نبراس الاصول المجلد 3

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الثالث

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

ص: 3

ص: 4

المقصد السادس في الحكومة والورود

اشارة

ص: 5

ص: 6

تمهيد

إن تعدّد الأدلة أو الأصول قد يوجب تعارضاً مستقراً بينهما أو تزاحماً، فيقتضي ذلك ترجيح أحدهما على الآخر أو تساقطهما أو التخيير بينهما، وقد لا يوجب تعارضاً ولا تزاحماً فيتقدم أحدهما على الآخر لجهة من الجهات، ومن هذا الحكومة والورود، فلا بأس بتعريفهما وبيان فرقهما عن التخصيص والتقييد والتخصص.

1- أما الحكومة: فهي نظر أحد الدليلين بلفظه إلى الآخر، أو نظره إلى ارتكاز ذهني، وبذلك يتصرف الدليل في حكم الدليل الآخر أو في ذلك الارتكاز، وذلك يكون عبر تضييق الموضوع، أو عبر توسيعه، أو عبر بيان عدم شمول الحكم لبعض أفراد الموضوع بلسان مسالم غير معارض، فمن الأول: قوله (علیه السلام): «لا سهو في النافلة»(1)، وفيه رفع أحكام الشك عنها الثابتة بأدلة الشكيّات بلسان نفي الموضوع، ومن الثاني: قوله (علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(2)، بتوسيع الصلاة ليشمل الطواف ليجري عليه بعض أحكام الصلاة كوجوب الوضوء، ومن الثالث قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(3)،

حيث يرفع الأحكام الأولية في حالة الحرج بلسان ناظر مسالم،

ص: 7


1- تهذيب الأحكام 3: 54.
2- مستدرك الوسائل 9: 410.
3- سورة الحج، الآية: 78.

ولا بد في القسمين الأولين من نظر الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، وأما في الثالث فيكفي فيه النظر إلى المرتكزات الذهنية للمخاطب أو توهماته حتى وإن لم يكن هناك دليل آخر ينظر إليه، كما سيأتي تفصيله.

2- وأما الورود: فهو خروج الشيء عن موضوع أحد الدليلين حقيقة بعناية التعبد بالآخر، فالورود يكون بسبب التعبد في موضوع بحيث يوجب خروج بعض الأفراد عن الدليل الآخر حقيقة، مثلاً حجية الأمارات أمر تعبدي، وهو بيان قطعاً، فيوجب خروجها حقيقة عن موضوع (قبح العقاب بلا بيان).

3- وأما التخصّص: فهو خروج الأفراد عن موضوع الدليل حقيقة وبالذات، من غير حاجة إلى تعبد، مثل خروج الجاهل تكويناً عن موضوع قول المولى: (أكرم العلماء). ومثل خروج الصوم عن موضوع قوله: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ}(1)

فهذا وإن لم يكن خروجاً تكوينياً إلاّ أنه خروج حقيقي عن ماهية الصلاة التي هي أمر اعتباري.

4- وأما التخصيص: فهو نفي الحكم عن بعض أفراد العام من غير تصرف في الموضوع ويكون ذلك بنحو المعارضة غير المستقرة من غير مسالمة، مع تقدم الخاص بحكم العقل بعدم إرادة العموم من العام حسب المراد الجدي.

5- وأما التقييد: فهو كالتخصيص إلاّ أنه بالنسبة إلى المطلق.

ونتيجة الورود كنتيجة التخصّص، ونتيجة الحكومة كنتيجة التخصيص

ص: 8


1- سورة الإسراء، الآية: 78.

في غير الحكومة التوسيعيّة.

6- وقد أضاف السيد الأخ: «التخريج، وهو كالورود إلاّ أن الخروج ليس بعناية التعبد، كنسبة الأدلة الموجبة للعلم - الذي هو حجة بالذات من غير عناية التعبد - مع الأصول العملية، فإنها رافعة لموضوعها بالذات»(1)، فيكون التخريج برزخاً بين الورود والتخصّص، فتأمل.

والكلام في هذا المقصد في الأولين.

ص: 9


1- كتاب التعادل والتراجيح، الحكومة والورود: 9 (مخطوط).

فصل فی الحكومة

اشارة

والكلام فيها في ضمن مباحث:

المبحث الأول: في تقسيمات الحكومة

اشارة

وهي تقسيمات متعددة، وقد يتداخل بعضها، وهي تارة باعتبار الموضوع أو الحكم، وتارة باعتبار الإثبات أو النفي، وتارة باعتبار الواقع أو الظاهر، وتارة يرتبط بكيفيتها بنفسها، وغير ذلك.

ويمكن جمع كل هذه التقسيمات في عبارة واحدة بأن يقال: إن الحكومة إما بلسان التفسير أو التنزيل أو السلب، وهي إما واقعية أو ظاهرية، والواقعية إما في الموضوع أو في الحكم، وفيهما إما للتضييق أو التوسعة، وما في الموضوع إما بيان الفردية أو عدمها حقيقة أو ادعاءً أو اعتباراً أو تنزيلاً من غير بيان أنه حقيقي أو ادعائي أو اعتباري، وما في الحكم إما إثبات الحكم نفسه أو حكم مماثل، كما أنه قد يكون نفي الحكم الثابت أو نفي طبيعة توهم تعلّق الحكم بها.

التقسيم الأول: تقسيمها إلى حكومة واقعية، وحكومة ظاهرية

1- أما الحكومة الواقعية: فهي التي لم يؤخذ في الدليل الحاكم الشك بالدليل المحكوم، بل يكون الدليلان - الحاكم والمحكوم - في رتبة واحدة.

مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}(1)،

وقوله (علیه السلام): «ليس بين الرجل وولده

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 275.

ربا»(1)،

حيث لم يؤخذ في الحديث الشك في موضوع الربا ولا في حكمه، بل أخرج الربا بينهما عن موضوع الربا تعبداً لكي يخرج عن حكمه بالحرمة، فالدليل الحاكم يبيّن الحكم الواقعي لمصاديق من الموضوع، فلا فرق بين حالة العلم والجهل كسائر الأحكام الواقعية.

2- وأما الحكومة الظاهرية: فهي التي أخذ في الدليل الحاكم الشك بموضوع حكم الدليل المحكوم، وعليه فيكون موضوع الدليل الحاكم متأخراً رتبة، فلا توسعة ولا تضييق واقعاً؛ لأن الشك قد أخذ فيه، كسائر الأحكام الظاهرية حيث يترتب عليها آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف.

مثلاً: استصحاب الملكية يُخرج الشيء عن موضوع أدلة عدم جواز بيع الوقف؛ لأن الاستصحاب في ظرف الشك يُخرج الشيء عن كونه وقفاً، لكنه إخراج في الظاهر ما دام الشك مستمراً، فلو علم بالوقف أو قامت به الأمارة زال الاستصحاب لتحقق غايته في قوله (علیه السلام): «ولكن ينقضه بيقين آخر»(2).

قال المحقق النائيني: «إن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضييق في الموضوع الواقعي بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأول، كما في قوله (علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(3)،

وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية... فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي،إلاّ على بعض وجوه جعل المؤدّى الذي يرجع إلى التصويب، وأما بناءً على

ص: 11


1- الكافي 5: 147؛ جامع أحاديث الشيعة 23: 492، وفيه: «ليس بين الوالد وولده رباً».
2- تهذيب الأحكام 1: 8.
3- مستدرك الوسائل 9: 410.

المختار من عدم جعل المؤدّى وأن المجعول فيها الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، فيكون المجعول في باب الطرق والأمارات والأصول في طول الواقع لا عرضه»(1).

والحاصل: أن الحكومة الظاهرية ليست نفياً للحكم الواقعي، وإلاّ لزم التصويب، كما أنه لا يثبت بها حكم ظاهري لعدم القول به، بل مرجعها إلى نفي الحكم ظاهراً بمعنى أن احتماله ليس بمنجّز، أو إثبات وظيفة للمكلّف بالتعامل مع الحالة كما لو كان الحكم الواقعي ثابتاً، فمن الأول حكومة مثل قوله (علیه السلام): «كل شيء لك حلال»(2) على أدلة الأحكام الواقعية حين الشك فيها، ومن الثاني حكومة مثل استصحاب الملكية على أدلة الوقف حين الجهل به.

ثم إن المحقق الروحاني استثنى من ذلك ما إذا لم يكن لضد الواقع أثر شرعي، فذهب إلى بقاء الحكومة حتى بعد زوال الشك - وإن لم تكن حكومة اصطلاحية لعدم وجود النظر فيها - قال: «[وتارة] لا يكون للموضوع الظاهري الثابت بالدليل ضدٌ ذو أثر مناقض لأثره، نظير الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة، فإنه ليس للنجاسة أثر يناقض الشرطية، وهو المانعية عن الصلاة؛ إذ لم تؤخذ النجاسة مانعاً، بل المأخوذ هو الطهارة في موضوع الشرطية - وقد تقرر أن أحد الضدين إذا أخذ شرطاً امتنع أخذ الضد الآخر مانعاً لتساوي الضدين رتبة، واختلاف الشرط والمانع في الرتبة - ... كان

ص: 12


1- فوائد الأصول 3: 19-20.
2- الكافي 6: 339.

ثبوت ذلك الأثر للموضوع المجعول ثبوتاً واقعياً، بمعنى أنه يثبت له في مرحلة الواقع ونفس الأمر؛ إذ هو فرد من أفراد موضوعه ولو في ظرف معيّن، فيثبت له واقعاً بمقتضى دليله الخاص، ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية في الصلاة، فإن الدليل الذي يثبت الطهارة ويكوّنها ويعتبرها في مرحلة الشك يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعاً؛ لأن موضوعها هي الطهارة وهي أمر اعتباري، واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك تحقق فرد تكويني لها، فتثبت له واقعاً من دون مانع، فيكون حال دليل الطهارة حال الدليل المتكفل اعتبار الطهارة إذا طهر النجس في الكرّ في ثبوت الشرطية لها واقعاً؛ لأنها فرد من الموضوع»(1).

وقال أيضاً: «[ولا تصويب فيه]؛ إذ لا مانع من ثبوت الحكم واقعاً للموضوع باعتبار عدم ترتب الأثرالمناقض على ضده - لو كان ثابتاً في الواقع - مع وجود المقتضي وهو كونه فرداً للموضوع تكويناً، فحينئذٍ ثبوت الحكم ثبوتاً واقعياً لا يتصور فيه انكشاف الخلاف، بل يرتفع بارتفاع موضوعه لانكشاف الخلاف في موضوعه»(2).

وحاصله: أن الشرط الواقعي للصلاة هي الطهارة - سواء كانت واقعية أم ظاهرية - ، فكما يتحقق الشرط مع غسل المتنجس بالكر، كذلك يتحقق باستصحاب الطهارة، وأما مع وجود أثر مناقض للضد فيتعارض الأثران والترجيح لدليل الحكم الواقعي.

ص: 13


1- منتقى الأصول 2: 50-51.
2- منتقى الأصول 2: 52.

ويرد عليه: أولاً: إن كون الطهارة اعتباراً شرعياً - لو فرض صحته وعدم كونها واقعاً كشف عنه الشارع - لا يلزم منه جعل فرد تكويني لها باعتبار آخر، وذلك للفرق بين المعت-بَرين - بالفتح - لأن أحدهما اعتبار واقعي لا يرتبط بحالة الشك، والآخر اعتبار ظاهري خاص بحالة الشك، ومجرد اعتباريتهما لا يكفي في جعل أحدهما مصداقاً للآخر، وعليه فحيث إن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية فالطهارة الظاهرية ليست طهارة وإنما توهم طهارة، والاعتبار في حالة الشك لا يجعلها طهارة وإنما يبيّن الوظيفة العملية.

والحاصل: أن ظاهر أخذ الشارع شيئاً في الموضوع هو أخذ ذلك الشيء بوجوده الواقعي لا بوجوده المعلوم.

وثانياً: إن التفريق بين وجود أثر مناقض للضد وعدم وجوده لا وجه له؛ إذ مع وجود أثر مناقض للضد يلزم دخولهما في باب التزاحم، لا التعارض ومن ثم ترجيح الحكم الواقعي لئلا يلزم التصويب! وذلك لأنه على كلامه كلاهما أمران اعتباريان، ففي المثال: الملكية اعتبارية، والوقفيّة أيضاً اعتبارية، فاعتبار الملكية بالاستصحاب يقتضي ثبوت أثرها واقعاً وهو صحة البيع، واعتبار الوقفية يقتضي ثبوت أثرها أيضاً وهو بطلان البيع، فيتزاحمان لكون الأثرين واقعيين، ولا تصويب هنا؛ وذلك لتحقق موضوع الأثر الواقعي، فتأمل.

وثالثاً: إن الطهارة الظاهرية لا تنسجم مع مبنى التنجيز والتعذير، فلا حكم ظاهري للشارع بها، ليترتب عليها آثار الطهارة واقعاً.

وعليه فإن الحكم بصحة الصلاة إنما هو بالدليل الخاص الدال على رفع الشارع يده عن شرطية الطهارة من الخبث في حالة الجهل به، فتأمل.

ص: 14

التقسیم الثاني: تقسيمها إلى حكومة توسيعيّة وتضييقيّة

1- أما التوسيعيّة: فهي إدخال ما ليس من الموضوع فيه، ليشمله حكمه، وذلك بأن ينزّل شيئاً منزلة شيء آخر بغرض شمول حكمه له، وبعبارة أخرى: إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع.

ومثاله: «الطواف بالبيت صلاة»، بغرض إثبات بعض أحكام الصلاة كالطهارة من الحدث والخبث للطواف.

ومثل: (الفقاع خمر) ، لإثبات أحكام الخمر كالحرمة والحدّ عليه، وهناك احتمال آخر فيه وسيأتي.

2- وأما التضييقيّة: فهي إخراج بعض أفراد الموضوع عنه كي لا يشمله حكمه، وبعبارة أخرى: نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

ومثاله: (لاربا بين الوالد والولد)، حيث يراد إثبات جواز أخذ الوالد الزيادة عن ولده ولكن بلسان نفي كونه من الربا.

وغير خفي أن كلا القسمين يرتبطان أولاً وبالذات بالموضوع - توسعةً أو تضييقاً - ولكن المقصد الأساسي هو إثبات الحكم أو نفيه.

وقد يشتمل الدليل الحاكم على كليهما بأن يكون تضييقاً في موضوع دليل وتوسعةً في موضوع دليل آخر، كما لو قال: (ابن المسلم مسلم) فالإسلام باعتبار كونه اعتقاداً بالقلب وإقراراً باللسان لا يتصوّر في الرضيع مثلاً، إلاّ أن هذا الدليل يوسّع الموضوع - وهو المسلم - ليشمله، والغرض إثبات أحكام المسلم عليه كالطهارة والإرث ونحو ذلك، كما أنه يضيّق موضوع أدلة غير المسلم بحيث لا تشمل أولاد المسلمين، والغرض نفي أحكامهم عنهم كالنجاسة وعدم إرثهم من المسلمين، وغير ذلك، فتأمّل.

ص: 15

وفي هذه الحالة قد تكون التوسعة والتضييق في عرض واحد، وقد يراد أحدهما بالأصالة والآخر بالعرض.

التقسیم الثالث: تقسيمها إلى شرح عقد الوضع وشرح عقد الحمل

1- وشرح عقد الوضع: بأن يكون نظر الحاكم إلى الموضوع أو متعلّقه - توسعة أو تضييقاً - .

وقد مرّ مثال الأول في التقسیم السابق، وأما مثال الثاني فكما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (إن العرفان ليست بعلم).

2- شرح عقد الحمل: بأن يكون نظر الحاكم إلى الحكم أو متعلقه - توسعة أو تضييقاً - ومثل المحقق النائيني للأول بمثل: (وجوب الإكرام ليس في مورد زيد)، وللثاني بمثل: (الإكرام ليس بالضيافة)(1)، وذلك في مثل (العلماء يجب إكرامهم).

وأشكل على المثال الأول: بأنه تخصيص وليس حكومة؛ وذلك لمعارضته مع العام، حيث إنه ينفي الحكم الذي يثبته العام بالصراحة، ولا يكفي مجرد النظر ليجعل الناظر حاكماً، بل لا بد من نظر ٍ رافع ٍ للمعارضة من بعض الجهات، كما سيأتي بيانه.

التقسیم الرابع: تقسيمها إلى إثبات الحكم نفسه أو إثبات حكم مماثل

1- إثبات نفس الحكم: في ما لو كان الموضوع في المحكوم ماهية تكوينية أو ماهية شرعية ذات حكم شرعي فيتم بالدليل الحاكم فرض فرد ليس من تلك الماهية على أنه منها، فيجري فيه نفس الحكم المذكور في

ص: 16


1- منية الطالب 3: 408-409.

المحكوم، كالمثال المتقدم في ولد المسلم.

2- إثبات حكم مماثل: في ما كان لسان الدليل في الحاكم ناظراً إلى إثبات الشرطية أو المانعية الثابتة بالدليل المحكوم، مثل: «الطواف بالبيت صلاة»، حيث احتمل البعض بأنّه يراد به إثبات شرطية الطهارة ومانعية أجزاء غير مأكول اللحم مثلاً للطواف، وهو حكم مماثل للشرطية والمانعية الثابتة للصلاة، لا أنه يراد إدخال الطواف في موضوع قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلاّ بطهور»(1)، فتأمّل.

ولعل كيفية النظر هذه تؤثر في عموم أحكام المحكوم للحاكم أو خصوص ما فيه النظر، فعلى الأول يثبت جميع الأحكام، لظهور التنزيل في العموم بعد أن أدخل الشيء في مصاديق الموضوع، وعلى الثاني لا يثبت إلاّ الأحكام التي تمّ النظر إليها دون غيرها، وبذلك يجاب عن إشكال تخصيص الأكثر في مثل: «الطواف بالبيت صلاة»، حيث لم يثبت به للطواف إلاّ القليل من أحكام الصلاة، فتأمل.

التقسیم الخامس: تقسيمها إلى نفي الحكم الشرعي بنفسه، أو نفي طبيعة توهم تعلقها به أو معلوليتها له

1- نفي الحكم الشرعي بنفسه، كبعض موارد الأحكام الثانوية، مثل: «رفع ما استكرهوا عليه»(2) بناءً على أن متعلّق الرفع هو (حكم ما استكرهوا عليه) بتقدير حكم، فإن الحكم - في حالة الإكراه - مرفوع عن الموضوع واقعاً بالحكومة.

2- نفي الطبيعة التي قد يتوهم تسبيب الشارع لها، سواء كانت متعلقة

ص: 17


1- المحاسن 1: 78.
2- راجع الكافي 2: 463.

لحكم شرعي، كما لو قيل: (لا حج في النسيء)، أم توهم كونها معلولة للحكم الشرعي، نظير ما قد يقال في (لا ضرر) إذ الضرر ليس حكماً ولا متعلقاً لحكم، بل هو قد يترتب على الحكم الشرعي، فيكون المقصود نفي الحكم الذي يؤدّي إلى الضرر عبر نفي الضرر بنفسه.

والفرق بينهما أنه في الأول لا بد من وجود حكم شرعي منظور إليه ليتمّ نفيه عبر الدليل الحاكم، وليس كذلك في الثاني، بل يكفي فيه احتمال تشريع الحكم، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في التقسیم الأخير حين البحث عن اشتراط النظر في الحكومة.

التقسیم السادس: تقسيمها إلى لسان التفسير والتنزيل والسلب

1- أما لسان التفسير: بأن يكون الدليل الحاكم مفسراً وشارحاً بمدلوله اللفظي للدليل المحكوم، وهذا تارة: يكون توضيحاً بأداة شارحة، وتارة: توضيحاً بقرينة المجاز، وتارة: بتحديد الحكم، والأولان يجريان في الموضوع وفي الحكم، والثالث خاص بالحكم.

مثال الأول: ما لو قال: (طهّر يدك)، ثم قال: أعني اغسلها. ومثال الثاني: ما لو قال: (اجلب أسداً)، ثم قال: يدافع عنّا، يريد به الشجاع. ومثال الثالث: (أدلة الضرر) فهي تحدّد الحكم في العناوين الأولية بلسان التفسير والتوضيح على بعض المباني.

2- وأما لسان التنزيل: فهو أن ينزل موضوعاً بمنزلة موضوع آخر، بغرض أن يشمله حكمه، كإدخال ابن المسلم في المسلم.

3- وأما لسان السلب: فهو بأن تسلب الماهية ادعاءً عن شيء وهو من مصاديقها واقعاً، بغرض أن لا يشمله حكمها، كسلب الربا عن ربا الوالد.

ص: 18

التقسیم السابع: تقسيمها باعتبار النظر والمسالمة

1- النظر: بأن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم، بحيث يلغو الحاكم لولا المحكوم، وبحيث يكون الحاكم قرينة عرفية لبيان المراد من المحكوم، سواء كان تضييقاً أم توسعة أم تفسيراً، وسواء كان في الموضوع أم الحكم أم متعلقهما، والأمثلة مرّت في التقسيمات السابقة.

2- المسالمة: وذلك فيما لم يكن نظر من الحاكم إلى المحكوم لا بالمطابقة ولا بالالتزام، ولكن بالجمع بين الدليلين يتمّ تحديد المحكوم، وذلك فيما صحّ الحاكم حتى مع عدم وجود المحكوم مع عدم معارضة لسانهما عرفاً.

إذ يكفي في صحة الحاكم وجود توهم الحكم أو احتماله حتى لو لم يكن هناك عموم أو إطلاق كي يراد تحديدهما، مثل: (دليل نفي الحرج)، فهو لا ينظر إلى أدلة الأحكام الأولية - لا بالمطابقة ولا بالالتزام - بل حيث إن الناس قد يتوهمون أو يحتملون وجود أحكام حرجية في الشرع، صدر هذا الدليل لنفي هذا التوهم من غير نظر إلى أيّ دليل آخر، ولذا يصحّ هذا النفي حتى لو لم يصدر أيّ حكم أولي، وحيث إن هذا النفي لا يعارض أدلة الأحكام الأولية فلذا يحدّدها بما لو لم ينشأ منها الحرج أو لم تكن هي حرجية بنفسها.

هذا مضافاً إلى أنه في الحكومة الظاهرية قد يدل الحاكم على عدم وجود الحكم أصلاً، فلا معنى للنظر حينئذٍ مثل ما يقال في حكومة (كل شيء لك حلال) حين الشك(1).

أقول: إن في هذا التقسيم إشكالاً، لأن القائل بالمسالمة جعلها الملاك

ص: 19


1- راجع قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 252-253.

في الحكومة فهي عنده أعم من النظر لا أنها قسيم له.

ولكن الأقوى هو كون الملاك النظر، وهو يقتضي المسالمة في جميع موارد الحكومة، وذلك لأن الحكومة أمر واقعي وليست مجرد اصطلاح أطلقه الشيخ الأعظم أو غيره، وعليه فلا بد لخروج الحاكم عن اللغوية من نظر ٍ في الدليل الحاكم، من غير فرق بين أن يكون متعلق النظر دليلاً آخر، أو ارتكازاً صار سبباً لتوهم حكم أو احتماله، فمثل: (لا حرج) ناظر إلى ذلك التوهم، ومثل: (كل شيء لك حلال) ناظر إلى احتمال وجود الحكم ولزوم الاحتياط، ولولا هذا النظر لكان الدليل لغواً، وهذا النظر هو السبب في المسالمة، فتأمل.

مضافاً إلى ما قيل: من أن النظر أعم من النظر إلى الدليل المحكوم أو النظر إلى حكمه، فتأمل.

إن قلت: لا نظر في حكومة الأمارات على الأصول العملية مع أن جمعاً من العلماء كالشيخ الأعظم ذهبوا إلى حكومتها عليها، ولذا أشكل المحقق الخراساني على الحكومة فيهما(1)، وحاصل كلامه: أن شرط الحكومة هو نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، ومن المعلوم أن أدلة الأمارات كمفهوم آية النبأ لا نظر لها إلى أدلة الأصول العملية مثل لا تنقض اليقين بالشك، مضافاً إلى إشكال آخر هو أن شرط الحكومة تصرف الحاكم في المحكوم ولا تصرف للأمارات في الأصول المطابقة لها، حيث لا توسعة ولا تضييق.

قلت: أولاً: قيل: بأن كلامهم في الحكومة إنما هو باعتبار أن دليل الأمارة يجعلها علماً، ففيها تنزيل غير العلم منزلة العلم، وعلى بعض المباني

ص: 20


1- راجع إيضاح كفاية الأصول 5: 191-192.

دلالة أدلة الأمارات على إلغاء احتمال الخلاف، ففي الحقيقة الحكومة ترتبط بدليل العلم ودليل الأمارة، وبهذه الحكومة يرتفع موضوع الأصول العملية فتكون الأمارات واردة عليه.

وبعبارة أخرى: هنا ورود وحكومة، فأما الحكومة فهي بين أدلة أحكام العلم وأدلة الأمارات، وأما الورود فهو بين أدلة الأمارات وأدلة الأصول العملية.

وثانياً: إن أدلة الأمارات وإن لم تكن ناظرة إلى أدلة الأصول العملية، إلاّ أنها ناظرة إلى حكمها.

وثالثاً: إن دليل الأمارات يدل على جعلها علماً - حسب بعض المباني - فهي توسيع للعلم فتكون حاكمة على أدلة الأصول التي جعلت الغاية فيها العلم مثل: (بل انقضه بيقين آخر) و(حتى تعلم أنه حرام)، فتأمل.

التقسیم الثامن: التقسيم باعتبار كيفية التوسعة والتضييق

ففي المنتقى: الدليل الثابت به توسعة موضوع الحكم الشرعي لا يخلو في مقام اللب والواقع من أحد أحوال أربعة(1):

1- أن يكون متكفلاً لبيان فردية أمر حقيقة لعنوانٍ ما مأخوذ في موضوع الحكم الشرعي، كما لو كانت فرديته لذلك العنوان أمراً مجهولاً لدى العرف، فيتكفل هذا الدليل كشفها، ولعلّ قوله (علیه السلام) في الفقاع: «هي خمر استصغرها الناس»(2) من هذا النحو، بلسان بيان أن الفقاع فرد حقيقي للخمر وإن لم يعدّه الناس من أفراده، لاستصغاره.

ص: 21


1- منتقى الأصول 6: 399-400.
2- مستدرك الوسائل 17: 73؛ وفي روايات أخرى: «هي خميرة»، الكافي 6: 423.

2- أن يكون بلسان فردية شيء ادعاءً لا حقيقةً، بأن يدعي دخول الشيء في جنس العنوان المأخوذ في موضوع الحكم مع دخوله فيه حقيقة، ثم يستعمل اللفظ الموضوع لذلك المعنون فيه ويكون استعمالاً حقيقياً؛ لأنه تصرف في أمر عقلي وهو التطبيق، لا في أمر لغوي وهو الاستعمال.

3- أن يكون متكفلاً لبيان اعتبار شيء بأنه ذلك العنوان الذي ترتب عليه الحكم أو منه، وصحة الاعتبار متوقفة على أن يكون الأثر مترتباً على الفرد الاعتباري إما بخصوصه أو مع الفرد الحقيقي، ومع عدم العلم بذلك يستكشف ترتب الأثر على الفرد الاعتباري بدلالة الاقتضاء بعد ورود دليل الاعتبار.

4- أن يكون متكفلاً لتنزيل شيء منزلة آخر في ثبوت الحكم الثابت لذلك الشيء بلا بيان أنه فرد حقيقي أو ادّعائي أو اعتباري.

وليعلم أن هذه الأحوال تتأتّى في التضييق أيضاً. انتهى.

والثلاثة الأولى ناظرة إلى الدليل، والرابعة إلى المدلول.

المبحث الثاني: في مصحّح الحكومة

إن الحكومة في واقعها هي نفي الحكم عن بعض أفراد الموضوع أو توسيعه إلى موضوع آخر، فهي في حقيقتها كالتخصيص أو التعميم، ولكن ما هو سبب العدول عن التخصيص أو عن استعمال لفظ عام للموضوعين أو إصدار حكم مماثل على الموضوع الآخر؟

قد يقال: «إن البلاغة تقتضي اختيار المتكلّم للأسلوب الصريح ورفض الأساليب الملتوية والمعقدة؛ لأن الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي وواضح الأداء والتفهيم، ولذلك لا بدّ أن يكون العدول عن هذا الأسلوب واختيار أسلوب التنزيل والكناية في موارد الحكومة مبنياً على مصحِّح بلاغي من

ص: 22

مراعاة جهة تتوفر في هذا الأسلوب دون الأسلوب المباشر الصريح»(1).

وهذا بعد وجود مصحّح لفظي لذلك، فإذا صحّ لفظاً وكان يؤدّي غرضاً لا يؤدّيه الأسلوب الصريح استعمل المتكلم البليغ ذلك، وإلاّ فلا.

وهذا نظير المجاز، حيث لا بد من وجود علاقة المجاز ليصح لغة استعماله، ثم لا بد أن يكون للمتكلّم غرض لا يؤدّى إلاّ بالمجاز ليصح ذلك، فالشباهة في الشجاعة مصحح المجاز لغةً، وتعظيمها والمبالغة فيها مصحّحه بلاغةً.

أ- أما المصحح اللفظي في الحكومة، فوجوه، ومنها:

1- أمّا في حالة التضييق في الموضوع: فهو أن عدم ترتب أثر الماهية - ولو الاعتباري منه - على مصداق من مصاديقها يناسب ادعاء عدم تحققها خارجاً؛ لأن ما لا أثر له يكون كالعدم.

2- وأما في حالة التضييق في الحكم: كموارد لا ضرر ونفي الحرج ونحوهما فهو أن النهي عن الماهية أو عدم تشريع حكم للماهية المرغوب عنها يناسب عدم تحققها خارجاً؛ لأن النهي أو عدم التشريع كالسبب لعدم تحققها في الخارج.

3- وأما في حالة التوسيع في الموضوع: فهو أن المشاركة في الأثر تقتضي نوع اتحاد أو شبه في الموضوع فكأن أحدهما الآخر، فهو في حقيقته تشبيه الموضوع الخافي حكمه بالموضوع الظاهر حكمه.

ب - وأما المصحح البلاغي فيها، فوجوه متعددة، ومنها:

1- أما في التضييقيّة: فقد يقال: إن ارتكاز ذهن السامع قد يكون شديداً

ص: 23


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 247.

بحكم على موضوع، أو يكون العام قوياً جداً بحيث كان آبياً عن التخصيص.

فحينئذٍ قد يورث نفي الحكم عن بعض مصاديق الموضوع رفضاً من السامع لذلك التخصيص، أو استهجاناً في الكلام، فهنا مقتضى البلاغة إخراج تلك المصاديق عن الموضوع لينتفي عنه الحكم بشكل مسالم وغير صادم ولا باستهجان.

2- وفي التوسيعيّة: قد يستهين الناس بحكم لموضوع، مع عدم استهانتهم للحكم في موضوع آخر، فيراد بالحكومة ربط الحكم بما يرتكز في ذهنهم بحيث يتم في ارتكازهم ربط ما يستهينون به بما لا يستهينون به، فحينئذٍ يتم إدخال الموضوع المستهان بحكمه في الموضوع غير المستهان بحكمه، لإيجاد نفس المانع النفسي فيه، كما في: (الفقاع خمر استصغره الناس).

3- وفي نفي الحكم: كموارد لا ضرر ولا حرج قد يكون وجه الحكومة هو ضرب قاعدة عامة يتم بها حصر جميع الأحكام الأولية في غير موارد الضرر والحرج ونحوهما؛ إذ كان يصعب تخصيص كل حكم حكم، مع صعوبة إيجاد جامع عنواني لجميع مواضيع تلك الأحكام ليتم تخصيصها بكلام واحد، فتم اختيار أسلوب الحكومة؛ لأنه أوفى بالغرض.

وقد يقال: إن الغرض هو بيان عدم تناسب ثبوت الحكم في مواردها مع المصلحة العامة، فتأمل.

المبحث الثالث: في تعارض الحاكم والمحكوم وعدمه

إن تعارض الدليلين يرتبط بالمراد الجدي منهما، ومع هذا التعارض قد يكون تعارض في المراد الاستعمالي وقد لا يكون.

مثلاً: التعارض بين (أكرم الشعراء) و(لا تكرم الفساق) في الشاعر الفاسق

ص: 24

يرتبط أولاً وبالذات بمرحلة الإرادة الجدية، حيث لا يمكن إرادة الضدين واقعاً.

والتعارض في مرحلة الإرادة الجدية قد يسري إلى مرحلة الإرادة الاستعمالية كما في العام والخاص المنفصل، وقد لا يسري كما في الحاكم والمحكوم، حيث يتعارضان في الجدية ويتسالمان في الاستعمالية، وينتج من ذلك ثبوت آثار التعارض في مرحلة الإرادة الجدية مع عدم ثبوت آثاره في مرحلة الإرادة الاستعمالية، وسيأتي بيانه.

قال المحقق الإصفهاني: «فالتحقيق أن الحاكم والمحكوم لهما جهتان: أحدهما: من حيث اللّب والواقع، وهو ليس إلاّ إثبات الحكم ورفعه، والأخرى: من حيث اللسان والعنوان، وفي هذه المرحلة لا تنافي بين مدلولهما العنواني، مثلاً: (لا شك لكثير الشك) بالإضافة إلى أدلة الشكوك، ليس بحسب اللب والواقع إلاّ رفع حكم الشك عن كثير الشك، وهو منافٍ لحكم الشك الثابت بعموم دليله أو إطلاقه، كما أنه بحسب اللسان والعنوان ليس إلاّ رفع الموضوع، وأدلة الشكوك لا تتكفل إثبات الموضوع، بل إثبات حكمه، فمدلول الدليل الحاكم عنواناً لا منافي له، فلا تعارض دليلاً ودالاً ومدلولاً من حيث الحكومة، وإن كان له المعارض والمنافي مدلولاً ودالاً ودليلاً من غير جهة الحكومة»(1).

ولعلّ مراده: أنّه لا تنافي بين اللفظين والمعنيين والدليلين في مرحلة الدلالة الاستعمالية، فمثل: (إذا شككت فابن على كذا) لفظه ومعناه يرتبطان بالشاك، ومثل: (لا شك لكثير الشك) لفظه ومعناه يدلاّن على عدم كونه

ص: 25


1- نهاية الدراية 5-6: 275.

شاكاً، وعليه: فلا يوجد تصادم لا في الدال - أي اللفظ - ، ولا المدلول - أي المعنى - ، ويتبع ذلك عدم التصادم بين الدليلين، لكن في مرحلة الإرادة الجدية فإن المقصود هو عدم شمول حكم الشك لكثير الشك مع كونه شاكاً واقعاً، فحصل التعارض بين الحاكم والمحكوم في هذه المرحلة.

وهذا عكس التخصيص بالمنفصل الذي يقع التصادم فيه في كلا المرحلتين، حيث إن الخاص في مرحلة الإرادة الاستعمالية ينفي ما أثبته العام أو يثبت مانفاه بشكل مباشر، مضافاً إلى وجود التعارض في مرحلة الإرادة الجدّية أيضاً.

وعليه: فلا يفترق التخصيص عن الحكومة التضييقية - سواء في عقد الوضع أم عقد الحمل - من حيث الواقع، وإن اختلفا من حيث الأسلوب، ففي مثل العام: (أكرم العلماء) لا فرق واقعاً بين الحاكم (الفاسق ليس بعالم)، وبين الخاص (لا تكرم فساق العلماء)، وإن اختلفا من حيث اللسان. نعم، لا تعارض في الحكومة التوسيعيّة؛ لأن الحاكم يضيف مصاديق إلى موضوع الدليل المحكوم ولا يعارضه في عمومه لمصاديقه.

ومن ذلك يتضح الإشكال في إطلاق المحقق النائيني عدم المعارضة بينهما، قال: «عدم التعارض بين الحاكم والمحكوم، فإن الحاكم إنّما يثبت أو ينفي ما لا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه، فلا يعقل التعارض بينهما»(1)، فتأمل.

المبحث الرابع: بين الحكومة والتخصيص

اشارة

مما ذكر في المبحث السابق، من اشتراك الحكومة والتخصيص من جهة

ص: 26


1- فوائد الأصول 4: 710.

المقصود الجدي، وافتراقهما من جهة الأسلوب الاستعمالي، يتبيّن اتفاق أحكامهما باعتبار الجهة الأولى، واختلافها باعتبار الجهة الثانية، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: نقاط الاتفاق

وهي أمور ترتبط بالمقصود من الكلام، حيث لا يختلف الحاكم عن الخاص في المراد الجدي، ويتحقق التعارض البدويّ فيهما باعتباره، وغير خفيّ أن التعارض البدويّ يرتفع بأدنى التفات بل هو مرتفع ارتكازاً، فلذا يثبت للحاكم ما ثبت للخاص في هذه الجهة، وذلك لاتحاد الملاك، ومن ذلك:

1- المخصص والحاكم المنفصلان يعارضان العام في المقصود؛ وذلك لانعقاد ظهور العام في العموم المستتبع لتعارض المدلول الجدي، وأما المتصلان فيرفعان حجيته لعدم انعقاد الظهور في العموم فلا يستتبع تعارضاً في المدلول الجدي، ومع عدم انعقاد الظهور في العموم فلا حجية فيه.

2- إجمال المتصل فيهما يسري إلى العام بسبب عدم انعقاد الظهور له، دون إجمال المنفصل؛ وذلك لانعقاد الظهور، اللهم إلاّ أن يقال: إذا كان الحاكم بلسان أي الشارحة فإنه يسري إليه عرفاً، حيث إن الظهور مراعى، فتأمل.

قال المحقق العراقي: «سراية إجمال الحاكم إلى المحكوم ولو مع انفصاله، حتى في ما لا يسري الإجمال إلى العام من الخاص المنفصل المجمل المردد مفهوماً بين الأقل والأكثر؛ وذلك لأن الحاكم بعد أن كان ناظراً إلى شرح مدلول المحكوم وتفسيره بما هو المراد من لفظه واقعاً - لا بمقدار ما فيه من الإراءة والدلالة - فلا محالة يكون إجماله وتردده بين الأقل والأكثر موجباً لإجمال المحكوم، بمعنى صيرورته بمنزلة المجمل في

ص: 27

عدم جواز الأخذ بظهوره... إلاّ أن يقال: إن كون الحاكم ناظراً إلى شرح الغير وتفسيره بما هو المراد من لفظه واقعاً لا بمقدار دلالته، إنما يتم إذا كان بلسان (أي) الشارحة، بمثل قوله: المراد من العلماء هو العدول أو غير الفساق منهم؛ إذ حينئذٍ يسري إجماله إلى المحكوم، وأما لو كان بلسان نفي الموضوع أو الحكم عن بعض أفراده، كما هو الغالب في ما بأيدينا من الأدلة، فلا يكون النظر منه إلى مدلول المحكوم إلاّ بمقدار إراءته ودلالته، وعليه فعند إجماله لا تكون حكومته إلاّ بالنسبة إلى المقدار المعلوم دلالته عليه، ولازمه الرجوع في مقدار إجماله إلى ظهور دليل المحكوم، كما في الخاص المنفصل المجمل المردد بين الأقل والأكثر، فتأمل»(1).

ولكن العمدة في عدم الفرق هو ما ذكرناه من اتحاد المناط بين الخاص والحاكم في جهة المقصود والمراد الجدي، ومع اتحاده تشترك أحكامهما المرتبطة به.

والحاصل: إنه كما لا بد من التمسك بالعام في الموارد المشكوكة بسبب إجمال المخصص المنفصل، كذلك يتمسك بعموم المحكوم حين إجمال الحاكم المنفصل، وفي عكسه كما لا يمكن التمسك بالعام في موارد إجمال المخصص المتصل، كذلك لا يمكن التمسك بالعام المحكوم في موارد إجمال الحاكم المتّصل.

3- استهجان إخراج أكثر الأفراد عن العام سواء عبر التخصيص أو الحكومة؛ إذ لا بد من التناسب بين مقام الثبوت ومقام الإثبات، فلو كان

ص: 28


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 136-137.

الأقل هو المراد واقعاً كان التعبير عنه إثباتاً بالعام مستهجناً، وسيأتي تفصيله في قاعدة لا ضرر.

4- عدم إمكان التخصيص والحكومة في الأحكام العقلية، والسبب فيه ما قيل من: «أن التخصيص يرجع إلى أوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصَّص، والحكم العقلي ليس له مقامان: ثبوت وإثبات»(1)، وكذلك حال الحكومة، لأنها ترجع إلى أوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت.

المقام الثاني: نقاط الاختلاف

وهي أمور ترتبط بأسلوب الكلام ولسانه، حيث يختلف الخاص والحاكم في المراد الاستعمالي، فيختلفان باعتباره حيث لا تعارض ولو بدويّاً بين الحاكم والمحكوم من هذه الجهة، مع وجود التعارض البدويّ بين العام والخاص، ومنها:

1- لا بد من النظر في الحكومة - سواء إلى عام أو مطلق أم إلى ارتكاز أو توهم - لأن مصحّحها يقتضي ذلك، حيث المقصود منها تحديد أو توسيع حكم معلوم أو متوهم بطريقة غير مباشرة.

وليس التخصيص كذلك؛ لأنه بأسلوب صريح لنفي أو إثبات حكم على بعض المصاديق، فلا يحتاج إلى نظره إلى حكم آخر، فمثل: (لا تكرم فسّاق الشعراء) لا يحتاج فيه إلى النظر إلى (أكرم الشعراء) مثلاً؛ وذلك لإفادة الخاص للمقصود استقلالاً عبر حكمه عليها، قال المحقق العراقي: «الدليل المخصِّص لا يكون ناظراً إلى شرح مدلول العام وبيان كميّة مفاده،

ص: 29


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 254-255.

غاية الأمر لا يتحيّر العرف في تقديمه عليه من جهة أقوائية دلالته، وهذا لا يلازم لكونه بلسانه شارحاً للمراد من العام واقعاً، ولذلك ترى صحة التعبد بالخاص الأظهر لكونه مفيداً للفائدة التامة المستقلة ولو مع عدم تشريع حكم العام إلى يوم القيامة»(1).

2- مع أقوائية العام ظهوراً أو لساناً لا يتقدم الخاص عليه، ويتقدم الحاكم عليه.

أما في الخاص فإن سبب تقديمه على العام مع تعارضهما هو أقوائيته من حيث الظهور، فلو كان العام أظهر كان ملاك التقديم فيه دون الخاص، وهكذا العام الأقوى لساناً بأن كان آبياً عن التخصيص لا يتقدم الخاص عليه لاستهجان استعمال اللفظ الآبي عن التخصيص في العام ثم تخصيصه فلذا يتعارضان ولا بد من الرجوع إلى مرجحات أخرى.

وأما في الحاكم فهو لا يعارض لسان العام ولا يكسره، فيبقى العام على عمومه، بل يحدّد موضوعه أو حكمه بلسان مسالم، فلا تعارض في اللسان ليتقدم الأظهر، ولا استهجان لعدم كسره لسان العام.

3- اختصاص الحكومة بالأدلة اللفظية بخلاف التخصيص فيمكن أن يكون الخاص لبيّاً.

وذلك لأن الحكومة ترتبط بلسان الدليل وبأسلوب كنائي فلذا اختصت بالأدلة اللفظية، عكس التخصيص حيث إنه يرتبط بالحكم على مصاديق من العام بحكم يخالف حكم العام فيشمل ما إذا كان المخصص لبياً، فتأمل.

ص: 30


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 135.

4- تقديم الحاكم في العامين من وجه حتى لو كان أضعف دلالةً - في نفسه - من المحكوم، وسيأتي بيانه، بخلاف التخصيص، فإن ملاك تقديم الخاص هو الأخذ بأقوى الدلالتين وطرح الأخرى، ولذا قد يت-وقف في ذلك لو تساويا دلالة، بل قد يقدّم العام على الخاص إذا كان أقوى دلالة.

5- عدم خروج سند المحكوم عن الاعتبار، بخلاف الخاص حيث قد يخرج سنده عن الاعتبار في بعض الصور كما في نهاية الأفكار(1): فإنه في موارد الحكومة لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار حتى في فرض اقتضاء الحاكم طرح ظهور المحكوم رأساً بحيث لا يبقى تحت ظهوره شيء من مدلوله؛ لأن الحاكم - بلحاظ تكفله لشرح مدلول المحكوم يكون بمنزلة القرينة المتصلة في تعيين المراد الواقعي من مدلول المحكوم، وأنه هو الذي تكفّل شرحه، وبذلك لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار، لانتهاء الأمر إلى العمل بما هو المراد منه ولو بتوسط شارحه، وهذا بخلاف التخصيص وسائر موارد الجمع العرفي فإن دليل المنفصل الأظهر - بعد ما لا يكون بلسانه شارحاً ولا موجباً لقلب ظهوره - لا محالة يكون العام باقياً على ظهوره في المراد منه، وباقية حجيته في غير الجهة المشتركة بين العام والخاص، ولذا صحّ التعبّد بسند العام، أما إذا فرض طرح ظهور العام رأساً فهذا يستلزم خروج سنده عن الاعتبار، لعدم انتهاء التعبد بسنده إلى العمل، فيصير مثل هذا الظاهر - بعد عدم حجية ظهوره - كالمجمل المعلوم عدم التعبد بسنده. انتهى باختصار.

ص: 31


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 135-136.

المبحث الخامس: في تقدم الحاكم على المحكوم

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: في سبب تقدم الحاكم

وقد ذكر لذلك وجوه، ومنها:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني من أن الحاكم إنما يثبت أو ينفي ما لا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه، ففي الفوائد: «إن التصرّف - أي في الحكم الشرعي - إنما يكون بتوسط التصرف في الموضوع... ولأجل ذلك لا تلاحظ النسبة بين دليل الحاكم والمحكوم، ولا قوة الظهور وضعفه، بل يقدّم الحاكم ولو كانت النسبة بينه وبين المحكوم العموم من وجه وكان ظهور الحاكم أضعف من ظهور المحكوم؛ بداهة أن لحاظ النسبة وقوة الظهور فرع التعارض، وقد عرفت أن دليل المحكوم لا يمكن أن يعارض دليل الحاكم؛ لأن دليل المحكوم إنما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه - كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة، ودليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته، فلا يمكن أن يعارض: (أكرم العلماء) مع قوله: (النحوي ليس بعالم) أو مع قوله: (المنجّم عالم) فدليل الحاكم دائماً يتكفّل بيان ما لا يتكفّل بيانه دليل المحكوم، فلا يعقل وقوع المعارضة بينهما»(1).

وأشكل عليه: أولاً: بأن التعارض غير المستقر في مرحلة المراد الجدي حاصل كما مرّ، وقوام التعارض إنما هو بحسب هذه المرحلة لا مرحلة المراد الاستعمالي، ولذا يقع التعارض بين (زيد أسد) وبين (زيد جبان) للمعارضة في

ص: 32


1- فوائد الأصول 4: 714-715.

المراد الجدي مع عدم وجود معارضة في مرحلة المراد الاستعمالي، ولا يقع تعارض بين (زيد عالم) وبين (زيد ليس بعالم) إذا أريد جداً من العالم الأول الفقيه، ومن الثاني النحوي مثلاً، وفي الحكومة فالحاكم بالإرادة الجدية ينفي ما يثبته المحكوم ولذا كان كالتخصيص من حيث النتيجة، فتأمل.

وثانياً: صحيح إن القضية الشرطية لا نظر لها إلى تحقق الموضوع، لكنها تدل على فعلية الجزاء عند تحقق الشرط، فإذا قام دليل على فعلية الشرط ثبت الحكم بالقضية الشرطية، فإن كان الشرط ما كان بنظر الشارع كان الدليل الثاني وارداً لا حاكماً؛ لأنه يرفع دليله حقيقةً لا تعبداً، وإن كان الشرط ما كان شرطاً حقيقة وقع التعارض بين الدليلين لا محالة(1).

اللهم إلاّ أن يقال: إن الحاکم والمحکوم بما هما هما لم يکن تعارض بينهما، وإنما وقع التعارض بسبب شيء آخر - هو الدليل الدال علی فعلية الشرط - ، عکس العام والخاص الذي يحصل التعارض غير المستقر بينهما بما هما هما، فتأمل.

وثالثاً: بأنه غير شامل لموارد الحكومة، لأنه لا يشمل الحكومة المرتبطة بعقد الحمل كحصول التنافي بين أدلة لا ضرر وأدلة الأحكام الأولية(2).

الوجه الثاني: ما في نهاية الأفكار: «بعد أن يكون دليل الحاكم متعرضاً لحال غيره وناظراً إلى شرح مدلوله وبيان المراد منه، لا يكاد يرى العرف تنافياً بين مدلوليهما، كي تدخل موارد الحكومة في موضوع التعارض، بل

ص: 33


1- بحوث في علم الأصول 7: 166-167.
2- منتقى الأصول 6: 407.

الحاكم عند العرف بعناية شارحيته لبيان مدلول الغير وتعرّضه له يكون بمنزلة القرائن المتصلة الحاكية مع ذيها عن معنى واحد، بلحاظ أن مدلول المحكوم هو الذي تكفّل الحاكم لشرحه لا غيره»(1).

وفيه: إن العرف کذلک لا يری تعارضاً بين العام والخاص، فلا فرق من هذه الجهة، ومع إرجاع الأمر إلی العرف فقد يقال: إن ملاک التقديم عنده في الحکومة الناظرية، وفي العام والخاص الأظهرية.

الوجه الثالث: ما قيل: من أنّ الحاكم قرينة شخصية من المتكلّم لبيان مراده من الدليل المحكوم مع بناء العقلاء على أنه يحقّ للمتكلم تفسير كلامه وتحديد مقصوده منه بنصب قرينة، وبذلك يرتفع التنافي بينهما، ويقدم الحاكم على المحكوم.

الوجه الرابع: إن الحاكم ناظر إلى المحكوم وشارح له، ولا معارضة بين الشارح و المشروح من جهة الحجيّة، وإن كان هنالك تنافي في مرحلة المراد الجدي؛ وذلك لأن العرف يجمع بينهما لأجل قرينية الشارح للمشروح.

الوجه الخامس: بناءً على إنكار النظر في الحكومة، ما قيل: من «أن أسلوب الحكومة وإن لم يكن مسوقاً للنظر إلى أيّ دليل آخر، بل هو ناظر بالأصالة إلى ارتكاز ذهني عام مخالف لمؤدّى الدليل، لكنه ناظر بنحو غير مباشر إلى نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز المخالف، وبذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متى كانت عموماً أو إطلاقاً، وهذه مزيّة دلالية

ص: 34


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 132.

تستوجب تقديمه على تلك الحجة وتحديدها به»(1).

وهذا أيضاً مرجعه إلى الوجه الثالث؛ لأن هذا المذكور هو بيان للقرينيّة بعبارات أخرى، فتأمل.

المقام الثاني: في موارد لا يتقدّم الحاكم فيها

إن تقديم الحاكم على المحكوم إنما هو لكونه ناظراً ومسالماً له، وهذا لا ينافي وجود جهات أخرى أقوى تكون سبباً لتقديم المحكوم أحياناً؛ إذ التقديم بالنظر لا يعني إغفال تلك الجهات، بل حال النظر حال سائر الجهات المرجحة لأحد الدليلين على الآخر حيث قد تعارضها جهة أقوى.

وقد ذكرت موارد لا يتقدّم فيها الحاكم - أي ما ظاهره الحکومة وإن لم يکن حاکماً واقعاً -(2)، ومنها:

المورد الأول: ما لو خالف الحاكم الأدلة القطعية الدالة على حجية المحكوم في معناه الظاهر فيه لا في المعنى المفسّر إليه في الحاكم، فحينئذٍ لا بد من العمل بالمحكوم وتأويل الحاكم أو ردّ علمه إلى أهله.

ومثاله: ما روي من أن العبادات كلها رجل، وأن الفواحش رجل، فإنها ناظرة إلى أدلة وجوب العبادات وحرمة الفواحش، ومفسّرة لها بوجوب ولاية الأئمة (علیهم السلام) وحرمة ولاية أعدائهم لعنهم الله، وهنا يبقى المحكوم على حاله للقطع بإرادته، ولا بد من حمل الحاكم على التأويل لا الشرح والتفسير، وكمثل قوله (علیه السلام): «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(3)،

ص: 35


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 260.
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 260؛ فوائد الأصول (الهامش) 4: 712 و 715.
3- مستدرك الوسائل 3: 356.

حيث إنه حاكم على إطلاق أدلة الصلاة، لكن مع القطع بصحة الصلاة في البيت لا بد من العمل بإطلاق المحكوم وحمل الحاكم على بعض الوجوه كالحمل على الكمال.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلک نفي لجهة النظر لا أصله، فلا نظر في الحقيقة إلی المعنی الذي صار سبباً للتأويل، وبعبارة أخری: نفي مصداق من مصاديق النظر لا يلازم نفي أصل النظر.

المورد الثاني: لو كان تفسير الموضوع عبر الدليل الحاكم يستلزم خروج عامة الأفراد عنه بما يستهجن معه جعله موضوعاً وعنواناً في الدليل المحكوم، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (غير زيد ليس بعالم) فإن العرف يستهجن جعل لفظ العلماء عنواناً مع تفسيره بفرد واحد، حيث لا فرق في الاستهجان بين التخصيص أو التفسير المخرج لعامة الأفراد، فتأمل.

المورد الثالث: ما لو كان للدليل الحاكم إطلاق في النظر مع قوة الدليل المحكوم في مورد من الموارد، فهنا قد يقال: إن قوة الدليل المحكوم توجب عدم تفسيره بما في الدليل الحاكم، وقد يمثّل له بعدم حكومة أدلة لا ضرر على الأحكام التي موردها الضرر كالجهاد، فإن إطلاق نظر دليل لا ضرر لا يقاوم لغوية الدليل المحكوم لو شمله لا ضرر، قال في المنتقى: «نظير ما إذا كان الدليل المحكوم في بعض الأفراد نصاً في دلالته، فإنه يقدم على الدليل الحاكم وإن كان ناظراً إلى الدليل المحكوم، فإن النصوصية بنظر العرف تقدّم على جهة النظر، فمثلاً لو كان (أكرم كل عالم) نصاً في زيد الفاسق لأنه مورده مثلاً، ثم ورد أن (العالم الفاسق ليس بعالم) فإنه لا يشمل زيداً، وإن كان ناظراً إلى دليل (أكرم كل عالم)، والنظر يوجب

ص: 36

تقدمه عليه بحسب العرف، لكن لكونه نصاً في ذلك الفرد فالنصوصية تكون مقدمة على كون الحاكم ناظراً»(1).

وفيه: أن مرجع ذلك إلى عدم النظر، أو انصراف الدليل الحاكم عن هذا المورد، فليس هنا تعارض وترجيح الدليل المحكوم، بل عدم تعارض لعدم وجود الدليل الحاكم فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

قال المحقق العراقي: «تقديم الحاكم على المحكوم - ولو كان أضعف دلالة - إنما يكون إذا لم يزاحمه دليل المحكوم في أصل نظره... وإلاّ ففي ما زاحمه المحكوم في نظره يعامل معهما من تلك الجهة معاملة سائر المتعارضين، كما لو كان مفاد الدليل المحكوم وجوب إكرام العلماء وحرمة لعنهم، وكان مفاد الحاكم عدم كون النحويين من العلماء، فإنه بالنسبة إلى حرمة اللعن - ولو من جهة انغراس الذهن بعدم جواز لعن المؤمن - يزاحمه دليل حرمة اللعن في نظره، فيوجب صرف نظره إلى حيث الإكرام، لكن هذا في الحقيقة خارج عن مفروض الكلام من تقديم الحاكم بما هو حاكم على المحكوم، لرجوعه إلى نفي نظره الذي هو حكومته بالنسبة إلى حيث حرمة اللعن»(2).

والحاصل: إنه لا بد من إثبات مقدار النظر - ولو بالإطلاق - وإلاّ اقتصر على المقدار المتيقن منه، فمثل: «الطواف بالبيت صلاة» الثابت فيه النظر من جهة الشرائط والموانع دون غيرهما، فتأمل.

ص: 37


1- منتقى الأصول 5: 470.
2- نهاية الأفكار 4[ق2]: 137.

المبحث السادس: في التحاكم

ومعناه أن يكون كل من الدليلين ناظراً للآخر ورافعاً لموضوعه في بعض المصاديق.

وغير خفي أن التحاكم الفعلي غير ممكن؛ علی مبنی التعارض الموجب للتساقط، إذ مع التساقط تنتفي الحكومة؛ لأنها وصف عارض على الدليل المعتبر، نعم علی مبنی شمول أدلة الحجية لهما اقتضاءً ومن ثَمَّ التخيير بينهما فلا محذور.

وقد ذكره من ذكره في مقام الإشكال على ادّعاء حكومة أحد الدليلين على الآخر مما يلزم منه تقديمه، فيقال: إن الآخر أيضاً له حكومة - في نفسه - فيتعارضان.

قال في المنتقى: «وقد تحقق عند الكل أن الشك لم يؤخذ في موضوع الأمارة قيداً، لاستلزامه كون نسبتها إلى الاستصحاب نسبة التحاكم لا الحكومة»(1).

وقد يمثل للتحاكم بدليل الحرج والضرر؛ إذ كل واحد منهما ناظر إلى جميع أحكام الشريعة بما فيها الآخر، فلو كان هناك حكم ضرري کالصوم الضرري، وکان رفعه حرجياً کما لو کان ترک الصوم يسبّب له حرجاً اجتماعياً کبيراً، فدليل (لا ضرر) باعتبار حكومته على سائر الأدلة يُخرج المورد عن دليل نفي الحرج، وكذا العكس، حيث إن دليل نفي الحرج حاكم على سائر الأدلة فيخرج المورد عن دليل الضرر.

ص: 38


1- منتقى الأصول 7: 303.

مثال آخر: ما ادّعاه المحقق النائيني من أن مفهوم آية النبأ بحجية خبر العادل حاكم على عموم العلة.

فأشكل عليه في المنتقى فقال: «إن العلة تقتضي التصرف في المعلّل عموماً وخصوصاً بالظهور العرفي للكلام، فلا تنافي بين ثبوت الحكم لمطلق الرمان ولمطلق الحامض في قول القائل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، إلاّ أن التعليل يوجب قصر الحكم على الرمان الحامض، لأجل أن العرف يفهم أن الحكم يدور مدار العلة، فالتصرف في ظهور الرمان ليس من جهة التنافي بين الظهورين، بل من جهة فهم العرف أن موضوع الحكم هو العلة لا غير، وعليه فعموم التعليل يوجب التصرف في الشرط الذي هو موضوع المفهوم، كما أن المفهوم في حدّ نفسه يوجب التصرف في عموم التعليل وإخراج خبر العادل عن موضوعه، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعاً لموضوع الآخر فيتحقق التحاكم بينهما، ومقتضى ذلك تحقق التساقط بينهما وعدم الأخذ بأيهما»(1).

وفي الحكومة أو التحاكم في آية النبأ بحث طويل ذكره السيد الأخ في تبيين الأصول(2)، ولعلّنا نتطرق إليه حين البحث عن آية النبأ.

ص: 39


1- منتقى الأصول 4: 269.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 132-142.

فصل فی الورود

اشارة

أما تعريفه فقد مرّ في الفصل السابق، وحاصله: أنه رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر حقيقة ولكن بعناية التعبد، أي إن الشارع يعتبر شيئاً فيكون ذلك سبباً لارتفاع الموضوع المأخوذ في دليل آخر ارتفاعاً حقيقياً، مثل جعل الشارع الحجية لخبر الواحد المستلزم للبيان حقيقة الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ارتفاعاً حقيقياً لا اعتبارياً.

وبعناية الجعل الشرعي يختلف الورود عن التخصص؛ إذ في التخصص لا حاجة إلى جعل شرعي، بل ارتفاع الموضوع فيه بذاته، كخروج الجاهل عن قوله: (أكرم العلماء).

وهنا مباحث:

المبحث الأول: بين الورود والحكومة

اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: نقاط افتراقهما

1- فمنها: في حقيقتهما؛ إذ حقيقة الورود ارتفاع الموضوع حقيقة بعناية التعبد، وأما حقيقة الحكومة فهي في عقد الوضع توسعة أو تضييق اعتباراً، وفي عقد الحمل إخراج بعض المصاديق عن الحكم بلسان مسالم، فالحكومة اعتبارية، والورود حقيقي وإن كانا ناشئاً عن جعل شرعي.

ص: 40

2- ومنها: في النظر، حيث لا بد في الحكومة من نظر الحاكم إلى الحكم في دليل آخر أو إلى توهم الحكم كما مرّ تفصيله، ولا يشترط ذلك في الورود، حيث إنه تعبد ينتج منه رفع موضوع حكم آخر، ولهذا التعبد آثاره مع قطع النظر عن أيّ دليل آخر وآثاره، مثل جعل الحجية للخبر الواحد الرافع لموضوع البراءة، فللخبر آثاره سواء كان هناك جعل شرعي للبراءة أم لم يكن.

ويتبع ذلك أنه في الورود يثبت جميع آثار الدليل الوارد عقلاً؛ لأن جعله يستلزم جعل جميع آثاره بالتبع، كما ينتفي به جميع آثار المورود لانتفاء موضوعه، لكن في الحكومة لا بد من ملاحظة مقدار النظر ولو عبر الإطلاق، فيثبت أو ينتفي من الأحكام بمقدار النظر.

مثلاً بقوله: (صدق العادل) يثبت جميع آثار ثبوت الخبر وينتفي جميع آثار الشك، أما قوله (علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(1) فيثبت به أحكام الطهارة والمانعية فقط؛ لأن النظر منحصر بهما.

3- ومنها: إمكان كون الدليل الوارد لبياً كالإجماع؛ لأن الورود لا يرتبط بالألفاظ؛ إذ هو جعل شرعي يستلزم منه رفع موضوع دليل آخر، فلا فرق في كون هذا الجعل بلفظ أو بغيره.

4- ومنها: ما قيل: من أنه مع الشك في الوارد لا يمكن التمسك بالمورود؛ لأنه شك في موضوع الدليل المورود، فالتمسك بالدليل فيه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لموضوع العام، بخلاف الشك في الحاكم فإنه لا يمنع من التمسك بإطلاق الدليل المحكوم لجميع أفراده مع

ص: 41


1- مستدرك الوسائل 9: 410.

عدم وجود حجة على غير أفراده، وبهذا الإطلاق تنتفي الشبهة المصداقية فلا محذور من التمسك بالدليل المحكوم.

نعم، يمكن أن يقال: إن أصالة عدم الجعل في الوارد تجري فلا محذور في التمسك بالدليل المورود - إن كان فيه إطلاق لفظي أو شمول عقلي - كما لو شك في حجية الشهرة الفتوائية وكانت دالة على الحرمة مثلاً، فإنه يصح التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لإثبات عدم الحرمة ظاهراً.

بل إذا كان موضوع الدليل المورود هو الشك فإن الشك في الدليل الوارد يكون محققاً لموضوع الدليل الوارد قطعاً، فتأمل.

المطلب الثاني: نقاط اتفاقهما

1- فمنها: تقدّم الوارد والحاكم حتى لو كان ظهورهما أضعف من ظهور المحكوم والمورود؛ وذلك لعدم التنافي بين الوارد والمورود وبين الحاكم والمحكوم، فيشملها دليل الحجيّة فيعمل بها جميعاً.

أما عدم تنافي الوارد والمورود؛ فلأنّ الوارد يرفع موضوع المورود، مع عدم تعرّض المورود لتحقق أو عدم تحقق موضوعه، وإنما يبيّن ترتب الحكم في فرض تحقق الموضوع، فيعمل بكليهما ما دام أدلة الحجية شاملة لهما، مع وضوح أن الترجيح بالأقوائية ظهوراً إنما هو فرع التنافي.

2- ومنها: عدم الفرق بين سبق الوارد والحاكم أو تأخرهما أو تقارنهما مع المورود والمحكوم.

أما في الورود فواضح، حيث إن الوارد له آثار بنفسه مع قطع النظر عن المورود، وأما في الحكومة فلأنه لا محذور في توسيع موضوع أو تضييقه قبل جعل الحكم عليه، ولا لغوية فيه ما دامه يستتبع حكماً، كما لو قال:

ص: 42

(العالم الفاسق ليس بعالم)، ثم قال: (أكرم العلماء).

ومن ذلك يتضح أنه لا فرق بين كون الحاكم والمحكوم وكذا الوارد والمورود متصلين أو منفصلين.

3- ومنها: عدم الفرق بين كون الدليل الحاكم أو الوارد قطعياً أو كونه حجة شرعية؛ وذلك لثبوت النظر الموجب للحكومة، وارتفاع موضوع المورود من غير فرق بين الدليل القطعي أو الحجة الشرعية، فمثلاً الخبر المتواتر والخبر الواحد المعتبر كلاهما يرفعان موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ هما بيان شرعي، وهكذا في الحكومة يكفي في ثبوت النظر الدليل المقطوع به ككون الفقاع خمراً أو الحجة الشرعية كعدم كون الزيادة للوالد من الربا.

المبحث الثاني: وجه تقديم الوارد على المورود

وقد ذكر لذلك وجوه، ومنها:

الوجه الأول: إن المقتضي للعمل بالوارد موجود والمانع مفقود، ولا مقتضي للعمل بالمورود، فلذا يلزم العمل بالأول دون الثاني، قال في المنتقى: «إن الأخذ بالدليل الوارد لوجود المقتضي وعدم المانع، أما وجود المقتضي: فهو دليل اعتباره وتحقق موضوعه، وأما عدم المانع: فلأن المانع المتخيّل هو الدليل المورود، وهو غير ناظر إلى ما يتكفله الدليل الوارد أصلاً، وموضوعه غير موضوعه، فكل منهما في مقام غير مقام الآخر... وأما الدليل الوارد فلا مقتضي فيه كي يؤخذ به؛ لأن ثبوته متوقف على عدم ورود الدليل الوارد؛ لأنه رافع لموضوعه»(1).

ص: 43


1- منتقى الأصول 6: 414.

إن قلت: إن الدليل الدال عليهما كثيراً ما يكونان في عرض واحد، مثل دليل الاستصحاب ودليل الأمارات الذي هو عادة الأخبار المعتبرة، وهذه الأخبار كلها في عرض واحد مع كون نسبتها العموم من وجه، فكيف تمّ ترجيح أخبار الأمارات على أخبار الاستصحاب؟

قلت: اتضح ممّا سبق أنه لا تعارض بين الوارد والمورود، ففي مورد اجتماعهما يرتفع موضوع الدليل المورود فلا وجه للأخذ به، وأما الدليل الوارد فموضوعه متحقق فيلزم العمل به من غير محذور.

الوجه الثاني: - ومرجعه إلى الوجه الأول -: إن دليل الحجة يشملهما كليهما لعدم التنافي بينهما في مرحلة الدلالة، ما دام الجعلان غير متنافيين، فيؤخذ بإطلاق دليل الحجة لهما معاً على حسب القاعدة. نعم، المجعول في الدليل الوارد يكون فعلياً لتحقق موضوعه، دون المجعول في الدليل المورود، وعدم فعليته إنما هو لتقييد مفاده بعدم وجود الآخر(1).

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني، وحاصله(2): إن ترجيح دليل المورود يستلزم منه أحد محذورين: إما التخصيص بلا مخصص وذلك في ما لو لم يكن هناك دليل يدل على تخصيص دليل المورود لدليل الوارد، وإما الدور وذلك في ما لو كان المخصص هو دليل المورود بنفسه، ففي مثل الاستصحاب والأمارة، يتوقف جريان دليل الاستصحاب على تخصيصه للأمارة كي لا يكون نقضاً لليقين باليقين، وتخصيصه للأمارة

ص: 44


1- راجع بحوث في علم الأصول 7: 48.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 189-190.

يتوقف على جريان دليل الاستصحاب؛ إذ لو لم يجرِ لكان نقضاً لليقين باليقين.

وأشكل عليه في المنتقى: «بأن التخصيص يقتضي التوارد على مورد واحد والمنافاة بينهما، وأما مع عدم المنافاة بينهما أصلاً - لاختلاف مورديهما - فلا وجه لدعوى التخصيص، فإنه لا منافاة بين ما يستلزم عالمية زيد وبين ما يثبت وجوب إكرام العالم، فإن كان مفاد دليل الاستصحاب: استصحب مع عدم الحجة، وكان مفاد دليل الأمارة اعتبار الأمارة في هذا المورد - المستلزم لقيام الحجة فلا منافاة بينهما أصلاً، ولا نظر لأحدهما إلى مفاد الآخر بتاتاً، فلا وجه لدعوى التخصيص واحتماله كي تقرر وتدفع بلزوم الدور»(1).

المبحث الثالث: في أقسام الورود

لا فرق في الورود بين كون رفع موضوع الدليل المورود في مرحلة الجعل أو الفعلية أو الامتثال.

مثال الأول: ورود الدليل الدال على عدم وجوب الزكاة مرتين في شيء واحد في السنة الواحدة، على الدليل الدال على وجوب الزكاة في الأنصبة، مثلاً لو كان له خمسة وعشرون بعيراً من أول السنة ثم زاد بعيراً في وسط السنة، ففي أول السنة القادمة يجب عليه زكاة النصاب الأول وهو خمسة وعشرون، ثم لا يجب عليه في طول السنة زكاة النصاب الثاني وهو ستة وعشرون؛ إذ لا جعل للزكاة فيه حينئذٍ بدلالة الدليل الوارد.

ص: 45


1- منتقى الأصول 6: 416.

ومثال الثاني: ورود الدليل الدال على فعلية حرام ٍ على الدليل الدال على وجوب الوفاء بالشرط غير المخالف للكتاب والسنة، حيث إنه بفعلية الحرام يرتفع موضوع وجوب الوفاء بالشرط.

وقد يفرّق بين الفعلية والتنجّز، بأن يقال: إن الورود قد يکون في مرحلة الفعلية کالمثال المذکور وقد يکون في مرحلة التنجّز، ويمثّل له بورود دليل إنقاذ النفس المحترمة على دليل وجوب الوضوء للصلاة إذا لم يكف ِ الماء إلاّ لأحدهما، حيث إنه بتنجّز إنقاذ النفس المحترمة يرتفع وجوب الوضوء في المثال، إلاّ أن الأظهر هو الورود في مرحلة الفعليّة حتی في المثال المذکور، فتأمل.

ومثال الثالث: ورود دليل الأهم بامتثاله على دليل المهم بناءً على إمكان الترتب، حيث إنه بامتثال الأهم يرتفع موضوع المهم.

ثم إنه لا يعقل الورود من الجانبين بأن يكون كل واحد من الدليلين رافعاً لموضوع الآخر؛ إذ يلزم من وجود كل واحد منهما عدمه. نعم، يمكن فرض ذلك في الأحكام غير المنجّزة لكن ذلك مجرد فرض لا واقع له في مرحلة الإثبات، فتأمل.

ص: 46

المقصد السابع في القطع

اشارة

ص: 47

ص: 48

تمهيد

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: في تقسيم المباحث

اشارة

وهذا البحث له ثمرة علمية، وذلك بمنهجة تقسيم المباحث والمطالب، وذلك قد ينفع في بعض التقسيمات التي تختلف أحكام الأقسام فيها.

وأما التقسيم لمباحث هذا القسم من الأصول، فقد بيّن الأعلام فيه عدة طرق، ومنها:

التقسیم الأول

وهو التقسیم الثلاثي، وفيه بيانان:

البيان الأول: للشيخ الأعظم، حيث قال: «اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له القطع فيه أو الظن أو الشك...»(1) إلى آخر كلامه.

وقد يشكل على المقسم، وعلى التقسيم:

أولاً: الإشكال على المقسم:

1- وأشكل على قيد (الالتفات) بأنه إن أريد من المكلف الفعلي فقيد

ص: 49


1- فرائد الأصول 1: 25.

الالتفات مستدرك، وإن أريد الشأني فهو خلاف الظاهر.

وقد يجاب: بأن الالتفات يرتبط بالتنجز لا الفعلية، فغير الملتفت مكلّف لكنه قد يكون معذوراً أو لا يكون معذوراً.

وقد يقال: بأن قيد الالتفات ليس باعتبار أخذه في المقسم، لما تقرر في محلّه من اشتراك الأحكام، بل باعتبار تفرع حصول الحالات الثلاث عليه.

2- كما أشكل على إطلاق الحكم، بل لا بد من تقييده ب- (الحكم الفعلي)؛ إذ لا أثر لتقسيم الحكم غير الفعلي، ولا بد في التقسيم من ملاحظة الأثر، وإلاّ كان لغواً.

وأجيب: بأن بعض الآثار تترتب على الحكم الاقتضائي أو الإنشائي، مثل استحقاق المثوبة في موافقته لانطباق عنوان الانقياد عليه، أو يقال: إن قيد (الفعلي) مستدرك؛ لأن الحكم يساوق الفعلي؛ إذ ما لم يصل إلى مرتبة الفعلية فليس بحكم، وفي التبيين: «وكيف يكون حكماً ما ليس بأمر ولا نهي، كما أنه ليس بإباحة، مع أن انتفاء الأصناف ملازم لانتفاء النوع، وانتفاء الأنواع ملازم لانتفاء الجنس»(1).

3- كما أشكل بأن الظاهر من قوله: (حكم شرعي) هو الحكم الواقعي مع أن الآثار تترتب على الحكم الظاهري أيضاً؛ لأنه مع تحقق الحجة الشرعية فالظانّ يقطع بالحكم الظاهري، والشاك يقطع بالوظيفة العملية، وأثر القطع هو حكم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة، وحينئذٍ تتداخل الأقسام، كما سيأتي بيانه في الإشكال على التقسيم.

ص: 50


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 18.

وأجيب: بأن هذا المقسم والتقسيم إنما هو قبل الاستنباط وبذل الجهد، فقد يلتفت إلى موضوع وأن له حكم واقعي، وحينئذٍ إما يقطع به أو يظن أو يشك، لكن بعد الاستنباط وبذل الجهد فهو يقطع بالحكم الواقعي أو الحكم الظاهري، وبعبارة أخرى: إنه قبل الاستنباط إما قاطع بالحكم الواقعي فقطعه عليه حجة، وإما ظانّ بالحكم الواقعي فوظيفته البحث عن الأمارات، وإما شاك فوظيفته الرجوع إلى الأصول العملية. نعم، في حالة الظن والشك بعد الاستنباط يقطع بالحكم الظاهري.

هذا مضافاً إلى إشكال مبنوي بعدم ثبوت حكم ظاهري، بل إما تنجيز لو وصل إلى الحكم الواقعي أو تعذير إن لم يصل إليه.

ثانياً: الإشكال على كيفية التقسيم

1- فقد أشكل على تقسيم الشيخ الأعظم: بأن الأقسام متداخلة؛ إذ قد يكون ظاناً ولم يقم لديه طريق معتبر فعليه الرجوع إلى الأصول العملية، وقد يكون شاكاً مع قيام الطريق المعتبر فعليه اتباعه.

وأجيب: بأن التقسيم قد يكون بلحاظ الموضوع الخارجي، وقد يكون بلحاظ الآثار، كما نقسّم الإنسان تارة بأنه إما رجل أو امرأة، وتارة بأنه إما مكلّف أو غير مكلّف، فلا يصح الإشكال على التقسیم الأول بتداخل الأقسام لاشتراكها في الآثار؛ إذ كان التقسيم بلحاظ الموضوع لا بلحاظ الأثر، وفي ما نحن فيه فإن التقسيم كان بلحاظ الموضوع أي الحالة الوجدانية للمكلّف، وهي إما حالة القطع أو الظن أو الشك، فلا يصح الإشكال بأن آثار هذه الحالات متداخلة أحياناً.

ص: 51

2- كما أشكل: بعدم صحة التقابل بين الظن والشك؛ وذلك لاجتماعهما في ما كان الشك شخصياً والظن نوعياً، مع أنه لا بد في التقسيمات من عدم تداخل الأقسام، فلا يصح تقسيم الإنسان إلى أنه إما رجل وإما أبيض، لتداخلهما في الرجل الأبيض مثلاً.

وحيث كان ملاك الحجية في الأمارات هو الظن النوعي، فلا وجه لإدخال الظن الشخصي في الأقسام، بل هو يلحق بالشك، وحينئذٍ فقوله إما يحصل له الظن أو الشك فيه تداخل؛ لأن الظن الشخصي داخل في الشك.

وأجيب: بما ذكر في جواب الإشكال السابق، بأن التقسيم بلحاظ الموضوع، وكما أن القطع والشك شخصيان كذلك الظن هنا، وعليه فيكون التقسيم هكذا: إما يحصل له القطع فهو حجة عليه بالذات، وإما يحصل له الظن الشخصي فهو إما معتبر أو غير معتبر، وإما يحصل له الشك فإن كان في مورده أمارة فهو كالقطع وإلاّ فالمرجع الأصول العملية.

3- كما أشكل: بأن الشك ليس موضوعاً للأحكام بعنوانه، بل الموضوع هو (عدم الحجة)، كما أن الظن كذلك ليس موضوعاً بعنوانه، بل الموضوع هو قيام (الحجة).

والجواب(1): بأن التقسيم ليس ناظراً إلى موضوعية الشك بما هو شك، ولا الظن بما هو ظن، بل إلى تحقق هذه الحالات في الوجود الخارجي تمهيداً لبيان وظيفة المكلّف عند كل حاله.

ص: 52


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 27.

البيان الثاني للتقسيم الثلاثي: ما ذكره المحقق العراقي(1)، بأن تثليث الأقسام إنما هو بلحاظ ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقية والحجية من حيث الوجوب والإمكان والامتناع، لا بلحاظ مرحلة الحجية الفعلية، حيث إن القطع من جهة تماميته في الكشف عن الواقع مما وجب حجيته عقلاً ولا يعقل المنع عنه، والظن من جهة نقصه في الكاشفية مما أمكن حجيته شرعاً، وأما الشك فحيث لا كشف فيه أصلاً؛ لكونه عبارة عن نفس التردد بين الاحتمالين الذي هو عين خفاء الواقع كان مما يمتنع حجيته ويستحيل اعتباره حجة في متعلقه.

وقد يوجّه امتناع حجيته بأنه مستلزم لجعل الطريقية للمتناقضين وهو محال، فتأمل.

التقسیم الثاني

للمحقق الخراساني، قال: «اعلم أن البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري - متعلق به أو بمقلده - فإما أن يحصل له القطع به، أو لا، وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن - لو حصل له وقد تمت مقدمات الانسداد على الحكومة - وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة و الاشتغال والتخيير»(2).

وعليه فيدخل في القسم الأول - وهو القطع بالحكم الشرعي - كلٌ من القطع بالحكم الواقعي، والقطع بالحكم الظاهري عبر قيام الأمارة على

ص: 53


1- نهاية الأفكار 3: 5.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 200-203.

الحكم الشرعي، أو جريان الأصول العملية الشرعية، أو الظن الانسدادي على الكشف.

كما يدخل في القسم الثاني - وهو القطع بالوظيفة العقلية - الظن الانسدادي على الحكومة لو فرض حصول الظن و تمامية مقدمات الانسداد، أو الأصول العقلية لو فرض عدم الظن أو عدم تمامية المقدمات.

وأشكل عليه: أولاً: بأن هذا التقسيم لا ينطبق مع مباحث علم الأصول؛ إذ عليه كان لا بد من تقسيم الأصول إلى بابين، الأول: القطع، ويدخل فيه مباحث القطع والأمارات و الأصول العملية الشرعية والظن على الكشف، والثاني: الأصول العقلية والظن الانسدادي على الحكومة، مع أن المراد التقسيم بكيفية تنطبق على المنهج الموجود.

وثانياً: بأن الغرض من الإعراض عن تقسيم الشيخ الأعظم هو أن فيه تفكيكاً بين الموضوعات التي لها أثر واحد، وهذا بعينه جار في هذا التقسيم؛ إذ لا فرق من حيث الأثر بين كون الوظيفة بسبب حكم الشرع أو العقل؛ إذ لا بد من الجري العملي فيهما، وعليه فكان اللازم توحيد الأقسام.

وثالثاً: إن هذا التقسيم إنما هو بلحاظ ما يترتب على مباحث الأصول أحياناً، فالقطع أحياناً يترتب على مباحث حجية الخبر الواحد أو ثبوت الاستصحاب ونحوهما، إذن فهذا التقسيم ليس تقسيماً للأبحاث المحرّرة في علم الأصول، فتأمّل.

إن قلت(1): إن هذا التقسيم يكون بياناً للغاية المترتبة على مباحث

ص: 54


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 34.

الكتاب ولا محذور فيه!

قلت: ليس المطلوب مجرد التقسيم؛ إذ يمكن التقسيم باعتبارات مختلفة، إنما لا بد أن يكون التقسيم مفيداً ومنشأ ً للأثر، وينسجم مع مباحث الكتاب بشكل عام.

ورابعاً: إن أريد بالقطع التفصيلي منه استلزام خروج الإجمالي بلا وجه، وإن أريد ما يشمل الإجمالي استلزم تداخل الأقسام؛ لأن مسائل الظن على الحكومة من مسائل العلم الإجمالي.

التقسیم الثالث

لصاحب الكفاية أيضاً، وحاصله: أن المكلّف إما يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني: إما يقوم عنده طريق معتبر أو لا، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق، ولا يرد إشكال تداخل الأقسام؛ إذ ملاك الرجوع إلى الأمارة هو الدليل المعتبر لا الظن، كما أن ملاك الرجوع إلى الأصل العملي هو عدم وجود الدليل المعتبر، لا الشك(1).

وأشكل عليه(2): بأن موضوع البحث عن الاعتبار هو الطريق اللابشرط من جهة الاعتبار وعدمه، لا عن الطريق المعتبر، فإنه لا يعقل عروض الاعتبار وعدمه على الطريق المعتبر، وبعبارة أخرى: لو كان الموضوع هو (الأمارة المعتبرة) كان اللازم البحث عن عوارضها، لا عن اعتبارها، لأن

ص: 55


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 204.
2- نهاية الدراية 3: 17.

البحث لو كان عن الاعتبار الأول لزم تحصيل الحاصل، وإن كان عن اعتبار آخر لزم اجتماع المثلين، وإن توصلنا إلى عدم الاعتبار لزم اجتماع الضدين، فإن موضوع العلم هو ما يبحث عن عوارضه الذاتية، وأما البحث عن أصل ثبوت الموضوع فهو من المبادي.

وأجيب(1): بأن الملاحظ في هذا التقسيم هو الترتيب الطولي في الحجج والأصول العملية، وهو الذي ينفع المجتهد في استنباطه للأحكام، وفي الترتيب الطولي تكون الأمارة المعتبرة هي التي تتقدم على الأصول العملية، لا مطلق الأمارة، فتأمل.

التقسیم الرابع

ما ذكره المحقق الإصفهاني(2)، وهو أن الملتفت إلى حكمه الشرعي: إما يكون له طريق تام إليه - وهو القطع، وهو موضوع التنجّز - ، وإما يكون له طريق ناقص لوحظ لا بشرط عن الاعتبار وعدمه - وهو الطريق المبحوث عن اعتباره وعدمه - ، وإما لا يكون له طريق، أو كان طريقه غير معتبر - وهو موضوع الأصول العملية - .

وأشكل عليه في المنتقى(3): باستلزامه التداخل في ما أخذه موضوعاً للبحث في الأمارة؛ إذ قد يكون موضوعاً للأصل في بعض أفراده؛ وذلك لأن الطريق إذا لم يقم على اعتباره دليل كان مورد من موارد الأصول، مع

ص: 56


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 37.
2- نهاية الدراية 3: 17.
3- منتقى الأصول 4: 10.

أنه يصدق عليه قيام الطريق لا بشرط من حيث الاعتبار وعدمه.

وأجيب(1): بأن المحقق الإصفهاني لم يكن في صدد بيان موضوع إجراء الأمارات أو الأصول، بل بصدد فهرسة مواضيع الكتاب وفصوله، فلم يجعل الثاني مورداً للتمسك بالأمارة كي يقال في بعض الموارد مع عدم ثبوت حجيتها لا بد من التمسك بالأصل، بل جعل الثاني مورداً للبحث في الأمارة، وعليه فلا تداخل أصلاً.

المبحث الثاني: في شمول المقسم لغير المجتهد

اشارة

ف- (المكلّف) أو (البالغ الذي وضع عليه القلم) في المقسم الآنف هل يختص بالمجتهد، أم يشمل غيره؟

والبحث في مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: في شمول مباحث الحجج والأصول العملية لغير المجتهد.

قد يقال: إن المقسم يشمل غير المجتهد وكذلك الأقسام، إلاّ أن الفرق في المصداق، فالطريق المعتبر للمقلّد هو فتوى المجتهد، فيقال: الحكم الواقعي إما يقطع به فعليه العمل به من غير رجوع إلى المجتهد، وإن لم يقطع فإن قام عنده الطريق المعتبر - وهو فتوى المجتهد لا غير - عمل به، وإلاّ فعليه الرجوع إلى الأصول العملية، وهكذا في الحكم الظاهري، فقد يقطع بفتوى المجتهد، وقد يأخذها عن طريق معتبر، وقد لا يكون له طريق... .

ص: 57


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 38.

وأشكل عليه(1): بأن أخصيّة المحمول دليل على أخصية الموضوع، لاستحالة حمل الأخص بما هو أخص على الأعم بما هو أعم، لاستلزامه الخلف، وفي علم الأصول يكون الغرض في قطع أو ظن أو شك المجتهد، وحيث كان الفرض مخاطبة المجتهد كان هو المختص بالخطاب.

وذلك لأن المقلّد لا يستطيع تحديد الموضوع، فهل القطع طريقي أو موضوعي كي يعرف كون قطعه حجة أم لا، كما لا يستطيع تحديد شرائط تنجيز العلم الإجمالي، ولا التفريق بين الظنون المعتبرة، ولا تنقيح مجاري الأصول العملية... وهكذا سائر المباحث.

وأجيب(2): بعدم تسليم أخصية الفرض؛ لأن الفرض هو بيان الكليّات المنطبقة على موضوعاتها، وعجز العامي في غالب الموارد لا يعني عدم تمكنه من التطبيق في بعض الموارد، فيكون العامي كالمجتهد المتجزي حيث يتمكن من تطبيق بعض القواعد دون بعض، فيمكن خطاب العامي بأن الظن المطلق ليس بحجة، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، واستصحب حياة مجتهدك وعدم تبدل رأيه، وهكذا مسائل كثيرة في الفقه والأصول.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الفائدة غير الغرض، فغاية علم الأصول مختصة بالمجتهد، فتأمل.

المسألة الثانية: هل أدلة الأحكام الظاهرية تشمل غير المجتهد أم لا؟

ص: 58


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 45.
2- نهاية الدراية 3: 14.

القول الأول: الاختصاص بالمجتهد، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: غفلة المقلد عن الظن والشك، فلا تترتب أحكامها؛ إذ مع الغفلة لا يتحقق الشك أو الظن، ومع عدم تحقق الموضوع لا يترتب الحكم، مع وضوح أن الأحكام الظاهرية موضوعها أو ظرفها الشك.

وأشكل عليه(1): بوضوح حصول الظن أو الشك لغير المجتهد؛ لأنه قد يلتفت إلى الحكم، وغالباً يشك، وقد يحصل له الظن الشخصي أو النوعي.

ولا يضرّ عدم التفاته غالباً؛ وذلك لإمكان التعميم بعدم القول بالفصل(2)، اللهم إلاّ أن يقال: بأن عدم القول بالفصل ليس بحجة، بل الحجة هو القول بعدم الفصل، وهو مفقود في ما نحن فيه؛ لأن المسألة حديثة، مع احتمال الاستناد فيها إلى هذه الأدلة.

والحاصل(3): وضوح حصول الصفتين لغير المجتهد في الجملة، وهو كافٍ في ردّ دعوى السلب الكلي، فالموجبة الجزئية نقيض السلب الكلي المذكور في الدليل، مضافاً إلى أن المجتهد نفسه قد لا يحصل له التفات إلى موضوع من الموضوعات فلا يحصل له الظن أو الشك، وعليه فلا وجه للتفصيل بين المجتهد والمقلّد، فلا بد من التفصيل بين الملتفت وغير الملتفت سواء كانا مجتهدين أم مقلّدين.

الدليل الثاني: عدم التفات غير المجتهد إلى أدلة الأحكام الظاهرية،

ص: 59


1- منتقى الأصول 4: 12.
2- نهاية الأفكار 3: 3.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 51.

فشمول الدليل له لغو.

وأجيب عن الصغرى: بأنه ملتفت إجمالاً لوجود الدليل لعلمه بأن فتوى المجتهد تستند إلى دليل وليست اعتباطاً، وبالالتفات الإجمالي تندفع اللغوية.

وعن الكبرى: باستحالة أخذ قيد الالتفات في موضوع الأحكام، لاستلزامه الدور أو الخلف، كما مرّ.

الدليل الثالث: إن الفحص موضوع أو ظرف للحكم الظاهري، وغير المجتهد عاجز عن هذا الفحص؛ لعدم تمكنه من تشخيص موارد الأمارات و الأصول ومجاريها، وعليه فلا تشمله أدلة الأحكام الظاهرية.

وأجيب: بأنه لا يشترط فيها فحص المكلّف بنفسه، بل كما يمكن الفحص بنفسه يمكن الفحص بواسطة غيره، فيكفي فحص المجتهد في ذلك، وعن المحقق النائيني(1) إن المانع عن شمول ظاهر الأدلة للمقلّد إما العلم الإجمالي بوجود مقيّدات ومخصصات للعمومات والإطلاقات، وإما عدم جريان أصالة العموم والإطلاق قبل الفحص في كلام المولى الذي يعتمد على المخصصات والمقيدات المنفصلة؛ لعدم بناء من العقلاء على العموم والإطلاق وعدم جريان مقدمات الحكمة والتي منها كون المتكلّم في مقام البيان قبل الفحص، ومن المعلوم أن بناء العقلاء هذا لا يتوقف على فحص المكلّف بنفسه، بل يكفي فحص الخبير أو الثقة.

الدليل الرابع: ما في نهاية الدراية(2): عدم انطباق عناوين موضوعات

ص: 60


1- فوائد الأصول 2: 541.
2- نهاية الدراية 3: 13.

الأحكام الظاهرية إلاّ على المجتهد، فإنه الذي جاءه النبأ، أو جاءه الحديثان المتعارضان، وهو الذي أيقن بالحكم الكلي وشك في بقائه، وهكذا.

وأجيب(1): بأن معنى المجيئ ليس هو الوصول إلى شخص المكلّف، بل معناه كون الشيء في معرض الوصول إلى عموم المكلفين مع عدم وجود مانع للمكلّف الخاص، ومن المعلوم أن أدلة الأحكام الظاهرية هي في معرض الوصول إلى غير المجتهد مع عدم المانع، فيكون التكليف في حقه فعلياً.

مضافاً إلى أن المجيء أعم من التفصيلي والإجمالي، والإجمالي حاصل بفتوى المجتهد، كما ذكروا نظير ذلك في قاعدة التسامح حيث ذكروا أن فتوى المجتهد بالاستحباب بلوغ إجمالي للثواب.

كما أن أدلة الإفتاء والاستفتاء توجب تنزيل المجتهد نفسه منزلة المقلّد، فيكون مجيء الخبر إليه بمنزلة مجي الخبر إلى مقلّده، وكذا يقينه وشكه بمنزلة يقين وشك المقلّد، وإلاّ كان تجويز الإفتاء والاستفتاء لغواً(2).

المسألة الثالثة: كيفية تخريج الإفتاء بناءً على عدم شمول أدلة الأحكام الظاهرية لغير المجتهد.

والعويصة: هي في أن الإفتاء هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وذلك يتم في ما لو علم بالحكم الواقعي المشترك بينهما أو علم بالحكم الظاهري مع شمول أدلة الأحكام الظاهرية للمقلّد، وأما لو قلنا باختصاص

ص: 61


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 57.
2- نهاية الأفكار 3: 3؛ نهاية الدراية 3: 14.

تلك الأدلة بالمجتهد فيكون الحكم المستنبط خاص به، فكيف يفتي بها لغيره؟

وليتضح محل الإشكال لا بد من تقسيم الأدلة ومفادها، وفي التبيين قسّم السيد الأخ المورد إلى مراحل أربع(1)، لا إشكال في المراحل الثلاث الأولى، وإنما الإشكال في المرحلة الرابعة.

المرحلة الأولى: أن ينكشف للمجتهد الواقع بالقطع، فهنا ينكشف له حكم مشترك بين العالم و الجاهل، وحينئذٍ يخبر المجتهد المقلّد بذلك الواقع، وخبره حجة، فيتنجّز ذلك الواقع على المكلّف المقلّد.

المرحلة الثانية: أن ينكشف له الحكم الشرعي بالأمارة المعتبرة، فهنا ثلاثة أمور: الدليل المتضمن للمسألة الأصولية، والدليل المتضمن للمسألة الفرعية، ومفاد الدليل المتضمن للفرعية، والأول والثاني خاصان بالمجتهد على الفرض، لكن اختصاصهما به لا يستلزم اختصاص المفاد به، فالدليل خاص به لا المدلول؛ إذ لا منافاة بين توجيه الخطاب إلى أحد مع عمومية المفاد الذي تضمنه الخطاب إلى كل أحد، وفي ما نحن فيه ليس مفاد الأمارات المعتبرة هو التكليف على خصوص المجتهد، بل المفاد تكليف عموم المكلّفين، والمجتهد يخبر المقلّد بذلك المفاد، وخبره حجة، فيتنجز على المقلّد.

المرحلة الثالثة: أن تنكشف للمجتهد الوظيفة العملية المستفادة من الأصول العملية، مع تحقق موضوع تلك الأصول للمقلّد، فالموضوع متحقق

ص: 62


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 60-64.

في المقلّد، فيرتب المجتهد عليه المحمول، كما لو شك المقلّد في حلية التدخين، فيفتي له المجتهد بالبراءة، لتحقق موضوعها وهو الشك.

إن قلت: كيف يحرز المقلّد عدم وجود الدليل الحاكم أو الوارد على الأصل العملي، أو الدليل المعارض له؟

قلت: ذلك ينحلّ بإخبار المجتهد - ولو بنحو الإجمال - بعدم وجوده.

المرحلة الرابعة: أن تنكشف للمجتهد الوظيفة العملية المستفادة من الأصول العملية مع عدم تحقق موضوع تلك الأصول في حق المقلّد، فكيف يُجري المجتهد في حقه الأصل العملي مع عدم تحقق موضوعه؟

مثلاً لو لم يعلم المقلّد وجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور، فلا تتم فيه أركان الاستصحاب، لكن المجتهد يعلم فتتم لديه أركانه، فالمجتهد يستصحب لنفسه لتمامية الأركان له، لكن كيف يستصحبه للمقلّد مع عدم تمامية الأركان عند المقلّد، فإن هذا من ترتيب المحمول مع عدم تحقق الموضوع، فيكون نظير أن يفتي المجتهد الحاضر بوجوب التمام على مقلّده المسافر، أو على جميع مقلديه الحاضر منهم والمسافر؟

ويمكن حلّ العويصة بوجوه، منها:

الوجه الأول: التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف، فوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة - مثلاً - غير خاص بالمجتهد، بل هو حكم مشترك بينه وبين المقلّدين، فإذا ثبت بالأصل العملي الوجوب للمجتهد ثبت لغيره أيضاً بمقتضى القاعدة!

وأورد عليه: بأن هذه القاعدة خاصة بصورة وحدة الموضوع لا تعدده،

ص: 63

فلذا يستند إليها في الأحكام الواقعية - سواء انكشفت بالقطع أم بالأمارات - ، وأما الأحكام الظاهرية المستفادة من الأصول العملية فهي خاصة بمن يتحقق فيه موضوعها، سواء كان مجرى الأصول الموضوعات الخارجية أم الأحكام الكلية، فمن الأول لو قطع المجتهد بطهارة ثوب ثم شك، وقطع المقلّد بنجاسته ثم شك، فعلى المجتهد إجراء استصحاب الطهارة ويفتي للمقلّد بالنجاسة لاستصحابها، ومن الثاني استصحاب مدرك الشريعتين لمن أدركهما ولا يجري الاستصحاب لمن لم يدركهما ولا تنفع قاعدة الاشتراك لاختلاف الموضوع.

الوجه الثاني: إن متعلّق شك المجتهد - الذي هو موضوع أو ظرف الأصول العملية - ليس خصوص تكليف نفسه، بل شكه تعلّق بتكليف عموم الناس، فهو يعلم بوجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور على الجميع مثلاً، ويشك في بقاء هذا التكليف على الجميع، فاستصحابه إنما هو استصحاب حكم الجميع، وأثره الوجوب لنفسه والإفتاء لغيره، وكذا يشك في حرمة التدخين على الجميع، فيجري أصالة البراءة عن هذه الحرمة للجميع، وهكذا سائر الأصول، ثم يفتي للمقلّد بذلك، وبضمّ أدلة وجوب تقليده يجب على المقلّد اتباعه.

وبعبارة أخرى: - كما في المنتقى(1) - يجوز إجراء المجتهد الأصل العملي لترتب أثره العملي الثابت في حق نفسه، وهو جواز الإفتاء به - لا باعتبار أثره في حق مقلده كي يقال إن موضوع الأصل العملي لم يتحقق فيه - وإذا أفتى

ص: 64


1- منتقى الأصول 4: 19.

به المجتهد أخذ به المقلّد لجريان أدلة التقليد.

ثم اعلم أن الأصولين قد ذكروا لحلّ العويصة وجوهاً أخرى خاصة بالاستصحاب، وأكثرها ترتبط ببحوث مبنوية في مباحث الاستصحاب، وللتفصيل راجع التبيين(1).

ص: 65


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 64-78.

فصل فی حجية القطع

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في أن الآثار للقطع أو للمقطوع

وفيه قولان:

القول الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1) من أن المراد من وجوب متابعة القطع هو وجوب متابعة المقطوع، وهو الواقع المرئي بالقطع، وبعبارة أخرى: أن وجوب المتابعة ليست من آثار القطع، بل من آثار الواقع، لا مطلقاً، بل حين تعلّق القطع به، أو بشرط تعلّقه به.

وأشكل عليه: بأن الآثار - كوجوب المتابعة وحرمة المخالفة عقلاً - تترتب على القطع حتى لو كان مخالفاً للواقع، كما أن هذه الآثار لا تترتب على الواقع غير المقطوع به.

وأجيب بوجوه:

1- منها: إن الكلام في القطع الطريقي وهو لا يكون موضوعاً للآثار، فكيف رتبتم آثاراً عليه؟

وفيه: إن معنى الطريقية هو عدم كونه موضوعاً أو جزء موضوع للحكم

ص: 66


1- فوائد الأصول 3: 6.

الشرعي، وهذا لا ينافي كونه موضوعاً للآثار العقلية.

2- ومنها: إن القطع مغفول عنه، لكونه مرآة للواقع المقطوع به، فلا يعقل كونه موضوعاً للآثار.

وفيه: إن مفهوم القطع يمكن النظر فيه، لا بما هو هو وإنما باعتبار كونه مرآة للخارج، فيمكن الحكم على المفهوم بوجوب المتابعة وحرمة المخالفة - مثلاً - باعتبار كون هذا المفهوم مرآة للمصاديق الجزئية للقطع.

3- ومنها: إن تحرك القاطع إنما هو باعتبار المقطوع به، فالعطشان - مثلاً - يحركه الماء بوجوده الواقعي، لا قطعه بوجود الماء!

وفيه: إنه كذلك بنظر القاطع فهو يرى أن محرّكه هو الواقع، لكن في الحقيقة إن المحرّك هو قطعه؛ إذ الواقع بما هو لا يكون محرّكاً، مع أن القطع بدون واقع يكون محرّكاً.

4- ومنها: أن بعض الآثار ليست آثاراً للقطع بما هو قطع، بل هي آثار عدم وجد المؤمِّن، فلذا تترتب حتى مع الاحتمال.

وفيه: أن ترتّب أثر على القطع لا ينافي ترتب نظير ذلك الأثر على غيره؛ للاشتراك في العلة حينئذٍ.

القول الثاني: التفصيل، حيث إن بعض الآثار تترتب على القطع لا المقطوع، مثل لزوم متابعته، وبعض الآثار تترتب على الواقع، كوجوب الموافقة الالتزامية - على القول به - بناءً على كون دليلها شرعياً؛ إذ يجب الالتزام بالحرام الواقعي، لا الحرام المقطوع به مثلاً، وذلك لاشتراك الحكم بين العالم و الجاهل، وبعض الآثار تترتب عليهما معاً، مثل منجزية القطع

ص: 67

للتكليف، فلا تنجيز في صورة الخطأ، كما لا تنجيز مع عدم القطع.

وأشكل على الثاني: بأنه بناءً على كون الدليل شرعياً يكون بحث الموافقة الالتزامية مسألة فقهية وذكرها في الأصول استطرادي، وكلامنا إنما هو في الآثار الأصولية.

وعلى الثالث: بأن الأثر هو الحجية - الشاملة للمنجزية والمعذرية - والموضوع في الحجية يشمل القطع الموافق والمخالف، فليس الأثر هو خصوص المنجزية كي يقال إنها خاصة بالقطع المطابق للواقع، فتأمل.

المبحث الثاني: في طريقية القطع للواقع وحجيته

اشارة

وهنا مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: في طريقية القطع للواقع

فقد يقال إن: الطريقية ذاتية للقطع.

وأشكل عليه: بأن القطع قد لا يكون مصيباً للواقع، فتخلّفت الطريقية عن القطع، مع معلومية أن الذاتي لا ينفك عن الذات أبداً سواء ذاتي باب البرهان أم ذاتي باب الكليات(1).

وأجيب: بأن المراد الذاتية في نظر القاطع.

وفيه: أن ملاك الذاتي هو الواقع المحفوظ في صورة العلم والجهل، وهذا لا يختلف باختلاف الأنظار، فمن أخطأ واعتقد بأن الأربعة فرد لا يصح أن

ص: 68


1- ذاتي باب الكليات هو ما ليس بخارج عن حدّ الشيء وبه قوام ذاته، وهو الجنس والفصل والنوع، وذاتي باب البرهان هو ما ينتزع عن ذات الشيء بلا توسط شيء في انتزاعه كالزوجية للأربعة، والإمكان للممكن.

يقال إن الفردية ذاتي لها.

إن قلت: إن الطريقية ذاتية في صورة الإصابة دون صورة الخطأ.

قلت: إن حالة القاطع واحدة سواء في صورة الإصابة أم الخطأ، والاختلاف إنما هو لأمر عرضي خارج عن الذات، ومع وحدة الذات والصفات لا يعقل الاختلاف في الذاتيات، كما أن الأمور الخارجية لا تكون سبباً لاختلاف الذاتي، فتأمل.

وأما القول: بأن الطريقية هي عين القطع، فغير تام؛ وذلك للانفكاك بينهما، ولا يعقل انفكاك الشيء عن نفسه.

وحيث إن المراد هو الطريقية إلى الواقع الخارجي، فلا يصح القول بعدم انفكاك العلم والمعلوم في الذهن حيث يتحدان أو يتلازمان دائماً.

المسألة الثانية: في حجية القطع ذاتاً

بمعنى حكم العقل بوجوب الجري على طبقه، وهو ذاتي للقطع؛ إذ عدم الذاتية مستلزم للتسلسل؛ إذ كل دليل إما قطعي أو ظني، فعلى الأول يلزم إقامة دليل على حجيته أيضاً، فيتسلسل، والثاني باطل قطعاً؛ لأن الأقوى - وهو القطع - إن لم يكن حجة فالأضعف - وهو الظن - لا يكون حجة بطريق أولى.

كما أنه لو لم تكن الحجية ذاتية له، أمكن النهي عنه، وهو مستلزم للتناقض واقعاً أو في نظر القاطع، وكلاهما محال، كما سيأتي في المبحث الرابع.

المسألة الثالثة: في عدم قابلية جعل الحجية للقطع

أما الجعل التشريعي فهو لغو، بل من أردأ أنواع تحصيل الحاصل؛ إذ هو

ص: 69

تحصيل تعبدي لما هو حاصل تكويناً.

وأما الجعل التكويني بمعنى الجعل البسيط وذلك بإيجاد القطع خارجاً عبر إيجاد مقدماته، فتترتب عليه الحجية، فهو بمكان من الإمكان، كإيجاد الزوجية بإيجاد الأربعة. نعم، لا يعقل الجعل التأليفي بأن يكون هناك جعلان مستقلان أحدهما للقطع والآخر للحجيّة، وذلك لوجود الذاتي بوجود الذات قهراً.

المبحث الثالث: في وجوب الجري طبقاً للقطع

قال الشيخ الأعظم: «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً»(1).

وأشكل عليه: أولاً(2): بأنه إنما تجب الحركة على وفق القطع إذا أذعن بوجود أثر لازم الاستيفاء ولم يكن هناك مزاحم أهم ولا مساوٍ في نظر العقل، فلو لم يكن أثر فلا غرض فلا وجوب للحركة، بل قد يقال: إن تحقق الحركة خارجاً ممتنع؛ إذ العلة الغائية هي عِلة فاعلية العلة الفاعلية، وعليه فلو قطع بشيء ولم يكن له غرض واجب الاستيفاء أو كان مزاحماً بالأهم أو المساوي في نظره فلا وجوب في متابعة القطع.

إن قلت: في كل قطع غرض لازم الاستيفاء؛ وذلك لأن القاطع يرى حرمة افتراء الكذب - شرعاً أو عقلاً - بخلاف ما قطع به، فيستقل العقل بلزوم الانزجار.

ص: 70


1- فرائد الأصول 1: 29.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 96-98.

قلت: إن ذلك فرع الالتفات إلى هذا الحكم - العقلي أو الشرعي - فمع عدمه لا حكم للعقل.

إن قلت: المقصود هو الأثر الذي يترتب عليه غرض الأصولي بما هو أصولي، وهو خاص بالقطع بالحكم المولوي؛ وذلك لأن خصوص الغرض يقتضي تخصيص الموضوع!

قلت: إن من الأحكام المولوية ما هي غير إلزامية، فلا ينبغي إطلاق القول بوجوب الحركة على طبق القطع بها، فتأمل.

وثانياً: بأن المراد من وجوب الجري طبقه إما الوجوب العقلي أو العقلائي، وكلاهما غير محتمل.

أما الوجوب العقلي: فقد يقال: بأنه لا حكم للعقل أصلاً، بل إما إدراك الأمور من غير حكم فيها، وإما الملائمة والمنافرة للقوة العقلية، نظير ما يقال: إن الانتقام إنما هو بحكم القوة الغضبية، ويراد به ملائمته لها، فليس للعقل سوى الانفعال.

وأما الوجوب العقلائي: فقد يقال: بعدم وجوده أيضاً، قال المحقق الإصفهاني(1): كما لا بعث ولا تحريك اعتباري من العقلاء!

ويرد على الأول: أن الوجدان قاضٍ بأن للعقل بعثاً وزجراً، فليس هناك مجرد انفعال، بل فعل، فنرى فرقاً وجداناً بين إدراك العقل بأن الكل أعظم من الجزء وبين إدراكه حسن العدل وبعثه نحوه، وكذا إدراكه قبح الظلم وزجره عنه.

ص: 71


1- نهاية الدراية 3: 18.

وعلى الثاني: بأن العقلاء يلزمون القاطع باتباع قطعه إذا كان متعلقه تكليف المولى، ويرونه مستحقاً للعقوبة لو خالف قطعه، وذلك ثابت بالوجدان.

والحاصل: أنه لا إشكال في وجود أحكام للعقل والوجدان يدل على لزوم اتباع هذا القطع، وإلاّ لزم التسلسل؛ إذ لا بد من إقامة الدليل القطعي على لزوم الاتباع، وحيث إنه قطعي لا بد من إقامة البرهان على اتباعه و هكذا.

تذييل: اختلف في منشأ الوجوب العقلي، فقيل: هو استحقاق العقاب على مخالفة المولى، وقيل: هو الإذعان باستحقاق العقوبة، وقيل: إن نفس مولوية المولى مقتضية لذلك حتى مع القطع بعدم استحقاق العقاب!!

لكن المحقق الإصفهاني(1) ذهب إلى أن استحقاق العقوبة ليست من الآثار القهرية واللوازم الذاتية لمخالفة التكليف المعلوم، بل هي من اللوازم الجعلية العقلائية؛ لأن حكم العقل باستحقاق العقاب ليس مما اقتضاه البرهان، بل هو من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء؛ وذلك لعموم مصالحها!!

ويرد عليه: أولاً: أنا نرى بالوجدان عدم قبح عقاب المخالف قبل تحقق الجعل العقلائي، كالإنسان الأول.

وثانياً(2): إن تطابق آراء العقلاء لا بد له من منشأ بأن ينشأ بناؤهم عن

ص: 72


1- نهاية الدراية 3: 22.
2- منتقى الأصول 4: 24-25.

شيء راجح، بحيث يكون ما بنوا عليه من مصاديقه؛ وذلك لامتناع أن يكون تطابقهم عن ارتجال، فإن ذلك ينافي فرض كونهم عقلاء.

وعليه فإذا فرض كون بنائهم ناشٍ عن أمر راجح - كحفظ النظام - فننقل الكلام إليه، فهل رجحانه أمر عقلي أو عقلائي، والثاني يستلزم التسلسل، والأول لازمه عدم كون حسن العدل وقبح الظلم عقلائياً مجعولاً، بل أمر عقلي واقعي؛ لأنه من مصاديق العنوان الراجح العقلي، فالعدل هو حفظ النظام وهو حسن، والظلم إخلال به وهو قبيح، فتأمل.

المبحث الرابع: هل يمكن ترخيص الشارع في مخالفة القطع؟

سواء كان بالمنع عن العمل بالقطع أم الترخيص في مخالفته، ومحل البحث إنما هو في القطع بالحكم الفعلي مع كون القطع طريقياً؛ إذ

لا محذور في مخالفة القطع بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي ما لم يصل إلى مرتبة الفعلية، كما أن القطع الموضوعي يكون القطع جزءاً من الموضوع، بمعنى أن الحكم يترتب على القطع الحاصل من سبب خاص لا على غيره، فإذا انتفى ذلك السبب الخاص بأن كان القطع من سبب آخر، انتفى الموضوع.

والأكثر على عدم إمكان الترخيص في مخالفته إذا تعلّق بحكم إلزامي، واستدل لذلك بأدلة، منها:

الدليل الأول: استلزام الترخيص التفكيك بين اللازم والملزوم العقليين وهو محال؛ وذلك لأن اللوازم العقلية غير قابلة للوضع لكونه تحصيلاً للحاصل، ولا للرفع لكونه خلف فرض كونه لازماً للذات.

ص: 73

نعم، يمكن إزالة القطع خارجاً فيزول لازمه، لكن هذا خارج عن محل البحث.

وأشكل عليه: أولاً: مبنىً - بما مرّ عن المحقق الإصفهاني - من أن استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المقطوع به لازم جعلي لا ذاتي، فيمكن الردع عنه، فينتفي إدراك العقل باستحقاق العقاب على المخالفة.

وفيه: ما مرّ آنفاً في المبحث الثالث من الإشكال على المبنى.

وثانياً: بما عن صاحب الفصول(1): من أن حكم العقل بوجوب متابعة القطع بالحكم الفعلي ليس تنجيزياً، بل هو معلّق على عدم ورود ترخيص من الشارع على مخالفته، وبعبارة أخرى: أن حكمه على نحو المقتضي

لا العلة التامة، ومن الواضح إمكان إيجاد المانع فلا يؤثر المقتضي أثره، مثلاً لو كان قطعه خلافاً للواقع أو كان ملاك المقطوع به مزاحم بملاك أقوى أو مساوي فيكون ذلك مانعاً عن تأثير المقتضي؛ وذلك لوجود مصلحة أهم في الردع، كالنهي عن عمل الوسواسي بقطعه!

وفيه: أن ذلك إرجاع للقطع إلى القطع الموضوعي، أي القطع الذي

لا ينشأ من الوسوسة في المثال، كما يقال نظير ذلك في العناوين الثانوية، فالميتة غير المضطرة إليها محرمة، بمعنى جعل الاضطرار جزءاً من الموضوع للحكم بالحرمة.

الدليل الثاني: يلزم من الترخيص في مخالفة القطع اجتماع الضدين اعتقاداً مطلقاً، واجتماعهما واقعاً في صورة الإصابة.

ص: 74


1- الفصول الغرويّة: 343.

وقد يقال: إن المحذور هو عدم إمكان تصديق المكلّف بهما معاً، وما لا يمكن تصديق المكلّف به يستحيل جعله من قبل المولى بداعي جعل الداعي، وفي نهاية الدراية(1): وكفى به مانعاً لعدم تمكن المكلّف من تصديقه بعد تصديقه بمثله أو ضده أو نقيضه، فلا يعقل من المولى حينئذٍ البعث والزجر؛ لأنهما لجعل الداعي المفروض استحالته في نظر المكلّف، وبعبارة التبيين(2): إذا فقدت العلة الغائية استحال المعلول، وحيث إن العلة الغائية للتكليف هو جعل الداعي، فإذا استحال هذا الجعل استحال التكليف.

وأشكل عليه: مبنىً بعدم التضاد في الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن الإرادة والكراهة وكذا البعث والزجر الاعتباريين لا تضاد ولا تماثل بينهما، وبعبارة أخرى: لا وجود للأمور الاعتبارية إلاّ في وعاء الاعتبار - وهو وجود افتراضي - فلا يصح نعتها بالأوصاف الحقيقية التي هي للموجودات الخارجية.

وفيه: ما مرّ في مباحث اجتماع الأمر والنهي من وجود التضاد في المبدأ وهو الإرادة، والمنتهى وهو المراد؛ إذ مع الالتفات إلى تضادهما لايمكن إرادتهما معاً.

إن قلت: إن الداعي إلى التكليف ليس منحصراً في جعل الداعي، وعليه فيمكن أن يكون أحد الحكمين بداعي جعل الداعي، والآخر بداعي آخر.

إذ قد يكون جعل الداعي محالاً، كالنائم عن الفريضة في كل الوقت، فيكون الداعي لتكليفه هو ثبوت القضاء عليه - بناءً على كونه بالأمر الأول

ص: 75


1- نهاية الدراية 3: 19-20.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 119.

أو لتحقق الفوت - ، وكالمعاند الذي يكون الداعي لتكليفه هو إتمام الحجة لا جعل الداعي المعلوم انتفاؤه فيه.

قلت: إن داعي التكليف ليس جعل الداعي، بل هو إمكان جعل الداعي، وهو متحقق في جميع موارد التكليف، كما أن خطاب النائم لغو مادامه نائماً فيكون وجوب القضاء عليه بدليل مستقل، كما أن مقولة إن القضاء يتبع الأداء، لا عموم فيه؛ لعدم محذور في عدم تبعيته بعد أن كان كل منهما اعتباريّاً، فتأمل.

الدليل الثالث: استلزام ذلك للّغوية ونقض الغرض في صورة الإصابة؛ إذ من اللغو أن يكلّف المولى عبده بشيء ثم يرفع تكليفه حين القطع به، كما أنه نقض للغرض؛ إذ التكليف إنما هو عن مصلحة أو مفسدة، فإذا كان القطع يرفع التكليف - مع عدم إمكان رفع المصلحة أو المفسدة بالقطع لأنهما تكوينيان - لزم تفويت ملاك الحكم وهو قبيح.

وقد يجاب: بأنه في حالة الظن تكون الحجية، فلا لغوية ولا تفويت في هذه الحالة، كما أنه يمكن تبدل المصلحة مع العلم، فتأمل.

الدليل الرابع: إنه يلزم من وجوده عدمه، فلو قال: لو قطعت بالوجوب حرم عليك، يلزم منه أنه حين قطعه بالوجوب يزول هذا القطع وذلك لقطعه بالحرمة، وعليه فلا قطع بالوجوب فلا تكون حرمة؛ إذ الحكم تابع للموضوع.

اللهم إلا أن يقال: إن قطعه بالوجوب في المثال علة محدثة للحكم بالحرمة لا مبقية، فلا يدور الحكم بالحرمة مدارها، فتأمل.

ص: 76

المبحث الخامس: في معذرية القطع

وذلك في صورة عدم إصابة القطع للواقع.

وقد يستدل له: بأن المنجزية والمعذرية ضدان لا ثالث لهما، فبانتفاء المنجزية تتحقق المعذرية حتماً؛ وذلك لأن المنجزية إنما هي بوصول التكليف - ولو احتمالاً - إلى المكلّف لعدم كون التكليف بوجوده الواقعي محركاً إلاّ إذا علم به المكلّف أو احتمل وجوده، ومع القطع بالخلاف

لا وصول للتكليف ولو بنحو الاحتمال، لمنافاة الاحتمال للقطع، فلا منجزية فيكون معذوراً حتماً.

هذا إذا كان عدم وصول التكليف عن قصور، وأما لو كان عن تقصير فلا معذرية له؛ إذ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، فالقطع عن سوء الاختيار لا يرفع اختيار العبد في عدم وصول التكليف إليه، فيصح عقابه. نعم، لا يصح خطابه حين القطع.

إن قلت: إن كون القطع معذراً مستلزم لتقييد الأحكام بالعلم وهو محال؟

قلت: ليس ذلك تقييداً للأحكام، بل التنجيز منوط بالعلم، ولا محذور فيه.

ص: 77

فصل فی التجري

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى التجري

وهو المخالفة اعتقاداً مع عدم المخالفة واقعاً.

وقد يقال(1): إنه أعم من ذلك، فيدخل فيه الاقتحام من غير مؤمِّن عقلي أو شرعي حتى وإن لم تتحقق في اعتقاده مخالفة قطعية، كما لو ارتكب بعض أطراف العلم الإجمالي برجاء مصادفة الحرام، أو برجاء عدم مصادفته، فاتفق عدم المصادفة.

ولكن مع وجود المؤمِّن الشرعي أو العقلي فلا تجرّي حتى لو احتمل مخالفة الحكم الواقعي، كما لو أجرى أصالة البراءة مع احتمال مخالفتها للواقع.

وهذا المعنى الاصطلاحي أخص مطلقاً من المعنى اللغوي الشامل للمخالفة الواقعية أيضاً.

المطلب الثاني: في حرمة الفعل المتجرّى به

سواء الحرمة بالعنوان الأولي أم الثانوي، وقد يستدل لذلك بأدلة، منها:

ص: 78


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 133.

الدليل الأول: إن موضوع الحرمة لا يمكن أن يكون الشيء بوجوده الواقعي؛ وذلك لأن معنى الشيء بوجوده الواقعي هو (الشيء المصادف للواقع)، ومن المعلوم أن إصابة الواقع وعدمها ليسا اختياريين، بدليل أنه لو كانا اختياريين لما أخطأ القاطع أبداً، مع وضوح كثرة عدم إصابة القطع للواقع.

وعليه فمعنى (لا تشرب الخمر) هو (لا تشرب مقطوع الخمرية)، فلا فرق فيه بين إصابة الواقع وخطئه.

وأشكل عليه: بأن القدرة على بعض أجزاء المركب تكفي في القدرة عليه، وكذا مقدورية بعض المقدمات كافية وإن كانت بعضها غير مقدورة، أو كان من الأفعال التسبيبية التي لا قدرة على المسبب بنفسه لكن يكفي في مقدوريته القدرة على بعض مقدماته.

وفي ما نحن فيه (الشرب المصادف للواقع) مقدور بسبب القدرة على جزء الموضوع وهو الشرب، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف والعقوبة على المخالفة.

الدليل الثاني: ما نقله المحقق النائيني(1)، وحاصل الدليل مركب من مقدمتين:

1- أن الموضوع ليس هو الوجود الخارجي لاستحالة الانبعاث والانزجار عنه ما لم يتصف بصفة المعلوميّة، أي إن المحرّك هو صفة العلم، فلها الموضوعية في تحقق الإرادة من غير فرق بين أن يكون للصورة النفسانية واقع يطابقها أم لا.

ص: 79


1- فوائد الأصول 2: 37-38.

2- إن داعي المولى في بعثه وزجره هو انبعاث أو انزجار المكلّف تكويناً، أي إن الغرض من التكليف هو إيجاد الإرادة التكوينية للمكلف نحو المطلوب.

ولا يعقل أن يكون الغرض من التكليف هو (تحريك إرادة العبد التكوينية المصادفة للواقع) وذلك لأن المحرّك ليس هو الواقع، بل هي الصورة العلمية، وعليه فيكون التكليف هو لتحريك مطلق الإرادة - صادفت الواقع أم لم تصادف - ، فيكون دليل تحريم الخمر دالاً على تحريم مقطوع الخمرية، أي لا تُر ِدْ مقطوع الخمرية، وهذا قد خالفه العاصي والمتجري على حدّ سواء.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض بالواجبات، لشمول الدليل لها، كما لو قطع بأنه بالغ، فحجّ ثم تبيّن عدم بلوغه، فعلى هذا الدليل لا بد من الاكتفاء به وعدم لزوم تكرار الحج، وهذا لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: إشكال على المقدمة الأولى(1)، من أن المحرّك هو الواقع بشرط انكشافه أو الواقع منضماً إلى انكشافه، وبعبارة أخرى: ليس للعلم هنا موضوعية، بل طريقية، وهذه الإرادة لا توجد في المتجري؛ وذلك لعدم وجود (واقع معلوم) بل مجرد (قطع غير متطابق مع الواقع)، وبعبارة ثالثة: لم يكن التكليف بمطلق المحرّك، بل بخصوص الواقع المنكشف.

وثالثاً: على المقدمة الأولى أيضاً، بأن المحرّك ليس هو العلم، بل الالتفات، وبينهما عموم مطلق لشمول الالتفات إلى الظن والشك والوهم،

ص: 80


1- فوائد الأصول 2: 39.

وعليه فلا يصح جعل المحرّك خصوص العلم، فالعطشان يتحرك لمجرد احتمال وجود الماء، ولو رمي شبحاً باحتمال أنه إنسان فأصابه، ثم تبين أنه إنسان وقد قتله، تترتب عليه آثار القتل العمدي.

وفيه: إنه لا يضر بالإشكال، بل يوسّعه، أي بدل (لا تشرب معلوم الخمرية) يكون التكليف هو (لا تشرب محتمل الخمرية)، وهذا يشترك فيه المتجري والعاصي.

ورابعاً: إشكال على المقدمة الثانية(1)، بأن مفاد التكليف هو (الفعل الصادر عن إرادة) لا (إرادة العبد للفعل)، فهناك فرق بين (لا تُر ِدْ شرب الخمر) المشترك بين المتجري والعاصي، وبين (لا تشرب الخمر الإرادي) الذي لا يشمل المتجري؛ لأنه لم يشرب الخمر أصلاً.

وذلك لأن المصلحة أو المفسدة تترتبان على (الفعل الإرادي) لا على (إرادة الفعل).

وخامساً: منع المقدمة الثانية؛ وذلك لأن التكليف من شأنه الدعوة، فيكون المدعو إليه عنواناً في طول عنوان المعروض، فما هو المعروض لايعقل أخذ الإرادة فيه - ولو قيداً - لأن الإرادة إما ناشئة عن غير دعوة التكليف فهي أجنبيّة عنه، وإما ناشئة عن التكليف بنفسه فهي معلولة له، فلا يعقل أن تكون قيداً في موضوعه، وعليه فالفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول له لا معروضه، فلا محيص عن تجريد المعروض عن الإرادة رأساً.

ص: 81


1- فوائد الأصول 2: 40.

وأجيب(1): بأن المعروض هو الشيء بماهيته - بما هي مرآة للخارج - والمعلول هو الشيء بوجوده العيني في الخارج، نظير العلة الغائية، حيث إنها علة فاعلية الفاعل بوجودها الذهني، ومعلولة له بوجودها الخارجي.

الدليل الثالث: قاعدة الملازمة، وحاصله: أن الفعل المتجرى به قبيح فاعليّاً ومحرّم عقلاً، وكلّما حكم العقل بحرمته وقبحه حكم الشرع بحرمته!

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(2)، وحاصله: عدم إمكان استتباع القبح الفاعلي للخطاب الشرعي المولوي بحرمة ارتكاب الفعل المتجرى به؛ لأن هذا الاستتباع يفرض على أنحاء ثلاثة، وكلها ممتنعة، إما استتباع القبح الفاعلي لسراية الحرمة الثابتة لشرب الخمر الواقعيّة مثلاً إلى شرب مقطوع الخمرية، وإما استتباعه لحكم مماثل مع اختصاص هذا الحكم المماثل لخصوص عنوان المتجري، وإما استتباعه لحكم مماثل يعمّ المتجري والعاصي.

أما الفرض الأول: فهو محال؛ لأن القبح الفاعلي متأخر رتبة عن التكاليف الواقعيّة؛ إذ الحرمة الواقعية صارت سبباً للقبح الفاعلي، مثلاً القبح الفاعلي في شرب مقطوع الخمرية هو بسبب حرمة شرب الخمر ولولاها لما كان هناك قبح في شرب مقطوع الخمرية.

وما كان في مرتبة متأخرة عن التكليف لا يمكن استتباعه للتكليف؛ إذ

ص: 82


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 149.
2- فوائد الأصول 3: 42-46.

ذلك موجب لتقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه.

إن قلت: إن المحال هو الاستتباع بنحو العلية، وأما إذا كان بنحو الكاشفية فلا إشكال، نظير كل دليل إنيّ ينتقل فيه من المعلول إلى العلة، نظير حكم العقل بحرمة الظلم، حيث يحرم شرعاً بحكم الملازمة، فالحكم العقلي كاشف عن الحرمة الشرعية لا مولّد لها!

قلت: القبح أمر واقعي وليس بجعليّ، وهو علّة للحكم الشرعي - المكشوف بحكم الملازمة - وحيث إن قبح شرب مقطوع الخمرية متوقف على حرمة شرب الخمر الواقعيّة فلا يمكن أن يكون علّة لها!

إن قلت: في المجعولات يمكن أن يكون خطاب واحد شاملاً لها مع تأخر بعضها عن بعض، كما في الخبر بالواسطة، حيث إنه مع تقدم الخبر بلا واسطة عليه فإن خطاب الحجية شامل لهما، وفي ما نحن فيه يكون وصول الحرمة الفعليّة للخمر الواقعيّة مأخوذاً في موضوع الحرمة الفعلية في الفعل المتجرى به، مع كون الحرمتين مجعولتين بخطاب واحد!

قلت(1): لا تنطبق الكبرى على ما نحن فيه، والقياس مع الفارق؛ وذلك لأن شمول الدليل في الخبر للفرد الأول يولّد فرداً جديداً من أفراد الموضوع تعبداً، فيشمله الحكم الجاري على الموضوع، وأما في ما نحن فيه فالفرد الثاني مباين للفرد الأول فلا يشمله حكمه؛ إذ موضوع قوله (الخمر حرام) هو الخمر الواقعية، وهذا يستتبع حكم العقل بقبح الفعل المتجرى به، وبعد حكم العقل بذلك يحكم الشرع - لقاعدة الملازمة - إلاّ أن (مقطوع

ص: 83


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 161.

الخمرية) ليس فرداً من أفراد (الخمر الواقعيّة) لا حقيقةً ولا تعبداً، فبعد أن كانت الحرمة محمولة على الخمر الواقعية يمتنع ثبوتها لغيرها.

وأما الفرض الثاني: هو استتباع القبح الفاعلي لثبوت حرمة مماثلة لخصوص عنوان (المتجرى به)! وهذا أيضاً محال؛ لاستحالة التكليف في ما ينقلب موضوعه بالوصول إلى المكلّف؛ وذلك لعدم كون هذا التكليف محرّكاً، فقبل الوصول لا تحريك لعدم العلم به، وبعد الوصول لا تحريك لانقلاب الموضوع، كما ذكروا نظيره في ناسي السورة حيث لا يمكن خطابه بقولنا: أيّها الناسي للسورة لا تجب عليك قراءتها! إذ بمجرد الخطاب ينقلب متذكراً.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو عُلّق التحريم على عنوان المتجري فقبل وصول التحريم لا باعثية للتكليف، وبعد وصوله يلتفت المتجري إلى خطئه فينقلب الموضوع، فلا تحصل باعثية على كل حال، فيكون الخطاب لغواً لا يصدر من الحكيم!

وأورد عليه: بعدم لزوم الانقلاب ولا اللغوية؛ لأن التجري لا يختص بالعلم الوجداني، بل يجري في القطع التعبدي، كما لو قامت بينة على خمرية هذا المائع، مع احتمال المكلّف مخالفتها للواقع، فإنه يعلم تفصيلاً بحرمة هذا المائع إمّا لكونه خمراً واقعاً أو لكونه مقطوع الخمرية تعبداً، حيث إن كليهما محرّم، فلا انقلاب، كما أن لهذه الحرمة آثاراً كوجوب التوبة وسقوط العدالة ونحو ذلك فلا لغوية.

وأما الفرض الثالث: وهو استتباع القبح الفاعلي لثبوت حرمة مماثلة تعمّ المتجري والعاصي، بأن يكون موضوعها المتمرّد ونحوه.

ص: 84

وهذا أيضاً محال؛ للزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع دائماً - وإن لم يلزم ذلك في الواقع - ؛ وذلك لأن القاطع لا يحتمل المخالفة، وإلاّ لم يكن قاطعاً، ففي نظره يجتمع الحكمان دائماً على موضوع واحد، وأحد الحكمين لا يكون داعياً ومحركاً لإرادة العبد أبداً، ومن اللغو تشريع حكم لا يوجب البعث ولو في مورد واحد.

وفي ما نحن فيه لو فرض أن للخمر حكم ولمعلوم الخمرية حكم آخر، فبمجرد العلم بخمرية شيء يعلم المكلف بوجوب الاجتناب عنه لكونه خمراً واقعاً، فالحكم الآخر وهو وجوب الاجتناب لكونه معلوم الخمرية لا يصلح للباعثية؛ إذ ليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية، فإن العلم بالخمرية ملازم دائماً للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتب على الخمر الواقعية، فإن القاطع لا يحتمل المخالفة أبداً، وعليه فلا يمكن توجيه خطاب آخر على معلوم الخمريّة.

وبعبارة أخرى: النسبة الواقعيّة بين موضوع اجتنب الخمر واجتنب مقطوع الخمرية، وإن كانت العموم والخصوص من وجه، إلاّ أنها في نظر القاطع - الذي يراد تحريكه - العموم والخصوص المطلق؛ لأن القاطع لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع، فهو يرى أن (اجتنب مقطوع الخمرية) أخص موضوعاً من (اجتنب الخمر)، وعليه فالمحرّك هو خطاب اجتنب الخمر لا اجتنب مقطوع الخمرية.

وأجيب(1) أولاً: بأنه لا محذور في وجود تكليفين أحدهما يتعلق بالكلي

ص: 85


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 171-172.

والآخر بالحصة، ولا داعي لحمل تكليف الحصة على التأكيد؛ إذ التكليف تابع للملاك، ولا مانع من وجود ملاكين في الحصة؛ وذلك لأن المحذور:

1- إما اجتماع المثلين، ولا يلزم هنا؛ لأن التكليف اعتباري فرضي وليس وجوداً حقيقياً.

إن قلت: تجتمع إرادتان وهما وجود حقيقي؟

قلت: لا مانع ثبوتاً من وجود إرادة واحدة ينشأ منها اعتباران متماثلان متعلقان بشيء واحد.

2- وإما اللغوية في الجعل الثاني، ولا يلزم ذلك؛ إذ تعدد التكليف قد يكون مؤثراً في انزجار الكثيرين مع ترتب عقوبات متعددة.

3- وإما عدم الوقوع خارجاً، فالكلام هنا في الإمكان لا في الوقوع، فتأمل!

وثانياً: إن النسبة بين التكليفين العموم من وجه حتى في نظر القاطع؛ إذ القاطع يعلم أن بعض القاطعين مخطؤون في قطعهم، أو هو بنفسه في سائر قطوعه، فيكون جعل حكمين معقولاً في نظره.

وفيه: أن هذا لا يدفع محذور عدم محركية القطع باجتناب مقطوع الخمرية مثلاً؛ لأن القاطع لا يرى النسبة عموماً من وجه في قطعه هذا، بل حين القطع يرى النسبة العموم المطلق، فلا يصلح التكليف بالأخص للمحركية أبداً، فيكون لغواً.

وثالثاً(1): بأن هذا إنما يتم في باب المحرّمات لا الواجبات؛ إذ مع اعتقاد

ص: 86


1- منتقى الأصول 4: 47.

وجوب شيء لا تكون الحرمة الناشئة من التجري واردة على نفس متعلّق الوجوب، بل تتعلق الحرمة بالترك؛ لأنه عنوان المخالفة والعصيان، ومن الواضح أنه لا تماثل بين وجوب الفعل وحرمة الترك لاختلاف الموضوع.

وفيه: أن هذا وإن دفع محذور اجتماع المثلين، لكنه لا يدفع ملاك الاستحالة باللغوية؛ لأن التكليف الوجوبي إن كان محرّكاً فلا فائدة في التحريم على التجري في الترك، وإن لم يكن التكليف الوجوبي محرّكاً لم يكن التحريمي محركاً أيضاً؛ لأن حكم الأمثال في ما يجوز وما لايجوز واحد.

فتحصل من كل ذلك أن الفرض الأول محال، ولا استحالة في الفرض الثاني والثالث.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول الذي ذكره المحقق النائيني على دليل الملازمة لإثبات حرمة الفعل المتجرى به.

الإشكال الثاني: إن قاعدة الملازمة تجري في سلسلة العلل، ولا تجري في سلسلة المعاليل، وما نحن فيه من الثاني.

بيانه: إنه في سلسلة العلل، لو أدرك العقل المصالح والمفاسد الواقعية من غير مزاحم فلا محالة ينتج منه حكم شرعي؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

لكن تحقق ذلك بالعلم بهما من غير مزاحم نادر جداً؛ لعدم إحاطة العقل بذلك، ولا يكفي مجرد الظن؛ لأن العقل لا يحكم إلاّ في صورة القطع واليقين.

وأما سلسلة المعاليل، بمعنى أنه بعد حكم الشرع بشيء يحكم العقل أو

ص: 87

يدرك حسن الإطاعة وقبح المعصية مثلاً، فلا دليل على استلزام هذا الحكم العقلي حكماً شرعياً، بل لا يمكن ذلك لجهتين:

الجهة الأولى: إن حكم العقل إن كان كافياً في الانزجار والانبعاث، كان التكليف الشرعي لغواً، وإن لم يكف فيهما فلا يفيد الحكم الشرعي أيضاً؛ لأن العاصي كما لم يطع العقل لا يطيع الشرع أيضاً.

الجهة الثانية: لو كان القبح مستلزماً لحكم شرعي بالحرمة لزم التسلسل؛ لأن التجري والعصيان قبيحان عقلاً، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية، وعصيان هذه الحرمة أو التجري فيها أيضاً قبيح عقلاً، وهو مستلزم للحرمة الشرعية... وهكذا!

ويرد على الأولى: ما مرّ أن للمحركية شدةً وضعفاً، فلو قامت الحجة الشرعية - من غير قطع - فقد يقتحم المكلّف برجاء عدم الإصابة، لكن لو علم بالحرمة على كل حال فقد يرتدع لعلمه بالحرمة على كل حال سواء أصاب أو لم يصب، كما أن حكم العقل قد لا يكون رادعاً لكثير من الناس؛ إذ قد لا يهمهم حكم العقل ولا المصلحة أو المفسدة، لكنهم قد يرتدعون لو كان حكم شرعي يستتبع عقوبة إلهيّة.

وعلى الثانية: إنه لا تسلسل في الأمور الاعتبارية ولا الانتزاعية، لانقطاعه بانقطاع الاعتبار أو الانتزاع، وما نحن فيه من هذا القبيل، وعليه فلا يلزم أحكام غير متناهية شرعية؛ إذ عدم التناهي فيها إنما هو بحسب المفهوم لا المصداق، ولا محذور في الأول، والثاني ينقطع بانقطاع الالتفات، فتأمل.

هذا تمام الكلام في الدليل الثالث على حرمة الفعل المتجرى به.

ص: 88

الدليل الرابع: الآيات والروايات التي دلت على العقاب على القصد، وهي طوائف متعددة ذكرها السيد الأخ في التبيين، فراجع(1).

وأشكل عليه: أولاً: بأن دلالتها على استحقاق المتجري على العقاب ولا تدل على حرمة الفعل المتجرى به، ولا ملازمة بين استحقاق العقاب على فعل وحرمة ذلك الفعل شرعاً!

وفيه: ثبوت الملازمة العرفيّة، بمعنى أنّ دليل العقاب ظاهر عرفاً في ثبوت الحرمة، وخاصة الأدلة التي ورد فيها الوعيد بالنار، مضافاً إلى ورود لفظ اللعن في بعض هذه الروايات وهو ظاهر في الحرمة.

وثانياً: ما ذكره المحقق النائيني(2)، من أن مفاد هذه الأدلة هو المؤاخذة على قصد ارتكاب الحرام الواقعي في صورة التلبس ببعض مقدماته، ولكن منع مانع عن وقوعه، فلا ربط له بالحرام الخيالي.

وأجاب عنه المحقق العراقي(3)، بوجود مناط بطريق أولى، فمورد الروايات هي ما إذا منعه مانع، والمتجري لم يمنعه مانع، فكيف يكون عدم منع المانع عن العمل مانعاً عن الحرمة؟!

وفيه: عدم ثبوت المناط، فضلاً عن الأولوية؛ إذ يحتمل دخل (المطابقة) في المناط، وهي مفقودة في حالة التجري. نعم، قد يمكن الاستيناس ببعض الأدلة بأنها مطلقة تشمل التصدي للحرام الواقعي والخيالي.

ص: 89


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 182-190.
2- فوائد الأصول 3: 52.
3- فوائد الأصول 3: 52 (الهامش).

وثالثاً: لا دلالة في هذه الأدلة على كون موضوع الحرمة هو الفعل، بل يمكن أن يكون النية، أو النية المظهرة بالفعل، فلا حرمة للفعل بنفسه كي يستدل بها على حرمة الفعل المتجرى به.

هذا تمام الكلام في حرمة الفعل المتجرى به.

المطلب الثالث: قبح الفعل المتجرى به وعدمه

والكلام في أن العمل إذا لم يكن قبيحاً أو حسناً في ذاته، فهل يتغيّر بتعلّق القطع به فيصير قبيحاً أو حسناً، وبعبارة أخرى: هل القطع من الوجوه والاعتبارات التي تؤثر في حسن أو قبح الشيء؟

ذهب صاحب الكفاية إلى بقاء الفعل على ما هو عليه من الحسن أو القبح، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع به(1).

وقد يستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: عدم اختيارية الفعل المتجرى به بما هو مقطوع الحرمة، وكذا الفعل المنقاد به بما هو مقطوع الوجوب، وما لايكون اختيارياً

لا يكون قبيحاً أو حسناً.

ويمكن إثبات عدم الاختيارية بوجهين:

الوجه الأول: انتفاء القصد والالتفات:

أما انتفاء القصد: فلأن القطع مرآة وطريق، بمعنى أن المتجري لم يقصد الإتيان بالفعل بما هو مقطوع الحرمة - حيث إنه لم يقصد هذا العنوان - ،

ص: 90


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 214.

ومع انتفاء القصد لا يكون الفعل اختيارياً، فالمتجري يقصد شرب الخمر مثلاً ولم يقصد شرب مقطوع الخمرية!

وأما انتفاء الالتفات: فلأن القطع يُنظر به، ولا يُنظر إليه، بمعنى غفلة القاطع عنه، ومع الغفلة لا اختيار؛ وذلك لامتناع تعلّق الإرادة بشيء مع الغفلة عنه.

وفيه(1): أولاً: وجود الالتفات ولا ضير في انتفاء القصد؛ وذلك لأن الالتفات الإجمالي - أي الارتكازي - كافٍ في اختيارية الفعل، وهو متحقق في حالة القطع؛ لأن الأمور معلومة للنفس بالعلم الحضوري وملتفت إليها إجمالاً، بل قد يقال: إن الملتفت إليه أولاً وبالذات هو القطع، والالتفات إلى المقطوع إنما هو بالواسطة.

كما أنه لو كان لعنوان من العناوين ملاك الحسن والقبح، فتارة يقصد ذلك العنوان كضرب اليتيم إيذاءً، وتارة لا يقصده، بل يقصد غيره، كما لو ضربه لا للإيذاء، بل لاختيار قوة يده، فمجرد الالتفات كافٍ حتى لو لم يقصد ذلك العنوان.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو كان لعنوان (مقطوع الحرمة) ملاك القبح العقلي كفى الالتفات إلى هذا العنوان في كون الفعل اختيارياً حتى لو لم يقصده.

وثانياً: بالنقض؛ لأن العنوان الواقعي غير مقصود للفاعل، بل هو مغفول عنه، فلا يكون اختيارياً، فلا يكون حسناً أو قبيحاً، فالذي يُقدم على الصدق

ص: 91


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 217-218.

لا يلتفت إلى كون كلامه صدقاً حتى يكون فعله حسناً!!

وأجيب: 1- بأن المراد الحسن أو القبح الشأني، لا الفعلي، وإلاّ فاشتراط الاختيار في فعلية الحسن أو القبح بديهيّ!

وفيه: أنه تسليم بالإشكال؛ لأن الحسن أو القبح الشأني يساوق عدم الحسن أو القبح الفعلي!

2- وبأن واجدية الشيء للملاك أو فاقديّته، وكذا ملائمته للفطرة أو منافرته لها هما من الأمور التكوينية فلا ترتبط بالاختيار، وكذا المحبوبية أو المبغوضية لدى المولى. نعم، استحقاق الفاعل للذم أو المدح هو الذي أنيط به الاختيار، ولعل مقصود صاحب الكفاية هو الثلاثة الأولى.

الوجه الثاني: إن التجري تارة يكون مع الخطأ في الأحكام، وهذا

لا يضرّ بالاختيارية، كمن يتوهم حرمة لحم البقر، ومع ذلك يقصد أكل لحمه، فلا إشكال في وقوع الفعل عنه باختيار؛ لأن تخلّف الوصف لا يُخلّ بمقصودية الفعل.

وتارة يكون مع الخطأ في الموضوعات، كمن يشرب الخلّ بتوهم كونها خمراً، وهذا ليس بإراديّ؛ لأن (شرب الخمر) لم يتحقق، فلا معنى لافتراض كونه إرادياً، و (شرب الخلّ) لم يتصوّره ولم يمل إليه ولم يقصده المتجرى، فكيف يكون اختيارياً؟

وأشكل عليه بوجوه، منها:

الإشكال الأول: بأن الحركة لا تخلو من كونها بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة أو بالجبر، فما لا علم له بفعله مما يلائم طبعه هو الفاعل بالطبع، وما

ص: 92

لا علم له بفعله بما لا يلائم طبعه فهو الفاعل بالقسر، وما يعلم بفعله من غير إرادته هو الفاعل بالجبر، وما يعلم بفعله وبإرادته فهو الفاعل بالإرادة.

وعليه فإن شرب هذا المايع الشخصي بتوهم كونه خمراً، ليس معلولاً لقسر قاسر ولا للطبع، بل هو معلول للإرادة، غاية الأمر إن تعلق الإرادة بشربه لاعتقاد كونه خمراً، وتخلّفه لا يوجب كون هذا الشرب الشخصي بلا إرادة، فالشوق الكلي إلى شربه يتخصّص بشرب هذا المائع بواسطة الاعتقاد، والخطأ في التطبيق لايخرج هذا الشرب عن كونه إرادياً، فكلامنا ليس عن شرب الخمر أو الخلّ، بل عن عنوان (شرب هذا المائع الشخصي).

الإشكال الثاني: إراديّة العام بتبع إراديّة الخاص، فالمقصود والواقع هو الكلي، وكون الفرد مردداً بين (عدم المقصود) و (عدم الواقع) لا يضرّ بإرادية العام، نظير استصحاب القسم الثاني من الكلي.

وبعبارة أخرى: إن المتجري قصد العنوان العام بتبع قصده لفرد خاص، وعدم وقوع ذلك الفرد الخاص، بل تحقق فرد آخر لا يضرّ بتحقق العام وقصده!

وأجيب عنه: بأن العام بما هو هو لا وجود له في الخارج، بل هو أمر ذهني، فلا تترتب عليه الآثار الخارجية، وأما ما في الخارج فلم تتحقق الحصة من العام التي هي في ضمن شرب الخمر مثلاً، وما تحقق من شرب الحصة التي هي في ضمن الخلّ لم تُقصد، فتأمل.

الإشكال الثالث: ما وضّحه في التبيين(1)، بأن الجامع ملتفت إليه ومقدور

ص: 93


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 226.

على فعله و تركه، حتى وإن لم يكن الجامع محطّ الإرادة، وهذا الصغرى.

والشيء كلّما كان ملتفتاً إليه ومقدوراً على فعله وتركه، كان اختيارياً وإن لم يكن إرادياً، والإرادية غير مقومة لاختيارية الفعل، وهذا الكبرى.

وأجاب عنه في نهاية الدراية(1)، بأن الفعل الاختياري هو ما صدر عن شعور وقدرة وإرادة، لا مجرّد الأولين!

وردّه في التبيين(2)، بعدم لزوم الثالث في الاختيارية؛ لأن ملاكها كون الفعل صادراً عن سلطنة الفاعل، بحيث كان له أن يترك، ويكفي في تحقق ذلك مجرد الالتفات إلى العنوان وصدوره منه في حالة كان له أن يمتنع عنه فيها، كما في تعلق الإرادة التكوينية بالمقدمة دون النتيجة، أو بالعكس، أو اللازم دون الملزوم، أو العكس، أو أحد المتلازمين، وكذا الرغبة والشوق.

نظير من حفر حفرة في الطريق العام مع علمه بسقوط المارّة، لكنه لم يُرد ذلك، ونظير ما لو كان متعلّق الإرادة سبباً للإكراه على الحرام أو الإلجاء إليه أو الاضطرار؛ وذلك لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وكذا الوجوب بالاختيار، فتأمل.

الدليل الثاني: - على بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه من الحسن أو القبح من غير تغيّر ذلك بتعلق القطع به -: ما في الكفاية(3)، من أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن

ص: 94


1- نهاية الدراية 3: 34.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 227.
3- إيضاح كفاية الأصول 3: 215.

والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً؛ ضرورة عدم تغير الفعل عمّا هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً!

وأشكل عليه(1): بأنه ليس القطع بالحرمة في نفسه من الوجوه والاعتبارات الموجبة لقبح الفعل، لكن قد يقال: بأنه يلازم لعنوان آخر هو من العناوين المقبّحة، فيكون الفعل المتجرى به قبيحاً لأجل ذلك العنوان الملازم، ويشهد به الوجدان، وهو هتك حرمة المولى وإهانته والخروج عن رسم العبوديّة.

إن قلت: إنه تخيّل هتك وليس بهتك؟ نعم، ذلك يكشف عن أنه لا مانع له عن الهتك، لكن عدم وجود المانع يرتبط بنفسه ولا يرتبط بالفعل حتى يعنونه!

قلت: قد يكون للعنوان العام المحرّم أو القبيح مصداقان، ولا يخرج عن القبح أو الحرمة لو ارتكب المكلف الفعل بتوهم أحدهما فبان الآخر، مثلاً لو قصد قتل زيد فرماه عمداً، فبان أنه عمرو، وما نحن فيه كذلك؛ إذ للهتك مصداقان هما: المعصية الواقعية والمعصية الاعتقادية، والمتجري هتك حرمة المولى بمعصية اعتقادية متوهماً أنها معصية حقيقية، فالهتك حاصل على كل حال.

ص: 95


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 232.

لايقال: اتحاد الفعل المتجرى به مع تلك العناوين ليس دائمياً، فقد يُقدم على مقطوع الحرمة لا من باب الاستخفاف بأمر المولى ولا الجحد لمولويته، بل لغلبة الشقاء، كمعاصي غالب المسلمين!

فانه يقال: إن ذلك لا يخرجه عن الهتك، فالهتك حاصل حتى مع عدم الاستخفاف والجحد.

إن قلت: ذات العمل قد يكون حسناً - كانقاذ ابن المولى - وهذا الحسن الذاتي يزاحم القبح العرضي - بهتك حرمة المولى - ، فلا بد من البحث عن المرجّح فلا يثبت قبح الفعل المتجرى به على كل حال؟

قلت: إن الحسن هو ما يستحق فاعله المدح، والقبيح ما يستحق فاعله الذم، وعليه فلا بد من الالتفات؛ لأن غير الملتفت لايستحق مدحاً ولازماً، وحيث إن المتجري لم يكن ملتفتاً إلى الحسن الذاتي - على فرض وجوده - فلا وجود له أصلاً لكي يزاحم القبح العرضي بسبب انطباق عنوان الهتك وأمثاله، فتأمل.

المطلب الرابع: استحقاق أو عدم استحقاق المتجري للعقاب

وفيه قولان:

القول الأول: استحقاقه للعقاب، وقد يستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: ما عن المجدد الشيرازي(1)، وحاصله أن موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية لايخلو من أحد ثلاثة: إما التكليف

ص: 96


1- تقريرات المجدّد الشيرازي، للروزدري 3: 277-285.

بوجوده الواقعي، أو العلم المصادف للواقع، أو العلم مطلقاً!

أما الأول: فالتكليف بوجوده الواقعي غير محرّك، فلا وجه لتوقع تحرك العبد طبقاً له، فلا يصح عقابه على مخالفته.

وأما الثاني: إنه لا بد في ترتب المحمول من إحراز تحقق الموضوع، وفي ما نحن فيه لا إحراز للمصادفة للواقع، لاحتمال مخالفة العلم للواقع، فلا تجب الطاعة لاحتمال انكشاف الخلاف، وفي ذلك غلق لباب الطاعة.

وأما الثالث: فهو التعين بعد بطلان الأولين، وهذا مشترك بين المتجري والعاصي.

وأشكل عليه: أولاً: باختيار الشق الثاني من غير محذور؛ لأن القاطع يُحرز المطابقة دائماً، وغير القاطع مع وجود الدليل المعتبر قد أحرز المطابقة تعبداً، وعليه فلا بد له من الطاعة. نعم، لو انكشف الخلاف انقلب الموضوع فترتفع الآثار.

ومن المعلوم أن العلم المصادف للواقع خاص بالعاصي دون المتجري، فلذا يستحق الأول العقاب دون الثاني!

وثانياً: ما عن المحقق النائيني(1)، إنه في باب التجري لا يوجد علم، بل جهل مركب، فليس كلامنا تفرقة بين علم وآخر، بل هو عدم سراية أحكام العلم إلى الجهل.

وفيه: أن البحث ليس لفظياً كي يقال: إن الجهل المركب ليس بعلم، بل الملاك مشترك بين العلم والجهل المركب؛ إذ الكلام في أن حكم العقل

ص: 97


1- أجود التقريرات 3: 54.

إنما هو في مطلق القطع، وأن القطع المطابق للواقع لا يمكن أن يكون موضوعاً لاستحقاق العقوبة.

الدليل الثاني: إن ملاك استحقاق العقاب منحصر بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي، والأول غير ممكن لعدم جواز عقاب الجاهل القاصر، فتعين الثاني وهو مشترك بين العاصي و المتجري.

وفيه: أولاً: إمكان شق ثالث وهو المركب منهما، وهو متحقق في العاصي دون المتجري، إلاّ لو قيل: بأن الفعل المتجري به قبيح أيضاً، كما مرّ في المسألة السابقة.

وثانياً: اختيار شق القبح الفاعلي، لكن يقال بأن له درجات فبعضها ملازم لاستحقاق العقاب دون بعض، ولذا فبعض الرذائل الأخلاقية غير محرمة رغم قبحها، ومن المعلوم أن العصيان ملازم للدرجة الموجبة لاستحقاق العقاب، ولم يعلم ذلك في التجري.

الدليل الثالث: إن التجري حرام عقلاً، فيكون حراماً شرعاً، لقاعدة الملازمة، وكل ما كان حرام شرعاً استحق فاعله العقوبة.

وفيه: إن الملازمة أو التلازم - على القول بهما - إنما هي على نحو المقتضي، وقد يمنع مانع عن تأثير المقتضي، وفي ما نحن فيه التلازم أو الملازمة بين الحكمين سبب لمحاذير مرّ الكلام حولها كاللغوية وانقلاب الموضوع أو سراية حكم من موضوع إلى آخر... وغير ذلك.

الدليل الرابع: إنه لو ارتكب اثنان ما قطعا بحرمته، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، فإما أن يستحقا العقاب كلاهما، وهو المطلوب، أو لا يستحقه

ص: 98

أيٌّ منهما وهو بديهي البطلان ضرورة استحقاق العاصي له، وإما يستحق المتجري دون العاصي، وهذا أيضاً واضح البطلان، وإما يستحق العاصي دون المتجري، وهذا محال؛ وذلك لربط استحقاق العقاب على أمر غير اختياري وهو المصادفة للواقع.

وأجيب: أولاً: باختيار الشق الرابع من دون محذور؛ لأن من صادف قطعه الواقع ليس عقابه على المصادفة، بل على العصيان وهو أمر اختياري، بل يصح العقاب على المصادفة أيضاً؛ لأنها وإن لم تكن اختيارية إلاّ أن مقدماتها اختيارية، وأما من لم يصادف قطعه الواقع فلا بأس بعدم عقابه لأمر غير اختياري؛ لأن عدم العقاب على أمر غير اختياري ليس بقبيح.

وثانياً: لازم الدليل هو تساويهما في العقاب الدنيوي والأخروي وكذا الذم؛ إذ لو كان تفاوتٌ كان التفريق بأمر لا يرجع إلى الاختيار، مع أنه بالضرورة يختلف العقاب وكذلك الذم.

الدليل الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)، من أن مبنى المشهور استحقاق العقاب بحكم العقل، وعليه فيقال: إنّ ملاك الاستحقاق متحد في التجري والمعصية الواقعيّة؛ لأن العقاب في المعصية ليس لذات مخالفة الأمر والنهي، ولا لتفويت الغرض، ولا لارتكاب ما هو مبغوض للمولى، وذلك لتحقق هذه الثلاثة في حالة الجهل، بل الملاك كونه هتكاً للمولى؛ إذ الإقدام على ما أحرز أنه مبغوض للمولى خلاف مقتضى العبودية، والهتك مشترك بين العاصي والمتجري!

ص: 99


1- نهاية الدراية 3: 29.

وفيه: وجود شق آخر، وهو كون العقاب لأجل (المخالفة العمدية) أو (تفويت الغرض عمداً) أو (ارتكاب المبغوض عمداً) وهذا خاصة بالعاصي دون المتجري، فتأمل.

القول الثاني: عدم استحقاق المتجري للعقاب.

واستدل له: بأن عقوبة العاصي واحدة، فلوكان التجري حراماً لزم تعدد العقوبة؛ وذلك لأن الهتك وأمثاله - وهي ملاك استحقاق المتجري للعقاب - مشتركة بين العاصي والمتجري، فاجتمع في المعصية ملاكان: الهتك والمخالفة الاختيارية للمولى، وعليه فيلزم الحكم بتعدد استحقاق العقاب في العاصي لأجل الملاكين، وتعدد الأسباب يستلزم تعدد المسببات مع أن الضرورة قاضية بوحدة العقاب!

وأجيب من وجوه، ومنها:

الجواب الأول: إن الملاك المختص بالمعصية هو نفس الملاك الموجود في التجري وهو الهتك مثلاً، فلا توجد في المعصية ملاكان، بل ملاك واحد، فكلّما تحقق الملاك في مصداق استحق الإنسان العقاب.

وبعبارة أخرى: إن كليّ الهتك - مثلاً - هو الموجب للعقاب، وهذا تارة يتحقق في المعصية وتارة يتحقق في التجري، فليس سبب استحقاق العقاب المصداق بما هو هو، بل بما هو فرد من أفراد الطبيعي.

الجواب الثاني: عدم وجود المانع عن تعدد استحقاق العقاب لوجود المقتضي وعدم المانع.

أما وجود المقتضي: فلأنّ الطبيعي قد يكون ذا وجوه، فقد ينطبق وجه

ص: 100

واحد وقد ينطبق وجوه متعددة، فتتعدّد مقتضيات الاستحقاق، وفي ما نحن فيه كذلك فالخروج عن رسم العبودية له وجود متعددة كتفويت ملاك المولى الملزم، والمخالفة العمدية له، وارتكاب ما هو مبغوض له وهكذا.

وأما عدم المانع: فلأن المفروض أن الضرورة والإجماع على وحدة العقاب، وكلامنا في تعدد استحقاقه فيكون التعدد بدلالة العقل، والوحدة تفضّل منه تعالى، هذا على تسليم وجود هكذا ضرورة وإجماع، وإلاّ ففي ثبوتها كلام.

الجواب الثالث: إمكان القول بأنه في المعصية توجد معصيتان، مع استحقاق عقوبتين، إلاّ أنهما تتداخلان؛ وذلك للجمع بين حكم العقل بتعدد السبب واقتضائه لتعدد المسبب، وبين ادعاء الضرورة والإجماع على وحدة العقاب في المعصية.

وأشكل عليه: بأنه لا وجه للتداخل لكون السبب عقلي لا شرعي، مع عدم التزاحم بين السببين في مقام التأثير كي نضطر إلى القول بالكسر والإنكسار، فلا مانع من تعدد المسبب، مع كون الاستحقاق تكوينياً لا تشريعياً فلا يمكن الحكم الشرعي بوحدته؛ وذلك لأن عِليّة التجري والمعصية لاستحقاق العقاب عِليّة عقلية، مع عدم وجود المانع عن تعدد المسبب، فلا يمكن التداخل عقلاً، فتأمل.

تنبیهات

التنبیه الأول: في عموم التجري للقطع الطريقي والموضوعي

قد يقال: باختصاصه بمخالفة القطع الطريقي؛ إذ لا انكشاف للخلاف

ص: 101

في الموضوعي أصلاً؛ إذ الموضوع فيه هو القطع لا المقطوع، فما دام القطع حاصلاً فالموضوع متحقق واقعاً، فيكون مخالفته عصياناً لا تجرياً.

نعم، لو كن القطع جزءاً من الموضوع بأن كان قطعاً موضوعياً كشفياً جرى فيه بحث التجري، حيث يكون الواقع أيضاً جزءاً من الموضوع.

التنبیه الثاني: في إخلال التجري بالعدالة وعدمه

إن العدالة - على الأقوى - هي الإتيان بالواجبات وترك المحرمات عن ملكة نفسانية، فارتكاب الصغائر - مع أنها مغفورة - مخلّ بالعدالة، والتجري محرّم على الأقوى - كما مرّ - فسواء كان صغيرة أم كبيرة فهو ينقض العدالة.

وأما لو قيل: بأن العدالة هي فعل الفرائض وترك الكبائر - سواء قلنا بدخل الملكة فيها أم لم نقل - فتارة لا نقول بحرمة التجري، فلا إخلال للعدالة بسببه إلاّ إذا أخلّ بالملكة وقلنا بدخلها في العدالة.

وتارة نقول بحرمة التجري، وعليه فإن التجري إن كان على الصغائر، فبالأولوية لايخلّ بالعدالة؛ لأنه لايزيد عن الصغيرة بنفسها، وإن كان على الكبيرة، فلا يخلّ بها؛ لعدم ثبوت كونه كبيرة، فلا يترتب عليه آثارها والذي منها سقوط العدالة.

بل يمكن إجراء أصل سببي - وهو أصالة عدم كونه كبيرة - ويترتب أثرها الشرعي - وهو عدم الفسق بارتكابه - ، وليس هذا معارضاً بأصالة عدم كونه صغيرة؛ إذ لا أثر لهذا الأصل.

اللهم إلا أن يقال: بأنه لا حالة سابقة؛ إذ المعصية من الأول إما كبيرة أو صغيرة، مع عدم صحة استصحاب العدم الأزلي.

ص: 102

كما يمكن إجراء أصل مسببي، وهو استصحاب عدالة المتجري على الكبيرة، فإن العدالة كانت ثابتة وشك في استمرارها بالتجري على الكبيرة! فتأمل.

التنبیه الثالث: في جريان التجري في غير القطع
اشارة

واستدل له بوحدة المناط في صورة القطع وقيام الحجة في غير القطع.

وأشكل عليه: بأنه مع قيام الحجة قد خالف الحكم الظاهري، ومخالفة الحكم الشرعي معصية وليست تجرياً!

وأجيب: أولاً: بأنه قد انكشف الخلاف فلم تكن مخالفة للحكم الشرعي!

وفيه: إن انكشاف الخلاف تارة هو بمعنى انكشاف أنه لا حكم شرعيّ من الأول، كما في القطع المخالف للواقع، وتارة هو بانتفاء الموضوع فينتفي الحكم، والأحكام الظاهرية - على القول بها - من هذا القبيل؛ إذ موضوعها أو ظرفها الشك، فإذا انكشف الخلاف زال الشك فيزول موضوعها أو ظرفها، فينتفي الحكم من هذه الجهة، لا من جهة استكشاف عدم الحكم الشرعي من أول الأمر!

وثانياً(1): بأن الحكم الظاهري إنما هو طريق للحفاظ على الأحكام الواقعيّة، ومخالفة الحكم الطريقي بما هي هي ليست مخالفة حقيقية، ولا تترتب عليها آثار المخالفة، ولا استحقاق العقاب، فهي في واقعها كالأوامر

ص: 103


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 270.

المقدميّة.

هذا مع الإشكال مبنىً بوجود الأحكام الظاهرية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

ثم إنه لا بد من تعميم البحث للصور المختلفة، فنقول:

الحجة التي ليست بقطع لو تجرّى العبد فيها، فإما تكون الحجة مثبتة للتكليف أو نافية له، وفي كل صورة إما يرتكب برجاء الإصابة أو برجاء عدمها أو لا يبالي، وفي كل ذلك إما يصيب أو يُخطئ.

القسم الأول: الحجة المثبتة للتكليف المصادفة للواقع

ولا إشكال في كون المكلّف عاصياً حينئذٍ، ولا فرق في ذلك في عدم المبالاة أو رجاء الإصابة أو عدمها، وذلك لتنجز التكليف بقيام الحجة المصادفة، وعدم معذريّة الرجاء أو عدم المبالاة في ذلك.

القسم الثاني: الحجة المثبتة للتكليف المخالفة للواقع

فقد يقال بالتفصيل(1): بأنه لو ارتكب برجاء الإصابة فهو متجرٍ بالنسبة إلى الواقع، وإن ارتكب برجاء عدم الإصابة فهو متجرٍ بالنسبة إلى الطريق.

أما الأول: فلأنّ ثبوت التكليف إنما كان بالعلم التعبدي فالواقع ثابت له تعبداً، فإقدامه على المخالفة تجري على الواقع، وإنما لم يكن تجرياً على الطريق لأن مفاد أدلة الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف، وهذا المكلّف قد ألغى هذا الاحتمال وارتكب برجاء الإصابة، وعليه فإنه لم يخالف أدلة حجية الطريق.

ص: 104


1- فوائد الأصول 3: 53.

وأما الثاني: فلأن المطلوب منه كان إلغاء احتمال الخلاف، وهذا لم يلغه، بل ارتكب برجاء عدم الخلاف!

وأورد عليه: أولاً: بأن معنى إلغاء الخلاف هو إلغاؤه عملاً لا اعتقاداً، والمكلّف بارتكابه في الأول لم يُلغه عملاً.

وثانياً: انحصار التجري في مخالفة الواقع، بناءً على عدم ثبوت أحكام ظاهرية، كما سيأتي تفصيله.

القسم الثالث: الحجة النافية للتكليف صادفت الواقع أم لا

لو ارتكب برجاء عدم المصادفة فصادف واقعاً، فلا شيء عليه لقيام الحجة ولعدم قصده التمرّد، فقد تمّ عذره، ولم يكن متجرياً، وفي حالة إصابتها فالأمر أوضح.

وأما لو ارتكب برجاء خطئها أو لأجل اللامبالاة، فقيل: إنه عاصٍ في حالة عدم إصابتها، ومتجرٍّ في حالة إصابتها، واستدل له المحقق النائيني(1) بأن للحجة وجودين: واقعياً واستنادياً، والذي يدفع المعصية أو التجري هو الحجة بوجودها الاستنادي، ولا يكفي في ذلك وجودها الواقعي.

فلو أكل لحماً من سوق المسلمين مستنداً إلى أمارية السوق شرعاً كان فعله محللاً إن كان اللحم مذكى واقعاً، وكان معذوراً إن كان ميتة واقعاً، أما لو أكل غير مستند فإن كان ميتة كان عاصياً حقيقة، وإن كان مذكى كان متجرياً.

وأشكل عليه(2): بأن تكليف الشخص غير المستند إلى الحجة غير ممكن؛

ص: 105


1- أجود التقريرات 3: 60-61.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 285.

لعدم إمكان وصول الحكم إلى المكلّف، فيكون عقابه عقاباً بلا بيان، مثلاً لو أفتى المفتي بالجواز وكانت الفتوى خطأ ً، فالتكليف الواقعي لا يمكن وصوله لهذا الشخص، ومفاد الطريق الجواز، بمعنى أنه حتى لو سلك المكلف هذا الطريق سوف لا يصل إلى الواقع أصلاً، فتنجّز التكليف والعقاب يكون من العقاب بلا بيان.

إن قلت: إن المكلف لو احتمل التكليف الواقعي فقد وصل إليه إجمالاً، وبهذا الاحتمال يتنجز التكليف عليه، كما ذكروا نظير ذلك في بحث وجوب الفحص في الشبهات الحكمية، وعليه فالحجة النافية تسقط التكليف إذا استند المكلّف إليها دون ما لم يستند.

قلت: إطلاق دليل الحجية جارٍ حتى لو لم يستند إليها المكلّف! اللهم إلاّ أن يقال: بأن المولى لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة، فتأمل.

التنبیه الرابع: في صحة أو عدم صحة العمل العبادي المتجرّى به

كما لو صام في عيد الفطر ثم بان كونه الثاني من شوال، وكما لو تركت الحائض الاستبراء عند احتمال انقطاع الدم وصلّت ثم تبين الانقطاع، أو صلّى في مكان يزعم أنه مغضوب ثم تبيّن حليته.

قد يقال(1): إن عبادية العمل متوقفة على جهتين: العمل والعامل، أما العمل: فبأن يكون العمل في حدّ ذاته صالحاً للمقربيّة، وأما العامل: فبأن يضيف العمل إلى الله تعالى بنية القربة، بل وبرجاء التقرب كما في الاحتياط، وعليه...

ص: 106


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 291-292.

1- فعلى مبنى عدم حرمة التجري، فيمكن الذهاب إلى صحة العبادة لو فُرض تمشي قصد القربة منه.

2- وعلى مبنى حرمة التجري دون الفعل المتجرى به، فكذلك لايبعد صحة العبادة؛ لعدم سراية الحرمة إلى العبادة بنفسها، فلا قصور في صلاحية العمل للمقربيّة.

إن قلت: كيف يجمع المتجري بين اعتقاده بحرمة العمل وبين إضافته إلى المولى؟

قلت: قد لا تكون الحجة علماً، وحينئذٍ قد يحتمل المتجري خطأها، فينوي التقرب لأجل احتمال كون العمل عبادة، فتكون نيته نظير نية العبادة الاحتياطيّة.

وأما لو كانت الحجة علماً، فالصحة لأجل عدم التفات كثير من العوام إلى الملازمة بين المبعديّة والحرمة، وبين الحرمة والبطلان، فحينئذٍ يتصور فيه قصد القربة لإفراغ ذمته من الأمر الإلهي.

3- وأما على مبنى حرمة الفعل المتجرّى به، فالعمل باطل؛ لعدم صلاحية العمل بذاته للمقربيّة بعد كونه حراماً.

ص: 107

فصل فی القطع الطريقي والموضوعي

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في أصل التقسيم

1- أما الطريقي: فهو الذي لم يؤخذ القطع في موضوع الحكم واقعاً، بل القطع مجرد طريق إلى إثبات متعلّقه، وعليه فيكون الحكم مترتباً على الموضوع بنفسه وبما هو هو فلا يترتب الحكم على القطع أصلاً. نعم، قد يكون القطع منجّزاً لذلك الحكم، فلذا لايقع هذا القطع وسطاً في البرهان، فلا يقال هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حرام؛ إذ الحرمة ترتبط بالخمر بنفسها لا بمعلوم الخمرية.

ولهذا القطع أثران:

الأول: إثبات الموضوع، فيكون كالنور الذي يكشف الأشياء دون ارتباط حقيقتها به.

الثاني: تنجّز الحكم، فلا تنجّز بدونه، ولا استحقاق للعقوبة على المخالفة حينئذٍ.

2- وأما الموضوعي: فهو الذي أخذ في موضوع الحكم واقعاً، فمع عدم القطع لا تحقّق للموضوع، فلا يترتب الحكم؛ لأنه تابع للموضوع، فلذا يقع وسطاً.

ص: 108

وقد يمثل له بالقضاء، حيث إن جواز الحكم متوقف على الحق المقطوع به، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) - في عدّ القضاة الذين مصيرهم إلى النار - قال: «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار»(1).

ولكن في المثال نظرٌ بيّناه في بحث القضاء.

البحث الثاني: في تقسيمات القطع الموضوعي

التقسیم الأول: كونه وصفياً أو كشفياً

ففي الكفاية(2): إن القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، لذا صحّ أن يؤخذ بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها، كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاك عنه!

ولا يخفى أن هاتين الجهتين لازمتان للعلم دائماً لا تنفكان عنه، لكن حين الحكم قد يلاحظ الجاعل إحديهما دون الأخرى.

وأشكل في نهاية الدراية(3) على القطع الموضوعي الوصفي، بما حاصله: إن الجاعل إمّا يلاحظ الجهة المشتركة مع سائر الأعراض، أي كونه عرضاً، أو من مقولة الكيف، أو من مقولة الكيف النفساني، أو كيف نفساني له إضافة... وإمّا يلاحظ الجهة المختصة بالقطع، وهي الكشف التام عن متعلّقه.

ص: 109


1- الكافي 7: 407؛ وسائل الشيعة 27: 22.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 229-230.
3- نهاية الدراية 3: 46-48.

أما الأول: فيلزم منه مشاركة جميع الأعراض للقطع في الموضوعية؛ إذ لو كانت جهة الاشتراك هي علة للموضوعية فهي مشتركة مع سائر الأعراض، فلا بد من كونها موضوعاً أيضاً، وهو بديهي البطلان.

وأما الثاني: فغير معقول؛ لأن حفظ الشيء مع قطع النظر عما به هو هو محال، كحفظ الإنسان مع قطع النظر عن إنسانيته، بحيث يكون موضوعاً لحكم ٍ ما، لاستلزام ذلك الجمع بين المتناقضين؛ إذ لحاظ الإنسان موضوعاً مساوق للحاظ إنسانيته، فقطع النظر عنه يكون بمعنى الجمع بين لحاظ الشيء وقطع النظر عن لحاظه.

وحيث إن الإشكال وارد فلا بد من توجيه التقسيم أو الإذعان بعدم صحته، وقد ذكر الأعلام وجوهاً من التوجيه...

التوجيه الأول: أن المراد أن القطع قد يؤخذ في موضوع الدليل لكن لا يراد دخله في الموضوع، كقوله تعالى: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}(1) فهو الكشفي، و إن كان له دخل في الموضوع فهو الوصفي.

وفيه: أن الأول هو نفس القطع الطريقي المحض.

التوجيه الثاني(2): أن لا يكون المراد إلغاء جهة كشفه في القطع الموضوعي الوصفي، بل يراد أخذ خصوصية أخرى ملازمة للقطع في الموضوع كجهة سكون النفس.

ص: 110


1- سورة البقرة، الآية: 187.
2- منتقى الأصول 4: 68-69.

وبعبارة أخرى: إن القطع الموضوعي الكشفي هو ما لو جعل المولى الموضوع هو القطع بما هو كاشف، وأما الموضوعي الوصفي فهو إضافة خصوصية أخرى إلى ذلك.

التوجيه الثالث(1): إن القطع كالنور، فكما أن للنور جهتين: فهو ظاهر بنفسه لا يحتاج في إظهاره إلى شيء، وأنه مظهر لغيره، كذلك القطع له حيثيتان: المعلوم بالذات وهو الصورة، والمعلوم بالعرض وهو ذو الصورة، فإن أ ُخذ الأول في الحكم كان موضوعياً وصفياً، وإن أ ُخذ الثاني كان موضوعياً كشفياً.

وأشكل عليه(2): بأن هذا إرجاع له إلى التقسیم الثاني - أي كون القطع تمام الموضوع أو جزءه - فهو لا يرتبط بلحاظ الصفتية والكاشفيّة، بمعنى أنه إذا لاحظنا في القطع جهة الصورة - المعلوم بالذات - واعتبر ذلك موضوعاً، كان ذلك مساوقاً لأخذ القطع تمام الموضوع، وأما إذا لاحظنا فيه جهة كاشفية هذه الصورة عن ذي الصورة - الذي هو المعلوم بالعرض - كان ذلك مساوقاً لأخذ القطع جزء الموضوع.

وأجيب عنه(3): 1- أمّا في القطع الموضوعي الكشفي: فإن لحاظ صفة في موضوع حكم لا يستلزم تقييد الحكم بوجود تلك الصفة؛ وذلك لأن الصفة قد تكون علة للمجعول، كالظلم الذي هو سبب حرمة ضرب اليتيم

ص: 111


1- فوائد الأصول 3: 10.
2- نهاية الدراية 3: 49-50.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 313.

فلو لم يكن ظلماً كما في التأديب لا يكون حراماً، وقد تكون علة للجعل، كالإسكار الذي هو سبب حرمة الخمر، لكن لا يدور الحكم مداره، فلذا قطرة واحدة منه أيضاً محرّمة.

وفي ما نحن فيه لحاظ الكاشفية في القطع الموضوعي لايستلزم تقييد الحكم بالكشف، بل هو لا بشرط بلحاظ ذلك، وعليه فيمكن أن يكون اللحاظ الكشفي في القطع الموضوعي لا يساوق كون القطع جزء الموضوع بل يمكن أن يكون تمامه أيضاً، أي لحاظ الكشف يكون علة للجعل

لا للمجعول، فتأمل.

2- وأمّا في القطع الموضوعي الوصفي: فإنّه لايستلزم اللحاظ الوصفي كون الموضوع بشرط لا بلحاظ المطابقة - أي الكشف - بل قد تعتبر معه المطابقة، وقد لا تعتبر، بل يُطلق بلحاظها، وعلى هذا فلا يساوق لحاظ القطع صفة كونه تمام الموضوع، بل يمكن أن يكون جزءه، بأن يلاحظ أن الظهور الذاتي للصورة العلمية دخيل في ترتب الحكم، لكن لا على نحو العلة التامة، بل بشرط مطابقة هذه الصورة للواقعيّة العينية الخارجية!

التوجيه الرابع(1): إمكان لحاظ القطع الموضوعي بنحوين: لحاظه من حيث كشفه التام، وبه افترق عن سائر الأمارات حيث إن كشفها ناقص، لحاظه من حيث إنه من مصاديق الطريق المعتبر - الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة، وذلك الجامع هو الثبوت - ، وتظهر الثمرة في أن الأمارات لا تقوم مقام الأول وتقوم مقام الثاني.

ص: 112


1- درر الفوائد، للحائري: 330.

وأشكل عليه(1): بأنّ هذا تقسيم للقطع باعتبار حكمه، مع أن ظاهر التقسيم إنما هو بلحاظ القطع بنفسه.

وأجيب(2): بأنه يمكن إرجاعه إلى التقسيم بلحاظ الموضوع، بأن يقال: إن للقطع جهتين: أصل الكشف وهو الكشفي، وتمامية الكشف وهو الوصفي، وبأن التقسيم إنما هو بلحاظ الغرض، فقد يتعلّق الغرض بتقسيم الموضوع بلحاظ نفسه، وقد يتعلّق بتقسيمه بلحاظ حكمه، كما قد يقسم الماء بأنه إما كر أو قليل، أو يقسّم بأنه إما ينفعل بالملاقاة أو لا ينفعل، فلا مانع من كلا التقسيمين!

التقسیم الثاني: كونه تمام الموضوع أو جزئه

قد يكون القطع تمام الموضوع، بأن يرتبط الحكم وجوداً وعدماً بالقطع ولا مدخلية للواقع المكشوف في القطع أصلاً، كما لو نذر التصدق لو قطع بشيء حتى لو تبيّن خطؤه في قطعه، فالمهم عنده القطع.

وقد يكون القطع جزءاً من الموضوع، بأن يكون الموضوع مركباً من القطع والواقع، ومثاله: في الصلاة الثنائية حيث لا بد من القطع بعدد الركعات مع كونه مطابقاً للواقع، فقد قيل: بأنه لو شك وأتى بالصلاة رجاءً ثم تبيّنت المطابقة، أو قطع ثم تبيّنت زيادة أو نقيصة كانت صلاته باطلة.

وأشكل عليه المحقق النائيني: بأن القطع الموضوعي الكشفي المأخوذ على نحو تمام الموضوع إنما هو عبارة أخرى عن أخذ القطع (تمام

ص: 113


1- نهاية الدراية 3: 47.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 315.

الموضوع بنحو الطريقية) وهو مستحيل.

ولتقرير الإشكال وجوه، منها:

التقرير الأول(1): استلزامه اجتماع لحاظ الشيء ولحاظ عدمه، وحاصله: إن أخذ القطع تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع، وأخذه على نحو الطريقية يستدعي لحاظ الواقع، فلا يمكن أخذ القطع تمام الموضوع إلا بنحو الصفتية.

التقرير الثاني: اجتماع مدخلية الشيء في الحكم وعدمه، فإن معنى كون القطع تمام الموضوع هو أنه لا مدخلية للواقع في الحكم أصلاً، فالحكم مترتب على القطع بنفسه حتى لو كان مخالفاً للواقع، ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقيّة هو أن للواقع دخلاً في الحكم!

التقرير الثالث(2): استلزامه اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي، أي إن أخذ القطع تمام الموضوع يدل على كونه ملحوظاً استقلالاً، وأخذه طريقاً إلى الواقع يدل على كونه ملحوظاً آلياً.

وأجيب عن الإشكال(3): بأن التعليل ناش ٍ عن الخلط بين مقام الجعل ومقام تعلّق القطع بشيء، فالقاطع ينظر بقطعه، ويكون القطع آلة ومرآة، لكن جاعل الحكم لموضوع القطع يمكن أن يقصر نظره على القطع بمعنى أن يرتب الحكم على القطع بلحاظ كشفه، فقطع الغير - وهو طريق - يمكن

ص: 114


1- فوائد الأصول 3: 11.
2- منتقى الأصول 4: 69-70.
3- منتقى الأصول 4: 70.

جعله تمام الموضوع للحكم، وبذلك يندفع التقرير الثالث.

وبأن الواقع المكشوف بالقطع ملحوظ ودخيل، لكن على نحو الحكمة لا العِلّة، فإن الحكمة ليست دخيلة في الموضوع لكنها دخيلة في التشريع، وعليه فيكون القطع تمام الموضوع، وإن كان أخذه فيه باعتبار طريقيته إلى الواقع، وبذلك يندفع التقرير الأول والثاني، فتأمّل.

البحث الثالث: قيام الأمارات والأصول مقام القطع

اشارة

هل تقوم الأمارات والأصول العملية - بنفس دليل اعتبارها - مقام القطع أم لا؟

والمراد من القيام هو ترتب آثار القطع عليها، كالمنجزية والمعذرية.

إن قلت: لا معنى للقيام مقام القطع؛ إذ عمل العقلاء بالأمارات الطريقية أو الموضوعية ليس من باب قيامها مقام القطع، بل في الطريقية إنما يعمل العقلاء بها لكونها موصلة إلى الواقع غالباً، من غير التفات لهم إلى كونها قائمة مقام القطع، وعليه فلا وجه للبحث عن كيفية القيام بأنه تتميم للكشف أو جعل حجية أو جعل طريقيّة ونحو ذلك من المباني المختلفة، وليس تقديمهم القطع على الأمارات لأجل كونه الأصل وكونها قائمة مقامه، بل لأجل أكثرية إصابته للواقع.

وأما في الموضوعية، فإن القطع إن أخذ موضوعاً باعتباره كاشفاً من الكواشف، فالأمارات أيضاً مصداق للموضوع لكونها كواشف فلا قيام، وإن أخذ موضوعاً باعتبار تمامية كشفه أو لكونه صفة نفسانية فلا قيام أصلاً؛ وذلك لعدم تحقق الموضوع بفقدان القطع؛ لعدم تمامية كشف الأمارات ولعدم تحقق النفسانية الخاصة.

ص: 115

قلت: يرد عليه أولاً(1): إن المراد من القيام هو الاشتراك في الأثر، حتى لو لم تكن بديلاً عنه ونازلة منزلته.

وثانياً: بأن الإشكال متفرع على القول بأن الأمارات جميعاً إمضائيات، فلا معنى حينئذٍ للقول بأن الشارع أسس أمارة أو تمّم كشفها أو جعل الحجية أو الطريقية لها، أو لو التزمنا بأن الشارع هو الذي جعل الحجية لبعض الأمارات إمّا في أصل الجعل أو في حدوده فلا يرد الإشكال.

وثالثاً: بأن عدم الالتفات إلى القيام لا يعني عدم اعتباره، بل يمكن ادعاء أن الارتكاز الإجمالي للعقلاء هو أن الحجية للقطع، وأن الأمارات إنّما هي حين فقدانه، فيكون حقيقة ارتكازهم هو إلى القيام.

والكلام في أربع مقامات: قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي المحض، وقيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي، وقيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي، وقيام الأصول العملية مقام القطع بأقسامه الثلاثة.

المقام الأول: قيامها مقام القطع الطريقي المحض

ولا إشكال في القيام بنفس أدلة اعتبارها؛ وذلك لأن معنى الاعتبار هو المنجزية والمعذرية، أي ترتيب آثار الواقع عليها، ولولاهما لكان الاعتبار لغواً، كما لو قال: خبر الواحد حجة عليك، لكنه لاينجز عليك حكماً ولا يكون معذراً لك!!

ولا يخفى عدم الفرق في القيام بين المباني المختلفة من كونه بمعنى تتميم الكشف أو جعل الحجية... الخ.

ص: 116


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 331.
المقام الثاني: قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي

كما لو قال: لو قطعت بوجوب الصلاة فتصدق بدرهم.

وأشكل عليه بإشكالات...

الإشكال الأول: عدم إمكانه؛ وذلك لاستلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي، ففي المثال للقطع أثران: وجوب الصلاة وهو طريقي؛ لعدم مدخلية القطع في وجوبها ثبوتاً، ووجوب الصدقة وهو موضوعي؛ لدخالة القطع في وجوبها ثبوتاً.

فمع الأمارة على الوجوب يتمّ تنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع وذلك باللحاظ الآلي بمعنى كون الأمارة طريقاً إلى الواقع، فلا يمكن تنزيل الأمارة منزلة القطع كي تجب الصدقة وذلك للحاظ الاستقلالي لهذا القطع، حيث جعل موضوعاً لوجوب الصدقة في المثال.

وأجيب بأمور منها...

الجواب الأول: بالطولية بين التنزيلين، فالدليل بالمطابقة ينزّل المؤدى منزلة الواقع، وبالالتزام ينزّل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع.

وفيه: أنه لا ملازمة عقلاً؛ لأنها لا تكون في الأمور التعبدية، ولذا يجوز التفكيك في الأمور الاعتبارية، كما في الأصل المثبت، إلاّ إذا استلزم التفكيك اللغوية في أصل دليل الجعل، وليس كذلك في ما نحن فيه؛ إذ يكفي في عدم اللغوية تنزيل المؤدى منزلة الواقع فقط.

كما لا ملازمة عرفاً؛ لعدم انسباق هذا اللازم المزعوم في أذهان العرف؛ لعدم التفاتهم إلى هذه الملازمة.

ص: 117

ولذا قيل(1): الدلالات الالتزامية العرفية دلالات واضحة قريبة من الفهم العرفي، وهي ملازمة لمدلول اللفظ تصوراً وتصديقاً، وفي ما نحن فيه تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الذي يصعب تصوره في نفسه، كيف يعقل أن يكون مدلولاً عرفياً التزامياً لدليل الحجية؟!

أما ما قيل: من استلزام الطولية للدور، ببيان أن: التنزيل الشرعي لا بد أن يكون مع وجود الأثر وإلاّ كان لغواً، والذي يترتب عليه الأثر هو الموضوع بتمامه فلا يترتب الأثر على جزء من الموضوع، فلا بد من إحراز تمام الموضوع إما بالوجدان أو بالتعبد أو بهما، مع لزوم كون إحراز أجزاء الموضوع في عرض ٍ واحد.

وفي ما نحن فيه تنزيل المتأخر متوقف على تنزيل المتقدم - للطولية - ، وتنزيل المتقدم متوقف على تنزيل المتأخر - لعدم ترتب الأثر على المتقدم لوحده - وهذا هو الدور بعينه.

فغير سديد: وذلك لعدم توقف تنزيل المتقدم على تنزيل المتأخر؛ إذ التنزيل الأول له أثر في نفسه حتى مع عدم التنزيل الثاني؛ وذلك لثبوت الأثر لتنزيل المؤدى منزلة الواقع بوجوب الجري العملي طبقه، حتى لو لم ينزل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع.

الجواب الثاني: إنه في مرحلة الجعل ينحصر اللحاظ باللحاظ الاستقلالي؛ إذ الجاعل حين الجعل لا بد له من لحاظ الموضوع استقلالاً، فيلاحظ مفهوم الموضوع ويجعله مرآة لمصاديقه الخارجية وتلك

ص: 118


1- بحوث في علم الأصول 4: 93.

المصاديق قد تكون استقلالية وقد تكون آلية، وبعبارة أخرى: إن النظرة الآلية إنما هي في قطع المكلّف، وأما ملاحظة الجاعل للقطع فهو استقلالي على كل حال، فتأمل.

الجواب الثالث(1): إن مبنى هذا الإشكال هو تخيّل أن المجعول في باب الطرق والأمارات هو المؤدّى وتنزيله منزلة الواقع، وعليه يقال: إن في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعاً يحتاج إلى تنزيلين: تنزيل المظنون منزلة المقطوع، وتنزيل الظن منزلة القطع.

ولكن حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ليس هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فإنه غير معقول؛ لأن العلم والخمرية - مثلاً - إنما هما من الأمور التكوينية الواقعية التي لا تنالها يد الجعل تشريعاً، مضافاً إلى عدم إمكان إثبات هذا الجعل بالأدلة الشرعية، بل حقيقة المجعول هو إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة، وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً، وعليه فلا تنزيل أصلاً حتى يترتب عليه الجمع بين اللحاظين - الآلي والاستقلالي.

وسبب الإشكال هو توهم الحكومة الواقعية في أدلة الأمارات والطرق، بأن يكون توسعة واقعية للموضوع وأن دليل اعتبار الأمارة والطريق يتكفل لإثبات أحكام الواقع للمؤدّى وأحكام القطع للأمارة، والغفلة عن أن الحكومة هاهنا ظاهرية بمعنى إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة.

وعليه فكما أن الخمر الواقعية يجب اجتنابها ويحكم بنجاستها، كذلك لو

ص: 119


1- فوائد الأصول 3: 22؛ أجود التقريرات 3: 25-27.

قامت بينة بخمرية شيء ترتب عليها وجوب الاجتناب لكون المكلف محرزاً للخمر الواقعية، والنجاسة لكونها تترتب على الخمر المحرز.

نعم، في القطع الطريقي يكون الموضوع هو نفس الواقع، وبالبينة - مثلاً - قد أحرز الواقع بجعل الشارع، وأما في القطع الموضوعي الكشفي يكون الموضوع مركباً من جزئين طوليين - الإحراز والواقع - لكن تحقق أحدهما كافٍ في تحقق الآخر، فإن الإحراز محرز بنفسه والواقع محرز به.

وأشكل عليه: بأن الكاشفية أيضاً من الأمور التكوينية التي لا تنالها يد الجعل، فيرد نفس إشكاله على جعل المؤدّى منزلة الواقع، وبأنه كما يمكن جعل الكاشفية التعبدية كذلك يمكن جعل الخمرية التعبدية، والعلمية التعبدية، هذا مع قطع النظر عن الإشكال المبنوي في دلالة أدلة الأمارات والطرق على جعل الكاشفية، وسيأتي البحث عنه.

الإشكال الثاني: عدم وقوعه، أي عدم دلالة الدليل على قيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي الكشفي، لوجوه:

منها: انصراف الأدلة عنه؛ وذلك لندرة وجوده، ولذا اضطروا بذكر مثال النذر للإشكال في الأمثلة المذكورة - على قلتها - كتوقف جواز الشهادة والقضاء على العلم بالمشهود به والمقضي به.

وأجيب: بأن الندرة - سواء في الوجود أم في الاستعمال - لا تكون سبباً للانصراف إلاّ إذا صارت سبباً لعدم شمول اللفظ المطلق لذلك الفرد النادر، وإلاّ فغالب الماهيات لها أفراد نادرة يشملها اللفظ، وقد مرّ تفصيل البحث في المطلق والمقيّد.

ص: 120

ومنها: إن دليل حجية الأمارات والطرق يدل على ترتب ما للقطع من الآثار بما هو حجة، لا بما هو صفة وموضوع؛ إذ حينئذٍ يكون القطع كسائر الموضوعات والصفات.

والمقصود أن للقطع جهتين: جهة كونه صفة نفسانية له أثره كسائر الصفات، وجهة كشفه عن متعلّقه، ودليل حجية الأمارات والطرق لا نظر له إلى الجهة الأولى، حيث إن القطع موضوع للآثار المترتبة على كونه صفة نفسانية، وقيام الأمارة أو الطريق لا يستلزم تحقق موضوع تلك الآثار.

وأجيب: بإمكان القول بإحراز الموضوع تعبداً، فالقطع وإن كان موضوعاً إلاّ أن دليل حجية الأمارة أو الطريق نزل من قامت عنده الأمارة منزلة القاطع بالحكومة! فتأمل.

ومنها: ما اختاره السيد الأخ(1)، وحاصله: أن سعة التنزيل تتوقف على أمرين:

1- ثبوتاً: في سعة حدود الاعتبار؛ إذ التنزيل قد يكون من كل جهة، وقد يكون من جهة دون أخرى، كما لو فرض أنه قال: الطواف بالبيت صلاة، فإن التنزيل من جهة الوضوء فقط.

2- وإثباتاً: ظهور الدليل قد يكون في عموم التنزيل أو خصوصه، والإثبات طريق إلى الثبوت، لأصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات.

وعليه فلو كان ظهور فهو، وإلاّ كان الدليل مجملاً، ويؤخذ فيه بالقدر المتيقن، وليس ذلك من باب الظهور في القدر المتيقن، بل من باب كونه

ص: 121


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 351-352.

مراداً على كل حال.

وفي ما نحن فيه - في القطع الموضوعي الكشفي - إما يُدّعى ظهور أدلة الحجية في الخصوص لانصراف الأدلة عنه، حيث إن الظهور في مجرد المنجزية والمعذرية، وإمّا يدعى الإجمال، فلا بد من البحث عن مقدار دلالة الدليل إثباتاً للوصول إلى النتيجة.

فأمّا الدلالة الإثباتية: فقد ذكر المحقق النائيني(1) أن قيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي الكشفي هو من مقتضيات حكومة أدلة الطرق والأمارات والأصول على الواقعيات حكومة ظاهرية لا واقعية؛ وذلك لكونها واقعة في طريق إحراز الواقعيات، فتكون حاكمة على كلا جزئي الموضوع - من الواقع ومن الإحراز - بل حكومتها على الواقع لمكان كونها محرزة له، فتكون حكومتها على أحد جزئي الموضوع إنما هو بعناية حكومتها على الجزء الآخر - وهو الإحراز - فأي أثر رتّب في الشريعة على العلم بما أنه محرز يترتب على الطريق والأمارات والأصول المحرزة، ولو كان ذلك الأثر من جهة دخله في الموضوع وكونه جزئه، فإنه يكفي هذا المقدار من الأثر في صحة التعبّد، ولا يتوقف على أن يكون تمام الموضوع.

والحاصل: أن نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الإحراز وأنه أعم من الإحراز الوجداني وإلاّ لم يكن للحكومة معنى، وبملاحظة هذه الحكومة صحّ أن يقال: إن الموضوع هو الأعم من الإحراز الوجداني وهو

ص: 122


1- فوائد الأصول 3: 24-25؛ أجود التقريرات 3: 21-22.

العنوان الكلي، فإن هذا هو نتيجة الحكومة.

وتوضيحه: أنه في الحكومة الواقعية يكون الحاكم في عَرض المحكوم، بمعنى كون التوسعة أو التضييق واقعياً وذلك بعدم جعل حكم واقعي للحاكم يخالف المحكوم، بل هو هو، كما في قوله (علیه السلام): «الفقاع خمر»، وأما في الحكومة الظاهرية فالحاكم في طول المحكوم، والتوسعة أو التضييق ليست في الواقع، بل في مقام الإثبات فقط، نظير حكومة الأمارات و الأصول، حيث إنها حكومة في ظرف الجهل، فلا يعقل توسعتها أو تضييقها واقعاً.

والمجعول أولاً وبالذات هو صفة المحرزية والكاشفية للأمارة أو للأصل، ويتبع ذلك إحراز الواقع بهما، للتلازم بين كون الشيء محرزاً وبين إحراز الواقع به، وحينئذٍ فقيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي الكشفي أولى من قيام المؤدّى منزلة الواقع.

ومثاله ما لو قال المولى: (لو قطعت بملكية زيد فاشهد له) وهو قطع موضوعي كشفي، فإن دليل حجية اليد يكفي في صحة الشهادة له على الملكيّة؛ لأن هذا الدليل جعل الكاشفية بالأصالة، وكشف الواقع بالتبع.

وأشكل عليه: أولاً: بأن أدلة جعل الحجية للأمارات والطرق والأصول لا دلالة لها على جعل الكاشفية وإنما بالجري العملي طبقاً لها، مضافاً إلى أن عمدة الأدلة في بعض الأمارات والأصول هي الأدلة اللبيّة ولا تجري فيها الحكومة لارتباطها بالألفاظ، وعلى فرض دلالتها على جعل الكاشفية فهي منصرفة إلى ترتيب آثار المحرز لا آثار الإحراز، هذا فضلاً عن أن ما ذكره ليس حكومة، بل ورود.

ص: 123

وثانياً: ما في المنتقى(1): من أن الحكومة في الأمارات والأصول واقعية لا ظاهرية، فإن الحكومة عند المحقق النائيني تتقوم بنظر أحد الدليلين إلى الآخر بتضييق في مدلوله أو توسعة، فإذا كان دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الكاشفية وتنزيل الأمارة منزلة العلم في الوسطية في الإثبات، كان ناظراً إلى الدليل الواقعي المتكفل لترتب الأحكام على القطع، وهذا حكومة واقعية ليس فيها كشف خلاف، بل انكشاف خلاف الأمارة يكون من باب تبدل الموضوع، ولا نظر له إلى الواقع بحال كي يدعى أن حكومته عليه بالحكومة الظاهرية.

وبالجملة لو كان دليل الاعتبار ناظراً إلى ترتيب آثار الواقع كان لما ذكره من دعوى الحكومة الظاهرية وجه، ولكنه ليس كذلك بل هو ناظر إلى ترتيب آثار القطع، فالحكومة على هذا واقعية.

وأشكل عليه في التبيين(2): بأنه لو فرض كون ما نحن فيه حكومة، فيمكن القول بأنها حكومة واقعية وظاهرية معاً؛ إذ هنا دليلان:

أحدهما: الدليل المتكفل لترتيب الحرمة على الخمر مثلاً، فإذا لوحظت نسبة دليل حجية الأمارة - الذي مفاده أن الأمارة إحراز - إلى هذا كانت الحكومة ظاهرية.

وثانيهما: الدليل المتكفل لترتيب الحجية - مثلاً - على الإحراز، فإذا لوحظت نسبة الدليل إلى هذا كانت الحكومة واقعية، ولا منافاة بين

ص: 124


1- منتقى الأصول 4: 74-75.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 360.

اللحاظين، إلاّ أن أحدهما ملحوظ بالتبع، والآخر ملحوظ بالذات.

والظاهر أن المنظور إليه وبالذات هو الأول، والمنظور إليه ثانياً وبالتبع هو الثاني؛ لأن الشارع عند ما يقول: الأمارة إحراز للواقع، يكون نظره الأصلي إلى دليل الواقع، مثل (الخمر حرام)، وإن كان نظره التبعي إلى دليل ترتيب الآثار على القطع، فتأمل.

المقام الثالث: قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي الوصفي

ولا إشكال في عدم قيامها مقامه؛ لأن القطع ملحوظ بما هو حالة نفسية خاصة في القاطع، ولا تتحقق بالأمارات والطرق تلك الحالة كي يترتب عليها أحكامها.

إن قلت: إطلاق دليل الحجية يشمل ما نحن فيه؛ إذ يدل على كونها قطعاً تعبداً، فبالحكومة دخلت الأمارات والطرق في القطع، فتحقق الموضوع تعبداً، فيترتب عليه أحكامه!

قلت: كلا، لا إطلاق كما مرّ، لتحقق الانصراف حتماً على مبنى جعل المؤدّى، وعدم وجود محل للإطلاق أصلاً على مبنى الجري، فيكون من باب السالبة بإنتفاء الموضوع.

المقام الرابع: قيام الأصول العملية مقام القطع
اشارة

وهنا مطلبان:

المطلب الأول: في قيام الأصول غير المحرزة مقام القطع الطريقي

1- أما البراءة: فهي تقوم مقام القطع في المعذرية، فكما أن القطع معذّر لو بان خطؤه، فكذلك البراءة معذرة، ويكفي في القيام مقام القطع قيام

ص: 125

الشيء مقامه في بعض الآثار، ولا يشترط القيام في كل الآثار، فلا يرد الإشكال بأن القطع منجّز ولا تنجيز للبراءة، وكذا الإشكال بأن القطع كاشف ولا كاشفية لها.

2- وأما الاحتياط: فلا إشكال في كونه منجزاً، فيقوم مقام القطع أيضاً.

وأشكل عليه المحقق الخراساني(1): بأن الاحتياط الشرعي لا نقول به؛ إذ هو في مورد الشبهة البدوية التحريمية، والاحتياط العقلي - وملاكه دفع الضرر المحتمل - هو المنجزية بعينها، وليست المنجزية أثراً له حتى يقال: بأنها أثر للاحتياط فيقوم مقام القطع في أثره.

وبعبارة أخرى: لا بدّ في صحة التنزيل من مغايرة المنزَّل والمنزَّل عليه، وكذا مغايرة المنزَّل وحكم المنزَّل عليه، وإلاّ لم يصح التنزيل، وفي الاحتياط العقلي حكم المنزَّل عليه هو المنزَّل بنفسه - أي التنجيز - ، والاحتياط الشرعي لا نقول به!

وفيه: أولاً: أنه لا فرق في القيام - في ما هو المهم في المقام - بين ترتب أثر القطع على الأصل العملي، أو كون الأصل هو الأثر بنفسه.

وثانياً(2): إن هذا الإشكال إنّما يرد لو قلنا بوجود أحكام للعقل، ففسرنا الاحتياط بحكم العقل بوجوب الاجتناب، وحينئذٍ لا يكون الاحتياط العقلي سبباً للتنجز؛ إذ يكون الاحتياط في مرتبة التنجز أو في رتبة معلوله؛ وذلك لأن إدراك العقل حسن المؤاخذة على المخالفة يكون سبباً لتنجز التكليف

ص: 126


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 240-241.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 366-367.

ولحكم العقل بوجوب الاجتناب، أو الإدراك المزبور يكون سبباً لتنجز التكليف وهذا التنجز يكون سبباً لحكم العقل بوجوب الاجتناب.

وأما إذا قلنا بأن العقل يُدرك ولا يحكم، فيكون معنى الاحتياط العقلي هو إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المحتمل أو المعلوم بالعلم الإجمالي، فحينئذٍ لا مانع من القول بقيامه مقام القطع في تنجز التكليف - أي إثباته في ذمّة المكلّف - وذلك لأن الاحتياط صار سبباً للتنجيز، فتأمل.

3- وأما التخيير: فهو شرعي أو عقلي.

أما التخيير الشرعي: - كما في الخبرين المتعارضين - فهو يقوم مقام القطع في التعذير لو اختار المخالف للواقع، وكذا في التنجيز لو اختار التكليف الإلزامي أو أحد الإلزاميين وكان مطابقاً للواقع، هذا على بعض مباني التخيير.

وأما التخيير العقلي: فهو بمعنى اللّابدية العقلية، حيث يدور الأمر بين الفعل والترك، فيكون المكلف مضطراً إلى اختيار أحدهما، كما لو دار الأمر بين وجوب أو حرمة دفن الحربيّ، وحينئذٍ لا معنى للتنجيز أو التعذير.

المطلب الثاني: في قيام الأصول المحرزة مقام القطع

لا إشكال في قيامها مقام القطع، وقد يستدل لذلك: بأنه لولا منجزيتها ومعذريتها كان جعلها لغواً، حيث لا أثر آخر للجعل سوى المنجزية والمعذرية.

وأما ما قيل: من أن الشارع اعتبرها علماً بالحكومة، فتترتب عليها آثار العلم - المنجزية والمعذرية - .

ص: 127

ففيه: أن أدلة حجيتها إما لبيّة وليس فيها ما يدلّ على اعتبارها علماً، وإما لفظية وظاهرها الجري العملي، لا جعل الشك يقيناً، ولا يستفاد من قوله (علیه السلام): «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1) اعتبار الشك يقيناً.

ثم إن كل ما مرّ كان حول دلالة الأمارات والطرق والأصول على ترتب آثار القطع عليها، وأما لو ورد في الدليل لفظة (العلم) أو ما في معناها فقد يقال: بقيامها مقام العلم، وقد يستدل لذلك بوجوه، منها: وضع لفظة (العلم) وما بمعناها للإحراز سواء كان إحرازاً وجدانياً أم غيره، أو عموم المجاز باستعمالها في الكاشف مطلقاً، أو أن المناط في العلم ونحوه هو الكاشفية، فيعمّ كل كاشفية، أو أن العلم هو أعم من العلم بالواقع أو العلم بالوظيفة.

ويرد عليها: أن الوضع هو لخصوص الإحراز الوجداني، للتبادر وصحة السلب عن غيره، ولا قرينة للاستعمال المجازي، والمناط ظني فلا يصلح للاستناد عليه، وكذا فإن لفظة (العلم) ونحوها تنصرف إلى العلم بالواقع فقط.

ص: 128


1- تهذيب الأحكام 1: 421؛ وسائل الشيعة 3: 466.

فصل فی أخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو ضده أو مثله

اشارة

وهنا مباحث:

المبحث الأول: أخذ القطع في موضوع نفس الحكم بشخصه

وهو محال، وقد يستدل للاستحالة بوجوه، منها:

الدليل الأول: استلزامه الدور؛ وذلك لأن العلم متأخر عن المعلوم، والحكم متأخر عن الموضوع، فالقطع بالحكم متأخر عن الحكم، لتأخر العارض عن المعروض، فإذا صار القطع بالحكم موضوعاً للحكم لزم تقدمه، لتقدم الحكم على موضوعه، وهو الدور بعينه.

وأشكل عليه: بأن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ لأن متعلق القطع هو مفهوم الحكم، أي بالحمل الأولي الذاتي، وأمّا الحكم الذي موضوعه القطع فهو مصداق الحكم، أي بالحمل الشائع الصناعي، كما مرّ نظيره في رفع إشكال الدور في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر.

وبعبارة أخرى: الحكم المأخوذ متعلقاً للقطع هو مفهوم الحكم، والحكم المأخوذ حكماً للقطع هو مصداق الحكم.

وفيه: أنه خروج عن فرض الكلام الذي هو أخذ القطع بالحكم بنفسه موضوعاً لذلك الحكم، لا لغيره.

الدليل الثاني: استلزامه ملاك استحالة الدور - وإن لم يلزم الدور بنفسه - ،

ص: 129

وملاك استحالة الدور هو تقدم الشيء على نفسه بأن يكون متقدماً ومتأخراً في وقت واحد حتى لو لم يكن توقف في البين.

قال المحقق الإصفهاني: «إن العلم موضوع الحكم - لا متعلقه المطلوب به - ، والموضوع لا بد أن يكون مفروض الثبوت، فيلزم فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته، وهو ملاك الدور المحال»(1).

وذلك لأنه في القضايا الحقيقية لا بد من فرض وجود الموضوع - بأجزائه وشرائطه - حتى يترتب الحكم عليه، وحيث إن رتبة الموضوع متقدمة على المحمول، فكون الموضوع هو القطع بالحكم يستلزم كون الحكم في رتبة الموضوع، مع أن الحكم متأخر رتبة عن الموضوع.

وأجاب: أولاً: إن مقتضاه فرض ثبوت العلم، لا فرض ثبوت المعلوم، وثبوت العلم لا يقتضي ثبوت المعلوم بالعرض.

وذلك لأن المعلوم بالذات هو الصورة الذهنية، وقد لا يتطابق مع المعلوم بالعرض الذي هو الواقع الخارجي؛ إذ قد يكون العلم جهلاً مركباً، وعليه فالعلم بالحكم ليس هو الحكم، فاختلف المتعلق.

كما أن كون العلم في الزمان الحال لا يقتضي وجود المعلوم فيه؛ إذ قد يكون مقدماً أو متأخراً أو مقارناً، وعليه فالموضوع العلم بالحكم وذلك يعني فعلية الحكم لا فعلية المعلوم.

ولا يخفى أن هذا الجواب يدفع الإشكال في بعض فروض المسألة، وأما لو أخذ الموضوع هو العلم مطلقاً أو العلم بالمعلوم الفعلي المطابق للواقع

ص: 130


1- نهاية الدراية 3: 69.

لزم المحذور.

وثانياً: إن ثبوت الشيء فرضاً غير ثبوته التحقيقي، فلا يلزم من فرض ثبوت الشيء هنا ثبوت الشيء قبل نفسه، فلا مانع من توقف ثبوته التحقيقي على ثبوته الفرضي.

وأشكل عليه(1): إنه ليس المراد القضية التي يكون الموضوع فيها مجرد الفرض والتقدير، بأن علق المحمول على نفس الفرض، كما يقال: فرض المحال ليس بمحال، فالفرض ليس بمحال وإن كان المفروض محالاً، بل المراد هو القضية التي يكون الموضوع فيها (المفروض)، أي لو تحقق هذا المفروض في الخارج ترتب عليه هذا المحمول، كما يقال: لو فرضنا أنك أصبحت غنياً وجبت عليك الزكاة، فقولنا: لو قطعت بالوجوب وجب عليك بنفس ذلك الوجوب ليس معناه مجرد فرض الوجوب موضوعاً للوجوب، بل المراد متى تحقق خارجاً قطعك بالوجوب وجب عليك، فرجع الإشكال.

الدليل الثالث: استلزامه الخلف، ففي نهاية الدراية(2): إن فرض تعليق الوجوب على العلم به هو فرض عدم الوجوب لطبيعي الصلاة - مثلاً - ، وفرض نفس القيد وهو العلم بوجوب الصلاة هو فرض تعلق الوجوب بطبيعي الصلاة.

أي إنّ متعلق الوجوب في الموضوع في مثل: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت الصلاة عليك) هو طبيعي الصلاة، وعليه لا يمكن أن يكون

ص: 131


1- منتقى الأصول 4: 89.
2- نهاية الدراية 3: 70.

المتعلق في الحكم هو الطبيعي وإلاّ كان لغواً، بل لا بد من كونه الحصة أي: (الصلاة المعلومة الوجوب)، وهذا خلف فرض أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم بشخصه.

نعم، هذا الإشكال مختص بما لو طابق القطع الواقع، وأما لو خالف الواقع فلا لغوية ولا خلف.

الدليل الرابع: استلزامه تحصيل الحاصل؛ إذ الوجود الواحد لا يقبل نفس الوجود مرّة أخرى.

وقد يقال: إن الاستحالة إنّما هي في الوجود الخارجي، وأما الاعتبار فهو خفيف المؤونة، فهو يرتبط باعتبار المعتبر، ولا واقع وراء اعتباره، نظير فرض المحال الذي ليس بمحال، وعليه فلا محذور عقلي في تحصيل الحاصل في الاعتباريات، فتأمل.

الدليل الخامس: استلزامه اللغوية، فإنه لا بد من وجود مصحح للاعتبار، ومع فرض علم المكلف بالحكم كان جعل نفس الحكم مرة أخرى لغواً.

وأما ما قيل: من أن جعل الحكم إنما هو بغرض إيجاد الداعي، ومع فرض علم المكلف بالوجوب لا يوجد داع ٍ آخر بجعل للوجوب مرّة أخرى.

ففيه: إمكان تقوية الداعي بالجعل الجديد لنفس الوجوب، مضافاً إلى أن جعل الداعي أحد الأغراض، ولذا صحّ تكليف الجاهل والناسي غير الملتفتين - بنتيجة الإطلاق - مع عدم إمكان جعل الداعي فيهما؛ وذلك لوجود أغراض أخرى كوجوب القضاء مثلاً.

ص: 132

المبحث الثاني: أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم

كما لو قال: لو قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليه بوجوب آخر مثل الوجوب الأول، فالوجوب في الموضوع تعلق بالصلاة بنفسها وهو عام للجاهل والعالم، والوجوب في المحمول تعلق بها بما هي مقطوعة وهو خاص بالعالم بالوجوب.

وهنا ثلاثة مباني:

المبنى الأول: الاستحالة مطلقاً وذلك لاستلزامه اجتماع المثلين.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأول: تعدد الموضوع في مقام الجعل فلا يكون من اجتماع المثلين، كما في موارد العامين من وجه الواجبين، في مورد اجتماعهما، كما لو قال: أكرم العلماء، وقال: أكرم الهاشميين، فالعالم الهاشمي يجتمع فيه وجوبان من غير أن يكون من اجتماع المثلين، بل ما نحن فيه من العامين من وجه؛ إذ نسبة الصلاة إلى الصلاة المقطوعة هي العموم من وجه.

وفيه: أن الموضوع هو مرآة للأفراد الخارجية؛ لأنها هي الواجبة - مثلاً - ، فالوجوبان تعلقا بنفس الأفراد، فاجتمع المثلان، وليس في موارد العامين من وجه وجوبان، بل وجوب واحد متأكد.

الجواب الثاني: عدم استلزامه لاجتماع المثلين في أية مرحلة من مراحل الحكم...

أما الملاك: فالمصلحة والمفسدة يمكن اجتماعهما في شيء واحد؛ وذلك لتعدد الحيثيات في الأمور التكوينية، فيمكن اجتماع مصلحتين ملزمتين أو مفسدتين كذلك. نعم، لا يمكن اجتماع مصلحة و مفسدة

ص: 133

ملزمتين كما مرّ، وما نحن فيه من اجتماع مصلحتين أو مفسدتين؛ إذ الكلام في أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مثله.

وأما الإرادة والكراهة: فيمكن تعددهما - في المتماثلين - باعتبار منشئهما؛ لأن ذلك من تحقق صفتين من صنف واحد في النفس، ولا محذور فيه، أو يقال: بأنهما مشككان، ففي مرتبتهما القوية كما يمكن إنشاء حكم واحد مؤكد كذلك حكمين مع وجود المصحح العقلائي.

وأما إنشاء الحكم: فهو أمر اعتباري، فيمكن للمولى الغافل إصدار حكمين متضادين فضلاً عن المتماثلين، مع أن المحال لا يمكن إيجاده حتى في حالة الغفلة، ومن ذلك يستكشف عدم المحذور من هذه الجهة في إصدار إنشائين.

وأما التنجيز والتعذير: فحيث إن الحكمين متشابهان ففي صورة الإصابة لا مانع من تنجيزهما الواقع، وفي صورة الخطأ من تعذيرهما.

وأمّا الامتثال - وهو الجري العملي للمكلّف -: فهو لا يرتبط بالحكم، وليس إلا جرياً عملياً واحداً.

المبنى الثاني: استحالة استقلال الحكمين، وإمكان التأكد(1).

أما إمكان التأكد: فهو في حقيقته رجوع إلى أن هناك حكم واحد لكنه مؤكد، كما قد تجتمع مصلحتان فتتأكد الإرادة ولذلك يتأكد البعث، ويؤيده صحة النذر في الواجبات، وكذا اجتماع الحكمين في العامين من وجه حيث يؤول إلى حكم واحد مؤكد.

ص: 134


1- منتقى الأصول 4: 91-92.

وأما استحالة الاستقلال: فلاستلزامه المحذور في المبدأ والمنتهى...

أما في المبدأ: فالمحذور هو تعلق إرادتين مستقلتين بفعل واحد.

وأما في المنتهى: فالمحذور عدم إمكان اجتماع داعيين مستقلين في شيء واحد، ومرجعهما إلى توارد علتين تامتين على معلول واحد.

وأشكل عليه(1): أما في الإرادة: فقد مرّ قبل قليل أنه لا مانع من توارد إرادتين مستقلتين إذا تعدّدت الجهات، مضافاً إلى أنه لا محذور في كون إرادة شديدة منشأ لحكمين مستقلين؛ لأنهما وجودان اعتباريان إنشائيان.

وأما في المنتهى: فلعدم انحصار إنشاء الحكم في جعل الداعي، مضافاً إلى أن المراد جعل الداعي بالقوة - أي لولا المانع - بمعنى أنه لولا المانع لكان كل حكم داعياً بالاستقلال، ولكن حيث يوجد المحذور فكلا الحكمين جزء من الداعي ولا إشكال فيه.

المبنى الثالث: الإمكان مطلقاً، تأكيداً أم تأسيساً.

إذ لا محذور عقلي في أيٍّ منهما، وليس التعدد لغواً، بل قد يكون سبباً للطاعة، حيث إن إيمان بعض العبيد ضعيف، فلو تكرر الوجوب قد يطيع بما لايطيع لو لم يتكرر.

المبحث الثالث: أخذ القطع بحكم في موضوع ضد ذلك الحكم

وهذا محال لاستلزامه اجتماع الضدين:

سواء في الملاك؛ لأن المصلحة والمفسدة وإن أمكن اجتماعهما في شيء إلاّ أن الحكم لا ينشأ إلا بعد الكسر والانكسار، فإن كانت المصلحة

ص: 135


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 404.

ملزمة صدر الحكم بالوجوب، أو المفسدة ملزمة كان حكم بالحرمة، أو يتساويان فالجواز، ولا يعقل كون المصلحة والمفسدة ملزمتين.

أم في الإرادة والكراهة؛ وذلك لأنهما تابعان للمصلحة والمفسدة الملزمتين في المولى الحكيم الملتفت، وحيث تضادت المصلحة والمفسدة بالذات تضادت الإرادة والكراهة بالتبع، كما أن التضاد في مرحلة امتثال المكلّف يسري إلى التضاد في مرحلة الإرادة.

أم في مرحلة الامتثال، لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما؛ لعدم إمكان اجتماع الانبعاث والانزجار في شيء واحد.

وأما في مرحلة الحكم المنشأ، ففي التبيين(1): أنه لا مانع من ذلك لو لوحظ الحكم في هذه المرحلة بذاته وبما هو هو؛ لأن الحكم موجود اعتباري، وهو مساوق للموجود الفرضي، وليس هناك اجتماع للضدين حقيقة، بل هو فرض اجتماع الضدين، ولا مانع منه؛ لأن فرض المحال ليس بمحال. نعم، يحصل التضاد بالعرض - في المبدأ والمنتهى - فتأمل.

ص: 136


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 408.

فصل فی الموافقة الالتزامية

اشارة

مطالب تمهيديّة

المطلب الأول: يرتبط هذا البحث بمبحث القطع من جهة أن التكليف المقطوع به هل يجب الالتزام به أم لا؟ كما أنه قد يقال: بأن وجوب الالتزام مانع عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي، كما سيأتي بيانه.

المطلب الثاني: وأما معناها: فهو الاعتقاد بالحكم، فترتبط بالقلب، وليس معناها العلم بالحكم؛ لأنه قد يكون علم من غير اعتقاد - والذي هو الإذعان وعقد القلب - فالمنافق قد يعلم بالواقع وهو يظهر الشهادتين لساناً، وقد يلتزم بالتكاليف ظاهراً، لكنه لا يذعن ولا يعقد قلبه علی ما علمه.

وبذلك يتضح أنها اختيارية، حيث لا ملازمة قهرية بين العلم وبينها.

المطلب الثالث: في تحرير محل النزاع، فالكلام في أربعة مواضع:

الموضع الأول: في فروع الدين، وأما أصول الدين فلا إشكال في وجوب الموافقه الالتزامية في أساسيات أصول الدين - كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وبعض تفاصيلها بتفصيل يرتبط بمباحث أصول الدين - .

الموضع الثاني: قيل باختصاص البحث في التوصليات؛ لأن التعبديات

ص: 137

لا بحث فيها لتوقف قصد القربة عليها!

ويرد عليه: أن قصد القربة أعم من قصد الأمر، كما مرّ في بحث التوصلي والتعبدي، مضافاً إلى أنه لو علم بوجود الأمر من غير تعيين بأنه للوجوب أو الاستحباب فيمكنه قصد القربة من غير التزام قلبي بخصوص الحكم.

ومن ذلك يتبين أنه ليس بتشريع، حيث قصد الأمر - وهو قد ورد من الشرع - من غير تعيينه في مصداق الوجوب مثلاً.

نعم، لو علم بأن الأمر للوجوب لكنه التزم الاستحباب فقد يقال بأنه تشريع، لكن هنا بحث بأن هذا النحو من التشريع هل يضرّ بصحة العبادة؟

فقد قيل: بأنه غير ضار حيث لا تركب - لا بنحو الاتحاد ولا بنحو الانضمام - بين هذه النسبة وبين العمل العبادي، فيكون كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة، فهو حرام لكن لا يضرّ بصحة العبادة.

وقد قيل: بأن التشريع المبطل للعبادة هو التشريع في ذات العبادة لا في وصفها، والتشريع في الوصف لا يسري إلى الذات، فمنطلق هذا الإنسان للعبادة هو أمره تعالى، وأما خصوصية الوجوب أو الندب فلم تكن مأموراً بها فلا يضر الاتيان بالخصوصية من غير داع قربي حتى لو كان تشريعاً محرماً.

ويرد عليهما: أنه لا يعقل الانفكاك بين الكلي وخصوصياته؛ إذ لا يوجد الكلي إلاّ في ضمن فرده، فلا يعقل كون الذات مقربة والخصوصيات مبعّدة لاتحادهما خارجاً - حتى وإن تعدّدا ذهناً - وقد مرّ تفصيل ذلك في باب اجتماع الأمر والنهي، فتأمل.

ص: 138

الموضع الثالث: البحث يشمل الأحكام غير الاقتضائية، فلو فرض تمامية الدليل على وجوب الموافقة الالتزامية فهو بإطلاقه أو عمومه يشمل الإباحة أيضاً.

الموضع الرابع: ملاك البحث عام، فهو كما يشمل الحكم المقطوع به كذلك يشمل ما أدت إليه الأمارات والأصول العملية.

دليل وجوبها

قد استدل لوجوب الموافقة الالتزامية بأدلة وجوب تصديق القرآن الكريم وتصديق النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) كقوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ}(1)، وبأدلة وجوب التسليم كقوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2).

وأشكل عليه: بأن التصديق يقابل التكذيب، وهو من مقدمات الإذعان وليس هو هو، والموافقة الالتزامية هي الإذعان وعقد القلب، فوجوب إحدى مقدماتها لا يدل على وجوبها.

وبأن ظاهر التسليم هو الالتزام العملي، فدلالة الآية على عدم الحرج في القلب، وعدم التمرد عملاً، بل التسليم به، مضافاً إلى أن الظاهر هو نفي كمال الإيمان لا أصله، وقد يكون الكمال بالمستحبات، فلا دلالة لنفيه على

ص: 139


1- سورة النساء، الآية: 136.
2- سورة النساء، الآية: 65.

الوجوب.

هذا في الحكم المعلوم بالتفصيل.

وأما الحكم المعلوم بالإجمال فلا إشكال في إمكان الالتزام به، بأن يلتزم بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة - كما في الكفاية(1) - بل ذكر المحقق الإصفهاني: «أن طرف العلم دائماً مبيّن تفصيلاً وإنما الإجمال والتردد في طرف الطرف ومتعلقه؛ بداهة أن طرف العلم يتشخص به العلم في مرحلة النفس، وهو أمر جزئي غير مردّد، وهنا كذلك؛ لأن المعلوم هو الإلزام من الشارع أما أن متعلقه الفعل أو الترك فهو مجهول - أي غير معلوم - والإلزام المعلوم يستتبع على الفرض الالتزام به باطناً والانقياد له قلباً»(2). انتهى، وسيأتي بحث المبنى مفصلاً إن شاء الله تعالى.

ثم بعد إثبات إمكان الالتزام في المعلوم الإجمالي نقول: إن دليل الوجوب بالتفصيل يجري هنا أيضاً لوحدة الملاك والإشكال هو بنفسه من غير فرق.

دليل عدم وجوبها

ثم إنه قد استدل لعدم وجوب الالتزام - مضافاً إلى عدم الدليل على الوجوب -: بأن ملاك استحقاق العقوبة هو كون المخالفة هتكاً وظلماً، وغير خفي أن عدم الالتزام قلباً مع الالتزام عملاً ليس بهتك ولا ظلم؛ إذ

ص: 140


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 255-256.
2- نهاية الدراية 3: 79.

الغرض من التكليف هو انقداح الداعي إلى فعل ما هو موافق لغرض المولى، وعدم المبالاة بأمر المولى إنما يكون هتكاً وظلماً إذا انجرّ إلى ترك ما يوافق غرض المولى أو فعل ما ينافيه، كذا في النهاية(1).

تكملة

في مانعية أو عدم مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي.

وذلك إذا لم يكن جريان الأصل في الطرفين أو الأطراف مستلزماً لمخالفة عملية مع استلزامه لمخالفة التزامية، كما لو أدخل يده النجسة في ماء مشكوك الكرية، فجريان استصحاب النجاسة في اليد والطهارة في الماء لا يستلزم مخالفة عملية، إلاّ أنه يستلزم مخالفة التزامية؛ وذلك لعلمه إما بطهارتهما لو كان الماء كراً أو نجاستهما لو كان قليلاً.

ولا يخفى أنه قد ذكر في جريان الأصول في الأطراف محاذير أربعة هي: المخالفة العملية، وتناقض الصدر والذيل، وعدم وجود الأثر العملي، والمخالفة الالتزامية، وقد ذكروا المحاذير الثلاثة الأولى مع دفعها في غير هذا الموضع.

وأما الرابع: وهو المقصود بالكلام في هذا الموضع...

فقد يقال: إن وجوب الالتزام قلباً مانع عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي؛ لأن جريانها يستلزم العلم بالالتزام بما هو خلاف الواقع!

ص: 141


1- نهاية الدراية 3: 77.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأول: إمكان الالتزام الإجمالي بالحكم الواقعي، والالتزام التفصيلي بالحكم الظاهري؛ وذلك لإطلاق أدلة وجوب الالتزام - على القول بها - فتشمل الإجمالي من الالتزام أيضاً، فكما يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك يمكن الجمع بين الالتزام الإجمالي بالواقع والالتزام التفصيلي بالظاهر.

الجواب الثاني: إن الالتزام في أطراف العلم الإجمالي لا يخلو من فروض ستة:

1- الالتزام الإجمالي، وهو المطلوب، وهو لا ينافي جريان الأصول.

2- أو سقوط وجوب الالتزام، وبذلك يرتفع المانع عن جريانها.

3- أو وجوب الالتزام بالحكم الواقعي.

لكنّه تكليف بما لا يطاق؛ لعدم علمه به.

4- أو وجوب الالتزام بكلا الطرفين، حيث إنه مقدمة للالتزام بالحكم الواقعي.

وفيه: أنّ الالتزام بالواجب الواقعي توقف على تشريعين؛ لعدم العلم بهذا الطرف ولا بذلك الطرف، فالالتزام بهما تشريع، مع عدم ثبوت كون الالتزام التفصيلي أهم.

5- أو الالتزام بأحدهما معيناً.

لكن الدليل - لو صح - إنّما دلّ على الالتزام بحكم الله تعالى، وما يعيّنه المكلّف لا يعلم كونه حكماً لله تعالى، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، مضافاً إلى كونه تشريعاً لانطباق تعريف التشريع عليه.

ص: 142

6- أو وجوب الالتزام بأحد الأطراف مخيراً بينها.

إلاّ أن هذا ليس تخييراً عقلياً ولا شرعياً...

أما عدم كونه تخييراً عقلياً فلعدم انطباق الأقسام الثلاثة من التخيير العقلي على ما نحن فيه:

أ- وذلك لعدم التزاحم بين الواجبين؛ لأن ما نحن فيه اشتباه الواجب بغير الواجب.

ب – ولعدم كون الأطراف حصص الكلي الطبيعي المأمور به؛ لأن أحدهما ليس مصداقاً لحكم الله تعالى الواجب الالتزام به.

ج – ولعدم كون الأطراف محتملات تكليف واحد اشتبه بينها، حيث إن التكليف المنجز لا بد من البراءة اليقينية منه ليقطع بعدم العقاب على مخالفته، وذلك يستدعي الاحتياط بإتيان كل الأطراف المحتملة ومع عدم التمكن من الاحتياط يستقل العقل بلزوم الموافقة الاحتمالية بالإتيان بما أمكنه من المحتملات مخيراً بينها.

وليس ما نحن فيه كذلك؛ لكون الموافقة الاحتمالية تشريع محرّم، حيث إنها التزام مع الشك، فيسقط وجوب الالتزام لوجود المانع عنه، مع عدم إحراز أهميته على التشريع.

وأما عدم كونه تخييراً شرعياً، فلأنّه إنما يكون في ما لو كانت كل الأطراف واجبة على البدل وليس ما نحن فيه كذلك؛ لعلمنا بأن الشارع إنما أراد منا الالتزام بالحكم الواقعي، وليس هو إلاّ أحد الأطراف.

إن قلت: ملاك أدلة التخيير بين الخبرين المتعارضين ثابت في ما نحن فيه، فعليه أن يختار أحدهما ويلتزم به.

ص: 143

قلت(1): هذا التخيير لو ثبت فإنما هو حكم ظاهري، والكلام في الالتزام بالحكم الواقعي، فتأمل.

والحاصل: أنه بعد سقوط الاحتمالات الأربعة الأخيرة، لم يبق إلاّ الاحتمالين الأولين، وهما لا ينافيان جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

الجواب الثالث: حكومة أدلة الأصول العملية الموضوعية على أدلة وجوب الالتزام؛ إذ الأصول العملية النافية للتكليف تخرج مجاريها عن موضوع التكليف المعلوم بالإجمال، وكذا عن موضوع أدلة وجوب الالتزام، وحيث انتفى موضوع وجوب الالتزام انتفى هذا الوجوب...

أما في الشبهة الحكمية فيقال الأصل البراءة - مثلاً - عن هذا الحكم وعن ذلك الحكم، فلا يوجد حكم حتى يجب الالتزام به.

وأما في الشبهة الموضوعية، كما لو شك في أن متعلق نذره هو صوم هذا اليوم أو إفطاره بتلبية دعوة مؤمن، فالأصلان ينفيان تعلق النذر بالأمرين - أي استصحاب عدم نذر الصوم واستصحاب عدم نذر الإفطار بتلبية الدعوة - ، فحينئذٍ لا صغرى للموضوع - أي لا نذر ثابت - ، وبانتفاء الموضوع ينتفي الحكم الذي هو وجوب الوفاء بالنذر، وحينئذٍ لا مانع من الالتزام بالإباحة، فليس الحكم بها طرحاً لدليل الوجوب، بل لأجل الخروج عن موضوع الوجوب، وعليه فلا مخالفة التزامية لعدم وجود حكم ٍ كي يجب الالتزام به!

ص: 144


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 460.

وهذا الوجه منسوب إلى الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليه: باستلزامه الدور؛ وذلك لأن الأصول العملية إنما تجري لو لم يكن محذور في جريانها، فلو كان جريانها سبباً لدفع المحذور كان دوراً صريحاً.

وبعبارة أخرى: مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة - مثلاً - فإن المحذور هو احتمال عدم الالتزام بالتكليف، بل الالتزام بضد التكليف، ومع وجود هذا المحذور لا تجري الأصول العملية، فلو قلنا: بأنا ندفع هذا المحذور بواسطة إجراء الأصول - إذ مع جريان الأصول لا محذور في احتمال الالتزام بضد التكليف - صار دوراً مصرحاً، وهذا ما يستفاد من كلام المحقق الخراساني(2).

وقرّر المحقق الإصفهاني(3) الدور بكونه مضمراً وبيانه...

1- أن جريان الأصل يتوقف على عدم المانع عن جريانه، وفي ما نحن فيه يوجد مانع عقلي وهو استلزامه للمخالفة الالتزامية.

2- ورفع هذا المانع لا يمكن إلاّ برفع موضوعه - وهو الحكم - فمع ثبوت الحكم لا يمكن الإذن في المخالفة الالتزامية، فإنه إذن في المعصية وهو قبيح تنجيزاً.

3- ورفع الحكم موقوف على جريان الأصل - حسب المفروض - ،

ص: 145


1- فرائد الأصول 1: 84-85.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 258-259.
3- نهاية الدراية 3: 83.

فثبت الدور المضمر.

وأشكل عليه(1): بأنه لا دور:

أما بلحاظ الحكم الفعلي: فنمنع المقدمة الأولى؛ إذ مفاد جريان الأصل هو نفي الحكم، لا أن جريان الأصل متوقف على نفي الحكم، كما أن مفاد أصالة الطهارة نفي النجاسة، وليست موقوفة على نفيها وإلاّ لدار.

وعليه فحيث كان مفاد الأصل هو رفع الحكم، فبارتفاع الحكم ترتفع المخالفة، لارتفاع موضوعها، فلا يكون الإذن فيها إذناً في المخالفة، فلا قبح حينئذٍ.

وأما بلحاظ الحكم الواقعي فنمنع المقدمة الثانية؛ وذلك لأنه لا مخالفة التزامية للحكم الواقعي؛ لأن مفاد الأصل رفع الوجوب الفعلي، ولازم ذلك عدم الالتزام به، لا عدم الالتزام بالوجوب الواقعي، مضافاً إلى أنه لا مانع من المخالفة الالتزامية للحكم الواقعي المنفي - ولو نفياً تنزيلياً - كما لا مانع من مخالفة التكليف بالاجتناب عن النجاسة الواقعية المنفيّة تنزيلاً بأصالة الطهارة.

وردّه السيد الأخ في التبيين(2)، أولاً بالنقض: بالمخالفة العملية القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فإن مفاد الأصول العملية الجارية في أطراف العلم الإجمالي هو رفع الحكم الفعلي، وبرفعه لا يبقى موضوع للمخالفة العملية للحكم الفعلي، فلا تكون محرّمة، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

ص: 146


1- نهاية الدراية 3: 83-84.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 470.

وثانياً بالحلّ: بأن الحكم الواقعي فعلي ومنجّز، فكيف يقال: بأنه لا فعلية له، وأنه لا ثبوت لموضوع المخالفة الالتزامية؟! وذلك لأن الحكم الفعلي هو ما وصل إلى مرحلة البعث والزجر، والحكم المنجز هو ما وصل إلى المكلّف، وكلاهما متحقق في ما نحن فيه. نعم، وصوله بالعلم الإجمالي

لا بالعلم التفصيلي، وعقلاً لا فرق بينهما! فتأمل.

ص: 147

فصل فی قطع القطّاع

اشارة

والمراد من القطاع من يتعارف قطعه من أسباب لا ينبغي حصول القطع منها، ويقابله الوسواسي الذي يتعارف عدم قطعه من الأسباب التي يقطع بها عامة الناس؛ وذلك لخلل في نفسيهما، والكلام في حجية قطعه الموضوعي أو الطريقي لنفسه، وأما حجيته لغيره فالأدلة منصرفة عنه.

فهاهنا مبحثان:

المبحث الأول: في حجية قطعه الموضوعي لنفسه

وفيه قولان:

القول الأول: إن سعة أو ضيق جعل الحجية للقطع الموضوعي تابعان لكيفية جعل المولى، فتارة يجعل القطع الحاصل من سبب متعارف موضوعاً أو جزء الموضوع، وتارة أخرى يجعله من أيّ سبب حصل كذلك.

إن قلت: إن هذا التقييد لغو؛ لأن القاطع حين القطع لا يلتفت إلى حصوله من سبب غير عادي.

قلت: كلا؛ لأن حصول القطع لا ينافي الالتفات إلى عدم كونه من سبب متعارف.

القول الثاني(1): التفصيل بين تقييد القطع الموضوعي بعنوانٍ هو حصوله

ص: 148


1- نهاية الدراية 3: 87-88.

من سبب ينبغي حصول القطع منه، فيكون التقييد لغواً؛ لأن القطاع حين حصول سبب القطع لديه يقطع بأنه سبب ينبغي حصوله منه وإلاّ يؤول الأمر إلى حدوث المعلول من غير عله بنظره.

وبين ما إذا قيّد القطع بذوات الأسباب المتعارفة، وهذا لا ينافي حصول القطع من غيرها مع كونه مردوعاً عنه، والتفات القطاع إلى ذلك.

وفيه: أولاً: إمكان التفاته إلى حصول القطع من سبب غير متعارف.

وثانياً: بأن الأثر لا ينحصر في عمله بالقطع، بل قد تكون آثار أخرى للقطاع نفسه أو لغيره، أما لنفسه فلأنه لو كان القطع مطلقاً فقد تحقق الموضوع فلا قضاء ولا إعادة بعد ذلك، ولو كان القطع مقيداً فعدم التفاته حين القطع لا ينافي وجوب القضاء أو الإعادة عليه بعد ذلك؛ لعدم تحقق الموضوع، وأما لغيره فيختلف الإطلاق أو التقييد في ترتيب الغير للأثر على قطعه، كعدم قبول شهادته في صورة التقييد، وقبولها في صورة الإطلاق.

المبحث الثاني: في حجية قطعه الطريقي لنفسه

وفيه أقوال:

القول الأول: حجيته مطلقاً؛ لأنها من اللوازم الذاتية للقطع الطريقي، فلا يعقل انفكاكها منه، فلا تنالها يد الجعل لا وضعاً ولا رفعاً، كما أن رفع الحجية يستلزم اجتماع الضدين في اعتقاد القاطع، وحقيقة في صورة الإصابة، ولغير ذلك من الوجوه التي مرّت في استحالة سلب الحجية عن القطع الطريقي.

ص: 149

وفي التبيين(1): ما دام القطع طريقياً فلا يمكن سلب حجيته، للملازمة العقلية، لكن المدعى تحوّل القطع في جميع موارد الأدلة الشرعية إلى قطع موضوعي، فإنه تنصرف ألفاظ الشارع إلى المتعارف، وقد يستشهد لذلك: بالسيرة العقلائية بين الموالي والعبيد، فلو أمره المولى بالبيع بالقيمة الرابحة، فإنه ينصرف إلى القيمة التي علم بها عن الطرق المتعارفة، فلو قطع بها عن غير الطرق المتعارفة ثم خسر، حقّ للمولى مؤاخذته، ويؤيده ما ذكره الفقهاء من أن حجية أقوال المجتهد على مقلده إنما هي لو استنبط الحكم عبر الطرق المألوفة.

القول الثاني: التفصيل بين القاصر أو المقصّر الذي أصاب قطعه الواقع، وبين المقصر الذي أخطأ فهو غير معذور باعتبار تقصيره في المقدمات وقلة مبالاته وعدم تدّبره(2).

وأشكل عليه: بأن عدم المعذرية حين التقصير في المقدمات غير خاص بالقطاع، بل هو جارٍ في كل قطع طريقي؛ لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، وعليه فهذا ليس تفصيلاً، بل هو رجوع إلى القول بالحجية مطلقاً.

القول الثالث: التفصيل بين القطاع الملتفت إلى كون قطعه غير متعارف فليس بمعذور، وبين غير الملتفت فمعذور(3).

وأشكل عليه: بعدم التلازم بين الالتفات والتقصير؛ لأن الالتفات إلى

ص: 150


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 22-23.
2- نهاية الأفكار 3: 44.
3- منتقى الأصول 4: 118.

شيء لا يلازم الالتفات إلى كونه غير معتبر، فتأمل.

تكملة

قد يقال: بوجوب ردع القطاع إما بإزالة قطعه تكويناً عبر التشكيك، أو تنبيهه على مرضه ليعالجه، أو بالحيلولة تكوينياً بينه وبين المقطوع به أو بغير ذلك.

لكن لا دليل على ذلك. نعم، قد تجب الحيلولة بينه وبين ما قطع به - فعلاً أو تركاً - إذا علم من الشارع عدم رضاه به، كما لو أراد قتل محقون الدم قاطعاً بأنه مهدور الدم، أو ترك الزكاة قاطعاً بعدم وجوبها - مثلاً - .

ص: 151

فصل فی القطع الحاصل من المقدمات العقلية

اشارة

والكلام تارة: في تحقق القطع خارجاً بها، وأخرى: في إمكان الردع عن هذا القطع لو فرض تحققه، وثالثة: في كونه مرغوباً عنه أم لا؟ فالكلام في مباحث ثلاث.

تحرير محل البحث:

قد يقال: بأن دعوى الأخباريين ليست عدم حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية، وإنما في عدم حصول القطع منها، وأن المقدمات العقلية لا تورث إلاّ الظن، وأنه لا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وقد يقال: بأن دعواهم في منع الكبرى، أي عدم جواز العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة، وعدم صلاحيته للمعارضة مع العلم الحاصل منها.

ويرد عليهم: عدم إمكان العلم بالمتعارضين.

وقد يقال: بأن دعواهم في منع الكبرى والصغرى.

ويرد عليهم: أنه لا محصّل في النزاع الصغروى؛ لأن حصول القطع منها أحياناً ولبعض الناس أمر وجداني.

المبحث الأول: في تحقق القطع عبر المقدمات العقلية

اشارة

والكلام في مقامات ثلاث:

ص: 152

المقام الأول: إدراك العقل المصلحة أو المفسدة الملزمتين

فقد يقال: إنه كلّما كان كذلك حكم الشرع أيضاً؛ لأن المصلحة والمفسدة الملزمتين علة للحكم الشرعي، وإدراك العلة يستلزم إدراك المعلول.

وأشكل عليه: أولاً: إن الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، إلاّ أنه قد يكون مزاحم في البين، كالمصلحة أو المفسدة الأقوى أو المكافئة، أو يكون هناك مانع أو تكون فعليتهما مشترطة بشروط غير متحققه، والعقل لا إحاطة له بكل الواقع، ولذا روي: «أن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة»(1).

وبعبارة أخرى: المصلحة والمفسدة مقتضي وليست علة تامة، ولا يمكن إدراك كونهما ملزمتين إلاّ بعد العلم بعدم المزاحم المساوي أو الأقوى وعدم وجود المانع ووجود شرط الفعلية، وأنّى للعقل إدراك ذلك.

وثانياً: إن الأحكام متوقفة على المصالح والمفاسد، وليس ذلك بمعنى أنه كلّما كانت مصلحة أو مفسدة كان حكم شرعي، بل يمكن اكتفاء الشارع بحكم العقل؛ لأن الغرض يتحقق بإدراك العقل أو بحكمه. نعم، لا محذور في حكم الشارع تأكيداً أو تقوية لحكم العقل أو إدراكه ولكنه ليس بلازم، ومن ذلك يتضح بأن عدم حكم الشرع ليس تفويتاً لهما.

المقام الثاني: إدراك العقل الحسن والقبح

والكلام إنما هو في الحسن و القبح المستقلين اللذين يدركهما العقل مع

ص: 153


1- كمال الدين 1: 324؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 276.

قطع النظر عن الحكم الشرعي، كقبح الظلم وحسن العدل، وليس الكلام في الحسن أو القبح المتأخر عن حكم الشرع، كحسن الإطاعة وقبح المعصية، كي يقال: بأنهما لا يعقل أن يكونا ملاكاً للحكم الشرعي وإلاّ استلزم الدور.

ولا يخفى أن الحسن والقبح - كالمصلحة والمفسدة - لا يصلحان لوحدهما ملاكاً للحكم الشرعي بنحو العلية، كي نستكشف منهما حكم الشارع.

المقام الثالث: إدراك العقل لغير المستقلات العقلية

فإن أدرك العقل الملازمة - كما قيل في الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده الخاص - فيقطع بالحكم الشرعي؛ وذلك لأنه مع القطع بالملازمة والقطع بتحقق الملزوم يحصل القطع بتحقق اللازم، إلاّ لو قيل بأن القطع في الأحكام الشرعية موضوعي بأن يكون عن طريق الكتاب والسنّة.

وإن لم يدرك الملازمة، يقطع العقل بعدم الحكم الشرعي ظاهراً؛ وذلك لقبح العقاب بلا بيان.

المبحث الثاني: في إمكان ووقوع الردع عن القطع الحاصل عنها

المقام الأول: في إمكانه

فإن كان القطع في الأحكام طريقياً فلا يمكن، وإن كان موضوعياً فلا إشكال في إمكانه.

وعن المحقق النائيني(1): إمكان الردع، لا بمعنى المنع عن العمل بالقطع،

ص: 154


1- أجود التقريرات 3: 17-19.

بل بمعنى تقييد الحكم بعدم كونه مقطوعاً به من غير الكتاب والسنة، فالتصرف في المقطوع به لا في القطع، فلا ينافي ذلك حجية القطع الذاتية.

ويدل عليه: أنه لا مانع من تقييد الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص، وذلك بمتمم الجعل.

بيانه: بأنه قد مرّ عدم إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم، كما أنه قد مرّ أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق لكون التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة، ولذا قلنا باستحالة تقييد الأحكام الشرعية بالعلم بها، حيث يلزم أخذ القطع بالحكم في موضوعه، كما يستحيل إطلاقها للعالم والجاهل، حيث إن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق، فلا بد من كون الأحكام مهملة بالنسبة إلى العلم والجهل، وحيث إن الإهمال في مقام الثبوت محال - حيث إن الملاك إما خاص بالعالم فلا بد من تقييد الحكم به، أو عام له وللجاهل فلا بد من تعميم الحكم - فلا بد من تتميم الحكم بمتمم الجعل، وبهذا المتمم إما نحصل على نتيجة التقييد فيختص الحكم بالعالم، وإما على نتيجة الإطلاق فيشمل الحكم العالم والجاهل.

وعليه ففي كل مورد ثبت تخصيص الحكم بالعالم فنلتزم بنتيجة التقييد كبعض موارد القصر، كمن صلّى في السفر تماماً جاهلاً بحكم القصر، وكل مورد لم يثبت التخصيص نلتزم بنتيجة الإطلاق؛ وذلك للعمومات الدالة على اشتراك التكليف بين الجاهل والعالم.

وفي ما نحن فيه: لا مانع بمتمم الجعل من تقييد الحكم بالقطع الحاصل

ص: 155

من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص.

أقول: مرجع كلامه إلى إمكان الردع لو كان القطع موضوعياً، فكان يمكن اختصار الدليل بذلك، كما أن الدليل بهذه الكيفية محل تأمل، لما مرّ من الإشكال على المقدمة الثانية بأنه يلزم من استحالة التقييد ضرورة الإطلاق؛ لأن الإطلاق هنا رفض للقيود لا جمعها، كما أنهما من السلب والإيجاب لا العدم والملكة.

المقام الثاني: في وقوعه

وقد استدلوا بروايات كثيرة يمكن تصنيفها في أربع طوائف: الروايات الناهية عن العمل بالرأي، والروايات الدالة على أن كل ما لم يصدر منهم فهو باطل، والروايات الدالة على أن دلالة ولي الله تعالى شرط في صحة الأعمال وترتب الثواب عليها، والروايات الدالة على مدخلية تبليغ الحجة في جواز التدين بحكمه وقوله.

ولا يخفى التواتر الإجمالي لهذه الروايات فلا كلام في سندها، إنما الكلام في دلالتها، فلو لم تثبت دلالتها على المطلوب ثبت حجية القطع الحاصل عن المقدمات العقلية تحكيماً للإطلاق بعد عدم الدليل على التقييد.

وأما الإشكالات على دلالتها فهي متعددة، منها:

الإشكال الأول: إن موضوع هذه الأخبار...

إمّا النهي عن الأحكام العقلية الظنية، وكلامنا إنما هو في الأحكام العقلية القطعية، لانصرافها إلى ما كان متعارفاً عند فقهاء العامة من الاستدلالات

ص: 156

الظنية.

وإما النهي عن الاستقلال عن المعصومين (علیهم السلام) في مقام استنباط الأحكام الشرعية.

وإما النهي عن التسرّع في إنكار الأدلة الشرعية لغرابتها، بل لا بد من التروي والتأني والسؤال حتى مع القطع بالخلاف، كما في خبر دية أصابع المرأة.

وإما على اشتراط الولاية في صحة وقبول العمل، وذلك لا يرتبط بالبحث.

الإشكال الثاني: لو سلمنا دلالتها على الانحصار في السماع عن المعصوم (علیه السلام) ، فنقول: إن هناك روايات متعددة دلت على حجية العقل، وأنه حجة الله الباطنة، وبعبارة أخرى - كما في التبيين(1) - العمل بما يحكم به العقل إنما هو عمل بدلالة ولي الله تعالى، حيث أرشدنا إلى ذلك، وقد استفاضت الأخبار الشريفة على أن العقل حجة من حجج الله تعالى، والروايات الرادعة تردع عن العمل بالعقل بما هو هو، لا بما هو مستند إلى الحجة.

إن قلت: هناك تعارض بين الروايات المانعة عن التمسك بالعقل في الأحكام الشرعية، وبين الروايات الدالة على أنه حجة.

قلت: أولاً: لا تعارض؛ إذ الأخبار الرادعة لا تدل على عدم حجية العقل كي تتعارض مع الروايات الدالة على حجيته، بل قد يقال بأنها دلت على

ص: 157


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 91.

كون القطع موضوعياً.

وثانياً: على فرض تحقق التعارض فإنما هو بالعموم من وجه، فمورد افتراق المانعة هي الأحكام الظنية العقلية، ومورد افتراق الآمرة هي الأخذ بالعقل النظري - الذي يتوقف عليه التوحيد وإثبات النبوة - ، ومورد الاجتماع هي الأحكام العقلية القطعية المستندة إلى العقل العملي.

ولو فرض التعارض هنا فالترجيح للروايات الدالة على اتباع القطع، لدلالة الكتاب العزيز على لزوم اتباع العلم كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).

وحتى لو فرض الإشكال في الترجيح، ففي مورد التعارض إن لم يكن ترجيح فالقاعدة التساقط، وحينئذٍ نرجع إلى العام الأعلى وهو دال على حجية القطع؛ وذلك لما قرر في محلّه أن العام الفوقاني لا يعارض الخاصين، وبعد تعارضهما وتساقطهما يكون هو المرجع.

الإشكال الثالث: إن الحكم العقلي قد يكون طريقاً لمعرفة كلام المعصوم (علیه السلام) ، فحينئذٍ نكشف بالدليل اللمّي واسطيته في الحكم الشرعي، وبعبارة أخرى: قد نعلم بتوسط المعصوم (علیه السلام) ولكن من غير سماع منه، كما لو علمنا بالوجدان كون عمل مقرباً، مع دلالة الدليل على صدور الأمر بكل مقرب كقوله (صلی الله علیه و آله): «ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به»(2)، فتأمل.

ص: 158


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- الكافي 2: 74؛ وسائل الشيعة 17: 45.

المبحث الثالث: في كونه مرغوباً عنه

اشارة

قد يقال: بأن ذلك موجب للوقوع في الخطأ كثيراً، وبأنه يوجب التشكيك بالأحكام الشرعية وفقدان التسليم بها، وذلك مرغوب عنه شرعاً وعقلاً...

أما شرعاً: فلبعض الروايات، كخبر أبان في دية أصابع المرأة(1)، حيث كان يتصور أن كثرة وقلة الدية ترتبط بحجم الجناية، وهذا كان مرتكزاً في ذهنه، لذا أنكر الحكم أشد الإنكار.

وأما عقلاً: فلأن العقل لا يحيط بالملاكات الواقعية للأحكام، لذا كان الطريق إلى الأحكام السمع. نعم، إذا فرض إدراك العقل للملاك أو لاستحالة حكم فلا بد من اتباعه، لكن ذلك نادر جداً، مضافاً إلى العلم بالمخالفة كثيراً لمن سك هذا الطريق.

وعليه فإن من سلك المقدمات العقلية المرغوب عنها وتوصل إلى قناعات قطعية مخالفة للواقع في الأصول أو الفروع، كان مستحقاً للعقوبة، بل قد يؤدي به إلى الكفر من غير كونه معذوراً، قال الشيخ الأعظم: وأوجب من ذلك - يعني في ما يتعلق بالأحكام - ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية، لإدراك ما يتعلق بأصول الدين، فإنه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد، وقد أشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر(2).

ص: 159


1- الكافي 7: 299؛ وسائل الشيعة 29: 352.
2- التوحيد للصدوق: 365؛ فرائد الأصول 1: 64.
تكملة: في موارد توهم الردع عن القطع فيها

هناك موارد في الشرع قد يتوهم أنها ردع عن العمل بالقطع الطريقي فلا بد من بيان وجهها، وللتفصيل راجع كتاب التبيين للسيد الأخ(1)، ومنها:

المورد الأول: درهم الودعي.

في ما لو أودعه أحدهما درهماً والآخر درهمان، وضاع أحدهما، حيث يقسم أحد الدرهمين بينهما، فيعطى لصاحب الدرهم نصف درهم، ولصاحب الدرهمين درهم ونصف، وبذلك رواية السكوني(2)، وقد عمل بها المشهور، مع القطع بكون الدرهم المقسّم كله إما لهذا أو لذاك، فهنا مخالفة قطعية للعلم الإجمالي، وقد يتولد منه علم تفصيلي كما لو اجتمع النصفان عند ثالث بالهبة - مثلاً - ثم اشترى بعينهما شيئاً، حيث يعلم تفصيلاً عدم تملكه لنصف ما اشتراه.

والجواب: 1- إما بالولاية الشرعية، باعتبار أن المالك الحقيقي هو الله تعالى، وهو قد ملّك غير المالك نصف الدرهم.

إلا أن يقال: إن الملكية هنا ظاهرية، وليست واقعية، فلذا لو انكشف المالك الواقعي للدرهم، وجب على الآخر ردّ نصفه إليه.

2- وإما بقاعدة العدل والإنصاف، وهي قاعدة عقلائية منشؤها تقديم الموافقة القطعية الجزئية على الموافقة الاحتمالية الكلية، فيكون التنصيف مقدمة علمية لإيصال بعض المال إلى صاحبه، نظير صرف بعض المال

ص: 160


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 117-123.
2- الكافي 7: 58؛ تهذيب الأحكام 9: 162.

لإيصال الباقي إلى صاحبه الذي هو من باب المقدمة الوجودية.

وقد يقال: بأن منشأ القاعدة بعض الروايات في مورد التداعي مع إقامتهما البينة، بعد إلغاء الخصوصية بادعاء فهم المناط وهو عدم الحجة المعيّنة لأحد الطرفين في القضايا المالية.

المورد الثاني: واجدي المني في الثوب المشترك.

حيث قد يقال: بجواز اقتداء أحدهما بالآخر، أو اقتداء ثالث بهما في صلاة واحدة أو في صلاتين مترتبتين، حيث يتولد علم تفصيلي ببطلان صلاة المأموم، أما في الأول فلجنابته أو لجنابة إمامه، وأما الثاني فلبطلان صلاة أحد الإمامين، وفي الثالث بطلان الصلاة الثانية إما لبطلان صلاة إمامها أو لفوات الترتيب.

والجواب: أن هنا مبنيين:

1- كفاية الصحة الظاهرية في الإمام، بمعنى كفاية صحة صلاة الإمام في نظره لجواز الائتمام به، وعليه فلا تنجز للعلم الإجمالي؛ لأنه لو كان الإمام هو الجنب فلا بطلان لصلاة المأموم لوجدانها شرائط الصحة، فالشبهة بدوية مع وجود مؤمِّن فيها، كما لا تحقق للعلم التفصيلي، كما هو واضح.

2- عدم كفاية الصحة الظاهرية في الإمام، بل لا بد من صحة صلاته واقعاً، فهنا لا نمانع من القول ببطلان صلاة المأموم لتنجز العلم الإجمالي، بل قد يتولد منه علم تفصيلي.

المورد الثالث: الإقراران المتعاقبان على الشيء الواحد.

حيث قيل: بأنه تعطى العين للأول، والبدل للثاني، وقد يجتمعان - العين

ص: 161

والبدل - عند ثالث فيتولد عنده علم إجمالي بحرمة التصرف في أحدهما، ولو اشترى بهما شيئاً بعينه علم تفصيلاً بعدم جواز التصرّف فيه، لكون بعض ثمنه ملكاً للغير.

والجواب: 1- مبنىً: بأن الإقرار الثاني إنما هو إقرار في ملك الغير - الذي ثبتت ملكيته بالإقرار الأول - فالأثر للإقرار الأول، ولا أثر للثاني.

إن قلت: المدلول الالتزامي للإقرار الثاني هو إتلاف ملك الثاني بواسطة الإقرار للأول، وأدلة حجية الإقرار تشمل المداليل الالتزامية.

قلت: إن المدلول الالتزامي تابع للمدلول المطابقي، فإذا سقط المطابقي سقط الالتزامي، ودليل الحجية لا يشمل المدلول الالتزامي، مع فرض سقوط المدلول المطابقي.

2- وبناءً: بأن نفوذ الأحكام الظاهرية مشروط بعدم قيام العلم بالخلاف، وملكية المقَرّ له الأول للعين والمقَرّ له الثاني للبدل إنما هو حكم ظاهري، فلو اجتمعا عند ثالث لايحق له التصرف فيهما، للعلم الإجمالي في جميع الصور، وللعلم التفصيلي في بعض الصور، وهذا جارٍ في جميع الأحكام الظاهرية، حيث إن نفوذها مُغَيّى بعدم حصول العلم الإجمالي أو التفصيلي بالخلاف، فتأمل.

المورد الرابع: لو اختلف المتبايعان في تعيين الثمن أو المثمن، بعد الاتفاق على وقوع أصل البيع، مع كون الاختلاف في المتباينين - لا الأكثر والأقل - ، فلو وصل الأمر إلى التحالف، حكم الحاكم بالانفساخ ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الأوّل.

ص: 162

مع أن الحكم برد الثمن إلى المشتري يخالف علمه التفصيلي بكونه ملكاً للبائع، وكذلك في ردّ المثمن إلى البائع، وحينئذٍ فلو انتقلا إلى ثالث علم تفصيلاً بأن أحدهما ليس ملكاً له.

والجواب: 1- إن التحالف يوجب الانفساخ واقعاً، كاللعان في النكاح، وتلف العين قبل القبض.

2- أو أنه من باب التقاص الخاص.

3- أو أنه من باب الولاية الشرعية، وعليه فلا مخالفة إجمالية أو تفصيلية للعلم.

ص: 163

فصل فی العلم الإجمالي

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في حقيقة العلم الإجمالي

وفيها أقوال، منها:

القول الأول: إنه العلم بالفرد المردد، فإن أحد الشيئين لا بعينه يمكن تعلّق الصفات الحقيقية كالعلم به، وكذا الصفات الاعتبارية كالوجوب والحرمة.

وأشكل عليه: باستحالة الفرد المردد سواء في الخارج أم في الذهن، فلا وجود له أصلاً فلا يمكن تعلّق الأوصاف - حقيقية أم اعتبارية - به، فإنّ الوجودات الخارجية جزئيات متشخّصة بالخصوصيات الفردية، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، فلا معنى للتردد الثبوتي فيها، وأما الذهن فهو أيضاً من عالم الخارج، والصور المنقوشة فيه موجودة في الخارج حقيقة، وإنما صحّ التقسيم إلى الوجود الذهني والخارجي باعتبار اختلاف المواطن، وإلاّ فالموجودات الذهنية والخارجية كلّها خارجيّة، وأما صحة تقسيم الفرد إلى المعيّن والمردّد فإنما هو باعتبار المفهوم وبالحمل الأولي الذاتي، مع كون مفهوم الفرد المردد معيناً، وليس التقسيم باعتبار المصداق وبالحمل الشايع.

ص: 164

وعليه فإذا لم يتحقق الفرد المردد لا في الخارج ولا في الذهن، فكيف يتعلّق العلم به؟!

وفيه: ما مرّ بأنه يمكن جعل المفهوم مشيراً إلى شيء محال، ولذا صحّ أن نقول: شريك الباري ممتنع، حيث إن لفظة (شريك الباري) ومفهومها ليست ممتنعة، لكنها تشير إلى ما هو ممتنع، فكذا في ما نحن فيه حيث يُجعل مفهوم الفرد المردد مشيراً إلى مصداقه الممتنع، فيتعلق العلم بالمشير وبالمشار إليه، فتأمل.

القول الثاني: إنه العلم بالجامع، قال المحقق الإصفهاني: «حقيقة العلم الإجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا تفارق العلم التفصيلي في حدّ العلمية، وليسا هما طوران من العلم... بل طرف العلم ينكشف به تفصيلاً ولا مجال في التردد فيه بما هو طرف العلم... نعم، متعلّق طرف العلم مجهول أي غير معلوم... بل ضم الجهل إلى العلم صار سبباً لهذا الاسم»(1).

وبعبارة أخرى - كما في التبيين(2) -: إن العلم في المقام لا يخلو من محتملات أربعة:

1- أن يكون بلا متعلق، وهو محال؛ إذ لا يعقل انكشاف بلا منكشف، حيث إن العلم صفة حقيقية ذات إضافة.

2- أن يتعلق بالفرد بحّده الشخصي المعين، وهو خلف؛ إذ هو انقلاب الإجمالي إلى التفصيلي.

ص: 165


1- نهاية الدراية 3: 89-90.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 143-144.

3- أن يتعلق بالفرد المردد بين حدين أو حدود، وهو خلاف ما سبق من امتناع الفرد المردد.

4- فلم يبق إلاّ أن يكون متعلّقاً بالجامع.

وأشكل عليه: بأن العنوان الجامع لا ينطبق على الفرد بتمامه، لكن المعلوم بالعلم الإجمالي - كأحد الإنائين - ينطبق على الفرد بتمامه، فلا يكون هذا المعلوم هو العنوان الجامع، وهذا برهان من القياس الاستثنائي.

أما المقدمة الأولى: فإن الأفراد الخارجية مركبة بحسب التحليل العقلي من القدر الجامع وبه صارت الأفراد مجتمعة تحت الكلي، ومن الخصوصيات الفردية وبها تمايزت الأفراد بعضها عن بعض، والقدر الجامع لا يمكن انطباقه على الأفراد بتمامها - أي بخصوصياتها الفردية - بمعنى عدم إمكان انطباقه على الفرد الخارجي بكلا جزئيه التحليليين، مثلاً الإنسان ينطبق على القدر المشترك بين زيد وعمرو، ولا ينطبق على زيد بما له من خصوصيات في طوله وزمانه ومكانه وإضافته... الخ.

وأما المقدمة الثانية: فإن المعلوم بالعلم الإجمالي هو أحد الإنائين مثلاً، وهذا العنوان ينطبق على الفرد انطباقاً تاماً بخصوصياته الفردية.

والنتيجة: هي عدم كون هذا المعلوم هو العنوان الجامع.

وفيه(1): أن العناوين الجامعة على أنواع ثلاث، وبعضها ينطبق العنوان على الفرد بتمام خصوصياته الفردية.

فتارة: يلحظ العنوان الجامع بشرط دخول الخصوصيات وهذا يكثر في

ص: 166


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 146.

الجامع العنواني، مثلاً يضع اسم زيد على المواليد في هذا اليوم، ف- (المسمّى بزيد) عنوان جامع ينطبق على المصاديق مع دخول المشخصات الفردية فيها.

وتارة: يلحظ بشرط لا، كما في صرف الحقيقة، كالبياض مجرداً عنه الموضوعات واللواحق من الزمان والمكان والجهة وغيرها.

وتارة: يلحظ لا بشرط، بأن يلحظ العنوان على نحو لو كانت الخصوصية موجودة انطبق على الفرد بتمامه، وإن لم تكن موجودة أيضاً انطبق على الفرد بتمامه الفاقد لتلك الخصوصية؛ لأن ذلك مقتضى اللابشرطية - مثلاً - البيت بالإضافة إلى السرداب، فلو كان موجوداً كان جزءاً من البيت، وإن لم يكن موجوداً انطبق على الباقي من غير نقص، وكعنوان الصلاة بالنسبة إلى القنوت، وقد مرّ بعض البحث في الجزء المستحب وغيره.

والكليات الطبيعية عادة من قبيل الثالث، فالإنسان مثلاً موضوع لماهية الحيوان الناطق على نحو اللابشرط فينطبق على زيد بتمامه، لا على جزئه التحليلي العقلي فقط.

كما أن الجامع العنواني من قبيل الأول، فهو ينطبق على فرده بما له من الخصوصيات الفردية، فمثل عنوان (الفرد) و (الشخص) ونحو ذلك هي من الجامع العنواني الذي هو جامع اختراعي مصطنع من الذهن، لا أنه منتزع من الخارج فليس كزوجية الأربعة، وفي ما نحن فيه (أحد الفردين) من هذا القبيل، فهو جامع وينطبق على الفرد بتمامه.

وعليه فلا يصح إنكار كون المعلوم بالعلم الإجمالي هو الجامع، لمجرد انطباقه على الفرد بتمامه، فتأمل.

ص: 167

القول الثالث: إنّ الإجمال إنما هو في ناحية العلم لا المعلوم، وإلاّ فالمعلوم هو الفرد بما له من الخصوصيات، فيكون وزان العلم الإجمالي كوزان المرآة غير الصافية في أنها تعكس صورة الفرد لا الكلي لكن مع كدر وعدم صفاء، فلذا قد يحدث الإجمال في ما تعكسه.

وبعبارة أخرى: في العلم الإجمالي الصورة الذهنية إنما هي صورة الفرد لا صورة الجامع، ولا يلزم من ذلك الانقلاب إلى العلم التفصيلي إن قيل بدخول الحدود الشخصية في الصورة، ولا كون المعلوم هو الجامع إن قيل بعدم دخولها فيها؛ وذلك لتوفر بعض الخصوصيات في الصورة بما يخرجها عن كونها صورة الجامع، وعدم تحقق بعض الخصوصيات الأخرى في الصورة مما يحفظ الإجمال فيها، وهذا القول ذهب إليه المحقق العراقي(1).

القول الرابع: الجمع بين الأقوال الثلاثة، عبر الذهاب إلى أن العلم الإجمالي له جوانب متعددة، وكل قول من هذه الأقوال يبيّن جانباً منه، وحاصله: أن العلم الإجمالي إنما يتعلق بمفهوم كلي، وقد أشير بهذا المفهوم إلى الخارج فصار جزئياً بالإشارة، مع كون الإشارة صالحة للانطباق على أكثر من واحد فحصل التردد في الأفراد.

بيانه: أنّه في العلم الإجمالي حيث إن المعلوم قابل للانطباق على الكثيرين فلذا صحّ القول بكونه كلياً، فصحّ القول الثاني - أي كون المعلوم كلياً - ، إلاّ أنه بهذا المفهوم يتمّ الإشارة إلى الحصة الخارجية، ولذا يتعلق المفهوم بالفرد، كما مرّ نظيره في أسماء الإشارة بناءً على كون الوضع

ص: 168


1- نهاية الأفكار 3: 299-300.

والموضوع له والمستعمل فيه عاماً، وإنما الخصوصية الجزئية تأتي من قِبل الإشارة، كذلك في ما نحن فيه حيث إن الحدود غير داخلة في الصورة العلمية وإنما الجزئية بالإشارة الذهنية، فصحّ القول الثالث - أي كون المعلوم فرداً جزئياً - ، ولكن بهذه الإشارة لا يتعيّن المشار إليه؛ لأنها إشارة إلى واقع الوجود، وهو مردد بين الأطراف، بمعنى صلاحية كل واحد منها لأن تكون المشار إليه، كما لو أشار بيده إلى أحد شيئين وتردد المشار إليه بينهما، فصحّ القول الأول، وليس هذا من باب الفرد المردد، بل من باب قابلية الإشارة للانطباق على أكثر من واحد، فتأمل.

المبحث الثاني: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي

اشارة

وهو إما بحرمة المخالفة القطعية بمعنى حرمة ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية وحرمة ترك جميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، وإما بوجوب الموافقة القطعية بمعنى ترك كل الأطراف في التحريمية وفعل كل الأطراف في الوجوبية.

والذي يبحث هنا هو حرمة المخالفة القطعية، وأما وجوب الموافقة القطعية فقد يتم البحث فيه في البراءة، وإن كان الأولى فنياً بحثهما معاً في موضع واحد.

ولا يخفى اختلاف الأمرين أحياناً، وإن ترتب أحدهما على الآخر أحياناً، فلو ذهبنا إلى وجوب الموافقة القطعية ترتب عليه بحث حرمة المخالفة القطعية، وأما لو ذهبنا إلى وجوب الموافقة القطعية فلا إشكال في حرمة المخالفة القطعية، بل حتى الاحتمالية؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

ص: 169

وكذا لو ذهبنا إلى حرمة المخالفة القطعية ترتب عليه البحث عن وجوب أو عدم وجوب الموافقة القطعية، أما لو ذهبنا إلى عدم حرمة المخالفة القطعية فلا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعية ولا الاحتمالية.

وفي مبحث المخالفة القطعية مطالب:

المطلب الأول: في تنجز التكليف عقلاً بالعلم الإجمالي

فلا فرق في ذلك بينه وبين التفصيلي.

وقيل: بالفرق بينهما؛ لأن العصيان لا يتحقق إلاّ بالعلم بمخالفة المولى حين العمل، فلا عصيان لو لم يعلم، أو كان العلم بعد العمل، فلا قبح ثمة، وهذا متحقق في التفصيلي، وغير متحقق في الإجمالي؛ لأنه حين ارتكاب كل طرف لا علم له بالمخالفة، بل يحتملها، وإنما يعلم بها بعد ارتكاب الطرفين، ولا يضر ذلك في عدم تحقق العصيان، فلذا لو علم بارتكاب الحرام في الشبهة البدوية، فلا يؤثر هذا العلم في جواز عمله السابق، بمعنى عدم انقلابه أو كشفه عن العصيان والقبح، فلذا لا مانع عن التحقيق في ما ارتكبه من الشبهات البدوية، حتى لو كانت النتيجة العلم بارتكابه المحرّم الواقعي.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين(1)-: إن القبيح هنا في نظر العقل أحد عناوين ثلاثة: إمّا مخالفة المولى، وهذه ليست علة للقبح والحرمة؛ إذ المخالفة متحققة في حالات الجهل والنسيان قصوراً ولا قبح فيها، وإمّا

ص: 170


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 156.

العلم بمخالفة المولى، وقد ذكرنا أن العلم بها ليس قبيحاً، وإمّا المخالفة المعلومة حين العمل، وهذه هي سبب القبح بعد امتناع الوجهين الأولين ولا شق رابع.

وأشكل عليه: بوجود شق رابع، وهو أن المعتبر في القبح عقلاً هو وصول التكليف، ولا يضر بالقبح عدم تمييز المكلّف به ولذا لا إشكال في القبح والحرمة لو ارتكب كل الأطراف دفعة، كما لو نظر إلى امرأتين يحرم عليه النظر إلى إحداهما لكنه لم يميّزها عن المحلّلة، وهذا الوصول متحقق في الإجمالي والتفصيلي، فلا فرق إذن.

لا يقال: بأن الوصول إمّا الوصول القطعي، وإما مطلق الوصول ولو احتمالاً، أما الأول: فهو ليس علة تامة للقبح، ولذا يتنجز التكليف في الشبهات الحكمية قبل الفحص، مع عدم القطع بوصول التكليف، فيقبح الاقتحام، ولو صادف الحرام مثلاً لم يكن معذوراً، وأما الثاني: ففي الشبهات البدوية بعد الفحص يبقى احتمال الوصول واقعاً!

لأنه يقال: نختار الشق الأول، ولكن كون الوصول علة تامة للقبح لا ينافي وجود علة تامة أخرى له.

المطلب الثاني: في إمكان الترخيص في المخالفة القطعية

ومردّ ذلك إلى التنافي بين الحكم الواقعي المعلوم إجمالاً مع الترخيص ظاهراً أو عدم التنافي بينهما، وهنا أقوال:

القول الأول: عدم التنافي، ويستدل لذلك نقضاً وحلاً بأمور، منها:

الدليل الأول: عدم الفرق في الترخيص في ما نحن فيه، والترخيص في

ص: 171

الشبهات البدوية، فكما جاز هناك جاز هنا، وما يقال في الجواب عن شبهة التنافي هناك يجاب به هنا.

وأشكل عليه: بالفرق من جهتين:

الفرق الأول: القطع بالتنافي في ما نحن فيه، واحتماله في البدوية.

وأجيب: بأن الفرق غير فارق، وذلك لعدم احتمال المحال أصلاً، للقطع باستحالة التضاد فلا يعقل احتماله أبداً، بل إمكان المضادة يكشف عن عدم كونها مضادة أصلاً سواء كانت محتملة أم مقطوعة.

والحاصل: إنه لا فرق بين الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهة البدوية، فما يقال في رفع المضادة بين الحكم الواقعي وبين الترخيص الظاهري في البدوية، يجري بعينه في المقرونة بالعلم الإجمالي.

الفرق الثاني: هو الفرق في المنتهى، وإن لم يكن بينهما فرق في الحكم ومبتداه، أما عدم الفرق في المبتدا فلأن منشأ الحكم المصلحة أو المفسدة، وهي تارة في المتعلّق وأخرى في نفس الحكم كبعض الأوامر الامتحانية، وهنا الحكم الواقعي مصلحته أو مفسدته في المتعلق، وأما الترخيص الظاهري فمصلحته في نفس الحكم فلا تضاد سواء في البدوية أم المحصورة.

وأما عدم الفرق في نفس الحكم، فلأنه إنشاء صرف، ولا تضاد بين الإنشائيات.

ولكن في المنتهى - أي في مرحلة امتثال العبد - لا تضاد في البدوية مع وجود التضاد في المحصورة، أما في البدوية فللطولية بين الواقعي

ص: 172

والظاهري، وعدم اجتماعهما معاً أبداً، فلا تضادّ؛ لأن الظاهري ظرفه أو موضوعه الشك وحينئذٍ لا ينجز الحكم الواقعي، فلو ارتفع الشك فلا حكم ظاهري، بل يتنجز الواقعي فقط.

وأما في المحصورة فلتنجز التكليف فيها لعدم الفرق عقلاً بين وصول الحكم الواقعي بالإجمال أو بالتفصيل، ومع تنجز الواقعي لا يبقى مجال للترخيص في الأطراف أصلاً، وإلاّ حصلت المضادة.

وأجيب: بأن نفس الجهة التي ترفع تنافي المبدأ، ترفعه في المنتهى أيضاً، فإنه في المبدأ تتزاحم مفسدة المتعلق ومصلحة الحكم مثلاً، فيترجح الأقوى منهما إن كان بحد الإلزام، وإلاّ فالتخيير، وكذلك في المنتهى في المحصورة تبقى الحرمة الواقعية - مثلاً - إنشائية، ويكون الجواز الظاهري فعلياً، ولا تنافي بين الفعلي والإنشائي.

وفي التبيين(1): ومآل ذلك إلى تقييد فعلية الحكم الواقعي بكونه معلوماً بالتفصيل، وأما اشتراك العالم والجاهل في الحكم فدليله الإجماع، والقدر المتيقن منه هو الاشتراك في الحكم الإنشائي دون الفعلي، كما لا يلزم الدور، لما مرّ من عدم الإشكال فيه إن كان بنحو تقييد النتيجة أو باختلاف المرتبة، بأن يكون العلم التفصيلي بالحكم الإنشائي قد أ ُخذ في موضوع الحكم الفعلي، كما لا يرد إشكال إن كان الحكم الحكم الواقعي إنشائياً بحتاً فلا يجدي حتى القطع به في صيرورته فعلياً، وذلك لإمكان كون جعل الإنشائي بنحو لو علم به لصار فعلياً.

ص: 173


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 164.

إن قلت: إن مورد البحث والنقض والإبرام هو كون الحكم الواقعي في مورد العلم الإجمالي فعلياً، بمعنى إطلاق الحكم الواقعي لصورتي العلم التفصيلي والإجمالي، فتصوير كونه إنشائياً خروج عن موضوع البحث، ومع كون مورد البحث الحكم الواقعي الفعلي وقد وصل وصولاً إجمالياً - مع عدم فرق الوصول الإجمالي والتفصيلي في تنجز الحكم - كيف يُعقل الترخيص في ترك امتثاله؟ وبذلك يثبت الفرق بين البدوية والمحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي، لعدم فعلية الحكم الواقعي في البدوية لعدم وصوله، مع فعليته في المحصورة لوصوله.

قلت: إن مورد البحث ليس مجرد فرض منفصل عن المسألة الفقهية، بل الغرض بيان إمكان الترخيص في المسائل الفقهية المطروحة، وعليه فإنّ فعلية الأحكام الواقعية في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي إنما هي لأجل إطلاق أدلة تلك الأحكام، ولا محذور عقلاً في تقييد هذا الإطلاق، فلا فرق في أن يكون الدليل يدل على الحكم الفعلي باجتناب المتنجس المعلوم بالتفصيل، وبين إطلاق القول باجتناب المتنجس ثم تقييده بما إذا كان معلوماً بالتفصيل.

والحاصل: أنه إن انحفظ الموضوع - وهو الحكم الواقعي الفعلي المعلوم بالإجمال - فلا يمكن الترخيص لتحقق التنافي، وإن لم ينحفظ الموضوع فلا محذور في الترخيص.

الدليل الثاني: لإمكان الترخيص: جريان دليل الترخيص في الشبهة غير المحصورة في ما نحن فيه، فكما يمكن الترخيص في ارتكاب بعض أطراف غير المحصورة، مع فعلية التكليف الواقعي واحتمال المخالفة،

ص: 174

كذلك في المحصورة.

وأشكل عليه: بعدم إمكان الترخيص في غير المحصورة أيضاً، لو لوحظت في نفسها ومع قطع النظر عن انطباق عناوين ثانوية عليها، إلاّ أن المدعى فيها هو وجود عناوين ثانوية في ملاك الحكم تمنع من فعلية الحكم للجميع، وليست عناوين ثانوية في مرحلة الامتثال حتى يقال بكون تلك العناوين الثانوية شخصية.

وعليه فعنوان الحرج - مثلاً - سبب عدم فعلية الأحكام الواقعية في الشبهة غير المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي، وهذه العناوين ترفع فعلية الأحكام في موارد العلم التفصيلي فضلاً عن الإجمالي، فتأمل.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني(1): من أنه بما أن التكليف لم ينكشف بالعلم الإجمالي تمام الانكشاف، بل كان متعلّقه مجملاً، وكانت مرتبة الحكم الظاهري - الذي موضوعه أو ظرفه الشك - محفوظة، لذا أمكن إذن المولى في مخالفته احتمالاً، بل قطعاً!

وأشكل عليه(2): بأن انحفاظ مرتبة الظاهري تحتمل معاني أربعة، وكلّها محل إشكال.

الاحتمال الأول: كون حكم العقل باستحقاق العقاب معلقاً على عدم المؤمّن من المولى، ومع وجوده لا حكم باستحقاقه.

وهذا غير ممكن؛ لأن المخالفة ظلم، فهي قبيحة قطعاً، فيستحيل تعليقها

ص: 175


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 268.
2- نهاية الدراية 3: 96.

على شيء، وبعبارة أخرى: إن حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة إنما هو بنحو العلية دون الاقتضاء كي يمكن وجود المانع منه. نعم، لو رفع المولى يده عن حكمه لانتفى القبح من باب انتفاء المخالفة، فيكون من السالبة بانتفاء الموضوع، وهذا نظير الإذن في المخالفة في المعلوم تفصيلاً، حيث يستحيل ذلك إلاّ مع رفع اليد عن الحكم.

الاحتمال الثاني: كون فعلية الحكم الإنشائي الواقعي معلقاً على وصوله تفصيلاً.

وهذا خروج عن مفروض البحث؛ لأن الكلام حول القطع الطريقي المحض، وهذا الاحتمال يصيّره موضوعياً ولا كلام فيه، بل يمكن عدم تنجز التكليف مع العلم التفصيلي، إذا كان القطع موضوعياً ومعلقاً على حصوله من سبب خاص.

ولا يخفى أن هذا الاحتمال غير منظور إليه في كلام المحقق الخراساني في انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري؛ لأن كلامه في الانحفاظ في الإجمالي دون التفصيلي، وعلى هذا الاحتمال حتى في التفصيلي يمكن انحفاظ مرتبة الظاهري.

نعم، مع قطع النظر عن كيفية بحث الأصوليين للمسألة، فهذا الاحتمال وارد ثبوتاً، بإمكان أخذ القطع التفصيلي موضوعاً في فعلية الحكم الواقعي، سواء كان من سبب خاص أو مطلقاً.

الاحتمال الثالث: كون غرض المولى بحيث لا ينافيه جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لأن الغرض تارة قوي جداً، بحيث يلزم على المولى التكليف وإيصاله إلى المكلّف ولو عبر نصب

ص: 176

الطرق والأمارات أو الأمر بالاحتياط، وتارة أخرى ليس بذلك القوة، بل يكون التنجز معلقاً على وصوله ولو اتفاقاً، وفي هذا يجوز الترخيص في مخالفته، ويمكن معرفة كون الغرض من قبيل الثاني عبر إطلاق الأدلة والأصول، بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي.

وأشكل عليه: بأن التكليف واصل في مورد العلم الإجمالي، فلا ينفع هذا التفصيل.

وأجيب: بإمكان كون الغرض في أدنى درجاته الموجبة للإلزام يقتضي كون بعث المولى وزجره خاصاً بصورة العلم التفصيلي.

وفيه: إن غرض المولى إما جارٍ في صورة العلم الإجمالي فالترخيص تفويت له وهو غير جائز، وإما غير جارٍ فيها فلا حكم أصلاً.

الاحتمال الرابع: كون الانحفاظ بلحاظ الحكم الواقعي من وجه، وفعلية الحكم الظاهري من جميع الوجوه، ولا منافاة بين الفعلية المطلقة ومطلق الفعلية، بل المنافاة إنما هي بين التكليفين الفعليين من جميع الوجوه، والظاهر أن هذا هو مراد المحقق الخراساني من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في العلم الإجمالي، كما صرّح به في باب الاشتغال(1).

ومعنى ذلك(2): كون الحكم الواقعي فعلياً من جهة دون جهة، ولا مانع من اجتماعه مع حكم فعلي تام الفعلية - وهو الحكم الظاهري - إما بشرط وجودي، أي لو علم به صار فعلياً، وإما بشرط عدمي، أي فعلية الحكم

ص: 177


1- نهاية الدراية 3: 97؛ إيضاح كفاية الأصول 4: 218.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 174.

الواقعي مشروطة بعدم قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف، فالحكم الواقعي مقتضٍ للفعلية وقيام الأمارة أو الأصل مانع عنه.

وأشكل عليه(1): بأنه إنما يمكن جعل الحكم على خلاف الحكم الواقعي الفعلي من وجه لو لم تقم الحجة عليه، ومع قيامها فجعل الظاهري غير ممكن لحصول التنافي، وحيث إن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في العلمية فلا فرق بينهما في أنه وصول التكليف عبرهما مقوّم للباعثية أو الزاجرية.

وأجيب(2): بأن قيام الحجة تارة على العلة التامة للفعلية، وهذا هو الذي لا يمكن جعل حكم منافٍ له؛ وذلك لحصول التنافي بين حكمين فعليين تامين من جهة الفعلية، وتارة أخرى على ثبوت المقتضي للفعلية، وهذا يمكن جعل حكم منافٍ له؛ وذلك لعدم المحذور في اجتماع مقتضٍ لحكم مع العلة التامة لحكم آخر.

وفي ما نحن فيه: يمكن ثبوتاً كون فعلية الحكم الواقعي مشروطة بعدم قيام أصل أو أمارة على خلافه، وعليه فمع هذا القيام لا يتحقق شرط فعلية الحكم الواقعي، بل يبقى بنحو المقتضي الذي منع عنه مانع، مع تحقق علة الحكم الظاهري، فتأمل.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني(3): من التفصيل بين ما استلزم

ص: 178


1- نهاية الدراية 3: 97.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 179.
3- فوائد الأصول 3: 77.

مخالفة عملية أو استلزم المنافاة بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الحكم الظاهري، أمّا إذا لم يستلزم أحدهما فلا مانع من الترخيص فيه بجريان الأصول في أطرافه، والصور أربعة:

1- الأصل المتكفل للتنزيل النافي للتكليف، فلا يجري في أطراف العلم الإجمالي، لاستلزام جريانه المخالفة العملية والتنافي بين الحكمين، كاستصحاب الطهارة السابقة في الأطراف مع العلم إجمالاً بنجاسة أحدهما.

2- الأصل التنزيلي المثبت للتكليف، فلا يجري أيضاً، لاستلزامه التنافي فقط، كاستصحاب النجاسة السابقة في الأطراف مع العلم بطهارة أحدهما إجمالاً؛ وذلك لأن التعبد ببقاء الواقع في كل من الإنائين ينافي العلم بعدم بقائه في واحد منهما.

3- الأصل غير التنزيلي النافي للتكليف، فلا يجري أيضاً، لاستلزامه المخالفة العملية فقط، كما لو علم بوقوع قطرة دم في أحدهما مع عدم العلم بحالتهما السابقة، فأصل الطهارة نافٍ للتكليف وغير تنزيلي، فلا منافاة للواقع لكن العمل بالأصلين يستلزم مخالفة عملية قطعية.

4- الأصل غير التنزيلي المثبت للتكليف، فلا مانع من جريانه حينئذٍ؛ لعدم استلزامه للمنافاة وعدم المخالفة القطعية، كما إذا علم إجمالاً بملكيته لأحد المالين، فجريان أصالة حرمة التصرف في الأموال لا يلزم منها لا مخالفة عملية ولا تنافي أصلاً، فلا محذور في جريانها في الأطراف.

والحاصل: أن جريان الأصول العملية في كل واحد من الأطراف يستلزم الجمع في الترخيص بين جميع الأطراف، والترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال، فلا يمكن أن تكون رتبة الحكم الظاهري

ص: 179

محفوظة في جميع الأطراف. نعم، يمكن الترخيص في بعض الأطراف، والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله.

وأشكل عليه: أولاً: بما ذكره المحقق العراقي(1): بأنه لنا مجال النقض بمشكوكية كل واحد من الطرفين ومعلومية أحدهما، مع أن بين الشك واليقين كمال المناقضة، وحينئذٍ فيمكن للطرف ادعاء أن مركز الترخيص هو المشكوك بلا سرايته إلى العنوان المعلوم.

وأجاب عنه في التبيين(2): بوجود الفرق بين المقامين؛ إذ اليقين والشك صفتان تتعلقان بالمعلوم بالذات، ومتعلّق كل واحد منهما يختلف عن متعلق الآخر؛ إذ الصور الذهنية يختلف بعضها عن بعض، فليس اليقين والشك صفتان للمعلوم بالعرض - أي الواقع الخارجي - كي لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

وأما ما نحن فيه: فالمفروض أن المولى حكم بالنجاسة - مثلاً - على أحدهما المعيّن المعلوم عند الله تعالى، وإن كان مجهولاً عندنا، لا على عنوان أحدهما ومفهومه الذهني، فلا يمكن الحكم بطهارة كل واحد منهما بواسطة جريان الأصل المحرز، لاستلزامه اجتماع المتضادين في النجس الواقعي منهما، وبعبارة أخرى: إن الحكم هنا للشيء بواقعه لا بعنوانه الذهني، عكس اليقين والشك فهما وصفان للصورة الذهنية المعلومة بالذات، وهي متعددة فلم يجتمع المتضادان في شيء واحد، فتأمل.

ص: 180


1- فوائد الأصول 3: 77 (الهامش).
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 186.

وثانياً: بما مرّ من إمكان كون فعلية الحكم الواقعي معلّقة بشرط وجودي أو عدمي، ولم يتحقق هذا الشرط وفي صورة الجهل - حتى المقترن بالعلم الإجمالي - فلا فعلية للحكم الواقعي، فلا ينافيه جعل الحكم الظاهري.

القول الثالث: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1): من عدم إمكان الترخيص.

واستدل له: بأن الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إنما هو ترخيص بالمعصية، مع قبح ذلك قطعاً، أما الكبرى فمسلّمة، وأما الصغرى فللارتكاز الوجداني بمناقضة الترخيص لما علم ثبوته في عهدة المكلّف، وذلك يكشف عن العلية التامة لتنجيز العلم الإجمالي!

وفيه: أن الكلام في مرحلة الثبوت لا الإثبات، ولا ارتكاز فيه؛ إذ اشتراط الفعلية بما ذكر سابقاً بمكان من الإمكان، ومع عدم الفعلية فلا يكون الترخيص إذناً في العصيان، هذا مضافاً إلى عدم جريان الدليل في الأصول المثبتة للتكليف.

المطلب الثالث: في وقوع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي

بناءً على إمكان الترخيص فهل هو واقع أم لا؟

وقد يستدل للوقوع: بإطلاقات أدلة الأصول والأمارات.

وقد أشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الإطلاق يستلزم تنافي الصدر والتتمة في مثل قوله:

ص: 181


1- نهاية الأفكار 3: 46.

«كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام»(1)، ف-(كل شيء لك حلال) يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ لأن كل طرف مشكوك في نفسه، و(حتى تعلم) شامل للعلم الإجمالي، وحيث استحال التناقض في كلامهم (علیهم السلام) فلا بد من رفع اليد عن شمول أحدهما، وحيث لا مرجّح صارت الرواية مجملة من هذه الجهة، فلا إطلاق ولا عموم للترخيص ليشمل أطراف العلم الإجمالي.

وأورد عليه: أولاً: بأن ذلك لا يجري في الروايات غير المغياة التي لا توجد فيها تلك التتمة، كقوله (علیه السلام): «الناس في سعة ما لم يعلموا»(2).

إن قلت: إنّ ظهور هذه الروايات غير المغياة هو في نفس معنى الروايات المغياة، فتنحل الرواية إلى منطوقٍ هو رفع ما لا يعلمون، ومفهوم ٍ هو عدم رفع ما يعلمون؛ لأن تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية.

قلت: ذلك من مفهوم اللقب وهو غير حجة، فإن الحكم وإن كان يزول بزوال موضوعه لاستحالة العرض من غير معروض، إلاّ أن المفيد في المفهوم زوال سنخ الحكم، والمفروض عدم الظهور في ذلك.

إن قلت: إنه في غير المغياة وإن لم يكن مناقضة في نفس الدليل، إلاّ أنها حاصلة بين الدليل وبين أدلة الأحكام الواقعية، حيث إنها شاملة للعالم والجاهل، وكذا دليل العقل حيث يدرك أو يحكم بتنجز التكليف الواصل من غير فرق بين الوصول الإجمالي أو التفصيلي.

ص: 182


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.
2- عوالي اللئالي 1: 424؛ جامع أحاديث الشيعة 25: 299.

قلت: لا مناقضة مع إمكان كون الحكم الواقعي فعلياً من جهة دون جهة وكون حكم العقل في التكليف الواصل الفعلي لا الإنشائي.

لكن الإنصاف أن فعليتها من جهة دون أخرى غير ظاهرة، بل ظهور الأدلة في الفعلية المطلقة، فلأدلة الأحكام الواقعية إطلاق أو عموم شامل لأطراف العلم الإجمالي.

وثانياً: لا مناقضة حتى في الأدلة المغياة(1)؛ إذ التتمة لا تدل على حكم تعبدي ليكون له إطلاق مناقض لإطلاق الصدر، بل تدل على حكم إرشادي وهو يلازم تأكيد الصدر؛ لأن مدلول التتمة هو حجية القطع، أي استمرار الحلية إلى حين القطع بالحرمة، والغرض من ذلك تثبيت الحلية لكل شيء عن طريق إخراج صورة القطع بعدم الحلية، حيث إن الاستثناء يؤكد حكم المستثنى منه، ومن المعلوم أن حكم العقل لبّي لا إطلاق له؛ إذ الإطلاق خاص بالألفاظ(2).

وفيه: أن مجرد وجود حكم العقل في مورد لا يعني حمل كلام الشارع الموافق له على الإرشاد، بل ظاهر الأوامر كونها مولوية ولا يرفع اليد عن هذا الظاهر إلاّ بوجود محذور، كما ذكروا محذور التسلسل في أوامر الطاعة، وأما لو لم يكن محذور في المولوية فلا وجه لرفع اليد عن الظهور، ولا محذور في ما نحن فيه إلاّ ما ذكروه من اللغوية، وقد مرّ الإشكال فيه؛ إذ قد لا ينبعث أو لا ينزجر بعض الناس عن الأوامر والنواهي العقلية،

ص: 183


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 238.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 192.

لكنهم ينبعثون وينزجرون عن الأوامر الشرعية، هذا مضافاً إلى إمكان كون حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي معلّق على شرط فلا محذور حينئذٍ في كون الحكم الشرعي بالترخيص فعلياً مولوياً.

وثالثاً: عدم شمول التتمة للعلم الإجمالي، وذلك لقوله (علیه السلام): «بعينه»؛ لأن معناه (حتى تعلم علماً تفصيلياً)، وعليه فالصدر يشمل أطراف العلم الإجمالي من غير معارضة التتمة أصلاً.

وأورد عليه: بأن (بعينه) إن كان قيداً للمعلوم أي قوله: (أنه حرام) صحّ ما ذكر؛ لأن (الحرام بعينه) لا ينطبق على الأطراف، وإن كان قيداً للعلم أي قوله: (حتى تعلم) كان تأكيداً للعلم أي أن يكون علماً لا ظناً، فيكون المعنى حتى تعلم أنه حرام لا أن تظن أو تشك مثلاً، ومن المعلوم أن العلم بعينه أعم من التفصيلي والإجمالي.

وأما قوله (علیه السلام) في حديث آخر: «كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»(1)، فليس معناه تمييز الحرام عن غيره ليكون دالاً على العلم التفصيلي فقط؛ وذلك لأن ظاهر هذا الحديث هو في الشبهات البدوية بمعنى أن كل طبيعة إذا كان لها أفراد محلّلة وأخرى محرّمة، فمشكوكها يحمل على الحلية، فلا ربط لهذا الحديث بما نحن فيه، فتأمل.

ورابعاً: إن الظاهر من قوله: (كل شيء) هو كل مشكوك الحلية، وعليه فمرجع الضمير في قوله: (حتى تعلم أنه) هو ما كان مشكوكاً، ومن المعلوم

ص: 184


1- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 118.

أن هذا لا يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لبقاء الشك فيها، فظهر أن التتمة خاصة بالعلم التفصيلي، فيبقى إطلاق الصدر سليماً عن المعارض.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن العلم في الغاية ظاهر عرفاً في خصوص ما كان منافياً للشك ورافعاً له، بأن يكون متعلقاً بعين ما تعلق به الشك، فقوله: (حتى تعلم أنه حرام) بمعنى حتى تعلم علماً رافعاً للشك، وليس العلم الإجمالي رافعاً للشك؛ إذ تعلّقه إنما هو بالجامع أما الأطراف فكل واحد مشكوك.

إن قلت: إن تعلق العلم الإجمالي بالجامع إنما هو لكونه مرآة للأفراد، وهذا الجامع ينطبق واقعاً على الفرد المتعين في الواقع كونه هو الحرام حتى وإن جهله المكلف، وعليه فيكون أحد الفردين معلوم الحرمة فيكون الذيل شاملاً له، فليس المقصود نجاسة هذا الإناء أو ذاك مثلاً، بل الملاقي للنجس واقعاً هو النجس، فيشمله الذيل!

قلت: إن الجامع وإن كان معلوماً إلاّ أن الضمير في (أنه) لا يرجع إليه، بل يرجع إلى (كل شيء) وكما أن ظهور كل شيء في الفرد كذلك ظهور الضمير الراجع إليه، وانطباق الجامع على النجس المتعيّن واقعاً غير مجدي مع كونه مردداً بين فردين، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن الإمام (علیه السلام) في حديث مسعدة مثّل بأمثلة كلّها من الشبهات البدوية، ولو كان كلامه (علیه السلام) شاملاً لأطراف العلم الإجمالي لكان من المناسب التمثيل به أيضاً؛ لأن في شموله لها نوع خفاء، والحديث هو: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه

ص: 185

حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(1).

إن قلت: إن المثال لا يحدّد الممثل له؛ إذ الغرض منه توضيح الممثل له وذلك يحصل بذكر حصة أو جزئي، ولا يشترط فيه ذكر سائر الحصص والجزئيات حتى لو كان ذا أنواع أو أصناف مختلفة.

قلت: ما ذكر صحيح في الجملة، إلاّ أن المثال لو تعدّد مع خفاء شمول الممثل له لحصة من الحصص، فحينئذٍ يحتمل كونه قرينة، وبذلك تختلّ بعض مقدمات الحكمة، اللهم إلاّ أن يقال: بأن احتمال القرينيّة غير مضرّ بالإطلاق، وقد مرّ تفصيله.

وقد يقال: بأن الأمثلة المذكورة توجب وهن دلالة الصدر؛ وذلك لأن الأمثلة المذكورة لا ترتبط به، وعدم ارتباط المثال بالممثل له يوجب تضعيف الدلالة أو السند أو الحجية، أو إجمالها فلا إطلاق.

وذلك لأن الصدر في أصالة الحلية، والأمثلة كلها لا ترتبط بها، بل الأولان تستند الحلية فيهما إلى اليد، والثالث تستند فيه إلى الاستصحاب.

ويمكن أن يقال: إن الحلية في الصدر أعم من أصالة الحلية وأماراتها، فتكون الأمثلة لأحد الصنفين، وذلك مما لا بأس به، بل واقع كثيراً.

الإشكال الثالث(2): دلالة بعض الأخبار على لزوم الاحتياط في بعض

ص: 186


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.
2- الأصول: 614.

المصاديق مثل إهراق الإنائين والتيمم، وبيع الميتة المشتبهة بالمذكاة ممن يستحل، والاقتراع في القطيع لتعيين الشاة الموطوءة، مما يدلّ على عدم جواز ارتكاب أطراف العلم الإجمالي، إلاّ لو انحلّ ولو بأصل شرعي!

إن قلت: هذه الموارد لأجل الدليل الخاص، وذلك لا يضرّ بإطلاق الحلية لسائر الموارد؛ لأن تقييد المطلق في بعض الأفراد لا يضرّ بإطلاقه في سائر الأفراد، وكذلك العام المخصص يبقى على عمومه ولو بعد التخصيص.

قلت: الظاهر عرفاً عدم الخصوصية لهذه الموارد، فيمكن التعميم لسائر الموارد بالمناط، ويمكن التعميم بالأولوية، حيث إن الشارع يتساهل في الطهارة وحلية الأطعمة بما لايتساهل في غيرها، فلو وجب الاحتياط فيها وجب في غيرها بطريق أولى.

إن قلت: في نجاسة أحد الإنائين لا محذور في ارتكاب الأطراف؛ إذ كما يمكن الاحتياط بإراقتهما كذلك يمكن إحراز الواقع بطرق أخرى كالوضوء بأحدهما والصلاة به، ثم غسل المواضع بالثانية والوضوء بها ثم تكرار الصلاة، فيحرز بأن إحدى الصلاتين كانت بطهارة من الحدث والخبث، وغير ذلك.

قلت: ترخيص كل شيء بحسبه، ففي الشبهة الوجوبية الترخيص بالترك، وفي التحريمية الترخيص بالفعل، وفي موارد الشرطية والمانعية ونحوهما فالترخيص بترك الأطراف المحتملة الشرطية أو فعل الأطراف المحتملة المانعية ونحو ذلك، وفي ما نحن فيه لم يكن المحذور في تنجيس البدن، وإنما المحذور في الصلاة من غير طهارة حدثية أو خبثية، فكل من الإراقة والتيمم ومن الوضوء بهما بالكيفية المذكورة إحراز للشرط - أي الطهارة -

ص: 187

إما بإراقة المائين والتيمم أو الطهارة بالطريقة المذكورة أو غيرها.

والحاصل: أن هذه الطرق لا تنافي تنجز العلم الإجمالي، بل هي بيان لوجود طرق متعددة يمكن بها إحراز الموافقة القطعية؛ إذ في هذه الطرق لا يوجد ارتكاب محرّم أصلاً، فلا محذور من تجويز الارتكاب، وإنما العلم الإجمالي يرتبط بصحة الصلاة حيث لا بد من إحراز الطهارة الحدثية والخبثية ولو بالأصل العملي.

الإشكال الرابع: إنه وإن أمكن بالدقة العقلية الترخيص في الأطراف بأن لا يبلغ التكليف مرتبة الفعلية إلاّ بعد العلم التفصيلي به، كما مرّ في المطلب الثاني، إلاّ أن الترخيص عرفاً ترخيص في المعصية وتفويت لملاك الحكم، وهذا الارتكاز العرفي يصلح قرينة مانعة عن انعقاد ظهور الصدر في الإطلاق، فإن العرف إذا رأوا المولى حرّم شيئاً لملاك معيّن ثم أجاز ارتكاب الأطراف كلّها، اعتبروه مرخصاً في معصيته ومتناقضاً ومفوتاً للملاك الذي كان يراه، فلا ينعقد إطلاق في مثل: (كل شيء لك حلال) بحيث يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لاختلال إحدى مقدمات الحكمة، فتأمل.

المبحث الثالث: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في الامتثال الإجمالي مع التمكّن من التفصيلي

وفيه صور أربع...

الصورة الأولى: التوصليات التي لا يشترط فيها الإنشاء ولا القصد.

ص: 188

كالطهارة من الخبث، فلو تردد الماء المطهِّر في إنائين، فلا مانع من غسله بكليهما، وبذلك تحصل الطهارة وضعاً؛ وذلك لتحقق الغرض وهو تحقق المأمور به في الخارج. نعم، قد يكون هناك محذور تكليفي، كالإسراف، لكن لا تلازم بين التكليف والوضع في هذه الصورة.

الصورة الثانية: التوصليات التي يشترط فيها الإنشاء.

كما في العقود والإيقاعات، مثل ما لو لم يعلم أن صيغة العقد هذه اللفظة أم تلك، فيأتي باللفظتين معاً.

فقد قيل: بعدم صحة ذلك، لكون التكرار يلازم الترديد، وذلك ينافي الجزم المعتبر في العقود و الإيقاعات، ولذا كان التعليق مبطلاً لها!

وأشكل عليه: بأن سبب اشتراط الجزم هو منافاة الترديد للقصد، والعقود والإيقاعات تتبع القصود، فلا تصح من غير قصد، وهذا إنما يكون لو كان الترديد في الإنشاء نفسه، وأما لو كان في السبب أو المسبب أو السببّية فلا إخلال بالقصد.

ومثاله في التكوينيات لو كان متردداً في أن النار توقد بهذا أم بذاك، فاستعملهما معاً، فإنه قاصدٌ للإيقاد قطعاً، وتردده في سببه غير ضائر في قصده، أو كان متردداً في أن هذا الشيء له قابلية الاحتراق أم لا فألقاه في النار بقصد تحقق الإحراق، فهو قاصد للإحراق مع تردده في المسبب، أو كان متردداً في أن الحركة الفلانية لها سببيّة للنار أم لا، فصنعها، فلا منافاة لقصده إيجاد النار. نعم، لو كان متردداً في أصل إيقاد النار فلا يكون قاصداً لها.

وهكذا في الاعتباريات فلفظ بعتُ سبب، والمبادلة مسبَّب، والعلقة بينهما

ص: 189

سببيّة، والاعتبار نفساني مبرز بقول أو فعل - الإنشاء - .

والذي يضر بالقصد ويدلّ على بطلانه الإجماع هو التردد في الرابع، وأما التردد في الثلاثة الأولى فلا دليل على بطلانه، فتشمله إطلاقات أو عمومات الأدلة، فالذي لا يدري أيّ اللفظين محقِّق للعقد إذا أتى بهما فهو قاصد إلى العقد، ولا ترديد له في إنشائه. نعم، هو لا يعلم تحقّقه بأيّ اللفظين، لكن لا دليل على اشتراط العلم بخصوص السبب هذا في الترديد في السبب، أو لا يدري أن هذه اللفظة هل تحقِّق العقد أم لا، ومع ذلك أتى بها برجاء التحقق، هو قاصد للعقد، وإن كان لا يعلم تحقّقه هذا في الترديد في المسبب، أو لا يدري صحة بيع الميتة لمن يستحل، ومع ذلك باعها له، فهو قاصد للبيع مع شكه في سببية العقد للمبادلة، بل لا ينافي العلم بعدم السببيّة لقصد وإنشاء المعاملة كبيع الغاصب، فتأمل.

الصورة الثالثة: التعبديات التي يكون امتثالها بالتكرار.

كما لو دار الواجب بين الجمعة أو الظهر، أو اشتبهت القبلة فتوقفت الصلاة إليها بتكرارها على الجهات الأربع.

فقد يقال: بعدم صحتها لوجوه، منها:

الوجه الأول: الإخلال بقصد الوجه - أي قصد الوجوب أو الاستحباب - ، فإن المكلّف لا يتمكن من قصده لعدم علمه بالواجب.

وفيه: أولاً: إنه لا إخلال بقصد الوجه أصلاً؛ لأن داعي المكلف هو الأمر الوجوبي، وهو امتثال ذلك الحكم الشرعي. نعم، هو لا يعلم بأن الواجب أيهما أو أيّها، وهذا لا يرتبط بالوجه وإنما بالتمييز.

ص: 190

إن قلت: إنّ القائل بالوجه يشترطه في كل فعل تفصيلاً، ولا يكتفي بالداعي، والقصد التفصيلي لا يتحقق إلاّ بقصد الوجوب في كل واحد، ومع علمه بعدم وجوب إلاّ واحد لا يمكنه قصد الوجوب التفصيلي!

قلت: إنّ الإجمال ليس في قصد الوجوب في كل واحد، بل وجوبها إما للأمر المتعلّق بالفعل وإما للأمر الاحتياطي، وإنما الإجمال في عدم معرفة نوع الوجوب، وذلك غير مضرّ.

وثانياً: عدم اشتراط قصد الوجه حتماً.

إن قلت: قد استدل له(1) بأن الأغراض القائمة بموضوعات الأحكام واقعاً عناوين لها في نظر العقل - حيث لا يذعن بحسن شيء إلاّ بما له من الوجه الحسن المنطبق عليه بلحاظ قيام الجهة المحسنة به قيام العرض بموضوعه - كالقيام إذا كان حسنه للتعظيم، فإن قَصَدَ الإهانة أو لم يقصد التعظيم لم يكن حسناً.

وأن هذا الفعل بما له من الوجه العقلي هو موضوع للحكم الشرعي واقعاً، بمعنى أن حكمه ليس اعتباطاً وإنما لكونه حسناً عقلاً، لتبعية الأحكام للملاكات المحسنة أو المقبحة.

وأنه لو كان سبب الحسن العقلي معلوماً وجب إتيان الفعل بذلك الوجه حتى يكون حسناً شرعاً ومأموراً به، لكي يكون الفعل صادراً عنه بالاختيار، فالقيام التعظيمي هو الواجب في المثال، فلو لم يقصد التعظيم لم يتحقق القيام التعظيمي، بل كان غير اختيارياً؛ إذ لا يكون الفعل الاختياري إلاّ عن

ص: 191


1- نهاية الدراية 3: 109.

قصد، فإن لم يكن مقصوداً لم يكن اختيارياً.

قلت: يرد عليه أن القصد لا ينحصر بقصد الوجه، بل يمكن تحققه بعنوان آخر، مثل الفعل المقرّب أو المحبوب ونحو ذلك، مضافاً إلى أنه لا يشترط في اختيارية الفعل قصده تفصيلاً، بل يكفي القصد الإجمالي، فمن رمى زيداً ليقتله فأصاب السهم عمراً فقتله، كان قتله لعمرو عمدياً قطعاً وإن لم يكن مقصوده تفصيلاً؛ وذلك لأنه قصد القتل وأخطأ في المصداق، وكذا التكرار فإن الفعل المعنون بالعنوان الحسن مقصود حتماً واختياري.

وأما ما قيل: من أن الماهية لا تتعيّن في مصداق إلاّ بمعيّن، ومع وجود الفعل الواجب والمستحب لا معيّن إلاّ النية، ولولا ذلك لزم الترجح بلا مرجح أو وجود الجنس بلا فصل وكلاهما محال.

فيرد عليه: إنه مع الانحصار في أحدهما لا معنى للمعيّن، مضافاً إلى ما مرّ من عدم انحصار المعيّن في قصد الوجه.

الوجه الثاني: الإخلال بالتمييز بمعنى عدم إحراز المأمور به، سواء كان بمعنى عدم العلم بالوجوب كالتردد بين الظهر والجمعة، أم بمعنى عدم العلم بالواجب كما في اشتباه القبلة.

وفيه: عدم الدليل على اشتراط التمييز، بل الإطلاق اللفظي والمقامي وأصالة البراءة تنفيه، أما الإطلاق اللفظي فلأن أدلة العبادات مطلقة ولم يرد دليل في تقييدها بالتمييز، ولو فرض الإشكال على ذلك فالإطلاق المقامي محكم لغفلة عامة الناس عنه فلو كان شرطاً لزم بيانه وإلاّ كان إخلالاً بالغرض، ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فالأصل البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 192

الوجه الثالث: كون التكرار عبثاً بأمر المولى، والعبث ينافي الطاعة، فلا يكون العمل مقرباً.

وأجيب: أولاً: بأنه ليس من العبث لو كان التكرار بداع ٍ عقلائي، كما لو كانت مؤونة زائدة في الامتثال التفصيلي.

إن قلت: إن وجود الغرض العقلائي قد لا يصحح العبادية؛ وذلك لتوقفها على قصد القربة لتكون طاعة، والتكرار ينافي الطاعة فلا يكون العمل مقرباً، وبعبارة أخرى: العبث لا يوجب قرباً فلا يصح التقرب به.

قلت: الكلام في أن الغرض العقلائي يخرج التكرار عن كونه عبثاً، وليس المقصود أنه عبث بغرض عقلائي كي يقال بعدم صحة التقرب بالعبث حتى لو كان منطلقه غرضاً عقلائياً.

وثانياً: إن الذي لا يجتمع مع قصد القربة هو العبث بأمر المولى كأن يأتي بالعبادة استهزاءً بالمولى أو بأمره، فحينئذٍ لا تتحقق القربة، وأما العبث في كيفية الطاعة فلا يضرّ بها، كمن أمره المولى بالإتيان بماء ليشربه فجاءه بعشرة مياه، فقد امتثل أمره مع عبث في ضمّ ما لم يأمره به.

بل قد يقال: إن التكرار ليس عبثاً في كيفية الطاعة أيضاً، بل العبث إنما هو في تحصيل اليقين بطاعة الأمر، وذلك لا يرتبط لا بالعبث في الطاعة ولا في كيفيتها.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني(1): من تقدّم مرتبة الامتثال

ص: 193


1- فوائد الأصول 3: 71-73.

التفصيلي على الامتثال الإجمالي؛ وذلك لأن حقيقة الطاعة عقلاً هي الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به، وهذا المعنى لا يتحقق في الامتثال الإجمالي، فإن الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به، فإنه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. نعم، بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه، والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلاً هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلّق الأمر به، ومجرد العلم بتعلق الأمر بإحدى فردي الترديد لا يقتضي أن يكون الانبعاث عن البعث المولوي، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة إلى كل واحد من العملين.

وأشكل عليه المحقق العراقي: «بأن الانبعاث لا يكون إلاّ عن الجزم بالأمر ولو إجمالاً، وإنما الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزماً على مورده، لا أن ما يدعوه بنفسه هو احتمال الأمر، وبين الأمرين فرق واضح»(1).

أي إن الأمر معلوم لا محتمل، وإنما المصداق محتمل، فالانبعاث إنما هو عن الأمر المعلوم، وليس الاحتمال إلاّ مقدمة للتطبيق.

وذكر السيد الأخ(2) أن علة الانبعاث مركبة من أمرين، ولا يكفي أحدهما للتحرّك إلاّ بضميمة الآخر، وهما العلم الإجمالي، واحتمال انطباق

ص: 194


1- نهاية الأفكار 3: 53.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 250.

المعلوم بالإجمال على الفرد، والأول وحده لا يكفي في التحرك؛ إذ انتفاء الاحتمال مساوق للقطع بالعدم، ومعه لا يعقل التحرك؛ لأنه يكون بلا غاية تقتضيه، والثاني وحده قد لا يكفي؛ إذ قد لا ينبعث المكلّف عن الاحتمال المجرد، فالعلة في المقام مجموع العلم والاحتمال.

الوجه الخامس: استلزام التكرار لعدم الإخلاص بمعنى وجود داعي آخر غير قربي، وحاصله(1): أن الداعي هو ما يكون متأخراً عن العمل خارجاً وإن كان متقدماً تصوراً، لذلك يمتنع كون الداعي للعمل العبادي هو الأمر أو احتماله؛ لأنهما سابقان خارجاً على نفس العمل، وإنما الداعي هو امتثال الأمر وموافقته.

وحيث لا يعلم بالواجب واقعاً من المحتملات، فلا يمكنه الإتيان بها بداعي تحقق الموافقة؛ إذ لا علم بتعلق الأمر به، فيستلزم هذا الداعي التشريع المحرّم، وإنما الداعي احتمال الموافقة منضماً إلى الداعي للتكرار وهو السهولة مثلاً؛ لأن أحد الفعلين موافق للأمر قطعاً لكنه لا بعينه.

وحيث إن نسبة الداعيين إلى كل من المحتملات على حد سواء - بمعنى عدم تمييز أحدهما عن الآخر في مقام الداعوية - فيصدر كل فعل من المحتملات عن داعيين أحدهما إلهي والآخر غير إلهي، وذلك ينافي المقربيّة.

وأشكل عليه(2): أولاً: بأن تفسير الداعي بالعلة الغائية محل تأمل، وذلك

ص: 195


1- منتقى الأصول 4: 129.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 255.

لعدم دلالة دليل عليه، بل تكفي إضافة العمل إلى المولى بأي نحو من أنحاء الإضافة، فيكفي الانبعاث عن الأمر بنفسه وإن لم يكن داعياً بالمعنى المصطلح، وهذا متحقق في المقام؛ إذ الانبعاث عن احتمال الأمر هو نحو من أنحاء الإضافة إلى المولى، وهو كاف في تحقق عبادية العبادة.

وثانياً: بأن ضم داع ٍ غير قربي، إذا كان من قبيل الداعي على الداعي لا مانع منه، فاختيار المكلّف الانبعاث عن احتمال البعث على الانبعاث عن البعث القطعي بداعي السهولة مثلاً غير قادح؛ لأن السهولة داع على إتيان العبادة المكرّرة بقصد القربة.

الصورة الرابعة: التعبديات التي لايستلزم امتثالها الإجمالي التكرار.

في ما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر، كما لو شك في وجوب القنوت في الصلاة الواجبة، فيأتي به مع تمكنه من تحصيل العلم التفصيلي.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إخلال امتثال الإجمالي بقصد الوجه؛ وذلك لعدم معرفة المكلّف بحكم الجزء فلا يمكنه قصد الوجوب في الكل.

والجواب: مع قطع النظر عن الإشكال المبنوي في عدم وجوب قصد الوجه...

أولاً: بأنه لا إخلال بقصد الوجه أصلاً، حتى مع العلم بعدم وجوب بعض الأجزاء فضلاً عن الشك بها؛ وذلك لإمكان قصد وجوب المركب، سواء كان المشكوك جزءاً من الماهية أم من المشخصات الفردية.

أما لو كان جزءاً من الماهية فالوجوب تعلّق به، وأما لو لم يكن جزءاً

ص: 196

منها فغير خفيّ أن الطبيعة تنطبق على الفرد بكل ما له من المشخصات الفردية، فالصلاة - مثلاً - موضوعة على الطبيعة على نحو اللا بشرط عن الخصوصيات الفردية، ولهذه الطبيعة أفراد متفاوتة، وهي تنطبق على كل واحد منها بتمامه وكماله، بمعنى انتزاع الطبيعة من الفرد بكل خصوصياته، نظير انتزاع الطبايع من الأفراد الخارجية، فالدار - مثلاً - لها ماهية بأن يكون بناء له جدران وسقف، فلو كان الدار ذا غرف كثيرة أو قليلة فهو دار بمعنى انتزاع طبيعة الدار من هذا الفرد بما له من غرف، فإن أضاف غرفة أو نقص غرفة فهو دار، فلا يصح الإشكال: بأنه كيف يكون الشيء داخلاً في الماهية على تقدير وجوده وخارج عنها على تقدير عدمه! وذلك لانتزاع الطبيعة من الفرد الخارجي بكل ما له من خصوصيات، وحينئذٍ فحيث تنتزع الصلاة من الفرد، فهذا الفرد بكل ما له من خصوصيات شخصية مصداق للموضوع الواجب، فيصح نية الإتيان بالصلاة الواجبة حتى مع اشتمالها على الأجزاء المستحبة، وقد مرّ بعض الكلام، فراجع.

وثانياً: ما قيل: من أنّ الأجزاء المستحبة ليست أجزاءً حقيقة، بل هي مستحبات نفسية ظرفها الواجب، وعليه فمع الشك لا يخلو الواقع ثبوتاً من أن يكون المشكوك جزءاً واجباً فلا إخلال بقصد الوجه، أو مستحباً غير جزء فهو خارج عن المأتي به فلا محذور في نية الوجوب بلحاظ المجموع الذي لا يتضمن هذا المستحب.

وفيه: عدم المانع العقلي من الجزء المستحب، كما بيّناه، باعتبار كونه جزءاً من الفرد لا من الماهية، ومع دلالة الدليل بظاهره - ولو بارتكاز المتشرعة - على الجزئية المستحبة لا وجه للتأويل.

ص: 197

وعليه فإن الامتثال الإجمالي لا يُخلّ بقصد الوجه باعتبار المركب، ولكن لا يمكن نية الوجه في الجزء المشكوك بنفسه؛ وذلك لعدم العلم بوجوبه، فنية الوجوب تكون من التشريع المحرّم أو من التجري، لكن لا دليل على وجوب نية الوجه في الأجزاء حتى لو فرضنا قيام الدليل على وجوبها باعتبار المركب؛ إذ عمدة الأدلة ما مرّ أن علل الأحكام هي قيود للموضوع عقلاً، فيكون الحكم الشرعي كذلك مقيداً بها، فلا بد من الإتيان بالأفعال بما هي معنونة بتلك العناوين كي تكون اختيارية، وهذا الدليل لايجري في الأجزاء لعدم الدليل على لزوم وجود عنوان محسِّن للأجزاء، بعد انطباق عنوان محسِّن على المركب، بل لو كان للجزء عنوان محسِّن لم يكن منشأ للوجوب؛ وذلك لأن وجوب المركب وجوب واحد ناش عن حسن ذلك المركب، فلو كان منشأ وجوب الجزء عنواناً محسِّناً خاصاً به لوجب استقلالاً وهذا خلف كونه واجباً ضمنياً، فتحصل أن شأن الجزء يدور بين عدم وجود عنوان محسِّن له، وبين وجود عنوان محسِّن لكنه لم يكن ملاكاً للوجوب، فلا وجوب للجزء بنفسه ليقصده.

إن قلت: الدليل دلّ على قصد الوجه في كل عبادة، ومن المعلوم أن جزء العبادة عبادة لذا يجب قصد القربة فيها!

قلت: لا دليل على وجوب قصد القربة في كل جزء جزء بعد قصدها في المركب، بل قد يدعى قيام الدليل على العدم لمعلومية عدم لزوم قصدين للقربة تعلق أحدهما بالمركب والآخر بالجزء، فتأمل.

هذا كله في إشكال الإخلال بقصد الوجه.

الإشكال الثاني: ادعاء الإخلال بوجوب تعلم الأجزاء والشرائط، حيث

ص: 198

دلت الأدلة على وجوب العلم والمعرفة بأحكام الشرع، وذلك ينفي الاحتياط.

وفيه: ما مرّ أن وجوب المعرفة طريقي إلاّ في أصول الدين، مضافاً إلى أن المعرفة في الفروع لو فرض وجوبها النفسي فهو وجوب تكليفي ولا يرتبط به الحكم الوضعي أي صحة العمل، فتأمل.

المطلب الثاني: في الامتثال الإجمالي القطعي مع التمكّن من التفصيلي الظني

فهنا صورتان:

الصورة الأولى: في ما لو قام الدليل الخاص على حجية الظن، فنقول:

حيث إن أدلة حجية الظنون الخاصة تدل على حجيتها مطلقاً - سواء أمكن الاحتياط أم لا - أمكن للمكلّف الاجتزاء بالامتثال التفصيلي الظني أخذاً بإطلاق دليله، كما أنه لا محذور من الامتثال الإجمالي القطعي؛ وذلك لكونه محرزاً للواقع.

وأمّا المحاذير التي ذكرت في المطلب السابق - في صورة إمكان الامتثال التفصيلي القطعي - فلا تجري هاهنا؛ وذلك لعدم العبث في التكرار هنا لوجود غرض عقلائي هو إحراز الواقع، حيث إن الامتثال الظني قد لا يوصل إلى الواقع رغم كونه معذِّراً، فلذا يحسن الاحتياط عقلاً لإدراك الواقع، وشرعاً لإطلاق أدلته، كما يمكن التمحض في الداعي القربي في ما نحن فيه إذا ضم داعي إحراز الواقع إلى داعي امتثال الأمر.

إن قلت: هل مرتبة الامتثال التفصيلي الظني مقدمة على مرتبة الامتثال الإجمالي القطعي، لو سلّمنا بتقدّم الامتثال التفصيلي القطعي على الإجمالي القطعي؟

ص: 199

قلت: كلا، بل هما في عرض واحد؛ لعدم وجود أمر قطعي فيهما، فالانبعاث في كليهما عن احتمال الأمر لا القطع به؛ لأن دليل حجية الظن الخاص لا يجعله علماً، بل مدلوله التنجيز عند الإصابة والتعذير عند الخطأ، اللهم إلا أن يقال: إن الامتثال إنما هو لدليل حجيته وهو قطعي، فيتقدّم على الامتثال الإجمالي، حيث يكون الانبعاث عن احتمال الأمر.

ولا محذور في ضم الامتثال الإجمالي القطعي إلى الامتثال التفصيلي الظني؛ وذلك لوجود احتمال الخلاف، فلذا يحسن الاحتياط إدراكاً للواقع، بخلاف ما لو علم بالتكليف، فلا احتمال للخلاف ليحسن الاحتياط لأجله.

ثم إن المحقق النائيني ذهب إلى لزوم تقديم الامتثال التفصيلي الظني على الامتثال الإجمالي القطعي، بأن يمتثل المكلّف أولاً بحسب الدليل الظني ثم يحتاط بالعمل بالمحتملات، قال: «ولكن ينبغي، بل يمكن أن يقال: إنّه يتعيّن أولاً العمل بمقتضى الطريق ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط، وعلى ذلك يبتنى الخلاف الواقع بين العلمين - الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي - في مسألة تقديم القصر على التمام أو تقديم التمام على القصر في المسافر إلى أربع فراسخ مع إرادة الرجوع ليومه...»(1) الخ.

وأشكل عليه في التبيين(2): بأن الظاهر حصول نوع خلط في مفهوم التقدّم والتأخر...

إذ تارة: يراد أنه بديل عنه، فيقال: هذا مقدّم على ذاك، بمعنى أنه لا يصح

ص: 200


1- فوائد الأصول 3: 71-72.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 285.

أن يكون بديلاً عنه.

وتارة: يراد التقدم والتأخر الزماني، ولا دليل عليه؛ إذ لا بد من الإتيان بالمظنون بداعي العلم التعبدي، بلا فرق بين تقديم المحتمل أو تأخيره، كما أن الإتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث بلا فرق أيضاً في التقديم والتأخير.

الصورة الثانية: في ما لو دار الأمر بين الامتثال التفصيلي الظني الثابت حجيته بالانسداد وبين الامتثال الإجمالي القطعي، فكذلك يمكنه الاجتزاء بالامتثال الظني، أو ضمّ الامتثال الإجمالي القطعي إليه؛ لأن إحدى مقدمات الانسداد هي عدم وجوب الاحتياط، وأما لو قيل: بعدم جوازه فالمتعيّن هو العمل بالظن حصراً.

المطلب الثالث: في الامتثال الإجمالي مع عدم التمكّن من التفصيلي

ولا إشكال في الاجتزاء به، بل حسنه ووجوبه عقلاً وشرعاً، ولا يرد عليه أيّ من الإشكالات السابقة، فلا طولية ولا عبث ولا إجماع على عدم كفايته حينئذٍ، كما هو واضح، ومن غير فرق بين التعبديات والتوصليات، سواء استلزم التكرار أم لا.

ص: 201

ص: 202

المقصد الثامن في الظن والأمارات

اشارة

ص: 203

ص: 204

والبحث تارة في عدم عِليّة وعدم اقتضاء الظن للحجيّة، وأخرى في إمكان جعل الحجية شرعاً، وثالثة في أصالة عدم حجية الظن عند الشك، ورابعة في الظنون الخاصة التي قام الدليل على حجيتها وخرجت عن أصالة عدم الحجية، فالكلام في فصول:

ص: 205

فصل فی عدم حجية الظن بذاته

اشارة

لا بنحو العليّة ولا بنحو الاقتضاء، لا في تنجيز التكليف ولا في التعذير عنه.

بيانه: أن العرض قد يكون ضرورياً لمعروضه كالزوجية للأربعة وقد يعبر عنه بالعليّة التامة مجازاً، وقد يكون بنحو المقتضي، أي يعرض عليه إن لم يكن مانع، وقد يكون لا بشرط - لا هو علة ولا هو مقتض ٍ - بل يعرض إن جعله جاعل وإلاّ فلا كالبياض للجدار، وفي هذا لا يكفي للحكم بالعروض مجرد عدم المانع، بل لا بد من إثبات الجعل.

وهنا مقامان:

المقام الأول: في ثبوت التكليف بالظن.

والحجية عارض، ومعروضها إن كان القطع الطريقي كانت من قبيل الأول، بحيث يستحيل انفكاك الحجية عنها.

وأما الظن فليس من قبيل العِلّة لوقوع الانفكاك بعدم حجية بعض أنواع الظنون.

كما أنه ليس من قبيل المقتضي.

واستدل لذلك بوجوه، منها:

الوجه الأول: حكم العقل أو إدراكه بعدم تنجز التكليف على العبد إن

ص: 206

ظن به بظن لم يجعل المولى الحجية له، حتى لو لم يكن مانع، وهذا أمر وجداني.

وإنما يحكم العقل أو يدرك إذ كان الشيء بذاته معروضاً للحكم، مثل الظلم قبيح، أو مصداقاً للمعروض مثل التعذيب قبيح.

الوجه الثاني: بناء العقلاء على ذلك، وفي التبيين(1): بأن بناءهم قد ينشأ من حكم العقل مثل بنائهم على استحقاق العاصي للعقوبة، فيرجع ذلك إلى إدراكهم لحكم العقل واتباعهم له، وقد لا ينشأ من حكم العقل - بأن لا يكون الشيء معروضاً ولا مصداقاً لمعروض حكم العقل - وإن كان مرجعه إلى حكم العقل بوسائط، كبنائهم العمل بقوانين المرور.

ولا يخفى أن سيرة المتشرعة في عدم اقتضاء الظن للحجية مرجعه إلى سيرتهم بما هم عقلاء، فيرجع إلى هذا الدليل فليس دليلاً مستقلاً برأسه.

إن قلت: قد يعمل العقلاء بالظن؟

قلت: أما في الأمور المهمة فلا يعتمدون إلاّ على الاطمئنان وليس الظن، وقد تتوقف الحياة العادّية على بعض أنواع الظنون كخبر الواحد والبينة فيعملون به لكن في تلك الموارد دون غيرها، والكلام الآن في الكبرى لا في بعض الجزئيات. نعم، قد يتسامحون في الأمور المستحقرة فيعملون حسب الاحتمال حتى لو لم يكن ظناً، وليس ذلك بمعنى حجيته، بل لأجل استحقار مورده بحيث لو كان خطأ ً لم يضرّهم في شيء، وكذا لو كان المحتمل خطيراً وقد انسد عليهم العلم، بل فيه قد يعملون حسب الوهم إذا

ص: 207


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 293.

لم يكن طريق ولو مظنون، وأما في الحجيّة بمعنى التنجيز والتعذير فلا.

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالظن.

والكلام الكلام، وقد ذكر لحجيته وجوه أخرى، منها:

الوجه الأول: عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، وحينئذٍ فيجوز الاكتفاء بالظن، أما لو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل فلا يجوز الاكتفاء به؛ لأن احتمال بقاء التكليف بالذمة يستلزم احتمال العقوبة في صورة عدم إصابة الظن فيجب دفعه، أما لو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل فلا.

وأورد عليه: أولاً: بأن مقتضى ذلك كفاية العمل بالوهم؛ لعدم القطع بالضرر.

وثانياً: بأن ذلك يستلزم جواز ارتكاب المعصية الثابتة، لاحتمال العفو أو التكفير، إلاّ أن يقال: إن استحقاق العقوبة ثابت حينئذٍ وهو ضرر فعلاً، لكنه غير سديد؛ لعدم كون الاستحقاق - من غير فعليه - ضرراً.

وثالثاً: إن وجوب الإطاعة عقلاً غير مرتبط بالضرر كي يقال: بأن دفع الضرر المحتمل غير لازم فلا تلزم الإطاعة حينئذٍ، بل تجب الإطاعة حتى مع الأمن من الضرر، فمقتضى مولويّة المولى وعبوديّة العبد هو الإطاعة مع قطع النظر عن استحقاق العقاب وعدمه، وبعبارة أخرى: إن استحقاق العقاب فرع وجوب الطاعة، لا أنه سبب لها.

وأما ما قيل: من عدم الخلاف في لزوم دفع الضرر الأخروي المحتمل وإنما الخلاف في دفع الدنيوي منه، وما نحن فيه الضرر الأخروي.

ففيه: إن المناط في نفس الخطر، فالخطير منه يجب دفع محتمله حتى لو

ص: 208

كان دنيوياً كالهلاك، وغير الخطير منه لا يجب دفع مقطوعه فضلاً عن محتمله حتى لو كان أخروياً، كهبوط الدرجات في الجنان.

الوجه الثاني: انسداد باب العلم في باب فراغ الذمة، فيكتفى بالظن نتيجة لدليل الانسداد.

وفيه: لا انسداد غالباً في باب الفراغ، بل يمكن تحصيل العلم أو العلمي، مضافاً إلى عدم تمامية مقدمات الانسداد حينئذٍ؛ لأن المقدمات إنما تتم لو كان الانسداد في غالب الأبواب، بحيث يستلزم الاحتياط العسر والحرج وتستلزم البراءة الخروج من الدين، أما لو كان الانسداد في باب من الأبواب - كباب الفراغ في ما نحن فيه - فلا تتم المقدمات؛ إذ لا عسر ولا حرج في الاحتياط فيه.

ص: 209

فصل فی إمكان جعل الحجية للظن

اشارة

وهنا بحوث:

البحث الأول: في معنى الإمكان هنا

والمراد الإمكان الوقوعي، أي ما لايستلزم من وجوده محذور عقلي، ويقابله الامتناع الوقوعي باستلزامه المحذور حتى لو لم يكن محالاً ذاتاً.

وليس المراد الإمكان الذاتي، وهو تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم بالنسبة إلى ذات الشيء الذي يقابله الوجوب الذاتي أو الامتناع الذاتي، لوضوح عدم امتناع حجية الظن ذاتاً، وإنّما الإشكال في زعم استلزامه لبعض المحاذير.

كما ليس المراد من الإمكان الاحتمال، أي الجهل بإمكانه أو امتناعه؛ إذ هو بمعنى عدم الحكم بشيء، فإن البحث في هذا غير مفيد، فمقولة: «كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان»(1) غير مرتبطة ببحثنا الآن.

البحث الثاني: الدليل على الإمكان

وقد استدل على إمكان جعل الحجية للظن بوجوه، منها:

ص: 210


1- شرح الإشارات 3: 418.

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قال: «إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان»(1).

بمعنى أنه لا يشترطون في حكمهم هذا إقامة الدليل على عدم الاستحالة، بل يكفي فيه عدم قيام دليل على الاستحالة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(2): من أن الكلام هنا في الإمكان التشريعي، بمعنى أنه هل يلزم من التعبد بالأمارات محذور في عالم التشريع - كتفويت مصلحة، أو إلقاء في مفسدة، أو الحكم من غير ملاك، أو اجتماع الحكمين المتنافيين ونحو ذلك - أو لا يلزم شيء من ذلك، وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني، بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين.

وأورد عليه المحقق العراقي(3): بأنه إذا كان المحذور في المقام اجتماع الضدين أو صدور القبيح ممن يستحيل صدوره منه، فهل هذه غير الاستحالة التكوينية؟! وكون موضوع هذا الإمكان والاستحالة أمراً تشريعياً لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين.

ووضحّه في التبيين(4): بأن التشريع أيضاً فعل تكويني من أفعال المولى؛

ص: 211


1- فرائد الأصول 1: 106.
2- فوائد الأصول 3: 88.
3- فوائد الأصول 3: 88 (الهامش).
4- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 321-322.

إذ هو إظهار المولى لإرادته المولوية - وإن كان المعتَبر أمراً اعتبارياً مفروض الوجود في وعاء الاعتبار - واختلاف متعلق الإمكان غير قادح في وحدة المفهوم - الذي هو تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم، أو عدم ترتب تالي باطل أو محال - ، وكل المحذورات المذكورة إنما هي محذورات تكوينية.

الإشكال الثاني: إنه لا سيرة للعقلاء بحيث يرتبون أحكام الإمكان على المجهول، بل لو أرادوا ترتيب الآثار فلا بد من إثبات عدم الاستحالة، وعلى فرض وجود هكذا سيرة فهي غير حجة؛ لأنها لا توجب أكثر من الظن، فالتمسك بها لحجيته دور واضح.

ويمكن أن يقال: إن مراد الشيخ الأعظم أنه لو كان ظاهر الدليل على شيء مع احتمال استحالته ثبوتاً، وأن يكون المراد غير الظاهر، فإن بناء العقلاء على العمل بالظاهر وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة، بل مجرد الإمكان يكفي في ذلك العمل، وبعبارة أخرى: احتمال الاستحالة غير حجة، والظاهر حجة، فلا يُعارض اللاحجة الحجة، كما لو قام ظاهر الدليل على حجية خبر الواحد واحتملنا استحالة ذلك مما يستلزم منه تأويل الظاهر، فلا يعتني العقلاء بهذا الاحتمال، بل يجرون أصالة الإمكان فيعملون بظاهر الدليل، فتأمل.

الوجه الثاني: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1): من إثبات الإمكان بالوقوع، فإنه أدلّ دليل عليه، ولكن بعد وقوع التعبد بالظن يكون البحث

ص: 212


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 287-288.

عن الإمكان لغواً.

ويرد عليه: إنه قد يستشكل في الوقوع، أو بعدم كون الواقع من مصاديق مورد البحث، فتأمل.

البحث الثالث: أدلة استحالة جعل الحجية للظن وردّها

وقد استدل القائل باستحالة جعل الحجية للظن بوجوه، منها:

الوجه الأول: إنه يستلزم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة أحياناً، وذلك في ما لو خالف الظن الواقع وهو ما يحصل أحياناً في الأمارات الظنية.

وفيه: أن عدم جعل الحجية يستلزم تفويتاً وإلقاءً أكثر، فيدور الأمر بين جعل الحجية مع استلزامه ذلك قليلاً أو عدم جعلها مع استلزامه ذلك كثيراً، وبعبارة أخرى: إنه لا إشكال في فعل يكون خيره غالباً على شرّه؛ وذلك لأجل أن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل هو شر كثير، ومن المستقبح فعل أو ترك شيء كان شرّه أكثر من خيره.

والحاصل: أن عدم جعل الحجية لبعض الظنون يستلزم تفويت الواقع أكثر من جعل الحجية الذي يستلزم تفويته قليلاً، كما أن الاحتياط قد يوجب العسر والحجر أو اختلال النظام، ولذا تجد بناء العقلاء على العمل ببعض الظنون إدراكاً للواقع.

الوجه الثاني: إن جعل الحجية يستلزم التصويب أو اجتماع المثلين أو الضدين إن كان متعلّق الحكم الواقعي والظاهري واحداً، وطلب الضدين إن كان المتعلّق متعدداً، والتالي باطل فالمقدم مثله.

ص: 213

بيانه: إنه لو قامت الأمارة الظنية ولم يبق الحكم الواقعي فهذا هو التصويب الباطل بداهة، وإن بقي وكانت الأمارة مطابقة للواقع لزم اجتماع الحكمين المثلين، وإن كانت مخالفة للواقع لزم اجتماع الضدين، والاجتماع في مرحلة الحكم ومرحلة الإرادة ومرحلة الملاك من غير كسر وانكسار، هذا إن كان متعلق الحكمين - الواقعي والظاهري - واحداً، وإن تعدد المتعلق كما لو كان متعلق الحكم الواقعي السير إلى الحج، والحكم الظاهري المسير إلى المدينة في يوم واحد معين، لزم طلب الضدين، وهو محال أو قبيح.

وفيه: عدم لزوم أي من المحذورات المذكورة، كما يأتي في المبحث التالي.

البحث الرابع: وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

وقد ذكر لذلك وجوه، منها:

الوجه الأول: إن جعل الحجية ليس بمعنى إنشاء حكم ظاهري طبقاً لمؤدّى الأمارة، وإنما المعنى هو ترتيب آثار الحجة الذاتية - أي التنجيز لدى الإصابة والتعذير لدى الخطأ - ، فلا حكم ظاهري حتى يلزم منه اجتماع مثلين أو ضدين أو طلب ضدين، كما لا اجتماع للمصلحة والمفسدة، ولا للإرادة والكراهة؛ لعدم وجود مصلحة أو مفسدة أو إرادة أو كراهة في المؤدّى.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه قد يدفع المحذور في مرحلة الحكم، إلاّ أن الإشكال باقٍ بحاله في مرحلة الإرادة، فإن المولى يريد العمل بمؤدّى

ص: 214

الأمارة، وذلك يستلزم اجتماع إرادتين على مراد واحد حين الإصابة، والتنافي بينهما حين الخطأ.

وثانياً: وبأن جعل الحجية غير ممكن؛ إذ هو إما تخصيص لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو تحصيل الحاصل، وكلاهما محال.

بيانه: أن العقل يستقل بالمنجزية حين وصول الحكم، وبالمعذرية عند عدم وصوله، وهذا حكم عقلي قهري، لا يناله يد التشريع، فإن جُعلت الحجية من دون وصول، فذلك إثبات للعقاب من غير بيان فيكون تخصيصاً لحكم العقل، وإن وصل الحكم فيترتب لازمه عليه قهراً فيكون الجعل الشرعي تحصيلاً للحاصل.

وعليه فعمل التشريع لا بد أن يكون في الموضوع - بأن يجعل شيئاً طريقاً ويعتبره علماً تعبدياً - لا أن يجعل الحجية، وهذا منسوب إلى المحقق النائيني(1).

إن قلت(2): إن جعل العقاب من قبل الشارع على الواقع عند قيام الأمارة هو بيان ورافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لا مخصصاً لها، ففي تصحيح استحقاق العقوبة ورفع موضوع القاعدة لا فرق بين جعل الطريقيّة اعتباراً وتصحيح العقاب من غير تغيّر الواقع عما هو عليه، وبين جعل العقاب رأساً، والحاصل: أن نفس جعل المنجزية بيان للواقع المجهول وبذلك يرتفع موضوع القاعدة ويصح العقاب.

ص: 215


1- أجود التقريرات 3: 131.
2- منتقى الأصول 4: 148-149.

قلت(1): إن أريد جعل المنجزية والمعذرية بالذات فهو محال؛ لأنهما انتزاعيان، ووجود الأمر الانتزاعي متوقف على وجود منشئه، وإن أريد جعلها بالعرض - أي بتبع جعل منشأ الانتزاع - فلا يمكن جعلهما مرّة أخرى، كما في زوجية الأربعة.

أقول: هذا إنما يصح في الأمور التكوينية، وأما الأمور الاعتبارية فحيث إن قوامها الفرض لغرض عقلائي، فيمكن فرض المحال، فلا محذور في فرض الزوجية من غير وجود الأربعة مثلاً، وترتيب آثار الزوجية، وعلى كل حال فإشكال المنتقى في محلّه حسب الظاهر.

الوجه الثاني: إنه لا اجتماع للمثلين والضدين أصلاً حتى لو قلنا بوجود أحكام ظاهرية...

1- لا في مرحلة مبادئ الحكم - من المصلحة والمفسدة - ؛ وذلك لأن مبادئ الحكم الواقعي هي بنفسها مبادي الحكم الظاهري، أي الحفاظ على مصلحة الواقع أو عدم الوقوع في مفسدة الواقع اقتضت إنشاء أحكام ظاهرية للوصول إلى الأحكام الواقعية؛ إذ لولا التعبد بالظن لفاتت أكثر تلك لعدم تيسّر القطع عادة، ولو كان للحكم الظاهري مصلحة أخرى فإنما هي مصلحة في نفس إنشائه لا في متعلقه فلا تنافي المصلحة أو المفسدة في متعلق الحكم الواقعي.

2- ولا في مرحلة الإرادة والكراهة؛ إذ لا إرادة ولا كراهة في متعلق الحكم الظاهري؛ إذ هو حكم طريقي مقدّمي ناش عن مصلحة في نفس

ص: 216


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 345.

الحكم نظير الأوامر الامتحانية.

3- ولا في مرحلة نفس الحكم؛ إذ الحكم الواقعي حكم حقيقي، والحكم الظاهري حكم طريقي مقدمي فلا منافاة بينهما.

وأورد عليه: أولاً: قد لا يتحد مبادئ الحكمين، بل قد يكون لكل واحد منهما مصلحة خاصة به، كمصلحة الطهارة الواقعية التي هي الاجتناب عن القذارة مثلاً، ومصلحة الطهارة الظاهرية التي هي التسهيل.

وفيه: أن الكلام في عدم تعدد مصلحة الواقع أو مفسدته، وليس الكلام في ما لو كان للحكم الظاهري مصلحة في إنشائه، فالتسهيل ليست مصلحة للواقع، بل لإنشاء الحكم، فتأمل.

وثانياً: إن هذا وإن دفع الإشكال في اجتماع المثلين أو الضدين، لكنه قاصر عن دفع إشكال طلب الضدين، مثلاً لو كان الغرض الواقعي الكون في الحج وطريقه إلى الجنوب، لكن قامت الأمارة على أن طريقه إلى الشمال فحسب الحكم الواقعي يريد المولى السير جنوباً، وحسب الحكم الظاهري يريد السير شمالاً.

وثالثاً: بأن المولى يريد الحكم الظاهري؛ إذ لولا إرادته لما وجب الامتثال، وهو واضح الإشكال، ويمكن القول باتحاد الإرادة مع موافقة الحكم الظاهري للواقع، لكن لا يمكن ذلك مع مخالفته للواقع، فتأمل.

الوجه الثالث: إن الحكم الواقعي فعلي تعليقي، والحكم الظاهري فعلي تنجيزي، ولا منافاة بينهما، بمعنى أن الحكم الواقعي غير منجز لو لم يقطع به ولم تقم الأمارة عليه، ومصلحته أو مفسدته غير ملزمتين حينئذٍ، وأما

ص: 217

الحكم الظاهري - والذي هو مطابق للأمارة الظنية - فهو فعلي منجز ومصلحته ومفسدته ملزمتان، فلا اجتماع للحكمين، لا في مرحلة الملاك ولا في مرحلة الإرادة أو الكراهة، ولا في مرحلة الحكم.

وبهذا البيان يندفع إشكال عدم فعلية الحكم الواقعي لو قطعنا به، حيث إن الحكم الإنشائي حتى المقطوع منه لا يستلزم بعثاً ولا زجراً.

وذلك لأن القائل لا يرى الحكم الواقعي مجرد حكم إنشائي، بل يراه حكماً فعلياً تعليقياً، بمعنى أنه غير منجز إلاّ مع القطع به أو قيام الأمارة عليه.

كما يندفع إشكال استلزام وجود الحكم الواقعي من غير مبادئ، حيث

لا مصلحة ولا مفسدة ملزمتين للأحكام الواقعية حينئذٍ!

وذلك لأن المبادي موجودة لكنها تعليقية، أي المصلحة تكون ملزمة إن قام الدليل على الحكم الواقعي، وإلاّ فلا، فتأمل.

وأشكل عليه: أولاً: بما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أن الفعلية التعليقية في الحكم الواقعي قد يراد بها أحد ثلاث، وكلها محلّ إشكال:

1- الفعلية من جهة لا من جميع الجهات.

ففيه: أن الفاقد لبعض جهات الفعلية باقٍ على الشأنية؛ إذ الشيء لا يوجد ما لم ينسدّ جميع أبواب عدمه، وعليه فيبقى الحكم غير فعلي، بمعنى أنه لو كانت علة الشيء مركبة فلا يتحقق المعلول إلاّ بتحقق كل تلك الأجزاء، وفي ما نحن فيه لا يكون الحكم فعلياً إلاّ مع انسداد باب عدم الفعلية من جميع الجهات، ولو انفتح باب من أبواب العدم لم يتحقق المعلول فلا

ص: 218


1- نهاية الدراية 3: 150-151.

تتحقق الفعلية.

2- ولو أريد كون الفعلية ذات مراتب، فالفعلي من مرتبة لا ينافي الفعلية من مرتبة أخرى، بمعنى أن مرتبة فعلية الحكم الواقعي ضعيفة، ومرتبة فعلية الحكم الظاهري قوية.

ففيه: أن الشدة والضعف في الطبيعة لا ترفع تماثل فردين من طبيعة واحدة، ولا تضاد فردين من طبيعتين متقابلتين فمثلاً لا يجتمع في موضوع واحد السواد الضعيف مع السواد القوى أو البياض القوي.

3- ولو أريد كون الحكم فعلياً من جهة الحكم بداعي إظهار الشوق المطلق لا بداعي البعث والتحريك، فهو فعلي من جهة هذه المقدمة، بمعنى أن داعي المولى من إنشاء الحكم الواقعي هو مجرد إظهار الشوق إليه

لا التحريك بالبعث والزجر.

ففيه: أن الشوق إذا بلغ حداً ينبعث منه جعل الداعي كانت إرادة تشريعية، وهي منافية لإرادة أخرى على خلافها أو الإذن في خلافها، وإذا لم يبلغ هذا الحدّ فلا يكون القطع بهذا الشوق موجباً للامتثال فضلاً عن الأمارة الظنية؛ وذلك لأن القطع والأمارة يكشفان عن الواقع ولا يقلبان الشيء عما هو عليه!

ويرد عليه: أن الشق الثاني غير مراد، وأما الثالث فيرجع إلى الأول، وأما الشق الأول فلا محذور فيه؛ إذ لا مانع من كون حكم إنشائياً مع اشتراط فعليته بالعلم به أو قيام الأمارة عليه، فعدم الإذن في الخلاف يحقق الفعلية المستلزمة للبعث والزجر، فليس النزاع في لفظ الفعلية، بل في واقع الحكم - أياً كانت التسمية - ، فمادامه لا يعلم به أو لم تقم الأمارة عليه يكون

ص: 219

إنشائياً، وتتحقق الفعلية بمجرد العلم أو بالأمارة.

وثانياً: بأن ما ذكر يدفع إشكال اجتماع الضدين أو طلب الضدين في ما لو خالفت الأمارة الواقع، ولكنه لا يدفع الإشكال حين تطابق الأمارة مع الواقع حيث تنجز الحكم الواقعي مع وجود حكم ظاهري منجّز فاجتمع حكمان فعليان متماثلان، ولا يجدي القول بأنه لا حكم ظاهري حينئذٍ؛ لأنه خلف الفرض ورجوع إلى الوجه الأول، فتأمل.

الوجه الرابع(1): ما ذكره المحقق الإصفهاني بعدم اجتماع مثلين أو ضدين لا في الإرادة والكراهة ولا في الحكم:

1- أما في الإرادة والكراهة، فلأجل عدم وجودهما حين إنشاء الحكم لا في المبدأ الأعلى ولا في سائر المبادئ العالية، بل في مطلق الموالي إذا كان البعث أو الزجر لصلاح الغير لا لمنفعة المولى؛ وذلك لأن من مقدماتهما الشوق النفساني إلى الفعل أو الترك، وذلك لا يكون إلاّ في ما لو كان النفع أو الضرر عائداً إلى ذات الآمر أو إلى قوة من قواه، ولولا ذلك لكان حصول الشوق معلولاً من غير علة، وهو محال، وحيث إن أفعال المكلفين لا يعود صلاحها وفسادها إلاّ إليهم، فلذا لا معنى لانقداح الإرادة في النفس النبوية والولوية فضلاً عن المبدأ الأعلى، ومن ذلك يتضح أنه لا إرادة ولا كراهة في التكاليف فضلاً عن إرادتين أو كراهتين أو إرادة وكراهة.

2- وأما الحكم المجعول، فلا اجتماع للضدين ولا للمثلين، بل البعث والزجر ينحصر في الحكم الظاهري دون الواقعي، قال المحقق الإصفهاني:

ص: 220


1- نهاية الدراية 3: 122-123.

«إن الإنشاء بداعي جعل الداعي - الذي هو تمام ما بيد المولى - لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة إمكاناً إلاّ بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول، ضرورة أن الأمر الواقعي - و إن بلغ ما بلغ من الشدة والقوة - لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة ويوجب انقداح الداعي في نفس العبد - وإن كان في مقام الانقياد - ما لم يصل إليه»(1)، وعليه فلا بعث ولا زجر بالنسبة إلى الحكم الواقعي؛ لعدم وصوله إلى المكلف... فالأمر في الأحكام الظاهرية من قبيل المقتضي، وفي الواقعية من قبيل اللا اقتضاء.

وأشكل على الأول: أولاً: كبرىً: بأن سبب الشوق لا ينحصر في عود نفع إلى الآمر والناهي، بل قد يشتاق الإنسان إلى إصلاح غيره حتى لو لم يرجع إلى نفسه فائدة. نعم، لا بد من غرض ولكن لا ينحصر ذلك في منفعة النفس.

وثانياً: صغرىً: بعود النفع إلى أولياء الله تعالى بزيادة ثوابهم أخروياً بكثرة من عمل بسننهم، ودنيوياً باعتبار صلاح الأمة المنسوبة إليهم، كما يشتاق الأب لصلاح ابنه.

وأشكل على الثاني: أولاً: بأن المصحّح للحكم والتكليف هو أن لا يكون لغواً، ولا يشترط فيه إمكان الانبعاث، ولا يدل على ذلك لا عقل ولا بناء العقلاء، بل هناك موارد في الشرع ثبت فيها التكليف مع عدم إمكان الانبعاث، كتكليف النائم تمام الوقت بالصلاة - سواء كان مقصراً أم لا - والذي يخرج التكليف عن اللغوية وجود الأثر بالقضاء؛ إذ لولا توجه الأمر إليه وتكليفه لما لزم القضاء سواء قيل إنه بالأمر الأول أم بأمر جديد؛ إذ لا أمر

ص: 221


1- نهاية الدراية 3: 122-123.

حسب الفرض لعدم إمكان انبعاثه، وأما الأمر الثاني فهو فرع الفوت، ولا فوت مع عدم وجود الأمر الأول.

وثانياً: إن إمكان الداعوية لا ينحصر في الوصول، بل يمكن جعل الداعوية في بعض صور الجهل البسيط، كمن يحتمل وجود الأمر من غير علم ولا قيام أمارة، فيأتي بالشيء رجاءً أو احتياطاً، وبعبارة أخرى - كما في المنتقى(1) -: إن داعوية الأمر نحو متعلّقه في صورة العلم ليست تكوينية قهرية كالأسباب التوليدية في مسبباتها نظير النار في الاحراق، وإنما هي بلحاظ ما يترتب على الموافقة والمخالفة من ثواب وعقاب، وهذا الملاك بعينه ثابت في صورة الجهل البسيط مع احتمال الأمر؛ إذ يقطع بترتب الثواب عند الإتيان بالعمل، ويحتمل العقاب - مع قطع النظر عن المعذّر - وهذا يكفي في الدعوة نحو الفعل، فتأمل.

الوجه الخامس: إن الرتبة مختلفة بين الحكمين الواقعي والظاهري ونتيجة ذلك اختلاف الموضوع، وبذلك يرتفع محذور اجتماع المثلين أو الضدين، حيث إن من شروط التضاد اتحاد الموضوع، فرتبة الواقعي هي الشيء بنفسه، ورتبة الظاهري هي الشيء بوصف كونه مشكوكاً في حكمه الواقعي، فاتضح تأخر الظاهري عن الواقعي برتبتين؛ إذ موضوع الظاهري الشك في الحكم الواقعي، والشك متأخر عن الحكم الواقعي.

وأشكل عليه: أولاً(2): بأن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب

ص: 222


1- منتقى الأصول 4: 158-159.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 305.

الواقعي، إلاّ أن الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري - أي في مرتبة الشك - حيث لم يرفع الشارع يده عن الحكم الواقعي حين الشك.

وأجيب(1): بأنه لا يعقل تجافي المتقدم عن رتبته ليكون في المرتبة المتأخرة - كما هو في المرتبة المتقدمة - بداهة أنه لا يكون التقدم والتأخر إلاّ لملاك يقتضيها، ومع حصول ملاك التقدم في الشيء لا يعقل أن يحصل فيه ملاك التأخر أيضاً؛ إذ هو جمع بين المتنافيين؛ إذ الرتبة هي نحو وجود الشيء فما اتصف بنحو من الوجود كيف يكون موصوفاً بنحو آخر منه؟!

وثانياً: بأن اختلاف الرتبة لا يرفع التنافي، فالنار والبرودة متنافيان مع تقدم رتبة النار على البرودة، حيث إنها في رتبة الحرارة لتضادهما، ورتبة الحرارة متأخرة عن رتبة النار تأخر رتبة المعلول عن رتبة العلة، وإنما الرافع للتنافي عدم الاجتماع في الوجود، وعليه فإنه مع العلم بالواقعي لا وجود للحكم الظاهري، لكن على تقدير الشك فيه يجتمع الحكمان وجوداً وهو اجتماع للمثلين أو الضدين؛ وذلك لإطلاق الحكم الواقعي - بمعنى رفض القيود - فيشمل حالة الشك أيضاً، مع تحقق موضوع الحكم الظاهري حينئذٍ، فتأمل.

الوجه السادس: اختلاف موضوع الحكم الواقعي والظاهري، فيرتفع التضاد أو التماثل؛ لأن من شرطهما وحدة الموضوع، وهو منسوب إلى المحقق الفشاركي(2)، وحاصله: أن الأحكام لا تتعلق بالموضوعات

ص: 223


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 375 و 12: 80-81.
2- درر الفوائد، للحائري: 351؛ نهاية الدراية 3: 157-158.

الخارجية، بل تتعلق بالموجودات الذهنية من حيث إنها حاكية عن الخارج، ولا اجتماع في الذهن للعنوان الذي تعلق به الحكم الواقعي والعنوان الذي تعلق به الحكم الظاهري؛ إذ موضوع الحكم الواقعي هو الفعل بذاته، أي بما هو هو ومجرداً عن لحاظ العلم أو الشك في حكمه، وموضوع الحكم الظاهري الفعل بوصف كونه مشكوك الحكم، وهذان الموضوعان

لا يجتمعان؛ إذ في مرحلة الحكم الواقعي لا يمكن أخذ التقسيمات الثانوية فيه، ومنها الشك في الحكم؛ إذ وصف الشك فيه مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم، وأما في مرحلة الحكم الظاهري فلا تصور للموضوع بما هو هو؛ إذ لا اجتماع لتصور الموضوع بما هو هو وتصوره بما هو مشكوك الحكم.

وبعبارة أخرى: لم يلاحظ الشك في موضوع الحكم الواقعي، حيث إن الشك من التقسيمات الثانوية التي تأتي من قبل الأمر فلا يمكن أن تؤخذ في موضوعه، كما أنه لم تلاحظ الذات بما هي هي في موضوع الحكم الظاهري، فاختلف الموضوعان.

وأشكل عليه بإشكالات مبنائية وبنائية، وأهمها ما في نهاية الدراية(1)، وحاصله: أن الذات بما هي هي لايمكن أن يراد بها...

1- الماهية المهملة؛ إذ لايلاحظ فيها شيء خارج عن الذات أصلاً كالحكم المتعلق بها، بل يلاحظ الجنس والفصل فقط، وعليه فلا يمكن الحكم عليها بشيء خارج الذات ولو كان لازماً لها، وإلاّ استلزم الخلف

ص: 224


1- نهاية الدراية 3: 161-162.

.

2- ولا الماهية المطلقة بنحو اللابشرط المقسمي؛ إذ لايعقل وجود المقسم من غير تعيّنه في أحد أقسامه.

3- ولا الماهية بشرط شيء، لاستحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم، كأن يقول: شرب التتن بشرط العلم بحرمته حرام.

4- ولا الماهية بشرط لا، للزوم اللغوية، كأن يقول: شرب التتن بشرط عدم العلم بحرمته حرام.

5- وإنما المراد الماهية بنحو اللا بشرط القسمي، بمعنى أن المولى لاحظ شرب التتن من غير ملاحظة قيد العلم بالحكم ولا بعدمه، فيكون مطلقاً بمعنى رفض القيود.

وعليه فيكون موضوع الحكم الواقعي هو (شرب التتن مطلقاً) أي حتى في حال الجهل، وموضوع الحكم الظاهري هو (شرب التتن بشرط شيء) أي بلحاظ الجهل بالحكم الواقعي، فاجتمع الحكمان المتضادان في حالة الجهل بالحكم الواقعي.

الوجه السابع: عدم وجود محذور اجتماع الضدين أو المثلين لا في المبدأ ولا في الحكم ولا في المنتهى.

1- أما المبدأ - أعني المصلحة والمفسدة - فلأن مصلحة أو مفسدة الحكم الواقعي في المتعلّق، ومصلحة الحكم الظاهري في الجعل بنفسه، فقد لا تكون مصلحة في المتعلّق لكن يكفي في صحة الجعل وجود المصلحة في الجعل، نظير الأوامر الاحتياطية، أو الامتحانية.

إن قلت: يستحيل كون المصلحة في نفس الجعل مع عدم وجود مصلحة في المتعلّق؛ لأن الجعل فعل للمولى، وبتحققه يتحقق الغرض؛ لأن

ص: 225

كل الغرض إنما هو في الجعل وقد تحقق ذلك الجعل فيسقط التكليف، فلا امتثال لهذا الحكم أصلاً.

قلت: المراد أن لنفس الجعل مصلحة كمصلحة التسهيل - مثلاً - في الحكم الظاهري الترخيصي، وكمصلحة الحفاظ على الواقع في أمثال الأوامر الاحتياطية، فلا يتحقق الغرض حينئذٍ بنفس الجعل، وإنما بامتثال المجعول، وليس المراد أن الجعل بنفسه مصحلة، فتأمل.

2- وأما الحكم؛ فلأنّ الأحكام أمور اعتبارية، ولا تنافي بين الاعتباريات بما هي هي، فلا تنافي بين قول (افعل) و(لا تفعل)؛ وذلك لأن التضاد صفة الموجودات الحقيقية، وأما الاعتباريات فلا تضاد بينها حقيقة.

3- وأما المنتهى، فللطولية بين الحكم الواقعي والظاهري، فمع وصول الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري؛ إذ لا شك حينئذٍ، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا تنجز له؛ إذ شرط التنجز الوصول، وحينئذٍ يتنجز الحكم الظاهري، وعليه فوصول كلا الحكمين معاً محال.

إن قلت: الوصول أعم من التفصيلي والإجمالي والمكلّف يعلم إجمالاً بوجود تكليف للواقعة واقعاً وإن كان يجهله؟

قلت: إن العلم الإجمالي بوجود حكم ما، ليس وصولاً، وخاصة مع تضمن المحتملات للمتباينين كالوجوب والحرمة، فتأمل.

ويرد عليه: أن المبدأ لا ينحصر في المصلحة والمفسدة، بل يشمل الإرادة والكراهة، وتعلق إرادتين بالحكم الواقعي والظاهري مع تضادهما محال لاجتماع الضدين في ما اخطأت الأمارة الواقع، ومع توافقهما كذلك لاجتماع المثلين في ما أصابت الأمارة الواقع.

ص: 226

وأما ما ذكر في الحكم والمنتهى فسديد، لكن مرجعه إلى بعض الأجوبة السابقة.

الوجه الثامن: عدم اجتماع حكمين شرعيين؛ وذلك لكون الأحكام الظاهرية إرشادية(1).

وحاصله: أن الاجتماع إنّما يكون لو كان الحكمان مولويان، وليس كذلك ما نحن فيه؛ إذ الأحكام الظاهرية إنّما هي بحكم العقل إرشاداً إلى ما هو أقرب إلى الواقع.

وذلك لأنه قد لا يتمكن المكلف من القطع تكويناً، وحينئذٍ يستقل العقل بلزوم العمل بالظن، ولو عمل بالظن وخالف الواقع لم يلزم منه اجتماع حكمين متضادين، حيث لا حكم شرعي إلاّ الحكم الواقعي ومنشؤه الملاكات الواقعية، وأما الحكم الظاهري فهو حكم عقلي منشؤه ظن المكلف بعد عدم تمكنه من القطع.

وقد يتمكن المكلف من تحصيل القطع تكويناً، لكن مع مفسدة كثيرة، فيجب عقلاً على الشارع الحكيم دفع تلك المفسدة، عن طريق عدم إيجاب تحصيل القطع، بل الاكتفاء بالظن، وحيث إن الظنون مختلفة من حيث أقربيتها إلى الواقع، كخبر الثقة بالنسبة إلى القياس، فلا إشكال في إرشاد المكلف إلى الأقرب، وعليه لا اجتماع للحكمين.

وبعبارة أخرى: الشارع لا يحكم باتباع خبر الثقة مثلاً بنحو مولوي، بل يخبر المكلّف ويرشده إلى أن خبر الثقة أقرب إلى الواقع.

ص: 227


1- درر الفوائد، للحائري: 354.

وهذا الأمر الإرشادي لا يرخّص العقل في مخالفته، أي لو طابق الواقع وخالفه المكلف لم يكن معذوراً.

وأشكل عليه(1): إن الإرادة ومباديها التي ينشأ منها الأوامر المولوية والأوامر الإرشادية هي بكيفية واحدة، حيث إن الإرادة عبارة عن الشوق الأكيد المستتبع لتحريك العضلات نحو المقصود في الإرادة التكوينية، أو تحريك الغير نحوه في الإرادة التشريعية، وحينئذٍ فإما أن يقال: بعدم انقداح الإرادة بالنسبة إلى متعلق الأوامر الإرشادية، أو يقال: بالانقداح، والأول خلاف الوجدان، والثاني يلزم منه اجتماع إرادتين متضادتين حين خطأ الأمارة كما لو كان الحكم الواقعي السير نحو المشرق والظاهري السير نحو المغرب، ومتماثلتين حين الإصابة.

نعم، لوقلنا بعدم وجود إرادة فعلية حتمية بالنسبة إلى الحكم الواقعي لتمّ دفع المحذور، لكنه رجوع إلى بعض الأجوبة السابقة.

الوجه التاسع: ما نسب إلى المحقق العراقي(2)، وحاصله: أن تنافي الأحكام التكليفية إنما هو من جهة تنافي الإرادة والكراهة والحب والبغض، وتنافي هذه إنما هو لتنافي مبادئها، بمعنى ترجح الوجود على العدم أو العكس أو التساوي، فإن الشيء الواحد بالبديهة لا يقبل أن يكون وجوده أرجح من عدمه، وعدمه أرجح في وجوده.

وهذا إنما يكون في ما لو لم يكن للشيء جهات متعددة، وأما مع

ص: 228


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 396-397.
2- حقائق الأصول 2: 77؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 423.

تعددها، فيمكن ترجح الوجود على العدم بلحاظ جهة، والعكس بلحاظ جهة أخرى، ولا تنافي بين الترجيحين لاختلاف الجهة.

وإذا كان للوجود الواحد مقدمات، تعددت جهاته بتعدد تلك المقدمات، وكذلك في المركب باعتبار أجزائه.

ثم إن الإرادة التشريعية هي نحو من أنحاء الإرادة التكوينية، لكنها متعلقة بالوجود من حيث جعل الحكم، فالواجبات المولوية الصادرة عن العبد في مقام الطاعة لها مقدمات وهي: جعل الحكم، وعلم العبد، وإرادة العبد بتوسط الداعي العقلي.

وعليه فكما يمكن تعلّق الإرادة التكوينية بشيء من جهة دون أخرى كبناء البيت من جهة جدرانه دون سقفه مثلاً، كذلك قد تتعلق الإرادة التشريعية بوجود المراد من جهة إنشاء الحكم دون إعلام العبد، بل قد تتعلق الإرادة بالإعلام المضاد، وبذلك يرتفع التضاد.

وبعبارة أخرى: قد تتعلق إرادة المولى بوجود فعل ذي مصلحة من جميع الجهات الثلاث المذكورة، فتحدث إرادة غيرية للمولى بهذه الأمور، فتبعث على جعل الحكم وإعلامه للعبد وتهديده وتخويفه لكي تحصل له إرادة الفعل.

وقد تتعلق الإرادة بالوجود بلحاظ بعض هذه الجهات، فإن تعلّقت بالوجود من جهة جعل الحكم وتشريعه سُميت إرادة تشريعية واقتضت مجرد تشريع الحكم، وإن تعلقت أيضاً بالوجود بلحاظ الإعلام اقتضت حينئذٍ إعلامه.

وعليه فكل إرادة للوجود من جهة إنما تنافي كراهتها من تلك الجهة ولا

ص: 229

تنافيها من جهة أخرى، إذن فالترخيص في ظرف الشك لا ينافي الإرادة الواقعية؛ لأنها تعلّقت بالوجود من جهة جعل الحكم لا غير، وإنما كان الترخيص بلحاظ وجود الحجة على الحكم - أي جهة الإعلام - وهذه الجهة لم تكن موضوعاً للإرادة حسب الفرض.

وأشكل عليه: بأن متعلق إرادة الحكم الواقعي إن كان هو الجري العملي مطلقاً - سواء علم أم لا - فيتحقق التضاد في المبدأ والمنتهى.

وإن كان المتعلق هو الجري العملي في حالة العلم فقط، فإن ذلك يرجع إلى تعليق الإرادة المتعلّقة بالحكم الواقعي، فيرجع إلى الجواب الثالث ولا يغايره، فتأمل.

الوجه العاشر: ما ذكره المحقق النائيني(1)، وحاصله: إن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية على أنحاء ثلاثة: موارد قيام الطرق والأمارات، وموارد الأصول المحرزة، وموارد الأصول غير المحرزة، فهنا مباحث ثلاثة.

الأول: موارد الأمارات والطرق، فالمجعول فيها هو حكم وضعي لا تكليفي حتى يتضادان، وذلك الحكم الوضعي هو الطريقية والوسطية في الإثبات، فإنها مما تنالها يد الجعل؛ إذ جميع الأحكام الوضعية قابلة للجعل ابتداءً - سوى الجزئية والشرطية والمانعية والسببيّة - من غير ضرورة لجعلها كلّها انتزاعيات عن الأحكام التكليفية، ولا يخفى أنه يكفي في دفع إشكال الاستحالة إمكان هذا الجعل، فإنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال العقلي.

ص: 230


1- فوائد الأصول 3: 105-112.

بل ذلك واقع خارجاً؛ إذ ليس في ما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء، والعقلاء إنما يعتمدون عليها لكونها طريقاً إلى الواقع، وليس عند العقلاء جعل وتعبد وتشريع، أي لايجعلون أحكاماً تكليفية في موارد طرقهم وأماراتهم، بل شأنهم هو جعل الطريقية بتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف بالمرّة واعتبارها كالعلم، والشارع قد أمضى ذلك.

ونتيجة ذلك أنه ليس في باب الطرق والأمارات حكم تكليفي حتى ينافي الحكم الواقعي، بل ليس حال الأمارة المخالفة للواقع إلاّ كحال العلم المخالف للواقع، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط مطلقاً أصاب الطريق الواقع أو أخطأ.

وأشكل عليه: أولاً: مبنىً بأنه لا دليل على جعل الطريقية، بل ظاهر الأدلة هو أن المجعول وجوب الجري العملي كقوله: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}(1) وحتى آية النبأ التي أشارت إلى الكاشفية، فلعلّ ذلك جهة تعليلية أي سبب الجعل الكاشفية لا أن المجعول هي، ويكفي احتمال ذلك في إبطال الاستدلال.

وثانياً: بأن صيرورة الحكم الظاهري حكماً وضعياً لا يرفع الإشكال في المبدأ، فإن جعل الطريقية يستلزم إرادة الجري العملي بمقتضى الطريق وذلك لا يجتمع مع إرادة الجري العملي بمقتضى الحكم الواقعي المخالف، كما لا يرفع الإشكال في المنتهى، حيث لا يتمكن المكلف من الجري العملي طبقاً للمتضادين.

ص: 231


1- سورة النحل، الآية: 43.

إن قلت: فكيف قبلتم الطريقية في القطع؟

قلت: ليس في القطع جعلٌ شرعي ولا إرادة من الشارع كي يتضاد مع إرادة الواقع في صورة خطأ القطع، وأما الجري العملي حسب القطع المضاد للواقع فهو بسبب خطأ المكلف في قطعه ولا يرتبط بالشارع، فلم يتحقق التضاد بأي وجه من الوجوه.

الثاني: موارد الأصول المحرزة، فالمجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم، فالمجعول ليس أمراً مغايراً للواقع، وحينئذٍ فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محله، من دون أن يكون قد تعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه.

وذلك لأن للقطع جهات ثلاث: جهة الصفة النفسانية، وجهة الإحراز والكشف عن الواقع، وجهة الجري العملي، والأمارات نازلة منزلته من الجهة الثانية، والأصول المحرزة من الجهة الثالثة.

وأشكل عليه(1): بأنه لا يمكن أن يراد الجري العملي التكويني؛ إذ هو فعل المكلّف ولا معنى كجعله؛ إذ التشريع لا ينال إلاّ الأمور الاعتبارية.

فإن أريد من الجري العملي هو إيجابه، فهو كرّ على ما فرّ منه؛ إذ الإيجاب حكم تكليفي، فيتضاد مع الحكم الواقعي.

وإن أريد منه إمضاء الشارع لبناء العقلاء، فيرد عليه: إنه لا يعقل اجتماع إرادة إمضائية مع أخرى تأسيسية تضادها، فتأمّل.

ص: 232


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 407-408.

الثالث: موارد الأصول غير المحرزة، فالأمر فيها أشكل؛ لأن المجعول ليس هو الجري العملي على بقاء الواقع، بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلية المجعولة في أصالة الحل، تناقض الحلية والحرمة الواقعية على تقدير مخالفة الأصل للواقع؛ بداهة أن المنع عن الاقتحام في الشيء كما هو مفاد أصالة الاحتياط، أو الرخصة فيه كما هو مفاد أصالة الحل ينافي الجواز في الأول والمنع في الثاني.

ولا يمكن دفع الإشكال باختلاف الرتبة، بأن يقال: إن رتبة الحكم الظاهري هي رتبة الشك في الحكم الواقعي، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفس وجوده.

وذلك لأن الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الواقعي، إلاّ أن الواقعي يكون في رتبة الظاهري لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك - ولو بنتيجة الإطلاق - فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك.

وإنما يرتفع التضاد لو تفرع جعل أحد الحكمين على جعل الآخر بأن كان علته أو من أجزاء علته، حيث لا يعقل تضاد المعلول مع العلّة أو أجزائها.

وفي ما نحن فيه الشك موجب لحيرة المكلف في التكليف الواقعي، وحينئذٍ...

1- فإن كان ملاك الحكم الواقعي مهماً بحيث يريد المولى حفظه حتى في حالة الشك فلا بد من تتميم الجعل بأن ينشئ المولى تكليفاً آخر يضمه إلى التكليف الأول ليحفظ الملاك في كل الحالات، والمتمم هنا هو

ص: 233

إيجاب الاحتياط، وحينئذٍ فلا تضاد؛ إذ إيجاب الاحتياط إما يتوافق مع الحكم الواقعي فيتحد الحكم الواقعي معه ولا اثنينية، وإما يتخالف معه فالأمر بالاحتياط يكون صورياً نظير بعض الأوامر الامتحانية، وبعبارة أخرى: إن إيجاب الاحتياط موجب لتنجز الواقع عند الإصابة وصحة العقوبة لو خالف، حيث إن الحكم الواقعي واصل بطريقه - الذي هو إيجاب الاحتياط - ، ولدى عدم الإصابة فلا حكم أصلاً إلا أمر صوري بالاحتياط.

2- وأما لو لم يكن الملاك بتلك الأهمية، بل كان بمقدار جعل الحكم دون جعل متممه في ظرف الشك كما في موارد جريان أصالة البراءة، فلا تضاد أيضاً؛ وذلك لأن رفع التكليف ليس عن موطنه، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله (صلی الله علیه و آله): «رفع ما لا يعلمون»(1) نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، لا تنافي الحكم الواقعي ولا تضاده؛ لأن هذه الرخصة إنما هي في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه؛ لأن الموضوع فيها هو الشك في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجز له، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي.

وبوجه آخر يمكن أن يقال: إن الرخصة والحلية تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط، وإيجاب الاحتياط هو في طول الواقع ومتفرع عليه، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً.

ص: 234


1- راجع الخصال 2: 417.

ويرد عليه: أولاً: ما مرّ أن اختلاف الرتبة لا يرفع التضاد إلاّ لو اختلفا في الوجود.

وثانياً: إن إطلاق أدلة الاحتياط يمنع من تقييدها بصورة المصادفة، وأما مثل قوله (علیه السلام): «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكات»(1)، فلا دلالة لها على أن علّة الأمر بالاحتياط هو المنع عن مخالفة الواقع؛ وذلك لاحتمال كونها علة للجعل لا للمجعول، وبعبارة أخرى: كونها حكمة، فلا يدور الحكم مدارها، وعليه فتكون أمثال هذه الروايات مجملة من هذه الجهة، فلا تصلح لتقييد إطلاقات أدلة الاحتياط.

وثالثاً: ما قيل: من أن عدم وجوب الاحتياط عند مخالفته للواقع وحصر وجوبه واقعاً عند مطابقته له، يستلزم منه عدم وجوب الاحتياط عند الشك؛ لأنه من الشك في التكليف الذي هو مجرى البرائة.

وفيه(2): إن المصلحة إن كانت مهمة بنحو لا يجوز منّة المولى حتى في ظرف الجهل بها، فقهراً الإرادة المتعلّقة به وأمره يكون تبعاً لهذا الاهتمام، ومثل هذه الإرادة والأمر نفس احتماله منجز عقلاً، وخارج عن موضوع قبح العقاب بلا بيان، وطريق معرفة الأهمية هو نفس الأمر بالاحتياط؛ إذ هو أمر طريقي كاشف عن الاهتمام.

ورابعاً: ما في المنتقى(3): من أن تفرّع وجوب الاحتياط على الواقع إنّما

ص: 235


1- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 157.
2- فوائد الأصول 3: 116 (الهامش).
3- منتقى الأصول 4: 164.

يتمّ لو كان الحكم الواقعي هو الوجوب - كما لو كان الشبح إنساناً محقون الدم - أما لو كان الحكم الواقعي هو الإباحة - كما لو كان الشبح حيواناً جائز الصيد - فلا معنى لتفرع الاحتياط عليه، بأن يكون الاحتياط بملاك المحافظة على ملاك هذا الحكم الواقعي الذي هو الإباحة، فإن وجوب الاحتياط إنّما يتفرّع على الوجوب الواقعي، لا الإباحة الواقعيّة.

وفيه(1): إنّ هذا الإشكال إنما يتم لو لوحظت كل واقعة بمفردها، أما لو لوحظت بمجموعها فلا؛ لأن موارد المصادفة للواقع فيها تكون سبباً للحكم بالاحتياط العام في كل الموارد، فوجوب الاحتياط لم يتفرع على الإباحة الموجودة في خصوص المورد، وإنّما على الوجوب الموجود في بعض الموارد.

الوجه الحادي عشر: إنكار مبادئ الحكم الظاهري فلا ملاك ولا إرادة تزاحم أو تعارض ملاك الحكم الواقعي وإرادة المولى إياه، كما لا تزاحم في مرحلة الامتثال(2).

1- أما في مرحلة المبدأ: فلأنه لو اشتبه الغرض - سواء التكويني أم التشريعي - فإن كان بدرجة بالغة الأهمية بحيث لا يرضى صاحبه بفواته، فحينئذٍ تتوسع دائرة محركية ذلك الغرض، لا أنه يتحقق غرض أو إرادة أخرى ليزاحمان غرض الحكم الواقعي وإرادته.

مثال الغرض التكويني: ما لو تعلق غرض تكويني بإكرام زيد، ثم اشتبه

ص: 236


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 417.
2- بحوث في علم الأصول 4: 201-205.

بين نفرين، فلا غرض في إكرام غير زيد، ولكن محركية الغرض في إكرام زيد تتوسع بحيث يتحرك نحو كلا الفردين، وكذلك لا إرادة نفسية إلاّ بإكرام زيد، مع توسّع محركيتها للفردين، كما أن إكرام غير زيد ليس مقدمة لوجود المراد - أعني إكرام زيد - فلا إرادة غيرية تتعلق به، ومرجع ذلك إلى أن نفس احتمال الانطباق منشأ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب الواقعي.

مثال الغرض التشريعي: ما لو أمره المولى بشيء فاشتبه عليه، فيجب عليه الاحتياط بالإتيان بالأفراد المحتملة - مثلاً - فالغرض والإرادة إنما هما في المطلوب الواقعي من دون توسعة فيهما، لكن حين الاشتباه تتوسع دائرة المحركية، بحيث تكون الخطابات التشريعية حافظة للغرض، وبهذا يكون حفظ الغرض منجزاً على العبد عقلاً ورافعاً لموضوع البراءة والتأمين العقلي!!

2- وأما في مرحلة المنتهى: فلأنّ التزاحم هنا ليس تزاحماً ملاكياً، وهو لا يكون إلاّ مع وحدة الموضوع، حيث يقتضي أحد الملاكين المحبوبية والآخر المبغوضية، فيتزاحمان ويقدّم الأقوى منهما فيصدر الحكم طبقاً له، وما نحن فيه الموضوع متعدد فلا تزاحم ملاكي.

3- كما أنه ليس تزاحماً امتثالياً: وهو لا يكون إلا في موضوعين مع عدم قدرة العبد على الجمع بينهما في مقام الامتثال، والقدرة تكون دخيلة في التحرك والأمر ولا يشترط وجودها في المحبوب أو المبغوض، وما نحن فيه المكلّف قادر على كليهما فلا تزاحم امتثالي.

وإنما التزاحم حفظي؛ وذلك لتعدد الموضوع مع إمكان الجمع بينهما،

ص: 237

وإنما حصل تزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند اشتباه واختلاط موارد أغراضه - الإلزامية والترخيصية، أو الوجوبية والتحريميّة - ، فإن الغرض المولوي يقتضي الحفظ المولوي له في موارد التردد والاشتباه، وذلك بتوسيع دائرة المحركية بنحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض، فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ - حيث لا يمكن توسعة دائرة المحركية بلحاظهما معاً، فلا محالة يختار المولى أهمهما في هذا المقام، وعليه فهذا التزاحم ليس بلحاظ تأثير الغرضين في إيجاد الحب والبغض؛ إذ هما متعلقان بموضوعين واقعيين متعددين، ولا بلحاظ تأثيرهما في الإلزام الواقعي بهما بقطع النظر عن حالة الاشتباه والتردد؛ لأنهما بوجودهما الواقعي يمكن الجمع بينهما، بل بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما بالنحو المناسب له.

ولتطبيق ذلك نقول: تارة الحكم الواقعي ترخيصي والحكم الظاهري إلزامي، كما لو أوجب المولى الاحتياط في الشبهات، فلا اجتماع للضدين أو المثلين؛ إذ لا توسعة في الغرض والإرادة في الحكم الواقعي، وإنما خطابات الاحتياط لا توسع إلاّ المحركية لذلك الغرض، كما أن تقديم الغرض الإلزامي إنما هو لأهمية، وذلك لا يعني زوال الأغراض الواقعية الترخيصية، بل يزول حفظها التشريعي.

وتارة الحكم الواقعي إلزامي والحكم الظاهري ترخيصي، فلا تضاد أيضاً لنفس ما ذكر لكن لا بد من أن تكون الأحكام الترخيصية عن مقتض ٍ للترخيص، ولا يكفي مجرد عدم المقتضي للإلزام؛ لأن الترخيص الناشء

ص: 238

عن عدم المقتضي للإلزام لا يمكنه أن يزاحم مقتضى الإلزام، فدليل جعل الحكم الظاهري الترخيصي بنفسه يدل على وجود أغراض ترخيصية اقتضائية.

وتارة يكون الحكم الواقعي إلزامياً، والحكم الظاهري إلزامياً مضاداً له، فكذلك طابق النعل بالنعل.

ويرد عليه: أولاً: بأن هذا الجواب إنما يجري لو تعدد الموضوع، بحيث أمكن أن يكون لكل واحد غرض وإرادة مستقلة مع رفع التزاحم بما ذكر، ولا يجري في ما لو كان موضوع الحكم الظاهري نفس موضوع الحكم الواقعي، كما لو فرض حرمة التتن واقعاً مع جريان دليل أصالة البراءة، فلا غرضين ولا إرادتين.

وثانياً: إنه مع تعدد الموضوع وحين الاشتباه، تتعلق الإرادة بالعلم بالإتيان بالمأمور به الواقعي بما يستلزم التكرار مثلاً؛ وذلك لأهمية المؤمّن العقلي، وكما تترشح المحبوبية والإرادة من ذي المقدمة إلى مقدمات الوجود كذلك تترشح إلى المقدمة العلمية، وكما لا يعقل اجتماع إرادتين نفسيتين في موضوع واحد كذلك لا يعقل اجتماع إرادة نفسية وأخرى غيرية، فتأمل.

ص: 239

فصل أصالة عدم حجية الظن

اشارة

بعد إثبات إمكان التعبد بالظن، فهل الأصل هو حجيته أو عدم حجيته ليكون المرجع حين الشك.

وفي أصالة عدم حجيته وجوه، منها:

الوجه الأول: إن غير القطع بحاجة إلى جعل الحجية له ليترتب عليه آثارها، فمع الشك في الجعل لا يرتب العقل تلك الآثار جزماً، ولذا قالوا: الشك في الحجية موضوع عدم الحجية.

وبعبارة أخرى: إن العلم بالحجية جزء الموضوع لها، وبانتفاء الموضوع أو جزء الموضوع ينتفي الحكم جزماً؛ وذلك لأن الآثار لا يرتبها العقل على الحجة الواقعية فلذا لا يحتج المولى على العبد لو كان جاهلاً جهلاً قصورياً بالحجة، وإنما يرتب العقل الآثار على الحجة المعلومة.

وأما آثار الحجة فهي التنجيز بمعنى صحة العقوبة على المخالفة، والتعذير بمعنى كون العبد معذوراً لو أخطأت الأمارة ونحوها الواقع، والتجري على مخالفتها لو كانت مخالفة للواقع، والانقياد في موافقتها لو خالفت كذلك، وأضاف الشيخ الأعظم(1) صحة الالتزام قلباً، وصحة النسبة

ص: 240


1- فرائد الأصول 1: 131.

إلى الشارع، وكل هذه الآثار لا يرتبها العقل حين الشك في الحجية، وحيث لم يترتب اللازم - وهي هذه الآثار - عرفنا عدم وجود الملزوم - أعني الحجية - ، وسيأتي الكلام عن الأخيرين.

إن قلت: كيف يكون الشك في الحجية موضوعاً لعدم الحجية!! أليس هذا من جعل أحد الضدين موضوعاً للضد الآخر وهو محال؛ إذ يلزم من وجود الموضوع عدمه، ومن عدمه انتفاء الحكم؟

قلت: كلا، فالمتعلّق مختلف، أي الشك في الحجية الواقعية هو موضوع القطع بعدم الحجة الإثباتية فلا محذور.

وأشكل عليه(1): بأنه إذا لم يكن للحجية في حال الشك فيها أيّ أثر وكانت الآثار منوطة بالعلم بها، فأي وجه في جعل الحجة واقعاً، مع أن الحكم الوضعي إنّما يجعل بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار، وعليه فالشك في الحجية ملازم للقطع بعدمها ثبوتاً وإثباتاً.

وفيه: أولاً: أن الأثر هو صيرورته فعلياً لو علم بها، سواء قلنا إنّها مع عدم العلم بها تكون فعلية تعليقية أم إنها إنشائية وتصير فعليه بالعلم بها، كما مرّ نظيره في الأحكام التكليفية، فلا فرق في هذه الجهة بينها وبين الأحكام الوضعية.

وصيرورتها فعلية سواء بالنسبة إلى نفس المكلف لاحقاً فيجب عليه القضاء أو الإعادة، أو بالنسبة إلى غيره، كما لو علم بجنابة زيد واقعاً فلا يصلي خلفه، أو غير ذلك.

ص: 241


1- منتقى الأصول 4: 198.

وثانياً: ترتب أثر هو الاحتياط أحياناً، في ما لو التفت المكلف إلى جهله بالحكم الواقعي مع كون الحكم الظاهري لا اقتضائياً.

وثالثاً: ما قيل: من أن الحجة الواقعية قد تكون في معرض الوصول إليها بالفحص أو بغيره، فتكون منجزة بوجودها الواقعي، ولا يكون العبد معذوراً لو ترك الفحص وكانت متطابقة مع الواقع، فحينئذٍ لا يكون الشك في الحجية موضوع عدم الحجية.

وفيه: إن هذا قيد مستدرك؛ لأن المراد مع تحقق شروط عدم الحجية، والتي منها الفحص، وقد ذكروا هذا الشرط في البراءة في الشبهات الحكمية، فلم يكن داع ٍ لذكره هنا.

الوجه الثاني: ما دلّ على عدم جواز نسبة حكم إلى الشارع من غير علم وعدم صحة الالتزام مع الشك؛ وذلك لأن جواز النسبة من لوازم الحجية، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.

وأشكل عليه: بانفكاك هذين الأثرين عن الحجية، ولو كانا من آثارها لما أمكن انفكاكهما؛ لأن المراد بالأثر إما المعلول أو اللازم، ومن الواضح عدم انفكاك المعلول عن علته، ولا اللازم عن ملزومه، وذلك في الظن الانسدادي على الحكومة، فهو حجة لكن لا يجوز نسبة الحكم المستفاد منه إلى الشارع ولا الالتزام به، لكونه بحكم العقل لا الشرع.

وقد يقرر الإشكال: بأن انتفاء اللازم المساوي أو الأعم يكشف عن انتفاء الملزوم، أما اللازم الأخص فانتفاؤه يدل على انتفاء صنف من أصناف الملزوم، لا الملزوم، فتأمل.

ص: 242

وأجيب: أولاً: بثبوت الملازمة العرفية بين عدم جواز النسبة وعدم الحجية، وإن لم تثبت الملازمة العقلية، فمثل قوله تعالى: {ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(1) يدلّ على أن النسبة من غير علم افتراء وهذا يلازم عرفاً عدم التنجيز والتعذير.

وثانياً: بعكس النقيض؛ إذ لا إشكال في أن كل ما يجوز إسناده إلى الشارع فهو حجة، وعكس نقيضه كل لا حجة لا يجوز إسناده، فتأمل.

وثالثاً: ما ذكره المحقق النائيني: من الإشكال في الكبرى ب-: «أن معنى جعل الأمارة حجة هو كونها وسطاً لإثبات متعلقها وإحراز مؤدّاها، فيكون حالها حال العلم، وهل يمكن أن يقال: إنه لا يصح التعبد بمتعلّق العلم ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية؟»(2).

وأورد عليه(3): بأن جواز الإسناد إما يترتب على الوجود الواقعي للحجة أو على الوجود الواصل لها! والأول خلاف الوجدان؛ إذ لا يصح إسناد حكم إلى المولى مع عدم العلم بل هو تشريع حتى لو كان التكليف ثابتاً واقعاً، والثاني لا ينفع في ما نحن فيه؛ إذ المفروض الشك في الحجية وذلك بمعنى عدم وصولها. نعم، عدم جواز الاستناد لا ينفع في نفي الحجية الواقعية!

وفيه(4): أن المقصود هو نفي الحجية الإثباتية بنفي جواز الاستناد، فإن

ص: 243


1- سورة يونس، الآية: 59.
2- فوائد الأصول 3: 122.
3- منتقى الأصول 4: 197-198.
4- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 22.

مفاد الأدلة المذكورة هو نفي ترتب آثار الحجية، لا نفي كون المشكوك حجة واقعاً.

ورابعاً: ما ذكره أيضاً من الإشكال في الصغرى، ب- «أنه ليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة مثبتاً لمتعلّقه، بل شأن العقل هو الإدراك، وليس من وظيفته التشريع، وحكمه باعتبار الظنّ في حال الانسداد ليس معناه كون الظن حجة مثبتاً لمتعلقه، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنية للأحكام المعلومة بالإجمال عند تعذر الإطاعة العلمية، وهذا المعنى أجنبي عن معنى الحجية، فإن الحجة تقع في طريق إثبات التكاليف، والظن بناءً على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف!»(1).

وأورد عليه: بأن الحجة إما بمعناها اللغوي - وهو ما يحتج المولى على العبد به والعكس - ، ولا فرق في ذلك بين ما يقع في إثبات التكليف أو إسقاطه، وإما بمعناها الاصطلاحي - وهو ما يقع وسطاً في البرهان - ومن الواضح إمكان وقوع مايسقط التكليف وسطاً، كأن يقال: هذا مما دل الدليل العقلي على إسقاطه للتكليف، وكل ما كان كذلك فهو مسقط له، وفي التبيين(2): لأن إثبات المتعلق هو الحمل، سواء كان مرتبطاً بمرحلة الجعل الشرعي

- إيجاباً أو سلباً كأن أخبر الثقة بحرمته أو أخبر بعدم حرمته - أم لا يرتبط بمرحلة الجعل، بل بمرحلة الامتثال، كالمقام.

الوجه الثالث: الاستصحاب سواء كان استصحاب عدم الحكم الوضعي

ص: 244


1- فوائد الأصول 3: 123.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 21.

أي الحجية، أو استصحاب عدم جعل الشارع، أو استصحاب عدم الحكم التكليفي.

وأشكل عليه الشيخ الأعظم(1): بأنه لا يترتب على مقتضى الاستصحاب أثر عملي، فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجري استصحاب العدم، فإن الاستصحاب إنما يجري في ما إذا كان الأثر مترتباً على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشك.

وبعبارة أخرى: إن الأثر إذا ترتب على عدم العلم بأن كان موضوعه عدم العلم، فحينئذٍ يكفي مجرد الشك في ترتيب الأثر من غير حاجة إلى إحراز العدم بالاستصحاب، بل يكون الاستصحاب من تحصيل الحاصل، بل من أردء أنواعه، حيث إنه إثبات تعبدي لما هو ثابت بالوجدان، وما نحن فيه حرمة التعبد بالظن وحرمة النسبة يترتبان بمجرد عدم العلم بالتعبد الشرعي فلا حاجة إلى إحراز عدم وجود تعبد شرعي بالاستصحاب ليترتب عليه هذا الأثر.

وردّه المحقق الخراساني(2) بردّين:

الردّ الأول: كبروي: بأن الحاجة إلى الأثر إنما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ما وراء المؤدّى، بل

ص: 245


1- فرائد الأصول 1: 127-128.
2- راجع فوائد الأصول 3: 126، عن درر الفوائد.

يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدّى، من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية، وعدمه في الاستصحابات العدمية، والحجيّة وعدمها من جملة الأحكام، فيجري استصحاب عدم الحجية عند الشك بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجية.

وأجاب عنه المحقق النائيني(1) بما حاصله: أن الأصل إنّما يصح جعله لو كان المجعول فيه الجري العملي، ولذا تجري الأصول الحكمية؛ لأنها بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدّى، بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدّى، وفي ما نحن فيه: الحجية بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلاً، والآثار المترتبة عليها، بعضها تترتب عليها بوجودها العلمي كالمنجزية والمعذرية، وبعضها تترتب على نفس الشك في حجيتها كحرمة التعبد والاستناد، وعليه فعدم الحجية لا يقتضي الجري العملي أصلاً؛ إذ لا أثر له إلاّ حرمة التعبد، وهو حاصل بنفس الشك، وجريان الأصل لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل أسوء حالاً منه.

وفيه(2): أن الأثر موجود غير عدم جواز النسبة وعدم جواز التعبد، وهو تحويل الاستناد من الأصل العقلي إلى الأصل الشرعي في الطوليين، أو ضميمة الأصل الشرعي إلى الأصل العقلي في العرضيين، نظير جعل البراءة في الشك في التكليف مع حكم العقل بالبراءة بقبح العقاب بلا بيان، فمستند القاعدة قبل ورود البيان الشرعي هو القاعدة العقلية، وبعد وروده يرتفع

ص: 246


1- فوائد الأصول 3: 127.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 29.

موضوع القاعدة العقلية وهو اللابيان وذلك بسبب وجود البيان، فتنتفي القاعدة العقلية بانتفاء موضوعها وحينئذٍ يكون مستند المكلف هو الأصل الشرعي، وأثر هذا التحول هو المزيد من الباعثية والتأكيد.

إن قلت: كيف يتم دفع محذور تحصيل الحاصل؟

قلت: إن المحذور إنّما هو مع بقاء المحصّل أولاً حين وجود المحصّل الثاني، وأما مع ارتفاعه فلا يكون من تحصيل الحاصل أصلاً، وفي ما نحن فيه استصحاب عدم الحجية يرفع حكم العقل بعدم الحجية، ويحوّله إلى الدليل الشرعي على عدم الحجية، كما قام الدليل على عدم حجية القياس، حيث كان مستنده الأصالة فتحوّل إلى الدليل النقلي.

الردّ الثاني: صغروي بإثبات الأثر في هذا الاستصحاب؛ لأن الأثر قد يترتب على الواقع، وقد يترتب على الشك، وقد يترتب عليهما، وعلى الأول لا مجال إلاّ للاستصحاب، وعلى الثاني لا مجال إلاّ للقاعدة عند الشك، وعلى الثالث فلا إشكال في جريانهما معاً، وفي ما نحن فيه حرمة التعبد كما تكون أثراً للشك كذلك تكون أثراً لعدم الحجية، وحينئذٍ يجري الاستصحاب، وهو يتقدّم على القاعدة لحكومته عليها.

وأورد عليه أولاً(1): بأنه لا يعقل كون الشك في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع.

ولعلّ مقصوده أنه إن كان علم بالواقع فلا شك كي يترتب أثره، وإن كان شك في الواقع فلا يترتب أثر الواقع لعدم العلم به، وعليه فيستحيل

ص: 247


1- فوائد الأصول 3: 130.

اجتماعهما.

وثانياً(1): على فرض عدم استحالته، فلا يجري الاستصحاب أيضاً؛ لأن الأثر يترتب بمجرد الشك - وذلك لتحقق موضوعه - فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب، لعدم فائدته، حيث قد ترتب الأثر المطلوب قبل جريانه.

إن قلت: التقدم الزماني لا يضرّ، كما لو شك في طهارة شيء فأجرى أصالة الطهارة، ثم قامت البينة على الطهارة، فإنه لا بد من الأخذ بها مع أن أثرها هو نفس أثر أصالة الطهارة! وأما التقدم الرتبي فهو في العلة وأجزائها، وليس في ما نحن فيه عليّة؟!

قلت: إن اللاحق قد يزيل موضوع السابق، فبزواله يزول أثره، ويترتب أثر اللاحق وإن كان نظيراً للسابق، وتماثل الأثر إن كان دائمياً كان جعل اللاحق لغواً، إلاّ أنه ليس بدائمي فلا محذور في جعل الكلي حتى لو كان في بعض جزئياته ذلك، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لا حكومة في الأصول المتوافقة، وإنّما هي في الأصول المتخالفة؛ وذلك لأن جريانها في المتوافقة يستلزم لغوية مثل قاعدة الطهارة؛ إذ في مواردها يوجد استصحاب الطهارة عادة، إلاّ في موارد نادرة كتوارد الحالتين، فتأمل.

تذييل

قد يقال: بأنه لو تمّ إشكال الشيخ الأعظم بعدم جريان استصحاب عدم

ص: 248


1- فوائد الأصول 3: 131.

الحجية، فلازمه عدم جريان استصحاب الحجية أيضاً، فلا يصح استصحاب حجية فتوى المجتهد بعد موته مثلاً!

وذلك لأن القدرة إنّما تتعلق بكلا النقيضين، فإن لم تتعلق بأحدهما فلا تتعلق بالآخر، بل سيكون الآخر إما ممتنعاً وإما ضرورياً، فعدم القدرة على الطيران مثلاً يلازم الاضطرار إلى عدم الطيران، وعدم قدرة الأجسام في عدم الحيّز يلازم ضرورة الحيّز لها - مثلاً - ، وفي ما نحن فيه حيث استحال التعبد بعدم الحجية فيستحيل التعبد بها!

وفيه: أولاً: صغرىً بأنه ليس التعبد بالحجية أو التعبد بعدم الحجية نقيضين، بل هما ضدان لهما ثالث وهو عدم التعبد بأيٍّ منهما. نعم، التعبد وعدمه نقيضان، لكن حيث كان عدم التعبّد بالحجية مقدوراً كان نقيضه وهو التعبد بالحجية مقدوراً أيضاً.

وثانياً: كبرىً بأن القاعدة المذكورة في أن القدرة تتعلق بالطرفين فإذا استحال تعلقها بأحد النقيضين استحال في الآخر، هذه القاعدة لا تجري في ما نحن فيه؛ لأن موردها إذا استحال أحد الطرفين بحيث يسلب الاختيار فيه، وليس موردها ما إذا أمكن الشيء لكن امتنع صدوره لكونه خلاف الحكمة لكونه لغواً مثلاً، فالظلم يمتنع صدوره من الله تعالى لكونه قبيحاً خلاف الحكمة، وهذا لا يعني عدم قدرته عليه، وحينئذٍ فعدم الظلم مقدور له تعالى لقدرته على الطرفين.

وفي ما نحن فيه: استصحاب عدم الحجية كان لغواً على مبنى الشيخ الأعظم لا أنه لا قدرة عليه، وعليه فالقدرة تتعلق به وباستصحاب الحجية، لكن لم يتم جعل استصحاب عدم الحجية للّغوية، وتمّ جعل استصحاب

ص: 249

الحجية لعدم محذور فيه. نعم، لو قلنا بعدم إمكان استصحاب الحجية لكونه تحصيلاً للحاصل - وهو محال ذاتاً لا تتعلق به القدرة - فللكلام مجال.

الوجه الرابع: العمومات الناهية عن القول والعمل بغير علم، حيث إنها عامة، وقد تمّ تخصيصها بالظنون المعتبرة كخبر الواحد، وكل ظن مشكوك الحجية يدخل في العام، وذلك ككلّ مصداق للعام شك في خروجه عن حكم العام، حيث يجري عليه حكم العام.

وأشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: إن الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظن إرشادية، وفي الأوامر الإرشادية لا بد من الرجوع إلى المرشد إليه، وهو حكم العقل بعدم صحة الاعتماد على الظن، وأحكام العقل غير قابلة للتخصيص أبداً، والظنون الخاصة ليست تخصيصاً لعدم حجية الظن، بل أدلتها تجعلها علماً تنزيلياً، فليس الاعتماد فيها على الظن، بل على العلم، والحاصل: أن الآيات و الروايات الناهية عن العمل بالظن ليست مولوية ليصحّ التمسك بعمومها أو إطلاقها في مورد الشك.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا وجه للحمل على الإرشادية مع ظهور الأوامر والنواهي في المولوية، ومجرد وجود حكم للعقل لا يقتضي ذلك إلاّ لو كان محذور في المولوية، وقد مرّ بيانه، بل الحمل على الإرشادية يستلزم محذور آخر هو عدم العقاب على مثل الظلم؛ لأنهم ذكروا من فروق الإرشادية والمولوية عدم العقاب على مخالفة الأول، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

ص: 250

وثانياً: لو سلمنا إرشاديتها فيمكن التمسك بالمرشد إليه، حتى لو فرضنا عدم تخصيصه؛ لأنا نريد التمسك بالعام، لا بالخاص، وبعبارة أخرى: حيث لم يثبت الحكومة في جعل الخاص علماً تنزيلياً، فيدخل في حكم العقل بعدم جواز الاعتماد على الظن، حيث إنه لا مؤمِّن في العمل به من العقاب.

الإشكال الثاني: إنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن موضوع الأدلة الناهية هي الظنون غير المعتبرة، وأما الظنون المعتبرة فهي خارجة عن تلك الأدلة بالحكومة، فإذا شك في اعتبار ظن، فلا يمكن التمسك بتلك العمومات؛ وذلك لكونها شبهة مصداقية للعام؛ إذ يحتمل كون هذا الظن المشكوك حجيته ظناً معتبراً لكونه علماً تنزيلياً، مع أن الموضوع الظن غير المعتبر.

ويرد عليه: أولاً: إن موضوع العام بعد الحكومة: هو الظن الذي لا يُعلم حجيته، وليس الظن الذي ليس بحجة واقعاً، وهذا الموضوع متحقق حين الشك في حجية شيء، فليس من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن ما كان حجة واقعاً ولم يعلم المكلف بها لا يجوز العمل به، وفي عكسه ما لو لم يكن حجة واقعاً لكن قطع المكلف بالحجية يجوز، بل قد يجب العمل به.

مضافاً إلى أن جعل الموضوع بعد الحكومة هو الظن غير المعتبر يستلزم لغوية العمومات الرادعة عن العمل بغير العلم، لعدم تحقق موضوعها أصلاً، إذ ليس موضوعها القطع بالحجية أو بعدم الحجية، فلم يبق إلاّ الشك فيها، فلو أخرجنا صورة الشك عن الموضوع، لم يبق للموضوع مصداق!

إن قلت: إن هذه الأدلة بنفسها صارت سبباً للقطع بعدم الحجية في

ص: 251

بعض الموارد.

قلت(1): الحكم لا ينقّح موضوعه، فهو نظير أن يقال: إن (أكرم العلماء) مثلاً يوجب بنفسه القطع بكون جملة من الأفراد المشكوك في علمهم علماء! ومن هنا قيل: الحكم لا يتكفل موضوعه! فتأمل.

وثانياً: على فرض التسليم بأن نتيجة الحكومة كون موضوع العمومات هو الظن غير المعتبر واقعاً، نقول: إن هناك أصل موضوعي يرفع الشبهة المصداقية، ويجعل الظن المشكوك من مصاديق الموضوع - وهو الظن غير المعتبر - ، وذلك الأصل هو استصحاب عدم جعل العلم التنزيلي.

وفيه: إن الاستصحاب المفروض سبب لجعل العلم التعبدي بعدم الحجية، فيخرج المورد المشكوك عن موضوع العمومات - وهو ما لم يعلم الجعل التعبدي له - ، فتأمل.

تتمتان

التتمة الأولى: في عدم سراية حرمة التشريع إلى العمل

لو نسب ما لم يقم الدليل الشرعي على حجيته كان تشريعياً محرماً، وفي سراية الحرمة إلى الفعل المتشرّع به قولان:

القول الأول: عدم السراية، بل يبقى العمل على ما هو عليه من الحسن والقبح، فلو فرض كونه عبادة واقعة وأمكن تمشي قصد القربة، وقع العمل صحيحاً مثاباً عليه رغم حرمة التشريع.

ص: 252


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 43.

وذلك لاختلاف الموضوع مع عدم سراية القبح من التشريع إلى العمل، فيكون كالنظر إلى الأجنبية حين الصلاة أو حلق اللحية في حال الصوم، وقد مرّ نظيره في باب التجري.

القول الثاني: السراية، واستدل له(1): بأنه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لحسن العمل وقبحه، فيكون التعبد بما لا يعلم جواز التعبد به موجباً لانقلاب العمل عما هو عليه، فتطرأ عليه جهة مفسدة، فيقبح عقلاً وشرعاً، وظاهر قوله (علیه السلام): «رجل قضى بالحق وهو لا يعلم»(2) حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدل على حرمة نفس العمل.

وفيه: أن مجرد إمكان كون القصد من الجهات والعناوين المغيرّة للعمل لا يكفي في الذهاب إلى وقوعه في ما نحن فيه، بل لا بد من إقامة الدليل على كونه كذلك، وقد مرّ في باب التجري أن قتل عدو المولى لا يخرج عن كونه محبوباً له حتى لو توهم القاتل أنه ابن المولى.

وأما الحديث فدلالته على حرمة الإسناد لا إلى حرمة القضاء، وحتى لو فرض حرمة القضاء فهو ليس من جهة سراية القبح من التشريع إلى العمل، بل لعله لأجل فقدان القاضي لشرائط القضاء، فتأمل.

التتمة الثانية: في التشريع حين الشك والظن

قسّم المحقق النائيني(3) الحكم العقلي إلى طريقي وموضوعي، فتارة:

ص: 253


1- فوائد الأصول 3: 121.
2- الكافي 7: 407؛ وسائل الشيعة 27: 22.
3- فوائد الأصول 3: 125.

يكون للعقل حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك، ومنه حكمه بقبح التشريع، وأخرى: يكون له حكمان: حكم على الموضوع الواقعي الذي استقل بقبحه، وحكم طريقي على ما يشك أنه من مصاديق الموضوع الواقعي، ومنه حكمه بقبح الظلم.

ففي التشريع تمام مناط القبح هو الإسناد إلى الشارع ما لم يعلم منه من غير دخل للواقع في ذلك، فلو فرض أن المتعبَّد به كان في الواقع مما شرّعه الشارع، ولكن المكلف لم يعلم به وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح، ولو انعكس الأمر وأسند المكلّف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع مما لم يشرّعه الشارع لم يكن المكلّف مشرّعاً، لا أنه يكون مشرعاً ولمكان جهله يكون معذوراً عند العقل.

ويرد عليه: أن هذه النتيجة التي رامها لا غبار عليها، لكن لا ارتباط لها بتقسيم الحكم العقلي، بل ذلك يرتبط بالموضوع، فتارة الموضوع موجود سواء علم المكلف أم جهل فيترتب الحكم بالقبح أو الحسن، وأخرى لا وجود للموضوع إلاّ حين علم المكلّف، ولا حكم حين الجهل.

وغير خفّي أنّ العلم دخيل في جميع الأحكام العقلية، بمعنى أنه يحكم العقل بالحسن أو القبح مع العلم بالموضوع، ولا حكم له بهما مع الجهل، فالظلم الواقعي من غير علم به لا حكم للعقل باستحقاق فاعله الذم والعقاب، والإقدام على ما يتوهمه ظلماً مع خطئه تجرٍّ قبيح، فحينما يقال: إن الظلم قبيح مثلاً، فإنما هو بمعنى استحقاق العالم به للذم والعقاب، وأما قولهم: القبح الفعلي المقابل للقبح الفاعلي فالظاهر أنه لا يرتبط بالحكم العقلي، بل في حقيقته رجوع إلى القبح الفاعلي بمعنى قابلية ذلك الفعل

ص: 254

لاستتباعه لذم وعقاب فاعله إن علم به.

وحيث انتهينا من تأسيس الأصل وهو عدم الحجية عند الشك، فقد خرج من هذا الأصل - بالخروج الموضوعي بالحكومة - أمور، سنذكرها تباعاً في الفصول القادمة.

ص: 255

فصل فی حجية الظواهر

اشارة

لا يخفى: أن استنباط الحكم الشرعي من الأدلة اللفظية يتوقف على أمور ثلاثة هي: صدورها عن المشرّع، وثبوت الظهور لها، وثبوت عدم كونها في مقام التقية، وبعض هذه - كبرىً أو صغرىً - ترتبط بعلم الرجال أو الفقه أو اللغة أو ترتبط بالفهم العرفي، وبعضها يرتبط بعلم الأصول، ومن ذلك تشخيص كليات الظهور - كظهور الأمر في الوجوب مثلاً، وهذا ما تمّ بحثه في مباحث الألفاظ، وكذلك بحث حجية الظهور بمعنى كونه منجزاً ومعذراً، أي الظهور المفروغ عن كونه ظهوراً هل هو منجز ومعذّر؟ وهذا يتم البحث عنه في هذا الفصل فی ضمن مباحث.

المبحث الأول: أدلة حجية الظواهر

واستدل لحجية الظهور بأمور، منها:

الدليل الأول: سيرة المتشرعة - والمراد بهم أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) - ، وهذه السيرة تكشف عن بيان الشارع، وهذه السيرة ثابتة بلا ريب؛ إذ لو كان هناك طريقة أخرى عند الشارع للتفاهم لتمّ نقلها حتماً، وحيث لم ينقل علمنا بعدم وجودها.

وفيه: أن المتشرعة عقلاء، فقد يكون منشأ سيرتهم الشرع، وقد يكون ذلك بما هم عقلاء، ولا يكون الأول إلاّ في الأمور الشرعية الخالصة، أي

ص: 256

الأحكام التي شرّعها الشارع ولم تكن ضمن دائرة عمل العقلاء كالوضوء والغسل والصلاة، حيث إن سيرة المتشرعة فيها تكشف عن البيان الشرعي، وأما الأمور التي ليست حكماً شرعياً خالصاً، بل دأب عليها العقلاء فلا ترتبط بسيرة المتشرعة بما هم متشرعة، بل بما هم عقلاء، لا أقل من الشك، فلا يعلم كونها سيرة المتشرعة بما هم متشرعة، فلا يصح الاستدلال بها.

الدليل الثاني: بناء العقلاء، فلو تحققت الشروط الآتية، نكشف منه إمضاء الشارع، وبذلك يفترق عن سيرة المتشرعة في كيفية معرفة الحكم الشرعي، حيث بسيرة المتشرعة نكتشف البيان الشرعي، وببناء العقلاء نكتشف إمضاء الشارع ولو عبر سكوته.

وأما الشروط فهي تحقق بناء العقلاء في المورد، وعدم ردع الشارع عنه، وعدم وجود مانع عن ذلك الردع من تقية ونحوها.

أما الأول: فإن العقلاء يعملون بظواهر الكلام في موردين: في أمورهم اليومية المعاشية والمرتبطة بأغراضهم التكوينية كالعقود والإيقاعات والأقارير ونحوها، وكذا في مقام المولوية، حيث يلتزمون ويحتجون بالظواهر بين الموالي والعبيد والآمر والمأمور، وهذا مما لا شبهة فيه.

وأما الثاني: فلأنه لو ردع عنه الشارع لوصل إلينا بالتواتر حتماً، لتوفر الدواعي لنقله، حيث إنه أمر مهم يرتبط به عامة مسائل الدين وأحكامه، ولكنا نرى أنه لا يوجد فيه رواية واحدة فضلاً عن التواتر، وبذلك نكتشف عدم الردع قطعاً.

وأما الثالث: فلعدم وجود تقية في بيان عدم حجية الظواهر، بل حتى لو

ص: 257

كانت للزم البيان لارتباط المسألة بعامة مسائل الشرع، وعدم بيانه - لو كان - يلازم هدم الشريعة من أساسها، فلا تقية فيه.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: منع بناء العقلاء بالعمل بالظواهر في أمورهم المعاشية، فإنه لا مجال للتعبد في أمورهم، بل بناؤهم إنما هو الملاك يقتضيه، ومع فقده لا بناء لهم، وذلك الملاك الاطمئنان، أو الغفلة عن احتمال خلاف الظاهر، أو مطابقة الظاهر للاحتياط، أو عدم أهمية الشيء، بحيث لا يعتنون بخلاف الظاهر فيه، وحينئذٍ فيكون العمل بالظاهر مرتبطاً بإحدى هذه الأمور.

إن قلت: إن هذه السيرة لكثرة مصاديقها اليومية - وإن كانت بالأساس لملاك في كل مورد مورد - إلاّ أن الكثرة تجعلها كالفطرة الثانوية للعرف، بحيث تصبح طريقة عقلائية يذم مخالفها، وحينئذٍ يمكن تعميمها إلى المجال التشريعي؛ لعدم الفرق في ظاهر أمر معاشي وظاهر حكم تشريعي!!

قلت(1): العقلاء لا يتعدون من سلوك معين واجد لملاك خاص إلى سلوك آخر فاقد لذلك الملاك، إلاّ في حالة الغفلة والخطأ، وكذلك إمضاء الشارع لشيء لملاك خاص لا يعني إمضاؤه لسلوك آخر فاقد لذلك الملاك مع كونه حصل بسبب الغفلة أو الخطأ، ولذا اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات والشرعيات والتطبيقات الصغروية. نعم، إمضاء السيرة لملاك فيها سبب لتعميم الإمضاء لكل ما كان فيه الملاك.

ص: 258


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 68-69.

الإشكال الثاني: وجود الردع عن هذه السيرة بشكل عام، وذلك في النهي عن العمل بغير علم.

وفيه: إن الاستدلال بها خلف؛ لأنها ظاهرة في المنع، فالاستدلال بها على عدم حجية الظواهر يستلزم عدم حجيتها أيضاً، فيلزم من حجيتها عدم حجيتها وهو خلف.

إن قلت: يمكن دفع الخلف بأن السيرة العقلائية على حجية ظاهر الأدلة المانعة، ومنعها لا يشمل نفسها لئلا يلزم المحذور، بل المنع خاص بسائر الموارد.

قلت: إن المنع عن الظن بالظهور يكشف عدم الإطلاق في الأدلة المانعة فهو إما قرينة عرفية على عدم إرادة الظهورات من الظن الممنوع حجيته، وإما سبب لانصراف اللفظ عن الظهور.

الإشكال الثالث: وجود الردع عنها في موارد خاصة، مما يكتشف منه منع الشارع عن الملاك الذي هو فيها، فلا يختص المنع بتلك الموارد، وذلك كالردع في رواية أبان بن تغلب في دية أصابع المرأة، حيث حكم (علیه السلام) بأن دية ثلاثة أصابع ثلاثين بعيراً، ودية أربعة أصابع عشرين بعيراً(1)، حيث إن هنا ظهور لدلالة التزامية عرضية بأن الدية تكون أكثر لو كانت الجناية أكبر.

وفيه: أنه ليس نهياً عن العمل بالظهور في الدلالة الالتزامية، بل هو ذم للعمل بالقياس، وكذا ذم ردّ النص الصحيح لمجرد مخالفته للذوق من غير

ص: 259


1- الكافي 7: 299-300؛ وسائل الشيعة 29: 352.

أن تكون هناك دلالة التزلية، حيث إنه تطبيق خاطئ لقاعدة أنه «لا تكون عقوبة الأكثر أقل من عقوبة الأقل»، والغفلة عن أن العقوبات الشرعية غير خاصة بالعقوبات الدنيوية، بل لعل جمع العقوبة الدنيوية مع الأخروية يجعل عقوبة الأكبر أكثر، وحتى لو كان في غير العقوبة كما في جناية الخطأ - حيث إن الدية ليست عقوبة - إذ لا مانع من كون أثر الأكثر أقل من أثر الأقل لمصلحة أخرى أهم، فتأمل.

الدليل الثالث: الروايات الدالة على حجية الظواهر التي في بعضها الأمر بالتمسك بالقرآن والروايات، ومن مصاديق التمسك العمل بالظاهر، بل هو أجلى المصاديق، وبعضها تُرجع إلى الكتاب لاستنباط أحكام فقهية منه، وهذه الروايات متواترة وكثرتها توجب القطع بظواهرها، بل بعضها نص في المطلوب، فلا دور.

وأشكل عليه: بأن مرجع ذلك إلى بناء العقلاء، فهذه الروايات إنما هي إمضاء لسيرتهم قولاً.

وفيه: إن دلالة أكثرها على الحجية دلالة التزامية، أو تضمنية فلا دلالة لها على كونها للإمضاء القولي لسيرة العقلاء، فتأمل.

المبحث الثاني: في الشك في إرادة المتكلم للظهور

اشارة

لا يخفى أن الكلام ليس في الدلالة التصورية، التي هي دلالة اللفظ على معناه، وهو يتوقف على العلم بالوضع، وتكون هذه الدلالة حتى لو لم يرد المتكلم المعنى أو صدرت عن غير مدرك كالنائم، كما أنه ليس الكلام في الدلالة التصديقية الأولى، التي هي في ما أراد المتكلم إخطار المعنى في

ص: 260

ذهن السامع، وهي ما يعبّر عنه بالإرادة الاستعمالية، فلا دلالة تصديقية لو لم يكن المتكلم مدركاً أو لم يرد الإفهام أو نصب قرينة على الخلاف، وإن بقيت الدلالة التصورية، وهنا لا بد من إحراز كون المتكلم في مقام إخطار المعنى في ذهن السامع.

وإنما الكلام في الدلالة التصديقية الثانية، بمعنى إرادة المتكلم للمعنى بالإرادة الجدية، ولا بد في هذه الدلالة من عدم نصب قرينة منفصلة على خلاف الظاهر، فإن القرينة المنفصلة لا تمنع انعقاد ظهور الكلام في المراد الاستعمالي إلاّ أنها تمنع عن الإرادة جداً، فلا يكون الكلام حينئذٍ حجة في معناه الظاهر فيه، فلا بد من إحراز كون المراد جداً.

أما كيفية إحراز ذلك فهو الأصل العقلائي في تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية، كما مرّ تفصيله.

فإن تمّ الإحراز فلا كلام، إنما الكلام في حالة الشك، ومنشؤه إما عدم ظهور للكلام فلا تعرف الإرادة الاستعمالية، وإما احتمال عدم إرادة الظاهر بالإرادة الجدية، فهنا مقامان:

المقام الأول: في عدم انعقاد ظهور للكلام
اشارة

وسبب ذلك...

1- إما عدم العلم بالوضع فيكون الكلام مجملاً ويلحقه حكم المجمل، أو عدم العلم بحدود الوضع مع العلم به في الجملة، فحينئذٍ يؤخذ بالقدر المتيقن ويتم إجراء الأصول العملية في غيره، فالمتيقن من الصعيد - مثلاً - هو التراب الخالص فيؤخذ به، وأما سائر وجه الأرض فيجري فيها الأصول كالاحتياط أو الاستحباب باختلاف الموارد.

ص: 261

2- وإما احتمال قرينية الموجود، كالاستثناء المتعقب لجمل متعددة، حيث يحتمل رجوعه إلى غير الأخيرة أيضاً ويصلح قرينة! فحينئذٍ إن لم يخلّ هذا الاحتمال بالظهور فلا بد من الأخذ به، وإلاّ فكالسابق من الأخذ بالقدر المتيقن إن كان وفي غيره العمل بالأصول.

3- وإما احتمال وجود القرينة، فلا يعتنى بهذا الاحتمال إما لحجية الظهور مباشرة أو لأصالة عدم القرينة وبها يتحقق الظهور، ثم أصالة الظهور وحجيته، والأقرب الثاني فالعقلاء يجرون أصالة عدم القرينة أولاً ولو ارتكازاً وبذلك يتحقق الظهور الذي هو موضوع أصالة الظهور، والفرق يظهر في لزوم الفحص عن القرينة بناءً على الثاني وعدمه بناءً على الأول.

فرع

في تقطيع الأخبار حيث يحتمل اختفاء قرائن في الكلام سياقية أو لفظية، بحيث لو وصلت إلينا لم ينعقد ظهور للكلام أو انعقد في خلاف ما هو ظاهر بعد التقطيع.

والمشهور عدم الإشكال بذلك، وقيل: بأنه كلّما لا يكون اللفظ ظاهراً فيه على تقدير وجود القرينة فلا يمكن الأخذ به مع احتمالها.

وأشكل عليه: أولاً: بمعرفة المقطعين بأساليب الكلام وورعهم، وذلك يمنع عن إخفاء القرائن المغيّرة للظاهر.

إن قلت: إن الاجتهادات قد تختلف في قرينية بعض الأمور، فمعرفتهم بأسلوب الكلام وورعهم، لا يمنع عن هذا الاحتمال.

قلت: قد أجيب عن ذلك بحجية حدس خبير على آخر خاصاً في ما

ص: 262

تعذر تحصيل العلم فيه، فرؤية أصحاب المجاميع عدم قرينية شيء كافٍ في جواز اتباعهم في ذلك حتى لسائر الفقهاء، أو يقال: إن حدس الخبير وإن لم يكن حجة على خبير آخر، إلاّ أن ذلك لا يجري في الحدس القريب من الحس، وما نحن فيه كذلك، والبحث هنا مبنوي موكول إلى محله.

وثانياً: عدم اعتناء العقلاء بهذا الاحتمال، فلا يرتبون عليه أثراً في نظير المقام، بل حتى لو فرض العلم بوجود قرائن لم تصلنا فإنه غير مخلّ إما لعدم كونها شبهة محصورة، أو لعدم تنجزها حتى وإن كانت محصورة؛ وذلك لاحتمال كون تلك القرائن تتعلق بغير أخبار الأحكام، وعلى كلا الفرضين لا أثر لهذا العلم الإجمالي.

المقام الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدية بالظاهر

وسبب الشك...

إما الغفلة عن نصب القرينة الصارفة، أو عدم المصلحة في نصبها، أو نصب قرينة منفصلة لم نعثر عليها.

والأقوال في المسألة متعددة، منها:

القول الأول: عدم الاعتناء بهذه الاحتمالات وإجراء أصالة الظهور؛ لأن بناء العقلاء على العمل بالظاهر، ويجري هنا القولان السابقان، أحدهما: إجراء الأصول العقلائية من عدم الغفلة وعدم القرينة ونحو ذلك، حيث ينقح بذلك موضوع أصالة الظهور ثم إجراء أصالة الظهور، والآخر إجراء أصالة الظهور مباشرة.

ص: 263

القول الثاني: التفصيل بين من قُصد إفهامه فالظاهر حجة له، وبين من لم يُقصد إفهامه فلا.

واستدل له: بأن مناط حجية الظواهر خاص بالأول؛ وذلك لأنه تجري في المتكلم والسامع أصالة عدم الغفلة عن نصب أو الالتفات إلى القرينة، ومع عدم الغفلة لا وجه لعدم نصبها لو لم يكن المتكلم مريداً للظاهر، بل كان ناقضاً للغرض لولا النصب، وأما فيمن لم يقصد بالإفهام فلا يكون المتكلم ناقضاً للغرض لو نصب القرينة لخصوص من قصد إفهامه مع عدم ذكر القرينة لمن لم يُقصد بالإفهام، وليس هناك أصل عقلائي ينفي احتمال نصب قرينة لخصوص المقصود بالإفهام.

ويرد عليه الإشكال كبرى وصغرىً:

1- أما الإشكال الصغروي، فإن عامة الناس مقصودون بالإفهام في الآيات والروايات سواء المشافهون أم الغائبون عن مجلس الخطاب أم الأجيال اللاحقة؛ وذلك لأن قاعدة الاشتراك في التكليف قاعدة متفق عليها، ولا تتم هذه القاعدة إلاّ بحجية الظواهر للجميع؛ إذ لاطريق آخر لمعرفة الأحكام المشتركة لو لم يكن الظاهر حجة.

لا يقال: هناك طريق آخر لتصحيح قاعدة الاشتراك عبر إثبات حجية الظن المطلق من باب الانسداد، كما سلكه بعض القائلين بعدم حجية الظواهر لغير المشافهين!

فإنه يقال: لازم ذلك عدم حجية الظواهر لو لم يحصل الظن منها أو تحقق الظن بالخلاف، لو قلنا بأن نتيجة مقدمات الانسداد حجية خصوص

ص: 264

الظن الشخصي، وكذلك عدم حجية الظواهر لو تعارضت مع ظنون أخرى لم تثبت حجيتها بالدليل الخاص كالشهرة الفتوائية بناءً على أن نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن النوعي، وكلاهما مخالف للسيرة العملية للفقهاء في حجية الظواهر مطلقاً، فتأمل.

مضافاً إلى ما قيل من أن الراوي الأول الذي سمع الحديث من النبي أو الأئمة (علیهم السلام) كان مقصوداً بالإفهام، وحينما نقل إلى الراوي الثاني كان قصده إفهامه، وهكذا كل ناقل قصد فهم المنقول إليه إلى أن وصلت الأخبار إلى أصحاب المجاميع الحديثية فأودعوها في كتبهم قاصدين إفهام كل من يقرأها.

2- وأما الإشكال الكبروي: فبعدم الفرق في الحجية بين المقصود بالإفهام وغير المقصود به؛ وذلك لبناء العقلاء واتفاق العلماء وأهل اللسان على حجية الظواهر مطلقاً إذا لم يعثروا على قرينة تدل على خلاف الظاهر بعد الفحص عنها بالمقدار المتعارف إذا احتملوا وجودها أو كان من دأب المتكلم استعمال القرائن المنفصلة، كما هو دأب الشارع الأقدس.

ولذا تجد العلماء في الأحكام الجزئية يعتمدون على الظواهر في الأقارير والوصايا والعقود والإيقاعات وغيرها، حتى لو لم يكن السامع مقصوداً بالإفهام، بل حتى لو كان المقصود عدم إفهامه كالأقارير أحياناً، كما لا يقبل عذر العبد في مخالفته لو سمع مولاه يخاطب شخصاً آخر ليوصل إلى العبد رسالة فيها أوامر أو نواهي، فلا يقبل عذره بأنه لم يكن مقصوداً بالإفهام من ذلك الكلام فلم يكن الظاهر حجة له.

أما ما قيل: من أن منشأ أصالة الظهور هو كون الألفاظ كاشفة عن

ص: 265

المرادات الواقعية بحسب الوضع أو بحسب مقدمات الحكمة، وهذا المنشأ موجود فيمن لم يُقصد إفهامه!!

فللخصم أن يجيب بأنه مصادرة؛ إذ هو تكرار للمدعى، حيث الكلام في أن هذا الكشف هل هو خاص بمن قصد بالإفهام أم عام له ولغيره.

وكذا ما قيل: من دفع احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة معهودة بينه وبين من قُصد إفهامه؛ إذ يوجد ظهور لحال المتكلّم في الجري وفق التعبير العرفي في كلامه، أو بأن الأصل عند العقلاء هو استعمال المتكلم للمنهج العرفي في الكلام والمحاورة إلاّ لو ثبت اعتماده على طريقة خاصة.

فإن للخصم أن يجيب بأنه: مصادرة أيضاً؛ لعدم قبوله بكون المنهج العرفي ذلك، فتأمل.

القول الثالث: التفصيل بين الظن الشخصي طبقاً للظاهر فهو حجة، وعدمه فلا حجية، وقد يقال: يكفي في الحجية عدم الظن بخلاف الظاهر سواء ظن بالوفاق أم شك.

واستدل له: بأن مبنى حجية الظاهر هو بناء العقلاء، وهم لا تعبّد لهم في أمورهم المرتبطة بحياتهم، بل هناك أسباب لبنائهم يدور البناء مدار تلك الأسباب بنحو العلة لا الحكمة، وسبب عملهم بالظاهر هو كشفه عن الواقع، فإذا ظنوا بالخلاف أو شكوا فلا يعملون بالظاهر وذلك لانتفاء الكاشفية حينئذٍ، والشاهد على ذلك أنه لو كتب تاجر إلى آخر بكتاب ظاهره انخفاض الأسعار وظن المكتوب إليه أن ظاهر الكلام غير مراد فإنه لا يعمل به، بل يحتاط، ولو عمل ثم تبيّن عدم إرادة الظاهر لا يعتبره العقلاء معذوراً،

ص: 266

بل يُلام على مخالفته لظنه.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: بالفرق بين الظهورات التي هي في مقام المولوية والاحتجاج في الموالي والعبيد، وبين الظهورات في غير هذا المقام، وبناء العقلاء هو حجية الظهورات مطلقاً لو كانت في مقام المولوية والاحتجاج حتى لو حصل ظن شخصي بالخلاف، وأما الظهورات في غير هذا المقام فبناؤهم على العمل بها لو أورثت الاطمئنان.

ولعل السرّ في ذلك(1): هو أن إيكال الأمر إلى ظن المكلّف في مقام المولوية والاحتجاج، لا يخلو من محذور تفويت الأغراض الواقعيّة في كثير من الأحيان، فقد لا يحصل للمكلّف ظن بالوفاق وقد يحصل له ظن بالخلاف، وقد يتخذ ذلك مبرراً للتهرب من امتثال الأوامر المولوية، واعتبار الظهور حجة مطلقاً وإن كان ربّما يؤدي إلى الوقوع في مخالفة الواقع إلاّ أنّه أخف المحذورين، وهذا جارٍ في كثير من القوانين العقلائية، فقانون المرور - مثلاً - إذا أوكل إلى ظن المكلّف وتشخيصه للضرر يوجب مخالفة الواقع كثيراً، وأما اطراد الحكم فهو وإن أوجب بعض الضرر كإتلاف وقت الناس خلف الإشارة الحمراء، إلاّ أنه أهون المحذورين، فيرجح العقلاء الأول.

والحاصل: أن الكاشفية في مقام المولوية والاحتجاج حكمة لا علة، وإن شئت فقل هي علة الجعل لا المجعول، وبعبارة أخرى: إصابة الظن

ص: 267


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 207.

النوعي للواقع أكثر من إصابة الظن الشخصي، فلذلك قدّم العقلاء ما هو أقوى ملاكاً، وصار بناؤهم على حجية الظواهر مطلقاً في مقام المولوية والاحتجاج.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(1): إن لازم ذلك سدّ باب التعارض في الأخبار بالمرّة، وإلغاء مبحث التعادل والتراجيح من الأصول رأساً، لاستحالة الظن الفعلي بالمتنافيين كي ينتهي الأمر إلى الترجيح أو التخيير؛ إذ لا يخلو: إما أن لا يفيد واحد منهما الظن بالمراد، وإما أن يفيده أحدهما دون الآخر، وعلى التقديرين لا ينتهي الأمر فيهما إلى التعارض لانتفاء ملاك الحجية فيهما في الأول، وكونه من باب تعارض الحجة واللاحجة في الثاني.

ولا يخفى أن هذا الإشكال إنما يجري لو قلنا بلزوم الظن بالوفاق في الحجية، وأما على القول بكفاية عدم الظن بالخلاف فلا؛ إذ يجري بحث التعارض في ما لو شك في الدليلين.

الإشكال الثالث: سيرة المتشرعة، والأدلة الروائية الدالة على حجية الظواهر مطلقة بلا فرق بين الظن بالوفاق أو الخلاف أو عدم الظن، ولذا لم نجد فقيهاً ردّ رواية معتبرة بسبب عدم الظن بظاهرها، وادعاء حصول الظن بالوفاق دائماً أو عدم الظن بالخلاف كذلك مجازفة.

المبحث الثالث: في حجية ظواهر الكتاب

زعم البعض بأنه لا حجية لظواهر الكتاب قبل تفسير النبي والآل (عليه

ص: 268


1- نهاية الأفكار 3: 89.

وعليهم الصلاة والسلام)، واستدلوا لذلك بوجوه ضعيفة، منها:

الوجه الأول: الردع عنه في روايات متواترة، وحيث كان دليل الحجية بناء العقلاء ومن شروطه عدم الردع، فإن وجود الرادع يكفي في عدم الحجية، كما مرّ.

ومن الروايات الرادعة روايات دلت على أن فهم القرآن مختص بمن خوطب به و هم الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، وأن الله تعالى لم يورث الآخرين في فهمه جزماً، فراجع الروايات في كتاب رسائل الشيخ الأعظم وغيره(1).

والجواب: أولاً: أن المراد بالروايات الرادعة هو أن المعرفة التفصيلية ومن كل الجهات مختصة بهم (علیهم السلام) وهذا لا يعني عدم معرفة غيرهم أيّ شيء، ولذا نجد أن كثيراً من بيانهم وتفسيرهم (علیهم السلام) متطابق مع الظاهر، بمعنى أنه يفهم ذلك الظاهر كل من يعرف اللسان حتى قبل ورود التفسير منهم، وتفسيرهم تأكيد لما يفهمه الآخرون أيضاً، مضافاً إلى أن الكثير من هذه الروايات ظاهرة في أن المراد الفهم العام من كل الجهات، كقوله (علیه السلام) في تفسير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَٰبِ}(2): «إيانا عني»(3)، وكذلك قوله (علیه السلام) لأبي حنيفة: «ما ورثك الله من كتابه حرفاً»(4)، بعد ادعائه معرفة الناسخ

ص: 269


1- فرائد الأصول 1: 139-142.
2- سورة الرعد، الآية: 43.
3- الكافي 1: 229؛ وسائل الشيعة 27: 181.
4- علل الشرائع 1: 90؛ وسائل الشيعة 27: 48.

والمنسوخ وغير ذلك، فإن مقام الفتوى بحاجة إلى معرفة الكتاب حق المعرفة، وذلك لا يتيسّر إلاّ بضم القرائن المنفصلة إلى الظاهر، التي تميّز الناسخ عن المنسوخ، والعام عن الخاص، والمحكم عن المتشابة وغير ذلك.

وثانياً: إن حجية ظواهر القرآن من المرتكزات في أذهان المتشرعة، ولو كان هناك ردع عنه مطلقاً لكان اللازم كثرة الردع عنه، كما في القياس، حيث إن عليه بناء العقلاء، لكن حيث ردع عنه الشارع أكثر الأئمة (علیهم السلام) من الردع بحيث وصلتنا روايات متواترة صريحة، وحجية ظاهر الكتاب أكثر ارتكازاً في أذهان المتشرعة، فلو كان هناك ردع لأكثروا من بيانه صريحاً ولوصل إلينا متواتراً، وليس الأمر كذلك، بل لا توجد ولا رواية واحدة صريحة في الردع.

وثالثاً: إثبات متواتر الروايات لمرجعية القرآن في الأحاديث المتعارضة، بل كل حديث يخالف القرآن يضرب به عرض الجدار، ولو لم يكن ظاهره حجة لزم الدور في الأحاديث الأولى، واللغو في الثانية؛ إذ لا يكون الظاهر حينئذٍ حجة حتى يعارضه الخبر، فتأمل.

الوجه الثاني: احتواء القرآن على مضامين شامخة عالية لا تصلها عقولنا، فكان لا بد من تفسير النبي وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام).

وفيه: أن شموخ المضامين لا ينافي حجية الظاهر، فالظاهر شامخ لكنه يسّره الله تعالى للفهم وهو حجة، ثم هناك معاني شامخة تحتاج إلى تدبر كما يصنعه الفقهاء في استنباط بعض دقائق المسائل الفقهية بالتدبر في بعض الآيات، وكذلك علماء الأصول والكلام وغيرهم، وهذا لا ينافي

ص: 270

وجود باطن شامخ أيضاً محجوب عنا معرفته إلاّ بالمقدار الذي بينه لنا الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، وهذا الباطن لا يتعارض مع الظاهر أبداً فلا منافاة.

الوجه الثالث: إن الظاهر هو من المتشابه، وقد تمّ المنع عن اتّباع المتشابه في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}(1).

وأشكل عليه: أولاً: صغرىً بعدم كون الظاهر من المتشابه؛ وذلك لأن المتشابه ما اشتبه معناه وذلك لا يكون إلاّ في المشترك اللفظي مع عدم القرينة أو المجمل أو المجاز المشهور الذي تساوى مع الحقيقة بحيث كان التمييز بينهما بالقرينة، وليس اللفظ الظاهر في معنى من المشتبه المعنى.

وفيه: أن بعض الظواهر من المشتبهات التي ما أريد معانيها كقوله تعالى: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(2) فهي ظاهرة في الرؤية البصرية إلاّ أنها آية متشابه أريد منها خلاف الظاهر وهو انتظار رحمة الله تعالى؛ وذلك لدلالة العقل والنص بعدم إمكان رؤيته تعالى، وإرجاع هذه الآية المتشابهة إلى آياتٍ محكمةٍ كقوله: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ}(3) وقوله: {لَن تَرَىٰنِي}(4).

فالأقرب أن المتشابه هو المجمل أو كل ما لم يُرَدْ ظاهره - ولم يكن من

ص: 271


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة القيامة، الآية: 23.
3- سورة الأنعام، الآية: 103.
4- سورة الأعراف، الآية: 143.

قبيل إرادة الخاص أو المطلق - ، فهناك تباين بين معنى (المتشابه) و(الظاهر) والنسبة بينهما العموم من وجه، يفترقان في المجمل وفي الظاهر المراد، ويجتمعان في الظاهر غير المراد في غير التخصيص والتقييد.

وعليه فلا يصح الاستدلال لأنه من الاستدلال على منع شيء بمنع مباينه، فتأمل.

وثانياً: كبرىً بعد فرض تسليم شمول المتشابه للظاهر، بعدم بقاء متشابه في القرآن بعد بيان الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، فخرجت سائر الظواهر عن المتشابه حكماً وإن كانت داخلة فيه موضوعاً بالفرض، أو يقال: إنه بعد إرجاع المتشابهات إلى المحكمات يتبيّن معناها المراد منها فيجوز حينئذٍ العمل بها، فالمتشابه المذكور إنّما هو المتشابه بالذات والذي ارتفع تشابهه بالبيان.

إلاّ أنه قد يقال: بأن التشابه قد ارتفع في المعنى ولم يرتفع في الحدود في مثل ظهور: {تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ}(1) في الإطلاق.

وثالثاً: لزوم الخلف في الاستدلال بهذه الآية على عدم حجية الظواهر؛ وذلك لأن هذه الآية لفظ المتشابه ليس نصاً في الظاهر وإنما ظاهر فيه - على الفرض - ، فإثبات عدم حجية الظواهر بهذه الآية يستلزم عدم حجيتها في المنع عن العمل بالظاهر، وهو خلف.

إن قلت: النهي لا يشمل خصوص هذا الظاهر، للزوم المحذور العقلي، ولا محذور في شمولها لسائر الظواهر، فإن المحذورات العقلية ترفع الحجية

ص: 272


1- سورة النساء، الآية: 29.

بمقدارها لا أكثر.

قلت: الردع عن شيء بإحدى مصاديق ذلك الشيء غير عرفي، فالنهي عن الظاهر بالظاهر غير مراد، ويكون ذلك قرينة على عدم شمول المتشابه للظاهر.

ورابعاً: إمكان جواب استدلال الأخباريين بأنهم يعتبرون الآيات حجة بعد ورود البيان عن المعصومين، وقد ورد البيان بأن (متشابهات) في هذه الآية يراد بها بعض أئمة الضلال(1)، ولم يرد تفسيرها بالظاهر.

تتمة

قيل: إن احتمال شمول المتشابه للظاهر قادح في حجيته، لوجهين:

أحدهما: اليقين باشتغال الذمّة بالنهي عن اتّباع المتشابه، فلا بد من الاحتياط في كل مشكوك كونه متشابهاً.

وفيه: عدم شمول قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية) لما نحن فيه، لكونه شكاً في الموضوع، وفي مثله تجري البراءة، كمن شك في كون هذا المائع خمراً أم لا فتجري أصالة البراءة، وأصله هو أن الاشتغال إنّما يكون بالبعث مع العلم بالحكم، ولا يكون في الزجر مع الشك في الموضوع.

والآخر: أن احتمال كونه متشابهاً يوجب الشك في حجيته، وقد مرّ أن الشك في الحجية مسرح عدم الحجيّة.

ص: 273


1- الكافي 1: 415؛ بحار الأنوار 23: 208.

وفيه: أن المجمل الدائر بين الأقل والأكثر ليس بحجة في الأكثر، وحيث إن للمتشابه أفراد مقطوعة فلا يكون حجة في الأفراد المشكوكة، فتندرج في حجية الظواهر، وبعبارة أخرى: بعد أن ثبت حجية الظواهر بإمضاء الشارع فلا يضر في الحجية مجرد احتمال الردع، ولذا يصح احتجاج المولى على العبد لو خالف العبد ظاهر الكلام لاحتماله الردع عنه.

الوجه الرابع: العلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد ونحوهما على كثير من الظواهر، وحيث تنجز العلم الإجمالي فلا بد من الاحتياط وعدم العمل بها!

الجواب: هو انحلال العلم الإجمالي، وقد تمّ بيانه بطرق ثلاث:

الطريق الأول: الانحلال الحقيقي بالانطباق القطعي، أي انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قطعاً؛ وذلك لأن علمنا الإجمالي بمقدار خلاف الظاهر إنّما هو بالمقدار الذي بينته الروايات التي في أيدينا، ولا علم لنا بما سوى ذلك، بل مجرد احتمال وجود روايات تدل على خلاف الظاهر لم تصل إلينا، وبعبارة أخرى: دائرة العلم الإجمالي ضيقة بمقدار ما بأيدينا من الروايات الشارحة، وينحل العلم الإجمالي بالفحص فيها ووجدان المقدار المعلوم بالإجمال قطعاً.

الطريق الثاني: الانحلال الحقيقي بالانطباق الاحتمالي، بأن نعلم بيان خلاف الظاهر في مجموع الروايات - سواء الواصلة أم غير الواصلة - وبوجدان موارد من خلاف الظاهر في الروايات التي بأيدينا نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، ويكفي احتمال الانطباق في

ص: 274

الانحلال على المبنى.

الطريق الثالث: الانحلال الحكمي - لو لم نقل بالانحلال الحقيقي - وإنما يكون انحلال حكمي لو كان المكلف غافلاً عن تحقق موضوع الحكم في بعض الأطراف، ثم يحصل له العلم الإجمالي وينجز، ثم يلتفت إلى تحقق الموضوع سابقاً في أحد الأطراف، كما لو سقطت قطرة دم في أحد الإنائين فتنجز العلم الإجمالي بوجوب اجتنابهما، ثم علم بأن أحد الإنائين المعيّن كان نجساً بقطرة أخرى، فلا مورد لاستصحاب الطهارة فيه، فيجري استصحاب الطاهرة في الإناء الآخر من غير معارض.

وهكذا في ما نحن فيه، حيث إن تعارض أصالة الظهور في الظواهر المرادة وغير المرادة صار سبباً لتساقطها، وبعد الظفر بموارد التخصيص والتقييد ونحوها تسقط أصالة الظهور فيها، وتبقى الأصالة سليمة عن المعارض في سائر الظهورات!

إن قلت: اشتهر أن الأصل الميت لا يُحيى، وأنه إذا تنجز العلم الإجمالي تساقطت الأصول في الأطراف، فلا يرجع الأصل بعد ذلك أبداً، وبعبارة أخرى: شرط الانحلال الحكمي هو سبق المنجّز الشرعي على حدوث العلم الإجمالي، كما لو علم بنجاسة أحدهما المعيّن بالبول، ثم سقطت قطرة دم في أحدهما غير المعيّن، وحينئذٍ لا يتنجز العلم الإجمالي لعدم العلم بحدوث تكليف جديد، وما نحن فيه من قبيل تأخر العلم الإجمالي.

قلت: مع قطع النظر عن البحث المبنوي، فإن هذا الإشكال خاص بالأصول العملية، لا الأمارات؛ وذلك لسبق وجود الحجة؛ لأن إمكان

ص: 275

وصولها بالفحص يكفي في تنجزها، وبعبارة أخرى: في تمامية الحجة يكفي الحجة بوجودها الواقعي مع كونها في معرض الوصول إلى المكلّف، فالظفر بالحجة متأخر عن العلم الإجمالي وأما الحجة فهي متقدمة، فتأمل.

الوجه الخامس: ما ورد في النهي عن التفسير بالرأي، وحمل اللفظ على ظاهره منه.

ويرد عليه: أولاً: إن ذلك ليس تفسيراً ولا بالرأي؛ لأن (التفسير) هو كشف القناع عمّا عليه القناع، والظاهر لا قناع عليه، فلو عمل العبد بظاهر كلام مولاه لا يقال إنه فسّره، وكذلك (الرأي) لا يطلق على حمل اللفظ على ظاهره، بل على ما كان خلافاً للظاهر، والحمل عليه إما لتأييد ما يعتقده مسبقاً فيريد ليّ النص ليتطابق مع معتقده، وإما لأجل أن ذوقه أو هواه مع شيء فيحمل القرآن عليه حتى لو كان مجملاً أو خلاف الظاهر.

وثانياً: لو فرض أن الحمل على الظاهر من التفسير بالرأي، فأدلة العمل بظاهر القرآن - من حديث الثقلين وأحاديث العرض ونحوها - إمّا أخص من الأدلة الرادعة عن التفسير بالرأي لشمولها لحمل المشترك على إحدى معنييه من غير قرينة، ولحمل اللفظ على خلاف ظاهره، وللمجمل من غير تبيين، فيخص بها أدلة المنع، وإمّا النسبة العموم من وجه لو قلنا بأن أدلة العمل شاملة للنص أيضاً فيتعارضان في مورد الاجتماع - وهو حمل اللفظ على ظاهره - وبعد التساقط إما يكون المرجع السيرة العقلائية التي لم يثبت الردع عنها حينئذٍ أو استصحاب الحجية الثابتة قبل صدور روايات الردع، فتأمل.

ص: 276

الوجه السادس: زعم التحريف، حيث زعم سقوط كثير من الآيات ولعل في الساقطة قرينة على عدم إرادة الظاهر في الموجودة!!

وفيه: أولاً: عدم وقوع التحريف أبداً لا بسقوط ولا بتصحيف ولا بتغيير مادة أو هيأة، فالقرآن الذي بأيدينا هو هو كما نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وثانياً: على فرض المحال من وقوع التحريف فنقول: إن العلم الإجمالي صغير منذ البداية وهو ينحل بالفحص، أي نحن نعلم بأن الآيات التي يراد بها خلاف الظاهر موجودة في الآيات الموجود بأيدينا، وبالفحص في الروايات وسائر الآيات وجدنا موارد إرادة خلاف الظاهر من التخصيص والتقييد ونحوهما، وأما الآيات المزعوم سقوطها فلا علم إجمالي بوجود قرائن فيها تدل على إرادة خلاف الظاهر في الآيات الموجودة!

هذا مضافاً إلى القطع بأن الروايات بينت القرائن فحتى لو فرض سقوط قرينة من الكتاب فإن تلك القرينة قد بينها الأئمة (علیهم السلام) في كلامهم.

تكملة

قد يقال: إن الخلاف في حجية ظواهر الكتاب قليل الجدوى؛ لأن جلّ الآيات المتعلقة بالأصول أو الفروع مجملة لا ظاهر لها فلا بد من الرجوع إلى تفسير الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) ، مضافاً إلى أنه لو كانت ظاهرة فقد وردت روايات كثيرة في تفسيرها أو متوافقة مع حكمها.

ويرد عليه: أن الروايات الواردة في المعاملات قليلة، وهناك أحكام كثيرة فيها تستفاد من إطلاق الآيات والتي لم يرد في تفسيرها أو في الحكم المتطابق معها رواية، كما أن هناك في بعض الأحكام روايات متعارضة

ص: 277

فعلى مبنى التساقط والرجوع إلى الأدلة الأخرى يكون المرجع أحياناً إطلاق الآيات، وهناك أمثلة كثيرة مبثوثة في الفقه، وقد ذكر السيد الأخ في تبيين الأصول سبعة وثلاثين مسألة منها، فراجع(1).

مضافاً إلى أن هناك بعض مسائل العبادات لم يرد فيها حديث مع وجود إطلاق آية وإمكان التمسك به، كالاستدلال بعدم جواز الوضوء بالماء المضاف بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ}(2).

تنبیهات

التنبیه الأول: الشك في تطابق الظهور الشخصي والنوعي

في ما لو شك في تطابق الظهور الشخصي مع الظهور النوعي.

وحيث قد ذكرنا أن ملاك الحجية هو الظهور النوعي، فإن علم به فهو، وإن لم يعلم به فالظهور الشخصي طريق عقلائي إلى الظهور النوعي، لبناء العقلاء على المطابقة بينهما، وقيل في سبب هذا الأصل العقلائي: إن الطبيعة الأولية للذهن هي السلامة من الشذوذ في الفهم والاعوجاج في السليقة، فيكون الذهن عرفياً ومتطابقاً للأذهان العرفية عادة، والحاصل: أن الظهور الشخصي كاشف عن الظهور النوعي، وهو كاشف عن مراد المولى.

نعم، لو علم بمخالفة الظهور الشخصي للظهور النوعي، فلا بد له من اتباع الظهور النوعي؛ وذلك لأن الظهور النوعي طريق إلى اكتشاف مراد المولى لا الظهور الشخصي، حيث إن المولى يتكلم بطريقة الناس

ص: 278


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 193-198.
2- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.

لإفهامهم، لا بطريقة شاذة لأحدهم.

ثم إنه حين الشك في المطابقة فإن الأصل وإن كان المطابقة، إلاّ أن العقلاء إنما يجرونه بعد الفحص؛ وذلك للزوم الفحص في الشبهات الحكمية، فكما لا يصح العمل بالدليل العام قبل الفحص عن الخاص ونحوه كذلك في ما نحن فيه.

وطريقة الفحص إما بالتحقيق الميداني لمعرفة العرف أو عن طريق معرفة فهم الفقهاء، وإطباقهم على فهم معنى دليل على كونه هو المعنى العرفي المراد.

التنبیه الثاني: لو تردد الخاص بين كونه فرداً للعام أو لا

لو صدر حكم للعام، ثم صدر حكم يضاده لفرد، وتردد أمره بين كونه فرداً للعام أو لا، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً) وتردد زيد بين زيد العالم وزيد الجاهل، فهل أصالة العموم تعيّن زيداً في الجاهل؟

مقتضى القاعدة هو الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي، ففي المثال لا يجوز إكرامهما معاً، ولا ترك إكرامهما معاً لاستلزامه المخالفة القطعية، بل يكرم أحدهما ويترك إكرام الآخر مخيراً؛ وذلك لتحصيل الموافقة الاحتمالية بعد عدم إمكان إحراز الموافقة القطعية.

إلاّ لو انحلّ العلم الإجمالي، كما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، فإن دليل العام ينفي الحرمة عن أحد طرفي العلم الإجمالي - وهو زيد العالم - ويوجب اختصاص الحرمة بالطرف الآخر، فمقتضى أصالة العموم شمول

ص: 279


1- أجود التقريرات 2: 318.

حكم وجوب الإكرام لزيد العالم في المثال، وهذا يلازم حرمة إكرام زيد الجاهل، حيث إن مثبتات الأصول اللفظية حجة.

ولا يخفى أن هذا مختص بما إذا كان الخاص المشكوك منفصلاً، وأما في المتصل فلا ينعقد ظهور في العموم مع احتمال قرينية الموجود قبل تمام الكلام، مضافاً إلى التأمل في إجراء العقلاء أصالة العموم هنا.

التنبیه الثالث: في أصالة عدم النقل
اشارة

في أصالة عدم النقل: حيث إن اللغات متحركة في طول الزمان، فالمناط هو الظهور في زمان صدور الكلام، لا غيره من الأزمنة؛ وذلك لأن أصالة الظهور أصل عقلائي ومنشؤها ظهور حال المتكلم في إفهام مرامه للمستمعين وأنه استعمل أساليب كلامهم وراعى فهمهم.

ثم إنه لا كلام في ما لو علمنا عدم تغيّر الظهور أو علمنا تغيّره، وإنما الكلام في ما لو شككنا في ذلك، فكيف نحرز ظهور زمان الصدور بعد أن لم يكن ظهور زماننا حجة؟

لا يخفى عدم جريان الاستصحاب القهقرائي لعدم توفر أركان الاستصحاب فيه فلا يقين سابق ولا شك لاحق، بل الأمر بالعكس، كما

لا يجري استصحاب عدم النقل لعدم اليقين السابق بالظهور في زمان الصدور، وكونه مثبتاً لو أريد استصحاب العدم الأزلي، حيث إن الأثر

- الذي هو الحجية - لا يترتب على عدم النقل مباشرة، بل على الظهور في زمان الصدور.

بل الدليل هو أصالة عدم النقل، وهي أصل عقلائي، ونكتة هذه السيرة العقلائية في أن تغيير الظهورات أو المعاني قليل، فالأخذ بظهورات

ص: 280

النصوص القديمة مع احتمال تغيّر بعضها أولى من إلغائها بذريعة احتمال تغيّر البعض.

تكملة: لو علمنا بالنقل وشككنا في تقدمه أو تأخّره

هل تجري أصالة عدم النقل لو علمنا بالنقل وشككنا في تقدمه على الاستعمال أو تأخره عنه، كما لو علمنا بحقيقة شرعية أو متشرعية وشككنا في أن استعمال الكلمة كان قبلها أم بعدها، مثلاً كلمة (الكراهة) كانت ظاهرة في المعنى الأعم من الحرام والمكروه الاصطلاحي، ثم تبدلت إلى اصطلاح شرعي في المرجوح المرخَّص فيه، فهنا حالتان:

الحالة الأولى: الجهل بتاريخ النقل والاستعمال، فلا يجرى استصحاب عدم النقل إلى حين الاستعمال، ولا العكس، لتعارض الاستصحابين، ولا تجري أصالة عدم النقل؛ لأن بناء العقلاء عليها حين الشك في أصل النقل، لا حين العلم به مع الشك في تقدمه أو تأخره.

الحالة الثانية: العلم بزمان النقل والشك في زمان الاستعمال، أو العكس.

وهنا لا يجري استصحاب المجهول إلى ما بعد زمان المعلوم، لا لكونه مثبتاً، بل لتعارض الاستصحابين.

إن قلت: يوجد يقين سابق في المعلوم فيجري، ولا يقين سابق في المجهول فلم تتم فيه أركان الاستصحاب!

قلت: بل يجري في المجهول الاستصحاب باعتبار الزمان الإضافي، والتفصيل في باب الاستصحاب.

كما لا تجري أصالة عدم النقل العقلائية؛ وذلك لأن الحجة هي الظهور

ص: 281

لا الوضع، ومع العلم بالوضع الجديد لا ينعقد الظهور أصلاً.

التنبیه الرابع: لو شاع الاستعمال المجازي

لو شاع استعمال لفظ في معناه المجازي أو في بعض مصاديق المعنى الحقيقي، فالأصح جريان أصالة الحقيقة لحمله على المعنى الحقيقي أو على المعنى العام؛ إذ مجرد احتمال قرينية كثرة الاستعمال غير مضرّ بأصالة الحقيقة.

كما أنه لو كانت كثرة الاستعمال سبباً للشك في النقل، فأصالة عدم النقل جارية عقلائياً.

ولذا ذهب المشهور إلى بقاء صيغة الأمر على الظهور على الوجوب رغم كثرة الاستعمال في الاستحباب، كما مرّ.

التنبیه الخامس: في تعارض الحقيقة العرفية مع اللغوية

لو تعارضت الحقيقة العرفية مع الحقيقة اللغوية، فالمقدّم هو الأول؛ وذلك لأن المتكلّم الحكيم إذا كان من أهل اللسان فإنما يتكلّم بحسب الفهم العرفي، حيث إنه يريد إفهام المستمعين، لا بحسب المعنى اللغوي.

نعم، لو جهلنا الحقيقة العرفية، فإن الحقيقة اللغوية طريق عقلائي إليها بمناط أكثرية التطابق بينهما.

ص: 282

فصل فی حجية قول اللغوي

تمهيد:

الحاجة إلى قول اللغوي إنما هي لو لم نعرف المعنى العرفي، بل نريد أن نتخذ اللغة طريقاً إليه، وذلك تارة يكون لفهم أصل المعنى، وأخرى لفهم حدود المعنى.

وليس الكلام في ما لو أورث كلام اللغوي العلم أو الاطمئنان، كما لا بحث في ما لو توفرت شروط الشهادة من العدد والعدالة، بل الكلام في ما لو لم يورث قوله الاطمئنان ولم تتوفر شروط الشهادة.

وقد استدل لحجيته بأمور، منها:

الدليل الأول: السيرة العقلائية في الرجوع إلى أهل الخبرة في مجال خبرتهم، وتتوفر في هذه السيرة شروط الحجية، فهي متصلة بزمان المعصومين، ولم يردعوا عنها، ولم يكن هناك مانع عن ردعهم، ومن المعلوم أن اللغوي خبير بالأوضاع.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المتيقن من السيرة هو الرجوع إلى أهل الخبرة في ما إذا أوجب قولهم الوثوق والاطمئنان، لا مطلقاً، ولا يكاد يحصل من اللغوي وثوق بالأوضاع.

وفيه: أن تتبع موارد مراجعتهم إلى أهل الخبرة يكشف عن رجوعهم

ص: 283

إليهم مطلقاً وعدم تفريقهم بين حصول الاطمئنان وعدمه، إلاّ لو علموا بخطئهم، ويدل عليه عدم قبولهم عذر من ترك كلام أهل الخبرة بذريعة عدم حصول الوثوق والاطمئنان به.

وثانياً: بأن خبرته إنما هي في مجال الاستعمال لا الوضع؛ لأنه يضبط موارد الاستعمال بالتتبّع ولا يعيّن حقيقتها من مجازها.

وفيه: إن عادتهم نقل المعاني الحقيقية حصراً، ولذا لا تراهم يذكرون في معنى الأسد الرجل الشجاع، وهكذا سائر المجازات المشهورة أو غير المشهورة.

مضافاً إلى أن الاستعمال من غير قرينة آية الحقيقة؛ وذلك لحصول التبادر من غير استناده إلى سبب يدعو إلى المجازية، وعدم التفات اللغوي للقرينة منفي بأصالة عدم الغفلة، وعدم نقله لها عمداً منفيّ بوثاقته حسب المفروض.

إن قلت: اللغوي يلاحظ موارد الاستعمال الجزئية، ثم يحدس بالجامع، فكيف يعتمد على ذلك مع إمكان الخلل في حدسه بسبب احتمال عدم علمه بسائر موارد الاستعمال، فيكون الجامع جزء من الحقيقة لا كلّها، مثلاً رأى اللغوي موارد استعمال البيع وكانت كلها تبديل بضائع بالنقود أو ببضائع أخرى، فحدس أن البيع هو مبادلة مال بمال، ولم ير استعماله في مبادلة حق بحق أو حق بمال مثلاً، فكان جامعه الحدسي عاكساً لبعض الحقيقة لا كلها؟

قلت: مجرد الاحتمال غير ضائر؛ لأن حدس الخبير حجة مطلقاً، إلاّ لو عارضه دليل أقوى أو مساوي.

ص: 284

وثالثاً: إن اللغوي ليس بخبير، بل هو مخبر؛ وذلك لأن الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الأمور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر، لا الأمور الحسيّة التي لا تحتاج إلى ذلك؛ إذ اللغوي ينقل ما سمعه أو وجده من استعمالات، وعليه فيكون كلام اللغوي داخلاً في الشهادة التي تحتاج إلى العدد والعدالة.

وفيه: إن أكثر عمل اللغوي هو الحدس، بانتزاع الجامع عن موارد الاستعمالات، وهذا الجامع قد يكون قريباً أو بعيداً.

مضافاً إلى أن المشهور كفاية إخبار الثقة الواحد في الخبر الحسي، وإنما العدد والعدالة يشترط في القضاء.

الدليل الثاني: انسداد العلم باللغات أو بخصوصيات المعاني غالباً، فيكون كل ظن حجة، وقول اللغوي يورث الظن، وقد يُقرّر الدليل بالعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في موارد الجهل بالأوضاع، ولا تجري البراءة لاستلزامها المخالفة القطعية، ولا الاحتياط لاستلزامه العسر.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم حجية الانسداد الصغير، لعدم تمامية مقدماته فيه، فلا البراءة توجب الخروج عن الدين، ولا الاحتياط يستلزم اختلال النظام أو العسر والحرج.

إن قلت: الانسداد الصغير في اللغات يؤول إلى الانسداد الكبير؛ لأن غالب الأحكام إثباتها بالدليل اللفظي من الكتاب والسنة، وغالب الألفاظ مجهولة الحدود.

قلت: اللغوي لا يتعرض إلى بيان حدود معاني الألفاظ - سعة وضيقاً - ،

ص: 285

فلو فرض الانسداد فيها فلا يحصل الظن بها من كلامه لعدم تعرضه لها.

وثانياً: عدم تحقق الانسداد الصغير؛ وذلك لأن معاني الهيئات معلوم بالاستقراء وباتفاق أهل العربية مما يورث القطع كما أن غالب المواد معانيها معلومة بالعرف أو باتفاق أهل اللغة. نعم، قد يحتاج إلى قول اللغوي في كثير من الموارد، لكنها ليس بتلك الكثرة الموجبة للانسداد.

وثالثاً: بأنه قد لا يحصل الظن من قول اللغوي، فالدليل أخص من المدعى، كما قد يحصل الظن من غيره فالدليل أعم منه.

الدليل الثالث: ما قيل: من أن الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة مطلقة، فتشمل خبره في الأحكام والموضوعات، ولذا يعتمد الفقهاء على الروايات المتضمنة لإخبار الثقة عن موضوعات الأحكام الشرعية، ولا فرق بين ذلك في الروايات أو في كتب اللغة.

مثلاً لو قال الراوي: (دخلت في يوم الجمعة على المعصوم فقال: هذا يوم عيد) فإن هذه الرواية تتضمن كلاماً للراوي بأنه كان يوم الجمعة، وكلاماً للمعصوم بأنه يوم عيد، ومع فرض وثاقة الراوي فكلا الأمرين حجة، وعلى هذا كان دأب الفقهاء.

وأشكل عليه: أولاً: إن مورد الروايات الإخبار عن الموضوعات الحسية، وأما كلام اللغوي فهو عن حدس، ولا حجية للخبر عن حدس.

وفيه: أن الحدس القريب إلى الحس مشمول لأدلة الحجية، كالإخبار عن العدالة والشجاعة وسائر الملكات النفسانية التي لا طريق للحس إليها، بل يتم الحدس بها عن طريق آثارها. نعم، أدلة حجية الشهادة منصرفة عن

ص: 286

الحدس البعيد عن الحسّ.

واللغوي يحدس بالجامع عن طريق تتبع موارد الاستعمال، وهو حدس قريب إلى الحس، كما لا يخفى.

وثانياً: باستلزامه الدور، حيث إن شمول دليل الحجية لكلام اللغوي إنما هو باعتبار أثره وهو الحكم الشرعي، ولولا ذلك لكان جعل الحجية لغواً، فحجية الخبر متوقفة على وجود الأثر، وهذا الأثر فرع الحجية ومتوقف عليها.

وفيه: أن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ لأن الأثر متقدم لحاظاً ومتأخر خارجاً، فلا دور، وهذا نظير الإثبات التعبدي لكل موضوع ذى أثر، حيث إن شمول دليل التعبد له إنما هو باعتبار آثاره الخارجية، فيلاحظ المولى الأثر فيجعل الحجية فيترتب عليها الأثر خارجاً.

وثالثا:ً إن دليل حجية الأخبار لا يشمل الموضوعات مطلقاً، إلاّ أن حجية خبر الرواة عن الموضوع بدلالة الاقتضاء، أي باعتبار حجية خبره عن الحكم، ولا يستقيم ذلك إلاّ بحجية خبره عن الموضوع، والاّ كان خبره عن الحكم مبهماً وجعل الحجية له لغواً، فمثل خبره عن الحكم بقول الإمام اغتسل في هذا اليوم، لا معنى لجعل الحجية له إلاّ مع جعل الحجية لخبره عن أنه كان يوم الجمعة مثلاً.

وفيه: عدم وجود دلالة الاقتضاء هنا؛ وذلك لأن أدلة حجية الخبر مطلقة، وهي شاملة للأخبار التي لم يُخبر فيها الراوي عن الموضوع، وهذه هي أكثر الأخبار، فلا لغوية إذا لم تشمل تلك الأدلة الروايات المتضمنة لخبر الراوي عن الموضوعات، فأقصى حدّ يمكن القول بإجمال هذه الأخبار، ولا محذور فيه، فتأمل.

ص: 287

فصل فی الإجماع

اشارة

وفيه مبحثان

المبحث الأول: الإجماع المحصّل

اشارة

ومستند حجيته أحد أمور:

المستند الأول: قاعدة اللطف

بمعنى أن حكمة الله تعالى تقتضي بأن لا يضيع حكمه الواقعي عن الناس أجمع، وحيث اتفق العلماء جميعاً على حكم علمنا أن غير ذلك الحكم ليس حكماً واقعياً لله تعالى، ولولا ذلك لكان ضياعه خلاف الحكمة، والله سبحانه منزّه عنه، فينحصر حكمه الواقعي في هذا الذي عليه الإجماع.

ويرد عليه: أولاً: أن الثابت من القاعدة هو اللطف المحصِّل لغرض الخلقة، واللطف المحصِّل لغرض التكليف، وأما اللطف بمطلق ما يقرب المكلّفين إلى الطاعة الواقعية ويبعدهم عن المعصية الواقعية فلا، وما نحن فيه من الثالث.

أما الأول: فبمعنى توقف غرض الخلقة على شيء بحيث لولاه لكان الخلق عبثاً، وهذا من أدلة اقتضاء الحكمة لبعث الأنبياء (علیهم السلام) ، فإنّ غرض الخلقة بالعبادة ومن ثمّ الرحمة يتوقف على ذلك.

وأما الثاني: فبمعنى عبثية التكليف لولاه، كالوعد والوعيد؛ إذ لا معنى

ص: 288

للوجوب والحرمة من غير ثبوت ثواب أو عقاب، وهذا أيضاً من الحكمة.

وأما الثالث: فحيث إنه ليس غرضاً للخلقة ولا للتكليف ولا ينطبق عليه عنوان ملزم آخر فلا يدخل في باب الحكمة، بل هو داخل في باب الرحمة، ولا دليل على وجوبها دائماً.

وثانياً: لو فرض جريان القاعدة في مطلق التكليف، فالقدر الثابت إنما هو في ما لم يكن الناس السبب في ضياع الحكم الواقعي حيث غاب الإمام (علیه السلام) بسبب سوء تصرفاتهم، كما يكفي وضع الحكم الظاهري بديلاً عن الحكم الواقعي.

المستند الثاني: الحدس القطعي

ويمكن تقريره بوجوه:

التقرير الأول: الحدس بوجود دليل معتبر لم يصل إلينا، وهذا الحدس قطعي بسبب الملازمة العادية أو الاتفاقية بين وجود الدليل المعتبر، وبين ورع واحتياط العلماء الماضين وعدم عملهم بالأدلة غير المعتبرة كالقياس ونحوه، وهذه الملازمة إنما تفيد القطع لو علمنا باعتمادهم على النصوص لا على القواعد والأصول وبكون المسألة معنونة في عصر المعصومين (علیهم السلام) .

والحاصل: أن إجماعهم يكشف عن وجود نص من المعصوم (علیه السلام) وصلهم ولم يصلنا.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول(1): إنّ مدرك الحكم الشرعي في غير الضروريات

ص: 289


1- نهاية الدراية 3: 185.

والمسلّمات أربعة، والإجماع غير كاشف عن أيٍّ منها.

أما الكتاب: فهو موجود بأيدينا ولم نجد دليلاً على المسألة فيه، وعلى فرض استظهارهم دلالة خفيت عن المتأخرين، فاستظهارهم غير حجة علينا.

واما العقل: فلا يتصور وجود قضية عقلية دالة على الحكم في المسألة وهي خافية على المتأخرين.

وأما الإجماع: فلا مورد له هنا؛ لأن الكلام في نفس الإجماع، فما يستند إليه المجعول لا محالة غيره.

وأما السنة: فنعلم بأن العلماء بعد الغيبة لم يسمعوا الإمام مباشرة ولا رأوا فعله وتقريره، فينحصر المدرك في الخبر الحاكي، ولا دليل على اعتباره عندنا لا من جهة السند ولا من جهة الدلالة...

أما من حيث السند: فإنه لو اختلفت مباني المجمعين في الأسناد التي هي حجة لكشف اتفاقهم على أن المستند في غاية الصحة، لكن لو اتفقت مبانيهم كما لو كانوا يرون حجية الخبر الموثق، فحينئذٍ من لا يرى حجية إلاّ الخبر الصحيح - مثلاً - لا يمكنه الاعتماد على إجماعهم.

وأما من حيث الدلالة: فإنه من النادر كون الخبر نصاً في مدلوله، والغالب كونه ظاهراً فيه، ولا يجدي نفعاً؛ إذ الظهور عندهم لا يستلزم الظهور عندنا، وفهمهم ليس بحجة علينا، نظير استظهار القدماء نجاسة البئر من الأخبار وعدم استظهار المتأخرين.

مضافاً إلى أنهم لو عثروا على هذه الأخبار المعتبرة سنداً الظاهرة دلالة فلماذا لم يتعرضوا لها في مجاميع الأخبار ولا في الكتب الاستدلالية!

ص: 290

وأورد عليه: أولاً(1): بعدم انحصار المستند في ما ذكر، بل هناك مستندان آخران أيضاً، هما: ارتكاز المتشرعة وسيرتهم.

أما الارتكاز، بأن يكون الحكم الشرعي واضحاً عندهم نتيجة التلقي من الطبقات السابقة حتى تصل إلى المعاصرين للمعصومين (علیهم السلام) ، بحيث لم يكن الحكم بحاجة إلى إقامة الدليل بعد وضوحه.

والحاصل: أن الإجماع يحتمل كونه نتيجة الارتكاز، والارتكاز نتيجة التلقي من الطبقات السابقة، وموقف الطبقات السابقة معلول للموقف الشرعي وكاشف عنه، وهذا الارتكاز دليل قطعي وليس خبراً واحداً بحيث يمكن الإشكال عليه سنداً أو دلالةً.

وأما السيرة المتشرعية، فهي السيرة العمليه المتصلة بزمن المعصوم (علیه السلام) كالمسح ببعض الر ِجل.

وثانياً: لم يكن من دأب مؤلفي المجاميع ذكر جميع الأخبار، بل الاختيار منها، كما لم يكن من دأب الفقهاء في كتبهم الاستدلالية ذكر الأخبار الدالة على ما يذهبون إليه، فما أكثر الأخبار التي توجد في المجاميع ولم يذكرها الفقهاء السابقون في كتبهم الاستدلالية، وكذلك ما أكثر ما ذكروه في كتبهم الاستدلالية مع عدم ذكره في المجاميع، فمن المحتمل جداً وجود أخبار لم تصل إلينا ووصلت إليهم مع عدم ذكرها في كتبهم.

الإشكال الثاني(2): إن اتفاق الجمع الغفير إنما يكشف عن وجود الدليل

ص: 291


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 325-330.
2- منتقى الأصول 4: 241.

المعتبر لو كانوا كلهم في عرض واحد، وأما مع تعاقبهم في الزمان فلا، لاحتمال استناد المتأخرين إلى إجماع العصر السابق عليهم لقاعدة اللطف ونحوها، وهكذا في كل عصر سابق، إلى أن يصل إلى أسبق العصور، وهؤلاء ليسوا كثيرين عدداً، وإجماعهم لا يكشف عن وجود دليل معتبر؛ إذ من المحتمل استناد كل واحد منهم إلى دليل غير معتبر عندنا سنداً أو غير ظاهر دلالة.

وفيه: إن أسبق الصور إن كان في زمن الغيبة الصغرى فاعتماد العلماء فيها على حديث واستنباطهم الحكم الشرعي منه كاشف نوعاً عن اعتباره سنداً وظهوره في المطلوب بالملازمة العادية أو الاتفاقية، ولو فرض وجود احتمال بعدم الاعتبار سنداً وعدم الظهور دلالة فهو احتمال لا يعتني به العقلاء، فتأمل.

التقرير الثاني: إن اتفاق المرؤوسين يكشف عن قول الرئيس عادة، ومع ثبوت ورعهم وانقيادهم وعدم اعتمادهم على الاستحسانات يكون الكشف قطعياً عادة.

وأشكل عليه: أولاً: بأن ذلك مشروط بملازمتهم للرئيس، وهو غير متحقق في عصر الغيبة.

إن قلت: لا فرق بين الوصول إلى الرئيس أو الوصول إلى كلامه وأوامره ونواهيه.

قلت: ذلك إذا ثبت وجود نصوص وصلت إليهم دوننا، وأما مع احتمال عملهم بالأصل العملي ونحوه فلا.

ص: 292

وثانياً(1): إنما يصح هذا إذا كان اتفاقهم عن قرار مسبق بينهم، مع ملاحظة أنه لا يحتمل فيهم التواطئ على الكذب ولا الفتوى بغير علم، وأما لو لم يكن عن قرار مسبق بينهم فلا يمكن دعوى الملازمة العادية، فتأمل.

التقرير الثالث: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل كل ذلك واجب، وعدم ردع الإمام (علیه السلام) المجمعين يكشف عن رضاه وتقريره.

وفيه: إن شرط هذه الواجبات غير متحقق، وإلاّ لوجب الردع والإنكار حتى مع وجود الخلاف، والحاصل: أنه (علیه السلام) غير مكلّف بهذه الأمور في عصر الغيبة.

المستند الثالث: النصوص الشرعية

منها: قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(2) ببيان أن مخالفة الإجماع هو اتباع لغير سبيل المؤمنين، وحيث لا واسطة فيجب اتباع سبيل المؤمنين، وشأن نزول الآية وإن كان في أصول الدين، حيث نزلت في منافق ارتد ولحق بمكة(3) إلاّ أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، مضافاً إلى استدلال الأئمة (علیهم السلام) بهذه الآية في بعض الفروع.

ويرد عليه: أولاً: إن (اتباع غير سبيل المؤمنين) ظاهر في ترك ما هو

ص: 293


1- فوائد الأصول 3: 150.
2- سورة النساء، الآية: 115.
3- راجع تفصيل القصة في البرهان في تفسير القرآن 3: 225-227.

شعار المؤمنين كترك الإيمان أو ترك الضروريات والمسلّمات، لا مجرد معصية عملية أو مخالفة فرعية، وغالب المسائل الإجماعية في فروع ليست لها تلك الشعارية وخاصة الفروع قليلة الابتلاء، أو غير معلومة الحكم لدى الغالب.

وثانياً: بأن المؤمنين جمع محلّى باللام فيفيد العموم، فلا بد من إحراز دخول المعصوم (علیه السلام) فيهم، ومع عدم إحرازه يكون التمسك بالآية تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

ومنها: ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تجتمع أمتي على ضلالة»(1).

ويرد عليه: مع ضعف السند، أن (الضلالة) ظاهرة في الانحراف بما يستلزم الإثم، أو الانحراف في الأصول، وليس الخطأ المعذور فيه في الفروع من الضلالة، مضافاً إلى عدم تحقق الاجتماع مع عدم العلم بقول المعصوم (علیه السلام) لكونه من الأمة بل رأسها.

ومنها: قوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(2)، ومن المعلوم أن مورد الحديث هو مع عدم العلم بقول الإمام (علیه السلام) ، حيث ورد في الخبرين المتعارضين اللذين لا نعلم صدور أيّهما عن الإمام (علیه السلام) ، وهكذا في إجماعات عصر الغيبة فيشملها الحديث.

وأورد عليه: بأن المراد من «المجمع عليه» هو الشهرة الروائية، بقرينة قوله (علیه السلام) قبل هذا المقطع: «خذ بما اشتهر بين أصحابك».

ص: 294


1- الاحتجاج 2: 450.
2- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 106.
المستند الرابع: الحجية العقلائية للإجماع

وحيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية، فيكون الإجماع منجزاً ومعذراً. نعم، لو عارضه دليل أقوى لرجح عليه كما في تعارض سائر الأدلة.

ولهذا المستند تقريرات متعددة، منها:

التقرير الأول(1): استقرار بناء العقلاء على اتباع إجماع أهل الخبرة الثقاة من كل فن في ما هم خبراء فيه، وكفايته في مقام التنجيز والإعذار ثابتة.

ومقتضى هذا التقرير هو كون الإجماع دليلاً برأسه، لا مقدمة لكشف السنة.

التقرير الثاني: دليل السبر والتقسيم؛ وذلك لأن عدم مطابقة الإجماع للواقع إمّا لأجل تعمد الكذب وهو منفي بوثاقتهم، وإمّا لجهلهم وهو منفي بكونهم من أهل الخبرة، وإما لخطئهم في الحدس، وهو منفي عقلائياً باتفاقهم، بل احتمال خطئهم جميعاً أقل من احتمال خطأ الثقة في خبره الحسي، وحيث انتفت جميع أسباب عدم المطابقة للواقع فلم يبق إلاّ القول بإصابتهم للواقع، هو حجة عند العقلاء.

القرير الثالث: تراكم الظنون، فقد قيل: بأن الظن إنما يتولد من قلة احتمال مخالفة الواقع، وكلّما ضعف احتمال المخالفة قوي الظن إلى أن يصل إلى حد الاطمئنان، وهكذا الإجماع المحصل مع عدم وجود مخالف فاحتمال خلاف الواقع فيه منفيّ عقلائياً.

وأشكل عليه: أولاً: عدم اتصاله بزمان المعصومين (علیهم السلام) ؛ إذ الإجماع إنما هو لعلماء عصر الغيبة.

ص: 295


1- بيان الأصول 1: 314.

وفيه: أن المراد كبرى بناء العقلاء في طريقية اتفاق خبراء أيّ فن وكشفه عن الواقع، وهذه الكبرى كانت موجودة في زمنهم (علیهم السلام) ونالت تقريرهم.

وثانياً: إن تراكم الظنون إنما يجدي في الأخبار الحسيّة، كالخبر المتواتر، فإن احتمال التواطئ على الكذب وكذا احتمال خطأ الكل مستحيل عادة، وأما الأخبار الحدسية - والتي تحتاج إلى إعمال فكر ونظر - فكما يحتمل خطأ الواحد فيها كذلك يحتمل خطأ المجموع، ولذا ما أكثر اتفاق علماء الفنون المختلفة على شيء ثم اكتشافهم خطأهم فيه.

وثالثاً(1): إن هذا إنما يستقيم لو كان المجمعون أو أكثرهم يقتصرون في معرفة الأحكام على الأدلة القطعية، أما مع استناد الأكثر على الأدلة الظنية فلا يحصل القطع بوجود دليل علمي قاطع للعذر، كما لو أخبرنا مائة بظنهم بعدالة زيد فإنا لا نقطع بعدالته.

ورابعاً: تراكم الظنون لا إطلاق له، فقد لا يحصل اطمئنان لاختلاف الأخبار والأشخاص والقرائن، ولا يكفي الاطمئنان النوعي هنا، وإنّما قد يقال: بكفايته في الأمور الحسية أو الحدسية القريبة من الحس وأما الحدسية البعيدة عن الحس فربما لا يحصل الاطمئنان النوعي، فتأمل.

المبحث الثاني: الإجماع المنقول

وهذا فرع من فروع بحث حجية الخبر الواحد، فنقول:إن الخبر إذا كان

ص: 296


1- كشف القناع: 176؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 343.

في الموضوعات وكان في مقام الشهادة فلا بد من العدد والعدالة، وفي غير مقام الشهادة فالأقوى الاكتفاء بالثقة الواحد، وهكذا في الأحكام كما سيأتي.

ولا بد في حجية الخبر في الأحكام من كونه عن حس أو حدس قريب إلى الحسّ - بأن تكون مقدماته حسية - كالإخبار عن عدالة زيد مثلاً، أما الحدس البعيد عن الحس بأن كانت مقدماته نظرية فلا تشمله أدلة الحجية إلاّ إذا كان من خبير لغيره فيدخل في التقليد.

وعليه فلو أخبر شخص بخبر حسّي وكان يراه كاشفاً عن أمر حدسي، فلا يكون خبره حجة على غيره من أهل الخبرة إلاّ لمن اعتقد بالملازمة.

وناقل الإجماع حيث إنه ثقة يصدّق في نقله الحسي وهو اتفاق الفقهاء، لكن لا حجية لحدسه بكون الحكم الواقعي هو ما اتفقوا عليه؛ لأن ذلك حدسه البعيد عن الحس، وحينئذٍ فالمنقول إليه إن ثبتت عنده الملازمة بين اتفاقهم وبين الحكم الواقعي كان ذلك النقل حجة له وإلاّ فلا.

ثم إن هنا صوراً متعددة، منها:

الصورة الأولى: إخباره عن اتفاق لا ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي عند المنقول إليه، كما لو أخبر عن اتفاق علماء عصر واحد مع اعتقاده بملازمته للحكم الواقعي، وعدم اعتقاد المنقول إليه بذلك، فحينئذٍ فنقله ليس بحجه لوجوه، منها:

الوجه الأول(1): إنه في الخبر الحسي دليل التصديق كما يشمل تصديق المخبر بأنه غير كاذب كذلك يشمل تصديق الخبر بأنه واقع، وليس كذلك في

ص: 297


1- نهاية الدراية 3: 187-188.

الحدس، فإن المنقول إليه يصدّقه في أنه حدس بهذا الأمر، لكن لا يتكفل دليل حجية الخبر كون حدسه صائباً.

فإن بناء العقلاء على التفريق بين الحس والحدس، حيث إن التصديق في الحس عندهم يستلزم التصديق بواقعية المحسوس وكونه كاشفاً عن الواقع، دون التصديق في الحدس، كما أن الأدلة اللفظية في حجية الخبر منصرفة عن الأخبار الحدسية البعيدة عن الحس.

الوجه الثاني: ما عن الشيخ الأعظم(1): بأن عمدة الأدلة اللفظية على حجية الخبر هي آية النبأ، ودلالتها على الحجية إنما هو في الأخبار الحسية دون الحدسية.

وذلك لأن حجية الخبر متوقفة على نفي تعمد الكذب ونفي الخطأ، وآية النبأ تنفي تعمد الكذب فقط فلا بد من ضمّ بناء العقلاء في نفي الخطأ لتتم دلالة الآية على الحجية، ومن المعلوم أن بناء العقلاء إنما هو في نفي احتمال الخطأ في الأخبار الحسية فقط، وحيث إن بناءهم غير متحقق في الأخبار الحدسية فيكون شمول آية النبأ لها لغواً لعدم ترتب أثر حينئذٍ.

أما عدم نفي الآية لاحتمال الخطأ فلقرائن متعددة:

1- منها: التفصيل في الآية بين الفاسق والعادل، مع وضوح عدم الفرق بينهما من جهة احتمال الخطأ، فلو كان المراد في الآية نفي احتمال الخطأ لم يكن للتفصيل وجه.

وفيه: أن وجه التفصيل غير منحصر في الجهة المذكورة، بل يمكن أن

ص: 298


1- فرائد الأصول 1: 182-183.

يكون وجه التفصيل هو التضييق على الفسقة، فيأمر الشارع بنفي احتمال الخطأ في العادل دون الفاسق لهذه الجهة مثلاً.

وعليه: فإطلاق الآية كما ينفي تعمد الكذب كذلك ينفي الخطأ في العادل دون الفاسق.

2- ومنها: التعليل في الآية حيث قال: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ ...}(1) وهذا تعليل لنفي احتمال الكذب دون احتمال الخطأ؛ إذ الإصابة بجهالة والندم مشترك بين العادل والفاسق من جهة احتمال الخطأ، وليس من الصحيح تعليل أحد الحكمين المتضادين بعلة مشتركة بينهما؛ إذ جعله علة لأحدهما دون الآخر بمعنى عدم كونه علة مشتركة، وهذا خلف.

وفيه: أن خطأ العادل لا يستعقب الإصابة بجهالة ولا الندم على الإصابة بجهالة، فليس اتباعه جهالة، دون اتباع خبر الفاسق فهو جهالة وقد يستتبع الندم على هذه الجهالة.

3- ومنها: لو كان للآية إطلاق في نفي احتمال الخطأ لم يكن وجه لاشتراط الضبط في خبر العادل، وكذا لم يكن وجه لاشتراطهم في الشهادة كونها عن حسّ.

وفيه: إن عدم الإطلاق لانصراف الآية عن غير الضابط، وانصراف الشهادة إلى الشهادة الحسية فقط.

فتحصل: إن آية النبأ كما تنفي احتمال كذب العادل كذلك تنفي احتمال خطئه.

ص: 299


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

ويمكن أن يقال: بعدم شمولها للأخبار الحدسية؛ لعدم كونها نبأ ً ولا خبراً، فتأمل.

الوجه الثالث(1): إن بناء العقلاء على حجية الخبر الحسي إنما هو لكونه كاشفاً نوعياً فعلاً عن الواقع، إذا صدر ممن يوثق بقوله ولم تكن آفة في حاسته، ومن الواضح أن الخطأ واقعاً في إحساسه - لخروجه عن الطبع أحياناً - لا يعقل أن يكون مانعاً عن تأثير المقتضي ومزاحماً له، فاحتماله ليس من احتمال المانع حتى يتوقف تأثير المقتضي على بناء العقلاء على دفع المانع، ونفس الاحتمال غير مانع على الفرض، بل الكاشف النوعي الفعلي لا يزاحمه الاحتمال أصلاً.

وأما الخبر الحدسي فمجرد كون الشخص ممن يوثق بقوله وعدم كونه ذا آفة في حاسته لا يوجب الكاشفية الفعلية لخبره، بل يتوقف على تصويب حدسه ونظره.

والحاصل: أنه في الخبر الحسي المقتضي للحجية موجود وهو الكاشفية النوعية عن الواقع بشرط وثاقة المخبر وسلامة حواسه، والمانع مفقود؛ لأن الوقوع في الخطأ خلاف الطبع فلا يمنع واقعاً واحتماله ليس من احتمال المانع.

وأما الخبر الحدسي فلا كاشفية له نوعاً فلا يوجد مقتضي للحجية فلا تصل النوبة إلى البحث عن عدم المانع.

الصورة الثانية: إخباره عن اتفاق يرى المنقول إليه الملازمة بينه وبين الحكم الواقعي، وهذا حجة للمنقول إليه؛ لأن الاتفاق ثابت بالنقل الحسي

ص: 300


1- نهاية الدراية 3: 188.

من الثقة، والملازمة ثابتة في نظر المنقول إليه، وإذا ثبت الملزوم والملازمة فحينئذٍ يثبت اللازم قهراً.

وأشكل عليه: بأن أدلة حجية الخبر تدل على حجية الخبر عن الحكم أو عن موضوع ذي حكم، وأما الإخبار عن غيرهما فلا تشمله، لعدم ترتب أثر عملي عليه، وفي ما نحن فيه اتفاق العلماء ليس بحكم شرعي، ولا موضوعه؛ إذ الحكم لا يترتب على الإجماع، وإنما يتحقق العلم بالحكم عن طريق الملازمة عند العلم بالإجماع!

وفيه: أنه يكفي في شمول أدلة الحجية أن لا يكون جعلها لغواً، ويكفي في عدم اللغوية ترتب الأثر ولو بوسائط متعددة، وما نحن فيه كذلك.

وأما الجواب: بأن نقل الإجماع كنقل خصوصيات السائل من حيث المكان ونحوه التي قد توجب اختلاف الحكم، ككون الراوي للرطل في الكر عراقياً لا مدنياً.

فيدفعه: إن خصوصية السائل ونحوها قد تلازم عرفاً معرفة خصوصية الحكم، فمن يخبر عن كون السائل عراقياً مثلاً يخبر بالملازمة عن أن موضوع الحكم هو الرطل العراقي، وليس كذلك ما نحن فيه؛ إذ خبره بالإجماع لا حجية له في مدلوله الالتزامي حيث إنه حدسي، وأما مدلوله المطابقي فهو ليس بحكم ولا موضوع ذي حكم، كذا قيل.

الصورة الثالثة: أن يخبر حساً عمّا لا تكون ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي عند المنقول إليه، لكن بضمّ أمور أخرى تتم الملازمة، بحيث يكون المجموع سبباً تاماً، كما لو أخبر عن اتفاق علماء عصره وحصّل

ص: 301

المنقول إليه اتفاق علماء العصور اللاحقة.

ذهب المحقق الخراساني(1) إلى أن المجموع كالمحصل، ويكون حاله كما إذا كان كلّه منقولاً، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجية الخبر في تعيين حال السائل وخصوصية الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك مما له دخل في تعيين مرامه من كلامه.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني: «بأن تنزيل شيء منزلة شيء لا يعقل إلاّ بلحاظ ما لذلك الشيء من الأثر شرعاً، لا بلحاظ ما لغيره من الأثر - وإن كان ملزومه أو ملازمه - ؛ بداهة أن وجه الشبه لا بد من أن يلاحظ بين المشبَّه به والمشبَّه دون ما هو أجنبي عنهما»(2).

بمعنى أن صحة التنزيل تتوقف على ما للمنزل عليه من الأثر الشرعي،

لا بلحاظ غير الأثر الشرعي، ولا بلحاظ الآثار الشرعية لغيره، فمثل قوله (علیه السلام) في الفقاع: «هو خمر»(3) يراد التنزيل بلحاظ حرمة شرب الخمر، لا بلحاظ آثاره غير الشرعية كإرواء العطش، ولا الآثار الشرعية لغيره كوجوب استقبال القبلة في الصلاة.

وفي ما نحن فيه لا يمكن تنزيل الفتاوى المحكية منزلة الفتاوى المحصلة بأدلة حجية الخبر؛ إذ الفتاوى المحصلة لا أثر شرعي لها حسب

ص: 302


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 352-353.
2- نهاية الدراية 3: 190.
3- الكافي 6: 422؛ وسائل الشيعة 25: 362.

الفرض؛ لأنها لا تكفي لكشف قول الإمام (علیه السلام) فلا نفع في تنزيل الإخبار منزلتها، كما أن القطع بقول الإمام (علیه السلام) ليس بأثر شرعي حتى يصح التعبد والتنزيل بلحاظه، وأما قول الإمام (علیه السلام) الملازم لفتوى الجماعة فله أثر شرعي وهو لزوم العمل به، إلاّ أنه ليس المنزّل عليه.

ويرد عليه: بأن أهم مستند في حجية الخبر هو بناء العقلاء، ولا فرق في بنائهم بين السبب التام أو السبب الناقص الذي تكمّل سببيته بأمور أخرى.

ثم إن المحقق الإصفهاني أشكل على كلامه بإشكالات(1) ودفعها كلّها، لكن السيد الأخ لم يرتضها(2)، نشير إليها باقتضاب.

الإشكال الأول: عدم الفرق بين ما نحن فيه وبين إخبار الرواة عن الأسئلة التي تعرف بها الأجوبة، وكذا الأفعال التي يعرف بها تقرير الإمام (علیه السلام) لها.

وأجاب: بأنها مشتملة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها - الموجبة لسعتها وضيقها - ، فالتعبد بها بلحاظ ما لها من الأحكام، بخلاف فتوى الجماعة فإنها لا دخل لها في قول الإمام (علیه السلام) حكماً وموضوعاً، سعةً وضيقاً.

وفيه: أنه ليس المدار في حجية الخبر على كون المخبر به موضوعاً أو متعلقاً ونحو ذلك، بل المدار على الملاك الموجب لحجية الخبر في ذلك المقام، كما مرّ.

الإشكال الثاني: إن القطع بقوله (علیه السلام) وإن لم يكن أثراً شرعياً إلاّ أنه

ص: 303


1- نهاية الدراية 3: 191-192.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 381-386.

يترتب عليه أثر شرعي، وهو تنجز قوله (علیه السلام) ، والتنجز قابل للجعل الشرعي، فيتم تنزيل نقل الفتاوى منزلة الفتاوى الواقعية، فالفتاوى المنقولة تنجز الفتاوى الواقعية، وهي تنجز قول الإمام (علیه السلام) ، نظير الخبر بالواسطة.

وأجاب: بأنه لا يصح تنزيل المحكية منزلة المحصلة؛ إذ لا أثر حقيقي للمحصلة؛ لأنها غير متصفة بالتنجز ولا بالحجية على نحو الحقيقة، بل المتصف هو القطع، فاتصاف المحصلة بالتنجز إنما هو من باب كونها واسطة في العروض كجريان الميزاب فهو ليس اتصافاً حقيقياً كي ينزل الخبر منزلته.

وفيه: أن الواسطة في المقام واسطة في الثبوت لا العروض؛ لأن الواسطة في العروض إنما تكون في الأمرين العَرْضيين كجريان الماء والميزاب، أما لو كانا طوليين فالواسطة في الثبوت؛ وذلك لأن أثر الأثر أثرٌ، وفي ما نحن فيه: الفتاوى المحصلة لها أثر وهو القطع بقول الإمام، وهذا القطع له أثر هو التنجز، فصح أن يقال إن الفتاوى المحصلة لها أثر هو التنجز.

وحتى لو فرضنا أن الواسطة في العروض، لكن الأثر عرفاً يُنسب لذي الواسطة حتى لو كان بالدقة أثراً للواسطة، فيصح عرفاً نسبة التنجز إلى الفتاوى المحصلة.

الإشكال الثالث: إن ملاك الحجية مشترك بين السبب التام والسبب الناقص، فلا فرق بينهما.

وأجاب: بأن نقل السبب التام له مدلول التزامي، وهو الإخبار عن قول الإمام (علیه السلام) فيكون حجة، دون السبب الناقص.

وفيه: إن ذلك إخبار حدسي فلا يكون حجة، فثبت عدم الفرق بينهما

ص: 304

من هذه الجهة، فتأمل.

الصورة الرابعة: أن يحدس الناقل بوجود الإجماع، ومنه يحدس بقول الإمام (علیه السلام) ، وهذا ليس بحجة؛ لعدم شمول أدلة حجية الخبر لأمثال هذه الأخبار الحدسية، كما مرّ.

تتمتان

التتمة الأولى: في الشك في المنقول

فلو شككنا في أن نقله للّازم أو الملزوم هل هو عن حدس أو عن حس؟ فهنا حالات:

الحالة الأولى: لو احتملنا كون الملزوم عن حس، كما لو نقل الإجماع واحتملنا سماعه الحكم عن الإمام (علیه السلام) بالتشرف مثلاً.

وحينئذٍ فإن الأصل في الأخبار وإن كان كونها عن حس لا عن حدس ولذا لا يقبل عذر من ترك العمل بالخبر باحتمال كونه عن حدس، إلاّ أن أصالة الحس مشروطة بأن لا تكون هناك أمارة على كون الخبر عن حدس، وهذا الشرط مفقود في الإجماعات المنقولة؛ لأنها مبنية على حدس الناقل بالملزوم عادة.

الحالة الثانية: لو كان الملزوم عن حدس، لكن شككنا في أن اللازم هل هو مما تثبت به الملازمة عند المنقول إليه أم لا؟ كما لو ادعى الإجماع ولم نعلم بأن مراده اتفاق علماء عصره الذي لا يلازم الحكم الواقعي عند المنقول إليه، أم مراده اتفاق علماء جميع العصور الذي يلازمه عنده، فالأقرب عدم الحجية؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك

ص: 305

للشك في ثبوت الملازمة.

الحالة الثالثة: لو نقل الاتفاق وشككنا في أن نقله هذا عن حس أم حدس، فالظاهر جريان أصالة الحس، كما في سائر الأخبار، إلاّ لو قامت أمارة على كونه عن حدس.

التتمة الثانية: لو تعارض إجماعان منقولان

ففي الكفاية أنه: «لا يكون التعارض إلاّ بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين لاحتمال صدق الكل»(1).

وأشكل عليه: أولاً: إنه لو أريد بالإجماع مطلق الاتفاق ولو لعلماء عصر واحد فلا تعارض في السبب.

وأجيب: بأن الإجماع اتفاق الكل في جميع العصور، وإطلاقه على اتفاق البعض مسامحة؛ وذلك لوجود ملاك الحجية فيه باعتبار دخول الإمام (علیه السلام) في المجمعين في نظر الناقل.

وثانياً: بأنه لو أريد بالمسبب وجود الدليل المعتبر فحينئذٍ يمكن صحة النقلين.

وأجيب: بأن المراد الدليل المعتبر فعلاً لا شأناً، ولا يحصل ذلك إلاّ مع ارتفاع الموانع التي منها وجود المعارض، وهذا لا يكون إلاّ في أحدهما دون كليهما.

ص: 306


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 355-356.

فصل فی الشهرة الفتوائية

وهي اشتهار فتوى بين الفقهاء سواء علم مستندها أم لا.

وتفترق عن الشهرة الروائية التي هي كثرة نقل أصحاب الكتب المعتبرة لرواية، وتبحث في مباحث حجية الخبر الواحد.

كما تفترق عن الشهرة العملية التي هي عمل المشهور برواية غير معتبرة السند في مقام الفتوى، وتبحث في باب التعارض والتراجيح.

ولا يخفى أن النسبة بين الشهرة الفتوائية والعملية هو العموم المطلق، كما أن النسبة بين الفتوائية والروائية وكذا الروائية والعملية هو العموم من وجه.

وعليه فلو كان مستند الفتوائية رواية غير معتبرة فيكون الدليل في الحكم أمران: الرواية التي جبر ضعف سندها بعمل المشهور مضافاً إلى الشهرة الفتوائية، وأما لو لم نعلم المستند فالدليل هو الشهرة الفتوائية.

وإن كان المستند غير معتبر بنفسه فقد تكون الشهرة الفتوائية مكملة له ورافعة لضعفه وقد لا يكون ذلك، هذا بناءً على حجيتها وعلى الجبر.

أدلة حجية الشهرة الفتوائية:

وقد استدل لحجيتها بأمور، منها:

الدليل الأول: فحوى أدلة حجية الخبر الواحد، حيث إن ملاك حجيته هو الظن النوعي باعتبار طريقيته للواقع، وغير خفي أن هذا الظن في الشهرة

ص: 307

أقوى، وحكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد.

وأشكل عليه: أولاً: كبروياً بأنه لا بد في الفحوى من العلم بالملاك، ولا علم لنا بكون ملاك حجية الخبر ذلك، ولا يفيد الظن بالملاك لدخوله حينئذٍ في القياس الباطل، وقد يكون الملاك هو علم الشارع بمطابقة غالب الأخبار المعتبرة للواقع من غير دخل لذلك الظن النوعي.

إن قلت: إن هذا يصح في ما لو انحصرت الأدلة على حجية خبر الواحد بالنصوص، لكن من الأدلة السيرة العقلائية - الذين لا تعبد لهم في أمورهم في غير ما يرتبط بالموالي والعبيد - ونحن نعلم بأن سبب عملهم بالخبر الواحد هو ظنهم النوعي بمطابقته للواقع.

قلت: إمضاء الشارع لسيرة عقلائية لا يستلزم إمضاؤه لسببها وملاكها، كي يتم تعميم ذلك الملاك لسائر الموارد، فتأمل.

وثانياً: صغروياً بأنه لا أقوائية للظن النوعي الحاصل من الشهرة على الحاصل من الخبر؛ وذلك لأن الخبر دليل حسي والشهرة حدسي، والظن الحاصل من الحسّ أقوى، فتأمل.

وثالثاً: عدم شمول قاعدة (حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد) لما نحن فيه؛ وذلك لإمكان اختلاف الحكمين الاعتباريين في الأمثال؛ إذ قد يمكن استيفاء الغرض بأحد الأمثال فلا حاجة إلى جعل الحكم على سائر الأمثال، كما لو كان هناك إناءان متماثلان في جميع الخصوصيات، فأمر المولى بإتيان الإناء الأول - الوافي بغرضه - فلا يلزمه أن يحكم بإتيان الثاني لعدم غرض له فيه!

ص: 308

وفيه: إن ذلك مبني على إمكان الترجيح بلا مرجح وهو غير صحيح؛ لأنه إن آل إلى الترجّح بلا مرجّح فهو محال لاستلزامه وجود المعلول من غير علة، وإن آل إلى الترجيح بإرادة الفاعل المختار من غير وجود مرّجح آخر - ولو كان خفياً - فهو لغو وقبيح، بل على المولى الأمر بالكلي المنطبق على الأمثال أو التخيير بينها - بناءً على عدم رجوعه إلى الأمر بالكلي - ، فتأمل.

الدليل الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (علیه السلام) ، حيث قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(1). والمقصود بالمجمع عليه هو المشهور، وهو مطلق يشمل الشهرة الفتوائية، كما أن التعليل عام فيشملها أيضاً.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المراد من (المشهور) لغةً وعرفاً: الواضح، فيكون (المجمع عليه) من مصاديق الواضح، وليس المشهور الاصطلاحي كذلك، ويدل عليه أن ظاهر (لا ريب فيه) هو نفيه حقيقة لمكان لا النافية للجنس، وهو يناسب الإجماع دون الشهرة، وكذلك جعله مصداقاً لقوله: (أمر بيّن رشده) إذ ليست الشهرة كذلك.

إن قلت: فكيف يفرض الراوي كونهما مشهورين لو أريد بالشهرة الإجماع(2)؟

قلت: لإمكان صدورهما من المعصوم (علیه السلام) أحدهما لبيان الحكم الواقعي

ص: 309


1- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 106.
2- راجع فوائد الأصول 3: 154.

والآخر للتقية مثلاً، وهذا قرينة أخرى على عدم شمول المقبولة للشهرة الفتوائية؛ إذ يمكن اجتماع شهرتين روائيتين دون شهرتين فتوائيتين في زمان واحد.

وثانياً: عدم عموم التعليل في قوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» كي يتم التعدي من المورد إلى غيره؛ إذ الكبرى لا بد أن تكون قابلة للتكليف مع قطع النظر عن المورد، وليس كذلك التعليل في ما نحن فيه؛ وذلك لأن المعنى الحقيقي لنفي الجنس هو نفي حقيقته، وهذا غير مراد في المشهور الاصطلاحي؛ إذ قد يتحقق الريب فيه، فلا بد أن يراد نفي الريب النسبي الإضافي، بمعنى أن الريب الموجود في الشاذ غير موجود في المشهور، وكبرويته بمعنى أنه (يجب الأخذ بكل ما لا ريب إضافي فيه)، وذلك غير ممكن، وإلاّ لزم حجية الوهم الأقوى؛ لأنه ليس فيه ريب الوهم الأضعف منه، ولزم حجية الظن؛ إذ ليس فيه ريب الشك، وهكذا(1).

وفيه: أن الحصر غير حاصر بين نفي حقيقة الريب ونفي الريب النسبي، بل هناك شق ثالث هو نفي الريب العقلائي، حيث إن العقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة حتى وإن كانت احتمالات عقلاً، وعليه فيمكن أن يكون معنى الحديث: المجمع عليه لا ريب عقلائي فيه، وهذا صالح للكبروية، فتأمل.

الدليل الثالث: مرفوعة زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، قال: «قلت له: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما نعمل؟

ص: 310


1- فوائد الأصول 3: 154.

فقال: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1) والمورد وإن كان الشهرة الروائية إلاّ أنه لا يخصص الوارد.

وأورد عليه: مضافاً إلى ما مرّ من معنى المشهور، وضعف السند...

أولاً: بأن خصوصية المورد لا تخصص الوارد هو فرع عموم الوارد، وفي ما نحن فيه لا عموم ولا إطلاق؛ إذ (ما الموصولة) مبهمة، ويرفع إبهام الموصولات بما قارنها، وخصوصية السؤال يصلح لرفع الإبهام، كما أن وجوده يصلح للقرينية فلا تكتمل مقدمات الحكمة.

وثانياً: بالفرق بين مورد المرفوعة وبين الشهرة الفتوائية؛ إذ موردها في الخبرين اللذين هما حجة في نفسيهما لكن تعارضا فالشهرة تكون مرجحاً لأحدهما على الآخر، وفي الشهرة الفتوائية يراد إثبات أصل حجيتها، ومن الممكن أن لا تثبت الحجية بشيء لكنه يكون مرجحاً لإحدى الحجتين على الأخرى.

الدليل الرابع: عموم التعليل في قوله تعالى: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ}(2)؛ وذلك لأن العمل بفتوى المشهور ليس عملاً بجهالة فلا يجب التبيّن فيه! بمعنى أن الإصابة بجهالة منتفية في العمل بفتواهم فيكون وجوب التبيّن منتفياً أيضاً.

ويرد عليه(3): أن معنى عموم العلة هو ثبوت الحكم في كل مورد

ص: 311


1- عوالي اللئالي 4: 133.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 27.

وجدت العلة فيه، لا إثبات نقيض الحكم في كل مورد لم توجد العلة فيه، فمثل: (لا تشرب الخمر لأنها مسكرة) معناها حرمة كل مسكر، لا حلية كل ما لم يكن مسكراً، وبعبارة أخرى: إن استفادة المفهوم هو فرع انحصار العلة، والتعليل لا يفيده.

وأما أصالة عدم وجود علة أخرى، فلا هي أصل عقلائي، ولا أصل شرعي، واستصحابها مثبت.

الدليل الخامس: السيرة العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها؛ إذ أهل كل صنعة يعتمدون على ما اشتهر بين أهل الخبرة فيها.

وفيه: أن اعتمادهم إنما هو في ما أوجب الاطمئنان النوعي، وأما مع عدم الاطمئنان فلا! ويرشد إليه أنه لو خالف مجموعة من أفضل أهل الخبرة لمشهورهم فالعقلاء يتوقفون في الأمر ولا يتبعون المشهور حينئذٍ.

فتحصل: أنه لا دليل على حجية الشهرة الفتوائية، فتبقى تحت عموم عدم حجية الظن، ولكن مع ذلك فالاحتياط سبيل النجاة، والأولى عدم مخالفتها، إلاّ لو قام دليل أقوى على حكم إلزامي على خلافها.

ص: 312

فصل فی الخبر الواحد

اشارة

البحث تارة: في إحراز صدور الخبر عن المعصوم (علیه السلام) ، وأخرى: في إحراز ظهوره في معنى، وثالثة: في إحراز كونه في مقام بيان الحكم الواقعي لا التقية، والكلام الآن في الأول.

وهاهنا مباحث:

المبحث الأول: في أدلة عدم الحجية وردّها

وقد قيل بعدم حجية الخبر الواحد، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن خبر الواحد لا يفيد سوى الظن، والعمل بالظن منهي عنه، كما مرّ.

والجواب بأمور، منها:

الجواب الأول: الورود أو التخصّص، بمعنى أن العمل بالخبر عمل بالعلم لا بالظن؛ وذلك لأنه لا فرق في كون العمل بالعلم بين انكشاف الواقع وبين قيام دليل قطعي على الطريق، حيث إن العمل بذلك الطريق عمل بالعلم لا بالظن، وقد قامت الأدلة القطعية على حجية الخبر الواحد، كما سيأتي.

الجواب الثاني: التخصيص، بمعنى أن أدلة النهي عن العمل بالظن قد خُصصت بأدلة العمل بالخبر الواحد كآية النبأ ونحوها.

ص: 313

وفيه: أن بعض أدلة النهي عن العمل بالظن آبية عن التخصيص، كقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَئًْا}(1).

الجواب الثالث: الحكومة، بمعنى أن أدلة حجية الخبر الواحد حاكمة على الأدلة الناهية عن العمل بالظن، بإخراج خبر الثقة عن موضوعها؛ وذلك لأن مفاد أدلة الحجية هو جعل الطريقية والعلمية والوسطية في الإثبات، وعليه فلا يكون العمل بالخبر عملاً بالظن.

وأشكل عليه: أولاً(2): بأن أدلة حجية الخبر الواحد تصادم الأدلة الناهية عن العمل بالظن، فلا حكومة؛ إذ لا تصادم بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم؛ وذلك لأن مفادة الأدلة الناهية هو عدم الحجية وهو مصادم للدليل على الحجية.

بيانه: إن النهي الوارد في الآيات ليس نهياً نفسياً ذاتياً عمّا موضوعه غير الحجة وغير العلم، كي يرتفع في المورد المنزل منزلة العلم، وإنما هو نهي تشريعي يقصد به نفي الحجية عن غير العلم، فما يثبت الحجية يكون مصادماً لنفس الحكم.

وبعبارة أخرى: لا حرمة في اتباع الظن في نفسه، وإنما لا مؤمّن في اتّباعه بمعنى عدم صحة الاحتجاج به، وعليه فالأدلة الناهية تدل على عدم الحجية فتصادمها أدلة الحجية، ونتيجة ذلك التخصيص لا الحكومة؛ إذ في الحكومة لا تصادم وإنما تصرف الحاكم في موضوع الدليل المحكوم.

ص: 314


1- سورة يونس، الآية: 36.
2- منتقى الأصول 4: 253.

وثانياً: بأن الحكومة إنما هي في ما لو كان الدليل الحاكم تأسيس من الشارع، وليس كذلك حجية الخبر الواحد؛ إذ هو إمضاء منه لبناء العقلاء، فلا وجه للقول بجعل الطريقية في الكاشفية، بل ولا نظر كيما تتم الحكومة!

إن قلت: ما المانع من شمول الحكومة للأدلة غير اللفظية، حيث إنها بمعنى توسعة أو تضييق موضوع الدليل المحكوم، ولا فرق في ذلك بين كون الموسّع أو المضيّق لفظ أو غيره!

قلت: الكبرى لا إشكال فيها، إنما الكلام في أن بناء العقلاء ليس جعلاً للطريقية والكاشفية، وإنما ذلك حيث تعليلي لبنائهم، فتأمل.

اللهم إلاّ أن يقال: بأن الشارع لم يكتف بالإمضاء، بل وسّع الحجية فجعلها بأوسع من بنائهم.

وثالثاً: بأن حكومة أدلة حجية الخبر على الأدلة الرادعة عن العمل بالظن ليس بأولى من العكس بأن يقال بحكومة الأدلة الرادعة على أدلة الحجية.

إن قلت: عليه لا يبقى مورداً لأدلة الحجية فتكون لغواً حينئذٍ.

قلت: لها موارد أخرى كما لو أوجبت العلم أو الاطمئنان.

الدليل الثاني: مما استدل به على عدم حجية الخبر الواحد، السنة، وهي طوائف(1)، منها: الروايات الدالة على ردّ المخالف للكتاب، ومنها: ما دلّ على ردّ ما ليس له شاهد من القرآن الكريم، ومنها: ما دلّ على الأخذ بما

ص: 315


1- الكافي 1: 62-68؛ وسائل الشيعة 27: 106-124.

وافق الكتاب فقط، وهي روايات متواترة تفيد العلم، فلا دور ولا خلف.

ويرد على الأولى: أولاً: أن المقصود من المخالفة هو التباين الكلي، وأما ما لم يذكر في ظاهر القرآن أو أمكن الجمع العرفي بينه وبين ظاهر القرآن كالعام والخاص فليس من المخالفة في شيء.

وثانياً: لو سلمنا صدق المخالفة حتى مع الجمع العرفي، فنقول: إن هذا غير مراد قطعاً؛ وذلك للقطع بصدور المخصصات والمقيدات من الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، ولولا ذلك لتعطلت أكثر الأحكام.

وعلى الثانية: بأنها معارضة بالأخبار الدالة على حجية خبر الثقة، وبينهما عموم من وجه؛ إذ ما لا شاهد له قد يكون خبر الثقة وقد يكون خبر غيره، كما أن خبر الثقة قد يكون له شاهداً وقد لا يكون له شاهداً، والترجيح في مورد الاجتماع لأخبار حجية خبر الثقة؛ إذ لولا ذلك لكانت لغواً حيث إن ما له شاهد لا يحتاج إلى خبر الثقة، وما لا شاهد له تتقدم عليه روايات الطائفة الثانية!

مضافاً إلى ما مرّ من أن ردّ كل الأخبار الدالة على التخصيص أو التقييد يستلزم تعطيل الشريعة، فلا بد من حمل قوله: «ما لا شاهد له» على المخالف بمعنى المباين.

وعلى الثالثة: أن (ما لا يوافق) إمّا بمعنى المخالف فالجواب ما مرّ في الأولى، وإما بمعنى (ما لا شاهد له) فالجواب مرّ في الثانية.

المبحث الثاني: الآيات الدالة على حجية خبر الواحد

اشارة

وقد استدل على حجية الخبر الواحد بآيات، منها:

ص: 316

الآية الأولى: آية النبأ
اشارة

حيث قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ}(1).

والاستدلال قد يكون بمفهوم الشرط، وقد يكون بمفهوم الوصف، تارة بوجود المقتضى للمفهوم من الشرط أو الوصف، وتارة بوجود المانع عن هذا المقتضي، فالكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأول: في الاستدلال بمفهوم الشرط

فإن وجوب التبيّن معلّق على مجيء الفاسق بالخبر، والجملة الشرطية تدل على انتفاء الجزاء حين انتفاء الشرط، وعليه فينتفي وجوب التبيّن عند مجيء العادل بالخبر.

لكن لا بد من ضمّ ضميمة ليتم الاستدلال، فإن عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل بالخبر إما لأجل قبول خبره أو لأجل ردّ خبره من غير حجة إلى التبيّن أصلاً، والثاني يستلزم كون العادل أسوء حالاً من الفاسق وهو باطل قطعاً، فثبت الأول، وهو المطلوب.

وهنا إشكالان:

الإشكال الأول: على الضميمة، فقد يقال بأنه لا حاجة إليها؛ وذلك لأن هناك احتمالات في نوع الوجوب في التبيّن، ولا حاجة إلى هذه الضميمة بناءً على غالب الاحتمالات، وهي:

الاحتمال الأول: الوجوب النفسي، بمعنى كون التبيّن مطلوباً بنفسه لا أن

ص: 317


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

الغرض منه الوصول إلى شيء ما.

وليس الشأن في خبر العادل دائراً بين الرد أو القبول كي نحتاج إلى هذه الضميمة، وبها تثبت حجية خبر العادل، بل هناك شق ثالث وهو عدم وجوب التبيّن نفسياً في خبر العادل فيكون المفهوم حينئذٍ (إن جاءكم عادل فلا يجب التبيّن نفسياً) وهذا أعم من الحجية؛ إذ قد يشترك خبر الفاسق وخبر العادل في عدم الحجية لكن الوجوب النفسي للتبيّن في خبر الفاسق لأجل إهانته مثلاً لما يتبيّن كذبه، كما في شأن نزول الآية، حيث تمّ فضح الوليد على كذبه، وعليه فإضافة هذه الضميمة لم ينفع الاستدلال في شيء.

ويرد عليه: أن الوجوب النفسي خلاف ظاهر لفظ (التبيّن)، كما أنه خلاف ظاهر التعليل في قوله: {أَن تُصِيبُواْ...}.

الاحتمال الثاني: الوجوب الشرطي، بمعنى أنه لو أردتم العمل وجب عليكم التبيّن، لا مطلقاً، فالمعنى (إن جاءكم فاسق بنبأ وأردتم العمل بخبره فتبينوا)، ومفهوم هذا (إن جاءكم عادل وأردتم العمل بخبره فلا يجب التبيّن) وهو ظاهر في الحجية.

وقد رجح الشيخ الأعظم هذا الاحتمال باعتبار مادة التبيّن الظاهرة في الطريقية إلى الواقع، وكذا لظهور التعليل؛ إذ هو يناسب الوجوب الشرطي لا النفسي؛ إذ لا إصابة ولا ندم حين إرادة عدم العمل، كما أنّ من الواضحات عدم وجوب التحقيق في أخبار الفسقة إذا لم يرد العمل بها.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن الوجوب الشرطي...

ص: 318


1- نهاية الدراية 3: 204.

إن أريد به كون التبيّن واجباً مشروطاً كالحج المشروط بالاستطاعة، فهو وجوب نفسي، وليس وجوباً شرطياً، فيرجع الإشكال عليه.

وإن أريد به وجوباً غيرياً مشروطاً بإرادة العمل على طبق الخبر، فهو يستلزم المحال؛ لأن وجوب المقدمة وذي المقدمة متماثلان في الإطلاق والتقييد، فإذا كان وجوب المقدمة - أي التبيّن - مشروطاً بإرادة المكلف، كان وجوب ذي المقدمة - أي الوجوب الواقعي الذي يراد الوصول إليه عبر التبيّن - أيضاً مشروطاً بإرادة المكلف، ومن غير المعقول تعليق الوجوب على إرادة المكلّف، كما مرّ.

وفيه: أن هناك شقاً ثالثاً - وهو الذي قصده الشيخ الأعظم، كما يظهر من كلامه - وهو كون وجوب التبيّن مقدمياً لجواز العمل، فالمعنى (إن جاءكم الفاسق بالنبأ فتبينوا مقدمة لجواز العمل)، ومفهومه (إن جاءكم العادل فلا يجب التبيّن مقدمة لجواز العمل)، وهذا لا إشكال فيه ثبوتاً؛ لعدم توقف الوجوب الواقعي على إرادة المكلف.

الاحتمال الثالث: الوجوب الطريقي، بمعنى أنه يجب التبيّن لحفظ الملاكات الواقعية المحتملة، لاحتمال كون الفاسق صادقاً في خبره، فالإعراض عنه يوجب فوت الملاكات الواقعية حينئذٍ، كما أن العمل به من غير تبيّن يحتمل مخالفته للواقع، فلم يبق إلاّ وجوب التبيّن.

وعلى هذا الاحتمال نحتاج إلى الضميمة؛ إذ معنى الآية أن وجوب التبين في خبر الفاسق طريقي، ومفهومها انتفاء الوجوب الطريقي في خبر العادل، فأمره يدور بين إلغاء خبره بالمرة فيكون أسوء حالاً من الفاسق وبين

ص: 319

قبوله وهو المطلوب.

ويرد عليه: أن هذا الاحتمال خلاف ظاهر الآية؛ وذلك لأن معنى الوجوب الطريقي هو: تبينوا لكي لا تفوتكم الملاكات الواقعية الاحتمالية، لكن ظاهر الآية هو عكس هذا، أي تبينوا لئلا تقعوا في المفاسد الواقعية بسبب احتمال كذب الفاسق.

الاحتمال الرابع: أن المراد من (تبينوا) ليس الوجوب، بل ملزومه أي عدم الحجيّة؛ وذلك(1): لأن التبيّن ليس كالفحص المشروط به العمل بالعام، بل معناه طلب العلم بالواقع، ويكون مدار العمل عليه لا على خبر الفاسق بعد التبيّن، ثم إن وجوب طلب العلم بالواقع لا يكون بوجه من الوجوه مرتباً ومعلّقاً على مجيء الفاسق بالخبر حتى ينتفي بانتفائه، بل المراد لزوم الإعراض عن خبر الفاسق، وصرف المكلّف إلى تحصيل العلم بالواقع لترتيب آثار الواقع، وعليه فوجوب التبيّن غير معلّق على مجيء الفاسق بالنبأ، بل معلّق على ملزومه وهو عدم الحجية، وعليه فيكون المفهوم انتفاء عدم الحجية بمجيء العادل بالنبأ، وانتفاء عدم الحجيّة مساوق للحجيّة، وبذلك لا نحتاج إلى ضمّ الضميمة، كما هو واضح.

وفيه: أن هذا خلاف ظاهر الآية، حيث إن ظاهرها تعليق وجوب التبيّن لا تعليق ملزومه، فتأمل.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على مفهوم الشرط في آية النبأ،

ص: 320


1- نهاية الدراية 3: 205.

بعدم الحاجة إلى الضميمة.

الإشكال الثاني: على أصل الاستدلال بمفهوم الشرط في هذه الآية؛ وذلك لأن الجملة في الآية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، ولا مفهوم فيها؛ وذلك لما مرّ من أنه إن كان تحقق الجزاء عقلاً متوقفاً على تحقق الشرط فإن انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط عقلي، فلا معنى للمفهوم حينئذٍ، كما في مثل: (إن رزقت ولداً فاختنه) حيث إن الختان لا يعقل من دون تحقق الولد، والجملة الشرطية إنما يكون لها مفهوم لو لم يتوقف الجزاء عقلاً على الشرط، كما في مثل: (إن جاء زيد فأكرمه) حيث إن وجوب الإكرام لا يتوقف عقلاً على مجيء زيد، ففي حالة علم مجيئه كما يمكن وجوب إكرامه يمكن عدم وجوبه، فبالمفهوم ننفي الوجوب، وبعبارة أخرى: إن كان الشرط هو نفس الموضوع كانت الجملة الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع ولا مفهوم لها، وإلاّ كان لها مفهوم، كما مرّ ذلك مفصلاً.

وما نحن فيه في آية النبأ الموضوع هو خبر الفاسق، والشرط هو المجيء به، ومن المعلوم أنه إذا لم يتحقق الشرط أي المجيء بالنبأ لا يمكن تحقق الجزاء وهو التبيّن.

وبعبارة أخرى: ليس مفهوم الشرط إن جاءكم عادل، بل إن لم يجئكم فاسق، ومع عدم وجود النبأ لا يمكن التبيّن عنه.

وأجيب بوجوه، منها:

الجواب الأول: ما في الكفاية(1): من أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن

ص: 321


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 373.

النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاؤه عند انتفائه.

وبيانه: أن الموضوع ليس هو (نبأ الفاسق) كي تكون القضية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، بل الموضوع هو (طبيعي النبأ)، فالمنطوق هو: النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا، ومفهومه هو: أن النبأ إن لم يجيء به الفاسق - بل جاء به غيره - فلا يجب التبيّن.

وأورد عليه: بأن إمكان هذا المعنى ثبوتاً لا يكفي في إثباته لكي يستفاد منه المفهوم؛ إذ كما يحتمل أن يكون الموضوع هو طبيعي النبأ كذلك يمكن أن يكون الموضوع نبأ الفاسق.

الجواب الثاني: إن الموضوع قد يكون بسيطاً، وقد يكون مركباً، فإن كان بسيطاً وكان التوقف تكوينياً فلا مفهوم، أو كان التوقف تعبدياً فيوجد المفهوم، وإن كان مركباً من جزئين تكوينيين فلا مفهوم، كما لو قال: (إن رزقت طفلاً وكان ذكراً فاختنه)، أو كان مركباً من جزئين تعبديين فيوجد المفهوم، كما لو قال: (إن جاء زيد وكان ضاحكاً فأكرمه)، أو كان مركباً من جزء تكويني وآخر تعبدي فبالنسبة إلى التكويني لا مفهوم وبالنسبة إلى التعبدي يوجد المفهوم، كما لو قال: (إن رزقت ولداً يوم الجمعة فسمّه أحمد)، فبالنسبة إلى رزق الولد لا مفهوم، أما بالنسبة إلى يوم الجمعة فيوجد المفهوم بأن رزق ولداً يوم السبت فلا يجب تسميته بذلك الاسم.

وما نحن فيه - آية النبأ - من قبيل هذا الأخير أي الموضوع مركب من (وجود النبأ) و(مجيء الفاسق به) وباعتبار الثاني يكون لها مفهوم؛ إذ يمكن انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ ومع ذلك يمكن التبيّن باعتبار مجيء العادل به.

ص: 322

ويمكن التأمل فيه: أولاً: بأن تجزئة الموضوع في الآية إنما هو بالتحليل العقلي، وظاهر الآية بساطة الموضوع.

وثانياً: ما في المنتقى(1): من أن القول بتركب الموضوع في الآية يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال؛ وذلك لأن أداة الشرط المستعملة في الشرط المسوق لتحقق الموضوع تستعمل بمعنى الفرض، وفي غيره تستعمل بمعنى التعليق، فإرادة كليهما من أداة الشرط استعمال للّفظ في أكثر من معنى.

وفيه: أن أداة الشرط لها معنى واحد واستعمال واحد في جميع الموارد، ولكن اختلف في بيانه وتفسيره، فقيل: هو التعليق، وقيل: هو الفرض كما مرّ، هذا مضافاً إلى إمكان جعل الشرط ذا إضافة واحدة لا إضافتين ليكون من استعماله في أكثر من معنى، فنقول: إن كون أحد الجزئين تكوينياً والآخر تعبدياً يستلزم كون المركب منهما تعبدياً، حيث يمكن انتفاء الجزاء مع انتفاء المجموع المركب، وفي ما نحن فيه يكون الشرط (مجي الفاسق بالنبأ) والتوقف فيه تعبدي؛ إذ مع انتفائه يمكن تحقق الجزاء خارجاً، فإذا لم يكن النبأ عبر الفاسق، أمكن التبيّن حينما كان النبأ عبر العادل، فتأمل.

الجواب الثالث: كما يحتمل كون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع كذلك يحتمل كونه سالبة بانتفاء المحمول، فإن فرض أن المفهوم هو (لم يكن هناك نبأ) فهو من السالبة بانتفاء الموضوع فلا يجب التبيّن لعدم وجود

ص: 323


1- منتقى الأصول 4: 265.

ما يتبيّن عنه، وإن فرض أن المفهوم هو (لم يكن الجائي بالنبأ فاسقاً) فهو سالبة بانتفاء المحمول، فلا يجب التبيّن مع وجود الموضوع الذي هو النبأ.

وحيث دار المفهوم بينها، كانت السالبة بانتفاء المحمول أولى؛ لأن ذلك هو الظاهر من السلب، بل قد يقال: إن السالبة بانتفاء الموضوع مجاز.

وأورد عليه: بأن العادل غير مذكور في المنطوق، فلا يمكن أخذه في المفهوم، مع أنه يلزم تماثل المنطوق والمفهوم في كل شيء إلاّ السلب والإيجاب، وحيث كان المنطوق (مجيء الفاسق بالنبأ) يكون الفهوم (عدم مجيء الفاسق بالنبأ)، فينحصر المفهوم في السالبة بانتفاء الموضوع!.

إن قلت: عدم مجيء الفاسق بالنبأ ينطبق على مجيء العادل به!

قلت: المفهوم ليس من مقولة الألفاظ ليكون له إطلاق، وعليه فمجيء العادل بالخبر مسكوت عنه.

وفي التبيين(1) إن الإشكال صحيح في نفسه، لكنه ليس من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ على هذا لا مفهوم للآية أصلاً، بل وجوده مستهجن عرفاً، ففي مثل: (إن تزوجت فلا تضيّع حق زوجتك) لا مفهوم له بأن يكون (إن لم تتزوج فلا يحرم عليك التضييع؛ لأنه لا زوجة لك)، بل المعنى إثبات المحمول في ظرف وجود الموضوع فقط.

وبعبارة أخرى: السالبة بانتفاء الموضوع ليست من المفهوم في شيء؛ وذلك لأن انتفاء المحمول بانتفاء الموضوع أمر قهري يجري في كل

ص: 324


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 103.

الجمل الحملية والشرطية، سواء أكان شرطاً أم وصفاً أم لقباً أم غيرها.

الجواب الرابع: ما في الكفاية(1): بأنه يمكن أن يقال: إن القضية ولو كانت مسوقة لذلك إلاّ أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر.

بيانه: إن تخصيص الفاسق بالذكر يدل على انحصار وجوب التبيّن بخبره، وإلاّ فلو وجب التبيّن في خبر العادل أيضاً لم يكن وجه لتخصيص الفاسق بالذكر، بل كان الأنسب تعميم الموضوع بأن يقال: (إن جاء إنسان بنبأ فتبينوا) مثلاً، وعليه فلا يجب التبيّن في موضوع آخر - الذي هو خبر العادل - لأن انحصار حكم في موضوع يدل بمفهوم الحصر على عدم وجود ذلك الحكم في مفهوم آخر.

ويرد عليه: أن تخصيص الفاسق بالذكر قد يكون لأجل كونه شأن النزول وخصوصية المورد لا تخصص الوارد، أو كان الغرض منه التنبيه على فسق الوليد وإبطال نظرية عدالة كل الصحابة، أو لغير ذلك من الأغراض.

وأمّا ما في نهاية الدراية، بما حاصله: إنكار عدم المفهوم في القضية الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع!

قال: «إن أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلواً لها في ما له من الشأن بالإضافة إلى سنخ الحكم والمنشئ؛ لأن انتفاء شخص الحكم بانتفاء شخص موضوعه أو شخص علته لا يحتاج إلى دلالة على الحصر، فالحصر

ص: 325


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 374-375.

بالإضافة إلى سنخ الحكم، فإن كان الواقع عقيبها معلقاً عليه حقيقة الحكم كانت السببّية منحصرة، ومقتضى انحصار العلة انتفاء المعلول بانتفائها، وإن كان محققاً للموضوع كان الموضوع الحقيقي منحصراً في ما وقع عقيب الأداة، ومقتضى انحصار موضوع سنخ الحكم في شيء انتفاؤه بانتفائه وإن كان هناك موضوع آخر»(1)، انتهى.

وبعبارة أخرى: إن كان الواقع عقيب أداة الشرط موضوعاً منحصراً، مثل: (إن تزوجت فانفق على زوجتك) فإن سنخ وجوب الانفاق متوقف على الزواج، وإذا انتفى الموضوع انتفى السنخ، وفي آية النبأ يفيد قوله: (فتبينوا) سنخ وجوب التبيّن، ومع انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ ينتفي وجوب التبيّن مطلقاً، فلو جاء عادل بالنبأ فلا وجوب للتبين مطلقاً، وهو المطلوب.

فيرد عليه: بأن القضية الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع لا تفيد إلاّ موضوعية الموضوع لذلك الحكم، وإثبات موضوعية موضوع لا ينافي موضوعية موضوع آخر لذلك الحكم، كما في اللقب، وفي ما نحن فيه الآية تدل على موضوعية مجيء الفاسق بالنبأ لوجوب التبيّن، وذلك لا ينافي ثبوت هذا الحكم لموضوع آخر.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من أن الجملة الشرطية لا تدل على الانحصار، بل

ص: 326


1- نهاية الدراية 3: 209.

لإفادة التعليق أو ربط الجزاء بالشرط أو توقيته عند الشرط، وأما الانحصار فلا بد من استفادته من القرائن.

الجواب الخامس: ما في الفوائد(1): من إمكان استظهار أن الموضوع في الآية مطلق النبأ مع كون الشرط مجيء الفاسق به في مورد النزول، حيث اجتمع في إخبار الوليد عنوانان: كونه خبراً واحداً وكون المخبر فاسقاً، والآية علّقت وجوب التبيّن على كون المخبر فاسقاً، فيكون الشرط لوجوب التبيّن كون المخبر فاسقاً لا كون الخبر واحداً؛ لأنه لو كان الشرط كون الخبر واحداً لعلّق وجوب التبيّن عليه، حيث إنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبيّن في خبر غير الفاسق.

وبالجملة فلا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية ولا بد من أن يكون المورد من صغرياتها حتى لا يلزم خروج المورد عن العام؛ إذ ذاك قبيح، بل العام بالنسبة إلى المورد كالنص، فلا بد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية، ولما اجتمع في مورد النزول عنوانان وعلق الحكم على أحدهما دون الآخر كان الجزاء مترتباً على خصوص ما عُلّق عليه في القضية، مع فرض وجود العنوان الآخر وعدم دخله في الجزاء، وإلاّ لعلّق الجزاء عليه أيضاً.

والحاصل: أن منطوق الآية بعد ضمّ المورد إليها هو (الخبر الواحد إن

ص: 327


1- فوائد الأصول 3: 169.

كان الجائي به فاسقاً فتبينوا)، ومفاد المفهوم (الخبر الواحد إن لم يكن الجائي به فاسقاً فلا تتبينوا)، وعليه فالقضية تكون من القضايا التي علق الحكم فيها على ما لا يتوقف عليه الحكم عقلاً.

وأشكل عليه: أولاً(1): بأن ما ذكره صحيح لولا احتمال كون النكتة التنبيه على فسق الوليد، لا من جهة خصوصية له في المقام.

وثانياً(2): لا إشكال في أن مورد النزول من صغريات الكبرى، وإنما الكلام في أن الآية في مقام بيان حكم الفاسق لا في مقام تمييز ما يجب التبيّن فيه عما لا يجب.

وثالثاً(3): إنه عدول عن مفهوم الشرط إلى مفهوم الوصف، لدلالة كلمة (فاسق) على أن الموضوع هو الفسق.

ورابعاً(4): يترتب على ذلك ثبوت المفهوم لجميع الجمل الوصفية، مثلاً لو قال المولى: (أكرم هذا العالم) فقد اجتمع فيه عناوين متعددة: كونه رجلاً هاشمياً أباً عالماً... فيقال: إذا كانت لبقية العناوين مدخلية فلماذا علّق وجوب الإكرام على كونه عالماً، فيدل هذا على أن العلم هو العلة الوحيدة لوجوب الإكرام، فينتفي عند انتفائه، وهذا ما لا يلتزم به أحد خاصة وأن الوصف لم يعتمد على موضوع!

ص: 328


1- فوائد الأصول 3: 169 (الهامش).
2- فوائد الأصول 3: 169 (الهامش).
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 112-113.
4- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 113.

الجواب السادس(1): إن أداة الشرط شأنها التعليق دائماً، غاية الأمر أن المعلّق عليه ربّما لا يعقل له بدل يمكن أن ينوب عنه - سواء كان علة مثل: (إن سأل زيد فأجبه)، أو محققاً للموضوع مثل: (إن رزقت ولداً فاختنه) - فالانتفاء عند الانتفاء عقلي، وربّما يعقل له بدل لكنه يؤخذ في الموضوع على نحو تحقق الموضوع، فتكون النكتة فيه إظهار حصر الموضوع في ما أخذ الشرط فيه محققاً له بدعوى أنه كالمحقق الذي ينتفي الحكم بانتفائه عقلاً.

وبعبارة أخرى: إنه مع وجود البديل للشرط تم العدول من النحو العادي للجمل الشرطية إلى نحو تحقق الموضوع، ولا يكون ذلك إلاّ لإفادة الحصر، وعليه فتدل الجملة على المفهوم بنحو آكد.

وفيه(2): لو كان مورد الآية (النبأ) أمكن القول بأن العدول يدل على الحصر، إلاّ أن مورد الآية هو: (مجيء الفاسق بالنبأ) فليس هناك عدول حتى يدل على المفهوم.

وبعبارة أخرى: حيث إن شأن النزول هو مجيء الفاسق بالنبأ فلا يثبت أن المقصود هو بيان حكم طبيعي النبأ حتى يقال: بأنه عدل عنه إلى نبأ الفاسق!

المقام الثاني: في الاستدلال بمفهوم الوصف

وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: إنه لو اجتمعت حيثية ذاتية وحيثية عرضية فلا بد من

ص: 329


1- نهاية الدراية 3: 209-210.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 110.

التعليل بالحيثية الذاتية دون العرضية، والعدول عن ذلك قبيح، فمن القبيح تعليل نجاسة الدم بملاقاته البول مثلاً، وفي ما نحن فيه خبر الفاسق فيه حيثية ذاتية هي كونه خبراً واحداً، وحيثية عرضية هي كونه خبر فاسق، وفي ما نحن فيه حيث عدل عن الذاتية إلى العرضية علمنا بأنه لا دخل للذاتية في التعليل.

والمراد من الذاتي هنا ذاتي باب البرهان - وهو ما يكفي في انتزاعه لحاظ الشيء بنفسه من غير ضمّ ضميمة خارجية - وفي ما نحن فيه كون الخبر واحداً هو ذاتي للنبأ، حيث إن المراد النبأ غير العلمي بقرينة قوله: (فتبينوا) و(بجهالة)، والحاصل: أن ثبوت كونه خبراً واحداً ذاتي للنبأ غير العلمي، حيث إن خبر الواحد لا يفيد العلم.

إن قلت: لازم ذلك حجية خبر من لم يكن عادلاً ولا فاسقاً، كالتائب عن الكبيرة قبل أن تتحقق فيه الملكة، أو كالذي بلغ، حيث إنه ليس بعادل لعدم استقامته على جادة الشرع ولا بفاسق لعدم صدور معصية عنه!

قلت: عموم المفهوم لا ينافي تخصيصه بأدلة أخرى، فتأمل.

ويرد عليه: بأن العدول من الذاتية إلى العرضية قد يكون لجهة عقلائية، ولا بأس بذلك، وفي ما نحن فيه لعل ذلك كان لبيان فسق الوليد.

الوجه الثاني: إن تعليق الحكم على الوصف يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

وأشكل عليه: بأن عمدة الأدلة على ثبوت مفهوم الوصف هو لغوية ذكره إن لم يكن له دخالة في الحكم، ويكفي في رفع اللغوية هو انتفاء

ص: 330

الحكم عند انتفاء الوصف في الجملة، وعليه فلا دليل على عموم المفهوم، وثبوت الحجية لخبر الواحد في الجملة لا ينفع؛ لأنه يتمسك فيه بالقدر المتيقن كحالة أورث الخبر الواحد الاطمئنان مثلاً، هذا مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية في ثبوت المفهوم للوصف.

الوجه الثالث: إن التبيّن كما يكون بالقرائن الخارجية، كذلك يكون بالقرائن الداخلية ومنها عدالة الراوي، وبعبارة أخرى: التبيّن لازم في كل خبر، أما خبر الفاسق فبالقرائن الخارجية، وأما خبر العادل فبالقرينة الداخلية التي هي عدالته.

وفيه: أن مجرد العدالة لا توجب العلم، بل قد يشك في خبر العادل، أو يظن بعدم صحته، مضافاً إلى أن التبيّن منصرف عن ذلك، بل يكون أشبه بطلب الحاصل إن كان المفهوم إن جاءكم عادل فتبينوا أي عن عدالته!!

المقام الثالث: في المانع عن المفهوم

فحتى لو فرض وجود المقتضي للمفهوم فهناك موانع عنه، ويمكن ذكرها في إشكالات، ومنها:

الإشكال الأول: سقوط المفهوم بالتعارض بينه وبين عموم التعليل.

وذلك لأن علة وجوب التبيّن هي مخافة الوقوع في خلاف الواقع والندم عليه، وهذه علة مشتركة بين خبر الفاسق وخبر العادل؛ لأن العادل لا يكذب ولكنه قد يخطئ، وحين هكذا تعارض يكون رفعه بتقديم عموم التعليل حتى لو كان المورد خاصاً، ففي مثل: (لا تأكل الرمان لأنه حامض) لفظة الرمان لها إطلاق تشمل الحلو، والتعليل له عموم يشمل الخلّ، فالمقدم هو

ص: 331

عموم التعليل ويخصص الحكم بالرمان بالحامض فقط دون الحلو؛ وذلك لوجود ظهور نوعي عرفي في أن الحكم دائر مدار التعليل، وهكذا في آية النبأ، فإن الحكم وإن كان مورده خاص وهو الفاسق إلاّ أن العلة عامة تشمل غيره.

وأجيب عنه بأجوه، منها:

الجواب الأول: إن الجهالة بمعنى السفاهة، أي فعل ما لا ينبغي من العاقل، فالتعليل لا ينطبق على العمل بخبر العادل، فلا عموم له لكي يتعارض مع المفهوم.

إن قلت: إن الجهالة في الآية بمعنى الجهل لا السفاهة؛ وذلك لأن شأن نزول الآية كان خبر الوليد، والإقدام على مقتضى قوله لم يكن سفاهة؛ إذ جماعة العقلاء لا يقدمون على الأمور الخطيرة من دون الوثوق بخبر المخبر، وعليه فالمنهي عنه في الآية العمل على طبق الخبر إذا لم يوجب العلم حتى لو كان عملاً عقلائياً، وهذا الأمر ينطبق على خبر العادل.

قلت: قد تكون الكبرى واضحة مع عدم وضوح الصغرى، ويمكن في شأن نزول الآية أن يكونوا علموا بالكبرى بقبح الإقدام على العمل السفهائي، مع عدم علمهم بالصغرى - بكون اعتمادهم على خبر الوليد سفاهة، والآية نبّهتهم على الصغرى، فيكون حاصل المعنى: (لا تعملوا بخبر الوليد من غير تبيّن؛ لأنه فاسق والعمل بخبر الفاسق سفاهة) فلم يثبت عموم للتعليل.

هذا مضافاً إلى أن العقلاء قد يرتكبون العمل السفهائي لبعض الدواعي

ص: 332

النفسانية أو للغفلة.

الجواب الثاني(1): بحكومة المفهوم على عموم التعليل، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم، حيث إن المحكوم يرتب المحمول على فرض وجود الموضوع، وليس الحكم ناظراً إلى ثبوت أو انتفاء الموضوع، وأما الحاكم فهو يوسّع أو يضيق الموضوع فلا تصادم.

وفي آية النبأ مفاد التعليل: وجوب التبيّن عن كل ما ليس بعلم وهو جهالة، ومفاد مفهوم الشرط هو حجية خبر العادل ومعنى الحجية اعتبار خبر العادل علماً.

وأورد عليه: بمناقشات كثيرة مع قطع النظر عن الإشكال المبنائي بأن الحجية ليست بمعنى جعل العلمية.

والإشكالات تارة في أنه ليس حكومة، بل تخصيص أو تحاكم، وتارة بعدم وجود المحكوم، وتارة بوجود المانع عنها.

المناقشة الأولى: بأن المورد من موارد التخصيص وليس الحكومة(2)؛ وذلك لأن الحكومة ترتبط بالموضوع، أي توسعة أو تضييق في الموضوع لغرض نفي أو إثبات الحكم، وهذا غير متصور في ما نحن فيه، حيث إن النفي وارد على نفس الحكم لا على الموضوع، فالمفهوم وهو (إن جاءكم عادل فلا تتبيّنوا) يرتبط بنفي الحكم أي وجوب التبيّن، وهذا هو التخصيص.

ص: 333


1- فوائد الأصول 3: 172.
2- نهاية الأفكار 3: 115.

ويرد عليه: إن الحكومة أقسام، فمنها: ما يرتبط بتوسعة أو تضييق الموضوع، ومنها: الحكومة برفع الحكم، مثل: دليل لا ضرر، وفرقه عن التخصيص أنها بلسان المسالمة وهو بلسان التصادم، ومنها: عكس ذلك على ما قيل: إنّ الحكومة تكون بتوسعة الحكم بلسان عدم التصادم أيضاً.

وفي ما نحن فيه لا تصادم فلا تخصيص، فتأمل.

المناقشة الثانية: بأنه تحاكم لا حكومة(1)، وحاصله: أنه كما أن العلة تقتضي التصرف في المعلّل بالحكومة، كذلك المفهوم في حدّ نفسه يوجب التصرّف في عموم التعليل بإخراج خبر العادل عن موضوع التعليل، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعاً لموضوع الآخر، فيتحقق التحاكم، ومقتضى ذلك التساقط، والنتيجة هي عدم ثبوت المفهوم.

وأورد عليه(2): أولاً: بأن مقتضاه إلغاء المفهوم وانقلابه إلى مفهوم آخر، وعليه فلا تحاكم وإنما حكومة التعليل فقط، فموضوع الجملة الشرطية حينئذٍ ليس مجيء الفاسق بالنبأ، وإنما هو أعم لشموله خبر العادل أيضاً وأخص لعدم شموله خبر الفاسق العلمي، وعليه فالمعلّل - أي الشرط - يكون: (إن جاءكم نبأ غير علمي فتبينوا) وفمهومه: (إن جاءكم نبأ علمي فلا تبينوا) وهذا إلغاء للمفهوم المعهود، فلا تحاكم، بل حكومة من جهة واحدة وهي حكومة التعليل على الشرط لا حكومة التعليل على المفهوم لعدم بقاء المفهوم حتى يكون محكوماً! ونتيجة ذلك إلغاء المفهوم من جميع القضايا الشرطية المعلّلة.

ص: 334


1- منتقى الأصول 4: 269.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 141.

وفيه: أن كلام المنتقى في أن كلا الطرفين له مقتضي الحكومة فيتساقطان لعدم ترجيح أحدهما على الآخر، والإشكال إنما يرد لو قلنا بفعلية حكومة التعليل على المنطوق ومن ثمّ على المفهوم، والحاصل: أنه ليس المدعى فعلية الحكومة من الطرفين، وإنما اقتضاؤها وتساقطها فيهما، فتأمل.

وثانياً: بأنه خروج عن مصطلح الحكومة، حيث إن الشرط ليس موضوعاً للمفهوم وإنما هو أصل لانتزاع المفهوم.

وفيه: أن المراد أن العلة تتصرف في المنطوق وذلك يستلزم التصرف في المفهوم بطريق غير مباشر، ولا فرق في الحكومة بين هذا وذاك، فتأمل.

المناقشة الثالثة: بعدم وجود المحكوم فلا حكومة، وحاصله: أن عموم التعليل مانع عن انعقاد المفهوم من رأس لكونه قرينة متصلة، فلا محكوم لكي تتم الحكومة!

وأورد عليه(1): بأن منشأ المانعية هو توهم المعارضة بين عموم التعليل وبين انعقاد المفهوم، مع أن الحكومة رافعة للمعارضة؛ لأنها لا تتصرف في عقد الحمل، بل تتصرف في عقد الوضع، وعليه فالدليل المحكوم ليس ناظراً لعقد وضعه - لأن الحكم لا نظر له إلى موضوعه - فلا يقتضي شيئاً بالنسبة إلى عقد الوضع، والدليل الحاكم يقتضي الرفع والوضع في عقد وضع الدليل المحكوم، ولا تنافي بين المقتضي واللامقتضي.

ص: 335


1- فوائد الأصول 3: 173.

المناقشة الرابعة: عدم تحقق شرط الحكومة، حيث إنه لا بد فيها من كون التصرف في موضوع الدليل المحكوم بلحاظ الأثر الشرعي، مع أن اعتبار شيء علماً لا أثر شرعي له.

وفيه: أنه يكفي وجود الأثر العقلي، وللعلم أثر عقلي كالمنجزية والمعذرية.

المناقشة الخامسة: وجود المانع عن الحكومة، وهو الدور: قال المحقق الإصفهاني: «إن حكومة سائر الأدلة على هذا التعليل المشترك - بين الفاسق والعادل - وجيهة، وأما حكومة المفهوم المعلّل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت لحجية خبر العادل حتى ترتفع به الجهالة تنزيلاً، فهو دور واضح»(1).

بيانه: أن حكومة المفهوم تتوقف على عدم مانعية المنطوق؛ إذ أنه لو انعقد عموم التعليل منع عن تحقق المفهوم، ومن جهة أخرى إن عدم مانعية عموم التعليل يتوقف على حكومة المفهوم كما هو مدعى المحقق النائيني!

إن قلت: لا تتوقف حكومة المفهوم على عدم مانعية عموم التعليل، بل تتوقف على انعقاد المفهوم.

قلت: إن انعقاد المفهوم كما يتوقف على وجود المقتضي - وهو الوضع اللغوي - كذلك يتوقف على عدم المانع وهو عدم انعقاد عموم التعليل!

وأورد عليها: بأن سبب المانعية هو وجود المعارضة، ومع الحكومة

ص: 336


1- نهاية الدراية 3: 212.

ترتفع المعارضة، وعليه فالمقتضي وهو الوضع اللغوي موجود، والمانع وهو انعقاد عموم التعليل مفقود!

المناقشة السادسة: إنه وإن أمكنت الحكومة بلحاظ الجهالة، حيث يقال: إن العلم التنزيلي ليس بجهالة، إلاّ أنها لا تمكن بلحاظ الندم في قوله تعالى: {فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ}(1)؛ وذلك لأن الندم مشترك بين خبر العادل والفاسق لو كان مخالفاً للواقع!

وأورد عليها: بأن المراد الندم الحاصل في المخالفة وعدم العمل بالوظيفة الشرعية!! ولولا ذلك لشملت هذه العلة جميع الأمارات والطرق غير العلمية لاحتمال الوقوع في خلاف الواقع.

وبعبارة أخرى(2): إن التعليل في الآية ليس الندم حتى يقال: إنه نوعان، بل العلة الندم المتفرع عن الإصابة بجهالة بقرينة فاء التفريع، ومع الحكومة فلا إصابة بجهالة فلا يتفرع عليه الندم!

المناقشة السابعة: إن التعليل منطوق ودلالته بالمطابقة، والمفهوم دلالته بالالتزام، ولا يكون المتأخر حاكماً على المتقدم!

وأورد عليها: أولاً: أن المفهوم دلالة التزامية للمقطع الأول من الكلام والمنطوق دلالة مطابقية للمقطع الثاني من الكلام، فالمفهوم مقدّم زماناً وقد انعقد قبل المنطوق الآخر، وتزلزله وعدم استقراره باعتبار أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما يشاء يخرج المنطوق الآخر عن التأخر.

ص: 337


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 137.

وفيه: إنه ليس منشأ المفهوم المعنى البدوي الذي يخطر بالبال حين سماع الكلمة، بل المعنى الذي يستقر عليه الكلام ولا يكون ذلك إلاّ بانتهاء الكلام، فلا اعتبار بخطور الحيوان المفترس حين سماع لفظ الأسد قبل النطق بالقرينة، كذلك لا اعتبار بالمفهوم الخطوري، بل إنما ينعقد المفهوم حين الانتهاء من الكلام، فتأمل.

وثانياً: حتى لو كانا في جملة واحدة فلا تأخر وتقدم بينهما في مرحلة الثبوت؛ لأن خبر الفاسق وخبر العادل في رتبة واحدة. نعم، في مرحلة الإثبات المنطوق مقدّم، والحكومة لا ترتبط بمقام الإثبات حتى يضر التأخر فيه.

وفيه تأمل: لأن الحكومة ترتبط بعالم الإثبات، كالتخصيص، ولا ترتبط بمقدمات الحكم قبل الإنشاء، ففي الواقع وإرادة المولى قد يكون حكمان أو موضوعان في مرتبة واحدة، لكن لا حكومة هناك، ولو سلمنا بوجود الحكومة هناك فنقول: إنه لا طريق إليها إلاّ اللفظ.

الإشكال الثاني - على مفهوم الوصف في آية النبأ -: تعارض الآيات الرادعة عن العمل بغير العلم مع هذا المفهوم، بتعارض العموم والخصوص من وجه، ومورد الاجتماع خبر العادل غير العلمي، فيتساقطان ويكون المرجع أصالة عدم الحجية.

فمفهوم الآية حجية خبر العادل سواء أورث العلم أم لا، ومعنى الآيات الرادعة عدم حجية العلم سواء كان عبر خبر العادل أم الفاسق، ومورد الاجتماع خبر العادل غير العلمي.

ص: 338

وفيه: لا عموم من وجه، بل المفهوم أخص مطلقاً من الآيات الرادعة؛ لأن المفهوم خاص بخبر العادل الظني، حيث إن المراد من (النبأ) النبأ غير العلمي بقرينة التعليل وقوله: (تبينوا) كما مرّ.

إن قلت: يمكن بيان العموم من وجه بطريقة أخرى: بأن الآيات الرادعة مقيدة بغير الظن الذي ثبتت حجيته في قوله: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1) ونحوهما، فلا تشمل الفتوى والبينة ونحوهما، والنسبة بين الآيات الرادعة المقيدة وبين المفهوم العموم من وجه، فافتراق الرادعة: في خبر الفاسق حيث لا يشمله المفهوم، وافتراق المفهوم في فتوى الفقيه والبينة ونحوهما حيث لا تشملها الآيات الرادعة، والاجتماع في خبر العادل الواحد.

قلت: أن ذلك من جهة انقلاب النسبة، ولا نقول بها، فنسبة الأدلة الخاصة إلى الدليل العام نسبة واحدة، ولا وجه لتخصيص العام بأحدها ثم ملاحظة النسبة بين ذلك العام المخصّص وبين سائر الأدلة الخاصة.

الإشكال الثالث: إن ثبوت المفهوم يستلزم خروج المورد عن الآية، وذلك قبيح، حيث إن العام نص في المورد فلا يصح ذكره مع عدم كون المورد مصداقاً له؛ وذلك لأن المورد هو الارتداد ولا يكفي في الارتداد خبر العدل الواحد، بل لا بد من قيام البينة فيه، فبناءً على ثبوت المفهوم يكون المفهوم: (إن جاءكم عادل فلا تتبينوا) مع خروج المورد، حيث لا يصح

ص: 339


1- سورة الأنبياء، الآية: 7؛ سورة النحل، الآية: 43.

العمل به، بل لا بد من انضمام عادل آخر إليه!

وأجيب: بأنه يكفي في رفع القبح انطباق المنطوق على المورد مع تقييد المفهوم، فمعنى الآية حينئذٍ يجب التبيّن في خبر الفاسق وخبر الوليد أحد مصاديقه، والمفهوم لا يجب التبيّن في خبر العادل مع تقييده بالتعدد في خبر الارتداد.

إن قلت: لا بد من إنكار المفهوم رأساً؛ لأن تقييده غير عرفي؛ إذ مع ثبوت المفهوم يكون التشنيع عليهم بقبول خبر الفاسق من غير وجه؛ إذ في المورد لا يجوز قبول خبر العادل أيضاً، وبعبارة أخرى: لا وجه لتخصيص الفاسق بالتشنيع على قبول خبره مع أن خبر العادل أيضاً كذلك لا يجوز قبوله في المورد، فلا بد من إنكار المفهوم، ولا بأس بالتشنيع بالخاص لنكتة مع عموم التشنيع.

قلت(1): التشنيع في مورد المنطوق لا ينافي التفصيل في المفهوم، فيكون حاصل المعنى: لا تعتمد على النبأ إذا جاء به الفاسق، وأما إذا كان الجائي عادلاً فاقبل كلامه إلاّ في الارتداد فالواحد لا تقبله والمتعدد اقبله.

والحاصل: إنه لا بأس بتقييد المفهوم بالأدلة الخارجية، كما يقال: إذا كان الماء قليلاً انفعل بملاقاة النجاسة، ومفهومه إذا كان كثيراً لا ينفعل بملاقاتها بشرط عدم التغيّر، وقيد عدم التغيّر استفيد من أدلة أخرى.

الإشكال الرابع: إنّ دلالة آية النبأ على حجية خبر العادل تستلزم عدم

ص: 340


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 158.

حجيته، وما استلزم وجوده عدمه محال؛ وذلك لأن السيد المرتضى ادّعى الإجماع على عدم حجية الخبر الواحد، وكلامه هذا خبر واحد، فلو كان خبر الواحد حجة كان كلامه هذا حجة، وحجية كلامه يستلزم عدم حجية خبر الواحد.

والجواب من وجوه - طوليّة -:

أولاً: خبره هذا معلوم عدم صحّته لعدم تحقق الإجماع قطعاً بمخالفة الأكثر، وأدلة الحجية ظرفها الشك، فلا تشمله.

وثانياً: تخصيص أدلة الحجية، بعدم شمولها هذا الإجماع لوجود المحذور العقلي فيه، ولا محذور في غيره.

وثالثاً(1): إن عدم شمول آية النبأ لخبر السيد المرتضى تخصص، وعدم شمولها لسائر الأخبار تخصيص، والتخصص أولى من التخصيص.

أما الكبرى: فقد تمّ البحث عنها سابقاً، وأما انطباقها على ما نحن فيه: فهو أن موضوع الحجية في آية النبأ هو (النبأ المشكوك) لا المعلوم المطابقة للواقع ولا المعلوم عدم المطابقة له، وعليه فالآية إن شملت سائر الأخبار قطعنا بعدم حجية خبر السيد المرتضى؛ لأن حجيتها تساوق عدم حجيته، حيث إن مضمون خبره عدم حجية أخبار الآحاد ولا معنى لحجية المتناقضين، فخرج خبره عن موضوع آية النبأ بالتخصّص، وأما إن شملت الآية خبره لزم خروج سائر الأخبار بالتخصيص، حيث ليس مضمونها

ص: 341


1- نهاية الأفكار 3: 119.

الحجية كي يقال: فقطع بعدم حجيتها، بل مضمونها الخبر عن الواقع، ونحن لا نعلم بمطابقة مضمونها للواقع، وعليه: فتلك الأخبار (نبأ مشكوك) لأنها وإن لم تكن حجة لكنا نحتمل مطابقتها للواقع.

وأورد عليه: بأنه دوران بين تخصيصين؛ لأن موضوع آية النبأ عرفاً ليس الخبر المشكوك الحجية، بل الخبر المشكوك مطابقته للواقع، بقرينة قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(1).

وأما ما قيل: من أن تقديم التخصّص على التخصيص لو تمّ فإنما هو أمر عقلائي لنكتة راعاها العقلاء، وهي التمسك بالعموم والإطلاق، ولا تجري هذه النكتة إلاّ في حالة الشك، ولا شك في ما نحن فيه؛ لأن خبر السيد المرتضى حاكم على العمومات؛ لأن المراد من المفهوم حسب خبر السيد المرتضى هو النبأ الذي تطمئن إليه النفوس، فلا يشمل الأخبار الظنية، وعليه فلا شك في العموم، بل علم بعدمه.

ففيه: أن النبأ في المنطوق هو المشكوك فلا يمكن أن يكون في المفهوم النبأ المورث للاطمئنان.

المقام الرابع: في الأخبار بالواسطة

وقد أشكل على دلالة آية النبأ وغيرها على حجية خبر العادل باستحالة شمولها للأخبار بالوسائط، فحتى لو سلّم دلالتها على خبر العادل فإنما تدل على الخبر الذي يرويه الراوي بلا واسطة، وأما الأخبار بالواسطة - وهي

ص: 342


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

جميع الأخبار الواصلة إلينا - فلا.

ويمكن تقرير الاستحالة بوجوه، منها:

التقرير الأول: استلزام حجيتها تقدم الحكم على موضوعه وهو محال.

بيانه: أنه روى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن المعصوم (علیه السلام) مثلاً روايةً، فكلام الكليني وصلنا متواتراً لتواتر كتابه الكافي فيشمله (صدّق العادل)، وأما كلام علي بن إبراهيم فإنه لم يثبت لنا بالوجدان وإنما نريد إثبات كلامه تعبداً عبر الأدلة الدالة على وجوب تصديق العادل، وعليه فهذه الأدلة مقدمة على خبره لأنه متولد عنها، فلا يمكن أن تكون تلك الأدلة حكماً لخبره؛ وذلك لاستحالة تأخر المتقدّم.

وبعبارة أخرى: صاحب الكتاب خبره ثابت لنا وجداناً فيكون موضوعاً لتلك الأدلة، وأما سائر من في السند فخبرهم ثابت لنا تعبداً بتلك الأدلة فهو متأخر عنها، فلا يمكن أن يكون موضوعاً لها، وعليه فلا دليل على حجية أخبارهم.

وأجيب: أولاً: بأن مدلول تلك الأدلة حجية طبيعي الخبر، والقضية الطبيعية - بالمعنى الأصولي - تشمل جميع الأفراد حتى المتأخرة منها، ويراد بالقضية الطبيعية في اصطلاح علم الأصول: ما كان الموضوع هو الطبيعة لا بقيد كونها كليّة، فلا تلاحظ في الأفراد خصوصياتها الفردية والتي منها التقدم والتأخّر، فالحكم يشمل الفرد المتأخر قهراً.

إن قلت: صحيح إن القضية الطبيعية تشمل جميع الأفراد سواء الطولية أم العرضية، لكن ذلك إنما يكون في ما لم يكن محذور عقلي عن شمولها

ص: 343

لبعض الأفراد، وفي ما نحن فيه المحذور موجود وهو تأخر المتقدّم.

قلت: حيث إن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، فالفرد المتولّد عنها

لا يتعلق به الحكم بما هو فرد، بل بالطبيعة الموجودة فيه!

وفيه نظر: لأن هذه الطبيعة تنتزع من هذا الفرد، وقد مرّ أن النسبة ليست كنسبة الأب للأبناء، بل الأباء للأبناء، فتأمل.

وثانياً: إن مدلول تلك الأدلة قضية حقيقيّة، فالأحكام متعددة بتعدد الأفراد، وعليه فالمقدّم حكم، والمؤخّر حكم آخر، وفي الفوائد: «الذي لا يعقل هو إثبات الحكم موضوع شخصه، لا إثبات موضوع لحكم آخر»(1).

إن قلت: صحيح أن القضايا الحقيقية تنحلّ إلى أحكام متعددة بتعدد الموضوعات، إلاّ أنها دفعيّة الوجود، فكيف تنحل إلى ما هو مترتب في الوجود؟

قلت: إن التقدم والتأخر إنما هو رتبي وأما خارجاً فهذه الأخبار تولد دفعة واحدة، ففي المثل خبر الكليني وعلي بن إبراهيم وأبيه ولدت دفعة واحدة وإنما بعضها علة لبعض، فلا تقدّم وتأخر في الوجود وإنما في الرتبة، ككل علة ومعلول.

وثالثاً: إن الممتنع هو التوقف الثبوتى لا الإثباتي، وخبر الواسطة - كخبر علي بن ابراهيم - ليس وجوده الواقعي متوقفاً على أدلة الحجية، وإنما علمنا به متوقف عليها، وموضوع تلك الأدلة هو الخبر بوجوده الواقعي لا العلمي؛ لأن

ص: 344


1- فوائد الأصول 3: 179.

الأحكام تترتب على الموضوعات الواقعية، وعليه: فعلمنا بالخبر متوقف على دليل الحجية، ودليل الحجية حكمٌ للخبر الواقعي، فلا تأخر للمتقدّم، كما أن علمنا بالنار متوقف على الدخان، ووجود الدخان واقعاً متوقف على النار.

وبعبارة أخرى: المتقدّم على أدلة الحجية هو الوجود الواقعي للخبر، والمتأخر هو الوجود التعبدي له.

إن قلت(1): إن الحجية إن كانت محمولة على خصوص الخبر الواقعي فهو غير ثابت وجداناً لاحتمال اشتباه الراوي، وإن كانت محمولة على الأعم من الواقعي والتعبدي فالإشكال يعود، فإن علة الثبوت التعبدي هو أدلة الحجية، فكيف تكون محمولاً مع كونها علةً؟

قلت: إن الأمارات والطرق كاشفة عن الواقع، واحتمال اشتباه الراوي منفيّ بالأصل العقلائي، وعليه فأدلة الحجية تكشف عن الوجود الواقعي للخبر مع الواسطة لا أنها علة له وتكون حكماً له من غير محذور، فتأمل.

ورابعاً: لو فرض عدم اندفاع الإشكال بما ذكر، فيمكن أن يقال: بشمول مناط أدلة الحجية للخبر مع الواسطة، بعد شمولها للخبر بلا واسطة؛ لعدم الفرق بينهما قطعاً.

التقرير الثاني: استلزام حجيتها اتحاد الحكم والموضوع، وذلك بأخذ الحكم في موضوع نفسه، وهو محال.

بيانه: إن الحكم بوجوب التصديق لا بد أن يكون لموضوع ٍ له أثر، وإلاّ

ص: 345


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 172-173.

كان لغواً، وأدلة حجية خبر الثقة تدل على حجية خبره المباشر عن المعصوم (علیه السلام) ؛ لأن له أثراً هو الحجية ووجوب الأخذ به، وأما الأخبار غير المباشرة عن المعصوم (علیه السلام) - وهي عامة الأخبار التي بأيدينا - فيستحيل شمول أدلة الحجية لها؛ لأنه لا أثر لخبر الرواة غير المباشرين إلاّ وجوب تصديقهم، ولا يصح أن يقال: (إن الخبر الذي أثره وجوب التصديق، يجب التصديق به) لأن ذلك أخذ للحكم في الموضوع، وحيث إن الحكم متأخر عن الموضوع فأخذه فيه يستلزم تقدّم المتأخر، وهو محال.

وأجيب بجوابين:

الجواب الأول: إن الخبر مع الواسطة ليس أخباراً متعددة، كي نبحث عن أثر لكل واحد منها، بل هو في حكم خبر ٍ واحدٍ، فيكفي فيه أثر واحد هو الحجيّة.

وأورد عليه: بأن السامع قد يصدّق المخبر في ما ينقله عن الواسطة مع عدم تصديق الواسطة في ما نقلته، فاجتمع تصديق وتكذيب، ولو كان الخبر غير متعدد لم يكن ذلك، وهو قرينة تعدد الخبر.

الجواب الثاني: ما عن المحقق الحائري(1): بأن أثر الخبر مع الواسطة هو ثبوت قول المعصوم (علیه السلام) وليس الأثر تصديق العادل، وحاصله: أن بين الخبر والمخبر به ملازمة نوعية ظنّية، حيث إن خبر الثقة له كاشفية نوعية ظنية عن الواقع، وهذه الملازمة غير مجعولة للشارع، بل هي ملازمة ثابتة

ص: 346


1- درر الفوائد، للحائري: 388.

بقطع النظر عن الجعل الشرعي، وحيث إن الطريق إلى أحد المتلازمين طريق للآخر، فالخبر بلا واسطة كما هو طريق إلى الخبر مع الواسطة كذلك هو طريق إلى قول المعصوم (علیه السلام) .

لا يقال(1): إنّه لا ملازمة بين الخبر والمخبر به؛ لأن الملازمة إما واقعية وإما جعلية، ولا توجد ملازمة واقعية إلاّ بين العِلّة والمعلول أو المعلولين لعلة واحدة، وهنا ليس بين الخبر والمخبر عِليّة ولا هما معلولان لعلة أخرى، كما لا توجد ملازمة جعلية؛ إذ يُراد إثبات الملازمة مع قطع النظر عن الجعل الشرعي وإلاّ لعاد الإشكال.

لأنه يقال(2): إنه لا يراد الملازمة الواقعية القطعية كي يقال: إنها بسبب العلية بينهما أو معلوليتهما لعلة أخرى، بل يراد الملازمة الظنية، أي الظن بالملازمة نوعاً.

لا يقال: بأن خبر صاحب الكتاب ليس خبر لنا عن قول المعصوم (علیه السلام) إلاّ على تقدير عدم خطأ الناقل المباشر عن الإمام (علیه السلام) ، ولا معنى لوجوب تصديق الخبر تحقيقاً عن لازم على تقدير!

بيانه(3): إن هنا ملازمتين: الأولى: الملازمة بين الخبر بالواسطة وبين الخبر بلا واسطة. الثانية: الملازمة بين الخبر بالواسطة وكلام المعصوم (علیه السلام) .

وخبر الواسطة غير ثابت بالوجدان لأننا لم نسمعه منه، وغير ثابت بالتعبد

ص: 347


1- نهاية الدراية 3: 225.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 186.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 187.

وإلاّ لعاد المحذور، وعليه فتكون القضية فرضية، أي لو كان المخبر بالواسطة قد قال ذلك الكلام لكان الإمام قد قاله، ولا يمكن حمل هذا الثاني (أي لكان الإمام قاله) على القضية الأولي (أي الخبر بالواسطة ملازم لقول الإمام) بمعنى أن المخبر بالواسطة قد قاله فالإمام قد قاله؛ وذلك لأنه لا يمكن إصدار حكم منجز على خبر معلّق.

لأنه يقال: حيث إن الملازمة الظنية النوعية قد أخرجته عن التقدير إلى التنجيز، فخبر الكليني مثلاً يكشف عن خبر علي بن إبراهيم، وهو يكشف عن خبر أبيه، وهو يكشف عن قول المعصوم (علیه السلام) وعليه فخبر على بن إبراهيم وخبر أبيه ثابتان لنا تحقيقاً لا تقديراً، فتأمل.

الآية الثانية: آية النفر
اشارة

وهي قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1)

والاستدلال بهذه الآية على حجية خبر الواحد من وجوه:

الوجه الأول: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر

وذلك عبر طرق، منها:

الطريق الأول: الملازمة بين إطلاق وجوب الإنذار وإطلاق وجوب الحذر - سواء أفاد الإنذار العلم أم لا - ، ففي نهاية الدراية(2): إن إطلاق

ص: 348


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- نهاية الدراية 3: 235.

الحذر يستكشف بإطلاق وجوب الإنذار؛ ضرورة أن الإنذار واجب مطلقاً من كل متفقه - سواء أفاد العلم للمنذَر أم لا - فلو كانت الفائدة منحصرة في التحذر كان التحذر واجباً مطلقاً وإلاّ لزم اللغوية أحياناً.

وبعبارة أخرى: إن وجوب ذي المقدمة يترشح على المقدمة، فيكون وجوبها كوجوبه، وحيث إن وجوب الإنذار - الذي هو مقدمة - مطلق، فوجوب التحذر الذي هو ذي المقدمة مطلق أيضاً، وعليه فيجب حذر المنذَرين مطلقاً ولا يكون ذلك إلاّ بالعمل بالخبر الذي رواه النافرون.

وأشكل عليه: أولاً: على الكبرى: بأن ترشح وجوب ذي المقدمة على المقدمة إنما هو في ما إذا كان فاعلهما واحداً، وأما مع الاختلاف فلا معنى لأن يكون وجوب أحد الفعلين مترشحاً عن وجوب الآخر(1)!

وفيه(2): لا الفرق في الترشح بين وحدة الفاعل أو اختلافه؛ لأن ملاك الوجوب الغيري فيهما واحد، فإن ملاكه هو ما كان وجوبه منبعثاً عن وجوب غيره، فلا فرق بين أن يقول المولى: (انصب السلّم واصعد السطح)، أو أن يقول: (انصب أنت السلّم ليصعد فلان على السطح)، ففي ما نحن فيه أمر المولى المتفقّهين بالإنذار إنما هو لأجل حذر المنذَرين، فلا يعقل أن يوجب المولى الإنذار المقدمي مطلقاً مع كون غرضه التحذر في صورة العلم فقط!

وثانياً: على الصغرى: بعدم ثبوت الإطلاق في وجوب الإنذار؛ لأن الآية

ص: 349


1- منتقى الأصول 4: 282.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 212.

ليست في مقام البيان من جهة الإنذار وبيان كيفيته، بل في مقام البيان من جهة النفر والتفقه وأنه يجب على طائفة منهم لا جميعهم، كما يدل عليه صدر الآية في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}، بل ذكرت الآية الإنذار والحذر لأجل بيان الفائدة المترتبة على النفر والتفقه.

الطريق الثاني: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق اللغوية لو لم يجب الحذر؛ وذلك لأن الإنذار واجب، حيث وقع غاية للنفر الواجب؛ وذلك لأن (لولا) إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، ولا معنى للتوبيخ على ترك غير الواجب، فإذا وجب الإنذار وجب الحذر؛ إذ لو لم يجب الحذر كان الإنذار لغواً، والحاصل: أن النفر واجب لمكان لولا، فيجب الإنذار لأنه غاية للواجب، فيجب الحذر كي لا يكون الإنذار لغواً.

ويرد عليه: أن للإنذار فوائد أخرى غير وجوب الحذر، وبها ترتفع اللغوية:

منها: حصول العلم للمنذَرين بكثرة المنذِرين، فليس إنذار الواحد لغواً إن لم يجب قبوله، بل هو مقدمة لحصول العلم.

إن قلت(1): بأن ظاهر الآية هو أن الغاية المترتبة على الإنذار والفائدة المترقبة منه هو التحذر لا إفشاء الحق وظهوره!

قلت(2): إن هذا الكلام لا بد أن يبتنى على ثبوت الإطلاق؛ إذ لو كان

ص: 350


1- نهاية الدراية 3: 238.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 228-229.

المولى في مقام البيان انقعد لكلامه إطلاقان: انحصار العلة، وكونها تامة، أمّا لو لم يكن المولى في مقام البيان صارت الجملة مجملة من الجهتين، والقول بالإطلاق رجوع إلى الطريق الأول، والكلام هنا مع قطع النظر عن الإطلاق، بل بلحاظ اللغوية.

ومنها: إتمام الحجة حتى لو لم يجب التحذر.

وفيه: إنه لا معنى لإتمام الحجة بما ليس بحجة؛ إذ مع عدم وجوب الحذر لا حجية للإنذار، فلم تتم الحجة!

ومنها: انبعاث المنذَرين احتياطاً حتى لو لم يكن الحذر واجباً، وحيث إن هذا الاحتياط مطلوب ولو بنحو الاستحباب فلا لغوية! فتأمل.

الطريق الثالث: الملازمة بين الوجوبين عن طريق الغاية؛ إذ الحذر غاية الإنذار الواجب، وغاية الواجب واجبة.

أما الصغرى: فلأنّ (لعلّ) إذا توسطت بين كلامين كان ظاهره كون متلوّها غاية لما قبلها، كما في مثل: (تاجرت لعلّي أربح)، ومثل: (صليت لعلّ الله يغفر لي).

وأما الكبرى: فلأن وجوب المقدمة التي هي ذي الغاية يستلزم وجوب ذي المقدمة التي هي الغاية، فالإنذار واجب والغاية منه الحذر فيكون مثلها في الوجوب.

ويرد على الصغرى: ما مرّ بأنه لا إطلاق لوجوب الحذر ولا لوجوب الإنذار لعدم كون الآية في مقام البيان من جهتهما، والقدر المتيقن هو وجوب الحذر والإنذار حين حصول العلم، فحتى مع تسليم الكبرى يقال

ص: 351

بأن غاية الواجب المطلق واجبة مطلقاً لا غاية الواجب المهمل.

وأورد على الكبرى: بأنه لا دليل على كون غاية الواجب واجبة؛ إذ وجوب المقدمة لا يستلزم وجوب ذي المقدمة، بل يمكن كون الشيء مستحباً مع وجوب مقدمته، كما أفتى بعض الفقهاء بوجوب الأمر بالمستحبات، فإنه أمر بالمعروف وإقامة للدين ودعوة إلى الخير وكلّها واجبات!

وفيه نظر: لأن المقدمة إذا لم تكن فيها جهة وجوب نفسي فلا وجه لوجوبها من غير وجوب ذيها، لنفس الملاك في العكس - أي في ترشح وجوب ذي المقدمة إلى المقدمة - إذ لا غرض فيها حينئذٍ إلاّ التوصل إلى ذيها وحيث لم يكن ذوها واجباً فلا وجوب لها، وأما ما أفتى به الفقهاء فلعلّ وجهه أن المستحبات واجبة في الجملة بمعنى أن الشارع لا يريد تركها بشكل كلّي، فهي في حقيقتها واجب مركب من الوجوب الكفائي والوجوب التخييري، فتأمل.

الوجه الثاني: الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه

وبيانه(1): إن معنى لعلّ في قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ليس الترجي الحقيقي، لاستلزامه الجهل وقد تعالى الله عن ذلك، بل معناه محبوبية الحذر شرعاً وعقلاً.

أما شرعاً: فلأن العلماء بين قائل بوجوب العمل بالخبر الواحد، وقائل

ص: 352


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 384.

بحرمته، ولا قائل بالمحبوبية والاستحباب، فإذا ثبتت المحبوبية ثبت وجوب العمل.

وأما عقلاً: فلأن الحذر إنما هو عمّا يكون فيه خوف العقوبة، ولا يكون ذلك الخوف إلاّ مع قيام الحجة؛ إذ لو لم تقم الحجة فلا خوف من العقوبة فلا معنى للحذر، بل لا حسن فيه أصلاً، بل غير ممكن؛ وذلك لأن الحذر من الشيء فرع وجوده ومع عدم وجوده فلا يمكن الحذر قطعاً.

والجواب: عن الوجه الشرعي: أنّ المفيد القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل، وبعدم الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه، ولذا قد يحسن الاحتياط من غير وجوب كما في الشبهات الوجوبية والتحريمية التي لا تكون مقرونة بالعلم الإجمالي.

وعن الوجه العقلي: بأن متعلق الحذر غير مذكور في الآية؛ إذ لو كان المتعلق العقاب الأخروي فالملازمة تامة، وإن كان الوقوع في المفاسد وفوت المصالح غير العقوبة فلا دليل على الملازمة.

لا يقال: ظاهر الآية هو الحذر عن العقوبة الأخروية لانصرافها إليه، ولعدم معرفة الناس في الصدر الأول بفوت المصالح والوقوع في المفاسد، ولأن المتعارف إنذار المبلغين عن العقاب الأخروي لا الأمور الدنيوية.

لأنه يقال: لا وجه للانصراف، والمصالح والمفاسد مرتكزة في أذهان الناس في جميع العصور، كما أن من أهم وسائل المبلغين بيان الآثار الوضعية بتحذير الناس عن الأضرار الدنيوية وفوت منافعها، فإنها قد تحرك بعض الناس أكثر من التحذير عن العقوبة الأخروية.

ص: 353

الوجه الثالث: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجيته

قال المحقق الإصفهاني(1): بل نقول: إن نفس وجوب الإنذار كاشف عن أن الإخبار بالعقاب المجعول إنذارٌ، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان حجة، وإلاّ فالإخبار المحض لا يحدث الخوف ولو اقتضاءً حتى يكون مصداقاً للإنذار حتى يجب شرعاً.

وتوضيحه(2): إن وجوب الإنذار كاشف عن كون الإخبار إنذار؛ إذ لو لم يكن إخبار المنذر إنذاراً فكيف يأمره المولى بالإنذار؟! ثم إنه تتوقف إنذارية المنذر على اقتضائه للخوف؛ إذ لو لم يقتضي الخوف لا يكون إنذاراً، ثم إن اقتضاءه للخوف يتوقف على حجيته شرعاً، حيث إنه لو لم يكن حجة فلا خوف وإذا لم يكن خوف فليس بإنذار!!

وأشكل عليه: أولاً: بأن الإنذار هو بيان ما يترتب على الفعل من المحاذير سواء أوجد مقتضي الخوف أم لا.

وثانياً: بأن اقتضاء الإنذار للخوف لا يتوقف على حجيته شرعاً إذا كان المنذر به بيان المفاسد وفوت المنافع الدنيوية، فقول الخبير الاقتصادي في الأضرار مع اقتضائه خوف التجار ليس بحجة شرعاً في الجملة.

إن قلت(3): يصدق الإنذار حتى لو لم يقتض الخوف، بل حتى مع علم المنذِر بعدم تحقق الخوف، كما في إنذار الكفار الذين لم يكونوا يبالون

ص: 354


1- نهاية الدراية 3: 238.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 237-238.
3- منتقى الأصول 4: 283.

بكلام الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كما يصح أن يقال: أنذرته فلم ينفعه، أو أنا أعلم بأنه لا ينفعه الإنذار!!

قلت: إن الكلام ليس في فعلية الخوف، بل في اقتضاء الإنذار للخوف.

إن قلت(1): قد يتحقق الخوف من العقاب فعلاً حتى لو لم يكن الإنذار حجة، لاندراج المورد في الشبهات الحكمية قبل الفحص.

قلت: إن الخوف لم يستند إلى الإنذار، بل إلى عدم وجود المؤمِّن، ففي الشبهات الحكمية قبل الفحص لا مؤمِّن سواء كان هناك إنذار أم لم يكن.

إشكالات على الاستدلال بآية النفر

ثم إنه بعد عدم دلالة الآية على حجية الخبر الواحد، قد أشكل بإشكالات أخرى، منها:

الإشكال الأول: إن التمسك بها للدلالة على حجيته تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن وجوب الحذر إنما هو عند الإنذار بالدين الذي تفقه به، وذلك لا يكون إلاّ مع العلم بأن ما يخبر به من الدين، وأما مع الشك - لاحتمال الخطأ أو الكذب - فلا علم بتحقق موضوع الإنذار فلا يترتب عليه الحكم الذي هو وجوب الحذر.

وأجيب: أولاً: بأن الأصل العقلائي في الثقة هو عدم الكذب وعدم الخطأ، والاستناد إلى هذا الأصل إنما هو في تحقق موضوع الآية - أي الإنذار بالدين - وأما الحكم فيستفاد من وجوب الحذر أو غيره مما مرّ،

ص: 355


1- منتقى الأصول 4: 283.

فليس ذلك إرجاع الدليل إلى بناء العقلاء في حجية الخبر الواحد.

إن قلت: وهل هذا الأصل العقلائي ممضى من طرف الشارع؟ وعلى فرض إمضائه فتحرز الحجية في مرتبة الموضوع فلا معنى للحجية في مرتبة المحمول لأنه من تحصيل الحاصل، ومعه رجع الدليل إلى الاستدلال ببناء العقلاء على حجية خبر الواحد.

قلت: إن موضوعات الأحكام ترتبط بالعرف - في غير الموضوعات المستنبطة - فلا تحتاج إلى الإمضاء، وعلى فرض احتياجها إليه فلا يستلزم الإمضاء الحجية إن فرض وجود أثر آخر غيرها، فتأمل.

وثانياً: ما في الفوائد(1): من أن الآية بنفسها تنقح الموضوع، حيث تدل على أن ما أنذر به المنذِر يكون من الأحكام الواقعية؛ وذلك لأن قول المنذِر إذا جُعل طريقاً إلى الأحكام الواقعية ومحرزاً لها وجب اتباعه كما هو الشأن في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق والأمارات.

والحاصل: أنه يتم إحراز الموضوع بواسطة نفس الآية الشريفة، حيث تدلّ على جعل الطريقية التعبدية إلى الأحكام الواقعية بواسطة قول المنذر.

وأشكل عليه المحقق العراقي(2): باستلزامه الدور؛ وذلك لتوقف وجوب القبول على إحراز كون ما أنذر به من الأحكام الواقعية، وتوقف ذلك على محرزية قول المنذِر وكاشفيته، المتوقف على وجوب الحذر والقبول.

ص: 356


1- فوائد الأصول 3: 188.
2- نهاية الأفكار 3: 128.

وبعبارة أخرى: 1- لا يجب القبول إلاّ بعد إحراز كون ما أنذر به حكماً واقعياً، 2- ولا يثبت كون الإنذار بالحكم الواقعي إلاّ بجعل الشارع الكاشفية لقول المنذر، 3- وكاشفية قوله متوقفة على وجوب الحذر والقبول.

وأجيب: أولاً(1): بأن المقدمة الثالثة غير تامة؛ لأن جعل الكاشفية لا يتوقف على وجوب القبول، بل هو مستكشف عن هذا الوجوب، حيث إن وجوب الحذر كاشف عن جعل الطريقية التعبدية لا أنه مثبت لها!

وفيه: إن جعل الطريقية تمّ بهذا الآية - بناءً على الاستدلال بها - ، وإرادة المولى لذلك ليس جعلاً للطريقية، وبعبارة أخرى: لا ينفعنا الكشف عن إرادة المولى لأنها ليست بجعل، وأما الجعل بغير هذه الآية فيخرجنا عن الاستدلال بها، فتأمل.

وثانياً: بأنه يمكن أن يقال: إن وجوب القبول علة لأمرين: أحدهما يرتبط بالموضوع وهو إحراز كون ما أنذر به من الأحكام الواقعية، والآخر يرتبط بالحكم وهو حجية هذا الإحراز، فلا توقف بينهما، بل هما في عرض واحد، ولولا ذلك كان جعل وجوب الحذر لغواً.

الإشكال الثاني على الاستدلال بآية النفر: أنّ الآية تدل على حجية فتوى المجتهد على مقلده لا على حجية خبر الواحد؛ وذلك لأن الإنذار إن كان على جهة الإفتاء فلا يكون حجة إلاّ على المقلدين، وإن كان على

ص: 357


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 251.

جهة الحكاية بالتخويف فكذلك لعدم حجية حدس فقيه على آخر، وإن كان على جهة حكاية من دون تخويف فليس موضوعاً لوجوب الحذر في الآية؛ لأنها دلت على الحذر حين الإنذار لا حين الإخبار.

والجواب: أولاً(1): إنه لا بد من التعميم في الآية من وجهين:

1- تعميم التفقه لما إذا علم بالحكم من دون إعمال نظر ورأي، كما لو سمع الحكم من المعصوم بكلام صريح فصيح لا يتوقف استفادة الحكم منه على إعمال رأي ونظر.

2- التعميم من حيث الإنذار، بأن يكون الإخبار عن العقاب المجعول المسموع من الإمام (علیه السلام) بكلام صريح فصيح إنذاراً حقيقة، من دون اختصاص للإنذار بما إذا كان لرأيه ونظره دخل في تحقق الإنذار منه، فإن حجية إنذاره حينئذٍ ليس إلاّ حجية خبره عن جعل العقاب، لا حجية خبره عما استفاده برأيه ونظره، فإنه على الفرض لا رأي له ولا نظر.

والحاصل: أن دفع الإشكال ليس بدعوى صحة التخويف من الراوي ولو مع عدم حجية رأيه ونظره، بل بدعوى تحقق الإنذار منه بلا إعمال نظر ورأي.

إن قلت: الإنذار إنشاء، فكونه حكايةً أيضاً يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

قلت: إنه إخبار فقط بداعي التخويف، وحينئذٍ يطلق على هذا الخبر أنه

ص: 358


1- نهاية الدراية 3: 242-243.

إنذار.

وثانياً: لو فرض اختصاص الإنذار في الآية بتخويف المتفقه، لكن يمكن تعميم ملاك وجوب الحذر لحال الحكاية؛ لأن إنذار المتفقه

لا خصوصية له، بل حجيته لكونه طريقاً لمعرفة المحذور على العمل، بل يمكن التعميم بالأولوية؛ لأن الإخبار الحسي أولى بالحجية من الإخبار المشوب بالحدس!

الإشكال الثالث: إن الإنذار لا بد من اشتماله على التخويف، وهذا لا يكون شأن الحاكي، بل شأن الواعظ والمفتي!

وفيه(1): إن الإنذار أعم من اشتماله على التخويف صراحة أو ضمناً، فحكاية الوجوب تتضمن إخباراً عن استتباع المخالفة للعقاب، ولذا اعترف المستشكل بصدق الإنذار على فتوى المفتي.

الآية الثالثة: آية الكتمان

وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(2).

والاستدلال بدلالة الاقتضاء، بأنه إذا حرم الكتمان وجب القبول، وإلاّ كانت حرمة الكتمان لغواً.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم إحراز الحكم؛ وذلك لعدم الإطلاق في

ص: 359


1- فوائد الأصول 3: 188.
2- سورة البقرة، الآية: 159.

وجوب القبول بحيث يشمل صورة عدم العلم بكون الخبر مطابقاً للواقع، بل وجوب القبول من هذه الجهة مهمل؛ وذلك لأن الآية في مقام بيان حرمة الكتمان لا في مقام بيان وجوب القبول كي يستفاد منها الإطلاق من جهته، وعليه فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن وهو صورة تحقق العلم.

وثانياً: بعدم إحراز الموضوع في صورة عدم العلم، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك لأنه لا بد من إحراز كون كلامه من (البينات والهدى) كي يجب القبول.

وقد ذكر هذين الإشكالين الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليهما المحقق الخراساني(2): بأنه لا بد من نفي الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول، وأما مع قبولها فلا وقع للإشكالين؛ وذلك لأن الملازمة عقلية ومع ثبوتها تكون في جميع الصور فلا يعقل انفكاك المتلازمين أصلاً؛ إذ مع احتمال الانفكاك لا يحكم العقل بها أصلاً وعليه فالملازمة تنافي الإهمال.

وثالثاً: بعدم ثبوت الملازمة؛ وذلك لأن دلالة الاقتضاء إنما تجري في ما لو انحصرت الفائدة في وجوب القبول، وفي الآية الفائدة غير منحصرة في ذلك، بل يمكن أن يكون الغرض من عدم الكتمان هو كثرة الناقلين بحيث يحصل العلم بالحكم.

ويؤيد ذلك: شأن نزول الآية، حيث إنه في علائم النبوة وكتمان اليهود

ص: 360


1- فرائد الأصول 1: 287.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 392-393.

لها مع وضوح لزوم العلم في موضوع النبوة.

إن قلت: هذا الكلام يستلزم عدم وجوب إظهار الحق إذا لم يكن مقدمة لظهوره، كما لو سكت الجميع فعلمنا بعدم علم الناس بمجرد كلامنا، وهذا لا يمكن الالتزام به!

قلت(1): إن الغرض وإن كان ظهور الحق إلاّ أن الوجوب أعم منه؛ وذلك لأن الوجوب مقدمي، ومع اشتباه المقدمة بغيرها يصدر المولى حكماً عاماً بإيجاب جميع ما يحتمل المقدميّة؛ لأن إيكال الأمر إلى الناس في تشخيص المقدمة يستلزم منه مخالفة الواقع كثيراً لعدم التمييز في كثير من الأحيان، وهذا ما يعبر عنه بأن هذا الغرض حكمة لا علة.

وبعبارة أخرى(2): ذو المقدمة هو القبول الخاص المقيّد، والمقدمة هي الإظهار الخاص، لكن لعلّ الشارع جعل نطاق الوجوب أشمل وأوسع من نطاق الغرض، وقصده من ذلك تحصيل الغرض بحصول المقدمة الواقعية الموصلة أو التي يمكن أن توصل، ولذا يحكم بوجوب كل إظهار في ما نحن فيه!

إن قلت: حسب هذا فإن وجوب الإظهار ليس بنفسي ولا بمقدمي فلا يكون إلاّ مقدمة علميّة، ووجوبها عقلي لا شرعي، وهو خلاف ظاهر الآية الدالة على أن الوجوب شرعي!

قلت: إن مجرد كونه واجباً عقلاً لا ينافي الوجوب الشرعي؛ إذ لا منافاة

ص: 361


1- درر الفوائد، للحائري: 391.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 271.

بين الوجوبين، فالأمر بالعدل والنهي عن الظلم مولويان رغم الوجوب والحرمة العقليين. نعم، قد يستلزم الوجوب المولوي المحذور كأوامر الطاعة فلا بد من رفع اليد عن ظهور الأمر الشرعي في المولوية، وبعبارة أخرى: مجرد وجود حكم عقلي لا يستلزم رفع اليد عن الظاهر وحمل كلام الشارع على الإرشادية.

ورابعاً(1): بعدم دلالة الآية على ما نحن فيه؛ لأن موردها في ما كان مقتضى القبول لولا الكتمان موجوداً لقوله تعالى: {مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ} فالكتمان حرام في قبال إبقاء الواضح والظاهر على حاله، لا في مقابلة الإيضاح والإظهار.

وبعبارة أخرى: مورد الآية إخفاء الظاهر لا إخفاء الخفي كي يجب بالملازمة قبول الإظهار!

ويمكن أن يقال: لا معنى لإخفاء الخفي حيث إنه من تحصيل الحاصل، فلعل مقصوده هو تركه مخفياً وهو ليس بكتمان فالآية لا تشمله. نعم، منع وصول الخفي هو من الكتمان، وذلك لا يلازم وجوب الإظهار إلاّ لو قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص.

اللهم إلاّ أن يدفع الإشكال: بأن ملاك حرمة الكتمان يجري في إخفاء الخفي أو تركه مخفياً؛ لأن الجامع هو عدم وصول الحق إلى الناس، فتأمل.

ص: 362


1- نهاية الدراية 3: 244.
الآية الرابعة: آية السؤال

وهي قوله تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1).

وجه الاستدلال نظير ما مرّ من أن وجوب السؤال يلازم وجوب القبول، ولولا ذلك لكان الوجوب لغواً، وحيث لا خصوصية لسبق السؤال فلا فرق في حجية خبر الواحد بين كونه جواباً لسؤال أو لا، وبعبارة أخرى: حجية كلام المتكلم هي علة وجوب السؤال عنه ومن ثمّ قبول كلامه، وهذه الحجية علة مشتركة لوجوب القبول سواء كان سؤال أم لا.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: المراد بالآية بمقتضى سياقها علماء أهل الكتاب، وبمقتضى الروايات الأئمة (علیهم السلام) (2)، فلا تشمل غيرهم من الرواة.

وفيه: إن عدم منافاة السياق والروايات يكشف أن الخصوصيات غير مرادة، بل علماء أهل الكتاب وإن كانوا شأن نزول الآية إلاّ أنهم مصداق، كما أن الأئمة (علیهم السلام) مصداق آخر، فيدل ذلك على أن المراد من (أهل الذكر) كل من يعلم فيشمل الرواة في أخبارهم، والفقهاء في فتاواهم.

ويؤيد ذلك قوله في تتمة الآية: {إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} حيث إن الظاهر منه أنه العلة، وهي تُعمّم.

الإشكال الثاني: إن السؤال إنما هو لتحصيل العلم لا لمجرد التعبد بالجواب حتى لو لم يحصل العلم، بقرينة قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لَا

ص: 363


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- الكافي 1: 210-212؛ وسائل الشيعة 27: 62-66.

تَعْلَمُونَ}.

وأجيب: أولاً: بأن المراد العلم بالجواب لا العلم بالواقع؛ لأنه على فرض الحجيّة يكون الجواب حجة قاطعة للعذر مصححة لإطلاق العلم عليه، وإلاّ فلا(1).

وفيه: أنه يستلزم تخصيص المورد الذي هو السؤال عن أحوال الأنبياء السابقين ليعلموا أن محمداً (صلی الله علیه و آله) رسول الله مثلهم.

وثانياً: وبأن المراد تحصيل الحجة، كما يقال: سل الطبيب والمهندس والسائق إن كنت لا تعلم.

وفيه(2): أن تطبيقه على المقام يحتاج إلى تأمل؛ إذ إن كان المراد تحصيل الحجة المفروغ عن حجيتها مع قطع النظر عن الآية! فلا تكون الآية دالة على حجية الخبر الواحد؛ لأن الكلي لا يتكفل مصاديقه، وإن كان المراد جعل الحجية بنفس الآية! فإن المورد مقام الخصام وليس مقام جعل الحجية، فهو إيكال الخصم إلى الحجج العقلائية فلا معنى للتعبد.

الإشكال الثالث: إن مدلول الآية منحصر في التقليد ولا يشمل الخبر؛ لأن المتبادر من (أهل الذكر) ليس كل من علم ولو بسماع رواية عنهم (علیهم السلام) ، بل المراد من يُعَدّون أهل العلم في مثله.

ويرد عليه: أولاً: ما ذكره المحقق الإصفهاني(3): بإمكان تعميم العلم

ص: 364


1- نهاية الدراية 3: 246.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 289.
3- نهاية الدراية 3: 245.

والتفقه ونحوهما لصورة معرفة الحلال والحرام من دون إعمال نظر ورأي بحيث لا يكون لقوله إلاّ حيثية الخبر عن الحكم.

إن قلت: المقصود في باب حجية الخبر هو إثبات حجية خبر الثقة حتى لو كان ناقلاً محضاً من غير عن معرفة، وكلام المحقق الإصفهاني غير كافٍ لإثبات هذا، بل يدل على كفاية المعرفة غير الاجتهادية!

قلت: عامة الرواة ينقلون عن معرفة غير اجتهادية، مضافاً إلى عدم الخصوصية في المعرفة، حيث إن الملاك هو الوصول إلى كلام المعصوم (علیه السلام) .

وثانياً: على فرض كون المراد بأهل الذكر من يُعَدّون أهل العلم في مثله فيكون المراد التقليد...

فقد يقال: إن الظاهر أن سؤالهم إنما هو لكون الجواب طريقاً إلى الواقع، فلا موضوعية لعنوان كونهم من أهل الذكر، ولا للتقليد.

بل قد يقال: إن الرواية حسّية والدراية حدسية فتكون الرواية ولو من غير الفقيه أقوى وصولاً إلى الواقع من الدراية من الفقيه، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لو كان الراوي فقيهاً وجب قبول روايته، وبعدم الفصل تثبت حجية سائر الروايات.

إن قلت: في رواية الفقيه جهتان: جهة الحكاية وجهة الدراية، والحجية إنما هي من الجهة الثانية وهي مفقودة في رواية غير الفقهاء.

قلت: الفرض هو مجرد نقله للرواية من دون استنباطه ودرايته، فتكون حينئذٍ جهة الدراية أجنبية عن روايته.

ص: 365

الآية الخامسة: آية الأذن

وهي قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وجه الاستدلال: هو مدح النبي (صلی الله علیه و آله) بتصديقه للمؤمنين، فتصديقهم حسن، وهو يلازم الوجوب هنا بقرينة السياق، ولعدم الفصل فی ما نحن فيه.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: بأن المراد من (الأذن) سريع القطع، لا القبول تعبداً.

وأجيب: بأن (الأذن) في الآية لا يراد به سريع القطع؛ لأن شأن النزول المنافق الذي اتهم الرسول (صلی الله علیه و آله) بالأذن ومن المعلوم أنه (صلی الله علیه و آله) لم يكن سريع القطع، فتفسيره بذلك يستلزم خروج المورد وهو مستهجن، كما أن سرعة القطع ليست مورداً للمدح، بل الممدوح الاعتدال في ذلك مع أن الآية مدحته (صلی الله علیه و آله) بأنه (أذن خير)، بل المراد به من لا يستمر في المؤاخذة، بل يسأل ولا يردّ على الكاذب؛ لأن ترك السؤال سبب تكرار العمل والإصرار، وهو يستلزم هتك الستر وضرره أكثر من ضرر السكوت.

لكن لا يخفى أن هذا المعنى لا ينفع الاستدلال بالآية لحجية خبر الواحد، فعلى كل حال سواء أريد من (الأذن) سرعة القطع أم عدم المؤاخذة والسكوت فلا دلالة له على التصديق.

الإشكال الثاني: إن قوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يراد به التصديق التعبدي

ص: 366


1- سورة التوبة، الآية: 61.

بترتيب بعض الآثار، وهذا لا يكفي لإثبات حجية الخبر الواحد؛ لأن ترتيب بعض الآثار لا يساوق الحجيّة التي هي ترتيب جميع الآثار.

وقد ذكرت مجموعة من القرائن تدل على أن المراد ترتيب بعض الآثار، منها: تكرار كلمة الإيمان مما يدل على أن أحدهما إيمان حقيقي والآخر صوري، ومنها: اختلاف حرف الجر، ومنها: التعبير ب- (أذن خير) إذ قد يكون ترتيب جميع الآثار ضرراً، ومنها: أن هنا إخبارين، حيث إن مورد الآية إخبار منافق في قبال إخبار الله تعالى فلا يعقل ترتيب جميع الآثار عليه.

ويمكن أن يقال: إن التكرار: قد يكون للتأكيد أو لبيان المراتب فلا دلالة له على اختلاف المعنى.

وأمّا اختلاف حرف الجر: فبسبب أن التعدية بالباء تفيد معنى الاعتقاد بالوجود، والتعدية باللام تفيد معنى التصديق.

وأمّا قوله: {أُذُنُ خَيْرٖ} فلعلّ المراد به المصلحة النوعية، وهي تنسجم مع الضرر الشخصي.

وأمّا الإخباران: فيمكن القول بأن تصديق المؤمنين لا ينافي تصديق الله تعالى، بل هو بأمره سبحانه، فقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} لا يشمل المنافقين ولا يلزم منه خروج المورد المستهجن، بل ينتهي الكلام عند قوله: {أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ}، ثم يبتدأ كلام جديد لبيان صفة أخرى من صفات الرسول (صلی الله علیه و آله) هي تصديقه للمؤمنين.

وبعبارة أخرى: الآية بصدد بيان مطلبين: أولاهما: في المورد وهو

ص: 367

كونه (صلی الله علیه و آله) أذن خير للجميع، وثانيتهما: التصديق الواقعي وهو خاص بالمؤمنين، ويؤيد ذلك صحيحة حريز في قصة إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام) ، حيث قال الإمام (علیه السلام): «يقول: يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم»(1)، ومعنى الحديث هو ترتيب جميع الآثار لا مجرد إظهار التصديق!

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالقرآن الكريم على حجية خبر الواحد.

المبحث الثالث: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة

والمراد الاستدلال بالروايات المتواترة الدالة على حجيته، وهي طوائف كثيرة بلغت مرتبة التواتر الإجمالي، والإشكال الدلالي في بعض هذه الطوائف لا يضرّ بعد كون الدال منها متواتراً إجمالياً، ومقتضى التواتر الإجمالي حجية أخصها مضموناً، والظاهر أن الأخص هو حجية مطلق أخبار الثقاة، وحتى لو تنزلنا وقلنا بأن أخصها مضموناً هي حجية الخبر الذي جميع رواته من الشيعة العدول الثقاة غير المعارض للكتاب والسنة، فإن ذلك يكفي لإثبات حجية مطلق خبر الثقاة، حيث إن بعض الروايات الجامعة لهذه الأوصاف دلّت على ذلك.

فمنها: الروايات الدالة على إرجاع المعصومين (علیهم السلام) إلى بعض الثقاة، كأبان بن تغلب، ومحمد بن مسلم، والعمروي وابنه، وفي بعضها بيان سبب الإرجاع بكونهم ثقاة.

ص: 368


1- الكافي 5: 299؛ وسائل الشيعة 19: 83 .

ومنها: ما دلت على النهي عن ردّ الرواية لمجرد عدم قبول قلبه لها.

ومنها: ما دلت على ترجيح بعض الروايات على بعض بموافقة الكتاب ومخالفة العامة والأوثقية ونحوها، مما يدل على أن أصل حجية خبر الثقة مسلّم لا إشكال فيه.

ومنها: ما دلت على حجية نقل الثقاة بشكل مطلق.

ومنها: ما دلت على عمل أصحاب الأئمة (علیهم السلام) بخبر الثقاة مما يدل على تقرير المعصومين (علیهم السلام) .

ومنها: غير ذلك مما هو مذكور في المجاميع(1).

المبحث الرابع: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع

اشارة

وهو إما منقول، أو محصّل قولاً، أو محصّل عملاً، فهنا مطالب:

المطلب الأول: الإجماع المنقول

فقد ادعى الإجماع الشيخ الطوسي في العدة.

وأورد عليه: بأنه دوري.

وأجيب: بأنه محفوف بالقرينة القطعية، فلا تتوقف حجية هذا الإجماع على حجية الخبر الواحد، والقرائن كثيرة:

فمنها: كثرة ناقليه، كالعلامة وابن طاووس والمجلسي والحرّ العاملي قدس الله أسرارهم.

ص: 369


1- راجع جامع أحاديث الشيعة المجلد: 1؛ ووسائل الشيعة المجلد: 27؛ وأيضاً راجع فرائد الأصول 1: 297-309؛ وموسوعة الفقيه الشيرازي 7: 313-332، وغيرها.

ومنها: نقل الكشي إجماع الطائفة على تصحيح ما صحّ عن مجموعة من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) .

ومنها: نقل الشيخ الطوسي مقبولية مراسيل ابن أبي عمير، ومقبولية رواياته وروايات البزنطي وصفوان.

ومنها: قول أصحاب الرجال بأن فلاناً لا يعتمد عليه في ما ينفرد به، أو قولهم: فلان صحيح الحديث، أو طعنهم في بعض من يكثر رواية المراسيل ويعتمد على الضعفاء.

والحاصل: أن التتبع يدل على صحة ما ادعاه الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه من إجماع الأصحاب على حجية الخبر الواحد.

المطلب الثاني: الإجماع المحصّل القولي

وقد أورد عليه: أولاً: كبروياً بأنه معلوم الاستناد إلى الآيات والروايات وغيرها.

وهذا إشكال مبنوي.

وثانياً: صغروياً بما في الكفاية(1): من اختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه (علیه السلام) من تتبّعها.

اللهم إلاّ أن يدّعى توافقها على الحجيّة في الجملة، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ص: 370


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 403.

وبعبارة أخرى: إنه وإن اختلفت الفتاوى في شرائط حجية الخبر الواحد، إلاّ أنها متفقة على حجيته في الجملة، والغرض هنا هو إثبات ذلك - أي الحجية في الجملة - في مقابل السلب الكلي.

وبعبارة ثالثة: هنا جامع وخصوصيات فردية، وفتاواهم تنحل إلى فتوى بالجامع أي حجيته في الجملة وفتوى بالخصوصيات، فلئن اختلفوا في الخصوصيات فقد اتفقوا على الجامع!

لكن يمكن ردّ ذلك بأن الفتوى قد لا تنحل، بل إنما كانت باعتبار تلك الخصوصيات الفردية، وعليه فلا جامع ليكون مجمعاً عليه!

وثالثاً: صغروياً أيضاً بعدم تحققه، لمخالفة مثل السيد المرتضى وابن إدريس.

إن قلت: مخالفتهم غير معلومة، بل ذهابهم إلى عدم الحجية لعلّه كان لأجل اعتقادهم بانفتاح باب العلم، والكلام إنما هو في ما لو تعذر العلم.

قلت: لا يكفي في تحقق الإجماع عدم العلم بالمخالفة، بل لا بد من العلم بالموافقة، فالإجماع التقديري غير حجة، وأما ما عن السيد المرتضى: «إن العمل بالظن متعيّن في ما لا سبيل فيه إلى العلم»(1)، فيحتمل أن يريد به حجية الظن المطلق حين الانسداد، وليس كلامنا الآن فيه.

المطلب الثالث: الإجماع العملي

فقد قيل: بأننا نشاهد عمل جميع الفقهاء في جميع العصور بالأخبار،

ص: 371


1- راجع فرائد الأصول 1: 343.

وغالبها أخبار آحاد، وادعاء عملهم بها من باب القرينة القطعية تعويل على ما يُعلم خلافه بالضرورة.

وأشكل عليه: بأن الاتفاق العملي إنما ينفع لو علمنا بوجه اتفاقهم مع موافقتنا إياهم على ذلك الوجه، وفي ما نحن فيه اختلفوا في وجه العمل، فبعضهم عمل بها لزعمه قطعية صدور ما في الكتب الأربعة، وبعضهم لزعمهم بوجود القرائن القطعية، وبعضهم لزعمهم حجية الظن، وآخرون لزعمهم الانسداد، وغير ذلك، وهذه جهات نختلف معهم فيها، ولو اعتقدنا بجهة أخرى كدلالة الآيات مثلاً، فيكون التعويل على تلك الجهة لا على الاتفاق.

وقد يقال: بأن جميع المتشرعة - حتى غير المجتهدين - متفقون على أخذ الأحكام عن المعصومين (علیهم السلام) أو عن الفقهاء بواسطة خبر الثقاة مع اتصال سيرتهم بزمان المعصومين (علیهم السلام) .

وفيه: أن عملهم هذا لم يكن من باب كونهم متشرعة حتى يرجع الأمر إلى الإجماع العملي، بل من باب كونهم عقلاء، فيرجع إلى بناء العقلاء وسيرتهم وهو الدليل التالي.

المبحث الخامس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بسيرة العقلاء

وحيث إن التشريع منحصر في الدين، فلا بد لحجية سيرة العقلاء شرعاً من خمسة أمور: ثبوت هذه السيرة، واتصالها بزمن المعصومين (علیهم السلام) ، وعدم ردعهم عنها، وعدم وجود المانع عن الردع، وشيوع تلك السيرة بحيث تكون محل رجوع المتشرعة؛ لأن الشاذة لا تحتاج إلى الردع حتى لو كانت

ص: 372

خلاف الشرع.

وهذه جهات متوفرة في الخبر الواحد.

أما الجهة الأولى: أي ثبوت هذه السيرة، فهو واضح لا نقاش فيه.

لا يقال: إنهم إنما يعملون بالخبر الذي يورث الاطمئنان، ونحن نريد إثبات حجيته مطلقاً!

لأنه يقال(1): في دائرة الموالي والعبيد يرى العقلاء خبر الثقة منجزّ ومعذّر حتى لو لم يورث الاطمئنان، فلا يُعذرون من لم يعمل به لمجرد عدم الاطمئنان الشخصي، ومن المعلوم أن طرق الطاعة والمعصية عقلائية. نعم، في دائرة الأمور الشخصية قد لا يرون ملزماً للعمل به، مع أنهم لو اعتمدوا عليه فلا يؤاخذون.

وأما الجهة الثانية: أي اتصالها بزمن المعصومين (علیهم السلام) ، فمما لا شك فيه؛ لأن عمل العقلاء بما هم عقلاء شامل لجميع الأزمنة؛ لأنه ليس باتفاق جعلي كإشارات المرور، بل هو عمل بمقتضى عقلهم، وهو أمر مشترك بين الجميع في جميع الأزمنة.

ومن ذلك يتضح الجهة الخامسة وهي شيوعها بين جميع العقلاء.

وأما الجهة الرابعة: فمن المعلوم عدم وجود غرض خاص للجائرين في حجية الخبر الواحد حتى يتحقق موضوع التقية فيها، مع عدم وجود مانع آخر يتصوّر، مضافاً إلى أنه لو كان العمل به ممنوعاً لكان بيانه أهم لتوقف

ص: 373


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 355-356.

غالب الدين عليه، ولذا ورد في المنع عن القياس متواتر الروايات مع أن الابتلاء به أقلّ من الابتلاء بالخبر الواحد.

وأما الجهة الثالثة: وهي عدم الردع عن هذه السيرة، فنقول: إن الرادع إما خاص أو عام.

أما الرادع الخاص: فلا يوجد قطعاً فلا توجد حتى رواية واحدة، ولو كان لبان حتماً مع توفر الدواعي لنقله.

وأما الردع العام: فقد ادعي دلالة الآيات على المنع عن العمل بالظن فتشمل الخبر الواحد، ومع وجود الردع العام لا حاجة إلى الردع الخاص!

وقد مرّ شطر من الكلام حول هذه الآيات في ردّ استدلال المانعين عن حجية الخبر الواحد بها، ومنها: اختصاصها بأصول الدين، ومنها: انصرافها عن الظن الذي قام الدليل على اعتباره.

ويضاف إليها أجوبة أخرى، ومنها:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق الخراساني(1): بأنه لا يكاد يكون الردع بها إلاّ على وجه دائر؛ وذلك لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقف على عدم الردع عنها بها، وإلاّ لكانت مخصصة أو مقيدة لها.

بيانه: إن الآيات إنما تكون رادعة عن العمل بالخبر الواحد إذا لم تخصصها السيرة، حيث إنها إذا خصصتها فلا تشمل الآيات الخبر الواحد

ص: 374


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 406.

لتردع عنه.

وعدم تخصيص السيرة للآيات متوقف على رادعية الآيات، حيث إنها إن لم تكن رادعة لخصصتها السيرة فأخرجت الخبر الواحد عنها.

وعليه فالردع بالعمومات غير ثابت، بل غير ممكن، فتكون السيرة حجة لوجود المقتضي وعدم المانع.

إن قلت: إن هذا الدور بنفسه يجري لو قلنا بحجية السيرة، حيث إن الحجية متوقفة على عدم الردع عنها بالعمومات، كما أن عدم الردع عنها بالعمومات متوقف على حجية السيرة!

قلت: إن حجية السيرة لا تتوقف على ثبوت عدم الردع، بل على عدم ثبوت الردع، حيث إن العقلاء يعتبرون العمل بخبر الثقة في تكاليف المولى طاعة له وعدم العمل معصية له، وعدم ثبوت الردع عن طريقتهم كافٍ في إثبات الحجيّة.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم جريان الدور في الردع ببطلان مقدمة الدور الأولى؛ وذلك لأن الردع لا يتوقف على عدم التخصيص، بل على عدم ثبوت التخصيص، لجريان أصالة العموم حتى مع الشك، وعليه مع جريان عموم الردع لا تكون السيرة حجة حتى تخصِّص تلك العمومات.

وثانياً: بجريان الدور في حجية السيرة، بأنه لا بد في الحجية من ثبوت عدم الردع، ولا يكفي عدم ثبوت الردع؛ وذلك لعدم حجية السيرة العقلائية في نفسها، بل لا بد من القطع بإمضاء الشارع لها؛ لأنه المشرّع الوحيد، ومع الشك في الإمضاء يحصل الشك في الحجية وهو مسرح عدم الحجيّة.

ص: 375

لكن قد يقال(1): إنه يمكن اكتشاف الإمضاء الشرعي من عدم ثبوت الردع، فلا حاجة إلى ثبوت عدم الردع بطريقة أخرى؛ وذلك لأن العمل بخبر الثقة من ارتكازات العقلاء الفطرية، وهم يطبقونها في دائرة الشرع أيضاً، فلو كان الشارع رادعاً كان لا بد عليه من الجهر بالردع، وإلاّ كان ناقضاً لغرضه، فلا يكفي السكوت ولا الإجمال في الردع، كما وقع نظيره في القياس، وعليه فمن عدم ثبوت الردع بنفسه نكتشف عدم وجود الردع واقعاً.

والحاصل: عدم وجود دور لا في رادعية الآيات عن السيرة، ولا في مخصصية السيرة للآيات، وعليه لا بد من تقديم الخاص وهي السيرة على العام وهي الآيات الرادعة، فتأمل.

الجواب الثاني: ما في الكفاية أيضاً، وحاصله(2): بأنه لو تعارضت السيرة في حجية الخبر الواحد مع إطلاق الآيات الرادعة في عدم حجيته، تساقطا، والمرجع حينئذٍ استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات الرادعة.

وأشكل عليه: أولاً: بورود نفس إشكال الدور الذي أورده المحقق الخراساني على مخصصية السيرة.

وفيه: إن حجة الاستصحاب ثابتة بأدلته، وأركانه تامة في ما نحن فيه، فلا محذور في تخصيصه للآيات، وأما السيرة فكانت مشترطة بعدم الردع، وهو غير ثابت، بل دوري!

ص: 376


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 368-369.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 409.

وثانياً: بأن دليل حجية الاستصحاب أخبار آحاد، فلا يمكن الاستدلال به على حجية الخبر الواحد.

ويمكن أن يجاب بتواتر أخباره بالتواتر الإجمالي، كما قد يدعى ذلك لوجود أكثر من خمسة عشرة رواية، بل أكثر.

وثالثاً: إن الحجية قبل نزول الآيات الرادعة غير معلومة؛ لأنها آيات مكية، وحينذاك كان عدد المسلمين قليل جداً مع تمكنهم من سؤال الرسول (صلی الله علیه و آله) في كل شيء، فكان باب العلم منفتح لهم قطعاً، فلم يثبت إمضاء لهذه السيرة!

الجواب الثالث: للمحقق الخراساني أيضاً في حاشيته على الكفاية، بأنه: «ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلاّ كحال الخاص المقدّم والعام المؤخر، في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام»(1).

أي إن للخاص إطلاق أزماني، وللعام أو المطلق عموم أو إطلاق أفرادي وبينهما تعارض، والترجيح لإطلاق الخاص الأزماني، حيث إن التخصيص مقدّم على النسخ.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الدوران بين التخصيص والنسخ يتوقف على إحراز حجية السيرة قبل نزول الآيات لتكون قابلة لتخصيص الآيات، فيدور الأمر بين التخصيص والنسخ، وإحراز الحجية متوقف على إمكان الردع عنها قبل نزولها، وأنّى لنا بإثبات ذلك!

ص: 377


1- كفاية الأصول 2: 343 (الهامش).

وفيه نظر: لأن الردع عن العمل بأخبار الآحاد في مسائل الدين في مكة لم يكن فيه أيّ محذور عكس تحريم الخمر ونحوه، حيث كان لا بد من تدريجية الأحكام، فالصحيح الإشكال بعدم ثبوت الإمضاء، كما مرّ قبل قليل.

وثانياً: إن من شروط حجية سيرة العقلاء هي كونها محل ابتلاء المتشرعة في أمور دينهم، ولم يكن الأمر كذلك في صدر الإسلام قبل نزول الآيات الرادعة؛ إذ كانت الأحكام قليلة جداً مع انفتاح باب العلم فيها قطعاً للمسلمين آنذاك.

وثالثاً: لا إطلاق أزماني للسيرة وإمضائها؛ لأنها دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو زمان ما قبل ورود الآيات الرادعة، فلا معارض لإطلاق أو عموم الآيات.

وأجيب(1): بأنا وإن كنّا نسلّم بأن السيرة وإمضاءها دليل لبيّ، لكن الروايات الخاصة تجعل لها إطلاقاً أزمانياً، كقوله (علیه السلام) «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(2) وحيث لا فرق في الحكم التأسيسي والحكم الإمضائي، فيكفي في إطلاقها الثبوت في زمانٍ ما.

ورابعاً: بأن وجه تقدّم الخاص المتقدّم على العام المتأخر هو أقوائية ظهوره، ولا أقوائية للدليل الإمضائي!

ص: 378


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 376-377.
2- الكافي 1: 58.

وفيه: أن سبب ترجيح الخاص المقدم هو قلة النسخ، فهو مقدّم على العام حتى لو كان ظهور العام أقوى، فتأمل.

الجواب الرابع: حكومة السيرة على العمومات الرادعة، حيث إن العقلاء يعتبرون الخبر علماً، فيترتب عليه آثاره.

وأجيب: أولاً: بأن الحكومة - بإخراج فرد أو إدخال فرد في الموضوع - يرتبط بالتشريع؛ لأن الغرض من الحكومة إجراء الحكم على فرد أو عدم إجرائه عليه، وليس ذلك من شؤون العرف والعقلاء.

وفيه: أن دور الشرع هنا فقط الإمضاء، فالحاكم هم العقلاء وهم يعتبرون خبر الواحد علماً، وقد حصل الإمضاء الشرعي على هذا.

وثانياً: بأنه يشترط في الحكومة الطولية، وبذلك يرتفع التعارض، ولا طولية هنا؛ لأن مفاد اعتبار العقلاء جعله علماً، ومفاد الآيات الرادعة سلب صفة العلمية عنه، وهذان في عرض واحد، فتأمل.

الجواب الخامس: ورود السيرة العقلائية على العمومات الرادعة، فعن المحقق النائيني(1): إن العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العمل به، لعدم التفاتهم إلى مخالفة الخبر للواقع، فهو خارج عن الظن موضوعاً.

وفيه: التفاتهم كثيراً إلى احتمال مخالفة الواقع، وعليه فلا ورود، الذي هو نفي الموضوع حقيقة!

ص: 379


1- فوائد الأصول 3: 195.

الجواب السادس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أنّ البناء العملي العقلائي إما على اتباع الظهور العمومي مطلقاً ولو كان في قباله خبر، أو على اتباعه ما لم يكن في قباله خبر كما هو الواقع، فلا محالة لا مقتضي لحجية الظهور العمومي في ما يتعلّق بخبر الثقة، وحيث لم يكن منهم بناء عملي فلا موقع للإمضاء، فهذا الظهور العمومي لا مقتضي لحجيته في بعض مدلوله، فلا رادع عن البناء العملي عن اتباع خبر الثقة.

وحاصله: أنه لا يمكن التنافي في أبنية العقلاء، وحيث لا شك في ثبوت بنائهم على العمل بأخبار الثقاة فلا يعقل بناؤهم على حجية ظهور الأدلة الرادعة في العموم.

وفيه: عدم التنافي في ما نحن فيه لأجل أن حجية الظهورات عندهم بناء نظري، أي يرونها كاشفة عن الواقع، وأما حجية أخبار الثقاة عندهم فبناء بناء عملي، ومخالفتهم العملية للظهورات أحياناً ليس لعدم بنائهم على حجيتها، بل قد يكون لعدم امتثالهم أو لوجود المزاحم، كما أنهم قد لا يعملون بالخبر الواحد لا لأجل عدم البناء، بل لأجل المخالفة أو وجود المزاحم، فتأمل.

المبحث السادس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالعقل

وبيانه من وجوه، منها:

الوجه الأول: العلم الإجمالي بأن الكثير من الأخبار الموجودة بأيدينا

ص: 380


1- نهاية الدراية 3: 254.

صادرة عن المعصومين (علیهم السلام) ، وكان مقتضى هذا العلم الإجمالي الاحتياط في جميعها، إلاّ أن فيه المحذور، فيتمّ التنزل إلى الموافقة الظنية!

وأورد عليه: أولاً: بأن سبب الاحتياط في الأخبار هو اشتمالها على الأحكام الواقعية، وهذا غيرخاص بها، بل سائر الأمارات الظنية كذلك مشتملة عليها، فالعلم الإجمالي أوسع دائرة من الأخبار، وعليه فيلزم الاحتياط في جميع الأمارات الظنية، ومع عدم إمكانه يتمّ التنزل عقلاً إلى امتثال ما يظن أنه حكم الله تعالى واقعاً، ومرجع هذا إلى دليل الانسداد.

وفيه: إن ملاك الانحلال عدم زيادة المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير، وهذا الملاك موجود في ما نحن فيه؛ وذلك لأن الروايات تضمنت أحكاماً واقعية، ولا علم لنا بوجود تكليف آخر في سائر الأمارات، لاحتمال تطابق مضمون ما اشتملت منها على أحكام واقعية مع بعض الروايات.

وثانياً: إن مقتضى هذا الدليل هو لزوم العمل بكل خبر ظن باشتماله على حكم واقعي، لا العمل بما ظن صدوره، وبينهما عموم من وجه، فقد يكون الخبر صادراً عن تقّية فلا ظن بمطابقتها للواقع، وقد يكون الراوي غير ثقة مع مطابقة روايته للقواعد العامة فلا ظن بصدورها مع الظن بمطابقتها للواقع؛ وذلك لأنه حين العلم الإجمالي يكون العمل بالخبر الواحد للوصول إلى الحكم الواقعي، وبعبارة أخرى: وجوب العمل به ليس نفسياً، بل مقدمياً.

وفيه: أنه لا وجه للعمل بكل خبر ظن بمضمونه أو ظن بصدوره، بل مقتضى العلم الإجمالي هو العمل بكل خبر - سواء أثبت التكليف أو نفاه -

ص: 381

إلى حدّ الضرر والحرج ونظائرهما.

أو يقال: إنه لا بد من العمل بكل الأخبار المظنونة مع العمل بسائر الأخبار إلى تحقق المحذور بالضرر ونحوه.

وثالثاً: إن هذا الدليل - لوصح - فإنما مقتضاه العمل بالخبر من باب الاحتياط، ولا يثبت حجيته، مع أن المقصود إثبات الحجية، وبينهما فروق:

1- منها: صحة أو عدم صحة الاستناد إلى المولى، فما كان حجة صحّ نسبته إليه، وأما لو كان العمل به من باب الاحتياط فلا تصح النسبة إليه لعدم ثبوتها.

2- ومنها: حجية مثبتات الأدلة الاجتهادية، مع عدم حجية مثبتات الأصول العملية والتي منها الاحتياط.

إلاّ أن يقال: بأن العلم الإجمالي بثبوت الملزومات يستلزم العلم الإجمالي بثبوت اللوازم، فلو كان في اللوازم أو آثارها حكم إلزامي يكون ذلك الحكم معلوماً بالعلم الإجمالي أيضاً، فتأمل.

3- ومنها: لو كان الخبر حجة لخصصت أو قيّدت به الأدلة الاجتهادية العامة أو المطلقة؛ لأن الحجة يخصص ويقيّد الحجة كما يتقدم الخبر الحجة على الأصول العملية مطلقاً.

أما لو كان العمل بالخبر من باب الاحتياط لما جاز تخصيص وتقييد الأدلة اللفظية به إذا كان هذا التخصيص والتقييد خلافاً للاحتياط؛ وذلك لانتفاء سبب العمل بالخبر؛ لأن العمل كان من باب الاحتياط، فإذا صار خلافاً للاحتياط انتفى سبّبه.

ص: 382

وأما ما قيل في وجهه: من حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية، فالعام اللفظي يكون حاكماً على الاحتياط الذي هو أصل عملي.

فيرد عليه: بأن العلم وارد على الأدلة الاجتهادية، وهنا علم بصدور بعض هذه الأخبار، لكن بسبب اختلاطها بغيرها حصل علم إجمالي أوجب الاحتياط، فانخرام عموم العام معلوم.

اللهم إلاّ أن يقال: إن العلم بمطابقة بعض الأخبار للواقع لا يلازم العلم بتخصيص العمومات اللفظية بها؛ إذ لعل الأخبار الصادرة لم تكن الأخبار المخصصة، مضافاً إلى أن العام لو كان حكماً إلزامياً والخاص غير إلزامي كان الاحتياط بالعمل بعموم العام، فتأمل.

وهكذا لو كان العمل بالخبر من باب الاحتياط لم يكن مرجحاً على الأصول العملية بشكل مطلق، بل يرجح ما دامه مطابقاً للاحتياط، فإذا صار الاحتياط مع سائر الأصول العملية لرجحت عليه، كما لو كان الأصل العملي مثبتاً للتكليف وكان الخبر نافياً له، مثل ما لو تردد أمره بين القصر والتمام، وكان مقتضى العلم الإجمالي الجمع ومقتضى الخبر التمام أو القصر.

الوجه الثاني - من الأدلة العقلية على حجية الخبر -: أن غالب أجزاء وشرائط وموانع وقواطع العبادات مذكورة في أخبار الآحاد دون غيرها، وبعدم العمل بها نقطع بالمخالفة العملية، وعليه فلا بد من العمل بها بشرط أن تكون في الكتب المعتمدة مع عمل جمع بها من غير ردّ ظاهر.

وأورد عليه: أولاً: بأنه أخص من المدعى؛ إذ لا يدل على حجية

ص: 383

الأخبار الدالة على نفي هذه المذكورات، خصوصاً إذا اقتضى الأصل الجزئية والشرطية كما في الأقل والأكثر الارتباطيين على بعض المباني، كما لا يدل على حجية الأخبار المثبتة للمذكورات إذا كان في مقابلها دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق.

وثانياً: بأنه لا وجه للشرطين المذكورين؛ لأن العلم الإجمالي ليس بخاص بالأخبار الموجودة في هذه الكتب، ولا بالأخبار التي عمل بها الأصحاب من غير ردّ ظاهر، بل هو شامل لجميع الأخبار فلا انحلال له. نعم، على بعض المباني ينحل العلم الإجمالي كما مرّ؛ لعدم علمنا بتضمن تلك الأخبار أحكاماً زيادة على ما في الأخبار المعمول بها من هذه الكتب.

الوجه الثالث: دلالة العقل على حجية مطلق الظن فيدخل في ذلك أخبار الآحاد، وقد استدل لذلك بأدلة متعددة، منها:

الدليل الأول: مخالفة المجتهد الظن بالتكليف مظنةٌ للضرر، الذي هو تفويت المصلحة والوقوع في المفسدة في الدنيا والعقاب في الآخرة، ودفع الضرر المظنون واجب عقلاً.

وأشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: على الكبرى، بعدم وجوب دفع الضرر المظنون حتى على مسلك العدلية في التحسين والتقبيح العقليين.

وأجيب: أولاً(1): بأن الحكم المذكور إلزامي أطبق العقلاء على الالتزام

ص: 384


1- فرائد الأصول 1: 368.

به في جميع أمورهم وعلى ذم من يخالفه، لذا استدل به المتكلمون في وجوب شكر المنعم الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى، ولولاه لم يثبت وجوب النظر في المعجزة، ولم تكن حجة على غير الناظر فيها، بل الأقوى وجوب دفع الضرر المحتمل فضلاً عن المظنون.

وقد يقال: إن إطباقهم إنما هو في الضرر المظنون، بل والمحتمل الكبير، دون اليسير منه وما نحن فيه الضرر كبير جداً وهو العقوبة الأخروية فلا بد من توقيّه.

وثانياً: بأن من لا يقول بالتحسين والتقبيح العقليين كالأشاعرة يسلّم بالتحسين والتقبيح الشرعيين، وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب دفع الضرر المظنون وعدم جواز تعريض النفس للمهالك الدنيوية أو الأخروية حتى المحتملة منها، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)، وقوله تعالى: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(2).

إن قلت: الآيات إما تحذّر عن الضرر المعلوم أو ظاهرها الإرشاد، فمثل الآية الأولى في التهلكة المعلومة، ومثل الآية الثانية إرشاد، ولذا من عمل بخبر الفاسق وقتل مؤمناً فقد ارتكب حراماً لا حرامين، وعليه فلا دلالة على وجوب دفع الضرر المحتمل.

قلت: بل ظاهر الآية الأولى في التهلكة المحتملة بقرينة السياق، حيث إنه حث على الإنفاق في سبيل الله تعالى، والتحذير من أن عدم الإنفاق قد

ص: 385


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.

يكون سبباً لسيطرة الأعداء، وذلك أمر محتمل لا مقطوع، وأما الآية الثانية فالإرشاد لا ينافي الحكم الشرعي، ولا محذور في تعدد العقاب إلاّ الاستبعاد، مضافاً إلى احتمال العقوبة الغليظة، فتأمل.

وثالثاً: استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل حتى لو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين؛ لأن الملاك غير منحصر بهما، ولذا أطبق العقلاء على لزوم دفع هذا الضرر المحتمل مع اختلافهم في التحسين والتقبيح.

لكن يمكن أن يقال: بانحصار الملاك فيهما، وأما من خالف فيهما فلأجل توهمات ومغالطات مع غفلته عن كونهما المستند لوجوب دفع الضرر المحتمل، وبعبارة أخرى: إن العقل يستقل بالمبنى وبالبناء، ومن أنكر المبنى وقبل البناء فلمغالطته في المبنى ولغفلته عن توقف البناء على ذلك المبنى.

وأما ما قيل: بأن هناك ملاكاً آخر هو الملائمة والمنافرة مع العقل والفطرة، كالأعمال السفهية التي تنافرهما مع عدم كونها قبيحة عقلاً.

فيرد عليه: أن مجرد المنافرة لا تنتج تكليفاً عقلياً، فتأمل.

الإشكال الثاني: على الصغرى، بأنه ليس مخالفة الظن مظنة للضرر؛ وذلك لأن الضرر إما العقوبة أو المفسدة أو تفويت مصلحة.

1- أما العقوبة: فقد يقال: إنه لا ملازمة بين التكليف المعلوم وبين العقوبة على المخالفة، فضلاً عن الملازمة بين التكليف المظنون وبينها، فلا يصل الكلام إلى أن الملازمة بين شيئين يستلزم الملازمة بين الظن بهما.

ص: 386

وإنما الملازمة بين التكليف المنجز وبين استحقاق العقوبة على المخالفة، فلذا لو ارتكب الحرام الواقعي جهلاً بالموضوع أو بالحكم من غير تقصير فلا عقوبة عليه قطعاً.

إن قلت: إنه وإن لم يستقل بالتنجز إلاّ أنه يحتمل العقوبة على مخالفة التكليف المظنون، فيظن بالتنجز، والظن بالتنجز ظن باستحقاق العقوبة.

قلت: مع عدم العلم بالتنجز لا ظن به وإنما علم بعدمه؛ لأن الموضوع هو قبح العقاب بلا بيان واصل، ومع عدم وصوله يستقل العقل بقبح العقاب، والظن غير المعتبر ليس بياناً واصلاً.

2- وأما المفسدة: فقد يقال:

أولاً: بأنه ليس بالضرورة كون ملاك الحكم ما في المتعلق من المفسدة أو المصلحة، بل يكفي في صحته وجود الملاك في الجعل، وعليه فلا يوجد ضرر ولا مفسدة دنيوية في المخالفة.

إن قلت: لو كان الملاك في الجعل، كانت المتعلقات متساوية ولا خصوصية لها، فيكون تخصيص بعضها بالحكم ترجيح بلا مرجح.

قلت: تكفي الإرادة في الترجيح كطريقي الهارب ورغيفي الجائع، حيث إن المصلحة في الكلي الجامع وتحققه يكون بإحدى المصاديق التي ترجحها الإرادة مع عدم المصلحة في تخيير المكلف.

مضافاً إلى أن الخصوصية قد تكون في المجعول له، كصعوبة مصداق دون آخر حين امتحانه، كتحريم الغناء مثلاً لو فرض أن الملاك في جعل الحكم دون المتعلّق وتمّ اختياره لصعوبة ذلك على المكلفين لكون الامتناع

ص: 387

عنه خلاف الهوى، فتأمل.

ويرد عليه: بأنه قد يستظهر من الآيات والروايات على تبعية الأحكام لملاكات في متعلقاتها لا في الجعل، كقوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ...}(1) الآية، وفي الحديث: «إنا وجدنا كل ما أحل الله ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ولهم إليه الحاجة، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة للعباد إليه ووجدناه مفسداً»(2).

وثانياً: حتى على فرض تبعية الأحكام للملاكات في متعلقاتها، لا يلزم كونها مفسدة، بل قد يكون حزازة، وقد يكون ضرراً نوعياً ولا ضرر له على الشخص، وقد يكون فوت مصلحة لا وقوع في المفسدة.

وأورد عليه: بأن الحزازة إذا كانت عظيمة بحيث صارت سبباً للتكليف فهي من مصاديق المفسدة، كما أن فوت المصلحة ضرر، وحتى لو لم يكن ضرراً باعتباره عدم نفع فإن ملاك الضرر جارٍ فيه، كما أنه لا فرق بين الضرر النوعي والشخصي في صحة جعلهما ملاكاً للحكم بالتحريم.

وثالثاً: إنه لو فرض في أنه قد يكون الملاك في الجعل، لكنه كذلك قد يكون في المتعلّق، فكلاهما محتمل، كما أن احتمال تفويت المصلحة أو وجود الحزازة يساوق احتمال الضرر، وحينئذٍ يتحقق وجوب دفع الضرر المحتمل.

ص: 388


1- سورة المائدة، الآية: 4.
2- علل الشرائع 2: 592؛ وسائل الشيعة 25: 51.

وفيه: وجود المؤمّن الشرعي والعقلي بحديث الرفع وبقبح العقاب بلا بيان، وبذلك يجوز الاقتحام، فلا مظنة للضرر سواء كان عقاباً أم مفسدة.

الدليل الثاني: عدم الأخذ بالظن ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح.

وأورد عليه: بأن هذا لوحده لا يكفي، بل لا بد من ضمّ مقدمات أخرى مثل أن البراءة موجبة للخروج عن الدين، وأن الاحتياط موجب للعسر والحرج، فرجع إلى دليل الانسداد.

وأما الإشكال على الكبرى: بأن ترجيح المرجوح لا إطلاق لقبحه؛ إذ قد يكون في المرجوح جهة رجحان كمصلحة التسهيل، وحتى على فرض قبحه فلا دليل على كونه في حدّ الإلزام.

فيرد عليه: أن وجود تلك الجهة كالتسهيل تجعله راجحاً؛ إذ لا محذور في ترجيح الوهم على الظن لأمر لا يرجع إلى ذاته، وأن الكلام هنا في مورد التكليف المشتمل على غرض لزومي، فالقبح لو كان يكون بحد الإلزام.

ص: 389

فصل فی دليل الانسداد

اشارة

وهو من الأدلة العقلية التي أقيمت على حجية الظن، ولهذا الدليل خمس مقدمات، لو تمت بأجمعها انتجت حجية مطلق الظن في الجملة، وهي:

1- العلم الإجمالي بوجود تكاليف فعلية.

2- انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام.

3- كون إهمال الأحكام أو إجراء البراءة فيها مستلزمين للخروج عن الدين.

4- عدم وجود بديل عن الظن، لا الاحتياط، ولا الأصول العملية في كل الأطراف أو بعضها، ولا تقليد الانسدادي للانفتاحي.

5- قبح ترجيح غير الظن عليه؛ لأن الراجح عقلاً هو الإطاعة الظنية، دون المشكوكة أو الموهومة.

المقدمة الأولى: العلم بوجود تکالیف فعلیة

ولم يذكرها الشيخ الأعظم، وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن عدم ذكرها إما لوضوحها أو لعدم مقدميتها، أما الأول: فغير صحيح؛ إذ من الواضح أنه لولاها لم يكن مجال لسائر المقدمات إلاّ بنحو السالبة بانتفاء

ص: 390


1- نهاية الدراية 3: 272.

الموضوع؛ إذ لولا العلم الإجمالي فلا حكم عقلاً أصلاً، وأما الثاني: فلا يوجب الاستغناء عنها حيث إن مقدمية بعض المقدمات الأخرى أيضاً واضحة، بل لعلّها أوضح.

إن قلت: على بعض المباني لا أثر للعلم الإجمالي لعدم تنجزه، حيث تجوز المخالفة الاحتمالية على بعض المباني، وتجوز المخالفة القطعية على بعضها الآخر، ومع ذلك تكفي سائر المقدمات - لو فرض صحتها - في إثبات حجية الظن، لوضوح أن الإهمال يستلزم الخروج عن الدين، ولذا ذهب إلى حجية الظن في حال الانسداد مثل المحقق القمي القائل بعدم تنجز العلم الإجمالي في الجملة!

قلت: أصل وجود العلم الإجمالي مما لا بد منه، ولا فرق في ذلك بين القول بتنجزه أو عدم تنجزه، وغير المنجز إن لم يكن مفيداً في سائر الموارد لكنه مفيد لجريان سائر مقدمات الانسداد لئلا تكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

ثم إنه قد أشكل على هذه المقدمة بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: انحلال هذا العلم الإجمالي، بسبب الاضطرار إلى بعض الأطراف؛ وذلك لعدم إمكان الاحتياط في جميعها، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بجواز المضطر إليه، وشبهة بدوية في غيره.

وأورد عليه: أولاً: مبنىً، بأن الاضطرار قد يكون لأحدهما المعين أو لأحدهما غير المعين، وهنا صور مختلفة اختلفت الآراء فيها في الانحلال وعدمه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

ص: 391

وثانياً: بأنه حتى لو فرض الذهاب إلى الانحلال في سائر الموارد لكن

لا يمكن الانحلال هنا لاستلزامه الخروج عن الدين.

وثالثاً: بأن شرط الانحلال بسبب الاضطرار هو عدم زيادة المقدار المعلوم بالإجمال عن المقدار المضطر إليه، فمع العلم بالزيادة لا انحلال، كما لو علم بنجاسة إنائين من ثلاثة ثم اضطر إلى ارتكاب أحدهما، وما نحن فيه من هذا القبيل.

الإشكال الثاني: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، ففي الكفاية(1): انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) التي تكون في ما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومع الانحلال لا موجب للاحتياط إلاّ في خصوص ما في الروايات، وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوب الاحتياط بما في الروايات حتى لو سلمنا بوجود الإجماع بعدم وجوب الاحتياط في جميع الأطراف.

وفيه(2): التنافي بين هذا الإشكال وبين المقدمة الأولى، فإمّا الإشكال غير وارد أو المقدمة الأولى لا حاجة لها؛ إذ لو أريد من المقدمة الأولى العلم الإجمالي المنجّز، فدليل الانسداد لا يبتني عليها وذلك للإجماع أو لاستلزام الخروج عن الدين حتى مع عدم تنجز العلم الإجمالي، ولو أريد منها أصل وجود العلم الإجمالي تكويناً، فالإشكال غير وارد لعدم فرض التنجز في

ص: 392


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 435.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 77.

هذه المقدمة كي يشكل بعدم التنجز!!

المقدمة الثانية: انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام

وهي انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام في هذه العصور.

أما انسداد باب العلم فواضح؛ إذ إن اليقينيات قليلة جداً، وهي خاصة عادة بالضروريات والمتواترات، مع إجمالها غالباً لعدم العلم بالأجزاء والشروط والقواطع والموانع ونحو ذلك.

وأما انسداد باب العلمي - وهو الظن الخاص - فلعدم قيام دليل يقيني على حجية الخبر الواحد؛ إذ مع قيامه ينحل العلم الإجمالي لوفاء الأخبار بمعظم مسائل الشريعة ولا مانع من الرجوع في غير مواردها إلى الأصول العملية.

وفي التبيين(1): إن تمامية انسداد باب العلمي يتوقف على نفي أحد أمور ثلاثة وهي: حجية أخبار الثقاة، ووثاقة رواة الأحاديث الموجودة بأيدينا، وحجية ظواهر الكلام بالنسبة إلينا، وأما مع ثبوتها جميعاً فلا انسداد لباب العلمي؛ وذلك لكفاية الروايات الموجودة بأيدينا بمعظم الفقه فلا يستلزم إجراء الأصول العملية في سائر الموارد الخروج عن الدين أو العسر والحرج أو ترجيح المرجوح على الراجح.

وحيث قد أقمنا الدليل على الأمور الثلاثة معاً، فلا انسداد لباب العلمي، وبذلك ينهدم أساس دليل الانسداد.

المقدمة الثالثة: الإهمال والبراءة سبب الخروج عن الدین

وهي عدم جواز إهمال الأحكام المعلومة بالإجمال، وقد استدل الشيخ

ص: 393


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 78.

الأعظم لذلك بعدة أدلة(1)، منها:

الدليل الأول: الإجماع على عدم جواز إهمال الأحكام بالمرّة - كالأطفال والمجانين - في حالة الانسداد.

إن قلت: إنه إجماع تقديري، حيث لم يذكر الانسداد في كلام القدماء.

قلت: نقطع بهذا الإجماع فلا يضرّ تقديريته، وبأن التقدير في المعلَّق عليه وهو الانسداد لا المعلَّق الذي هو عدم جواز إهمال الأحكام بالمرّة فإنه معلوم اتفاق الكل عليه.

ويرد عليه: بأن هذا الإجماع محتمل الاستناد، فلا اعتبار به عند الأغلب.

الدليل الثاني: استلزام الإهمال المخالفة القطعية، بل الخروج العملي عن الدين.

الدليل الثالث: العلم الإجمالي المنجّز بوجود تكاليف واقعية.

وأشكل عليه في الكفاية(2): بعدم توقف صحة هذه المقدمة على تنجز العلم الإجمالي، بل تصح حتى لو قلنا بعدم التنجز في حالة الاضطرار إلى بعض الأطراف، كما مرّ.

إن قلت: مع عدم تنجز العلم الإجمالي يكون العقاب على المخالفة في سائر الأطراف - على تقدير المصادفة - عقاباً بلا بيان؛ وذلك لأن البيان هو العلم الإجمالي، ومع عدم تنجزه لا بيان!

قلت: قد علمنا بإيجاب الاحتياط من اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه

ص: 394


1- فرائد الأصول 1: 388-396.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 437-438.

الواقعية بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط، هذا مضافاً إلى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذه الحال - أي حال جواز أو وجوب ارتكاب بعض الأطراف - .

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأنه إن كان المراد وجوب الاحتياط - بحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية - فهو منافٍ لما ذكره في المقدمة الرابعة من عدم وجوب الاحتياط التام، وإن كان مراده وجوب الاحتياط الناقص - بحرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية فهو منافٍ لمبناه من عدم التفكيك بينهما.

وأجاب في المنتقى(2): بأنّ عدم التفكيك إنما هو في ما لو كان وجوب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي، أما لو كان بمقتضى دليل آخر فالمتّبع مقدار دلالة ذلك الدليل، نظير دلالة بعض الأدلة على وجوب الصلاة إلى جهة واحدة فقط عند اشتباه القبلة، فلا يجوز الإهمال ولا تجب الصلاة إلى الجهات الأربعة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فقد دل الدليل - كالإجماع أو شدة اهتمام الشارع بأحكامه - على حرمة المخالفة القطعية حين الانسداد، ولا دلالة على وجوب الموافقة القطعية، فتأمل.

المقدمة الرابعة: لا بدیل للظن

اشارة

وهي عدم وجود طريق آخر؛ إذ لا يجب الاحتياط التام، بل قد لا يجوز، كما لا يجوز إجراء الأصول العملية، وكذا لا يجوز تقليد المجتهد

ص: 395


1- نهاية الدراية 3: 273-274.
2- منتقى الأصول 4: 334.

الانسدادي للمجتهد الانفتاحي، كما لا تجوز القرعة ونحوها لتعيين الحكم، فهنا أمور:

الأمر الأول: عدم وجوب الاحتياط التام

فمع استلزامه لاختلال النظام فلا إشكال في عدم وجوبه، بل عدم جوازه.

وأما مع استلزامه العسر أو الحرج أو الضرر...

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1) إلى حكومة دليلها على دليل الاحتياط؛ إذ نفيها إنما هو بمعنى نفي الحكم المترتب عليها، وعليه فلو أراد الشارع من المكلف امتثال الأحكام الواقعية المجهولة كانت إرادته التشريعية ضرراً على المكلف أو موجبة لعسره أو حرجه، فيكون حكمه ضررياً.

وأما المحقق الخراساني(2): فقد ذهب إلى أن الضرر المرفوع إنما هو الضرر الناشئ عن حكم الشارع، وكذا في العسر والحرج، ولا يرفع الضرر وأخواته الناشئة عن حكم العقل، وعند الاحتياط لم تنشأ هذه إلاّ عن حكم العقل بوجوب الاحتياط، وهذا لا يرتبط بحكم الشارع فلا تكون المذكورات مرفوعة حينئذٍ، والحاصل: أن متعلق التكليف ليس حرجياً أو عَسِراً أو ضررياً فلا يرفع بأدلتها.

والمسألة مبنائية، وسيأتي الكلام فيها في مباحث لا ضرر إن شاء الله تعالى.

ثم إن هناك فروق بين الذهاب إلى حجية الظن في حال الانسداد وبين

ص: 396


1- راجع فرائد الأصول 1: 407-408.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 442.

الذهاب إلى وجوب الاحتياط ما لم يؤدّ إلى الضرر وأخواته...

منها: عدم لزوم الاحتياط في المشكوكات والموهومات على الأول، ووجوبه ما لم يؤدّ إلى الضرر وأخواته على الثاني بناءً على إمكان التوسط في التنجيز.

ومنها: المطلقات القطعية أو المدلول عليها بالظن الخاص والمثبتة للتكاليف يمكن تخصيصها أو تقييدها بناءً على الأول، مع عدم إمكان ذلك بناءً على الثاني، حيث إن الاحتياط أصل فلا تقيّد أو تخصّص به الأمارات.

إن قلت: الظن الانسدادي أيضاً لا يخصص أو لا يقيد الأدلة الاجتهادية؛ وذلك للطولية بينهما.

قلت: الطولية في الدليل لا المدلول، نظير تخصيص الخبر الواحد للعام الثابت بالعلم مع وضوح الطولية بين العلم والظن؛ وذلك لأن المدلولين من الظواهر ولا طولية بينهما، وكذا لو دل دليل الانسداد على حجية الظن، فلا فرق بين هذه الحجية وبين الحجية الثابتة بالعلم أو بالظن الخاص، فتأمل.

ومنها: عدم جواز الإسناد إلى الشارع بناءً على الثاني، وجواز الإسناد إليه بناءً على الأول، ولا فرق في ذلك بين القول بالكشف أو الحكومة؛ لأنهما يرتبطان بالدليل، وأما المدلول فهو حكم الشارع الظاهري من غير فرق بينهما، فتأمل.

الأمر الثاني: عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية
اشارة

والأصول إما مثبة للتكليف أو نافية له، فهنا مقامان:

ص: 397

المقام الأول: في الأصول المثبتة للتكليف

أما الأصول غير الاستصحاب فلا محذور من جريانها، لوجود المقتضي - وهو أدلتها - وفقدان المانع، كما لو شك في القصر أو التمام، فالاحتياط جارٍ هنا من غير محذور.

وأما الاستصحاب فله حالتان:

الحالة الأولى: أن لا يعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، نظير الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

فكذلك لا محذور في جريانه، لوجود المقتضي وارتفاع المانع.

الحالة الثانية: أن يعلم بانتقاضها في بعض الأطراف:

فإن قلنا بأن المانع عن جريان الاستصحاب منحصر في المخالفة العمليّة القطعيّة، فهذا المانع غير متحقق في ما نحن فيه؛ إذ الكلام في إثبات التكليف، فلا علم بالمخالفة لو امتثل.

وأما لو قلنا بأن المانع غير منحصر فيها، بل المخالفة العلميّة أيضاً مانع لحصول التنافي في دليل الاستصحاب بين الصدر والذيل، فهل هذا المانع متحقق هنا أم لا؟

قد يقال(1): بعدم تحققه أيضاً فلا مانع من جريان الاستصحاب في ما نحن فيه؛ وذلك لأن علم المجتهد بالأحكام الشرعية إنما هو علم بالقضايا الحقيقية، وهذه القضايا فعلية محمولها يتوقف على فعلية موضوعها، وعليه فلا أثر للعلم الإجمالي للمجتهد بالقضايا الحقيقية، إلاّ إذا صارت

ص: 398


1- نهاية الدراية 3: 282-283.

محمولاتها فعلية، ولا فعلية للمحمولات مع عدم فعلية الموضوعات، كعلمنا بوجوب الحج مشروطاً بالاستطاعة، حيث لا أثر لهذا العلم إلاّ لو تحققت الاستطاعة خارجاً.

وعليه فلا أثر ليقين المجتهد بحكم سابقاً وشكه في بقائه؛ لأن بقاء الحكم إنما يكون له أثر إذا كان الموضوع فعلياً، وأما لو لم يكن فعلياً فلا أثر لليقين والشك.

وفي ما نحن فيه: لا علم للمجتهد بأحكام فعلية على الإجمال؛ لأن ابتلاءه بالوقائع تدريجي، وكلّما تحقق موضوع واقعة تحقق الحكم، مثلاً تكون صلاة الجمعة محل ابتلائه فعلاً فيعلم بتكليفه، لكن لا تكليف له في الوقائع المستقبليّة؛ لأن التكليف محمول، وحيث لم يبتل بالواقعة فلم يتحقق الموضوع، إذن فلا تحقق للعلم الإجمالي بالتكليف، فلا استصحاب إلاّ في الواقعة المبتلى بها دون الوقائع المستقبلية.

والحاصل: لا علم إجمالي بالتكاليف؛ إذ في حالته لا يوجد إلا أصل واحد، فلا تعارض بين الاستصحابات لتتساقط! وذلك للتدريج في فعلية الأحكام.

وأشكل عليه: أولاً(1) بعدم تحقق التدريجية، ووجود العلم الإجمالي من أول الأمر؛ وذلك لأن المجتهد يعلم بأنه في مواقع ابتلائه بالاستنباطات تكون هناك تعبدات استصحابية موضوعاتها فعلية، وهذا كافٍ في تحقق علمه الإجمالي بأن الاستصحابات في مواقعها مخالفة إجمالاً للواقع الذي

ص: 399


1- نهاية الدراية 3: 283.

علمه، ومن الواضح أن هذا العلم الإجمالي الموجود من أول الأمر هو عين اليقين الإجمالي الناقض في موقع فعلية الاستصحاب بفعلية موضوعه، لا أنه يحدث له عند إجراء الاستصحابات، وإنما الفرق بلحاظ الأطراف بنحو الكلية قبل الاستنباط، ولحاظها بالتفصيل عند التعرض للاستنباط.

والحاصل: أن اليقين الناقض موجود قبل الاستنباط، فيمنع عن جريان الأصل في أول مرحلة من الاستنباط، لعلمه بمخالفته أو مخالفة الأصل المبتلى به في واقعة أخرى، وتدريجية الفعلية لا تمنع عن ترتيب الأثر فعلاً.

وثانياً(1): إمكان فرض فعلية ابتلائه بجميع الوقائع التي لها حكم، وذلك بالابتلاء الفتوائي، كما لو استنبط جميع الأحكام وكتبها في كتاب وأراد إصداره!

المقام الثاني: في الأصول النافية للتكليف

فقد ذهب صاحب الكفاية(2) إلى انحلال العلم الإجمالي، فلا يكون ثمة مانع عن جريان الأصول النافية، وذلك بفرض أن الأحكام المعلومة بالعلم التفصيلي والظن الخاص والأصول المثبتة تكون بمقدار المعلوم بالعلم الإجمالي، وحينئذٍ ينحل هذا العلم فيمكن إجراء مثل أصل البراءة في الباقي حينئذٍ، وحتى لو فرض عدم وفاء الموارد المذكورة بالمقدار المعلوم بالإجمال فلا مانع من جريان الأصول النافية لكون الاحتياط في الباقي يستلزم الحرج أو أخواته، ومع الاضطرار إلى الاقتحام في بعض الأطراف

ص: 400


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 125.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 449.

يسقط العلم الإجمالي، وعلى فرض وجوب الاحتياط لعلمنا بأن عدم جريانه يستلزم الخروج عن الدين، تكون الأصول النافية محلاً للاحتياط دون الأصول المثبة، ويرفع اليد عن وجوب الاحتياط فيها بمقدار العسر والحرج أو اختلال النظام.

وأورد عليه: أولاً: بأن الثلاثة - موارد العلم والظن الخاص والأصول المثبتة - بناءً على الانسداد، قليلة جداً فلا انحلال للعلم الإجمالي.

وثانياً: بأن رفع اليد عن بعض الأصول النافية دون الأصول المثبة، ترجيح بلا مرجح لأنها في عرض واحد؛ إذ مع وجود العلم الإجمالي المنجّز أو العلم الإجمالي الواجب العمل به لمحذور العسر والحرج أو الخروج عن الدين يجب الاحتياط في جميع موارد الأصول من غير فرق بين النافية والمثبتة، ولو كان هناك حرج وأمثاله فهو في جميعها فيرفع اليد عن مقدار منها من غير فرق بين المثبتة والنافية.

هذا مضافاً إلى الإشكال المبنائي بعدم سقوط العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى بعض أطرافه.

الأمر الثالث: عدم جواز رجوع المجتهد الانسدادي إلى الانفتاحي

وذلك للإجماع القطعي، وقصور أدلة الرجوع إلى العالم عن الشمول لهذا المورد؛ إذ إنّها إمّا في حالة الجهل، ولذا اتفقوا على أن المجتهد إذا لم يتوصل إلى الدليل جاز له إجراء أصل البراءة دون الرجوع إلى المجتهد الذي توصّل إلى الحكم حتى لو كان الأعلم، وإمّا في حاله عدم العلم بخطأ المستند ومن المعلوم أن الانسدادي يرى خطأ الانفتاحي.

ص: 401

إن قلت: لا تخطئة لو كان الانفتاحي قريب العهد بزمان المعصومين (علیهم السلام) بحيث اعتقد الانسدادي بأن زمانه كان زمان الانفتاح، فيكون نظير سؤال من لا يعرف الطريق عمّن يعرفه.

قلت: إن تقليده يستلزم تقليد الميت ابتداءً، وتقليد المجتهد لغيره، وقد ادعي الإجماع على عدم جوازهما، وهذا الإجماع يشمل ما نحن فيه لعدم رجوع أيٍّ من المجتهدين إلى غيرهم في ما لم يعلموا حكمه أبداً.

الأمر الرابع: عدم جواز القرعة

وذلك لأنها خاصة في بعض موارد الشبهات الموضوعية، ولا تجري في الشبهات الحكمية الكلية بالإجماع وبالضرورة الفقهية، بل ذلك من المنكرات في أذهان المتشرعة، بل قد يقال: إن (المشتبة) و(المشكل) ظاهر في المشتبه والمشكل بالذات، لا المعلوم بالذات المشتبه أو المشكل في الحكم.

المقدمة الخامسة: قبح ترجيح الشک والوهوم علی الظن

ترجيح الإطاعة الظنية على المشكوكة أو الموهومة، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلاً، وحرام شرعاً، حيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية ولا لوم عندهم للمولى إذا عاقب عبده حين ترجيح الوهمية أو الشكيّة على الظنية.

وأشكل عليه: بأن الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه من باب الانسداد، لترجيح العقل الاحتياط بالمقدار الممكن حتى في المشكوكات والموهومات على الإطاعة الظنية. نعم، مع عدم إمكان الاحتياط لعسر أو

ص: 402

حرج أو اختلال النظام فالعقل يرجّح الظنية عليهما، لكن لا يخفى إمكانه ولو بمقدار قليل.

ومن كل ذلك يتبيّن عدم تمامية مقدمات الانسداد، للإشكال في الأولى بانحلال العلم الإجمالي الكبير إلى الصغير، وفي الثانية بعدم انسداد باب العلمي، وفي الخامسة حيث لا تدل إلاّ على لزوم التبعيض في الاحتياط،

لا حجية الظن مطلقاً.

تنبیهات

التنبيه الأول: حجية الظن في الانسداد الكبير

نتيجة مقدمات الانسداد - على فرض صحتها - هو حجية الظن في الانسداد الكبير، أما لو حصل انسداد صغير في الموضوعات أو متعلقاتها فلا حجية للظن إلاّ لو رجع الصغير إلى الكبير، ولذا لا حجية للظنون الرجالية من باب الانسداد، بل يلزم الاحتياط فيها.

وهكذا في عكسه، فلو فرضنا حصول الانسداد الكبير لكن مع انفتاح باب العلم في موضوع من الموضوعات كما لو فرضنا حصول التواتر في غالب الرجال، فلا يضر ذلك الانفتاح بحجية الظن في سائر الرجال؛ وذلك لشمول دليل حجية الظن الانسدادي لذلك.

وإن كان الأقرب حجية الظنون الرجالية لا من باب الانسداد، بل لبناء العقلاء على الاعتماد عليها، فتأمل.

التنبيه الثاني: عدم حجية الظن في غير الأحكام

إن نتيجة المقدمات هي حجية الظن في خصوص الأحكام الشرعية

ص: 403

والموضوعات المرتبطة بالأحكام، ولا تنفع لحجيته في غير الأحكام، كما لو ظننا بعدالة الراوي لحكم الشرعي فهو حجة، لكن لا ينفع هذا الظن في تصحيح شهادته؛ لأن العدالة موضوع خارجي لم يرتبط بحكم شرعي في الشهادة. نعم، هي موضوع له أثر شرعي، لكن ذلك لا ربط له بمقدمات الانسداد.

وبعبارة أخرى: الظن المرتبط بحكم كلي يكون حجة لا الظن المرتبط بحكم جزئي؛ وذلك لعدم جريان مقدمات الانسداد فيه. نعم، لو فرض انسداد باب العلم والعلمي في الموضوعات الخارجية المرتبطة بالأحكام الجزئية كان الظن حجة فيها أيضاً بناءً على تمامية المقدمات.

التنبيه الثالث: اختلاف درجات الظن

لو اختلفت درجات الظن، فلا بد من اختيار الظن الأقوى على الأضعف، لجريان دليل قبح ترجيح المرجوح على الراجح، فلذا لا بد من تقليل الاحتمالات في الأخبار من جهة السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مثلاً في حال الانسداد لو تمكنا من تحصيل العلم بصحة السند لا يصح عدم تحصيل هذا العلم، وهكذا في سائر الجهات؛ وذلك لأن تقليل الاحتمالات يقوّي الظن بالحكم الواقعي، فتأمل.

التنبيه الرابع: إثبات التكلف لا اسقاطه

إن مقدمات الانسداد على فرض صحتها إنما تجري في إثبات التكليف، لا في إسقاطه، وعليه فلا بد من تحصيل العلم بالامتثال؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ص: 404

وقيل: بعدم الفرق، وأن الظن الانسدادي حجة سواء في إثبات التكليف أم في إسقاطه؛ وذلك لأن القطع بالإتيان لا يوجب القطع بالامتثال؛ لأن العلم بالامتثال لا يؤدّي إلى القطع بإبراء الذمة واقعاً، فمثلاً لا فرق بين من صلى الجمعة إلى القبلة المعلومة وبين من صلاها إلى القبلة المظنونة، فكلاهما يظنان بامتثال التكليف الواقعي من غير قطع؛ إذ لعل الواجب واقعاً الظهر دون الجمعة!

وأورد عليه: أولاً: بعد قيام الحجة الشرعية على حكم يستقل العقل بوجوب إفراغ الذمة منه بالقطع، فمع الظن الانسدادي بالتكليف تقوم الحجة على التكليف فيتنجز فلا بد من القطع بإفراغ الذمة، فالعقل يستقل بوجوب الإفراغ القطعي مع تنجز التكليف حتى لو كان ذلك التنجز بالدليل الظني.

وثانياً: ما مرّ في التنبیه السابق مع أن الظن الأقوى أرجح عقلاً من الظن الأضعف.

وثالثاً: بعدم جريان بعض المقدمات في مرحلة الاسقاط؛ لعدم انسداد العلم والعلمي في مرحلة الامتثال، كما لا حرج ولا اختلال للنظام في الاحتياط فيه.

ص: 405

فصل الظن في أصول الدين

اشارة

وأصول الدين قسمان: ما يجب الاعتقاد به لو علم به، وما يجب الاعتقاد به مطلقاً، فهنا بحوث:

البحث الأول: ما يلزم الاعتقاد به لو علم به

فلا يجب تحصيل العلم به، لعدم وجوب الاعتقاد في حالة الجهل، بل لو تحقق العلم بالاختيار أو صدفة وجب عقد القلب عليه.

وفي هذه المسائل لا حجية للظن - سواء كان ظناً خاصاً أم انسدادياً - .

أما في حالة الانسداد فلا تجري مقدماته؛ وذلك لإمكان الاحتياط في هذه المسائل بالاعتقاد الإجمالي بها.

وأما في حال انفتاح باب العلمي فهل القطع بها موضوعي أم طريقي، أي هل الاعتقاد مترتب على الواقع ليكون القطع طريقياً فتقوم الأمارات مقام القطع، أم أن الاعتقاد مترتب على العلم بالواقع فلا تقوم مقامه؟

وعن المحقق الخراساني: ترجيح موضوعية العلم في هذه المسائل، قال: «ومن هنا عُلم عدم جواز الإخبار ببعض تفاصيل الحشر والنشر بمجرد مساعدة ظهور آية أو رواية عليه، كما هو ديدن بعض الواعظين»(1).

ص: 406


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 169.

وفيه: إطلاق الأدلة اللفظية لحجية الخبر الواحد، وعدم الفرق بين الأصول والفروع في الأدلة اللبيّة كبناء العقلاء، فهي تدل على حجية الأخبار والظواهر المتعلّقة بهذا القسم من أصول الدين، مع عدم قيام دليل على توقف الاعتقاد على العلم، وعليه فلا بد من الاعتقاد بما دلت عليه الأخبار المعتبرة، وكذا بظواهر الآيات والروايات المعتبرة، فتأمل.

البحث الثاني: ما يلزم الاعتقاد به مطلقاً

اشارة

أي الاعتقاد به واجب مطلق، فيجب تحصيل العلم به، وليس الوجوب مشروطاً بحصول العلم، وهنا مقامات ثلاث:

المقام الأول: في القادر على تحصيل العلم

وهذا لا يجوز له الاقتصار على الظن، بل لا بد له من تحصيل العلم، ولا فرق في منشأ العلم بالحق، سواء كان عن استدلال أم عن تقليد، ولا دليل على لزوم تحصيل القطع عن استدلال، بل هو تحصيل للحاصل، كما لا دليل على الوجوب النفسي للاستدلال.

والحاصل: أنه كان المطلوب من هذا الإنسان العلم بالواقع والاعتقاد به، وهذا قد علم واعتقد، ولا دليل على أكثر من ذلك.

وأما ذم تقليد الكفار لآبائهم فلكونه باطلاً مع عدم قطعهم به، بل كانوا يقولون: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}(1).

بل يمكن القول: بأنه لو لم يعلم بل اعتقد عن ظن فقد ارتكب محرّماً

ص: 407


1- سورة الجاثية، الآية: 32.

تكليفياً بترك تحصيل العلم، لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ}(1)، لكن حيث إن عقيدته صحيحة فهو مسلم في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن الإسلام يتحقق بالاعتقاد بالحق، وأما كونه عن علم فهذا من الأحكام الفرعية، فتأمل.

المقام الثاني: في الجاهل القاصر
اشارة

أي القاصر عن تحصيل العلم بما يجب الاعتقاد به مطلقاً.

فالكلام في وجود الجاهل القاصر، وفي كفره، وفي تكليفه، وفي وجوب تحصيل الظن عليه، فهنا مطالب:

المطلب الأول: في وجود الجاهل القاصر

قد يقال: بعدم وجوده، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن الأدلة حصرت الإنسان في المؤمن والكافر، وعلى خلود الكافر في جهنم، مع دلالة العقل على قبح عقاب القاصر، وعليه فكل كافر مخلّد في جهنم مع عدم كونه قاصراً.

وأشكل عليه: أولاً: بوجود الواسطة وهي المعبّر عنها بالضلال.

وفيه: أن الضال إما مؤمن أو كافر؛ وذلك لأن الضلال في الأصول كفر باطناً، حتى وإن لم يخرجه عن الإسلام ظاهراً، والضلال في الفروع لا يخرج المسلم عن الإسلام.

وثانياً: عمومات خلود الكفار في جهنم مخصصة عقلاً فلا تشمل

ص: 408


1- سورة محمد، الآية: 11.

القاصر، بل دلت الروايات على امتحانه في الآخرة بنار يخلقها الله ويأمره بدخولها(1)، وحتى على القول بعدم تخصيصها يقال: بأن القاصر الناجح في امتحان الآخرة يخرج موضوعاً عنها.

وثالثاً: عن المحقق الخراساني في حاشيته على الكفاية(2) ما ملخّصه: أنّ استحقاقه النار لبُعده عن ساحة جلاله تعالى، وهو يقتضي دخوله في النار، وهذا لازم ذاتي له، والذاتي لا يعلل! ويؤيده النصوص الدالة على خلود الكافر مطلقاً في النار مما يشمل القاصر. نعم، هو لا يؤاخذ على كفره لقصوره!!

وفيه نظر: لأن الشقاوة والسعادة ليستا ذاتيين، بل هما نتيجة إرادة الإنسان وسوء أو حسن اختياره، مضافاً إلى استقلال العقل بعدم استحقاق القاصر العذاب فإنه ظلم، وإلى أن الأحاديث دلت على أن عذاب جهنم هو غضب وانتقام، كما دلت على امتحان القاصر في الآخرة مرّة أخرى.

الدليل الثاني: إن غاية خلق كل إنسان هي علمه بأصول الدين، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَۢا}(3)، وما لا يترتب على الشيء لا يكون غاية، وعليه: فلا وجود للجاهل القاصر!

ويرد عليه: النقض بالمجانين وأطفال الكفار الذين ماتوا قبل تمييزهم، وبأنه غاية للنوع لا لكل شخص، أو تأويل العلم بالمقتضي له، وبأن الدليل

ص: 409


1- الكافي 3: 248-249.
2- كفاية الأصول 2: 385 (الهامش).
3- سورة الطلاق، الآية: 12.

أخص من المدعي، فإن الآية وأمثالها دلت على كون معرفة الله هي الغاية وهي فطرية فلا قاصر فيها.

المطلب الثاني: في كفر الجاهل القاصر

قيل: هما من العدم والملكة، وقيل: بل من الضدين الوجوديين اللذَين لا ثالث لهما، وقيل: ضدان لهما ثالث، والأقرب هو الثاني؛ وذلك لأن كل من تشهد الشهادتين حكم عليه بالإسلام ظاهراً، وكل من أنكرهما أو أنكر أحدهما حكم عليه بالكفر، فالمنكر قلباً المتشهّد لساناً منافق وهو محكوم عليه بالإسلام ظاهراً وإن كان كافراً باطناً، والمتيقّن قلباً المنكر لساناً كافر كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1).

وعليه: فالجاهل القاصر الذي لا يظهر الشهادتين محكوم عليه بالكفر وتترتب عليه آثاره في المناكحة والموارثة والنجاسة وسائر أحكام الكفر؛ لأن ذلك أثر وضعي.

المطلب الثالث: في تكليف الجاهل القاصر

بمقتضى اشتراك العالم والجاهل في التكليف، فالجاهل القاصر بالأصول الاعتقادية مكلّف، لكن تكليفه غير منجّز لقبح تنجّز التكليف بغير المقدور، وكفره غير مانع عن تكليفه غير المنجّز، لتكليف الكافر بالأصول بلا إشكال، ب--ل وبالفروع بناءً على الأصح، لقول-ه تعال-ى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُم بِالْأخِرَةِ هُمْ كَٰفِرُونَ}(2)، ولولا ذلك لتساوى

ص: 410


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة فصلت، الآية: 6-7.

أكبر الكفار إجراماً مع غير المجرم منهم في العذاب الأخروي، وهو خلاف الأدلة بزيادة عقاب الأول على الثاني، ولأدلة أخرى مذكورة في محلّها.

المطلب الرابع: في تحصيل الجاهل القاصر للظن

فهل يجب عليه ذلك؟ ولو حصلّه فهل هو حجة؟

وعن الشيخ الأعظم: «أن الظاهر عدم وجوب تحصيله الظن؛ لأن المفروض عجزه عن الإيمان والتصديق المأمور به، ولا دليل آخر على عدم جواز التوقف»(1)، ولعل المراد هو حكم العقل بالتوقف لعدم كون الظن حجة ولعدم كونه مؤمِّناً.

ويمكن أن يقال: إذا لم يكن دوران بين محذورين ولم يضرّه الاعتقاد بما ظنّه واحتمل الضرر في عدم الاعتقاد به فإن العقل يحكم بوجوب الاعتقاد حينئذٍ، دفعاً للضرر المحتمل، كمن يظن بوجود الله تعالى ويحتمل العقاب في عدم الاعتقاد به، بل يمكن أن يقال: بخروج هذا عن القصور موضوعاً، فتأمل.

وقيل: بأن الظن المطلق لا دليل عليه، بل قد يأمر العقل بالتوقف والبقاء في الشك؛ لأن عدم التوقف اقتحام في ما لا يعلم، وعليه فيكون معذوراً، وأما الظن الخاص فهو حجة عليه، لإطلاق الإدلة.

وفيه: أن إطلاق الأدلة فرع ثبوت الأصول الاعتقادية، وإلاّ لزم الدور، فلذا لا يصح الاستدلال على التوحيد إلاّ بالعقل.

ص: 411


1- فرائد الأصول 1: 576.
المقام الثالث: الجاهل المقصّر

الذي عجز عن تحصيل العلم بأصول الدين بسوء اختياره، فهذا مكلّف ويستحق العقوبة، لكن يسقط الخطاب عنه؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً. نعم، لو لم يعجز عن تحصيل العلم بقي الخطاب أيضاً.

البحث الثالث: التمييز بين القسمين

فبعض الأمور الاعتقادية أمرها واضح، فالاعتقاد بوجود الله تعالى من قبيل الواجب المطلق، والاعتقاد ببعض تفاصيل الجنة كأوصاف الحور العين من الواجب المشروط، ولكن في بعضها الآخر التمييز في غاية الإشكال.

وذهب الشيخ الأعظم(1) على أنّ إطلاق بعض الأدلة يدل على عموم وجوب المعرفة، وما كان من قبيل الواجب المشروط بحاجة إلى تقييد، وعليه فيجب تحصيل المعرفة بعموم الأمور الاعتقادية سواء كانت من أصول المعارف أم فروعها، واستدل لذلك بأربع أدلة:

الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2) والمراد بالعبادة هنا المعرفة.

وفيه: تفسير العبادة بالمعرفة خلاف ظاهر الكلمة، ولم ترد عن أئمة الهدى (علیهم السلام) ، مع أن الآية ليست في مقام بيان متعلّق المعرفة أي ما يجب

ص: 412


1- فرائد الأصول 1: 559.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.

معرفته وما لا يجب حتى يتمسك بإطلاقها، بل في مقام بيان كونها الغاية، مضافاً إلى أنه يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة الإتيان بفرد منها ولا يلزم الاستيعاب.

الدليل الثاني: قوله (علیه السلام): «لا أعرف شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة»(1).

وفيه: عدم كون الحديث في مقام البيان من جهة متعلق المعرفة، بل في مقام بيان الأفضلية.

مضافاً إلى ما قيل: من عدم التلازم بين الأفضلية على الواجب وبين الوجوب، فقد يكون مستحب أفضل من واجب كالسلام وردّه، وقد يكون سبب ذلك أقوائية ملاك المستحب لكن لم يُجعل وجوبه لتلازحم الملاكات في مرحلة الجعل كالتزاحم مع مصلحة التسهيل كما في السواك.

إن قلت: الأفضلية إن كانت حيثيّة فلا تدل على الوجوب كأفضلية ردّ السلام عليه من حيث الثواب، لكن الأفضلية المطلقة ظاهرة عرفاً في الوجوب!

قلت: لا ظهور مع العلم بكثرة التزاحم وكثرة كون المصلحة الملزمة في غير الأفضل مع عدم كونها ملزمة في الأفضل، فتأمل.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ...}(2) الآية، بضميمة استشهاد الإمام (علیه السلام) بها على وجوب النفر لمعرفة الإمام، فالدين أعم من

ص: 413


1- الكافي 3: 264؛ وسائل الشيعة 4: 38.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

الأصول والفروع.

إن قلت: إن التفقه مقيّد بكونه في الدين، والمشكوك لا يعلم كونه من الدين، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

قلت: لا بد لنا من معرفة حكم الشرع في المسائل الأصولية سواء بالنفي أو الإثبات، وكلاهما من الدين فمع دلالة الدليل يكون إثباتها من الدين، ومع دلالته على العدم يكون نفيها من الدين.

وفيه: ما مرّ من أن الآية ليست في مقام بيان ما يجب التفقه فيه، بل في مقام بيان النفر أو كيفيته.

الدليل الرابع: عمومات أدلة وجوب تحصيل العلم، بل قد يظهر منها أن الاشتغال بتحصيل المعارف واجب عيني مع كون تحصيل علم الفروع واجب كفائي!

إن قلت: دلالتها على الوجوب تستلزم تخصيص الأكثر؛ إذ لو أريد مطلق العلم لخرجت العلوم غير الدينية وهي الأكثر، وإن أريد العلوم الدينية فأكثرها ليست بواجبة كالعلم بالمستحبات والمكروهات، بل الواجبات والمحرمات التي ليست محل الابتلاء.

قلت: لو كان الخاص مجموعات ثلاث مثلاً فتخصيص إحداها ليس من تخصيص الأكثر حتى لو كانت مصاديقه أكثر، مضافاً إلى أنه لو أريد بيان الملاك للمستثنى وللمستثنى منه، كأن يكون ملاك الإكرام العلم وملاك عدم الإكرام الفسق، فيقال: (أكرم الشعراء إلاّ الفساق)، فلا إشكال في ذلك حتى لو كانت مصاديق المستثنى أكثر، لعدم استهجان ذلك عرفاً.

ص: 414

البحث الرابع: تخيّر المجتهد بين استنباط تفاصيل الأصول والفروع

ذهب الشيخ الأعظم(1) إلى أنه لا يمكن تحصيل تفاصيل علم المعارف إلاّ لمن كانت له قدرة الاستنباط من الأدلة الشرعية مع إحاطته بالبراهين العقلية، والواجد لذلك المجتهد، فلا بد له من الانشغال بالفروع أيضاً فيتزاحمان فيتخير المجتهد لعدم إحراز أهمية إحداهما على الأخرى.

وقد يقال: بعدم التزاحم، إمّا لعدم إطلاق وجوب تحصيل المعارف إلاّ بالمقدار الواجب معرفته للجميع، وإمّا لعدم وجوب استنباط الفروع لواجد الملكة وجواز أن يقلّد غيره، وإمّا لوجود البدل في الفروع ولا بدل في الأصول.

أما الأول: فقد مرّ الكلام فيه.

وأما الثاني: ففيه احتمالان:

أحدهما: الجواز، واستدل له:

أولاً: بالسيرة العقلائية، حيث إن موضوع رجوع الجاهل إلى العالم هو الجاهل بالفعل، فواجد الملكة مخيّر عندهم بين الاستنباط وبين الرجوع إلى غيره، ولا يرونه ملزماً بالاحتياط، واحتمال خطأ الغير غير مانع؛ وذلك لاحتماله في جميع الأمارات والطرق مع عدم إخلال هذا الاحتمال بالتنجيز والإعذار فيها، مضافاً إلى النقض بالعامي غير الواجد للملكة المتمكن من تحصيلها ومع تمكنه من الاحتياط.

وثانياً: إطلاقات الأدلة اللفظية، كسؤال أهل الذكر، فإن شرطه عدم

ص: 415


1- فرائد الأصول 1: 560.

العلم لا عدم التمكن منه، ولا انصراف إلى المتمكن.

وثالثاً: باستصحاب الحكم الوضعي أو التكليفي أي الحجية أو جواز التقليد لمن كان مقلداً فصار مجتهداً، أما لو لم يكن مقلداً أو كان محتاطاً قبل اجتهاد فجريان الاستصحاب متوقف على القول بالاستصحاب التعليقي، وأمّا كونه فاقداً للملكة ثم واجداً لها فلا يوجب تبدل الموضوع؛ لأنهما وصفان طارئان على الذات في نظر العرف.

والآخر: عدم الجواز، واستدل له: بأن الاشتغال اليقيني بتنجز التكاليف الواقعية على واجد الملكة يستدعي البراءة اليقينية، مع العلم بالبراءة لو استنبط، والشك فيها لو قلّد، إلاّ أن يقال: بأنه مع وجود الإطلاقات السالفة فلا شك في الحجية.

وبالإجماع الذي نقله الشيخ الأعظم، إلاّ أن يقال: لا إجماع لعدم تعرّض الأكثر لهذه المسألة، بل خالف بعض فيها.

وأما الثالث: فقد يقال: إن استنباط الفروع له بدل وهو الاحتياط أو التقليد، وأما استنباط الأصول فلا بدل له، وقد مرّ أن من مرجحات باب التزاحم ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الأصول لها بدل أيضاً بالتقليد الموجب للعلم، وعليه فلا تزاحم أصلاً، لوجود البدل لكليهما، بأن يستنبط في أحدهما ويقلّد في الآخر، فتأمل.

ص: 416

فهرست الموضوعات

المقصد السادس في الحكومة والورود

تمهيد7

فصل في الحكومة

المبحث الأول: في تقسيمات الحكومة10

التقسيم الأول: تقسيمها إلى حكومة واقعية، وحكومة ظاهرية10

التقسيم الثاني: تقسيمها إلى حكومة توسيعيّة وتضييقيّة15

التقسيم الثالث: تقسيمها إلى شرح عقد الوضع وشرح عقد الحمل16

التقسيم الرابع: تقسيمها إلى إثبات الحكم نفسه أو إثبات حكم مماثل16

التقسيم الخامس: تقسيمها إلى نفي الحكم الشرعي بنفسه، أو نفي طبيعة توهم تعلقها به أو معلوليتها له17

التقسيم السادس: تقسيمها إلى لسان التفسير والتنزيل والسلب18

التقسيم السابع: تقسيمها باعتبار النظر والمسالمة19

التقسيم الثامن: التقسيم باعتبار كيفية التوسعة والتضييق21

المبحث الثاني: في مصحّح الحكومة22

المبحث الثالث: في تعارض الحاكم والمحكوم وعدمه24

المبحث الرابع: بين الحكومة والتخصيص26

المقام الأول: نقاط الاتفاق27

المقام الثاني: نقاط الاختلاف29

المبحث الخامس: في تقدم الحاكم على المحكوم32

المقام الأول: في سبب تقدم الحاكم32

ص: 417

المقام الثاني: في موارد لا يتقدّم الحاكم فيها35

المبحث السادس: في التحاكم38

فصل في الورود

المبحث الأول: بين الورود والحكومة40

المطلب الأول: نقاط افتراقهما40

المطلب الثاني: نقاط اتفاقهما42

المبحث الثاني: وجه تقديم الوارد على المورود43

المبحث الثالث: في أقسام الورود45

المقصد السابع في القطع

تمهيد49

المبحث الأول: في تقسيم المباحث49

المبحث الثاني: في شمول المقسم لغير المجتهد57

فصل في حجية القطع

المبحث الأول: في أن الآثار للقطع أو للمقطوع66

المبحث الثاني: في طريقية القطع للواقع وحجيته68

المسألة الأولى: في طريقية القطع للواقع68

المسألة الثانية: في حجية القطع ذاتاً69

المسألة الثالثة: في عدم قابلية جعل الحجية للقطع69

المبحث الثالث: في وجوب الجري طبقاً للقطع70

المبحث الرابع: هل يمكن ترخيص الشارع في مخالفة القطع؟73

المبحث الخامس: في معذرية القطع77

فصل في التجري

المطلب الأول: في معنى التجري78

المطلب الثاني: في حرمة الفعل المتجرّى به78

ص: 418

المطلب الثالث: قبح الفعل المتجرى به وعدمه90

المطلب الرابع: استحقاق أو عدم استحقاق المتجري للعقاب96

تنبيهات101

التنبيه الأول: في عموم التجري للقطع الطريقي والموضوعي101

التنبيه الثاني: في إخلال التجري بالعدالة وعدمه102

التنبيه الثالث: في جريان التجري في غير القطع103

القسم الأول: الحجة المثبتة للتكليف المصادفة للواقع104

القسم الثاني: الحجة المثبتة للتكليف المخالفة للواقع104

القسم الثالث: الحجة النافية للتكليف صادفت الواقع أم لا105

التنبيه الرابع: في صحة أو عدم صحة العمل العبادي المتجرّى به106

فصل في القطع الطريقي والموضوعي

البحث الأول: في أصل التقسيم108

البحث الثاني: في تقسيمات القطع الموضوعي109

التقسيم الأول: كونه وصفياً أو كشفياً109

التقسيم الثاني: كونه تمام الموضوع أو جزئه113

البحث الثالث: قيام الأمارات والأصول مقام القطع115

المقام الأول: قيامها مقام القطع الطريقي المحض116

المقام الثاني: قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي117

المقام الثالث: قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي الوصفي125

المقام الرابع: قيام الأصول العملية مقام القطع125

المطلب الأول: في قيام الأصول غير المحرزة مقام القطع الطريقي125

المطلب الثاني: في قيام الأصول المحرزة مقام القطع127

فصل في أخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو ضده أو مثله

المبحث الأول: أخذ القطع في موضوع نفس الحكم بشخصه129

المبحث الثاني: أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم133

ص: 419

المبحث الثالث: أخذ القطع بحكم في موضوع ضد ذلك الحكم135

فصل في الموافقة الالتزامية

دليل وجوبها139

دليل عدم وجوبها140

فصل في قطع القطّاع

المبحث الأول: في حجية قطعه الموضوعي لنفسه148

المبحث الثاني: في حجية قطعه الطريقي لنفسه149

فصل في القطع الحاصل من المقدمات العقلية

المبحث الأول: في تحقق القطع عبر المقدمات العقلية152

المقام الأول: إدراك العقل المصلحة أو المفسدة الملزمتين153

المقام الثاني: إدراك العقل الحسن والقبح153

المقام الثالث: إدراك العقل لغير المستقلات العقلية154

المبحث الثاني: في إمكان ووقوع الردع عن القطع الحاصل عنها154

المقام الأول: في إمكانه154

المقام الثاني: في وقوعه156

المبحث الثالث: في كونه مرغوباً عنه159

تكملة: في موارد توهم الردع عن القطع فيها160

فصل في العلم الإجمالي

المبحث الأول: في حقيقة العلم الإجمالي164

المبحث الثاني: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي169

المطلب الأول: في تنجز التكليف عقلاً بالعلم الإجمالي170

المطلب الثاني: في إمكان الترخيص في المخالفة القطعية171

المطلب الثالث: في وقوع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي181

المبحث الثالث: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي188

ص: 420

المطلب الأول: في الامتثال الإجمالي مع التمكّن من التفصيلي188

المطلب الثاني: في الامتثال الإجمالي القطعي مع التمكّن من التفصيلي الظني199

المطلب الثالث: في الامتثال الإجمالي مع عدم التمكّن من التفصيلي201

المقصد الثامن في الظن والأمارات

فصل في عدم حجية الظن بذاته

عدم حجية الظن بذاته 206

فصل في إمكان جعل الحجية للظن

البحث الأول: في معنى الإمكان هنا210

البحث الثاني: الدليل على الإمكان210

البحث الثالث: أدلة استحالة جعل الحجية للظن وردّها213

البحث الرابع: وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري214

فصل أصالة عدم حجية الظن

تتمتان252

التتمة الأولى: في عدم سراية حرمة التشريع إلى العمل252

التتمة الثانية: في التشريع حين الشك والظن253

فصل في حجية الظواهر

المبحث الأول: أدلة حجية الظواهر256

المبحث الثاني: في الشك في إرادة المتكلم للظهور260

المقام الأول: في عدم انعقاد ظهور للكلام261

فرع262

المقام الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدية بالظاهر263

المبحث الثالث: في حجية ظواهر الكتاب268

تنبيهات278

التنبيه الأول: الشك في تطابق الظهور الشخصي والنوعي278

ص: 421

التنبيه الثاني: لو تردد الخاص بين كونه فرداً للعام أو لا279

التنبيه الثالث: في أصالة عدم النقل280

تكملة: لو علمنا بالنقل وشككنا في تقدمه أو تأخّره281

التنبيه الرابع: لو شاع الاستعمال المجازي282

التنبيه الخامس: في تعارض الحقيقة العرفية مع اللغوية282

فصل في حجية قول اللغوي

حجية قول اللغوي 283

فصل في الإجماع

المبحث الأول: الإجماع المحصّل288

المستند الأول: قاعدة اللطف288

المستند الثاني: الحدس القطعي289

المستند الثالث: النصوص الشرعية293

المستند الرابع: الحجية العقلائية للإجماع295

المبحث الثاني: الإجماع المنقول296

تتمتان305

فصل في الشهرة الفتوائية

الشهرة الفتوائية 307

فصل في الخبر الواحد

المبحث الأول: في أدلة عدم الحجية وردّها313

المبحث الثاني: الآيات الدالة على حجية خبر الواحد316

الآية الأولى: آية النبأ317

المقام الأول: في الاستدلال بمفهوم الشرط317

المقام الثاني: في الاستدلال بمفهوم الوصف329

المقام الثالث: في المانع عن المفهوم331

المقام الرابع: في الأخبار بالواسطة342

ص: 422

الآية الثانية: آية النفر348

الوجه الأول: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر348

الوجه الثاني: الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه352

الوجه الثالث: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجيته354

إشكالات على الاستدلال بآية النفر355

الآية الثالثة: آية الكتمان359

الآية الرابعة: آية السؤال363

الآية الخامسة: آية الأذن366

المبحث الثالث: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة368

المبحث الرابع: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع369

المطلب الأول: الإجماع المنقول369

المطلب الثاني: الإجماع المحصّل القولي370

المطلب الثالث: الإجماع العملي371

المبحث الخامس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بسيرة العقلاء372

المبحث السادس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالعقل380

فصل في دليل الانسداد

المقدمة الأولى: العلم بوجود تكاليف فعلية390

المقدمة الثانية: انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام393

المقدمة الثالثة: الإهمال والبراءة سبب الخروج عن الدين393

المقدمة الرابعة: لا بديل للظن395

الأمر الأول: عدم وجوب الاحتياط التام396

الأمر الثاني: عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية397

المقام الأول: في الأصول المثبتة للتكليف398

المقام الثاني: في الأصول النافية للتكليف400

الأمر الثالث: عدم جواز رجوع المجتهد الانسدادي إلى الانفتاحي401

ص: 423

الأمر الرابع: عدم جواز القرعة402

المقدمة الخامسة: قبح ترجيح الشك والوهم على الظن402

تنبيهات403

التنبيه الأول: حجية الظن في الانسداد الكبير403

التنبيه الثاني: عدم حجية الظن في غير الأحكام403

التنبيه الثالث: اختلاف درجات الظن404

التنبيه الرابع: إثبات التكلف لا اسقاطه404

فصل الظن في أصول الدين

البحث الأول: ما يلزم الاعتقاد به لو علم به406

البحث الثاني: ما يلزم الاعتقاد به مطلقاً407

المقام الأول: في القادر على تحصيل العلم407

المقام الثاني: في الجاهل القاصر408

المطلب الأول: في وجود الجاهل القاصر408

المطلب الثاني: في كفر الجاهل القاصر410

المطلب الثالث: في تكليف الجاهل القاصر410

المطلب الرابع: في تحصيل الجاهل القاصر للظن411

المقام الثالث: الجاهل المقصّر412

البحث الثالث: التمييز بين القسمين412

البحث الرابع: تخيّر المجتهد بين استنباط تفاصيل الأصول والفروع415

فهرست الموضوعات417

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.