أصلاً.

وفيه: أن ما ذكر صحيح في ما سكت المولى، وليس الكلام فيه، بل كلامنا في عدم البيان الواصل، بأن يحتمل وجود بيان تمّ خفاؤه بسبب فعل الظالمين، وهنا لا محذور عقلي في العقاب، كما مرّ.

المبحث الثاني: نسبتها إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل

اشارة

قد يتسائل عن النسبة بين قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)، وقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؟ حيث إنه يخيّل في مورد البراءة جريان القاعدتين! والكلام في مقامين:

المقام الأول: في دفع الضرر المحتمل

وقد أشكل عليها(2): بأن الوجوب المحتمل إما نفسي أو طريقي أو إرشادي، والكل غير معقول، وعليه فتكون القاعدة غير ثابتة من أصلها.

أما الوجوب النفسي فلا يعقل؛ إذ لا يزيد احتمال الضرر على القطع به، فمن شرب خمراً مثلاً وصادف الواقع فله عقوبة واحدة لمخالفته النهي عن شربه، فلا يعقل أن تكون عقوبة من احتملها فشربها عقوبتان: عقوبة مخالفة النهي وعقوبة مخالفة هذا الوجوب.

ص: 93


1- سورة البقرة، الآية: 57.
2- منتقى الأصول 4: 447.

وأما الوجوب الطريقي، فهو الوجوب الذي جعل بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه، ولا يعقل أن يكون وجوب دفع الضرر المحتمل طريقياً لتنجزه في رتبة الموضوع؛ إذ بمجرد احتماله الضرر يتنجز الواقع عليه فلا يعقل تنجزه مرّة أخرى في رتبة المحمول.

وأما الوجوب الإرشادي، فهو في حقيقته إخبار في صورة إنشاء، وإنما يصح في مورد الغفلة؛ إذ في صورة الالتفات يُعلم بتحققه على تقدير وجوده في رتبة الموضوع، فلا معنى لإخباره بعد ذلك؛ إذ هو تحصيل للحاصل.

وفيه(1): إنا نختار أن الوجوب في القاعدة إرشادي، مع كونه إنشاءً بداعي الحثّ والتحريض، ولا وجه لأخذ الغفلة في الأمر الإرشادي، حيث لا فرق في الحثّ بين علم المكلّف وجهله، غاية الأمر إنه لا عقوبة على الهيأة، وإنما هي متعلقة بالمادة، بخلاف الوجوب المولوي الذي ترتبط عقوبته بمخالفة الهيأة، وبذلك تندفع شبهة تحصيل الحاصل؛ إذ المتحقق في رتبة الموضوع الانكشاف، والمتحقق في رتبة المحمول التحريك والتحريض.

والحاصل: أن العقل يرى احتمال الضرر في الإقدام على العمل، ثم يحثّ على عدم الإقدام فيه، وهذا معنى الوجوب العقلي الإرشادي، ولو خالفه المكلّف لم يترتب عليه إلاّ عقوبة واحدة. هذا بناءً على أن للعقل أحكاماً لا أنه مجرد مُدرك.

ص: 94


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 148.

وأمّا لو أنكرنا أن للعقل أحكاماً فلا إشكال في وجود الدافعة الطبيعية الفطرية التي تبعد كل عاقل عن الضرر المحتمل كفرار العاقل عن المخاطر حتى لو لم نعبّر عنه بالوجوب، ولا مشاحة في الاصطلاح.

المقام الثاني: في النسبة بين القاعدتين

وحيث يستحيل تخالف قاعدتين عقليتين، فلا بد من معرفة النسبة بينهما، وقد يقال: بورود الثانية على الأولى؛ إذ لا احتمال للضرر مع عدم البيان.

وأشكل عليه: بأن (الضرر المحتمل) إما العقاب أو الآثار الوضعية، وكلاهما محل إشكال:

وأما الأول فَبإمكان العكس، بأن يقال: إنّ احتمال الضرر بيان فلا يقبح العقاب معه؛ إذ كما أن حكم الشيء بعنوانه الذتي بيان، كذلك حكمه بعنوانه العرضي كالمشكوك والمشتبه، وعليه فيحصل التنافي بين القاعدتين!

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: إن (احتمال الضرر) ناشٍ عن البيان؛ إذ لولا البيان لا احتمال للضرر، وهذا البيان إما متقدم على قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) أو متأخر عنها، فأما المتقدم فلا يوجد، لأنا نريد استفادة البيان من هذه القاعدة، وأما المتأخر فلا يمكن أن ينشأ من هذه القاعدة؛ إذ (الضرر المحتمل) مأخوذ في موضوعها فلا يمكن أن يكون متفرعاً على محمولها.

قال المحقق العراقي(1):

إن البيان الذي ينشأ منه احتمال الضرر لا بد من كونه في الرتبة السابقة على الاحتمال المزبور، كما هو شأن كل علة بالنسبة

ص: 95


1- نهاية الأفكار 3: 236.

إلى معلولها، وبعد عدم إمكان نشوء الاحتمال المزبور عن مثل هذا الوجوب المتفرع على الاحتمال المزبور لا بد من تحقق هذا الاحتمال من فرض وجود بيان آخر غير هذا الوجوب حتى ينشأ منه احتمال الضرر على المخالفة فيترتب عليه هذا الوجوب العقلي، وإلاّ فبدونه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويقطع معها بعدم العقوبة والضرر، ولما كان المفروض عدم وجود بيان آخر غير هذا الوجوب العقلي، ففي الرتبة السابقة عنه التي هي ظرف اللابيان تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيقطع بعدم العقاب على ارتكاب المشتبه، ومعه لا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل.

وبعبارة أخرى(1):

لا بيان في رتبة متقدمة على الموضوع، فلا احتمال للعقاب في رتبة الموضوع، ويقبح العقاب بلا بيان، فيقطع بعدم وجود الضرر، فينتفي موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الجواب الثاني: إن التنافي إنما يحصل لو كان البيان و احتمال الضرر فعلييّن، وأما مع كون أحدهما فعلياً والآخر تعليقيّاً فلا، بل يكون المتحقق ما كان فعلياً، كما لو قلنا إن زيداً أكبر من عمرو فعلاً، ولو كان عمرو والداً لزيد لكان عمرو أكبر.

وفي ما نحن فيه: لا بيان واصل قطعاً وذلك بعد الفحص وضمّ فحص سائر الفقهاء، فيقبح العقاب عليه فعلاً، إذاً الصغرى وجدانية والكبرى برهانية.

وأما احتمال العقاب فهو تعليقي، أي منوط بأمور كلها مفقودة، حيث إنه

ص: 96


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 159.

لا بد من وجود منشأ لاحتمال العقاب، والمنشأ إما ظلم المولى، أو عدم حكمته، أو صحة العقاب بلا بيان، أو تقصير العبد في الفحص عن البيان، أو علمه الإجمالي، وكل هذه المناشئ مفقودة، ومع انتفائها يقطع بعدم العقاب، فلا موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الجواب الثالث: عدم إمكان بيانية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل؛ وذلك لاستلزامه الدور...

لأن بيانية القاعدة متفرع على احتمال الضرر، لتفرع كل محمول على موضوعه.

واحتمال الضرر متوقف على عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ مع جريانها يقطع بعدم العقاب.

وعدم جريانها متوقف على بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل واجب؛ إذ مع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وفيه: أن العكس أيضاً كذلك، فإن عدم بيانية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موقوف على عدم احتمال الضرر، وعدم احتماله موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وجريانها موقوف على عدم بيانية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

هذا كله بناءً على كون (الضرر المحتمل) هو العقاب.

وأما على الثاني - بأن يكون الضرر المحتمل الآثار الوضعية - ...

فقد أشكل بعدم إمكان ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليه؛ إذ تلك الأضرار هي أمور تكوينية فلا ترتبط بعلم المكلف، وعليه فالضرر المحتمل

ص: 97

- الذي هو موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل - متحقق وجداناً!

وأجيب بوجوه، منها:

الجواب الأول: في الصغرى، بأنه لا ملازمة بين الوجوب وبين المفسدة في مخالفته؛ إذ قد يكون الملاك في نفس الجعل كما في الأوامر الامتحانية، وحتى لو كانت هناك مفسدة فهي لا تلازم الضرر!

وفيه: أن غالب الملاكات إنما هي في المجعول، كما أن الكثير من المفاسد هي أضرار، بل وحتى احتمال كونه في الجعل واحتمال عدم كون المفسدة ضرراً لا ينفيان احتمال كونه في المجعول واحتمال كون المفسدة ضرراً! هذا مضافاً إلى عدم الفرق في حكم العقل بين وجوب دفع الضرر المحتمل ووجوب دفع المفسدة المحتملة.

الجواب الثاني: في الكبرى، بأنه لا مانع من تحمل الضرر المقطوع به إذا لم يكن عقوبة فضلاً عن المحتمل، وحتى لو فرض وجوب دفعه عقلاً فلا ملازمة بينه وبين الوجوب الشرعي، والمهم في المقام إثبات الوجوب الشرعي.

وفيه: أن الأضرار الخطيرة واجبة الدفع عقلاً حتى لو كانت مشكوكة أو موهومة، مع إمكان دعوى الوجوب الشرعي لدفع الضرر المحتمل والذي يستفاد من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)

فارتكاب الشيء مع احتمال ضرره إيقاع للنفس فيها، فتأمل، كما قد يستفاد ذلك من أحكام مختلفة في أبواب الفقه كالترخيص في اليتيم مع احتمال ضرر الماء،

ص: 98


1- سورة البقرة، الآية: 195.

وفي الإفطار مع احتمال ضرر الصوم ونحو ذلك.

الجواب الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم(1):

بأن الشبهة من هذه الجهة موضوعية، ولا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين، فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود، فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب الدفع، وإما من دعوى ترخيص الشارع وإذنه في ما شك في كونه من مصاديق الضرر.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين - : «أن تكون للشيء جهتان، يندرج بأحدهما تحت عنوان الشبهة الحكمية، وبالأخرى تحت عنوان الشبهة الموضوعية، فلو شك في استحقاق العقاب على اقتحام المشكوك كانت الشبهة حكمية من هذه الجهة، ولو شك في مضرّته كانت الشبهة موضوعية، فلا يجب الاحتياط من هذه الجهة حتى عند الأخباريين»(2)، وعليه فلا بد إما من إنكار القاعدة العقلية بوجوب دفع الضرر المحتمل في الشبهة الموضوعية، وإما من القول بأن الشارع أذن في اقتحام المشكوك حتى مع احتمال الضرر وحكم العقل بوجوب دفعه، وحيث إن الضرر متدارك شرعاً فلا مانع من الإذن الشرعي خلافاً للحظر العقلي، فإذا كان هذا حال الضرر المقطوع، فالضرر المحتمل أولى بالإذن.

وأشكل عليه المحقق الخراساني(3):

وغيره، بأمور:

ص: 99


1- فرائد الأصول 2: 57.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 164.
3- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 205.

فأولاً: بأن الشبهة حكمية لا موضوعية؛ إذ ما كان المرجع فيه الشارع فهي حكمية، وما لم يكن المرجع فيه الشارع فهي موضوعية، وهنا لا طريق إلى معرفة المضرة سوى حكم الشارع؛ لأنها ليست من الأمور التي يستقل بها العقل، فمع الشك في الحلية والحرمة نشك في المفسدة والمضرة الواقعية!

وفيه: أن الضابط في التمييز بين الموضوعية والحكمية أمور ثلاث:

1- كون المتعلّق حكماً كلياً أم جزئياً أو موضوعاً خارجياً.

2- كون المنشأ فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين أم اختلاط الأمور الخارجية.

3- كون المرجع فيه الشارع أم غير الشارع كفحص المكلف نفسه.

فما ذكر في الثلاثة أولاً هو ضابط الحكمية، وما ذكر فيها أخيراً هو ضابط الموضوعية، والمنطبق في ما نحن فيه هو ضابط الموضوعية لا الحكمية.

وثانياً: إن الشبهة حتى لو كانت موضوعية لا مؤمّن فيها هاهنا بالخصوص؛ إذ العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل، وفي المشكوك احتمال الضرر موجود، والنقل مختص بما كان منشأ الاشتباه وجود الحلال والحرام مع عدم المميِّز كما في قوله (علیه السلام) : «كل شيء فيه حلال وحرام...»(1)

وفي ما نحن فيه ليس منشأ الاشتباه وجود القسمين، بل منشؤه احتمال الضرر التكويني.

ص: 100


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 88.

وفيه: وجود المؤمِّن الشرعي لعدم انحصار أدلة البراءة في الحديث المذكور، بل هناك أحاديث أخرى تشمل ما نحن فيه كقوله (علیه السلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1)، وكقوله (علیه السلام) : «رفع... ما لا يعلمون»(2).

وثالثاً: إنه لا اتفاق من الكل في جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية مطلقاً، بل لو كان المحتمل مهماً فلا، كما لو رأى شبحاً لا يعلمه إنساناً أو صيداً فلا يجوز رميه لانصراف أدلة البراءة عن مثله.

ص: 101


1- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
2- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.

فصل في دلالة الاستصحاب على البراءة

اشارة

ومعه لا مجال لأدلة الاحتياط حتى لو فرض تمامية دلالتها؛ إذ بالاستصحاب يرتفع موضوع الاحتياط، حيث لا تبقى شبهة معه، ولولا ذلك لكانت أدلة الاحتياط - على فرض دلالتها - حاكمة على أدلة البراءة؛ لأن موضوعها عدم البيان وعدم العلم، والاحتياط علم وبيان.

ثم إن هنا ثلاث استصحابات: استصحاب البراءة حال الصغر، واستصحاب البراءة قبل الشريعة أو أوائلها، واستصحاب عدم التكليف قبل البلوغ أو قبل تحقق قيود الوجوب.

الاستصحاب الأول: استصحاب البراءة حال الصغر

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول(1): إنه لا يترتب على هذا الاستصحاب أثر شرعي، فلا حجية له؛ وذلك لأن المستصحب أحد ثلاثة: إمّا براءة الذمة عن التكليف ولا يترتب عليه سوى أثر عقلي هو عدم استحقاق العقاب، وإمّا عدم المنع عن الفعل ولازمه العقلي الإذن فيه، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الضد الآخر بأصالة العدم، وإما عدم استحقاق العقاب وهو أمر عقلي

ص: 102


1- فرائد الأصول 2: 59-60.

ولا أثر شرعي له.

وأجيب: أولاً(1):

بأنه يكفي في صحة الاستصحاب كون المستصحب بنفسه أمراً شرعياً، وحيث إن الحرمة وعدمها مجعولان شرعيان فيصح استصحابهما من غير حاجة إلى أثر شرعي آخر، فعدم المنع أمر شرعي - حيث إن إثبات التكليف ونفيه مجعولان للشارع وبيده - وباستصحابه تثبت جميع آثار الحكم الشرعي، سواء كانت عقلية أم شرعية؛ لأن الأصل المثبت هو ترتيب الآثار غير الشرعية للمستصحب إذا لم يكن المستصحب الحكم بنفسه، وأما آثار الحكم فلا إشكال في ترتبها حتى لو كانت عقلية كوجوب الطاعة واستحقاق العقاب بالمخالفة ونحوها.

إن قلت(2): إن عدم المنع ليس مجعولاً شرعياً، والمفروض أنه لا أثر شرعي له!

قلت: إن العدم التشريعي قابل للجعل الشرعي، حيث إن التشريع هو عالم الفرض والاعتبار، فيمكن فرض جعل العدم، مضافاً إلى أن الكلام هنا في البقاء الاعتباري لعدم التكليف، والبقاء الاعتباري له أمر مجعول شرعاً، نظير أن حياة زيد غير مجعولة شرعاً لكن بقاؤها قابل للجعل الشرعي.

إن قلت: إن جعل العدم ظاهراً بالاستصحاب لا ينفي وجود التكليف واقعاً، ومعه يحتمل العقاب على المخالفة فلا بد من ضمّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيلغو التمسك بالاستصحاب.

ص: 103


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 207.
2- منتقى الأصول 4: 457.

قلت(1): إن جعل عدم المنع ظاهراً مساوق لجعل الإباحة ظاهراً، ومع جعلها ظاهراً لا احتمال للعقاب، فلا حاجة إلى التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ لا فرق بين الجعل الخاص الظاهري - أي جعل الترخيص في الشبهات التحريميّة - الذي ينفي احتمال العقاب، وبين الجعل العام الظاهري بالاستصحاب، وما نحن فيه مصداق له.

وثانياً: بأن هناك شق رابع هو استصحاب الإباحة في حال الصغر فهي أمر شرعي وتترتب عليها آثار شرعية.

وفيه: أن دليل رفع القلم كما يرفع الوجوب والحرمة كذلك يرفع الإباحة الشرعية، لإطلاق رفع القلم، ولا وجه لتعليله بالمنّة كي لا تكون منّة في رفعها، فتأمل.

الإشكال الثاني: ما عن المحقق النائيني(2):

من أن الأثر مترتب على نفس الشك، فموضوعه محرز بالوجدان، فيكون الحكم كذلك محرزاً وجداناً، فيرجع التعبد الاستصحابي إلى تحصيل الحاصل، بل إلى أردأ أقسامه وهو تحصيل المحرز الوجداني بالأصل.

وأورد عليه: بالنقض بالأمارات النافية للتكليف، وبأنه ليس من تحصيل الحاصل لاختلاف الأثر، إذا أثر الاستصحاب ثبوت عدم التكليف - ولو تعبداً - ، وأثر الشك عدم ثبوت التكليف، وبأن امتناع تحصيل الحاصل إنما هو في التكوين، وأما في التشريع فحيث إن وعائه الاعتبار وهو من عالم

ص: 104


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 180.
2- أجود التقريرات 3: 331-332.

الفرض، وفرض المحال ليس بمحال فلا محذور فيه إلاّ اللغوية، ولا لغوية مع التأكيد كالأوامر الإرشادية، مضافاً إلى أنه لو قيل بحكومة أدلة الاحتياط على أدلة البراءة فيقال بحكومة الاستصحاب عليها؛ إذ الاستصحاب مقدّم على الاحتياط، فتأمل.

الاستصحاب الثاني: استصحاب البراءة قبل الشريعة أو أوائلها

حيث لم يجعل التكليف فيستصحب.

وأشكل عليه(1): بأنه أصل مثبت؛ إذ جميع الآثار الشرعية والعقلية تترتب على المجعول لا على الجعل، حيث إنه لا أثر له إلاّ استتباع المجعول، وعليه فاستصحاب عدم الجعل لازمه عدم المجعول فلا تترتب آثار المجعول، وهذا أصل مثبت.

وأجيب: أولاً: بالنقض باستصحاب عدم النسخ.

وفيه: أن مرجع هذا إلى الإطلاق الأزماني للدليل لا إلى الاستصحاب.

وثانياً: بأنه لا واسطة في المقام...

1- إما لاتحاد الجعل والمجعول ذاتاً، كالإيجاد والوجود، وعليه فجميع آثار المجعول هي آثار الجعل حقيقة.

وفيه: أن المقصود بالجعل في كلام المحقق النائيني هو الثبوت في الشريعة، وبالمجعول الثبوت في ذمة المكلف وهما متغايران، فلم يكن تشريع فلا شيء ثبت في ذمة المكلف فلا آثار، فصار أصلاً مثبتاً.

ص: 105


1- أجود التقريرات 3: 331.

2- وإما لأن الأثر مترتب على كل واحد منهما فلا واسطة في البين؛ وذلك لأن الأثر هو عدم المحذور العقلي في الارتكاب وهذا كما يترتب على عدم المجعول كذلك يترتب على عدم الجعل.

وفيه: إنه لا محذور عقلاً سواء ثبت الحكم في الشريعة أو لم يثبت، وإنما المحذور العقلي يترتب على ثبوت التكليف في ذمة المكلف، وعدمه على عدمه.

3- وإما لخفاء الواسطة - حتى لو فرض ثبوتها - ؛ إذ حينما يرى العرف عدم الجعل يرتب عدم الحرج العقلي.

وثالثاً: يكفي استصحاب عدم المجعول من غير حاجة إلى استصحاب عدم الجعل ليلزم محذور الواسطة.

الاستصحاب الثالث: استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ

إن قلت: لا يقين سابق بناءً على إمكان الوجوب المعلّق!

قلت: لا يعقل توجه الخطاب إلى غير المكلّف - ولو بنحو الوجوب المعلّق - إذ مع عدم تحقق الشرائط العامة للتكليف - والذي منها البلوغ - لا تكليف قطعاً، بل ولا يترتب عليه أثر الوجوب المعلّق من السعي إلى المقدمات.

نعم، يمكن ورود هذا الإشكال على استصحاب عدم التكليف مع عدم تحقق قيود الموضوع في المكلفين كعدم وجوب الحج على المكلف قبل الاستطاعة.

إشكالات عامة على استصحاب البراءة

ثم قد أوردت إشكالات على أصل جريان استصحاب البراءة، ومنها:

ص: 106

الإشكال الأول: استلزامها لغوية أدلة البراءة؛ إذ الاستصحاب حاكم عليها لرفعه لموضوعها تعبداً، وعليه فلا يوجد أصل بعنوان أصل البراءة!

وأجيب: أولاً: إن أدلة البراءة تدل على الأمن في الشبهات، فلعلّها بجهة استصحاب عدم التكليف، وهذا وإن استلزم إلغاء البراءة الاصطلاحية، لكنه لا يوجب إلغاء دليلها، فلا محذور في التعبير عن استصحاب عدم التكليف بنتيجته، مع عدم ظهور أدلة البراءة في كون الأمن بملاك عدم العلم أو بملاك سبق عدم التكليف؛ إذ هي بيّنت النتيجة فقط، فتأمل.

وثانياً: لا حكومة؛ لعدم التنافي بين الدليلين حيث يتوافقان في النتيجة، وهذا على بعض المباني من جريان الدليل الحاكم والمحكوم إذا كانا متوافقين.

وعليه فيكون دليل البراءة تأكيداً.

وفيه: أن الحكومة إنما هي مع عدم تنافي الدليلين وكون لسانهما لسان التسالم والتوافق، ولذا يقدم الحاكم الظاهر على المحكوم الأظهر أو النص، وكذا الحاكم المظنون بالظن المعتبر على المحكوم المقطوع به كحكومة دليل لا ضرر على الواجبات الثابتة بالقرآن مثلاً، فتأمل.

وثالثاً: إنه قد لا يجري استصحاب عدم التكليف لبعض الموانع، فهنا تجري أدلة البراءة فلا لغوية.

الإشكال الثاني: تعارض هذه الاستصحابات الدالة على عدم الإلزام مع استصحاب عدم الترخيص، حيث إن الترخيص حادث فالأصل عدمه، كما

ص: 107

في الإلزام، فيتساقطان.

وأجيب: أولاً: بعدم المحذور من جريان كلا الاستصحابين، لعدم استلزامه مخالفة عملية قطعية.

لا يقال: يلزم من عدم الترخيص استحقاق العقوبة على الاقتحام؟

لأنه يقال: إن الاستحقاق مترتب على ثبوت المنع لا على عدم الترخيص، وعليه فلو اقتحم المكلّف في مورد الشبهة لا يقطع بالمخالفة العملية وذلك لوجود المؤمّن بالاستصحاب، وإنما يقطع بالمخالفة العلمية وهي ليست بمحذور.

إن قلت: استصحاب عدم الترخيص إمّا لا أثر له؛ إذ المؤمّن موضوعه عدم إلزام المولى لا ترخيصه، وبعبارة أخرى: التأمين لم يترتب على الترخيص كي ينتفي بنفيه، وإمّا مثبت لو أريد إثبات الإلزام ليترتب عليه التنجيز!

قلت: إن التأمين إنما هو أثر ثبوت الترخيص وليس أثراً لعدم الإلزام، فهل يحق للعبد أن يتصرف في أموال المولى بمجرد عدم إلزامه بشيء أم لا بد من ثبوت الترخيص؟ فتأمل.

إن قلت: إن في إسناد كلا الحكمين إلى المولى مع العلم بكذب أحدهما مخالفة قطعية عملية؟

قلت: إنهما من الضدين اللذين لهما ثالث فلا علم بالمخالفة؛ إذ لعلّ المولى سكت عن الحكم فلا إلزام ولا عدم ترخيص، فتأمل.

وثانياً: قد يقال: إنّه قد ثبتت بالأدلة الشرعية قاعدة (كل ما لم يثبت فيه

ص: 108

الإلزام فقد ثبت فيه الترخيص) كقوله (علیه السلام) : «اسكتوا عما سكت الله»(1)

وكقوله (علیه السلام) : «إن بني إسرائيل شدّدوا فشدّد الله عليهم»(2).

إن قلت: إنه لغو بعد وضوحه؛ لأنه من قبيل أخذ عدم أحد الضدين في موضوع الضد الآخر!

قلت: لا لغوية مع كون الضدين لهما ثالث، وقد ذكرنا وجود الثالث وهو السكوت.

ويرد عليه(3): إنه لا معنى لحكومة الأصل الموضوعي على الحكمي هنا؛ وذلك لعدم جريان الأصل الموضوعي، حيث إن هنا دليل حسب المدعى وهو (كل ما لم يرد فيه إلزام فهو مرخص فيه) ومع ثبوته فهو أمارة، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي!

الإشكال الثالث: في الشبهة الموضوعية لا يوجد جعل بشخصه، فلا يقين سابق ولا شك لاحق، وأما الطبيعي فقد جعل له الحكم قطعاً فلا شك لاحق، وعليه فلا مورد للاستصحاب!

وأجيب: بأن الأحكام في القضايا الحقيقية انحلالية، فتتكثر الأحكام بتكثر أفراد الموضوعات، وعليه فالشك في الموضوع الخارجي ملازم للشك في جعل التكليف له، فيعود الأمر إلى استصحاب عدم الجعل.

وأورد عليه: أولاً: بأن لازم هذا عدم وجود التخيير العقلي؛ وذلك لأنه

ص: 109


1- عوالي اللئالي 3: 166.
2- بحار الأنوار 13: 266.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 198.

في مرحلة الجعل وثبوت الحكم في الشريعة لا تعدد للموضوع ولا للحكم، لا شرعاً ولا عقلاً؛ إذ حين الجعل الموضوع والمحمول كلاهما موجودان في عالم الاعتبار حتى مع عدم وجود المصاديق الجزئية الخارجية، كما أنه في مرحلة المجعول انطباق الطبيعي على المصاديق إنما هو بحكم العقل لا بجعل المولى، بل المولى العرفي قد يكون غافلاً عن الموضوعات الخارجية، وعليه فعدم جعل الحرمة على المشكوك ليس بفعل المولى كما أن أثره - بعدم استحقاق العقاب على الاقتحام - ليس مجعولاً له فلا يجري الاستصحاب! فالقول بانحلال جعل الطبيعي إلى جعولات جزئية يستلزم عدم وجود التخيير العقلي! اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك ليس بمحذور ولا مانع فيه، فتأمل.

وثانياً: إنه مع جريان الاستصحاب في الموضوع لا تصل النوبة إلى الاستصحاب في الحكم، كما لو شك في مانعية خمر فالاستصحاب بعدم تحوله إلى خمر بعد كونه عصيراً عنبياً مثلاً حاكم على استصحاب عدم حرمة هذا المائع، اللهم إلاّ أن يقال: بجريان استصحاب الحاكم والمحكوم مع توافقهما.

ص: 110

فصل في ما استدل به على الاحتياط

اشارة

وقد استدلّ القائلون بالاحتياط بالكتاب والسنة والعقل.

الدليل الأول: الكتاب

وقد استدلوا بآيات:

منها: ما دلّ على النهي عن القول بغير علم كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1).

ومنها: ما نهى عن إلقاء النفس في التهلكة كقوله: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(2).

ومنها: ما أمر بالتقوى والجهاد كقوله: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(3)

وقوله: {وَجَٰهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}(4).

ومنها: ما أرجع إلى الله تعالى والرسول (صلی الله علیه و آله) كقوله: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(5).

ص: 111


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة البقرة، الآية: 195.
3- سورة آل عمران، الآية: 102.
4- سورة الحج، الآية: 78.
5- سورة النساء، الآية: 59.

ويرد على الاستدلال الأول: بأن أدلة البراءة واردة؛ وذلك لانتفاء القول بغير علم مع جريان أدلة البراءة، فإن البراءة علم تنزيلي كالعمل بالأمارات وسائر الأصول، وبأنها تنتهي إلى العلم الثابت بالعقل القطعي وبالنقل المتواتر، فالقول بها قول بعلم.

وعلى الثاني: بأنه في إجراء البراءة لا تهلكة دنيوية لأنها بمعنى الموت وهو مقطوع العدم في غالب الشبهات، وفي بعضها محتمل فيكون التمسك بالآية تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، كما لا تهلكة أخروية لوجود المؤمِّن.

وعلى الثالث: بأن حق التقوى وحق الجهاد هو عام شامل لفعل المستحبات وترك المكروهات وترك المشتبهات حتى في الشبهات الموضوعية، ومن المعلوم عدم وجوب هذا المقدار فالآيتان دالتان على الاستحباب وذلك ترجيحاً لظهور المادة فيه على ظهور الهيأة في الوجوب.

مضافاً إلى ما قيل من أن الأمر بالتقوى والجهاد إرشادي، فلذا لا يستحق عقوبتين بمخالفة هذا الأمر وبمخالفة التقوى والجهاد، والأوامر الإرشادية تابعة للمرشد إليه، فلا يمكن الاستدلال بها على الوجوب إلاّ على نحو دائر، ولا دليل آخر يدل على وجوب المرشد إليه هنا بنحو مطلق.

وعلى الرابع: بأن الرجوع إلى البراءة هو ردّ إليهما والعمل بما دلاّ عليه، كما مرّ في أدلة البراءة.

الدليل الثاني: السنة المطهرة

اشارة

وهي ما دلت على الوقوف عند الشبهات، وما أمرت بالاحتياط، وأخبار

ص: 112

التثليث.

الطائفة الأولى: الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة

كقوله (علیه السلام) : «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(1)، وهذا المضمون متواتر، وعلى فرض عدم تواتره فيكفي اعتبار سند بعض هذه الروايات.

وأشكل على الاستدلال بها بأمور، منها:

الإشكال الأول: بأن كلمة «خير» هنا أفعل التفضيل وهو ظاهر في الاستحباب؛ إذ بناءً على الوجوب لا حسن في الاقتحام كي يكون الوقوف أحسن منه.

وفيه: أن أفعل التفضيل وإن كان ظاهراً في اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في أصل الفعل، إلاّ أنه قد ينسلخ عن معنى التفضيل بالقرائن، وهنا توجد قرائن على الانسلاخ...

منها: إن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلاً، وعليه فالوقوف خير يقابله الاقتحام الذي هو شر.

ومنها: إن عِلة الواجب لا تكون إلاّ واجبة، وفي مقبولة عمر بن حنظلة(2) علّل الإمام (علیه السلام) وجوب الإرجاء في قوله: «فأرجه حتى تلقى إمامك» بقوله: «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكات».

هذا مضافاً إلى عدم وجود كلمة (خير) في بعض هذه الأخبار

ص: 113


1- الكافي 1: 50؛ وسائل الشيعة 20: 259.
2- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 107.

كقوله (صلی الله علیه و آله) : «فاحذر الشبهة»(1)

وقوله (علیه السلام) : «إذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام»(2).

إن قلت: إن حملها على الوجوب يستلزم التخصيص بغير الشبهات الموضوعية والوجوبية، مع أن قوله (علیه السلام) : «خير من الاقتحام في الهلكة» آبٍ عن التخصيص.

قلت: إن خروجهما تخصص وليس بتخصيص، بمعنى أن مرتكبهما ليس معرضاً للهلكة أصلاً.

الإشكال الثاني: إنه لا شبهة مع الحكم الظاهري بالترخيص؛ إذ مع الترخيص الظاهري يكون الشيء معلوم الحلية لا مشتبهها، وعليه ف- «الشبهة» في قوله (علیه السلام) يراد بها الشبهة بقول مطلق من غير رافع.

وفيه: أن بعض الروايات أطلقت الشبهة مع وجود الرافع الظاهري لها كقوله (علیه السلام) : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة»(3)

في من احتمل كونها أختاً رضاعية، مع جريان استصحاب العدم النعتي فيه.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(4): من أن ظاهر التعليل في قوله (علیه السلام) : «فإن الوقوف عند الشبهة...»(5)

هو كون الهلكة المترتبة على الاقتحام مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف، وأنها

ص: 114


1- نهج البلاغة، الكتاب: 65.
2- الكافي 5: 108؛ وسائل الشيعة 16: 258.
3- تهذيب الأحكام 7: 474؛ وسائل الشيعة 20: 259.
4- نهاية الأفكار 3: 243.
5- الكافي 1: 50؛ وسائل الشيعة 20: 259.

علة الأمر به، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلاّ بفرض منشأ آخر لها في رتبة سابقة عن الأمر بالتوقف - كعلم إجمالي ونحوه - يكون هو المنجّز للتكليف، والرافع لقبح العقاب بلا بيان، وإلاّ فيستحيل ترتب الهلكة المفروضة على نفس هذه الأوامر المتأخرة عنها.

وبعبارة أخرى: العلة متقدمة على المعلول، فالهلكة حيث كانت علة للأمر بالتوقف لا بد من تقدمها عليه، كما في موارد العلم الإجمالي حيث يستقل العقل بوجوب التوقف ويكون الحكم الشرعي حينئذٍ إرشادياً مع بيان العلة.

وفي الشبهات البدوية التحريميّة الهلكة مترتبة على الأمر بالوقوف، فلا يمكن أن تكون متقدمة بمقتضى التعليل؛ لأن ذلك من تقدم الشيء على نفسه، وعليه فلا تشمل هذه الروايات ما نحن فيه!

ورُدَّ: بارتفاع الدور أو ملاكه بكون التعليل كاشفاً عن وجود الهلكة، وعليه فالهلكة غير مترتبة على الأمر بالوقوف في الشبهات البدوية التحريمية، بل الأمر به كاشف عنها، نظير نهي المولى عن الخمر وتعليله بأنه مضرّ.

الإشكال الرابع - وهو العمدة - ما ذكره الشيخ الأعظم(1) وحاصله: أن الأمر بالوقوف ظاهر في الإرشاديّة، فلا بد من ملاحظة مورد الشبهة وأنه هل فيه احتمال العقوبة أم لا؟ والموارد التي يحتمل فيها العقوبة هي موارد العلم الإجمالي، والشبهات الحكمية قبل الفحص، والموارد التي نهى

ص: 115


1- فرائد الأصول 2: 69-73.

الشارع فيها عن التدين بالاستحسانات العقلية والظنون الارتجالية كغوامض المسائل العقلية المرتبطة بالعقائد.

وإما الشبهة الحكمية بعد الفحص فلا منشأ لاحتمال العقوبة فيها إلاّ مخالفة أمر (قف)، أو مخالفة الحكم الواقعي، وكلاهما غير صالحين لذلك؛ إذ (قف) إرشادي، والحكم الواقعي مجهول ولا إشكال في قبح العقاب على المجهول.

وعليه فلا احتمال للهلكة - بمعنى العقوبة - في الاقتحام.

إن قلت: إن الروايات مطلقة فتشمل الشبهات البدوية، وقد ذكرت بأن الاقتحام يؤدّي إلى الهلكة، وهذا بيان للازم الحرمة، وعليه فالاقتحام في المشكوك عرضة للهلكة، فيحرم الاقتحام، ويجب الاحتياط؛ إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح!

قلت: إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول، وهو قبيح، وإن كان حكماً ظاهرياً نفسياً فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع، مع أن صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية.

وحاصله: إن الأمر بالاحتياط المكشوف عبر بيان لازمه الذي هو الهلكة في الاقتحام إما غيري أو نفسي، والأول لا عقوبة على مخالفته، والثاني غير متحقق في المقام!

وأجيب بأجوبة منها:

ص: 116

الجواب الأول: إن هناك شقاً ثالثاً هو الأمر الطريقي - وهو الذي يُجعل بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه - ، نظير الأمر باتباع الأمارات، حيث إن طابقت الواقع تنجز وإلاّ كانت عذراً للمكلّف.

إن قلت(1): لا يعقل هنا الأمر الطريقي وذلك لأن المصحح للعقوبة على مخالفة الواقع إذا كان هو الأمر الطريقي فلا محالة تكون العقوبة مترتبة عليه وفي طوله، ولا يعقل أن يكون الأمر الطريقي في طولها ومترتباً عليها، مع أن المفروض في الروايات إنما هي العقوبة في مرتبة سابقة على الأمر بالاحتياط، حيث إنه علّل فيها الأمر بالاحتياط بالهلكة، وهذا لا يتلائم مع كون الأمر بالاحتياط طريقياً.

والحاصل: أن فرض العقوبة إنما هو على الواقع وهو في مرحلة سابقة على الأمر بالتوقف وهذا يتنافى مع كون الأمر به نفسياً وطريقياً، فإن فرض العقوبة على الواقع منافٍ لكون الأمر بالتوقف نفسياً، وفرضها في مرحلة سابقة منافٍ لكونه طريقياً.

قلت(2): بل يعقل ذلك؛ لأن الفاء لا تدل على التعليل؛ لعدم لزوم كون مدخول (الفاء) في رتبة سابقة ليكون علة، بل تكون للتفريع احتمالاً، فبعد الأمر ب-«احتط» يتفرع عليه أن في اقتحام الشبهة معرضية للهلكة، كما لو قلنا (صلّ فإنّ في تركها الهلكة) حيث إن (الفاء) للتفريع، أي لأنها واجبة لذلك يترتب على تركها العقوبة.

ص: 117


1- منتقى الأصول 4: 466.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 236-237.

بل حتى لو فرض كون الفاء للتعليل، فإنه تعليل للمادة لا للهيأة، بمعنى أنها تعليل لفعل المكلّف لا تعليل لإنشاء المولى، فليس كون «الوقوف في الشبهة...» علة لإنشاء المولى، بل علة لفعل المكلف وهو التوقف.

وبذلك ثبت معقولية الأمر الطريقي، فلا ينحصر الأمر هنا في الغيري والنفسي.

الجواب الثاني: ما في نهاية الدراية(1)

وحاصله: أن «قفوا عند الشبهة» مطلق، و«الوقوف عند الشبهات...» عام، فيشملان الشبهات البدوية، كما أن «الهلكة» ظاهرة في العقوبة الأخروية، وعليه فإن ظاهر الحديث: أن اقتحام المشكوك اقتحام في العقوبة الأخروية، وحيث إن الأمر بالوقوف والأمر الواقعي غير صالحين لتصحيح العقوبة - لما ذُكر - فلا بد من وجود أمر ثالث، وإلاّ كان الكلام لغواً، وهو ما يُصان الحكيم عنه.

وعليه فهنا ثلاثة أوامر: واقعي وإرشادي وطريقي، والثالث هو المصحح للعقاب على الواقع المجهول، والأول تمّ اكتشافه من الثاني؛ إذ الوقوف عند المشكوك غيرمعقول بدون وجود الأمر الطريقي، وعليه فمن وجود الأمر بالتوقف وتحقق الهلكة في الاقتحام نكتشف وجود الأمر بالاحتياط في رتبة سابقة.

إن قلت: الأمر الطريقي لم يصل، والأمر الواقعي مجهول، فكيف صححتم العقاب؟

قلت: أما الأمر الطريقي فواصل؛ إذ لا فرق في أنحاء الوصول، حيث إن

ص: 118


1- نهاية الدراية 4: 102-103.

الأمر بالتوقف يكشف عن الأمر بالاحتياط، ووصول المعلول وصول للعلة، وأما الأمر الواقعي فلا محذور فيه.

وتوهم الدور: بأن معرضية العقوبة متأخرة عن وصول الأمر الإرشادي، كما أن التعليل ظاهر في أنها متقدمة عليه.

مندفع: بأن أمر المشافَه بالتوقف كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط سابقاً - ولا محذور في احتمال ذلك في حق المخاطب ثبوتاً، وبضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف يكون الأمر الطريقي واصلاً إلينا، فلا يكون وصوله عبر الأمر الإرشادي ليكون دوراً!

إن قلت: إنه مجرد احتمال ولا مثبت له!

قلت: إنما ثبت بدلالة الاقتضاء، فبعد تسليم الإطلاق وكون الهلكة هي العقوبة، فلا بد عقلاً من ثبوت أمر آخر غير الإرشادي والواقعي.

وحاصل كلامه بتلخيص التبيين(1):

إن الشبهة مطلقة تشمل البدوية، كما أن الهلكة هي العقوبة الأخروية، ولا يعقل أن يكون أمر «قف» أو الأمر الواقعي المجهول منشأ للهلكة، فبدلالة الاقتضاء نكتشف وجود أمر ثالث في المقام، وهو المصحح للعقوبة على الواقع المجهول، ولا مانع من ذلك في حق المشافهين، فبضميمة قاعدة الاشتراك يثبت لغير المخاطبين.

أقول: في ما ذكر تأمل وذلك لأن الأمر يدور بين تقييد أو تخصيص الشبهة والشبهات، وبين تقدير أمر طريقي، والأول أولى من الثاني، فتأمل.

ص: 119


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 241.

أما الإشكال عليه: بأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فإشكال مبنوي، قال المحقق العراقي(1):

إن ذلك مبني على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإنه بعد اقتضاء أدلة البراءة نفي الهلكة على ارتكاب المشتبه في ظرف عدم البيان، يراد بالتمسك بالإطلاق المزبور في أن كل شبهة فيها الهلكة لإدخال الشبهات البدوية تحت حكم العام بإثبات أن الهلكة فيها كانت مع البيان، ومثله كما ترى غير جائز.

وبعبارة أخري: إن العام هو (الشبهة) وذلك لإطلاقها في الأخبار، والخاص هو (عدم البيان) عقلاً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعليه فكل شبهة لا بيان فيها لا عقاب على ارتكابها، وهذا الخاص غير معلوم في الشبهات البدوية بعد الفحص؛ إذ لا نعلم أن هناك بيان - عبر الأمر الثالث - أم لا! وحسب مبنى المحقق العراقي فإن الشبهة المصداقية للخاص تسري إلى العام حيث إن العام يعنونه، فصارت شبهة للعام، ولا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

إن قلت: الإطلاق وجداني، فيكشف عن الأمر الثالث، فلا شك في وجوده، فلا شبهة مصداقية للخاص لتسري إلى العام!

قلت: ليس الإطلاق وجدانياً، بل هو متوقف على وجود الأمر الثالث، وعليه فيتحقق الشك في البيان.

نعم، على المبنى الآخر - من أن الشبهة المصداقية للخاص لا تسري إلى العام - يصح التمسك به.

ص: 120


1- نهاية الأفكار 3: 245-246.

الإشكال الخامس: ما في الكفاية(1)

من أنه لا تهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة.

وأورد عليه: بأنه مع الأمر بالتوقف يحصل البيان فيرتفع موضوع البراءة العقلية وهو اللابيان، كما يزول به الشك فيرتفع موضوع البراءة النقلية الذي هو الشك.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط مطلقاً

1- منها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجلين أصابا صيداً - وهما محرمان - الجزاء بينهما أو على كل واحد منها جزاء؟ قال (علیه السلام) : لا، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال (علیه السلام) : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا»(2).

ومورد الرواية الشبهة الحكمية وقد دلت على وجوب الاحتياط فيها.

والجواب من وجوه، منها:

الجواب الأول: إن الغاية في قوله (علیه السلام) : «حتى تسألوا فتعلموا» هي العلم، فمع إمكان تحصيل العلم بالواقع فهو، وإلاّ فقد دلّت الأدلة على البراءة وهي علم ظاهري، كما ينقض الاستصحاب باليقين الظاهري، وعلى كل حال يتحقق العلم بالبراءة العقلية والشرعية.

الجواب الثاني: إن قوله (علیه السلام) : «مثل هذا» إما يراد به الشبهة الوجوبية أو

ص: 121


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 143.
2- الكافي 4: 391؛ وسائل الشيعة 13: 46.

مطلق الشبهة، وعلى كل حال لا يمكن حمل «فعليكم بالاحتياط» على الوجوب؛ إذ على الأول لا يجب الاحتياط حتى عند الأخباريين، وعلى الثاني يلزم خروج المورد وهو مستهجن، فلا بد من الحمل على الاستحباب.

وقد يتأمل فيه: بأن المورد هو مع إمكان الفحص بالسؤال ولا إشكال في وجوب الاحتياط حينئذٍ، وعليه فالرواية مجملة فلا يصح الاستدلال بها.

الجواب الثالث: إن الرواية خاصة بزمان الحضور، وذلك بقرينة الغاية!

وفيه: أن هذا إنما يصح لو كانت الغاية مقيدة بالقدرة، أي السؤال مع إمكانه، إلاّ أن الظاهر هو إطلاق الغاية، أي غاية الاحتياط هو السؤال سواء أمكن أم لا، نظير ما لو قال المولى لا تفعل كذا حتى تستأذنّي، فإن النهي لا يسقط بعدم التمكن من الاستئذان.

الجواب الرابع: إن الرواية لا ترتبط بما نحن فيه؛ إذ فيها يعلم بالتكليف إجمالاً، وبحثنا في الشك في أصل التكليف!

وفيه: إن مورد الرواية أيضاً في الشك في التكليف؛ لأن المورد هو من الشك بين الأقل والأكثر فينحل العلم الإجمالي فيعود إلى الشك في أصل التكليف في الزائد.

2- ومنها: ما عن الإمام الكاظم (علیه السلام) حيث قال: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك»(1).

ص: 122


1- الاستبصار 1: 264؛ وسائل الشيعة 4: 177.

فإن قوله (علیه السلام) : «بالحائطة لدينك» تعليل للانتظار، فيفيد العموم بوجوب الاحتياط في كل شبهة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن مورد الرواية إما الشبهة الموضوعية أو الحكمية، وكلاهما لا ينفع المستدل...

أما الموضوعية - بأن يكون شكه في تحقق الاستتار مع علمه بأن ملاك الإفطار والصلاة هو استتار القرص - فإن وجوب الاحتياط من باب استصحاب النهار، وغير خفي أنه لا مجال للبراءة الحكمية مع جريان الاستصحاب الموضوعي.

وأما الحكمية - بأن يكون سؤاله عن تحقق الليل الذي به يجوز الإفطار والصلاه - فإنه لا بد من حمل الكلام على التقية؛ إذ لا معنى للجواب بالاحتياط إلاّ الجهل بالحكم الواقعي، وحجج الله تعالى منزّهون عنه، وأما الاحتياط للتقية فلا محذور فيه بأن يؤخّر إفطاره حتى ذهاب الحمرة المشرقية إيهاماً لهم بأنه يتحرّى التأكّد من استتار القرص.

الإشكال الثاني: ما قيل: من احتمال أن يكون قوله (علیه السلام) : «وتأخذ بالحائطة لدينك» من تتمة الفقرة الأولى، لا تعليلاً لها، فيكون محصّل المعنى: يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط من دون أن يلتفت أحد إلى مذهبك(1).

ويمكن أن يقال: إن هذا المعنى هو الاحتياط لنفسك لا احتياط لدينك،

ص: 123


1- درر الفوائد، للحائري: 434.

فيكون خلافاً للظاهر، ولا يُصار إليه.

3- ومنها: ما عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1).

وأجيب بأمور، منها:

الجواب الأول: إن الحديث لا يدل على الوجوب؛ وذلك لمكان قوله (علیه السلام) : «بما شئت» فإن الواجب لا يعلّق على المشيئة.

إن قلت: إطلاق قوله (علیه السلام) : «احتط» يمنع من الحمل على الاستحباب، حيث يجب الاحتياط في بعض الشبهات كالمقرونة بالعلم الإجمالي وكالشبهة الحكمية قبل الفحص.

قلت: يتعارض إطلاق «احتط» مع ظهور «ما شئت» في الاستحباب، وظهور الثاني أقوى من ظهور الأول!

الجواب الثاني: إنه لا بدّ من التصرف في المادة أو الهيأة، أما في المادة - وهي الاحتياط - فإنه لو كان الاحتياط واجباً للزم حملها على غير الشبهات الموضوعية، والحكمية الوجوبية والتي يُعلم عدم وجوب الاحتياط فيهما، وأما في الهيأة فبحملها على مطلق الرجحان، والثاني إن لم يكن أرجح فهو مساوٍ للأول، فتكون الرواية مجملة فلا يصح الاستدلال بها على الوجوب.

الجواب الثالث: إن حمل «احتط» على الوجوب يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن؛ إذ لا يجب الاحتياط في الشبهة الموضوعية الوجوبية

ص: 124


1- أمالي الشيخ الطوسي: 109؛ وسائل الشيعة 27: 167.

والتحريمية، والشبهة الحكمية الوجوبية، فلا يبقى تحت الأمر إلاّ الشبهة الحكمية التحريميّة!

وفيه: إن هناك شبهات أخرى يجب الاحتياط فيها، كالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي موضوعية كانت أم حكمية، والشبهة الحكمية قبل الفحص وجوبية كانت أم تحريميّة، ومع إضافة الشبهة الحكمية التحريمية يكون موارد الوجوب أكثر من موارد الاستحباب.

الجواب الرابع: ما في الرسائل(1)

من أن الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب غير الإلزامي؛ لأن المقصود منه أعلى مراتب الاحتياط لا جميع مراتبه، ولا المقدار الواجب، والمراد بقوله: «بما شئت» ليس التعميم من حيث القلة والكثرة والتفويض إلى إرادة الشخص؛ لأن هذا كلّه منافٍ لجعله بمنزلة الأخ، بل المراد: أيّ مرتبة من مراتب الاحتياط شئتها فهي في محلّها.

وبعبارة أخرى: إن «ما شئت» قد تكون للتخيير بين المراتب، وقد تكون لبيان المرتبة العليا، والاحتياط في المرتبة العليا مطلوب للمولى لأنه شبّهه بالأخ الذي يريد كمال الاعتناء به، فهذا قرينة على أن المراد المرتبة العليا، وهي ليست بواجبة.

وقد يقال: إن هذا خلاف الظاهر، ولذا لو لم يذكر «بما شئت» أوهم الوجوب، فأضافه لدفع التوهم.

4- ومنها: قوله (علیه السلام) : «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل

ص: 125


1- فرائد الأصول 2: 81.

الاحتياط»(1).

وفيه: أن قوله (علیه السلام) : «سبيل الاحتياط» مطلق فيشمل من احتاط في بعض الشبهات، وحتى لو فرض دلالته على العموم المجموعي فهو يدل على نجاة من احتاط في كل الشبهات، ولا دلالة على عدم نجاة غيره إلاّ مفهوم اللقب وهو ليس بحجة، مضافاً إلى أن استفادة الوجوب من قوله: «ناكب» يتوقف على مفهوم الوصوف أو اللقب.

وهناك روايات أخرى تمّ الاستدلال بها، وهي مضافاً إلى ضعف سندها لا دلالة لها.

إشكالات عامة

ثم إن هاهنا إشكالات عامة على الاستدلال بهذه الطائفة الآمرة بالاحتياط، منها:

الإشكال الأول: إن روايات الاحتياط عامة لشمولها لكل الشبهات، وروايات البراءة خاصة لعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، والشبهات الحكمية قبل الفحص.

وأجيب: بأن النسبة بينهما التساوي بناءً على عدم انقلاب النسبة، والعموم والخصوص من وجه بناءً على انقلابها.

أما الأول: فإن روايات البراءة عامة في نفسها كروايات الاحتياط، وتخصيصها إنما كان بدليل آخر، فأخصيّة روايات البراءة متوقفة على القول بانقلاب النسبة.

ص: 126


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 332.

وأما الثاني: فلأن أخبار الاحتياط أيضاً مخصصة بالشبهات الموضوعية، فمورد افتراق البراءة هي الشبهات الموضوعية حيث لا يجب الاحتياط فيها، ومورد افتراق الاحتياط الشبهات الحكمية قبل الفحص حيث لا تجري البراءة، ومورد الاجتماع: الشبهات الحكمية بعد الفحص.

الإشكال الثاني: ظهور روايات الاحتياط في الوجوب لكونها بصيغة الأمر، مع كون روايات البراءة نص فيها، فيقدم الثاني على الأول.

وفيه: أنه لا تصل النوبة إلى الجمع الدلالي، حيث إنه فرع التعارض، ولا تعارض هنا؛ وذلك لحكومة أدلة الاحتياط حيث إنها علم تنزيلي.

الإشكال الثالث: إن أوامر الاحتياط إرشادية وذلك لاستقلال العقل بحسن الاحتياط، فلا بد لمعرفة الوجوب أو عدمه من النظر في المرشد إليه، والعقل لا يحكم بلزوم الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريميّة بعد الفحص، بل يحكم بمجرد حسنه لإدراك الواقع.

وفيه: أنّ ظاهر الأمر المولوية، ولا يرفع اليد عنه إلاّ لمحذور كأوامر الطاعة، فليس مجرد وجود حكم للعقل سبب لرفع اليد عن الظهور.

الإشكال الرابع: إن استصحاب عدم الحرمة رافع لموضوع أخبار الاحتياط فلا تعارض أصلاً؛ إذ به يحرز عدم التكليف، فإن موضوع أخبار الاحتياط الشك والشبهة، والاستصحاب علم تعبداً فلا شبهة ولا شك! مضافاً إلى تقدم الاستصحاب على جميع الأصول الأخرى ومنها الاحتياط، فبارتفاع الاحتياط - موضوعاً أو محمولاً - تجري البراءة من غير معارض.

ص: 127

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث

وهي روايات متعددة، ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور الثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يُردّ علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : حلال بيّن، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ الشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم»(1).

والاستدلال بها على وجوب الاحتياط من وجوه:

الوجه الأول: التعليل في قوله (علیه السلام) : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، يدل على طرح ما فيه الريب، ومنه المشتبه حكمه.

وفيه: إن هذا في الحجة المشكوكة، وعدم اعتبارها معلوم؛ إذ الشك في الحجية مسرح عدم الحجية، وما نحن فيه المدعى ثبوت الحجية بأدلة البراءة.

الوجه الثاني: قوله (علیه السلام) : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات».

وفيه: إنّ النجاة من المحرمات الواقعية راجح ولا دليل على وجوبه وليس في هذا الحديث دلالة على الوجوب، وإنما دلّ الدليل على وجوب النجاة عن المعاصي.

الوجه الثالث: التثليث في كلام الإمام الصادق (علیه السلام) يدل على أن موارد

ص: 128


1- الكافي 1: 68.

الشبهة من المشكل الذي يجب ردّ علمه إلى الله والرسول (صلی الله علیه و آله) .

وفيه: إن المشتبه الذي دلت البراءة على جوازه ليس من المشكل، بل من الأمر البيّن رشده، كما في الشبهات الموضوعية اعتماداً على اليد مثلاً، مضافاً إلى ما قيل: من أن الرواية في الردع عن الإفتاء طبقاً للخبر الشاذ لا عن العمل الذي هو محل البحث.

الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ الأعظم(1)

من أن الإمام (علیه السلام) أوجب طرح الشاذ مُعَلِّلاً: بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه، والمراد أن الشاذ فيه ريب، لا أن الشهرة تجعل الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، وإلاّ لم يكن معنىً لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين، ولا لتثليث الأمور ثم الاستشهاد بتثليث النبي (صلی الله علیه و آله) ، أي إن التثليث دلّ على أن الخبر فيه الريب، لا أنه لا ريب في بطلانه، وإلاّ لم يكن معنى لذكر التثليث وإدخال المشتبه في مقابل الحلال والحرام البيّنين.

وعليه فإن الشاذ مما فيه الريب فيجب طرحه، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام (علیه السلام) ردّه إلى الله ورسوله، فاستشهاد الإمام (علیه السلام) بقول الرسول (صلی الله علیه و آله) في التثليث لا يستقيم إلاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات، مضافاً إلى دلالة قوله: «نجا من المحرمات» بناءً على أن تخليص النفس من المحرّمات واجب، وقوله (صلی الله علیه و آله) : «وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

ص: 129


1- فرائد الأصول 2: 82.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين -(1):

إن الإمام (علیه السلام) استشهد لوجوب الطرح بحديث النبي (صلی الله علیه و آله) ، وذلك دالّ على وجوب ترك الشبهات فيه، فيعلم من الاستشهاد أن طرح الشاذ النادر صغرى لكبرى واجبة، وإلاّ لو كان ترك الشبهات غير واجب لم يصحّ الاستشهاد بغير الواجب لوجوب شيء، فلو لم تكن الكبرى واجبة لا يصح القول بوجوب الصغرى، لكونها فرداً من أفراد الكبرى غير الواجبة، فيعلم أن الكبرى النبوية واجبة لأنه استشهد بها للصغرى الصادقية.

إن قلت: يصح الاستدلال للصغرى الواجبة بالكبرى الدالة على مطلق الرجحان، كما لو قال: (صلّ اليومية فإنه مسارعة إلى المغفرة والرحمة).

قلت: هذا الكلام وإن كان صحيحاً، لكن لا ينطبق على ما نحن فيه لخصوصية، وهي قوله (علیه السلام) : «ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» فإن هذا لا يتناسب مع الرجحان المطلق.

ويرد على هذا الوجه: أن المقبولة تدل على حرمة الشبهات التي تؤدّي إلى الحرام البيّن، وهي ما كانت مقدمة للحرام، كما لو أدّى شرب التتن إلى الوقوع في الحرام، ومع إجراء أصل البراءة لا يكون الأمر كذلك، فما أكثر الورعين الذين يعملون بأصالة البراءة ومع ذلك يتجنبون المحرمات المعلومة أشد اجتناب.

وعليه فلا تنطبق المقبولة على مدّعى القائلين بوجوب الاحتياط؛ لأن مدعاهم هو أن ارتكاب الشبهات وقوع في الحرام الواقعي أو تعرّض

ص: 130


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 291-292.

للوقوع فيها.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالأخبار على وجوب الاحتياط، وقد تبيّن عدم تماميّته.

الدليل الثالث: العقل

اشارة

ومما استدل به على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية حكم العقل.

الدليل العقلي الأول: العلم الإجمالي

أي نعلم إجمالاً بوجود محرّمات كثيرة، فلا بد من إفراغ الذمّة منها باليقين، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة، وقد ثبت بالدليل المعتبر جملة من المحرمات لكن لا يقين بإفراغ الذمّة منها أجمع، فيجب الاحتياط بالاجتناب عن جميع الشبهات.

والجواب: إما بإنكار وجود علم إجمالي هنا، أو بعدم تنجيزه للواقع، أو بعدم دخول ما ليس عليه أمارة أو طريق في أطرافه، أو بانحلاله على فرض وجوده، وتفصيل الأجوبة:

الجواب الأول: بإنكار وجوده، قال الشيخ الأعظم(1)

منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلاّ بما أدّى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له، فهو مكلّف بالواقع حسب تأدية هذه الطرق، لا الواقع من حيث هو... وحينئذٍ فلا يكون ما شُك في تحريمه مما هو مكلّف به فعلاً على تقدير حرمته واقعاً. انتهى.

ص: 131


1- فرائد الأصول 2: 89.

ويمكن أن يقال: إن الواقع يتنجز بالعلم - سواء كان تفصيلياً أم إجمالياً - كما يتنجز بالطريق، وأحدهما لا ينفي الآخر.

الجواب الثاني: بعدم تنجيز أمثال هذا العلم الإجمالي للواقع، قال المحقق الإصفهاني: «إن مثل هذا العلم الإجمالي بالأحكام هو في نفسه قاصر عن تنجيز الواقعيات؛ لعدم تعلّقه بأحكام فعلية بعثية أو زجرية، بل بأحكام كليّة بنحو القضايا الحقيقيّة المنوطة فعليتها بفعلية موضوعها عند الابتلاء بها، لوضوح تدرجيّة الابتلاء، فالمناط تدريجية الفعلية بتدريجيّة الابتلا بها، لا تدريجية الاستنباط»(1).

وحاصله: إن هذا العلم الإجمالي غير مفيد لتنجيز الواقع؛ وذلك لعدم الابتلاء بكل الأطراف بل هي تدريجيّة؛ إذ هذا العلم الإجمالي تعلّق بأحكام كليّة لا تكون فعليّة إلاّ عند الابتلاء بها.

وأورد عليه: أولاً(2):

إن تدريجية فعلية الأحكام غير مانعة عن تنجيز العلم الإجمالي؛ لأن مولوية المولى لا تختص بالتكاليف الفعلية، بل هي أعم من الفعليّة والاستقبالية، كمن يعلم بابتلائه خلال الأسبوع القادم بمعاملة ربوية، فلا يحق له إجراء البراءة في المعاملة الأولى ثم الثانية وهكذا.

وثانياً: إن ابتلاء المجتهد بها دفعة واحدة وفي عرض واحد؛ لأن ابتلاءه بلحاظ الفتوى لا العمل.

ص: 132


1- راجع نهاية الدراية 4: 127.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 304.

إن قلت: إن وظيفة المجتهد تابعة لوظيفة المقلّد، والمقلّد غير مبتلى بكل الأطراف فيجوز الفتوى له بالبراءة!

قلت: إن الأمر في الشبهات الحكمية بالعكس؛ وذلك لعدم جواز الاقتحام إلاّ بعد الفحص وحيث لا يتمكن المقلّد من ذلك يقوم المجتهد عنه بهذه المهمة. نعم، الأمر في الشبهات الموضوعية كما ذكر كما لو كان أحد المشتبهين خارجاً عن محل ابتلاء المقلّد مع كونهما محلاً لابتلاء المجتهد، فيفتي للمقلد بالبراءة.

هذا كلّه مضافاً إلى الإشكال المبنوي بناءً على القول بالواجب المعلّق.

الجواب الثالث: إن غير موارد الأمارات والطرق والأصول ليست أطرافاً للعلم الإجمالي، فلا علم إجمالي كبير كي يجب الاحتياط في أطرافه!

وفيه: سبق العلم الإجمالي الكبير على العلم الإجمالي الصغير؛ وذلك لعلم المكلفين وجود تكاليف كثيرة عليهم، ثم بعد انعقاد هذا العلم يعلمون بوجود تكاليف في دائرة الأمارات والطرق والأصول - حيث لا يحتمل مخالفتها كلّها لواقع - ، فلا ينفع إلاّ الانحلال كما سيأتي.

الجواب الرابع: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، إما بالانحلال الواقعي - الطاري أو الساري - وإما بالانحلال الحكمي، فهنا وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: الانحلال الحقيقي الطاري، وذلك بادعاء تحقق العلم اللاحق بأن جميع التكاليف الواقعية موجودة في مؤدّيات الأمارات والطرق والأصول، فالانحلال حقيقي، حيث إن العلم اللاحق هو علم وجداني

ص: 133

وليس علماً تعبدياً.

لكن لا يخفى أن لازم هذا الوجه لزوم الاحتياط في جميع موارد الأمارات حتى لو كانت غير معتبرة، وانحصار إجراء البراءة في ما لم يقم أيّ دليل حتى ضعيف عليه، وهذا لا يمكن الالتزام به.

الوجه الثاني: الانحلال الحقيقي الساري، وذلك بادعاء زوال العلم الإجمالي السابق من أصله وتبدله إلى شك بدوي.

بيانه: إن شرط منجزية العلم الإجمالي هو كونه منجّزاً على كل تقدير، وأما لو علم بالمنجزية في حالة دون أخرى فلا ينفع في التنجيز، كما لو علم تفصيلاً بنجاسة أحد الإنائين بملاقاة البول، ثم علم إجمالاً بملاقاة أحدهما لقطرة دم لاحقاً، فهنا لا حكم للعقل بتنجيز جديد؛ لأن قطرة الدم إن كانت لاقت ما كان نجساً بقطرة البول فلا تنجيز جديد لأن المنجّز لا ينجّز، وإن كانت لاقت الإناء الآخر حصل تنجيز جديد، وحيث لا تنجيز على كل تقدير لم يكن للعلم الإجمالي أثر.

إن قلت: إن العلم التفصيلي المثبت للتكليف في بعض الأطراف لا يضرّ بتنجيز العلم الإجمالي إذا كان هذا العلم التفصيلي متأخراً، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين ثم طهّر أحدهما فالعلم بطهارته لا ترفع التنجيز السابق باجتناب الآخر!

قلت: إن المناط في تنجز العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف على كل حال، وبعد تنجّزه لا يضرّ خروج بعض الأطراف عنه؛ لأن الذمة قد اشتغلت بالتكليف فلا رافع له إلاّ البراءة اليقينية، وأما لو دلّ الدليل على عدم تنجز

ص: 134

العلم الإجمالي من أصله فلا معنى لإبقاء آثار التنجز، وفي ما نحن فيه الظفر بالدليل المثبت للتكليف يكشف عن عدم التنجز من أول الأمر، حيث إن الدليل المثبت للتكليف لا يولّد تكليفاً، بل يكشف عن التكليف من أول الأمر.

وبعبارة أخرى: إن الملاك هو سبق المعلوم بما هو معلوم لا سبق العلم، فمع تأخر العلم والمعلوم التفصيليّين في بعض الأطراف لا ينحلّ العلم الإجمالي، أما لو تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي مع تقدّم المعلوم عليه انحلّ العلم الإجمالي، كما لو علم بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين ثم علم تفصيلاً بسقوط قطرة بول في أحدهما المعيّن قبل ذلك، فحيث إن المعلوم التفصيلي بأحدهما مقدّم انحلّ العلم الإجمالي.

وفي ما نحن فيه العلم التفصيلي - بما في الأمارات والطرق - متأخر عن العلم الإجمالي، إلاّ أن المعلوم بالعلم التفصيلي متقدم على العلم الإجمالي، ومع هذا العلم التفصيلي اللاحق يعلم أن العلم الإجمالي السابق بالتكليف لم يكن علماً به، بل شك بدوي(1)،

فتأمل.

والحاصل: أن قيام الأدلة وإن كان متأخراً عن العلم الإجمالي، إلاّ أنها تكشف عن تنجز مؤدّاها من أول البلوغ، فتقدم المعلوم التفصيلي على العلم الإجمالي،ومع ذلك لا نعلم بتنجز العلم الإجمالي على كل تقدير، حيث إنه لو كانت التكاليف الواقعية منحصرة في ما قامت عليه الأدلة فلا تنجز جديد وإن كانت في غيرها حصل تنجز جديد، وبالنتيجة لا علم بالتنجز على كل تقدير.

ص: 135


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 315.

إن قلت: إن المجعول في موارد الأمارات والطرق المنجزية والمعذرية، فلا تنجز من قبل حصول العلم الإجمالي فيكون سابقاً على المعلوم! كما لا تنجز مع عدم الوصول فقبل قيام الأمارة أو الطريق لا تنجيز للواقع، بل العلم الإجمالي هو المنجز له فتأخر المعلوم!

قلت: إن متعلق العلم الإجمالي إنما هو تكاليف ثبتت في ذمّة المكلف من أول بلوغه، وقد علمنا عبر الأمارات والطرق بتكاليف يحتمل انطباقها على تلك التكاليف الواقعية ولا علم بتكاليف خارج دائرة الأمارات والطرق فلا محذور في الانحلال، كما أنه يكفي في تنجيز الطريق كونه في معرض الوصول بحيث لو فحص عنه المكلف لوصل إليه، والحاصل: الانحلال لا إشكال فيه لتنجز بعض الأطراف من حين البلوغ فتقدّم المعلوم على العلم.

الوجه الثالث: الانحلال الحكمي؛ وذلك لأن الأمارات والطرق وإن لم تورث العلم الوجداني، إلاّ أنها حيث كانت حجة حلّت العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً بسقوط قطرة في أحد الإنائين ثم قامت البينة على أنه الإناء الأول مثلاً، ولازمه عدم الحرمة في ارتكاب الثاني.

وفيه تأمل: لأن المناط في الانحلال الحكمي هو إثبات التكليف في أحدهما بالدلالة المطابقية، ونفي التكليف عن الآخر بالدلالة الالتزامية، كما لو علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة ثم قام الدليل على أن الواجب أحدهما، حيث يدل بالالتزام على عدم وجوب الآخر.

وليس ما نحن فيه كذلك؛ لأن الأدلة تثبت حرمة ما تضمنته ولا تنفي الحرمة عن غيرها لا بالمطابقة ولا بالالتزام.

ص: 136

الدليل العقلي الثاني: قبح التصرف

إن العقل يستقل بقبح التصرف في ملك الغير من غير إذنه، وهذا الكون بأجمعه ملك لله تعالى فلا يجوز التصرف فيه إلاّ بثبوت إذنه تعالى.

والجواب: إن الترخيص ثبت بأدلة البراءة التي قد مرّت، بل بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1)

أما سائر الأجوبة فلا تخلو من تأمل...

ومنها: أن الملكية إما تكوينية وإما اعتبارية، أما ملكيته تعالى التكوينية فقد أذن في التصرف ولولاه لما أمكن التصرف قطعاً، وأما الاعتبارية فلم يشرّعها لعدم وجود غرض في تشريعها هنا!

وفيه: إن الإذن التكويني بمعنى القدرة على الأشياء والأفعال ثابت حتى في المحرمات، وهذا لا يكفي، بل لا بد من إحراز الرضا، كما أنه لا لغوية في تشريع الملكية الاعتبارية مثل سهم الله في الخمس.

ومنها: استقلال العقل بجواز التصرف في ملك الكريم الغنى المعرّض للهدر بدون التصرف.

وفيه: إن مجرد ذلك لا يصحح التصرف؛ لأنه إثبات لتمامية فاعلية الفاعل، وهذا لا يدل على قابلية القابل؛ إذ لعله يوجد مانع أو عدم شرط أو عدم المقتضي للقابل.

تنبيهات

التنبيه الأول: في الاحتياط في مشكوك الأمر

وفيه ثلاث صور: الاحتياط في التوصليات التي نعلم بأنها غير محرّمة،

ص: 137


1- سورة البقرة، الآية: 29.

وفي التعبديات التي نعلم بوجود أمر فيها لكن لا نعلم بكونه وجوبياً أم استحبابياً، وفي التعبديات التي يدور أمرها بين الوجوب والإباحة.

الصورة الأولى: الاحتياط فيها حسن عقلاً لإدارك الواقع المحتمل، وشرعاً لإطلاق أدلة الاحتياط، وليس ذلك من التشريع في شيء لأن الاحتياط هو إتيان العمل برجاء كونه محبوباً للمولى، وأما التشريع فهو إدخال ما ليس في الدين فيه، أو إخراج ما هو من الدين منه.

الصورة الثانية: الأمر فيها محرز بلا إشكال - سواء بنحو الوجوب أم الاستحباب - فقصد القربة بقصد الأمر لا إشكال فيه، ولا يشترط قصد الوجه أو التمييز لعدم وجوبهما كما مرّ، وحتى على فرض الوجوب فإنما ذلك مع إمكانهما ويسقطان مع عدم الإمكان.

الصورة الثالثة: مثل قضاء الصلوات التي صلاّها أول بلوغه لشكه في صحة ما أتى به، فهنا قد يستشكل بعدم إمكان قصد القربة؛ لأنها قصد الأمر، ومع الشك فيه كيف يقصده؟! إذ لا بد من العلم بالأمر إما تفصيلاً كالصلاة إلى القبلة المعلومة، وإما إجمالاً كالصلاة إلى الجهات الأربع حين اشتباه طرف القبلة!

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: استقلال العقل بحسن الاحتياط، وبضميمة قاعدة الملازمة يتم الكشف عن حكم الشرع بالاحتياط، فيأتي بالعبادة بقصد هذا الأمر الاحتياطي!

وأشكل عليه بوجوه، منها:

ص: 138

الإشكال الأول: استلزامه الدور، فإن الأمر بالاحتياط متوقف على إمكان العبادة، وإمكانها متوقف على قصد القربة، وقصدها متوقف على الأمر بالاحتياط - حسب ما في الجواب - .

إن قلت: إن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ إذ أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي!

قلت: بل كلاهما ثبوتي؛ إذ الأمر متوقف ثبوتاً على كونه احتياطاً، وكونه احتياطاً متوقف ثبوتاً على الأمر.

وأورد عليه: بأنه لا تعدد بين الموضوع والحكم، بل هما موجودان بوجود واحد، فلا توقف، فلا دور.

قال المحقق الإصفهاني(1)

بما حاصله: أن عارض الوجود هو الذي يتعدد فيه وجود العارض والمعروض سواء الوجود الخارجي كبياض الجدار أم الوجود الذهني ككون الإنسان نوعاً، وأما عارض الماهية فلا يحتاج إلى موضوع موجود خارجاً وذهناً، بل ثبوت المعروض بثبوت عارضه، والعروض تحليل عقلي كعروض الفصل على الجنس في الذهن، وكالتشخص الماهوي بالإضافة إلى النوع، فإن ثبوت النوع خارجاً هو بعين ثبوت الماهية الشخصية فالكلي الطبيعي موجود بوجود فرده.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، فإن الحكم بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية لا من قبيل عوارض الوجود.

إذ الحكم إما الإرادة والكراهة التشريعيان، وإما البعث والزجر

ص: 139


1- نهاية الدراية 4: 158-160.

الاعتباريان، فإن أريد الثاني فلا تعدد؛ إذ إن سنخ البعث اعتباري فلا يعقل أن يكون مقوّمه ومشخصه إلاّ ما يكون موجوداً بوجوده في أفق الاعتبار، والموجود الخارجي المتأصل لا يعقل أن يكون مشخصاً للاعتباري، وإلاّ لزم اعتبارية المتأصل أو تأصل الاعتباري، فتعيّن أن تكون الماهية والمعنى متعلّق البعث دون الموجود بما هو.

وبعبارة أخرى: إن البعث حيث إنه تعلّقي فلا يوجد إلاّ متعلّقاً بالمبعوث إليه، وحيث إنه اعتباري فلا يكون مقوّمه إلاّ اعتبارياً.

والحاصل: أن الحكم مطلقاً بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية، فلا يتوقف ثبوته على ثبوت موضوعه، بل ثبوت موضوعه بثبوته والعروض تحليلي، ومنه تعرف أنه لا دور، إذ ليس هناك تعدد حتى يلزم الدور.

وعليه فقول المولى: (الاحتياط واجب) يتولد منه موجود واحد في عالم الاعتبار، فلا تقدم للمتعلّق على الوجوب كي يلزم الدور؛ وذلك لاتحادهما كما تم بيانه، كما أن المولى في عالم التكوين يخلق زيداً فينتزع منه الإنسان، ويقال: زيد إنسان مع أنهما شيء واحد.

وردّه السيد الأخ(1):

بأن مراده إما أن المعروض في أفق الاعتبار مجرد عن ذات الوجود، وإما أنه مجرد عن لحاظ الوجود لا ذاته.

أما الأول، فيرد عليه: أن المعروض وإن كان مجرداً عن الوجود الخارجي والذهني، لكنه موجود بالوجود الاعتباري، فكما أن الحكم له

ص: 140


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 90.

وجود اعتباري كذلك معروض الحكم، ففي عالم الاعتبار يكون وجودان، وعليه يكون العارض من عوارض الوجود لا عوارض الماهية.

وأما الثاني: فيرد عليه: أن عدم لحاظ الوجود وتجريده عن المعروض عنه إنما يكون مجدياً في اتحاد العارض والمعروض في ما لو كان لنا أفقان - أفق العروض وأفق الثبوت - فيصح القول باتحاد الوجود بين الشيئين بلحاظ ظرف الثبوت وإن تحققت الاثنينية بلحاظ ظرف العروض، كتجريد ماهية الإنسان عن الوجود في أفق الذهن - بمعنى عدم لحاظ الوجود - ثم يتم حمل الوجود على هذه الماهية المعراة فيقال: الإنسان موجود، أي في أفق الذهن لكل واحد من (الإنسان) و(موجود) صورة ذهنية وقد حملت إحدى الصورتين على الأخرى. نعم، في ظرف الثبوت في عالم العين ثبت الوجود لا أنه عرض الوجود على الماهية وبهذا اللحاظ يتحقق الاتحاد.

وفي ما نحن فيه - حيث عالم الاعتبار - وقد تمّ تجريد الماهية عن لحاظ الوجود ثم حكم عليها، ليس عدم لحاظ المعروض مساوق لعدمه، فالمعروض موجود وإن لم يلاحظ، وعليه فالموضوع - حتى مع عدم لحاظه - موجود، والحكم أيضاً موجود، فيكون الظرف ظرف العروض والتعدد، وقد أخذ الموضوع والمحمول بما هو مرآة للخارج لا بما هو هو، والخارج ظرف العروض لا الثبوت، فأين الاتحاد؟

وفيه تأمل: إذ لا حاجة إلاّ إلى اعتبار الوجوب - مثلاً - أي إيجاد الوجوب في عالم الاعتبار، فأي حاجة لإيجاد الصلاة في ذلك العالم، بل اعتباره لغو، فتأمل.

ص: 141

الإشكال الثاني: إنه حتى لو فرض وجود الموضوع والمحمول بوجود واحد لكونهما وجدا باعتبار واحد، إلاّ أن الاحتياط ناشء عن هذا الأمر بالاحتياط، فيكون متأخراً عن الأمر مع أن المفروض وجوده مع الأمر، وذلك محال، وبعبارة أخرى: الاحتياط في رتبة المعلول لنشوئه عن الأمر وفي الوقت نفسه في رتبة العلّة لوجوده بوجود واحد مع العلة، فاستلزم كون الشيء في رتبة متقدمة ومتأخرة وهو محال.

الجواب الثاني(1): المراد بالاحتياط في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل، وحينئذٍ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر.

وبعبارة أخرى: إن أوامر الاحتياط عامة أو مطلقة فتشمل العبادات أيضاً، ولا يمكن امتثال هذه الأوامر إلاّ بالإتيان بكل الأجزاء والشرائط مع عدم قصد امتثال أمر الصلاة لعدم العلم به، بل يقصد امتثال أمر الاحتياط، وهو معلوم يمكن قصد امتثاله.

وأشكل عليه: بما في الكفاية(2):

من عدم مساعدة دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها؛ بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة.

وبعبارة أخرى: إن أوامر الاحتياط لا تتعلق بفاقد الجزء أو الشرط؛ لأن الاحتياط هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط وبكل ما يحتمل دخله في العمل، فلا بد أولاً من إثبات كون الفعل احتياطاً حتى تتعلق به أوامر

ص: 142


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 177-178.

الاحتياط، فإن الحكم لا يتكفل موضوعه.

وبعبارة ثالثة: إن الاحتياط الذي يستقل العقل به إنما هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط، وأما الإتيان ببعضها فهذا مما لا يستقل العقل به ولا دليل عليه من الشرع، وعليه فلا بد من رفع اليد عن مطلقات أدلة الاحتياط وعموماتها بالقول بعدم شمولها للعبادات إلاّ لو وجدنا مخرجاً من الإشكال.

الجواب الثالث: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنه لا يشترط في قصد القربة قصد الأمر المعلوم، بل يكفي قصد الأمر المحتمل، فإن هذا نوع طاعة عند العقلاء والشارع لم يجعل طرقاً خاصة للطاعة، بل أمضى الطرق العقلائية، فكما تكون الطاعة عندهم تارة بالتفصيل وأخرى بالإجمال كذلك قد تكون طاعة احتمالية.

وليس قصد القربة شرطاً شرعياً حتى في العبادات المعلومة، بل هو شرط عقلي لعدم تحقق غرض المولى لولاه، والعقل لا يرى فرقاً بين العبادة المعلومة بقصد الأمر المعلوم وبين العبادة المشكوكة بقصد أمرها المحتمل رجاءً!

وأشكل عليه: بأن أصل كلامه لا بأس به بتحقق الطاعة الاحتمالية، إلاّ أنه لا وجه لإقحام مسألة أخذ قصد القربة في المتعلّق أو الغرض؛ إذ يكفي احتمال الأمر لتصحيح العبادة سواء أخذ قصد الأمر في المتعلّق أم لا، ولو لم يمكن تصحيح العبادة باحتمال الأمر فلا يمكن التصحيح سواء أخذ قصد الأمر في المتعلق أم لا.

ص: 143


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 179-182.

الجواب الرابع: إن قصد القربة ليست قصد الأمر، بل يكفي في العبادية إضافة العمل إلى المولى بأن لا ينشأ العمل من داعٍ غير إلهي كالدواعي الشهوية ونحوها، وعليه فيكفي في ما نحن فيه إتيان العمل برجاء المحبوبية، ومن أحسن أنواع الإضافة هو احتمال أمر المولى.

وأشكل عليه: كبرىً: بعدم كفاية الإضافة، بل لا بد من إحراز صلاحية العمل للمقربية في نفسه، فلذا لو ارتكب محرماً وأضافه إلى المولى لا يكون عبادة.

وصغرىً: بأن المباح أو المشكوك كونه مباحاً أم راجحاً لا يعلم صلاحيته للإضافة إلى المولى فلا يعلم أنه عبادة أم لا.

الجواب الخامس: إن العبادة الاحتمالية نوع عبادة فتكون طاعة حقيقية، ويكفي فيها احتمال الأمر أو احتمال الإضافة إلى المولى، وحينئذٍ فإن صادفت الواقع كانت عبادة حقيقية وإلاّ كانت انقياداً.

إن قلت: إن ذلك ليس طاعة حقيقية لعدم العلم بالأمر الواقعي، وحيث إن المأتي به معلول فعلي فلا يمكن أن تكون علته تقديرية؛ لأن الأمر الواقعي تقديري فلا يكون علة للعمل. نعم، احتمال الأمر فعلي فهو علة الفعل، والإتيان حينئذٍ ليس بطاعة حقيقية، بل انقياد.

قلت: الأمر الواقعي المقطوع به أيضاً كذلك لأنه إن صادف الواقع كان طاعة حقيقية وإلاّ كان انقياداً، بل في الأمر المقطوع والمحتمل علة الحركة هي الصورة الذهنية لا الأمر بوجوده الواقعي أو الاحتمالي؛ لأن الوجود الواقعي ليس محركاً، بخلاف العكس، وعليه فمع القطع بالأمر إن طابق

ص: 144

الواقع كان إطاعة وإلاّ كان انقياداً، فكذلك مع احتمال الأمر.

إن قلت: إن الانقياد لا يتربط بالفعل، بل بالفاعل، حيث إنه يثاب على نيته لا على فعله، فكيف يكون الفعل مع احتمال كونه مباحاً مقرباً؟!

قلت: إن التقرب متحقق على كل حال، فلو كان الفعل مأموراً به واقعاً كان التقرّب به، وإن لم يكن كذلك كان التقرب بالنية.

الجواب السادس: تصحيح العبادة المشكوكة - في ما لو ورد الثواب عليها في خبر ضعيف - بأخبار من بلغ، وذلك بقصد الأمر الاستحبابي الثابت بأخبار من بلغ.

وأشكل عليه: أولاً(1):

بأن الأخبار دالة على ثبوت الأجر لا على الاستحباب الشرعي، فلا طريق لإحراز وجود الأمر ليتم قصده.

وهذا مبحث مبنوي سيتم الكلام حوله في الفصل اللاحق.

وثانياً: ما في الكفاية(2):

إن إحراز الأمر عبر أخبار من بلغ خروج موضوعي عن البحث؛ لأن الكلام في العبادة المشكوكة لا المعلومة، وأخبار من بلغ تجعل الأمر محرزاً معلوماً.

وأورد عليه(3): بأن العمل المأتي به له إضافتان: إضافة إلى الأمر المعلوم المستفاد من أخبار من بلغ، وبها يكون العمل عبادة قطعية، وإضافة إلى الأمر الواقعي المحتمل المحمول على الفعل بما له من العنوان الأولي

ص: 145


1- فرائد الأصول 2: 155.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 184.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 170.

الذاتي، وبهذا اللحاظ يكون احتياطاً، فتأمل.

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط
اشارة

أما عقلاً: فلا إشكال فيه؛ لأنه إحراز للواقع المحتمل، وبذلك يتم إدراك المصلحة، والاجتناب عن المفسدة إن كانتا فيكون امتثالاً، وإلاّ كان انقياداً.

وأما شرعاً: فقد وردت روايات معتبرة في الحث على الاحتياط كقوله (علیه السلام) : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1)

وغيرها، وقد مرّ بعضها، وهذه الأوامر تفيد الاستحباب الشرعي الكاشف عن الحسن فيه.

أما الإشكال بأنها أوامر إرشادية لوجود حكم العقل في موردها.

فالجواب عنه قد مرّ: بأن ظاهر الأوامر المولوية، ولا تحمل على الإرشادية إلاّ لو كان محذور ثبوتي كالدور والتسلسل كما في أوامر الطاعة، أو لم تكن ظاهرة في المولوية لقرينة خاصة أو عامة كالأوامر في الشروط والأجزاء والقواطع ونحوها على بعض المباني.

إن قلت: حتى لو حملنا تلك الأوامر على الإرشادية إلاّ أن هاهنا خصوصية تمنع من ذلك، وهي أنّه لو اختلف ملاك حكم العقل مع ملاك حكم الشرع فلا تحمل الأوامر على الإرشادية، وما نحن فيه كذلك، حيث إن ملاك حكم العقل إدراك الواقع المحتمل، وملاك حكم الشرع التمرين على الالتزام بالواجبات وترك المحرمات كما في قوله (علیه السلام) : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك»(2) وقوله (علیه السلام) : «من رتع حول

ص: 146


1- أمالي الطوسي: 109؛ وسائل الشيعة 27: 167.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 75؛ وسائل الشيعة 27: 161.

الحمى أوشك أن يقع فيه»(1)

فالملاك «الأتركية» و«الأوشكيّة» ونحوهما.

قلت: إن هذه الملاكات أيضاً يدركها العقل وهي ملاكات أيضاً لحكمه بحسن الاحتياط فرجع المحذور، فلا بد مما ذكرناه من عدم وجه لحملها على الإرشادية؛ إذ لا محذور فيه.

شروط حسن الاحتياط

ثم إنه قد ذكرت شروط لحسن الاحتياط، منها:

الشرط الأول: أن لا ينطبق عليه عنوان قبيح وأن لا يكون ملازماً له وأن لا يكون الاحتياط مقدمة له، كالإخلال بالنظام - سواء النظام العام أم الخاص - فلا يرى العقل حسن الاحتياط حينئذٍ، كما أنه مخالف لغرض الشارع من الأمر بالاحتياط فلا تشمله أوامره.

الشرط الثاني: عدم معارضته مع احتياط آخر، فحينئذٍ إن أخرجته المعارضة عن الاحتياط أصلاً فلا يكون حسناً، كما لو سبّب الاحتياط عدم إدراك الواقع المعلوم، مثلاً لو أراد الاحتياط بتكرار التسبيحات الأربع ثلاثاً وكان ذلك سبباً لوقوع بعض الصلاة في خارج الوقت مع العلم بأهمية الوقت عند الشارع، فلا يصح تفويت الواقع الأهم لإدراك واقع محتمل غير أهم، فلا يكون احتياطاً لأنه خلاف ملاك الاحتياط، فتأمل.

وأما إذا لم تخرجه المعارضة عن الاحتياط، فلا يبعد بقاء حسنه، وعليه فيمكن الإتيان به بقصد الأمر بناءً على الترتب، أو بقصد ملاكه بناءً على عدمه.

ص: 147


1- وسائل الشيعة 27: 167.

الشرط الثالث: عدم العسر أو الحرج أو الضرر فيه.

1- فأما الاحتياط الوجوبي: فيرتفع وجوبه بالحكومة، وهل يرتفع حسنه الشرعي؟

قد يقال: بذلك؛ لأن الدليل على الحسن الشرعي هو الأمر، ومع ارتفاعه لا دليل على وجود الملاك.

وقد يقال: بأن العناوين الثانوية ظاهرة في الامتنان، ولا معنى له مع عدم وجود ملاك بحسب العنوان الأولي، أو إن لحن الأدلة الثانوية هو لحن الإشفاق وهو ظاهر في ارتفاع الوجوب لا الرجحان(1).

2- وأما الاحتياط الاستحبابي: فمضافاً إلى بقاء الملاك قد يقال: بانصراف أدلة العناوين الثانوية عن اللااقتضائيات فلا حكومة حينئذٍ، فعن المحقق الآشتياني(2):

أن ظاهر أدلة الضرر أن الشارع لا يلقي المكلّف فيه - أي لا يكون الشارع سبباً - أما في المستحبات والمكروهات فإن المكلف هو الذي يلقي بنفسه فيه لا الشارع؛ لأن أقرب العلتين هو المكلف لا الشارع.

الشرط الرابع: أن لا يقابله أهم شرعاً أو عقلاً، كما لو عارض الاحتياط إقامة الصلاة أو الصيام أو طلب العلم الواجب عيناً ونحو ذلك.

لكن يمكن أن يقال: إن هذا من التزاحم، فيبقى حسن الاحتياط حتى مع مزاحمة الأهم له، فعلى الترتب للاحتياط أمر، وعلى عدمه لا أمر له لكن فيه

ص: 148


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 118.
2- بحر الفوائد في شرح الفرائد 2: 229.

الملاك.

تكملة: في التبعيض في الاحتياط

لو كان في الاحتياط التام محذور أمكنه التبعيض في الاحتياط، فإن عدم الحسن إنّما هو في الجميع لا في المجموع، وكل احتياط ما لم يودّ إلى المحذور حسن، إلاّ أن الأحسن ترجيح ما كان الاحتمال والمحتمل فيه أقوى، ولو دار الأمر بين أقوى احتمالاً وأقوى محتملاً فالأقرب ترجيح الثاني على الأول، كما لو دار الاحتياط بين احتراز الثوب النجس المظنون وبين الاحتراز عن الزواج بمشكوكة كونها أختاً رضاعية، وعلى ذلك سيرة العقلاء.

التنبية الثالث: في البراءة في الشبهات الموضوعية

وهنا شبهة تثار بأن التكليف معلوم وامتثاله لا يحصل إلاّ بالاجتناب عن الأفراد المشكوكة في الشبهة التحريميّة، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، والحاصل: أن اجتناب المشكوك مقدمة علمية لاجتناب الحرام الواقعي!

1- أما الشيخ الأعظم فقد أجاب(1): بأن النهي عن الخمر - مثلاً - يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة إجمالاً المترددة بين محصورين، والأول لا يحتاج إلى مقدمة علمية، والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير، وأما ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يعلم في النهي تحريمه، وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم يحسن

ص: 149


1- فرائد الأصول 2: 121.

العقاب عليه!

وبعبارة أخرى: إن هذه النواهي قضية حقيقية فينحل الحكم بانحلال الموضوع، ففي الفرد المشكوك لا يوجد علم بالتكليف كي يجب امتثاله.

2- وأما المحقق الخراساني(1): ففرّق بين تعلق النهي بالطبيعة الصرفة وهي ما كان المطلوب ترك أول الوجودات فقط، فهنا يكون للنهي طاعة واحدة ومعصية واحدة بحيث لو خالف مرّة لم تكن سائر أفراد الطبيعة منهياً عنها، وعليه فيجب ترك الأفراد المشتبهة، حيث إن الذمة اشتغلت بالتكليف ولا يعلم الخروج عن عهدته إلاّ بترك جميع الأفراد المشتبهة، فتكون قاعدة (الاشتغال اليقيني...) بياناً عقلياً وارداً على أصالة البراءة، وبين تعلّق التكليف بالطبيعة السارية، فهنا ينحل التكليف بتعدد الموضوعات فتجري البراءة.

وأشكل عليه في التبيين(2):

بأن الطبيعة لها سعة بسعة أفرادها، والشك في فردية الفرد شك في سعتها وضيقها، فيعود الشك في موارد الطبيعة الصرفة إلى الشك بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة حتى لو كان ارتباطياً.

وبعبارة أخرى: إنه يشك في شمول النهي المتعلق بالطبيعة الصرفة للفرد المشكوك؛ وذلك للشك في سعة الطبيعة، فتجري البراءة فيه حيث إنه شك في التكليف، فتأمل.

ص: 150


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 194-195.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 126.

فصل في التسامح في أدلة السنن

اشارة

وهو نوع من أنواع الاحتياط؛ إذ يستقل العقل بحسن الاحتياط مع احتمال مطابقة الخبر الضعيف للواقع وذلك لإدراك الثواب، ويدل عليه شرعاً أخبار من بلغ، وهنا مطالب:

المطلب الأول: في دليلها الشرعي

وقد دلّ عليها مجموعة من الروايات وفيها الأخبار المعتبرة.

منها: صحيحة هشام بن سالم عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «من بلغه عن النبي (صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقله»(1).

ومنها: صحيحته الأخرى عنه (علیه السلام) : «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن كان لم يكن على ما بلغه»(2).

إن قلت: إنها مسألة أصولية لا تثبت بأخبار الآحاد!

قلت: إن مضمونها إما متواتر أو محفوف بالقرائن القطعية ولا خلاف فيها، مضافاً إلى شمول أدلة حجية أخبار الآحاد للمسائل الأصولية - سواء

ص: 151


1- المحاسن 1: 25؛ وسائل الشيعة 1: 81.
2- الكافي 2: 87؛ وسائل الشيعة 1: 82.

أصول الفقه أم أصول الدين - إلاّ في ما ثبت احتياجه إلى العلم كبعض مسائل أصول الدين لا كلّها، وقد مرّ بحثه.

المطلب الثاني: الأقوال في المسألة

وهي متعددة، وعمدتها ثلاثة أقوال: القول الأول: استحباب العمل بطرو عنوان البلوغ عليه وهو عنوان ثانوي، فيكون كالنذر أو الضرر حيث يغيّران حكم الفعل من المستحب إلى الواجب أو من المباح إلى الحرام، ونحو ذلك، والقول الثاني: بأنه إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد، فإن من الانقياد الإتيان لمجرد احتمال كونه محبوباً للمولى، والقول الثالث: دلالتها على عدم اشتراط وثاقة الراوي في حجية الخبر.

القول الأول: دلالتها على استحباب العمل بالعنوان الثانوي.

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن قوله (علیه السلام) : «فعمله» أو «فصنعه» جملة خبرية في باب الأحكام، والمقصود بغالب الجمل الإخبارية في مقام الأحكام هو الإنشاء(1).

وفيه(2): أن للجملة الخبرية حالتين:

الأولى: أن تقع شرطاً أو جزءاً في الجملة الشرطية، وحينئذٍ فهي بمنزلة موضوع الحكم، ومعناه هو الحكم بالمحمول على فرض تحقق الموضوع، وهذه لا ظهور لها عرفاً في الحث والتحريك، كما لو قال: (من نام فعليه أن

ص: 152


1- راجع فوائد الأصول 3: 412.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 343.

يجدّد وضوءه) فلا تفيد التحريك نحو النوم.

الثانية: أن تقع جزاءً في الجملة أو تقع بعنوان الجملة الحملية، وهذه هي الظاهرة في التحريض والتحريك نحو المادة، وذلك يكشف عن وجوب أو استحباب المتعلق.

وما نحن فيه من قبيل الأول، فلا دلالة على البعث.

الدليل الثاني: ما في الكفاية(1):

إن صحيحة هشام ظاهرة في أن الأجر كان مترتباً على نفس العمل الذي بلغه عنه (صلی الله علیه و آله) أنه ذو ثواب.

وهو مركب من صغرى وكبرى...

أما الكبرى: فإن الثواب قد يترتب على نفس العمل، وهذا يكشف عن الأمر به استحباباً؛ لعدم الثواب على المباح أو المكروه، وقد يترتب على الاحتياط أو الانقياد، وهذا لا يكشف عن الأمر بذلك العمل؛ لأن الاحتياط أو الانقياد في نفسه يقتضي الثواب عقلاً حتى لو لم يكن هناك أمر مولوي، فيكون الدليل الشرعي حينئذٍ إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي فلا يدل على الاستحباب.

وأما الصغرى: فإن الثواب في صحيحة هشام قد رُتّب على ذات العمل، ف-«ذلك» في قوله (علیه السلام) : «كان أجر ذلك له» إشارة إلى العمل، فالمعنى أجر العمل له، فيكشف عن وجود أمر وهو يدلّ على الاستحباب.

وبعبارة أخرى(2):

إن الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل لا

ص: 153


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 188-189.
2- نهاية الدراية 4: 176.

بداعي الثواب المحتمل أو الأمر المحتمل، فإن مضمون الخبر الضعيف كمضمون الخبر الصحيح من حيث تكفله للثواب على العمل لا بداعي احتماله الناشىء من جعله أو جعل ملزومه، وظهور أخبار «من بلغ» من حيث كونها في مقام تقرير الثواب البالغ وتثبيته وتحقيقه في أن الثواب الموعود بهذه الأخبار في موضوع ذلك الثواب البالغ، وإلاّ لكان ثواباً آخر لموضوع آخر.

وبعبارة ثالثة: الظاهر هو اتحاد الثواب الموعود في أخبار من بلغ مع الثواب الموعود في الخبر الضعيف، ومن المعلوم أن الثواب الموعود في الخبر الضعيف هو الثواب على ذات العمل.

ويرد على الكبرى: أولاً: إن الثواب كلّه تفضل من الله تعالى، فلا يدلّ العقل على الثواب على الاحتياط أو الانقياد، وكون العمل حسناً لا يقتضي الثواب؛ لأن خلق الإنسان فضل من الله تعالى، وغمره بالنعم فضل ثانٍ، وجميع التكاليف في مصلحته فهي فضل ثالث، وثوابه عليها وعلى الانقياد ونحوه فضل رابع، فحتى العبادة المأمور بها قطعاً لا تقتضي الثواب، وعليه فلا اقتضاء للثواب في كلا القسمين فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

وثانياً: حتى لو فرض اقتضاء الاحتياط والانقياد الثواب عقلاً، فلا وجه لحمل الدليل الشرعي الدال عليه على الإرشاد، لما مرّ من أنّ ظاهر الأدلة الشرعية والأصل العقلائي هو المولوية، ومجرد دلالة العقل لا يكون سبباً لرفع اليد عن الظهور، إلاّ لو كان هناك محذور كما في أوامر الطاعة، وعليه فروايات من بلغ ظاهرة في المولوية وهي تفيد الاستحباب سواء كان مفادها الثواب على ذات العمل أم على الانقياد أو الاحتياط.

ص: 154

وأشكل على الصغري بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الفاء في قوله (علیه السلام) : «فعمله» و«فصنعه» للتفريع، وظاهره أن الثواب المحتمل هو المحرّك للعمل، وهذا يساوق الانقياد، فإن الإتيان بالشيء بداعي احتمال الثواب هو من مصاديق الانقياد للمولى، فيكون الشرط هو العمل الانقيادي، فالثواب المترتب عليه في الجزاء لا يكشف عن الأمر فلا يدلّ على الاستحباب!

وأجيب: أولاً(1):

بأن التفريع على نوعين:

1- تفريع المعلول على علتة الغائية نحو: (وجب عليّ كذا ففعلته) فإن الوجوب هو علّة الفعل، وهذا هو المفيد في الإشكال؛ إذ حينئذٍ العلة هي الثواب المحتمل والمعلول هو العمل.

2- مجرد الترتيب أي التعقّب في الوجود، وهذا لا يفيده بشيء؛ إذ معناه ترتب العمل على الثواب المحتمل، لا لكون الثواب المحتمل باعثاً للعمل، بل من باب أن موضوع الثواب ليس مجرد العمل وإنما البلوغ على العمل، فإن مجرد العمل لا يترتب عليه الثواب الموعود.

وحيث كان في الفاء احتمالان فلا إشكال في الظهور الدال على أن الثواب الموعود هو الثواب البالغ. نعم، لو كانت الفاء ظاهرة في العلية اصطدم الظهوران!

وأورد عليه: بظهور الفاء في التعليل في خصوص المقام بقرينة أنه لا يكفي في الثواب العمل والبلوغ، بل لا بد من كون العمل بداعي الثواب

ص: 155


1- نهاية الدراية 4: 176-177.

وهو مساوق للانقياد والاحتياط؛ وذلك لأن الإنسان إذا علم بالثواب لكنه لم يعمل بداعيه، بل كان الداعي شيئاً آخر فلا ثواب له قطعاً، فتأمل.

وثانياً: إن بلوغ الثواب موضوع للداعي ولا يلزم كونه الداعي؛ إذ قوله (علیه السلام) : «فعمله» مطلق يشمل ما لو كان العمل بداعي الثواب أم بداعي تقربّي آخر، كما لو قيل: (إذا دخل الوقت فصلّيت فلك كذا) فإن دخول الوقت ليس علة للصلاة، بل موضوعاً لوجود الداعي؛ إذ لولاه لما كان هناك محرّك لها.

وثالثاً: ما في الكفاية(1):

بأن كون العمل متفرعاً على البلوغ وكونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتباً عليه في ما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط؛ بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذلك الوجه والعنوان.

وحاصله: أن الداعي لا يوجب تقييداً للعمل، بل الداعي علة العمل ولكنه لا يغيّر العمل عن واقعه، مثلاً من يتوهم أن له ضيوفاً فيشتري لهم طعاماً ثم يتبيّن له عدم مجيئهم، فإن الداعي للشراء كان مجيئهم لكن لم يتقيّد به الشراء، ولذا لا حق له في فسخ المعاملة.

وبعبارة أخرى: الداعي حيث تعليلي وليس حيثاً تقييدياً.

وأورد عليه(2): بإمكان دعوى أن مرجع الحيثيات التعليلية في الأحكام إلى الحيثيات التقييدية.

ص: 156


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 189-190.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 353.

إن قلت: إنه قد ثبت في محلّه أن الداعي متقدم على المدعو عليه بماهيته وإن كان متأخراً عنه في وجوده كما في كل علة غائية، والشيء المتقدم على العمل لا يمكن أن يؤخذ فيه، فلم يؤخذ الثواب المحتمل في الموضوع، بل هو باعث ومحرّك، وأما الموضوع فهو ذات العمل، فترتب الثواب عليه دليل على الاستحباب!

قلت: ليس المدعى أخذ الداعي في المدعو كي يشكل باستلزامه تقدم الشيء على نفسه، بل المدعى هو أخذ الداعي في الموضوع، ولا مانع من أخذ مجموع الداعي والمدعو موضوعاً لمحمول، وفي ما نحن فيه رجاء الثواب جزء من الموضوع لا خارجه، وذلك لا يدلّ على الاستحباب لكونه مساوقاً للانقياد.

الإشكال الثاني: إن بعض روايات من بلغ قيّدت إتيان العمل برجاء الثواب المحتمل، كقوله (علیه السلام) في خبر محمد بن مروان «فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب»(1)، وكقوله (علیه السلام) : «ففعل ذلك طلب قول النبي (صلی الله علیه و آله) »(2)، وبها يتم تقيّد الأخبار المطلقة كصحيحة هشام.

وفيه: أولاً: ضعف أسنادها، فلا تقيّد بها الأخبار الصحيحة المطلقة، وحيث إن هذه الأخبار المقيّدة تنفي الثواب فلا تكون مشمولة بأدلة من بلغ لجبران ضعف سندها.

وثانياً: إن التقييد إنما يكون مع تنافي المطلق والمقيّد، فيكون الجمع

ص: 157


1- الكافي 2: 87.
2- المحاسن 1: 25.

العرفي بحمل المطلق على المقيد، وأما المثبتات فلا تنافي بينها فلا تقييد، فإن ثبوت الثواب على الانقياد لا ينافي ثبوت الثواب على نفس العمل.

إن قلت(1): وحدة سياق الأخبار وأنها في مقام ترتيب سنخ واحد من الثواب على موضوع واحد تقتضي التقييد، وحينئذٍ فالنكتة - لعدم التقييد في بعضها - هو وضوح أن الداعي الطبيعي لمن بلغه ثواب هو ذلك الثواب البالغ، لا الثواب المجعول بهذه الأخبار على فرض جعله.

قلت: إن الماهية لا بشرط تختلف عن الماهية بشرط شيء، فهما موضوعان متباينان، ومجرد ترتيب حكم عليهما لا يقتضي حمل الماهية لا بشرط على أن المراد منها الماهية بشرط شيء، فتأمل.

وثالثاً(2): عدم الموجب لحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبات رأساً، وأن الحمل المذكور مختص بموارد الأحكام الإلزامية.

وعليه ففي باب المستحبات يحمل على تعدد المراتب بأن يكون المقيد في مرتبة أعلى، وهو لا ينافي استحباب بقية أفراد المطلق.

إن قلت(3): إن الوجه في عدم الحمل في المندوبات هو إمكان حمل المطلق والمقيّد منها على مراتب المحبوبيّة، فالمستحب الفعلي هو المقيّد، وما عداه مستحب ملاكي، بخلاف الواجبات فإن حملها على مراتب الوجوب يلازم الحمل على المقيّد، فإن الملاك الوجوبي لازم التحصيل،

ص: 158


1- نهاية الدراية 4: 180.
2- أجود التقريرات 3: 364.
3- نهاية الدراية 4: 180.

وهذا الوجه غير جارٍ هنا، فإن المقيد بداعي الثواب المحتمل ليس مستحباً شرعياً لا فعلياً ولا ملاكاً، بل المقيّد بهذا الداعي راجح عقلي، والمطلق الذي حقيقته إتيان الفعل لا بهذا الداعي، بل بسائر الدواعي مستحب شرعي، فليس المقيد من مراتب المستحب الشرعي في قباله.

وحاصله: أن الجامع المشترك بين المطلق والمقيد في باب المستحبات سبب عدم حمل الأول على الثاني، فإن الماهية المشتركة لها مراتب، لكن في ما نحن فيه لا جامع مشترك بينهما؛ لأن المقيد راجح عقلي والمطلق مستحب شرعي، فليس المقيّد من مراتب المستحب الشرعي، فهما حقيقتان، ولا معنى للقول بأن الراجح العقلي مرتبة عليا من مراتب الرجحان الشرعي، وكيف يكون المباين مرتبة من مراتب مباينه؟ فلا يجري الملاك المذكور في المقام.

قلت(1): إن هذا مبتنٍ على إرشادية الأمر الشرعي كلّما كان هناك أمر عقلي، مع أن المستفاد من كلام المحقق النائيني إبقاء المقيّد على الاستحباب الشرعي، فالمطلق والمقيّد كلاهما مستحبان شرعاً فيحمل على المراتب.

الدليل الثالث: الإطلاق المقامي؛ لأن كون المولى في مقام الترغيب كاشف عن الاستحباب؛ وذلك لأن الترغيب يكشف عن المحبوبية وهي تقتضي الأمر، وتأثير المقتضي متوقف على عدم المانع، وحثّ المولى كاشف عن انتفائه.

ص: 159


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 359.

وأشكل عليه(1): إن الملازم للمحبوبية والاستحباب هو الترغيب والتحريض، أما بيان الفضل الإلهي فلا، وأخبار من بلغ ظاهرة في الثاني بأن الله تعالى لا يخيب رجاء من رجاه، وقد يكون رجاؤه في ما هو مبغوض للمولى ومع ذلك لا يخيّبه.

وفيه: إن ظاهر الدليل هو الأول وأن المولى في مقام الحث.

الدليل الرابع: استفادة الاستحباب من أدلة الاحتياط لا من أدلة من بلغ، حيث إن الإتيان بما بلغه نوع احتياط.

وفيه: إنه لا يمكن بذلك إثبات استحباب المحتاط فيه، حيث لا يمكن الإتيان بالعمل بعنوان أنه مستحب فإنه تشريع لا احتياط. نعم، يمكن الاحتياط برجاء المطلوبية، فلا يمكن الإفتاء بالاستحباب ولا إتيان العمل بعنوان أنه مستحب.

الدليل الخامس: فهم المشهور، وهو جابر للدلالة على فرض قصورها، والبحث حينئذٍ مبنويّ في حجية فهمهم وجبره.

القول الثاني: إن أخبار من بلغ إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد المقتضي للثواب، بناءً على أنه كلما حكم العقل كان حكم الشرع إرشاداً إليه.

أما الكبرى، فقد مضى الإشكال عليها.

وأما الصغرى، فقد أشكل عليها المحقق الإصفهاني(2): بأن الثواب الذي

ص: 160


1- منتقى الأصول 4: 525.
2- نهاية الدراية 4: 182-183.

يمكن الإرشاد إليه لا بد من ثبوته لا من ناحية الإرشاد، بل بحكم العقل والعقلاء، وليس هو إلاّ أصل الثواب، وأما الوعد بالثواب الخاص فليس إلاّ من الشارع بما هو شارع ترغيباً في فعل تعلّق به غرض مولوي فيكشف عن محبوبية مولوية ومطلوبية شرعية، ولولا ذلك لحكم به سائر العقلاء.

وحاصله: أن العقلاء يحكمون بأصل الثواب، لا بالثواب الخاص الوارد في الدليل الضعيف مع أن مدلول أخبار من بلغ هو هذا الثواب الخاص، فلا يكون إرشاداً.

وفيه: أن ما ذكره وإن كان ينفي الإرشادية، إلاّ أنه لا ينفي كون الثواب على الانقياد، لاحتمال كونه من باب التفضل لا الترغيب.

القول الثالث: إن مفاد أخبار من بلغ إسقاط اشتراط الوثاقة في حجية الخبر. وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني(1).

وحاصله: تخصيص الأدلة الدالة على اشتراط حجية الخبر بالوثاقة.

ويرد عليه أمور، منها:

الإشكال الأول: إن الحجية على مبناه بمعنى إلغاء احتمال الخلاف وتنزيل المؤدى منزلة الواقع، مع أنه لا ظهور لأخبار من بلغ في ذلك، بل على العكس كقوله (علیه السلام) : «وإن كان رسول الله لم يقله»(2)

وقوله (علیه السلام) : «وإن لم يكن على ما بلغه»(3).

ص: 161


1- فوائد الأصول 3: 408-414.
2- المحاسن 1: 25.
3- الكافي 2: 87.

الإشكال الثاني: إنه لا تعارض كي يصار إلى التخصيص، فإن مفاد أدلة حجية الخبر هو حجية خبر الثقة، ومفاد أخبار من بلغ هو حجية خبر المخبر في السنن مطلقاً.

الإشكال الثالث: إنه لو فرض التعارض فالنسبة العموم من وجه، لتعارضهما في الخبر الدال على الاستحباب الفاقد لشرائط الحجية، وافتراق أخبار من بلغ في حجية الدال على الاستحباب الواجد للشرائط، وافتراق أخبار شرائط الحجية في عدم حجية الدال على الوجوب الفاقد للشرائط.

ثم إن المحقق النائيني أجاب عن هذا الإشكال بأربعة وجوه(1):

الجواب الأول: إن أخبار من بلغ حاكمة؛ لأنها ناظرة إلى شرائط الحجية.

وفيه: إن النظر ليس قوام الحكومة كما مرّ، فقد يكون نظر ولا حكومة، وقد تكون حكومة ولا نظر، مع أنه لم يقم دليل على نظر أدلة من بلغ.

الجواب الثاني: على فرض عدم الحكومة فالترجيح لأخبار من بلغ لعمل المشهور بها، وذلك مرجح لدى التعارض.

وفيه: إن المشهور لم يفهموا التعارض، فلا يكون عملهم دالاً على الترجيح عند التعارض، فتأمل.

الجواب الثالث: إن تقديم أدلة الشرائط سبب للغوية أخبار من بلغ، بخلاف العكس، حيث يبقى لأدلة الشرائط أخبار الثقات الدالة على الوجوب.

ص: 162


1- فوائد الأصول 3: 413-414.

وفيه: بقاء مورد لها وهو الأخبار المعتبرة الدالة على الاستحباب، مضافاً إلى عدم اللغوية؛ لأن الثقة المخبر عن الثواب لو أخطأ فإن خبره وإن كان حجة إلاّ أنه لا يقتضي بنفسه ذلك الثواب، وأخبار من بلغ تدل على ضمان ذلك الثواب.

الجواب الرابع: ليست النسبة العموم من وجه، حيث إن ما دلّ على اعتبار الشرائط خاص بالإلزاميات ولا يشمل غيرها؛ لأن دليل الحجية إن كان الإجماع فهو مختص بالإلزاميات، وإن كان آية النبأ فالتعليل يمنع ظهور الآية في العموم؛ إذ لا إصابة ولا ندم في مورد الخطأ في غير الإلزاميات.

وفيه: إن من أدلة الحجية الروايات المتواترة الدالة على حجية خبر الثقة مطلقاً.

المطلب الثالث: الثمرة بين الأقوال

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: الثمرة بين القول الأول والثاني

وقد ذكرت ثمار، منها:

الثمرة الأولى(1): ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستحبات الشرعية، مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعاً بناءً على القول الأول، وأما على القول الثاني فإن مجرد ورود خبر غير معتبر

ص: 163


1- فرائد الأصول 2: 158.

بالأمر به لا يوجب إلاّ استحقاق الثواب عليه، ولا يترتب عليه رفع الحدث، فتأمل.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الوضوء الثابت فيه الأمر والاستحباب قد لا يرفع الحدث، كوضوء الجنب للنوم، ووضوء الحائض أوقات الصلاة، وتجديد الوضوء.

وفيه: أن رفع الوضوء للحدث لا إشكال فيه، وإنما المورد المذكور وأشباهه خرج بالدليل الخاص، أو لوجود المانع، وهو في الأولين الحدث الأكبر وفي الثالث تحصيل الحاصل.

وثانياً: إن الوضوء مستحب في نفسه ورافع للحدث سواء قصد غاية واجبة أو مستحبة أم لم يقصد غاية، فلا فرق في ثبوت الغاية بدليل معتبر أم ضعيف، فعلى كلا القولين الوضوء رافع للحدث إن لم يكن مانع.

الثمرة الثانية(1): الحكم باستحباب المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرد الاحتياط لا يسوّغ المسح ببلله، بل يحتمل قوياً أن يمنع المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته مستحباً شرعياً.

والمقصود أنه لو فرض دلالة خبر ضعيف على غسل المسترسل فعلى القول الأول يصير غسله جزءاً مستحباً من الوضوء، فيكون البلل عليه بلل الجزء المستحب من الوضوء فيكون بلل الوضوء، أما على القول الثاني فلا.

وأشكل عليه: أولاً: إن الاستحباب لا يلازم الجزئية؛ إذ يحتمل كونه مستحباً وظرفه الوضوء، كما في أدعية الوضوء.

ص: 164


1- فرائد الأصول 2: 158.

وفيه: ما مرّ من إمكان الجزء المستحب، مع ظهور الاستحباب عرفاً في الجزئية، وأما استحبابه في نفسه مع كون ظرفه مستحب آخر فخلاف الظاهر.

إن قلت: إن الخبر الضعيف متضمن للاستحباب وللجزئية، وأخبار من بلغ تدل على الأول دون الثاني!

قلت(1): إن أخبار من بلغ ظاهرة عرفاً في الاستحباب بالنحو البالغ، لا طبيعي الاستحباب فحسب، فلذا تثبت نوعية الاستحباب من الاستقلال أو الجزئية أو الشرطية.

وثانياً(2): إنه لا دليل على جواز الأخذ من بلّة الأجزاء المستحبة، بل الثابت صحة الأخذ من الأجزاء المقوّمة لماهية الوضوء، أما ما كان كمالاً فلا!

وفيه: إطلاق أدلة جواز أخذ البلل، كصحيحة الحلبي، حيث قال (علیه السلام) : «ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك، فتمسح به مقدم رأسك»(3).

وثالثاً: إن أخبار من بلغ لا تدلّ على استحباب غسل المسترسل حتى لو ورد به خبر ضعيف؛ إذ في المركب الارتباطي لا ثواب على الأجزاء بنفسها، بل الثواب على المركب ولا يتوزع على الأجزاء، فلم يبلغ الثواب

ص: 165


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 367.
2- كتاب الطهارة، للشيخ الأنصاري 2: 236.
3- الكافي 3: 34؛ وسائل الشيعة 1: 408.

عليه فلا يثبت الاستحباب! فتأمل.

الثمرة الثالثة: على القول الأول يمكن الفتوى بالاستحباب، وأما على القول الثاني فلا؛ إذ مع عدم ثبوت الاستحباب يكون الفتوى به تشريعاً، بل لا بد من الفتوى بالإتيان برجاء المطلوبية.

الثمرة الرابع: بناءً على القول بإجزاء كل غسل مستحب عن الوضوء، فإن دلّ خبر ضعيف على الثواب على غسلٍ ما، فعلى الأول يجزي دون الثاني فلا يجزي.

المقام الثاني: في ثمرة القول الثالث

الثمرة الأولى: إمكان تخصيص الخبر الضعيف الدال على الثواب للعمومات أو الإطلاقات الدالة على الحرمة، حيث ثبوت حجية الخبر الضعيف على هذا القول، أما على القول الأول فتتزاحم الحرمة الثابتة للشيء بعنوانه الأولي مع الاستحباب الثابت له بالعنوان الثانوي الطاري، فيقدّم أقواهما!

وفيه: انصراف أدلة من بلغ عن هذا المورد ممّا دلّ الدليل العام أو المطلق على حرمته والعقاب فيه قطعاً.

الثمرة الثانية: جريان استصحاب الحكم في ما لو شك في استمرار حكم بناءً على القول الثالث؛ وذلك لحجية الخبر الضعيف فيكون العمل مستحباً في نفسه ومع الشك في استمرار الاستحباب يستصحب كاستصحاب وجوب الجمعة في عصر الغيبة، وعدم جريان الاستصحاب بناءً على القول الأول؛ وذلك لأن الاستحباب ثابت للشيء بعنوان البلوغ، ومع ارتفاع

ص: 166

العنوان يتبدّل الحكم قطعاً لتبدّل الموضوع.

المطلب الرابع: من فروع القاعدة

الفرع الأول: هل أخبار من بلغ تشمل فتوى الفقيه بالاستحباب

قيل: بالشمول؛ لأن فتوى الفقيه بالاستحباب تدل بالالتزام على الثواب، فبلغ الثواب.

وأ شكل عليه المحقق الإصفهاني(1):

بأن البلوغ في زمان صدور الروايات حيث إنه كان بنقل الرواية عن المعصوم (علیه السلام) فإطلاقه منصرف إلى الخبر عن حسّ لا الخبر عن حدس. نعم، إذا علمنا من مسلك الفقيه أنه لا يفتي إلاّ عن ورود الرواية في المسألة ففتواه بالالتزام تكشف عن ورود رواية بالاستحباب، ولكنه مع ذلك يحتاج إلى التسامح في الدلالة؛ إذ غاية ما يقتضيه مسلكه هو الاستناد إلى الرواية وأما استفادة الاستحباب فموكولة إلى نظره، ولعلها إذا وصلت إلينا لم نستظهر منها الاستحباب.

إن قلت: أصالة الحسّ تنفي احتمال كونه عن حدس.

قلت: لا شك في كون الفتوى عن حدس فلا موضوع لهذه الأصالة التي موردها الشك.

إن قلت(2): إن ظهورها في الإخبار عن حسّ لا نرى له وجهاً عرفياً، فأخبار من بلغ تشمل الحس والحدس.

قلت: الظاهر انصرافها عن الحدس كانصراف أدلة حجية خبر الواحد عنه.

ص: 167


1- نهاية الدراية 4: 188-189.
2- منتقى الأصول 4: 531.
الفرع الثاني: في المكروهات

هل الأخبار الضعيفة الدالة على المكروهات تشملها أخبار من بلغ؟ قيل: بالشمول وذلك عبر وجوه، منها:

الوجه الأول: إن ترك المكروه مستحب، فالخبر الضعيف عبر الدلالة الالتزامية يدل على الثواب!

لكن هذا يتوقف على دلالة الضد، وقد مرّ أن الأقوى عدم الدلالة.

الوجه الثاني: إن الخبر يدل بالالتزام على ثبوت الثواب بتركه حيث إن الترك إطاعة لله تعالى، ففي الترك الثواب، وكلّما كان في تركه ثواب كان مكروهاً؛ لعدم الفرق عرفاً بين أن يقول إن العمل مبغوض أو إن تركه محبوب.

وبعبارة أخرى: إن الخبر الضعيف دلالته المطابقية كراهة العمل، ودلالته الالتزامية - بضميمة أدلة الطاعة - الثواب على تركه، ودليل من بلغ يثبت كليهما أي الثواب على الترك بالمطابقة، وكراهة العمل بالالتزام.

وأورد عليه: أولاً: عدم الدليل على الملازمة بين الثواب على الترك وكراهة الفعل.

وثانياً: إن أخبار من بلغ منصرفة عن العدميات أو ظاهرة في خصوص الوجوديات، كقوله (علیه السلام) : «فعمله» و«فصنعه» و«فعل ذلك».

وثالثاً: ما في المنتقى(1):

بأن الملازمة بين دلالة الخبر الضعيف على الكراهة وبين ثبوت الثواب على الترك ملازمة عقلية لا عرفية!

ص: 168


1- منتقى الأصول 4: 536.

وفيه: إن البلوغ يشمل كل بلوغ سواء كان بالدلالة المطابقية أم الالتزامية، وسواء كانت الدلالة عقلية أم عرفية.

الوجه الثالث: إلغاء الخصوصية عرفاً عن الأفعال الوجودية، حيث يفهم العرف أن تمام الموضوع هو البلوغ، وهذا ما يعبّر عنه بمناسبة الحكم والموضوع، حيث إن الموضوع وإن كان ضيقاً في لسان الدليل إلاّ أن العرف يفهم سعة الموضوع.

الوجه الرابع: فهم المشهور إلحاق الكراهة بالمستحب، وهذا الفهم يجبر ضعف الدلالة حسب المبنى.

الفرع الثالث: في الفضائل والمصائب ونحوهما

قد يشكل فيها: بأن نقلها بعنوان الصدور عن المعصوم (علیه السلام) لو كان الخبر ضعيفاً كذب أو نسبة وقول من غير علم.

نعم، لا إشكال في ذلك لو كان نقلها على سبيل الحكاية عن كتاب أو عن الراوي، أو يقول رُوي ونحو ذلك.

والجواب من وجوه، منها:

الوجه الأول: جواز ذلك بأخبار من بلغ، لأن قوله (علیه السلام) : «فصنعه» أو «فعمله» يشمل كل عمل بحسبه، والعمل بالخبر الضعيف في هذه الموارد هو بنقلها واستماعها وترتيب الآثار عليها ونحو ذلك.

مثلاً في أخبار فاجعة الطف العمل بها هو البكاء والإبكاء، وأخبار الفضائل العمل بها هو النشر، وما إلى ذلك.

إن قلت: لا بلوغ للثواب لتكون مشمولة بأخبار من بلغ، لا من الجهة

ص: 169

المطابقية كما هو واضح، ولا من الجهة الالتزامية، حيث إن هذه الأخبار لا تخصص أدلة حرمة الكذب!

قلت: أما ترتب الثواب فلدلالة الأدلة المعتبرة عليه في نقل المصائب والفضائل ونحوها، وبذلك تخرج عن كونها كذباً بالتخصص ولا تخصيص، وبعبارة أخرى: الأدلة الدالة على الثواب بضميمة أخبار من بلغ تخرج الكلام عن كونه كذباً لقيام الحجة عليه كما في الأخبار المعتبرة، فتأمل.

الوجه الثاني: في خصوص المصائب بأنها من مصاديق الإبكاء الثابت رجحانه، وكذا هو إعانة على البكاء الذي هو من البرّ والتقوى!

وفيه: أنه لا بد من ثبوت إباحة الشيء بالدليل ليدخل في مصاديق الإبكاء الراجح والإعانة الراجحة؛ إذ لا يجوز الإبكاء والإعانة بالأمر الحرام شرعاً بالإجماع وبانصراف دليل الرجحان عن ذلك، ولو فرض شمول دليلهما للمصداق الحرام فيتعارض مع دليل الحرمة بالعموم من وجه والترجيح لدليل الحرمة لأقوائيته، ولو فرض كونه من باب التزاحم فلا بد من ثبوت أقوائية الملاك وهو غير ثابت.

الوجه الثالث: إن السامعين يعلمون بأن الناقل إنما ينقل عن كتاب، فلا فرق بين أن يصرّح به أو لا، وهذا ينفع الناقلين، إلاّ أنه خروج عن موضوع محلّ البحث، حيث إنه ليس إخباراً بالمؤدّى.

الوجه الرابع: قيام السيرة على ذلك من غير نكير، وهي سيرة متصلة بالمعصومين (علیهم السلام) على الأظهر، لكن القدر المتيقن منها هو ما لم يبلغ حدّ

ص: 170

العلم بالوضع.

الفرع الرابع: في منقولات العامة في المستحبات

والتي لم ترد في كتب الخاصة، فقد يقال: بعدم شمول أخبار من بلغ لها، لوجوه:

منها: الروايات المتواترة الناهية عن الأخذ منهم.

إن قلت: ألا يمكن تخصيصها بأخبار من بلغ؟

قلت: إنها آبية عن التخصيص كما لا يخفى على من راجعها، مضافاً إلى أن النسبة بينهما نسبة العموم من وجه، لاجتماعهما في المستحب الواصل عن طريق العامة، وافتراقهما في آخذ الواجبات والمحرمات وكذا الاستحباب البالغ عن طريق الخاصة، والترجيح للأخبار الناهية لتواترها.

إن قلت: ألا يمكن إخراج تلك الأخبار عن موضوع الأخبار الناهية بالحكومة وذلك بضمّ تلك الأخبار إلى أخبار من بلغ، فيكون الأخذ بها مستنداً إلى أمرهم فيكون أخذاً منهم لا من العامة كما في الروايات التي رويت عن الأئمة (علیهم السلام) عبر الموثقين من العامة!

قلت: بعد انصراف أخبار من بلغ عن أخبارهم فلا ينفع هذا الوجه.

ومنها: كونه مستنكراً عند المتشرعة، مع ضم الإعراض العملي للفقهاء عن مروياتهم وعن الفتوى باستحباب ما رووه في كتبهم.

الفرع الخامس: في شمول من بلغ للخبر الضعيف الدال على الوجوب

فهل يمكن الفتوى بالاستحباب أو الثواب بذلك؟

قد يقال: بشمول أخبار من بلغ لذلك، لأنه ليس من العمل بالخبر

ص: 171

الضعيف كي يقال: بأن العمل به يستلزم الفتوى بالوجوب، بل هو عمل بأخبار من بلغ، حيث إن الخبر الضعيف دلّ على الثواب بالالتزام، وأخبار من بلغ دلت على الاستحباب أو ثبوت الثواب، وذلك بضميمة فهم المشهور الاستحباب أو الكراهة على خلاف ظاهر الخبر الضعيف، فحينئذٍ يتحقق موضوع أخبار من بلغ، فتأمل.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني: «بأن حقيقة الوجوب إن كانت مركبة من طلب الفعل والمنع عن الترك أمكن أن يقال: بلغه أمران أحدهما قابل للثبوت دون الآخر، وإن كانت من المعاني البسيطة فالبالغ بسيط غير قابل للثبوت بحدّه، والقابل للثبوت بحدّه - أي الاستحباب - لم يبلغه، وحيث إن البالغ هو الوجوب بحدّه فالثواب اللازم له هو الثواب اللازم للمحدود بحد خاص لا مطلق الثواب، والمعنى البسيط البالغ وإن كان قابلاً للتحليل إلى مطلق الطلب الجامع وحدّه إلاّ أن ذلك المعنى الجامع التحليلي لا يستقبل بالجعل حتى يكون الجامع مجعولاً»(1).

وأورد عليه: أولاً: أن أصل الثواب قد بلغ فلا حاجة إلى إثبات نوعية الثواب؛ إذ لم يشترط في أخبار من بلغ كون الثواب بشرط لا، بل يكفي فيه كونه لا بشرط، وذلك هو مقتضى الإطلاق فيها.

وثانياً: بالأولوية، حيث إن المولى أراد الوصول إلى الملاك الأضعف في الخبر الدال على الاستحباب، فكيف بالملاك الأقوى في الخبر الدال

ص: 172


1- نهاية الدراية 4: 191.

على الوجوب؟! فتأمل.

الإشكال الثاني: ما في المنتقى: «من عدم شمول أخبار من بلغ لهذا المورد، لظهورها في كون الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب، بمعنى أن موضوعها ما يتفرع العمل فيه على بلوغ الثواب طبعاً وعادة، بحيث يكون الداعي هو الثواب، والأمر في الواجبات ليس كذلك؛ إذ الداعي إلى فعل الواجبات عادة وطبعاً هو الفرار عن مفسدة تركه وهو العقاب لا الوقوع في مصلحة فعله وهو الثواب، فلا يكون الإخبار بالوجوب مشمولاً لهذه القاعدة»(1).

وأورد عليه: أولاً: بأن الفاء في قوله (علیه السلام) : «فعمله» ليست تفريعاً على الداعي بأن يكون ما قبلها علة لما بعدها، بل التفريع على موضوع الداعي فيكون ما قبل الفاء محققاً لموضوع ما بعدها، كما لو قيل: (دخل الوقت فصليت) فإن دخول الوقت ليس علة للصلاة، بل العلة أداء حق الله أو الطمع في الجنة أو الخوف من النار أو غير ذلك، وإنّما دخول الوقت محقق لموضوع الداعي، وهكذا فهم المشهور من أخبار من بلغ.

وثانياً: إنه في محتمل الوجوب يوجد مؤمّن من العقاب فلا يكون المحرّك إلاّ الثواب.

هذا مضافاً إلى النقض بأنه في الأخبار الضعيفة الدالة على الاستحباب لو لم يكن المحرّك الثواب فهل يمكن الالتزام بعدم الثواب حينئذٍ؟!

الإشكال الثالث: العلم الإجمالي بعدم شمول أخبار من بلغ لذلك؛ لأن الخبر الضعيف إمّا مطابق للواقع فيكون الفعل واجباً غير مشمول لأخبار من

ص: 173


1- منتقى الأصول 4: 533-534.

بلغ، وإمّا مخالف له فلا تشمله أيضاً؛ لأنها لا تشمل الخبر الذي هو خلاف الواقع.

وأجيب: أولاً: بشمولها للواجبات المعلومة أيضاً؛ وذلك لأن الثواب غير ثابت حتى مع حجية الخبر الواحد؛ إذ حجيته لا تنافي خطأه واقعاً، فبأخبار من بلغ - بناءً على تواترها - تضمن الثواب حينئذٍ.

لا يقال: إن أخبار من بلغ كما تدل على الثواب كذلك تدل على الاستحباب فلا تشمل الواجبات.

لأنه يقال: إنها تدل على الأمرين، وفي الواجبات يمنع من الاستحباب لاستلزامه اجتماع الضدين، ولا محذور في الآخر الذي هو الثواب، فتأمل.

وثانياً: إن العلم الإجمالي المذكور غير حاصر، لوجود شق ثالث هو أن يكون في الخبر الضعيف الدال على الوجوب مطابقاً للواقع في الثواب ومخالفاً له في الوجوب.

الفرع السادس: في إطلاق الفتوى بالاستحباب

إن أخبار من بلغ مقيّدة بمن بلغه، فهل يصح إطلاق الفتوى بالاستحباب أم لا بد من تقييدها بالبلوغ بأن يقال: يستحب لمن بلغه هذا أن يفعل كذا؟ وذلك لأن موضوع الأخبار مقيد، فالفتوى من غير قيد تشريع!

ولدفع محذور التشريع وجوه، منها:

الوجه الأول: التمسك للإطلاق بقاعدة الاشتراك في التكليف.

وفيه: أن ذلك يصح مع وحدة الموضوع، وأما مع عدم الوحدة فلا، وقد مرّ أن عنوان (البلوغ) عنوان ثانوي، فكيف تعم الفتوى بحيث بإطلاقها

ص: 174

تشمل من لم ينطبق عليه العنوان الثانوي؟!

الوجه الثاني: استظهار كون البلوغ طريقياً لا موضوعيةً له!

وفيه: أن الأصل كون العناوين المأخوذة في الأدلة طريقيةً، وموضوعيتها بحاجة إلى دليل مفقود في ما نحن فيه.

الوجه الثالث: عدم ترتب أثر عملي على ذكر هذا القيد؛ لأن من لم تبلغه الفتوى بالاستحباب فلا يعمل بها أصلاً، ومن بلغه فقد تحقق الموضوع فيه، اللهم إلا أن يقال: إنه وإن لم يترتب على ذلك مخالفة عملية إلاّ أنها فتوى بخلاف الواقع وذلك مما لا يجوز!

الوجه الرابع: ما في التبيين(1):

بأن قيد البلوغ خاص بالمجتهد؛ وذلك لأن القيود المأخوذة في الموضوعات...

1- تارة: يكفي اتصاف المجتهد بها، وهي القيود التي تقع وسطاً في استنباط الأحكام الإلهية الكليّة، كاليقين والشك في الأحكام الكلية التي يكفي وجودهما في المجتهد وبذلك يفتي للمقلد، كما في الماء الذي زال تغيّره بنفسه حيث تستصحب النجاسة.

2- وتارة: القيود التي لا تقع وسطاً في استنباط الأحكام الكليّة كاستصحاب نجاسة هذا الثوب الخاص، وهنا لا بد من تحققها في المقلّد بنفسه، فلا يكفي استصحاب المجتهد للمقلّد!

وما نحن فيه من قبيل الأول، فإن المجتهد يفتي باستحباب العمل أو كراهته استناداً إلى قاعدة من بلغ، فتأمل.

ص: 175


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 49.
الفرع السابع: لو تعارض الخبر الضعيف الدال على الاستحباب مع الخبر الصحيح الدال على عدمه

وفيه احتمالان:

الاحتمال الأول: عدم إمكان الفتوى بالاستحباب؛ لأن الأدلة المعتبرة قائمة مقام القطع، فكما لا يمكن الفتوى بالاستحباب مع القطع بعدمه فكذلك مع قيام الدليل المعتبر.

وأشكل عليه: بأن القيام إنما هو في القطع الطريقي، وما نحن فيه القطع موضوعي؛ لأن اعتبار الخبر لا ينفي احتمال مطابقة الخبر الضعيف للواقع، وأدلة الحجية لا تنفي الاحتمال الوجداني؛ وذلك لاحتمال عدم مطابقة الدليل المعتبر للواقع بسبب الخطأ ونحوه، وحينئذٍ يتحقق موضوع الاستحباب وهو الاحتمال مع البلوغ.

الاحتمال الثاني: إمكان الفتوى بالاستحباب.

واستدل له: بعدم تعارض أخبار من بلغ مع أدلة حجية الخبر النافي؛ وذلك لدلالة الأولى على الاستحباب بالعنوان الثانوي، ودلالة الثانية على عدم الاستحباب بالعنوان الأولى.

ولو فرض تحقق التعارض تساقطتا ويكون المرجع ملاك أدلة أخبار من بلغ - وهو البلوغ المتحقق وجداناً في المقام - .

وفيه: أن أدلة من بلغ منصرفة عن مثل هذا المورد.

الفرع الثامن: في تقوية الدلالة الضعيفة بأخبار من بلغ

بأن كانت دلالة الخبر بمفهوم اللقب مثلاً، فهل يمكن تقوية الدلالة بهذه الأخبار؟

ص: 176

والأقرب العدم؛ إذ لم يتحقق البلوغ مع عدم حجية الدلالة، بل هو مجرد احتمال من غير بلوغ. نعم، لو فهم المشهور ولم يخطّئهم في فهمهم فلا تبعد التقوية، فتأمل.

قال المحقق العراقي(1):

لا إشكال في أنه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللفظ في المعنى المراد، وإلاّ فلا يصدق عنوان البلوغ، وعليه فلو كان اللفظ مجملاً في حدّ ذاته فلا ظهور فيه فلا بلوغ، كما لو كان الكلام محفوفاً بالقرائن المتصلة التي أوجبت سلب ظهور الكلام.

وأما لو كان الكلام محفوفاً بالقرائن المنفصلة فلا ينثلم الظهور، بل تسلب الحجية عن الظاهر وحينئذٍ فيصدق البلوغ، كما لو دلّ الخبر الضعيف على استحباب العام، ثم تمّ تخصيصه بخبر ضعيف، فالثواب بالغ على كل أفراد العام حتى المخصّص!

إن قلت: في المنفصل صحيح أن الظهور انعقد في العام، إلاّ أن الإرادة الجدية لا تكون إلاّ في الخاص!

قلت: لو كان التخصيص بدليل معتبر صحّ ما ذكر، وأما الضعيف فلا حجية له كي يضرّ بالإرادة الجدّية مع عدم كون المخصّص مشمولاً لقاعدة من بلغ، حيث إنه ينفي الثواب لا أنه يثبته.

الفرع التاسع: هل تترتب جميع آثار المستحب الواقعي

كما لو دلّ الدليل على إجزاء الغسل المستحب عن الوضوء، ثم دلّ الخبر الضعيف على استحباب غسلٍ ما، فهل يجزي ذلك الغسل عن الوضوء

ص: 177


1- نهاية الأفكار 3: 283-284.

بناءً على دلالة أخبار من بلغ على الاستحباب؟

الأقرب ترتب جميع الآثار لما مرّ من أن أخبار من بلغ عنوان ثانوي تجعل الشيء مستحباً واقعاً بالعنوان الثانوي فيترتب عليه جميع آثار المستحب الواقعي كالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء.

ص: 178

فصل في الدوران بين المحذورين

اشارة

أما تحرير محل البحث: فهو أن يدور الأمر بينهما فقط من غير دورانه بينهما وبين الإباحة؛ إذ مع احتمال الإباحة فالمرجع إلى البراءة، بل جريانها حينئذٍ أولى من جريانها في الشبهة الوجوبية أو التحريمية حيث جرت مع إمكان الاحتياط فجريانها مع عدم إمكانه أوضح.

كما أنه لا بد من أن لا يكون أصل شرعي كالاستصحاب متطابق مع أحد الحكمين، وإلاّ لانحلّ العلم الإجمالي.

ثم إن الكلام تارة في التوصليين، وأخرى في التعبديين أو ما كان أحدهما توصلياً والآخر تعبدياً، وثالثة في الواجبات الضمنية، فهنا بحوث:

البحث الأول: في التوصليين

اشارة

وفيه أربعة أقوال: تقديم جانب الحرمة، أو جانب الوجوب، أو الحكم بالإباحة الشرعية، أو جريان البراءة الشرعية والعقلية.

القول الأول: تقديم جانب الحرمة

وقد استدل له: بأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه: أولاً: الإشكال في القاعدة من أصلها، بل المرجع الأهم إلى حدّ المنع عن النقيض، كما لو دار الأمر بإنقاذ نفس محترمة عبر الدخول في الأرض المغصوب، فهنا جلب المنفعة أهم من مفسدة التصرف في الغصب.

ص: 179

اللهم إلاّ أن يدعى إن ترجيح الأهم مع كون المصلحة والمفسدة معلومتين، وأما مع احتمالهما - كما في ما نحن فيه - فلا! وعلى ذلك بناء العقلاء، كمغامرة التجار لاحتمال منفعة ألف مع احتمال مضرة ألفين مثلاً، فتأمل.

وثانياً: الإشكال في الصغرى بعدم انطباق القاعدة - على فرض صحتها - على ما نحن فيه؛ وذلك لأنه يوجد مؤمّن مع احتمال المفسدة والحرمة وهو البراءة الشرعية والعقلية حتى مع القطع بعدم المصلحة كما في شرب التتن، فضلاً عن مورد احتمال المصلحة كما نحن فيه!

القول الثاني: التخيير

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: أخبار التخيير في الخبرين المتعارضين بعد إلغاء خصوصية تعارض الخبرين.

وأشكل عليه: أولاً(1):

إن التخيير إما شرعي واقعي أو ظاهري وإما عقلي، وكلها منتفية في ما نحن فيه، أما الشرعي فغير معقول؛ إذ التخيير التكويني حاصل فجعله بالتشريع من تحصيل الحاصل، بل من أردأ أنواعه، وأما العقلي فملاكه وجود الملاك في الطرفين أو الأطراف مع عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما أو بينها، وليس كذلك ما نحن فيه لوجود الملاك في أحدهما فقط.

ص: 180


1- فوائد الأصول 3: 444.

ويرد عليه: أن هناك قسماً رابعاً وهو التخيير في الفتوى، وهو ممكن ولا محذور فيه؛ إذ للفتوى بهما شق آخر هو عدم الفتوى أو الفتوى بغيرهما كالإباحة مثلاً، هذا مضافاً إلى إشكال فني في حصر التخيير العقلي في ما ذكره؛ إذ هناك نوعان آخران له: بأن كان الملاك في الطبيعة أو الجامع والأمر توجه إليه مع تخير المكلف في التطبيق على أيِّ فردٍ شاء، وكذا لو كان الملاك في أحدهما مع إمكان تركهما حيث القطع بالتفريط بالملاك، لكن غير خفي عدم جريانهما في ما نحن فيه أيضاً كالنوع الذي ذكره.

وثانياً: إن التخيير المذكور في الروايات خاص بصورة تعارض النصين وإجراؤه مع إجمال النص أو فقدانه أو في الشبهة الموضوعية قياس مع عدم القطع بإلغاء الخصوصية.

إن قلت: إن ملاك التخيير جارٍ هنا أيضاً - حتى لو لم تجر أدلة التخيير عبر إلغاء الخصوصية - وذلك الملاك هو احتمال مصادفة كل واحد منهما الواقع.

قلت: لعل سبب التخيير في الخبرين المتعارضين هو اقتضاؤهما الحجيّة إلاّ أنها لا تصل إلى الفعلية بسبب التعارض، لاستحالة حجية المتضادين أو المتناقضين فتكون الحجية بدلية تخييرية، وهذا غير متوفر في ما نحن فيه لعدم وجود اقتضاء الحجية في كليهما، بل مجرد الاحتمال! وعليه فلا قطع بالمناط!

إن قلت: نتمسك بالأولوية، حيث إن الخبرين لا يعلم مطابقتهما للواقع؛ إذ يحتمل خطؤهما مثلاً ومع ذلك حكم الشارع بالتخيير، فبطريق أولى يكون الحكم هو التخيير في ما نحن فيه حيث نعلم بمطابقة أحدهما للواقع!

ص: 181

قلت: إنما تجري الأولوية مع عدم احتمال الخصوصية، وفي ما نحن فيه تحتمل الخصوصية وهي اقتضاء الخبرين للحجيّة مع تعارضهما المانع عن فعليتها فيهما.

اللهم إلاّ أن يقال: لا احتمال للخصوصية بناءً على الطريقية؛ إذ لا موضوعية للخبر، بل الملاك هو الكاشفية النوعية عن الواقع، وحيث كان التخيير فيه فبطريق أولى يكون في الكاشف الوجداني الذي هو القطع بمطابقة أحدهما للواقع، فتأمل.

الدليل الثاني: إنه مع الجهل بالواقع يدور الأمر بين المخالفة القطعية بعدم الالتزام بما عُلم إجمالاً، وبين الموافقة الاحتمالية بالالتزام بأحدهما، ومن المعلوم أن الثاني أولى.

والجواب: - مضافاً إلى المبحث المبنوي بعدم وجوب الموافقة الالتزامية، وبأنه على فرض الوجوب تكفي الموافقة الالتزامية الإجمالية - ما ذكره في نهاية الدراية: «بأن أصل الالتزام الجدي بالواقع بعنوانه الخاص المجهول غير معقول، حتى يجب واقعاً على طبق الواقع، حتى يجب موافقته الاحتمالية، بل مقولة الالتزام الجدي بشيء سنخ مقولة لا تتعلق إلاّ بما علم، وهو ليس إلاّ نفس طبيعي الالتزام»(1).

وحاصله: أن الالتزام بالمجهول محال، وحيث لا يعقل التكليف بالمحال لا تجب موافقته الاحتمالية من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأشكل عليه: بإمكان الالتزام بالمجهول؛ وذلك لأنه قد لا يكون الشيء

ص: 182


1- نهاية الدراية 4: 212.

في صفحة الذهن فلا يعقل الالتزام به، لكن لو كان فيها أمكن الالتزام به حتى لو كان مشكوكاً، بل حتى لو كان مقطوع العدم؛ وذلك لأن الالتزام هو عقد القلب وهو يمكن حتى مع الشك أو القطع بالعدم، كالتزام فرعون بعدم نبوة موسى (علیه السلام) مع يقينه بها قال سبحانه {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1)،

ولذا حصل الفرق بالعقد القلبي بين المؤمن وبين المنافق العالم بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الناطق بالشهادتين العامل بالفرائض في الظاهر؛ وذلك لعقد الأول قلبه دون الثاني.

القول الثالث: الإباحة الشرعية

وذلك لإطلاق أدلتها الشاملة لما نحن فيه من الدوران بين المحذورين.

وأشكل عليه: أولاً: بانصراف الأدلة عن هذا المورد، قال الشيخ الأعظم: «إن أدلة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب، وأدلة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا تفيد إلاّ عدم المؤاخذة على الترك والفعل وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب»(2).

فمثل قوله (علیه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك...»(3)،

وقوله (علیه السلام) : «كل ما يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(4)

ونحوهما واضح الانصراف عن

ص: 183


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- فرائد الأصول 2: 185.
3- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.
4- المحاسن 1: 495.

الدوران بين المحذورين.

وثانياً: بإشكال ثبوتي، فقد قال المحقق النائيني: «إن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن، فإن أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال؛ لأن مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك وذلك يناقض العلم بالإلزام، وإن لم يكن لهذا أثر عملي وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز، إلاّ أن العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة - ولو ظاهراً - فإن الحكم الظاهري إنما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي، فمع العلم به وجداناً لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به»(1).

وحاصله: إن رتبة الحكم الظاهري هي الشك، وهي غير محفوظة مع العلم بالإلزام، وعليه فلا وجه للحكم الظاهري.

وأجاب عنه المحقق العراقي: «بمنع المناقضة والمضادة بينهما، فإن قوام العلم وكذا الشك والظن في مقام عروضهما بعد أن كان بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي مرآة إلى الخارج بلا سرايتها منها إلى وجود المعنون خارجاً، ولا إلى العنوان المعروض لصفة أخرى، بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسط العناوين الإجمالية والتفصيلية، فلا محالة ما هو معروض العلم الإجمالي إنما هو عبارة عن عنوان أحد الأمرين المبائن في عالم العنوانية مع العنوان التفصيلي لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك؛ إذ

ص: 184


1- فوائد الأصول 3: 445.

كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما كان تحت الشك، وعليه فبعد أن كان موضوع الحليّة والإباحة التعبدية هو الشك في لزوم الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي كان الموضوع لهما متحققاً بالوجدان حيث كان كل من الفعل والترك بعنوانه التفصيلي مشكوكاً، وإن كان بعنوان أحدهما معلوم الإلزام، وبعد عدم اقتضاء أصالة الحل والإباحة بأزيد من الترخيص في عنوان الفعل والترك المشكوكين وعدم شموله للعنوان الإجمالي فلا قصور في جريانها في كل من الفعل والترك؛ إذ لا يكاد يضاد هذا المعنى مع العلم الإجمالي بعنوان أحد الأمرين»(1).

إن قلت: لا شك في عدم الإباحة، فلا يعقل جعل حكم ظاهري بها.

قلت: الشك في الحكم الواقعي وجداني حيث لا يعلم الوجوب أو الحرمة، وهذا كافٍ في جعل الحكم الظاهري؛ إذ لا يشترط فيه أزيد من الشك في الحكم الواقعي، ولا مانع من الحكم الظاهري مع العلم بمخالفته للحكم الواقعي الإجمالي إذا لم يستلزم مخالفة عملية قطعية، ومع كون المخالفة الاحتمالية متحققة على كل حال سواء كان هناك جعل لحكم ظاهري أم لا، والحاصل: الحكم الواقعي غير منجز فلا محذور من تنجز الحكم الظاهري.

ولا يخفى أن الخلاف بين العَلَمين مردّه إلى تفسير معنى أصالة الإباحة(2)، فهل هي عدم لزوم الفعل والترك معاً وذلك بمساواة الطرفين - كما يقوله

ص: 185


1- نهاية الأفكار 3: 294.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 156.

المحقق النائيني - وهذا يتنافى مع العلم الإجمالي بلزوم أحدهما، أو أن معناها عدم لزوم الفعل وحده وعدم لزوم الترك وحده، فالعمل منفرداً وكذا الترك منفرداً مشكوكين - كما يقوله المحقق العراقي - فمرتبة الحكم الظاهري محفوظة!

والأقرب هو الأول؛ لأن الإباحة تتعلق بالطرفين معاً لا بكل طرف منفرداً، وعليه فمعناها مساواة الطرفين ومن المعلوم منافاته مع العلم بلزوم أحدهما، ولا يجدي في رفع ذلك تغاير العناوين للتنافي بين عنوان مساواتهما ولزوم أحدهما، فتأمل.

القول الرابع: البراءة عقلاً وشرعاً
اشارة

فإنه في كل طرف يوجد شك وبذلك يتحقق موضوع أو ظرف الأصل العملي. نعم، مع إجرائها في الطرفين يتحقق علم بمخالفة أحدهما للواقع، لكن لا ضرر في ذلك بعد عدم كونه مخالفة عملية.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: تحصيل الحاصل؛ إذ الترخيص التكويني حاصل فيستحيل تحصيله بواسطة التعبد الشرعي.

قال المحقق العراقي(1):

لاختصاص جريان أدلة البراءة بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه، غير مناط عدم البيان... فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية والشرعية، نظراً إلى حصول الترخيص حينئذٍ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم

ص: 186


1- نهاية الأفكار 3: 293.

العقل بالتخيير بين الفعل والترك.

وأورد عليه السيد الأخ(1):

بالنقض: بالبراءة الجارية بمناط عدم البيان، فإن العقل حكم في رتبة سابقة بقبح العقاب، فيكون الترخيص الشرعي تحصيلاً للحاصل، وكذا النقض بجميع المباحات حيث الاضطرار التكويني واللابدية العقلية؛ إذ المكلّف إما فاعل أو تارك!

وبالحلّ: بأنه لا مانع من المولوية في كل مورد أمكن للمولى إعمال المولوية فيه، ومنه في الاضطرار الذي لا يسلب المكلّف اختياره، فالمكلّف - مثلاً - يمكنه شرب الماء، ويمكنه تركه، والاضطرار إنما هو بالجامع لا بخصوصية أحد الطرفين، ومعه يمكن للمولى إعمال المولوية.

وفي ما نحن فيه وإن اضطر المكلّف إلى الجامع، إلاّ أن خصوص الفعل وخصوص الترك اختياري، فيمكن للمولى تحريمه أو إيجابه، وعليه فلا مانع من جريان البراءة.

الإشكال الثاني: عن المحقق النائيني(2):

بأن رفع الحكم إنما يصح في المورد القابل للوضع، وذلك بجعل الاحتياط، وفي ما نحن فيه لا يمكن الوضع لعدم إمكان الاحتياط - حيث تستحيل الموافقة القطعية - فيكون الرفع كذلك غير ممكن.

وفيه: إن هذا في الجامع، وأما أحد الفردين فهو قابل لهما، كما مرّ.

الإشكال الثالث: إن جنس الإلزام معلوم، فليس المقام من الشك في

ص: 187


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 159.
2- أجود التقريرات 3: 401.

التكليف كي تجري البراءة، بل من الشك في المكلّف به.

وفيه: أن العلم بجنس الإلزام لا أثر له لعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية، فلا محذور من جريان أصل البراءة.

الإشكال الرابع: ما في المنتقى(1):

من أن الحكم بالبراءة شرعاً إنما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع المحتمل، وهذا إنما يصح في ما لو كان احتمال التكليف قابلاً لداعوية المكلّف وتحريكه نحو المكلف به، فيؤمّنه الشارع، أما إذا لم يكن الأمر كذلك، بل كان المكلف آمناً لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.

وما نحن فيه كذلك؛ لأن احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملاً لا يكون بذي أثر في نفس المكلّف، ولا يترتب عليه التحريك والداعوية؛ لأن داعوية التكليف ومحركيته إنما هو بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصحلة أو دفع مفسدة، وإن فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركاً للمكلّف لا محالة، فيمتنع جعل الحكم الواقعي بناءً على أن الحكم متقوّم بالداعوية.

ويرد عليه: أولاً: بأن معنى هذا الكلام هو أخذ العلم بالحكم في موضوعه، وهو محال كما مرّ.

وثانياً: إن كون حقيقة الحكم هي الداعوية إنما هو بالنسبة إلى فعل المولى وذلك بتمامية الإنشاء والتبليغ، وليس كذلك بالنسبة إلى فعل العبد

ص: 188


1- منتقى الأصول 5: 25-26.

وإلاّ لزم عدم ثبوت حكم على الغافل والجاهل لعدم وجود المقتضي لانبعاثه، فتأمل.

هذا مضافاً إلى أن كل واقعة لا تخلو عن حكم واقعي.

تذنيب: هل التخيير ابتدائي أم استمراري؟

بأن كانت وقائع مختلفة طولية، ففي الأولى تجري الأقوال الماضية، فهل على القول بالتخيير أو الإباحة أو البراءة، يجري التخيير في الواقعة الثانية وهكذا أم لا؟

قيل: باستمرار التخيير، قال الشيخ الأعظم: «الأقوى هو التخيير الاستمراري، لا للاستصحاب، بل حكم العقل في الزمان الثاني كما في الزمان الأول»، وقال: «إن المخالفة القطعية في مثل ذلك لا دليل على حرمتها، كما لو بدا للمجتهد في رأيه، أو عدل المقلّد عن مجتهده لعذر - من موت أو جنون أو فسق - أو اختياراً على القول بجوازه»(1).

وأشكل عليه: بعدم الفرق في عدم جواز مخالفة العلم الإجمالي بين الدفعي والتدريجيّ، وقد ذهب الشيخ الأعظم في موضع آخر إلى الاحتياط، قال: «التحقيق أن يقال: إنه لا فرق بين الموجودات فعلاً والموجودات تدريجاً في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها، إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه، لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب»، وقال: «كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها فيعلم إجمالاً بأنها حائض في الشهر ثلاثة أيام... وكما إذا

ص: 189


1- فرائد الأصول 2: 189.

علم التاجر إجمالاً بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية»(1).

وأجيب: بعدم تنجز هذا العلم الإجمالي، قال المحقق الإصفهاني: «إن العلم لا ينجز إلاّ طرفه - أي المعلوم بالإجمال - مع القدرة على امتثال طرفه، ومن البيّن أن هناك تكاليف متعددة في الوقائع المتعددة لا ينجز كل علم إلاّ ما هو طرفه في تلك الواقعة، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجز، ولا توجب هذه العلوم المتعددة علماً إجمالياً أو تفصيلياً بتكليف آخر يتمكن من ترك مخالفته القطعية. نعم، انتزاع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة ونسبة المخالفة القطعيّة إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم بعلم واحد هو الموجب لهذه المغالطة! ومن الواضح أن ضم المخالفة في واقعة إلى المخالفة في واقعة أخرى وإن كان يوجب القطع بالمخالفة، لكنه قطع بمخالفة غير مؤثرة، لفرض عدم الأثر لكل مخالفة للتكليف المعلوم في كل واقعة»(2)،

انتهى.

وحاصله: إن كل واحد من العلوم الإجمالية في الوقائع المتدرجة غير منجز؛ وذلك لعدم إمكان الموافقة القطعية. نعم؛ هنا جامع لهذه العلوم المختلفة يجمع في عبارة واحدة بنحو كلي فيقال: (هذا الشيء إما واجب أو حرام)، ومع اختلاف الاختيار يعلم بمخالفة هذا التكليف الجامع، إلاّ أن الجامع ليس سوى الأفراد، وحيث لا تكون منجزة فلا يكون منجزاً أيضاً.

وفيه: أن عدم منجزية العلم الإجمالي الجامع مصادرة؛ إذ لا تلازم بين

ص: 190


1- فرائد الأصول 2: 248.
2- نهاية الدراية 4: 219-220.

عدم منجزية الأفراد والجامع، بل العلم الإجمالي منجز إلاّ أن يكون مانع، وهذا المانع في الواقعة الواحدة موجود؛ وذلك لعدم تمكن المكلّف من الموافقة والمخالفة القطعيين، وأما العلم الإجمالي بالجامع فهو وإن لم تمكن موافقته القطعية إلاّ أنه تمكن مخالفته القطعية فارتفع المانع، فتأمل.

البحث الثاني: في ما لو دار بين تعبدي وتوصلي

كما لو دارالأمر بين وجوب صلاة للأمر بها أو حرمتها لكونها بدعة مثلاً، فالوجوب هنا تعبدي وأما الحرمة فهي توصلية - بمعناه الأعم - .

فهنا الموافقة القطعية غير ممكنة فيحكم العقل بالتخيير بينهما فيأتي بالتعبدي بقصد الرجاء.

وأما المخالفة القطعية فقد يقال: بإمكانها كأن يدور الأمر بين وجوب تغسيل المسلم المبتدع وبين حرمته فيغسّله رياءً حيث لم يمتثل الواجب التعبدي لو كان، ولم يتركه إن كان حراماً.

وفيه نظر: لأن أسامي العبادات للصحيح لا للأعم، فالغسل رياءً ليس بغسل أصلاً، بل هو صورة غسل فيكون داخلاً في تركه، بل حرمة الرياء فيه غير معلومة؛ لأن الرياء يحرم في العبادات وهذا عباديته غير ثابتة، فتأمل.

ثم لو فرض إمكان المخالفة القطعية فلا بد من تركها لحرمتها عقلاً، إلاّ أنه قد تبنى المسألة على مسألة الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف غير المعيّنة من العلم الإجمالي مع كون الاضطرار سابقاً، فإن قلنا بانحلال العلم الإجمالي بالمرّة وجواز ارتكاب الطرف غير المضطر إليه فلا بد من القول هنا بجواز المخالفة القطعية، وإن لم نقل بانحلاله فكذلك هنا لأن ما نحن

ص: 191

فيه من صغريات تلك المسألة.

إلاّ أن المحقق الخراساني قد فكّك بين الموردين، حيث ذهب هنا إلى المنجزية دون هناك في مسألة الاضطرار.

فأشكل عليه المحقق العراقي فقال: «والعجب التزامه في المقام بوجوب رعاية العلم الإجمالي بقدر الإمكان، وعدم جواز المخالفة القطعيّة، على خلاف مختاره في تلك المسألة!»(1).

ويمكن أن يقال: بالفرق بين المقامين بتحقق العلم الإجمالي في ما نحن فيه وذلك بثبوت الإلزام بأحد الطرفين، وسقوط الموافقة القطعية إنما كان لعدم إمكانها، لكن لا وجه لسقوطها مع إمكان اجتنابها.

وعدم تحقق العلم الإجمالي في باب الاضطرار - مع سبقه على العلم - إذ لا علم بالتكليف أصلاً؛ إذ لا تكليف في الفرد الذي يختاره وذلك للاضطرار، وأما الفرد الآخر لا علم بالتكليف فيه بل احتماله، والاحتمال مجرى أصالة البراءة للشك في التكليف.

إن قلت: وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية معلولان لعلة واحدة، ومع عدم ترتب أحد المعلولين يكتشف عدم وجود العلة، وذلك كاشف عن عدم وجود المعلول الآخر، قال المحقق الخراساني: «ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً، وإلاّ لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً»(2).

ص: 192


1- نهاية الأفكار 3: 297.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 221.

قلت: إن المقتضي إن كان موجوداً وكان مانع لأحدهما دون الآخر، فلا محذور في صيرورة المقتضي علة تامة لما لا مانع له وعدم عليّته لما له مانع، وهكذا يكون ما نحن فيه حيث إن العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية مع وجود مانع في الأوّل هو عدم القدرة من غير مانع في الثاني، فتأمل.

البحث الثالث: الدوران بين المحذورين في الواجبات الضمنيّة

اشارة

كما لو دار شيء في الصلاة بين الوجوب والحرمة، أو الشرطية والمانعية، كما لو ظن بالركوع قبل أن يسجد فهل حكمه وجوب الإتيان به أم حرمته؟ وكما لو لم يحفظ إلاّ العزيمة ودار أمره بين وجوب قرائتها في الصلاة لوجوب السورة فيها أو حرمتها لكونها عزيمة!

قال الشيخ الأعظم: «والتحقيق أنه إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في الشرطية والجزئية، وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية فالأقوى التخيير هنا»(1)؛

وذلك لأن المسألة حينئذٍ صغرى مسألة الدوران بين المحذورين.

وأشكل عليه: بإمكان الاحتياط بقطع الصلاة وإعادتها في المثال الأول أو إكمالها بأحد الاحتمالين ثم إكمالها بالاحتمال الآخر في المثال الثاني؛ وذلك لأنه يعلم بالإلزام وانشغال الذمة مع إمكان موافقته القطعية.

نعم، لو ضاق الوقت فلا بد من اختيار أحد الطرفين، لكن هل يجب عليه القضاء؟

ص: 193


1- فرائد الأصول 2: 402.

قد يقال: بوجوبه لعدم العلم بفراغ الذمة إلاّ بالقضاء.

وقيل: بعدم دليل على القضاء؛ وذلك لأنه بأمر جديد مع فوت الفريضة، وفي ما نحن فيه لا إحراز للفوت؛ لأنه تابع لفعلية التكليف، ولا فعلية في المقام، بل غاية ما في المقام هو العلم الإجمالي بأحد الأمرين من الجزئية أو المانعية وهو لا يكون منجزاً إلاّ بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية؛ وذلك لعدم إمكان الموافقة القطعية، وعليه فلا فعلية للمحتمل الآخر في الوقت فلم يحرز الفوت كي يجب القضاء!

وبعبارة أخرى: لا أمر بالموافقة القطعية لعدم إمكانها، بل بالموافقة الاحتمالية، وقد امتثلها فلم يفته شيء فلا قضاء!

وأشكل عليه: بأن فعلية التكليف الواقعي لا تتوقف على إمكان الامتثال، بل على وجود مصحح عقلائي، كتكليف النائم أو الغافل في كل الوقت فهو لا يمكنه الامتثال لكن صحّ تكليفه باعتبار القضاء، أي ليصدق الفوت ليجب القضاء.

وفي ما نحن فيه الجاهل بالتكليف الواقعي قصوراً يجوز تكليفه بالواقع حتى لو لم يتمكن من الموافقة القطعية، ومع تكليفه بالواقع لم يحرز امتثال التكليف في الوقت، والأصل عدم الإتيان به - وهو معنى الفوت - فيجب عليه القضاء.

وبعبارة أخرى: هو مكلف بالواقع، ونحرز الفوت بالأصل العملي - وليس بمثبت - فتمت أركان وجوب القضاء، فتأمل.

فرع: في أهمية أحد الطرفين أو احتمالها

لو علمنا بأهمية أحد الطرفين أو احتملناها، فهل ذلك مرجح إلزامي له أم لا؟

ص: 194

قال في الكفاية: «إن استقلال العقل بالتخيير إنما هو في ما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام، لكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة»(1).

وحاصله تنظير المقام بموردين:

الأول: التنظير بباب التزاحم، كما لو تزاحم إنقاذ غريقين يعلم بأن أحدهما المعين قائد الجيش أو يحتمل ذلك مع كون الآخر جندياً عادياً مثلاً، حيث لا إشكال في ترجيح معلوم أو محتمل الأهمية عقلاً.

ويرد عليه: اختلاف الملاك، ففي باب التزاحم نشأ التزاحم من إطلاق الدليلين أو الدليل في كلا المتزاحمين، فلا بد من تقييدهما بما لو لم يأت بالآخر؛ لأن بقاء إطلاقهما يستلزم التكليف بما لا يطاق، وتقييد أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فلا بد من تقييدهما معاً، وأما مع العلم أو احتمال أهمية أحدهما فنشك في تقييد دليله فالمحكّم هو أصالة الإطلاق فيه مع تقييد دليل الآخر بلا إشكال.

وهذا الملاك غير جارٍ في ما نحن فيه؛ وذلك لأن الخطاب واحد لأحدهما فقط.

وأجاب عنه المحقق العراقي: بتحقيق الملاك في المقام حيث قال: «لو قيل بأن مناط حكم العقل بالتخيير في المقام عدم الترجيح بين الاحتمالين

ص: 195


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 210-212.

أمكن دعوى توقفه عند وجود المزية لأحد الطرفين، ويحكم بالأخذ بذي المزية»(1).

وحاصله: أن الحكم العقلي بالتخيير في الدوران بين المحذورين إنما هو لعدم المرجح، واحتمال الأهمية مرجّح عقلاً.

وأشكل عليه(2): بأن الترجيح إذا لم تنهض عليه الحجة تجري فيه البراءة العقلية والشرعية؛ إذ كما تجريان في أصل الحكم مع احتمال وجود ملاك ملزم، كذلك تجريان في الشك في خصوصية الحكم!

الثاني: التنظير بالدوران بين التعيين والتخيير، حيث يحكم العقل بلزوم اختيار جانب التعيين، وما نحن فيه كذلك؛ إذ إما يلزم ترجيح معلوم أو محتمل الأهمية أو هو مخير بينه وبين الآخر.

ويرد عليه: عدم تحقق ملاك ذلك في المقام أيضاً؛ إذ ملاكه هناك هو الاشتغال اليقيني بالتكليف، وجانب التعيين إفراغ للذمة عن ذلك التكليف المعلوم قطعاً دون جانب التخيير.

وأما ما نحن فيه فلا تنجيز للعلم الإجمالي لعدم القدرة على الاحتياط وعدم إمكان العلم بالخروج عن عهدة التكليف.

ص: 196


1- فوائد الأصول 3: 451 (الهامش).
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 188.

فصل في اشتراط البراءة بالفحص

اشارة

والبراءة إما عقلية أو شرعية، وكل منهما في الشبهات الحكمية أو الموضوعية فهنا مباحث:

المبحث الأول: اشتراط الفحص في البراءة العقلية

اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الاشتراط في الشبهة الحكمية

ويدل عليه أمور، منها:

الدليل الأول: إن (عدم البيان) لا يتحقق إلاّ بعد الفحص؛ إذ البيان هو البيان الذي يكون في معرض الوصول، فلو اقتحم العبد مع التفاته إلى احتمال وجود حكم ٍ يمكن وصوله مع تمكنه من الفحص فخالف الواقع لم يكن عند العقلاء معذوراً ولم يكن المولى ملاماً لو عاقبه على ذلك. فليس (البيان) في القاعدة هو مجرد صدور الأمر، ولا وصوله اتفاقاً؛ لأن العقلاء لا يرونهما ملاكاً لاستحقاق العقاب.

وبعبارة أخرى: حين الشك في وجود البيان الذي هو في معرض الوصول يشك في قبح العقاب؛ إذ مع الشك في الموضوع يشك في الحكم، ولا مؤمِّن من العقاب لوصادف المخالفة واقعاً.

وأشكل عليه في نهاية الدراية: «من أن الحكم ما لم يصل حقيقة

ص: 197

بوجوده العلمي في أفق النفس غير قابل للباعثية أو الزاجرية بنفسه على أيّ تقدير؛ بداهة أن وجوده الواقعي لا يعقل أن يكون موجباً لانقداح الداعي في النفس، بل بوجوده الحاضر في أفق النفس... فلا يعقل فعلية الأمر الواقعي الذي عليه طريق واقعي بنحو الباعثية والمحركية إلاّ بعد وصوله حقيقة، وإذا لم يكن فعلياً وباعثاً حقيقياً فكيف يعقل أن يكون منجزاً حتى يكون احتماله احتمال المنجز ليمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟»(1).

وبعبارة موجزة: إن منجزية الحكم الواقعي متوقفة على باعثيته، وهي متوقفة على العلم بالحكم، وحيث إن العلم غير موجود فلا باعثية فلا منجزية!

ويرد عليه: إن الباعثية كما تكون بالعلم كذلك تكون بالاحتمال، وبعبارة أخرى: كما أن الوجود التصديقي يكون باعثاً كذلك الوجود التصوري، وهنا حيث إن المكلّف ملتفت يتحقق بذلك الوجود التصوري فيكون باعثاً.

الدليل الثاني: العلم الإجمالي بوجود تكاليف، ولا يزول إلاّ بالفحص بحيث ينحل إلى علم تفصيلي وشبهة بدوية وتجري فيها البراءة حينئذٍ.

وأشكل عليه: بأنه أخص من المدعى؛ لأن العلم الإجمالي منحلّ بما مرّ في باب الانسداد، حيث إننا نعلم بتكاليف كثيرة ينطبق المعلوم إجمالاً عليها أو يحتمل انطباقه، وبالانحلال لا محذور في إجراء أصل البراءة. نعم،

ص: 198


1- نهاية الدراية 4: 406-407.

من لم يعلم بالأحكام بمقدار يحتمل الانطباق فلا انحلال في حقه!

وأجاب عنه المحقق النائيني(1)

بما حاصله: أنه تارة يكون العنوان مردداً بين الأقل والأكثر من أول الأمر، كما لو علم أن في هذا القطيع غنم موطوءة، فبالفحص والعثور على عدد يحتمل انطباق المعلوم عليه ينحل العلم الإجمالي.

وتارة العنوان معلوم لكن أفراده مرددة من أول الأمر، بأن يكون متعلق التكليف عنواناً ليس مردداً بين الأقل والأكثر بنفسه، بل المعلوم هو العنوان بما له في الواقع من الأفراد، كما لو علم بموطوئية الغنم البِيض من القطيع وترددت البيضاء بين العشرة والعشرين مثلاً، فهنا لا ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل الانطباق عليه، بل لا بد من الفحص التام عن كل ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال عليه؛ لأن العلم الإجمالي يوجب تنجز متعلّقه بما له من العنوان، ففي المثال: قد تنجز التكليف لكل ما كان من أفراد البِيض، والعلم التفصيلي بموطوئية عدة من البيض يحتمل انحصار البيض فيها لا يوجب انحلال العلم الإجمالي.

وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن المعلوم بالإجمال في المقام هو الأحكام الموجودة بما في أيدينا من الكتب، فقد تنجزت جميع الأحكام المثبتة فيها، ولازم ذلك هو الفحص التام في جميعها.

وفيه: أولاً: ما هو الفرق بين قوله: اجتنب الموطوء، وقوله: اجتنب البِيض، فكلاهما عنوان مضبوط لا يعلم تعداد أفراده.

ص: 199


1- فوائد الأصول 4: 279.

وثانياً: بالحل بأن العنوان لو كان انحلالياً ثم علمنا تفصيلاً بأن بعض الأفراد مصداق لذلك العنوان، فلا مانع من الانحلال، حيث إنّ مقتضي الانحلال موجود والمانع مفقود؛ إذ يجب اجتناب ما ثبت عليه العنوان، ولا يجب اجتناب ما لم يثبت عليه ذلك، وهكذا في ما نحن فيه حيث يريد المولى العمل بما في الكتب المعتبرة التي بأيدينا وبعد العثور على جملة منها نشك في وجود أحكام أخرى، فلا مانع من إجراء البراءة.

الدليل الثالث: إن الاقتحام من غير فحص خروج عن رسم العبودية، وهو ظلم، فيقبح.

ويرد عليه الإشكال صغرىً: بأن تنجز الواقع مع الجهل به أول الكلام، فلا يكون ترك الفحص خروجاً عن رسم العبودية؛ لأن مخالفة الأمر المنجز خروج عنه لا ما لم يعلم تنجزه، فلا بد من إثبات التنجز بدليل آخر غير هذا.

المطلب الثاني: الاشتراط في الشبهة الموضوعية

قد يقال: بعدم اشتراطه؛ لأنه مع عدم وصول الصغرى لا تتم الحجة، فإنها متقومة بوصول التكليف صغرىً وكبرىً.

وفيه: إنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن الوصول معناه: (كونه في معرض الوصول)، وفي الشبهة الموضوعية لعلّه كان في معرض الوصول، فبعدم الفحص يتحقق عدم قبح العقاب بلا بيان لوجود البيان، وعلى ذلك بناء العقلاء.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين(1) - : وظيفة المولى جعل الحكم الكلي

ص: 200


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 307.

في معرض الوصول، لا بيان الموضوعات الخارجية، فمع فرض جعل التكليف وكون الحكم مشتركاً بين العالم والجاهل قد عمل المولى بوظيفته، فيحتمل العبد أن الشيء الخارجي موضوع حكم المولى، ومع هذا الاحتمال لا يمكن القول ب-(عدم البيان) والذي هو موضوع القاعدة، فإنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه لا تجري البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية قبل الفحص.

المبحث الثاني: اشتراط الفحص في البراءة الشرعية

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: في الشبهات الحكمية

وحيث إن ظاهر الأدلة النقلية الإطلاق، الشامل لما قبل الفحص أيضاً، فلا بد من وجود دليل يقيّد الإطلاق بالفحص، وقد ذكروا أدلة على ذلك، منها:

الدليل الأول: الإجماع القطعي على وجوب الفحص ذكره الشيخ الأعظم(1)،

وارتكاز المتشرعة، والضرورة الفقهية.

الدليل الثاني: إنه كما يحكم العقل على أنه يلزم على المولى بيان أغراضه الملزمة، كذلك يحكم بأنه يلزم على العبد البحث عن أحكام المولى دفعاً للضرر المحتمل.

وفيه: أنه لا محذور في توسعة المولى على عبيده بأن تكون مصلحة

ص: 201


1- فرائد الأصول 2: 441.

التسهيل سبباً لعدم لزوم الفحص، فالعقل يحكم بلزوم الفحص إن لم يكن هناك دليل على رفع المولى يده عن حكمه حين الجهل مثلاً، كما وقع نظير ذلك في الشبهة الموضوعية في الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة.

إن قلت: إن رفع المولى يده عن حكمه عبر عدم إيجابه الفحص نقض للغرض، فيكون جعل الحكم مع عدم إيجاب الفحص لغواً، بل تناقضاً، حيث إن المقصود هو باعثية التكليف للعبد، وبتشريعه البراءة قبل الفحص يكون قد سدّ طريق الوصول إلى أحكامه فلا يكون جعل الحكم حينئذٍ بداعي الباعثية!

قلت: هذا أخص من المدعى، حيث إن الأغراض مختلفة من حيث الأهمية، فما كان مهماً جداً كالدماء لا بد من جعل الاحتمال فيه منجزاً، وما كان متوسطاً في الأهمية يمكن إجراء البراءة فيه بعد الفحص، وما لم يكن كذلك يمكن تشريع الحكم فيه، فيريده المولى إن اتفق وصوله، وإلاّ فلا، كما في الطهارة والنجاسة، ولعل غالب الأحكام من هذا القسم، فتأمل.

الدليل الثالث: الآيات الآمرة بالتعلّم والسؤال كقوله تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1)،

وقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ...}(2)

الآية، والروايات الدالة على الوقوف عند الشبهة، والدالة على وجوب التفقه والتعلّم، والدالة على استحقاق الجاهل العقوبة إن لم يتعلّم فخالف الواقع، وعليه مع الشك يحكم العقل بلزوم الفحص دفعاً للضرر

ص: 202


1- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

المحتمل، وبذلك يتم تقييد أدلة البراءة.

لا يقال: الآية الأولى خاصة بأصول الدين، والثانية دالة على الوجوب الكفائي.

لأنه يقال: خصوصية المورد لا تخصص الوارد، كما أن النفر وإن كان واجباً كفائياً، إلاّ أن التعلّم واجب عيني فبعضهم يتعلّمون عبر النفر والآخرين عبر الإنذار.

إن قلت: إن روايات التوقف معارضة لروايات البراءة؛ لأن النسبة بينهما التباين، حيث إن كليهما مطلقان لقبل الفحص وبعده.

قلت: إن أدلة الاحتياط خاصة بما قبل الفحص؛ لأنها قد خصصت بمثل قوله (علیه السلام) : «فأرجه حتى تلقى إمامك»(1)

فتكون أخص من أدلة البراءة، وبذلك تقيّد أخبار البراءة.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك من انقلاب النسبة ولا نقول به، مضافاً إلى ما مرّ من أن أخبار التوقف إرشادية ولا تدل على وجوب التوقف!!

ثم إن المحقق العراقي قد أشكل على دلالة الآيات والروايات بإشكالات(2):

منها: إمكان دعوى اختصاصها بصورة العلم الإجمالي بالحكم، فتكون ظاهرة في الإرشاد إلى حكم العقل بوجوب الفحص.

وفيه: أن الإمكان لا يعارض الظهور فلا يرفع اليد عن الإطلاق به، مضافاً

ص: 203


1- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 107.
2- نهاية الأفكار 3: 474-475.

إلى أن بعض الأدلة ظاهرها أن تنجز الواقع إنما هو بسبب عدم العلم، فعدم العلم يستدعي الفحص لا العلم الإجمالي كما في قوله: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

ومنها: ظهورها في الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب للعذر، فعموم أدلة البراءة واردة عليها؛ لأنه بقيام الترخيص الشرعي على جواز الارتكاب قبل الفحص يرتفع حكم العقل بوجوب الفحص.

وحاصله: أنها تدل على لزوم تحصيل الحجة، وأدلة البراءة حجة فتكون رافعة لموضوع حكم العقل الذي هو اللاحجة.

وفيه: أن الأصل هو المولوية لا الإرشادية، حتى مع وجود حكم للعقل، وإنما يحمل على الإرشادية إذا كان هناك محذور في المولوية كما في أوامر الطاعة كما مرّ، مضافاً إلى أن ظاهر الأدلة هو عدم جواز إهمال الواقع المشكوك لا إهمال الوظيفة العملية، وإلاّ لم يكن بحاجة إلى هذا التأكيد الشديد على التفقه والسؤال وأمثالهما.

ومنها: قصورها عن إفادة تمام المطلوب؛ لأنها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون الفحص فيها مؤدّياً إلى العلم بالواقع، والمطلوب يعم ذلك وما لم يكن الفحص مؤدّياً إلى العلم بالواقع.

ولعلّ مراده: أن الأدلة إنما هي في ما لو علمنا بأننا عبر الفحص سنصل إلى الواقع - ولو تعبداً - كما في السؤال عن الإمام (علیه السلام) ، أما لو علمنا بعدم وصولنا إلى الواقع عبر الفحص فلا دلالة لها على وجوبه لأنه لغو، وعليه

ص: 204

ففي المورد المشكوك لا نعلم بأن الفحص يوصلنا أو لا يوصلنا، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويرد عليه: إطلاق الآيات والروايات، ولم يخرج منه إلاّ صورة العلم بعدم فائدة الفحص، وذلك بدلالة الاقتضاء، ويبقى الباقي تحت الإطلاق، هذا مضافاً إلى روايات دلّت على أن وظيفة العبد هو السؤال حتى لو احتمل عدم الجواب وعدم الوصول إلى الواقع وفي الحديث: «قلت: علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: عليكم أن تجيبونا؟ قال: ذاك إلينا»(1).

المقام الثاني: في الشبهات الموضوعية

فيه خلاف وأقوال:

القول الأول: وجوب الفحص، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: بناء العقلاء، وهي المناط في طرق الطاعة والمعصية واستحقاق العقوبة وعدمها.

وأشكل عليه: بأنه حيث كانت الأحكام أحكام الشارع كان له التوسعة والتضييق، وقد وسّع بأدلة الرفع؛ إذ لا فرق في ذلك بين الأدلة الخاصة أو العامة، وإطلاقه حجة، ولا يكون بناء العقلاء مخصصاً له، بل الأمر بالعكس.

الدليل الثاني: ما ذكره المحقق القمي: من أن «الواجبات المشروطة بوجود شيء إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط، لا على العلم بوجودها، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط، مثل أنّ من شك في كون

ص: 205


1- الكافي 1: 211؛ وسائل الشيعة 27: 66.

ماله بقدر استطاعة الحج - لعدم علمه بمقدار المال - لا يمكنه أن يقول: لا أعلم أني مستطيع ولا يجب عليّ شيء، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها»(1).

وأورد عليه: إن عدم التقيد بالعلم إنما هو في مقام الثبوت، فالحرام هو الخمر بما هي هي لا الخمر المعلومة مثلاً، أما في مقام الإثبات فيمكن رفع الحكم ظاهراً، كما حكم الشارع بالطهارة الظاهرية حين الشك في أن هذا الشيء دم أم لا مع احتمال كونه دماً واقعاً، وقد مرّ تفصيله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

الدليل الثالث: إن أدلة الفحص كما تجري في الشبهة الحكمية كذلك تجري في الشبهة الموضوعية، كالأدلة الدالة على وجوب التفقه والتعلّم وغيرها، فإن التفقه ونحوه لا ينحصر في العلم بالحكم، بل يشمل العلم بالموضوع أيضاً؛ وذلك لطريقية هذه الأمور لإدراك الواقع، وإدراكه يتوقف على العلم بالحكم وبالموضوع.

وأجيب: بأن تحصيل العلم بالموضوعات الكلية قد يكون تفقهاً ونحوه، وأما تحصيله في الموضوعات الجزئية فلا، فمن تحقق عن بقعة حمراء على ثوبه ليعلم أنها دم أم لا، لا يقال لعمله: أنه تفقه أو تعلم...، هذا مضافاً إلى ما قد يقال: من أنه لو فرض إطلاقها حتى للموضوعات الجزئية فهي مقيدة بما استدل له من عدم وجوب الفحص فيها كقوله (علیه السلام) : «لِمَ سألت»(2)، وسيأتي بحثه.

ص: 206


1- قوانين الأصول2 : 470.
2- الكافي 5: 569؛ وسائل الشيعة 20: 301.

الدليل الرابع: انصراف دليل الرفع عمّن لم يفحص في الموضوعات؛ إذ المفهوم منها الجاهل الذي لا طريق له لإزالة جهله، نظير رفع الاضطرار والنسيان، حيث إن المنساق منهما ما لم يكونا بسوء الاختيار.

والحاصل: إن الظاهر من دليل الرفع هو ما كان من غير اختيار ولا يمكن إزالته، لا مطلق الجهل، فالمعنى رُفع الجهل الذي لا يكون اختيارياً - ولو استمراراً - .

وأشكل عليه: بأنه لا انصراف، ولذا لم يفهمه مشهور المتأخرين، وعهدة الانصراف على مدعيه، هذا فضلاً عن أن أدلة البراءة غير منحصرة في دليل الرفع.

الدليل الخامس: العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في موارد الشبهات الموضوعية، وحتى لو لم يكن للمكلّف علم إجمالي فإن إجازة المولى له ذلك تضييع لأحكامه وأغراضه!

ويرد على الشق الأول: أنّ متعلق العلم الإجمالي إن كان شخص المكلف فالدليل أخص من المدعى، حيث لا علم للمكلف إجمالاً في كثير من القضايا، وإن كان متعلقه نوع المكلفين فلا تنجيز لهذا العلم كواجدي المني في الثوب المشترك.

وعلى الشق الثاني: بأنه قد تكون للمولى مصلحة أهم كمصلحة التسهيل، ولذا اتفقوا على عدم لزوم الفحص في النجاسة وفي حرمة الأطعمة غير اللحوم وغيرهما.

القول الثاني: عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية وجواز إجراء

ص: 207

البراءة قبله، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إطلاقات أدلة البراءة مع عدم وجود مقيّد لها.

لكن لا يبعد انصرافها إلى ما لم يكن الجهل - حتى الاستمراري منه - بسبب المكلّف نفسه.

الدليل الثاني: الروايات الواردة في موارد خاصة، والتي يمكن الاستدلال بعمومها لكل الشبهات الموضوعية، إما بعموم الوارد حيث إن خصوصية المورد لا تخصصه، وإما بعموم العلة المذكورة فيها، وإما بالأولوية باعتبار أنها أهم من سائر الشبهات الموضوعية، وإما بإلغاء الخصوصية حينما نلاحظ مجموعها على كثرتها وكثرة مواردها، ففي الحديث: «قلت: إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجاً، ففتشت عن ذلك، فوجدت لها زوجاً! قال (علیه السلام) : ولِمَ فتشت؟»(1)، وفي حديث آخر عن مسعدة بن صدقة قال: «سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين غير ذلك أو تقوم به البينة»(2)

فقوله (علیه السلام) : «تعلم» و«تستبين» و«حتى تقوم به البينة» ظاهرة في العلم الاتفاقي والاستبانة الاتفاقية وقيام البينة اتفاقاً، والروايات كثيرة.

ص: 208


1- تهذيب الأحكام 7: 253؛ وسائل الشيعة 21: 31.
2- الكافي 5: 314؛ وسائل الشيعة 17: 89.

ويرد عليه: أن أكثرها إنما هي في موارد توجد فيها الأمارة الشرعية أو أصل حاكم، كاليد والسوق أو تصديق الإنسان على نفسه، وليس كلامنا هناك، كما أن بعضها خاصة بالطهارة والنجاسة أو حلية الطعام وحرمته ولا كلام فيهما.

التفصيلات

ثم إن هاهنا تفصيلات نذكر بعضها:

1- منها: التفصيل بين ما أوجب عدم الفحص مخالفة الواقع كثيراً وبين ما لا يوجبه، ففي مثل الزكاة والاستطاعة ترك الفحص يوجبها فيجب.

وأورد عليه: إن هذا العلم إن كان متعلقه شخص المكلّف فلا فرق فيه بين الكثير والقليل ولا بين التدريجي والدفعي، اللهم إلاّ أن يراد إدخال القليل في الشبهة غير المحصورة، وإن كان متعلقه نوع المكلفين فلا تنجيز لهكذا علم إجمالي، كما أن الشارع قد يجيز الاقتحام لمصلحة أهم كالتسهيل، إلاّ أن يراد به انصراف دليل البراءة عن مثله، كما مرّ.

2- ومنها: ما عن المحقق النائيني: من «أن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو في ما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة، بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر إلى تلك المقدمات، فإن في مثل هذا يجب النظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة - وجوبية كانت أو تحريميّة - إلاّ بعد النظر في المقدمات الحاصلة؛ لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها»(1).

ص: 209


1- فوائد الأصول 4: 302.

وحاصله: أن مقدمات العلم إن لم تكن حاصلة لم يجب تحصيلها، وإن كانت حاصلة وجب النظر فيها، نظير من يحتاج إلى رفع رأسه والنظر في الأفق ليرى طلوع الفجر مثلاً فهذا لا يسمى فحصاً.

وأورد عليه: بأن الحكم لا يدور حول كلمة (الفحص) لأنها لم ترد في النصوص، بل ما ورد فيها: «الشك» و«الجهل» و«عدم العلم»، ولا فرق فيها بين تسمية تحصيل العلم فحصاً أو عدم تسميته به، اللهم إلاّ لو أراد الانصراف.

3- ومنها: ما في المنتقى(1)

واحتمل كونه مقصود المحقق النائيني: من أنه لو كان الموضوع في ظرفه المناسب له واضحاً - وجوداً أو عدماً - بحيث يظهر ذلك للعموم إن طلبوه في ظرفه المناسب سواء احتجاج إلى الفحص أم لا، فلا تجري البراءة، وإلاّ جرت؛ وذلك لأن الشيء إن كان في ظرفه المناسب بيّناً صدق عليه أنه (معلوم)، فالغاية المأخوذة في البراءة متحققة؛ إذ العلم فيها عرفي لا دقي، فمع احتمال وجود المعلوم العرفي وتحقق الغاية لا يصح التمسك بدليل البراءة فإنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأورد عليه: أن الدليل لم يذكر أن الغاية كونه معلوماً، بل جعل الغاية العلم، وظاهره العلم الشخصي، ولا فرق في عدم العلم بين كون الشيء في ظرفه واضحاً وعدمه.

4- ومنها: عدم وجوب الفحص في الشبهات الوجوبية إلاّ إذا توقف امتثال التكليف - غالباً - على الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف من

ص: 210


1- منتقى الأصول 5: 338-339.

الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلاّ بالفحص عنه، فيمكن دعوى الملازمة العرفية بين تشريعه وبين إيجاب الفحص عنه، وإلاّ كان تشريعه مستهجناً.

وهو كذلك، إلاّ أن الكلام سيكون في الصغريات.

5- ومنها: عدم وجوب الفحص إن كان الوجوب مولوياً، وأما إن كان الوجوب عقلياً بأن كان إرشاداً إلى وجود الضرر ونحوه فلا ترفعه البراءة إلا بعد الفحص، كما لو كان وجوب تقليد الأعلم عقلياً، فمع العلم باختلاف الفقهاء والشك في أعلمية أحدهما فلا تدل أدلة وجوب البراءة على عدم لزوم الفحص عنه.

وأورد عليه: إن حكم العقل إنما هو لحفظ أحكام المولى، فهو معلّق على عدم وجود المؤمِّن من المولى ويكفي في المؤمِّن إطلاقات أدلة البراءة، وعليه فينتفي الحكم العقلي بانتفاء موضوعه.

وأمّا عدم جريان أدلة البراءة في الأعلمية لكونها أصلاً مثبتاً حيث إن أصالة عدم وجوب الفحص لا تثبت حجية قول أحدهما، فيكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

المبحث الثالث: في مقدار الفحص

وغير خفي عدم حجية الظن فلا يكفي الفحص إلى حدّ ظن عدم العثور على الدليل، كما أن أوامر التفقه والتعلّم ونحوها دليل لزوم العلم بعدم العثور على الدليل، إلاّ أن الاطمئنان كافٍ في أمثاله لأنه علم عرفاً وإن لم يكن كذلك دقة، وهذا ليس من تسامح العرف في المصداق لكي يقال: بأنه

ص: 211

غير معتبر، بل هو من التوسيع في المفهوم.

ثم إنه يكفي الاطمئنان بعدم العثور على الدليل ولا يشترط الاطمئنان بعدم وجود الدليل أصلاً؛ وذلك لبناء العقلاء وسيرة الفقهاء، ولذا لو كان العثور على الدليل ميؤوساً منه سقط لزوم الفحص وجرت إطلاقات أدلة البراءة.

وغير خفي أن حصول الاطمئنان بعدم وجود الدليل أو بعدم العثور عليه في هذا العصر سهل عادة؛ وذلك لوجود المجاميع الحديثية التي جمعت أحاديث كل موضوع في باب معلوم كما أن الكتب الفقهية المفصلة لم تغادر دليلاً أو ما استدل به إلاّ ذكرته.

المبحث الرابع: آثار البراءة قبل الفحص

اشارة

والكلام في مقامين: استحقاق العقاب لو ظهرت المخالفة، وصحة العمل أو فساده.

المقام الأول: في استحقاق العقوبة
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في أصل استحقاقه

لا إشكال في استحقاق العقاب إن وجب الفحص فلم يفحص وأجرى البراءة ووقع في مخالفة الواقع؛ وذلك لتنجز التكليف مع عدم وجود مؤمِّن لا شرعاً ولا عقلاً.

وهذا العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك الفحص؛ إذ في البراءة العقلية وجود البيان في معرض الوصول ينجِّز التكليف فتشتغل الذمة بالواقع

ص: 212

فيكون العقاب على مخالفته، كما أن في البراءة الشرعية لا معذّر عن المخالفة قبل الفحص فيكون المراد من الفحص إدراك الواقع، وأما أخبار التفقه والتعلّم ونحوهما فهي ظاهرة في الوجوب الغيري المقدمي أي وجوبها إنما هو لإدراك الواقع لا لموضوعية فيها، وفي بعض الأحاديث التصريح بذلك كقوله (علیه السلام) : «أفلا تعلّمت حتى تعمل»(1).

وحتى لو قلنا بأنها ظاهرة في الإرشاد فإن الإرشاد إخبار وليس هو إنشاءً كي تتحقق له مخالفة ليستحق العقاب بسببها، وعليه فتكون إرشاداً إلى وجود تكليف محتمل ومنجّز على فرض وجوده.

بل لو قيل بأن الأخبار أوامر مولوية فإن ظهورها حينئذٍ في الأمر الطريقي بداعي إدراك الواقع كأوامر الاحتياط، لا أنها أوامر نفسيّة - سواء استقلالية أم تهيّئية - .

والحاصل: أنه لا عقوبة على ترك الفحص. نعم، قد يكون تركه تجرياً، فالاستحقاق من جهته، لا من جهة ترك الفحص، فتأمل.

ثم إنه يشكل بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: على العقاب بأنّه كيف يعاقب على مخالفة الواقع في ما لو كان ترك التعلم من المقدمات المفوتة في الواجب المضيّق أو في الموسع الذي يغفل عنه في وقته إذا ترك التعلم قبله، حيث لا وجوب نفسي للتعلّم ولا وجوب للواجب قبل وقته أو حين الغفلة عنه في وقته فلا تجب مقدمته - التي هي التعلم - قبل الوقت.

ص: 213


1- أمالي المفيد: 288؛ بحار الأنوار 1: 178.

والجواب: هو ما مرّ في بحث المقدمة المفوّتة إما بفعلية وجوب الواجب قبل وقته عبر الالتزام بالواجب المعلّق أو الواجب المشروط بالشرط المتأخر، وإما لوجوب حفظ أغراض المولى، وقد مرّ تفصيله.

الإشكال الثاني: على من التزم بوجوب التعلم بالوجوب النفسي التهيئي: بأن كون تلك الأخبار دالة على الوجوب النفسي يقتضي عدم دلالتها على الوجوب الطريقي في ما إذا لم يكن التعلم مقدمة أو كان مقدمة ولم تكن مفوتة، لعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فلا عقاب على تركه لعدم دلالة أخبار التعلّم ولا على ترك الواقع لعدم تنجزه!

وفيه: مع قطع النظر عن المبنى في استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أنه لا محذور في إنشاء الجامع بين الوجوبين، كما أن فرض عدم كون التعلم مقدمة مفوتة مشكل، فتأمل.

المطلب الثاني: في عموم استحقاقه

فلو ترك الفحص وخالف الواقع، فهل استحقاق العقاب على ترك الواقع مطلق، أم أنه خاص بما لو كان يصل إلى الواقع لو فحص؟

الأقرب هو الثاني؛ وذلك لعدم تنجز الواقع الذي لا يمكن الوصول إليه، فإن كون التكليف في معرض الوصول شرط عقلاً في تنجزه، وليس هذا التكليف هكذا في مفروض البحث.

وقد يقال(1): إن عدم تنجز التكليف لعدم الموجب له؛ وذلك لأن سبب وجوب الفحص إما العلم الإجمالي، أو نصوص وجوب التعلم، أو الملازمة

ص: 214


1- منتقى الأصول 5: 362.

عرفاً بين التشريع وبين وجوب الفحص عنه، أو عدم إمكان التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان من غير فحص.

فأما الأول: فمتعلق العلم الإجمالي هو الأحكام التي لو فحص عنها لعثر عليها، والمفروض هو عدم العثور مع البحث، وعليه فلا تكون تلك الأحكام طرفاً للعلم الإجمالي فلا تكون منجزة عليه، كما لو سقطت نجاسة في أحد الإنائين فارتكب أحدهما ولم يكن هو النجس وتبيّن أنه مغصوب واقعاً فلم تكن الحرمة لأجل الغصب منجزة عليه ولم يرتكب النجس فلا عقوبة عليه لأجل مخالفة الواقع.

وفيه: أن وجوب الاحتياط إنما هو لأجل إدراك الواقع فتكون جميع الأحكام الواقعية منجزة عليه وإنما ينحل العلم الإجمالي بالظفر بتلك الأحكام أو بالظفر بمقدار من الأحكام يحتمل انطباقها على المعلوم إجمالاً كما مرّ، وعليه فادعاء عدم تنجز الأحكام التي لو كان يفحص عنها لم يصل إليها مصادرة، وأما في المثال فلا يبعد تنجز حرمة الغصب عليه للزوم الاحتياط عليه عقلاً فلا يكون معذوراً لو خالف وصادف واقعاً لم يكن يعلمه لأنه أقدم على شيء لم يجز عليه الإقدام عليه.

والحاصل: أن مستند وجوب الفحص إن كان العلم الإجمالي فلا محذور عقلاً في استحقاقه العقاب على مخالفة ذلك الواقع، إلاّ أن الكلام في المبنى وقد مرّ، فتأمل.

وأما الثاني: فقد مرّ أن أخبار التعلم إرشادية أو غيرية أو طريقية، وحيث إنه لا يمكن الوصول إلى الحكم الواقعي عبر التعلم فيكون من باب السالبة

ص: 215

بانتفاء الموضوع.

وأما الثالث والرابع: فإن مرجع الملازمة المذكورة هو تقييد أدلة البراءة الشرعية، فلا حكم ظاهري قبل الفحص، وهذا لا ينافي وجود العذر العقلي بقبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ الحكم الواقعي لم يكن في معرض الوصول واقعاً فيقبح العقاب لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن المعلوم أن عدم وجود المؤمِّن قبل الفحص لا يصنع البيان حتى ينتفي موضوع القاعدة.

المقام الثاني: في الحكم الوضعي
اشارة

لو ترك الفحص فإما يؤدي ذلك إلى مخالفة الواقع أم لا، وعلى كل تقدير إما ذلك في العبادات أو في المعاملات.

أما لو أدّى إلى مخالفة الواقع فلا إشكال في بطلان العمل ولزوم الإعادة، لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به ولا إجزاء مطلقاً حتى لو قلنا بالإجزاء في موافقة الحكم الظاهري؛ وذلك لعدم وجود حكم ظاهري هنا، ومن ذلك ما لو لم تأتِّ منه قصد القربة في العبادات بأن كان متردداً وقلنا بعدم صحة نيته حينئذٍ وقد مرّ بحثه.

وأما لو وافق الواقع فلا إشكال في صحة عمله حتى في العباديات مع تأتّي قصد القرب منه، وقلنا بعدم ضرر التردد حين العمل بها.

فرع: في الجاهل بالقصر والجهر والإخفات

دل الدليل الخاص على أن الجاهل بحكم القصر في السفر لو صلّى تماماً كانت صلاته صحيحة، وهكذا الجاهل بحكم الجهر والإخفات لو أتى بأحدهما مكان الآخر، حتى لو كان جهله عن تقصير، وقد نسب إلى

ص: 216

المشهور قولهم باستحقاقه العقوبة على تركه القصر والجهر أو الإخفات.

ولا بد من دفع إشكالات ذكرت:

منها: أن هذه الصلاة غير مأمور بها وقد صارت سبباً لفوات المأمور به، فكيف تكون صحيحة وتامة؟

ومنها: كيف يستحق العقاب ولا تصح الإعادة قصراً مع بقاء الوقت وإمكان الإعادة، مع أنه لا عقاب إلاّ على ترك الواجب في تمام الوقت.

وقد أجيب عن الإشكالين بأجوبة، منها:

الجواب الأول: إنه وإن كان مكلفاً بالواقع لكن ينقطع تكليفه به عند الغفلة لقبح تكليف الغافل لعجزه، وحيث كان العجز بسوء اختياره صحت عقوبته على ترك الواقع.

وفيه: أن هذا يصحح العقاب على ترك الواقع، ولا يصحح العمل المأتي به مع عدم كونه مأموراً به، ثم إنه لا يصحح العقاب مع بقاء الوقت للتدارك.

الجواب الثاني: إن الجاهل بالقصر مأمور بالتمام، فإن تكليف العالم القصر وتكليف الجاهل التمام.

ويرد عليه: عدم إمكان أخذ العلم والجهل بالحكم في موضوع ذلك الحكم كما مرّ، مضافاً إلى استلزامه عدم العقاب على ترك ما جهله، كما أن الفقهاء لم يلتزموا به، بل ظاهرهم وجوب القصر مطلقاً مع الحكم بصحة التمام في الجاهل وعدم معذوريته.

الجواب الثالث: إن التمام وإن لم يكن مأموراً به لكنه مسقط للقصر المأمور به وذلك لتحقق الغرض، ولا إشكال في سقوط المأمور به حينئذٍ،

ص: 217

وأما العقاب فلأن للمأمور به مزية ملزمة، قد فاتت مع عدم إمكان تداركها، كما لو أمر المولى عبده بالإتيان بالماء البارد ليرتوي فأتاه بالماء الحار فارتوى به فقد سقط التكليف لتحقق الغرض مع استحقاق العبد للعقوبة.

الجواب الرابع: القول بالترتب، فقد تعلق الأمر بالتمام مترتباً على عصيان الأمر بالقصر، مع استحقاقه العقاب لترك الأهم من غير عذر.

وأورد عليه: - مع قطع النظر عن المبنى في الترتب - أن هذا ليس من مصاديق الترتب لإشكالات، منها:

الإشكال الأول: ما في نهاية الدراية: من أن «العصيان المنوط به الأمر بالإتمام إما بترك القصر في تمام الوقت أو بامتناع تحصيل الغرض منه، والمفروض بقاء الوقت، كما أن المفروض عدم امتناع الملاك إلاّ بوجود الإتمام بالتمام حتى يترتب عليه المصلحة التي لا يبقى معها مجال لاستيفاء بقية المصلحة المترتبة على فعل القصر، فلا أمر بالإتمام مقارناً لفعله المقارن لعصيان الأمر بالقصر بأحد الوجهين»(1).

وحاصله: أن تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم إنما يصح إذا لم يكن عصيان الأهم بنفس إتيان المهم، وإلاّ فالأمر بالمهم غير معقول لأنه طلب الحاصل، وهنا كذلك؛ لأن عصيان الأمر بالقصر وفوات إمكان امتثاله إنما يحصل باستيفاء مصلحته عبر فعل التمام، وعليه فيلزم من تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر تعليق الأمر بالتمام على فعل التمام فيكون طلباً للحاصل.

ص: 218


1- نهاية الدراية 4: 430.

وفيه: أنه يصح في الأمر الترتبي علم المولى بعصيان العبد للأهم حتى قبل تحقق العصيان بأن يناط الأمر بالمهم على العصيان بنحو الشرط المتقدم أو يناط باتصاف المكلّف بلحوق العصيان أو يناط بالترك لا بالعصيان، وقد مرّ تفصيله في بحث الترتب.

فتحصل أنه لا محذور في صحة التمام على نحو الترتب لو قلنا بإمكانه.

الإشكال الثاني: ما في الفوائد: من «أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون كل من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك، ويكون المانع عن تعلّق الأمر بكل منهما هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال لما بين المتعلقين من التضاد، والمقام لا يكون من هذا القبيل؛ لعدم ثبوت الملاك في كل من القصر والتمام، وإلاّ لتعلّق الأمر بكل منهما لإمكان الجمع بينهما، وليسا كالضدين اللذين لا يمكن الجمع بينهما، فعدم تعلّق الأمر بكل منهما يكون كاشفاً قطعياً عن عدم قيام الملاك فيهما»(1).

وفيه: إن الدليل الدال على الأمر بالتمام حين الجهل بالقصر كاشف عن كون مصلحة التمام إنّما هي في حالة الجهل فقط مع وجود المصلحة والأمر بالقصر أيضاً لإطلاق أمره، وبذلك يتحقق موضوع الترتب في ظرف الجهل.

الإشكال الثالث: ما في الفوائد أيضاً: «إنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهم، وفي المقام لا يمكن

ص: 219


1- فوائد الأصول 4: 293.

ذلك؛ إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي فإنه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ولا تصح منه الصلاة التامة»(1).

وحاصله: أن تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر يستلزم عدم فعلية الأمر بالتمام.

وفيه: ما مرّ من أن الحكم بالمهم غير منوط بعصيان الأمر بالأهم فحسب، بل بالأعم منه ومن الترك، مضافاً إلى عدم لزوم خطابه بالعاصي، بل يكفي إناطة الحكم الواقعي بالعاصي مع وجود الداعي للمكلف بالإتيان بالصلاة تماماً، وبعبارة أخرى: يصح كون موضوع الأمر شيئاً يغفل عنه المكلف مع تحقق ذلك الموضوع واقعاً ووجود الداعي لامتثال الحكم ولو توهمه بوجود أمر آخر.

الجواب الخامس: إنه لا دليل على العقاب على ترك القصر؛ إذ حكم الشارع بصحة التمام وعدم لزوم الإعادة في الوقت يكشف عن إدراك تمام مصلحة الواقع وعدم فوات أية مزية، ولولا ذلك لكان التمام مبغوضاً لكونه مفوتاً لمزية لازمة فلا يعقل كونه مقرباً وصحيحاً، فتأمل.

تكملة: في شروط أخرى لجريان البراءة

من شرائط جريان البراءة عدم وجود أصل حاكم عليها، سواء كان أصلاً ينقّح الموضوع أم أصلاً حكمياً رافعاً لموضوعها، فإن جريانها متوقف على ثبوت موضوعها، ومع ارتفاع الموضوع لا مجال للمحمول.

ص: 220


1- فوائد الأصول 4: 293.

1- أما الأصل الموضوعي، فقد يمنع جريان البراءة وذلك بزوال الشك تعبداً وبكونه بياناً فيرتفع الشك وعدم البيان، فلا يبقى موضوع للبراءة الشرعية أو العقلية، ومن أمثلته حكم اللحوم بالتذكية سواء في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

أما الحكمية: ففي الحيوان المشكوك قبوله للتذكية يجري استصحاب عدمها، وحكم غير المذكى الحرمة فلا مجال للبراءة، وأما في الحيوان المعلوم قبوله للتذكية مع الشك في حليته وحرمته فلا أصل موضوعي مانع عن البراءة فتجري.

وأما الموضوعية: كما في لحم حلال اللحم المشكوك تذكيته فاستصحاب عدم التذكية يمنع جريان البراءة، أما لو كان حلال اللحم لكن شك في قابليته للتذكية بالعرض كآكل النجاسات غير العذرة فاستصحاب قبوله التذكية جارٍ فتجري أصالة البراءة.

2- وأما الأصل الحكمي الرافع لموضوعها فيمنع جريانها لعدم تحقق موضوعها، كما لو جرى استصحاب حكم إلزامي فلا مجال للبراءة...

أما العقلية فموضوعها اللابيان، والاستصحاب بيان فيكون وارداً، وأما الشرعية فلأن الاستصحاب أصل سببي وهي أصل مسببّي؛ لأن سبب الشك في الحلية اللاحقة هو الشك في بقاء الحرمة السابقة، ولا شك مع بقائها بالاستصحاب، أو لغير ذلك ممّا سيأتي بحثه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ثم إنه قد اشترط الفاضل التوني(1) في إجراء البراءة شرطين آخرين:

ص: 221


1- الوافية في أصول الفقه: 193.

الشرط الأول: أن لا يكون مستلزماً لإثبات حكم إلزامي في ذمة المكلف، كما لو أجرى أصالة البراءة عن الدَين وكان لازمه وجوب الحج عليه لاستطاعته حينئذٍ؛ وذلك لأنه لا امتنان في رفع تكليف يوجب ثبوت تكليف آخر وقد يكون أكثر مشقة من المرفوع!

وفيه: أولاً: أنه يكفي في صحة جريان البراءة وجود الامتنان في المجرى ولا يلزم وجوده في المآل، فرفع الحكم فيه مِنّة حتى لو كان بالمآل يثبت تكليفاً آخر، وبعبارة أخرى: لا ظهور لأدلة البراءة إلاّ في المنة في مجراها.

وثانياً: إن ثبوت الحكم الآخر قد يكون لزوال المانع وقد يكون لتنقيح موضوعه.

والأول في ما كان الحكم الآخر ثابتاً بدليله الخاص به، وإنما يزاحمه حكم آخر فيمنع عن فعليته، فلا محذور من جريان البراءة في الحكم الآخر لإطلاق دليلها وهو لا يثبت الحكم الأول كي ينافي الامتنان، وإنما يرفع مزاحمه، وفي الفوائد(1) تعليله بأن المزاحمة إنما هي في مرحلة التنجّز وهو يتوقف على الإحراز، وأصالة البراءة تمنع عن تنجز الحكم الثابت في موردها فيترتب الحكم الآخر، فمثلاً يكفي في تنجز وجوب الصلاة نفي وجوب الإزالة عن مشكوك النجاسة في المسجد؛ لأن المفروض أنه لا مانع عن وجوب الصلاة إلاّ تنجز وجوب الإزالة، وأصالة البراءة تمنع عن تنجزه.

والثاني في ما لو رفعت أصالة البراءة حكماً، وبرفعه يُنقّح موضوع حكم

ص: 222


1- فوائد الأصول 4: 303.

آخر، فيجري ذلك الحكم لثبوت موضوعه، وليس في ذلك مخالفة للامتنان أصلاً.

نعم، لو كان موضوع الحكم الآخر هو ثبوت الحكم الأول واقعاً فلا ينقّح موضوعه لأنّ أصالة البراءة لا تثبت إلا الحكم الظاهري.

الشرط الثاني: عدم كون البراءة ضرراً على الآخرين، كما لو كان تغيير مجرى النهر سبباً لموت أشجار الناس؛ وذلك إما لعدم المِنّة في رفع حكم يوجب ضرراً على الناس، لأن المِنّة تلاحظ بمجموع الناس، وإمّا لانصراف دليل البراءة عن مثله.

وأشكل عليه: بأن جريان جميع الأصول متوقف على عدم وجود الأدلة الاجتهادية، وأدلة نفي الضرر أدلة اجتهادية واردة على أصالة البراءة فلا وجه لأخذ عدمها شرطاً فيها.

ص: 223

ص: 224

المقصد العاشر في أصالة الاحتياط

اشارة

ص: 225

ص: 226

مع العلم بالتكليف والشك في المكلّف به، قد يدور الأمر بين المتباينين، وقد يدور بين الأقل والأكثر، فالكلام في فصول.

ص: 227

فصل في الدوران بين المتباينين

اشارة

ولا فرق في ذلك بين الشبهة الحكمية كما لو دار الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة، وبين الشبهة الموضوعية كما لو دارت القبلة بين الجوانب الأربع في الصلاة، وهنا مبحثان:

المبحث الأول: في الشبهة المحصورة

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: حرمة المخالفة القطعية

أي: تنجيز العلم الإجمالي باعتبارها، فلا يجوز اقتحام كل الأطراف في التحريميّة، ولا ارتكاب كلها في الوجوبية.

وقد يقال: بجوازها، ويستدل لذلك: بأن قبح المخالفة القطعية عقلاً منحصر بالمخالفة العملية في التكليف المعلوم تفصيلاً، فإنها معصية، لا مطلق المخالفة، حيث لا قبح لمخالفة الجاهل القاصر، كما لا قبح للعلم بالمخالفة، مثلاً لو ارتكب شيئاً بالاستصحاب الشرعي فلا مانع له من التحقيق بعد ذلك فقد يعلم بأنه ارتكب مخالفة لكن تحصيل هذا العلم ليس بحرام، هذه الكبرى!

وفي ما نحن فيه: اقتحام الطرف الأول ليس بمخالفة معلومة، ثم اقتحام الطرف الثاني كذلك. نعم، بعد ارتكابهما يعلم بالمخالفة، لكن لا محذور

ص: 228

فيه كما ذكرنا، وهذه الصغرى!

ويرد عليه: بأنه لا فرق في تحقق المخالفة المعلومة بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، ففي المعلوم الإجمالي التكليف واصل لأنه مبيّن بصغراه وكبراه.

نعم، لو أراد من المخالفة المعلومة: المتميزة تفصيلاً فالكبرى محلّ إشكال؛ إذ لا فرق عقلاً بين المتميّز تفصيلاً وغير المتميّز كذلك إذا كان معلوماً بالإجمال.

المطلب الثاني: وجوب الموافقة القطعيّة

ودليله: أن متعلق العلم الإجمالي هو الجامع بين الفردين أو الأفراد، وهذا الجامع معلوم تفصيلي وقد اشتغلت الذمة بفعله في الوجوبية وبتركه في التحريميّة، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالاحتياط في كل الأطراف.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الجامع الذي تعلق العلم به يتحقق بأحد الطرفين؛ لأن الجامع هو عنوان (أحدهما)، وهذا ينطبق على ما لو فعل أحدهما في الشبهة الوجوبية، أو ترك أحدهما في الشبهة التحريميّة!

والجواب: أن هذا إنما يصح إذا كان عنوان (أحدهما) متعلق التكليف واقعاً حيث إن اجتناب أحد الفردين أو ارتكاب أحدهما امتثال للتكليف المتعلق بالطبيعة، أي في ما لا تعيّن له ثبوتاً.

وليس ما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ الجامع عنواني غير متعيّن إثباتاً مع

ص: 229

تعيّنه ثبوتاً، فالتكليف واقعاً متعلق بالصلاة باتجاه القبلة وباجتناب المتنجس واقعاً، وحيث إن الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية لا المعلومة يحكم العقل بلزم امتثال التكليف الواقعي حتى لو استلزم ارتكاب كل الأطراف أو تركها كلها حيث إن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وبذلك ثبت اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أيضاً.

الإشكال الثاني: إن متعلق العلم الإجمالي ليس هو الجامع، بل إما الفرد المردد أو الواقع!

ولتوضيح ذلك لا بد من بيان الأقوال في حقيقة العلم الإجمالي وفرقه عن العلم التفصيلي، وإن كان قد مرّ شطر من البحث سابقاً، فنقول: الأقوال ثلاثة:

القول الأول: إنه علم بالفرد المردّد؛ لأنّ حقيقة العلم التفصيلي والإجمالي واحدة إلاّ أن الفرق في المتعلّق، حيث إنه الفرد المعيّن في التفصيلي، والفرد المردَّد في الإجمالي.

وأشكل عليه: باستحالة الفرد المردد خارجاً وذهناً، فلا يتعلق العلم به، كما لا يكون متعلقاً للتكليف!

قال المحقق الإصفهاني: «إن المردد بما هو مردد لا ثبوت له ذاتاً ووجوداً وماهية وهوية، فلا يعقل تقوّم العلم الإجمالي به، مع بداهة أن العلم المطلق لا يوجد، كما أن وجوده في أفق النفس وتعلّقه بالخارج عن أفق النفس غير معقول، بل المقوّم لهذه الصفة الجزئية لا بد من أن يكون في أفقها، فهو المعلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض، وعليه فمتعلق

ص: 230

العلم الحاضر بنفس هذا الحضور في النفس!»(1).

وحاصله: أن العلم إما لا متعلق له، وهذا محال؛ لأن العلم في الممكنات من الصفات الحقيقية ذات الإضافة فلا بد من تعلقه بالمعلوم، وإما كون المتعلق في الخارج بالذات، وهذا محال أيضاً؛ لأن العلم يتعلق بالصورة الذهنية أولاً وبالذات، ولذا أمكن الجهل المركب حيث إنه تعلق بالصورة الذهنية مع عدم وجود شيء في الخارج، وإنما تعلقه بالخارج بالعرض حيث إن الصورة الذهنية مرآة له، هذا مضافاً إلى أن متعلق العلم لو كان الخارج لم يكن إجمالياً؛ لأن ما في الخارج معيّن لا تردد فيه، فلم يبق إلاّ أن يكون متعلق العلم الصورة الذهنية أولاً وبالذات، وهذه الصورة موجودة فتكون معينّة؛ لأن الوجود لا يكون إلاّ مع التشخّص!

وبذلك ثبت استحالة تعلق العلم بالفرد المردد.

القول الثاني: إنه علم بالجامع - وهو عنوان أحدهما - وشك في الأطراف أي في الخصوصيات الفردية، وكلّما زادت الأطراف تعدد الشك، فليس الفرق في العلم وإنما هو علم مزج بشك.

واستدل له: ببرهان السبر والتقسيم؛ إذ مرّ بطلان عدم وجود المتعلق للعلم، كما أنه ليس الفرد المردد لاستحالته، وليس الفرد بتشخصه وإلاّ لزم انقلاب الإجمالي إلى التفصيلي، فلم يبق إلاّ تعلّق العلم بالجامع.

وأشكل عليه المحقق العراقي(2) بما حاصله: أن الجامع لا ينطبق إلاّ على

ص: 231


1- نهاية الدراية 4: 236-237.
2- نهاية الأفكار 3: 299.

جزء الفرد وهو الجهة المشتركة، ولا ينطبق على الخصوصيات الفردية المشخصة له، فمثل (الإنسان) ينطبق على (زيد) باعتبار تلك الجهة لا بلحاظ الخصوصيات الفردية فيه، وليس من ذلك عنوان (أحدهما) فإنه ينطبق على الفرد بكل خصوصياته الفردية لو انكشف الغطاء عبر العلم التفصيلي، فلا يكون جامعاً، وبعبارة أخرى: انطباق مثل (الإنسان) على (زيد) إنما هو انطباق جزء الجزئي عليه، لكن انطباق أحدهما على الفرد هو انطباقه على كل الجزئي.

وفيه: أن الجامع الحقيقي لا يكون إلاّ كذلك، وأما الجامع العنواني فيمكن انطباقه على الفرد بتمامه كعنوان الشخص والفرد والمصداق ونحوها؛ لأن هذه المفاهيم تنتزع من كل فرد لا باعتبار الجهة المشتركة فلذا انطبقت على الفرد بتمامه!

القول الثالث: إنه علم بالواقع، فيكون الفرق بين التفصيلي والإجمالي في العلم نفسه، عكس القولين الأولين؛ وذلك لأنّه في العلم التفصيلي حكاية تفصيلية، وفي العلم الإجمالي حكاية إجمالية، كالشبح الذي يُرى من بعيد فالمرئي فرد غير واضح المعالم لا الجامع، فلو قيل: (جاء زيد أو عمرو) فليس ذلك خبر عن مجيء الجامع، بل خبر عن مجيء فرد معين في الواقع لكنه لم يشخّصه.

وبعبارة أخرى: كما أن الرؤية البصرية لا تتعلق بالجامع كذلك الرؤية القلبية.

وأشكل عليه(1): بأنّ العلم الإجمالي هو علم تصديقي، فليس مقوّمه

ص: 232


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 205.

مجرد وجود صورة في الذهن، بل هو حكم عليها، ففي العلم الإجمالي بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين، توجد صورتان وعلم تفصيلي، أي صورة سقوط الدم في الإناء الأول، وصورة سقوط الدم في الإناء الثاني، وعلم تفصيلي بعدم سقوطه خارجهما، وبتركيب هاتين الصورتين مع هذا العلم التفصيلي ينتزع حكم بوقوع القطرة في أحدهما، وهذا هو العلم الإجمالي المتعلق بالجامع وقابل للانطباق على الفردين، وأما رؤية الشبح ونحوه فليس علماً إجمالياً لعدم كونه تصديقاً وإنما مجرد صورة في الذهن.

وبعبارة المحقق الإصفهاني: «فلا محالة ليس المعلوم إلاّ الجامع بين الخاصين المحتملين، فهو مركب من علم واحتمالين، بل من علم تفصيلي بالوجوب ومن علم آخر بأن طرفه ما لا يخرج عن الطرفين، فالوجوب الواقعي وإن كان في الواقع متعيناً بتعلقه بالظهر مثلاً، إلاّ أنه بما هو معلوم متعيّن علماً بما لا يخرج عن الظهر والجمعة»(1).

المطلب الثالث: في جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي
اشارة

وفيه مقامات:

المقام الأول: في إمكان جريانها في جميع الأطراف

قد يقال: بعدم إمكان ذلك، ويستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن ذلك ترخيص في معصية التكليف الواصل، وذلك قبيح من غير فرق بين الواصل تفصيلاً أو إجمالاً.

وأورد عليه إشكالات، منها:

ص: 233


1- نهاية الدراية 4: 237.

الإشكال الأول: إن هذا إنما يكون في الأصول النافية لا الأصول المثبتة للتكليف، كما لو استصحب نجاسة إنائين علم بطهارة أحدهما إجمالاً، فالإشكال أخص من المدعى.

الإشكال الثاني: إن إذن المولى بجريانها يعني أن أدلة الأحكام الواقعية مقيدة بالعلم التفصيلي، وبذلك تنتفي المعصية بارتكابها، فلا يكون الترخيص ترخيصاً بالمعصية.

إن قلت: من المحال أخذ العلم بالحكم في موضوعه كما مرّ.

قلت: لا محذور في ذلك مع اختلاف الحكمين بأن كان العلم المأخوذ في الموضوع هو الإنشائي، والمتأخر عن الحكم هو الفعلي، لاختلاف رتبتهما.

لا يقال: إن ذلك يستلزم عدم اشتراك العالم والجاهل في الحكم الفعلي، وإن العلم بالإنشائي المحض لا يصيرّه فعلياً كما لو علم بأحكام الشرع كلها في أوائل البعثة، وإن محل البحث هو العلم الإجمالي بالتكليف، وليس الحكم الإنشائي تكليفاً.

لأنه يقال: إن اشتراك التكليف دليله الإجماع وهو لبيّ فيقتصر فيه على القدر المتيقن وهو الاشتراك في الحكم الإنشائي، وأنه لا محذور في كون الحكم الإنشائي على نوعين، في أحدهما يتحول إلى الفعلي بالعلم، وأن البحث ليس في نزاع لفظي، بل هو بغرض التطبيق الفقهي فيكون البحث في أن المولى لو منع عن شيء مثلاً فهل يمكنه الترخيص في كل الأطراف إذا كان هناك علم إجمالي بحيث نكتشف عبر الترخيص كون حكمه

ص: 234

إنشائياً؟

الإشكال الثالث: إنه لا تنافي بين الأحكام بما هي ومع قطع النظر عن مرحلة المنتهى أي مرحلة الامتثال؛ إذ هي في وجودها الإنشائي غير متضادة، فلا يمتنع الترخيص في ترك الواجب أو فعل الحرام إذا كان عن مصلحة.

وفيه: إن هذا لا يدفع الإشكال في مرحلة المبتدأ أي المصلحة وإرادة المولى، مضافاً إلى بقاء الإشكال في مرحلة المنتهى حيث حيرة المكلّف، فلا وجه لقطع النظر عن المرحلتين وقصره على مرحلة الحكم بما هو.

الدليل الثاني: إن ذلك يستلزم المناقضة بين حكمي المولى، أي حكمه الواقعي وترخيصه ارتكاب كل الأطراف، وذلك محال.

وأشكل عليه: أولاً: النقض بموردين:

المورد الأول: الترخيص في اقتحام الشبهات البدوية مع احتمال المخالفة للواقع، ولا فرق بين القطع بالمناقضة وبين احتمالها؛ لأن المحال لا يحتمل أصلاً، ومجرد الاحتمال دليل على عدم كونه محالاً، فلا يكون محالاً حتى مع القطع.

إن قلت: هناك فرق، حيث إنه في الشبهة البدوية لا توجد مناقضة، لا في ذات الحكمين لأنهما اعتباران ولا تنافي بين الاعتباريات، ولا في المبدأ؛ إذ الملاك في الحكم الواقعي في المتعلّق وفي الحكم الظاهري في الحكم بنفسه، ولا في المنتهى؛ إذ لزوم الامتثال عقلاً فرع وصول التكليف، وليس من المعقول وصول الحكم الظاهري والواقعي معاً؛ لأن موضوع الظاهري الشك في الحكم الواقعي فمع وصول الواقعي ينتفي موضوع

ص: 235

الظاهري.

وأما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي فالمناقضة في المنتهى متحققة حيث وصل الحكم الواقعي إلى المكلف؛ إذ يعلم بوجوب الصلاة إلى القبلة التي هي إحدى الجهات الأربع، أو يعلم بوجوب اجتناب المتنجس من الإنائين مثلاً، ولا فرق في الوصول بين العلم التفصيلي والإجمالي.

قلت: لا فرق، وما ذكر غير فارق؛ وذلك لأنه إن رفع المولى يده عن الحكم الواقعي فيجوز الاقتحام سواء في البدوية أم المحصورة، وإن لم يرفع لم يجز الاقتحام في كليهما، وحيث أجاز في البدوية علمنا أن حكمه الواقعي إنشائي بحت، فيمكن للسبب نفسه الترخيص في المحصورة.

المورد الثاني: النقض بالشبهة غير المحصورة، حيث أذن المولى في اقتحام بعض الأطراف مع استلزامه للإذن في المخالفة الاحتمالية مع عدم الفرق بينها وبين المخالفة القطعية كما مرّ.

وفيه: أن سبب عدم لزوم الاحتياط في غير المحصورة هو عناوين أخرى مفقودة في البدوية، كالضرر والحرج وخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ونحو ذلك، وهذه العناوين ترفع التكليف المعلوم بالتفصيل فضلاً عن المعلوم بالإجمال. نعم، لو كان الدليل الخاص أجاز اقتحام بعض أطرافها بعنوان أنها غير محصورة لصحّ النقض.

ثانياً: الحل بوجهين:

الوجه الأول: إن حكم العقل باستحقاق العقاب على المعصية معلّق على عدم وجود المؤمِّن، وفي ما نحن فيه أدلة الرفع تؤمِّن المكلّف؛ إذ الإناء

ص: 236

الأول مثلاً ممّا لا يُعلم نجاسته فهو مرفوع وكذلك الإناء الثاني مثلاً.

وفيه: أنه مع قيام الحجة على التكليف تكون مخالفته تمرد على المولى وهتك لحرمته وظلم على النفس، وقبح ذلك كلّه ذاتي، فلا يرتفع بشيء إلاّ برفع التكليف حيث يتبدل الموضوع.

الوجه الثاني: اشتراط فعلية الحكم بالعلم التفصيلي، فلا محذور في مخالفة الحكم غير الفعلي كما مرّ.

إن قلت: إن كلامنا في القطع الطريقي الذي لا فرق فيه بين التفصيلي والإجمالي، وهذا الاشتراط يجعله موضوعياً وليس البحث فيه.

قلت: قد مرّ أنه ليس البحث في النزاع اللفظي، بل في التطبيق الخارجي من غير فرق بين كون القطع موضوعياً أو طريقياً، فمع إطلاق الدليل نكتشف عدم المحذور الثبوتي حتى لو صار القطع بذلك موضوعياً.

فتحصل أنه لا محذور ثبوتي في الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي.

المقام الثاني: إمكان جريان الأصول العملية في بعض الأطراف

قد يقال: بالامتناع، ويستدل له: بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا تحصل هذه البراءة إلاّ بالاجتناب عن كل الأطراف في التحريميّة، والإتيان بجميع الأطراف في الوجوبية، مع عدم إمكان ترخيص الشارع لأنه ترخيص في المعصية الاحتمالية.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض بما لو كان الأصل نافياً للتكليف لبعض الأطراف دون بعض، كما لو كان أحد الإنائين معلوم النجاسة ثم سقطت

ص: 237

قطرة دم في أحدهما غير المعيّن، فحيث لا يمكن إجراء أصالة الطهارة في المعلوم النجاسة أمكن جريان استصحاب طهارة الإناء الآخر، مع العلم بالتكليف إجمالاً بأثر سقوط قطرة الدم!

وفيه: أن هذا خارج عن محل البحث لعدم وجود علم إجمالي بتكليف جديد فلا أثر للعلم الإجمالي بسقوط قطرة الدم؛ إذ الإناء الأول واجب الاجتناب للعلم بنجاسته قبل سقوطها، فبسقوطها لا يحدث علم إجمالي بوجوب اجتناب جديد؛ لأنها إن سقطت في الأول لم يحدث تكليف لكونه تحصيلاً للحاصل، وإن سقطت في الثاني حدث تكليف جديد، وحيث لا يعلم بموقع سقوطها فيحتمل حدوث تكليف فيكون شكاً في التكليف وهو مجرى البراءة.

وثانياً(1): بالنقض أيضاً بالموارد التي اكتفى الشارع فيها بالامتثال الإجمالي مع إمكان التفصيلي كقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوها، وحيث أمكن ذلك فإمكان الامتثال الإجمالي في موارد العلم الإجمالي أولى.

وأجيب(2): بأن المفرّغ الجعلي التعبدي أيضاً نوع تفريغ يقيني، وذلك بجعل أحد الأطراف بدلاً ظاهرياً عن الواقع، وليس كذلك ما نحن فيه، حيث الترخيص في بعض الأطراف من غير جعل البدل، والحاصل: أن البراءة التعبدية هي براءة يقينيّة بالحكومة.

وفيه: إنه يمكن في ما نحن فيه الذهاب إلى البراءة اليقينية التعبدية عبر

ص: 238


1- فوائد الأصول 4: 34.
2- نهاية الأفكار 3: 309.

التمسك بإطلاق حديث الرفع الكاشف عن جعل الطرف الذي لم يجر فيه الأصول بدلاً عن الواقع وذلك بدلالة الاقتضاء، أي عبر الإطلاق نكتشف الإمكان عبر جعل البدلية، وبذلك يرتفع إشكال الاستحالة، وبعبارة أخرى: إن المانع عن الإطلاق الاستحالة، وحيث أمكن رفع المحذور الثبوتي بجعل الإناء الثاني بدلاً عن الإناء المتنجس واقعاً - مثلاً - فلا وجه لرفع اليد عن ذلك الإطلاق.

لا يقال: إن ذلك دور حيث إن الإطلاق يرفع المحذور الثبوتي، مع توقف الإطلاق على رفعه.

لأنه يقال: الإطلاق يكشف عن عدم وجود المحذور الثبوتي مع توقفه عليه فلا دور كالدخان الكاشف عن النار مع توقفه عليها.

وثالثاً: ما مرّ من إمكان تقييد الفعلية بالعلم التفصيلي.

المقام الثالث: في عدم وقوع الترخيص في جميع الأطراف
اشارة

فهنا أمران:

الأمر الأول: في جريان الاستصحاب في جميع الأطراف

كما لو كان الإنائان طاهرين فسقطت قطرة دم في أحدهما وأراد استصحاب الطهارة في كليهما!

والأصح عدم جريان الاستصحاب فيها.

واستدل له: بأن جريانه فيهما يستلزم المناقضة في دليل الاستصحاب، فإن صدر الدليل «لا ينقض اليقين أبداً بالشك»(1)

له إطلاق، كما أن تمامه

ص: 239


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ وسائل الشيعة 1: 245.

«وإنما تنقضه بيقين آخر» أيضاً له إطلاق، فلو جرى الدليل في أطراف العلم الإجمالي لتناقض، وحيث لا يعقل تناقض كلام المولى فلا بد من عدم شمول الدليل لموارد العلم الإجمالي!

وأورد عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: بأن بعض أخباره ليس فيها هذه التتمة، فلا محذور في شمولها لتمام أطرافه؛ لأن إجمال دليل أو وجود محذور فيه لا يسري إلى الدليل الآخر!

وفيه: أن وجود المقيّد في دليل يكفي لتقييد الأدلة الأخرى حتى لو كانت مطلقة، وعليه فالغاية في قوله (علیه السلام) : «بل انقضه بيقين آخر» تقيّد جميع روايات الاستصحاب سواء كانت مغيّاة أم لا.

الإشكال الثاني: إن ظهور الصدر حيث اشتمل على ألف ولام الجنس مع كونه في سياق النهي أقوى من ظهور التتمة حيث إنه نكرة في مقام الإثبات فلا وضع ولا بيان من هذه الجهة فيه.

على أن شمول الصدر لليقين والشك في أطراف العلم الإجمالي يصلح قرينة على عدم إرادة اليقين الإجمالي في التتمة.

وأورد عليه: بأنه لا بد في الأقوائية من كونها عرفية وليس كذلك هاهنا، مضافاً إلى أن الدليل بصدره وتتمته لبيان قاعدة عامة فتكون للتتمة عموم كعموم الصدر من غير فرق وبذلك يثبت كون التتمة في مقام البيان أيضاً من كل الجهات، كما أنه لا وجه لجعل الصدر قرينة للتصرف في التتمة مع كونهما متصلين في كلام واحد.

ص: 240

الإشكال الثالث: إنه لا بد من اتحاد متعلق اليقين الناقض والمنقوض كي يصدق النقض، وأما مع اختلاف متعلقهما فلا نقض، ولا اتحاد في مورد العلم الإجمالي؛ لأن متعلق اليقين المنقوض هو كل واحد منهما بعينه، وأما متعلّق اليقين الناقض فهو أحدهما، وعليه فلا يكون مورد العلم الإجمالي مشمولاً للتتمة ليتناقض الدليل!

وفيه: أن الناقض وإن تعلق بعنوان (أحدهما) لكنه يشير إلى المعنون المعلوم واقعاً المجهول عندنا، وعليه فالفرد المعين واقعاً كان طاهراً يقيناً والآن صار نجساً يقيناً - مثلاً - فيكون الحكم بطهارته مناقضة، نظير ما لو قال: جاء زيد وعمرو، ثم قال: لم يجئ أحدهما، هذا مضافاً إلى أن الحكم بنجاسة أحد الإنائين في المثال هو من نقض اليقين باليقين عرفاً.

الإشكال الرابع: إن التتمة إنما هي تأكيد لما في الصدر فلا يوجد حكمان كي يتناقضا.

وفيه: أن الصدر ساكت عن نقض اليقين باليقين لعدم حجية مفهوم اللقب، وهذا ما تضمنته التتمة فلا تأكيد.

الإشكال الخامس: إن الصدر يتضمن حكماً مولوياً؛ إذ لا يحكم العقل بشيء مع تبدل اليقين بالشك، وأما التتمة فهي إرشادية؛ إذ نقض اليقين باليقين حكم عقلي فيكون جعل الحكم المولوي على طبقه تحصيلاً للحاصل، وجعل حكم على خلافه اجتماع للضدين، ويدل على ذلك عدم تعدد العقوبة لو خالف!

ويرد عليه: أن حكم العقل إنما هو في العلم التفصيلي مطلقاً، وكذا وفي

ص: 241

العلم الإجمالي إذا استلزم الترخيص مخالفة عملية قطعية، ولا حكم له في ما كان علماً إجمالياً مع مخالفة التزامية فقط، كما لو استصحب نجاسة الإنائين مع العلم بطهارة أحدهما، كما جاز إجراء الأصول في الدوران بين المحذورين مع استلزامه للمخالفة الالتزامية.

فتحصل اندفاع جميع الإشكالات عن دليل المناقضة.

الأمر الثاني: في جريان البراءة في جميع الأطراف

أما العقلية فلا تجري، لتحقق البيان الواصل من غير فرق عقلاً بين الوصول بالعلم التفصيلي أو الإجمالي.

نعم، في مورد العلم الإجمالي لا تمييز لكنه غير مشروط عقلاً.

وأما النقلية: فالروايات ثلاثة أصناف:

فمنها: ما لا تشمل أطراف العلم الإجمالي، كقوله (علیه السلام) : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1)؛ إذ قد عُلم بالحكم وبالموضوع بين الطرفين.

ومنها: ما لها عموم، كقوله (علیه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه»(2)، لكنها منصرفة عن موارد العلم الإجمالي؛ لأن العرف يرى أن شمولها لها ترخيص للمعصية، ولولا ذلك لأمكن التوصل إلى المعاصي عبر تحقيق الاشتباه.

ومنها: ما وردت في الشبهة المحصورة بالخصوص كقوله (علیه السلام) : «إذا

ص: 242


1- عوالي اللئالي 1: 424.
2- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.

اختلط الذكي بالميّت باعه ممّن يستحل الميتة ويأكل ثمنه»(1)،

إلاّ أنها تدل على خلاف البراءة، وإلاّ لجاز أكلها وبيعها حتى ممّن لا يستحل.

المقام الرابع: في وقوع الترخيص في بعض الأطراف

أما البراءة العقلية فلا تجري لتحقق البيان في النجس الواقعي بين الإنائين مثلاً، وأما الإناء الآخر فاجتنابه مقدمة علمية فيجب لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية.

وأما البراءة الشرعية والاستصحاب فلا يجريان في أحدهما المعين لكونه ترجيحاً بلا مرجّح، ولا في أحدهما غير المعيّن؛ إذ يكون جريانها مع العلم بإباحة أحدهما غير المعين تحصيلاً للحاصل، ومع الشك يكون لغواً؛ إذ يجب الاجتناب حتى مع العلم فكيف مع الشك.

وأما التخيير بأن يتخير المكلف بإجراء الأصل الترخيصي في أحد الطرفين بشرط عدم إجرائه في الطرف الآخر، نظير تزاحم الواجبين حيث يرخص في ترك أحدهما بشرط الإتيان بالآخر، فهو محل الكلام بين الأعلام.

واستدل له: بأن لمثل قوله (علیه السلام) : «كل شيء لك حلال» عموماً أفرادياً شاملاً للشبهة المحصورة، وإطلاقاً أحوالياً بمعنى حليّته سواء اقتحم الفرد الآخر أم لا.

لكن في الإطلاق الأحوالي محذور الترخيص في المعصية، فيدور الأمر بين رفع اليد عن العموم الأفرادي بعدم شمول الدليل لأطراف العلم

ص: 243


1- الكافي 6: 260؛ وسائل الشيعة 17: 99.

الإجمالي رأساً، وبين رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، والثاني أولى لأن تقييد الدليل أولى من سقوطه رأساً، بل المتعارف رفع اليد عن الإطلاق للمحاذير لا إسقاط الدليل.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إنّ استحالة الإطلاق هنا - لكونه ترخيصاً في المعصية - يستلزم استحالة التقييد، لكونهما من العدم والملكة فيحتاجان إلى المحل القابل.

وفيه: أولاً: إن الإطلاق هنا هو رفض للقيود لا جمعها، فاستحالة أحدهما يستلزم ضرورة الآخر، كاستحالة تقييد الحكم بالعلم به فيكون إطلاقه للعالم والجاهل ضرورياً، وقد مرّ تفصيله.

وثانياً: ما قيل: من أنهما وجوديان لا من العدم والملكة فتقابلهما تقابل الضدين، حيث إن امتناع أحدهما قد يستلزم ضرورة الآخر في الضدين اللذين لا ثالث لهما، وقد لا يستلزم شيئاً كما في اللذين لهما ثالث.

فقد قيل: إن الإطلاق الثبوتي هو لحاظ سريان الماهية، والتقييد هو لحاظ ضيقها، وقيل: بأنهما من تقابل السلب والإيجاب، وقد مرّ.

هذا مضافاً إلى عدم استحالة الإطلاق وقد ذكرناه في البحث الثالث.

الإشكال الثاني: إن الإباحة المشروطة بترك الآخر مخالفة قطعية للحكم الواقعي المطلق، وعدم المخالفة شرط في إجراء الأصول؛ إذ يشترط في الحكم الظاهري احتمال مطابقته للواقع، ففي المثال: حرمة الإناء النجس واقعاً مطلقة - سواء شرب الإناء الآخر أم لا - ، وحلية الإناء الطاهر واقعاً

ص: 244

مطلقة أيضاً، فالحكم بالإباحة المشروط خلاف الواقع.

وفيه: أولاً: النقص بجريان البراءة في الدوران بين المحذورين على بعض المباني.

وثانياً: بالحلّ بأن ما ذكر من احتمال المطابقة للواقع ليس شرطاً في الحكم الظاهري، بل يشترط فيه الشك بالواقع وبصلاحية الحكم الظاهري للمنجزية والمعذرية، وكلاهما موجودان في ما نحن فيه.

الإشكال الثالث: إنه لو ترك كليهما فقد تحقق شرط الترخيص فيهما، وذلك ترخيص في المعصية، وهو قبيح عقلاً.

وأجيب: أولاً: بالنقض بالواجبين المتزاحمين المتساويين في ما لو تركهما، حيث تحقق شرط وجوب كليهما فيكون أمراً بالضدين!

لا يقال: إنه بسوء اختياره وليس كذلك في ما نحن فيه!

لأنه يقال: سوء الاختيار يرفع قبح العقاب، ولا يرفع استحالة طلب الضدين.

وثانياً: بالحل بما مرّ في مباحث الترتب من أن الواجب المشروط لا ينقلب إلى واجب مطلق بعد تحقق شرطه؛ وذلك لأن شرائط التكليف من قيود الموضوع، وهو لا ينسلخ عن موضوعيته بعد وجوده خارجاً(1)،

وبعبارة أخرى: إن الحكم في مقام الجعل يكون على نحو القضية الحقيقية وهي توجد في عالم الاعتبار ولا تتغيّر، وأما في مقام المجعول فالتبدل وإن كان ممكناً كأن يصبح غير المستطيع مستطيعاً للحج إلاّ أن ذلك لا يرتبط

ص: 245


1- فوائد الأصول 1: 340.

بالحكم الإنشائي، بل بانشغال ذمة المكلّف وعدمه، وعليه فلا ترخيص في الضدين فعلاً كما لا أمر بهما فعلاً.

الإشكال الرابع: إن الحكم الواقعي واصل إلى المكلف - ولو مردداً - فكيف يمكن الترخيص في مخالفته ولو مشروطاً بترك الآخر؟! وعليه فكما لا يمكن الإطلاق لا يمكن التقييد بترك الآخر.

وفيه: الفرق بين الإطلاق والتقييد، ففي صورة التقييد يمكن جعل البدلية ثبوتاً مما يستدعي عدم رفع اليد عن عموم دليل الحلّ، ففي الشبهة التحريميّة جعل الإناء المختار للارتكاب - مثلاً - بديلاً عن الإناء الطاهر، كما يمكن الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، وكلاهما غير ممكن مع الإطلاق؛ إذ لا بديل مع الترخيص في كليهما كما أنها مخالفة قطعيّة.

الإشكال الخامس: إن التخيير مع عدم وجود دليل خاص عليه إنما يكون في موردين وكلاهما مفقود في ما نحن فيه، قال المحقق النائيني: «إن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين: أحدهما: اقتضاء الكاشف والدليل الدّال على الحكم التخيير في العمل، ثانيهما: اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك»(1).

بيانه: أنه تارة يكون دليل عاماً ونعلم بدليل مجمل خروج فردين عنه لكن لا نعلم هل خرجا على نحو الإطلاق أم التقييد، فهنا لا وجه لرفع اليد عن العموم الأفرادي، بل نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لأنه القدر

ص: 246


1- فوائد الأصول 4: 28.

المتيقن، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم استثنى زيداً وعمراً على نحو الإجمال المذكور، فهنا مقتضى الجمع بين العام والخاص والاكتفاء بالقدر المتيقن هو تقييد (أكرام زيد) في حال ترك (إكرام عمرو) وبالعكس، فهنا الدليل الكاشف اقتضى التخيير.

وتارة الدليل عام ولا يوجد دليل للتخصيص أو التقييد، وإنما عدم قدرة المكلف في الجمع بين الأفراد مع كونها ذا ملاك يقتضي التخيير، فالمنكشف - وهو الملاك - مع عدم القدرة على الجمع اقتضى التخيير عقلاً، كما في مثال إنقاذ الغريقين المتساويين.

وكلا الأمرين مفقودان في ما نحن فيه، أما الكاشف فإن دليل حجية كل أصل يقتضي جريانه عيناً، وأما المنكشف فلأن ملاك الحلية في أحدهما دون الآخر حيث نعلم بنجاسة أحدهما غير المعيّن مثلاً.

وفيه: ما ذكره المحقق العراقي(1):

بأنه يكفي دليلاً - في دلالة الكاشف عن التخيير - ملاحظة الجمع بين إطلاق دليل الحليّة لكل واحد من الفردين، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم. وحاصله: عدم الفرق بين ما نحن فيه وبين مثال (أكرم العلماء) مع تخصيصه بالمجمل - بالطريقة التي ذكرت - إذ كلاهما عام، وفي كليهما مخصص، مع دوران الأمر بين التخصيص الأفرادي أو التقييد الأحوالي.

الإشكال السادس: - وهو العمدة - استفادة الملاك أو إلغاء الخصوصية أو الأولوية من الموارد التي أمر الشارع بالاجتناب عنهما، كالروايات الدالة

ص: 247


1- فوائد الأصول 4: 31 (الهامش).

على إهراق المائين والتيمم(1)،

والروايات الدالة على غسل جميع الثوب الذي أصابه دم الرعاف أو المني وهو لا يعلم مكانه(2)،

والروايات الدالة على القرعة في قطيع الشياه لإخراج الموطوئة(3)

مع إمكان إجراء الأصل الحكمي أو الموضوعي في بعض أطرافها، بل قد يستفاد التعميم من العلة المذكورة في صحيحة زرارة حيث قال (علیه السلام) : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك»(4).

هذا مضافاً إلى انصراف أدلة البراءة عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، ومن منبهات الانصراف استنكار المتشرعة لمن تعمّد الخلط، ومع التشكيك في الانصراف يمكن ادّعاء إعراض المشهور عن عموم أدلة البراءة لأطراف الشبهة المحصورة.

المطلب الرابع: الاضطرار إلى بعض الأطراف
اشارة

لا كلام في أنه مع الاضطرار إلى بعض الأطراف يرتفع التكليف فيه، إنما البحث في ارتفاعه عن الأطراف غير المضطر إليها، فهنا حالتان: الاضطرار إلى أحدها المعين، والاضطرار إلى أحدها لا بعينه.

الحالة الأولى: الاضطرار إلى المعيّن

وفيه صور:

الصورة الأولى: كون الاضطرار قبل التكليف وقبل العلم به، كما لو اضطر

ص: 248


1- وسائل الشيعة 1: 155.
2- تهذيب الأحكام 1: 267 و 421.
3- وسائل الشيعة 24: 169.
4- علل الشرايع 2: 361؛ وسائل الشيعة 3: 402.

إلى إناء الدواء ثم سقطت قطرة دم إمّا فيه أو في إناء الماء، وفي هذه الصورة لا محذور في ارتكاب الآخر، كأن يشرب إناء الماء؛ لأن أصل التكليف غير معلوم فيكون مجرى البراءة؛ إذ الدم إن كان قد سقط في إناء الدواء فلا تكليف للاضطرار إليه، وإن كان سقط في إناء الماء تحقق تكليف، فالأمر يدور بين وجود أو عدم وجود التكليف، فيكون مجرى البراءة.

نعم، لو تحقق علم إجمالي ثانٍ وجب الاجتناب عن غير المضطر إليه، كما لو شرب الدواء فسقطت قطرات منه على جسمه، فهنا يعلم إجمالاً إما بوجوب غسل جسمه للصلاة أو وجوب اجتناب إناء الماء، فيجب عليه الاحتياط لعلمه بانشغال ذمته بتكليف مردد بين الأمرين، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

الصورة الثانية: كون الاضطرار بعد التكليف المحتمل وقبل العلم به، كما لو سقطت قطرة الدم في أحدهما، ثم اضطر إلى الدواء، ثم علم بسقوطها في أحدهما، وهذه الصورة كسابقتها في جواز ارتكاب الآخر، للدليل نفسه.

وأشكل عليه: بأن التكليف سابق على الاضطرار؛ لأن للعلم صفة الكاشفية لا الموضوعية، وعليه فقد انشغلت ذمته بتكليف ولا يعلم ارتفاعه بحدوث الاضطرار؛ لأن الدم إن كان قد سقط في الدواء فقد ارتفع التكليف، وإن كان سقط في الآخر فلم يرتفع، فالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة!، وهذا ما ذكره المحقق النائيني(1)،

إلاّ أنه عدل عنه بعد ذلك.

ص: 249


1- أجود التقريرات 3: 454.

وفيه: إنه لولا العلم لم يتنجز التكليف، وقاعدة الاشتغال اليقيني إنما تجري مع تنجزه، وفي ما نحن فيه لا علم بالتكليف المنجّز أصلاً، لا في المضطر إليه؛ إذ قبل الاضطرار الجهل مانع عن التنجّز وبعده الاضطرار بنفسه مانع، ولا في الآخر لأن الشك فيه بدوي.

إن قلت: إنه من قبيل القسم الثاني من الكلي حيث يتحقق ركني الاستصحاب في الجامع؛ لأن قطرة الدم إن كانت ساقطة في الدواء كان التكليف محدوداً إلى حين عروض الاضطرار، وإن كانت ساقطة في الآخر كان التكليف غير محدود، فيستصحب كلي وجوب الاجتناب!

قلت: لا بد في هذا الاستصحاب في التكليف من تنجز التكليف على كل حال سواء كان في الفرد المحدود أو في الفرد غير المحدود، وما نحن فيه ليس كذلك؛ إذ لو كانت القطرة ساقطة في إناء الدواء لم يكن التكليف منجزاً أصلاً لا قبل الاضطرار لعدم العلم ولا بعده لعدم التكليف في حالة الاضطرار، ولا يكون الجامع بين التكليف المنجز والتكليف غير المنجز منجزاً بعد العلم، ولا أثر للتكليف المردد بين المنجز وغير المنجز، وعليه فلا يقين سابق بالجامع لكي يستصحب.

الصورة الثالثة: أن يكون الاضطرار بعد العلم بالتكليف، كما لو سقطت قطرة الدم فعلم بذلك ثم اضطر إلى أحدهما المعيّن، ففيه قولان:

القول الأول: وجوب الاحتياط في غير المضطر إليه؛ وذلك لانشغال الذمة بالتكليف المنجّز حين علمه الإجمالي، مع عدم العلم بالبراءة عنه حين الاضطرار إلى المعيّن، كما يجري الاستصحاب أيضاً.

ص: 250

القول الثاني: عدم وجوب الاحتياط، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: ما في الكفاية من: «أن التكليف المعلوم بينهما من أول الأمر كان محدداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه في ما كان الاضطرار إلى المعين...»(1)، وحاصله: أن التكليف من أول الأمر مقيّد بعدم عروض الاضطرار.

وعليه فمع تحقق الاضطرار إلى أحد الأطراف لا يوجد علم إجمالي من أول الأمر لما بعد الاضطرار، ففي المثال لو سقطت قطرة الدم في الدواء فلا تكليف بوجوب الاجتناب لمرحلة ما بعد الاضطرار، ولو سقطت في الماء حصل تكليف، لكن سقوطه فيه غير معلوم فيكون من الشك في التكليف الذي هو مجرى البراءة.

وبعبارة أخرى - كما قيل - : إن تنجز العلم الإجمالي منوط بوجود المنجّز حدوثاً وبقاءً، وهنا لا وجود للعلم الإجمالي بعد الاضطرار، بل مجرد شبهة بدوية.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: النقض بخروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء، فإنه يجب الاجتناب عن الآخر لبقاء أثر العلم الإجمالي.

وأجيب: بالفرق، فإن التكليف ليس مقيداً بفقد الموضوع، بل له قابلية الاستمرار أبداً، لكنه مقيّد من أول الأمر بعدم الاضطرار.

ص: 251


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 228-229.

وفيه: أن الكلام ليس في مرحلة الجعل، الذي يكون الحكم قضيةً حقيقيةً لا نظر لها أصلاً في تحقق الموضوع خارجاً، بل الكلام في مرحلة المجعول وانشغال ذمة المكلف بالتكليف، ولا فرق في هذه المرحلة بين الاضطرار إلى بعض الأطراف وبين خروج بعضها عن الابتلاء حيث لا تشتغل ذمة المكلف.

الإشكال الثاني: ما في هامش الكفاية(1):

بأنه لو كان الاضطرار إلى أحدهما المعين فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجيز، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالاً المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر.

بيانه: إنه ليس هنا تكليف واحد في موضوع واحد مردد بين الأقل والأكثر، كي يقال بمعلومية التكليف في الأقل على كل حال مع الشك في الأكثر ليكون مجرى البراءة، بل هنا موضوعان ويشك في انطباق التكليف على أيٍّ منهما، فأحد الموضوعين - الدواء في المثال - وجوب اجتنابه مغيّى بالاضطرار، والآخر - الماء - وجوب اجتنابه مطلق غير مغيّى، فهنا لا يوجد قدر متيقن من التكليف، نظير ما لو علم بأنه مأمور بالجلوس في المسجد ساعة، أو في البيت ساعتين، فلا يعلم أن التكليف المعلوم إجمالاً منطبق على أيِّهما؟! وعليه فلا ينحل العلم الإجمالي، فيجب الاحتياط.

إن قلت: إنه بملاحظة قطعات الزمان فالتكاليف متعددة، فقبل الاضطرار في كل قطعة طرفان للعم الإجمالي، ولكن بعد الاضطرار فليس ترك شرب

ص: 252


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 229.

ما لم يضطر إليه ذا طرف فعلاً ليدور الأمر بين مطلوبيته ومطلوبية طرفه، ولا ذا طرف قبلاً لأن كل ترك في كل زمان كان له طرف يختص به، وعليه فهو احتمال بدوي غير مقرون باحتمال آخر ولو من أول الأمر!

قلت: إن الانحلال إنما يصح لو كان كل ترك ذا مصلحة باعثة على طلبه، لكن ليس كذلك؛ إذ الموضوع واحد والفعل واحد والمفسدة القائمة بشرب النجس واحدة، فليس في الحقيقة إلاّ زجر واحد عن الفعل الواحد، وهذا الواحد من حيث استمراره مردد بين المطلق والمحدود.

الدليل الثاني: إن العلم الإجمالي إنما ينجز لو لم تجر الأصول بسبب التعارض، ولا تعارض بعد الاضطرار إلى أحد الأطراف لعدم جريان الأصل فيه بعد ارتفاع التكليف فيه قطعاً، فتجري الأصول الترخيصيّة في الأطراف الأخرى من غير تعارض فتكون المؤمّن، وبعبارة أخرى: لا أثر للعلم الإجمالي بقاءً.

وأما ما قيل: من أن الأصل الميت لا يُحيى من جديد، فممّا لا دليل عليه، بل يجري الأصل بارتفاع المانع، وهو التعارض في ما نحن فيه.

وأورد عليه: بأن تعارض الأصول هو من أول الأمر مع استمراره، وذلك لوحدة التكليف، إما المحدود أو غير المحدود، نظير تعارض البينتين في المدة المحدودة أو غير المحدودة، فمدلول المحدود بشرط لا، ومدلول غير المحدود بشرط شيء، ولا يرتفع التعارض بانتهاء المحدود، وعليه فلا إشكال في عدم جريان الأصل بعد سقوطه، فالأصل الواحد لا يجري في شيء مرتين.

ص: 253

الحالة الثانية: الاضطرار إلى غير المعيّن

ولا إشكال في جواز ارتكاب أو ترك أحدهما مخيراً، لمكان الاضطرار، لكن هل يجوز ارتكاب كليهما في التحريمية أو ترك كليهما في الوجوبية؟ فيه قولان، ولا فرق هنا بين سبق الاضطرار على التكليف أو تأخّره عنه، ولا بين سبق العلم أو تأخره.

القول الأول: الجواز، لعدم الأثر للعلم الإجمالي؛ وذلك لأن الاضطرار موجب للترخيص في ارتكاب أحد الأطراف في التحريمية، وترك أحد الأطراف في الوجوبية تخييراً، وهو ينافي وجود التكليف بينهما، فلا بد من ترجيح أحدهما، وحيث إن الترخيص أهم فلا تكليف.

وبعبارة أخرى: لا علم بالتكليف على كل حال، فإن المضطر لو طبق الترخيص على الحرام الواقعي مثلاً فلا حرمة أصلاً، ولو طبقه على الآخر فالحرمة باقية، فيدور الأمر بين وجود أو عدم وجود الحرمة وهو شك في التكليف، فلا تنجيز للعلم الإجمالي حينئذٍ، وهكذا في ترك أحد الطرفين في الوجوبية.

القول الثاني: وجوب الاحتياط، ففي الشبهة التحريميّة: الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال باقٍ على حرمته حتى بعد الاضطرار؛ إذ لم يضطر إليه المكلف بالخصوص وإنما اضطر إلى الجامع، وحيث بقيت الحرمة فلا يمكن الترخيص في كل الأطراف لاستلزامه الترخيص في مخالفة التكليف الواصل، وهو ترخيص في ارتكاب المعصية القطعية وهو قبيح، لكن باعتبار الاضطرار فلا بد من رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية؛ إذ رفع الاضطرار متوقف على ارتكاب بعض الأطراف، وبذلك يثبت لزوم اجتناب الآخر.

ص: 254

وبعبارة أخرى: مع ثبوت التكليف لا بد من موافقته القطعية وتحرم مخالفته القطعية، لكن حيث لم يمكن الموافقة القطعية فلا بد من عدم المخالفة القطعية؛ وذلك لبقاء التكليف وقبح الترخيص في معصيته، وهكذا في الشبهة الوجوبية، وهذا هو الأقرب.

تتمة: في التوسط في التكليف

التوسط قد يكون بمعنى ترتب أحد الأثرين على العلم الإجمالي، بأن تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية، كما في حالة الاضطرار إلى غير المعين.

وقد يكون بمعنى ثبوت التكليف أو التنجيز بحال دون حال، وهذا ما اصطلحه المحقق النائيني، ففي الفوائد(1) ما ملخّصه: إن الاضطرار هل يقتضي التوسط في التكليف أو التوسط في التنجيز؟

ومعنى التوسط في التنجيز: بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجيز على تقدير، وعدم بلوغه إلى تلك المرتبة على تقدير آخر، مع إطلاق التكليف الواقعي وثبوته - في كلا التقديرين - بلا تصرف فيه واقعاً.

وأما التوسط في التكليف: فبمعنى أن يكون هناك تكليف على تقدير، وعدم وجود تكليف على تقدير آخر.

وفي الاضطرار إلى المعين يتحقق التوسط في التكليف؛ وذلك لارتفاع التكليف واقعاً بالاضطرار إذا كان ذلك المعيّن متعلق التكليف، وعدم ارتفاعه واقعاً مع كون المعين غير متعلق للتكليف، فتكون العلة في

ص: 255


1- فوائد الأصول 4: 104-108.

الترخيص الاضطرار لا الجهل.

وأما في الاضطرار إلى غير المعين: فإنه قد اجتمعت الجهتان - أي الاضطرار والجهل - ولكل منهما دخل في الترخيص؛ إذ لولا الجهل بشخص الحرام كان يتعيّن على المكلف رفع الاضطرار بغيره، كما أنه لولا الاضطرار كان يجب الاجتناب عن جميع الأطراف.

وعليه لا بد من ملاحظة الجزء الأخير من العلة، فإن كان هو الجهل كان الترخيص ظاهرياً لا واقعياً ويلزمه التوسط في التنجيز، ويكون المكلف معذوراً فقط لو خالف الواقع مع بقاء الواقع على ما هو عليه بلا تصرّف فيه، وإن كان الجزء الأخير هو الاضطرار فالترخيص فيه يكون واقعياً ويلزمه التوسط في التكليف.

وحينئذٍ يحتمل الترخيص الظاهري؛ لأن الاضطرار إلى غير المعيّن لا يصادم التكليف الواقعي ولا يمس الموضوع، بل الموضوع محفوظ بتمام ما له من القيود، فالعلة الموجبة للترخيص في ارتكاب الحرام إنما هي الجهل؛ إذ لولاه لكان يتعيّن رفع الاضطرار بغير الحرام.

ويحتمل الترخيص الواقعي؛ لأن الاضطرار بوجوده وإن لم يناف التكليف الواقعي، إلاّ أنه في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام ينافيه، ويقع المصادمة بين التكليف والاضطرار - ولو في صورة مصادفة ما اختاره لدفع الاضطرار لموضوع التكليف - فإن ارتكاب المكلّف للحرام يصح أن يقال فيه: إن ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام فالترخيص فيه واقعي.

أقول: فعلى الثاني يلزم إجراء أصل البراءة لعدم العلم بالتكليف الواقعي،

ص: 256

وأما على الأول فحيث يعلم بالتكليف فالعلم الإجمالي منجّز.

وأورد عليه: أولاً(1):

بأن اختيار المكلف للحرام الواقعي لا يوجب ارتفاع الحرمة الواقعية؛ لعدم طروّ عنوان على الفرد المعيّن موجب لارتفاعها، فالتكليف الواقعي ثابت، والاضطرار متعلّق بالجامع لا الفرد، واختيار المكلف لا ينقل موضوع الاضطرار من الجامع إلى الفرد، ولا وجه للاستشهاد بالعرف بعد ثبوت تسامحه وكون الواقع هو الاضطرار إلى أحدهما.

وثانياً: بأنه لو كانت الحرمة مغياة بالاختيار والارتكاب لكان التكليف لغواً؛ لأن التشريع إنما هو بداعي إيجاد الداعي - ولو إمكاناً - .

وثالثاً: ما في المنتقى(2):

من أنه لا فرق بين كون الاضطرار أو الجهل الجزء الأخير أم لا؛ لأن مجرد الجهل بالواقع في موضوع الحكم يقتضي كونه ظاهرياً، سواء كان جزءاً أخيراً أم لا، فتأمل.

المطلب الخامس: في خروج بعض الأطراف عن الابتلاء
اشارة

لو لم يكن أحد أطراف العلم الإجمالي محلاً للابتلاء فهل يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف أم لا؟

الأقوى عدم تنجيزه، واستدل لذلك بدليلين:

الدليل الأول: جريان الأصل الترخيصي المؤمِّن في ما هو محل الابتلاء، مع عدم جريانه في الآخر؛ وذلك لأن الأصول العملية إنما وردت لبيان

ص: 257


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 316-317.
2- منتقى الأصول 5: 119.

الوظيفة العملية للمكلف، ولا وظيفة له في ما هو خارج محل ابتلائه فلا معنى لجريانها فيه، فلا تعارض ليسقط الأصل المؤمِّن في ما هو محل الابتلاء.

الدليل الثاني: إنّ الفرد الخارج عن محل الابتلاء لا قدرة عادية عليه، فلا تكليف فيه، وحيث لا يعلم المكلف بأن موضوع التكليف هل هو الداخل أو الخارج فلا علم بالتكليف، فيكون مجرى البراءة.

وأما اشتراط القدرة العادية في التكليف فاشتراط الابتلاء فلجهات، منها:

الجهة الأولى: إنه مع عدمها يكون المكلف تاركاً، فتكليفه بالترك إنما هو طلب للحاصل.

وبعبارة أخرى: إن غاية النهي هي إيجاد الداعي في المكلف للترك، وفي ما نحن فيه غير المبتلى تارك للمنهي عنه بسبب عدم ابتلائه به.

وأشكل عليه: بأن الداعي للنهي ليس مجرد الترك، ولذا لا إشكال في حرمة أكل العذرة مع أن الناس تاركون لها؛ وذلك لأن الغرض من الأوامر الشرعية - حتى التوصليات منها - وكذا النواهي الشرعية ليس مجرد الفعل أو الترك، بل الغرض الفعل المستند إلى بعث الشارع والترك المستند إلى زجره، ولا يمكن أن يكون الغرض هو صرف تحقق المطلوب - فعلاً أو تركاً - في الخارج؛ إذ ما لا يترتب على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه.

وفيه: أنه لا دليل على كون الغرض في المحرمات وفي الواجبات التوصلية إسناده الترك أو الفعل إلى الشارع، ويكفي في صحة الغرض من التكليف إمكان ترتبه على بعض الأفعال أو التروك، فمثلاً أكثر المحرمات

ص: 258

يتركها الناس لمكان نهي الشارع، فيكون الغرض من التحريم الشامل لجميع المكلفين هو هذا مع عدم المحذور في عدم ترتب هذا الغرض في بعض المكلفين لكونهم تاركين لجهة أخرى غير التحريم فيكون الغرض من قبيل الحكمة لا العلة.

هذا مضافاً إلى عدم انحصار الغرض من النهي في الترك كي يقال إن النهي تحصيل للحاصل، بل قد يكون الغرض في نفس التكليف، كأن تكون للمفسدة مصاديق بعضها لا يتركها الناس إلاّ بالنهي وبعضها يتركها الناس بطبعهم حتى بدون نهي، فلا محذور في إصدار نهي عام، أو نواهي متعددة نظراً إلى تلك المفسدة فيكون الغرض في ما يرتكبه الناس هو إيجاد الداعي للترك، وفي ما لا يرتكبونه هو في نفس النهي لئلا يكون ترخيصاً في قبيح أو في ما فيه المفسدة، فتأمل.

الجهة الثانية: استهجان العرف التكليف في غير المقدور بالقدرة العادية.

وأشكل عليه: بأنه «لا معنى للاستهجان العرفي؛ لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف، وليس الكلام في الخطاب بما هو خطاب حتى يتوهم ارتباطه بنظر العرف»(1).

وكأنّ مراده بأنه لا تلازم بين قبح الخطاب وقبح التكليف؛ إذ قد يكون الخطاب مستهجناً عرفاً من دون قبح في التكليف، ومناط الأحكام الشرعية هو صحة التكليف.

ويرد عليه: إن استهجان العرف كاشف عن القبح في التكليف، فشمول

ص: 259


1- نهاية الدراية 4: 264.

التكليف لغير المبتلى به لغو ومستهجن لا من جهة الخطاب، بل من جهة عدم الغرض، اللهم إلاّ إذا ثبتت أغراض أخرى غير الترك مثلاً فلا قبح في التكليف ولا استهجان في الخطاب وشموله.

ويمكن أن يقال: إن النواهي الشرعية إنما هي على نحو القضايا الحقيقية، ويكفي في صحتها إمكان الانزجار، وذلك متحقق في ما يكون الإنسان تاركه بالطبع أو لعدم الابتلاء أو لعدم القدرة العادية، بل يكفي في صحتها بنحو الشمول إمكان ابتلاء بعض المكلفين ببعض المصاديق، فتأمل.

الجهة الثالثة: صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قِطعاً صغاراً فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال (علیه السلام) : «إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه»(1).

وإنما يصح الاستدلال بها على ما نحن فيه لو كان المعنى أن الدم أصاب إما ظهر الإناء أو الماء الذي فيه، وظهره خارج عن محل الابتلاء عادة؛ لعدم نجاسة ملاقي المحصورة ولاستبعاد لمس كل ظهر الإناء.

إلاّ أن الظاهر أن قوله (علیه السلام) : «فأصاب إناءه» يراد به العلم بإصابة ظهره تفصيلاً، مع الشك في إصابة الماء، فتكون المسألة خارجة عن فرض الكلام.

بل حتى لو أريد المعنى الأول فلا ربط له بالمقام؛ لأن ظهر الإناء محل للابتلاء بإدخال الإناء كلّه في الحِب ونحوه وهو أمر كان كثير التحقق.

ص: 260


1- الكافي 3: 74؛ وسائل الشيعة 1: 150.
تتمة: في الشك في الخروج عن محل الابتلاء

لو شك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فقد يكون ذلك للشك في مفهوم الابتلاء وقد يكون شبهة مصداقية، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: الشبهة المفهومية، بأن لا يتمكن من تحديد مفهوم محل الابتلاء، فهل لمجرد سهولة الوصول مثلاً يصدق كونه كذلك أم لا؟ كما لو كان جار لا يراوده، فشك في نجاسة إناء نفسه أو إناء جاره.

والأقرب كون المرجع عمومات أو إطلاقات الأدلة الأولية، ففي المثال يكون المحكّم أدلة وجوب اجتناب النجس في إنائه الذي هو محل ابتلائه، ولا يجري فيه أصل البراءة؛ وذلك لأن الشك في شمول الخاص للمورد، فيكون المرجع عموم العام، وعليه فدليل وجوب الاجتناب يدل على عدم جواز اقتحام النجس سواء كان في إنائه أم في الإناء الآخر المشكوك كونه محلاً لابتلائه، وبذلك يتنجز العلم الإجمالي.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الإطلاق أو العموم متفرع على الإمكان، وفي ما نحن فيه لو كان المشكوك خارجاً عن محل الابتلاء كان الخطاب محالاً، وإلاّ كان ممكناً، فيكون الشك في إمكان التكليف، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات أو العمومات!

وفيه: أن الإطلاق كاشف عن الإمكان ثبوتاً، ولولا ذلك لما صحّ التمسك بالإطلاق في ما لو شككنا بوجود الملاك في فرد من الأفراد وهو ما لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: إن المخصص هنا متصل لأنه لبّي، فإجماله يسري إلى العام فلا يمكن التمسك به في الفرد المشكوك.

ص: 261

وفيه: ما في الفوائد(1):

من أن لا بديّة كون التكليف محلاً للابتلاء إنّما هو حكم نظري للعقل، فلا يدركها كل أحد إلاّ بعد إعمال الفكر والنظر فلا يلتفت إليها العرف - وحتى مع الالتفات يمكن التشكيك في كونه قيداً في تكاليف المولى الحقيقي مع الجهل بملاكاته - وعليه فيكون حكم العقل كالقرينة المنفصلة لا المتصلة فلا يثلم به عموم العام وإطلاق المطلق، فتأمل.

الصورة الثانية: الشبهة المصداقية، كما لو كان أحد الإنائين محلاً لابتلائه ولم يعلم بأن الآخر محل ابتلائه أم لا، ففيه احتمالان:

الاحتمال الأول: جريان البراءة في ما هو محل الابتلاء؛ لأن المشكوك لا تشمله الأدلة الأولية؛ لأن القيود توجب تركب الموضوع، فالمتصلة توجب تركبه في مرحلة الإرادتين الاستعمالية والجدية، والمنفصلة في مرحلة الإرادة الجدية، فيكون الموضوع في ما نحن فيه (الإناء النجس المبتلى به) وهذا العنوان لا يعلم انطباقه على المشكوك فيكون التمسك بالدليل فيه تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، كما لا تشمله أدلة البراءة؛ لأنها تجري في ما لو كان المشكوك مبتلى به لا ما لم يكن كذلك فالتمسك بها أيضاً تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه فلا محذور في جريان أدلة البراءة في الطرف المبتلى به لعدم تعارض الأصول فيه.

الاحتمال الثاني: ما في الفوائد(2):

من أنّ الشك هنا شك في القدرة،

ص: 262


1- فوائد الأصول 4: 59.
2- فوائد الأصول 4: 55-56.

والشك فيها مجرى الاشتغال لا البراءة؛ وذلك لأن القدرة ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام، بل إنما هي من شرائط حسن التكليف والخطاب، لقبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية والعادية، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه، غايته إنه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها لا يلزم العقل رعايته، للعلم بأنه ليس للمولى حكم على طبقه، وأما مع الشك في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال تخلصاً من الوقوع في مخالفة الواقع، وليس في شيء من الأحكام العقلية ما يحكم العقل بالبراءة عند الشك في موضوع حكمه.

والحاصل: أن العلم بتحقق الملاك يمنع عن الرجوع إلى البراءة، بل لا بد من العلم بما يوجب سقوط الملاك، وبعبارة المحقق العراقي: «إنه مع إحراز المقتضي للتكليف العقل لا يحكم بالبراءة باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال، وأنّ مصب قبح العقاب بلا بيان إنما في صورة احتمال قصورٍ في اقتضاء التكليف من ناحية المولى»(1).

إن قلت(2): إن الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه؛ لأن القاعدة إنما هي في الشك في القدرة على الامتثال، وما نحن فيه لا شك فيها؛ إذ هو قادر على الامتثال قطعاً بأن يترك الطرف المبتلى به، وإنما شكه في القدرة على

ص: 263


1- فوائد الأصول 4: 56 (الهامش) .
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 351.

عصيان التكليف، حيث إن المشكوك إن كان محلاً للابتلاء أمكنت المخالفة القطعية وإلاّ فلا!

قلت: لا فرق بين الأمرين، فكما لا تجري أصالة البراءة عند الشك في القدرة على الامتثال، كذلك لا تجري عند الشك في القدرة على العصيان، فتأمل.

المبحث الثاني: في الشبهة غير المحصورة

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في ملاك عدم الانحصار

بحيث يكون ضابطاً للشبهة غير المحصورة وفيه احتمالات:

الاحتمال الأول: كون التكليف في كل طرف موهوماً لكثرة الأطراف بحيث لا يعتني به العقلاء.

إن قلت: إن الموهومية لا تمنع التنجّز، نظير ما لو كان الاحتمال في أحد أطراف المحصورة موهوماً؛ وذلك لأن مجرد الاحتمال مساوق لاحتمال العقاب، والاحتمال ملاك التنجيز ما لم يكن مؤمِّن!

قلت: إن الاحتمال الموهوم إذا وصل إلى حدّ لا يعتني به العقلاء لا يكون منجزاً قطعاً؛ لأن الاقتحام فيه لا يُعدّ معصية، ومن المعلوم أن طرق الطاعة والمعصية عقلائية.

الاحتمال الثاني: بلوغ الأطراف حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال(1)،

بمعنى عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية بسبب كثرة

ص: 264


1- فوائد الأصول 4: 117.

الأطراف، وعليه فتسقط حرمة المخالفة القطعية لعدم القدرة فيمكن إجراء أصالة البراءة في الأطراف التي يراد ارتكابها لعدم تعارضها مع سائر الأطراف حيث إنها لا تجري في غير المقدور عليه لتتساقط بالتعارض.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض؛ لأن هذا الضابط ينطبق على بعض مصاديق الشبهة المحصورة كما في شبهة الكثير في الكثير(1)، وكما لو لم يتمكن المكلّف من الجمع في الاستعمال في آن واحد نظير ما لو علم بحرمة إحدى المرأتين عليه مع عدم تمكنه من الجمع وفرض عدم الامتداد في القضية(2).

وثانياً: بما في نهاية الدراية: «بأن المخالفة القطعية لو كانت موضوعاً للحرمة شرعاً لكان الأمر كما قيل: من عدم حرمة ما لا يقدر عليه، وأما إذا لم يكن حرمة شرعية وكانت الحرمة الفعلية متعلقة بما يقدر عليه بذاته - لفرض القدرة على ارتكاب كل واحد من الأطراف، لفرض دخول الكل في محل الابتلاء - ... فلا محالة يكون العلم بالحرمة المتعلّقة بالأمر المقدور موجباً لاستحقاق العقوبة على مخالفتها»(3).

وبعبارة أخرى: لو كان في كلام المولى (تحرم المخالفة القطعية) لصحّ ما ذكره؛ لأنها غير ممكنة فلا تكون محرمة، لكن الدليل هو {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(4)

مثلاً، والهجر مقدور للمكلف حيث إن كل الأطراف محل

ص: 265


1- نهاية الأفكار 3: 330.
2- فوائد الأصول 4: 118 (الهامش) .
3- نهاية الدراية 4: 275.
4- سورة المدثر، الآية: 5.

الابتلاء فيتنجز العلم الإجمالي؛ إذ لا بد من إطاعة المولى مع القدرة ولا تجوز المخالفة الاحتمالية عقلاً. نعم، العلم بالمخالفة غير ممكن لعدم التمكن من ارتكاب الجميع، لكن المخالفة بنفسها مقدورة ولو احتمالاً.

إن قلت(1): القدرة على اقتحام كل طرف مشروطة بترك سائر الأطراف - حسب الفرض - ، ويتفرع على ذلك كون التكليف باجتناب الحرام الواقعي مشروطاً بترك سائر الأطراف؛ إذ هو متفرع على القدرة، وحيث إن المكلف لا يعلم أنه ترك سائر الأواني التي ليست بحرام واقعي فلا يعلم بتولد تكليف ثبوتاً، فتجري البراءة!

قلت: ترك الحرام الواقعي مقدور للمكلف سواء قدر على سائر الأطراف أم لم يقدر، وحيث إن الحرام الواقعي اشتبه في ما لا ينحصر فالمقدمة العلمية لتركه هو ترك كلّ الأطراف، وترك كل الأطراف مقدور له.

إن قلت: القدرة تتعلق بالطرفين، فإذا لم يقدر على فعل الكل فلا يقدر على تركها!

قلت: الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، فالطرفان هما ترك الكل وفعل البعض، مضافاً إلى أنه يكفي في ذلك تعلّق القدرة بالجامع فهو قادر على الجامع بين الأفعال والجامع بين التروك، فتأمل.

الاحتمال الثالث: صدق عدم الانحصار عرفاً.

وفيه: أن العرف ليس مرجعاً إلاّ في تحديد مفاهيم الألفاظ المستعملة

ص: 266


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 364.

في لسان الشرع، وكلمة (الشبهة غير المحصورة) لم ترد في النصوص حتى نرجع إليه في مفهومها.

الاحتمال الرابع: ما يعسر موافقته القطعية.

وفيه: لا تساوي بين العسر وبين غير المحصور، بل بينهما عموم من وجه؛ إذ قد تكون الأطراف كثيرة جداً ولا عسر في تركها كلها، كما قد تكون محصورة مع عسر ترك بعض الأطراف.

المطلب الثاني: في عدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة

ثم إنه قد يستدل على عدم لزوم الاحتياط في غير المحصور - إضافة إلى ما مرّ في الضابط - بأدلة، منها:

الدليل الأول: الاطمئنان بعدم التكليف في ما يقتحم فيه، والاطمئنان مؤمّن عقلاً.

إن قلت: الاطمئنان غير حاصل؛ لأن الأطراف متساوية فإن حصل الاطمئنان في بعضها دون بعض فهو من الترجّح بلا مرجّح، وإن تعلّق بجميعها فهو تناقض؛ إذ لا يجتمع العلم بوجود الحرام مثلاً مع الاطمئنان بعدم وجوده في كل فرد فرد!

قلت: لا وحدة للموضوع؛ إذ متعلّق العلم بالحرام هو الجامع، ومتعلق الاطمئنان بعدمه هو الفرد، وقد مرّ شرحه في تصوير الفرد المردّد، ولولا ذلك لأمكن النقض بالاحتمال، إذ كل فرد يحتمل كونه الحرام فكيف ينسجم مع العلم بوجود الحرام.

إن قلت: لو كان المحتمل مهماً فلا يسوغ عند العقلاء اقتحامه حتى لو

ص: 267

كان الاحتمال ضعيفاً.

قلت: مع حصول الاطمئنان لا فرق عند العقلاء بين المحتمل المهم وغيره، هذا فضلاً عن القطع بعدم العقاب هنا لوجود المؤمِّن، وهو الاطمئنان العقلائي الممضى من قبل الشرع.

الدليل الثاني: سيرة المتشرعة في عدم الاجتناب عن أطراف غير المحصور.

وفيه: أن سيرتهم إن لم ترجع إلى بناء العقلاء، فهي دليل لبيّ ولا يُعلم وجهها، فهل عدم اجتنابهم لكون الأطراف غير محصورة، أم لعدم الابتلاء ببعض الأطراف عادة، أو لكون الاجتناب فيه العسر والحرج، أو للاضطرار إلى بعض الأطراف، أو لغير ذلك؟

الدليل الثالث: تلازم غير المحصورة مع العناوين الثانوية الرافعة للتكليف عادة.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المرفوع بها ما كانت تنشأ من حكم الشارع كما لو أمر بالصوم وكان فيه ضرراً، وأما لو نشأت من الجهل بالواقع وحكم العقل بالاحتياط فلا ترفع، فاجتناب الإناء النجس الواحد لا عسر فيه مثلاً وأما اجتناب ألف إناء ففيه العسر لكنه نشأ من جهل المكلف بالإناء النجس وحكم العقل بالاحتياط!

وفيه: أن حكم العقل بوجوب الاحتياط إنما هو للحفاظ على حكم الشارع، فيكون سبب الحرج مثلاً هو عدم رفع الشارع يده عن حكمه، ولو رفع لارتفع، فلا فرق بين الحالتين.

ص: 268

وثانياً: بأن الدليل أخص من المدعى؛ إذ العناوين الثانوية - إن لم تكن في ملاكات الأحكام - فهي شخصية وتقدّر بقدرها، وعليه فلو لم تنطبق العناوين الثانوية في مورد من موارد الشبهة غير المحصورة فهل يلتزم بعدم جريان البراءة فيه؟!

الدليل الرابع: النصوص، وهي على طوائف:

الطائفة الأولى: ما ورد في الجبن.

فمنها: ما عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الجبن؟ فقال: «سألتني عن طعام يعجبني - إلى أن قال - سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»(1).

وقد مرّ أن معنى الرواية وجود الحرام والحلال فعلاً لا مجرد الاحتمال، فلا تنطبق الرواية على الشبهة البدوية، وقد خرجت المحصورة بالدليل، فتبقى غير المحصورة.

ولا يخفى أنه مع العلم لا تنفع الأمارة فلا يقال: بأن الرواية في سوق المسلمين وهو أمارة! كما أن التعليل بالاختلاط ينفي كون سبب الحلية السوق.

ومنها: ما عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه تجعل فيه الميتة؟ فقال (علیه السلام) : «أمِن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكُل، والله إني لأعرض السوق فأشتري بها اللحم

ص: 269


1- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 118.

والسمن والجبن، والله ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان!»(1).

وجه الاستدلال: هو جواز الأكل مع العلم بوجود الميتة في السوق.

لا يقال: إن الرواية مجملة، لاحتمال أن يكون المقصود الشبهة غير المحصورة، أو أن يكون في الشبهة البدوية بأن علمنا بحرمة نوع من الجبن فاحتملنا حرمة نوع آخر منه، أو لعلّ الحلية بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء!

فإنه يقال: جوابه (علیه السلام) مطلق يشمل كل ذلك، وخصوصية السؤال لا تخصص عموم الجواب.

إن قلت: لا بد من حملها على التقية لدلالتها على حرمة الإنفحة لكونها من الميتة!

قلت: لو فرض التقية في الصغرى فلا يسرى ذلك إلى الكبرى؛ لأن التقية ضرورة تقدر بقدرها ولا ضرورة في التقية في الكبرى الذي ذكرها (علیه السلام) .

الطائفة الثانية: ما ورد في شراء الطعام من الظالم.

فمنها: ما عن أبي عبيده سأل الإمام الباقر (علیه السلام) : عن الرجل منا يشتري من السلطان إبل الصدقة وغنم الصدقة، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم؟ فقال: «ما الإبل إلاّ مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه»(2).

ص: 270


1- المحاسن 2: 495؛ وسائل الشيعة 25: 119.
2- الكافي 5: 228؛ وسائل الشيعة 17: 219.

إن قلت: إن الشبهة في أموالهم من الشبهة المحصورة لأنها من شبهة الكثير في الكثير، فلعلّ الترخيص لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء عادة، فلا محذور من جريان الأدلة أو الأصول في ما يعطيه، أو لعلّه من باب إجازة الإمام لهذه الأموال لأنها ترتبط به (علیه السلام) وهو المالك الحقيقي وقد أذن، أو الإذن في هذا المورد الخاص لصعوبة اجتناب الناس عن الأموال التي بيد الحكام الظلمة!!

قلت: إنما أخذنا بإطلاق كلامه (علیه السلام) ، ولا يضر به خصوصية المورد، كما أن ظاهر الكلام كونه بيان للحكم الشرعي لا أنه إذن صاحب الحق، مع أن الإذن في أموال الناس باعتبار كونه المالك الحقيقي أو لصعوبة الاجتناب خلاف الظاهر، فتأمل.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على حلية كل شيء مع عدم العلم بحرمته بعينه.

فمنها: ما عن الإمام الصادق (علیه السلام) : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه»(1).

خرجت المحصورة بالدليل وبقيت غير المحصورة، ولا يخفى أن معنى ذلك اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية لمصلحة أهم كالتسهيل ونحوه، وليس ذلك من الترخيص في اقتحام المعصية، بل من جعل المأتي به بدلاً عن الواقع، وقد مرّ تفصيل كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

المطلب الثالث: في عدم جواز المخالفة القطعية

وذلك بأن يرتكب كل الأطراف دفعة أو تدريجاً، ولا يخفى أن الجواز

ص: 271


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 88.

أو عدمه يرتبط بالمبنى في جواز الاقتحام في الشبهة غير المحصورة...

1- فعلى مبنى الجواز للروايات، فإنها منصرفة عن الارتكاب لجميع الأطراف، فيجري دليل المنع من غير مؤمِّن، إلاّ أن يقال: بأن مثل قوله (علیه السلام) : «حتى تعرف الحرام بعينه» ظاهر في الترخيص حيث لا يعلم بالارتكاب بعينه. نعم، بعد الارتكاب يحصل له العلم بالمخالفة، ولا محذور في تحصيل العلم بها وإنما المحذور فيها.

2- وأما على مبنى موهومية الاحتمال بحيث لا يعتني به العقلاء، فيقال: بعدم الجواز؛ لأن جواز الارتكاب مقيد عندهم بكونه موهوماً، وعليه فلا يجوز ارتكاب الجميع أو الأكثر بحيث يخرج عن الموهوميّة، وبعبارة أخرى: إنه لا يكون التكليف موهوماً في المجموع لو ارتكب الكل أو الأكثر وإن كان في الآحاد موهوماً والمناط عندهم هو الأول لا الثاني.

3- وأما على مبنى انطباق العناوين الثانوية، فيقال: بالجواز؛ إذ لا عسر ونحوه في عدم ارتكاب المجموع، وإنما العسر ونحوه في ترك البعض، ومع جواز الاقتحام في البعض يجوز على هذا المبنى ارتكاب البعض الآخر كما مرّ في بحث الاضطرار إلى بعض الأطراف حيث جوّز صاحب الكفاية ارتكاب سائر الأطراف أيضاً في جميع الحالات.

4- وأمّا على مبنى المحقق النائيني من عدم حرمة المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها فلا معنى للتساؤل عن ارتكاب جميع الأطراف؛ لأن المفروض عدم القدرة على ذلك، إلاّ أن يقال: بأن مقصوده عدم القدرة العادية وهي لا تنافي القدرة العقلية، فتأمل.

ص: 272

المطلب الرابع: شبهة الكثير في الكثير

وذلك بأن تكون نسبة المعلوم بالإجمال إلى جميع الأطراف كنسبته في الشبهة المحصورة مثل حرمة خمسمائة من الغنم لكونها مغصوبة في قطيع فيه ألف، فالنسبة هي النصف.

وهنا يختلف جواز الاقتحام باختلاف المباني السالفة.

فعلى مبنى الموهومية فالتكليف منجّز لعدم كونه موهوماً، بل الاحتمال قوي ويعتني به العقلاء.

وعلى مبنى العسر ونحوه يجوز ارتكاب كل الأطراف بشرط عدم ارتفاع العسر ونحوه بارتكاب بعض الأطراف بأقل من المعلوم إجمالاً، ففي المثال لو ارتفع العسر ونحوه بالأكل من مائة شاة تنجز العلم في الباقي لوجود علم إجمالي في الباقي من غير طرو العناوين الثانوية عليه.

وعلى مبنى عدم القدرة على المخالفة القطعية فيجوز الاقتحام لجريان الأصول في الأطراف التي يريد اقتحامها.

وعلى مبنى الروايات: فالظاهر انصرافها عن هذا.

المطلب الخامس: عدم سقوط حكم الشك عن أطراف غير المحصورة

إنه لا تلازم بين سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز وبين سقوط حكم الشك، كما لو اشتبه إناء مضاف في آنية مطلقة غير محصورة كواحد في الألف، فهل يكتفى بالوضوء بأحدها، أم أنه يجري حكم الشبهة البدوية الذي هو عدم الحكم بالإطلاق ولا بالإضافة مع عدم العلم بالحالة السابقة مثلاً، وعليه فلا يصح الاكتفاء بالوضوء بأحدها؛ إذ لا بد من البراءة اليقينية بعد الاشتغال اليقيني بالوضوء وبالصلاة متوضئاً مثلاً.

ص: 273

وهنا أيضاً يختلف الحكم حسب اختلاف المباني، فعلى مبنى الموهوميّة لا يجري حكم الشك لأن احتمال عدم الإطلاق لا يعتني به العقلاء فتكون البراءة يقينية لأن للاطمينان حكمه، وأما على مبنى المحقق النائيني فالقاعدة هي عدم جواز الاكتفاء بأحدها؛ إذ الشك موجود وجداناً وحكمه الاشتغال برهاناً، إلاّ أنه لم يلتزم بهذا اللازم(1).

وأما على العسر ونحوه فحيث إن العناوين الثانوية ترفع التكليف ولا تثبت شيئاً من الإطلاق ونحوه فلا بد من تكرار الوضوء بمقدار يزيد عن المعلوم بالإجمال إن لم يكن في التكرار عسر ونحوه، وإلاّ لزمه الاحتياط بالوضوء بمقدار منها والتيمم.

وأما على مبنى دلالة الروايات على جواز الاقتحام فالظاهر عدم دلالتها على حكم الشك! فتجري قاعدة (الاشتغال اليقيني...).

تنبيهات العلم الإجمالي بين المتباينين

التنبيه الأول: حكم ملاقي بعض الأطراف
اشارة

والكلام إنما هو في ما لو لاقى أحدهما؛ إذ لو لاقى كليهما تحقق علم تفصيلي في الملاقي، كما أن الكلام هو في ما لم يحمل الملاقي أجزاء الملاقى؛ لأن الأجزاء هي نفس الملاقى ولها حكمه، فلو لاقت يده أحد المشتبهين وحملت رطوبة وجب اجتنابها لأن الرطوبة هي نفس أحد الطرفين. نعم، يجري البحث بعد جفاف اليد.

ثم إن البحث في خمس صور وهي: تأخر الملاقاة والعلم بها عن العلم

ص: 274


1- فوائد الأصول 4: 122.

الإجمالي، وتقدمهما عليه، وتوسطه بينهما بأن تحدث الملاقاة ثم العلم الإجمالي ثم العلم بالملاقاة، وخروج الملاقي عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي، وحدوث علم إجمالي ثاني بما سيأتي بيانه.

الصورة الأولى: تأخر الملاقاة والعلم بها عن العلم الإجمالي

وفيها قولان:

القول الأول: عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي؛ وذلك لجريان الأصول فيه من غير معارض؛ إذ موضوع الاجتناب هو الحرام أو النجس الواقعي، ففي أطراف العلم الإجمالي حيث لا تجري الأصول لتعارضها وتساقطها فلا مؤمِّن حين الارتكاب، وأما الملاقي فلا يعلم تحقق موضوع الحرام أو الجنس الواقعي فيه، بل الموضوع هو المشتبه فلا محذور من جريان الأصل الموضوعي أو الحكمي فيه لعدم المعارض، وبعبارة أخرى: الموضوع في الملاقي مشكوك فلا يثبت المحمول.

القول الثاني: وجوب الاجتناب عن الملاقي، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إنه ليست نجاسة الملاقي بالعلية، بل بالسراية، بمعنى أن موضوع النجاسة توسّع ليشمل الملاقي لا أن الملاقاة كانت علة لنجاسة الملاقي، وعليه فنجاسة الملاقي هي نفس نجاسة الملاقى فتكون الأصول كلها - في الملاقي والملاقى وطرف الملاقى - في عرض واحد وتتساقط بالمعارضة!

وفيه: أن مراجعة الروايات يدل على العلية ولذا لا تجري بعض آثار الملاقى في الملاقي كما لو ولغ الكلب في إناء ثم لاقاه شيء فيجب التعفير في الملاقى ولا يجب في الملاقي، ولو كانت النجاسة نفسها لا بالعلية

ص: 275

لاتّحدت الآثار.

الدليل الثاني: وقوع الملاقي طرفاً لعلم إجمالي ثانٍ، ففي المثال: إما نجاسة الملاقي وإما نجاسة طرف الملاقى؛ وذلك لوجود الملازمة بين نجاسة الملاقى والملاقي!

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأول: ما ذكر الشيخ الأعظم(1)

وحاصله: إن أصالة الطهارة في الملاقى هي أصل سببي فتتعارض مع أصالة الطهارة في طرف الملاقى فيتساقطان، وبعد ذلك تجري أصالة الطهارة في الملاقي من غير معارضة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن أصالة الحل في طرف الملاقى أصل مسببي وهي في طول أصالة طهارته كما أنّها في عرض أصالة طهارة الملاقي، وعليه فيتعارض أصلا الطهارة في الملاقى وطرفه، فتصل النوبة إلى أصالة طهارة الملاقي وأصالة حلية طرف الملاقى فيتعارضان ويتساقطان، وهذا ما عرف بالشبهة الحيدرية.

إن قلت: إن لازم هذا هو جريان أصل حلية الملاقي لأنه في طول أصل طهارته، وذلك ينتج نتيجة غريبة وهي حلية الملاقي وعدم الحكم بطهارته!

قلت: كلا، يحكم بطهارته لا من باب أصل الطهارة - الساقط بالمعارضة في المرحلة السابقة - وإنما بدليل آخر هو القطع بالملازمة بين الحلية

ص: 276


1- فرائد الأصول 2: 242.

والطهارة، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن المخاطب بالأدلة الشرعية هم العرف، وهم لا يفرّقون بين هذه الأصول الثلاثة، فيرونها في رتبة واحدة؛ إذ الأحكام الشرعية قضايا حقيقية، وتلاحظ مواضيعها عبر جامع هو مرآة لها في عرض واحد، والتأخر الزماني أو الرتبي لبعضها لا يخرجها عن المعارضة العرفية.

إن قلت: لا إشكال في تقدم الأصل السببي على المسببي وهو من المسلمات الأصولية، كما لو أدخل يده النجسة في مشكوك الكرية بعد أن كان كراً، فلا تعارض بين استصحاب نجاسة اليد واستصحاب كرية الماء قطعاً، نظراً إلى أن الثاني أصل سببي فيجري دون الأول الذي هو أصل مسببّي.

قلت(1): أولاً: إن تقديم الأصل السببي إنما هو لنكتة أنه منقِّح موضوع الدليل الاجتهادي، فيكون الدليل الاجتهادي - لا ذات الشك السببي - حاكماً على الشك المسبّبي أو وارداً عليه، ففي المثال: استصحاب الكرية ينقِّح موضوع الدليل الاجتهادي الدال على أن الكر يطّهر ما غُسل فيه، وبذلك يرتفع التعارض بين الشك السببي والشك المسبّبي.

وهذه النكتة مفقودة في ما نحن فيه - حتى وإن تحققت السببيّة والمسبّبية - لأن الشك في نجاسة الملاقى لا يحقق دليلاً اجتهادياً ليكون حاكماً على الدليل المسبّبي.

وثانياً: إنه لا بد من نظر الدليل الحاكم على الدليل المحكوم وإلاّ لا

ص: 277


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 31.

تكون حكومة، وهذا إنما يمكن في دليلين، وأما في الدليل الواحد فلا كما هو واضح، وهذا على مبنى اشتراط النظر في الحكومة.

الإشكال الثالث: إن أصالة الطهارة في الملاقي وفي طرف الملاقى إنما هما في عرض واحد، فيتعارضان؛ إذ قاعدة المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر إنما هي في التأخر الزماني لا الرتبي، وحيث لا يجرى ملاك التأخر بين الملاقي وطرف الملاقى لانتفاء العلية بينهما فلا وجه للقول بالتأخر، ولذا فالمعلول متأخر عن العلة رتبة وليس متأخراً عن عدم العلة، فتأمل.

الجواب الثاني: ما ذكر المحقق الإصفهاني توضيحاً لكلام المحقق الخراساني، قال: «عدم كون الملاقي في هذه الصورة طرفاً للعلم المنجّز - لا عدم كونه طرفاً فقط - ؛ وذلك لأن العلم الإجمالي بعد تعلّقه بالنجس المعلوم بين الإنائين أوجب تنجّز التكليف المعلوم، وبعد حدوث الملاقاة - وصيرورة أطراف العلم ثلاثة وجداناً - لا يعقل تأثير العلم الثاني؛ إذ المنجَّز لا ينجّز، فهذا العلم الثاني لم يتعلّق بتكليف لم يتنجّز حتى يعقل تنجّزه بالعلم الحادث ثانياً، لاحتمال أن يكون التكليف في طرف الملاقى - بالفتح - ، وبعد تنجّزه لا علم بتكليف آخر لم يتنجّز حتى يتنجّز بالعلم الثاني، بل مجرد احتمال التكليف في الملاقي - بالكسر - تبعاً للملاقى - بالفتح - »(1)

انتهى.

أما الكبرى وهي (المنجَّز لا ينجّز) فواضحة؛ لأن تنجّز المنجَّز تحصيل للحاصل، وأما الصغرى فلأنه قد تنجَّز بالعلم الإجمالي الأول وجوب

ص: 278


1- نهاية الدراية 4: 282.

الاجتناب عن طرف الملاقى، فلا يتنجز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي الثاني، وأما في الملاقي فوجوب الاجتناب محتمل فيكون مجرى أصالة البراءة، وبعبارة أخرى: لا علم بتكليف جديد في العلم الإجمالي الثاني فلا تنجّز له.

وأشكل عليه(1): بأنّ العلم الإجمالي في مرحلة البقاء لا يكون منجزاً إلاّ بلحاظ بقائه، لا بلحاظ حدوثه، ولذا قد ينحل العلم الإجمالي حكماً أو حقيقة بزوال العلم الإجمالي، وفي مرحلة البقاء تتوارد علتان على التنجيز هما: العلم الإجمالي الأول والعلم الإجمالي الثاني.

وعليه فوجوب اجتناب طرف الملاقى في مرحلة الحدوث إنما هو لأجل العلم الإجمالي الأول، ولكن في مرحلة البقاء وجوب الاجتناب مرتبط بكلا العلمين الإجماليين، فتأمّل.

الدليل الثالث: إن الاجتناب عن النجس يتوقف على الاجتناب عن ملاقيه، فلو لم يجتنب عن الملاقي لم يجتنب عن النجس، وبعبارة أخرى: الاجتناب عن الملاقي هو من شؤون الاجتناب عن النجس، وهذا هو المتفاهم العقلائي من الأمر بالاجتناب عن القذر!

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن المتأخر لا يكون من شؤون المتقدّم والأمر باجتناب الملاقي متأخر عن الأمر باجتناب الملاقى؛ وذلك لأنه متوقف على تحقق الملاقاة.

وبعبارة أخرى: لا فعلية للحكم إلاّ بعد فعلية موضوعه، وقبل الملاقاة لا

ص: 279


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 38-39.

فعلية لوجوب الاجتناب عن الملاقي!

وفيه: إن الجعل في الملاقي والملاقى متقارن، وإنما المتأخر هو المجعول؛ لأن القضية حقيقية، فالجعل متحقق حتى مع عدم تحقق موضوعه في الخارج، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنه يجب الاجتناب عن الملاقي حتى مع فقد النجس، فلو كان من شؤونه لم يجب الاجتناب عنه عند فقده.

وأجيب: أولاً(1):

بأن الملاقي بما هو نجس بالتبع له حكم، وبما هو من شؤون النجس له حكم، كما لو قال المولى: (أكرم العالم) وكان إكرام ولده من شؤون إكرامه مع كون الولد عالم أيضاً.

وفيه(2): إنه لو ثبت أن شؤون وتوابع الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عن ملاقيه، لكان الأمر المتعلّق بالاجتناب عن الملاقي بعنوانه الخاص محمولاً عرفاً على الإرشاد إلى جهة التبعيّة، وإن كان ظاهراً في حدّ نفسه في الاستقلال، كما لو قال: (أكرم خادم العالم).

وثانياً(3): يمكن الاجتناب عن النجس ببعض مراتبه حتى مع فقده، فإكرام ولد العالم حتى مع موته هو إكرام للعالم ببعض مراتب الإكرام، فتأمل.

الإشكال الثالث(4): إن الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى هو في

ص: 280


1- نهاية الدراية 4: 281.
2- منتقى الأصول 5: 152.
3- منتقى الأصول 5: 152.
4- نهاية الدراية 4: 281.

الحقيقة اجتناب عن فرد من أفراد النجس مع عدم الاجتناب عن فرد آخر، لا أنه لم يجتنب أصلاً، ولو كان الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن الملاقى كان المفروض عدم تحقق الاجتناب أصلاً، وكان هناك امتثال واحد وعصيان واحد، لكنه ليس كذلك فيكشف عن كونهما أمرين مستقلين.

وفيه: أن للاجتناب مراتب فقد يتحقق الامتثال في مرتبة دون أخرى، كما لو أكرم العالم دون ابنه وخادمه - في المثال - والانحلال المراتبي لا يدل على تعدد الأمر عكس الانحلال الأفرادي.

الإشكال الرابع: إن الدليل هو في كون اجتناب الملاقي هو من شؤون اجتناب النجس، وهذا لا يرتبط بمحل البحث الذي هو الملازمة بين اجتناب المشتبه واجتناب ملاقيه.

وفيه: إنه لا فرق عرفاً بين الأمر بالهجر بملاك القذارة أو بملاك احتمال القذارة، فتأمل.

الإشكال الخامس(1): إن لازم ذلك هو لزوم الاجتناب عن مشكوك الملاقاة، لاشتغال الذمة بحكم النجس نفسه، والتالي باطل فالمقدم مثله.

وفيه: إن أصالة عدم الملاقاة حاكمة، كما في الشك في الشرطية والجزئية، بل قد يقال: إن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، والشك في ثبوت الموضوع كاف لعدم ثبوت الموضوع.

الدليل الرابع: إن الشارع كما أمر باجتناب النجس كذلك أمر باجتناب

ص: 281


1- منتقى الأصول 5: 154.

ملاقيه، فالعلم الإجمالي بوجود نجس بين الإنائين تمام الموضوع للحكم بوجوب الاجتناب عن النجس في البين وعن ملاقيه.

وفيه: أن الحكم باجتناب النجس حكم تنجيزي اشتغلت الذمة به، وأما الحكم باجتناب ملاقيه فهو حكم تعليقي، فلا اشتغال لذمة المكلف بهذا الحكم قبل الملاقاة لعدم تحقق الموضوع، ولا بعدها للشك في تحقق الموضوع فيكون مجرى البراءة.

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثانية: تقدم الملاقاة والعلم بها على العلم الإجمالي

وهو على قسمين:

القسم الأول: اتحاد زمان حكم الملاقي والملاقى - في ما لو كان للملاقى حكم - فالحكم المعلوم بالإجمال متقارن زماناً مع الملاقاة، كما لو كان ثوب في الإناء الأول حين سقوط قطرة الدم في أحد الإنائين، وفيه قولان:

القول الأول: عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، لما مرّ في الصورة الأولى من أن الشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في نجاسة الإناء، إلى آخر ما ذكر هناك.

إن قلت: كيف يمكن التفكيك بين حكم الملاقي والملاقى مع العلم باتحاد حكمهما؟

قلت: لا مانع من التفكيك في الظاهر بين المتلازمين الواقعيين، كما لو غسل يده النجسة في الماء المشكوك الكرية مع عدم حالة سابقة له،

ص: 282

فيستصحب نجاسة اليد و طهارة الماء، مع أنه في الواقع إما هما طاهران أو نجسان.

القول الثاني: لزوم الاجتناب عن الملاقى أيضاً، قال في الكفاية: «ضرورة أنه حينئذٍ نعلم إجمالاً: إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنين»(1).

ولا يخفى أن مرجع القولين إلى المبنى في الصورة الأولى، فعلى القول بالسببيّة والمسببيّة لا بد من الذهاب إلى القول الأول، وعلى مبنى عدم تنجز العلم الإجمالي الثاني مع تنجز العلم الإجمالي الأول لا بد من الذهاب إلى القول الثاني؛ إذ لا يوجد هنا علمان إجماليان، بل علم إجمالي بتكليف واحد في أطراف ثلاثة، فتأمل.

القسم الثاني: عدم اتحاد زمان حكم الملاقي والملاقى، كما لو لاقت يده الإناء الأول ثم علم بعد ذلك بأنه قد كانت سقطت قطرة دم في أحد الإنائين قبل الملاقاة.

وحيث إن التنجز أثر العلم لا أثر المعلوم فقد تولد العلم الإجمالي مع كون أطرافه ثلاثة في عرض واحد فتتعارض الأصول الترخيصية وتتساقط فيها.

بيانه: إن الآثار الشرعية تترتب على المعلوم، ويكون العلم طريقياً فيها عادة، وأما الآثار العقلية فهي تترتب على العلم، وحيث إن التنجّز أثر عقلي

ص: 283


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 245.

فيترتب على العلم، وهو متأخر رغم تقدم المعلوم، فلا أثر للملاقاة ولا للعلم بها في تنجّز وجوب الاجتناب، بل وجوب الاجتناب يتنجز من حين العلم الإجمالي بالنجاسة وهو ثلاثي الأطراف، فتأمل.

الصورة الثالثة: توسط العلم الإجمالي بين الملاقاة وبين العلم بها

كأن تحصل الملاقاة من غير علمه بها، ثم يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، ثم يعلم بالملاقاة السابقة.

فقد يقال: بوجوب الاجتناب عن الملاقي؛ وذلك لتبدل العلم الإجمالي الصغير إلى كبير، والمناط في التنجز هو المنقلب إليه لا المنقلب عنه؛ إذ لا يعقل بقاء أثر الأول بالتنجز مع زواله، وأما الثاني فهو علة للتنجز فيتحقق المعلول، نظير ما لو قطع بسقوط قطرة دم في الإناء الأول أو الثاني فيتنجز عليه وجوب الاجتناب عنهما ثم علم بخطئه وأنها سقطت إما في الأول أو الثالث فقد زال العلم الإجمالي الأول فيزول أثره وهو تنجز وجوب الاجتناب عن الإناء الأول والثاني، وحيث تولد علم إجمالي جديد بين الأول والثالث تنجّز وجوب الاجتناب عنهما.

وفي ما نحن فيه علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأول أو الثاني، ثم حين العلم بالملاقاة تبدل علمه إلى علم إجمالي ذي أطراف ثلاثة.

وفيه: أن ما نحن فيه ليس من الانقلاب في شيء، بل هنا انضمام علم جديد إلى العلم الإجمالي الأول، فعلمه بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين لم يتغيّر وإنما زاد علماً جديداً وهو علمه بالملاقاة، وحيث إن أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني كان منجّزاً فلا يتنجّز من جديد بالعلم الإجمالي الثاني، وعليه فلا مانع من جريان أصالة الطهارة في الملاقي بعين ما مرّ في

ص: 284

الصورة الأولى وحسب بعض المباني المذكورة فيها.

الصورة الرابعة: خروج الملاقى عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي

وهذا قسمان: لأنه إمّا يرجع الملاقى إلى محل الابتلاء بعد ذلك كما لو كان مغصوباً مأيوساً منه ثم ردّه، وإما لا يرجع إليه كما لو كان تالفاً.

ذهب المحقق الخراساني(1):

إلى وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى حتى لو رجع إلى محلّ الابتلاء؛ وذلك لأنه حين العلم الإجمالي كان الملاقى خارجاً عن محل الابتلاء فلا تكليف بالنسبة إليه، وإنما يعلم إجمالاً بوجود تكليف بين الملاقي وبين طرف الملاقى فيتنجّز هذا التكليف، فلو رجع الملاقى إلى محل الابتلاء جرى فيه أصالة الطهارة من غير معارض لسقوط أصالة الطهارة في طرفه بمعارضته مع أصالة الطهارة في الملاقي، والأصل الميت لا يُحيى!

وأشكل عليه المحقق العراقي(2):

بأن مبنى هذا الكلام هو عدم جريان الأصل العملي في الملاقى لخروجه عن محل الابتلاء، وهو محل إشكال؛ لأن عدم جريان الأصل إنما هو للّغوية، ولا لغوية في جريان الأصل في الملاقى الخارج عن محل الابتلاء؛ وذلك لوجود أثر عملي لجريانه فلا لغوية، وأثره هنا هو طهارة ملاقيه، وعليه فيجرى الأصل في الملاقى ويتعارض مع الأصل في طرفه فيتساقطان فتصل النوبة إلى الأصل المسبّبي في الملاقي فيجري من غير معارض، فحال هذه الصورة كحال الصورة

ص: 285


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 242.
2- نهاية الأفكار 3: 320.

الأولى.

وهذا نظير ما لو غسل ثوبه بماء وقد تلف ذلك الماء ثم علم بنجاسة ذلك الماء من قبل وشك في طهارته قبل الغسل، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب نجاسة الماء مع كونه خارج محل الابتلاء باعتبار أثره الشرعي وهو نجاسة الثوب الذي غُسل به.

إن قلت: فعلية المحمول متفرعة على فعلية الموضوع لأنه كالعَرَض له، وفي ما نحن فيه لا يمكن إجراء الأصل في الملاقى لا بلحاظ زمان الملاقاة؛ وذلك لعدم الشك الفعلي، ولا بلحاظ حال العلم وذلك لخروجه عن محل الابتلاء، وبعبارة أخرى: يدور الأمر بين أصل لا يعقل جريانه لعدم تحقق موضوعه وبين أصل لا يعقل جريانه لعدم الأثر له!

قلت(1): لا محذور في انفكاك زمان الحكم عن زمان متعلقه نظير الواجب المعلّق، إلاّ أنه هناك الوجوب فعلي والواجب استقبالي، وهنا الحكم فعلي ومتعلقه ماضوي، والحاصل: أنه حين العلم الإجمالي يتولد حكم شرعي بالطهارة، لكن متعلقها هو ظرف الملاقاة، وأثره طهارة الملاقي!

الصورة الخامسة: حدوث علم إجمالي ثاني

لو علم بالحكم إجمالاً بين الملاقي بما هو هو وبين طرف الملاقى، ثم حصل علم إجمالي ثان بين الملاقى وطرفه، مع العلم بالملاقاة واستناد حكم الملاقي إلى الملاقاة، كما لو علم إما بنجاسة اليد أو الإناء الثاني، ثم

ص: 286


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 66.

علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين وحصول الملاقاة بين اليد والإناء الأول، وأن اليد لو كانت نجسة فإنما بنجاستها لملاقاتها للإناء الأول.

فقد يقال: بلزوم الاجتناب عن الملاقي والطرف دون الملاقى حيث لا يجب اجتنابه! وذلك لأن العلم الإجمالي الأول نجّز وجوب الاجتناب عن الإناء الثاني، فلا يتنجز فيه وجوب جديد بسبب العلم الإجمالي الثاني؛ لأن المنجز لا ينجّز، فتجري أصالة الطهارة في الإناء الأول لعدم العلم بتكليف جديد وعدم المعارض لأصالة الطهارة فيه.

إن قلت(1): إن رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي، وإن تقدّم زمان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف؛ لأن التكليف في الملاقي إنما جاء من قبل التكليف بالملاقى فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخره بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقاً رتبةً وزماناً على المعلوم الآخر.

قلت: قد مرّ أن التنجز أثر العلم لا المعلوم، وعليه حيث حدث العلم الإجمالي الأول متقدماً ترتب عليه التنجّز فلا أثر للعلم الإجمالي الثاني رغم كون المعلوم فيه متقدماً رتبة؛ لأن المنجّز لا ينجّز.

التنبيه الثاني: العلم الإجمالي في التدريجيات

هل تنجيز العلم الإجمالي للتكليف خاص بالدفعيات أم هو عام شامل لها وللتدريجيّات؟ وذلك في ما كان التكليف على أحد الأطراف حالياً،

ص: 287


1- فوائد الأصول 4: 86.

وكان على الطرف الآخر استقبالياً، كما في المرأة الدائمة الدم طوال الشهر حيث تعلم بأن حيضها عشرة أيام من الشهر مثلاً وهي مكلّفة بعدم دخول المساجد فيه.

فقد يقال: بعدم تنجيزه مطلقاً حيث يجري الأصل المؤمِّن في كل طرف، وقد يقال: بتنجيزه مطلقاً بعدم جريان الأصل المؤمِّن، وقد يفصّل بين فعلية الملاك فيجب الاحتياط وبين عدم فعليته فيجوز الاقتحام في كل الأطراف.

وقد استدل على التنجيز ولزوم الاحتياط بأدلة، منها:

الدليل الأول: عدم تفريق العقلاء بين العلم الإجمالي المتعلّق بالأطراف الموجودة وبين العلم الإجمالي المتعلق بالتدريجيات، مع رؤيتهم تعارض الأصول الترخيصيّة أو انصرافها عنها، وحيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية فلا بد من الاحتياط حينئذٍ.

الدليل الثاني: استقلال العقل بقبح تفويت الملاك المزم للمولى في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته.

وأشكل عليه: بأنه لا علم بالملاك الملزم حين ارتكاب الطرف الحالي، ولمّا يحين الطرف الاستقبالي لا علم أيضاً بوجود ملاك ملزم أيضاً، ثم بعد ارتكابهما يعلم بتفويت ملاك ملزم ولا دليل على قبح العلم به!

وفيه: بأنه قبل الارتكاب يعلم بأنه لو ارتكبهما لفوّت ملاكاً ملزماً للمولى، وهذا المقدار كاف باستقلال العقل بلزوم حفظ الملاك، فتأمل.

الدليل الثالث: فعلية التكليف الموجود بين الطرفين أو الأطراف حتى الطرف غير الموجود حالياً، وفعليته تساوق تنجّزه.

ص: 288

قال المحقق الإصفهاني: «1- إن مقتضى علمه الإجمالي بالتكليف - إما في الحال أو في الاستقبال مع بقائه على شرائط الفعلية والتنجّز في ظرفه - هو وصول كل من التكليفين المحتملين وصولاً إجمالياً، 2- وهو كافٍ في فعلية الواصل في موطنه، 3- فيعلم إجمالاً أن مخالفة هذا التكليف الحالي في الحال أو مخالفة ذلك التكليف الاستقبالي في الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب، إما على هذه المخالفة في الحال أو على تلك المخالفة في الاستقبال، فكل من المخالفتين في موطنها مما يحتمل ترتب العقاب عليها، وهو الحامل على دفع العقاب المحتمل بترك المخالفة في موطنها، ولا يتوقف فعلية التكليف في موطنه على أزيد من الوصول، كما لا يتوقف استحقاق العقاب على أزيد من مخالفة التكليف في موطن المخالفة وفي ظرف ترتب استحقاق العقاب، 4- كما لا يتوقف لزوم المقدمة العلمية ودفع العقاب المحتمل على أزيد من احتمال العقاب بالإضافة إلى المخالفة الواقعية للتكليف الحقيقي في ظرفه»(1).

وأشكل عليه في التبيين(2):

بأن المقدمة الثانية غير تامة؛ وذلك لأن فعلية التكليف الاستقبالي معلول للعلم بوجوده البقائي لا الحدوثي، ولذا لو زال العلم في موطن التكليف لم يكن منجزاً، فالفعلية مشروطة ببقاء العلم وصرف الحدوث ليس كافياً لتنجز التكليف في موطنه، وعليه فالتكليف الاستقبالي لا يصير منجَّزاً بالعلم الحالي، فلا يكون علمه الإجمالي منجِّزاً

ص: 289


1- نهاية الدراية 4: 253.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 75.

على كل تقدير.

وفيه: أن القاطع بالتكليف الاستقبالي قاطع ببقاء علمه وهو كافٍ في فعلية التكليف الاستقبالي وترشحه على مقدماته، وقد مرّ الكلام في المقدمات المفوّتة(1)، فتأمل.

الدليل الرابع: إن التكليف في كل الأطراف في عرض واحد، وذلك بحصول علم إجمالي ثانٍ، قال المحقق العراقي «مع العلم الإجمالي بأحد الأمرين يحكم العقل بلزوم الإتيان بالطرف الفعلي، مع حفظ القدرة على الطرف الآخر في موطنه»(2).

وهذا على مبنى لزوم المقدمات المفوتّة.

أي إن هنا علم إجمالي ثانٍ إما بالإتيان بهذا الحاليّ، أو حفظ القدرة للاستقبالي، وهذان تكليفان حاليّان يعلم بانشغال ذمته بأحدهما، فيتنجز التكليف.

إن قلت: إن هذا العلم الإجمالي الثاني ليس دالاً على حرمة تفويت الاستقبالي في ظرفة!

قلت: حفظ القدرة طريقي، فلو وجب دلّ على وجوب الاستقبالي، فتأمل.

التنبيه الثالث: في زيادة آثار أحد الأطراف

لو كان لأحد الطرفين أثر واحد وكان للطرف الأخر أثران أو أكثر فهل تتعارض الأصول الترخيصية في كل هذه الآثار أم لا، وهنا صور، منها:

ص: 290


1- نبراس الأصول 1: 413-417.
2- نهاية الأفكار 3: 324-325.

الصورة الأولى: عدم وجود جامع مشترك بين آثار الطرفين.

كما لو علم إجمالاً بأنه نذر إما صيام عشرة ذي الحجة أو صيام شعبان، فلا إشكال في لزوم الإتيان بالطرفين كاملاً، إذا لم يكن دليل خاص أو أصل حاكم، كما في الماليات حيث تجري قاعدة العدل والإنصاف، مثل ما لو علم بأنه مديون إما لزيد بخمسة دراهم أو لعمرو بعشرة دراهم.

الصورة الثانية: وجود أثر متشابه بين الطرفين، وأثر آخر مختص بأحدهما مع تعدد الموضوع من غير وجود أصل حاكم.

كما لو علم إجمالاً بسقوط قطرة دم إما في المطلق القليل أو في المضاف، فالأثر المتشابه هو حرمة الشرب، والأثر المختص بالماء المطلق هو عدم جواز الوضوء به إن كان هو المتنجس، أما المضاف فليس هذا أثر تنجسه وذلك لعدم صحة الوضوء به مطلقاً حتى لو كان طاهراً.

قد يقال: إن الأصول الترخيصية في الأثر المتشابه تتعارض فتتساقط فيجري الأصل الترخيصي في الأثر المختص من دون معارض، وعليه ففي المثال لا يجوز شرب الماء المطلق لكن يجوز الوضوء به!

وفيه: - ومع قطع النظر عن الإشكال في المثال حيث لا بد من إحراز طهارة الماء في الوضوء إما وجداناً أو بالتعبد، ولا إحراز هاهنا - أنّ الأصول الترخيصية كلّها في عرض واحد حتى لو كان في طرف أصلان وفي طرف آخر أصل واحد فكلّها تتعارض وتتساقط، كتعارض خبر مع خبرين أو بينة مع بينتين؛ وذلك لأن هاهنا علمان إجماليان في عرض واحد ولا سببيّة في البين، أحدهما: إما حرمة شرب المطلق أو المضاف، والآخر: إما حرمة شرب المضاف أو حرمة الوضوء بالمطلق.

ص: 291

الصورة الثالثة: الصورة السابقة نفسها مع اتحاد الموضوع.

وهذا مرجعه إلى الأقل والأكثر وخارج عن محل البحث، كما لو علم إجمالاً بأنه مديون لزيد بعشرة دنانير اقترضها أم أنه أتلف منه عشرين ديناراً، فمتعلق العلم الإجمالي سببان متباينان - الاقتراض والإتلاف - إلاّ أن التكليف يدور أمره بين الأقل والأكثر.

الصورة الرابعة: الصورة الثانية نفسها مع وجود أصل حاكم على الأصل الترخيصي فهنا لا يجري الأصل الترخيصي، بل يجري الأصل الحاكم.

وقد يمثّل له بما إذا علم إجمالاً بملاقاة الثوب للبول أو الدم، فيشك في أن تطهيره بالغسل مرّة أو مرتين، فالأصل الترخيصي - أي البراءة - عدم لزوم الغسلة الثانية، إلاّ أنه محكوم باستصحاب النجاسة بعد الغسلة الأولى، ولازمه لا بديّة الغسلة الثانية في التطهير!

وغير خفي أن أصالة البراءة هنا عن الوجوب الشرطي، كما أن الاستصحاب هاهنا هو استصحاب الكلي من القسم الثاني، فلا يرد الإشكال على المثال بعدم موضوع لأصالة البراءة لعدم وجود وجوب تكليفي ليرفع بها، ولا الإشكال بعدم تمامية أركان الاستصحاب لعدم اليقين السابق في الطرفين ولعدم الشك اللاحق في أحد الطرفين.

إن قلت: لا يجري الاستصحاب في المثال لتعارض الاستصحابين في الجعل والمجعول، فجعل النجاسة بعد الغسلة الثانية مشكوك فيستصحب عدم الجعل، ويعارضه استصحاب النجاسة فيتعارضان ويتساقطان فلا حاكم على الأصل الترخيصي!

ص: 292

قلت: إن تعارض استصحاب عدم الجعل واستصحاب المجعول إنما هو في الأحكام الكلية كوجوب الجمعة في عهد الغيبة، وأما في المصاديق فلا تعارض لعدم الجعل فيها وإنما الجعل للكلّي، ولولا ذلك لما جرى أي استصحاب أصلاً، هذا مع قطع النظر عن المناقشة في المبنى.

ولكن يرد على المثال ما في التبيين(1):

بأنه لا مجال للاستصحاب الحاكم أصلاً، وذلك بضميمة الوجدان إلى الأصل، فيتحقق موضوع الدليل العام وهو كفاية الغسلة الواحدة في النجاسات إلاّ البول.

بيانه: إنه لا تجري أصالة عدم ملاقاة الثوب للدم وكذا أصالة عدم كون الملاقي دماً؛ وذلك لعدم وجود الأثر له؛ إذ لو أريد إثبات وجوب الغسل مرتين فهو مثبت، وإن أريد إثبات وجوب الغسلة الأولى فهو مقطوع به، وأما أصالة عدم ملاقاة الثوب للبول، أو أصالة عدم بولية الملاقي فهي جارية لوجود الأثر الشرعي بعد ضمّ العلم الوجداني بكفاية الغسلة الواحدة في غير البول، وعليه فلا يبقى مجال لاستصحاب النجاسة، فتأمل.

التنبيه الرابع: في امتناع أحد الطرفين شرعاً

مرّ أن امتناع أحد الطرفين عقلاً - كخروجه عن محل الابتلاء - مانع عن تنجيز العلم الإجمالي في الجملة، فهل الامتناع الشرعي كذلك؟ كما لو كان هناك إناء مغصوب وآخر مباح فسقطت قطرة دم في أحدهما، فهل كون المغصوب ممنوعاً عن التصرف فيه شرعاً مانع عن جريان الأصل الترخيصي فيه، فيبقى الأصل في الطرف المباح سليماً عن المعارض؟

ص: 293


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 88.

الأقوى التفصيل بين ما لو كان أثر الممتنع الشرعي كأثر الطرف الآخر فلا علم بتكليف جديد فتجري أصالة البراءة عنه، وبين تغاير الأثرين فيتحقق علم بتكليف جديد فلا بد من إفراغ الذمة منه.

مثال تغاير الأثرين: لو علمنا بسقوط قطرة الدم في المغصوب أو المباح فإنّا نعلم بتولد تكليف جديد إما باجتناب المباح وإما باجتناب ملاقي المغصوب، وحينئذٍ تتعارض الأصول الترخيصية وهذا في ما لو تحققت الملاقاة، وأما مع عدم تحققها فقد مرّ أن التكليف حينئذٍ تعليقي فلا علم بتكليف جديد فلا تنجيز للعلم الإجمالي.

ومثال ما لم يتغاير الأثران: لو غصب أحد الإنائين غاصب ثانٍ، فتردّد بين غصب الإناء المغصوب فتعاقبت عليه أيدي الغاصبين، وبين غصب الإناء المباح، فهنا لم يتغاير الأثران فلم يعلم بتولد تكليف جديد، فيكون مجرى البراءة حيث لا تجرى البراءة في الإناء المغصوب.

التنبيه الخامس: تفرع أحد التكليفين على الآخر

فهل الحكم الاحتياط، أم التخيير، أم ترجيح المتقدّم، أم ترجيح المتأخر؟

الظاهر أنه إن كان أثرهما طوليين أيضاً ولم يكونا في عرض واحد لزم ترجيح التكليف الأول وذلك بجريان الأصل فيه، وإن لم يكن الأثران طوليين، بل كانا في عرض واحد مع سببيّة ومسببية بين التكليفين جرى الأصل الترخيصي في السببي فقط دون المسببي، وإن كان الاحتياط يستلزم المخالفة القطعية لزم الترجيح بالأهمية أو احتمالها وإلاّ فالتخيير إن لم يكن فيه محذور، فتأمل.

مثال الأول: لو علم إجمالاً بنجاسة الماء أو التراب مع انحصار الطهور

ص: 294

فيهما، ولم يكن لطهارة التراب أثر إلاّ التيمم به، فهنا يجري أصل الطهارة في الماء من غير معارضة أصل الطهارة في التراب لعدم أثر له إلاّ التيمم، وهو متوقف على فقدان الماء الطاهر، وقد ثبت وجوده بضميمة الأصل إلى الوجدان، ولا يخفى أن هذا من مصاديق قاعدة جريان الأصل المطلق وعدم جريان الأصل المشروط بعدم جريان الأصل المطلق.

ومثال الثاني: لو علم إجمالاً بوجوب أداء الدين أو الحج، وعليه فهو إما مديون فليس بمستطيع، أو مستطيع، فهنا تجري أصالة البراءة عن الدين لأنه الأصل السببي، فيجب عليه الحج لاستطاعته.

ومثال الثالث: لو علم إجمالاً إما بنجاسة الماء أو غصبية التراب مع انحصار الطهور فيهما، فهنا الاحتياط بالجمع بين الوضوء والتيمم وإن استلزم الموافقة القطعية إلاّ أنه يستلزم المخالفة القطعية، فقد يقال: بأنه لا بد من ترجيح محتمل الأهمية أو مقطوعها وهو التكليف الذي فيه حق الناس فيترك محتمل الغصبية ويتطهر بمحتمل النجاسة، فإن لم يحتمل الأهمية رجّح الوضوء؛ إذ لا معنى للتخيير حيث إنه يستلزم التعيين وذلك لأنه واجد للماء الذي يجوز استعماله.

التنبيه السادس: في انحلال العلم الإجمالي

لو علم إجمالاً بوجود تكليف إلزامي بين أحد الطرفين ثم علم تفصيلاً بوجد تكليف إلزامي في أحدهما على التعيين، فإن انطبق المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي انحلّ العلم الإجمالي؛ وذلك لانحصار التكليف الذي علم به بنفسه في الطرف المعيّن.

ص: 295

وأما إن احتمل الانطباق فهل ينحلّ العلم الإجمالي أم لا؟

ذهب المشهور إلى الانحلال، واستدلوا لذلك بوجوه، منها:

الدليل الأول: ما في الفوائد(1)

من أنّ التكليف ثابت في الطرف المعيّن فلا يجري فيه الأصل النافي، ويجري في الطرف الآخر لعدم المعارض، كما لو كان العلم التفصيلي سابقاً والعلم الإجمالي لاحقاً فلا فرق بين الصورتين.

وفيه: أنه حين حدوث العلم الإجمالي في المتباينين يتعارض الأصلان في الطرفين ويتساقطان، ولا فرق في ذلك بين طول زمان أحدهما وقصر زمان الآخر، ولذا لو ترددت النجاسة بين إناء يبقى ليوم وإناء آخر يبقى ليومين لا يصح إجراء الأصل الترخيصي في اليوم الثاني في الإناء الباقي بعد فقد الإناء الأول.

الدليل الثاني: ما في الفوائد أيضاً قال: «العلم الإجمالي الحادث مما لا أثر له، لسبق التكليف بوجوب الاجتناب عن بعض أطرافه، ويحتمل أن يكون متعلّق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقاً، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر»(2)،

وقال: «مجرد حدوث العلم الإجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف، بل يعتبر بقاؤه على صفة حدوثه، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علماً بالتكليف - لاحتمال سبق التكليف عليه - فلا محالة ينحلّ

ص: 296


1- فوائد الأصول 4: 38.
2- فوائد الأصول 4: 37-38.

ويسقط عن التأثير قهراً؛ إذ لم يعتبر العلم الإجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم لعدم أخذه موضوعاً في أدلة التكاليف، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقاً إلى متعلّقه وكاشفاً عنه»(1).

وحاصله: إن العلم الإجمالي إنما يكون منجّزاً إذا كان علماً بالتكليف على كل حال، وليس كذلك في محل الكلام؛ لأن العبرة بالمعلوم التفصيلي وهو سابق، من غير فرق بين تقدم العلم التفصيلي على العلم الإجمالي أوالعكس.

ويرد عليه مبنىً: بأن التنجيز أثر للعلم لا للمعلوم فيترتب من حين العلم كما مرّ، وعليه فسبق التكليف لا تأثير له في التنجيز فيتنجز التكليف من حين حدوث العلم الإجمالي.

وأما إشكال المحقق العراقي بأن «عنوان العلم بحدوث التكليف لغو في المقام، وتمام المدار على العلم بوجود تكليف حين وجوده وهو حاصل في المقام، فلا بد من منع تنجيزه من بيان آخر لا بهذا البيان»(2).

فلا يرتبط بما يرومه المحقق النائيني من أن المدار في المنجزية على المعلوم لا العلم، فتأمل.

الدليل الثالث: إنه مع احتمال الانطباق يشك المكلّف في تكليف آخر غير التكليف المعلوم بالتفصيل، فيكون مجرى البراءة، ومعها لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي في الطرف الآخر.

ص: 297


1- فوائد الأصول 4: 40.
2- فوائد الأصول 4: 38 (الهامش).

وفيه: إن محل الكلام هو مجرى الاشتغال لا البراءة لأنه بالعلم الإجمالي يعلم بانشغال ذمته بتكليف ولا يعلم بامتثاله مع اجتناب الطرف المعلوم في الشبهة التحريمية أو ارتكابه في الوجوبية.

الدليل الرابع: التسالم على الانحلال وإنكاره يستلزم فقه جديد.

وفيه: أنه لا تسالم، بل هو المشهور، وأن المنكرين له ليس فقههم فقه جديد، كالمحقق القمي الذي لم يلتزم بالانحلال وقال بالانسداد، وكالأخباريين الذين لم يقولوا بالانحلال في الشبهات الحكمية التحريميّة وذهبوا إلى وجوب الاحتياط.

الدليل الخامس(1): إن عمدة الأدلة على منجزية العلم الإجمالي بلحاظ الموافقة القطعية هو فهم الفقهاء المانع عن شمول الأدلة الترخيصية لبعض أطراف العلم الإجمالي على نحو التخيير، وإلاّ فإن ظاهرها جواز المخالفة الاحتمالية، والمانع المذكور مفقود في المقام - حيث يرى المشهور جريان أصل البراءة في الطرف الثاني - وبارتفاع المانع يؤثر المقتضي في مقتضاه.

الدليل السادس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(2): من الانحلال في خصوص الأمارات في الشبهات الحكمية بما حاصله: أن التكليف يتنجز حتى مع عدم العلم بتلك الأمارات؛ وذلك لأن المدار في التنجيز إمكان الوصول لا الوصول بنفسه، ولذا وجب الفحص في الشبهات الحكمية بحيث لو لم يفحص وصادف المخالفة لم يكن معذوراً، وفي موارد الأمارة

ص: 298


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 113.
2- راجع نهاية الدراية 4: 116.

المتأخرة عن العلم الإجمالي كان الوجود الواقعي للأمارة سبباً لتنجز التكليف وكان الوصول كاشفاً عن التنجز السابق، وحيث كان التكليف منجزاً فلا يكون العلم الإجمالي سبباً للتنجيز لأن المنجز لا ينجّز.

ويرد عليه: ما مرّ من أن تحصيل المنجزية طلب للحاصل، وأما استمرار المنجزية فلا بأس بكونه معلولاً بالاشتراك بين الأمارة التي هي في معرض الوصول وبين العلم الإجمالي بحيث يكون كل واحد منهما جزء سبب استمرار المنجزية، فتأمل.

وغير خفي أن كلامه واستدلاله إنما هو في خصوص الانحلال في مورد وجود الأمارات، وأما مع العلم أو الأصل العملي فلا يجري هذا الكلام لأن منجزية العلم من حين حدوث العلم لا من قبله فلا تأثير للعلم التفصيلي اللاحق في التنجيز السابق، وكذا جريان الأصل متوقف على تمامية أركانه وهي متأخرة في ما نحن فيه.

التنبيه السابع: في اشتراك علمين إجماليين في أحد الأطراف

لو تحقق علمان إجماليان وكان أحد الأطراف مشتركاً بينهما، فإن تولّدا في وقت واحد، كما لو شاهد سقوط قطرتي دم، إحداهما في الإناء الأول أو الثاني، والأخرى في الإناء الثاني أو الثالث، فلا إشكال في تنجيز العلمين الإجماليين للتكليف، لوجود مقتضي التنجيز وهو العلم بالتكليف في الأطراف، وعدم المانع وهو موجبات الانحلال عنه.

وأما لو تأخر أحد العلمين عن الآخر - سواء اتحد زمان المعلومين أم اختلفا - فلا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي الأول وذلك لوجود المقتضي وعدم المانع، وهكذا لا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي الثاني في ما لو

ص: 299

كان أثر العلمين متغايراً، كما لو كانت القطرة الثانية في المثال قطرة بول؛ وذلك للعلم باشتغال الذمة بتكليف جديد لاختلاف الأثر.

وأما لو لم يتغاير الأثران، كما لو كان الثاني في المثال قطرة دم أيضاً مع اختلاف زمان العلمين... .

فقد يقال: بعدم تنجيز العلم الإجمالي الثاني.

ويستدل له: بعدم مقتضي التنجيز وبوجود المانع عنه.

أما عدم المقتضي: فلأنه لا بد في التنجيز من العلم بانشغال الذمة بتكليف جديد على كل حال، وهذا غير متحقق في ما نحن فيه حيث لا نعلم بتكليف جديد لو كانت القطرة الثانية قد سقطت في الإناء الثاني.

وأما وجود المانع: فلأن العلم الإجمالي الأول صار سبباً لسقوط الأصل الترخيصي في الطرف المشترك، فحين حدوث العلم الإجمالي الثاني لا معارض للأصل الترخيصي في الطرف المختص - وهو الإناء الثالث في المثال - وعليه فيتحقق المانع عن تنجيز العلم الإجمالي الثاني وهو الأصل الترخيصي في الطرف المختص.

وأشكل عليه(1): بأن منجزية العلم الإجمالي آنية، بمعنى أن العلم الإجمالي منجِّز للتكليف في الآن الأول، واستمراره للآن الثاني منجِّز للتكليف في الآن الثاني، وهكذا، فالعلم الإجمالي الأول منجِّز للتكليف بحدوثه لا ببقائه؛ إذ وجود العلم الإجمالي آناً ما لا يكفي لتنجيزه للأبد، وعليه فالعلم الإجمالي الأول بحدوثه منجِّز التكليف في مرحلة الحدوث لا في مرحلة البقاء، وأما في

ص: 300


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 116-117.

مرحلة البقاء - حين تحقق العلم الإجمالي الثاني - فالمنجِّز كلا العلمين، وترجيح أحدهما للتنجيز ترجيح من غير مرجّح، ومن ذلك يعلم أن تساقط الأصول في أطراف العلم الإجمالي معلول لمنجزيته، وحيث كانت المنجِّزية آنية فالتساقط آني، فالطرف المختص في الآن الأول له معارض واحد، ولكن في الآن الثاني بعد تحقق العلم الإجمالي الثاني يكون للطرف المختص معارضان، فتتعارض الأصول الترخيصية في مرحلة البقاء جميعاً!

وفيه: أن التنجيز وإن كان معلولاً للعلم حدوثاً وبقاءً إلاّ أن متعلّق التنجيز هو شيء واحد في كلا المرحلتين وهو التكليف، وبالعلم الإجمالي الثاني لا علم بحدوث تكليف جديد فيكون مجرى البراءة، فتأمل.

التنبيه الثامن: في جريان الاستصحاب في أحد الطرفين

وذلك في ما لو علم إجمالاً بالوجوب بين طرفين، ثم أتى بأحدهما، فهل يجري استصحاب بقاء التكليف؟

قال المحقق النائيني: «ربما يتوهم أن وجوب الإتيان بالمحتمل الآخر عند الإتيان بأحد المحتملين مما يقتضيه استصحاب بقاء التكليف فلا حاجة في إثبات ذلك إلى قاعدة الاشتغال، بل لا مجال لها لحكومة الاستصحاب عليها. هذا، ولكن التحقيق: عدم جريان الاستصحاب في ذلك؛ لأنه يلزم من جريانه: إما إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، وإما البناء على اعتبار الأصل المثبت»(1).

بيانه: أنه لو تردد تكليفه بين الصلاة قصراً أو تماماً فصلّى إحداهما مثلاً،

ص: 301


1- فوائد الأصول 4: 125.

فهنا هل يجري استصحاب التكليف؟

وليس كلامه في استصحاب الفرد المعين لأنه مردّد بين مقطوع الارتفاع، وفردين مشكوكي الحدوث، وإنما في استصحاب القسم الأول من الكلي وأركانه تامة لليقين السابق بانشغال الذمة بكلي التكليف مع الشك اللاحق بخروجه عن عهدته.

وإشكال هذا الاستصحاب أنه إما إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، حيث إن إجراء الاستصحاب إنما هو لترتيب أثره وهو هنا لزوم إفراغ الذمة، وهذا محرز بالوجدان، حيث أن حدوث التكليف والشك في امتثاله تمام الموضوع عقلاً للزوم إفراغ الذمة، فإحرازه بالتعبد من تحصيل الحاصل، وإما إنه أصل مثبت؛ لأن استصحاب الكلي لا يثبت الفرد حتى لو كان منحصراً إلا عقلاً، والغرض من الاستصحاب هو إثبات وجوب الإتيان بالفرد الثاني.

وأشكل عليه: بأنه ليس من تحصيل الحاصل لاختلاف السنخين، فالحاصل هو الاشتغال الوجداني والمحصَّل هو الإحراز التعبدي، كما أنه لا لغوية في ذلك لترتب فوائد عليه وذلك في ما لو شك في حكم العقل أو عدم تحرّك العبد بالمحرّك العقلي إلاّ بعد ضميمته بالمحرّك الشرعي، ولذا صحّ التعبد بالبراءة الشرعية مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، كما مرّ.

كما أنه ليس بأصل مثبت، حيث إن لازم استصحاب الكلي هو بقاء الوجوب، ثم إن وجوب إفراغ الذمة منه - وإن كان أثراً عقلياً - إلاّ أنه أثر الحكم، وترتب الأثر العقلي للحكم ليس من الأصل المثبت في شيء، فتأمل.

ص: 302

فصل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

اشارة

لو دار الأمر بين الأقل والأكثر، فهما إما ارتباطيان أو استقلاليان، والارتباطي في ما لو كان ملاك واحد وتكليف واحد و امتثال واحد وعصيان واحد، والاستقلالي في ما لو تعدد الملاك والأمر والامتثال والعصيان بتعدد الأجزاء.

فأما الاستقلالي: فإن العلم الإجمالي فيه ينحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي بالأكثر، كما لو دار أمره بين قضاء صيام يوم واحد أو يومين، فيكون الأكثر مجرى البراءة العقلية والشرعية.

وأما الارتباطي: فكالشك في أن الصلاة مثلاً هل ذات تسعة أجزاء أو عشرة بإضافة القنوت مثلاً؟

والكلام فيه في مباحث:

المبحث الأول: الدوران بين الأقل والأكثر في الجزء

اشارة

وفي ذلك أقوال ثلاثة: جريان البراءة العقلية والشرعية، وعدم جريانهما، وجريان الشرعية دون العقلية، فالكلام في مطالب:

المطلب الأول: في البراءة العقلية في الارتباطيين

وفيه قولان:

ص: 303

القول الأول: جريان البراءة العقلية، وقد استدل له بوجوه، وإن كان واقعها واحداً:

الدليل الأول: انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل إما بالوجوب النفسي وإما بالوجوب الغيري، وإلى الشك البدوي في وجوب الأكثر، فيكون العقاب عليه بلا بيان.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: مبنىً، تارةً بعدم وجوب مقدمة الواجب.

وفيه: إن كلامنا في البراءة العقلية، والوجوب العقلي للمقدمة مما لا إشكال فيه.

وتارة أخرى: بما مرّ من عدم كون الأجزاء مقدمة للكل فلا معنى للوجوب الغيري فيها، بل يستحيل ذلك؛ إذ لا بد من المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة، مع أنه لا تغاير بين الكل وأجزائه.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(1) بما حاصله: أن العلم بالجامع - بين الوجوب النفسي والغيري - لا يوجب الانحلال؛ إذ يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال، وهذا الشرط مفقود في المقام؛ لأن المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي المتعلق بالأقل أو الأكثر، وأمّا المعلوم بالتفصيل فهو وجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري في الأقل، وهذان سنخان متغايران.

ص: 304


1- فوائد الأصول 4: 176 (الهامش).

وفيه(1): أنه لا دليل على شرطية وحدة السنخ في الانحلال، بل ملاكه جريان الأصل المؤمِّن، سواء كانا من سنخ واحد أما لا، وفي المقام الأقل متيقن الوجوب نفساً أو مقدمة، ويشك في دخول الأكثر في عهدة المكلّف حيث لم يتمّ عليه البيان، فيقبح العقاب عليه.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية قال: «فاسد قطعاً لاستلزامه الانحلال المحال؛ بداهة توقف لزوم الأقل فعلاً - إما لنفسه أو لغيره - على تنجز التكليف مطلقاً ولو كان متعلقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجزه إلاّ إذا كان متعلقاً بالأقل كان خلفاً، مع أنه يلزم من وجوده - أي وجود الانحلال - عدمه لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقاً، المستلزم لعدم الانحلال»(2).

وحاصله: إنه مع عدم وجوب ذي المقدمة - ولو بإجراء أصالة البراءة - لا تجب المقدمة؛ لأن وجوبها ترشحي من وجوبه، فبعدم وجوب الأكثر يثبت عدم وجوب الأقل من حيث المقدمية، فلا يعلم وجوب الأقل على كل حال، مع أن ملاك الانحلال هو العلم بوجوب أحد الطرفين أو الأطراف على كل حال.

وأجيب عنه بأجوبة، منها:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق النائيني وهو إشكال مبنوي، قال: «إن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجيز التكليف بالأكثر لا تستقيم، ولو

ص: 305


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 126.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 248-250.

فرض كون وجوبه مقدمياً، سواء أريد من وجوب الأقل تعلّق التكليف به أو تنجزه، فإن وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجوب الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به؛ لأن وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز، وكذا تنجّز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجّز التكليف بالأكثر، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه، فإن تنجّز كل تكليف إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك»(1).

وكأنّ مقصوده أن المكلّف يعلم أن الأقل واجب عليه واقعاً إما لنفسه أو لغيره، وهذا لا ينافي عدم الوجوب الغيري ظاهراً لاختلاف متعلّق الوجوبين، فالوجوب الفعلي المنجَّز للأقل ثابت على كل حال حتى لو لم يتنجز وجوب الأكثر بسبب جريان أصالة البراءة، وعليه فحتى لو أجرينا أصالة البراءة عن وجوب الأكثر فلا يزول العلم بوجوب الأقل واقعاً على كل حال إما لنفسه أو لغيره، والظاهر عدم ورود أيّ إشكال على هذا الجواب.

الجواب الثاني: ما عن المحقق الحائري(2):

من أن الضابط في انحلال العلم الإجمالي ليس هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يوجب مخالفته العقوبة على كل حال، كيف ولو كان كذلك ما صحّ القول بالانحلال في ما إذا قام طريق معتبر شرعي مثبت في بعض الأطراف، فإنه لا يصح العقوبة

ص: 306


1- فوائد الأصول 4: 158-159.
2- درر الفوائد، للحائري: 474.

على مخالفة التكليف الطريقي على كل تقدير، بل هو موجب لصحة العقوبة لو كان مصادفاً للواقع، إنّما الضابط هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلاً، وإن كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير، فنقول في ما نحن فيه: إن العلم بالتكليف بالأقل لمّا لم يعلم كونه مقدمياً أو نفسياً يجب عند العقل موافقته؛ لأنه لو كان نفسياً لم يكن له عذر في تركه.

وحاصله: أما كبرىً فليس ملاك الانحلال ما ذكره المحقق الخراساني من العلم بالتكليف الموجب مخالفته العقوبة على كل حال، للنقض عليه بما لو قام طريق شرعي على التكليف في أحد الأطراف فإنه ينحل العلم الإجمالي مع أنه لا علم باستحقاق العقوبة على مخالفة الطريق على كل حال؛ إذ قد يكون الطريق خاطئاً فلا يكون مخالفته إلاّ تجرّياً.

وأما صغرى: فإنه في ما نحن فيه لو كان التكليف نفسياً لم يكن معذوراً في تركه.

وعليه: فالتكليف بالأقل ثابت حتى لو لم يعلم كونه نفسياً أم غيرياً.

ويرد عليه: أولاً: على الكبرى: بأن احتمال مطابقة الطريق للواقع كافٍ في تنجيز الطريق وبذلك ينحل العلم الإجمالي؛ إذ قام الدليل على حجية هذا الاحتمال، وليس ما نحن فيه كذلك؛ إذ لا دليل على حجية الاحتمال فيه.

وثانياً(1): على الصغرى: بأن منشأ العقاب على ترك الأقل إمّا العلم الإجمالي بالوجوب النفسي للأقل أو الأكثر، وإمّا احتمال الوجوب النفسي

ص: 307


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 132.

للأقل، أما الأول فنسبة العلم الإجمالي إلى الأقل والأكثر واحدة فكيف صار سبباً لتنجيز الأقل دون الأكثر، وأما الثاني فإنه مجرد احتمال لا يكون منجزاً.

الجواب الثالث: التبعيض في التنجيز(1)،

وحاصله: أنّه في المركبات وإن كان الجعل واحداً والمجعول واحداً إلاّ أنه لا محذور في التبعيض في التنجيز، مثلاً لو فرض أن الجزء العاشر في الصلاة كان واجباً ولم يعلم به، فوجوب الصلاة منجَّز باعتبار الأجزاء المعلومة وغير منجَّز باعتبار الجزء العاشر المجهول، والتبعيض في التنجيز ممكن ثبوتاً وواقع إثباتاً.

أما الإمكان الثبوتي: فلأن المناط في التنجيز الوصول إلى المكلف، والوصول متعدد بتعدد الأجزاء، وعليه فيتنجز الوجوب في التسعة باعتبار وصولها ولا يتنجَّز في العاشر باعتبار عدم وصله.

وأما إثباتاً: فببرهان السبر والتقسيم، حيث إنّ المكلّف إن علم بالوجوب بين الأقل والأكثر ومع ذلك ترك الأقل عمداً، وكان الواجب في الواقع هو الأكثر، فهو لا يخلو من أربعة حالات:

الأولى: عدم استحقاقه للعقاب أصلاً، لكن هذا خلاف البديهة.

الثانية: استحقاقه العقاب على مخالفة الأمر بالأقل، لكن لا أمر بالأقل واقعاً.

الثالثة: استحقاقه العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر من حيث أنه أكثر،

ص: 308


1- راجع نهاية الدراية 4: 292-297؛ وتعليقة الشيخ محمد تقي الشيرازي على المكاسب: 174؛ ومنتقى الأصول 5: 201.

لكن هذا غير معقول لقبح العقاب بلا بيان.

الرابعة: استحقاقه العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر من حيث أجزاؤه المعلومة لا من حيث جزؤه المجهول وهذا لا بد من المصير إليه بعد الإشكال في الثلاثة الأولى.

وبذلك يتبيّن أنه لا خلف ولا تناقض، حيث إن تنجّز الأقل ثابت حتى لو كان ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة ترشحاً واقعياً، فلو كان الأكثر واجباً فهو منجَّز من حيث الأجزاء المعلومة لا من حيث الجزء المجهول وإجراء البراءة ينفي التنجز من حيث الجزء المجهول.

ويرد عليه: أولاً: إن ذلك غير ممكن ثبوتاً؛ لأن ملاك التنجّز هو وصول الواقع، فوصول التسعة في المثال ليس وصولاً للواقع؛ إذ التكليف لم يتعلق بها بما هي هي، بل بشرط شيء، وعليه فلا يتنجّز التكليف لعدم وصوله، بل الواصل يكون معذِّراً فقط.

وثانياً: إن الصور الثلاث الأولى لا محذور فيها إثباتاً، بل المحذور في الرابعة... .

أما الأولى: فلاحتمال كون استحقاقه العقاب لتجريّه، أو لاكتفاء المولى بالأقل واقعاً فيكون بدلاً عن الواقع، كما في من ترك جزءاً ليس بركن من الصلاة لعدم العلم به وإجراء أصل البراءة فيه فإن هذا الأقل صحيح واقعاً لبدليته عن الواقع، وهذا يختلف عن تنجز الأكثر باعتبار أجزائه المعلومة، كما لا يخفى.

وأما الثانية: فيُعلم مما سبق؛ إذ مع البدلية يوجد أمر بالأقل.

ص: 309

وأما الثالثة: بأنه لا يلزم العقاب بلا بيان؛ إذ إنه ترك الأكثر عبر تركه للأقل، وهذا لا يعذره العقلاء، وبعبارة أخرى: إنه تَرَكَ الواجب من غير عذر بخلاف من أتى بالأقل فإنه ترك الواجب مع عذر.

وأما الرابعة: فحيث استحال ثبوتاً العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر باعتبار الأجزاء المعلومة، فينتفي الإثبات أيضاً، فتأمل.

الجواب الرابع: إن اختلاف الزمان يدفع الخلف أو التناقض، فقبل إجراء الأصل الترخيصي في الأكثر نعلم بالوجوب المردّد بين الأقل والأكثر، وبعد إجراء الأصل الترخيصي نعلم بعدم وجوب الأكثر!

وفيه: أنه هناك عِليَّة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة، وبذلك يتّحد زمانهما، فإجراء الأصل الترخيصي في الأكثر سبب لزوال علة الوجوب الغيري في الأقل.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول على إجراء البراءة عن الأكثر في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل(1):

من أن الأقل معلوم الوجوب إما بالوجوب الاستقلالي أو الوجوب الضمني، والأكثر مشكوك فينحل العلم الإجمالي.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: عدم وجود وجوب ضمني؛ إذ التكليف يتعلّق

ص: 310


1- فرائد الأصول 2: 328.

بالمجموع المركب لا بالأجزاء.

وأجيب: بأنه لا إشكال في الأمر الضمني العقلي، حيث إن العقل يأمر بالإتيان بالأجزاء حتى لو لم يكن هناك أمراً شرعياً بالأجزاء.

الإشكال الثاني: عدم انطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال، حيث إن المعلوم بالإجمال هو (الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلّق بالأقل أو الأكثر)، والمعلوم بالتفصيل هو (الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي والوجوب النفسي الضمني).

وقد مرّ الإشكال على اشتراط الانطباق، فراجع.

الإشكال الثالث: ما عن المحقق النائيني(1)،

وحاصله: إن هاهنا علم واحد وليس علمان أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي، ولا يعقل أن يحلّ العلم نفسه.

وذلك لأن المعلوم بالتفصيل هو وجوب الأقل الجامع بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء بلحاظ الجزء الزائد، وهذا الجامع ليس إلاّ الطبيعة المهملة أي اللا بشرط المقسمي.

والمعلوم بالإجمال ليس إلاّ وجوباً دائراً بين تعلقه بالأقل الذي هو الماهية لا بشرط، وبين تعلقه بالأكثر الذي هو الماهية بشرط شيء، وليس ذلك الوجوب إلاّ الماهية المهملة.

وأجيب: أولاً: بالإشكال بالكبرى، وذلك بإمكان انحلال العلم الإجمالي

ص: 311


1- أجود التقريرات 3: 493.

حكماً من غير حاجة إلى علم تفصيلي أو إجمالي آخر، وذلك في ما لو جرى الأصل الترخيصي في أحد الأطراف، فلا يكون العلم الإجمالي حينئذٍ منجزاً حيث إن مناط تنجيزه تعارض الأصول الترخيصية في الأطراف، وفي ما نحن فيه لا تعارض فإن رفع وجوب الأقل لا بشرط خلاف المِنّة؛ إذ هذا الوجوب توسعة على المكلف فلا تجري البراءة، فيبقى الأصل الترخيصي في الأكثر من غير معارض، فينحل العلم الإجمالي.

ويمكن أن يقال: إن الكلام هنا في البراءة العقلية لا الشرعية، والمِنّة وعدمها أجنبيّة عن البراءة العقلية، فيبقى التعارض! فتأمل.

وثانياً: بالإشكال في الصغرى(1)،

بأنه إذا كان علمان إجماليان أحدهما العلم بأصل الوجوب والثاني العلم بحدّه، فيمكن لأضيقهما أن يحلّ أوسعهما، وما نحن فيه كذلك فمتعلق العلم الإجمالي الأول هو الوجوب النفسي إما للأقل أو للأكثر، ومتعلق العلم الإجمالي الثاني هو وجوب الأقل نفساً إما استقلالاً أو ضمناً، وعليه فالوجوب النفسي للأقل معلوم على كل حال، ووجوب الأكثر مشكوك، وهذا يكفي في الانحلال وعليه بناء العقلاء.

الدليل الثالث: ما في نهاية الدراية(2)،

وحاصله: انبساط الوجوب النفسي على الأقل وهو معلوم على كل حال دون انبساطه على الأكثر فهو مشكوك؛ إذ في المركبات وجوب نفسي واحد منبعث عن إرادة نفسية واحدة، منبعثة

ص: 312


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 141.
2- نهاية الدراية 4: 295-296.

عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر التي هي عين الكل، وذلك كالوجود العلمي المتعلّق بمعنى تأليفي تركيبي، كالدار المؤلفة من عدة معان كالسقف والقباب والجدران.

وانبساطه على تلك الأجزاء بالأسر ليس كالنبساط البياض على الجسم بحيث يكون لكل قطعة منه حظ من البياض نفسه، بل كانبساط الوجود الذهني على الماهية التركيبيّة، فإن المجموع ملحوظ بلحاظ واحد، لا كل جزء بلحاظ يخصّه.

وعليه فلا ريب في أن هذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء بتعلّق واحد، وانبساطه بعين ذلك التعلّق على الجزء العاشر المشكوك غير معلوم، فهذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم بمقدار العلم بانبساطه يكون فعلياً منجزاً، وبالمقدار الآخر المجهول لا مقتضى لفعليته وتنجزه.

ولا يخفى أن الوجوب الانبساطي غير الوجوب الضمني فلا يرد عليه ما يورد على الوجوب الضمني، فإن الضمني هو بمعنى تولد أمر بالأجزاء من الأمر الاستقلالي، وفي الانبساطي لا يوجد إلاّ أمر واحد فقط.

وأشكل عليه(1): بأن انبساط الوجوب مشروط بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض، أما لو لوحظت الأجزاء على نحو اللابشرط أو بشرط لا فلا ينبسط الوجوب عليها، مثلاً من الأمر بالصلاة ينبسط الوجوب النفسي على

ص: 313


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 146.

التكبير بشرط شيء أي الملحوق ببقية الأبعاض، وأما التكبير بشرط لا أو لا بشرط فلا ينبسط الوجوب عليه، وعليه فمع الشك في كون المجموع تمام المتعلّق أو بعضه يشك في انبساط الوجوب النفسي عليه، ومعه لا يتم مبنى الاستدلال، حيث بُني على نفي الريب عن انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء التسعة؛ وذلك لأن الواجب إن كان هو الأكثر كان انبساط الوجوب على الأقل اللابشرط مشكوكاً، بل مقطوع العدم، وحيث يشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر يتحقق الشك في أصل انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء التسعة فلا ينحل العلم الإجمالي بما ذكر.

وفيه تأمل: لأن المعلوم إجمالاً هو الانبساط على الأقل بنحو الطبيعة المهملة، أي أصل الانبساط معلوم وإن كان حدّه مجهولاً، وهذا المقدار كافٍ في العلم بوجوب الأقل على كل حال، وبه يتمّ الانحلال.

القول الثاني: عدم جريان البراءة العقلية، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: ما في الكفاية قال: «هذا مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر، بناءً على ما ذكره المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله في إطاعة الأمر وسقوطه فلا بد من إحرازه في إحرازها»(1).

وحاصله: إن التكليف يكشف عن وجود غرض في المتعلّق، وأنه لا بد

ص: 314


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 251-252.

من تحصيل غرض المولى، وأنه لا يعلم المكلف بتحصيل الغرض إلاّ بالإتيان بالأكثر!

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إنه كما يمكن أن يكون الغرض في المتعلق كذلك يمكن أن يكون في التكليف بنفسه كما في الأوامر الامتحانية والتعذيرية، وفيها يمكن أن يكون الغرض في الأقل أو الأكثر.

لا يقال: على كل حال يحتمل المكلّف كون الغرض في المتعلّق، وعليه فيحتمل توقف الغرض على الإتيان بالجزء المشكوك.

لأنه يقال: إن الغرض المحتمل لا يجب تحصيله كالتكليف المحتمل، فكما يقبح العقاب على التكليف المحتمل من غير بيان كذلك في الغرض المحتمل، وعليه فلا نعلم بتوقف الغرض على الأكثر ليلزم الإتيان به عقلاً!

الإشكال الثاني: إن المكلف لا يعلم بتحصيل الغرض حتى لو أتى بالأكثر؛ إذ لو كان الجزء المشكوك واجباً واقعاً وكان قصد الوجه شرطاً واقعياً فإنه لا يتمكن المكلّف من قصد الوجه للزومه التشريع، ومع عدم قصد الوجه لا يعلم المكلف بتحصيله الغرض حتى لو أتى بالأكثر، وعليه فلا فرق في عدم العلم بتحصيل الغرض سواء أتى بالأكثر أم بالأقل، فحينئذٍ نرجع إلى الأمر وحيث لا بيان واصل للأكثر يقبح العقاب عليه!

ويرد عليه: مضافاً إلى كونه خاصاً بالتعبديات، أن قصد الوجه ليس بشرط قطعاً وقد دلّ الدليل على عدم اعتباره، وعلى فرض وجوبه فإنه خاص بالواجب الاستقلالي فلا يلزم قصد الوجه في الأجزاء، كما أن الجزء

ص: 315

أو الشرط الواجبين يسقطان مع عدم إمكان الإتيان بهما مع بقاء الغرض والوجوب بحاله لقاعدة الميسور أو لسائر الأدلة.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(1)،

وحاصله: إن الأغراض في الأوامر الشرعية ليست من قبيل المسببات التوليدية - التي تكون أسبابها تمام العلة أو الجزء الأخير منها حيث يتحقق المعلول من غير واسطة، فتكون القدرة على السبب قدرةً على المسبب، نظير الإحراق المترتب على إلقاء الورق في النار، وحينئذٍ يمكن تعلق إرادة الآمر بتلك الأغراض - بل الأوامر الشرعية تتعلق بالمأمور به الإعدادي، حيث لا يكون الفعل الصادر عن الفاعل إلاّ مقدمة إعدادية لحصول الغرض مع توسط أمور غير اختيارية، فلا تكون الأغراض مقدورة فلا يلزم تحصيلها، نظير الأمر بالزرع حيث إن الغرض هو صيرورة البذر سنبلاً، ويتوسط في ذلك عوامل غير اختيارية كشروق الشمس ونزول المطر ونحو ذلك.

والذي يدل على كون الأوامر الشرعية إعداديات هو عدم وقوع الأمر بتحصيل الملاك وإيجاد المصلحة في أيّ مورد من الأوامر الشرعية، ولو كان الملاك من العناوين والمسببات التوليدية لتعلّق الطلب به في غير مقام ٍ؛ لأن تعلق الأمر بالسبب أحياناً إنما يكون بلحاظ تولد المسبب منه، ولا يصح إطلاق الأمر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبب إلاّ إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولد المسبب منه من الأمور العرفية المرتكزة في الأذهان بحيث يكون الأمر بالسبب أمراً بالمسبب عرفاً، وإلاّ لم يصح إطلاق الأمر

ص: 316


1- فوائد الأصول 4: 174-176.

بالسبب مع إرادة المسبب، بل لا بد من تقييد الأمر بالسبب بما يوجب تولد المسبب منه، وإلاّ كان إغراءً بالجهل ونقضاً للغرض.

وفي ما نحن فيه فالأوامر الشرعية لا يعرف الناس الأغراض منها ولم يقيّدها الشارع بما تنتج تلك الأغراض، فيُعلم من ذلك أن تلك الأوامر ليست إلاّ معدّات للملاكات، فتكون تلك الملاكات خارجة عن قدرة العبد، فلا يكون مأموراً بتحصيلها.

ويرد عليه: أولاً: إنه يكفي في اختيارية الشيء اختيارية بعض مقدماته، وبهذا يجاب عن شبهة الجبر حيث إن لأفعال الإنسان الاختيارية مقدمات غير اختيارية كالقضاء والقدر ونحو ذلك، فحصد الحنطة من المزرعة أمر اختياري عبر اختيارية إلقاء البذر وإصلاح الأرض ونحو ذلك رغم توسط أمور غير اختيارية.

وثانياً: إن مطلوب المولى قد يكون الغرض، لكن لا يكون من الإغراء بالجهل لو أمر بالمقدمات الإعداديّة ولم يقيّد أمره بما إذا كانت تلك المقدمات موصلة إلى غرضه حتى لو لم يعلم المكلّف بذلك الغرض؛ وذلك لأن المقدمات قد توصل دائماً إلى الغرض، أو إن التقييد بالغرض قد يكون فيه محذور ترك الكثير من المكلفين للتكليف زعماً بأنه لا يوصل إلى الغرض فيكون في البيان كذلك مفسدة، فتأمل.

وثالثاً: ما قيل: من أنه في الأوامر الشرعية غرضان: غرض أقصى يكون عمل العبد مُعِدّاً له ويتوسط بين العمل وبينه مقدمات غير اختيارية، وغرض أدنى يكون العمل من الأسباب التوليدية له، ففي مثال زرع الحنطة الغرض

ص: 317

الأقصى صيرورته سنبلاً، وأما الغرض الأدنى فهو صيرورته مستعداً لإفاضة الله تعالى الصورة السنبلية عليه، وعليه فلو شك أن الغرض الأدنى هل يحصل بالأقل أو الأكثر لزمه الإتيان بالأكثر لتحصيل ذلك الغرض المقدور بناءً على ما ذكره!!

الإشكال الرابع: إن القبيح هو تفويت الغرض إذا كان مستنداً إلى العبد، وأما لو كان مستنداً إلى المولى فلا قبح فيه، كما لو لم يجعل الغرض في عهدة العبد، بل جعل محصِّله في عهدته ولم يبيّن المولى أو لم يوجب الاحتياط، فلو فات الغرض لم يكن فوته مستنداً إلى العبد، بل إلى المولى الذي لم يبيّن أو علم أن البيان قد لا يصل ومع ذلك لم يوجب الاحتياط، وفي الأوامر الشرعية نعلم بعدم وجود هكذا غرض أو عدم لزوم تحصيله على كل حال لأن المولى الحكيم لا يفوّت غرضه، وعليه فيكون عقاب العبد من غير بيان وهو قبيح، فتأمل.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول الذي استدل به على عدم جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الدليل الثاني: إرجاع الشك فيهما إلى الشك في المتباينين؛ لأن وجوب الأقل بلحاظ الماهية لا بشرط، ووجوب الأكثر بلحاظها بشرط شيء.

وأشكل عليه: أولاً: بأن لازمه تكرار العمل مرتين ككل شبهة وجوبية بين المتباينين.

وثانياً: بأن التباين إنما هو في اللحاظ؛ إذ عدم اللحاظ في اللا بشرط يناقض اللحاظ في بشرط شيء، وأما في الملحوظ فلا تباين ولذا يجتمع

ص: 318

اللابشرط مع ألف شرط.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قال: «إنه لا إشكال في أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي... لأن العلم باشتغال الذمة يستدعى العلم بالفراغ عقلاً، ولا يكفي احتمال الفراغ، فإنه يتنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً، ويتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف، ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلاً؛ لأنه يشك في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة»(1).

وأشكل عليه: بأن الأجزاء هي عين الواجب - وحتى الشروط فإن التقيّد بها جزء - فلا فرق في أن يأمر بالصلاة أو يأمر بالتكبير والقراءة والركوع... إلى السلام، وإنما الفرق في التعبير فقط بالإجمال تارة وبالتفصيل أخرى، وما ذكره إنما يجري في العنوان والمحصِّل حيث يتباينان فلو وجب العنوان لزم الاحتياط بالقطع بمحصّله، وعليه فلو كان يأمر بالتفصيل وشك في جزء كان شكاً في التكليف لا المكلف به، فيكون مجرى البراءة، وهكذا عندما يأمر بالإجمال ويدور الأمر بين الأقل والأكثر.

الدليل الرابع: إن وجوب الأقل معلوم، ولا يعلم سقوطه بالإتيان بالأقل؛

ص: 319


1- فوائد الأصول 4: 159-160.

وذلك لأن الواجب واقعاً إما الأقل أو هو بإضافة الجزء المشكوك، فلا بد له من إحراز فراغ الذمة عن الأقل عبر الإتيان بالأكثر.

وفيه(1): إن منشأ استحقاق العقوبة بلحاظ الأقل أحد أمرين: إما عدم الإتيان بالأقل! لكنه قد أتى به، أو وجوب الجزء المشكوك وارتباط وجوب الأقل به، لكن المكلف في أمان من ذلك، لحكم العقل بالبراءة عن وجوب الجزء المشكوك!

وبعبارة أخرى: إن مخالفة وجوب الأقل بجهة ترك الجزء المشكوك هي مخالفة ناشئة عن ترك الجزء المشكوك لا عن ترك الأقل، ويشك في كونها مخالفة فتنفى المخالفة بأصالة البراءة عن وجوب ذلك الجزء المشكوك.

المطلب الثاني: في البراءة الشرعية في الارتباطيين

وقد يستدل للبراءة الشرعية فيهما بوجوه، منها:

الوجه الأول: البراءة عن الحكم التكليفي، حيث إن وجوب الأكثر مشكوك فالبراءة تقتضي عدمه، ولا يعارضه البراءة عن وجوب الأقل؛ وذلك لأن وجوبه معلوم على كل حال، كما مرّ.

الوجه الثاني: البراءة باعتبار الحكم الوضعي، وذلك برفع الجزئية.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الجزئية لا يمكن جعلها شرعاً، فلا ينالها الرفع.

وفيه: إنها مجعولة بالتبع، ولا فرق في شمول الرفع بين الجعل بالأصالة

ص: 320


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 166.

أو بالتبع؛ إذ أمر المولى بالمركب سبب لانتزاع الجزئية عن أجزائه، فيرفع برفع منشأ الانتزاع، كرفع الزوجية برفع الأربعة.

إن قلت: منشأ انتزاع الجزئية هو الوجوب وهو بسيط، فرفع الجزئية برفع منشأها يستلزم سقوط الوجوب بالمرّة، وهو واضح البطلان!

قلت: إن الوجوب بسيط، إلاّ أن متعلّقه مركب، وهو من صنع الشارع، فيكون رفعه بيده، قال المحقق الخراساني: «إن نسبة حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء»(1)، أي بضمّ حديث الرفع إلى الأدلة الدالة على الأجزاء ترتفع جزئية الجزء المشكوك بالحكومة الظاهرية، وجزئية سائر الأجزاء والأمر بالباقي يستفاد من إطلاق الأمر.

الإشكال الثاني: إن وضع الجزئية لغو لعدم ترتب أيّ أثر عليه، فلا وضع، فلا رفع؛ لأنه مع الأمر بالمركب تنتزع الجزئية قهراً فجعلها لغو، كما لا يصح جعل الجزئية من غير أمر بالمركب؛ إذ لا يترتب على هذا الجعل وجوب الامتثال ولا غيره من الآثار.

وأورد عليه: بأنه يمكن جعل الجزئية وعن طريقها يجعل الوجوب فيترتب عليها وجوب الامتثال، وبعبارة أخرى: لازم جعل الجزئية جعل التكليف وذلك بدلالة الاقتضاء.

المطلب الثالث: في الاستصحاب في الارتباطيين
اشارة

وقد استدل به على وجوب الأكثر، كما استدل به على وجوب الأقل،

ص: 321


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 268.

فهنا مقامان:

المقام الأول: في الاستدلال به على وجوب الأكثر

وذلك للشك في سقوط التكليف مع الإتيان بالأقل، فيستصحب بقاء الوجوب، وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث يدور الأمر حينئذٍ بين ما هو ساقط قطعاً لو كان الواجب هو الأقل، وبين ما هو باقٍ قطعاً لو كان الواجب هو الأقل.

ولا يراد بذلك إثبات وجوب الأكثر ليكون مثبتاً، بل يراد إبقاء التكليف بالذمة فيكون اشتغال تعبدي فيحكم العقل بلزوم إفراغ الذمة، وهذا ليس بأصل مثبت لأن الأثر ليس للمستصحب، بل هو الأثر العقلي للحكم.

وأشكل عليه: بأن استصحاب الكلي من القسم الثاني إنما يجري لو تعارضت وتساقطت الأصول في الأفراد، وأما لو جرت الأصول في بعض الأفراد دون بعض كانت حاكمة على استصحاب الكلي مثلاً لو كان متوضأً ثم خرجت رطوبة مشتبهة بين البول أو المني، فتتعارض أصالة عدم كونه منياً وأصالة عدم كونه بولاً فيتساقطان فلو توضأ أو اغتسل جرى استصحاب كلي الحدث فلا بد له من الاحتياط بالجمع بينهما، أما لو كان محدثاً ثم خرجت الرطوبة المشتبهة فإن أصالة عدم كونه بولاً لا تجري لعدم الأثر لها؛ لأنه كان محدثاً بالحدث الأصغر قبل خروج الرطوبة فلا شك فيه كي يستصحب، ولكن تجري أصالة عدم كونه منياً لثبوت الأثر وهو عدم وجوب الغسل، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب كلي الحدث؛ إذ استصحاب عدم كونه منياً أثره عدم وجوب الغسل وارتفاع الحدث

ص: 322

بالوضوء وهذا أصل سببي، فلا يبقى شك في ارتفاع الحدث تعبداً لتصل النوبة إلى استصحابه، وهكذا في ما نحن فيه؛ إذ أصالة عدم وجوب الأقل لا تجري للعلم بوجوبه، فتجري أصالة عدم وجوب الأكثر وتكون حاكمة على أصالة بقاء الوجوب، فتأمل.

المقام الثاني: في الاستدلال به على عدم وجوب الأكثر

تارة باستصحاب عدم الجعل، وأخرى باستصحاب عدم المجعول، فهنا وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: استصحاب عدم جعل الوجوب على الأكثر، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الوجوب على الأقل وذلك للقطع بوجوب الأقل على كل حال.

وأشكل عليه المحقق النائيني(1)

بما حاصله: أن استصحاب عدم الجعل لا أثر له، أو هو أصل مثبت، فإن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلّق الجعل بالمركب غير مفيد لعدم ترتب أثر شرعي أو عقلي عليه، إلاّ لو أريد إثبات تعلّق الجعل واللحاظ بخصوص أجزاء الأقل، ولا يمكن إثبات ذلك إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وأجيب: أولاً: بأنه لا واسطة؛ إذ الجعل هو بمعنى الإيجاد وهو متحدّ ذاتاً مع المجعول وإنما الاختلاف بلحاظ نسبته إلى الفاعل والقابل، كالإيجاد والوجود.

ص: 323


1- فوائد الأصول 4: 184.

وفيه: أن ما نحن فيه جعلان ومجعولان، أحدهما: الجعل بمعنى الإنشاء وهو على الموضوع المقدّر الوجود ومجعوله هو الوجوب الكلي، كإيجاب الحج على المستطيع، والآخر: الجعل في ذمة المكلّف أي على الموضوع الخارجي ومجعوله هو الوجوب الشخصي في ذمة المكلف الخاص، كوجوب الحج على زيد حين استطاعته مثلاً، فاستصحاب عدم الجعل يراد به الجعل الأول لإثبات عدم المجعول بالمعنى الثاني، وهو لازم عقلي حيث إنه لو لم يُنشئ الشارع الوجوب على الموضوع المقدّر الوجود لما ثبت وجوب في ذمة زيد.

وثانياً: ثبوت الأثر للجعل يغاير أثر المجعول، كجواز الفتوى والإخبار، وهو يرتبط بالجعل بالمعنى الأول، فبمجرد أن يُنشئ المولى الحكم يجوز الفتوى به والإخبار عنه حتى لو لم يتحقق موضوع في الخارج، كما لو كان الأمر بالحج قبل وجود المستطيع إليه.

وثالثاً: ما ذكره المحقق العراقي: من أنّ «مرجع الجعل بعد ما كان إلى تعلّق لحاظه بشيء، وجعله واجباً أو جزءاً، فلا شبهة في أنه بتعدد المجعول ووحدته تختلف مراتب الجعل، وحينئذٍ فإذا علم بمرتبة وشك في مرتبة أخرى فالأصل إذاً نفي هذه المرتبة، فهو وإن لم يثبت مرتبة الجعل بخصوص الأقل إلاّ أنه يكفي في عدم الالتزام به مجرد عدم وجوب الباقي من الأزل، بضميمة اكتفاء العقل أيضاً بوجوب تحصيل ما علم وجوبه، وإن لم يعلم أنه تمام الواجب، وحينئذٍ فلا قصور في استصحاب عدم الوجوب - الذي هو محط كلامه - أو عدم جعله؛ إذ عدم جعل الوجوب مستتبع لعدم

ص: 324

الوجوب واقعياً كان أو ظاهرياً، فلا ربط للمقام بالأصول المثبتة؛ لأن عدم الوجوب الظاهري من لوازم عدم الجعل الظاهري الذي هو الاستصحاب لا نفس المستصحب، والمفروض أيضاً أن نفس الجعل أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، ولا نعني من الأثر الشرعي في باب الاستصحاب إلاّ هذا»(1).

وحاصله: أن الأصل المثبت هو ما إذا كان الأثر أثراً للمستصحب، أما لو كان أثراً للاستصحاب بنفسه فليس من الأصل المثبت، وفي ما نحن فيه عدم المجعول أثر عدم الجعل الذي هو الاستصحاب!

لا يقال: إن المجعول ليس أثراً للجعل؛ وذلك لما ذكر من أن المجعول هو المجعول في الذمة، وهو ليس أثراً للجعل الذي هو إنشاء الحكم على الموضوع المقدر الوجود بنحو القضية الحقيقية حتى مع العلم بالجعل.

لأنه يقال: إنه وإن لم تكن ملازمة من طرف الوجود، إلاّ أنه في طرف العدم هذا الأثر ثابت فأثر عدم الجعل هو عدم الثبوت في الذمة. نعم، يمكن المناقشة في المبنى ولعلنا سنذكره في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: استصحاب عدم وجوب الأكثر، أو عدم وجوب الجزء المشكوك، وهذا يرتبط بالمجعول، ولا بأس به.

الوجه الثالث: استصحاب عدم جعل الجزئية للجزء المشكوك، أو عدم جزئية الجزء المشكوك، وهذا أيضاً لا بأس به وقد مرت مباحثه.

ص: 325


1- فوائد الأصول 4: 183 (الهامش) .

المبحث الثاني: الدوران بين الأقل والأكثر في الشرط

وفيه أقوال:

القول الأول: جريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الشرط، حيث لم يقم عليه بيان وهو ممّا لا يعلمون.

إن قلت: إنه في الحقيقة من المتباينين لا من الأقل والأكثر؛ لأن من أتى بالفاقد لم يأت بالمأمور به أصلاً لو كان الواجب هو الواجد، فلو كان الواجب عتق رقبة مشروطة بالإيمان، فعتق الكافرة لا يتضمن شيئاً من الواجب أصلاً حتى الأقل، وفي المتباينين لا بد من الاحتياط.

قلت(1): إن البراءة العقلية والشرعية مناطهما مقام تعلّق الأمر، ومن المعلوم أن متعلّقه هو الماهية، ففي هذا المقام يكون الأمر دائراً بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الأكثر، فلو شككنا في أن المولى أمر بالرقبة أو بالرقبة المؤمنة فأمره بالرقبة معلوم فلا يجري أصل البراءة فيه، واشتراطه إيمانها مشكوك فيجري الأصل وينحل العلم الإجمالي.

القول الثاني: التفصيل بين أقسام الشرط، فتجري البراءة في ما لو كان من قبيل الشرط الذي له وجود مباين عن المشروط كالستر والصلاة، أو اتحدا وجوداً لكن نسبة الشرط إلى المشروط نسبة العارض إلى المعروض كالمؤمنة والرقبة، ويجري الاحتياط في ما لو اتحدا وجوداً وكانت النسبة نسبة المقوم لا العارض كالجنس والفصل، قال المحقق النائيني: «إذا كان

ص: 326


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 188.

الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع والأقوى: أنه يجب الاحتياط ولا تجري البراءة عن الأكثر، فإن الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر، إلاّ أنه خارجاً وبنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين؛ لأن الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو علم إجمالاً بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان؛ لأن نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الإنسان والحيوان على حد سواء، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى، فيبقى العلم الإجمالي على حاله، ولا بد من العلم من الخروج عن عهدة التكليف، ولا يحصل ذلك إلاّ بإطعام خصوص الإنسان؛ لأنه جمع بين الأمرين، فإن إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضاً»(1).

ويرد عليه: أولاً: بأن الكلامين متنافيان؛ لأنه لو كانا من المتباينين عرفاً وجب التكرار عقلاً لامتثال أمر المولى.

وثانياً: بأن التباين في المثال ظاهر عرفاً وليس كلامنا في خصوص المثال، وإنما في الأمر الكلي، فلو غيرّنا المثال إلى الحيوان والفرس ونحوه لم يكن الترديد بين المتنافيين.

المبحث الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصِّلات

وذلك في ما لو كان المكلّف به واضحاً بحدوده، ولكن حصل الشك

ص: 327


1- فوائد الأصول 4: 208.

في ما يُحقِّقه ويحصِّله بأنه الأقل أو الأكثر، كما لو هجم حيوان فأمر المولى بقتله والمكلّف لا يعلم بأنه يُقتل بضربة سيف أو ضربتين؟

وفيه قولان:

القول الأول: الاحتياط عبر الإتيان بالأكثر.

واستدل له أولاً: بأن الذمة اشتغلت يقيناً، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

إن قلت: إن الاشتغال أصل مسببّي، حيث إن الشك في تحقق المأمور به ناشٍ عن الشك في وجوب الأكثر، وبإجراء البراءة عن الأكثر نعلم تعبداً بفراغ الذمة بالأقل!

قلت: الأصل السببي هنا لا يجري بالمعارضة أو بكونه مثبتاً، فإن أصالة عدم سببيّة الأقل معارضة بأصالة عدم سببية الأكثر، وأصالة عدم وجوب الأكثر لا تثبت سببيّة الأقل، وحيث لم يجر الأصل السببي تصل النوبة إلى الأصل المسببي.

وثانياً ما قيل: من أنّ بأن البراءة لا تجري؛ لأن أمرها دائر بين نفي أصل الوجوب أو نفي سببيّة الأكثر، أو نفي سببيّة الأقل، والأولان يقينيان فلا معنى للبراءة، والثالث تضييق على المكلّف فهو خلاف الامتنان فلا تجري أصالة البراءة حيث إنها للتوسعة، وحيث لم تجر أصالة البراءة لم يكن هناك مؤمِّن فلا بد من الاحتياط بالإتيان بالأكثر!

وفيه: أن حصول المأمور به عند الإتيان بالأكثر معلوم، وأما سببيّة الأكثر فلا، فلا محذور من إجراء أصالة البراءة حينئذٍ، مضافاً إلى وجود شقٍ رابع ٍ

ص: 328

هو نفي وجوب الأكثر ولا يعارضه البراءة عن الأقل حيث إنه معلوم قطعاً.

القول الثاني: تفصيل المحقق العراقي(1) بين أن يكون العنوان البسيط - الذي هو المأمور به - ذا مراتب متفاوتة متدرج الحصول والتحقّق من قِبل أجزاء علّته ومحقِّقه، بأن يكون كل جزء من أجزاء سببه مؤثراً في تحقق مرتبة منه إلى أن يتمّ المركّب، فتتحقق تلك المرتبة الخاصة التي هي منشأ الآثار، نظير مرتبة خاصة من النور حاصلة من عدة شموع... وبين ما لا يكون كذلك بأن كان العنوان البسيط غير مختلف المراتب دفعي الحصول والتحقّق عند تمام محقِّقه.

فعلى الأول: لا قصور في جريان أدلة البراءة عند الشك في المحقِّق ودورانه بين الأقل والأكثر، فإنّ مرجع الشك في دخل الزائد في المحقِّق حينئذٍ بعد فرض ازدياد سعة الأمر البسيط بازدياد أجزاء محقِّقه إلى الشك في سعة ذلك الأمر البسيط فتجري فيه البراءة عقليّها ونقليّها.

وعلى الثاني: فلا محيص عند الشك في دخل شيء من محقِّقه من الاحتياط.

وأشكل عليه في التبيين(2):

أولاً: بأن المفروض أن المولى لم يأمر بالمراتب المتدّرجة الوجود للنور مثلاً، وإنما المأمور به بسيط، وإلاّ فهو خروج عن الفرض، فإن المولى طلب مرتبة معينة من الإضاءة ولم يطلب المرتبة التي دونها حتى وإن كانت إضاءة، ولم يعلم تحقق ما أراده المولى

ص: 329


1- نهاية الأفكار 3: 401-402.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 194.

بتسعة شموع مثلاً، فيكون مجرى قاعدة الاشتغال.

وثانياً: إن البسيط المطلوب لا سعة فيه ولا مراتب له، فكيف يقال بانبساطه؟!

المبحث الرابع: دوران الأمر بين التعيين والتخيير

وذلك في ما عُلم بالوجوب ولم يكن أصل لفظي أو أصل عملي حاكم، والكلام في صور ثلاث:

الصورة الأولى: الشك في الحجية، كفتوى الأعلم وغير الأعلم، وهنا مجرى أصالة التعيين عقلاً؛ وذلك لأن الشك في الحجية موضوع أو مسرح عدم الحجية؛ إذ لا يصح الاحتجاج بالمشكوك حيث إنه ليس قاطعاً للعذر، بل لا بد من القطع بالحجية، فلو سلك العبد الطريق المشكوك مع وجود الطريق المعلوم فلم يصب الواقع لم يكن معذوراً عقلاً.

الصورة الثانية: الشك بينهما في مورد التزاحم، كغريقين لا يمكنه إنقاذ كليهما.

وقد يقال: بالتعيين ويستدل له بأمور، ومنها:

الدليل الأول: قبح تفويت الملاك الملزم مع القدرة شرعاً وعقلاً، ففي صورة التزاحم لا بد من ترجيح الأهم، ومع احتمال الأهمية لا مؤمِّن في ترك محتمل الأهمية، فلو تبيّن بعد ذلك أنه كان الأهم واقعاً فقد ترك الأهم مع القدرة عليه عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه كان يتمكن من فعل الأهم، وأما شرعاً فلأن الشارع لم يأمره بصرف قدرته في الآخر تعييناً بحيث لو امتثل ذاك عجز عن هذا، والحاصل: إنه ترك الملاك الملزم من غير عذر حيث لم

ص: 330

يكن له معجِّز عقلي ولا شرعي.

إن قلت: هنا أصل سببي حاكم وهي أصالة عدم الأهميّة، باستصحاب العدم الأزلي أو النعتي.

قلت: هو أصل مثبت؛ إذ لا أثر له إلاّ إثبات التخيير أو عدم التعيين، وكلاهما ليسا أثرين شرعيين.

الدليل الثاني: إن مرجع الوجوب التخييري إلى تقييد الأمر، بأن يكون الواجب مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر، وهنا خطاب ما لا يحتمل أهميته مقيد حتماً، وأما ما يحتمل أهميته فلا يعلم تقييد إطلاقه فأصالة الإطلاق محكمة، وهو معنى التعيين.

وأشكل عليه: بأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ كل خطاب مقيد عقلاً بعدم الاشتغال بالضد الأهم أو المساوي، وفي ما نحن فيه خطاب محتمل الأهمية أيضاً مقيّد بهذا القيد العقلي، ومع احتمال كونه مساوياً يكون خطابه مقيداً أيضاً، والحاصل: أن محتمل الأهمية إن كان أهم واقعاً كان خطابه مطلقاً، وإن كان مساوياً واقعاً كان خطابه مقيداً، فالتمسك بإطلاق الخطاب تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وفيه تأمل: أولاً: للنقض بكل قيد مشكوك؛ إذ كل خطاب مقيد عقلاً بوجود قيود الوجوب، فمع احتمال كون شيء قيداً لا يمكن نفيه بالإطلاق لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهذا ما لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: بالحلّ بأن الشك إنما هو في مقام الثبوت، وأصالة الإطلاق تجري في مقام الإثبات، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

ص: 331

الدليل الثالث: إنه لو امتثل محتمل الأهمية أفرغت الذمة قطعاً، بخلاف ما لو امتثل الآخر، وحيث إن الذمة مشغولة قطعاً فلا بد من الامتثال القطعي الذي لا يحصل إلاّ بفعل محتمل الأهميّة.

وأشكل عليه: بأن المعلوم هو اشتغال الذمة بالطبيعي، ولا يقين باشتغال الذمة بالحصة - المحتمل أهميتها - والأصل براءة الذمة عن انشغالها بها.

وفيه: إن كون الآخر في العبادات مصداقاً للطبيعي غير معلوم لأنها أسام ٍ للصحيح، وإثبات مصداقيتها عبر أصالة عدم انشغال الذمة بالحصة أصل مثبت، فتأمل.

الصورة الثالثة: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الأحكام الواقعيّة.

في ما لو علم بوجوب شيء قطعاً مع احتمال وجود عدل له، كما لو علم بوجوب الصلاة قصراً للمسافر خارج الحائر الشريف، واحتمل وجوب الصلاة تماماً أيضاً بنحو الوجوب التخييري بينهما، وفي المسألة قولان:

القول الأول: جريان البراءة عن التعيين؛ لأن التعيين قيد زائد مشكوك فيه والأصل عدمه، ولا يعارض بأن الأصل عدم التخيير؛ وذلك لأن التخيير ليس تضييقاً فلا مِنّة في رفعه، كما أنه ليس بمثبت؛ وذلك لأنه لا يراد إلاّ إثبات عدم التعيين.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: تعارض إلزامين في التعيين والتخيير، فالإلزام في التعيين هو ثبوت الوجوب في المعيّن حتى مع الإتيان بالآخر، والإلزام في التخيير

ص: 332

هو حرمة الجمع بين تركهما وليس التعيين كذلك لعدم حرمة ضم ترك المباح إلى ترك الواجب، فأصالة البراءة من الإلزامين متعارضة فلا تجري في أيٍّ منهما.

ويرد عليه: إن الأصل في التخييري إما يستلزم المخالفة القطعية أو لا أثر له فلا يجري؛ إذ لو أريد عدم حرمة الجمع بين التركين عملاً فهو مخالفة قطعية، وإن أريد أثره العلمي بأن نعلم بأن وصف الضمّ غير محرّم فهذا لا أثر له عملاً.

الإشكال الثاني: ما في الفوائد(1):

بأن التعيين عدمي حيث إنه عدم جعل العِدل، وحديث الرفع لا يشمل العدميات؛ لأنها أمر تكويني والرفع التشريعي لا يرفع التكوينيات.

وأورد عليه: أولاً: بأن عدم ذكر العدل كاشف عن التعيين، كما أن ذكر العدل كاشف عن التخيير، والمكشوف أمر وجودي الذي هو إرادة المطلوب على كل حال أو إرادته في حال دون حال.

وثانياً(2): بأنه لو لم تجر البراءة الشرعية فلا مانع من جريان البراءة العقلية حتى في ما لا يمكن رفعه شرعاً؛ لأن العقل يدرك قبح العقاب بلا بيان سواء أمكن رفع غير المبيّن تشريعاً أو لم يمكن، وهنا الخصوصية التعيينية لم يتم البيان عليها سواء كانت وجودية أم عدمية وسواء أمكن رفعها تشريعاً أم لا، فيكون العقاب عليها عقاب بلا بيان.

ص: 333


1- فوائد الأصول 3: 426-428.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 208.

القول الثاني: الاحتياط باختيار التعيين، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: ما في الفوائد(1):

من أنّ المرجع قاعدة الاشتغال، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلّق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عِدلاً له.

وأشكل عليه: بأنه شك في الاشتغال لا الامتثال؛ إذ لا يُعلم توجه الخطاب في حال الإتيان بالعِدل؟

وغير خفي أن هذا الإشكال وارد بناءً على بعض المباني في الوجوب التخييري، والتي قد ذكرناها سابقاً(2):

1- فأما على مبنى أن مرجعه إلى واجبين مشروطين، حيث إن وجوب أحدهما هو في صورة ترك الآخر، فالإشكال وارد.

2- وأما على مبنى أنه وجوب متعلق بعنوان (أحدهما) الانتزاعي، فقد يقال: بعدم ورود الإشكال حينئذٍ؛ لأن الوجوب قد تعلّق إما بالمعيّن أو بعنوان أحدهما، ولا يُعلم سقوطه بعد الإتيان بالعِدل!

إن قلت: تعلّق التكليف بعنوان (أحدهما) معلوم في الجملة، وإنما الشك في الإطلاق والتقييد، فهل الواجب (أحدهما مطلقاً) فيكون تخييرياً، أو (أحدهما المتحصِّص بالخصوصية) فيكون تعيينياً، وعليه يكون الشك في الثبوت لا في السقوط!

ص: 334


1- فوائد الأصول 3: 428.
2- راجع نبراس الأصول 2: 78-87.

قلت(1): إن متعلق الوجوب في فرض كونه تعيينياً ليس عنوان أحدهما، بل العنوان الخاص، فحين الأمر بالصلاة مثلاً ليس متعلق الوجوب أحد الشيئين من الصلاة والزكاة مثلاً، بل الصلاة تعييناً، وعليه ففي ما نحن فيه تعلّق التكليف بعنوان أحدهما غير ثابت، بل عنوان أحدهما طرف في العلم الإجمالي، ولا يعلم بسقوط التكليف لو أتى بالعِدل، فيكون مجرى الاشتغال.

لكن يمكن ورود الإشكال بأن ما ذكر أصل مسببّي، وأما الأصل السببي فهو عدم الوجوب التعييني؛ إذ ما نحن فيه من العام والخاص المطلق في مقام الخارج - لا مقام المفهوم - لأن المعين أخص من أحدهما مطلقاً والأصل عدم الأخص، ولا يعارضه أصالة عدم الأعم؛ لأن عدم الأعم مع الإتيان بالأخص غير معقول، ومع عدم الإتيان به مخالفة قطعية لا تأمين عنها.

3- وأما على مبنى أن الوجوب التخييري هو مرتبة متوسطة بين الوجوب التعييني الذي لا يجوز تركه مطلقاً وبين الاستحباب الذي يجوز تركه لا إلى بدل، فالإشكال غير وارد حيث إن الشك في الامتثال بعد القطع بالاشتغال.

إن قلت: إن المقدار المعلوم ثبوته هو تأثير الحكم المعلوم بالإجمال في مقام الطاعة عند عدم الإتيان بالمحتمل الآخر، أما على تقدير الإتيان به فلا علم بما له تأثير في مقام العمل من التكليف، لاحتمال كون الثابت هو الوجوب التخييري الذي يكون قاصراً عن التأثير والمحركية على تقدير

ص: 335


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 212.

الإتيان بالعِدل الآخر، فالتكليف على هذا التقدير لا يكون منجزاً، فيكون مورداً للبراءة.

والحاصل: إن المعلوم هو ثبوت التكليف في المعيّن حين ترك العِدل، وأما مع الإتيان به فأصل التكليف في المعيّن غير معلوم.

قلت: - مضافاً إلى النقض في كل موارد العلم الإجمالي بالوجوب مع الإتيان بأحد الأطراف كأن يصلي إلى جهة مع اشتباه القبلة في الجهات الأربع - الحلّ: بأنه قد مرّ وجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي ولا تحصل إلاّ بالإتيان بالمعيّن.

ثم إن هنا مبانٍ أخرى في تصوير الوجوب التخييري قد ذكرناها في ما مضى(1) يعلم ممّا ذكر صحة الدليل أو الإشكال عليه بناءً عليها.

الدليل الثاني: أصالة عدم وجوب العِدل.

وأشكل عليه: بعدم جريانها على المباني في الوجوب التخييري، أما على مبنى الوجوبين المشروطين فهي معارضة، فالأصل عدم وجوب التمام حين الإتيان بالقصر، وكذا الأصل عدم وجوب القصر حين الإتيان بالتمام في المثال، وأما على وجوب الجامع فلا تجري أصلاً لأن وجوب العِدل منتفٍ قطعاً؛ إذ ليس هو المعيّن ولا أحدهما، وأما على السِنخ المتوسط فإن أصالة عدم وجوب العِدل مثبت لأنه لا يثبت تعيين المعيّن.

ويمكن أن يقال: إن العِدل وإن لم يكن عنوان أحدهما لكن هذا

ص: 336


1- راجع نبراس الأصول 2: 78.

العنوان ينطبق عليه، وحيث لم يجر الأصل في الكلي فلا مانع من جريانه في المصداق، كما أنه يكفي أصالة عدم وجوب العِدل في بقاء التكليف في ذمة المكلّف بحيث يجب إفراغها عبر المعيّن، ولا حاجة إلى إثبات وجوب المعيّن حصراً، فتأمل.

الدليل الثالث: إن الوجوب التخييري فيه مؤونة زائدة ثبوتاً وإثباتاً، فالأصل عدمها، أما ثبوتاً فملاحظة العِدل، وأما إثباتاً فذكر العِدل في الدليل.

وفيه: أن في الوجوب التعييني أيضاً ملاحظة الإطلاق حيث لا يعقل الإهمال في الواقع، وأما الاستدلال في الإثبات فهو خروج عن البحث؛ لأن الكلام إنما هو في ما لم يوجد دليل لفظي، وإلاّ فالأصل هو الوجوب العيني التعييني النفسي، كما مرّ.

تنبيهات

التنبيه الأول: في نقصان الجزء أو الشرط لعذر

أي نقصان الجزء أو الشرط بالنسيان، أو بسائر الأعذار كالإكراه ونحوه، وكذا في ارتكاب القاطع أو المانع لأجل النسيان أو لسائر الأعذار، وفي الأمثلة نذكر النسيان ومنه يعلم سائر الحالات.

الأصل الأوّلي هو بطلان العمل بنسيان الجزء أو الشرط؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، والمشروط عدم عند عدم شرطه، ولكن يمكن تصحيح العمل بدليل ثانوي، وقد ذكرت وجوه:

الوجه الأول: إن تكليف الناسي هو المركب الفاقد للجزء أو الشرط

ص: 337

المنسيّين، فيكون المأتي به مطابقاً للمأمور به، أما ثبوتاً فذلك ممكن، وأما إثباتاً فبدليل الرفع.

1- وأما الثبوت: فقد أشكل على إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بتكليفه بالناقص، حيث إنه إن لم يلتفت إلى كونه ناسياً فالخطاب لا يحرّكه فيكون لغواً، وإن التفت إلى نسيانه فينقلب إلى متذكر فلا يكون الخطاب متوجهاً إليه فيكون لغواً أيضاً.

وأجيب بأجوبة، ومنها:

الجواب الأول: عن الشِق الأول، بأن مصحِّح الخطاب لا ينحصر في الباعثية، بل يكفي في التصحيح وجود الداعي العقلائي، كالإجزاء حين الالتفات وعدم الحاجة إلى القضاء أو الإعادة، فإن الناسي غير الملتفت إلى نسيانه ينبعث عن الخطاب الأول الخاص بالمتذكر ولا ينبعث عن الخطاب الثاني الخاص بالناسي، لكن بعد تذكره ينكشف له انطباق المأتي به مع المأمور به وهو الخطاب الثاني، ولا دليل على لزوم الانبعاث الفعلي في صحة الخطاب(1).

الجواب الثاني: عن الشق الثاني، إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي لا بعنوان الناسي، وإنما بعنوان آخر ملازم له.

لا يقال: لا أثر عملي لهذا فإنه تختلف أسباب النسيان ويختلف الأفراد فلا عنوان كلي ملازم له!

ص: 338


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 221.

لأنه يقال: إن الكلام في التصحيح في مرحلة الثبوت ويكفي فيه الإمكان.

الجواب الثالث: ما في الكفاية قال: «كذلك يمكن تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية، كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شك في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حق الذاكر»(1).

وأشكل عليه(2): بأن الخطاب الأول لا يخلو من أن يكون عاماً للمتذكر والناسي وهذا خلاف الفرض، أو مهملاً وهو محال، أو خاصاً بالناسي فعاد المحذور!

وفيه: اختيار الشق الأول وليس خلاف الفرض؛ لأنه خطاب مطلق وبنحو اللا بشرط فلا ينافي تقييده بدليل منفصل للملتفت بإضافة جزء أو قيد، كما لو أمر المولى كل عبيده بفعل مركب ثم أمر أحدهم فقط بإضافة جزء آخر.

الجواب الرابع: ما في نهاية الدراية قال: «إن ما عدا الأجزاء الأركانية يمكن أن يكون متقيّداً بالالتفات إليه، بأن يكون الدخيل في الغرض الجزء الذي التفت إليه المكلّف بطبعه، لا الجزء عن التفات كالصلاة عن طهارة حتى يجب تحصيله بقيده، بل القيد سنخٌ قُيّد بوجوده بطبعه ومن باب الاتفاق، أو يكون الجزء بذاته دخيلاً في الغرض، لكنه لا مصلحة في الإلزام

ص: 339


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 274-275.
2- منتقى الأصول 5: 261.

به إلاّ إذا التفت إليه، وعلى أيِّ حال فلا جزئية إلاّ لذات الجزء الملتفت إليه، فالتكليف بنحو القضية الحقيقية متعلّق بالمكلّف بالإضافة إلى كل جزء من الأجزاء المعلومة بالأدلة مع الالتفات إليه، فمن التفت إلى الجميع فهو مأمور واقعاً بالجميع، ومن التفت إلى البعض فهو واقعاً مأمور بالبعض، وليس في أخذ الالتفات إلى ذات الجزء محذور أخذ النسيان»(1).

وحاصله: إن المجعول تكليف واحد بالمقدار الملتفت إليه، وعليه فالناسي قد امتثل ما أُمِر به كالمتذكر، فالمأمور به طبيعي ذو مراتب كالأمر بالصلاة حيث لها مراتب الصلاة من الرباعية إلى صلاة الغريق.

ولا يلزم من ذلك أخذ العلم بالحكم في موضوعه؛ وذلك لأن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ إذ العلم بالجعل مأخوذ في موضوع المجعول.

ويشكل عليه: باستلزامه التصويب.

ولا ينفع في دفع التصويب القول بأن الحكم الإنشائي إنّما هو بواجد جميع الأجزاء والشرائط لكن لا فعلية للناسي إلاّ ما التفت إليه نظير الحكم الظاهري مع الواقعي.

وذلك لأنه لا إجزاء للظاهري بعد العلم بالواقعي، مع أن مورد الكلام في إجزاء ما أتى به بعد التذكر، فتأمل.

2- وأما الإثبات: فقد استدل بحديث الرفع، حيث إن جزئية المنسيّ في حالة النسيان مجهولة، فترتفع الجزئية بحديث الرفع.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

ص: 340


1- نهاية الدراية 4: 340.

الإشكال الأول: إن الرفع ظاهري لا واقعي، فلا يكون هنالك إجزاء، فتجب الإعادة أو القضاء بعد التذكر.

وفيه: أن الرفع وإن كان ظاهرياً، إلاّ أن الجهل بالجزئية لا يرتبط بالتذكر أو النسيان؛ إذ لا يرتفع هذا الجهل بالتذكر، وإنما يتذكر عدم إتيانه بالجزء، ويستمر الجهل بالجزئية، كما لا يخفى.

الإشكال الثاني: إن رفع الجزئية لا يدل على الأمر بالباقي؛ لأن حديث الرفع لا يدل على الوضع كما مرّ، فمع رفع الجزئية لا بد من قيام دليل آخر على الأمر بالباقي.

وفيه: أن وجوب الباقي إنما يستفاد من الدليل الدال على أصل الوجوب، وحديث الرفع إنما يرفع الجزئية الثابتة بأدلة الأجزاء، أو الشرطية الثابتة بأدلة الاشتراط، فإطلاق دليل الشرط والجزء يدل على الجزئية والشرطية في حال النسيان أيضاً إلاّ أن حديث الرفع يقيّد الإطلاق بحال التذكر، فتأمل.

الإشكال الثالث: لا يمكن رفع مدخلية الأجزاء والشرائط في الملاك؛ لأن المدخلية أمر تكويني غير قابل للرفع التشريعي، كما لا يمكن رفع فعلية التكليف بالمنسيّ لأنه غير قابل للوضع حيث إن التكليف الفعلي بالمنسي محال فيستحيل رفعه.

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما مرّ من إمكان التكليف الفعلي بالمنسي إذا كان هناك مصحِّح عقلائي ولا يشترط إمكان المحرّكية - أن استحالة وضع ورفع التكليف الفعلي لا يلازم استحالة وضع ورفع الحكم الوضعي على غير القادر كوضع الضمان على العاجز والنجاسة على

ص: 341

غير القادر على الطهارة لترتب الأثر عليه ولو بعد ذلك، وفي ما نحن فيه يمكن وضع الجزئية حال النسيان ويترتب الأثر عليه بعد التذكر أو على غيره بوجوب القضاء على الولد الأكبر مثلاً، وحيث أمكن الوضع أمكن الرفع.

الإشكال الرابع: وهو خاص بما لو تذكر في الوقت لا ما لو استوعب النسيان كل الوقت قال في الفوائد: «ولا يمكن الاستدلال له بمثل قوله (صلی الله علیه و آله) : (رفع النسيان) فإن أقصى ما يقتضيه نسيان الجزء في بعض الوقت هو خروج زمان النسيان عن سعة دائرة التكليف الذي كان منبسطاً على مجموع الوقت، كما إذا خرج جزء من الزمان المضروب للعمل عن سعة دائرة التكليف بغير النسيان - من اضطرار أو إكراه أو نحو ذلك - فكما أن تعذر جزء المركب في بعض الوقت بغير النسيان من سائر الأعذار الأخر لا يقتضي رفع التكليف عن خصوص الجزء المتعذّر، بل يسقط التكليف على الكلّ رأساً في خصوص وقت العذر، ويخرج ذلك الوقت عن صلاحية وقوع المأمور به فيه، ويلزمه قهراً وقوع الطلب في ما عداه من سائر الأوقات الأخر التي يمكن إيقاع المركب فيها بما له من الأجزاء، كذلك تعذر جزء المركب في بعض الوقت بالنسيان لا يقتضي إلاّ سقوط التكليف عن الكل رأساً، لا عن خصوص الجزء المنسيّ»(1).

وحاصله: أنه لا يكفي في الإجزاء تحقق العذر في بعض الوقت؛ لأن المأمور به هو الكلي الطبيعي لا الفرد، والمكلّف قادر على الإتيان بالكلي

ص: 342


1- فوائد الأصول 4: 226-227.

الطبيعي، وليس الفرد الفاقد مصداقاً لذلك الطبيعي، وبعبارة أخرى: لم يعرض العذر على الطبيعي ليكون مرفوعاً بل عرض على الفرد وهو ليس مصداقاً للمأمور به، والظاهر أن هذا الإشكال تام لا يرد عليه شيء.

الإشكال الخامس: ما في الفوائد أيضاً قال: «معنى نسيان الجزء هو خلوّ صفحة الوجود عنه، وعدم تحققه في الخارج، ولا يعقل تعلّق الرفع بالمعدوم، لما عرفت من أن المرفوع لا بد وأن يكون شاغلاً لصفحة الوجود ليكون رفعه بإعدامه وإخلاء الصفحة عنه، فنسيان الجزء مما لا يتعلق به الرفع، فلا يعمّه قوله (صلی الله علیه و آله) : رفع النسيان»(1).

ويرد عليه: صغرىً: بأن المنسي الجزئية وهي أمر وجودي، فليس المرفوع ترك الجزء ليكون عدمياً.

وكبرىً: بأن ترك الجزء وإن كان عدمياً في الخارج، إلاّ أنه في الذهن أمر وجودي فيكون منشأً للأثر، فلا محذور في رفعه.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول لتصحيح الفاقد للجزء نسياناً أو لغيره من الأعذار.

الوجه الثاني: إن الباقي وإن لم يكن مأموراً به إلاّ أنه يسقطه في حال النسيان وغيره، لتحقق الغرض به، كمن يأتي بالجهر مكان الإخفات أو بالعكس نسياناً، أو يصلى تماماً بدلاً عن القصر جهلاً، وأثر الترك عمداً هو وجوب الإعادة أو القضاء، فالرفع نسياناً يقتضي عدم ترتب هذا الأثر.

ص: 343


1- فوائد الأصول 4: 225.

وأشكل عليه في الرسائل قال: «إن جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعاً، بل هي ككلّية الكلّ، وإنما المجعول الشرعي وجوب الكلّ، والوجوب مرتفع حال النسيان بحكم الرواية، ووجوب الإعادة بعد التذكر مترتب على الأمر الأول، لا على ترك السورة مثلاً... فالآثار المرفوعة في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب بحكم أخبار الاستصحاب في أنها هي خصوص الشرعية المجعولة للشارع دون الآثار العقلية والعادية ودون ما يترتب عليها من الآثار الشرعية»(1).

وحاصله: أن الرفع هنا أصل مثبت حيث إن وجوب الإعادة أو القضاء من آثار ترك الكل بترك جزئه، لا أنهما من آثار ترك الجزء المنسي، أي إن ترك الجزء يلازمه عقلاً ترك الكل - لأن الكل عدم عند عدم جزئه - وحيث لم يأت بالعمل بكلّه لزمه الإتيان به الذي هو معنى الإعادة أو القضاء.

إن قلت: حديث رفع النسيان من الأدلة الاجتهادية فيترتب عليها الآثار الشرعية المترتبة على لوازمها العقلية!

قلت(2): الذي يدعيه الشيخ هو قصور دليل الرفع عن شمول مثل هذا المورد، واستظهاره أنه إنما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس المنسي خاصة؛ لأنه ناظر إلى الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام في موارد المنسيّ، فمع عدم ثبوت الأثر للمنسي يكون الدليل قاصراً، فعدم شمول

ص: 344


1- فرائد الأصول 2: 367-368.
2- منتقى الأصول 5: 269.

حديث الرفع هاهنا ليس لأجل عدم حجيّته في اللوازم العقليّة كي يقال: إن هذا شأن الأصل العملي لا الدليل الاجتهادي، وإنما لأجل قصور دليله، ولذا جعله الشيخ نظير الاستصحاب لا أنه بحكمه.

وفيه(1): إنه وإن كان وجوب الإعادة والقضاء من آثار ترك الكل بالدقة العقلية، لكن بنظر العرف ذلك من آثار الجزء المنسيّ، فلا مانع من شمول دليل رفع النسيان لمثل المورد، هذا مضافاً إلى كون الواسطة خفيّة حتى لو كان رفع النسيان أصلاً عملياً، فتأمل.

الوجه الثالث(2): إن الناسي لا خطاب له أصلاً، لا بالتام لأنه غير مقدور فيستحيل الخطاب به، ولا بالناقص لاستحالة خطاب الناسي كما مرّ، وحيث يزعم الناسي كونه ذاكراً يأتي بالعمل الناقص، وبعد التذكر يشكّ في تولد خطاب متوجه إليه بأن ائت بالعمل التام، وهذا شك في التكليف، ومجراه البراءة العقلية والنقلية.

وأورد عليه: إنه قد يكون لدليل جزئية الجزء إطلاق، والإطلاق دليل اجتهادي، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي! إلاّ لو كان دليل الجزئية لبيّاً كالإجماع فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو الجزئية في حالة الذكر، فتأمل.

التنبيه الثاني: في زيادة الجزء

سواء كانت الزيادة عمداً أم سهواً، بجزء مسانخ أو غير مسانخ.

والمأمور به إن كان مأخوذاً بشرط لا عن الزيادة فلا إشكال في حالة

ص: 345


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 235.
2- الأصول: 789.

العمد في بطلانه، حيث لم يطابق المأتي به المأمور به، وأما في حالة السهو فيمكن شمول حديث رفع النسيان له.

وإن كان المأمور به لا بشرط فتجري البراءة والاستصحاب فلا يلزم القضاء أو الإعادة.

1- أما البراءة، فلأنه شك في التكليف حيث يشك في مانعية الزائد أو قاطعيّته كما يشك في وجوب الإعادة أو القضاء.

2- وأما الاستصحاب، فهو استصحاب عدم المانعيّة بالعدم الأزلي أو النعتي، أو استصحاب صحة الأجزاء السابقة قبل زيادة ذلك الجزء المشكوك في كونه قاطعاً أو مانعاً، اللهم إلا أن يقال: لا يوجد يقين سابق؛ لأن صحتها مشروطة بكون الأجزاء اللاحقة صحيحة أيضاً فمع الزيادة يشك في أصل صحتها، فتأمل.

التنبيه الثالث: الدوران بين الشرطية أو الجزئية والقاطعية أو المانعيّة

فهل هو من الدوران بين المحذورين حيث الحكم التخيير، أم لا حيث الحكم الاحتياط؟!

كما لو دار الأمر بين وجوب الجهر في صلاة الظهر يوم الجمعة أو وجوب الإخفات، فهل الجهر شرط أم قاطع؟ وكانحصار الساتر في ما لا يؤكل لحمه فهل هو شرط واجب أم هو مانع عن انعقاد الصلاة؟

قد يقال: بأنه من الدوران بين المحذورين فيتخيّر، قال الشيخ الأعظم: «لجريان أصالة البراءة مع الشك في الشرطية والجزئية، ولا مانع من إجرائها؛ لأن المانع عن اللزوم الغيري في كل من الفعل و الترك ليس إلاّ لزوم المخالفة القطعية، وهي غير قادحة؛ لأنها لا تتعلق بالعمل؛ لأن واحداً من

ص: 346

فعل ذلك الشيء وتركه ضروري مع العبادة، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة»(1).

وحاصله: عدم إمكان المخالفة القطعية حيث إن المصلّي لا يخلو من الجهر أو الإخفات مثلاً ولا حالة ثالثة، فاختيار كل طرفٍ مخالفة احتمالية، فلا محذور من إجراء الأصول في الطرفين والمخالفة الالتزامية ليست محذوراً.

ويرد عليه: أولاً: النقض: بما لو دار الأمر بين القصر والتمام حيث إن السلام في الركعة الثانية إما جزء أو قاطع، مع أنه لا إشكال في وجوب الاحتياط مع كونه من مصاديق ما نحن فيه.

وثانياً: بالحل: بأنه من دوران الأمر بين المتباينين مع إمكان الاحتياط بالإتيان مرتين، تارة مع ذلك الشيء، وتارة بدونه، وذلك للتمكن من المخالفة القطعية بترك العمل من رأس، والتمكن من الموافقة القطعية عبر التكرار. نعم، لو احتمل الحرمة كان من دوران الأمر بين المحذورين، ولا مناص من التخيير حينئذٍ.

ص: 347


1- راجع فرائد الأصول 2: 401.

فصل في قاعدة الميسور

اشارة

وهو من تتمات بحث الأقل والأكثر، فلو لم يقدر على الجزء فهل يجب الإتيان بباقي الأجزاء مع الشك في إطلاق دليل جزئية الجزء أو شرطية الشرط؟

قد يقال: بوجوب الباقي ويستدل له بالروايات وبالأصول العملية.

الاستدلال بالروايات

الحديث الأول: ما عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1)

وإرساله مجبور بعمل الأصحاب به في العبادات وغيرها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن «منه» وإن كان للتبعيض و«ما» موصولة، إلاّ أنه كما يحتمل كون (من) للتبعيض من الكل بأن يكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء مركب فأتوا الذي استطعتم منه)، كذلك يحتمل كونها للتبعيض من الكلي بأن يكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء كلي ذي أفراد فأتوا الأفراد التي استطعتم منها)، فإن الكلي وإن كان عين الأفراد - حيث ينتزع منها - وليست الأفراد أبعاضاً للكلي، إلاّ أن العرف قد ينظر إلى الطبيعة باعتبارها جامعة والأفراد بعضاً منها.

ص: 348


1- بحار الأنوار 22: 31.

وفيه: إن قوله (صلی الله علیه و آله) : «بشيء» يراد به المعنى الجامع بين الكل والكلي، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما، والإطلاق يدل على ذلك.

وثانياً: أن مورد الرواية حول الحج في كل عام فلا يناسب الكل والأجزاء.

وفيه: إن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، لأنه قوله (صلی الله علیه و آله) عام، بل قد يقال: إنه (صلی الله علیه و آله) ذكر التيسير في الحج بأنه يكفي مرة ثم أضاف تيسيراً آخر بالاكتفاء ببعض الأجزاء لمن عجز عن الكل.

وثالثاً: قد اتفقوا على عدم جريان قاعدة الميسور في الحج، وخروج المورد من الكلام قبيح، فلا بد من حمل الخبر على الكلي والأفراد.

وفيه: إن الفقهاء أجروا القاعدة في الحج أيضاً، إلاّ في من لم يتمكن من إدراك الموقفين اختياراً واضطراراً وذلك للنص الخاص.

الحديث الثاني: ما عن النبي (صلی الله علیه و آله) : «لا يترك الميسور بالمعسور»(1)

وعن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) : «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)،

والسند كسابقه مجبور بالعمل، لكن أشكل في الدلالة بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن «الميسور» شامل للواجب والمستحب، وظهوره هذا يتعارض مع ظهور «لا يترك» حيث إنه نهي دال على حرمة الترك، ولا أولوية في تخصيص الميسور بالواجب على رفع اليد عن حرمة الترك في «لا يترك».

ص: 349


1- عوالي اللئالي 4: 58.
2- مصابيح الظلام 7: 233.

وأجيب: أولاً: إن «الميسور» خاص بالواجب؛ لأن عمومه غير مراد حيث يشمل المباحات والمكروهات، بل والمحرمات وهي غير مطلوبة قطعاً لا كلّها ولا الميسور منها، فظهوره في المستحب ضعيف لذلك، فبقرينة «لا يترك» تخرج المستحبات أيضاً.

وثانياً: بأن «لا يترك» نفي وليس نهياً، فلا تفيد حكماً إلزامياً، فيكون مفاده ثبوت الحكم الذي كان قبل التعذّر - سواء كان واجباً أم مستحباً - وعليه فيبقى وجوب الواجب واستحباب المستحب.

الإشكال الثاني: إن «الميسور» كما يحتمل أن يراد به أجزاء الكل كذلك يحتمل أن يراد به أفراد الكلي، فالحديث مجمل!

وأجيب: أولاً: ظهور كلمة «الميسور» في الأجزاء من الكل لا الأفراد من الكلي؛ وذلك لعدم توهم سقوط سائر الأفراد بالعجز عن فرد منها، ولكن قد يتوهم سقوط الكل بسقوط بعض أجزائه، وذلك قرينة على أن المراد الأجزاء.

إن قلت: إنّ أمر الخبر دائر بين حمله على الأجزاء فيكون مولوياً، وبين حمله على الأفراد فيكون إرشادياً لحكم العقل بعدم سقوط فرد بتعذر فرد آخر!!

قلت(1): إن مجرى أصالة المولوية هو في صورة العلم بالمتعلّق مع الجهل بالمولوية والإرشادية، أما لو كان المتعلّق مجهولاً - كما لو تردد بين لفظين أو معنيين - فلم يثبت حمله على المولوية، وعلى هذا بناء العقلاء، مضافاً إلى ما مرّ من أن مجرد حكم العقل بشيء ليس سبباً لحمل كلام

ص: 350


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 269.

الشارع المطابق له على الإرشادية.

وثانياً: ما مرّ من أنه لو فرض عدم ظهور «الميسور» في خصوص الأجزاء، فلا بد من حمله على معنى جامع بين الأجزاء والأفراد.

الإشكال الثالث: إن السقوط فرع الثبوت، والحكم الكلي ثابت لجميع الأفراد عند تشريع الحكم، ومع تعذّر بعضها يحكم بثبوته للباقي، أما في الأجزاء فالذي كان ثابتاً هو الوجوب الضمني للباقي وهو قد سقط قطعاً ويشك في ثبوت وجوب استقلالي له، فليس شك في بقاء الوجوب الأول كي يقال: بعدم سقوطه، بل في تحقق وجوب جديد وفي مثله لا يستعمل السقوط وعدمه.

ويرد عليه: أولاً: بأنه قد ورد أيضاً «لا يترك»، كما ورد «لا يسقط».

وثانياً: إن السقوط إمّا يسند إلى المتعلّق لا الحكم فالمعنى لا يسقط ذات الميسور الذي كان ثابتاً في ذمة المكلّف، حين كان الثابت جميع الأجزاء، وبتعذر بعضها لا يعلم سقوط الباقي عن الذمة أو عدم سقوطه، فيبيّن الحديث عدم السقوط، وإما يسند إلى الحكم والعرف يرى الاستقلالية والضمنية من حالات المتعلّق لا من مقوّمات الوجوب، ولذا يصح عرفاً القول ببقاء الوجوب أو سقوطه، فتأمل.

الحديث الثالث: ما عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ما لا يدرك كله لا يترك كلّه»(1).

والكلام فيه سنداً ودلالة وإشكالاً وأجوبة هو كالكلام في الحديثين

ص: 351


1- عوالي اللئالي 4: 58.

السابقين.

قال الشيخ الأعظم: «مقتضى الإنصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات، ولذا شاع بين العلماء، بل بين جميع الناس الاستدلال بها في المطالب حتى أنه يعرفه العوام، بل النسوان»(1).

الاستدلال بالأصول العملية

ثم إنه لو فرض عدم تمامية الاستدلال بالروايات فيمكن الاستدلال بالأصول العملية لوجوب الباقي...

1- فقد يستدل بالاستصحاب، بإحدى الوجوه التالية:

الوجه الأول: استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي على فرض قبول المبنى بوجود الوجوب الضمني.

وأورد عليه: أولاً: بأنه استصحاب الكلي من القسم الثالث وهو ليس بحجة، حيث إن الوجوب الضمني مرتفع قطعاً؛ إذ كان هو في حال القدرة على تمام الأجزاء، والوجوب الاستقلالي للباقي مشكوك الحدوث.

وثانياً: إن الجامع بين الوجوب القابل للمنجزية والوجوب غير القابل لها لا يكون منجزاً، والوجوب الضمني للباقي غير قابل للمنجزية لفرض تعذر الكل. نعم، الوجوب الاستقلالي للباقي قابل للمنجزية، فالجامع بينهما لا يكون منجزاً.

وثالثاً: إن هذا الاستصحاب أخص من المدعى؛ لأنه لو عرض التعذر قبل الوقت فلم يعلم دخول شيء في ذمة المكلّف ليستصحب وجوبه بعد

ص: 352


1- فرائد الأصول 2: 394.

تعذّر بعض أجزائه.

إن قلت: يستصحب وجوب الباقي حتى لو تعذر الجزء أو الشرط قبل الوقت؛ وذلك لعدم اشتراط فعلية الموضوع الخارجي في القضية الحقيقية.

قلت: إن ما ذكر وإن كان صحيحاً - حيث لا يشترط فعلية الموضوع الخارجي في القضية الحقيقية - إلاّ أنه لا بد من فرضٍ مطابق للواقع لا فرضٍ غير مطابق له، ففرض الوجوب قبل الوقت ليتم استصحابه بعده فرضٌ باطل لا يطابق للواقع. نعم، يمكن فرض الوجوب بعد الوقت ثم استصحابه مع تعذّر بعض الأجزاء، فدّقق.

الوجه الثاني: استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي، حيث ثبت هذا الوجوب في ذمة المكلّف، ويشك في سقوطه بتعذر جزء المركب، فيستصحب الوجوب.

وفيه: إنه إن لوحظ متعلّق الوجوب فالأركان غير تامة؛ لأن وجوب التام قد سقط قطعاً بتعذر بعض أجزائه فلا شك لاحق، ووجوب الناقص لا يقين سابق له.

وإن لم يلاحظ المتعلّق كان أصلاً مثبتاً؛ إذ اللازم العقلي لوجود وجوبٍ ما والشك في سقوطه هو وجوب ما أمكن.

الوجه الثالث: استصحاب الوجوب باعتبار الوحدة العرفية بين الواجد للجزء والفاقد له.

وفيه(1): أن الاختلاف بالزيادة أو النقصان إنّما لا يقدح في وحدة

ص: 353


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 244.

الموضوع إذا كان من الموضوعات الجزئية الخارجية، بخلاف الموضوعات الكليّة، فإن الاختلاف فيها قادح عرفاً.

والسِرّ في ذلك: أن ملاك الوحدة في الموضوعات الخارجية هو الوحدة الشخصية، وهي محفوظة مع الزيادة والنقصان، وأما الموضوعات الكلية فهي من سنخ المفاهيم، والمفاهيم تتباين عرفاً بالزيادة والنقيصة، حيث إنه في الذهن يتغاير كل مفهوم مع آخر، ولذا لا يجري الاستصحاب في نجاسة كلي الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر، لكن يجري في الماء الخارجي الذي زال تغيّره.

وفي ما نحن فيه لا توجد صلاة في الخارج حتى نذكر الدليل على وجوبها؛ لأن الخارج ظرف السقوط لا ظرف الوجوب، بل الإشارة إلى العناوين الكلية، فيقال: الصلاة واجبة، وبذلك دخلت الواجبات في عالم المفاهيم، وفي ذلك العالم الصلاة الواجدة غير الصلاة الفاقدة، فهما حقيقتان عرفاً لا حقيقة واحدة، فتأمل.

2- وقد يستدل بالبراءة، وذلك برفع جزئية الجزء في حالة العذر، بيانه: أنه لا نعلم أن جزئية الجزء هل هي مطلقة حتى في حال العذر فيسقط الواجب لعدم القدرة عليه، أو أنها خاصة بحالة القدرة فتسقط الجزئية ويبقى الواجب وذلك لإطلاق دليل سائر الأجزاء.

وأشكل عليه: أولاً: بأن وجوب الباقي خلاف الامتنان، فلا يجري حديث الرفع الوارد في المنّة.

وفيه: إن رفع الجزئية امتنان وإن ثبت وجوب الباقي بدليل آخر؛ إذ الملاك في مجاري الأدلة هو مصبّها لا مآلها.

ص: 354

وثانياً: ما في نهاية الدراية قال: «لا مجال له أصلاً، إذا الجزئية والشرطية المجعولتان بالأمر بالمركب والمشروط مقطوع الانتفاء، لفرض التعذّر، والجزئية والشرطية بلحاظ مقام الغرض مشكوك الثبوت إلاّ أنهما واقعيتان لا مجعولتان حتى يعقل رفعهما بحديث الرفع»(1).

والحاصل: أن ما هو القابل للرفع - وهو الجزئية والشرطية للمأمور به - مرفوع قطعاً، وما هو مشكوك الارتفاع ليس قابلاً للرفع.

ويرد عليه: إن كلامنا أعم من العجز العرفي، وفيه لا يحكم العقل بارتفاع الجزئية فيمكن رفعها بالشرع، مضافاً إلى ما مرّ من إمكان بقاء الفعلية لترتب الأثر عليها بالقضاء أو الإعادة. نعم، لا مناص من ارتفاع التنجّز حين العجز.

وثالثاً: ما في نهاية الدراية أيضاً قال: «مضافاً إلى أن دليل الواجب إن كان له إطلاق لكفى في نفي الجزئية والشرطية عند التعذّر، وإن لم يكن له إطلاق كما هو مفروض الكلام فلا يفيد نفي الجزئية والشرطية بحديث الرفع للتعبد بالباقي؛ إذ ليس شأنه إلاّ الرفع لا الإثبات»(2).

وفيه: ما مرّ من وجوب الباقي إنما يثبت بإطلاق دليل المركب، وأن دليل الرفع إنما يرفع الجزئية، حيث إن هنا ثلاث أدلة: دليل وجوب المركب، ودليل جزئية الأجزاء، ودليل الرفع، فلا يراد إثبات وجوب الباقي بدليل الرفع، بل به ترتفع جزئية المتعذر، ويبقى الباقي تحت إطلاق دليل

ص: 355


1- نهاية الدراية 4: 380-381.
2- نهاية الدراية 4: 381.

الوجوب.

تتمات قاعدة الميسور

التتمة الأولى: هل يشترط كون الميسور والمعسور من جنس واحد؟

قال السيد الوالد(1):

ربّما يقال: بشمول ملاك قاعدة الميسور حتى لما لم يكن من جنس المعسور، كما إذا توقف ردع المعتدي على غير ما قُرّر في الشريعة الإسلامية، إلاّ أن يقال: إنه من باب الأهم والمهم لا من باب الميسور.

وحاصله: أن ملاك القاعدة هو أن الغرض لو كان ذا مراتب ولم يمكن المعسور المشتمل على المرتبة العليا فلا بد من الميسور المشتمل على مرتبة أدنى من الغرض، ولا فرق في ذلك بين كونهما من جنس واحد أو من جنسين، فالغرض من تعزير المعتدي هو ردعه فإن لم يمكن تعزِيره لعدم بسط يد حاكم الشرع فيمكن إخبار السلطة التي تحبسه لذلك!

إلاّ أن ذلك قد يصح في ما لو علمنا بالملاك، وأكثر ملاكات الأحكام غير معلومة، والمعلوم منها إما حكمة لا علة أو فائدة تترتب من غير كونها الغرض! وفي مثال المعتدي لعلّه من باب الأهم والمهم لا قاعدة الميسور.

التتمة الثانية: المعسور في المستحبات

كما لو أمكنه زيارة عاشوراء بسلام واحد ولعن واحد، وقد يقال: بشمول القاعدة للمستحبات لوجوه، منها:

الدليل الأول: ليس معنى «لا يترك» الحرمة، ولا معنى «فأتوا» الوجوب،

ص: 356


1- الأصول: 797.

بل الظاهر العرفي من الأحاديث هو أن الحكم الثابت للشيء قبل العجز ثابت له بعد العجز عن بعض الأجزاء والشرائط، من غير فرق بين المستحب والواجب، كما لو أمر المولى بأوامر إلزامية وغير إلزامية ثم قال: لا تترك ما قلته لك في حال العجز عن بعض الأجزاء، فلا ظهور له في الحرمة، بل في بقاء الحكم السابق.

الدليل الثاني: أولوية المستحبات بمعنى أنه لو اكتفى بالواجب ببعضه في حالة العجز فاكتفاؤه في المستحب ببعضه بطريق أولى.

وفيه: أنه قد تكون الأولوية بالعكس؛ إذ لعل الأمر بالميسور في الواجبات لقوة ملاكها بحيث لا يرضى الشارع بفوات تلك الملاكات ولو المرتبة الدنيا منها، عكس المستحبات التي ملاكاتها ليست بتلك القوة ويمكن رفع اليد عنها حين العجز عن المرتبة العليا منها، فتأمل.

التتمة الثالثة: في جريان القاعدة في الشرط

لا فرق في القاعدة بين الجزء والشرط؛ وذلك لإطلاق الدليل، وجريان الأصل العملي.

وأشكل عليه: بأن الدليل يدل على الأجزاء فقط، حيث إن «من» في قوله (علیه السلام) : «فأتوا منه بما استطعتم»(1)

للتبعيض، وهو لا يكون إلاّ في الأجزاء، وكذلك «كل» في قوله (علیه السلام) : «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(2)

هو في الأجزاء لأنها البعض أو الكل، أما الشرائط فليست من الأجزاء، وكذلك «لا

ص: 357


1- عوالي اللئالي 4: 58.
2- عوالي اللئالي 4: 58.

يسقط» في قوله (علیه السلام) : «الميسور لا يسقط بالمعسور»(1) لا يستعمل إلاّ في ما له مقتضي الثبوت، وفاقد الشرط ليس له مقتضي الثبوت وذلك للتباين كالرقبة المؤمنة والكافرة.

وفيه: أنّه لا فرق عرفاً بين الجزء والشرط بعد ما كان المأمور به مركباً منهما، وبذلك يصح عرفاً استعمال من والبعض في الشروط، كما أنه قبل التعذّر كانت الفعلية متحققة فضلاً عن الاقتضاء فكان ثابتاً ومع تعذر الشرط يشك في سقوطه، فصح استعمال السقوط وعدمه. نعم، لو كانا عرفاً من المتباينين لم يكن الفاقد للشرط ميسوراً عرفاً.

التتمة الرابعة: الدوران بين ترك الجزء أو الشرط

كما لو اشترط وحدة المجلس في زيارة عاشوراء، فدار أمره بين حفظ وحدة المجلس مع ترك تكرار اللعن والسلام، أو تكرارهما في مجلسين، فهنا احتمالات:

1- ما في الرسائل من أن: «الظاهر تقديم ترك الشرط، فيأتي بالأجزاء تامة في غير المجلس؛ لأن فوات الوصف أولى من فوات الموصوف، ويحتمل التخيير»(2).

2- ما في الوصائل(3):

من الترجيح بمرجحات باب التزاحم كالترجيح بالأهمية وبمحتملها وبالأسبقيّة زماناً، وغير ذلك مما مرّ، فمع دوران الأمر

ص: 358


1- مصابيح الظلام 7: 233.
2- فرائد الأصول 2: 398.
3- الوصائل إلى الرسائل 10: 153.

بين ترك الوضوء أو ترك السورة الترجيح لترك السورة؛ لأن الوضوء أهم حيث إنه ركن، ومع عدم وجود المرجحات فالتخيير؛ لأن دليل الميسور يشملهما على حدّ سواء ولا وجه للترجيح من غير مرجح.

التتمة الخامسة: الدوران بين البديل والمبدل الناقص

كما لو دار الأمر بين الصلاة من جلوس بوضوء أو الصلاة من قيام بتيمم.

قال الشيخ الأعظم(1)

وجهان: من أن مقتضى البدلية كونه بدلاً عن التام فيقدّم على الناقص كالمبدل، ومن أن الناقص حال الاضطرار تام لانتفاء جزئية المفقود، فيقدّم على البدل كالتام، ويدل عليه رواية عبد الأعلى قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : إني عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2)

امسح عليه»(3).

وأشكل عليه المحقق العراقي(4):

بأنه ليس مفاد الأخبار تنزل الباقي منزلة الكل وإنما مفادها عدم سقوط ما ثبت في العهدة من التكليف المتعلّق بالأجزاء الباقية.

وحاصله: أن أدلة الميسور ليس معناها أن الناقص ينزل منزلة التام كي تثبت له جميع أحكامه، بل مفادها بقاء الوجوب، وكذلك دليل البدلية يدل

ص: 359


1- فرائد الأصول 2: 398.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- الكافي 3: 33؛ وسائل الشيعة 1: 464.
4- نهاية الأفكار 3: 461.

على وجوب الإتيان بالبدل، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، وحيث إنهما متعارضان وقد علم عدم وجوب الجمع بينهما فيكون المكلف مخيراً بينهما.

وأورد عليه: بأن ظاهر أدلة الميسور هو بقاء الوجوب السابق بنفسه وذلك بحكومة دليل الميسور على دليل المبدل منه فيوسّع المتعلّق، ومعه لا تصل النوبة إلى البدل.

التتمة السادسة: القاعدة في المحرمات

كما لو تمكن من بعض الحرام، فإنه لا يسقط الباقي؛ وذلك لإطلاق كلمة الميسور حيث يشمل الفعل والترك، كما لو اضطر لحلق بعض لحيته فلا يجوز له حلق كلها؛ لأن الترك الجزئي ميسور، فتأمل.

التتمة السابعة: في إطلاق دليل الجزء

فلو كان دليل الجزء مطلقاً بحيث يشمل حال التعذر كقوله (علیه السلام) : «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) فمع قطع النظر عن الأدلة الخاصة لو تعذر ذلك الجزء فهل تجري قاعدة الميسور؟

قد يقال(2): إنه يتعارض دليل القاعدة مع دليل جزئية الجزء لإطلاق كليهما، فيكون المرجع قواعد باب التعارض! وليس قاعدة الميسور حاكمة على دليل جزئية الجزء، بل كلاهما حاكمان على دليل المركب، وأما دليل الميسور فليس حاكماً على دليل الجزئية لعدم النظر والتفرّع الذي هو ملاك الحكومة.

ص: 360


1- تهذيب الأحكام 1: 50؛ وسائل الشيعة 1: 369.
2- منتقى الأصول 5: 304-305.

وأشكل عليه(1): بأن دليل الجزئية هو تفسير وتبيين لدليل المركب، فهما في الحقيقة دليل واحد - أحدهما مجمل والآخر مفصّل - وقاعدة الميسور حاكمة على المبيِّن والمبيَّن، وعليه فلا فرق بين دليل الأجزاء فكلها مطلقة تشمل حال القدرة وحال التعذّر، ودليل الميسور حاكم على جميعها.

التتمة الثامنة: خروج بعض الموارد عن القاعدة

كما في فاقد الطهورين حيث أفتى بعض الفقهاء بسقوط الصلاة عنه أداءً، وثبوتها قضاءً، فالصلاة من غير طهور وإن كانت ميسوراً إلاّ أن الشارع لم يردها للدليل الخاص، فهل ذلك حكومة في الموضوع بتخطئة العرف في زعمه أنه ميسور، أو أنه تخصيص في الحكم بمعنى خروجه عن حكم الميسور لا عن موضوعه؟ احتمالان.

التتمة التاسعة: التعذّر بسوء الاختيار

كما لو فاته الوقوف بعرفات بسوء اختياره، فهل يكون الوقوف الاضطراري مشمولاً للقاعدة مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة؟ احتمالان:

الاحتمال الأول: عدم شمول القاعدة له، لظهور المعسور في ما لو لم يكن التعذر من قِبل المكلف نفسه، بمعنى انصراف القاعدة عن هذا الفرد، وعليه فيبطل العمل.

والاحتمال الثاني: شمولها له، لإطلاق الأدلة وعدم الانصراف، كما يظهر من فتوى الفقهاء بذلك في موارد متعددة من الفقه، وذلك منبّه

ص: 361


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 289.

وجداني لعدم الانصراف، كفتواهم بأن من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت حتى لو كان التأخير عمداً، وكفتواهم بصحة الصوم مع التيمم لمن كان مجنباً وأخّر الغسل إلى قرب الفجر بحيث لم يسعه الوقت للغسل، وغير ذلك.

التتمة العاشرة: شمول القاعدة للأحكام الوضعيّة

وذلك للإطلاق، كمانعية جلود ما لا يؤكل لحمه عن الصلاة، فلو اضطر إليها لبرد ونحوه ارتفعت المانعية بالقاعدة، بل يقال: إنه لو كان للمانعية مراتب وتعذرت المرتبة العليا مع التمكن من المرتبة الدنيا شملته القاعدة، كما لو تنجس بالبول ولم يتمكن إلاّ من الغَسل مرة واحدة للصلاة أو تنجس موضعان من بدنه ويمكن تطهير أحدهما دون الآخر، وكذا في السببية كما لو اضطر إلى التذكية مع تمكنه من قطع ثلاثة أوداج دون الرابع، فتأمل.

ص: 362

فصل في قاعدة لا ضرر

اشارة

وفيها بحوث:

البحث الأول: في دليل القاعدة

وقد استدل لها بأدلة متعددة إلاّ أن عمدتها الأخبار، وخصوص موثقة عبد الله بن بكير عن زرارة في قصة سمرة، حيث قال الرسول (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار»(1)،

وخبر ابن مسكان عن زرارة: «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(2)،

ومرسلة الصدوق: «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام»(3).

وغير خفي تواتر: «لا ضرر ولا ضرار» وذلك يغنينا عن البحث في أسانيده.

وإنما الكلام في أن قيدي «في الإسلام» و«على مؤمن» لم يردا إلاّ في المرسلتين، والظاهر عدم تأثيرهما في أصل الحكم ولا في فهم الرواية، وإن اُدّعي كونهما قرينة على بعض الاستنباطات.

ثم لا بأس بالكلام في بعض الأحاديث التي ورد فيها إشكالات:

ص: 363


1- الكافي 5: 292؛ من لا يحضره الفقيه 3: 233؛ تهذيب الأحكام 7: 146؛ عنهم وسائل الشيعة 25: 429.
2- الكافي 5: 294؛ وعنه في وسائل الشيعة 18: 32.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 334؛ وعنه في وسائل الشيعة 26: 14.

الحديث الأول: مرسلة الصدوق المذيلة بقوله: «في الإسلام» فقد أدّعي أنه قرينة على كون (لا) للنفي لا للنهي، حيث إنه لا معنى لجعل الإسلام ظرفاً للضرر ثم النهي عنه، بل لا يوجد ضرر في الإسلام ليتم النهي عنه، ولذا حاول البعض إنكار كون «في الإسلام» من حديث الرسول (صلی الله علیه و آله) وإنما هو من تتمة استدلال الصدوق بهذا الحديث، حيث قال في الفقيه: «وإن الله إنّما حرّم على الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم، كما حرّم على القاتل عقوبة لقتله، فأما المسلم فلأيّ جرم وعقوبة يحرم الميراث؟ وكيف صار الإسلام يزيده شراً؟ مع قول النبي (صلی الله علیه و آله) : الإسلام يزيد ولا ينقص، ومع قوله (صلی الله علیه و آله) : لا ضرر ولا إضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً، ومع قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1).

والإنصاف قوة ظهور كون «في الإسلام» من الرواية لا من كلام الصدوق، ولذا فَرّع على بقوله: «فالإسلام يزيد...» حيث هو تفريع على كلا الحديثين.

وقد أقام صاحب المنتقى عدة قرائن على أن «في الإسلام» من كلام الصدوق في استدلاله(2)!

لكنها وإن أوجبت احتمالاً إلاّ أنها لا تخلّ بظهور كونه من الحديث لا من كلام الصدوق.

منها: جواز النقل بالمضمون وقد تعارف تذييل التشريع بمثل لفظة (في القانون) و(في الإسلام) وأمثال ذلك، وحيث إن الرسول (صلی الله علیه و آله) نفى الضرر

ص: 364


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
2- منتقى الأصول 5: 385-387.

بلحاظ تشريعه جاز أن يضاف إلى قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» كلمة «في الإسلام».

وفيه: أن تصدير الصدوق الكلام ب-«مع قوله...» ثم التفريع عليه ب-«فالإسلام يزيد» ظاهر في كون الكلمة من كلام النبي (صلی الله علیه و آله) .

ومنها: ارتكاز الأشباه والنظائر قد يوقع الإنسان في الغفلة، ولهذه الجملة أشباه كثيرة مثل: «لا رهبانية في الإسلام»(1)،

و«لا مناجشة في الإسلام»(2)، ونحو ذلك، وأصالة عدم الغفلة لا يبنى عليها إذا كان احتمال الغفلة معتداً به.

وفيه: أن كثرة الأشباه يقرّب كون الكلمة من كلامه (صلی الله علیه و آله) لتعارف أمثالها، مضافاً إلى أن أصالة عدم الغفلة وإن كانت لا تجري مع كثرة الغفلة إلاّ أنها تجري مع كثرة النظائر واحتمال الغفلة لأجل كثرتها، فالكثير هنا هو النظائر لا الغفلة بنفسها وهذا غير مانع عن جريان أصالتها.

ومنها: إنها لو كان من كلام الرسول (صلی الله علیه و آله) فلا يصح إلاّ بتقدير، إذ الظرفية لا تصح بلحاظ نفس الضرر؛ إذ لا معنى له، كما لا تصح بلحاظ النفي؛ لأنه مفاد الحرف وهو لا يصلح لأن يكون طرفاً للربط، فلا بد من تقدير، بخلاف ما لو كانت راجعة إلى كلام الصدوق فيكون «في الإسلام» مرتبطاً ب-(وقوله (صلی الله علیه و آله) ) فيكون المعنى وقوله في الإسلام: لا ضرر ولا ضرار، ويراد من القول الجعل و التشريع!

وفيه: مع قطع النظر عن المباني فإن التقدير لتصحيح الكلام أولى عند

ص: 365


1- جامع أحاديث الشيعة 20: 21.
2- قاعدة فقهية جرت على ألسن الفقهاء مصطيدة من الأخبار.

العقلاء من الحمل على زيادة الكلام أو ارتكاب خلاف الظاهر، مع أن الضرر لو كان نفياً فلا حاجة إلى التقدير؛ إذ يكون المعنى حينئذٍ: الإسلام ليس منشأً للضرر.

ومنها: أن جملة «لا ضرر ولا ضرار» من ذيول قصة سمرة أو غيرها، وليست مستقلة بالبيان ولا ظهور لكلام الصدوق في أنها واردة ابتداءً؛ لأنه ليس في مقام نقل الرواية، بل في مقام الاستدلال بهذه الفقرة، وجميع روايات قصة سمرة وغيرها خالية عن قيد «في الإسلام»، وعليه فيدور الأمر بين نقص تلك الروايات أو زيادة هذه، وأصالة عدم الزيادة وإن كانت مرجحة إلاّ أن تظافر النقل من دون هذه الزيادة يمنع جريانها.

وفيه: أن تعدد الواقعة وكونها قاعدة عامة سبَّب كثرة استعمال هذه الجملة، وعدم استعمال قيد غالباً ليس ظاهراً في زيادته غفلةً، وعلى كل حال ما ذكر لا يكفي لرفع اليد عن أصالة عدم الزيادة هنا.

ثم إن غالب ما ذكر في قيد «في الإسلام» يجري في قيد «على مؤمن».

الحديث الثاني: في تعليل الشفعة ب-«لا ضرر»، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «قضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشفعه بين الشركاء في الأرضين و المساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا رُفَّتِ الأُرَفُ وحُدَّتِ الحدودُ فلا شفعة»(1).

وحيث وردت إشكالات على ارتباط لا ضرر بالشفعة، فقد التزم البعض بأنهما حديثان مستقلان جمعهما الراوي في الرواية.

ص: 366


1- الكافي 5: 280؛ وعنه في وسائل الشيعة 25: 400.

وفيه: إن سبق جملة «لا ضرر ولا ضرار» ولحوقها بأحكام الشفعة قرينة ظاهرة على أنه ليس من جمع الرواية بفعل الراوي، بل هو جمع المروي في كلام النبي (صلی الله علیه و آله) ، وإلاّ فلم يكن وجه في إقحام قاعدة مستقلة في وسط حكمين لموضوع واحد لا ارتباط لهما بها، مضافاً إلى أنه حتى لو فرض كونهما كلامين مستقلين إلاّ أن الظاهر هو جمع الإمام الصادق (علیه السلام) لهما في كلامه، حيث حكى فعل النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قوله، وإضافة «وقال» بعد حكاية الفعل لا بد منه، وإلاّ احتاج إلى تقديره مع ركاكة الكلام.

وقال المحقق النائيني: «فعلى فرض اقتران حديثي الشفعة ومنع الفضل بهذا الذيل، لا بد من جعله حكمة للتشريع»(1)، فلذا لا يدور حكم الشفعة مدار الضرر.

وأشكل عليه: بأن وحدة اللفظ يبعّد حمله في مورد على الحكمة وفي مورد آخر على العلة!

وأجيب: بأن الحكمة أيضاً علة إلاّ أنها علة للجعل لا للمجعول، فإن علة جعل حكم الشفعة هو كون الشركة مع المشتري ضررية أحياناً، وقد وقع نظيره في تعليل حرمة الخمر بكونه مسكراً فهو حكمة بالنسبة إلى الكميّة وعلّة بالنسبة إلى التعدي لكل مسكر، فتأمل، فإن المثال لا يرتبط بما نحن فيه؛ إذ هو علة على كل حال؛ لأنّ المقصود أن طبعه الإسكار ولا يراد الإسكار الفعلي، وعليه فهو علة للكميّة وللتعدي.

أقول: وحيث إن جميع الإشكالات قابلة للدفع فلا وجه لرفع اليد عن

ص: 367


1- منية الطالب 3: 371.

ظهور الرواية في كون الشفعة من مصاديق قاعدة نفي الضرر، وأما الإشكالات...

1- فمنها: أن لا ضرر رافع للحكم لا أنه يثبت حق الشريك في الشفعة، فمقتضاه هو تسلط الشريك على فسخ البيع ليرجع المال إلى الشريك الآخر لا أخذه هو المال بالشفعة!

وفيه: أن الاستدلال بلا ضرر هنا لرفع لزوم البيع، وأما إثبات الشفعة فبدليل آخر، ومن المتعارف ضم مطلبين ثم الاستدلال لأحدهما دون الآخر.

2- ومنها: أنه لا يتحقق ضرر فعليّ في بيع الشريك حصته. نعم، يحتمل الضرر مستقبلاً بفعل المشتري كما يحتمل عدم الضرر، بل قد يكون فيه النفع!

وفيه: أن الضرر المنفي ليس الضرر الناشء عن المشتري ولا عن نقص مالية حصة الشريك، وإنما من تشريع عدم حق الشريك في الفسخ بأن تتحقق له شركة قهرية مع شخص لا اختيار له بشركته.

3- ومنها: إن «الضرار» لا يناسب الشفعة؛ لأنه بمعنى الضرر بين الطرفين وليست الشفعة كذلك.

وفيه: إن بيان القاعدة العامة مع انطباق جزء منها على المورد لا محذور فيه، مضافاً إلى ما سيأتي في معنى الضرار.

الحديث الثالث: في تعليل منع فضل الماء، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «قضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع شيء، وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء

ص: 368

فقال: لا ضرر ولا ضرار»(1)

وهنا تساؤلات غير ما مرّ في الشفعة.

فمنها: إن منع فضل الماء ليس بحرام، بل هو مكروه، كما عن مشهور الفقهاء.

ومنها: أنه ليس إضراراً، بل عدم إيصال نفع، فأيّ ربط له ب-«لا ضرر»؟!

وأجيب: أولاً: بأن المراد هو إضرار صاحب الماء بنفسه بإتلافه مرعاه، وذلك لأن منع الماء عن ماشية الغير يصير سبباً لنقلها إلى مكان آخر، وبذلك يتلف العلف من مرعى مانع الماء، فيكون ضرراً عليه وهو غير جائز، وعليه فلا ربط لقاعدة لا ضرر بالغير، بل بالنفس.

وثانياً: حتى لو أريد الضرر بالغير، فإنه أحياناً يكون عدم النفع ضرراً كما سيأتي، وعليه فلا محذور في التزام حرمة منع فضل الماء، ولو فرض إعراض الفقهاء عن الحرمة فلا مضايقة في تخصيص دليل الضرر، فتأمل.

البحث الثاني: في مفردات القاعدة، وهي (لا) و(ضرر) و(ضرار)

المفردة الأولى: الضرر
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الضرر

فقد يقال: إنه النقص في المال أو الجسم أو العِرض.

وقد يقال: إنه السوء والضيق ونحوهما.

وقد يجمع بينهما فيقال: إنه النقص في أحد الثلاثة مع تسبيبه بحسب

ص: 369


1- الكافي 5: 293؛ وعنه وسائل الشيعة 25: 420.

طبعه الشدة والضيق النفسي، ولا يشترط حصول الضيق النفسي بالفعل فيدخل فيه صورة جهل صاحبه به.

وقد يقال: إنه النقص في ما لا ينبغي أن يكون ذلك النقص فيه، فليس من الضرر صرف المال في نفقة العيال ومؤونة نفسه حتى لو كان سبباً لنقص المال، وهذا هو الأقرب والأسلم من الإشكالات.

وغير خفي أن الضرر في العِرض لا يتحقق إلاّ لو كان مستلزماً لنقص فيه ولو من جهة سلب حق من حقوق الإنسان تجاه عرضه، كما في قصة سمرة حيث سلب حرية نساء الأنصاري في بيتهن، وكما لو زنت أخته فهو ضرر عليه لنقص في ماء وجهه وإن لم يتضمن سلب حق من حقوقه.

المطلب الثاني: في ضد الضرر

إن (الضرر) اسم مصدر، ولكن لم يوضع لمقابله لفظ خاص، ولذا استعيرت له كلمة (النفع) الذي وُضع للمصدر أساساً ويقابله (الضر) بالفتح والضم، كما في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}(1)(2).

وأما جعل المنفعة مقابل الضرر فلا تساعد عليه اللغة؛ لأنها أيضاً مصدر، بل قيل: إنها نفع في المال فقط.

المطلب الثالث: في عدم النفع

قد يقال: إن عدم النفع ليس من الضرر.

ص: 370


1- سورة الرعد، الآية: 16.
2- قال الخليل: الضُرّ والضَرّ لغتان، فإذا جمعت بين الضَرّ والنفع فتحت الضاد، وإذا أفردت الضُرّ ضممت الضاد إذا لم تجعله مصدراً؛ كتاب العين 7: 6.

لكن يمكن أن يقال: إنه لو تمّ مقتضي النفع فمنع عنه مانع كان عند العرف من الضرر حقيقة لا مجازاً أو مسامحة، كالتاجر الذي يتاجر برأس ماله ثم لا يربح ولا يخسر.

وقد يورد إشكال: أنه لو كان كذلك فلماذا لا محذور من فتح دكان يؤثر على ربح الدكان السابق مع أنه ضرر عرفاً.

ويجاب: بأنه وإن كان ضرراً إلاّ أن دليل الضرر قابل للتخصيص، ومنه ما لو عمل الإنسان عملاً مباحاً لرزقه مثلاً فيؤثر ذلك في عدم نفع الآخرين أو قلة أرباحهم!

وفيه: أن إطلاق الضرر على الأمثلة المذكورة إنما هو لحصول النقص، ففي المثال إن التاجر وإن لم ينقص ماله إلاّ أن ضياع جهده هو نقص، وكذلك عدم النفع مع تمامية المقتضي بمنع مانع هو نقص في جهده، حيث إن مثل هذا الجهد ينتج ربحاً أزيد لولا المانع، ولذا يصح استعمال الضرر عرفاً في قلة الربح باعتباره نقصاً في الجهد أو نقصاً في ما كان يتوقعه، فتأمل.

وأما جواز فتح دكان مما يؤثر في أرباح الدكان الآخر فليس تخصيصاً في دليل الضرر، وإنما المرفوع الإضرار بالغير لا مجرد تضرّره كما سيأتي بيانه.

المطلب الرابع: في تقابل النفع والضرر

وفيه احتمالات: التضاد، أو العدم والملكة، أو السلب والإيجاب، أو التفصيل، ولبّ النزاع في أن الضرر وجودي أم عدمي، وعلى فرض كونه عدمياً فهل يحتاج إلى المحل القابل للنفع أو لا؟

ص: 371

1- أما القول بالتضاد، فقد أشكل عليه: بأنه في الوجوديين، وليس الضرر المفسر بالنقص وجودياً ليكون مع النفع - الذي هو أمر وجودي - متقابلين بالتضاد(1)،

أو لصدقه أحياناً على عدم النفع، وسيأتي بيانه.

2- أما القول بالعدم والملكة، فقد أشكل عليه بذلك أيضاً، قال المحقق الإصفهاني(2):

بأن النفع هو الزيادة بفائدة، ومقابله بعدم الملكة هو عدم الزيادة في ما من شأنه ذلك، والضرر ليس هذا العدم؛ لأنّ عدم النفع ليس بضرر، وما يقابل الضرر بتقابل العدم والملكة هو عدم التمامية لا عدم الزيادة، وعدم الزيادة ليست بنقص حتى يرجع إلى الضرر.

وحاصله: أن الضرر هو النقص عن حد الكمال، والنفع هو الزيادة على حدّ الكمال، فليس النقص عدم تلك الزيادة ليكون التقابل من تقابل العدم والملكة، هذا مضافاً إلى ثبوت الواسطة بينهما.

لكنه وجهّه بقوله: نعم، النقص والزيادة متقابلان عرضاً بتقابل العدم والملكة؛ لأنّ الزيادة تستدعي بقاء المزيد عليه على حدّه الوجودي، فالنقص بعدم بقائه على صفة التمامية يستلزم عدم الزيادة، فيقابل الزيادة بالعرض.

3- وقد يقال: إنّ للضرر معنى واسعاً، فتارة: يكون عدم النفع في المحل القابل له مع تمامية المقتضى له ضرراً عرفاً، كما مرّ، فحينئذٍ يكون التقابل تقابل العدم والملكة، وتارة: يكون عدم النفع من غير اقتضاء المحل له،

ص: 372


1- نهاية الدراية 4: 436.
2- نهاية الدراية 4: 436.

فيكونان من الضدين اللذين لهما ثالث هي النفع والضرر وعدم النفع.

4- والأقرب أن الضرر أمر عدمي؛ لأنّ النقص ليس بوجودي، وليس هو منتزعاً عن الخسارة، ولا عن خلو الشيء عن حدّ كماله، بل قد يكون النقص خسارةً أو مجردَ عدم النفع لا أنه منتزع عنهما، وعليه فالتقابل بين الضرر الذي هو النقص بمعناه العدمي وبين النفع تارة: تقابل العدم والملكة في ما كان عدم النفع ضرراً لتمامية المقتضى، وتارة: تقابل الإيجاب والسلب لكن مع تعميم معنى عدم النفع، فتأمل.

المفردة الثانية: الضرار
اشارة

والصحيح إنه مصدر باب المفاعلة، والكلام في مقامين:

المقام الأول: في معنى باب المفاعلة

وقد ذكر لها معنيان:

المعنى الأول: ما ذكره الصرفيون من اشتراك الفعل بين اثنين، مثل باب التفاعل، إلاّ أن الفرق بينهما أنه في باب المفاعلة يلاحظ أحدهما بالأصالة لذلك كان فاعلاً والآخر بالتبع لذلك كان مفعولاً، وفي باب التفاعل لوحظ أصالة كليهما لذلك كانا فاعلين بالعطف، وهذا هو المتبادر من كلا البابين.

لكن المحقق الإصفهاني(1)

أشكل عليه بأمور، حاصلها:

الإشكال الأول: إنّ ذلك خلاف الاستعمالات الفصيحة في مثل: «يهاجر» و«ناديناه» و«لا تؤاخذني» و«عاجلته بالعقوبة» و«نافق» ونحو ذلك.

وفيه: أن ذلك لا ينافي كون الأصل في باب المفاعلة بين الاثنين، وسائر

ص: 373


1- نهاية الدراية 4: 437-438.

المعاني الذي ذكرها الصرفيون أيضاً بعناية الشباهة لهذا المعنى، ولو من جهة مشاركة المفعول في تحقق المعنى ولو بالعناية، فمثل سافر من سفر بمعنى ظهر وهو بين اثنين فكما أن المسافر يظهر لغيره كذلك تظهر الأشياء له، وفي مثل هاجر كما يترك الوطن كذلك الوطن يتركه بالعناية، أو من جهة سببية الغير لذلك الفعل فكأنه شارك فيه مثل نافق، فلولا نزول الشريعة لما كان ينافق فيكون نظير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}(1)،

حيث إن الله لو لم يخلق آدماً (علیه السلام) ولم يأمر إبليس بالسجود له لما كان يتمرد ويتكبّر.

الإشكال الثاني: إنه لا يعقل دلالة هيأة واحدة على نسبتين، ففي ضارب وتضارب لا توجد نسبتان: إحداهما نسبة ضرب زيد عمراً، والأخرى نسبة ضرب عمرو زيداً، فلا بد من نسبة واحدة بين الطرفين، ويلزم من ذلك عدم الفرق بين ضارب وتضارب!

لا يقال: يمكن وجود نسبتين إحداهما بالمطابقة والأخرى بالالتزام، فحينئذٍ لم يلزم استعمال اللفظ في معنيين كي يلزم المحال، كما يثبت الفرق بين التفاعل والمفاعلة باختلاف اللازم.

فإنه يقال: بأنه ثبوتاً لا يعقل الأصالة والتبعية في النسبة المتقومة بالطرفين، وإثباتاً - بوجود دلالتين أحداهما أصلية والأخرى تبعية - بأنّ التبعية في الدلالة فرع التبعية في المدلول، وليس ضرب عمرو زيداً تابعاً لضرب زيد عمراً ثبوتاً حتى تنحل النسبة الخاصة إلى نسبتين إحداهما لازمة للآخر.

ص: 374


1- سورة الحجر، الآية: 39.

وفيه: أولاً: إنه لا ملازمة ثبوتاً؛ إذ في مرحلة الثبوت قد يكون ضرب أحدهما للآخر بالأصالة والآخر بالتبع، وقد يتشاركان، وقد يكون الضرب من طرف واحد، فلما رأى الواضع ذلك وضع في مقام الدلالة باب المفاعلة والتفاعل والمجرد.

وثانياً: بأنه لا توجد نسبتان، بل نسبة واحدة، هي نسبة المادة إلى الفاعل مع إرادة حصة خاصة من المادة أي الحصة المقيدة بمشاركة الآخر، ففي باب المفاعلة الحصة التي يكون أحدهما أصيلاً والآخر تابعاً، وفي باب التفاعل الحصة التي يكون كلاهما أصيلاً.

المعنى الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1):

بأن باب المفاعلة للتعدية إن كان الفعل المجرد لازماً مثل جلس زيد وجالست زيداً، وللاستغناء عن حرف الجر إن كان تعدية اللازم به مثل كتبت إليه وكاتبته، وللتصدي في ما لو كان اللازم متعدياً بنفسه مثل خدعه وخادعه فهنا التعدية ملحوظة بالاستقلال وفيه نوع تأكيد وتثبيت لها عكس المجرد حيث إنها قد تحصل من غير تصدّي وقصد، ولذا في قصة سمرة قال له الرسول (صلی الله علیه و آله) : «إنك رجل مضار» أي متصدٍّ لإضرار الأنصاري، لا مجرد إضراره، والحاصل: أن باب المفاعلة للتعدية بالصور المذكورة.

ويرد على الأول: أولاً: أن التعدية في اللازم وإن كانت حاصلة إلاّ أنه بسبب شركة اثنين في الفعل مع أصالة أحدهما وتبعية الآخر، فالتعدية عرضية لا أنها معنى الباب.

ص: 375


1- نهاية الدراية 4: 439.

وثانياً: ما في البحوث(1)

من أن التعدية بالحرف بمعناها الحقيقي غير معقول؛ وذلك لأن للتعدية معنيين أحدهما: التعدية الحقيقية بمعنى صدور الفعل عن الفاعل إلى المفعول، والآخر: التعدية بالحرف ولا يعقل تغييرها المعنى الحلولي إلى الصدوري، بل هي بمعنى تحصيص النسبة الحلولية أو المادة المنتسبة وتقييدها بالمجرور، فمثل جالست زيداً يكون المعنى متقوماً بطرفين فاعل ومفعول ويكون صدورياً، بخلاف جلست إلى زيد، فهو لا يعدو أن يكون تقييداً للجلوس بكونه إلى جنب زيد لا عمرو، والحاصل: أن حرف الجر لم يفد معنى التعدية، بل التحصيص، ولذا افترق معنى (ذهب به) في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}(2)، حيث إنه بمعنى ذهاب الله عنهم مصطحباً النور معه، بمعنى قطع لطفه عنهم، ومعنى (أذهب) في قوله: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ}(3)

الذي هو تعدية حقيقية.

وعلى الثاني: بأنه قد يتغير المعنى وذلك في ما لو تغيّر المفعول، ففرق بين كتبت الرسالة إلى زيد وكاتبت زيداً، وكذا بين طرحت الثوب وطارحته للبيع مثلاً، فإن ذلك ليس مجرد تغيير التعدية، بل إضافة المشاركة إلى المعنى عبر باب المفاعلة.

وعلى الثالث: بأنه خلاف ظاهر باب المفاعلة؛ إذ هي كالمجرد في كونها أعم من قصد الفعل وعدم قصده، ولذا يقال: قابلته اتفاقاً وصادفته، بل

ص: 376


1- بحوث في علم الأصول 5: 454-455.
2- سورة البقرة، الآية: 17.
3- سورة الأحزاب، الآية: 33.

استفادة التصدي قد يكون من المشاركة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع أو باعتبار المادة وقد لا يكون.

فتبيّن أن الصحيح هو المعنى الأول وهو المتبادر من الكلمة.

المقام الثاني: في معنى الضرار

إن هيأة فِعال قد تكون مصدر باب المفاعلة، وقد تكون مصدر المجرد مثل قيام.

فقد يقال: إن كلمة (ضرار) مصدر المجرد، فأولاً: لم يعهد استعمالها في اللغة ولا في العرف بمعنى باب المفاعلة بين الاثنين، قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ}(1).

وثانياً: إنه في قصة سمرة لم يكن الضرر إلاّ من سمرة لا من الأنصاري.

وثالثاً: إنه لا فائدة زائدة في باب المفاعلة؛ إذ إن نفي الضرر كما ينفي الضرر من طرف واحد ينفيه من الطرفين أيضاً لإطلاقه.

ورابعاً: إنه لا إشكال في المجازاة على الضرر وإن كان فيها ضرر على المعتدي.

لكن الأقرب هو: أن استعمال الضرار في الكلام الفصيح من باب المفاعلة وبين الاثنين.

ويرد على الأول: أنه سُمّي الإضرار بالمرأة ضراراً؛ لأنّ الضرر يعود على الرجل أيضاً بفعلته، وهكذا في سائر الاستعمالات.

ص: 377


1- سورة البقرة، الآية: 231.

وعلى الثاني: إنه يكفي في صحة ضرب القاعدة انطباق جزء منها على المورد، ولا يشترط انطباقها بكل أجزائها، وحيث إن (لا ضرر) انطبق في قصة سمرة صح ذكر القاعدة بكل أجزائها، كما لو أراد أحد التصرف في ماله صح أن نقول: القاعدة هي أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، مع أن الجزء الأول من القاعدة هو الذي ينطبق على المورد.

وعلى الثالث: إن الفائدة هي أن الضرر اسم مصدر والضرار مصدر، فالفرق أن الضرر منفي سواء انتسب إلى فاعل أم لا.

وعلى الرابع: إن القاعدة هي عدم جواز المجازاة على الضرر بضرر، ويستثنى من ذلك ما لو انطبق عنوان آخر كالقصاص والدية، أو كان مصداقاً لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}(1)

كما في بيان الأصول(2).

ومن ذلك كلّه يتبيّن أنه لا تكرار، ولا تأكيد، بل بيان لحالتين من حالات الضرر.

وقد ذكر اللغوين معاني مختلفة إلاّ أن الظاهر أنها تفسير بالمصداق حيث يمكن إرجاع بعضها إلى ما ذكرناه، مع أن بعضها لا يخلو عن إشكال لأنه خلاف المتبادر والمستعمَل، كقول بعضهم: إن الضرر هو النقص في الأموال والأنفس، والضرار هو الحرج والضيق النفسي! أو أن الضرر من غير انتفاع الضارّ، والضرار مع انتفاعه! أو الضرار للشديد من الضرر! أو أن

ص: 378


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- بيان الأصول 5: 34.

الضرار المجازاة على الضرر.

المفردة الثالثة: (لا)، والهيأة التركيبيّة
اشارة

وقد ذكر لها معاني، منها: نفي الموضوع بغرض نفي الحكم، أو نفي الحكم الضرري فيكون من نفي المسبب مع إرادة نفي السبب، أو نفي الضرر غير المتدارك، أو النهي عن الضرر.

1- نفي الحكم بلسان نفي الموضوع

القول الأول: ما اختاره صاحب الكفاية(1): من أنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، مثل: «يا أشباه الرجال ولا رجال»(2)،

ومثل: (لا شك لكثير الشك)(3) حيث يراد نفي الآثار - والتي منها الحكم الشرعي - ولكن البيان بنفي الموضوع ادعاءً بعد تعذر المعنى الحقيقي وهو نفي الشيء تكويناً، وإنما يرجّح هذا المعنى لأجل أن نفي الماهية ادعاءً أفصح من سائر الاحتمالات حيث إنها لا تناسب الفصاحة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن الضرر لا أثر له، وإنما الأحكام هي للمواضيع التي قد يتفق الضرر فيها، وتلك الأحكام هي المرادة بالرفع، مثلاً الوضوء واجب للصلاة فإذا صار ضررياً فبدليل لا ضرر يرتفع الوجوب الذي هو حكم الوضوء لا أنه حكم الضرر، وعليه فلا بد من تقدير شيء وهو لا موضوع

ص: 379


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 334-336.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 27.
3- قاعدة فقهية مستفادة من الروايات.

ضرري، وبذلك لا يكون فرق بينه وبين لا حكم ضرري أو لا ضرر متدارك.

ولا يعقل رفع حكم الضرر نفسه، فإنه خلف؛ إذ لا يعقل أن يرفع الشيء أثر نفسه، كما أنه ليس بمقصود قطعاً، حيث إن المراد إثبات أثر الضرر برفع الحكم عن الموضوعات لا رفع أثر الضرر وفرضه كالعدم.

الإشكال الثاني: إن جعل الضرر عنواناً للعمل إما من باب المرآتية أو السببيّة، أما المرآتية فهي خلاف الظاهر هنا لأنه لا بد فيها من اتحاد بنحو من الأنحاء ولو بنحو الاتحاد المفهومي كما في العنوان والمعنون، وليس الضرر متحداً مفهوماً مع العمل الضرري، وأما السببيّة فإن المتعارف هو نفي المعلول بلسان نفي العلة لا العكس، وفي ما نحن فيه الضرر معلول والعمل علة له، فنفي العمل عبر نفي الضرر الذي هو معلول له خلاف الظاهر جداً.

وفيه: أن العلة لو كانت مصاديق متعددة غير محصورة وليس لها عنوان جامع فلا بأس بجعل جامع عنواني ولو كان المعلول، ولا خلاف للظاهر في ذلك، وفي ما نحن فيه الأعمال التي ينشأ منها الضرر لا تحصر، وأما المعلول فله لفظ جامع هو الضرر فلا بأس به، مضافاً إلى أنه وإن كان معلولاً تكويناً إلاّ أنه علة رفع الحكم الذي هو المقصود بهذه الجملة فلا يكون استعماله وإرادة علته خلاف الظاهر.

الإشكال الثالث: إنه لو كان حكم الموضوع الضرري الحرمة، فمقتضى هذا الكلام هو سقوط الحرمة؛ لأن في ارتكابه المضرّة على المكلف! وهذا خلاف المقصود ولا يمكن الالتزام به قطعاً.

وأجيب: أولاً: ما قيل: من أن لا ضرر مِنّة ولا مِنّة في رفع الحرمة عن

ص: 380

الموضوع الضرري، بل هي خلاف المِنَّة، وفيه تأمل.

وثانياً: بأن عدم شمول لا ضرر له إنما هي بدلالة الاقتضاء؛ لأن شموله يستلزم لغوية الحكم.

وهنا إشكالات أخرى تُعلم ممّا ذكر، وبذلك يتبيّن الإشكال في كلام المحقق الخراساني حيث قال: «فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاءً لا نفي الحكم أو الصفة كما لا يخفى، ونفي الحقيقة ادعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو الكلمة مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة»(1).

وذلك لأن الأمر لم يقتصر على نفي الحقيقة ادعاءً، بل هناك تصرف في كلمة الضرر في الحديث بكونه العمل الضرري، وهذا ليس أكثر من غيره ليكون مرجحاً لهذا الاحتمال.

وأما تشبيه لا ضرر برفع الخطأ والنسيان حيث إن المراد رفع الحكم المتعلّق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان عبر رفع الموضوع...

فقد أشكل عليه: بأنه لا يصح التشبيه؛ إذ لا طريق آخر فيهما حيث يدور الأمر بين رفعهما تكويناً الذي هو معلوم العدم، أو رفع حكمهما بنفسه الذي هو خلف، أو رفع حكم الفعل الصادر في حالتهما فلا مناص منه، بخلاف لا ضرر حيث يوجد طريق رابع وهو تعلق النفي بنفس الضرر في مقام التشريع فيكون معناه لا تشريع للضرر ومفاد ذلك هو نفي جعل الحكم الضرري.

مضافاً إلى إمكان رفع آثارهما التي كانت في الشرائع السابقة لا رفع

ص: 381


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 334-335.

الحكم بلسان رفع الموضوع، وهذا بخلاف الضرر حيث لم يجعل له آثاراً في الشرائع السابقة.

ويمكن الجواب: أولاً: بإمكان الطريق الرابع في الخطأ والنسيان، أي رفعهما في مقام التشريع بأن يكون المعنى لم يشرّع للخطأ والنسيان حكم كما لم يشرّع للضرر حكم، فيكون مفاد ذلك نفي جعل الحكم الإلزامي في موردهما، فتأمل.

وثانياً: بأنه لا محذور في كون عموم الرفع لكل آثار الضرر - حتى الوضعية ولكل أقسام الضرر - من مختصات الإسلام.

مضافاً إلى ما سيأتي من أن قبول العرف الجاهلي بآثار الضرر وشيوعه فيهم كافٍ في رفع الآثار في الشريعة الإسلامية من غير حاجة إلى ثبوتها في الشرائع السابقة.

2- الدلالة على النهي
اشارة

القول الثاني: - في مفاد الهيأة التركيبيّة - دلالتها على النهي عن الضرر، نظير النهي في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(1).

وفي هذا القول عدة اتّجاهات، منها: كون النهي تكليفياً بالحرمة، ومنها: كونه تكليفياً بالحرمة وإرشاداً إلى الفساد، ومنها: كونه تكليفياً ولائياً.

الاتّجاه الأول: أن يكون نهياً تكليفياً بحتاً

وذلك عبر استعمال الجملة الخبرية وإرادة الإنشاء.

فإنه كما يجوز استعمال الجملة الخبرية في مقام البعث، بل هو آكد فيه؛

ص: 382


1- سورة البقرة، الآية: 197.

لأنه يكشف عن شدة المحبوبية بحيث يرى المولى تحقق ما يريده في الخارج، كذلك يجوز استعمالها في مقام الزجر باعتبار شدة المبغوضية بحيث يرى المولى انتفاء الطبيعة بامتثال نهيه حتماً، فيكون كل ذلك مبالغة في البعث أو الزجر.

وقد استدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: شيوع استعمال هذا التركيب في مثل هذا الموضوع دون سائر المعاني، وقد ذكر شيخ الشريعة لذلك أمثلة متعددة فراجع(1).

وأجيب: أولاً: بأن شيوع الاستعمال لا يرجح النهي إلاّ مع اتحاد الأمثلة مع (لا ضرر) في الخصوصيات، لکنّا نلاحظ عدم الاتحاد؛ لأن تلك الأمثلة هي إما لطبائع خارجية مرغوب فيها لذاتها لانسجامها مع القوى الشهوية والغضبيّة، وإما هي مرغوبة لآثارها، وأما في لا ضرر فإن الطبيعة المنفيّة هي أمر مرغوب عنه، فلا يتحملها الإنسان إلاّ بتسبيب شرعي، فالنفي الوارد في هذه الحالة هو لإبطال التصور المذكور، ونفي التسبيب الشرعي إلى ذلك(2).

وفيه: إن إضرار الغير ينسجم مع القوى الشهوية والغضبية وآثاره مرغوبة حينما يكون فيها نفع للضارّ، ولذا شاعت بين الجاهليين من غير تسبيب شرعي، فلذا لا فرق بين لا ضرر وبين سائر الأمثلة المذكورة.

وثانياً: إن شيوعها ليس بأكثر من شيوع الاستعمال في سائر المعاني، بل حتى لو فرض عدم شيوع سائر المعاني، فإن شيوع النهي ليس بحد يوجب

ص: 383


1- قاعدة لا ضرر: 37-39.
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 168.

ظهوراً له.

مضافاً إلى الإشكال في بعض الأمثلة المذكورة حيث لا يراد منها النهي، بل سائر المعاني.

الدليل الثاني: تبادر النهي من هذه الجملة للذهن الخالي من الشبهات.

وأشكل عليه: بأن التبادر يرتبط بفهم معنى اللفظ - وضعاً أو انصرافاً - ولا يرتبط بكشف مراد المتكلّم بأنه هل تتطابق إرادته الجدية والاستعمالية أم لا، فلا يستدل بالتبادر لفهم عدم هزل المتكلم، وإنما الأصل العقلائي بتطابق الإرادتين الجدية والاستعمالية، وكذلك لا يرتبط التبادر بمعرفة المراد الجدي بعد العلم بعدم تطابق الجدية مع الاستعمالية، بل تشخيص ذلك يرتبط بالأصول العقلائية أو بالقرائن المحفوفة بالكلام، فلو علمنا بعدم إرادته المعنى الاستعمالي ودار الأمر بين كونه هازلاً أو جادّاً في معنى آخر كما لو قال: بعت، حيث نعلم بأنه لم يقصد الإخبار عن الماضي ودار أمره بين الهزل والإنشاء فلا ينفع التبادر حينئذٍ، بل الأصل العقلائي بالجد أو القرائن هي التي تعيّن المقصود.

وفي ما نحن فيه نعلم المعنى الحقيقي ونعلم بأنه غير مقصود وإنما نريد تشخيص المراد الجدي، فلا يكون التبادر طريقاً له.

هذا فضلاً عن عدم وجود هكذا تبادر.

الدليل الثالث: إن قوله في خبر ابن مسكان: «إنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(1)

لا ينسجم إلاّ مع النهي؛ لأنه برهان من صغرى

ص: 384


1- الكافي 5: 294.

وكبرى، فالصغرى: إنك رجل مضار، والكبرى: الضرر والضرار محرّم، وأما على النفي فلا تناسب بينهما؛ إذ يكون المعنى حينئذٍ: إنك رجل مضار، والحكم الموجب للضرر منفي! وهذا ما تأباه الأذهان المستقيمة!

ويرد عليه: أولاً: إن الرواية في موثقة ابن بكير «اذهب فاقلعها وارم بها في وجهه فإنه لا ضرر ولا ضرار» وهي أيضاً كبرى وصغرى، وهي لا تناسب النهي؛ إذ يكون المعنى حينئذٍ: اقلعها وارم بها إليه فإنه لا تضروا! وإنّما المناسب هو اقلعها وارم بها إليه لعدم وجود حكم ضرري.

وثانياً: إن الكبرى في خبر ابن مسكان تناسب النهي والنفي، فلا فرق بين اقلعها فإن الضرر محرم، أو اقلعها فإن الضرر غير مجعول أو غير ممضى!

الدليل الرابع: إن قيد «على مؤمن» في بعض روايات لا ضرر بالنهي أنسب.

وفيه: أنه كما ينسجم مع النهي كذلك ينسجم مع النفي، فلا فرق بين أن يقال: إن الله لم يشرّع حكماً ضررياً على مؤمن، أو يقال: إنه تعالى لم يشرّع ضرراً غير متدارك، أو يقال: لا تضروا مؤمناً.

الدليل الخامس: تفسير بعض أهل اللغة هذا الحديث بالنهي.

وفيه: إن كلامهم حجة في معاني الكلمات كما مرّ، لا في تشخيص المرادات، كما يعارض فهمهم فهم غالب الفقهاء، هذا مضافاً إلى ما قيل: إن منشأ كلام اللغويين هو كلام أحدهم وأخذ اللاحقون عنه بعد ضم كتابه إلى مؤلفاتهم.

ثم إنه قد أشكل على هذا القول: بأن ظاهر حديث لا ضرر أنه امتناني وأن له نوع اختصاص بالإسلام، مع أن النهي عن الإضرار بالغير من

ص: 385

مرتكزات العقول ومسلّمات الشرائع فلا امتنان فيه!

ويمكن أن يقال: إن العرف الجاهلي كان يتقبّل الإضرار بالغير ويُرتّب الآثار عليه، فكان من المتعارف عندهم المعاملات الضررية، ونهب الثروات بالإغارة والغصب، وتعارف ظلم القوي الضعيف بمنطق الحق لمن غلب، وظلم النساء بأبشع صوره، فكان ذلك من أعرافهم رغم تقبيح العقل لها كعبادتهم الأصنام رغم دلالة العقول على بطلانها، فحينئذٍ الامتنان عليهم بالنهي عن الإضرار بالغير لا محذور فيه.

والحاصل: أن حمل النفي في لا ضرر على النهي لا محذور فيه، إلاّ أنه لا دليل يدل عليه فلا وجه لصرف النفي عن ظاهره.

الاتّجاه الثاني: كونه نهياً تكليفياً وإرشاداً إلى الفساد

أي يدل على الحكم التكليفي بالحرمة، وعلى الحكم الوضعي بالفساد.

ويرد عليه ما ورد على سابقه، إلاّ أن إضافة الإرشاد زاد إشكالات أخرى، منها:

الإشكال الأول: إنّه استعمال للّفظ في أكثر من معنى؛ لأنه جمع بين حكمين فلا بد من تعدد معنى النفي! وهو إن لم يكن محالاً فإنه خلاف الظاهر.

إن قلت: يمكن تصوير جامع بينهما وهو الزجر حيث إن له مصداقين: الزجر بالوعيد، والزجر بالإرشاد إلى الفساد، نظير قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}(1)

حيث يستفاد حلية البيع وصحته، وحرمة الربا وفساده.

ص: 386


1- سورة البقرة، الآية: 275.

قلت: إن الزجر لا ينسجم مع الإرشاد؛ لأن الزجر إنشاء، والإرشاد إخبار ولا سنخية بينهما ليكون الإرشاد من مصاديق الزجر، وأما الصحة في البيع فلكونها لازم حليته وإلاّ كانت الحلية لغواً، وأما الفساد في الربا فيستفاد من أدلة أخرى كقوله تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ}(1)؛

إذ النهي في المعاملة لا يدل على الفساد.

الإشكال الثاني: بأن ذلك يستلزم الجمع بين اللحاظين الاستقلالي والآلي، أما الاستقلالي ففي التكليفي؛ لأن النهي يتعلّق بالإضرار بالغير بما هو هو، وأما الآلي ففي الحكم الوضعي؛ إذ لا معنى لفساد الإضرار بذاته وإنما هو مرآة لماهية تتسم بالصحة والفساد، والجمع بين اللحاظين وإن كان ممكناً كما مرّ إلاّ أنه خلاف الظاهر.

الإشكال الثالث: إن الأصل في النواهي المولوية، فتعميمها إلى الحكم الإرشادي خلاف الأصل، لا يصار إليه إلاّ بقرينة، وهي مفقودة في المقام لو حملنا الحديث على النهي.

الاتّجاه الثالث: كونه نهياً ولائياً

أي هو حكم عام للحاكم الشرعي باعتبار ولايته.

واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: إنّه في قضية سمرة ليس قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» حكماً مولوياً للمكلفين حيث لم يكن هناك حكم مشتبه لكي يخبر الرسول (صلی الله علیه و آله) بأن الحكم الضرري منفي في الإسلام، كما أنه لم يكن نزاع

ص: 387


1- سورة البقرة، الآية: 275.

بين الأنصاري وسمرة، بل شكاية عن سمرة لظلمه للأنصاري حيث كان يدخل بغير استئذان، وعليه فينحصر طلب الاستئذان وقوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» والأمر بقلع النخلة في الحكم الولائي لبسط العدل.

وفيه: أنه كان بينهما اختلاف في الحكم، ونزاع في الموضوع، أما في الحكم فإن سمرة حيث كان مالكاً للنخلة كان يزعم أن من لوازم ذلك حقه في الدخول إليها من غير استئذان حيث قال: «لا أفعل هو مالي» وقال: «يا رسول الله استأذن في طريقي إلى عذقي!»، وأما في الموضوع فإن الأنصاري أراد إزالة الظلم والضرر عنه فهو مطلب قضائي، فبيّن الرسول (صلی الله علیه و آله) الحكم بعدم جواز الإضرار أو بعدم حقه في الدخول من غير استئذان، ثم حكم حكماً قضائياً بقلع النخلة لما تمرّد سمرة، تنفيذاً للحكم ب-«لا ضرر».

الدليل الثاني: إنه (صلی الله علیه و آله) علّل الأمر بقلع النخلة وإلقائها إليه بقوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» وذلك لا يناسب النهي أو النفي المولوي، وذلك لأن القلع إضرار بسمرة والأمر به حكم ضرري، فلا بد من حمله على النهي الولائي.

وفيه: إن «لا ضرر» لا يدل على القلع والرمي سواء كان نهياً أو نفياً، وسواء كان مولوياً أو ولائياً، وذلك لعدم الفرق بين نوعية النهي أو النفي في عدم الدلالة على تشريع هذا الإضرار، بل هما يرتبطان بتنفيذ الحكم الشرعي وهو حكم آخر، وسيأتي بيانه.

الاتّجاه الرابع: كونه نفياً أريد ملزومه وهو النهي

أي إن المنفي هو الضرر حقيقة ادعائية لكن الغرض هو الإخبار عن ملزومه وهو وجود المانع الشرعي عن وجود الضرر خارجاً، وذلك المانع

ص: 388

هو النهي التحريمي، فإنّ عدم تحقق الشيء خارجاً إنما هو نتيجة منع الشارع عنه، فيكون نظير غيره من العرفيات حيث يتم الإخبار عن عدم وجود المعلول لأجل وجود المانع.

ويرد عليه: أنه في حديث الشفعة قد تمّ تطبيق هذه القاعدة مع عدم وجود شيء محرّم فيها؛ إذ لا يحرم للشريك بيع حصته، وإنما لرفع الضرر عن الشريك الآخر تمَّ رفع اللزوم عن المعاملة وأعطي الحق بالتملك بالبيان الذي مرّ سابقاً.

إن قلت(1): هذا منقوض بقضية سمرة حيث لا يناسب «لا ضرر» فيها مع عدم الحكم، بل المناسب لها النهي، وذلك لأن الحكم الترخيصي لا يوجب ضرراً؛ لأن مرجعه إلى الإباحة إلى بيان عدم المانع من الضرر، وهذا لا اقتضاء له بالنسبة إلى الفعل والترك، وحينئذٍ لا يصح نسبة الضرر إلى المولى؛ لأن ما لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الفعل كيف يصح نشوء الفعل من قِبله؟ ومجرد التمكن من عدم المانع مع عدم التصدي له لا يصحّح نسبة الفعل إليه، مثلاً لو رأيت من يريد قتل زيد لكنك لم تمنعه مع تمكنك من المنع لم يصح نسبة القتل إليك، ففي قصة سمرة لا إلزام من الشارع بعدم الاستئذان حتى يكون هذا الحكم مرتفعاً لأجل الضرر، بل غاية الأمر هو جواز عدم الاستئذان وهو لا يستلزم ضرراً من طرف الشارع؛ لأن الجواز ليس حكماً ضررياً كي يرتفع، وعليه فلا بد من حمل لا ضرر على معنى النهي!

قلت: إن الضرر في مورد الإباحة الشرعية يستند إلى الشرع، بمعنى كونه

ص: 389


1- منتقى الأصول 5: 410-411.

جزءاً من سبب الضرر؛ لأن إذن من له تشريع الإذن جزء سبب في الوقوع، وأما مثال القتل فلا ينطبق على ما نحن فيه، وإنما ينطبق لو أباح من له الأمر والنهي قتل إنسان فهنا القتل يستند إليه كجزء من السبب.

3- رفع الحكم الضرري
اشارة

القول الثالث: إن المرفوع هو الحكم الضرري.

بمعنى أن الشارع لم يشرّع حكماً فيه الضرر، سواء كان حكماً وضعياً كاللزوم في بيع الغبن، أم حكماً تكليفياً كوجوب الصوم الضرري، ولهذا القول تقريبان:

التقريب الأول

ما ذكره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أن الضرر المنفي في الحديث هو عنوان ثانوي متولد من الحكم، ونسبته إلى الحكم نسبة السبب التوليدي إلى مسبّبه كالقتل إلى قطع الرقبة، والإحراق إلى الإلقاء في النار، وإطلاق العناوين التوليدية على أسبابها شائع متعارف لا يحتاج إلى عناية فليس مجازاً، وهنا يراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه وهو الحكم.

فالمنفي في هذا التقريب هو الحكم الضرري مباشرة، بخلاف التقريب اللاحق حيث إن المنفي هو التسبيب للضرر ولازمه نفي الحكم الضرري.

إن قلت: في العنوان التوليدي يلزم عدم تخلّل إرادة فاعل مختار كعدم تخلل شيء بين الإلقاء والإحراق، وليس ما نحن فيه كذلك؛ إذ الحكم فعل الشارع والضرر يترتب على فعل العبد باختياره؟

ص: 390


1- منية الطالب 3: 395.

قلت: إرادة العبد وإن كانت اختيارية إلاّ أنها مقهورة لإرادة الله تعالى؛ لأن العبد ملزم عقلاً ومجبور شرعاً على الامتثال، وعليه فالعلة التامة لوقوع العمل هو الجعل الشرعي.

ويرد عليه: أولاً: إن أصل الكلام ادعاء لم يقم الدليل عليه، وإنما بيان وتوضيح للادعاء فقط.

وثانياً: إن العناوين التوليدية يلاحظ فيها نسبتها إلى فاعلها، ولا يلاحظ العمل مجرداً عن النسبة، فيقال: أحرقه، ويراد به ألقاه في النار، ولا يقال: احترق، ويراد به ألقاه فيها، وحيث إن الضرر اسم مصدر كما مرّ فلا يصح استعماله عنواناً توليدياً. نعم، لو كان اللفظ مصدراً بأن قال: (إضرار) وأراد به مسبّبه وهو الحكم الضرري لصحّ، لكن الذي في الحديث: «لا ضرر».

وثالثاً: قد لا يترتب الضرر على العمل مباشرة، بل قد يكون العمل مُعِدّاً لأمور أخرى توجب الضرر، فلم يكن هنا سبباً توليدياً.

ورابعاً: إن مقهورية إرادة العبد لإرادة المولى مع عدم سلب الاختيار عن العبد لا يجعل الضرر من قبيلها موضوعاً ولا يلحقها بها حكماً، مضافاً إلى أن ذلك إنما يتأتى في إرادة العبد المطيع دون العاصي، ومن المعلوم أن الأحكام لا تختص بالمطيعين(1)،

فتأمل.

التقريب الثاني

ما اختاره الشيخ الأعظم(2): من أن المراد عدم تشريع الضرر بمعنى أن

ص: 391


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 161.
2- فرائد الأصول 2: 460.

الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد تكليفياً كان أو وضعياً.

وهذا المعنى يناسب جميع موارد استعمال لا ضرر في الروايات، ففي قضية سمرة لم يجعل الله جواز الدخول بغير استئذان، وفي رواية الشفعة رفع لجواز تملك الشيء من غير رضا صاحبه، وفي رواية منع فضل الماء لم يجعل المالك مسلطاً على المنع وهكذا... .

ثم إنّ الكلام هنا في مقامين:

المقام الأول

الفرق بين هذا القول وبين قول صاحب الكفاية الذي هو رفع الحكم بلسان رفع الموضوع.

وقد ذكر المحقق الخراساني فرقين:

الفرق الأول(1): إنه لو لزم من الاحتياط ضرر ارتفع على مبنى الشيخ الأعظم، حيث إن المرفوع هو الحكم الضرري من غير فرق بين كون الحكم سبباً للضرر مباشرة كالوضوء في شدة البرد، أو بشكل غير مباشر كما لو اشتبه الماء المطلق بين ألف آنية حيث إن الحكم بوجوب الوضوء ضرري فيرتفع، دون مبنى المحقق الخراساني حيث إنه يجب الاحتياط حينئذٍ؛ لأن الموضوع ليس ضررياً فإن الوضوء بالماء المطلق الواقعي ليس فيه ضرر فلم ينشأ الضرر من حكم الشارع فلا يكون الحكم مرفوعاً. نعم، الضرر نشأ من حكم العقل بوجوب الاحتياط وهو حكم لم يكن من الشارع حتى يرفعه.

وأشكل عليه: بأن المكلّف لو أتى ببعض المصاديق بحيث يكون ما زاد

ص: 392


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 440.

عليه ضرراً، فلا يجب الإتيان بسائر المصاديق إما لأنه قد أتى بالتكليف في السابقات، أو لأن الموضوع الواقعي فيه انقلب ضررياً فترتفع فعلية الحكم فيه، وحينئذٍ يحكم العقل من أول الأمر بترجيح المظنونات في الإتيان كي يكون الضرر في المشكوكات والموهومات!!

الفرق الثاني: إن المشهور ذهبوا إلى أنه يخيّر المغبون في البيع الغبني بين إمضائه بكل الثمن أو ردّه بكله، لكن يرد عليه إشكالان كل إشكال مختص بأحد المبنيين دون المبنى الآخر.

أما الأول: فعلى مبنى الشيخ الأعظم يرد إشكال أن رفع الغبن يمكن بطريق آخر أيضاً وهو ردّ المقدار الزائد - غاية الأمر ثبوت الخيار للغابن لتبعض الصفقة - حيث إن الحكم باللزوم بكل الثمن ضرري فهو مرفوع ولعدم اللزوم مصداقان: فسخ المعاملة أو ردّ الزائد.

لكن لا يرد هذا على مبنى المحقق الخراساني حيث يقال: إن الموضوع الضرري وهو البيع مرفوع ويراد به رفع الحكم الذي هو اللزوم.

وأما الثاني: فعلى العكس لأنه على مبنى المحقق الخراساني رفع البيع بمعنى رفع اللزوم لا ينحصر في الخيار، بل هناك احتمال آخر هو جواز البيع وتظهر الثمرة في الإسقاط، حيث إن الخيار حق قابل للإسقاط، دون الجواز الذي هو حكم غير قابل له. نعم، لو أقدم على ذلك بأن اشترط سقوطه حين العقد لم يشمله لا ضرر.

وفيه نظر: أولاً: لأن المرفوع اللزوم أو الجواز على كلا التقديرين سواء مباشرة أم عبر رفع الموضوع، فلا فرق بين أن نقول: لا حكم ضرري فلا

ص: 393

لزوم فيثبت الخيار أو لا جواز، وبين أن نقول: لا بيع ضرري ونريد به لا لزوم فيثبت الخيار أيضاً أو نريد به لا جواز.

وثانياً: عدم استقامة الإشكال الأول؛ إذ معنى نفي لزوم العقد هو تزلزله بالقدرة على الفسخ، أما ردّ الزائد فلا يرتبط بنفي لزوم العقد فلا يكون منفياً بلا ضرر.

وثالثاً: عدم استقامة الإشكال الثاني، فإن الضرر لا يغيّر حقيقة المعاملة بأن يقلبها من لازمة إلى جائزة، وإنما يرفع الحكم الشرعي، وليس هنا الحكم الضرري إلاّ اللزوم، وهو بمعنى الخيار.

ورابعاً(1): لو كان المراد أن الموضوع الضرري لا حكم له فمقتضاه بطلان نفس العقد؛ لأن العقد الغبني لو لم يكن له حكم فرفع خصوص اللزوم لا وجه له، بخلاف ما إذا كان المراد منه أنّ الحكم الناشء عنه الضرر ليس بمجعول؛ لأنه لا بد أن يلاحظ أن المجعول الذي ينشأ منه الضرر هو الصحة أو اللزوم، ولا إشكال في أن الجزء الأخير للعلة التامة هو اللزوم لا الصحة فيجب أن يتعلق الرفع به لا بالصحة.

اللهم إلاّ أن يقال: إن عدم بطلان البيع من رأس إجماعي، فلا يبق إلاّ اللزوم فيرفع.

فتحصل أن لا فرق بين القولين عملاً وإنما الفرق لفظي بحت.

المقام الثاني

في الدليل على هذا القول، قال الشيخ الأعظم: «والأظهر بملاحظة نفس

ص: 394


1- منية الطالب 3: 394.

الفقرة، ونظائرها، وموارد ذكرها في الروايات، وفهم العلماء هو المعنى الأول»(1)

يعني الحكم الضرري، وهذا يتضمّن أربع أدلّة:

الدليل الأول: ظهور قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر» في نفي الحكم الضرري.

وأشكل عليه: بأنه بعد امتناع إرادة المعنى الحقيقي بنفي الضرر خارجاً يدور الأمر بين نفي الحكم بمعنى نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم ضرري، وبين التسبيب إلى نفي الإضرار، أي النهي عنه، وكلا الاحتمالين في عرض واحد فلا ظهور.

وفيه: أن الضرر اسم مصدر كما مرّ وهو مرغوب عنه، فلا توهم فيه إلا بتسبيب الشارع له بتشريع حكم ضرري، فيكون ظاهراً فيه، فليس الاحتمالان في عرض واحد.

الدليل الثاني: إن هذا التركيب في نظائره قد استعمل في نفي الحكم لا النهي عنه، نظير (لا حرج في الدين) و(لا عسر في الدين) ونحو ذلك.

وأشكل عليه: بوجود موارد كثيرة وردت (لا) النافية للجنس وأريد بها النهي.

وفيه: ما مرّ من أن التشابه الظاهري لا ينفع، وإنما النافع التشابه الواقعي عبر الاتفاق في الخصوصيات المقوّمة، وتلك الموارد حتى لو فرض دلالتها على النهي فإنّما هي باعتبار كونها طبائع مرغوب إليها لموافقتها للقوى الشهوية أو الغضبية، كالرفث والفسوق والجدال، وأما الضرر بمعناه الاسم المصدري فهو طبيعة مرغوب عنها لا يُقدم عليها كي ينهى عنها.

ص: 395


1- فرائد الأصول 2: 461-462.

نعم قد يقال: إنه لا نظير في لسان الشارع لقوله (علیه السلام) : «لا ضرر»، فليس (لا حرج) و(لا عسر) رواية!

لكن يمكن الجواب عنه: بأنه وإن لم يكن رواية إلاّ أننا لمّا نلاحظه نستفيد منه نفي الحكم الحرجي والعسري، فتأمل.

الدليل الثالث: الروايات التي استدل فيها ب-«لا ضرر» تناسب نفي الحكم الضرري.

وأشكل عليه: بتناسبها مع النهي أيضاً.

وفيه: ما مرّ من عدم مناسبة بعضها مع النهي، ففي قصة سمرة لا وجه للنهي ولا مناسبة، حيث إن سمرة قد استدل بأن له الحق في الشجرة فله حق الدخول إليها متى ما شاء، فلو كان قوله (علیه السلام) : «لا ضرر» نهياً لم يكن جواباً عن كلامه، أما لو كان نفياً للحكم الضرري كان ردّاً لما قاله حيث يقال له: لا حق لك، عبر بيان عدم وجود الحكم الضرري، وهكذا في الشفعة ليس هناك نهي عن شيء، وقد مرّ بعض الكلام.

الدليل الرابع: فهم الفقهاء من الفريقين أن المعنى هو نفي الحكم الضرري، وقد ذكر صاحب العناوين(1)

موارد كثيرة استدلوا فيها بدليل نفي الضرر منها: لزوم دية الترس المقتول على المجاهدين، ومنها: عدم الإجبار على القسمة مع تحقق الضرر، ومنها: عدم لزوم الشهادة مع الضرر، ومنها: مشروعية التقاص في بعض الموارد، ومنها: التسعير على المحتكر إذا أجحف، ومنها: جواز قلع البائع زرع المشتري بعد المدة، ومنها غير ذلك

ص: 396


1- العناوين الفقهية 1: 305.

مما هو كثير في كلماتهم.

الدليل الخامس: ما استدل به بعض علماء العصر(1)،

وحاصله: أن الطبيعة التكوينية التي لها آثار قد تكون مرغوب فيها وقد تكون مرغوب عنها وذلك لأجل مناسبات القوة الشهوية والغضبية، فلو تمّ النهي عنها أو نفيها فالمحتوي يختلف باختلاف حالتين:

الحالة الأولى: عدم سبق حكم مخالف ولا توهمه، فحينئذٍ يكون النهي مولوياً، ويكون النفي بمعنى التسبيب إلى ترك تلك الطبيعة فيكون بمعنى النهي المولوي، فمثل الرفث لا يتوهم وجوبه فيكون قوله تعالى: {لَا رَفَثَ}(2)

نهياً عنه، وكذا لو قال: (لا ترفثوا) مثلاً.

الحالة الثانية: سبق الحكم المخالف أو توهمه، فهنا إعراض المكلّف عن تلك الطبيعة إنما يكون لهذا التوهم فحينئذٍ يكون محتوى الكلام هو نفي ذلك الحكم المخالف، لا الزجر عن الطبيعة والوعيد على فعلها، فيكون مجازاً؛ لأن حقيقة النهي هو الزجر فلو استعمل في غير الزجر كان مجازاً، وهكذا حقيقة النفي هو إخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجاً فاستعماله في سلب وجود حكم موجب لتحققها في الخارج لولا هذا النفي مجاز، وإنما صحّ هذا المجاز لأنه يرفع المانع عن العمل بما تقتضيه قوى النفس - الشهوية أو الغضبية - فالطبيعة المرغوب عنها كان يتوهم أمر شرعي فيها فكان يندفع إليها إلاّ أنه بالنفي أو النهي يتوقف عن الاندفاع، فكأنّ النهي صار زاجراً،

ص: 397


1- قاعدة نفي الضرر والضرار: 145-149.
2- سورة البقرة، الآية: 197.

وكأنّ نفي الطبيعة المرغوب عنها صار سبباً لعدم تحققها في الخارج، مثلاً إعادة الصلاة أمر لا يرغب الإنسان فيه إلاّ مع وجود الأمر الشرعي، فلو قال المولى: (لا تُعِد صلاتك) كان ذلك بمثابة الزجر عنها، وكذا لو قال: (لا إعادة للصلاة) كان بمثابة الإخبار عن عدم تحققها خارجاً وذلك لعدم الرغبة فيها، وبذلك صحّ نفيها تنزيلاً.

وفي هذه الحالة لا فرق بين كون المتوهم المنفي الحكم بنفسه كما في مثال الإعادة، أو كان متعلّقه شيئاً مسبباً عن الحكم السابق أو الحكم المتوهم كما لو قال: (لا حرج في الدين).

وفي ما نحن فيه قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر» من قبيل الحالة الثانية؛ لأن الضرر اسم مصدر وهو شيء مرغوب عنه، فيكون النفي لرفع توهم تسبيب الشارع إلى الضرر عبر إلزام المكلف بما يوجب الضرر عليه.

نعم، قوله (علیه السلام) : «لا ضرار» من قبيل الحالة الأولى، حيث إن الضرار مصدر فيكون بمعنى الإضرار وهو مطابق للقوى الشهوية والغضبية وليس هناك توهم وجوبه، فيكون مفاد نفيه هو التسبيب إلى عدم تحققه في الخارج وذلك عبر تحريمه والمنع عن إيجاده فيكون نهياً، فتأمل.

4- نفي الضرر غير المتدارك

القول الرابع: معنى «لا ضرر» هو نفي الضرر غير المتدارك، ولازمه ثبوت التدارك بأمر الشارع في موارد الضرر، وذلك لأن الضرر المتدارك ليس ضرراً حقيقةً، وإن عدّ ضرراً بالدقة، بمعنى أنا نجد الضرر في الخارج فنفيه لا يكون إلاّ بمعنى حكم الشارع بتداركه، وعليه فعدم التدارك ليس قيداً للضرر وإنما يستفاد من دلالة الاقتضاء.

ص: 398

والحاصل: أن المنفي هو طبيعة الضرر، لكن بملاحظة الحكم بتداركه، وذلك بدلالة الاقتضاء لا بالتقييد.

وأورد عليه: أولاً: بأن ما ذُكر لا يعيّن هذا المعنى، ولا ينفي الاحتمالات الأخرى، بل قد ذكرنا أن نفي الحكم الضرري هو المعنى الأقرب، بل حتى الحمل على النهي أقرب من هذا، وذلك لأن ظاهر نفي الشارع لماهية إما نفي تسبيبه لها وإما تسبيبه إلى انتفائها، وهما معنيان مستعملان في الكلام، وأما الحكم بالتدارك فهو وإن كان مصححاً لنفي الضرر لكن لا دلالة من الكلام عليه إلاّ بقرينة وهي منتفية.

وثانياً: عدم انطباق (الضرر غير المتدارك) على بعض الروايات النهي التي وردت فيه هذه الكلمة، كما في قضية سمرة حيث منع الرسول (صلی الله علیه و آله) الضرر اللاحق ولم يتدارك الضرر السابق لكونه غير قابل له.

وثالثاً: حيث إن الضرر اسم مصدر، فلازم نفي الضرر غير المتدارك، هو لزوم التدارك مطلقاً حتى لو لم يكن الضرر بسبب إنسان، بل كان بآفة سماوية مثلاً، وهذا لا يلتزم به أحد، إلاّ أن يقال: بالانصراف عنه.

ورابعاً: إن مجرد الحكم بالتدارك لا يمنع صدق عدم الضرر، بل لا بد في صدقه من التدارك خارجاً، وعليه فالتدارك التشريعي لا يصحّح نفي الضرر.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الشارع كما شرّع الأحكام كذلك عيّن حاكماً لإجرائها، وعليه فيكون التدارك كأنه متحقق خارجاً فصحّ اعتباره واقعاً ادعاءً، فتأمل.

ص: 399

تنبيهات

التنبيه الأول: في انطباق القاعدة على قضية سمرة

حيث قد يتسائل عن كيفية انطباق «لا ضرر ولا ضرار» على قلع نخلة سمرة مع أن الضرر لم يكن ناشئاً عن بقائها، وإنما عن دخوله من غير استئذان، فكان يرتفع بمنعه؟

وقد يجاب بوجوه، الأول منها صغروي، وسائرها كبروي:

الجواب الأول: إن قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر...» ليس علة للأمر بالقلع، بل هو علة لأمره بالاستئذان في صدر الحديث!

وفيه: عدم ملائمة ذلك مع نص الحديث، ففي موثقة ابن بكير برواية الكافي: «إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار»، وفيها برواية الفقيه: «فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا ضرار»، وفي مرسلة ابن مسكان: «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثم أمر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلعت ثم رمي بها إليه، وقال له رسول الله: انطلق واغرسها حيث شئت»، ففي الأولى الفاء ظاهرة في التفريع لعلية الحكم، وفي الثانية تعقيب الحكم بقاعدةٍ ظاهرٌ في أنها العلة، وفي الثالثة ذكر شيء قبل الحكم ظاهر في أنه تمهيد له فيكون علة له، وكل ذلك لا يناسب التعليل لما في صدر الحديث بسبب كثرة الفاصل وطوله.

الجواب الثاني: إن كل حكم شرعي له دلالة التزامية عقلائية بجعل ضمانة لتنفيذه، وهكذا الشأن في القوانين العقلائية فهي تعطي للجهة التنفيذية صلاحية الحماية عن القانون ضمن الأطر العامة، فقوله: «لا ضرر

ص: 400

ولا ضرار» كما هو تشريع لنفي الحكم الضرري أو النهي عنه كذلك له دلالة على لزوم تنفيذه ولو بالقهر، وكان الأمر بقلعها من هذا القبيل بعد استنفاد جميع الطرق الأخف تكلفة من أمر سمرة بالاستئذان، ثم مساومته بمال، ثم مساومته بنخلة في الجنة، ولذا يحق للحاكم تنفيذ القوانين بالقهر ولكن ضمن الإطار المسموح له به، ويبدأ بالأخف والأسهل ثم يترقى.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(1) وحاصله: أن «لا ضرر» حاكم على قاعدة السلطنة التي من فروعها احترام مال المسلم، الذي هو عبارة عن سلطنة المالك على منع غيره عن التصرف في ماله.

ولا يتوهم أحد بأن السلطة مركبة من أمر وجودي وهو كون المالك مسلطاً على التصرف في ماله بما يشاء، ومن أمر سلبي وهو سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله، والضرر نشأ من الثاني دون الأول فلذا يحق له بيعه وهبته.

وذلك لأن هذا الانحلال تحليل عقلي، والحكم الشرعي بالسلطنة حكم واحد، فلا معنى لأن يكون قاعدة لا ضرر حاكمة على أحد جزئي السلطنة دون الآخر، والضرر وإن نشأ من الدخول بغير استئذان إلاّ أنه حيث يكون متفرعاً على إبقاء النخلة في البستان فالضرر ينتهي وينشأ بالأخرة من علة العلل، فينتفي حق الإبقاء، نظير الضرر في باب الوضوء، فإنه وإن نشأ من اختيار المكلّف إلاّ أنه معلول للحكم الشرعي وهو إيجاب الوضوء، والحكم الشرعي فيه مقدمة تسبيبيّة لا إعداديّة، والضرر عنوان ثانوي

ص: 401


1- منية الطالب 3: 397-398.

للحكم أيضاً وإن صح نسبته إلى فعل المكلف.

وليس كذلك في العقد الغبني فإن اللزوم لا ينشأ من الصحة - وإن كان مترتباً عليها - لأن كل واحد منهما حكم مستقل ملاكاً ودليلاً، ولا ربط لأحدهما بالآخر ولا علية بينهما.

وأشكل عليه السيد العم(1):

بأن كون المعلول ضررياً لا يوجب إلاّ ارتفاع نفسه فإن رفع علته بلا موجب، فهل إذا كان الإنفاق على الزوجة ضررياً في موردٍ يرتفع به وجوب طاعة الزوجة لزوجها؟! وأما مبحث ضررية المقدمة في ارتفاع ذي المقدمة فمع الفارق، لضررية ذي المقدمة أيضاً بضررية المقدمة، فالغسل ضرري إذا كان المشي إلى الحمام ضررياً، فتأمل.

وكأن المقصود أن العلل والمعاليل الاعتبارية يمكن التفكيك بينها لأنها ليست بعلل حقيقة برفع المعلول دون علته وخاصة أن المحذور لم ينشأ من العِلّة.

الجواب الرابع: أن علة الأمر بالقلع هو قوله: «لا ضرار»؛ لأنه وإن كان مصدراً إلاّ أنه يستعمل في آلة الضرر مجازاً لجواز استعمال المصدر في اسم الذات للمبالغة، وذلك نظير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}(2)،

حيث اتخذوا ذلك المسجد وسيلة للإضرار بالمسلمين.

وأشكل عليه: بأن ذلك مجاز يحتاج إلى قرينة، ولا قرينة على كون

ص: 402


1- بيان الأصول 5: 308.
2- سورة التوبة، الآية: 107.

المراد بالضرار وسيلة الضرر هنا.

الجواب الخامس(1): إن هنا تزاحم ضررين: ضرر سمرة بسلب سلطنته على عذقه، وضرر الأنصاري على عرضه، وتمّ تقديم الأهم وهو ملاحظة عرض الأنصاري.

وفيه: أن الإشكال أنه لم يكن هناك ضرر من بقاء العذق، وحينئذٍ فالتعارض منتفٍ بانتفاء موضوعه.

الجواب السادس: إن (لا ضرر) حكم ولائي، فيستتبع حكماً ولائياً آخر هو الأمر بالقلع للتلازم بينهما.

وفيه: أنه لا تلازم، وذلك لأن الحكم الولائي قد يكون مستنداً إلى حكم مولوي أو حكم ولائي من غير فرق.

ثم إنه لو لم نرتض الأجوبة صار الحديث مجملاً.

أما ما ذكره الشيخ الأعظم(2)

بأن ذلك لا يخلّ بالاستدلال.

أي إن عدم معرفتنا بكيفية انطباق القاعدة على المورد لا يضر بظهورها في رفع الحكم الضرري.

فقد أشكل عليه المحقق النائيني: «بأن ذلك يرجع إلى أن خروج المورد لا يضرّ بالعموم، فيتمسك به في سائر الموارد، مع أنك خبير بأن عدم دخول المورد في عموم العلة يكشف عن عدم إرادة ما تكون العلة ظاهرة فيه، وهذا مرجعه إلى الاعتراف بإجمال الدليل، فكيف لا يخل

ص: 403


1- القواعد الفقهية للبجنوردي 1: 226-227.
2- رسالة لا ضرر في ملحقات المكاسب 23: 111.

بالاستدلال»(1).

أقول: إن ما ذكره وإن كان صحيحاً، إلاّ أن الظاهر أنه ليس مقصود الشيخ الأعظم، فمع علمنا بأن الظاهر ينطبق على المورد نقول بأنا لا نعلم كيفية الانطباق، وليس كلامه أن خروج المورد لا يضرّ بالظهور.

التنبيه الثاني: في كثرة تخصيصات القاعدة

قال الشيخ الأعظم: «إلاّ أن الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي، كما لا يخفى على المتتبّع، خصوصاً على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدّم، بل لو بُني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد»(2).

وصورة البرهان: الصغرى: هذه القاعدة قد تمّ تخصيص أكثر أفرادها، والكبرى: تخصيص الأكثر مستهجن، والنتيجة: الحديث مجمل لا يمكن الاستدلال به.

أما الصغرى: فإن أكثر الأحكام الشرعية كالزكاة والخمس والحج والجهاد والحدود و التعزيرات والقصاص والديات ونحو ذلك ضررية، خاصة لو فسرنا الضرر بما تكرهه النفوس.

وأما الكبرى: فإن في تخصيص الأكثر إشكالين:

الأول: استهجانه عرفاً، وذلك للزوم التناسب بين الإرادة الجدية والاستعمالية، فإن الخطاب العام لا يناسب الإرادة الجدية لقليل من أفراد

ص: 404


1- منية الطالب 3: 399-400.
2- فرائد الأصول 2: 464-465.

العام وإنما المناسب إرادة جميع أفراده أو أكثر أفراده بالإرادة الجدية.

الثاني: عدم توافق الخبر بهذا المعنى والدال على عموم نفي الضرر مع الكتاب والسنة القطعية، بل مخالفته لهما، فلا بد من الإعراض عنه أو تأويله إن لم يمكن طرحه؛ لأن من أسلوب العقلاء في معرفة كلام شخصٍ أو شعره هو إرجاع المشكوك إلى المقطوع به من كلامه، فإن وافقه في الأسلوب والمنهج اعتبروه من كلامه وإلاّ اعتبروه منحولاً، وما كان مقطوعاً من الكتاب والسنة يكون المرجع في ما كان مشكوكاً، وهنا هذه التخصيصات مقطوع بها، وكثرتها تصير سبباً لعدم توافق العام المفهوم من (لا ضرر) معها، فلا بد من تأويله بما لا يختلف معها، فلا يكون معناه (لا حكم ضرري)!

هذا وقد يضاف إشكال آخر وهو: أن نفي الحكم الضرري امتناني فيكون آبياً عن التخصيص، وحيث قد ثبت التخصيص قطعاً فلا يكون معنى الحديث نفي الحكم الضرري!

وإن أمكن الجواب عن هذا الإشكال: بأن التخصيص لو كان امتنانياً أيضاً فلا محذور فيه، مضافاً إلى ما سيأتي من أنه ليس بتخصيص بل تخصّص.

ثم إن الكلام في دفع إشكال تخصيص الأكثر في الكبرى والصغرى.

أما الجواب الصغروي:

فأولاً: ليست الأحكام الشرعية ضررية أصلاً؛ لأن النقص الذي يرجع نفعه إلى الإنسان ليس نقصاً واقعاً فلا يكون ضرراً، فلذا لا يكون الإنفاق

ص: 405

على العيال ضرراً، والأحكام الشرعية المالية كالخمس والزكاة يرجع نفعها إلى الإنسان وإلى المجتمع، وكذلك الأحكام الجزائية والضمانات نفعها عائد إلى المجتمع، وحتى لو فرض كون بعضها ضررية على من ثبت الحكم عليه كالقصاص، إلاّ أنها بصالح الاجتماع، فيكون نفعها أهم من ضررها، فلا تعتبر ضررية، ولذا قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(1)،

ولأجل هذه الجهة لا يعتبر العقلاء وعامة الناس القوانين الجزائية ضررية مع ثبوت ضررها على المجرم.

وثانياً: لو فرض كونها ضررية نقول إنها خارجة بالتخصّص لا بالتخصيص، وذلك لأن (لا ضرر) لا يشمل الأحكام التي هي ضررية بنفسها، وإنما نظره إلى العناوين التي لها حالتان: ضررية وغير ضررية، فينفي الحكم في الحالة الضررية، ويقيّد الدليل بالحالة غير الضررية، فمثل الزكاة والدية ونحوهما شُرّعت في مورد الضرر حيث لا حالة ثانية لها.

وثالثاً: حتى لو فرض ضرريتها وخروجها بالتخصيص فقد يقال: إن الإلزامات المالية والضمانات والأحكام الجزائية ونحوها من الأحكام الضررية هي أقل من الأحكام غير الضررية من عبادات ومعاملات وسائر الأحكام كما لا يخفى على من راجع الأبواب الفقهية.

وأما الجواب الكبروي:

فبعدم استهجان تخصيص أكثر الأفراد إذا كان بملاك يصحّحه.

ثم إنه قد اختلف في تعيين ذلك الملاك على وجوه:

ص: 406


1- سورة البقرة، الآية: 179.

1- منها: ما ذكره الشيخ الأعظم حيث قال: «إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها - وإن لم نعرفه على وجه التفصيل - وقد تقرّر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد أكثر من الباقي، كما إذا قيل: (أكرم الناس) ودلّ الدليل على اعتبار العدالة، خصوصاً إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب»(1).

2- ومنها: ما ذكره المحقق الخراساني(2) وحاصله: أن العنوان الواحد الجامع لأكثر الأفراد إن كان ضمن عناوين متعددة جاز التخصيص فيه؛ لأنه في الحقيقة ليس تخصيصاً للأكثر، بل تخصيص واحد من ضمن متعدد، كما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ النحاة) وكانوا أكثرهم ولكن هم صنف من أصناف متعددة كالصرفيين واللغويين والأطباء وغيرهم.

3- ومنها: ما ذكره المحقق النائيني(3) بما حاصله: أنه لو كانت القضية خارجية استهجن تخصيص الأكثر، كما لو قال: (أكرم هؤلاء المائة إلاّ تسعين منهم)، وإن كانت القضية حقيقيّة فلا استهجان كما لو قال: (أكرم الناس إلاّ الكفار منهم).

أقول: في ما نحن فيه لم يلاحظ الجامع في الحكم في (لا ضرر)، ولا هو قضيته حقيقية، فلا يكون مندرجاً في ما يخرجه عن الاستهجان.

ص: 407


1- فرائد الأصول 2: 465.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 284.
3- منية الطالب 3: 400-402.

وذلك لأنه قد لوحظ في (لا ضرر) نفي الضرر عن كل حكم بمفرده، قال في المنتقى(1): لأن المفروض هو كون (لا ضرر) موجباً للتصرف في أدلة الأحكام ومقيداً لها بصورة عدم الضرر، فالملحوظ فيه هو الأحكام المجعولة بأدلتها من طرف الشارع كوجوب الوضوء والصوم... الخ، ومن الواضح أن كل حكم ينشأ بمفرده وشخصه لا بعنوان جامع، وحتى لو فرضنا عنواناً جامعاً فليس هو حكماً شرعياً؛ لأنه لم يتعلق الإنشاء به، بل بمصاديقه أو منشأ انتزاعه، مثلاً عنوان العبادات وعنوان المعاملات وعنوان الوضع وعنوان التكليف، وحيث إن دليل نفي الضرر قد لوحظ فيه تضييق دائرة المجعول الشرعي بغير مورد الضرر فلا محالة يكون النفي وارداً على كل حكم ٍ حكم ٍ لا على الجامع؛ إذ ليس الجامع حكماً كي ينفى بنفي الضرر.

وبعبارة أخرى: في الأحكام الشرعية لا يحتمل دخالة الصنف في ثبوت الحكم، ولا الصنف قابلاً لورود الحكم عليه بحيث يكون الحكم للطبيعة السارية بحيث لا يكون الفرد بما هو ذا خصوصية.

التنبيه الثالث: في أن الضرر المرفوع شخصي أم نوعي؟

وفيه قولان:

القول الأول: أن المرفوع ب-(لا ضرر) هو الضرر الشخصي لا النوعي، فيرتفع الحكم عمّن يتضرر به ولا يرتفع عمّن لا يتضرر به ولو كان القليل النادر.

ص: 408


1- منتقى الأصول 5: 418-419.

وقد استدل له: أولاً: بأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية الفعلية دون غيرها، ومنها لفظ (الضرر) فإنه ظاهر في الضرر الفعلي على المكلّفين، فمع الضرر على النوع لا يصدق الضرر على الشخص الذي لم ينله الضرر.

وحيث إن كلامنا في مرحلة المجعول فلا يصح الإشكال على ما ذكر بأنه في مرحلة الجعل قد تلاحظ المصالح والمفاسد النوعية فيجعل الحكم على الجميع باعتبارها حتى وإن لم تكن موجودة في بعض الأشخاص.

وثانياً: ما ذكره المحقق النائيني: «من حكومة أدلة نفي الضرر على الأحكام الثابتة في الشريعة على نحو العموم، ومقتضى الحكومة أن يكون كل حكم نشأ منه الضرر مرفوعاً دون ما لم ينشأ منه...، بل مقتضى كون الحديث وارداً في مقام الامتنان أن يكون كل شخص ملحوظاً بلحاظ نفسه»(1).

وأشكل عليه(2): من الممكن أن يقال: إن الحديث وإن كان وارداً مورد الامتنان، لكن الملحوظ هو الامتنان بحسب النوع، كما أنه حاكم على أدلة الأحكام إذا ترتب عليها الضرر نوعاً!

وفيه: أن الظاهر أن المقصود هو أن عدم رفع الضرر الشخصي يخالف الامتنان، وليس كذلك عدم رفع الضرر النوعي؛ لأن عدم الرفع عن النوع مع الرفع عن الأشخاص الذي أصابها الضرر لا ينافي الامتنان.

كما أن الظاهر أن الحكومة حيث أخذ فيها النظر فلا تكون إلاّ في ما فيه

ص: 409


1- منية الطالب 3: 423.
2- منتقى الأصول 5: 455.

النظر، ولا نظر إلاّ إلى الحكم الذي ينشأ منه الضرر الفعلي، فتأمل.

القول الثاني: إن المرفوع الضرر النوعي، فلو دخل الضرر على النوع ارتفع الحكم عن الجميع.

وقد يستدل له: بخيار الغبن حيث إن دليله (لا ضرر) مع ثبوت الخيار للجميع حتى لمن لم يتضرر من الغبن، وكذلك: حديث الشفعة حيث بيّن أن علتها الضرر وحكمها عام حتى لمن لم يتضرر ببيع الشريك حصته.

وعن شيخ الشريعة(1):

أنه أخذ هذا دليلاً على أن (لا ضرر) نهي لا نفي؛ إذ النهي ينحل لكل شخص شخص حيث لا معنى لنهي النوع، أما لو كان نفياً للحكم فلا بد من أخذه في العبادات شخصياً وفي المعاملات نوعياً، مع أن اللفظ واحد والدليل واحد!

وأجيب عن ذلك:

أولاً: بعدم كون الدليل في المعاملات المذكورة وغيرها (لا ضرر)، بل في الشفعة الأدلة الخاصة بها بعد تضعيف الرواية التي ذكر فيها (لا ضرر)، وكذا في خيار الغبن الدليل تخلّف الشرط الارتكازي بمساواة الثمن والمثمن، وهكذا في خيار العيب، وتبعض الصفقة.

ولا يخفى أن هذا تسليم بالإشكال كبرىً ومحاولة الجواب عنه صغرىً.

وثانياً: قد يقال: إن الضرر في المعاملات شخصي إلاّ أنه تمّ تعميم الحكم لغير موارد الضرر بدليل آخر، ومرجع هذا في الحقيقة إلى إرجاع (لا ضرر) إلى مرحلة الجعل.

ص: 410


1- قاعدة لا ضرر: 29.

لكن هذا وإن أمكن قبوله في المعاملات التي تمّ الاستدلال فيها في الروايات ب-(لا ضرر) كالشفعة، إلاّ أنه يصعب الاستدلال به في مثل خيار الغبن الذي لم يرد في الأدلة الخاصة الاستدلال ب-(لا ضرر) فيه، إلاّ بوجوه استحسانية لا تتوافق مع قواعد المذهب.

وثالثاً: إن معنى الضرر واحد سواء في العبادات أو المعاملات، إلاّ أن كيفية الضرر تختلف مما صار سبباً لتوهم الفرق بين المعاملات والعبادات مع أنه لا فرق واقعاً.

فعن المحقق الإصفهاني(1):

إن الضرر حالي ومالي، فأمّا في العبادات فحالي فلا يصدق الضرر على النوع إذا لم يضر بحال الشخص، وأما في المعاملات فمالي، والضرر المالي ضرر وإن لم يضرّ بحال الشخص، فليس موضوع الضرر النوعي والشخصي بما هو نوعي وشخصي، بل الضرر بما هو ضرر.

وبعبارة أخرى: إن العبادات لا ترتبط بالمال وإنما بأعمال المكلّف، فالضرر يلحقها باعتبار حاله، والحال لا يرتبط بالنوع بما هو مفهوم كلي وإنما يرتبط بالأشخاص بما هم، وأما المعاملات فترتبط بالمال، فالضرر يلحقها باعتبار المال لا باعتبار حال الشخص حتى يقال: إنه لم يتضرر بشخصه، فالمعاملة الغبنية ضرر مالي على المغبون حتى وإن لم يتضرر حاله.

ورابعاً: ما في بيان الأصول(2):

من أن الضرر بمعنى واحد لكن تختلف

ص: 411


1- حاشية كتاب المكاسب 2: 57.
2- بيان الأصول 5: 97-98.

مصاديقه، ففي المعاملات لا يطلق الضرر إلاّ على النوعي، فمن أجرى معاملة لا ضرر فيها على عامة الناس لكنه تضرر شخصاً فلا يقال: إن معاملته كانت ضررية وإن تضرر هو شخصاً، وفي العبادات وغيرها من الإلزاميات لا يطلق الضرر إلاّ على الشخصي، فحتى لو كان الضرر على عامة الناس لا يقال: إن الصلاة مثلاً ضررية، وإنما يقال صلاة فلان ضررية عليه، وهذا التفريق من المرتكزات العقلائية، التي معها تطلق الألفاظ ومع عدمها تنصرف، فتأمل.

تتمة: في الأحكام الولائية يمكن الاستناد إلى (لا ضرر) في مرحلة جعل الحكم الولائي، وحينئذٍ تلاحظ الحالة العامة ويجعل الحكم على الجميع حتى مع عدم جريان (لا ضرر) شخصاً على بعضهم، ففي مثل قوانين المرور يصح ملاحظة ضرر النوع لجعل إشارات المرور وعلائمها للجميع.

ويحتمل إرجاع ذلك إلى الضرر الشخصي لكل فرد فرد من غير استثناء حيث إن عدم مراعاتها يوجب خوف الضرر، وهذا الخوف هو ضرر واقعاً حتى وإن لم يترتب ضرر خارجاً؛ لأن الضرر كما يشمل الضرر الخارجي كذلك يشمل الضرر النفسي.

لا يقال: إن المخالف قد يقطع بعدم الضرر!

لأنه يقال: إن خوف المشرِّع أو خوف سائر الناس مقدّم على عدم ضرره، وبذلك تقيّد سلطته على أفعاله، فتأمل.

التنبيه الرابع: في الإقدام على الضرر

لو أقدم المكلّف على الضرر كما لو باع بضاعته بثمن بخس عامداً

ص: 412

عالماً، فلا يُرفع هذا الضرر بدليل (لا ضرر).

وقد يقال في وجه ذلك(1):

بأن مفاد الحديث هو نفي تسبيب الشارع إلى تحقق الضرر، دون إعمال الولاية على المكلّف في التصرف الذي يوجب الضرر عليه، ولو لم يمض الشارع ما التزمه المكلف على نفسه من الضرر وسبّب إليه عرفاً كان ذلك من إعمال الولاية عليه وتحديداً لما يحكم به العقلاء من أن كل أحد مسلط على ماله وله أن يتنازل عنه مجاناً فضلاً عن أن يتنازل عنه بعوض قليل، فالحكم الإمضائي فيه احترام لإرادة المكلّف وسلطنته على ماله، وليس تسبيباً إلى الضرر عليه.

وقد يستدل له بما في بيان الأصول(2): من أنّ الإقدام إن كان على الضرر المالي فدليل لا ضرر منصرف عنه، لا أقل من الشك في ظهوره ظهوراً شاملاً لمثل المقدم عليه.

وإن كان على الضرر البدني والعِرضي فالتفصيل بين ما كان الإضرار بهما رخصة وبين ما كان عزيمة.

التنبيه الخامس: في أن المنفي هو الضرر الواقعي دون الضرر المعلوم
اشارة

وذلك لأن الألفاظ وضعت على المعاني بما هي هي من غير تقييدها بالعلم أو الجهل، ومنها لفظ الضرر، وليس هناك دليل على تقييده بالعلم، وعليه فالمرفوع الضرر بما هو هو سواء كان معلوماً أو مجهولاً.

إلاّ أن منشأ هذا البحث أن هنالك مسائل فقهية قُيِّدَ فيها الضرر بالعلم

ص: 413


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 269.
2- بيان الأصول 5: 357-358.

كالوضوء والصوم الضرريين حيث لو كان المكلف جاهلاً بالضرر صحّ عمله وأمّا لو كان عالماً كان باطلاً، كما أن هناك فروع فقهية قُيِّدَ الضرر بالجهل فلو كان عالماً به لم يرتفع الحكم، كالغبن في البيع حيث إنه ضرر لو كان يعلم به المكلف لم يثبت الخيار، وإن كان جاهلاً ثبت حيث يرتفع حكم الشارع باللزوم حينئذٍ، فلا بد من بيان سبب تقييد الضرر في الأول بالعلم وفي الثاني بالجهل، فهنا مطلبان:

المطلب الأول: في الوضوء الضرري ونحوه
اشارة

فالحكم بصحته وترتب الآثار عليه غير مرفوع مع الجهل بالضرر دون العلم به، والكلام في مقامين:

المقام الأول: حالة الجهل بالضرر

فعدم الرفع بسبب آخر، لا لتقييد الضرر المرفوع بالعلم، وقد ذكر المحقق النائيني(1)

وجهين:

الوجه الأول: كون الحديث مسوقاً للامتنان وهو يقتضي التقييد بالضرر المعلوم، وإلاّ يلزم إعادة الوضوء والصوم على من تضرر بهما ولو لم يعلم به، وهو خلاف المنة.

ويرد عليه: أولاً: مبنىً بأنه لا دليل على كون (لا ضرر) للامتنان بحيث يكون علةً يدور الحكم مدارها، وإن كان الامتنان متحققاً في غالب موارده.

وثانياً: بناءً بأن المنة فيه بلحاظ النوع لا الشخص، لظهوره في ذلك أو

ص: 414


1- منية الطالب 3: 410.

انصرافه إليه، كنظائره من الإكراه وما لا يعلمون ونحوهما حيث إن الحكم مرفوع حتى لو كان بصالح الشخص.

وغير خفي أن كون المنة نوعية لا ينافي كون الضرر المرفوع شخصياً.

الوجه الثاني: إنه في مورد الضرر الواقعي ليس الموجب للضرر الحكم الشرعي بوجوب الوضوء أو الصوم - أي ليس الجزء الأخير من العلة التامة للضرر إطلاق الحكم - ولذا لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع هذا المتضرر في الضرر لجهله واعتقاده عدم تضرره - فليس الضرر مستنداً إلى تشريع الحكم.

وبعبارة أخرى: الحكم الفعلي على المتضرر العالم بالضرر موجب للضرر، وأما الحكم الواقعي - الذي لا يتفاوت وجوده وعدمه في إقدام المكلّف على هذا الفرد؛ حيث إن المكلّف يرتكبه باعتقاد عدم الضرر - فليس هو الجزء الأخير من العلة للضرر. نعم، الحكم الشرعي من المقدمات الإعداديّة بمعنى أنه لولا وجوب الوضوء مثلاً لما كان المكلف يقدم على الوضوء، لكن مجرّد سببيته للداعي وباعثيته على العمل لا يقتضي أن يكون هو العلة التامة أو الجزء الأخير.

وفيه: أولاً: إن المناط في الرفع كون الحكم ينشأ منه الضرر من غير فرق بين كونه الجزء الأخير من علة الضرر أم لا.

وثانياً: ما في بيان الأصول: «من أن الجهل بالضرر لم يوقع المكلف في الضرر، وإنما الجهل ظرف، والذي أوقعه في الضرر هو تكليف المولى وشموله لمورد الضرر الواقعي، وبعبارة أخرى: الجهل كان سبباً لحكم

ص: 415

الشارع، فالضرر نشأ بالنتيجة من حكم الشارع وإن كان سببه الجهل»(1)،

فتأمل.

وثالثاً: النقض بما لو كان عالماً بالضرر وتمرّد وارتكب، فعلى ما ذكر ليس الجزء الأخير من علة الضرر هو الحكم الشرعي؛ لأن المكلف كان يرتكب العمل سواء علم بالضرر أم لا.

إن قلت: إن مقتضى حكومة دليل لا ضرر على دليل الوضوء - مثلاً - هو خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة الوضوء.

قلت: هذا إنما يجدي لو جرى دليل لا ضرر بأن كان الضرر - حسب هذا المبنى - الجزء الأخير من العلة، وفي ما نحن فيه ليس كذلك، فلا جريان لدليله ليكون حاكماً.

الوجه الثالث(2): إن صحة الوضوء مع الضرر الواقعي المجهول، وبطلانه مع الضرر الواقعي المعلوم لا يرتبطان بجريان قاعدة لا ضرر أو عدم جريانها، وإنما لأن الحكم الشرعي بوجوب الوضوء أو التيمم يرتبط بوجدان الماء وفقدانه، فالضرر - سواء كان واقعياً أو معلوماً - إن صار سبباً لصدق عدم التمكن من الماء فلا يشرع الوضوء لعدم تحقق موضوعه، فلا حكم حينئذٍ كي ينفى ب-(لا ضرر)، وإن لم يستلزم ذلك، بل صدق التمكن من استعمال الماء فحينئذٍ يشرع الوضوء ولا مجال لنفيه ب- (لا ضرر) وإثبات وجوب التيمم؛ لأن الواجد هو موضوع للوضوء مطلقاً ولا يكون موضوعاً

ص: 416


1- بيان الأصول 5: 157.
2- منتقى الأصول 5: 441-442؛ منية الطالب 3: 411.

لوجوب التيمم.

وعليه فالجاهل بالضرر واجد للماء عرفاً فيندرج في موضوع وجوب الوضوء، ومن يعتقد بضرر الوضوء عليه مع كونه ليس كذلك يكون الوضوء عليه حرجياً، فيصدق عليه عدم وجدان الماء فيكون مندرجاً في موضوع وجوب التيمم.

المقام الثاني: حالة العلم بالضرر

فالوضوء ونحوه باطل، ويعلم وجهه بما ذكر من أن موضوع الوضوء غير متحقق، فلا يصح لانتفاء موضوعه.

لكن ذكر المحقق النائيني(1) وجهاً آخر حاصله: أنه لا يمكن تصحيح الوضوء، لا بالملاك؛ لأن مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة الوضوء والغسل وعدم ثبوت الملاك له لعدم وجود كاشف له، ولا بما يقال: إن التيمم رخصة لا عزيمة؛ إذ لا معنى لاحتمال الرخصة فإن التخصيص بلسان الحكومة كاشف عن عدم شمول العام للفرد الخارج، ولا بما يرجع إلى ذلك مثل ما يقال: إن الضرر يرفع اللزوم لا الجواز، وذلك لأن الحكم بسيط لا تركب فيه حتى يرتفع أحد جزئيه ويبقى الآخر، ولا بالترتب؛ ولعل سبب ذلك إن الترتب فرع وجود الحكم أو الملاك.

وفيه: أولاً: بأن لا ضرر إن كان امتناناً - كما هو مبناه - كشف ذلك عن وجود الملاك؛ إذ لا معنى للامتنان في ما لا ملاك له.

ص: 417


1- منية الطالب 3: 412.

وثانياً: بأن هناك طريقاً آخر لتصحيح الوضوء والغسل، فقد قيل(1):

إنهما من موضوعات الأحكام، حيث إن كلاً منهما جعل في مورده موضوعاً لترتب الطهارة الحدثية، كما قد جعل غسل البدن بالماء موضوعاً للحكم بالطهارة الخبثية، وعليه فلا يمكن نفي صحتهما بقاعدة لا ضرر؛ لأن مجرد الحكم بترتب الطهارة الحدثية عليهما ليس تسبيباً إلى الضرر، كما لم يكن الحكم بترتب الطهارة الخبثية على الماء بالبدن تسبيباً إلى الضرر وإن كان استعمال الماء مضراً، فالمقامين من واد واحد. نعم، الفرق في قصد القربة لكنه غير فارق، وذلك لإمكان التقرب بامتثال الأمر الغيري؛ لأن القربة هي إضافة العمل إلى الله تعالى، وإنما لم يجب الوضوء أو الغسل لارتفاع وجوب الصلاة بطهارة مائية فيرتفع وجوب مقدمته، لكن لو توضأ المكلف فقد حصلت الطهارة المائية فتجب عليه الصلاة معها؛ إذ ليس إيجابها حينئذٍ تسبيباً إلى الضرر.

ويمكن أن يقال: إنه مع ضرر الوضوء والغسل فلا يكون الشخص واجداً للماء، فلا يكون حكم بالوضوء والغسل، فلا يمكن إضافة العمل إلى المولى، فلا يتحقق قصد القربة.

إلاّ أن يقال: إن فرض الكلام في ما لو كان لدليلهما إطلاق شامل لموارد الضرر أيضاً فلا يرفع ب- (لا ضرر)، وأما لو لم يكن لهما إطلاق فلا دليل آخر على صحتهما إطلاقاً، فتأمل.

المطلب الثاني: في خيار الغبن ونحوه
اشارة

حيث يثبت الخيار مع الجهل بالغبن لا مع العلم به، وهنا مقامان:

ص: 418


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 286.
المقام الأول: مع العلم بالغبن

فقد يقال في سبب عدم الرفع وجوه، منها:

الوجه الأول: ما مرّ من أن الحكم بعدم اللزوم في صورة العلم خلاف المنة.

وفيه: ما مرّ من أنه لا دليل على كون لا ضرر وارداً مورد الامتنان بنحو العلة.

الوجه الثاني: ما في المنتقى(1):

من أن المستفاد من الحديث هو نفي الضرر الصادر من خصوص الغير، ومع العلم بالضرر في المعاملة لا يستند الضرر إلى البائع خاصة - كما هو الحال في صورة جهل المشتري - بل يستند إلى كل من البائع والمشتري بنحو الاشتراك، فلا يكون مرفوعاً بالحديث.

وأشكل عليه: بأن مقتضى ذلك عدم ثبوت الخيار في صورة جهل البائع أيضاً؛ إذ لا يستند الضرر حينئذٍ إلى الغير.

الوجه الثالث: إنه مع إقدام المغبون على الضرر لا يكون الضرر مستنداً إلى الحكم الشرعي بنحو يكون هو الجزء الأخير من العلة، بل يستند الضرر إلى إقدام المشتري، ويكون الحكم الشرعي من المقدمات الإعداديّة للضرر.

وفيه: مع قطع النظر عن الإشكال في المبنى، أن الجزء الأخير هو حكم الشارع بلزوم المعاملة؛ إذ لا يحكم الشارع بها إلاّ بعد إقدام المشتري عليها

ص: 419


1- منتقى الأصول 5: 445.

بأن يوقع العقد فيحكم الشارع باللزوم.

الوجه الرابع: إن وجه عدم الخيار في حالة علم المغبون ليس تقييد الضرر بالعلم، بل لتحديده بالإقدام، والإقدام يتحقق حتى مع الظن، بل والاحتمال، ودليل لا ضرر لا يشمل حالة الإقدام عليه كما مرّ.

المقام الثاني: مع الجهل بالغبن

وفيه يثبت الخيار، لعدم الإقدام.

لكن منشأ عدم لزوم البيع يكون تارة: بتخلّف الشرط الضمني في ما لو كان ملتفتاً وتصوّر تساوي قيمة الثمن والمثمن.

وتارة: بتخلف الشرط الارتكازي في ما لو كان غافلاً، فيكون هذا الارتكاز سبباً لتقييد المنشأ حيث لا رضا له بغير التساوي.

مضافاً إلى جريان قاعدة لا ضرر، مع وضوح كون الجهل ظرفاً لا قيداً، فعدم جريان القاعدة في حالة العلم لا يصير سبباً لعدم جريانها في حالة الجهل.

التنبيه السادس: في رفع الأحكام العدمية بدليل لا ضرر

وغير خفي أن رفع الحكم العدمي هو بعينه وضع الحكم الوجودي، كما لو حبس حراً كسوباً، ففات عمله، فعدم ضمان الحابس حكم ضرري يرتفع بلا ضرر، ولا مانع منه لا في الكبرى ولا في الصغرى، بل هو واقع.

وقد يقال: بعدم شموله للأحكام العدمية، وقد استدل المحقق النائيني(1) وغيره على ذلك بوجوه:

ص: 420


1- منية الطالب 3: 418.

1- منها: أن عدم الضمان ونحوه ليست أحكاماً شرعية مجعولة من قِبل الشارع، وتعلق القدرة باستمرار العدم لا يعني إسناده إلى الشارع ما لم يتعلق بالعدم جعل شرعي، فليس المدعى عدم إمكان جعل الحكم العدمي أو عدم إمكان إنشاء عدم الحكم؛ إذ كلاهما ممكن، وإنما الكلام أن مجرد عدم جعل الحكم في مورد قابل ليس حكماً كي يكون مرفوعاً بلا ضرر، وبعبارة أخرى: القدرة على الشيء وعدمه لا تعني نسبة الشيء أو عدمه إلى القادر.

وفيه: أن حصر التشريع بيد الشارع ومنع غيره عن التشريع هو حكم بالعدم عرفاً، ولذا لو توجه ضرر إلى شخص ولم يمنعه الحاكم مع حيلولته دون منع الغير له لكان عرفاً إضرار من الحاكم على الشخص، وعليه فعدم الحكم بالضمان من الشارع هو حكم بعدم الضمان، وحيث إنه ضرر كان مرفوعاً بدليل لا ضرر.

2- ومنها: أن ذلك يستلزم كون معنى لا ضرر هو عدم جعل الضرر غير المتدارك، وقد مرّ الإشكال فيه وأنه أردأ الوجوه.

وفيه: إن الاتفاق في الأثر أحياناً لا يعني كون معنى الحديث ذلك، وبعبارة أخرى: عموم الحديث للوجوديات والعدميات قد يستلزم التدارك، لكن ليس ذلك معنى الحديث، والفرق بينهما بيّن.

3- ومنها: استلزام الرفع ثبوت فقه جديد، ومن المعلوم بطلان ذلك.

وفيه: أن مجموعة من الفقهاء التزموا بذلك ولم يستلزم منه فقه جديد؛ لأن المسائل منحصرة في بعض الموضوعات.

ص: 421

4- ومنها: أن المنفي إن كان الحكم الضرري استلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وذلك لعدم إمكان الجامع بين الوجود والعدم.

وفيه: أن الحكم بالعدم هو أمر وجودي، مضافاً إلى أن غير الممكن هو الجامع الحقيقي بينهما، لا الجامع العنواني.

5- ومنها: تعارض ضرر الضارّ والمتضرِّر فلا يجري لا ضرر فيهما.

وفيه: أن دليل لا ضرر لا يشمل الضارّ، كما في الضرر الذي ترتب على قلع شجرة سمرة، للانصراف وللإقدام.

التنبيه السابع: نسبة دليل لا ضرر إلى الأدلة الأخرى
اشارة

وهنا مطالب:

المطلب الأول: نسبته إلى أدلة العناوين الأولية

وتلك النسبة هي العموم من وجه، مثلاً الصوم قد يكون ضررياً وقد لا يكون، والضرر قد يكون في الصوم وقد لا يكون، وهكذا اللزوم في البيع في حالة الضرر وعدمه، والضرر في لزوم البيع وغيره، ومع أن النسبة هي العموم من وجه إلاّ أن المقدّم هو دليل لا ضرر، وقد ذكر لذلك وجوه، منها:

الوجه الأول: إن تقدم أدلة الأحكام يستلزم لغوية دليل لا ضرر بالمرة؛ إذ لا يبقى له ولا مورد واحد، وتقدمه على بعضها ترجيح بلا مرجح؛ إذ نسبتها إليه متساوية، فلم يبق إلاّ تقدمه عليها بدلالة الاقتضاء، حيث إن أكثر مواردها غير ضررية تجري الأحكام فيها.

وأشكل عليه بما حاصله: أنه يكفي في رفع اللغوية هو أن التساقط

ص: 422

يستلزم عدم جريان أدلة الأحكام في مواردها الضررية فيكون المرجع حينئذٍ الأصول العملية مثلاً، وكفى به فائدة، فتأمل.

مضافاً: إلى إمكان رفع اللغوية بالتمسك بالقدر المتيقن من موارد تقييد الأحكام بلا ضرر، كما لو كان دليل الأحكام لبيّاً لا إطلاق له، فتأمل.

الوجه الثاني: حكومة دليل لا ضرر عليها، وذلك لأن في ملاك الحكومة مبنيين:

1- نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم بحيث يكون الحاكم لغواً لولا المحكوم، وحينئذٍ فإن كان معنى (لا ضرر) رفع الحكم الضرري، فهو ناظر إلى نفي الأحكام المستلزمة للضرر، وإن كان معناه رفع الموضوع الذي ينشأ منه الضرر فهو ناظر إلى تضييق الموضوع.

نعم، لو كان المعنى النهي فلا نظر؛ لأن النهي عن إضرار الغير حكم مستقل لا نظر له إلى الأحكام الأخرى بحيث يكون لغواً لولاها، وهكذا لو كان المعنى رفع الضرر غير المتدارك؛ إذ هذا الحكم لا يتوقف على حكم آخر ليكون ناظراً إليه، وهكذا لو كان حكماً ولائياً.

2- المسالمة بين الدليل الحاكم والمحكوم، وهذا متوفر في دليل لا ضرر وأدلة الأحكام.

ثم إن البحث في ملاك الحكومة وأقسامها قد مرّ في المقصد السادس، فراجع.

الوجه الثالث: ما اختاره صاحب الكفاية(1) وذلك بالتوفيق العرفي بين

ص: 423


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 339-340.

دليل لا ضرر وأدلة الأحكام؛ لأن أدلتها بيان للمقتضي، ودليله بيان للمانع عن فعليتها، والعرف يجمع بين الدليلين بتقدم المانع مطلقاً حتى وإن كانت النسبة العموم من وجه.

وحاصل كلامه: أن الحكومة إنما هي في الدليل المفسِّر والمفسَّر؛ إذ هي بمعنى الشرح والتفسير، وليس (لا ضرر) يفسر الأدلة الواردة مورد الضرر؛ إذ لو كان الضرر موضوعاً أو مورداً للحكم فلا يعقل أن يكون مانعاً عن ذلك الحكم، وعليه فلا حكومة، وإنما جمع عرفي بتقدم الدليل الدال على المانع على الدليل الدال على الاقتضاء.

وفيه: أولاً: إن ملاك الحكومة متوفر في هذا التوفيق العرفي - وهو النظر - فلا وجه لعدم اعتباره من الحكومة؛ إذ ليس الكلام فيها مجرد اصطلاح حتى يقال لا مشاحة فيه، بل هو اصطلاح عن ملاك، وذلك الملاك متوفر في موارد الشرح وفي موارد غير الشرح، ولذا كانت الحكومة أنواعاً متعددة کما مرّ.

وثانياً: إن حمل الأحكام الأولية على كونها دالة على الاقتضاء دون الفعلية خلاف الظاهر، بل قد يقال: إنه غير معقول - بحسب بعض معاني الاقتضاء - .

وثالثاً: ما قيل: من أن حمل لا ضرر على بيان المانع إنما ينسجم مع مبناه في معنى (لا ضرر) من أنّه رفع للموضوع الضرري، وأما على سائر الأقوال فلا؛ إذ لا ظهور في نفي الحكم الضرري على المانعية عن الحكم، حيث لم يؤخذ الضرر في موضوع النفي كي يستظهر عليته له، فتأمل.

ص: 424

المطلب الثاني: النسبة بين لا ضرر وبين أدلة الأحكام الثانوية

وذلك كما لو فرض كون أكل طعام مضراً وكون تركه حرجياً، مع وجود الملاك لكلتيهما، وعدم حكومة إحداها على الأخرى، فيقع التزاحم، فلا بد من إعمال قواعده.

وقد يقال: بترجيح رفع الحرج على لا ضرر.

أولاً: لحكومة رفع الحرج عليه.

وأشكل عليه: بأنهما في عرض واحد، فلا نظر لأحدهما على الآخر؛ إذ هما دليلان ناظران إلى الأحكام الثابتة في الشريعة، فكل منهما يزاحم الآخر، ولو فرض نظر أحدهما إلى الآخر فهو تحاكم فلا يرجح أحدهما على الآخر.

وأجيب(1): بأقوائية عموم لا حرج؛ لأنه بالنص والتصريح حيث قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2) والدين هو جميع الأحكام، وأما عموم لا ضرر فهو عبر حذف المتعلق الذي يفيد العموم، أو لعدم البيان في مورد البيان.

وفيه تأمل: بناءً على ثبوت كلمة (في الإسلام) في بعض أحاديث نفي الضرر، مضافاً إلی أن شمول (في الدين) لجميع الأحكام بالإطلاق، فتأمل.

وثانياً: في قصة سمرة تمّ تقديم حرج الأنصاري على ضرر سمرة.

وفيه: أن ما كان في جهة الأنصاري الضرر أيضاً لا الحرج كما مرّ، ولم

ص: 425


1- منتقى الأصول 5: 470.
2- سورة الحج، الآية: 78.

يكن ضرر في استئذان سمرة، ولذا تمّ تقديم ضرر الأنصاري برفعه.

وثالثاً: بأن الحرج إنما هو على النفس، والضرر على المال والبدن، والأول أشد، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي تقديمه.

وفيه: أن الضرر أيضاً قد يكون نفسياً لأن العِرض يرتبط بالنفس، وقد يدخل فيه النقص فيكون ضرراً، مضافاً إلى عدم ثبوت أشدية الحرج النفسي على الضرر المالي أو البدني، بل المصاديق تختلف جداً.

فرع: في نسبة قاعدة لا ضرر مع قاعدة السلطنة

وذلك في ما لو كان إعمال سلطنة المالك على ماله سبباً لضرر غيره، وصور المسألة أربع: فقد يكون منع المالك عن التصرف في ملكه ضرراً عليه، وقد يكون عدم نفع، وقد لا يكون أياً منهما لكنه يريد التصرف في ملكه سواء بقصد إضرار جاره أم بقصد آخر.

فتارة نقول: بأنه لا دليل على عموم سلطنة المالك على ملكه لإرسال سند «الناس مسلطون على أموالهم»(1)،

ولأن بناء العقلاء الممضى دليل لبيّ، والقدر المتيقن منه ما لم يكن ضرراً على الآخرين، فحينئذٍ يجري دليل لا ضرر من غير معارض.

وتارة نقول بانجبار الدليل بعمل المشهور - كما هو الأظهر - فحينئذٍ إن لم يكن في منع المالك عن التصرف ضرر عليه ولا عدم نفع وكان ضرراً على الغير، جرى دليل لا ضرر، ويكون حاكماً على قاعدة السلطنة لكونه عنواناً ثانوياً ناظراً، وكونها عنواناً أولياً منظوراً إليه.

ص: 426


1- الخلاف 3: 176.

وأما إن كان منع المالك ضرراً عليه أو عدم نفع بما يرجع إلى الضرر، فالأقرب جريان قاعدة السلطنة وعدم جريان قاعدة لا ضرر، فيجوز تصرف المالك ولو كان ضرر الجار أعظم، بل هو من مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير، وهذا ما نُسب إلى ظاهر كلمات الأصحاب.

واستدل لذلك بوجوه، منها:

الدليل الأول: تعارض ضرر المالك وضرر الغير فلا يجري دليل لا ضرر، ويبقى دليل قاعدة السلطنة سليماً عن المعارض.

وأشكل عليه: أولاً: بما عن المحقق النائيني(1)، وحاصله: أن الحكم الشرعي هو جواز تصرف المالك في ماله، وهذا مرفوع بدليل (لا ضرر) ولا يعارضه ضرر الغير؛ لأن ضرر الغير إنما نشأ عن حكومة لا ضرر فلا يعقل أن يدخل في عموم (لا ضرر)؛ لأن الحكومة تقتضي فرض الحكم في مرحلة سابقة على القاعدة لتقدّم المحكوم رتبة على الحاكم، فلا يمكن أن يكون دليل (لا ضرر) شاملاً للضرر الناشئ من قِبل تحكيمه وإلاّ لزم الخلف.

وبعبارة أخرى: إن (لا ضرر) يستلزم حرمة تصرف المالك في ماله، وهذه الحرمة لا يمكن رفعها ب-(لا ضرر) إذ نفي الحرمة بمعنى عدم جريان (لا ضرر)، وهذا يقتضي أن يلزم من وجود القاعدة عدمها.

وأجيب(2): بأن المنفي ب- (لا ضرر) ليس خصوص الأحكام المحققة كي يستلزم الخلف بالبيان المذكور، بل ينفى به الحكم الضرري المقدّر أيضاً،

ص: 427


1- منية الطالب 3: 428-429.
2- منتقى الأصول 5: 472.

بمعنى أنه لو كان حكم لكان ضررياً فيكون منفيّاً، وعليه فلا محذور في أن يشمل أحد أفراد (لا ضرر) حكماً ضررياً ناشئاً من فرد آخر، وذلك حيث إن نفي الضرر ينحلّ إلى أفراد متعددة بعدد الأفراد الضررية فيكون النفي المتعلّق بالحكم الناشئ من قاعدة لا ضرر غير النفي الذي ينشأ منه الحكم الضرري، فلا خلف لأن شمول (لا ضرر) للحكم الأول ليس متفرعاً على تحققه كي يكون نفيه مستلزماً لانتفاء نفس الفرد، بل يكون شموله متفرعاً على فرض وجوده وتقديره فيقال: الحرمة إذا ثبتت تكون ضررية فتنتفي ب-(لا ضرر)، وعليه فنفيه بهذا الفرد يكون منافياً لإثباته بالفرد الأول فيتحقق التعارض بينهما، فأحد الفردين من لا ضرر يستلزم ثبوت الحرمة، والآخر يستلزم نفيها ولا يكون الفرد الثاني من آثار الفرد الأول!!

وفيه: أنه مع جريان الدليل في السبب لا تصل النوبة إلى جريانه في المسبّب، فتأمل.

وثانياً: بما ذكره السيد الوالد(1)

بتعارض دليل السلطنة أيضاً، وذلك لأن (الناس مسلطون) له عقد إيجابي وهو جواز التصرّف في الملك، وعقد سلبي - يفهم بدلالة الإقتضاء - وهو حق منع الغير في ما زاحم سلطنة المالك، وإلاّ لم تكن سلطة، والعقد الإيجابي يجري في من يريد التصرّف، والعقد السلبي يجري في الجار حيث أجيز له منعه، فيتعارضان ويتساقطان فلا تجري قاعدة السلطنة أيضاً، فتأمل.

الدليل الثاني: إن حرمة الإضرار بالغير من الأحكام الأولية، فيكون (لا

ص: 428


1- موسوعة الفقه 78: 151-152.

ضرر) حاكماً عليه بالحكومة التضييقيّة.

وأجيب(1): أولاً: بأن ارتفاع الحرمة أيضاً ضرري كما أن الحرمة ضررية، أحدهما على المالك والآخر على الغير، ويستحيل حكومته عليهما لأنه من ارتفاع النقيضين، وحكومته على أحدهما ترجيح بلا مرجّح.

وفيه: أن الحكم الأوّلي هو الحرمة دون ارتفاع الحرمة. نعم، برفع الحرمة بدليل (لا ضرر) يتحقق ضرر على الغير، وهذا الضرر غير مرفوع لأنه متفرع على جريان لا ضرر فيكون مسبباً، فتأمل.

وثانياً: تقدم (لا ضرر) على حرمة الإضرار؛ لأنه في قضية سمرة لوحظ أولاً (لا ضرر) الدال على استحقاق سمرة الدخول في دار الأنصاري بلا استئذان، ثم رتب عليه حرمة الإضرار بعد تحقق صغراها، وعليه ف- (لا ضرار) في الرتبة المتأخرة عن (لا ضرر) فلا يكون حاكماً عليه.

وفيه: أن الإضرار بالغير حرام مع قطع النظر عن دليل (لا ضرر) فهو من العناوين الأولية، كما أنه لو كان ملاك الحكومة المسالمة فلا يشترط تقدم المحكوم رتبة، كما لا يشترط تقدمه زماناً مطلقاً سواء كان الملاك المسالمة أم النظر، فتأمل.

الدليل الثالث: عدم إطلاق (لا ضرر) فلا يشمل المقام؛ لأن الإطلاق يستلزم تعارض الصدر «لا ضرر» مع الذيل «لا ضرار»!

وأجيب: بأنه لا محذور في حكومة الصدر على الذيل فلا تعارض.

ص: 429


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرر: 331.

الدليل الرابع: إن (لا ضرر) للامتنان، فلا يشمل ضرر المالك وضرر الغير؛ لأن رفع الضرر عن كل منهما مخالف للامتنان على الآخر.

وفيه: ما مرّ من أنه لا دليل على كون المنّة علة فيه بحيث يدور الحكم مدارها.

الدليل الخامس(1): إن عموم السلطنة لا يشمل مورد ترتب الإضرار على الغير بسبب التسلط، فهل يمكن ادعاء أن عمومه يقتضي جواز تصرف المالك في سكينه بذبح شاة الغير؟! فهو لا يتكفل سوى جعل السلطنة في الجملة، فدليل السلطنة قاصر عن شمول ما نحن فيه كي يكون مشمولاً لنفي الضرر، فلا يبقى إلاّ حكم واحد هو حرمة الإضرار بالغير وهو حكم ضرري على المالك فيكون مرفوعاً ب- (لا ضرر) فيثبت جواز التصرف مع تدارك ضرر الغير بالضمان لو كان مالياً، وإلاّ فلا تدارك له.

ويرد عليه: أولاً: إن الإضرار بالغير تارة يكون عبر التصرف في مال الغير كمثال ذبح شاته، وتارة عبر ما لا يكون تصرفاً في ماله كمثل ما نحن فيه، والذي لا تجري فيه دليل السلطنة الأول لا الثاني، حيث لا مانع فيه من انصراف أو غيره، مع عموم أو إطلاق دليل السلطنة له في نفسه لولا حكومة لا ضرر، وعليه فهنا حكمان: جواز تصرف المالك في ماله وحرمة الإضرار بالغير، وحيث إنهما ضرريان فيرتفعان بدليل (لا ضرر)، فيبقى دليل السلطنة سليماً عن الحاكم أو المعارض.

وثانياً: إن تدارك ضرر الغير بالضمان إن أريد استفادته من نفس دليل

ص: 430


1- منتقى الأصول 5: 473.

(لاضرر) فمرجعه إلى تفسير لا ضرر ب- (لا ضرر غير المتدارك) وقد مرّ الإشكال فيه، إلاّ أن يستفاد الضمان من دليل آخر، وهو غير بعيد.

الدليل السادس: إن الجواز والإباحة لا يرفع بدليل لا ضرر؛ لأن جعل ذلك لا يلزم منه الضرر، كما أن رفعه لا يلزم منه رفع الضرر، فعدم جعل الإباحة لا يعني التحريم، بل يعني أن المولى لا دخل له في الفعل نفياً أو إثباتاً، كما أن عدم اللزوم أمر عدمي فلا يرفع بدليل لا ضرر حتى لو قيل بأن في رفعه رفعاً للضرر.

وفيه: ما مرّ من أن حصر التشريع بيد الشارع سبب لترتب الضرر على بعض أحكامه حتى لو كانت جوازاً وإباحة، فجعلها قد يلزم منه الضرر، كما أن رفعها قد يلزم منه رفع الضرر.

التنبيه الثامن: في تعارض الضررين
اشارة

وذلك قد يكونان في شخص واحد، أو في شخصين.

كما أنه قد يدور أمر الضرر الواحد بين شخصين، والكلام حينئذٍ تارة في تحمل الضرر عن الغير، وأخرى في توجيه الضرر من نفسه إلى غيره.

فهنا مطالب:

المطلب الأول: الضرران في الشخص الواحد

أما الحكم التكليفي:

فتارة: يدور الأمر بين ضررين مباحين، فلا إشكال في التخيير بينهما.

وتارة: بين ضررحرام تحمله وضرر مباح، كدوران أمره بين تلف نفسه أو تلف مال غير مهم، فلا إشكال في تقديم الضرر المباح.

ص: 431

وتارة: بين ضررين حرام تحملهما كتلف النفس أو العضو، فيكون من مصاديق التزاحم، والترجيح بالمرجحات التي ذكرناها في ما مضى.

وأما الحكم الوضعي:

فإن لم يكن الدوران بين الضررين بفعل إنسان آخر فلا معنى للضمان.

وأما إن كان بفعل آخر:

1- فإن كان الضرران مباحين، فلا إشكال في ضمانه إذا كان الضرران متساويين أو كانا متفاوتين واختار أخفهما.

وأما إذا اختار أشدهما فالأقرب ضمانه للقدر الجامع بينهما - وهو مقدار الأخف - ، كما لو أبعده إلى مكان وكان رجوعه يستدعي صرف مال، فبالسيارة ألف وبالقطار ألفان، فلو اختار القطار ضمن الآخر ألفاً فقط، وذلك لاضطراره إلى الجامع بينهما وليس هو مضطراً إلى المقدار الزائد.

وبعبارة أخرى: إن الغير لم يكن سبباً للضرر الزائد فلا وجه لضمانه فيه، لكنه كان سبباً للضرر الجامع فتجري عليه أدلة الضمان.

إن قلت: إن الضمان لا يتعلق بعنوان أحدهما لعدم وجوده في الخارج، وإنما الضمان يتعلق بالمعيّن وليس هو مضطراً إلى الأشد، بل ارتكبه باختياره، فلا وجه لأصل الضمان فيه.

قلت: أولاً: قد مرّ أن العنوان الجامع وإن لم يكن له وجود خارجي إلاّ أنه مرآة للأفراد الخارجية باعتبار انتزاعه منها فهو موجود انتزاعي بوجودها، كالكلي الطبيعي الذي هو موجود بوجود فرده بمعنى انتزاعه منه، وعليه فلا إشكال في اضطراره إلى الجامع بينهما بسبب الغير فيكون مضموناً عليه.

وإن أبيت عن ذلك قلنا: إن موضوع الضمان عرفي، والعرف يرى أن

ص: 432

الغير صار سبباً لاضطراره إلى الجامع وبتحقق الموضوع يترتب عليه الحكم الذي هو الضمان.

وثانياً: النقض بالضررين المتساويين حيث إن الغير لم يكن سبباً لاضطراره لا إلى هذا الفرد ولا إلى ذلك الفرد وإنما كان سبباً لاضطراره إلى الجامع، ولا إشكال في ضمانه، وما يقال هنا في تصحيح الضمان بالجامع يقال هناك أيضاً.

إن قلت: إن الغير لم يكن سبباً للضرر الأشد فلا وجه لأصل ضمانه.

قلت: كذلك لم يكن سبباً للضرر الأخف بخصوصياته، والحاصل: إن السببيّة إنما هي للجامع فيكون الضمان بمقداره، فتأمل.

2- وأما لو كان أحد الضررين حراماً والآخر مباحاً، فإن اختار المباح فلا إشكال في ضمان الغير، وأما إن اختار الحرام فقد يقال: بعدم ضمان الغير، وذلك لعدم الاضطرار إلى الحرام بعد تمكنه من المباح، ولا ينفع القول باضطراره إلى الجامع، وذلك لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي فينحصر اضطراره في الجامع في الفرد المباح دون الفرد الحرام.

ومن ذلك يعلم حكم دوران اضطراره بين حرامين، حيث إن كانا متساويين وسبّب الغير اضطراره إلى أحدهما كان ضامناً، وإن لم يكونا متساويين فإن اختار الأخف كان ضامناً وإلاّ فلا، فتأمل.

المطلب الثاني: الضرران في شخصين
اشارة

ومثاله دخول رأس دابة أحدهما في قِدْر الآخر بحيث لا يمكن الإخراج إلاّ بذبحها أو كسره، وهنا عدة صور:

ص: 433

الصورة الأولى: إذا كان بفعل أحدهما

1- فإن كان فعله بإذن الآخر، فلا وجه لضمان أيٍّ منهما، فإن اتفقا على شيء فهو، وإلاّ جاز لكل واحد منهما إتلاف مال نفسه لتخليص مال الآخر، ولا يجوز إتلاف مال الآخر حتى مع قصد إعطاء بدله له؛ لأنه تصرف في ماله من غير إذنه. نعم، لو كان إتلاف مال نفسه حراماً لدخوله تحت عنوان محرّم كالإسراف لزم مراجعة الحاكم الشرعي.

2- وإن لم يكن فعله بإذن الآخر، وكان إيقاع الضرر على نفسه مباحاً وجب ذلك عليه لتخليص مال الغير؛ إذ يجب عليه رفع العيب أو الضرر الذي أدخله على مال الغير، ومقدمة ذلك إتلاف مال نفسه فيجب، أما إذا كان إيقاع الضرر على نفسه حراماً كان من مصاديق باب التزاحم، وحينئذٍ فإن وقع الضرر على مال الغير كان المسبِّب ضامناً على كل حال لأنه السبب له، مثلاً لو أدخل رأس فرسه الذي قيمته مليون في قدر الغير الذي قيمته ألف فلا يجوز ذبح الفرس لعظيم الضرر، ومجرد كونه سبباً لا يكون علة لتحمله الضرر كما ذكرناه مفصلاً في بحث الغصب، وعليه لا بد من كسر القدر مع ضمان السبب.

الصورة الثانية: إذا كان بفعل ثالث

فأما الحكم التكليفي: فلا يجوز للثالث ولا لغيره التصرف إلاّ بإذنهما، فإن أذنا وكان المالين متساويين جاز إيقاع الضرر بأيهما من غير فرق، وإن أذن أحدهما في المتساويين فلا إشكال في جواز إيقاع الضرر بماله، وإن لم يأذن أيٌّ منهما فلا بد من رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، وهو يختار إيقاع الضرر على أحدهما بمرجّح شرعي كالقرعة، ويحتمل تخيّره لولايته، وأما

ص: 434

مع عدم التساوي وكان ضرر الأشد فاحشاً بحيث لا يقدم العقلاء على مثله فلا بد من اختيار إيقاع الضرر على الأخف، ولا ينفع إذن الآخر في إيقاع الضرر على ماله لأن الإذن لا يرفع الحرمة هنا.

وأما الحكم الوضعي: فهو ضمان الثالث لأنه السبب، إلاّ إذا كان فعله بإذنهما فيتوزع الضمان بينهما لأنهما كانا السبب فلا وجه لضمان أحدهما فقط أو ضمان الثالث.

الصورة الثالثة: إذا لم يكن بفعل أحد

1- فإن أراد أحدهما تخليص ماله دون الآخر فلا يجوز له إتلاف مال الآخر إلاّ بإذنه، وإن لم يأذن رفع أمره إلى الحاكم الشرعي، وأما الضمان فيوزّع بينهما ولا وجه لتخصيصه بالذي يريد تخليص ماله.

2- وإن أرادا كلاهما تخليص ماليهما، فإن تراضيا بإيقاع الضرر بمال أحدهما فهو، وكان الضرر بينهما بالسوية لقاعدة العدل، وإن لم يتراضيا رجعا إلى الحاكم الشرعي فيرجّح ضرر أحدهما بمرجّح شرعي وهو الأقل ضرراً، ومع التساوي اختيار الحاكم بولايته أو القرعة، وحينئذٍ فيكون الخسارة بينهما بالسوية لقاعدة العدل، لا على خصوص من خلّص ماله.

المطلب الثالث: في تحمّل الضرر المتوجه إلى الغير

كما لو توجه ضرر على إنسان بسبب ظالم أو آفة سماوية أو غير ذلك، فلا يجب على غيره توجيه الضرر إلى نفسه لدفع الضرر عنه، ولا إشكال في عدم وجوبه بما هو هو.

وقد يقال في سبب ذلك: إن (عدم وجوب دفع الضرر عن الغير) حكم ضرري على ذلك الغير، كما أن (وجوبه) ضرري على الإنسان، فيتعارضان

ص: 435

ويتساقطان، فلا بد من الرجوع إلى الأدلة الأخرى، ومقتضى أصالة البراءة عدم وجوب التحمّل.

نعم، بناءً على أن عِلّة رفع الضرر المِنّة فعدم جريان قاعدة (لا ضرر) إنّما هو لعدم المقتضي لها، لا لوجود المانع بالتعارض.

وأما بناءً على عدم جريان القاعدة في الأحكام العدمية، فلا تعارض وإنما تجري لرفع (وجوب دفع الضرر عن الغير) فإنه حكم ضرري على الإنسان فيرتفع بالقاعدة.

فرع: لو كان تحمل ذلك الضرر مباحاً فلا بأس بتحمل الإنسان ذلك الضرر عن الغير، كما لو أراد الظالم مصادرة مال زيد فيدفع عمرو مالاً إنقاذاً لمال زيد، بل لو انطبق عليه عنوان الإيثار أو عون الضعيف ونحو ذلك كان حسناً، أما لو لم يكن جائزاً كما لو أراد الظالم قتل زيد فيدفع عمرو عنه بتعريض نفسه للقتل فلا يجوز بما هو هو.

المطلب الرابع: في إلقاء الضرر المتوجه إليه على الغير

كما لو كان السيل متوجهاً إلى داره فيغيّر مجراه بحيث يتوجه إلى دار غيره.

قد يقال: إن كان المبنى أن (لا ضرر) يدلّ على النهي وعلى رفع الحكم الضرري، فهنا يتعارض ضرر الشخص وضرر جاره، فلا يجري الدليل، فيكون المرجع حينئذٍ العمومات الأولية الدالة على عدم جواز الإضرار بالغير ولو بالتسبيب فيضمنه.

وإن كان المبنى رفعه للحكم الضرري فقط فهنا حكمان ضرريان هما: (عدم جواز توجيه الضرر إلى الغير) و(عدم جواز تحمل الضرر) ورفعهما

ص: 436

بدليل لا ضرر يستلزم التعارض فيه فلا يجري فيجوز توجيه الضرر إلى الغير مع ضمانه لعدم المحذور في جريان أدلة الضمان.

وفيه: أن (لا ضرر) لا ينفي حكماً إذا استلزم نفيه ضرراً؛ لأنه إما للمِنّة، ولا مِنّة في دفع ضرر عن إنسان بإلقائه على آخر، أو لاستلزامه التناقض في الدليل؛ لأن الدليل لرفع الضرر فلا يعقل أن يكون منشأً للضرر، أو لانصراف الدليل عنه، أو لغير ذلك.

لا يقال: إن ضرر الغير متدارك بالضمان، والتدارك يرفع صدق الضرر، وحتى لو صدق الضرر فإن هذا الضرر غير مرفوع؛ لأنه لا ينافي ملاك لا ضرر بعد الضمان.

لأنه يقال: إن تدارك العمل الحرام بالضمان وغيره لا يرفع حرمته، وإضرار الغير حرام فلا ترتفع الحرمة بالضمان، كما أن الضرر يصدق حتى مع التدارك، فالتدارك رفع من حينه لا من حين وقوع الضرر، فتأمل.

فرع: لو علم أنه بفراره من الضرر يتوجه الضرر إلى الغير، كما لو أراد الظالم اعتقاله ففرّ وهو يعلم أن الظالم سيعتقل أخاه، أو رأى توجه السهم إليه فغيّر مكانه مع علمه بأن السهم سيصيب غيره، فهنا لا حرمة ولا ضمان وذلك لعدم كونه سبباً لتوجه الضرر إلى الغير.

شعبان / 1440ه-

ص: 437

ص: 438

فهرست الموضوعات

المقصد التاسع في أصالة البراءة

فصل الآيات القرآنية الدالة على البراءة

الآية الأولى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ ...}............................................................................. 8

الآية الثانية: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا ...}...................................................................... 16

الآية الثالثة: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ ...}................................................................. 20

الآية الرابعة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَۢا ...}................................................................. 21

فصل في الروايات الدالة على البراءة

الحديث الأول: حديث الرفع....................................................................................... 24

المبحث الأول: في فقه الرفع.................................................................................. 24

المطلب الأول: في كلمة الرفع.......................................................................... 24

المطلب الثاني: في المرفوع............................................................................... 26

المطلب الثالث: الآثار التي موضوعها الخطأ والنسيان ونحوهما...................... 31

المطلب الرابع: الامتنان في الرفع....................................................................... 34

المطلب الخامس: آثار لا ترفع بحديث الرفع................................................... 34

المطلب السادس: شمول الرفع للأمور العدمية.................................................. 39

المطلب السابع: بقاء الأمر بالمركب مع رفع بعض أجزائه................................ 41

المبحث الثاني: في فقه ما لا يعلمون...................................................................... 42

المطلب الأول: في شموله للشبهات الحكمية والموضوعية............................. 42

ص: 439

المطلب الثاني: في كون الرفع ظاهرياً لا واقعياً................................................ 50

المطلب الثالث: الرفع في الأحكام غير الإلزامية............................................... 53

المبحث الثالث: في فقه رفع النسيان....................................................................... 56

المطلب الأول: نسيان الجزء أو الشرط في العبادة............................................ 56

المطلب الثاني: نسيان السبب أو الشرط في المعاملة......................................... 59

المبحث الرابع: في فقه رفع الإكراه........................................................................ 60

المطلب الأول: في معنى الإكراه وكون رفعه واقعياً...................................... 60

المطلب الثاني: شمول رفع الإكراه للعبادات والمعاملات................................ 61

المطلب الثالث: الإكراه بترك الجزء أو الشرط أو فعل القاطع أو المانع في العبادة... 62

المطلب الرابع: في تعلق الإكراه بالأسباب وبعدمها.......................................... 62

المطلب الخامس: في الإتيان بالعمل مع انطباق عنوان الإكراه........................ 63

المطلب السادس: المرفوع الإكراه المطلق....................................................... 65

المبحث الخامس: تقدّم دليل الرفع على أدلة الأحكام....................................... 66

الحديث الثاني: حديث الحجب................................................................................... 67

الحديث الثالث: حديث السعة...................................................................................... 72

الحديث الرابع: حديث الإطلاق................................................................................... 74

الحديث الخامس: حديث الحل.................................................................................. 79

الحديث السادس: حديث ما فيه حلال وحرام............................................................. 82

الحديث السابع: حديث ركوب الأمر بجهالة............................................................... 83

الحديث الثامن: حديث الاحتجاج بما آتاهم............................................................... 84

الحديث التاسع: حديث العذر بجهالة.......................................................................... 86

فصل في دلالة العقل على البراءة

المبحث الأول: في تقرير جريانها................................................................................. 89

المبحث الثاني: نسبتها إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل................................. 93

المقام الأول: في دفع الضرر المحتمل................................................................... 93

ص: 440

المقام الثاني: في النسبة بين القاعدتين.................................................................... 95

فصل في دلالة الاستصحاب على البراءة

الاستصحاب الأول: استصحاب البراءة حال الصغر............................................. 102

الاستصحاب الثاني: استصحاب البراءة قبل الشريعة أو أوائلها............................ 105

الاستصحاب الثالث: استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ................................. 106

إشكالات عامة على استصحاب البراءة............................................................. 106

فصل في ما استدل به على الاحتياط

الدليل الأول: الكتاب................................................................................................. 111

الدليل الثاني: السنة المطهرة....................................................................................... 112

الطائفة الأولى: الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة.......................................... 113

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط مطلقاً..................................................... 121

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث................................................................................. 128

الدليل الثالث: العقل................................................................................................... 131

الدليل العقلي الأول: العلم الإجمالي.................................................................... 131

الدليل العقلي الثاني: قبح التصرف....................................................................... 137

تنبيهات....................................................................................................................... 137

التنبيه الأول: في الاحتياط في مشكوك الأمر...................................................... 137

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط.......................................................................... 146

شروط حسن الاحتياط.................................................................................... 147

تكملة: في التبعيض في الاحتياط................................................................... 149

التنبية الثالث: في البراءة في الشبهات الموضوعية............................................... 149

فصل في التسامح في أدلة السنن

المطلب الأول: في دليلها الشرعي.............................................................................. 151

المطلب الثاني: الأقوال في المسألة............................................................................. 152

ص: 441

المطلب الثالث: الثمرة بين الأقوال............................................................................. 163

المقام

الأول: الثمرة بين القول الأول والثاني....................................................... 163

المقام الثاني: في ثمرة القول الثالث..................................................................... 166

المطلب الرابع: من فروع القاعدة................................................................................ 167

الفرع الأول: هل أخبار من بلغ تشمل فتوى الفقيه بالاستحباب.......................... 167

الفرع الثاني: في المكروهات............................................................................... 168

الفرع الثالث: في الفضائل والمصائب ونحوهما.................................................. 169

الفرع الرابع: في منقولات العامة في المستحبات................................................. 171

الفرع الخامس: في شمول من بلغ للخبر الضعيف الدال على الوجوب.............. 171

الفرع السادس: في إطلاق الفتوى بالاستحباب................................................... 174

الفرع السابع: لو تعارض الخبر الضعيف الدال على الاستحباب

مع الخبر الصحيح الدال على عدمه 176

الفرع الثامن: في تقوية الدلالة الضعيفة بأخبار من بلغ........................................ 176

الفرع التاسع: هل تترتب جميع آثار المستحب الواقعي...................................... 177

فصل في الدوران بين المحذورين

البحث الأول: في التوصليين....................................................................................... 179

القول الأول: تقديم جانب الحرمة....................................................................... 179

القول الثاني: التخيير.............................................................................................. 180

القول الثالث: الإباحة الشرعية.............................................................................. 183

القول الرابع: البراءة عقلاً وشرعاً.......................................................................... 186

تذنيب: هل التخيير ابتدائي أم استمراري؟...................................................... 189

البحث الثاني: في ما لو دار بين تعبدي وتوصلي........................................................ 191

البحث الثالث: الدوران بين المحذورين في الواجبات الضمنيّة................................. 193

فرع:

في أهمية أحد الطرفين أو احتمالها............................................................. 194

ص: 442

فصل في اشتراط البراءة بالفحص

المبحث الأول: اشتراط الفحص في البراءة العقلية.................................................... 197

المطلب الأول: الاشتراط في الشبهة الحكمية..................................................... 197

المطلب الثاني: الاشتراط في الشبهة الموضوعية................................................. 200

المبحث الثاني: اشتراط الفحص في البراءة الشرعية.................................................. 201

المقام الأول: في الشبهات الحكمية..................................................................... 201

المقام الثاني: في الشبهات الموضوعية................................................................. 205

التفصيلات............................................................................................................ 209

المبحث الثالث: في مقدار الفحص............................................................................ 211

المبحث الرابع: آثار البراءة قبل الفحص.................................................................... 212

المقام الأول: في استحقاق العقوبة....................................................................... 212

المطلب الأول: في أصل استحقاقه................................................................. 212

المطلب الثاني: في عموم استحقاقه................................................................. 214

المقام الثاني: في الحكم الوضعي......................................................................... 216

فرع: في الجاهل بالقصر والجهر والإخفات................................................... 216

تكملة: في شروط أخرى لجريان البراءة............................................................. 220

المقصد العاشر في أصالة الاحتياط

فصل في الدوران بين المتباينين

المبحث الأول: في الشبهة المحصورة....................................................................... 228

المطلب الأول: حرمة المخالفة القطعية................................................................ 228

المطلب الثاني: وجوب الموافقة القطعيّة.............................................................. 229

المطلب الثالث: في جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي............. 233

المقام الأول: في إمكان جريانها في جميع الأطراف..................................... 233

المقام الثاني: إمكان جريان الأصول العملية في بعض الأطراف................... 237

المقام الثالث: في عدم وقوع الترخيص في جميع الأطراف.......................... 239

ص: 443

الأمر الأول: في جريان الاستصحاب في جميع الأطراف......................... 239

الأمر الثاني: في جريان البراءة في جميع الأطراف................................... 242

المقام الرابع: في وقوع الترخيص في بعض الأطراف.................................... 243

المطلب الرابع: الاضطرار إلى بعض الأطراف................................................... 248

الحالة الأولى: الاضطرار إلى المعيّن.......................................................... 248

الحالة الثانية: الاضطرار إلى غير المعيّن........................................................ 254

تتمة: في التوسط في التكليف................................................................... 255

المطلب الخامس: في خروج بعض الأطراف عن الابتلاء................................... 257

تتمة: في الشك في الخروج عن محل الابتلاء................................................ 261

المبحث الثاني: في الشبهة غير المحصورة................................................................. 264

المطلب الأول: في ملاك عدم الانحصار............................................................. 264

المطلب الثاني: في عدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة........................... 267

المطلب الثالث: في عدم جواز المخالفة القطعية................................................. 271

المطلب الرابع: شبهة الكثير في الكثير................................................................. 273

المطلب الخامس: عدم سقوط حكم الشك عن أطراف غير المحصورة............ 273

تنبيهات العلم الإجمالي بين المتباينين....................................................................... 274

التنبيه الأول: حكم ملاقي بعض الأطراف........................................................... 274

الصورة الأولى: تأخر الملاقاة والعلم بها عن العلم الإجمالي........................ 275

الصورة الثانية: تقدم الملاقاة والعلم بها على العلم الإجمالي......................... 282

الصورة الثالثة: توسط العلم الإجمالي بين الملاقاة وبين العلم بها.................. 284

الصورة الرابعة: خروج الملاقى عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي......... 285

الصورة الخامسة: حدوث علم إجمالي ثاني.................................................. 286

التنبيه الثاني: العلم الإجمالي في التدريجيات...................................................... 287

التنبيه الثالث: في زيادة آثار أحد الأطراف......................................................... 290

التنبيه الرابع: في امتناع أحد الطرفين شرعاً.......................................................... 293

ص: 444

التنبيه الخامس: تفرع أحد التكليفين على الآخر............................................... 294

التنبيه السادس: في انحلال العلم الإجمالي.......................................................... 295

التنبيه السابع: في اشتراك علمين إجماليين في أحد الأطراف............................. 299

التنبيه الثامن: في جريان الاستصحاب في أحد الطرفين...................................... 301

فصل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

المبحث الأول: الدوران بين الأقل والأكثر في الجزء................................................ 303

المطلب الأول: في البراءة العقلية في الارتباطيين................................................ 303

المطلب الثاني: في البراءة الشرعية في الارتباطيين.............................................. 320

المطلب الثالث: في الاستصحاب في الارتباطيين................................................ 321

المقام الأول: في الاستدلال به على وجوب الأكثر..................................... 322

المقام الثاني: في الاستدلال به على عدم وجوب الأكثر............................... 323

المبحث الثاني: الدوران بين الأقل والأكثر في الشرط............................................... 326

المبحث الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصِّلات............................... 327

المبحث الرابع: دوران الأمر بين التعيين والتخيير....................................................... 330

تنبيهات....................................................................................................................... 337

التنبيه الأول: في نقصان الجزء أو الشرط لعذر.................................................... 337

التنبيه الثاني: في زيادة الجزء................................................................................ 345

التنبيه الثالث: الدوران بين الشرطية أو الجزئية والقاطعية أو المانعيّة................... 346

فصل في قاعدة الميسور

الاستدلال بالروايات.................................................................................................. 348

الاستدلال بالأصول العملية........................................................................................ 352

تتمات قاعدة الميسور................................................................................................. 356

التتمة الأولى: هل يشترط كون الميسور والمعسور من جنس واحد؟.............. 356

التتمة الثانية: المعسور في المستحبات.................................................................. 356

التتمة الثالثة: في جريان القاعدة في الشرط......................................................... 357

ص: 445

التتمة الرابعة: الدوران بين ترك الجزء أو الشرط................................................. 358

التتمة الخامسة: الدوران بين البديل والمبدل الناقص.......................................... 359

التتمة السادسة: القاعدة في المحرمات................................................................ 360

التتمة السابعة: في إطلاق دليل الجزء................................................................... 360

التتمة الثامنة: خروج بعض الموارد عن القاعدة................................................... 361

التتمة التاسعة: التعذّر بسوء الاختيار..................................................................... 361

التتمة العاشرة: شمول القاعدة للأحكام الوضعيّة................................................. 362

فصل في قاعدة لا ضرر

البحث الأول: في دليل القاعدة.................................................................................. 363

البحث الثاني: في مفردات القاعدة، وهي (لا) و(ضرر) و(ضرار).............................. 369

المفردة الأولى: الضرر.......................................................................................... 369

المطلب الأول: في معنى الضرر...................................................................... 369

المطلب الثاني: في ضد الضرر........................................................................ 370

المطلب الثالث: في عدم النفع......................................................................... 370

المطلب الرابع: في تقابل النفع والضرر........................................................... 371

المفردة الثانية: الضرار........................................................................................... 373

المقام الأول: في معنى باب المفاعلة.............................................................. 373

المقام الثاني: في معنى الضرار........................................................................ 377

المفردة الثالثة: (لا)، والهيأة التركيبيّة................................................................... 379

1- نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.............................................................. 379

2- الدلالة على النهي...................................................................................... 382

الاتّجاه الأول: أن يكون نهياً تكليفياً بحتاً................................................. 382

الاتّجاه الثاني: كونه نهياً تكليفياً وإرشاداً إلى الفساد............................... 386

الاتّجاه الثالث: كونه نهياً ولائياً................................................................. 387

الاتّجاه الرابع: كونه نفياً أريد ملزومه وهو النهي...................................... 388

ص: 446

3- رفع الحكم الضرري................................................................................. 390

التقريب الأول............................................................................................ 390

التقريب الثاني............................................................................................ 391

4- نفي الضرر غير المتدارك.......................................................................... 398

تنبيهات....................................................................................................................... 400

التنبيه الأول: في انطباق القاعدة على قضية سمرة............................................... 400

التنبيه الثاني: في كثرة تخصيصات القاعدة...................................................... 404

التنبيه الثالث: في أن الضرر المرفوع شخصي أم نوعي؟..................................... 408

التنبيه الرابع: في الإقدام على الضرر..................................................................... 412

التنبيه الخامس: في أن المنفي هو الضرر الواقعي دون الضرر المعلوم............... 413

المطلب الأول: في الوضوء الضرري ونحوه................................................... 414

المقام الأول: حالة الجهل بالضرر.............................................................. 414

المقام الثاني: حالة العلم بالضرر................................................................ 417

المطلب الثاني: في خيار الغبن ونحوه............................................................. 418

المقام الأول: مع العلم بالغبن..................................................................... 419

المقام الثاني: مع الجهل بالغبن................................................................... 420

التنبيه السادس: في رفع الأحكام العدمية بدليل لا ضرر...................................... 420

التنبيه السابع: نسبة دليل لا ضرر إلى الأدلة الأخرى............................................ 422

المطلب الأول: نسبته إلى أدلة العناوين الأولية............................................... 422

المطلب الثاني: النسبة بين لا ضرر وبين أدلة الأحكام الثانوية....................... 425

فرع: في نسبة قاعدة لا ضرر مع قاعدة السلطنة.............................................. 426

التنبيه الثامن: في تعارض الضررين...................................................................... 431

المطلب الأول: الضرران في الشخص الواحد................................................ 431

المطلب الثاني: الضرران في شخصين............................................................ 433

الصورة الأولى: إذا كان بفعل أحدهما.................................................... 434

ص: 447

الصورة الثانية: إذا كان بفعل ثالث.................................................... 434

الصورة الثالثة: إذا لم يكن بفعل أحد.................................................... 435

المطلب الثالث: في تحمّل الضرر المتوجه إلى الغير................................... 435

المطلب الرابع: في إلقاء الضرر المتوجه إليه على الغير.................................. 436

فهرست الموضوعات................................................................................................. 439

ص: 448

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.